أما العقوق فتداركه ليس بالأمر الهين، وقد سئل النووي رحمه الله: إذا كان الإنسان عاقاً لوالديه، وماتا ساخطين عليه، فما طريقه إلى إزالة ذلك، وإسقاط مطالبتهما له في الآخرة؟ فأجاب: أما مطالبتهما له في الآخرة، فلا طريق إلى إبطالها. ولكن ينبغي له بعد الندم على ذلك أن يكثر من الاستغفار لهما والدعاء، وأن يتصدق عنهما إن أمكن، وأن يكرم من كانا يحبان إكرامه من صديقٍ لهما ونحوه، وأن يصل رحمهما، وأن يقضي دينهما، أو ما تيسر له من ذلك. ما حكم الحج عن الوالدين والعمرة عنهما؟ لو كانا حيين عاجزين لم يحجا الفريضة جاز الحج عنهما، وكذلك العمرة. قارن بين من عق والديه وماتا ساخطين عليه، وبين من يموت أبوه وأمه راضيين عنه، قال رجل: عزيت شخصاً في أمه، فقال: لكن الذي يخفف عني، أن أمتي ماتت بين يدي وأنا أحملها، وهي تقول: أموت وأنا راضية عنك، وتشهدت وماتت. وإيذاء الوالدين -أيها الإخوة- وعقوقهما أمر سيئ جداً ذكره الله في كتابه، وقد ذكر صورة شنيعة، فقال: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف:17-18]. فهذا نعت عاق الوالدين، وهما يجتهدان له في النصيحة، ويدعوانه إلى الله، فلا يزيده ذلك إلا عقوقاً، ونفوراً، وعتواً، وتمرداً، وتمادياً في الجهل، وما قصة ولد نوح عنا ببعيدة، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ(28/14)
ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:41-43] الأبوة الملهوفة تهتف بالولد الشارد، ولكن البنوة العاقة، والفتوة المغرورة تأبى هذا، والأبوة المدركة ترسل النداء الأخير، (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) والمغرور يأبى الإجابة، والموجة تحسم الموقف، ولما هدأت العاصفة، وسكن الهول، استيقظت لهفة الوالد المفجوع رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45] فجاء الرد بأن الأهل عند الله ليسوا قرابة الدم واللحم، وإنما هم قرابة العقيدة، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46] انقطعت العلاقات لأجل التوحيد والشرك. لقد حرم الله العقوق، وجعله من أكبر الكبائر، (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات) والله لا ينظر إلى العاق يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح: (ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاؤه) وفي رواية: (لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من النساء) وفي رواية: (ثلاثةٌ لا يقبل الله عز وجل منهم صرفاً ولا عدلاً: عاقٌ، ومنان، ومكذب بالقدر) وإسناده حسن. وجاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا -ونصع بإصبعيه- ما لم يعق والديه) رواه ابن خزيمة وابن حبان، وأخرجه أحمد والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح، والحديث: (ملعون من عق والديه).
تعزير من أصر على عقوق والديه:(28/15)
فهذا الجزاء في الآخرة، فهل هناك شيء في الدنيا يعاقب به من عق والديه؟ ماذا يفعل القاضي لو أن هناك شخصاً متمرداً عق والديه، وأصر على العقوق، وارتفعت القضية إليه؟ قال العلماء: أما جزاؤه في الدنيا فهو من باب التعزير، ويختلف قدره باختلاف حاله وحال فاعله، فإن تعدى على أبويه أو أحدهما بالشتم، أو بالضرب -مثلاً- عزراه، أو عزره الإمام بطلبهما -والقاضي نائب عن الإمام- إن كانا مشتومين، أو مضروبين معاً، أو بطلب من كان منهما معتدى عليه بذلك، فلو اشتكت الأم على الولد عند القاضي فإنه يعزره، إذا ثبت عليه العقوق بالشتم أو الضرب أو غيره، فإن عفا المشتوم أو المضروب كان ولي الأمر بعد عفوه على خياره، في فعل الأصلح من التعزير تقويماً، أو الصفح عنه عفواً، فإن تعافوا عن الشتم والضرب قبل الترافع للإمام سقط التعزير. لكن كيف يكون التعزير؟ شخص عاق رفع أمره إلى القاضي ماذا يفعل فيه القاضي؟ يكون تعزيره بالحبس على حسب الذنب والهفوة، أو بالضرب، أو التأنيب بالكلام العنيف، أو بغير ذلك مما به ينزجر ويرتدع، ومن الممكن أن يكتب لمرجعه في العمل في القضية، ليعزر بما يردعه.
صور واقعية من عقوق الوالدين: ... ...
وبعض الناس مع الأسف يطيع زوجته ويعق أمه، ويبر صديقه ويجفو أباه، ويجاهر بالسوء والفحشاء لأبويه ويقهر وينهر، ويرفع الصوت ويحتج على أبويه بالكلام، ويصفق الأبواب، ويرفض الخدمة، ولا يجلب الأغراض لهما، وربما يقاطع أبويه لأمور دنيوية، ولا يكلم أباه، ولا يكلم أمه، وإذا رفض أبوه أن يشتري له سيارة لا يتكلم مع أبيه، أو رفض أن يسمح له بالخروج للعب بالنادي قاطع أمه، مهمل في الدراسة وإذا قال له أبوه: ممنوع الخروج هذا الأسبوع لأجل الدراسة، فإنه لا يكلمه، وربما يتأفف ويقول: أراحنا الله منك وأخذ عمرك، وعجل بزوالك يا شيبة النحس، ويا عجوز الويل!! وحاله وحال أبيه كقول الشاعر:
أريد حياته ويريد موتي:(28/16)
والأب ربما يتمنى أنه لم يولد له هذا الولد، وأنه لو كان عقيماً كان أحسن. كان هناك شاب مكب على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين، وكان كثيراً ما يعظ هذا الابن، ويقول: يا بني! احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي بالظالمين ببعيد، وكلما ازداد عليه بالنصيحة ازداد ذاك في العقوق وجار على أبيه، وفي يوم من الأيام، وهو ينصحه على حسب العادة وإذا بالولد يمد يده على أبيه ويضربه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام ويتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى أتى بيت الله الحرام، وامسك بأستار الكعبة وقال:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا ... عرض المهامه من قربٍ ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيب من ... يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد عن عققي ... فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشل منه بحولٍ منك جانبه يا ... من تقدس لم يولد ولم يلد(28/17)
فما استتم كلامه حتى يبس شق الولد الأيمن. وهذا ينهب مال أبيه، وهذا يطرد أباه من البيت، وهذا يمنع عنه النفقة، وهذا يرفسه، وهذا يطالب بالحجر على أبيه، وهذا يقول لأبيه: أنت أخذت حقك من الدنيا فيكفيك، قد مَلَّكَ الزمان، وسئمتك الحياة، فيكفي ما أخذت. ويذكر أن أباً كان له ولد يضربه، فيقول: دعوة والد، لقد ضربت أبي في هذا الموضع. ثلاث دعوات مستجابات -يا إخوان!- لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده. فليحذر الأبناء من دعوة الآباء والأمهات، فقد تكون ساعة إجابة وحينئذٍ لا ينفع الندم. وبعضهم يتكبر على أبويه؛ لأنه صاحب شهادة جامعية، وهما أميان، وعندما جاء مع بعض أصحابه الذين يدرسون معه في الخارج خجل أن يقول لهما: هذا القروي أبي، فقال: هذا الخادم الذي ينظف البيت، ماذا تتصورون موقف أبيه لو علم بذلك؟ ولا يستحي أن يقول لزملائه في المجلس وهو يشير إلى أبيه الطاعن في السن، خفيف السمع: هذا (اكس فاير) وهو قد أتى من الخارج متعلماً الإنجليزية، يقول: هذا (اكس فاير) وهي كلمة بالإنجليزي معناها انتهت صلاحيته. يأخذ المال من أحد أبويه ويقول: أعطني سلفة وأنا أرجعها لك، ثم لا يردها، ويغافل أمه المسكينة، ليستلف منها ثم لا يردها، وهناك شخص استلف من أمه عشرين ألفاً ولم يرجعها، وآخر أخذ من والده اثنى عشر ألفاً ولم يرجعها، ولما طالبت الأم الأول قال: أنتِ ساكنة معي في البيت ثلاث سنين، تأكلين وتشربين، اعتبري العشرين ألفاً إيجار حق الثلاث السنوات، ليس لكِ شيء. وبعض الأبناء لا يلبون احتياجات آبائهم، ولو طُلب منه شيء جلس يتهدد ويتوعد، وبنت تقول لأمها: إذا طلبتِ مني شيئاً زيادة لا أدخل بيتكِ، ولا أسمح لكِ أن تدخلي بيتي. قال لي شخص يعمل في الإسعاف في ليلة الأحد: طلبنا مرةً إلى أحد البيوت، وهو بيت كبير عظيم، فدخلناه، فقادنا الذي فتح لنا وقال: تعالوا ورائي، فهنا حالة مرضية، وأخذنا إلى غرفة(28/18)
صغيرة موجودة في البيت، يقول: نظنها مخزن أو غرفة غسالة، وعندما فتحنا وجدنا عجوزاً على سرير، في غرفة منتنة، قذرة، رائحتها عفنة، وعرفنا بعد ذلك أنه أبوه، قال: عالجوه، وانظروا وضعه فإنه إذا مات علينا تصير مشكلة، قالوا: هذا البيت الكبير ما وسع هذا الأب، ضاق هذا البيت الكبير عن هذا الأب. وآخر ذهب وقال لزوجته: اركبي معي، قالت: أين ستذهب بي؟ قال: اركبي، وأخذها إلى المحكمة. قالت: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أسجل لك البيت باسمك. فهو عنده قصر كبير، قالت: ما يحتاج، أنا وعيالي لن نختلف، قال: لا. أسجله باسمك أحسن، فسجل البيت باسم زوجته، فما مر على الزوج عشرة أيام إلا واختاره الله ومات، وأول ما مات جاء الأولاد، وقالوا لأمهم: هذا البيت كبير علينا، وما في داعي لكل هذا، فنحن نريد أن نبيعه ونأخذ لك شقة صغيرة على قدرك، وهذا البيت ما تحتاجينه، قالت في نفسها: الله يرحم الشيخ -زوجها- فعلاً حسب للمستقبل. قالت لهم: الآن فترة العدة، وتعرفون أن في العدة يجب على الزوجة أن تعتد في بيت الزوج، اتركوا لي البيت حق عشرة أيام وإذا انتهت العدة تعالوا إليَّ. وفي اليوم العاشر على الموعد جاءوا، قالوا: موضوع البيت، قالت: موضوع البيت، انظروا الورقة هذه؟ هذه صورة العقد وعندي عشر صور، وعندي الأصل في مكان غير البيت هذا، هذا البيت سجله أبوكم -يا عاقين- باسمي قبل وفاته رحمه الله، فهو يعلم هذه الخلفة التي خلفها قبل أن يموت، فهو حسب حسابكم، فكل واحد يأخذ أثاثه ويخرج خارج البيت، ما أحد له حق في البيت. هذا بيتي، اطلعوا من البيت. فأخذ كل واحد أثاثه وطلع مدحوراً مقبوحاً. وهذا كله في الوفاء، وهذا شيء من الأمثلة الكثيرة التي تحدث في هذا الزمن. وآخرون أبوهم عنده عمارة، وهم يريدون أن يأخذوا العمارة، وأبوهم صار يخرف في آخر عمره، وصار يفقد الذاكرة أحياناً، فقالوا له: أنت تحب البر، فلذلك سوف نخرج إلى البر، ففرح وظن أن أولاده في(28/19)
النهاية سيعملون له رحلة، فهو يطالبهم بها منذ زمن وهم يرفضون بحجة أنهم مشغولون، فأخذوه إلى البر في مكان بعيد في الصحراء، ونصبوا الخيمة وجلسوا، إلا أن الرجل هذا جاءت له الحالة المعروفة التي يغيب فيها عقله، ويدخل في حالة الخرف هذه، فقال أحدهم: أنتم تقدموا وأنا ألحق بكم، ولما اطمأن أن الأب هذا لن يعود إلى عقله بسرعة، ترك أباه ومشى، وبقي الأب مرمياً بالصحراء وحده، فقدر الله أن يعود إلى عقله قبل أن يموت، فقام يمشي في الصحراء هائماً على وجهه، لا يدري أين يذهب، فهام على وجهه، لكن قدر الله أن يصل إلى الطريق الرئيسي بعد مدة، ليراه صاحب سيارة فيركبه، وفي الطريق بدأ الأب يستوعب، ويعود إليه عقله، وصاحب السيارة يقول: أين تريد؟ فقال: أوصلني إلى البلدة الفلانية، فأول ما وصل وجد صاحب المكتب العقاري الذي قال له: إن أبناءك قالوا أنك تريد تبيع العمارة، فأخذ أوراق العمارة وذهب إلى ملجأ العجزة، ودخل على مدير الملجأ وقال: اسمع! أنا لم يعد لي مكان خارج الملجأ هذا، وقد ضاقت عليَّ الدنيا، وحدَّثه بالقصة، فهذه العمارة وقف على الملجأ، ومن الآن فصاعداً أنا سأسكن فيه، وأنا والذين معي في الملجأ نستفيد من إيراد هذه العمارة. فهذا نتيجة العقوق الذي يفعله هؤلاء، وهم من المسلمين وموجودون بين المسلمين، هكذا يفعلون، وربما لا يقدر الولد أنه ربما يسقى بالكأس نفسه، وأن تكون أشد قسوة. هذا عاق كان يجر أباه برجله إلى الباب، فجاء له ولد أعق منه، فكان يجره برجله إلى الشارع، فيقول: حسبك ما كنت أجر أبي إلا إلى الباب، فقال: الزائد صدقة مني عليك، أنت كنت تجر أباك إلى الباب، وأنا أجرك إلى الشارع صدقة. أراد ولد أن يذهب بأبيه إلى مغارة ليتخلص منه؛ لأن زوجته تقول: هذا العجوز مللنا منه، فقد وسخ علينا البيت، ونجاساته في كل مكان، أخرجه وإلا لن أجلس معك. فأخذ أباه يريد أن يذهب به إلى كهف، وقال لولده -حفيد الجد-: هات لحافاً لجدك،(28/20)
والولد كان ذكياً فشق اللحاف نصفين، وأخذ نصفه، فانتبه الأب فقال: لماذا أتيت بنصف اللحاف فقط؟ قال: أنا مخبي لك النصف الثاني في المستقبل. في بعض حالات العقوق يكون زواج الابن هو السبب، فما أن تزوجه أمه حتى ينقلب رأساً على عقب، بعد أن كان باراً بأمه، ومتفقداً لاحتياجاتها أصبح الآن بعيداً عنها، لا يخدمها، ولا يستمع لنصحها، ولا يسأل عن حاجتها، ولا يتفقدها، فهو قد انشغل بالزوجة، وأخذت عليه حياته، فتشعر الأم بفراغ كبير من جهة الولد، وتزداد الغيرة، وتحس أن الزوجة أخذت ولدها عنها بالكلية، وربما تأتي زوجة الابن إلى أم زوجها في زيارة خاطفة، للمجاملة وتكلم زوجها من بيت أمه، تقول: خذ كلِّم أمك وسلم عليها، أي: هو ما عنده وقت ليزورها، فيرسل مندوبة خمس دقائق للمجاملة وانتهى الأمر. وبعض الأبناء ينشغلون عن آبائهم باللهو مع أصدقاء السوء، والسفر إلى خارج البلاد، وينفقون أموالهم على متعهم وملذاتهم الشخصية، وإذا احتاجت الأم أو الأب نفقة تذمروا. أنت الآن تضيع الآلاف المؤلفة في السفريات المحرمة، ولما يجيء أبوك ويقول: أعطني خمسمائة ريال، أو الأم تقول: أعطني خمسمائة، تقول: ليس عندي .. انتهى الراتب، وربما يلقي عليه بالفتات اليسير، والأم تبكي، ومن المعاناة ربما تدعو على نفسها، وعلى البطن الذي حمل الولد، وعلى الثدي الذي أرضع الولد، والولد هذا راتبه كبير ومع ذلك لا يعطي أباه، ويجعله واقفاً كالشحاذ على الباب..!! اعترضت أم على ابنها في استعمال المخدرات، قال: هاتي مالاً، فرفضت إعطاءه المال، وهي تعرف أنه يريد يشتري مخدرات، فأخذ السكين وجلس يطعن فيها حتى ظنها أنها ماتت، فأخذ النقود وهرب، فالأم صاحت وجاء الجيران والشرطة، وأمسكوا بالابن الجاني، وكان المنظر المؤثر أمام القاضي في المحكمة أن الأم تتوسل إليه ألا يوقع العقاب بالولد. لكن لو قال شخص: لماذا لا نصلح القضية هذه بعيد الأم، وهو عيد لطيف، فنقول: هذا العيد(28/21)
الذي اخترعوه الكفار وأحدثوه لما رأوا الأمومة المنسية، وأرادوا أن يذكروا أبناءهم وبناتهم المهملين لآبائهم وأمهاتهم، هل يحتاجه المسلمون؟ المسلم كل يوم يقبل رأس أبيه وأمه، ويستأذنهما في الدخول والخروج، وذاك يأتي يوماً في السنة ليرمي لها هدية ويذهب! فهم اخترعوه لقلة الوفاء، يعصي أحدهم أمه في السنة كلها ثم يأتيها يوماً في الس.
تعريف العقوق وضابطه: ... ...
أيها الإخوة: نريد أن نعرف ما هو تعريف العقوق وضابطه. العقوق: كل فعلٍ يتأذى به الوالد -الأب والأم- تأذياً ليس بالهين، والعقوق أن يؤذي الولد أحد أبويه بما لو فعله مع غير أبويه لكان من جملة الصغائر، فيكون في حق الأبوين من الكبائر. أنت الآن لو قطبت وعبست في وجه صديقك، قد لا يكون حراماً، أليس كذلك؟ لكن لو فعلت هذا العبوس في وجه أبيك أو أمك، لعد ذلك عقوقاً.
من أحكام بر الوالدين:(28/22)
والبر واجب ولو كان الأب مشركاً كافراً، وكذلك الأم لو كانت مشركة كافرة، وقد ضرب لنا ربنا في القرآن أمثلة: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:41-42] انظر إلى التأدب معه في الكلام، فقد أتى له بهذه اللفظة الرقيقة: (يا أبتِ) استعطافاً له، وقال: إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ [مريم:43] لم يقل: إني أعلم منك وأنت جاهل، ثم بيَّن له الحجة والدليل: لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42] فهو يقول: أنا وإن كنت أصغر منك، وأنا من صلبك، لكن الله أطلعني على علم لم تطلع عليه أنت ولم تعلمه، ولم يقل له: يا جاهل! وأبدى الشفقة على أبيه والخوف عليه، قال: يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:45] ولم يقل من الجبار، لاحظوا! إبراهيم عليه السلام ما قال: إني أخاف أن يمسك عذابٌ من القوي العزيز الجبار، وإنما قال: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ [مريم:45]، يعني: حتى الأسماء الحسنى ينتقي منها ما يناسب الحال، وهذا أبوه العنيد يقول: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً [مريم:46] وهو يقول: سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم:47]، يعني: قابله بغاية الأدب مع أن ذاك قابله بغاية الصلافة والجبروت والعناد، سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم:47] يعني: لا ينالك مني مكروه ولا أذى لحرمة الأبوة، وسأسل الله أن يهديك. وماذا قال الله: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] ومع ذلك قال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15]. سعد بن أبي وقاص(28/23)
نزلت هذه الآية فيه، فقد حلفت أم سعد ألا تكلمه أبداً ولا تأكل ولا تشرب حتى يكفر بدينه، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، وأنا أمك فأنا آمرك أن ترجع عن دينك، فمكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابنٌ لها فسقاها، فجعلت تدعو على سعد ، فأنزل الله هذه الآية: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي [لقمان:15] وفيها: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] لا يمكن أن يقدم رضا أمه على العقيدة والدين إطلاقاً: [لو كان لكِ مائة نفسٍ فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني]. أبو هريرة كانت أمه مشركة، وقد دعاها مرة ً إلى الإسلام فوقعت في النبي عليه الصلاة والسلام فذهب يبكي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (يا رسول الله! إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة ) فأبو هريرة من اليقين بأن النبي عليه الصلاة والسلام مستجاب الدعوة، قال: (فخرجت مستبشراً بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجافى -مغلق- فسمعت أمي خشف قدميَّ -صوتهما- فقالت: مكانك يا أبا هريرة ! وسمعت خضخضت الماء، فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة ! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح، -وكان قبلها يبكي من الحزن- فقلت: يا رسول الله! أبشر، فإن الله قد استجاب دعوتك وهدى أم أبي هريرة ، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيراً، قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم حبب عُبيدك هذا -يعني: أبا هريرة - وأمه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهم المؤمنين، يقول أبو هريرة : فما خلق مؤمنٌ -ليس(28/24)
رافضياً ولا باطنياً- يسمع بي ولا يراني إلا أحبني) رواه مسلم . أسماء جاءت تستفتي النبي عليه الصلاة والسلام في أمها المشركة، فقد جاءت أمها من مكة راغبة في صلتها، فخشيت أسماء إذا وصلت أمها أن تكون قد أخطأت في عقيدة الولاء والبراء، فجاءت تستفتي، تقول: (يا رسول الله! قدمت عليَّ أمي وهي مشركة وهي راغبة في صلتي، أفأصل أمي؟ قال: نعم. صلي أمك) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8] فالرحم الكافرة توصل من المال ونحوه. وبعض العلماء فهموا وجوب النفقة على الأبوين الكافرين، فقالوا: الأبوان الكافران لهما نفقة، وعليه أن يجتنب غليظ القول معهما،(28/25)
ويناديهما بالكلام الطيب، ولا يتبرم بهما مع أنهما كافران، أما الاستغفار لهما بعد الممات فممنوع؛ لأن الله قال: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة:113]. ونحن عندنا الآن في المجتمع مع انتشار الفجور والعياذ بالله هناك آباء فجرة وأمهات فاجرات، فالمعاصي قد دخلت على الكثيرين، حتى الآباء والأمهات، فقد يأتي شخص ويقول: أمي تعمل بالسحر والكهانة، وعندها ثلاث عمارات بنتها من أجرة السحر والكهانة. والذي أبوه مرتد يسب الدين صباح مساء، ويسخر من أهل الدين، ومن الأحكام الشرعية، أو أن أباه يسكر، أو قد يجلب أدوات السكر إلى البيت، ماذا يفعل مع أبيه أو أمه في هذه الحالة؟ يقول الإمام أحمد رحمه الله: "يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر -إذا رأى أباه على أمرٍ يكرهه يكلمه بغير عنفٍ ولا إساءةٍ- ولا يغلظ له في الكلام وإلا تركه -إذا ما استجاب يتركه- ويدعو له، ليس الأب كالأجنبي" هذه كلمة الإمام أحمد، قال: إذا كان أبواه يبيعان الخمر، لم يأكل من طعامهم، وخرج عنهم. وسأل رجلٌ أبا عبد الله: إن أباه له كرم -يعني: أشجار عنب- يريد أن يعاونه على بيعها، قال: "إن علمت أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه". وإذا قال: فإذا اشتغلت -والعياذ بالله- أمه في أمور الدعارة، هل يبلغ عنها؟ الجواب: يبلغ عنها، وتقوم البنت بوعظ أمها الزانية، وتصبر على ما تلاقيه منها نتيجةً لذلك، وإن هددتها أنها ستغضب عليها، ولو دعت عليها صباح مساء، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولا يقبل الله هذا الدعاء؛ لأنه اعتداء والله لا يحب المعتدين، ولا يقبل دعاء المعتدين. ولو رأى أباه يضرب أمه هل يتدخل أم لا؟ نقول: يتدخل، وإن كان قد يستعمل القوة مع أبيه، لكن يبدأ يدفع بالأسهل فالأسهل، ولو أدى ذلك إلى استعمال القوة.
حق الوالدين في المال:(28/26)
ما هو حق الوالدين في المال؟ نأتي الآن إلى بعض المسائل الفقهية: ما هو حق الوالدين في المال؟ مال الولد حلال للأب وأطيب ما أكل الوالد من مال ولده؛ لأن ولده من كسبه كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم) حديث حسن صحيح. ولما جاء رجل يقول للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لأبيك) والعلماء أخذوا منه وجوب الخدمة على الولد من قوله: (أنت) فمالك لأبيك واضح، لكن ما معنى: أنت لأبيك؟ أنت لأبيك يعني تخدمه، وتقوم عليه. وهذه أقوال العلماء في مسألة أخذ الأب من مال الابن: القول الأول: قالوا يد الوالد مبسوطة في مال ولده يأخذ منه ما شاء، سواءً أذن الولد أم لا، ما لم يكن على وجه السرف والسفه، يعني: يضيع المال في المعاصي، والتافهات. القول الثاني وهو قول الجمهور: لا يأخذ من ماله إلا عند الحاجة. فالنفقة واجبة للأبوين المحتاجين، فلو كانت الأم متزوجة فلا يجب على الابن أن ينفق عليها؛ لأن عندها زوجاً ينفق عليها، لكن لو كان ليس لها نفقة فيجب عليه أن ينفق عليها. ولا يحق للابن أن يمنع أمه من الزواج، وهذه مهمة، حيث إنه قد يكون بعض الناس عندهم عادات مخالفة للشريعة، فيمنع أمه من الزواج إذا طلقها أبوه أو مات، وربما يعيرها إذا تزوجت، وهذا حرام لا يجوز، أليس من شرع الله أن تتزوج بعد انقضاء العدة؟! فلماذا يمنعوها؟! إذاً: حديث: (يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لأبيك) يدل على وجوب إعطاء الأب. وقد علق الخطابي رحمه الله على حديث: (إن أبي يريد أن يجتاح مالي) فقال: يشبه أن يكون ما ذكره السائل من اجتياح والده ماله إنما هو بسبب النفقة -يعني الأب محتاج للنفقة عليه- وإن مقدار ما يحتاج إليه للنفقة عليه شيءٌ كثير لا يسعه عفو ماله -يعني مال الوالد- والفضل منه، إلا أن يجتاح أصله ويأتي عليه، فلم يعذره النبي(28/27)
صلى الله عليه وسلم، ولم يرخص له في ترك النفقة وقال له: (أنت ومالك لوالدك) على معنى: أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة كما يأخذ من مال نفسه، وإذا لم يكن له مال وكان له كسبٌ لزمه أن يكتسب وينفق عليه. يعني: لو كان الأب محتاجاً والولد ما عنده، الأب قال: أنا بيتي كبير، وعندي زوجتان، وعندي أولاد، وعندي فواتير الكهرباء والهاتف وأجرة الخادمة والسائق، هذا مصروفي. والابن عنده دخل لكنه محدود يكفيه فقط هو، لكن الابن يستطيع أن يعمل عملاً إضافياً ويصرف على الأب، فهل يلزم الولد أن يعمل عملاً إضافياً وينفق على الأب؟ الجواب: نعم. يلزمه ذلك. قال: "فأما أن يكون أراد به إباحة ماله واعتراضه حتى يجتاحه ويأتي عليه لا على هذا الوجه، فلا أعلم أحداً من الفقهاء ذهب إليه والله أعلم". إذاً: أخذ الأب من مال الابن بسبب النفقة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) وأمثال ذلك مما جاءت به اللام للإباحة، يعني: يباح لك أن تأخذ منه، وليست اللام للملك، ولذلك يقول ابن القيم: واللام في الحديث ليست للملك قطعاً، ومن يقول: هي للإباحة أسعد بالحديث، وإلا تعطلت فائدته ودلالته.
شروط جواز أخذ الوالد من مال ولده بغير إذنه ... :(28/28)
فإذا قلت: هل هناك شروط لأخذ الأب من مال ولده؟ قال ابن قدامة : فصلٌ: ولأبٍ أن يأخذ من مال ولده ما يشاء ويتملكه مع حاجة الأب إلى ما يأخذه ومع عدمها، وهذا رأي الحنابلة، صغيراً كان الوجه أم كبيراً بشرطين: أحدهما: ألا يجحف بالابن ولا يضر به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجته. الثاني: ألا يأخذ من مال ولده فيعطيه الآخر، نص عليه أحمد . فإذاً: ما هي الشروط؟ أولاً: أن يكون فاضلاً عن حاجة الولد، فلا يجوز للأب أن يقول للولد: اخرج من بيتك واجلس في الشارع، هات سيارتك واذهب على رجليك مسافة ساعتين حتى تصل إلى مكان العمل، أو هات ملابسك ويتركك عارياً. فالابن يحتاج لأولاده وزوجته مبلغاً معيناً، وما فضل عن حاجة الولد وحاجة زوجته وأولاده فللأب أن يأخذ منه. لا ضرر ولا ضرار. وكذلك من الشروط: ألا يأخذ من ولد ويعطي للولد الآخر. فالأب واجب عليه أن يعدل في العطية لأولاده من ماله هو، فمن باب أولى ألا يأخذ من ولد ويعطي للثاني، فهذا يوغر صدور الأولاد على بعض. وكذلك ألا يكون في مرض موت أحدهما. وكذلك ألا يكون الأب كافراً والابن مسلماً؛ لأنه إذا كان الأب كافراً فلا يمكَّن في مال الولد، فالإسلام يعلو ولا يعلى كما قال العلماء. وكذلك أن يتملك عيناً موجودة، فلا يتملك دين ابنه، فالابن إذا أقرض شخصاً لا يجوز للأب أن يقول: أنا تملكت الدين الذي لك عند فلان. إذاً: ينبغي أن يكون عيناً موجودةً. فإذاً: بعض العلماء قالوا: الأب يأخذ على حسب الضرورة والحاجة، وبعضهم قال: حتى بغير حاجة، لكن من الشروط أن يكون فاضلاً عن نفقة الولد وما تقدم من الشروط أيضاً.
حكم مطالبة الابن لأبيه بدين عليه:(28/29)
فهل يجوز للابن أن يطالب الأب بالدين؟ أي: أب استلف من ابنه، فهل للابن أن يطالب أباه بالدين، يقول: اقترضت مني فأعد إليَّ مالي. ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي أن له ذلك؛ لأنه دينٌ ثابت، فجازت المطالبة به كغيره، وأما الحنابلة فقد قال ابن قدامة رحمه الله: ليس للولد مطالبة أبيه بدينٍ عليه، وهو مقتضى قول سفيان بن عيينة، واحتجوا بحديث: (أنت ومالك لأبيك). لكن لو فرضنا أنه يريد أن يطالبه فلا يكون برفع دعاوى عند المحاكم، وإنما يقول: يا أبتِ أنا أحتاج إلى المال الذي اقترضته مني إذا أمكن، أي: بكل لطف يطالب به، فحتى على القول بجواز المطالبة فليس معنى ذلك أن يرفع عليه دعاوى ويشهر به ويؤذيه، ويلاحقه في بيته والأماكن التي يذهب إليها. لذلك -أيضاً- لا تقطع يد الأب فيما أخذ من الولد، ولو بغير علم الولد، وهذا أجمعوا عليه.
حكم إنفاق الولد الموسر على أبيه وزوجته:
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلٍ عجز عن الكسب وليس له شيء، وله زوجة وأولاد ماذا على ولده الموسر، الذي عنده زوجة وأولاد؟ فقال: على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه. يعني: حتى الابن مكلف أن يعطي أباه نفقته ونفقة زوجته التي ليست أمه، وعلى إخوته الصغار ولو كانوا من أم ثانية، وإن لم يفعل ذلك كان عاقاً لأبيه، أليس الولد ميسراً؟ إذا لم يفعل ذلك كان عاقاً لأبيه، قاطعاً لرحمه، مستحقاً لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجلٍ له ولد وطلب منه ما يمونه، قال: إذا كان موسراً وأبوه محتاج فعليه أن يعطيه تمام كفايته، وكذلك إخوته إذا كانوا عاجزين عن الكسب فعليه أن ينفق عليهم إذا كان قادراً على ذلك، ولأبيه أن يأخذ من ماله ما يحتاجه بغير إذن الابن وليس للابن منعه. إذاً: أجمع العلماء على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد.
شروط وجوب الإنفاق على الوالدين: ...(28/30)
ما هي شروط وجوب الإنفاق؟ أولاً: أن يكونوا فقراء لا مال لهم، ولا كسب يستغنون به. وثانياً: أن يكون ما ينفقه عليهم فاضلاً عن نفقة نفسه. وثالثاً: أن يكون المنفق وارثاً.
حكم إنفاق الابن الموسر على أبيه الفقير القادر على العمل:
مسألة: إذا لم يكن للأب مال، لكنه ما يزال فيه قوة وهو قادر على العمل فهل يقال للأب: لا تطلب من ولدك، بل اذهب اعمل واشتغل، أو أنه يجب على الابن أن ينفق على أبيه إذا كان الأب ليس عنده مال ولو كان الأب قادراً على العمل؟ الجواب: يجب أن ينفق عليه ولو كان الأب قادراً على العمل. قال ابن قدامة رحمه الله: ولا يشترط في وجوب نفقة الوالدين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام، قال: وهذا ظاهر كلام الخرقي : فإنه أوجب نفقته مطلقاً إذا كانوا فقراء وله ما ينفقه عليهم. فإذاً: لو كان الأب ليس عنده مال وكان قادراً على العمل يجب على الابن أن ينفق عليه. لكن لو كان له عقارات تكفيه، هل يجب على الابن أن ينفق عليه؟ لا. لا يجب عليه.
حكم استئذان الوالدين في السفر:
حكم استئذان الوالدين في السفر للجهاد:(28/31)
وكذلك من أحكام بر الوالدين قضية السفر للجهاد، فقد صرح الحديث الصحيح بوجوب إذن الوالدين للجهاد. فقد جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، قال: (أحيٌ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد) رواه البخاري و مسلم . وفي حديثٍ آخر: (أقبل رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحدٌ حيٌ؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) رواه مسلم. قال النووي رحمه الله: هذا كله دليلٌ لعظيم فضيلة برهما، وأنه آكد من الجهاد، وفيه حجة لما قاله العلماء: إنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إذا كانا مسلمين، أو بإذن المسلم منهما، فإن كانا مشركين لم يشترط إذنهما عند الشافعي ومن وافقه. وسألت الشيخ ابن باز رحمه الله، قلت: يا شيخ! إذا كان أبوه كافراً تاركاً للصلاة بالكلية، قال: هذا مرتد ليس له إذن ولا يستأذنه، وإذا كانت أمه مسلمة تصلي يجب عليه أن يستأذن أمه. هذا كله إذا لم يحضر الصف ويتعين القتال، لكن إذا التقى الصفان أو استنفر الإمام الناس للخروج، أو دهم العدو البلد، لم يعد هناك استئذان للأبوين، بل يخرج للدفاع وللجهاد. وما معنى الإذن؟ لأن بعض الأبناء يريدون الجهاد فيظل يلح على والديه حتى يملا منه، ويقولا له: اذهب، فتجده يقول: أنا فرحان؛ لأنهم وافقوا. ماذا قال العلماء في هذا؟ قال الإمام أحمد رحمه الله: إن أذنت لك من غير أن يكون في قلبها حرجٌ أو كراهةٌ وإلا فلا تغز -انتبه معي- لأن بر الوالدين فرض عين. وكنت يوماً واقفاً عند باب الحرم فجاء رجل يقول للشيخ ابن عثيمين: يا شيخ! أنا أريد أذهب أجاهد، فهل يجب أن أستأذن أبواي؟ قال: نعم. قال: أليس الجهاد فرض عين؟ فقال الشيخ ابن عثيمين: أليس بر الوالدين فرض عين؟ ولا ننس قبل ذلك أن أهل الأعراف قيل فيهم: إنهم أناس خرجوا إلى الجهاد بغير(28/32)
إذن آبائهم وأمهاتهم فماتوا في الجهاد، فمنعهم القتل في سبيل الله من دخول النار، ومنعهم عقوق آبائهم من دخول الجنة، فوقفوا على الجبل بين الجنة والنار، هذا جبل الأعراف.
حكم استئذان الوالدين في السفر لطلب الرزق: ...
ماذا بالنسبة للسفر في طلب الرزق؟ إذا كان في سفره مصلحة للإنفاق على نفسه وعياله لا يمكن تحصيلها في البلد، أي: بحث عن وظيفة في البلد فلم يجد وظيفة مطلقاً، وعنده زوجة وأولاد، فجاء يريد السفر لطلب الرزق ببلد ثانية فقال أبوه: لا تسافر، فعند ذلك لا تجب طاعتهما، فهذا المضطر لا بأس، ويمكث فقط قدر الحاجة. أما إذا وجد في البلد عند أبويه ما يغنيه فلا يجوز الخروج بغير إذن أبويه. ولو قال: في البلد أجد آلافاً وهناك أجد ملايين، فنقول: إذا كانت تكفيك الآلاف فلا يجوز أن تسافر إلى الملايين، وإنما يبقى عند أبويه إذا منعاه من السفر والخروج.
حكم استئذان الوالدين في السفر لطلب العلم:(28/33)
ماذا بالنسبة للسفر في طلب العلم؟ نقول: طلب العلم الذي لا يتحصل إلا بالسفر، وهو يحتاجه -لاحظ هذين الشرطين- يخرج بغير طاعتهما، أما إذا كان يستطيع تحصيله في البلد فلا يجوز الخروج بغير إذنهما. والآن فيه كتب، وأشرطة، ونشرات، وهاتف، ويمكن للإنسان أن يسأل. إذاً: لا بد أن تدقق في شرط عدم إمكانية تحصيله في البلد. قال النووي: وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله: وقد حَرُم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما شق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه، ولشدة تفجعهم على ذلك، وقد ألحق بذلك كل سفرٍ يخافان فيه على نفسه أو عضوٍ من أعضائه. إذاً: كل سفر لا يؤمن فيه الهلاك -انتبه معي، هذا الضابط مهم في قضية أسفار الولد بغير إذن الوالدين- ويشتد فيه الخطر، لا يحل للولد أن يخرج إليه بغير إذن والديه، لماذا؟ لأنهما سيخشيان ويشفقان ويتضرران ويقلقان عليه إذا خرج. أما إذا كان السفر لا يشتد فيه خطر يحل له الخروج إذا لم يضيعهما، فإذا كان له حاجة، والسفر غير خطير، والأبوان عندهما ما يكفيهما، وعندهما من يخدمهما، والسفر غير خطير، ليس سفر الجهاد -مثلاً- فيجوز له الخروج بغير إذنهما، كما ذكر في بدائع الصنائع. ماذا بالنسبة لمنع الوالدين ولدهما من الطاعات؟ مثلاً: شخص يريد أن يحفظ القرآن، فقالا له: لا. أو يريد أن يدرس في مسجد فقالا له: لا. أو قال: أريد أن أصبح إماماً، فقالا: لا. أو يريد أن يصحب الأخيار، فقالا: لا، فما هو الموقف؟ سأل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله سائلٌ فقال: إنني أشتغل منذ عدة سنوات بتحفيظ القرآن الكريم في مكان بعيد عن المدينة التي يسكن فيها والداي، ولهذا يطلبان مني أن أترك التدريس وأعمل مع أحد إخواني الذين يسكنون عندهما، وأنا متردد في هذا الأمر؛ لأنني أخشى أن أترك التدريس، فيضيع الطلاب وينسوا ما حفظوه من القرآن الكريم، فما تنصحونني جزاكم الله خيراً؟ فأجابه رحمه الله: ننصحك(28/34)
بالاستمرار في تحفيظ القرآن الكريم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين -طبعاً ما في سفر خطير هنا- ولا تلزمك طاعة والديك في ترك ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) ويشرع لك الاعتذار إليهما بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، وبالله التوفيق. وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: إذا أمرني والداي بأن أترك أصحاباً طيبين وزملاء أخياراً وألا أسافر معهم لأقضي عمرة، مع العلم بأني في طريقي إلى الالتزام، فهل تجب عليَّ طاعتهما في هذه الحالة؟ فأجاب: -هذا سؤال يعرض لكثير من الشباب الآن- ليس عليك طاعتهما في معصية الله، ولا فيما يضرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فالذي ينهاك عن صحبة الأخيار لا تطعه، لا الوالدان ولا غيرهما، ولا تطع أحداً في مصاحبة الأشرار أيضاً، لكن تخاطب والديك بالكلام الطيب وبالتي هي أحسن، كأن تقول: يا والدي! كذا، ويا أمي! كذا، هؤلاء طيبون، وهؤلاء أستفيد منهم، وأنتفع بهم، ويلين قلبي معهم، وأتعلم العلم، وأستفيد، فترد عليهم بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن، لا بالعنف والشدة. وإذا منعوك فلا تخبرهم بأنك تتبع الأخيار وتتصل بهم -اكتم الأمر- ولا تخبرهم بأنك ذهبت مع أولئك إذا كانوا لا يرضون بذلك، لكن عليك ألا تطيعهما إلا في الطاعة والمعروف، وإذا أمروك بمصاحبة الأشرار، أو أمروك بالتدخين، أو بشرب الخمر، أو بالزنا، أو بغير ذلك -طبعاً لا تستغربوا؛ لأن هناك آباء فسقة، قد يقول أحدهم لولده: لماذا لم تتعرف على بنت إلى الآن؟! ويقول للبنت: لماذا تتحجبي عند الخروج؟ ويشد الحجاب عنها وهي في الشارع، فهذه حال بعض البنات المسكينات، أو يريد من ابنته أن تذهب وتتعرف وتختلط، ويغضب إذا لم تختلط بالرجال(28/35)
الأجانب، وهذا من الفسق والفجور، والعياذ بالله-. قال: فلا فلا تقطعهما ولا غيرهما في ذلك للحديثين المذكورين آنفاً، وبالله التوفيق. فإذاً: عرفنا الآن ما هي الفتوى في قضية منع الولد من مصاحبة الأخيار، ومن حضور حلق العلم، وتحفيظ القرآن، ورحلة العمرة ... إلخ. قال بعض العلماء: فإن كان في بلده من يفيده -يعني: هذا العلم- فلا يخرج إلا بإذنهما. وأجاز بعض العلماء للطالب الذي عنده أهلية، وقدرة على أن يصبح مفتياً -مثلاً- أو مجتهداً ولا يستطيع تحصيل درجة الفتوى والاجتهاد إلا بالسفر من البلد، أن يخرج بغير إذنهما إذا كان السفر غير خطيرٍ، وكان عندهما ما يكفيهما، ومن يقوم عليهما بالخدمة.
حكم طاعة الوالدين في مخالفة الأحكام التكليفية ... : ...
فلنقسِّم الموضوع في النهاية إلى طاعة الوالدين في ترك الواجب، وفعل المحرم، وفي المباحات، وفي ترك المستحبات، وفعل المكروهات.
حكم طاعة الوالدين في ترك الواجبات:(28/36)
أما بالنسبة لترك الواجبات، فقد روى البخاري عن الحسن قال: [إن منعته أمه عن العشاء في جماعة شفقةً عليه فلا يطعها] لأن صلاة العشاء في الجماعة من الواجبات. وسئل الأوزاعي رحمه الله عن رجل تمنعه أمه من الخروج إلى الجمعة والجماعة؟ قال: ليطع ربه وليعص أمه. إذاً: لا يجوز طاعة الوالدين في ترك واجب. وإذا كان الأب والأم في بلاد الكفر، ولا يستطاع إقامة شعائر الدين فيها، والولد قد كبر ومن الممكن أن ينفصل عن الأبوين، ويستقل بنفسه، وعنده قدرة على الوظيفة، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في هذه المسألة: الواجب على المسلم أن يحذر الإقامة في بلدٍ يدعوه إلى ما حرم الله، أو يلزمه بذلك ترك الصلاة، أو حلق اللحى، أو إتيان الفواحش مثل الزنا والخمور، فيجب عليه ترك هذه البلاد والهجرة منها؛ لأنها بلاد سوء، فلا يجوز الإقامة فيها أبداً، بل يجب أن يهاجر منها، وأن خالف وعصى والديه؛ لأن طاعة الله مقدمة، وطاعة الوالدين إنما تكون في المعروف، فكل بلدٍ لا يستطيع إظهار دينه فيه أو يجبر على المعاصي فيه يجب أن يهاجر منها. ما حكم منع الأب ولده من حج الفريضة؟ قال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله: لا يجوز لوالدٍ منع ولده من حجٍ واجب، ولا تحليله منه، فإذا قال له تحلل وارجع، فإنه لا يجوز له ذلك، ولا يجوز للولد طاعته فيه. وقال ابن قدامة: ليس للوالد منع ولده من الحج الواجب، ولا تحليله من إحرامه. وقد سألت الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقلت: يا شيخ! هذا شاب يسأل ويقول: إن أباه هدده وقال: لو ذهبت إلى الحج -وهو حج الفريضة- لأعاقبنك بعد رجوعك وأضربنك ضرباً مبرحاً، وهدده وتوعده بالعقوبة الشديدة. فقال الشيخ رحمه الله: العقاب ظني فيذهب، ويكفيه الله شره.
حكم طاعة الوالدين في ترك المستحبات:(28/37)
وننتقل إلى قضية طاعة الوالدين في ترك المستحبات. المستحبات متعددة، فهناك سنن راتبة، وهناك صلوات نافلة أخرى، وصيام نفل، وحج نفل، فما هو الحكم في هذه القضية؟ أما السنة الراتبة مثل حضور الجماعات في المساجد، وركعتي الفجر، والوتر وما أشبه ذلك، فإن دعواه لحاجتهما المرة بعد المرة فليطعهما، يعني: مرة دعواه وهو يصلي سنة راتبة، فعليه أن يقطع ويطيع، لكن لو قالا له: ممنوع أن تصلي السنن الرواتب أبداً، فلا يلزمه طاعتهما. قال الطرطوشي رحمه الله: وأما إن كان ذلك على الدوام واللزوم فلا طاعة لهما فيه؛ لأن فيه إماتة لشعائر الإسلام، وسئل الإمام أحمد عن رجلٍ يصوم التطوع فسأله أبواه أو أحدهما أن يفطر، قال: يروى عن الحسن أنه قال: -طبعاً الإمام أحمد كان يفتي بأقوال التابعين كثيراً-: [يفطر وله أجر البر وأجر الصوم]. وقال: إذا أمره أبواه ألا يصلي إلا المكتوبة -هذه حالة أخرى- فقال: يداريهما ويصلي. قال الشيخ تقي الدين: ففي الصيام كره الابتداء فيه إذا نهاه، واستحب الخروج منه، وأما الصلاة، فقال: يداريهما ويصلي. أما الخروج من الصلاة أثناء الصلاة فإنه يقطع الصلاة، فإذا كان يصلي صلاة نافلة فنادته أمه إذا كان في نهاية الصلاة أنهاها بسرعة وأجاب والدته، لكن إذا كان في أول الصلاة، وخشي أن تغضب أمه، حيث أنها نادته مرة وثنتين وثلاثاً، وهو في أول الصلاة، فإنه يقطع الصلاة النافلة ويجيبها لحديث جريج . فبالجملة منع الولد من المستحبات عموماً كالسنن النوافل، وعلم النافلة، وحلق الرأس في الحج والعمرة، ليس لهما حقٌ في ذلك، ولا يلزم طاعتهما مع المدارة.
حكم طاعة الوالدين في فعل المشتبهات: ...(28/38)
قال الطرطوشي: لا طاعة لهما في ترك سنة راتبة، وترك ركعتي الفجر والوتر إذا سألاه ذلك على الدوام. أما فعل المشتبهات، فقد يكون أبوه عنده كسب فيه شبهة، والابن يأكل منه، فقد قال العلماء: الأولى أن يتورع ويداريهما، فإن أكل أو أخذ فلا حرج عليه إن شاء الله. فإن كان تركه لأكل الطعام، وتركه لأخذ المال مؤثراً فيهم، -يعني: الأب كسبه مشبوه، والابن لو امتنع لتأثر الأب وترك الكسب المشبوه- يجب على الابن الامتناع والترك حتى يجعل الأب يترك المشبوه، لكن لو كان لا يترك ويأمر ولده بالأكل، قال بعض العلماء: يأكل. الآن المشبوه ممكن ينتج من اختلاط الحلال بالحرام، أبوه يضع الأموال في البنك ويأخذ ربا ويخلطها بالإيجارات تبع العقارات، فدخل أبيه فيه الحلال والحرام متداخل، والآن يعطيه نفقة، ويعطيه مال من هذا ويقول: كل من طعامي هذا. فماذا يفعل؟ قال بعض العلماء: لا يجوز، وقال بعضهم: إذا زاد الحرام على الثلث لا يجوز، وقال بعضهم: إن كان الأكثر الحرام لا يجوز. وقال بعضهم: جائز مطلقاً ولعله هو الأقوى في المذهب، لكن يكره، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته. وهذه المسألة الإمام أحمد رحمه الله تردد فيها، ورفض أن يفتي وقال: ما أحسن أن يداريهم، يعني: ما يأكل ويحاول أن يداريهم، قال السفاريني رحمه الله: والذي استقر عليه المذهب عدم الحرمة، بل يكره ذلك، يقول: الكسب المختلط من الحلال والحرام الذي استقر عليه المذهب عدم الحرمة، بل يكره ذلك، وقوة الكراهة فيه وضعفها بحسب كثرة الحرام أو قلته. وإذا كان الولد له كسب مستقل فليأكل من كسبه، وإذا كان لا كسب له فليأكل من كسب أبيه. لكن إذا كان كسب الأب كله حرام؟ وكان الولد محتاجاً وليس له نفقة إلا من مال أبيه، فإنه يأخذ وليس عليه إثم، لكن لا يتوسع كما قال علماؤنا، بل يأخذ الكفاية فقط، وإذا علم الحرام بعينه يجتنبه ويأخذ من الآخر، قد يقول لك: أخذته رشوة من الحرام، ويقول: خذ يا(28/39)
ولد المصروف فالابن إذا عرف أن هذا بعينه الحرام لا يأخذه، بل يأخذ من مالٍ آخر.
حكم طاعة الوالدين في فعل المباحات وتركها:
طاعة الوالدين في المباحات، ما حكمها؟ مثلاً: قال: يا ولد! يجب أن تأكل هذا النوع من الأكل، ويجب أن تتزوج هذه المرأة، فلا يجب الطاعة في هذه الحالة، ولا التزوج ممن لا يرغب، وإذا كان الشخص لا يجب عليه أن يطيع في أكلةٍ تنغصه ساعة، فكيف يجب عليه أن يطيع في الزواج بامرأةٍ لا يريدها تنغص عمره كله؟! قال الإمام أحمد رحمه الله: إن كان الرجل يخاف على نفسه، ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهما ذلك. لو قال: يا ولد! لا زواج إلا بعد التخرج، والولد يستطيع أن يتزوج قبل التخرج، وهو يخشى على نفسه الحرام فلا تلزم طاعة أبويه. قال الشيخ تقي الدين : ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وإذا امتنع لا يكون عاقاً. وإذا قال له: يا ولد! طلق زوجتك، لماذا؟ قال: هي لم تأتِ لي بالحذاء إلى عندي، قلت لها: هاتي الحذاء فلم تأتِ به، فخلاصة مسألة طلاق الزوجة: أنه إذا كان الأب عدلاً، وكانت المرأة فيها سوء في الدين أو الخلق فيلزمه طاعة أبيه، فعمر أمر ولده بطلاق زوجته، وأمره عليه الصلاة والسلام أن يطيع أباه عمر؛ لأن عمر عدل، ليس عنده هوى في القضية هذه، لكن إذا كان الأب صاحب هوى، والزوجة صاحبة دين وخلق حسن فلا يلزمه الطلاق. وإذا أصرت عليه أمه يطلق زوجته للغيرة والزوجة حسنة الدين والخلق، يقول ابن تيمية: هذه من جنس هاروت وماروت في السعي في التفريق بين الزوجين، فلا يطعهما، ولا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه وليس تطليق امرأته من برها. إذاً: هذا بالنسبة لقضية طلاق الزوجة، وقد سئل ابن تيمية عن امرأة وزوجها متفقين، وأمه تريد الفرقة، فلم تطاوعها البنت، فهل عليها إثم في دعاء أمها عليها؟ قالت: يا بنت! تطلقي من زوجك، واطلبي الخلع، أو نكدي عليه إلى أن يطلقك. فأجاب ابن تيمية رحمه الله(28/40)
وقال: إذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي من جنس هاروت وماروت، فلا طاعة لها في ذلك، ولو دعت عليها. اللهم إلا إذا كانا مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت بمعصية الله، فالأم تتدخل تريد أن تطلق البنت؛ لأن زوجها يأمرها بالمعصية.
حكم طاعة الوالدين في فعل المحرمات: ...
إذا كان الوالدان يأمرانه بالخروج لشراء منكر، فقد أفتى الإمام أحمد في رواية الحارث في رجل تسأله أمه أن يشتري لها ملحفة للخروج، تقول: اذهب اشترِ لي عباية، قال: إن كان خروجها في بابٍ من أبواب البر، كعيادة مريض أو قرابة أو لأمرٍ واجب لا بأس، وإن كان في غير ذلك فلا يعينها على الخروج. وسئل الإمام أحمد سؤالاً لطيفاً: أب يقول لولده: ادخل عليَّ الغرفة، والغرفة مفروشة حريراً، فقال: يلف البساط من تحت رجليه ويدخل. فيلف البساط ولا يطأ عليه إذا كان من حرير ويدخل. وأفتى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بعدم جواز طاعة الوالدين في حلق اللحية.
إذا تعارض بر الأب مع بر الأم فما الحل؟:(28/41)
إذا تعارض بر الأب مع بر الأم ماذا يفعل؟ يحاول التوفيق بشتى الوسائل، لكن لو قالت أمه: لا تبر أباك، فإن أباك طلقني، ولو زرته فإني سأدعو عليك إلى قيام الساعة، فيزوره ويخفي الزيارة، أو قال الأب للابن: لو زرت أمك وخالك وجدك وجدتك أغضب عليك إلى قيام الساعة، فيزورهم ويخفي أمر الزيارة. لكن إذا كان لا يستطيع الإنفاق إلا على الأب أو الأم؛ لأن المال قليل عند الولد، فمن يقدم؟ يقدم الأم، فإذا أراد أن يحج عن أبيه وأمه اللذين ماتوا من غير حج الفريضة يقدم الحج عن الأم. وهكذا في هذه المسألة. وقد أفتى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال: لا نرى أن يتوكل لأمه على أبيه، أي: في المحاكم، فإذا قالت أمه له: وكلتك في المحكمة تترافع ضد أبيك بطلب نفقة أو كذا، فنقول: لا نرى أن يتوكل لأمه ولو كانت أمه مظلومة، ولكن يشير على أبيه في دفع الضرر. إذاً: لا يتوكل عنها في المحاكم. بهذا انتهى الوقت وقد وصلنا تقريباً إلى نهاية الموضوع. ونسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا.(28/42)
( مسائل فقهية يكثر السؤال عنها )
عناصر الموضوع :
منزلة الفقه في الدين
قضايا فقهية يكثر السؤال عنها
شهر المحرم وصيام عاشوراء
مسائل فقهية يكثر السؤال عنها:
التفقه في الدين من أجلِّ العبادات وأعظمها، فبه يتعلم الإنسان أحكام الشرع الحكيم، وبه يعرف الحلال والحرام، وبه يهتدي إلى الحق من غيره. والناس يسألون الفقهاء دائماً عن أحكام دينهم، ويلحظ الفقيه تكرر أسئلة من ألسنة الكثير، فرأى الشيخ أن يضمن هذه الخطبة بعض الأسئلة المتكررة.
منزلة الفقه في الدين:(29/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن التفقه في دين الله تعالى من أجلِّ العبادات: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. إن منزلة الفقه في الدين -يا عباد الله- من المنازل العظيمة! كيف نعبد ربنا إلا بالفقه، كيف تصح عباداتنا إلا بالفقه، كيف نعرف الحلال والحرام إلا بالفقه، الفقه أساس ديننا، الفهم عن الله ورسوله، فهم الشريعة، فهم الأحكام، وهذا ولا شك، معرفته فرض عين على كل مسلم في كل مسألة احتاج إليها أن يعرف فقهها وحكمها. وأما التفقه في الدين على وجه العموم، فإنه فرض كفاية، فلا بد أن يكون في المسلمين من يُفقّههم، ويفتيهم، ويعلمهم، ويبين لهم أحكام الله عز وجل، فإن لم يكن ذلك فيهم، أو لم يوجد فيهم من يكفي أثموا جميعاً، ومن هنا تنبع الحاجة إلى معرفة أحكام الدين والتفقه فيها، وكثير من الناس تعرض لهم أحوال ومسائل، لا يجدون فيها حكماً شرعياً في أذهانهم، لا يعرفون الحكم فضلاً(29/2)
عن دليله، فضلاً عن القائل به من السلف والعلماء، فضلاً عن فتوى لمفتٍ ممن يعاصرونه ولو بغير دليل، لا يعرفون ذلك إلا من رحم الله تعالى.
قضايا فقهية يكثر السؤال عنها:
وقد رأيت في هذه الخطبة -أيها الإخوة- أن أذكر لكم مجتمعاً من الأحكام الفقهية في الأبواب المختلفة، من الأشياء التي يكثر سؤال الناس عنها، وقد وجدت بالتجربة أن أكثر ما يسأل عنه الناس: اليمين، والطلاق، والمنامات، وأمور أخرى نأتي عليها في بعض من الترتيب الذي ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى من مسائل واقعية، فرأيت أنه يكثر السؤال عنها، فلعلَّ في بيانها نفعاً إن شاء الله تعالى، وستجدون ذلك في التطبيقات العملية، فيما يواجه الشخص في حياته.
أحكام الآنية وإزالة النجاسات:
ففي أبواب الآنية: لا يجوز استعمال إلا الطاهر من الآنية، وآنية الكفار إذا لم يوجد غيرها تغسل ثم تستخدم، وأما المطلي بالذهب أو الفضة من الآنية وهي كثيرة جداً في الأسواق من الصحون والملاعق وغيرها، مما يؤكل به أو يقدم الطعام به، فإن استخدامه حرام لا يجوز، ومن أكل أو شرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم. وأما إزالة النجاسات: فهي أمر واجب إذا علم نجاسة في ثوبه أو بدنه، وجب عليه المبادرة إلى إزالتها حتى لا يتضرر ببقائها وحتى لا ينساها.
مس المصحف وسنن الفطرة:(29/3)
وأما مس المصحف: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن الأئمة الأربعة اشتراط الطهارة عندهم لمس المصحف، وقال بعض أهل العلم بأن الأدلة في ذلك لم تثبت، بما يؤكد اشتراط الطهارة لها، فالأحوط للمسلم ألا يمس المصحف إلا على طهارة، بخلاف كتب التفاسير أو الكتب التي يوجد فيها آيات مخلوطة بغيرها من الكلام، فإنه لا بأس بمسها على غير طهارة، ولو للحائض والجنب. وكذلك فإن من سنن الفطرة: قص الأظافر، وإزالة شعر العانة، وشعر الإبط بأي مزيل كان، والسنة والأفضل إزالة شعر الإبط بنتفه إذا قوي على ذلك، وإزالة شعر العانة بالحلق والاستحداد، وهو الأفضل والأكثر أجراً، ولا يجوز إبقاء هذه الثلاثة: الشعر والأظافر، أكثر من أربعين يوماً، فمن فعل ذلك فهو آثم، ولو كان ظفر الخنصر الذي يحتفظ به عدد من الناس، سواءً كان للمرأة أو الرجل، فإن إبقاءه لا يجوز، وقص ما طال عن الشفة العليا من الشارب واجب، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) رواه أحمد وهو حديث صحيح، وتخفيفه سنة أيضاً، وليس من السنة في شيء إطالته وتعريضه وتكثيفه، ومن ظن أن ذلك رجولة، فهو لا يفهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أكمل الرجال رجولة.
خروج الريح والتسمية في الوضوء:
وأما خروج الريح: فإنه لا يلزم منه استنجاء كما يعتقد ذلك كثير من العامة، وإنما هو الوضوء فقط. ويكثر السؤال عن التسمية عند الوضوء: وقد ذكر بعض أهل العلم وعدد من المحدثين، أن أحاديث التسمية ترتقي إلى درجة الحسن أو الصحيح، ولذلك لا ينبغي تركها فأما إذا كان في مكان قضاء الحاجة سمى اللهُ في نفسه، وتوضأ، وإن نسي التسمية عند أول الوضوء وتذكرها أثناءه سمى الله تعالى في أثناء الوضوء، وإذا نسيها فلم يتذكرها إلا بعد الوضوء سقطت التسمية عنه.
النوم من نواقض الوضوء:(29/4)
وأما في مسألة النوم: فإنه ناقض للوضوء إذا استغرق الإنسان فيه؛ سواء كان جالساً في خطبة الجمعة، أو في غيرها، أو كان مستلقياً، فإنه إذا استغرق في النوم، وغاب عما حوله، انتقض وضوءه على الراجح من أقوال أهل العلم، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (العين وكاء السه، فإذا نامت العين استطلق الوكاء) فشبه فتحة الدبر التي يخرج منها الريح بالقربة التي فيها غطاء أو فيها خيط يغلق أعلاها، فإذا نامت العين استطلق الوكاء وانحل الخيط، وأصبح ما في الجوف قابلاً للخروج، كما أن الماء يصبح قابلاً للخروج إذا انفك خيط قربة الجلد.
المسح على الجوربين:
ويكثر السؤال في المسح على الخفين والجوربين عن نوع الجورب: والراجح: أن كل جورب يصح أن يسمى جورباً ويطلق عليه اسم الجورب يصح المسح عليه، يوماً وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، يبتدئ المسح من أول وضوء بعد الحدث، إذا غسل رجليه ولبس الجوربين، ثم أحدث، ثم توضأ للصلاة، بدأت مدة المسح من حين وضوئه ذلك، هذا ولا ينتقض الوضوء بخلع الجوربين على الراجح من أقوال أهل العلم، كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وأخبر بأنه لا يعرف في الشريعة أن من نواقض الوضوء خلع الخفين والجوربين، لكن إذا انتهت المدة، لم يعد يجوز له المسح عليهما إلا بعد طهارة كاملة فيها غسل الرجلين.
المسح على الجبائر:
ويكثر السؤال في مسألة الجبائر التي توضع على الكسور وغيرها، هل يشترط فيها الطهارة؟ فالجواب: لا يشترط الطهارة عند وضع الجبيرة، لكن على الإنسان أن ينتبه بأن لا تجاوز الجبيرة حدود الحاجة اللازمة لاستمساكها؛ لأن بعض الأطباء أو الممرضين الذين يضعونها ربما يجاوزون حدود الحاجة في الأعضاء التي يجب غسلها في الوضوء، فينتج عن ذلك تقصير في الطهارة، فيغسل من الأطراف من أعضاء الوضوء ما ظهر، ويمسح على الجبيرة في الباقي.
مس الذكر هل ينقض الوضوء؟(29/5)
وأما مس الذكر: فإن الراجح من أقوال أهل العلم فيه: أنه إذا كان بشهوة نقض الوضوء، وإذا لم يكن بشهوة لم ينقض الوضوء، كما إذا حدث عند لبس ملابسك مثلاً، وذلك جمعاً بين الحديثين الصحيحين، الواردين عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا: (إنما هو بضعة منك)، وحديث: (من مس ذكره فليتوضأ) كما رجح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.
مس المرأة هل ينقض الوضوء؟
وأما مس المرأة: ففيه خلاف كبير، فقال بعضهم: إذا مسها بشهوة انتقض، وقال بعضهم: لا ينتقض وضوؤه ولا طهارته إلا إذا خرج منه شيء كمذي أو مني فعند ذلك ينتقض وضوؤه، وهو الراجح إن شاء الله تعالى.
حكم التداوي بالحرام:
وأما التداوي بالمحرم: فإنه لا يجوز سواء كان دماً أو نجاسة ونحو ذلك من الأشياء التي ربما يستخدمها بعض الناس في التداوي، وإذا كان الشراب الذي فيه نسبة من الكحول لو شرب بمجموعه مع الكحول، لو شربت منه كمية كبيرة أسكر، فإنه لا يجوز استخدامه، ولم يجعل الله شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها. ولا يجوز أخذ المقابل على الدم، بالنسبة للذين يتبرعون بالدماء في المستشفيات؛ لأن (النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم) رواه البخاري . وتشجيع الناس على التبرع طيب، وربما جاز الدفع؛ دفع الثمن للدم ولم يجز أخذ المقابل عليه، وإنما يجوز دفع ثمنه للضرورة، ولا يجوز أخذ الثمن؛ لأن الشارع نهى عن ثمن الدم، ويجوز نقل الدم للضرورة بمثابة أكل الميتة للمضطر، هذا بخلاف التداوي، أحكام المضطر في نقل الدم تختلف عن أحكام التداوي، فمهما قال لك بعض الأطباء الشعبيين أو المشعوذين في فوائد دم الضب مثلاً أو غيره فاعلم بأنه هراء، وكذلك لا يجوز التداوي بالنجاسات. وكذلك لا يجوز تعليق التمائم والحروز وغيرها مما فيه طلاسم، أو كلمات غير مفهومة، أو شركية، أو استغاثة بغير الله، أو أرقام ونحو ذلك كفعل المشعوذين، ولا يتداوى به من سحر ولا من عين ولا من غيرها.
كيفية الغسل:(29/6)
وأما كيفية الغسل: فإنه يغسل عورته أولاً، ثم يغسل يديه بشيء من الأشنان أو الصابون مما علق بهما، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم ينهل الماء على شقه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على رأسه، وإذا أخر غسل رجليه إلى آخر الغسل فلا بأس بذلك، والغسل واجب إذا أولج الرجل في امرأته سواء أنزل أم لم ينزل.
من أحكام الحيض والنفاس:
ويكثر السؤال عن المسائل المتعلقة بالحيض من قبل النساء أو من أزواجهن: واعلموا رحمكم الله أن في هذا قواعد بسيطة إذا حفظت فإنها تغني عن كثير من السؤالات، وتزيل كثيراً من الحيرة والاضطراب، فالحيض: أيُّ دم أو صفرة أو كدرة جاء في وقت الحيض فهو حيض، من أي لون كان، أو أي كمية كانت، إذا جاءت في وقت العادة فهي عادة، وإذا جاء دم في غير وقت العادة نظرنا في صفاته، فإن كان مماثلاً للعادة، في اللون والرائحة والأوجاع المصاحبة في البطن والظهر ونحو ذلك حكمنا بأنها عادة، تقدمت أو تأخرت، وإلا فليست بعادة، وكذلك فإن العادة معرضة للتقديم والتأخير، والاتصال والانقطاع، والزيادة والنقصان، ولكن لا تزيد العادة عن خمسة عشر يوماً، فإذا زادت عن خمسة عشر يوماً، اغتسلت وصلت واعتبرت الباقي استحاضة وقضت من الصلوات ما بعد العادة الأصلية، فلو كانت عادتها سبعة أيام، فطال بها الدم في أحد الشهور حتى بلغ ستة عشر يوماً وهي ممسكة عن الصلاة في الخمسة عشر بناء على القاعدة، فإنها تغتسل وتعتبرها استحاضة، وتقضي من الصلوات ما بعد العادة الأصلية وهي السبع من الأيام، وهي معذورة في تركها. أما النفاس فالراجح أن أقصى مدة له أربعون يوماً، فإن زاد عن ذلك فهو استحاضة، وكل كدرة أو صفرة أو دم من أي لون في الأربعين فهو نفاس، وإذا انقطع الدم قبل الأربعين ونظفت المرأة طهرت واغتسلت لزوجها وللصلاة.
رؤية النجاسة في الثوب:(29/7)
وأما من رأى في ثوبه نجاسة لا يدري متى حدثت، فإن صلاته فيما مضت صحيحة، وعليه المبادرة إلى غسل النجاسة، وأما إن كان الموجود في الثوب أثر جنابة، فإنه يغتسل ويعيد الصلوات من آخر نومة نامها.
صلاة المفترض خلف المتنفل والمسافر بالمقيم:
ويكثر السؤال: عن ائتمام المفترض بالمتنفل، والمسافر بالمقيم، وصاحب صلاة العصر بالظهر، واختلاف النيات بين الإمام والمأموم؟ فاعلموا رحمكم الله، أنَّ ائتمام الجميع بالجميع جائز إن شاء الله، فلو اقتدى مفترض بمتنفل، أو متنفل بمفترض، أو مقيم بمسافر، أو مسافر بمقيم، أو اقتدى من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، صح ذلك سواء اختلف عدد الركعات أم لا، ولكن المسافر إذا اقتدى بالمقيم وجب عليه الإتمام، لحديث ابن عباس : (مضت السنة أن يتم المسافر خلف المقيم) والمقيم إذا اقتدى بالمسافر أتم الصلاة ولا بد، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أتموا صلاتكم فإنَّا قوم سَفْر) ومن كان يريد صلاة المغرب، فصلى خلف من يصلي العشاء، جلس في الثالثة وانتظره على الأفضل إلى أن يسلم فيسلم معه، وأما إذا كان يريد أن يصلي رباعية وراء من يصلي ثلاثية مثلاً فإنه يتم بعد سلام الإمام ولا إشكال في ذلك. ويجوز إذا دخل شخص المسجد فوجد إنساناً يصلي أن يلتحق به، كائنة ما كانت صلاة ذلك الشخص، ويجهر له بالصلاة والتكبيرات بحسب الوقت ليأتم به.
سجود السهو:
وأما سجود السهو: فإن كان للزيادة في الصلاة، سجد بعد السلام سجدتين، ثم سلم مرة أخرى، وفي جميع الحالات الأخرى في النقص أو الشك، فإن الراجح أن سجدته تكون قبل السلام للسهو.
قضاء النوافل وسجود التلاوة:(29/8)
وقضاء النوافل والسنن الرواتب مشروع، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر، وقضاء الوتر مشروع، فإذا قضاه في النهار زاد ركعة، فشفع الذي كان سيصليه في الليل. وسجود التلاوة مستحب، واشترط له كثير من الفقهاء شروط الصلاة؛ من الطهارة، واستقبال القبلة، وغير ذلك، يكبر إذا كان في الصلاة للسجود ويكبر للرفع لعموم الحديث: (كان يكبر عند كل خفض ورفع) وفي خارج الصلاة، يكبر لسجود التلاوة، ويقول الذكر المشروع فيها ومنه التسبيح المعتاد.
مسافة القصر:
وأما السفر، فيكثر سؤال الناس عن مسافته: ذهب بعض أهل العلم كشيخ الإسلام رحمه الله: إلى أنه لا حد للسفر، فإن كان عرف الناس في البلد أن ذهابهم منه إلى البلد الآخر سفر، فهو سفر، وذهب عدد كبير من أهل العلم إلى أن مسافة السفر تحدد بمسيرة اليوم والليلة على الإبل التي تحمل صاحبها وعليها متاعه، ومن هنا قدروها بثمانين كيلو متراً. والجمع في السنة يكون إذا جدَّ بالمسافر السير، فإذا جلس في المكان، أو نزل به، فإنه يقصر من غير جمع كما يفعل الحاج في منى . والجمع في السفر، وفي المطر، سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو للمريض كذلك قياساً على السفر بجامع المشقة.
تأخير الأموات في المستشفيات:(29/9)
عباد الله: مما يكثر السؤال عنه: قضايا تأخير الأموات في ثلاجات المستشفيات: فاعلموا أن الإسراع بتجهيز الميت لا شك أنه من دين الله، وأن تأخير الأموات في ثلاجات المستشفيات من المنكرات، وإكرام الميت التعجيل به كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى، بناء على الأحاديث التي حثت على الإسراع بالجنازة، ويستلزم من ذلك سرعة تجهيزها، من غسل، وتكفين، وتقديم للصلاة، ودفن، فهي إما خير تعجلونها إليه، وإما شر تضعونه عن أعناقكم. والإعلام بموت الميت لا حرج فيه، إلا إذا كان على طريقة أهل الجاهلية، الذين كانوا يصيحون في الأسواق وما يفعل في بعض البلدان من الطواف بسيارة لها مكبر يعلنونه في الشوارع، ونعي الجرائد فيه كثير من المنكرات. والإسراع بقضاء الدين يخفف كثيراً عن الميت، والاجتماع للعزاء، ووضع الطعام في العزاء للمعزين بدعة قبيحة ومنكرة؛ لأن الصحابي أخبر بأنهم كانوا يرون الاجتماع إلى أهل الميت وعمل الطعام من النياحة، فلمن يكون الطعام؟ لأهل الميت وضيوفهم الذين قدموا عليهم من بعيد ونزلوا في بيتهم مثلاً. أما المعزون من البلد، فإنهم لا حق لهم في الأكل من الطعام الذي يقدم في العزاء، مهما تواتر الناس وتتابعوا على ذلك، وهذه من البدع القبيحة المنكرة الشائعة، يجعلون العزاء مأكلاً وشرباً، وليس هذا بوقته، ويحملون أهل الميت من التكاليف ما الله به عليم.
ما تجب فيه الزكاة وقضاء رمضان:(29/10)
عباد الله: كل ما استعمل واتخذ للاقتناء فليس فيه زكاة سوى الذهب والفضة على الراجح. والرواتب لا يزكى إلا ما توفر منها وحال عليها سنة، والأسهم إذا كانت متخذة للبيع والشراء ففي قيمتها وأرباحها الزكاة، وإذا اتخذها ليقتات من أربحاها ويستفيد من الأرباح لا ليتاجر بها فالزكاة في الأرباح إذا حال عليها الحول. وكذلك فإن بعض الناس يحابون بدفع زكاتهم إلى الأقارب، لا تدفع الزكاة لكل قريب أنت مكلف بالإنفاق عليه، كأصولك وفروعك، وكذلك الزوجة، ولا تدفع إلى قريب فقير له غيره يغنيه، فإن كان هناك من ينفق عليه بما يحتاج لم يجز لك أنت أن تعطيه من زكاتك. وتستحب المبادرة إلى قضاء رمضان، وعدم تأخيره إبراءً للذمة.
حكم الصلاة في الطائرة والإحرام فيها:
وأما الصلاة في الطائرة، والصيام فيها والإحرام، فمما ينبغي معرفة حكمه: فتجوز الصلاة في الطائرة، على أي اتجاه كانت مادام لا وقت له للصلاة إلا فيها، كالأسفار الطويلة، إذا لم يكن مستطيعاً لاستقبال القبلة، وإذا لم يكن مستطيعاً للقيام صلى جالساً فيها. وأما الصيام: فلا يفطر إذا أراد أن يتم صومه، إلا عند اختفاء قرص الشمس بالنسبة إليه في الطائرة. والإحرام فيها إذا مر بمحاذاة الميقات من الجو، ويجوز أن يحرم قبل ذلك بقليل كخمس دقائق، احتياطاً لسرعة الطائرة.
مجاوزة الميقات بدون إحرام:(29/11)
ويكثر السؤال: عمن كانت له عمرة وعمل في جدة مثلاً، فماذا يفعل؟ فلا بد ولا بد من الإحرام من الميقات، ومن جاوزه بغير إحرام فعليه العودة إليه للإحرام منه، ولزم عليه في هذه الحالة دم، وإن أحرم من جدة وهو مريد للعمرة وهو من الآفاقيين، من أهل البلدان الذين يمرون على المواقيت، فهو مسيء تلزمه التوبة والدم لترك الواجب، فليفعل العمرة قبل أن يذهب إلى العمل إن استطاع، وأما إن كان لا يدري هل يتمكن من العمرة أم لا، ذهب لشغل وقال في نفسه: إن وجدت فرصة اعتمرت وإلا رجعت، فلا حرج عليه أن يحرم من المكان الذي عزم منه على العمرة.
من أحكام العقيقة:
وأما العقيقة: فإنها سنة وفيها تأكيد شديد، وتجوز في أي يوم من الأيام، خصوصاً الذين يريدون فعلها في عطلة نهاية الأسبوع؛ لأجل اجتماع الناس وأقربائهم وظروفهم، والسنة أن يذبح في اليوم السابع، فإن لم يتمكن ففي الرابع عشر، فإن لم يتمكن ففي الحادي والعشرين، لحديث حسن رواه البيهقي في ذلك، وبعد الحادي والعشرين قال بعضهم في مضاعفة السبعة، وقال بعضهم تستوي في أي يوم كان، وكلما كانت أقرب كانت أفضل، وشروطها شروط الأضحية، ولا ينسى نصيب الفقراء منها.
استئذان الوالدين للجهاد:
وأما استئذان الوالدين للجهاد: فإن كان جهاداً مستحباً أو فرض كفاية وجب استئذان الأبوين؛ لأن استئذانهما فرض عين وطاعتهما فرض عين، وإن كان الجهاد فرض عين، كأن حضر المعركة، أو داهم العدو البلد خرج بغير إذن أبويه.
من أحكام البيوع:(29/12)
ولا يجوز في البيع أن يبيع محرماً وهذا كثير في الدكاكين، ولا أن يبيع شيئاً على من يستخدمه في معصية، واعلموا أن الأشياء المبيعة ثلاثة: منه ماهو مستخدم في المعصية فقط، ومنه ما هو مستخدم في الطاعة، ومنه ما يستخدم في الحلال والحرام كالسكين، فإذا عرف أنه سيستخدمه في الحرام، أو غلب ذلك على ظنه لم يجز له أن يبيعه. وأما الذين يكتبون في الدكاكين: البضاعة التي تباع لا ترد ولا تستبدل، فهذا إذا خرج من المجلس ولم يكن فيها شيء يبيح الرد كالعيب، أما إذا كان في مجلس العقد، جاز له أن يرد رغماً عن البائع، وإذا ظهر فيها عيب جاز له أن يردها رغماً عن البائع، ولو كتب في الدكان، أو على الفاتورة ما كتب. وكذلك فإن بيع التقسيط جائز على الراجح من أقوال أهل العلم إذا كان يملك السلعة، وكان الثمن معلوماً، جاز له أن بيع تلك السلعة بالتقسيط، أما الذي يفعل اليوم عن طريق شركات التقسيط، فهو رباً وحرام، يقولون له: انتق السلعة وهات الفاتورة، يسددونها عنه ثم يقولون: سدد بزيادة إلى أجل بالتقسيط، فهذا رباً وحرام، ولا شك في ذلك، لكن إذا ملكوا السلعة وحازوها إليهم، ولم يكن هناك إلزام مسبق، جاز لهم أن يبيعوها عليه بالتقسيط، وإن تأخر عن السداد في الموعد لم يكن لهم إلا الثمن الذي اتفقوا عليه. والبيع على الشرط جائز إذا كان صحيحاً، فإن كان الشرط فاسداً لم يجز البيع، كأن يقول له: أبيعك بشرط ألا تبيع لغيرك؛ فهذا شرط فاسد. وكذلك فإنه لا يجوز البيع قبل القبض للحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) وقال: (لا تبع ما ليس عندك). وأما الربا فأشكاله كثيرة، ومن أشهرها القرض الربوي، وهم يتحايلون بتسجيل المبلغ في الكمبيالة أقل مما استلم، ليرد ما في الكمبيالة من الرقم، ولا شك أن هذا حرام واضح أشد الوضوح، وهم يغرون الناس بأشياء، يقولون: لا يلزم كفيل، ويقولون: إذا مت نسامحك، الله(29/13)
أكبر! ما أحسن أخلاقهم، إذا مت نسامحك ترغيباً له في الاقتراض، ويجعلون شروطاً للراتب حتى يتمكنوا من أخذ الربا الذي اشترطوه وكتبوه ضمن المبلغ.
من أحكام الرهن والوكالة:
وأما بيع البيوت المرهونة: لا يجوز أن يباع البيت المرهون إلا بإذن الطرفين. وفي باب الوكالة، يسأل بعض الناس: إذا وكلنا في شراء شيء، فهل يجوز لنا أن نأخذ ربحاً؟ فنقول: نعم، إذا كان صاحب الشأن يعلم، أما إذا كان لا يعلم فلا يجوز لكم أن تأخذوا ربحاً إلا إذا كنتم أنتم البائعين، فإذا قلت له: أنا أبيعك، جاز أن تأخذ الربح ولو لم تخبره بكم رأس المال عليك؟ أما إذا كنت مجرد وكيل وقال لك: من فضلك اشتر لي كذا من السوق، فيجب أن تخبره بثمنه، ولا يجوز أن تأخذ شيئاً زيادة إلا بإذنه، ومن قال لغيره: بعه بمائة وما زاد فهو لك، فهذا بيع جائز وصحيح.
ما يحدثه الإنسان في ملكه:(29/14)
ولا يجوز للإنسان أن يحدث في ملكه ما يضر الآخرين، فلو أحدث في بيته طاقات ونوافذ تضر بالجيران، أو عمل مقهىً أو تنوراً يؤذي جيرانه، ألزم بإزالته، وبتغطية النوافذ شرعاً، أو عمل ورشة تقلق راحة الجيران ألزم بإزالة ذلك. ولا يجوز أن يحدث في ملكه ما يضايق الطريق، كأن يبني ويترك الأسمنت والحديد يضيق الشارع، فهذا حرام يأثم به طيلة وضعه في الطريق مضيقاً له، أو أن يجعل لنفسه موقفاً لسيارته، يأخذ من حد الطريق العام الذي هو للمسلمين، فإنه يأثم ويلزم بإزالة ذلك الموقف، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يجوز لأحد أن يخرج شيئاً في طريق المسلمين من أجزاء البناء، أو يعتدي على الشارع العام، أو على الرصيف، كل ذلك حرام، وكذلك فإن بعض الناس يضعون من الأشياء المؤذية: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:58]. وإذا كان المال من شخص، والعمل من شخص، كانت شركة مضاربة وفي أحكام الشركات إذا اتفق على النسبة، فهي صحيحة شرعاً، لكن إذا خسرت الشركة يخسر صاحب المال ماله ويخسر صاحب الجهد جهده، ولا يجوز تحميل خسارة مالية للمضارب إذا كان أميناً لم يتعدَ ما اتفق عليه من العمل، وأخذ المال. واشتراط ضمان رأس المال حرام لا يجوز، فإذا قال له: هات من عندك رأس مال، أتاجر به أضمنه لك، أعطيك من الأرباح نسبة كذا، وإذا خسرت فإنك لا تخسر؛ بهذا الشرط حرام لا يجوز، أما أن يدخل معه على الشركة الجائزة شرعاً وإلا فلا يدخل.
من أحكام الإجارة:(29/15)
وبالنسبة للإجارة، فلا بد أن تكون الأجرة معلومة في عقد الإجارة الشفوي أو الكتابي. وجهالة الأجرة حرام، إلا إذا كانت الأجرة شائعة في البلد، فلا حرج في عدم ذكرها. ولا يجوز تأجير المحلات والدور على من يستعملها في معصية الله تعالى، وعقود الموظفين في الشركات والمصالح الحكومية هي عقد إجارة، يجب على الموظف الوفاء بالعمل، ويجب على صاحب العمل الوفاء بالأجرة.
حكم النوم في العمل والانصراف قبل الوقت:
ويكثر السؤال من الناس عن حكم النوم في العمل، خصوصاً الذين يعملون في النوبات الليلية وغيرها، أو تقسيم الموظفين الذين يداومون في تلك النوبة فيبقى بعضهم وينصرف آخرون أو ينامون؟ ويكثر السؤال: عن حكم الانصراف من العمل قبل الوقت إذا أدى المهمة في ذلك اليوم؟ فالجواب: كل ذلك بحسب الاتفاق والعقد، فإذا شرطوا عليه أن يبقى مستيقظاً في العمل من السابعة إلى الثانية ظهراً لم يجز له الانصراف إلا بإذن، ولا النوم، ولا تقسيم العمل على الموظفين الموجودين مهما كان قليلاً، وأما إن قالوا له في العقد: إن تنجز عملك اليومي وتنصرف، فإن ذلك لا بأس به فله أن ينصرف.
حكم المسابقات:(29/16)
و أما المسابقات: فإنها لا تجوز عند جمهور أهل العلم على عوض، إلا فيما يُعين على الجهاد ونشر الدين، كالسباق على الإبل والخيل والسهام وما يقوم مقامها كسائر الأسلحة المستخدمة في التصويب، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) وألحق شيخ الإسلام رحمه الله المسابقات في حفظ القرآن والسنة والدين؛ لأنها تشترك مع الجهاد في نشر الدين، ومنه تعلم أن كثيراً من المسابقات القائمة اليوم بجوائز الاشتراك فيها للجائزة حرام. والمسابقات ثلاث: مسابقة محرمة في أصلها، ومسابقة جائزة بعوض كالسبق على الخيل وفي الرمي، ومسابقة جائزة بغير عوض كالسباق على الأقدام وغير ذلك من أنواع الألعاب المباحة. والرهان حرام إلا إذا كان فيه انتصار للدين وإظهار الإسلام وهيمنته، كما راهن أبو بكر الكفار على غلبة الروم للفرس بحسب ما ورد في الآية، وأما الرهانات الأخرى الموجودة والمنتشرة كثيراً بين الناس فهي حرام ولا تجوز. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب قريب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
شهر المحرم وصيام عاشوراء:(29/17)
أشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله المبعوث رحمة للعالمين، والصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين الطاهرين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: قد بقي لنا في الموضوع بقية، في أحكام تتعلق بالمعاملات، لعلنا نأتي عليها في خطبة قادمة إن شاء الله، وقد سبق أن ابتدأنا سلسلة في أحكام الغناء، لعلنا نكمل شيئاً من ذلك في الخطبة القادمة بمشيئة الله، وأتحدث إليكم بسرعة، عن مسألة عاشوراء، وقد دخلنا في شهر محرم نسأل الله أن يجعله عاماً مباركاً، وعام نصر للإسلام والمسلمين. وهذا شهر محرم الحرام، من اقترف فيه سيئة فإن الإثم يضاعف عليه؛ لأنه من الأشهر الحرم التي قال الله فيها: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]. ويندب الإكثار من الصيام في شهر محرم على وجه العموم. وفيه يوم عاشوراء الذي كان صيامه مفروضاً على المسلمين، ولما فرض صيام رمضان نسخ عاشوراء وصار صومه مستحباً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أمرهم بصيامه: (إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا يوم كان يصومه أهل الجاهلية، فمن أحب أن يصومه فليصمه، ومن أحب أن يتركه فليتركه). وأما في أجره: فقال عليه الصلاة والسلام: (صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية) رواه مسلم رحمه الله تعالى، وفي رواية ()إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. فهنيئاً لمن صامه؛ لأنه يكفر له ذنوب سنة كاملة قد مضت، فما أكثر الذنوب! وما أعظم من سامح وغفر، والله سبحانه وتعالى شرع لنا هذه المواسم للمغفرة والتوبة. وعاشوراء: هو يوم العاشر من محرم، وهذا اليوم يوم نجى الله فيه موسى ومن معه، انتزع النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته من اليهود، لما أخبروه عن سبب صيامهم له، ونحن أحق بموسى منهم. وفي صيامه موافقة لسنة الأنبياء، وانتزاع للفضيلة(29/18)
من أهل الكتاب، والتأكيد على ذلك، وتكون مخالفتهم بأن نصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، بالإضافة لما فيه من الأجر العظيم، واعلموا رحمكم الله تعالى أن تاسوعاء هو الأفضل أن يصام مع عاشوراء، فمن فعل ذلك فقد أتى بسنَّة عظيمة من السنن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بذلك وأخبر عن عزمه عليه. وكذلك فإن صيام هذا اليوم، ذكر فيه بعض أهل العلم أن له مراتب ثلاث: أن يصام عاشوراء فقط، وهذا جائز وتكون المخالفة في هذه الحالة مستحبة لا واجبة. وأن يصام يوم قبله وهو الأفضل، أو يوماً بعده فهي المرتبة الثانية. وأن يصام يوماً قبله ويوماً بعده، ولم يصح بذلك حديث، ولكن لأجل الاستكثار من العمل الصالح، وعموم مشروعية الصيام في محرم، يكون أفضل من هذه الجهة. وأما بالنسبة لهذه السنة، وفي كل سنة يتكرر الكلام، إذا علمت -يا عبد الله- بدخول الشهر فصم على حسب علمك، فإن علمت أن ذي الحجة كانت تسعاً وعشرين وأن محرماً دخل في اليوم الفلاني فصم بناءً على ذلك، وإذا لم يصل إليك علم، فإنك تعمل بناءً على إكمال ذي الحجة ثلاثين؛ وتصوم عاشوراء من محرم بناءً على ذلك، ولا يجب تحري دخول محرم؛ لأنَّه لا تتعلق به عبادة واجبة، بل يجب تحري دخول رمضان، وشهر شوال، ويجب تحري دخول ذي الحجة، لكن لا يجب تحري دخول محرم؛ لأنه لا تتعلق به عبادة واجبة، فإن وصلنا خبر صمنا بناءً على ذلك، وإلا فنكمل ذو الحجة ثلاثين، وبناءً على ذلك لو أكملنا ذو الحجة ثلاثين فيكون الإثنين والثلاثاء من الأسبوع القادم هو تاسوعاء وعاشوراء، ومن صام الإثنين والثلاثاء فإنه أصاب عاشوراء قطعاً؛ لأنه إما أن يكون الإثنين أو الثلاثاء، فمن صام الإثنين والثلاثاء فإنه يكون قد أصاب عاشوراء إن شاء الله تعالى، وهذا ما أخبرنا به سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل باز عن هذه السنة في صبيحة هذا اليوم، وقد سألته عنه فقال: الأفضل أن يصوموا الإثنين والثلاثاء ما لم يأتِ خبر عن(29/19)
دخول الشهر. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع، وأن ينعم علينا أجمعين بالتوبة النصوح، والمغفرة من سائر الذنوب، وتكفير الخطايا. اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والنجاة يوم المعاد، والنفع للعباد يا رب العالمين. اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا ذنوبنا يا عزيز يا غفور! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(29/20)
( الرحمة )
عناصر الموضوع:
سعة رحمة الله
المصائب والابتلاءات من رحمة الله بنا
رحمة الله في قبول توبة التائبين
رحمة الله.. وإنزال النعم علينا
التحذير من القنوط من رحمة الله
وقفة مع وصية أحمد خادم الحجرة النبوية
الرحمة:
رحمة الله واسعة، وكان لابد من الوقوف عند هذه الصفة التي اتصف بها الله جل وعلا، فإن من رحمة الله جل وعلا أن المصائب تكفر السيئات، وأن المؤمن إذا صبر عليها أجر، ومن رحمة الله علينا أيضاً أنه يستر ذنبنا في الدنيا ويغفرها في الآخرة، فيجب على المؤمن ألا ييئس من رحمة الله ولا يقنط.
سعة رحمة الله:(30/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن من أسماء الله سبحانه وتعالى الرحمن والرحيم، فهو أرحم الراحمين، والرحمن صفته، والرحيم يدل على أنه يرحم خلقه، والله سبحانه وتعالى رحمته وسعت كل شيء، وبلغ من رحمته عز وجل أنه خلق مائة رحمة بخلاف صفة الرحمة التي اتصف بها خلق مائة رحمة، فبث بين خلقه رحمةً واحدة فهم يتراحمون بها، وادخر عنده لأوليائه تسعة وتسعين، وفي حديثٍ صحيح آخر: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها)، وفي رواية: (حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة. ووصف النبي عليه الصلاة والسلام كل رحمة من هذه المائة بقوله: (إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، وأخر تسعاً وتسعين، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة وجعلها لأوليائه يوم القيامة يرحمهم بها). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار) ورحمته سبحانه وتعالى أشد من رحمة الوالدة بولدها. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبيٍ، فإذا امرأة من السعي تسعى، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا والله،(30/2)
وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعباده من هذه بولدها)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوبٌ عنده فوق العرش) سبحانه وتعالى. وهذه الرحمة التي تأوى إليها أرواح المؤمنين إذا قبضها ربنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث حين مُرَّ عليه بجنازة، فقال: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، كيف لا وفجوره من أسباب منع المطر وأذية العباد والبهائم). ورحمته سبحانه وتعالى للعصاة التائبين إذا أقبلوا على الله وتابوا إليه فإن رحمته واسعة، فإذا أقبل العبد إليه بالتوبة استقبله الله بالرحمة فغفر له ذنبه وستر عليه سبحانه وتعالى. عن ابن عباس قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أناسٌ من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا -أي: من الزنا- فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة -نحن نريد التوجه والتوبة وإصلاح الحال، لكن ماذا نعمل بالماضي؟ وماذا نعمل بالسيئات المتراكمة؟ ماذا نعمل بالقتل الكثير والزنا العظيم؟ فروجٌ انتهكناها ودماءٌ استبحناها، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة- فنزل قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:68-70]، ونزل أيضاً قول الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا(30/3)
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] ). هذه رحمةٌ واسعة من الذي يحجرها؟ ومن الذي يمنعها؟ لما قال الأعرابي: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، قال: لقد حجَّرت واسعاً) من الذي يستطيع أن يمنع رحمة الله؟ هذا في الدنيا برحمته يتوب عليهم، وبرحمته يغفر لهم، وبرحمته يهديهم، وبرحمته يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.
من رحمة الله ستر الذنوب في الدنيا وغفرانها في الآخرة:
وأما يوم القيامة فإن العبد يأتي ربه بذنوب، لكن إذا كان للعبد توبة وله استغفار وله أوبة ورجوع، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حاله: (إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس ويقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى -أي: العبد- في نفسه أنه قد هلك، قال الله عز وجل: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق: (( وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ))[هود:18]).
من رحمة الله تجاوزه عن الخطأ والنسيان:
ومن رحمته سبحانه وتعالى بنا أنه تجاوز لنا عن الخطأ والنسيان وما استكرهنا عليه كما جاء في الحديث الصحيح، وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز عن أمتي عما توسوس به صدورهم ما لم تعمل أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه) فإذا بقيت الوساوس حبيس النفس لم تخرج، والرغبة في السيئة صارت طي الكتمان لا عمل ولا قول يتجاوز الله عن ذلك.
المصائب والابتلاءات من رحمة الله بنا:(30/4)
ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء كما جاء في الحديث الصحيح، فترى بعض الناس نزل بهم من البلاء أمر عظيم جداً، وتوالت عليهم المصائب وهم مع ذلك يعيشون، لماذا؟ لأن الله ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء. ومن رحمته سبحانه أن من مات له ثلاثة من الولد وهو من الموحدين، غفر الله له ولزوجته برحمته للأولاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث -صغار- إلا أدخلهم الله بفضل رحمته إياهم الجنة، يقال لهم -للأولاد-: ادخلوا الجنة -يوم القيامة- فيقولون: حتى يدخل أبوانا، فيقال: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم). وحتى الأمراض رحمة من الله وتكفيراً وتطهيراً من الذنوب والسيئات، حتى الشوكة التي يشاكها العبد يكفر الله بها من خطاياه. المصيبة التي لا اختيار للعبد فيها والمرض الذي يأتي للعبد دون سعي منه، ومع أن المرض لا نكسبه، لا نعمله بأيدينا ولا نسعى إليه يأتي إلينا رغماً عنا ومع ذلك يكون كفارة، فهل أحدٌ أرحم من الله؟ وبعض الأمراض في تكفيرها للسيئات ورحمة الله بها أشد من بعض، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الطاعون كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمةً للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله إلا كان له مثل أجر شهيد).
رحمة الله في قبول توبة التائبين:(30/5)
أيها المسلمون: ويوم القيامة يتجاوز الله برحمته عن سيئات لا يعلمها إلا هو، لقد رحم الله أقواماً ورحم أفراداً، وجاءت قصصهم متوالية برحمة الله إياهم رغم عظم ذنوبهم وكثرة سيئاتهم، (يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا -ملء الأرض- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان في بني إسرائيل رجلٌ قتل تسعة وتسعين رجلاً، ثم خرج يسأل فأتى راهباً فسأله، فقال له: هل من توبة؟ قال: لا. فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجلٌ -وهو أحد العلماء-: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها -نحو القرية الصالحة- فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه الأرض -التي هي من جهة القرية الصالحة- أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه الأرض -التي هي من جهة قرية السوء- أن تباعدي، وأرسل ملكاً يحكم بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له) وقد قتل مائة، لكن جاء تائباً مقبلاً على ربه. وفي قصة أخرى يقول صلى الله عليه وسلم: (أسرف رجلٌ على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه، فقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم أذروني في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، ففعلوا ذلك به، فقال الله للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك). وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر رجلاً فيمن كان سلفا أو قبلكم آتاه الله مالاً وولداً، فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً -فسرها قتادة : لم يدخر، ما عمل خيراً قط- وإن يقدم على الله يعذبه -يقول لأولاده وهو على فراش الموت- فانظروا فإذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، ثم إذا كان ريحٌ عاصفٌ فأذروني فيها، فأخذ(30/6)
مواثيقهم على ذلك، ففعلوا، فقال الله: كن، فإذا هو رجلٌ قائم، ثم قال: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ قال: مخافتك، أو فرقٌ منك، فما تلافاه أن رحمه الله). اللهم اجعلنا ممن رحمتهم، وأدخلنا الجنة بغير حساب، اللهم لا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم إنا نسألك عافيتك ورحمتك التي وسعت كل شيء، فلا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وفرج كربتنا يا أرحم الراحمين.
رحمة الله.. وإنزال النعم علينا:
الحمد لله الرحمن الرحيم أرحم الراحمين، فبرحمته سبحانه وتعالى أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل علينا كتابه، وعلَّمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، كل ذلك برحمته سبحانه. وبرحمته أطلع الشمس والقمر وجعل الليل والنهار وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتاً لنا أحياءً وأمواتاً. وبرحمته أنشأ السحاب، وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى. وبرحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذللها لنا ركوباً نركب ونأكل ونشرب من ألبانها. وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور، لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. وأنزل علينا الكتاب وسماه رحمة: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:52]، وقال سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ [يونس:58] بهذا التنزيل.. بهذا القرآن: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] افرحوا بالقرآن. إن رحمة الله لا ممسك لها: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2]، وهو الذي يقسمها لا يتولى قسمتها أحد: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، وهو الذي: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الإنسان:31].(30/7)
التحذير من القنوط من رحمة الله:
لا يجوز لإنسان أن يقنط من رحمة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تسأل عنهم تودع منهم -ما فيهم خير-: رجلٌ ينازع الله إزاره، ورجلٌ ينازع الله رداءه -فإن رداءه الكبرياء وإزاره العز- ورجلٌ في شك من أمر الله والقنوط من رحمة الله).. وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، وقال عليه الصلاة والسلام: (أكبر الكبائر: الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله) القنوط من رحمة الله من الكبائر، ولذلك: (كان النبي صلى الله عليه وسلم -إذا قرأ القرآن- إذا مرَّ بآية خوف تعوذ، وإذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرَّ بآية فيها تنزيه الله سبح) حديث صحيح رواه أحمد و مسلم والأربعة، وأخذ منه أهل العلم: إذا مرَّ الإمام بالقنوت بكلمات فيها تنزيه الله أن يسبح من يسمع ذلك. فهل هناك أرحم وأكرم من الله سبحانه وتعالى؟! لكن أين العمل يا عباد الله؟ وأين التوبة والأوبة إلى الله؟ فإن الله: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الإنسان:31]، وقال الله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [لأعراف:56] فأين الإحسان؟ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56]. اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وأن تدخلنا برحمتك يا أرحم الراحمين، أدخلنا في رحمتك إنك على كل شيء قدير، أدخلنا الجنة برحمتك وتجاوز عنا يا أكرم الأكرمين.
وقفة مع وصية أحمد خادم الحجرة النبوية:(30/8)
أيها الإخوة: أريد أن أذكر أمراً وهو ورقةٌ يوزعها بعض الجهلة من الناس فيها وصية من يُزعم أنه أحمد خادم الحجرة النبوية ، وفيها أنه رأى رؤيا، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له أشياء في الرؤيا، وفي آخر الورقة مكتوب يجب أن توزع من هذه الورقة سبع نسخ، وإذا لم تعمل ذلك حلت بك المصائب، وفلان لم يفعل ذلك فمات ولده وخسرت تجارته، وفلان وزعها فربحت تجارته وحصل له من الخير كذا، وهذا دجل وكذب وخرافة وشعوذة تنتشر بين السذج الذين لا عقيدة لهم صحيحة، الذين يخشون من ظلهم، وهذه الأوراق بلغ من جهل بعض الناس أنه يصورها ويوزعها في الأسواق وفي تجمعات الناس، وبعضهم من العجم يسمع ولا علم عنده فيوزع، وبعض الجهلة إذا ما كان عنده استطاعة على نسخها بآلة النسخ كتبها بيده سبع نسخ، يتعب عليه الوزر والغضب من الله إلا أن يتوب إلى ربه، ولذلك أقول: يجب تمزيقها، وهذه الخرافة يروجها الصوفية من أعداء الله الذين يسعون لتخريب الدين بهذه الرؤى الكاذبة والأشياء المفتراة المكذوبة، فيجب مقاومة ذلك والسعي إلى إزالته ونصح الناس وتنبيههم، ولا تخلو سنة من السنوات إلا وهناك موسم لهذه الورقة، هذا الرجل الذي يقال: إنه مات من أكثر من مائتين سنة كذب عليه رؤيا يفترونها ويوزعونها بين الناس، فاحذروا من ذلك يا عباد الله. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(30/9)
خطبة المعاملات المنتشرة
30 / 10 / 1426هـ
للشيخ / محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد.
فقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباغيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا }، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم " رواه البخاري. وقال عليه الصلاة والسلام: " اثنتان يكرههما ابن آدم الموت والموت خير من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب "، وقال: " إن بين أيديكم عقبة كئوداً لا ينجوا منها إلا كل مخف "، ويشرح ذلك حديث أبي الدرداء رضي الله عنه لما قالت له زوجته أمه أم الدرداء: مالك لا تطلب ما يطلب فلان وفلان؟، قال: إن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن من ورائكم عقبة كئوداً لا يجوزوها المثقلون"، فإن أحب أن أتخفف لتلك العقبة.
يجتمعون يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام: " فيقال: أين فقراء هذه الأمة؟ فيقال لهم: ماذا عملتم؟، فيقولون: ربنا أبتلينا فصبرنا ووليت الأموال والسلطان غيرنا، فيقول الله جل وعلا: صدقتم. قال: فيدخلون الجنة قبل الناس، ويبقى شدة الحساب على ذوي الأموال والسلطان، قالوا: فأين المؤمنون؟، قال: يوضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار والله سبحانه وتعالى يبتلي بالغنى والفقر فينظر كيف تعملون؟ " ولذلك ينبغي على المسلم أن لا ينسى في ما آتاه الله أن يخرج حق الله، وحق عباده، وأن يبتغي فيه الدار الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا.(31/1)
وأجعل المال إلى الله زاداً ... ... وأجعل الدنيا طريقاً وجسراً
إنما التاجر حقاً ويقيناً ... ... تاجر يربح حمداً وأجراً
عباد الله، وهذا الإقبال على الأموال اليوم من كل جانب بالطلب، والسعي، والاستثمار، والحركة، فيه خير وشر، فإذا كان لله يعمل فيه بطاعة الله ويؤدي فيه حق الله وينفق فيه على من أوجب الله عليه الإنفاق عليه ويتصدق منه فإنه خير، وإن كان يأخذه هلعة يأخذه مما حرم الله وينفقه فيما يسخطه الله لا يعرف لله فيه حق ويجحد حقوق العباد ويبخل عمن أوجب الله عليه الإنفاق عليه فهذا المال وبال عليه، ومن الناس من خلط في المال عمل صالحة وآخر سيئة، فينبغي على العبد أن يعرف حق الله، { وأحل الله البيع وحرم الربا }، والله سبحانه وتعالى نهانا فقال: { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الكسب أطيب؟، فقال: " عمل الرجل بيده وكل بيع مغرور". فينبغي على العباد أن يراعوا حق الله سبحانه وتعالى في البيع والشراء والمعاملة المالية وهكذا ينتهوا عما نهى الله عنه من الربا والغرر والجهالة والقمار والميسر وهذه الأشياء الثلاثة وهي: الربا، والميسر، والجهالة، من أعظم ما يقع للناس في المعاملات من المحرمات، والشريعة قد نهت عنها نهياً عظيماً.(31/2)
ومن هذه الصور ما يقع اليوم في بطاقات الإثمان، عندما يسدد بعض الناس عبرها من حساب خالٍ صفرٍ إنما يسدد في الحقيقة البنك بالنيابة عنه، يقرضه المال فيسدد به عنه، ليأخذه من راتبه الذي ينزل في حسابه في نهاية الشهر من الجهة التي يعمل فيها، فإذا تأخر عن السداد فإنه يخصم عليه مبلغاً إضافياً يسميه شرطاً جزائياً نظير التأخر عن التسديد، وهذا ربا وحرام ولا شك، وقد حرم الله الربا من السبع الكبائر العظيمة، وكذلك يأخذ بعضهم نسبة مئوية عليه حين يشتري عبر هذه البطاقة، وقد يأخذ مبلغاً مقطوعاً فيسميه أتعاباً إدارية، فإذا كان مقطوعاً يساوي فعلاً هذه الأتعاب فلا بأس بذلك، وإذا كان يزيد عليها وهو يسدد من حساب البنك لا من حسابه فهذه الزيادة ربا، فإذا كان لك مال في حسابك تسدد منه عبر البطاقة فنحن نفهم أن يكون هنالك أتعاب للبنك بالقيام بهذا العمل يسمى أتعاب إدارية أو مصاريف إدارية، وأما إذا كنت تسدد في الحقيقة من مال المصرف الذي أصدر لك البطاقة فهذا قرض، فكل ما زاد عن المصاريف الإدارية في الحقيقة يكون رباً، لأن هذا المصرف قد استفاد من القرض فوق الأتعاب الإدارية، وكذلك فإن هؤلاء الذين يأخذون نسبة مئوية على المبلغ الذي اشتريت به، لا يمكن أن يصدق أنها أتعاب ومصاريف إدارية، لأن هذه النسبة تعظم كلما عظم المبلغ، وتقل كلما قل المبلغ مع أن العملية باستخدام الآلات وتقييدها واحدة لا فرق بين أن يكون المبلغ كبيراً أو صغيراً، ولذلك كان من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي أن هذا المأخوذ بالنسبة لا يجوز وما زاد عن المصاريف الإدارية في حال أنك تسدد من مال المصرف لا من مالك وحسابك فارغ فما زاد عن هذه المصاريف فهو ربا أيضا،، وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء ببطاقات التخفيض التي يتبعها بعض الأطراف نظراً لما فيها من الجهالة والغرر وأكل المال بالباطل، وكثيراً ما تكون سبباً للنزاعات والمخاصمات، وفيها إضرار بالتجار الذين لم(31/3)
يشتركوا في برنامج التخفيض، وفيها تداول للمال بين طائفة معينة، وهم المشاركون في برنامج هذا التخفيض، فيدفع صاحب بطاقة التخفيض مبلغاً معيناً ثم لا يدري هل يستفيدوا منه أم لا؟، وهل يستفيد منه قليلاً أو كثيراً ؟، ولذلك فإنه في هذه المعاملة شبهات وعليها ملاحظات شرعية ينبغي الحذر منها.
عباد الله، إن استخدام التقنيات المعاصرة في تسهيل الأمور على الناس مطلب شرعي، لأن الشريعة تحب التسهيل والتيسير، { وما جعل عليكم في الدين من حرج }، ولذلك فإن إجراء المعاملات من بعد عبر هذه الوسائل أمر طيب وفيه تسهيل على الناس، ولا شك في ذلك وهذه التجارة الإلكترونية هي نوع من هذا العمل الذي فيه التسهيل على الناس، ولكن ينبغي أن نعلم كيف نبيع؟ وكيف نشتري؟ وكيف نحذر من الجهالة؟ وكيف نحذر من الغرر؟ والغرر إذا كان يسيراً لا يؤثر، أما إذا كان كثيراً فإنه محرم مؤثر، وكذلك إذا كان مستقلاً فإنه لا يجوز، وقد يجوز إذا كان تبعاً لغيره، ومثال ذلك: أن تشتري جهازاً فيعطونك مع الجهاز عقد ضمان، مرفقاً مع بيع وشراء الجهاز، وهذا في الحقيقة لقاء مبلغ معين إذا تعطل الجهاز قاموا بإصلاحه بموجب عقد الضمان الذي تدفع أنت مقابلاً له، فإذا كان عقد الضمان ضمن عقد البيع فهو مغتفر فيكون جائزة، وأما إذا كان عقد الضمان مستقلاً كأن يقول لك: إذا اشتريت هذا الحاسوب فالضمان عليه سنة، فإذا أردت أن تجدد الضمان بعد سنة بعقد مستقل فتدفع مائتين مثلاً، فهذا الضمان بعقد مستقل هو في الحقيقة نوع من التأمين المحرم، فإن الصفقة انتهت وأنت قد اشتريت الجهاز وانصرفت به واستعملته سنة ثم بعد ذلك تريد أن تشتري منهم عقد ضمان جديد مستقل تدفع عليه مقابلاً، فإذا طرأ الخلل استفدت مما دفعت، وإذا لم يطرأ خلل ذهب ما دفعته هباءاً منثوراً عليك، ولذلك كان هذا في الحقيقة نوع من التأمين المحرم وهو من بيوع الغرر التي نهت عنها الشريعة، فهذا الفرق بين أن يكون تبعاً لعقد(31/4)
البيع أصلاً فهو مغتفر فيه ويسير فيه وبين أن يكون بعقد مستقل فيكون فيه هذا الغرر.
ومن الأمثلة أيضاً أن تشتري شاةً وفي بطنها حمل فيكون شرائك للشاة هو الأصلي وهذا الحمل تابع فهذا جائز، نعم،، قد يوجد في بطنها ذكر، وقد يوجد أنثى، وقد يوجد واحد، وقد يوجد اثنان، ولكنه تابع للأصل وهو شراء الأم فهو مغتفر، أما لو بيع الحمل منفصلاً فيقول لك أبيعك فقط ما في بطن هذه الناقة، أبيعك فقط ما في بطن هذه الشاة، بمائتين فأنت تنتظر حتى تلد الشاة لتأخذ ما اشتريته لأن هذا الشراء قد وقع على ما في بطنها فقط مستقلاً، فلا تدري هل هو واحد أو اثنين؟، هل هو ذكر أو أنثى؟، هل يخرج حياً أو ميتاً؟، فيكون هذا من باب الجهالة والغرر المحرم.
عباد الله، ومثل ذلك بيوع المنابذة، وبيع الحصاة، فيرمي الحصاة فأي شيء وقعت عليه الحصاة فهو بكذا فهذا لا يجوز، وكذلك بيع المعجوز عن تسليمه وبعض الناس يبيع الدين فيكون مطالباً لأشخاص بدين، وقد تعب في مطالبتهم فيأتي إليه شخص فيقول: أنا أشتري منك هذا الدين، فيكون الدين مثلاً مائة ألف، فيقول: أشتريه منك بسبعين ألف خذ السبعين وأنا أطالب فقد يحصل السبعين وقد يحصل أكثر وقد يحصل أقل فهذا حرام لا يجوز، وهو ربا لقد أشترى نقداً بنقدٍ وليس هنالك استلام وتسليم في مجلس العقد كما هو شرط شراء النقد بالنقد، وثانياً أن فيه غرراً واضحاً، فإنه لا يدري كم يحصل؟، هل يحصل أقل أو أكثر؟، وهذا بخلاف ما لو تعاقد معه أن يحصل له دينه بنسبة، فكلما حصل له مبلغاً أخذ عليه نسبة فهذا لا بأس به، وهو شيء معلوم ولا زال المال لصاحبه، والمأخوذ عليه جعل، أو يكون أجرة فلا بأس بذلك.(31/5)
عباد الله، وإن الشريعة قد حاربت الغرر بأنواعه، ومن ذلك ربط العقود ببعضها وأسوؤها ما كان فيه القرض، كأن يقول: أقرضك على أن تبيعني، أو أقرضك على أن تأجرني، ونحو ذلك فهذا قرض جرى منفعة لهو مصلحة في هذا المشترى، أو هذا المستأجر، وهذا لا يجوز وهو محرم بلا شك.
وبعض الناس يبيع بيعتين في بيعه أيضاً من هذا الباب، ومثل هذا: أن يأخذ سيارة من الوكالة ولا يدرى هل هو استئجار أو بيع؟، فيدفع أقساط، لا يدرى هل هي أجرة أو هي أقساط بيع؟، ولذلك كان لا بد من فصل العقدين عن بعضهما لأن الشريعة تريد أن تكون الأمور واضحة، فهل السيارة هي ملك للوكالة وهذا مستأجر السيارة أمانة عنده وما يدفعه هو أجره؟، أو أن السيارة قد انتقلت ملكيتها إلى هذا المشتري الذي يقسط الثمن لهم فقد صارت ملكاً للمشتري وليس للوكالة إلا الثمن الذي يقسط؟، فلا بد أن تكون المسألة واضحة من البداية، هل هو هذا أو هذا؟، فإذا قال لهم: أنا أستأجر منكم هذه السيارة بقسط شهري، أو بأجرة شهرية كذا وكذا، فإذا أردت أن أشتريها منكم وقعت معكم عقداً مستقلاً عقد بيع وشراء مستقل، بما نتفق عليه ونتراضى في ذلك الوقت وهذا مباح وحلال ولا إشكال فيه.(31/6)
عباد الله، ويلجأ بعض الباعة إلى عملية ربوية واضحة جداً، وهي أنه إذا تأخر المشتري عن التسديد والمبلغ ثابت معين وهو سعر الشراء القيمة التي أشترى بها، فإنه يجعل عليه جزاءاً للتأخير وهذا حرام ولا شك، وهذا هو الربا لأن هذا الثمن الذي أشترى به ثابت ودين عليه، فإذا فشل في التسديد في الوقت المحدد، قال له: إذا أردت أن نمهلك وأن نؤجلك زيادة فستدفع زيادة ونسبة إضافية على هذا المبلغ الذي لم تسدده في وقته، وهذا هو الربا في الحقيقة، وقد قال الله: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة }، فالواجب إذا أعسر أن ينظر وليس أن يجعل عليه مبلغاً إضافياً، ومن الأمور التي تعملها بعض المصارف مع بعض الناس الذين يتعاملون معها في شراء المعادن، أو شراء القطن، أو شراء السلع بالآجل، أنه إذا فشل في التسديد في الوقت المعين، يلجئون إلى مسألة قلب الدين، وما هي هذه المسالة؟، أن يقول له أنت اشتريت منا المعادن بسعر كذا، وعليك أن تقسطها بكذا وكذا، ثم الآن عجزت عن التسديد، فسنعمل معك عقد آخر تورق أيضاً بشراء معادن جديدة، لاحظ معي أيها المسلم كيف يلعب بأحكام الشريعة؟، سنعمل معك عقد تورق جديد على معادن جديدة تشتريها منا بالتقسيط، ونبيعها لك، ونعطيك الثمن، ونخصم منه الديون التي لنا عليك من التورق الذي قبله، وهذا حرام وحيلة عجيبة، كيف يقع فيها هؤلاء؟، وكيف يرضى بها هذا؟.
عباد الله، لقد جاءت الشريعة بأن المسلم لا يجوز أن يبيع شيئاً أشتراه قبل قبضه، اشتريته تريد أن تبيعه لا بد أن تقبضه أولاً، " نهى عن بيع ما لم يقبض " حديث صحيح.(31/7)
فأحفظ هذا النص فإنه ينجيك في مسائل كثيرة مما وقع فيه الناس، " نهى عن بيع ما لم يقبض"، لا تبع حتى تستلم، فإذا قبضته فإن لك أن تبيعه ولكنك لا تراه في كثير من الأحيان، فإذا سألت عنه قالوا: هو في الخارج، قالوا هو في المكان لكن نحتاج إلى فترة حتى نأتي به، ونحو ذلك فكيف باعوه أصلاً إذن، وبعضهم ربما أبقاه في مستودعات التاجر الذي أتفق معه المصرف فهو يباع ويشترى في نفس المكان، والمستودعات لذلك التاجر وهذا أيضاً مرفوض شرعاً ولا يجوز، فإن الإنسان إذا اشترى شيئاً من تاجر وأراد أن يبيعه فلا بد أن يحوزه، ويقبضه أولاً، ويقبل الأمر إذا قالوا إننا قد استأجرنا هذه المستودعات لحسابنا، فنحن نضع فيها الحديد والمواد التي نشتريها من التجار في هذا المستودع، وأنت تشتريها منا فهو مستودعنا، وهذه صالتنا وفيها السيارات فهذا جائز، المكان مكانهم استأجروه، أو بنوه، أو اشتروه، المكان مكانهم، فإذا اشتريته أنت فشرائك صحيح، ولكن إذا أردت أن تبيعه فلا بد أن تقبضه، وأن تخرجه من ذلك المكان وأن تحوزه، أما أن يباع في ذلك المكان تبيعه أنت في ذلك المكان فلا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم " حديث صحيح.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مطعمنا حلال، ومشربنا حلال، ومكسبنا حلال، اللهم إنا نسألك التقوى، اللهم جنبنا الحرام وجنبنا ما يغضبك يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم وأوسع لإخوانكم يوسع الله لكم.
الحمد لله رب العالمين، أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له، رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.(31/8)
عباد الله، إن مسألة القبض هذه تميز لنا كثيراً من البيوع الصحيحة من البيوع الفاسدة أو الباطلة، بل حتى الوهمية، وقبض كل شيء بحسبه، فقبض الطعام بأخذه كيله واستلامه، وكذلك قبض الأرض بتخليتها، وهكذا قبض العقار بتخليته من مالكه الأول، وبعض الناس يشترون عبر البورصة معادن ويبيعونها على الشاشة وهذه المعادن لا بد أن تكون موجودة حقيقة، ولذلك فلابد من الحذر من عمليات وهمية تجري على الشبكات، وتعرف هذه القضية بأن تحسب كم حجم هذه المعادن؟، كمية المعادن التي تباع على الشاشة، وكم الأموال التي هي حجم هذه المبادلات؟، فأحياناً تجد أن هذه المعادن كلها لو جمعت التي لو تباع وتشترى عبر الشاشة والبورصة هي ألف طن مثلاً، ولكنك تجد أن الصفقات على هذه الألف طن هي في الحقيقة قيمة مائة ألف طن، إذن الأموال التي يشترى بها ويباع على الكمية الواحدة هي في الحقيقة ثمن مائة ضعف من الكمية الحقيقية الموجودة، معنى ذلك أن هناك كميات وهمية غير موجودة يباع فيها ويشترى عبر الشاشات وهي لم تخلق أصلاً، أو لم تستخرج أصلاً، وهذا بيع وهمي وبسبب إنهيار مثل هذه البورصة تحدث مضاعفات اقتصادية خطيرة جداً.
فنعيد تلخيص هذه المسالة؛ أن يكون الموجود في العالم من هذا المعدن ألف طن مثلاً، والأموال التي تدور هي قيمة مائة ألف طن، فأين البقية من هذه الأطنان؟، ومن الذي يشتريه هؤلاء؟، وما الذي يبيعونه؟، فتجد أن هناك بيعاً وهمياً يدور عبر هذه الشاشات، ولذلك كان تحديد الكمية ومعرفتها ووجودها مما يلغي مثل هذا البيع الوهمي الكبير.(31/9)
عباد الله، وقد حرمت الشريعة الغش بأنواعه، وهذا الغش مما حدث فيه وقوع عظيم في هذه الأيام، فأنت تراه ابتداءاً من صناديق الفاكهة التي يجعل فيها الفاسد أسفل والجيد أعلى، والصغير أسفل والكبير أعلى، لألى يراه المشتري فينخدع بظاهر ما في الصندوق وهو لا يدري عن باطنه، وقليل جداً من المزارعين والتجار الذين ينبهون عمالهم عند صف هذه الفواكه أو الخضروات في الصناديق أن لا يقعوا في هذا، بل إنهم يوصونهم بالعكس، وكذلك تجد الغش في أنواع الزيوت، وأنواع العطور، والبخور، كيف تخلط بغيرها؟، وكيف يجعل الرصاص داخلاً في بعضها؟، بحيث أنك لا تراه، وكيف تكون بعض المواد تحترق مع هذا البخور؟، بل فلا ترى هذا المغشوش والمخلوط أصلاً، وكذلك فإن بعض الزجاجات تظهر لك ما في داخلها شيئاً كثيراً، ولكن في الحقيقة هو أقل من ذلك، فإن شكلها يخدع.
وبعض التجار يخيط الثياب خياطة ضعيفة، ثم يبيعها من غير أن يبين ذلك، وربما لصقوا عليه وهذا موجود في مشاغل الخياطة التي تخيط هذه الكميات من الثياب والفساتين ونحوها، ينزعون عنها الإشارة التي تبين البلد الذي صنعت فيه ويخيطون بدلاً من ذلك علامات تبين بلداً آخر، ونحو ذلك، وهذا أيضاً يحدث عند أصحاب الحلي الذين يغشون المعادن النفيسة.(31/10)
وكذلك يحدث في مزادات السيارات، فيوضع زيت ثقيل في محرك السيارة يوهم المشتري أنها بحالة جيدة، وبعضهم يتلاعب في عداد السيارة قبل أن يبيعها، وبعضهم يريد أن يبرئ ذمتهم بزعمه، فيقول: خذها كومة من حديد. ولا يبين السلعة ولا يبين عيوبها، وهو يعلم عيوب السلعة، وبعضهم يقول: سكر في ماء أو ملح في ماء، وهو يقصد أنك تشتريها كما هي ولا يبين عيوبها، وهكذا،، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعيهما "، وأنواع الفساد في مزادات السيارات كثيرة، حتى لتجد من يكره الداخل في سوق الحراج على البيع فهذا من جهة، وهذا من جهة، ليخرجوه بعد ذلك مسكيناً قد باعها بأقل من سعرها في الحقيقة، وهذا بيع الإكراه لا يجوز، وقد قال الله: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم }، وأول شرط في البيع هو التراضي.
عباد الله، وما يقع في مزادات من الاتفاق بعض هؤلاء على عدم الزيادة عن السعر بأن يوقفه على سعر معين فهذا لا يجوز، فليترك الناس يبيعون ويشترون بما يرزق الله سبحانه وتعالى وبضعهم يزيد في سعر السلعة إذا كانت لهؤلاء الشريطية السيارة، يدخلون في المزاد فيزيدون مع الناس باتفاق بينهم وهذا حرام لا يجوز، وهو النجش الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بأن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شرائها، وفي المقابل أفتى العلماء بأنه لا يجوز للتجار الداخلين في المناقصة أن يتفقوا على سعر معين يضعونه، يضعون أقل منه، ولا يزيدون عليه، لأن الذي طرح المناقصة قصده فعلاً أن ينزل المشتركون بالسعر دون أتفاق بينهم، فإذا اتفق الداخلون في المناقصة فيما بينهم على تثبيت سعر معين فإن ذلك الاتفاق يعد مخالفاً لما أراده هذا الذي طرح المناقصة في الحقيقة، فيكون احتيالاً عليه وخداعة.(31/11)
عباد الله، إن القصود معتبرة في العقود، وهذه النية التي في الصدر الله سبحانه وتعالى مطلع عليها، ولا بد أن يصدق المسلم في بيعه وشرائه، وأن يكون متبعاً لأحكام الشريعة والذين يدخلون في البيوع يجب أن يتعلموا أحكامها، وقد كان عمر رضي الله عنه لا يأذن بدخول السوق إلا لمن كان يعرف أحكام البيع والشراء حتى لا يقع الناس في الحرام.
عباد الله، وإن مما نهت عنه الشريعة بيع الكالئ بالكالئ، وبيع الدين بالدين، فهذا لا يجوز، وكذلك إذا اتفق معه على شراء شيء غير موجود، والثمن غير مسلم فلا السلعة موجودة والثمن مسلم، فهذا بيع الكالئ بالكالئ أيضاً وهو غير جائز، ولا يعتبر العقد صحيحاً، ولا ملزمة، فإما أن يكون الثمن مدفوعاً كاملاً على طريق بيع السلم والسلعة، يؤتى بها فيما بعد أو أن السلعة موجودة، والثمن مسلم، أو مقصد، أو سيسلم آجلة، فهذا جائز في غير الذهب والفضة والأوراق النقدية، وإن مما يقع أيضاً عند بعض الناس في تعاملاتهم، أنهم يشترون النقد بالنقد غير مقبوض، فيقول: خذ هذه الريالات بدولارات ستسلم في آخر السنة، فهذا بيع لا يجوز لأن النقد بالنقد يجب أن يكون الاستلام والتسليم في العقد، أن يكون في مجلس العقد، وكذلك الذهب بالذهب يجب أن يكون متماثلة، فإذا أراد أن يبع الذهب قديماً بذهب جديد فإنه يبيع القديم بنقد يستلم النقد، ثم يشتري ذهباً جديداً بما يشاء بنفس السعر، أو أقل، أو أكثر، أما إذا أراد المبادلة فيجب أن يكون الوزن مثلاً بمثل، وأن يكون الاستلام والتسليم يداً بيد في مجلس العقد، فلا يجوز أن يباع الذهب بالأقساط، ولا أن يباع بالآجل، وبعض الناس يشتري الذهب على الراتب، وسيسلم الثمن إذا جاء الراتب، ويأخذ الذهب والثمن فيما بعد وهذا بيع لا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلاً بمثل يداً بيد "، فلا بد من تحقيق مراد الشارع وهذه الأوراق النقدية تقوم مقام الذهب والفضة فلا(31/12)
بد إذن، أن يكون الاستلام والتسليم في مجلس العقد، فتسلم الثمن وتأخذ الذهب يداً بيد.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا فيما آتانا، وأن يقنعنا بما رزقنا، وأن يجعلنا ممن يبتغي الحلال ويحرص عليه، اللهم إنا نسألك البركة والتقوى، وأن تجنبنا الحرام والعسرى يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، وأغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(31/13)
( مؤامرة تمييع الدين (1) )
عناصر الموضوع :
خطر تمييع الدين وثوابته
إنكار الأمور الغيبية
إنكار معجزات الأنبياء
تمييع قضية الحكم على المرتدين
تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام
إلغاء الحواجز الدينية بين المسلم والكافر
نشر الوعي بين المسلمين تجاه هذه القضايا
مؤامرة تمييع الدين (1):
معاول الهدم في العقيدة الإسلامية كثيرة، ومنها التمييع لكثير من القضايا الخاصة بهذا الدين، ومن هذا التمييع: إنكار الأمور الغيبية والمعجزات الخاصة بالرسل.. تمييع قضية الحكم على المرتدين.. تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام.. تمييع الحواجز بين المسلم والكافر..
خطر تمييع الدين وثوابته:(32/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإننا معشر المسلمين مطالبون شرعاً بالدفاع عن حياض الإسلام، والذود عن هذه الشريعة المطهرة، ولأن ديننا أعز شيء لدينا، وجُبل الإنسان على الدفاع عن أغلى شيء عنده، وعن النفيس مما لديه، فلابد للمسلم أن يضع نُصب عينيه الدفاع عن شريعة الإسلام، وأن يجعل له ذلك وظيفةً، وألا يقصر في القيام في هذا الأمر، يسعى لله بالحجة والبيان، وينافح عن الإسلام، وعندما يكون المسلمون في ضعف يتكاثر الطاعنون، ويرفع أهل الضلال رءوسهم، يريدون النيل من هذا الدين القويم. ونحن لا ننكر أيها الإخوة! في مرحلة الاستضعاف التي نعيشها أننا نتعرض لحملة شرسة من أعداء الدين، وأن هناك كثيراً من الخراب في الفكر والعقيدة الذي تسلل إلى نفوس بعض المسلمين ممن حملوا معاول الهدم، يشعرون أو لا يشعرون، ولكنك لا يمكن أن تغمض عين البصيرة عن الروابط التي تربط أعداء الدين في الخارج مع أعداء الدين داخلنا وبيننا؛ لأن الإغماض عن ذلك نوع من الغفلة، لا يمكن أن يليق بمسلم صاحب بصيرة. ومعاول الهدم كثيرة في هذه العقيدة التي هي صامدة في نفوس أبنائها مهما حصل، ومن ذلك أيها الإخوة موضوع خطير جداً يدندن حوله، ويراد تقريره، وهو موضوع التمييع، تمييع عدد من أحكام الدين، وشعائر الدين، وعدد من المسلمات والثوابت في هذه الشريعة المطهرة. لقد تولى إفك التمييع وهذا المهمة عدد من المنتسبين إلى أهل الإسلام، الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ولكنهم في الحقيقة يريدون أن يقلعوا الشريعة حجراً حجراً، وبعضهم يظن أن ما يفعله هو أمر طيب في صالح الشريعة، وبعضهم يفعل ما يفعل عن تعمد واستمداد من أهل الباطل والكفر وصناديده. وهذا التمييع أيها الإخوة! أمرٌ جد خطير؛(32/2)
لأنه قد حصل بسببه التباس عند كثير من المسلمين الذين تأثروا بهذه الأفكار المطروحة، وهذا التمييع صار في جوانب متعددة، ولنأخذ بعض الأمثلة تحت بعض العنوانين لنبين ما هو المقصود بقضية التمييع.
إنكار الأمور الغيبية:
إن هؤلاء الطاعنين في شريعتنا، يميعون على سبيل المثال كثيراً من أمور الغيب والعقيدة؛ ولأن عقولهم لا تقبل وجود أشياء غيبية كالملائكة والجن مثلاً؛ لأنهم لا يحسون بها ولا يرونها، فيريدون إنكارها. ولذلك فإنهم يدندنون حول قضية إمكانية أن يعيش المسلم بسلوك الإسلام دون أن يعتقد ببعض الأمور الغيبية، ويقولون: إن المهم هو فقه الشريعة، وأما فقه العقيدة فإنه مسألة فيها حرية وسعة، وأن المسلم يمكن أن يعيش بسلوك الإسلام، حتى ولو أنكر بعض الرموز والخيالات الموجودة في هذا الدين، يقول محمد أركول من ضُلال هذا العصر: لابد من أن نقر أن الذي حرك القبائل أيام النبي محمد -ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم- وهو لم يقل: صلى الله عليه وسلم، هو الإيمان كما ورد في القرآن، والتصورات الأخروية من وعد ووعيد، التي دخلت عقول الناس وجعلتهم يؤمنون بها كحقائق واقعية، وليس كخيال ورموز، ونحن ننظر إليها في هذا العصر كخيال ورموز. وكذلك يقول حسن حنفي : ألفاظ الجن والملائكة والشياطين ألفاظ تتجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها؛ لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس. وكذلك يرى زكي نجيب محمود : إن الغيب والإيمان به خرافة. ويقول واحد آخر ممن يحسب على المشيخة والمشايخ، يقول عن إحدى صفات الله تعالى: إن العقائد لا تُخترع ولا تُفتعل على هذا النحو المضحك، عقيدة أن لله رجلاً ما هذا؟! فيريد إنكار القدم أو الساق أو اليد أو الوجه من صفات الرب عز وجل التي أثبتها لنفسه في كتابه سبحانه وتعالى، وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27]. وكذلك أثبت صفة القبضة له سبحانه وتعالى، وأثبت صفة اليد(32/3)
له عز وجل، أثبتها له سبحانه، وهو المتصف بها، ونحن لا نعرف إلا ما أخبرنا به في كتابه، وما حدثنا به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67].. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]. وهذا يقول: هذا سخف، لله كذا، هذا شيء مضحك! استهزاء بصفات الله، والذي قبله يقول: العوالم الغيبية رموز وخيالات، والذي بعده يقول: الشياطين والملائكة ليس لها وجود، لا يقبلها كل عقل، ثم يقولون: فكيف إذاً يلتقي المسلمون الذين يؤمنون بهذه والذين لا يؤمنون، يمكن أن يلتقوا على السلوك الإسلامي، وعلى الأخلاق الإسلامية، أما هذه العقائد والأمور الغيبية فلا يلزم الجميع أن يؤمنوا بها. سبحان الله! ما هي أول صفة وصف الله بها المؤمنين في سورة البقرة؟ الم * < ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * < الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ .. [البقرة:1-3] بل إقامة الصلاة: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * < وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ..)[البقرة:3-4] أعادها وكررها: بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ [البقرة:4] وما فيها من المشاهد الغيبية، من الحوض والصراط والميزان والجنة والنار، وعرش الرحمن وكرسي الرحمن، والمنابر من نور عن يمين الرحمن، وظل العرش: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4] أولئك المؤمنون حقاً أيها الإخوة: أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] فإذا لم يؤمنوا ببعض هذه الأشياء، فليسوا على هدىً من ربهم، وليسوا بالمفلحين، وليسوا هم المؤمنون حقاً. فهل رأيتم إذاً وتراً من الأوتار الذي يعزف عليها هؤلاء في قضية تمييع هذه الأمور؟
إنكار معجزات الأنبياء:(32/4)
ومن الأشياء التي يريدون التخلص منها معجزات الأنبياء، لماذا أيها الإخوة؟ لأنها غيب، وعقولهم لا تتحمل الغيبيات، عقل فاسد وضيق، لا تتحمل عقولهم الغيبيات، فهذا أحدهم يقول: الذي ادعى أنه يحمل الجمع في الفقه بين القرآن والسنة، وألف كتاباً خطيراً جداً في السنة النبوية، يريد أن يزلزلها وينسف ثوابتاً فيها، يقول: على أنه لا صلة للعقيدة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته غمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يُغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق. لاحظ معي يقول: إذاً لا صلة للعقيدة بقضية أن الرسول عليه الصلاة والسلام أظلته الغمامة أو كلمه جماد، والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق، إذاً يمكن أن يكون الرجل صاحب مكانة في الدين، وهو ينكر هذه الخوارق، والله تعالى هو الذي أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وهو الذي أعطاها له ردءاً وتأييداً منه سبحانه؛ ليتبين قومه أنه نبي فعلاً ولا يقولوا: كذاب، لقد انشق القمر وأراهم القمر شقين، ورأوا أموراً عجيبة، ورأى أتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الخوارق ما زاد إيمانهم، ومن المعجزات ما أكد يقينهم وثبتهم: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]. فرأوا تكثير الطعام بين يديه، ونبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الأكل وهو يؤكل، وسلم عليه الحجر بمكة ، فكانت المعجزات تأييداً له ولأصحابه وبرهاناً على نبوته أمام الكفار، ومات صلى الله عليه وسلم وأبقى لنا هذه المعجزة الخالدة، وهي القرآن الكريم. أيها المسلمون! إن الله عز وجل لا يعجزه أن يؤيد رسولاً من رسله بأن تمشي إليه شجرة أو يحيي له ميتاً، أو يخرج له ناقة من صخرة، أو ينبع الماء من بين أصابعه، أو يرزقه فاكهة الشتاء في الصيف، أو يحا له طائراً قد ذبح وقطّع، فالله يؤيد أنبياءه بالمعجزات، ويعطي الكرامات لأوليائه، وليس ذلك على الله بعزيز، والله على كل شيء(32/5)
قدير، ولما رأى إبراهيم الخليل هذه الطيور التي قطّعت وذبحّت ووزعت على الجبال، ثم دعاها فجاء عنق هذا إلى جسده، ورجلا هذا إلى بقية الجسد وتركبت وطارت إليه، وقال: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] وأن الله عزيز حكم، كما قال ذلك عزير وقالها إبراهيم. إذاً أيها الإخوة! هؤلاء الذين ينكرون الجن اليوم، ويقولون: إنهم غير موجودين، وإن الصرع لا يمكن أن يحدث، وإن الشياطين ليس لها تسلط على البشر، والله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك بقوله عز وجل: إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] وأن الشياطين تمس الناس، نعم لم يجعل الله لهم سلطاناً عاماً على الإنس يصرعون من يشاءون ويلتقون كيف شاءوا، كلا، إن ذلك يحدث على نطاق ضيق وعدد قليل، ولكنه يحدث، ونقر أنه يحدث، ولا نقول: عقولنا لا تقبل ذلك.
تمييع قضية الحكم على المرتدين:
ومن التمييع الذي يمارسه هؤلاء: تمييعٌ في قضية الحكم على المرتدين الذين نطقوا بالكفر، فهذا أحدهم وهو فهمي هويدي يعتذر عن نزار قباني الشاعر الملحد الضال، الذي نطق شعره بالكفر صراحة، فينقل عنه عبارة كفرية واضحة، يقول فيها نزار:
لا تسافر مرة أخرى
لأن الله منذ رحلت
دخل في نوبة بكاء عصبية
وأضرب عن الطعام!
ثم قال: وبعت الله!(32/6)
هذا الذي قاله الأفاك الأثيم الذي ذهب إلى الله، والله سيتولاه، فماذا قال صاحبنا في الدفاع عنه، يقول: فالكلام الذي صدر عن نزار لا يدخل في إطار إنكار الله بطبيعة الحال، وإن تمنينا أن يتسم حديثه عن الله بالقدر الواجب من الإجلال، إلا أننا نقول: إنه غلب على نزار اعتبار صنعة الشعر، والأوزان والقوافي وكذلك هذه الموهبة، وأطلق العنان للتعبير، فجاء كلامه على ذلك النحو غير المستحب. غير المستحب!! واحد يقول: بعت، ويقول: نحو غير المستحب!! واحد يقول: إنه سبحانه أضرب عن الطعام! ودخل في نوبة بكاء عصبية! ثم تقول أنت عنه: صنعة الشعر غلبته فجاء الأسلوب غير المستحب! سبحان الله! هذا هو التمييع أيها الإخوة! أن نأتي إلى واحد قد صرح بالكفر الذي لا يوجد أشد منه، ثم نعتذر إليه بأن صنعة الشعر جاءت في كلامه على الأسلوب غير المستحب، وكنا تمنينا أن يأتي بالأسلوب الآخر، وكنا تمنينا أن يحاكم مرتداً وتقطع رقبته، وتمنينا نحن المسلمين، هذا الذي نتمناه في أي واحد يهاجم الله عز وجل أن يحاكم شرعاً بالردة، فإذا أقر ولم يرجع أن تضرب رقبته بالسيف انتصاراً لله تعالى، هذا الذي تمنينا. نتمنى هدايته ولكن لو لم يهتد، فإذاً ماذا نتمنى؟ أن يقام عليه حد الردة: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13] هذا هو الله عز وجل : وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] سبحانه وتعالى! هذا رعده وبرقه: وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13].
تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام:(32/7)
من التمييع كذلك: تمييع أحكام الفقه وأصول الإسلام التي جاءت بها الأحكام، فيقول أحدهم وهو محمد عبده في موضوع الوضوء بالكولونيا: ومن أين جاء أن ماء الزهر والورد لا يصح الوضوء به، وماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء، فإنه يمنع آثار المرض، قاله في كتاب تاريخ الأستاذ الإمام ، والذي يدافع فيه عن أحد كبار المنافقين في هذا العصر وهو جمال الدين الأفغاني ، وقد ذهبا إلى الله، وليس عندنا علم هل تابا أم لا، فالله يتولاهما، ولا نحكم على مصيرهما في الدار الآخرة، أمرهما إلى الله. لكن نحن نأخذ العبرة، ونريد أن نعرف ما هي الأساليب التي يمشي بها هؤلاء بين المسلمين، من الذي قال: إن الوضوء بالكولونيا لا يجزئ، فماء الكولونيا أحسن شيء للوضوء. نقول: الذي قال هم أئمة الدين من فقهاء المسلمين سلفاً وخلفاً، أنه لا يجزئ الوضوء إلا بالماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الطهارة بالماء، وفي حالة فقده يتيمم بالتراب، هذا الذي جاءت به الأحاديث، الماء طهور وبه يتوضأ ويرفع الحدث الأكبر والأصغر، وإذا عدم فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] ولم يقل: كولونيا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]. والعاقل والبليغ والمثقف والعامي والفلاح والدكتور كلهم يعرفون معنى لفظة الماء: (( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً )) وأي عاقل يفرق بين الماء والعصير، والماء والشاي، والماء والكولونيا، والماء والزعفران، وماء الورد وماء الزهر، كل ذلك بينه فرق بيّن.
موقفهم من الربا:(32/8)
أما الموقف من حكم الربا، فماذا يقولون؟ يقول ذلك الرجل: والفقهاء مسئولون في التشديد على الأغنياء في الربا، فاضطروا الفقراء للاستدانة من الأجنبي، بأرباح فاحشة استنزفت الثروات، ويجّوز بعضهم كما جّوز ذلك جمال الدين الأفغاني الذي قال بجواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون، ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال. فإذاً جرى على ذلك أذنابهم بعد ذلك بعشرات السنين، ووضحوا قولهم وأصلوه، وقالوا: الربا المعقول، يقول ربنا عز وجل الذي نحن نؤمن بشرعه وقدره، وبما أراده واصطفاه لنا من الشريعة والدين، يقول في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة:27] ما بقي ½%، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279] وأنت تقول: ربا معقول! ما هو الربا المعقول؟ الذي نعقله ما جاء في هذه الشريعة، وكل شيء يخالف الشريعة غير معقول وسخيف، وتافه وترهات وباطل، لا يوجد شيء اسمه ربا معقول، هناك في هذه الشريعة شيء قطعي وهو تحريم الربا.
موقفهم من الحدود:(32/9)
ثم انصب كلامهم في تميع الحدود الشرعية بعد الأحكام الفقهية، على قضية حد الردة، وإبطال حد الردة، وأن الإنسان حر إذا غير دينه، يا أخي! إذا غير دينه هو حر، لماذا يقتل؟! كيف يكون حراً في اختياره، ولا حرج عليه ولا تبعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم الذي نؤمن به وبشرعه الذي جاء به من عند ربه يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) من بدل دينه: أي: الإسلام، وليس من ترك النصرانية و اليهودية إلى الإسلام، المقصود واضح من بدل دينه، أي: الشرع الحكيم الصحيح الإسلام والتوحيد (من بدل دينه فاقتلوه) نص في المسألة. كيف يقال: إن عقوبة الإعدام لا تتناسب مع القرن العشرين، ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين، فيجب إلغاء عقوبة الإعدام. ولذلك يدندنون في الفضائيات والبرامج التي تبث، في مسألة رجم الزاني المحصن أنها غير صحيحة، ويقولون: لم تُذكر في القرآن، سبحان الله! فقد ثبتت في السنة، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده كما يقول عمر ، وحتى لا يقول قائل، فقد قالها عمر رضي الله عنه قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة قال: أن يأتي أناس يقولون: ما وجدناها في كتاب الله. وجاءوا فعلاً في كثير من الأوقات، وفي هذا الوقت بالذات وقالوا: ما وجدناها في كتاب الله. فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعز و الغامدية ، ورجمُت شراحة الهمدانية ، ورجم عمر رضي الله عنه و علي ، ورجم أبو بكر ، ورجم الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، دلالة على أن ذلك الحكم ليس منسوخاً ولا باطلاً. الزاني المحصن الذي وطأ وذاق حلاوة الحلال في عقد صحيح إذا زنا وثبت عليه باعترافه أو بأربعة شهود؛ يرجم حداً من الله تعالى. ثم يقولون: لا يناسب العصر الحاضر، لأنه ليس موجوداً في كتاب الله. فإذا قلنا لهم: حد السرقة موجود في كتاب الله، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ [المائدة:38](32/10)
يقول قائلهم: إن الشريعة لا تريد أن يتحول المجتمع إلى أناس مشوهين، هذا مجلود، وهذا مقطوع اليد، وهذا مفقوء العين، وهذا مكسور السن بقضية القصاص، اسجنه وامش، أو أي عقوبة مالية ، فنقول: هذا موجود في كتاب الله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] موجود، قالوا: هذه همجية لا تصلح في هذا القرن. وهكذا ترون أيها الإخوة! قضية صب الكلام على تمييع الحدود الشرعية التي أنزلها الله؛ من حد الردة وحد الزنا للمحصن، وحد السرقة، أنهم يريدون إبطال ذلك، وإقناع المسلمين أن ذلك كان في عهدٍ مضى ولا يناسب هذا الزمان. هذه قليل جداً جداً مما يقولونه في بعض هذه المسائل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المتمسكين بالحق والدين، ومن الحريصين على تنفيذ شرعه المبين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
إلغاء الحواجز الدينية بين المسلم والكافر:(32/11)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل الكتاب، والحمد لله الذي نصر نبيه صلى الله عليه وسلم والأصحاب، وهزم الأحزاب، والحمد لله مجري السحاب، أشهد أن لا إله إلا هو الملك العزيز الوهاب، وأشهد أن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم سيد البشر وأولي الألباب، جاءنا بالحق والصواب، وأشهد أن من تبعه بإحسان إلى يوم الدين هم أولوا النهى والألباب، صلى الله عليه وعلى من تبعه. عباد الله: من أخطر أنواع التمييع الذي يقوم به هؤلاء ممن يسمون بالعقلانيين وأصحاب الفكر المستنير -يسمون أنفسهم بالتنويريين- من أخطر ما يقومون به تمييع الحواجز الدينية بين المسلم والكافر، المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله، والذي هو من خير أمة أُخرجت للناس، الموحد لربه، المطيع لنبيه الذي يعتمد الشرع، ويُوفي له، المسلم الذي لا يتحايل على الدين، المسلم الذي يطبق الإسلام، يريدون التمييع في الحد بينه وبين أرباب الديانات الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم من أنواع المشركين. التمييع بين المسلم الحنيفي وبين اليهودي الذي هو من الأمة الغضبية، أهل الكذب والبهت، والغدر والمكر والحيل، وقتل الأنبياء، وأكل السحت والربا، أخبث الأمم طوية وأرداهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم إلى النقمة، عاداتهم البغضاء، وديدنهم العداوة والشحناء، أهل السحر والكذب والحيل، هؤلاء الذين سبوا ربهم، فقالوا: تعب يوم السبت وارتاح، وقالوا: إنه بخيل: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64] والذين عادوا نبينا صلى الله عليه وسلم بعدما تبين لهم أنه نبي الله، وقامت الأدلة عندهم، وطابق الوصف المذكور في كتبهم، عادوه وناصبوه إلى أن دسوا له السم في الشاة. التمييع بين المسلم وبين النصراني الذي هو من الأمة المثلثة، أمة الضلال وعبّاد الصليب، الذين سبوا الله مسبة لم يسبها أحد، وقالوا كلاماً تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض(32/12)
وتخر الجبال هداً. قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وإن مريم صاحبته، والمسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة وجرى ما جرى، وأن هؤلاء عبّاد الصلبان وعبّاد الصور المنقوشة بالألوان في الحيطان، الذين يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا، دينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستحلال الخبائث، كيف يمكن أن تميع الحدود بين المسلم وبين مثل هؤلاء؟ واليهود والنصارى أهل الكتاب أحسن حالاً من الهندوس والبوذيين وبقية مشركي الأرض، فما بالك بالبقية أيضاً. إن الدعوة إلى تمييع الحواجز الدينية بين هذه الديانات الثلاث، قد جرت على خطة مرسومة من هؤلاء باسم وحدة الأديان تارة، أو الملة الإبراهيمية تارة، أو وحدة الدين الإلهي وأرباب الكتب السماوية تارة أخرى، وكلمة العالمية ووحدة الأديان، يريدون صهر الأديان الثلاثة في بوتقة واحدة، كيف يجتمع الذي يقول: لا إله إلا الله، هو الله أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، مع من يقول: إن عيسى هو الله أو عيسى ابن الله، أو عزير ابن الله؟! كيف يجتمع قتلة الأنبياء، والذين مسخهم الله قردة وخنازير تحت مظلة واحدة مع من هم خير أمة أخرجت للناس؟! كيف يجتمعون؟! كيف يجتمع الذين قال الله عنهم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] مع من يقول: لا إله إلا الله لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؟ كيف يجتمع هذا مع هذا في قضية الملة الإبراهيمية أو وحدة الأديان؟! إن الجمع بين هؤلاء ردة ظاهرة وكفر صريح ولاشك، ثم هؤلاء من جلدتنا وبألسنتنا يقولون: إن اجتماع هؤلاء من أجل أن يكون السلام عاماً في العالم هو هدفنا الذي نسعى إليه، وأن تزول العداوات بين أهل الأديان، فهل الإسلام جاء لإزالة العداوات بين أهل الأديان؟ هل جاء الإسلام ليعيش أهل الأديان كلهم متآلفين؟ سؤال خطير جداً أيها الإخوة! لأن(32/13)
عدداً من الناس يظن الجواب: نعم، هل جاء الإسلام لكي يتصافى المسلمون، واليهود، والنصارى، والمجوس، والهندوس، والبوذيون، يتصافون ويكونون على قلب رجل واحد. أم جاء الإسلام بقوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] أليس الإسلام قد جاء لأجل هذا، إذا كنا نحن لا نستطيع أن نطبقه الآن، ولا نستطيع أن نجاهدهم؛ لأنه ليس عندنا قوة، فإن المبدأ يجب أن يبقى سليماً، وهي عداوتهم ما بقينا، وكرههم لأجل الله ما حيينا، أن نكرههم وأن نبغضهم، حتى لو لم نستطع أن نقاتلهم، يجب أن تكون العقيدة في هذه المسألة واضحة. ثم انظر إلى ما يقوله صاحب كتاب: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ، يقول: ولا ريب أن هؤلاء النصارى عرب أنقياء، والعربي الصحيح -وإن لم يكن مسلماً وضع هذه الجملة الاعتراضية في الاعتراض- وإن لم يكن مسلماً فله موقف كريم من إخوانه المسلمين. سبحان الله! معروف أن النصارى العرب من ألعن أنواع النصارى، إن لم يكونوا هم ألعن أنواع النصارى على الإطلاق، وما ابتليت الأمة في هذا الزمان بمثلهم، والتاريخ معروف. ثم كيف يقال: له موقف كريم من إخوته المسلمين؟! ما هي الأخوة أيها الإخوة؟! أي نوع من الأخوة هذه؟ كيف نشأت رابطة أخوة بيننا وبينهم؟ قال: وإن وقف -أي:هذا النصراني- إيمانه بالنبوة إلى عيسى بن مريم، فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه. قل لي: كيف لن يبخسه حقه إذا لم يؤمن به رسولاً خاتم الأنبياء؟! كيف لم يبخسه حقه إذا كان يقول: لا أؤمن بنوبته، أو يقول: نبي مثل غيره، لا ميزة لشريعته، ولا ينسخ نبوة من قبله، وليس دينه خاتم الأديان ولا نبوته خاتم النبوات، أليس هذا من البخس العظيم؟! أما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) ؟ ثم يقول هذا: فلن يبخس محمد بن عبد الله حقه بوصفه سيد رجالات العروبة، ومؤسس(32/14)
نهضتها الكبرى. هل النبي عليه الصلاة والسلام بعث ليكون سيد العروبة أم سيد الناس والعالم؟ هل كانت المشكلة بين محمد عليه الصلاة والسلام وكفار قريش العروبة؟! هل كانت القضية أنهم إذا اجتمعوا معه على العروبة انتهت القضية، أو كانت المشكلة والقضية هي: لا إله إلا الله التي رفضوا أن يقولوها؟ أليس هذا هو محور الصراع والحرب التي قامت بينه وبين قريش؛ العرب الأنقياء من جهة العروبة، الحرب قامت بينه وبينهم في بدر و أحد والخندق وفتح مكة وغيرها، قامت حرب أريقت فيها الدماء، أمن أجل أن يكون سيد العروبة؟ إذاً فلماذا امتدت فتوحاته إلى خارج الجزيرة ؟ ولماذا ذهب إلى تبوك بلاد النصارى؟
نشر الوعي بين المسلمين تجاه هذه القضايا:(32/15)
هذا التمييع أيها الإخوة! هذا الذي يقرأه كثير من الناس في الوسائل السيارة، ويسمعونه في هذه الوسائل المسموعة والمنظورة، هذا الكلام الذي نقوله هو ما يُدس للمسلمين، فهل نعقل ونميز؟ وهل نكون على مستوى الوعي؟ إن هذه مسألة خطيرة أيها الإخوة؛ لأن الله قال: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42] فلا بد أن تكون هناك بينة؛ لتبين للناس ما نزّل إليهم، البينة والبيان، والله لا يرضى أن يختلط الحق بالباطل: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] لا بد أن يميز الخبيث من الطيب ، هذا التمييز الذي نريده أن يكون موجوداً في حس المسلم وعقله، وأن يكون عنده علم يدفع به الشُبهات، العلم يا إخوان هو الذي تعرف به، هل ما يعرض عليك حق أم باطل؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، والتمسك بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا من أهل الهدى والتقوى، ومن المتمسكين بالعروة الوثقى، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اجمع شملنا على التوحيد يا رب العالمين، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا سبل السلام، واجعلنا سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحببت، ونبغض من أبغضت إنك سميع الدعاء. اللهم إنا نسألك الأمن والإيمان في بلادنا وسائر بلاد المسلمين، ومن أراد بلدنا هذا بسوء؛ فاجعل كيده في نحره، ثَبِّتْ علينا الأمن والإيمان، إنك أنت سميع الدعاء يا رحمن. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(32/16)
( مواقف تربوية مؤثرة من سير العلماء )
عناصر الموضوع :
حقيقة التربية عند العلماء السابقين
أخلاق العلماء وأثرها في التربية
ربط النصوص بالواقع
عفة العلماء وأثرها في التربية
مواقف تربوية مع آداب العلماء
الأسئلة
مواقف تربوية مؤثرة من سير العلماء:
إن العلماء الربانيين هم القدوة الحسنة، لذلك لابد من معرفة المواقف التربوية في حياتهم حتى نتعلم منهم التربية الحسنة، ونستشف من مواقفهم العظيمة دروساً وعبراً وعظات، فلم يكن العالم صاحب علم فقط، بل كان صاحب علم ودين وتربية وأخلاق وآداب .. إذاً لابد من معرفة هذه المواقف والتأمل فيها والاستفادة منها .. هذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله في هذا الدرس، حيث إنه قد ذكر عدة مواقف تربوية للعلماء الربانيين السابقين، مبيناً أثرها في التربية.
حقيقة التربية عند العلماء السابقين:(33/1)
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى كما جمعنا في بيته هذا أن يجمعنا في دار الخلد في جنات النعيم، آمين .. وأشكر هذه الإدارة الكريمة على هذه الدعوة الكريمة في هذه الليلة، وأسأل الله أن يجزي بالخير جميع من حضر واشترك وساهم في إعداد هذه الدروس، التي نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها جميعاً. أيها الإخوة: إن الله سبحانه وتعالى قد طلب منا أن نكون ربانيين، فقال: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] والرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذه الأمة علماؤها الذين ساروا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم علماء ربانيون، مواقفهم تربي الناس. ما هو الموقف التربوي أيها الإخوة؟ هو كلمات أو تصرفات يقوم بها العالِم، أو طالب العلم، أو الداعية، أو مسلم من المسلمين، صاحب نيةٍ حسنة ينفع الله بها، تستقر في النفوس، وتعمل عملها في النفوس. وأبدأ بكلام لابن الجوزي -رحمه الله- يبين هذا المفهوم، يقول رحمه الله في صيد الخاطر معبراً عن تأثره الشخصي بهذه القضية، قال: "ولقيت الجماعة من علماء الحديث أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبةٍ يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ويسرعون بالجواب؛ لئلا ينكسر الجاه وإن وقع الخطأ، ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذٍ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي -وهذا هو الشاهد- وكان على سمت(33/2)
المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل، ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقناً محققاً، وربما سُئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول، فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر. أيها الإخوة: إن علماءنا -رحمهم الله ونفعنا بهم- وأهل العلم الذين عملوا بالعلم لا تزال سيرتهم تنقل عبر الأجيال، تؤثر في القريب والبعيد، والذي لم يشهد يقرأ هذه السير وينتفع بها من بعدهم، فيكون ذلك معيناً لأجورهم،لا ينضب عبر الأجيال، خلَّد الله ذكراهم بإقبالهم على الله وعملهم بالعلم. إن المواقف التربوية من سير العلماء هو ما ينبغي أن نتطلبه ونحن نؤكد على أهمية التربية، وكيف يربي الإنسان نفسه، وكيف يأخذها بمجامع الإيمان والأدب والخلق والعلم؟ هذه المواقف ينبغي أن نتوقف عندها وأن نتمعن فيها، وهي كثيرة جداً، وبعضها مشهور ومعروف، انتخبت بعضها؛ لكي تكون لنا ذكراً وتذكرة ونفعاً بإذن الله عز وجل.
تعظيم الحديث عند السابقين:(33/3)
كيف كانت النصوص الشرعية وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تؤثر في قلوب الناس ويكون لها وقع في قلوب الناس؟ لماذا تقرأ الأحاديث الآن ويندر أن تجد لها أثراً وقد كانت تقرأ من قبل ولها آثار عظيمة؟ السبب هو قلب الذي يقرأ وكيف تربى وكيف رُبىِّ بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كان مالك رحمه الله من أشد الناس إجلالاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعمن اكتسب هذا؟ يقول مالك رحمه الله وقد سئل عن أيوب السختياني : ما حدثتكم عن أحد إلا و أيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه -وكلمة (أرمقه) مهمة في معايشة أهل العلم والفضل والأدب والخلق المربين- فلا أسمع منه غير أنه إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضل، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه. وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ، وكان كثير الدعابة والتبسم؛ فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً -المسألة ليست مشهداً ولا مشهدين ولا موقفاً ولا موقفين- فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع،(33/4)
ولقد رأيت الزهري ، وكان ممن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه. إذاً: أيها الإخوة! كان للحديث شأن في نفس الإمام مالك ؛ لأنه عايش وتربى على أيدي علماء كانوا يعظمون الحديث، فخرج معظماً للحديث مثلهم .. إن الأحاديث لها وقع في النفوس، ولها مكانة وهيبة. وكان هؤلاء العلماء من تربيتهم لتلاميذهم أنهم يشعرون المتلقي بعظمة العلم الذي يتلقاه وأهميته؛ فقد روى ابن أبي حاتم -رحمه الله- عن عمران بن عيينة، قال: حدثنا عطاء بن السائب، قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، قد أخذت علم الله، فليس أحدٌ اليوم أفضل منك إلا بعملك، ثم يقرأ: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:166] هذا المعلم يقول للمتعلم: انظر إلى العلم الذي تأخذه واعرف قدره ومنزلته. ولذلك كان للعلم تأثير عظيم في نفوسهم، وتعظيم نصوص الوحي والوقوف عندها وعدم الاعتراض عليها مبدأ مهم جداً في حياة المسلم، هذا المبدأ لو أُلقيت فيه محاضرات وخطب لا يكون مستقراً في النفوس كما لو صار مستقراً بمواقف وأحداث. قال الذهبي رحمه الله: وفي مسند الشافعي سماعنا: أخبرني أبو حنيفة بن سماك ، حدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي شريح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود) الدية أو القصاص، يقول الراوي: فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا الحديث؟! فضرب صدري وصاح كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به؟ نعم. آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه، إن الله اختار محمداً صلى(33/5)
الله عليه وسلم من الناس؛ فهداهم به وعلى يديه؛ فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك. وقال محمد بن أحمد البلخي المؤذن: كنت مع الشيخ ابن أبي شريح في طريق، فأتاه إنسان في بعض تلك الجبال، فقال: إن امرأتي ولدت لستة شهور، فكأنه يقول: هل هو ولدي أو ليس بولدي؟ فقال: هو ولدك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ما دامت الزوجة عندك، وما دامت الزوجية قائمة فهي فراشك، فعاوده -أي: السائل- فرد عليه بذلك، فقال الرجل: أنا لا أقول بهذا -غير مقتنع- فقال: هذا الغزو، وسل عليه السيف، فأكببنا عليه وقلنا له: جاهل لا يدري ما يقول، اعذره، تلطفنا معه حتى سلم منه. لقد كانت للنصوص هيبة عندهم، وتعظيم النص والتسليم له كان أمراً معروفاً عندهم، وقد يحتاج أحياناً العالِم لشيء من التأديب لبعض هؤلاء المعترضين. وهذه قصة ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره ، ناقلاً عن ابن جرير، حدثنا هناد و أبو هشام الرفاعي، حدثنا وكيع بن الجراح، عن المسعودي ، -و وكيع روى عن المسعودي قبل الاختلاط- عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حجاجاً؛ فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نماشى ونتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي -سنح لنا، أي: أتى من الشمال، وإذا أتى من اليمين يقال: برح- فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه -وهي المنطقة الناتئة خلف الأذن، أصابه في مقتله- فسقط ميتاً، قال: فعظّمنا عليه كيف تصيد في الحرم؟ قال: فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، فقص عليه القصة، وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْبُ فضة -وهو السوار الذي يكون لياً واحداً، وكان عبد الرحمن بن عوف أبيض مشرباً بحمرة، وهذا هو الذي كان جالساً بجانب عمر- فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه -يتشاور معه في الحكم، ثم أقبل على الرجل، فقال: أعمداً قتلته أم خطأً؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه وما تعمدت(33/6)
قتله، فقال عمر : [ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها وأسق إهابها] وعلق الشيخ محمود شاكر رحمه الله: [وأسقِ إهابها] أي: إعط إهابها من يدبغه، ويتخذ من جلدها سقاء [قال: فقمنا من عنده فقلت لصاحبي: أيها الرجل! عظم شعائر الله، عظم شعائر الله! فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك، قال قبيصة : ولا أذكر الآية من سورة المائدة: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95] قال: فبلغ عمر مقالتي فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة، فعلا صاحبي ضرباً بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت الحكم؟! ثم أقبل علي -ليؤدبه- فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني. فقال: يا قبيصة بن جابر! إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب] لا تستعجل وتعترض على الحكم، حكم به ذوا عدل من الصحابة وتخالف وتفتي بغير ما قلناه، وهذا التأديب يكون سلطة لبعض الناس قد لا تتوافر للكثيرين، لكن الشاهد أنه وسيلة، موقف يتربى عليه قبيصة من عمر رضي الله تعالى عنهما في الوقوف عند الفتوى، وفي عدم الاستعجال في تخطئة العلماء.
التأثر بالآيات عند العلماء السابقين:(33/7)
أيها الإخوة: لماذا تكون بعض الآيات حية في بعض النفوس والضمائر؟ لماذا يكون لها تأثير؟ لأن هؤلاء تلقوها بنفوس مفتوحة، والذي علموهم إياها لم يعلموهم إياها بنفسٍ باردة، بل علموهم إياها بنفوس وقلوب حية، ولذلك بقيت الآيات لها تأثير. خذ مثلاً قول الله تعالى في سورة مريم: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72] هذه الآية كان عدد من السلف إذا قرءوها بكوا بكاءً شديداً، [كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته؛ فبكى فبكت امرأته، فقال: ما يبكيكِ؟ فقالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله عز وجل: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71] فلا أدري أأنجو منها أم لا؟] وكان مريضاً هذه تربية من الزوج لزوجته على هذه الآية، والخشية من الله. وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: "ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ قال: أخبرنا أنَّا واردوها، ولم نخبر أنَّا صادرون عنها"، قطعاً أنا واردون جهنم وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] لكن ليس عندنا شيء يثبت لكل واحد منا أنه سينجو منها. وعن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك واردٌ النار؟ -انظر إلى الموعظة وأسلوبها، هذا الأسلوب التربوي- قال: نعم. -تذكر الرجل الآية- قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففيم الضحك؟!
سيرة السلف وأثرها في التربية:(33/8)
كان العلماء رحمهم الله يخفون أعمالهم بالعبادة؛ فيطلع الله عز وجل بإخلاصهم بعض الناس على أعمالهم الخفية. إن على الإنسان أن يجتهد في عمله، لكن الله سبحانه وتعالى أحياناً يطلع بعض الناس من تلاميذهم أو من أصحابهم على أعمالهم الخفية، فإذا رأوها تأثروا بها؛ فيكون لذلك الموقف تأثير ما قصده الشخص، فما قصد الشخص أن يري الآخر عمله، لكن لإخلاص هذا الرجل يطلع الله بعض الناس على أعماله الخفية؛ فتكون تربيةً لهم. إن التربية -أحياناً- لا تكون مقصودة بالذات، لكن سيرة الرجل ما خفي منها وما ظهر كلها تربية، يقول حماد بن جعفر بن زيد : إن أباه جعفر بن زيد أخبره قال: خرجنا في غزاةٍ إلى كابول ، وفي الجيش صلة بن أشيم ؛ فنزل الناس عند العتمة فصلوا، ثم اضطجع، فقلت: لأرقبن عمله -هذا رجل يستحق أن نراقب أعماله، وننظر ماذا يفعل في خلوته وسره- فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضةً قريباً منا ودخلت على إثره -ينظر ويراقب- فتوضأ فقام يصلي -دخل في مكان فيه أشجار حتى يستتر عن الناس في الليل ثم قام يصلي- وجاء أسد حتى دنا منه؛ فصعدت في شجرة، فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكانٍ آخر، فولى وإن له لزئيراً تصدع الجبال منه! قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس -جهاد وقيام ليل- فحمد الله بمحامد، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ثم رجع وأصبح حتى كأنه بات -أي: بين الناس- وأصبحت وبي من الفزع شيء لا يعلمه إلا الله. وكذلك دخل رجل من طلاب النووي -رحمه الله- المسجد في الليل، فإذا صوت شيخه النووي قائماً في الليل في المسجد، يقرأ آية ويرددها ويبكي، ويقرأ آية ويرددها ويبكي، وهكذا ... قال: فوقع في نفسي من الخشوع ما الله به عليم. إذاً: الناس المخلصون يُطلع الله على بعض سيرتهم بعض الناس فينقلونها، وكثير من هذه الأشياء موجودة في الكتب، هذه مواقف كانت(33/9)
مخفية، وبعضهم اطلع بعض طلابهم على شيء، فاستحلفه ألا يخبر به حتى يموت، وهدده أنه لو أخبر به أن يقاطعه ولا يكلمه أبداً ولا يعلمه حرفاً، ولذلك ما نشرت الأعمال إلا بعد موت الشخص، نشرت وسطرت ونقلت إلينا في الكتب. ومن هؤلاء عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قال علي بن الفضل : رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه، وصلى بعد المغرب فسجد فلم يرفع حتى أذن العشاء، وكان الثوري -رحمه الله- إذا صلى الليل اضطجع فرفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى أسفل من كثرة وقوفه.
إخفاء الأعمال وأثره في التربية:
إن إخفاء الأعمال له أثر تربوي كبير جداً، والإخلاص باب يفتح الله به على بعض الناس، يرى من خلاله سير بعض هؤلاء الذين أخفوا أعمالهم. ففي ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري يقول أبو بكر بن منيف : كان محمد بن إسماعيل البخاري ذات يوم يصلي، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته اشتكى، فنظروا فإذا الزنبور قد أصابه بالورم في سبعة عشر موضعاً ولم يقطع صلاته، فلاموه، فقال: كنت في آية فأحببت أن أتمها. وما قطع الصلاة. يقول علي بن محمد بن منصور : سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري ، فرفع إنسان من لحيته قذاةً وطرحها إلى الأرض، فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس -الآن حركات محمد بن إسماعيل تحت المجهر من ذلك الرجل- و البخاري يراقب الناس وينظر إلى القذاة، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته. ففي هذا الموقف هل كان البخاري تقصد أن يراه ذلك الشخص؟ أبداً. لكن الموقف أطلع الله عليه واحداً ونُقل وسُطر، وفي سيرة البخاري يوجد هذا الموقف ويقرؤه طلاب العلم إلى الآن.
مواقف إثبات عقيدة السلف وأثرها في التربية:(33/10)
وقد يكون الموقف -أحياناً- في تقرير السلف موقفاً تربوياً يظهر عقيدة السلف ويرد على البدعة .. فهذا الشيخ الصالح أبو جعفر الهمداني -رحمه الله- لما صعد أبو المعالي الجويني على المنبر يقول: كان الله ولا عرش. وهو يريد أن ينكر العلو، وينكر استواء الله على عرشه، فقال: يا أستاذ! دعنا من ذكر العرش، هذا شيء قد ثبت بالسمع وهو أمر منتهٍ، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، وما رفع داعٍ قط يديه يقول: يا ألله، إلا ونفسه وفطرته تطلب العلو، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني ، ونزل. هذا موقف واحد نصر الله به الحق.. موقف واحد قد يدخل به الإنسان الجنة.. موقف واحد يسكت به بدعة، أو ينصر به السنة.. خطبة واحدة أو درس واحد أو عبارة واحدة ينصر الله بها الحق، وتكتب عند الله حسنة عظيمة ترجح في الميزان، وربما لا ينقل عن بعض الأشخاص إلا موقف واحد فقط، ما عرفناه إلا من خلال هذا الموقف، لكن هذا الموقف لما كان عظيماً عند الله نُشر ونُقل وكتب الله له الخلود.
مواقف العلماء مع السفهاء وأثرها في التربية:(33/11)
أحياناً يقع العالم في تعامله مع سفهاء جاهلين، فكيف يكون موقفه؟ وكيف يتعلم الناس منه؟ وما هو التصرف لو نصحت شخصاً فرد عليك بسفاهة؟ لو أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر فاعترض عليك بوقاحة؟ روى ابن أبي حاتم -رحمه الله-: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الله بن نافع : أن سالم بن عبد الله بن عمر مرَّ على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال: إن هذا منهي عنه -الجرس في عنق البعير والدابة في السفر منهي عنه- (لا تصحب الملائكة رفقة وفيهم جلجل) أي: جرس -فقالوا: نحن أعلم بهذا منك -بهذه السفاهة- إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به، فسكت سالم وقال: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]. وستأتينا -إن شاء الله- مواقف حول هذا الموضوع في تصرف العالِم مع السفيه ومع الجاهل.
صيانة العلم عمن لا يستحقه وأثره في التربية:
كيف تكون للعلم قيمة؟ عندما يصان عمن لا يستحقه، ولا يوضع في غير موضعه؛ كان المازني -رحمه الله- من كبار علماء اللغة ذا ورع ودين، أراد يهودي أن يدرس النحو فقد حصّل جزءاً من هذا العلم فجاء ليقرأ على المازني كتاب سيبويه فبذل له مائة دينار وقال: أعطيك مائة دينار وأقرأ عليك كتاب سيبويه ، فامتنع وقال: هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة آية ونيف، فلا أمكن منها ذمياً .. أنت يهودي وهذا كتاب وإن كان في اللغة لكن فيه ثلاثمائة آية، فلا أمكن منه ذمياً، ولذلك يعظم العلم في نفوس الأصدقاء والأعداء بمثل هذه المواقف.
التواضع وأثره في التربية:(33/12)
من الأشياء التي نستفيدها من العلماء في مواقفهم: التربية في تواضعهم في أخذ العلم، وعزو العلم إلى قائله، ووصاياهم، فإذا ذكر شيء يقول الشخص: خفي عليّ، لم يكن لي به علم حتى أفادنيه فلان، هذه المسألة استفدتها من فلان، فلان علمني إياها، وهذا من التواضع. يقول أبو عبيد رحمه الله: زرت أحمد بن حنبل -والإنسان إذا ذهب يزور العلماء بنية الاستفادة يخرج بفوائد- فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس، فقلت: يا أبا عبد الله ! أليس يقال: صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم. يقعد ويُقعد من يريد، فقلت في نفسي: خُذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عبد الله ! لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، فقلت: هذه أخرى يا أبا عبيد ، فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله ! فقال: قال الشعبي : من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار، ويؤخذ بركابه -والآن حتى يدخل السيارة ويغلق باب السيارة ويتحرك- قال: فقلت: يا أبا عبد الله ! من عن الشعبي ؟ قال: ابن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي ، فقلت: يا أبا عبيد! هذه الثالثة. هذه نفسية المستفيد، والذي يقول: استفدت الفائدة من شيخنا فلان، أو شيخي فلان علمني إياها.. ونحو ذلك.
جداول العلماء وبرامجهم اليومية وأثرها في التربية:(33/13)
أحياناً تكون جداول العلماء ودروسهم وبرنامجهم -كما يقال- اليومي بحد ذاته عبرة لطالب العلم أن يتربى على الاستفادة من الوقت، عندما ينظر هذا الشيخ يُشغل وقته في أي شيء؟ وكيف يمر يومه؟ وكيف يغتنم عمره؟ ففي ترجمة ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- يقول السخاوي تلميذه: وأما طريقته في تقضي أوقاته فكان في أوائل أمره يصلي الصبح بغلس في الجامع، ثم صار بعد ذلك لما انتقلوا إلى المدرسة وفيها مكان الصلاة يصلي فيها، ثم يجيء من خلوته النافذة لمنزل سكنه؛ فإذا فرغ من الصلاة فإن كانت لأحدٍ حاجة كلمه، ثم يدخل إلى منزله فيشتغل بأذكار الصباح أو التلاوة، ثم يأخذ في المطالعة أو التصنيف إلى وقت صلاة الضحى فيصليها، ثم إن كان بالباب من يستأذن للقراءة ظهر إليهم، فقرأ بعضهم روايةً وبعضهم درايةً، واستمر جالساً معهم إلى قريب الظهر، ثم يدخل إلى منزله قدر ثلث ساعة، ثم يقوم فيصلي الظهر داخل بيته، ثم يطالع أو يصنف إلى بعد أذان العصر بنحو ثلثي ساعة أو أقل أو أكثر، فيظهر إلى المدرسة فيجد الطلبة في انتظاره، فيصلي بهم العصر ثم يجلس للإقراء، وفي غضون قراءتهم عليه وكذا في نوبة الصباح يكتب على ما يجتمع عنده من الفتاوى الحديثية والفقهية، وربما دار بينه وبين بعض الطلبة الكلام في بعضها، ولا ينتهي غالباً من هذه الجلسة إلا عند الغروب، فيدخل إلى منزله، فإن لم يكن صائماً تعشى، وإلا انتظر الأذان فيأكل ثم يصلي ويشتغل أو يطالع إلى أن يسمع العشاء؛ فيقوم إلى المدرسة فيجد جمعاً من الطلبة أيضاً في انتظاره، فيصلي ركعتين، ثم يجلس للقراءة غالباً، أو للمذاكرة أكثر من ساعة، ثم يقوم فيصلي العشاء بالجماعة، ثم يدخل إلى بيته فيصلي سنة العشاء، وهكذا ... رحمه الله. هذا البرنامج اليومي والجدول الذي كُله نفع وإفادة واستفادة، هذا الوقت وهذا اليوم المليء بالغنائم هذا بحد ذاته -أيها الإخوة- فائدة، وعندما يراه طلابه يحصل في نفوسهم من الحماس للعلم(33/14)
الشيء الكثير، كان -رحمه الله- يغتنم وقته، حتى أوقات الانتظار الطارئة كان يغتنمها، توجه مرةً إلى المدرسة المحمودية فلم يجد مفتاحها، كان قد سها عنه بمنزله -نسي المفتاح- فأمر بإحضار نجار ليصنع المفتاح، وشرع في الصلاة إلى أن انتهى النجار من فتح الباب، فقيل له: لو أرسلت وأحضرت المفتاح من البيت كان أقل كلفة! قال: هذا أسرع، ويحصل الانتفاع بالمفتاح الثاني، النسخة الثانية هذه مفيدة.
مواقف فيها توبيخ وتقريع وأثرها في التربية:
نرجع مرةً أخرى إلى المسألة التي سبق أن قلنا: إن الإنسان أحياناً أو صاحب العلم يحتاج إلى موقف أو يكون في موقف يتعامل فيه مع جاهل أو سفيه، وتقتضي القضية أحياناً شيئاً من التقريع والتوبيخ، لكن إذا كانت ممن يقبل كلامه فإنها تكون فائدة تربوية مؤثرة؛ لأن بعض الناس لا يقبل منهم لو قال. جلس أعرابي إلى يزيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني -أعرابي جاهل- وإن يدك لتريبني -يتهم الشيخ بأن يده يد سارق- فقال يزيد: ما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال يزيد بن صوحان : صدق الله: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97]. فالموقف -أحياناً- يحتاج إلى شيء من التقريع والتوبيخ لأمثال هؤلاء السفهاء. ومن أمثلة هذا أيضاً: أن رجلاً جاء إلى أبي عبيد وهو من كبار علماء اللغة، وكان -رحمه الله- فقيهاً، وهو صاحب كتاب الأموال، فسأله عن الرباب فقال: أريد أن أعرف معنى الرباب. فقال: هو الذي يتدلى دوين السحاب -تحت السحاب بقليل- وأنشده بيتاً لعبد الرحمن بن حسان:
كأن الرباب دوين السحا ... ... ب نعام تعلق بالأرجل
فقال: لم أرد هذا -ليس هذا مقصودي- قال أبو عبيد : فالرباب اسم امرأة، وأنشد:(33/15)
إن الذي قسم الملاحة بيننا ... ... وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة من رباب وزادها ... ... في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال: لم أرد هذا أيضاً، فقال أبو عبيد : عساك أردت قول الشاعر:
رباب ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها سبع دجاجات ... وديك حسن الصوت
قال: هذا أردت -هذا هو الذي أبحث عنه- قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة . قال: على أي شيء جئت: على الظهر أم على الماء؟ -على دابة أم على سفينة؟- قال: في الماء. قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم. قال: اذهب واسترجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً فعلام تأخذ مني الأجرة؟ فقد يبتلى العالِم أو طالب العلم بأسئلة جهلة، يفترض فيهم في البداية حسن الظن، ويعطيه الأدلة وأقوال العلماء، ثم يتبين لهم أنهم في سخرية، فهنا يكون عليهم صارماً، هذا علم وليس لعب، هذا علم ينبغي أن يُوقر، فلما وجد الرجل خالياً قال له ما قال تربية له وتقريعاً وتوبيخاً لأمثاله.
أخلاق العلماء وأثرها في التربية:
ونتعلم أيها الإخوة من سير العلماء: التربية على الأخلاق. مواقف يتربى فيها المطلع على أخبارهم وعلى أخلاقهم.
العلماء والكرم:(33/16)
خذ مثلاً كرم الزهري وهو يعد من كبار المحدثين، وهو الآن -إن شاء الله- في قبره تجري عليه الأجور أنهاراً إن شاء الله، فما من كتاب من كتب الحديث إلا وفي سنده محمد بن شهاب الزهري، هذا الرجل لم يكن فقط محدثاً وينفع الناس بالعلم، بعض الناس يتخيلون أن العالِم ليس عنده إلا العلم والفقه والحلال والحرام والأحكام والشروح، لا العلم وشخصية العالِم وطالب العلم أوسع من هذا بكثير، إنها خُلق وأدب. يقول الليث : كان ابن شهاب من أسخى من رأيت، وكان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى إذا لم يبق معه شيء تسلف من أصحابه فيعطيهم، حتى إذا لم يبق معهم شيء تسلف من عبيده، وربما جاءه السائل فلا يجد ما يعطيه فيتغير وجهه، فيقول للسائل: أبشر فسوف يأتي الله بخير، قال: فيقيض الله لابن شهاب على قدر صبره واحتماله أحد رجلين: إما رجل يهدي له، وإما رجل يبيعه وينظره. وكان -رحمه الله تعالى- ينفق على طلابه، يقول زياد بن سعد للزهري : إن حديثك ليعجبني، لكن ليست معي نفقة فأتبعك، فقال له الزهري : اتبعني أحدثك وأنفق عليك. وكان يأتيه الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم .. كان يقصد الأعراب، مثلما نقول الآن: عليكم بالقرى والهجر.. اخرجوا للقرى والهجر.. اشتغلوا بالدعوة إلى الله في البادية، هناك أناس فيهم جهل عظيم، بعضهم لا يحسن الفاتحة ولا تصح صلاته، ولا.. ولا.. إلخ. وذات مرة ذهب إليهم واعظ، فوعظهم بعد الصلاة، فقال له إمامهم: يا شيخ، هل خروج الريح ينقض الوضوء؟ قال: نعم. من نواقض الوضوء. قال: والله لقد كان يخرج مني الريح وأصلي كل السنوات الماضية، وهو إمامهم، وربما سرد له أبياتاً من الشعر النبطي على أنها سورة من القرآن، أو أكمل لهم السورة بأبيات أو بأشياء من هذا الشعر. كان الزهري -رحمه الله- يقصد الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم ويقدم إليهم الطعام؛ لأن هؤلاء الأعراب جزء كبير من مفتاح السيطرة عليهم، يكون بإكرامهم وإعطائهم. قال مالك بن أنس :(33/17)
كان ابن شهاب يجمع الأعراب، فيتذاكر بهم حديثه، يعيد الأحاديث فيستفيد هو، فإذا كان الشتاء شق لهم العسل وجاء بالزبد، وإذا كان الصيف شق لهم وجاءهم بالسمن، فجاءه أعرابي وقد نفذ ما في يده، فمد الزهري يده إلى عمامته؛ فأخذها عن رأسه فأعطاها للرجل، وقال: يا عقيل! أعطيك خيراً منها. هذا تلميذه الخاص، ومثل هذا بينه وبينه خصوصية، قال: أعطيك خيراً من هذه. وكان -رحمه الله تعالى- يقدم لطلابه كذا وكذا لوناً، ونزل الزهري مرةً بماء فشكا إليه أهل الماء أن لنا ثماني عشر امرأة عمرية، أي: لهن أعمار وليس لهن خادم، فاستلف ثمانية عشر ألفاً وأخدم كل واحدة خادماً بألف .. وقال عمرو بن دينار : ما رأيت الدرهم والدينار على أحد أهون منه على ابن شهاب ، ما كانت عنده إلا بمنزلة البعر، وهل للبعر قيمة؟ فكذلك الدراهم والدنانير ..
ذر ذا وأثنِ على الكريم محمد ... واذكر فواضله على الأصحاب
وإذا يقال من الجواد بماله ... قيل الجواد محمد بن شهاب
أهل المدائن يعرفون مكانه ... وربيع ناديه على الأعراب(33/18)
فهذا الكرم يفعل ما يفعله في اجتذاب النفوس، والطلاب إذا رأوا الشيخ يكرمهم اقتدوا به فأكرموا، وكان شعبة -رحمه الله- يُسمى أبا الفقراء، وكان صبيان الحي ينادونه: بابا بابا، هكذا ورد في كتب العلماء في سيرة شعبة، من كثرة ما كان يعطيهم، وكان يقول: والله لولا الفقراء ما جلست إليكم، فإني أحدث ليعطوا، وقال: لولا حوائج ما حدثتكم، ويقصد بالحوائج حوائج لنسوة ضعاف، وكان إذا قام في مجلسه سائل توقف عن الحديث حتى يُعطى السائل، وجاء مرة سائل فجلس فجأةً، فارتاب شعبة، وقال: ما شأنه؟ كيف جلس فجأةً؟ فقيل: ضمن عبد الرحمن بن مهدي أن يعطيه درهماً، قال له: اجلس وعلي درهم؛ ليمضي الشيخ في حديثه، وكان كريماً سخي النفس، وكان إذا ركب مع قوم في زورق دفع إيجار الزورق عنهم جميعاً. وكان الخطيب البغدادي -رحمه الله- يتعاهد تلاميذه، يقول أحدهم وهو الخطيب التبريزي : دخلت دمشق ، فكنت أقرأ على الخطيب بحلقته بالجامع كتب الأدب المسموعة له، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إلي وقال: أحببت أن أزورك.. تصور الآن العالِم عندما يزور طالب العلم، كم تكون كبيرة وعظيمة في النفس! وهذا موقف تربوي عظيم، الأعلى يزور الأدنى، هذا الشيخ يزور تلميذه الساكن في منارة المسجد، أو قل الآن: في غرفة المؤذن أو غرفة الفراش، ربما يسكن فيها أحد هؤلاء .. قال: فتحدثنا ساعةً، ثم أخرج ورقة، وقال: الهدية مستحبة، اشتر بهذه أقلاماً، ونهض وذهب، ففتحتها فإذا خمسة دنانير مصرية، ثم إنه صعد مرةً أخرى ووضع نحواً من ذلك. أحد المشايخ في هذا الزمن من الأفاضل، فقد أحد الطلاب نعاله عند المسجد، فخرج الطالب فما وجد النعال بعد الدرس؛ فعرف الشيخ، فأصر عليه أن يأخذه معه بسيارته إلى السوق، ودخل مكان النعال واشترى له نعالاً، ودفع الشيخ القيمة، وأصر على أن يدفع القيمة هو، وأعاده إلى مكانه. أيها الإخوة: هذه المواقف وإن كانت قد تبدو بسيطة، لكن أثرها عظيم في النفوس، فإن(33/19)
التربية مواقف وتصرفات وكلمات ينفع الله بها وتستقر في النفوس.
مواقف تربوية في تعليم الأخلاق:
لقد كان لهم مواقف تربوية في تعليم الأخلاق، وحسن الخلق، قيل للحسن البصري : إن فلاناً اغتابك -الآن ما هو التصرف المتوقع- فبعث إليه طبقاً من الحلوى، وقال: بلغني أنك أهديت إلي حسناتك فكافأتك. هذا موقف مؤثر في النفس، وهل ترى مثل هذا سيغتاب الحسن مرةً أخرى؟! هذا طبق حلوى فيه موعظة، ليس فيه حلوى بل فيه موعظة. وفي تواضعهم -رحمهم الله- مواقف تربوية .. كيف يتعلم الطلاب التواضع عندما يرون الشيخ متواضعاً؟ سأل الدارقطني أحدُ تلاميذه، وقال: هل رأيت مثل نفسك؟ قال الدارقطني : قال الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] فقال: هل تعرف أحداً أحفظ منك يا شيخ؟ قال: يقول الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32] وكذلك سئل ابن حجر رحمه الله: أنت أحفظ أم الذهبي ؟ فسكت وما أجاب. والمواقف التي تُنقل عن العظماء والأجلاء، عندما يأتي أحدهم إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ويتمسح به، فينتفض ويدفع الشخص ويزجره، ويقول: عمن أخذتم هذا؟! من أين أخذتم هذا؟! والذي يأتي ويقول له: ادع لي، يطلب الدعاء؛ فيزجره الإمام أحمد -رحمه الله- ويذهب، ويقول: مني لا يطلب الدعاء، أنا أدعو لك! فإذا خلا بنفسه دعا له، والذي يقول له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فيقول: بل الإسلام جزاه الله عني خيراً، ومن أنا؟! موقف تربوي عندما يكتب ابن تيمية -رحمه الله- لابن القيم خطاباً، ويقلب ابن القيم الخطاب ويجد مكتوباً وراءه:
أنا الفقير إلى رب البريات ... ... أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ... ... ظالمتي .....................
عندما يقرأ التلميذ كلام الشيخ في ذمه لنفسه، هذا هو الشيء الذي يُعلم التواضع، وليس أن يمدح بعض الناس، فكأنه يقول: زد قليلاً زد قليلاً.
الدفع بالتي هي أحسن:(33/20)
من الأخلاق التي نتعلمها من المواقف التربوية في الأخلاق: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]. كان ابن جرير الطبري -رحمه الله- يجلس في حلقة داود الظاهري ، و ابن جرير -رحمه الله- رزق فقهاً وفطنةً، فلاحظ بعض الأشياء الغريبة في منهج داود ، فكان يناقشه في هذه المسائل، حتى ضاق أحد أصحاب داود الظاهري فأفحش الكلام في الطبري ، وكلمه كلاماً فظاً غليظاً، فلم يفعل الطبري شيئاً، قام من المجلس وبدأ في تصنيف كتاب في مناقشة مذهب داود الظاهري ، وأخرج منه مائة ورقة، فلما مات داود قطع الطبري كتابه. فقام محمد بن داود للرد على أبي جعفر ، وتعسف عليه، وصنف مؤلفاً فيه سب للطبري ، إلى أن جمعتهم المصادفة في منزل، فلما عرف الطبري أن هذا الذي ألّف فيه كتاباً يذمه رحب به، وأخذ يثني عليه ويمدحه ويصفه بالصفات الكريمة، فماذا حصل؟ لما رجع محمد بن داود إلى منزله قطع الكتاب وأتلفه لحسن أخلاق ابن جرير -رحمه الله- امتص الموقف، وسجلت لابن جرير ضمن حسناته، وهي مكتوبة في سيرة ابن جرير إلى الآن رحمه الله تعالى. وجاء ذات مرة رجل معتوه إلى ابن حجر -رحمه الله- وهو في إحدى الحِلق في أحد الدروس، وبدأ يسب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بالألفاظ القبيحة، فقال الإمام: نقوم إلى أن يفرغ أو يروح، ونهض، هذا هو كل الذي فعله ابن حجر ، ما قال لطلابه: خذوه وارموه في الشارع، بل قال: نقف حتى ينتهي هذا السفيه، وقام ودخل إلى الغرفة ورد بابها يسيراً، فترك المعتوه المكان وانصرف، فظن ابن حجر أن المعتوه لن يعود، ففتح باب الغرفة ووقف فإذا بالمعتوه قد أقبل من باب آخر، وزاد على ما كان عليه، فقال ابن حجر لتلاميذه: ما بقي إلا الانصراف، وأغلق الباب ولم يمكن أحداً من التعرض له، وسمع أن الوالي قد أخذ هذا وحبسه فتوسط له وأطلقه. إن الموقف التربوي الذي حصل أهم من إكمال الدرس(33/21)
في نظره؛ لأن هذا الموقف لا يقل أهمية وفائدة عن إكمال الدرس. واجتاز ابن جحر -رحمه الله- يوماً في طائفة من جماعته بباب جامع الغمري، فبدت من شخصٍ يوصف بالجذب -إنه مجذوب- كلمات يقول لابن حجر وهو ماش: عمائم كالأبراج، وأكمام كالأخراج، والعلم عند الله. فأراد بعض طلاب ابن حجر -رحمه الله- أن يعزروه، فامتنع وقال: دعوه، هذا مجذوب يترك له حاله. المسألة تحتاج إلى حلم وامتصاص المواقف، وكثير من المواقف التي فيها مثل هذه الأشياء تحتاج إلى حلم.
ربط النصوص بالواقع:(33/22)
من المواقف التي نتعلمها من أهل العلم: ربط النصوص بالواقع؛ فإنه يثمر موقعاً عظيماً في النفس، كان الحسن إذا حدث بحديث الجذع وحنين الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم وضمه إليه حتى سكن الجذع، يقول الحسن بعد هذا: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. إنه الربط بين الموعظة وبين الناس الحاضرين، بين الحديث والكلام الذي يقال، بين الواقع وبين الناس، الربط هو الذي يجعل المسألة مؤثرة. قال رجل قبل موت الحسن لابن سيرين -و ابن سيرين كان معروفاً بتأويل الرؤى-: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاةٍ في المسجد فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن . فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن رحمه الله، فإن أحسن حصاة في المسجد الحسن رحمه الله تعالى. ومن الربط بين النصوص والواقع: حادثة وقعت للإمام شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني-كما وصفه الذهبي في السير، وهو من أئمة أهل السنة، ألف عقيدة مهمة وعظيمة في بيان عقيدة أهل السنة ، كان أبو عثمان الصابوني يعظ في المجلس، فدُفع إليه كتاب ورد من بخارى مشتملٌ على ذكر وباء عظيم بها، ليدعو لهم، ووصف في الكتاب أن رجلاً أعطى خبازاً درهماً، فكان يزن والصانع يخبز والمشتري واقف، فمات ثلاثتهم في ساعة من شدة الوباء، فلما قرأ الكتاب هاله ذلك .. قرأ الشيخ على الطلاب في الدرس الرسالة الواردة من بخارى بهذا الداء العظيم، فاستقرأ من أحد الطلاب قوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ [النحل:45] الآيات، ونظائرها من الآيات التي فيها ابتلاء الله وإنزال العقوبة، وبالغ بالتخويف والتحذير، وأثر ذلك فيه وتغير، وغلبه وجع البطن، وأنُزل من المنبر من الوجع، فحمل إلى بيته أسبوعاً كاملاً من الألم، فأوصى وودع أولاده ومات رحمه الله تعالى. كم يا ترى سيتأثر الطلاب والناس من هذا الموقف؟ وعندما ربط لهم(33/23)
الشيخ بين الداء الذي صار وبين الواقع، وأدخل آيات في الموضوع، واستقاها من القارئ .. هذه مواقف تربوية تزيد الإيمان ولا شك.
عفة العلماء وأثرها في التربية:
ومما نتعلمه -أيها الإخوة- من سير علمائنا في مواقفهم العظيمة في الأخلاق: العفة والتعفف عما في أيدي الناس. يقول عمر النسوي : كنت في جامع صور عند الخطيب البغدادي رحمه الله، فدخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير، وقال للخطيب : فلان -وذكر بعض المحتشمين من أهل صور - يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك -أعطاه مالاً- فقال الخطيب : لا حاجة لي فيه، وقطب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك، قال: قل له يصرفه إلى من يريد. فقال العلوي : كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها، وقال: هذه ثلاثمائة دينار! فقام الخطيب محمر الوجه! وأخذ السجادة ونفض الدنانير على الأرض وخرج من المسجد. قال الفضل بن أبي ليلى : ما أنسى عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها .. التعفف عما في أيدي الناس يؤدي إلى العزة، إنه موقف عظيم، وفيه تربية على التعفف والعزة. وفي هذه المناسبة قصة المحاميد الأربعة المشهورة، لما جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري ، ومحمد بن نصر المروزي ، و محمد بن هارون الروياني و محمد بن إسحاق بن خزيمة بمصر ، والمحدثون وعلماء الحديث فيها، فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلةً في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة ، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة، فاندفع في الصلاة، ماذا قال ابن خزيمة في صلاته؟ الله أعلم، كيف رغب إلى الله؟ الله أعلم، كيف لجوؤه إلى ربه؟ ربه يعلم، فإذا هم بالشموع وغلام من قبل والي مصر يدق(33/24)
الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر ؟ فقيل: هو هذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير ؟ فقالوا هو ذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون ؟ فقالوا: هو ذا فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة ؟ فقالوا: هو ذا يصلي -في الصلاة- فلما فرغ دفع إليه الصرةً وفيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاًَ بالأمس -أي: نائماً في الظهيرة- فرأى في المنام خيالاً يقول: إن المحامد -المحمدون هؤلاء الأربعة- طووا كشحهم جياعاً وهم عندك، فسأل: من هم المحمدون؟ من هم رفقاء محمدون؟ قالوا: هم الأربعة، فأرسل إليكم، وأقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه يمدكم بغيرها. إن العفة عما في أيدي الخلق جلب لهم الرزق من الله عز وجل، برؤيا أراها الله ذلك الرجل؛ فحركته لتفقد حالهم.
مواقف تربوية مع آداب العلماء:(33/25)
بالإضافة إلى الأخلاق: الآداب العظيمة التي نتعلمها، وسير العلماء الصالحين -أيها الإخوة- هذه عبر وفوائد مليئة بالمواقف التربوية، فهذا شيخ عظيم من المحدثين، جالس في الحلقة في الدرس وكانت أمه كبيرة في السن، والدرس في بيته، فتقول له: يا فلان، قم ألقِ الشعير للدجاج. الآن هذا صاحب الفضيلة العلامة الحافظ الشيخ في المجلس يدرس الطلاب، وأمه كبيرة في السن قد لا ترعى كثيراً من الانتباه لمثل ذلك، وعندها دجاج، ويحتاج إلى شعير، فقالت: يا فلان، قم ألقِ الشعير للدجاج، فترك الدرس وقام يلقي الشعير للدجاج ويرجع، براً بأمه، ولم يقل لها: عيب! الناس أمامنا، وسأفعل بعد الدرس، هذا الكلام الذي قد يقوله أي أحد، ولكن يقطع الدرس ويذهب. وبعضهم ربما يصبر على أمر من هذا، قد يُبتلى بوالد فيه شيء في عقله، مثل واحد من كبار المحدثين كان له والد يجلس في المجلس في وسط الناس، فيرى الناس مجتمعين على ولده فينبسط ويقول: إن هذا خرج من هذا، ويشير إلى عورته؛ متباهياً بولده، وهذا من خفة عقله، فيصبر عليه براً به، وما نهره وما طرده وما قال: هذا يمنع عن المجلس، والناس يقدرون له، ويقدرون للعالِم موقفه براً بأبيه! ومما علمونا آداب الطعام، كيف كانوا يأكلون؟ من آداب الطبري في الأكل: أنه كان إذا تناول اللقمة سمى ووضع يده اليسرى على لحيته، وكان له لحية كثة، فيضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الدسم، فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده، ويتناول الطعام لقمةً لقمةًً من جانبٍ واحدٍ من القصعة. يقول محمد بن إدريس الجمال: حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة، فجلست معه على مائدة، فكان أجمل الجماعة أكلاً، وأظرفهم عِشرةً، وكان الطبري إذا جلس لا يكاد يُسمع منه تنخم ولا تبصق - ليس مثل بعض الناس، يخرج البلغم.. من آخر شيء ومن أول شيء، وبأعلى صوت، والجشاء حدث ولا حرج- وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فمه .. هكذا بغاية الأدب(33/26)
في أكلهم، وما يخرج منهم شيء من الأصوات أو اللعاب، وهذا فيه غاية الأدب. هل سمعتم رفسة تربوية؟! قال أحمد بن منصور الرمادي : خرجت مع أحمد بن حنبل و يحيى بن معين خادماً لهما؛ فلما عدنا إلى الكوفة ، قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل : أريد أن أختبر أبا نعيم . فقال له أحمد بن حنبل : لا تفعل الرجل ثقة، فقال يحيى بن معين : لابد لي، فأخذ ورقةً فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم ، وجعل على رأس عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، ثم جاءوا إلى أبي نعيم ، فدق عليه الباب، فجلس على دكان طينٍ مرتفع -حذاء بابه- وأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، وأخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان، فأخرج يحيى بن معين الطبق فقرأ عليه عشرةَ أحاديث و أبو نعيم ساكت، ثم قرأ الحادي عشر، فقال له أبو نعيم : ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني و أبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث على رأسها الزائد، فقال أبو نعيم : ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث وقرأ الحديث الثالث على رأسها، فتغير أبو نعيم -عرف أن المسألة امتحان- وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى بن معين فقال: أما هذا -وذراع أحمد بن حنبل في يده- فأورع من أن يعمل مثل هذا، وأما هذا -يريدني- فأقل من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل! ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين ، فرمى به من الدكان وقام فدخل داره، فقال أحمد ليحيى : ألم أمنعك من الرجل! وأقل لك: إنه ثبت؟! قال: والله إن رفسته أحب إلي من سفري. وماذا نقول -أيها الإخوة!- في قصص علمائنا ومواقفهم، ولقد لفت نظري مرةً خبر في سير أعلام النبلاء ، فقلت: سبحان الله! هؤلاء العلماء من قديم يؤخذ منهم المواقف، ليس فقط منهم، بل من بعض العامة نأخذ مواقف، بل من بعض اللصوص، وهذا خبر طريف نختم به المجلس: يقول أحمد بن المعذل : كنت عند ابن الماجشون ، فجاءه بعض جلسائه، فقال: يا أبا مروان أعجوبة! خرجت إلى(33/27)
حائطي بالغابة، -بستان- فعرض لي رجل -قاطع طريق في مكان مهجور- فقال: اخلع ثيابك، فقلت: لم؟ قال: لأني أخوك وأنا عريان، قلت: فالمواساة -نقسمها بيني وبينك- قال: لقد لبستها برهةً -بقي دوري أنا- قال: فتعريني: قال: قد روينا عن مالك أنه قال: لا بأس أن يغتسل الرجل عرياناً. قلت: ترى عورتي! قال: لو كان أحد يلقاك هنا ما تعرضت لك -لو أعرف أن هنا أناساً سيكونون في هذا المكان لما خرجت عليك في هذا المكان أصلاً- قلت: دعني أدخل حائطي وأبعث بها إليك. قال: كلا! أردت أن توجه عبيدك فأمسك. قلت: أحلف لك. قال: لا تلزم يمينك للص، فحلفت له بها طيبةً بها نفسي، فأطرق يفكر، ثم قال: تصفحت أمر اللصوص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا فلم أرَ لصاً أخذ بنسيئة -بالآجل لابد أن يكون نقداً- فأكره أن أبتدع، فخلعت له ثيابي. أيها الإخوة: نحن بحاجة وبخاصة في هذا الزمان الذي قل فيه العلم وقلَّت فيه التربية، وقد يوجد عند بعض الناس علم ولا يوجد تربية.. نحتاج حاجة ماسة للتربية، ونحتاج للمربين، والمربون الذين يحسنون التربية قلة، ولكن الذكي صاحب البصيرة لن يعدم أن يجد ولو من الأموات من يستفيد من سيرتهم ويتربى عليها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من الربانيين الذين يعلمون الناس، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع وحُسن الخلق وحُسن الأدب، والإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب قريب.
الأسئلة:
العلماء المعاصرون وبعض مواقفهم في التربية:(33/28)
السؤال: إن التعرض حصل للعلماء الماضين، ولم يحصل شيء للعلماء المعاصرين، فهل من شيء حول هذا الموضوع؟ الجواب: سير العلماء في الغالب تكتب بعد وفاتهم، وأحياناً يُضيع العالِم طلابه، فلا يكتبون سيرته، ومن جهة أخرى في هذا الزمان العلماء قلة. وثانياً: لا يوجد حرصٌ شديد على كتابة سيرهم، وجمع أخبارهم، ولذلك لا ترى كثيراً من الأخبار، ولكن الذي يتقصى ويستمع ويحرص أن يسمع من طلاب الشيخ ومعاصريه، ستجتمع عنده أخبار .. الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله المفتي السابق كانت له ثلاثة مجالس، يدرس ثلاثة مستويات، للمتقدمين درس، وللمتوسطين درس، وللمبتدئين درس، ولو لاحظ أن أحد المبتدئين جاء إلى درس المتقدمين يطرده وينهره، ليس هذا مكانك، وليس من هنا تبتدئ، وهذا يورث العجب. وكان -أيضاً- من الذين يزعِون بالقوة، خصوصاً أن السفاهة موجودة في كثير من الناس، فكان يستعمل الشدة في دين الله مع من يستحق الشدة، وفتاواه رحمه الله فيها أشياء من هذا، وقد حصل مرةً أن بعض أهل الحسبة صادروا من شخص كتاب تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان ، وفي هذا الكتاب تعرض لأئمة الدعوة، وسب لأئمة الدعوة، فالرجل هذا من عِوجه أرسل للشيخ يقول: أرجعوا لي الكتاب الذي صادرتموه أو عوضوني، وكان أخذ منه عدة نسخ، فقال الشيخ: أما نسخ الكتاب فقد جرى منا إحراقها، لما تشتمل عليه من الكذب والافتراء والبهتان بشأن أئمة الدعوة وتلاميذ إمام الدعوة رحمه الله تعالى وأحفاده وما فيها من الضلال، أما تعويضك عن قيمته فيكفيك أنك سلمت من العقوبة، هذا هو التعويض، ولولا أننا علمنا أن الذي دخلت معه غيرك لما تركناك .. هذا في فتاويه. كذلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمة الله عليه، من المشايخ والعلماء الموحدين -نحسبهم والله حسيبهم- كان قد ترك بلده في ما يظن أنه هجرة، وجاء إلى بلد التوحيد، ولما توفي الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية ؛ أرسلوا إليه يطلبونه لكي(33/29)
يترأس الجمعية، فذهب وألقى عندهم درساً ومحاضرة ورجع، ولم يمكث عندهم؛ لأن نيته في نفسه كانت الهجرة، هكذا كانت في ذلك الزمان. ولذلك لم يشأ أن يضيع نيته، أو أن يخالف القصد الذي قصده، والذين كان يدرسهم في معهد القضاء يشهدون له بحسن تدريسه وتفصيله، وكان يأتي قبل الطلاب وينصرف بعدهم، وكذلك في الإفتاء يأتي أول الموظفين في دار الإفتاء ويخرج آخر الناس، وكانت طريقته في تقسيم الدرس وتسهيل المعلومات أمراً عجيباً يشهد له به تلاميذه، ويقولون: ما رأينا في التدريس مثله، وكذلك كان فيه من الرزانة وسعة الاطلاع وبُعد النظر ما تشهد به الفتاوى التي أصدرها مع سماحة المفتي محمد بن إبراهيم رحمه الله، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله به، فقد لازمه منذ عام (1370) للهجرة، جاء إليه في ذي الحجة في الخَرْج ، فرافق الشيخ أربعاً وأربعين سنة وأشهر، وفي الإفتاء رافق الشيخ عبد العزيز تسع عشر سنة في لجنة الفتوى، ولذلك الذي يتأسف على العالِم حقيقةً هم العلماء الذين كانوا معه وعرفوه، ولم يُعرف عنه ركضٌ وراء الدنيا، وكان يصون العلم ولم يتبذل. والشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله من علماء هذا البلد، كان علامةً لم يعرف قيمته كثير من الناس، وكان يأمر أقرانه بالصلاة وهم يلعبون وعمره عشر سنوات أو أحد عشر سنة، كان يخرج بالعصا للصبيان وهم يلعبون وهو في مثل سنهم، يخرج إليهم بالعصا إلى الصلاة، ونحن الكبار نمر بجانب الصغار ولا نقول لهم كلمة، وكتب بيده ثلاثة مصاحف، ومن جميل خطه أن الناظر فيها يظنها مطبوعة، وكان يعمل بين رمضان والحج يكسب قوت سنته ليتفرغ في بقية السنة لطلب العلم، هو موسم واحد يعمل فيه، يشتري فيه شاحنة ويبيع ما فيها وهذه نفقة السنة، وقد تولى القضاء رحمه الله تعالى، وحصل له موقف أن اتهمه سبعة أشخاص بالغش وعدم الأمانة في القضاء، فلما صارت هذه الحادثة تأثر الشيخ ورفض الاستمرار في منصبه، وأغلق باب(33/30)
المحكمة، وأُلح عليه في العودة إلى القضاء فلم يفعل رحمه الله تعالى، ومات هؤلاء السبعة وبقي واحد منهم جاءه يستسمح منه، ويقول: سامحني على ذلك الموقف، فلعل الشيخ أراد موعظته، فقال: بيني وبينك رب العالمين، فشل الرجل وبقي مشلولاً على كرسي إلى أن مات، وكان رحمه الله يأخذ محبرته من رماد الحطب، يجعل معها خلطة ليكتب بها، وكان في الحرم يطوف بالبيت سبعة أشواط وراء سبعة أشواط، وهكذا ...، ويصلي ركعتين بعد كل سبعة، لقد كان عابداً من العُباد رحمه الله تعالى. والشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله ونفع به- كم أخذ الناس من علمه! وكم نهلوا منه! حضرت معه في مجلس له موقفاً تربوياً، جاء رجل لعله جاء من بلد فيها اضطهاد للمسلمين، فقال: أنا مسكين ومحتاج وعندي أولاد أخي أيتام أريد مساعدة.. أريد حاجة، فيقول الشيخ: هات من يعرفك، فقال: أنا طالب علم، وأعطوني يا شيخ، فقال الشيخ: تقول: إنك طالب علم.. طالب العلم يعرف أن المدعي لابد أن يأتي ببينة، هات اثنين يشهدون لك. فقال: يا شيخ، أنا مضطهد، وقد عُذبت، وضُربت، وسُجنت و ... فقال الشيخ: احمد الله، لقد ابتلي من هو أفضل منك بأكثر من هذا فصبر، تريد أن تقول بأنك عُذبت كي تأخذ مالاً! فسكت، ومع ذلك ما أظن أنه انصرف إلا وقد أمر له الشيخ بشيء في النهاية. والشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث هذا العصر، الذي وقف على سلم المكتبة الظاهرية الساعات الطويلة، والله أعلم بحال قدميه، لكي يقلب المخطوطات، ويقلب الكتب، ويستخرج الأشياء، وربما بحث عن الورقة الضائعة فترة طويلة من الزمن، واستفاد في البحث عن هذه الورقة فوائد عديدة جداً .. حضرت له مجلساً فأراد أن يبصق -أخرج منديلاً فأراد أن يبصق- فسألني، فقال: أين القبلة؟ لأنه يعتمد حديث النهي عن البصاق جهة القبلة، وأنها خطيئة ولو في خارج الصلاة، ولذلك يتحرز ويتوقى منه، وهو الآن في وضع صحي حرج للغاية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيه(33/31)
ويعافيه وسائر مرضى المسلمين. أيها الإخوة: إن العلماء -والحمد لله- يُوجد منهم بقية، لكن أين المستفيد من سيرهم؟! أين الذاهبون إليهم؟! أين الجالسون عندهم؟! أين الآخذون منهم؟! أين السائلون عن سيرتهم؟! أين المتخلقون بأخلاقهم وآدابهم؟! نسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على نبينا محمد.(33/32)
( نيران الدنيا " الزنا " )
عناصر الموضوع :
الزنا إحدى الموبقات
ذم الزنا في شريعتنا وشرائع من قبلنا
الزنا في الإسلام
عقوبات الزنا
تحريم الوسائل المفضية إلى الزنا
نيران الدنيا " الزنا ":
إن الله سبحانه وتعالى حرَّم المحرمات وجعلها على مراتب، فجعل منها الصغائر والكبائر الموبقات، وهذه المادة بصدد الحديث عن إحدى هذه الموبقات ألا وهي فاحشة الزنا الذي ذمها الله سبحانه وتعالى في جميع الأديان والشرائع، وسد جميع الأبواب الموصلة إليها ورتب على ارتكابها العقوبات العديدة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
الزنا إحدى الموبقات:(34/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. الحمد لله الذي أحل لنا النكاح وحرم علينا السفاح، الحمد لله الذي أباح لنا كل ما يصلح حالنا وحرم علينا كل ما يشيننا ويفسد حالنا. أيها الناس: إن الله سبحانه وتعالى حرم المحرمات التي فيها ضرر على العباد سواء كان الضرر في أديانهم أو في أبدانهم أو في نفوسهم أو في أحوالهم عامة، وجعل الله الحرام مراتب، فجعل منه الكبائر التي لا بد لها من التوبة فلا تكفرها الأعمال الصالحة بخلاف الصغائر، فتحتاج هذه الكبائر إلى توبة مخصوصة، وجعل من الكبائر موبقات، فالكبائر كثيرة منها: ما توعد الله عليه بلعنة أو غضب، أو نار أو طرد وإبعاد عنه سبحانه وعن رحمته أو عدم تكليم صاحبه، ومن هذه الكبائر الموبقات التي توبق صاحبها في النار وتهلكه فيها؛ نظراً لكثرة شرها(34/2)
واتساعه، وعموم ضررها وشموله، ومن هذه الموبقات: الزنا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى ومقته وأبغضه، وأمرنا بالابتعاد عنه وعن أسبابه، وقال الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] وهو قبيح عقلاً وشرعا.
ذم الزنا في شريعتنا وشرائع من قبلنا: ... ...
قال عثمان رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل زنا وهو محصن فرجم، أو رجل قتل نفساً بغير نفس، أو رجل ارتد بعد إسلامه) قال عثمان : [فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا قتلت نفساً مسلمة، ولا ارتددت منذ أسلمت] قال ذلك لما حاصره الفجرة الذين أراقوا دمه على المصحف. أيها المسلمون: نفس عثمان وفطرته السليمة تأبى الزنا حتى لما كان في الجاهلية، لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم النساء في بيعة النساء المعروفة التي أمره الله بها بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ [الممتحنة:12] قال: ولا يزنين، ثم قال: ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيدهن وأرجلهن، وفيه معنى الزنا أيضاً، فوضعت هند بنت عتبة يدها على رأسها، وجاء في رواية أن امرأة قالت: [أوتزني الحرة؟!] مستغربةً لهذا، فالفطرة السليمة تأباه، والنفوس الأبية ترفضه؛ لما انطوى عليه من الشناعة والقبح ومعاني الرذيلة التي اجتمعت فيه، وهو حرام في الأديان والشرائع من قبلنا، هو حرام عند بني إسرائيل، هو حرام في التوراة والإنجيل، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (مر على(34/3)
النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً -يعني: مسود الوجه مجلوداً- فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم -كذبة- فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى -ولم يقل أنشدك بالله الذي أنزل القرآن- أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد نسود وجه الزاني ونجلده فقط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما قال اليهودي جعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، حرفوا دين الله-: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم) فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ .. الآية [المائدة:41] وفيها قول الله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [المائدة:41].
الزنا في الإسلام:(34/4)
وفي شريعتنا ذمه الله أشد الذم، وقال الله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68] فجعله بعد الشرك والقتل، فليس بعد الكفر أعظم من قتل بغير حق ثم الزنا، وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنا، بل قدمه في آية على القتل، فقال تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * < وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الإسراء:32-33] وذلك لأن الزنا يؤدي إلى القتل، ويتبع الزنا في الغالب الرغبة من التخلص من آثاره بقتل الجنين وإزهاق روح ولد الزنا في بطن الزانية أو بعد ولادته، أو إهماله ووضعه في المرحاض أو رميه في الزبالة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خطره: (تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي منادٍ: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عنه، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله عز وجل له، إلا زانية تسعى بفرجها أو عشَّارا) امرأة جعلت فرجها مصدراً للكسب، زانية تسعى بفرجها، أو عشَّاراً يأخذ الضرائب ظلماً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً صورةً كريهةً من صور الزاني: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر) فقير مع ذلك متكبر، والأشيمط الزاني الذي لم يردعه الشيب في شعره، لم يرتدع وقد اشتعل بالشيب رأسه أن يتعدى حدود الله، وأن يظلم نفسه وأن يقع في الفاحشة، مع أن الدواعي لديه أضعف من الشاب وكلهم ملعون، ولكن من كان هذا حاله فكيف يرجى له الخير ولم يفكر في اقتراب أجله ودنو موته، ولم يكن عنده رغبة في التوبة وقد وصل إلى ما وصل إليه في هذه المرحلة من العمر، وقد أعذر الله إلى امرئ بلغ الستين، ولما بلغ نبي الله(34/5)
أربعين: قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [الأحقاف:15] قال العلماء: تجديد التوبة بعد الأربعين، وعند الستين يتفرغ للعبادة، وهذا أشيمط زانٍ. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا زنا العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا أقلع رجع إليه) فهو ليس بمؤمن حين زنا، لا يخرج من الدين بالكلية ولا يكفر، فلا يزال إيمانه متعلق به، لكن يكون كالظلة على رأسه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره) وهذا الزاني الذي يطأ المتزوجة وفيها جنين غيره وربما تكون حاملاً من زوجها فلا يتورع أن يضع ماءه في هذا الرحم المحرم والفرج المحرم، فتختلط الأنساب وتتداخل المياه والعياذ بالله.
عقوبات الزنا ... : ...
عقوبات جماعية:(34/6)
أما عقوبة الزنا فهي جماعية وليست فردية فقط، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله) استحقوا العذاب فليرقبوه، فليرقبوا إتيانه فهو قريب منهم إلا أن يحجب عنهم برحمةٍ من الله، وقيام المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر) وبلدان العالم الإسلامي اليوم من أفقر البلدان؛ نظراً لأنها لا تحكم شرع الله سبحانه وتعالى، ولذلك نشأ فيهم الفقر، والفقر متوقع ازدياده فيهم: (ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت) حديث حسن. سبحان الله! ما أصدق هذا الوحي! انظروا في الواقع، واعلموا أن من أعظم أسباب الموت هذه الأمراض الناشئة من الزنا ومن الفاحشة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن -ما هي؟- لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) حديث صحيح. فانظر الآن في الواقع، وقل بلسان الحال: صدق الله ورسوله، وبقلبك صدق ما أخبر الله ونبيه عنه في هذا الوحي وأنت ترى أخبار هذه الأوبئة والأمراض في نشرات الأخبار لعظمها وخطرها، ويقولون: دخلت فيروسات الإيدز في الطور الثالث ونحن لم نكتشف بعد علاجاً للطور الأول، والمرض يزداد تعقيداً ويكتشفون أن بعض الأدوية التي كانت تعطى لمرضى لا تنفع، وهكذا عقاب الله لهذه البشرية الضالة التي تاهت عن أمر الله ورسوله.
عقوبات فردية:(34/7)
وقد عاقب الله على الزنا الزاني والزانية بأشنع العقوبات، فجعل المحصن منهما عقوبته أشنع قتلة، رجماً بالحجارة حتى يموت، حتى يجد الألم في جميع الجسد الذي تلذذ بالحرام، يجعل أمام الناس يرجمونه بالحجارة حتى يموت، قال عليه الصلاة والسلام: (وللعاهر الحجر) وإذا كانا غير محصنين زجرهما بإيذاء البدن بأعلى أنواع الجلد، مائة جلدة ردعاً عن المعاودة إلى الاستمتاع المحرم: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] لا تقل ضحية للمجتمع، ولا تقل مسكين غلبته نفسه وشهوته: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النور:2] وأضاف إلى ذلك عقوبة التشهير فقال: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] فلا يجوز جلدهما سرا، وأضاف إلى ذلك عقوبة التغريب فأمر بتغريب الزاني سنة، نفيه إلى مكان نظيف آخر يذوق ألم الغربة عن بلده ولعله يبدأ حياة جديدة. وكذلك حرمت الشريعة مناكحة الزناة والزواني، فقال الله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] فلا تجوز مناكحة الزانية من قبل عفيف فهذا حرام، ولا يجوز للعفيفة أن تنكح زانياً فهو حرام، ومن فعل ذلك فإن كان يعلم بطلان العقد فهو زانٍ، وإن قال: لست مقتنعاً بحكم الله فهو مشرك، والغالب أن الزاني لا ينكح إلا زانية مثله، والزانية لا ينكحها إلا زانٍ مثلها، وهذا التحريم نوعٌ من عزل الزناة والزواني عن المجتمع، الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].(34/8)
ورد الله شهادة الزاني والزانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجوز شهادة خائنٍ ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غمرٍ على أخيه في الإسلام) يعني: حقد على أخيه، لأنه إذا شهد عليه جار عليه، كان تهمة، فرد شهادة الزاني والزانية.
العقوبة في الآخرة: ...
وأما في الآخرة وبعد الموت، فقد ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق، فانطلقت معهما فإذا بيت مبني على بناء التنور -الفرن العظيم- أعلاه ضيق وأسفله واسع يوقد تحته نارٌ فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا -إذا أتاهم اللهب من أسفل ضوضوا وصاحوا وارتفعوا؛ رفعتهم ألسنة اللهب- فإذا خمدت رجعوا فيها) وهكذا في ارتفاع وانخفاض بألسنة اللهب، والذي يظهر من هذا الحديث أنه في البرزخ كما يتضح من سياقه لكن إذا قامت القيامة ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار في آخر يوم القيامة وختامه، فبعد ذلك لا تتصور ولا تستطيع أن تتخيل عقوبة الزناة والزواني، التنور في البرزخ وبعد ذلك يكون العذاب أشد والعقاب أكثر ألماً، ولا تسل عن عذابهم، وشراب أهل النار عصارة فروج الزناة والزواني. أيها المسلمون: إن الله عاقب هذه البشرية في هذا القرن وفي هذا الزمان على مرأى ومسمع منا ونحن نقرأ أخبار هؤلاء السفلة -ومجتمعات المسلمين تمشي على آثارهم وتقفوا نهجهم في الانحطاط والسفالة- وهم يخرجون الإحصائيات، يموت في فرنسا أكثر من ثلاثين ألف نسمة بالأمراض الجنسية، وفي أمريكا أكثر من ستمائة وخمسين مستشفى خاص لعلاج الأمراض الجنسية، وفي السويد ولد زنا من كل أربعة مواليد، هذه إحصائية عام 1977م والآن نحن بعدها بهذه السنوات الطويلة ستة عشر عاماً كيف حالهم؟ والإحصائيات عندهم موجودة، وبالرغم من تحسن الخدمات الطبية واكتشاف العقاقير والأدوية(34/9)
الأمراض آخذة في الانتشار والازدياد والتعقد إنها عقوبة الله، وقد وجد بين المسلمين كثير من آثار هذه الجريمة. ليعلم الزاني خطر الجريمة وهو يساهم بنشر الأمراض، وبعضها تنتشر إلى الأبرياء، وفي تقارير بعض الأطباء: ليس هناك شك في إمكانية وجود مرض الزهري في ثلاثة أجيال متعاقبة لعائلة واحدة، هذه اللعنة تسري في الأجيال، وكيف لا يأثم وهو ينقله إلى بريء أو بريئة؟ ومشكلة أولاد الحرام وما يظهر من الانحراف؛ لأنهم ينشئون في الغالب دون رعاية، اختلاط الأنساب، إدخال الوبال والعار على العوائل والأسر المحترمة، قتل الأجنة، ومن أكثر الأدوية تصنيعاً في العالم أدوية منع الحمل، ومن أكثر العمليات إجراء في العالم الإجهاض وإسقاط الأجنة، وهذه أحوال دور الرعاية شاهدة على آثار جرائم الزناة والزواني في المجتمع. اللهم سلم سلم، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من كل شر ومكروه، وباعد بيننا وبين الحرام، اللهم طهر قلوبنا وحصن فروجنا وسدد ألسنتنا يا رب العالمين.
تحريم الوسائل المفضية إلى الزنا ... : ...(34/10)
أيها المؤمنون: إن الشريعة لما حرمت الزنا حرمت الوسائل المفضية إليه وسدت الذرائع المؤدية إلى طريقه، ولما قال الله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] ما قال: ولا تقعوا في الزنا، أو قال لا تزنوا، وإنما قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] أيضاً نهى عنه وعن قربه، فالقبلة للأجنبية والغمزة والنظرة حرام، النهي عن قربان الزنا وعن قرب الزنا أبلغ من النهي عن مجرد فعله، وإن هذه الشريعة جعلت من الأسباب ما يكفل الحياة النظيفة لمتبعيها، لقد شجعت على الزواج وأمرت به وأخبرت بأنه من سنن المرسلين، وأمرت بالتبكير إليه وأعانت على من سعى فيه، وأجازت دفع الزكاة لمن خشي على نفسه العنت وأراد أن يتزوج، وحرمت على الولي أن يتكسب من مال المهر؛ لأنه حق للمرأة الزوجة، وحاربت الشريعة الإسراف في الولائم والمغالاة في المهور، واشترطت الولي سداً لذريعة الزنا ولولا ذلك لقالت أي امرأة لرجل هات اثنين من أصحابك وقل تزوجتك وأقول قبلت، وأمر بإعلان النكاح كي يكون فرقاً بينه وبين السفاح، ولا تكره الفتاة على من لا تريده، لأنها قد تقع في الفاحشة بعد ذلك في جو رجلٍ لا ترضى به، ودعت الشريعة إلى رؤية المخطوبة كي لا يتورط أي من الطرفين في رجل لا يريده، وحرمت نكاح المتعة لأنه مما يشبه الزنا، وحرمت نكاح التحليل كذلك، ومنعت الزواج من الزانية والزاني، ومنعت الزوج من الغياب عن زوجته فترة طويلة لأنه من طرق الزنا، وحدد العلماء فترة للمفقود إذا لم يظهر بعدها اعتدت المرأة أربعة أشهر وعشرا حكم المعتدة من الوفاة، ثم ولي المفقود يطلق وتذهب فتتزوج، وحددت مرات الطلاق بثلاث فلا يستطيع الزوج أن يطلق ويبقيها عنده ويطلق ويبقيها فربما أيضاً وقعت في الفاحشة، فإذا حصل عدم التوافق تفرقا ويغني الله كلاً من سعته، ونهت الشريعة عن التحدث بما يقع بين الرجل وأهله، ونهت عن وصف المرأة المرأة لزوجها فلا يبقى في ذهنه صورة لامرأة تهفو نفسه(34/11)
إليها، فربما يكون من وسائل الوقوع في الفاحشة، وأباحت تعدد الزوجات كذلك، وحرمت الخمر لأنها من مفاتيح الزنا، وحرمت الغناء والمعازف لأن الغناء والمعازف بريد الزنا، ودقق لكلمات الأغاني تجد الدعوة إلى الفاحشة إما علانية أو من وراء ستار خفي، ودعت إلى الصوم إذا لم يجد، وشددت في عقوبة القذف حماية للأعراض وحتى لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وأعلنت عقوبة السفاح، وأمرت المرأة بالقرار في البيت، وأمرت بالاستئذان عند الدخول، وحرمت الخلوة بالأجنبية، وحرمت سفر المرأة بغير محرم، وحرمت على المرأة إبداء الزينة للأجانب والتعطر عندهم، وحرمت كذلك عليها الخضوع بالقول حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض، وأمرت بغض البصر وعدم جواز لمس المرأة الأجنبية، كل هذه الاحتياطات والإجراءات والتشريعات حماية للأعراض، لأن حماية العرض من مقاصد الشريعة، ومع ذلك هذه المجتمعات المنحرفة اليوم -ومجتمعات المسلمين أعني بالذات- تسير بخلاف ما أمرت به الشريعة، النهج الموجود خلاف ما أمرت به الشريعة، حياة الناس بخلاف ما أمرت به الشريعة، فنحن على العكس كثيرٌ من الناس يغلقون منافذ الخير ويفتحون منافذ الشر، وكل ما أمرت به الشريعة مما سبق يخالفونه، فيؤخرون الزواج ويغالون في المهور ويتهمون الإسلام بالرجعية في تعدد الزوجات، وتخرج نساؤنا إلى الأسواق متعطرات متبرجات، ويخلو السائق بالمرأة، وتسافر المرأة بغير محرم، ويحدث ما يحدث من جميع المنكرات. أغلقنا أبواب الخير المؤدية للطهر والعفاف وفتحنا أبواب الشر، فهذه أفلام ومسلسلات وبث مباشر تحوي الحب والغرام والعشق الموقع في الزنا، وهذه المكالمات الهاتفية كثيراً ما تنتهي بالزنا، وتعطي مفتاح بيتها لهذا الشاب ويأتي بالليل هذا الفاجر إلى بيت أهلها ربما ويحدث، وأخبار المجتمع كثيرة، ومجاورة الفسقة ويزني الجار بحليلة جاره، والنبي عليه الصلاة والسلام يصف هذه الخيانة بقوله: (لأن يزني الرجل بعشر نسوة(34/12)
خير له من أن يزني بامرأة جاره) فبعد الشرك بالله وقتل ولدك مخافة أن يطعم معك من الكبائر أن تزاني حليلة جارك، ويذهب هذا الرجل في نوبة ليلية في العسكرية أو في غيرها من الشركات ليخونه ذلك الآثم الفاجر مع هذه المرأة التي لم تتربّ على الإسلام ولم تعرف رائحة الطهر والعفاف فتقع المصائب، وعصابات الدعارة والفساد في بعض البلاد بطاقة البغاء رسمية، والقانون يقول: إذا زنيا برضاهما فلا شيء، وفي الأماكن الأخرى شقق الدعارة منتشرة وهؤلاء المطلقات والعوانس والتي هجرها زوجها وبعض الفجرة يفضل الزنا بالمتزوجات؛ لأنه لا يكتشف أمره وأبعد عن المشاكل، والفساد في مدارس البنات والذهاب إلى الأسواق والمستشفيات ثم تركب مع من واعدته والسفر إلى الخارج، ووضع العراقيل في طريق الزواج الشرعي، ثم تأخير الزواج بغير عذر للقادر عليه، وبعد ذلك من حصنه الله كثيرٌ منهم يقع في الفاحشة مع ذلك، قال أحد الفرنسيين وهو بول فيورو : إن عامة الشباب يريدون بعقد النكاح عندهم استخدام البغايا أيضاً وذلك أنهم يضلون مدة عشر سنين أو أكثر يهيمون في أودية الفجور أو أحراراً طلقاء في أودية الفجور، ثم يجيء عليهم حين من دهر يملون تلك الحياة الشريرة المقلقة فيتزوجون بامرأة بعينها حتى يجمعوا بين هدوء البيت وسكينته واللذات المحرمة خارج البيت، دقق الآن واسمع من أخبار المجتمع ما تسمع لترى أننا على الطريق سائرون ولنهجهم مقتفون ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة. يا أيها الناس: هذه شريعتكم فما بال العدول عنها؟! أيها المسلمون: يوجد عافية في المجتمع والحمد لله، يوجد أطهار وشرفاء، يوجد أناس عندهم عفة، لكن السكوت عن الجريمة جريمة، والامتناع عن إنكار المنكر جريمة أيضاً، وماذا ننتظر والحرائق بين بيوتنا؟ ماذا ننتظر؟ كيف نتقاعس عن الدعوة إلى الله؟ وكيف نتقاعس عن إنكار المنكر؟ كيف نتقاعس عن نشر الفضيلة؟ كيف نتقاعس عن التوفيق بين النساء والرجال(34/13)
في الزواج والدلالة على الخير وتقليل المهور وتيسير الأمور؟ يا عباد الله! إنها مسئولية والله سائلنا عما حل بالمجتمع، فليقم الأطهار منا بالواجب، وليرجع أولئك الذين يقعون في الفجور عن فجورهم قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. وسيقف الزاني والزانية أمام الله بفجوره ونجاساته وأرجاسه وأنجاسه، فيحاسبهم الله على ما عملوا، ثم يكون القصاص العاجل عند رب العالمين، ويكون في البرزخ أفران من النار وفي جهنم نيران جنهم: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36] وهؤلاء يصطرخون فيها: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] لكن قال الله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه [الأنعام:28] فلا يخرجهم العليم الخبير من النار؛ لأنه لو أخرجهم لعادوا، وقال مصداقاً لهذا في كتابه: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه [الأنعام:28] فليرجع إلى الله من وقع في الفاحشة، وليتذكر من وقع ذنبه فيتوب قبل أن يأتي الموت، فالموت قريب والأجل عاجل والله يمهل ولا يهمل، وسيرى عقوبة فعله ربما في أهله وبناته، فليتق الله قبل الفضيحة في هذه الدار ويوم يقوم الأشهاد. اللهم إنا نسألك أن تغنينا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك.(34/14)
( أسئلة وأجوبة متراكمة )
عناصر الموضوع :
حال من سكن مع شباب منحرفين
أصحابي في المدرسة أشرار
حكم الجلوس مع العصاة من غير ضرورة شرعية
الشعور بالنقص أمام الشباب الملتزمين
حكم تعلم العلوم غير الشرعية
تأثر الطلاب بزملائهم الأجانب والمبتدعة في الكليات غير الشرعية
حكمة النهي عن السهر بعد العشاء
حكم الجلوس بين أناس يأتون بمنكر
أب يمنع ابنه من حضور حلقة القرآن
توفير الصحبة الصالحة للمرأة
قيام الشباب الصالحين بإفادة الناس
لدي صديق ولكن فيه عيبان
حكم شراء سيارة بالتقسيط ثم بيعها نقداً
حكم تدريس مادة فيها أمور محرمة
حكم شراء الذهب بالتقسيط
حكم تحنيط الحيوانات لأجل الدراسة
حكم إعطاء الراتب بالشهر الميلادي
حكم الاستمناء من غير إنزال مع الصوم
علامات الأخوة في الله
كيفية تكوين علاقة أخوة في الله
الرد على من قال: ادفع لفقراء بلادك ثم تبرع للأفغان
حكم التقليل من كتب السلف والاعتكاف على الكتب الفكرية
أريد الزواج ولكن لا أستطيع
كيفية المحافظة على الصحبة
رجل تمنعه زوجته من إخراج التلفزيون
النصيحة لمن يدعو المقصرين
مجاهدة الشيطان
أهم التحقيقات لكتاب التوحيد
علاقة الدخان بالوضوء
حكم إهداء الكفن
تأثير العين على الجمادات
حكم من صلى الفجر والسنة ركعتين ركعتين من غير تحديد نية
حكم عمل مجسمات للحج وشعائره
حكم مجاوزة الميقات بدون إحرام مع نية العودة
حكم الصلاة في مكان اكتشف فيما بعد أنه مقبرة
حكم ذهاب المصاحف إلى فلسطين
براءة الذمة بإرجاع اللقطة إلى مكانها
حكم صوم ست من شوال دون موافقة الزوج
صديق لا يصلي إلا وقت الشدائد
حكم الشعور بعدم الراحة لبعض الإخوة
حكم مشاركة بعض الشباب في لعب البلوت
الموقف ممن يستهزئ بالمذاهب الأربعة
حكم مقولة: إن الله معنا في كل مكان
مصاحبة من هو أعلى في الدين واتخاذه قدوة
حكم الجلوس مع الذين يغتابون الناس بحكم العمل
الحل لمن جلس بين أشخاص دينهم قليل(35/1)
زملائي في العمل ليسوا بصالحين
أخي أخرج عني الزكاة بعد الاتفاق دون أن أعطيه نقوداً
رجل يجهل: رياض الصالحين .. العقيدة الطحاوية
حكم قول: (هل أنتِ مسلمة؟) للمضيفات
حكم مجالسة الأهل والإخوان وهم على المعصية
حكم شراء الأشرطة بسعر رخيص ثم بيعها
شخص يؤاخي شخصاً آخر ويجعل جل وقته معه
حكم الذهاب إلى الأصحاب الضالين للنصيحة
تصرفات بعض الشباب الملتزمين غير جيدة
حكم السلام على من تعرفه فقط
التردد في الإقبال على الخير والانضمام إلى صحبة صالحة
الشروط الواجب توفرها في الداعية إلى الله عز وجل
شبهة: تكثير سواد الصالحين في أماكن غير مرغوب فيها
حاجة المسلمين إلى العلماء الشرعيين
انشغال طلاب العلم عن إفادة الآخرين
حكم مصاحبة أهل البدع
داء الحزبيات المتفشية بين الشباب
نصيحة لشاب يجالس الصديق الصالح والصديق السيئ
واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في العالم
ملتزم مبتلى بحب مشاهدة مباريات كرة القدم
الحنين إلى المعاصي في الماضي
كيفية الانضمام إلى الصالحين
نصيحة للذين يراسلون الإذاعات الأجنبية
فراغ العمل من الصالحين
فضل حفظ القرآن
الإلتزام بالإسلام من دون مصاحبة الصالحين
الواجب تجاه أصحاب الوجهين
حكم من لم يستطع الجهاد لمانع شرعي
إعطاء الفقير مالاً لا يكفيه
الامتناع عن الزوج لشربه الخمر
حكم من وضع ولد الزنا في حمامات عامة لا مطروقة ولا مهجورة وذهب
حكم التبول وانغماس الجنب في الماء الذي في البانيو
حكم المباهلة في الأمور غير المستحقة
حكم مساعدتي لأبي مع الإحراج
كفارة اليمين
حكم تقديم الإمام لرجل ليس بالأقرأ
قراءة الكتب دون الخروج بالفائدة
أسئلة وأجوبة متراكمة :
في هذه المادة أجاب الشيخ عن كثير من الأسئلة المتعلقة بمواضيع كثيرة، منها أسئلة عن: مصاحبة الصالحين.. كيف تسأل أهل العلم؟ سيادة الشريعة، وأسئلة أخرى متفرقة في أبواب مختلفة.
حال من سكن مع شباب منحرفين ... : ...(35/2)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ثم أما بعد: فهذه أيها الإخوة! حلقة خاصة للإجابة عن الأسئلة التي وردت في خلال المحاضرات الماضية وهي أسئلة كثيرة. ونبدأ الآن بأسئلة محاضرة "مصاحبة الصالحين" وبعدها أسئلة "كيف تسأل أهل العلم" وبعدها أسئلة محاضرة "سيادة الشريعة" وسيتخلل ذلك إن شاء الله أسئلة أيضاً وردت من بعض الإخوان واستفتاءات أتينا لهم بالإجابات عنها. السؤال: أريد أن ألتزم ولكني أسكن أعزباً مع شباب منحرفين، وللأسف أهلي في مدينة أخرى وأنا جئت هنا لأبحث عن عمل؛ فلا مناص من مجالستهم ولو إلى حين؟ الجواب: هذه المشكلة من المشكلات التي يعاني منها كثير من الناس الذين يسكنون أو يقيمون في بيئات ليس فيها أناس ملتزمون بالدين، والبيئات تختلف، فمن البيئات ما يكثر فيها أهل الدين أو الشباب الطيبون، مثل الجامعات مثلاً، ومن البيئات ما يكون وجود الشباب الطيبين فيها شيئاً نادراً، فيحس الإنسان ولا شك بغربة نتيجة توحُّده بين هؤلاء الناس. ولذلك نقول لهذا الأخ: إن عليك أن تكون بين هؤلاء الأقوام حاضراً غائباً، حاضراً بجسدك غائباً عنهم بمشاعرك، وتنمية مفهوم العزلة الشعورية لدى المسلم في هذه الحالة شيء مهم، وقد كتب عنه عدد من العلماء مثل ابن القيم رحمه الله، وعدد من المعاصرين مثل سيد قطب رحمه الله، مفهوم العزلة الشعورية من المفهومات المهمة، كيف تعيش بين الناس ولا تشاركهم في المنكرات والمحرمات التي يقترفونها. ثم إن على هذا الأخ أن يبحث عن إخوة طيبين من خارج هذا الوسط الذي هو فيه، فلو كان يعيش مثلاً في سكن شركة، وهذا السكن ليس فيه أناس طيبون مطلقاً أو ملتزمون بالدين، فإنه لن يعدم أناساً ملتزمين بالدين في أماكن أخرى قريبة يصل إليهم، ويعقد معهم أواصر الأخوة، فلا يجوز أن يبقى لوحده؛ لأنه سيضعف.
أصحابي في المدرسة أشرار:(35/3)
السؤال: إذا كان أصحابي في المدرسة أشرار، فماذا أفعل؟ الجواب: نقول: نعم، إن هذا النوع من الجوار في الفصول الدراسية شيء واقع، وهو أن يجاور الإنسان عن يمينه وشماله في الفصل الدراسي أناساً من الفسقة، أو من الطلاب اللاهين اللاعبين، ففي هذه الحالة ينبغي عليه أن يحذر هذا الجوار، ولذلك فإن تنسيق المواقف قبل تعيين الأماكن في الفصول من القضايا المهمة التي ينبغي أن يحرص عليها أهل الخير، فإن مجاورة الطيب للطيب تعينه كثيراً، ومجاورة الطيب للسيئ من الأمور التي كثيراً ما تأتي بنتائج هدامة، وكثير من الشباب الذين ضلوا وانحرفوا؛ بسبب مجاورتهم في الفصل الدراسي لأناس من التائهين الذين يجلبون معهم إلى الفصل أموراً من المحرمات. ولذلك فإنني أعيد وأؤكد على قضية تنسيق الجوار في الفصل الدراسي قبل بداية العام الدراسي، أو قبل أن يأخذ الطلاب أماكنهم.
حكم الجلوس مع العصاة من غير ضرورة شرعية:(35/4)
السؤال: إذا اضطر شخص للجلوس مع عصاة وإن لم يكن لضرورة شرعية، مثل أن يكونوا أقارب في وليمة أو غير ذلك، هل يعتبر من الازدواجية المذمومة؟ الجواب: هناك حالات كثيرة يكون فيها مخالطة أهل الشر أمراً متعيناً مثل قضية الولائم، فإنه يحضر فيها من الأقارب مثلاً من ليس بملتزم بالدين، أو من هو بعيد عن الشريعة، وفي هذه الحالة فإن على الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وإذا حصل شيء من الاستهزاء بالدين فلابد أن يقوم بواجب الإنكار. وكذلك يحاول أن يشغل هذا المجلس بشيء من الكلام الطيب؛ لأن هذه المساحة إذا احتلت بشيء من الخير؛ فإن إشغالها بشيء من الشر سيكون عسيراً، وليحذر الإنسان من الدخول في الأمور التي تقلب المجلس إلى مجلس سوء، فمثلاً بعض الناس يفتح المجال لطرفة؛ فإذا بهؤلاء الناس الذين عندهم قابلية لعمل بعض النكات التي تصادم الدين يدخلون من هذا المدخل ، بسبب عدم الجدية في الطرح، ولا نقصد أن يأتي بمواعظ تبكي، أو أنه يقول: لابد أن آتيهم بكلام علمي عميق، بل إن مثل هؤلاء الناس تعجبهم القصص الهادفة، وهي كثيرة. ولذلك لا بد أن يكون لدى الشخص ذخيرة من القصص الهادفة، حتى إذا جلس في هذه المجالس استطاع أن يأتيهم بهذه القصص، وهذه القصص لا يُشترط أن تكون من قصص الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين، وإنما قد تكون قصصاً مؤثرة حصلت في الواقع؛ إما أن تكون مكتوبة أو سمعها سماعاً، فعند ذلك إذا طرحها تلتفت إليه الأذهان أو الأسماع وتنشغل الأذهان بهذه القضية، ولا نعتبر هذا الشخص يعيش ازدواجية مذمومة في هذه الحالة.
الشعور بالنقص أمام الشباب الملتزمين: ... ...(35/5)
السؤال: أشعر أنني لا أصلح للبقاء مع الشباب لأنني لست مثلهم في أخلاقهم؟ الجواب: كثير من الشباب يتهمون أنفسهم بهذا الاتهام، ويقولون: إننا لسنا على مستوى كثير من الشباب الذين نخالطهم، فهناك من عنده علم، وهناك من هو صاحب عبادة، وهناك من هو من الدعاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهذا الشخص قد يكون حديث التدين وليس عنده مثل ما عند أولئك من الخبرة أو العلم أو الجرأة، وقد يكون عنده بقايا معاصٍ، وهذه المعاصي الباقية تسبب لديه نوعاً من الشعور بالنفاق، أو أنه قد يكون سبباً في فشلهم. وفي هذه الحالة نقول: أنت مأمور شرعاً بأن تكون مع الجماعة والرفقة الطيبة، وتركك لهم معصية لله عز وجل، وابتعادك عنهم اقتراب من الشيطان، مهما كان عندك من المعاصي والفسوق؛ فإن هذا لا يمنع أن تجالسهم وتخالطهم، ثم الإنسان كيف يتعلم إذا لم يخالط هؤلاء؟ وبعد سنوات ستصبح رمزاً فيهم وشخصاً يشار له بالبنان، وسيأتي أناس آخرون من القادمين الجدد الذين يحتاجون إلى الاختلاط بك أنت، فأنت هيئ نفسك من الآن لتبوء مركز القدوة في المستقبل.
حكم تعلم العلوم غير الشرعية:(35/6)
السؤال: هل تعلم العلوم غير الشرعية وغير المفيدة في الحياة مثل علوم الهندسة هو الذي استعاذ منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من العلم غير النافع؟ الجواب: إن النبي عليه الصلاة والسلام قد استعاذ من أربعة أشياء فقال: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يرفع أعوذ بك من هؤلاء الأربع) فنقول: إن العلم غير النافع قد يكون علماً ضاراً أو يكون علماً فيه ضياع وقت، مثلما يحدث مثلاً في علوم بعض الأشياء الرياضية أقصد البدنية النظرية، أو بعض التخصصات الأدبية التي فيها دراسة لتاريخ أوروبا في القرن السادس عشر والسابع عشر وغير ذلك من الأشياء التي لا يحتاج المسلمون إليها إلا لمن كان متخصصاً في هذا الجانب. فنقول: إن دراسة هذا الشخص في قسم الأدب أو التاريخ بهذا الشكل هو من الانشغال بالأمور التي سيضيع وقته فيها، وربما يسأل عنها أمام الله عز وجل. أما أن يدرس في علوم الطب أو الهندسة ونحو ذلك من علوم الجيولوجيا، أو العلوم التي تساعد في المخترعات ونحوها، وتساعد في أمور الحياة فليس ذلك من العلم غير النافع، بل إنه من العلم النافع، صحيح أنه في المنزلة أدنى من العلم الشرعي، لكنه ليس علماً ضاراً بحيث أن الإنسان يخرج منه.
تأثر الطلاب بزملائهم الأجانب والمبتدعة في الكليات غير الشرعية:(35/7)
السؤال: بالإضافة إلى أن أكثر الدارسين معنا من الأجانب والمبتدعة، لهم تأثير مهما تجنبناهم؟ الجواب: هذا الشيء يحس به كثيراً الذين يدرسون في الخارج، قد يدرس في فصل عنده مجموعة كبيرة من غير المسلمين، فربما كان لوحده أو معه مسلم آخر؛ لكن قد يكون مسلماً منحرفاً، نحن الآن لا نحس بما يعانيه بعض المسلمين الذين يدرسون في الخارج، يدرس في الخارج فتدرسه امرأة، ومعهم بنات في الفصل، وأغلبهم كفار، قد يوجد منهم يهود وليس نصارى فقط أو لا دينيين، أو حتى شيوعيين من أصحاب المذاهب المنحرفة، ثم إن الفصل الدراسي هذا يحدث فيه نقاشات ضد الإسلام وأشياء تطرح ضد الدين، ولذلك الإسلام لا يحث المسلم أن يرمي نفسه في مجاهل الكفر، وإنما يقول له: ارجع إلى بلاد الإسلام وإلى المجتمعات الإسلامية، فلا يصلح للمسلم أن يُلقي بنفسه في تلك الأماكن إلا إذا دعت الضرورة الشرعية لذلك، وكان عنده علم يدفع به الشبهات، وعقل يدفع به الشهوات. أعطيكم مثالاً قد حدث: جاء سؤال قال: شخص كافر طرح على آخر مسلم قال: أنتم لماذا في دينكم يوجد الختان؟ إذا كان الإنسان يولد كاملاً فلماذا يُختن؟ هذه خلقة رب العالمين، فكونكم تختنونه وتقطعون منه شيئاً فأنتم تغيرون خلق الله؟! أقول: هذه الأشياء قد تروج، وبعض المسلمين لا يعرف كيف يجيب عنها، فمثل هذا يقال له مباشرة: أولاً: استنباطك للشيء هذا استنباط عقلي، والنص الذي عندنا في الشريعة نص شرعي من الوحي، فلا يمكن أن نقدم الشيء العقلي على الشيء الشرعي. ثانياً: إن الذي حرم تغيير الخلق وهو الله عز وجل هو الذي أمر بهذا الأمر، فإذاً لا تعارض فلابد من طاعته. ثالثاً: إن الإنسان تطول أظفاره أو يطول شعره فهل يبقي شعره إلى منتصف الظهر وأظفاره متراً أو مترين أو أنه يقصها؟ وهذه الأظافر من جسده فإذاً كون الشريعة أمرت بقصها فمثل ذلك أمرت بقطع تلك القلفة أو قطعة اللحم التي تكون في ذكر الإنسان. رابعاً: إن أطباءكم يا(35/8)
معشر الكفار قد أثبتوا أن هذه القطعة الزائدة فيها ضرر، يجتمع فيها أوساخ وميكروبات، وتعيق حتى إتيان الرجل أهله بالطريقة المريحة، ولذلك فنقول: طبكم والعقول الصحيحة بعد شرعنا تثبت ذلك. على أية حال نقول: إن الذين يدرسون في الخارج يتعرضون لهجمات شرسة واستهزاءات من الناس الذين يجلسون معهم في الفصول الدراسية، ولذلك لا يمكن أن ننصح شاباً أن يذهب إلى الخارج إلا إذا كان في ذهابه مصلحة شرعية واضحة وكان شخصاً محصناً. بعض الناس يقولون: فلان ذهب إلى الخارج والتزم بالدين، ما كان هنا متديناً وذهب إلى هناك فتدين.. نقول: هؤلاء كم يمثلون من المبتعثين؟ افرض أن المبتعثين مثلاً خمسين ألفاً كم منهم الذي كان فاسقاً ثم رجع دَيَناً؟ وكم منهم الذي كان فيه خير ودين فرجع منكوساً؟ فلا تحتج عليَّ بالقلة أو بالندرة وانظر إلى العموم، ثم إن هناك نصوصاً شرعية حرمت الإقامة بين أظهر المشركين فكيف ننتهك هذه النصوص الشرعية بغير ضرورة شرعية.
حكمة النهي عن السهر بعد العشاء ... : ...
السؤال: قد جاء في الحديث النهي عن السهر بعد العشاء، فما هي الحكمة من ذلك؟ الجواب: نعم. قد ثبت النهي عن الحديث بعد العشاء، كما هو في صحيح البخاري وغيره: (نهى صلى الله عليه وسلم عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها) هذا له أسباب، منها: -أن تضيع صلاة الفجر، وقد رُخص للمسافر ولطالب العلم الذي يجلس لطلب العلم في سمر أو علم ونحوه، أو مسامرة أو مؤانسة ضيف أن يسهر، وأما الجلوس بعد العشاء لغير حاجة فإنه أمر مذموم، صحيح أن الناس الآن قد تغير نمط الحياة، وهذه الكهرباء قد أدت إلى جر الناس إلى السهر، لكن ينبغي الحرص قدر الإمكان على عدمه.
حكم الجلوس بين أناس يأتون بمنكر:(35/9)
السؤال: أنت تتكلم عن الصالحين فإنني محتار بين أمرين: إن الشباب الذين من جماعتي بعضهم يشربون الدخان وبعضهم لا يشربون، فماذا أفعل؛ هل أجلس معهم أم لا؟ الجواب: لا يجوز أن يقارب الإنسان أناساً يرتكبون منكراً حال جلوسه معهم، فإذا كانوا الآن يشربون الخمر فلا يجوز أن تجلس معهم، الآن يشربون الدخان لا يجوز أن تجلس معهم، لكن لو أنهم كانوا أصحاب منكرات خارج المجلس وهم جالسون معك لا يقترفون المنكر؛ فلا بأس أن تجلس معهم عندما يكون هناك أمر شرعي أو اجتماعي مثل صلة الرحم -مثلاً- أو الدعوة إلى الله.
أب يمنع ابنه من حضور حلقة القرآن:(35/10)
السؤال: هناك حلقة قرآن بعد صلاة العصر، ونشاط بعد المغرب، أريد أن أذهب إلى الحلقة وبعدها إلى المكتبة، لكن أبي يقول لي: لا تذهب وراجع دروسك، ويرفض الذهاب إلى الحلقة؟ الجواب: كثير من الآباء ينقصهم الوعي بأنشطة الدعاة إلى الله عز وجل، فهم لا يفهمون ما هي المكتبة، وما هي نشاطات المكتبة، وماذا يحدث في حلق تحفيظ القرآن ونحو ذلك؛ ولذا ينبغي على الدعاة إلى الله أن يقوموا بمجهود لتوعية الآباء بالأنشطة الإسلامية، فمن ذلك مثلاً: إرسال النشرات التي تتحدث عن النشاط. ثانياً: دعوة الآباء إلى هذه الأماكن والمحلات. فإذا كان هناك مثلاً تخريج لبعض الحفاظ أو عدد من الذين حفظوا أجزاء من القرآن مثلاً، أو نشاط في المكتبة مثل درس أو محاضرة، أو تعرف على أولياء الأمور، ينبغي أن تكون هذه القنوات موجودة بين الدعاة إلى الله ومراكز النشاط الإسلامي وبين أولياء الأمور؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا، وإذا لم يتعرف أولياء الأمور على ما يدور في هذه الحلق من الأنشطة الإسلامية الطيبة؛ فإنهم لن يقيموا لها وزناً؛ وبالتالي فإن منعه من الذهاب أمر وارد عند الجاهل به. ثم إن على هذا الشاب أن يأتي بتقارير دراسية جيدة لأبيه، فإن التقارير السيئة الشهرية التي تأتي الأب فعلاً؛ هي التي تجعل الأب لا يكون حريصاً على حضور ولده، هذا إذا لم يمنعه. أما إذا كانت التقارير الدراسية جيدة وكان الولد مهتماً بدروسه؛ فلن يكون هناك منفذ للأب لمنعه؛ ولذلك في كثير من الحالات يكون تحسين الموقف الدراسي سبباً مباشراً في إقناع الأب بالسماح لولده بغشيان هذه المناسبات أو الأماكن الطيبة.
توفير الصحبة الصالحة للمرأة:(35/11)
السؤال: كيف تبحث المرأة عن الصحبة الصالحة؟ وأين تجدها؟ وزوجي يريدني أن أذهب معه عند أناس وأنا أعرف أن عندهم منكرات؟ الجواب: لا شك أن الصعوبة في بحث المرأة عن الصاحبات الطيبات أكبر من الصعوبة عند الرجل؛ لأن الرجل سهل التنقل سهل التعارف، أما المرأة فمكانها محدود ونشاطها محدود، ومجالات التعرف عندها محدودة، ولذلك إذا لم تجد المرأة جارة طيبة أو صاحبة صالحة؛ فإن بيتها خير لها في هذه الحالة، وليست مطالبة أن تذهب إلى مختلف الأماكن لتبحث عن نساء طيبات، لكن عندما يكثر الخير في المجتمع لن تعدم أن تجد ممن حواليها من النساء اللاتي التزمن بهذا الدين وأقبلن على هذه الشريعة. وينبغي عليها أن تحذر أصنافاً من النساء:- المرأة النمامة. المرأة التي تنشغل بالغيبة. المرأة الكذابة. المرأة المضيعة لحقوق الزوج. المرأة التي تنشر أسرار الاستمتاع الزوجي في المجالس. المرأة التي تتعامل مع الكهنة والسحرة، أو تذهب إليهم وتدعو للذهاب إليهم. المرأة التي تدعو إلى حضور الأعراس أو الحفلات التي تشتمل على منكرات... وهذه الطبقة والنوعية من النساء موجودة في المجتمع، فإذا لم تجد فليسعها بيتها، وعلى زوجها مسئولية أن يأتي إليها من أهله أو من زوجات أصدقائه الصالحات بمن تزورها في بيتها.
قيام الشباب الصالحين بإفادة الناس: ... ...(35/12)
السؤال: هل من كلمة للشباب الصالحين الذين لا يتواجدون إلا ساعة في الأسبوع والشباب يحتاجونهم لمخالطتهم، فكيف العمل؟ الجواب: إن الشخص الذي هو أهل للقدوة والذي فيه صلاح وخير، لا بد أن يمكن الناس من الاستفادة منه، وأن يغشى مجالسهم، وأن يُعطيهم من وقته، وفي الحقيقة أن بعض الطيبين لا يشعرون بالحاجة إلى نشر خيرهم للناس، مع أنه قد يكون عنده من العلم أو من الفقه أو من الأدب ما ينقله إلى غيره، لكن مع الأسف تجده -مثلاً- انطوائياً منعزلاً، أو تجده أيضاً قابعاً على عدد معين من الأشخاص لا يتعداهم إلى غيرهم. فنقول: إن هؤلاء عليهم إعطاء شيء من وقتهم لأجل تمكين هؤلاء الشباب المبتدئين من مصاحبتهم، وهذا لا يعني أن يوزع الشخص وقته بحيث يضيع، ولكن يُعطي الشيء الذي يستطيعه للناس.
لدي صديق ولكن فيه عيبان:
السؤال: لدي صديق أتعاون معه في أمور الدعوة ولكن هناك عيبان هجرته من أجلهما:- أولاً: قلما نجتمع ولا نغتاب. والثاني: أننا نطيل الجلوس حتى أننا نفرط في حقوق أهلينا وطلب العلم. فبماذا تنصحني؟ هل أستمر في هجره أم لا؟ الجواب: هناك شيء يمكن التحكم فيه، وشيء لا يمكن التحكم فيه، الشيء الذي يمكن التحكم فيه الإطالة، فأنت ممكن أن تجلس -مثلاً- مدة معينة؛ نصف ساعة أو ساعة حسب المتيسر ثم تقوم، لكن الغيبة إذا لم يتركها فلا بد أن تنصحه ثم تقوم من المجلس.
حكم شراء سيارة بالتقسيط ثم بيعها نقداً:
السؤال: هل يجوز شراء سيارة بأقساط قيمتها خمسين ألف ريال وبيعها بقيمة أربعين ألف ريال نقداً؟ الجواب: هذه مسألة التورق، والظاهر أنها تجوز خصوصاً إذا كان هناك حاجة، فإذا حصلت حاجة ولم يجد من يقرضه ولا عنده مال فاشترى سيارة بالتقسيط وباعها نقداً لأجل السيولة؛ فإن ذلك لا بأس به إن شاء الله تعالى.
حكم تدريس مادة فيها أمور محرمة:(35/13)
السؤال: مدرس في جامعة يدرس مادة فيها أمور محرمة مثل الربا ونحوه، فهل يجوز له هذا التدريس أم لا؟ الجواب: لا يجوز له أن يدرس الأفكار التي تخالف الشريعة، وهذه موجودة بعض الأحيان في الكليات النظرية مثل الأدبية والتاريخية ونحوها، وكذلك في الكليات الاقتصادية والإدارية كثيراً ما توجد أشياء مخالفة للشريعة، فيجب على المدرس المسلم إذا درس هذا أن يبين حكمه وأنه حرام، ثم يتجنب اختبار الطلبة فيه؛ لئلا يكون مؤكداً لهم على هذا الأمر وهو أمر غير شرعي، وإنما يأتي بأسئلة معاكسة لما هو موجود من الأمور غير الشرعية والتي قام بشرحها بنفسه.
حكم شراء الذهب بالتقسيط:
السؤال: هل يجوز شراء الذهب بالأقساط؟ الجواب: لا يجوز شراء الذهب بالأقساط قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء) فلا بد أن يكون التقابض في مجلس العقد، يُعطي النقود ويأخذ الذهب، ولا يجوز له أن يؤجل الدفع ولا جزءاً من الثمن، فإذا لم يجد عنده قيمة كاملة؛ ترك الذهب في الدكان حتى يكمل القيمة ويأتي لدفعها، وشراء الذهب بالأقساط لا يجوز.
حكم تحنيط الحيوانات لأجل الدراسة:
السؤال: ما حكم تحنيط الحيوانات لأجل الدراسة مثل الحمام مثلاً؟ الجواب: الشيخ عبد العزيز يقول: إذا ذبحوها ذبحاً شرعياً -ذكوها- فلا بأس بذلك، إذا كان هناك حاجة فعلاً مثل علم التشريح.
حكم إعطاء الراتب بالشهر الميلادي:
السؤال: رجل يُعطي عماله الراتب بالشهر الميلادي فهل يأثم؟ الجواب: الشيخ/ عبد العزيز : يكره له هذا لما فيه من التشبه بالكفار.
حكم الاستمناء من غير إنزال مع الصوم:
السؤال: رجل شرع في الاستمناء وهو صائم لكنه لم ينزل، فهل يُفطر؟ الجواب: الظاهر أنه لا يفطر، لأن الإنزال لم يحصل، وإفساد الصوم متعلق بالإنزال وخروج الماء عمداً.
علامات الأخوة في الله:(35/14)
السؤال: كيف أعرف أن علاقتي مع فلان هي أخوة في الله؟ الجواب: تعرف ذلك بأمور:- أولاً: إذا ناقشت نفسك في سبب إقامة العلاقة معه، هل هي لأنه إنسان تقي عنده علم وعنده خلق، أو أنك صادقته وعقدت معه أواصر العلاقة من أجل أمر دنيوي. ثانياً: هل أنت عاكف عليه لا تتعدى العلاقة إلى غيره من الناس الطيبين الذين ربما تستفيد منهم أكثر منه؟ وهل هي مقصورة أم متعدية إلى غيره؟ فإذا كانت مقصورة فاتهم نفسك. ثالثاً: هل علاقتك معه تزيدك إيماناً، أو أنها تسبب في ضياع الوقت ومرض القلب، والوصول إلى مهاوي التعلق بغير الله سبحانه وتعالى؟ فهذه علامات تستطيع أن تعرف بها هل علاقتك أخوة في الله أم لا.
كيفية تكوين علاقة أخوة في الله:
السؤال: كيف أكون علاقة أخوة في الله؟ الجواب: أولاً: انتقاء الشخص. ثانياً: حُسن التعرف عليه. ثالثاً: زيارته. رابعاً: الاشتراك معه في أنشطة إسلامية وشرعية مثل: حضور الدروس والحلق العلمية، وحفظ القرآن الثنائي ونحو ذلك.
الرد على من قال: ادفع لفقراء بلادك ثم تبرع للأفغان.
السؤال: بعض الناس إذا قلت له: تبرع للأفغان قال: ادفع لفقراء بلادك ثم تبرع للأفغان ؟ الجواب: إن فقراء المسلمين لهم حقوق علينا جميعاً، ونحن نُعطي من يكون أحوج ولا ننسى فقراء البلد، لكن لا ننسى أيضاً فقراء العالم الإسلامي، فإذاً كونه يقول: أولاً أعطي فقراء بلدك ثم أعطهم، وقد أفتى أهل العلم بإعطائهم، فمعنى ذلك أن الرجل هذا عنده قصور في النظر، أو أنه من أعداء الجهاد.
حكم التقليل من كتب السلف والاعتكاف على الكتب الفكرية:(35/15)
السؤال: ما حكم من يقلل من أهمية الدروس العلمية والمحاضرات، وحفظ القرآن في الحلقات، وحفظ المتون،ويعكف على الكتب الفكرية وترك كتب السلف ؟ الجواب: أولاً: هذا السؤال يحتاج إلى تمعن: هل هو اتهام لشخص بريء أم هو فعلاً قضية واقعة؟ فإذا كانت قضية واقعة فإن الإعراض عن دروس العلم، والمحاضرات الشرعية، وحفظ القرآن، وحفظ المتون لا شك أنه ضلال، والعكوف على الكتب الفكرية لا يكوّن عقل الإنسان المسلم، عقل الإنسان المسلم يتكون من أشياء، الكتب الفكرية مهمة والأمور الشرعية أهم، فلابد من الحرص على هذه النواحي جميعاً وعدم العكوف على ما كتبه المفكرون وترك ما كتبه علماء الشريعة، بل كتب علماء الشريعة أولى وأحرى.
أريد الزواج ولكن لا أستطيع:
السؤال: أنا شاب صالح ولكنني في سن المراهقة ولا أستطيع الزواج، ولا أستطيع الصيام، وعندي شهوة قوية، فماذا أفعل؟ الجواب: ذكرنا في كتاب "العادة السيئة " أشياء من الأمور التي يمكن أن تقوم بها لحماية نفسك، وكثير من الشباب يريدون حلاً سهلاً ولا يريدون أن يجاهدوا أنفسهم، وهذا مكمن الخطورة، فالصيام يحتاج إلى مجاهدة، فالشاب كأنه يريد حبوباً يبلعها ويصبح عفيفاً، العفة لا تأتي إلا بالمجاهدة، العفة لا تأتي بحلول سحرية أو حبوب معينة لتُبتلع.
كيفية المحافظة على الصحبة: ... ...(35/16)
السؤال: عندي صحبة صالحة، وإني أحبهم كثيراً لكني لا أداوم معهم، فكيف لي بالدوام؟ الجواب: إذا كانوا هم يمرون عليك لأخذك فهذا يجعلك تنضبط معهم، أما إذا قلت لهم: اذهبوا أنتم وأنا آتيكم فهذا مدعاة لك للتفلت. ثانياً: ينبغي تفريغ النفس عند المواعيد الدورية مثل الدروس والحلق العلمية، فالإنسان المسلم إذا عرف -مثلاً- أنه في هذا الوقت من كل أسبوع يحضر حلقة أو درساً، فينبغي له أن يفرغ نفسه من الشواغل في هذا الوقت، وأن يقطع عن نفسه كل ما يمكن أن يدخل عليه إشغاله في هذا الوقت، والناس ينتجون هذا الإنتاج بالتفرغ، إذا فرغ نفسه لشيء أنتج، أما إذا ترك نفسه نهباً للصوارف لا يمكن أن ينتج ولا في مجال من المجالات. افرض أنك تريد أن تبحث عن قضية من القضايا، أو تقرأ في كتاب لابد أن تقرأه، لو كنت تقرأ على التساهل، ففتحت الكتاب فجاءت مكالمة وجاءك شخص، ثم جاء آخر وذهب الوقت، لكن لو أنك ذهبت إلى مكان فيه خلوة لا يوجد فيه أحد يطرق عليك ولا يتكلم معك، اعتكفت على الكتاب ساعة أو ساعتين أو ثلاث حسب طول الكتاب فسوف تنهيه ولا بد، وبالتجربة أقول لكم: إن الإنتاج وليد التفريغ للقضية المعينة التي تريد أن تنجزها.
رجل تمنعه زوجته من إخراج التلفزيون:(35/17)
السؤال: نحن مجموعة شباب متزوجون جميعاً، تدور بنا دروس منتظمة ونصائح لبعضنا البعض، لكن يوجد شخصان عندهما جهاز تلفزيون ويعتذران عن إخراجه من المنزل مع ما فيه من الفساد، ونصحتهما كثيراً لكن لم يخرجاه بسبب زوجتيهما؟ الجواب: حسناً.. تعس عبد الزوجة، الذي لا يُزيل المنكر من أجل زوجته، فهو إذاً من الذين صاروا تحت عبوديات زوجاتهم، وقد ذمهم صلى الله عليه وسلم، ولذلك فليست إرادة هؤلاء الأشخاص قوية، أين القوامة التي جعلها الله للرجل على المرأة! كيف يرضى الرجل بالمنكر في بيته ويقول: المرأة أزعجتني، المرأة أقلقت راحتي، المرأة نغصت عيشتي.. أين شخصيتك أنت؟ أين مواقفك الصلبة؟ أين الحزم؟ أين الهجر إذا ما استجابت لك؟ بل أين تغيير المرأة إذا كانت سيئة الخلق والدين في نهاية المطاف؟!
النصيحة لمن يدعو المقصرين:
السؤال: ما هي النصيحة التي توجهها لمن يقوم بالدعوة وهو يدخل على بعض المقصرين؟ الجواب: أولاً: يا أخي أنصحك ألا تغشاهم وهم يفعلون منكراً، إذا لم يتركوه وأنت داخل عليهم. ثانياً: لا أرى أن تطيل معهم، وإنما تعطيهم ما تريد إعطاءهم من الأشياء في مدة قصيرة بأسلوب جذاب ثم تمشي. ثالثاً: اصطحب معك مساعداً ومعيناً، فإن بعض الدعاة إلى الله عز وجل، أو بعض الناس قد يدخل في شباب لدعوتهم فإذا به يتأثر بهم وينخرط معهم، وقد يشاركهم في منكرات، لكن لو كان معه معين أو آخر يسانده على الأقل إذا ما استجابوا انسحب هو وصاحبه.
مجاهدة الشيطان:(35/18)
السؤال: كنت أستعمل المخدرات والدخان، والحمد لله الذي أبعدني عنها، وكنت أمشي مع أهل السوء والآن أمشي مع أهل الخير، والشيطان يحاول إبعادي عنهم، وأنا أصر وأجبر نفسي عليهم؟ الجواب: حسناً.. هذا ما يجب عليك، يجب عليك أن تجبر نفسك كما قال الله عز وجل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] فما معنى "اصبر نفسك"؟ احبس نفسك معهم، المسألة تحتاج إلى مجاهدة، والمسألة تحتاج إلى مواظبة، والمسألة تحتاج إلى تمعن في الأجر الذي يكون للمرء: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
أهم التحقيقات لكتاب التوحيد:
السؤال: وجدت كتاباً أو كتيباً عنوانه "ضعيف كتاب التوحيد " ذكر عدداً من الأحاديث والآثار الضعيفة الواهية في الكتاب، وحيث أني مدرس للكتاب أرجو التوجيه لأهم التحقيقات لكتاب التوحيد؟ الجواب: كتاب النهج السديد في تخريج أحاديث وآثار تيسير العزيز الحميد للشيخ/ جاسم بن فهيد الدوسري من الكتب التي خرجت أحاديث هذا الكتاب فعليك به.
علاقة الدخان بالوضوء:
السؤال: هل الدخان ينقض الوضوء؟ الجواب: الدخان لا ينقض الوضوء، لكن كيف تقف بين يدي رب العالمين وأنت متلوث بهذا المنكر وتؤذي الملائكة والرائحة المنكرة تنبعث من فيك؟! فنقول: يجب عليه أن يتوب إلى الله وأن يقلع، وإذا أراد أن يصلي لابد أن يستاك، ويطهر فاه قبل أن يقف بين يدي الله والملائكة حاضرة.
حكم إهداء الكفن:
السؤال: إهداء الكفن هل هو من البدع؟ الجواب: قال الشيخ عبد العزيز : لا أعلم فيه شيئاً، والأصل الإباحة.
تأثير العين على الجمادات ... : ...(35/19)
السؤال: سيارة أصيبت بالعين وأتي بوضوء من عانها، فهل يصب على مقدمتها؟ وكذلك الساعة مثلاً، هل الجمادات محل تأثر بماء العائن؟ الجواب: قال الشيخ: عبد العزيز النصوص الشرعية على العموم كما ورد في كلمة "شيئاً" وقد جُرب فأفاد، إذاً الأشياء الجامدة هي محل للتأثر بماء العائن.
حكم من صلى الفجر والسنة ركعتين ركعتين من غير تحديد نية:
السؤال: رجل لا يدري سنة الفجر قبل الفرض أم بعده؟ فصلى ركعتين ثم ركعتين بنية إن إحداهما فرض والأخرى سنة من غير تحديد؟ الجواب: قال الشيخ: يظهر لي أنه لا يجزي ولابد أن يعيد نية الفرض.
حكم عمل مجسمات للحج وشعائره:
السؤال: روضة أطفال يريدون عمل مجسمات للحج والكعبة، والجمار، والصفا والمروة، ويلبس الأولاد ملابس الإحرام ويجعلونهم يطوفون حول هذا المجسم، ويرمون الجمار بالحجر لتعلم كيفية الحج؟ الجواب: الشيخ: الطواف حولها لا يجوز، وإنما يعلمونهم بالوصف والكلام، وأما النماذج دون الطواف حولها فإذا كانت مؤقتة تزال بعد ذلك فلا بأس.
حكم مجاوزة الميقات بدون إحرام مع نية العودة:
السؤال: شخص جاوز الميقات بغير إحرام على أن يعود إلى الميقات، هل يجوز له ذلك؟ الجواب: نعم، يجوز ذلك إذا كان يذهب فيقضي حاجته ثم يرجع فيحرم من الميقات، وهو لما جاوز الميقات لم يجاوزه للحج والعمرة، وإنما جاوزه لقضاء الحاجة، وفي نيته أنه سيعود إليه.
حكم الصلاة في مكان اكتشف فيما بعد أنه مقبرة:
السؤال: ذهبوا إلى البر وجلسوا أياماً وصلوا، ثم اكتشفوا قبل رحيلهم أنهم كانوا جالسين في مقبرة، فماذا عن الصلاة؟ الجواب: الشيخ: الصلاة صحيحة لكونهم لم يتعمدوا الصلاة في المقبرة. لأنهم حين صلوا لم يكونوا يعلموا أنها مقبرة.
حكم ذهاب المصاحف إلى فلسطين:(35/20)
السؤال: أهل فلسطين يحتاجون مصاحف، هل يجوز لمسلم أن يذهب بمصاحف إليهم علماً أن اليهود سيفتشونها ويقلبون صفحاتها؟ الجواب: يقول الشيخ عبد العزيز : لا بأس إن شاء الله لحاجة المسلمين إذا كان الأغلب السلامة، فما دام أنهم سيفتشونها ويرجعونها، وصحيح أن مس اليهود للقرآن حرام، لكن ما دام هناك مصلحة لأناس يحتاجون المصاحف؛ فلا بأس أن يأخذوها إلى الداخل.
براءة الذمة بإرجاع اللقطة إلى مكانها:
السؤال: هذا شخص التقط لقطة فشق عليه تعريفها، فهل تبرأ ذمته إذا أرجعها إلى نفس الموضع الذي وجدها فيه؟ الجواب: كلا لا تبرأ ذمته، ويجب عليه تعريفها ولو استأجر شخصاً من أجل هذا التعريف.
حكم صوم ست من شوال دون موافقة الزوج:
السؤال يقول: هل تصوم المرأة ستة أيام من شوال إذا لم يوافق زوجها؟ الجواب: لا يجوز للمرأة أن تصوم صيام النفل إلا بإذن زوجها، فإذا لم يأذن فلا تصوم، إلا إذا كان مسافراً؛ فإنها تصوم الست وغيرها ما دام أنه مسافر، أما إذا كان حاضراً فلا تصوم إلا بإذن زوجها للحديث الوارد في ذلك.
صديق لا يصلي إلا وقت الشدائد ... : ...
السؤال: لي صديق لا يصلي إلا وقت الشدائد، أو وقت ما نشد عليه فإنه يصلي، وإذا ذهبنا نسي كل شيء، ونأمره بالصلاة أحياناً فلا يجيب، هل نستمر معه بنفس الصداقة؟ الجواب: إذا كنتم تأمرونه فيستجيب فالحمد لله، إما إذا لم يستجب وجلستم معه فترة فاتركوه إلى غيره ممن يستجيب؛ لأن وقت الإنسان المسلم ثمين؛ فلماذا يعكف على شخص استجابته ضعيفة، وهناك من عباد الله من هو خير وأحسن في الاستقبال والتأثر من هذا الرجل، وهذا لا يُقطع بل يمر عليه بين فترة طويلة وأخرى حسب الفراغ.
حكم الشعور بعدم الراحة لبعض الإخوة:(35/21)
السؤال: هل الإنسان يحاسب إذا شعر بأنه لا يرتاح لبعض الإخوة الملتزمين؛ علماً بأنه لا يعمل أي شيء من الضرر بهم؟ الجواب: من رحمة الله أنه لا يؤاخذنا على ما حدثنا به أنفسنا ما لم نتكلم أو نعمل، فإذا جاء في نفسك شعور بشيء من النفور نحو شخص متدين، فالذي عليك أن تفعله مجاهدة نفسك في الارتياح، أو إزالة الضغائن، أو أي نوع من الأحقاد بينك وبينه، وتهادوا تحابوا، والمصارحة في كثير من الأحيان تكون حلاً للمشكلات، لكن هناك أناس لا يجرءون على المصارحة مع أن المصارحة مهمة جداً، وما دام أن الأمر لم يصل إلى شيء من الفعل أو القول؛ فإنك لا تأثم إن شاء الله تعالى ما دام البغض شخصي وليس بغضاً للدين، لكن لو كان بغضاً للدين فهذا خطير للغاية.
حكم مشاركة بعض الشباب في لعب البلوت:
السؤال: أنا شاب يحسبني الناس ملتزماً والله بصير بالعباد، أجلس أحياناً على الأرصفة مع مجموعة من الشباب الذين يلعبون البلوت على الأرصفة وأنا معهم، وقد ألعب معهم أحياناً بحجة أنه إذا حان وقت الصلاة يقومون احتراماً لي فقط وليس خوفاً من الله، فإذا لم أكن معهم واصلوا لعب البلوت إلى ما بعد الصلاة والصلاتين أحياناً، فهل تصرفي هذا تصرف صحيح؛ علماً بأنهم لا يصلون إلا إذا أمرتهم؟ الجواب: أرى أنك تمر عليهم في وقت الصلاة وتأمرهم بالصلاة، فإذا كانوا يحترمونك فلا بأس أن يصلوا في البداية من أجل احترامك، ولكن لا تجلس معهم فتشاركهم في المنكر، وإنما إذا كانت لك منزلة عندهم فمر عليهم في وقت الصلاة، أما أن تجلس معهم تلعب أحياناً فكيف يحدث هذا، وكيف ترضى لنفسك المشاركة في المنكر؟!
الموقف ممن يستهزئ بالمذاهب الأربعة:(35/22)
السؤال: أنا موظف، وأحياناً يأتيني بعض الموظفين من المبتدعة يقومون بالاستهزاء من المذاهب الأربعة وشتم الصحابة، ماذا عليّ؟ الجواب: يجب عليك أن تذب عن أعراض الصحابة وأن تقول لهم: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) حديث صحيح وتقول له: إن الله قال في كتابه: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [المائدة:119] فإذا رضي الله عنهم ورضوا عنه وأنت لا ترضى عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الكافرين.
حكم مقولة: إن الله معنا في كل مكان. ... ...(35/23)
السؤال: ما صحة هذه المقولة "إن الله معنا في كل مكان" في البيت والسيارة وأمامك وخلفك وفي كل مكان؟ الجواب: هذا فيه تفصيل، فيسأل المتكلم عن قصده، فإن قال: قصدي أن الله معنا بعلمه فنقول: نعم، إن الله معنا بعلمه في كل مكان؛ إذا كنت في البيت أو في السيارة أو في المسجد أو في أي مكان فالله معك بعلمه. أما إذا قال: إن الله معنا بذاته نقول: هذا قول أصحاب وحدة الوجود الذين يقولون: إن كل ما تراه بعينك فهو الله، هؤلاء في الحقيقة صوفية باطنية ، لأن الصوفية مذاهب وفرق. من الصوفية من تقتصر بدعته على أذكار وأوراد بدعية، ومسابح أبو ألف وأبو خمسمائة.. وأبو مائة وهكذا .. هؤلاء متصوفة بدعتهم مقتصرة على الأذكار المبتدعة، أو على طريقة مبتدعة في التسبيح. هناك متصوفة بدعتهم أكبر من ذلك، إذا دخلت في قضايا الاعتقاد مثل الغلو في الصالحين اعتقادهم أنهم ينفعون يقولون لك: هذا قبر أبو العباس المرسي هذا الترياق المجرب، ما تذهب إليه امرأة لا تحمل إلا حملت، هذه شجرة إذا تمسحت بها العقيم حملت ونحو ذلك.. فهذه اعتقادات شركية. وبعضهم يعظمون رؤساء الطريقة فإذا كان -مثلاً- نقشبندياً أو رفاعياً أو شاذلياً أو بدوياً فإنه يشجع -ما هو بدوي من سكان الصحراء- وإنما من أتباع أحمد البدوي هذا الذين يقولون له الآن: قبر يزوره مئات الآلاف، بل إذا أحصيتهم في السنة يعدون بالملايين، وله باب يدخل منه الناس وباب يخرجون ويطوفون حول قبره، ويرشدك القائم على القبر بالاتجاه الذي تدخل منه وتطوف، وللقبور سدنة ويأخذون أموالاً يجبونها من الناس، ويُذبح عندها القرابين، ويحلق عندها الشعر، ويطاف حولها مثل الحج، حج رسمي: طواف وحلق شعر وذبح رسمي عند قبور هؤلاء. هذا من الشرك الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيقع في هذه الأمة، مع أن بعض هؤلاء الأولياء -كما يقولون ويزعمون- قد يكون صالحاً مثل الجيلاني رحمه الله فهو رجل صالح من أهل السنة(35/24)
لكن غلا فيه أناس بعده فصاروا من أصحاب الطريقة الجيلانية. وبعضهم قد يكون شخصاً مشركاً مثل الرفاعي مثلاً، أحمد الرفاعي الذي يقول: إنه كان يقف فيسيح قال: فرأيته ذاب حتى صار مثل الماء، ثم رجع مرة أخرى. أو مثل البدوي الذي كان يعتقد بسقوط التكاليف وأنه ليس عليه صلاة ولا عليه شيء، بل إنه ربما وقف على جدار فبال على الناس وقال: بول كل ما أكل لحمه فهو طاهر وأنا الناس يغتابوني ويأكلون لحمي، فما عليكم أنا بولي طاهر.. فمثل هؤلاء الأشخاص الذين لهم هذه التخريفات وأتباعهم الذين يوافقونهم على بدعهم وشركهم لا شك أنهم مشركون مثلهم. وأصحاب وحدة الوجود أو أهل الاتحاد والحلول يقولون: إن الله حل في خلقه، أو إن ما تراه بعينك فهو الله.. هؤلاء الذين يقولون: كل ما تراه بعينك فهو الله، هؤلاء أفراخ جهم ، الذي قال لما سألوه عن الله أين الله؟ جلس أربعين يوماً يفكر، ثم خرج عليهم فقال: هذا الهواء هو الله. فهؤلاء الذين يقولون: أن كل شيء وكل جزء من الكون فهو من الله؛ فإن الله هو الكون فنحن إذاً من الله.. وهكذا، ولذلك يقولون: فرعون كان مصيباً لما قال للناس: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24].. مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]. لكن موسى خفيت عليه. فرعون محق فهو قال: أنا ربكم الأعلى، صحيح، لأنه هو من الله، ويقولون: موسى غابت عنه، فلم يفهم قصد فرعون، فأنكر عليه ولا ينبغي الإنكار على فرعون. وهم الذين يقولون:
... ... ما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... ... وما الله إلا راهب في كنيسته(35/25)
ويقولون أشياء تعالى الله عن ذكرها. وهؤلاء أصحاب الفرق الباطنية متعددون وكُثر، فمنهم الباطنية الذين يعتقدون بأن الله عز وجل -والعياذ بالله- يحل في أحد خلقه تأنيساً للخلق وتعريفاً به، فيقولون: الله حل في علي بن أبي طالب، فعلي بن أبي طالب هو الله، وعلي بن أبي طالب خلق محمداً صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق سلمان الفارسي ، وسلمان الفارسي خلق الأيتام الخمسة: أبا ذر و قنبر بن كادان ... الخ، وأوكل إليهم إدارة شئون الكون. وعندهم أن الله يتمثل بصورة نبي تأنيساً للخلق، انظر ولاحظ يقولون: تأنيساً للخلق وتعريفاً به، وأنه له صورة وله معنى، فعلي بن أبي طالب هو المعنى أي: أنه هو الحقيقة وهو الله، ومحمد هو الصورة الذي عن طريقه يُوصل إلى المعنى، ويقولون: يوسف هو المعنى وهو الحقيقة ويعقوب هو الصورة، أي أن الله عبر الأجيال البشرية يتمثل في صور بعض الأشخاص وله صورة وله معنى، فالمعنى هو الحقيقة، والصورة هي باب يدخل إليه. ولذلك انظر إلى الباطل كيف يبلغ بأهله.. قالوا: ولذلك لما جاء إخوة يوسف إلى يعقوب قالوا: استغفر لنا قال: سوف أستغفر لكم ربي. أي: أرجع إليه بالاستغفار، ولما جاءوا إلى يوسف قال: لا تثريب عليكم، فلما رجعوا إلى الإله أعطاهم لكن لما جاءوا إلى الباب قال: لا بد أن أرجع. وهكذا يؤولون آيات وأحاديث وأشياء عجيبة جداً ويقولون: شيث هو المعنى وآدم هو الصورة، وهارون هو المعنى وموسى هو الصورة، وسليمان هو المعنى وداود هو الصورة ... وغير ذلك من الأشياء العجيبة التي هي هراء، وهؤلاء بعضهم كانوا حشاشين فعلاً، لما اخترعوا العقائد كانوا تحت تأثير المخدرات والحشيش، بل إن الجذبات التي تنقل عن الصوفية هي في الأصل ومردودها في الحقيقة أنهم يتعاطون الحشيش. ولذلك هناك في كتاب "طبقات الأولياء " للشعراني يقول: مثلاً الولي الفلاني رأى نفسه كذا ورأى لنفسه كذا وقال لا أرى إذا كذا وأرى نفسي أنا(35/26)
الله، هو في الأصل حشاش يتعاطى المخدر أو الحشيش هذا؛ لأن هذه الحشيش لها تأثير على حواس الإنسان، فقد يجعل الإنسان يسمع الألوان ويرى الأصوات. الحشاش والذي يتعاطى المخدرات يسمع الألوان يقول: أنا أسمع اللون الأحمر واللون الأصفر، وأسمعه جيداً! وأيضاً يرى الأصوات: أرى صوتك وأنت تتكلم .. فهذا يحدث؛ لأن المخدر يسبب اختلاط وتداخل الحواس فيشم العقيدة ويسمع اللون وهكذا.
مصاحبة من هو أعلى في الدين واتخاذه قدوة: ... ...
السؤال: قلت إن الإنسان المؤمن يجب أن يصاحب دائماً من هو أعلى منه في الدين، ولا يصاحب من هو أقل منه.. في هذه الحالة لن يصاحب أحد أحداً؛ لأن كل واحد سيبحث عن من هو أعلى منه ويترك منه أدنى منه؟! الجواب: عندما نقول: إن الإنسان يحرص على أن يقتدي بشخص أعلى منه في الدين أو العلم مثلاً.. فما معنى هذا الكلام؟ هل يعني أنه سيخالطه أربعة وعشرين ساعة؟ لا. وإنما هي دعوة للبحث عمن هو أعلى منك لتقتدي به، وبقية الأوقات تخالط مثلك ومن هو دونك، فتتعاون أنت وإياهم ويستفيدون منك، لا يوجد أحد من الناس إلا ويوجد من هو أعلى منه وأدنى منه، فهو يبحث عن الأعلى ليخالطه ويستفيد منه ويقتدي به، وبقية الأوقات هو مع زملائه ومع أقرانه، ومع الناس الذين يدعوهم إلى الله. فالإنسان ليس فقط متلقي ومقتدي، هو أيضاً داعية، هو أيضاً ينشر الخير، فلا يُفهم إذاً من الكلام السابق أننا ندعو فقط إلى أن كل إنسان يذهب إلى من هو أعلى منه، وفي النهاية الناس الذين تحتهم ليس لهم أحد، فهذا نظرياً لا يمكن تخيله.
حكم الجلوس مع الذين يغتابون الناس بحكم العمل:
السؤال: ما حكم الجلوس مع من يغتابون الناس بحكم الارتباط معهم بالعمل خصوصاً أنهم أرفع في الرتبة؟ الجواب: إذا كان الإنسان يعمل بعمل عسكري مثلاً نقول: إن الإنسان لا يجوز له أن يخالط من يرتكب المنكر، وإذا أكره على شيء، فالإثم على من أكرهه.
الحل لمن جلس بين أشخاص دينهم قليل:(35/27)
السؤال: مصاحبة الصالحين لا شك أنها طيبة؛ لكن الشخص قد يضطر أن يكون بين أشخاص دينهم قليل، فمنهم من يتكلم بالغيبة والنميمة والقصص الغرامية وغير ذلك، والعمل يُحتم عليك أن تقعد بينهم؟ الجواب: أول شيء إذا تحتم عليك أن تقعد معهم أن تنشغل بذكر الله. ثانياً: لابد أن تكون كارهاً لهذا العمل في نفسك. ثالثاً: يجب عليك أن تحاول التغيير، فتنصح وتتكلم وتُشغل المجلس بأمور طيبة.
زملائي في العمل ليسوا بصالحين:
السؤال: لدي زملاء خارج العمل صالحون نذهب بعض الأحيان مع بعض، ولكن الزملاء في العمل ليسوا صالحين هل أجلس معهم أم ماذا أفعل؟ الجواب: افرض أن طالباً قال: كل الذين عندي في الفصل غير ملتزمين بالدين، نقول: على الأقل في الفسحة أو في أوقات الفراغ أن تذهب وتختلط بالناس الطيبين لتزيل صدأ قلبك.
أخي أخرج عني الزكاة بعد الاتفاق دون أن أعطيه نقوداً:
السؤال: اتفقت مع أخي على أن نجعل زكاتنا سوياً، فاشتراها وأخرجها لكنني نسيت أن أعطيه فلوساً؟ الجواب: لا حرج عليك، أنت وكلته بإخراج زكاة الفطر فهو أخرجها، بقي عليك أن تسدد له ولو سددت له بعد العيد لا حرج.
رجل يجهل: رياض الصالحين .. العقيدة الطحاوية.(35/28)
السؤال: ما هو رياض الصالحين ؟ وهناك سؤال آخر عجيب يقول: ما هي العقيدة الطحاوية ؟ هل هي عقيدة إسلامية أم هي عقيدة منحرفة؟ أو هي طريقة من الطرق المنحرفة في العقيدة؟ الجواب: هذه الأسئلة يا جماعة تدل على ماذا؟ كون الواحد لا يعرف كتاب رياض الصالحين مع أن كتاب رياض الصالحين كتاب مشهور معروف، ألفه الإمام النووي رحمه الله ورتبه على أبواب منها ما هو متعلق بالعقيدة ومنها ما هو متعلق بالرقائق ومنها ما هو متعلق بالأدب ، ومنها ما هو متعلق بالأخلاق، ومنها ما هو متعلق بالفقه، فكيف يجهل إنسان مسلم مثل هذا! أو يقول: العقيدة الطحاوية هذه مثل العقيدة الأشعرية والماتريدية والمرجئة والخوارج..! هذه ألفها الإمام الطحاوي رحمه الله وكتبها وشرحها بعض الأئمة بعده، وهي في مجملها عقيدة لأهل السنة والجماعة، لا تخلو من انتقادات وأحرف يسيرة بسيطة، وقد نبه بعض أهل العلم مثل تعليقات سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز على هذه العقيدة. فنقول: كيف يغفل المسلم عن هذه الأشياء؟ هذا يدل على قلة العلم وضعف الاطلاع حتى لا يعرف الشاب رياض الصالحين ولا العقيدة الطحاوية لا يعرف هل عقيدة طيبة أو لا.
حكم قول: (هل أنتِ مسلمة؟) للمضيفات. ... ...
السؤال: هل قول "هل أنتِ مسلمة" للمضيفات في الطائرات من الشباب المسلم صحيح؟ الجواب: لا، أنا لا أرى هذا أبداً أن يمسك مضيفة ويقول لها: تعالِ هل أنت مسلمة أو لا؟ هذا فتح باب شر والعياذ بالله، ما لك ولها؟ أصلاً أنت الآن ينبغي عليك أن تبتعد عن هذه الفتنة وتغض بصرك، وإذا أردت شيئاً تطلبه من المضيف الرجل ما أمكنك ذلك، أما أن تستدعيها وتنصحها.. لا، أقصى شيء ممكن أن يقول الواحد: امرأة أجنبية أن يقول لها: تستري يا أمة الله وهو لا ينظر إليها.
محكم مجالسة الأهل والإخوان وهم على المعصية:(35/29)
السؤال: ماذا عن مجالسة الأهل والإخوان إذا كان الوالد يدخن، وينظر إلى التلفاز، والمسلسلات، والنساء المتبرجات؟ الجواب: هذا شيء موجود في المجتمع شئنا أم أبينا، ومخالطة الشاب المسلم لأناس من أهل الفسق مسألة محتومة الآن في هذا المجتمع، صعب جداً أن ينجو الإنسان بنفسه في عالم نظيف جداً إلا في حالات نادرة. ولذلك نقول: الإنسان المسلم المعتصم بالله، والذي له من الإخوة الطيبين من يزيلون عنه الغربة التي يعيشها في بيته أو في مدرسته أو مكان عمله لا شك أن وجود هؤلاء الطيبين نعمة عظيمة من الله عز وجل؛ لأن الإنسان إذا عاش في غربة فترة طويلة فقد يبدأ في التساهل في أساسيات الدين، أو يجهل أساسيات الدين.
حكم شراء الأشرطة بسعر رخيص ثم بيعها:
السؤال: كنت أشتري أشرطة في مسجد يبيع الأشرطة بسعر رخيص والربح يعود للمسجد والمكتبة، وأشتري الشريط بريالين وأبيعه بأربعة، أي هو يشتري الشريط من المسجد ويبيع؟ الجواب: إذا اشتراه من المسجد؛ فقد ملكه، فإذا ملكه؛ جاز له أن يبيعه أو يهبه أو يهديه، أو يفعل به ما يشاء، لكن الملاحظة هنا على حكم بيع الأشرطة في المساجد أنه لا يجوز، حتى لو كان عملاً خيرياً لا يجوز بيع الأشرطة في المساجد.
شخص يؤاخي شخصاً آخر ويجعل جل وقته معه:(35/30)
السؤال: ما رأيك فيمن يؤاخي شخصاً ويجعل جلّ وقته معه، ويتحمس لخدمته دون غيره ويقول: أخلاقه حسنة، ويُوجد فيمن حوله من هو أحسن منه خُلقاً، ويجعله شخصية خاصة.. فهل هذا مخطئ؟ الجواب: نعم، أنا أرى أنه مخطئ وأن أمره خطير، وأنه سيؤدي به في وقت من الأوقات إلى الوقوع في العشق المحرم؛ لأن هذا الرجل الذي عكف على هذا مع أنه يقول: إنه يوجد من حوله من هو أحسن خلقاً ومن هو أفضل منه، لكنه يتحمس لخدمته ويجعل جل وقته له معنى هذا أن الرابطة ليست لله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] فقد يكون هو وإياه من الأعداء يوم القيامة؛ لأن اجتماعهم ما كان لله ولا في الله.
حكم الذهاب إلى الأصحاب الضالين للنصيحة:
السؤال: هل يجوز أن أذهب إلى الأصحاب الضالين الذين من الواجب نصحهم، وعندما أكون معهم أحس بضعف الإيمان؟ الجواب: إذا كان الإنسان مع أناس فيهم انحرافات، فأحس بضعف الإيمان هذا شيء طبيعي؛ لأنه لا يمكن أن يحس الإنسان بقوة الإيمان وهو يرافق أناساً فيهم بعد عن الدين، لكن إذا كانت مخالطتك لهم تسبب وقوعك في منكر، أو ترك واجب مثل صلاة الجماعة، أو ارتكاب محرم مثل مشاهدة أشياء محرمة فيجب عليك أن تفارقهم.
تصرفات بعض الشباب الملتزمين غير جيدة: ... ...(35/31)
السؤال: بعض الشباب الملتزمين يعملون بعض الأعمال التي لا تكون للشاب الملتزم؛ كالمزح الشديد في الطرقات، والضحك برفع الصوت؟ الجواب: هذا لا يليق، المسلم يجب أن يمثل الإسلام في عمله، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن كثرة الضحك تميت القلب، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يقهقه ولا يرفع صوته، ولا يضحك في الطرقات بصوت مرتفع، وهناك شيء مهم عند الشباب ينبغي أن يهتموا به وهو قضية السمت النبوي والوقار، وقضية الاتزان، فكثير من الشباب تجد عنده تصرفات طائشة، أو ليس عنده اتزان في الأفعال، أو ليس عندهم سمت حسن. فحركاتهم غير متزنة، كلامهم غير متزن، ضحكهم غير متزن.. وهكذا، فهذا معناها أنهم ما انطبعوا بالأخلاق الإسلامية بشكل جيد، وإنما يحتاجون إلى مزيد من التربية؛ حتى يصلوا إلى الحد الذي يكون الإنسان عنده شخصية راسية وراسخة تعطي انطباعاً حسناً عن أهل الدين، لا انطباع خفة، يقال: هذا عقله خفيف، وتصرفاته تصرفات أطفال، هذا لا يليق أن يكون عليه الشاب المسلم.
حكم السلام على من تعرفه فقط:
السؤال: بعض الناس لا يكون منهم السلام إلا على من مثلهم؟! الجواب: السلام لله، أي: يجب أن يكون خالصاً لله، فمن أشراط الساعة أن يكون السلام فقط للمعرفة، فإن سلم على الذي يعرفه فقط فهذا غلط، ينبغي أن يكون السلام للجميع.
التردد في الإقبال على الخير والانضمام إلى صحبة صالحة:(35/32)
السؤال: بعض الناس تجد أن عنده إقبالاً على الخير ويريد أن ينضم إلى صحبة صالحة لكن تجد عنده تردداً؟ الجواب: ما هي أسباب التردد؟ لماذا يتردد الشخص في مصاحبة صحبة طيبة؟ الجواب: إما أن يكون خوفاً منه، يظن أنهم -مثلاً- أناس متزمتون، أو أناس متشددون، أو أنهم سيؤدون به إلى كارثة أو إلى عقد نفسية، ويحطمون شخصيته. ثانياً: أن الناس في كثير من الأحيان ليس عندهم جرأة على التعرف، فالسبب الذي لا يجعل بعض الشباب يدخلون في الصحبة الطيبة أنه ليس لديه جرأة على التعرف، فهو يخشى أي غريب، مع أن هذا قد يُفوت عليه خيراً كثيراً، ربما هذا الشخص الذي يخشاه ولا يجرأ أن يتعرف عليه يكون فاتحة خير عظيمة له من علم أو صلاح، أو حتى أمور تعينه في دنياه كوظيفة وزواج. فإذاً قضية التخوف من الدخول مع الناس الطيبين عقبة موجودة في كثير من العامة، ينبغي عليهم أن يتخلصوا منها. وكذلك من الأشياء: اعتقاد -مثلاً- أنهم يحرمون الضحك، يقول: الآن أدخل فمعناه أن لا ضحك، مشكلة! أنا لا يمكن أن أعيش من غير ضحك.. ومن قال لك: إنه لن يكون هناك ضحك؟ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضاحك أصحابه، ويضاحك زوجته، ويضاحك من يعاشره بالأدب الشرعي. فينبغي إزالة هذه العوائق، وينبغي على الدعاة إلى الله عز وجل أن يشرحوا هذا للناس ويقولوا لهم: ما هي العوائق؟ دعونا نذلل لكم العوائق لدخولكم في الأوساط الطيبة. أو أنه يظن أنهم سيستهزئون به أو يحتقرونه، يقول: هؤلاء الآن كلهم متدينون وأنا إنسان مبتدئ، يمكن أني أسأل سؤالاً فيستهزئون بي، أو يضحكون مني ويسخرون، ولذلك يتحمل هؤلاء الطيبون جزءاً من المسئولية في حسن استقبال الوافد إليهم.
الشروط الواجب توفرها في الداعية إلى الله عز وجل:(35/33)
السؤال: ما هي الشروط التي يجب توفرها في الداعية إلى الله عز وجل؟ الجواب: هذه كثيرة جداً فمن ذلك مثلاً: العلم الشرعي، والأخلاق، والقدوة، والسلاسة في التعامل، والانبساط، والابتسامة.
شبهة: تكثير سواد الصالحين في أماكن غير مرغوب فيها. ...
السؤال: مجموعة من الشباب الصالحين يتواجدون في أماكن غير مرغوب فيها، وعندما ننكر عليهم يقولون: نحن نريد أن نكثر سواد الصالحين ونخلف جواً إسلامياً؟ الجواب: حسناً.. هذا ادعاء طيب، لكن التطبيق قد يكون فيه خلل، فمثلاً: لو قال إنسان: نذهب إلى مدينة ملاهي ونكون جواً إسلامياً، هل هذا يليق؟ أو مثلاً: نذهب إلى مدرسة بنات نكون جواً إسلامياً.. هل هذا يليق؟ فإذاً قضية التطبيق العملي لهذه المسألة قد يكون خاطئاً. أما إذا كان هناك مجمع من الناس، وحضور أهل الخير فيه يجعل اتجاه الحديث والمجلس يتجه بشكل طيب وخيّر، هذا مطلوب تكثير السواد فيه، يؤيد بعضهم بعضاً ويساعد بعضهم بعضاً، ألم يطلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هارون؟ وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه:29-30] فالوزير والمعين مهم جداًَ في الدعوة إلى الله، يشد بعضهم بعضاً.
حاجة المسلمين إلى العلماء الشرعيين:(35/34)
السؤال: هل المسلمون اليوم في حاجة إلى العلماء الشرعيين أكثر من حاجتهم إلى العلماء التجريبيين؟ الجواب: لا شك أن حاجتهم إلى العلماء الشرعيين أكبر بكثير من حاجتهم إلى العلماء التجريبيين، في بعض البلاد مثل مصر عدد حاملي الشهادات العليا (الدكتوراه والماجستير) النسبة تفوق أمريكا ، لكن القضية الآن ليست بكثرة حملة الدكتوراه والماجستير، المسألة أولاً: قبل هذا في بناء الشخصية الإسلامية بالعلم والإيمان أحوج منها إلى الهندسة والفلك ونحوه، صحيح أن هذه القضايا الدنيوية مهمة للمجتمع الإسلامي، كيف يعيش المجتمع من غير أطباء؟ كيف يعيش المجتمع من غير خبراء في المياه؟ كيف يعيش المجتمع من غير مهندسي كهرباء يشغلون المحطات؟ كيف يعيش المجتمع من غير خبراء في الجريمة؟ فإذاً العلوم الدنيوية مهمة -ولا شك- في المجتمع الإسلامي، لكن السؤال: أيها أهم؟ لا شك أن الذين يجيبون الناس على استفتاءاتهم ويقدمون الحلول لجميع المشكلات، والذين يشرحون للناس القرآن والسنة، يحتاجهم الناس أكثر بكثير مما يحتاجون إلى المهندس وغيره من الذين يحصلون العلوم الدنيوية. ثم هناك قضية: لماذا الانفصام النكد بين العلوم الشرعية والعلوم الدنيوية؟ إما طبيب أو طالب علم؟! ألا يمكن أن يكون طبيباً وطالب علم؟ ألا يمكن أن يكون مهندساً وداعية؟ ألا يمكن أن يكون رجل أمن وناصحاً؟! فلماذا الانفصام النكد الذي يكون أحياناً في عقول البعض في التفكير في هذه القضايا؟!
انشغال طلاب العلم عن إفادة الآخرين:(35/35)
السؤال: أنا شاب أشعر أن عندي طاقة قوية في طلب العلم والدعوة إلى الله، ولكن المشكلة أنني عرضت نفسي على أكثر من واحد من طلبة العلم لكي أستفيد منهم ووجدتهم مشغولين عني، فماذا أفعل؟ الجواب: أقول: أحياناً قد يأتي شخص إلى طالب علم في وقت غير مناسب، أو ظرف غير مناسب ويقول له: أريد أن آتيك كل يوم نصف ساعة.. هذه قضية قد لا تكون ممكنة بالنسبة له، فإذاً انتقاء الفرصة المناسبة للالتقاء مسألة مهمة لكي تستفيد. ثانياً: بعض الشباب عندهم عقدة (الشيء الخاص) يقول: أريد شيئاً خاصاً، لا أريد جلسات في المسجد تعطينا فقهاً وغيره، أريد أن تشرح لي كتاباً لوحدي.. فإذا كان كل طالب علم، أو كل شيخ، أو كل عالم سيشرح الكتاب لواحد بعينه دائماً فكيف يتم هذا؟ فعقدة الخصوصية عند بعض الشباب تمنعه من الاستفادة، أي: كأنه يظن أن حلقة العلم تكون للعامة فقط، يقول: لا أريد هذا، أريد شيئاً خاصاً.. ما هذا الشيء الخاص؟ هذا الدين واضح، لا يوجد أسرار في الدين، الدين للجميع، فإذا حضرت حلقة تفسير أو حديث أو فقه أو شيء في الأخلاق أو الأدب؛ فأنت مستفيد جداً. ثم بعض الشباب لا يقيمون وزناً للكتب يقول: هذا تفسير ابن كثير اطلعنا فيه وانتهينا. مع أنه -صدقني- لم يقرأه مرة واحدة، بل ولا مجلد ولا ربع التفسير ، فهؤلاء الذين يستخفون بالكتب يقولون: نحن لا نريد تفسير ابن كثير نريد تفاسير مثل: تفسير الخازن و الكشاف و البحر المحيط وأعطنا من هذه التفاسير غير المعروفة.. حسناً، يمكن تفسير ابن كثير أبرك وأنفع، وأحسن وأرجى، وأفهم وأقبل للفهم أكثر من الأشياء التي أنت تطلبها. ثم إن طلب العلم بالجماعة فيه بركة، ولذلك ما هو منهج السلف في طلب العلم؟ هل يخصصون لكل طالب شيخاً؟ هل المسألة دروس خصوصية؟! طلب العلم بالحلق وبالمدارسة، تعلم الأدب والعلم بالمجموعات، هكذا كان يفعل السلف ، هذه حلقة سفيان ، هذه حلقة الحسن ، هذه حلقة الأوزاعي ، هذه حلقة سعيد .(35/36)
بعد ذلك كونه يوجد عندك أسئلة خاصة بك هذه قضايا طارئة، من الممكن أن تأتي في عشر دقائق أو في ربع ساعة أو نصف ساعة أحياناً تحلها وتنتهي، ولا تحتاج المسألة إلى ترتيب موعد دوري من أجلها. فأنا أقول: إن طلب الخصوصية يحطم كثيراً من الشباب في مسألة طلب العلم، نعم بعض العلماء يختصون بعض الطلبة بشيء في البيت، نعرف بعض العلماء -مثلاً- عندهم في البيت حلقة خاصة لكبار الطلبة الذين يشرح لهم أشياء صعبة مثلاً، هذا موجود عند علمائنا، لكن كثيراً من الشباب الذين يزعمون أنفسهم في هذه الدرجة يقولون: هذه حلقات المساجد نحن الآن أكبر من هذا المستوى، هم في الحقيقة ليسوا أكبر من هذا المستوى، ولكن يعظمون أنفسهم ويتعالون على أشياء فيها نفع كبير لهم، لكن قضية الأنا هي التي أودت بهم المهالك.
حكم مصاحبة أهل البدع: ... ...
السؤال: هل يجوز مصاحبة أهل البدعة؟ الجواب: كلا والله.
داء الحزبيات المتفشية بين الشباب:(35/37)
السؤال: ذكرت وجوب توحد الشباب الصالح، ولكن من خلال معرفتي بأنواع من الشباب لا أجد فيهم حب التوحد والجماعة، فهذا يكره هذا، ولا يرتاح مع هذا، ولكن اكتشفت بعد فترة أن السبب هو هذه الحزبيات المتفشية والموجودة بينهم التي تزرع الأحقاد، وتخلف التعصب، فكيف يتخلص من هذا الداء الذي انتشر بين الشباب؟ الجواب: هذه قضية مهمة ولا شك، بعض الناس يتعصبون للجنس، بعض الشباب يتعصبون للبلد، بعض الناس يتعصبون للغة، بعض الناس يتعصبون للمهنة، فالطبيب لا يخالط إلا أطباء، والمهندس لا يخالط إلا مهندسين، والمدرس لا يخالط إلى مدرسين، وبعض الناس يتعصبون للقبيلة، وبعض الناس يتعصبون لتجمع فكري أو دعوي.. التعصب هذا كله حرام إلا التعصب للحق فقط، فإذا كان أي نوع من أنواع الانتماء فوق الانتماء الشرعي فهو حرام، فلو كان انتماء إلى أي مجتمع من المجتمعات يجعل تقطع الروابط الأخوية سبباً؛ فإنه خلل يجب أن يُسعى إلى تغييره. ثم إنه قد تدعو المصلحة الدعوية إلى أنه يتخصص أناس في أمر العلم في نشره، وفي الناس من عنده خبرة في الوعظ، ومن الناس من عنده خبرة في الجهاد... والأمة الإسلامية تحتاج إلى طاقات في مجالات مختلفة، لا يمنع التخصص، لكن التخصص شيء، والتنافر والتخالف والتحارب والتعادي شيء آخر، فلا يمنع أن يكون هناك مجموعة تشتغل بشأن الجهاد، ومجموعة تشتغل بشأن التعليم، ومجموعة تشتغل بشأن إنكار المنكرات.. هذا لا يمنع، لكن هؤلاء هم مسلمون، أمة واحدة: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ [الحج:78] إبراهيم سماهم أمة واحدة، فلا يصلح أن يكون التخصص سبباً للعداء أو التنافر. ولذلك نقول: لابد من تصفية النفوس أولاً بدراسة قضايا سلامة الصدر، موضوع سلامة الصدر من المواضيع غير المطروقة مع الأسف في كثير من الأوساط الإسلامية، مثل الصحابي الذي كان يبيت وليس في صدره شيء على أحد من المسلمين، هذا الرجل(35/38)
ينبغي أن يكون قدوة لنا في هذه المسألة. ثم لابد من علم شرعي لتعرف الهامش المسموح به من الخلاف، يمكن أن أختلف معك في وجهة نظر، لكن لا يمكن أن أختلف معك في المعتقد، إذا اختلفنا في المعتقد فأحدنا ضال، لكن ما هو الهامش المسموح به من الاختلاف؟ ما هي الأشياء الاجتهادية وما هي الأصول؟ هذه قضايا غير واضحة بالنسبة لكثير من الشباب، وينتج بناءً عليها مفاصلات، مفاصلات على قضايا جزئية لا يجب أن يفاصل فيها، فقد تجد أحدهم مثلاً يفاصل الآخر لأنه يلبس بنطلوناً، فإذا لبس بنطلوناً واسعاً وغير مسبل ماذا يعني؟ أو واحد يفاصل آخر لأنه مثلاً يفعل شيئاً في الصلاة بخلاف فعله، ولا يجوز ذلك، وليس هذا موضع مفاصلة، الولاء للمسلمين أكبر من قضية مفاصلته على مسألة من المستحبات، حتى لو فعل منكراً من المنكرات فإنه ينصح، فمعرفة نقاط الالتقاء والافتراق في منهج أهل السنة والجماعة من المواضيع الأصلية. فإذاً هناك قضيتان لحل المشكلة: قضية تتعلق بالأخلاق والآداب التي هي سلامة الصدر، وقضية تتعلق بمنهج العلم الشرعي والتي هي دراسة نقاط مواضع الافتراق والاختلاف في منهج أهل السنة والجماعة.
نصيحة لشاب يجالس الصديق الصالح والصديق السيئ:
السؤال: بماذا تنصح الشاب الذي يجالس الصديق الصالح والصديق السوء؟ الجواب: نقول: هذا الرجل يعاني من نوع من النفاق أو الازدواجية، وينبغي عليه أن يطهر وقته وصداقاته من الناس السيئين؛ لأنه ليس من الشريعة في شيء أن يبني قصوراً من الحسنات مع أناس، ثم يذهب إلى آخرين فيهدمها في لحظات.
واجبنا تجاه إخواننا المسلمين في العالم: ... ...(35/39)
السؤال: هل نحن مذنبون تجاه إخواننا المسلمين في العالم الذين يتعرضون للقتل والجوع والتنصير والسجون، ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئاً؟ الجواب: لا تأثم إذا كنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن إذا كنت تستطيع أن تفعل شيئاً ولو بالدعاء فلماذا لا تفعل!
ملتزم مبتلى بحب مشاهدة مباريات كرة القدم:
السؤال: شاب ملتزم -نحسبه والله حسيبه- حريصاً وخيراً ومرتبطاً ببيئة صالحة؛ لكن -عافانا الله وإياكم- مبتلى بحب مشاهدة مباريات كرة القدم التي كان عليها في ماضيه قبل التزامه، ما هي الوسائل المناسبة للعلاج؟ الجواب: إن عدم التخلص من رواسب الجاهلية هي من المشاكل التي تواجه كثيراً من الشباب الذين سلكوا مشوار التدين، ألم يقل مفكرو الإسلام ودعاة الإسلام: إن المسلم ينبغي أن يخلع على عتبة الإسلام جميع أردية الجاهلية؟ فالاهتمام ومتابعة مباريات كرة القدم بالتفصيل من أردية الجاهلية، فكيف يدخل هذا عالم الالتزام بالإسلام ولا زال يرتدي شيئاً من أردية الجاهلية؟ إذاً ينبغي عليه أن يخلع هذه. ثانياً: إن عدم الإحساس بالمسئوليات الملقاة على عاتق الشخص هو الذي يجعله يشتغل بهذه الترهات، فالشخص الذي لا يشعر بأهمية العلم الشرعي، أو أهمية الدعوة إلى الله، وأهمية التربية، وأهمية الجهاد، وأهمية إنكار المنكر، وأهمية نصرة المظلومين من المسلمين في العالم، وجمع المساعدات لهم، الذي لا يحس أن الأمة فيها مآسٍ وثغرات كثيرة، الذي لا يحس أنه على ثغرة من هذه الثغرات لا شك أنه سيجري وراء كرة القدم ولا شك في ذلك، هذه نتيجة طبيعية. بعض الأشخاص يلتبس عليهم مفهوم "اللهو" ومفهوم "روحوا عن القلوب ساعة وساعة" صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل لهو محرم إلا ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه ولده، وسياسة الفرس، والسباحة) أو كما ورد بمعناه في الحديث الصحيح، الإنسان كونه ينشغل بمضاحكة أهله، أو بملاعبه ولده، أو سياسة فرسه،(35/40)
أو تعلم شيء ينفعه مثلاً كالسباحة أو كالرماية هذه قضايا ليست من اللهو المحرم، فكون الإنسان يبقى في حلق العلم وفي الدعوة دائماً يتعب، فهو ينتقل إلى ممازحة الأهل وملاطفة الأولاد، وتعلم شيء من الهوايات التي تقوي البدن كالسباحة أو الرماية، أو خبرة يكتسبها في الحياة، أو أي شيء يتعلق بتصليح سيارة مثلاً فهذه أشياء جيدة. لكن أي شيء يفيده من متابعة كرة القدم؟ لا شيء إلا الشعور باللذة حينما تلج الكرة الشباك وفي أي زاوية تدخل، ومن بين أي مدافعين تمرق، وتحت أي رجلين تخترق، وهذه هي المسألة، وإلا فليس هناك فائدة واضحة من مشاهدة مباراة كرة القدم إلا حرق الأعصاب، وتضييع الأوقات، والتعصب للجاهلية والأندية الجاهلية.
الحنين إلى المعاصي في الماضي:(35/41)
السؤال: من المشاكل التي تواجه الشاب الملتزم بعد ارتباطه بإخوة طيبين الحنين إلى الماضي، أي الحنين إلى المعصية التي كان مصراً عليها في الماضي، ثم منّ الله عليه فتركه بعد التزامه وارتباطه بهذه الصحبة الطيبة، فهل على الشخص إذا التزم أن يقطع أو يتناسى هذا الحنين؟ أم أنه لا خطر من هذا الحنين إذا لم يؤد به إلى الوقوع في المعصية؟ الجواب: هذا الحنين دافع شيطاني، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فقد لا يملك الإنسان أن يتخلى عن جميع الفكر التي يفكر بها في ماضيه، لكن قد يشعر أحياناً بشيء من الانجذاب، فينبغي أن يعالج مسألة التمني، فرق أن يخطر ببالك معصية كنت تفعلها في الماضي، أو شخصاً تقارف معه معصية، وبين أن تتمنى الآن أن تكون معه لمقارفة المعصية؛ لأن التمني من أعمال القلوب، والتمني خطير، فينبغي أن ينتبه الإنسان إلى قضية التفريق بين الخاطر الذي لا يؤاخذ عليه وبين التمني، فمشكلة كثير من الشباب أنه الآن التزم بالإسلام لكنه يتمنى في قرارة نفسه أحياناً أن يواقع معصية من المعاصي، يقول لك: إذا التزمنا وأصبحنا مع الشباب الطيبين لا نستطيع أن نذهب إلى تلك الأجواء، صارت المسألة الآن إحراج؛ كيف نذهب إلى هناك ونحن..! فهو إذاً يتمنى، وهذه قضية خطيرة، فإذا كان في المسألة خواطر فلا يأثم عليها إن شاء الله لأن هذا حديث النفس، لكن إذا تطور إلى أمنيات وإصرار وتخطيط لكن لم يتهيأ له؛ فهذا تخطيط عمل يأثم به.
كيفية الانضمام إلى الصالحين:
السؤال: أين الصالحون؟ وكيف يمكن الانضمام إليهم؟ الجواب: إنهم موجودون ومن مظان وجودهم المساجد، وكيف يمكن الذهاب إليهم؟ لا شك أنه لا بد من إسقاط حاجز الخوف من مصاحبتهم، والتعرف عليهم، ثم إنك لست مطالباً بالانخداع بالمظاهر، وأي واحد يظهر عليه الخير تذهب معه، ولا بد أن تختبره وتبتليه قبل أن تصاحبه.
نصيحة للذين يراسلون الإذاعات الأجنبية:(35/42)
السؤال: عندما يسمع الإنسان اسمه في المذياع يحس بالنشوة؛ لأنه منبوذ في المجتمع وأقرب المقربين إليه، فما هي نصيحتك للمجتمع في احتضان هؤلاء الذين يراسلون الإذاعات الأجنبية؟ الجواب: إذا كان الإنسان يعتقد بعقيدة الولاء والبراء فكيف يوالي أعداء الله؟! فكيف يوالي أناساً يتكلمون في هدم الشريعة، ويثيرون شبهات حول الإسلام؟ كيف يراسلهم؟!!
فراغ العمل من الصالحين: ...
السؤال: إذا كان العمل الذي تؤمن منه رزقك اليومي لا يوجد فيه أحد من الصالحين بل يكاد يخلو منهم، أكثرهم من العامة الذين لا يكادون يذكرون الله إلا من رحم ربي، فماذا نفعل؟ الجواب: إننا في كثير من الأحيان نلقي باللوم على غيرنا ونقول: الوسط هذا تعبان، الوسط هذا سيئ، لا خلاف.. لكن ماذا فعلت أنت لتعديل الوضع؟ اسأل نفسك وحاسبها، ماذا فعلت لإصلاح الوضع؟ ماذا فعلت لاجتناب المنكر؟ ماذا فعلت لنشر الخير؟ هل فعلت شيئاً؟ قبل أن تلعن الظلام أوقد شمعة، فما هي شمعة الخير التي أوقدتها من أجل الآخرين قبل أن تقع فيهم؟ فإذاً أنا أقول: إذا فكرنا من وجهة النظر الإيجابية في تغيير الأوضاع ربما تجد أعواناً لك على الخير في هذا المكان، والأمة فيها خير ولا شك.
فضل حفظ القرآن: ... ...(35/43)
السؤال: لماذا لا يكون عنوان الدرس القادم "أهمية حفظ كتاب الله" و"التحزبات التي تواجه الشباب" في الدرس الذي بعده؟ الجواب: هذه قضايا قد لا تكون هي لوحدها مجالاً لمحاضرة كاملة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا جُمع القرآن في إهاب لم يحرقه الله بالنار) أي: أن هذه من فضيلة حفظ القرآن أن الإنسان إذا حفظ القرآن؛ فإن الله عز وجل لا يحرق بالنار جسداً جُمع فيه القرآن، فهذا من فضيلة حفظة كتاب الله عز وجل: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]. عند الدفن من الذي يقدم؟ إذا كان هناك عدة موتى الآن نريد أن ندفنهم أول واحد نقدم منهم أحفظهم لكتاب الله، كان يسأل في غزوة أحد عن القوم إذا اجتمع اثنان في الدفن في قبر واحد لأن المسلمين منهكون بالجراحات، فيصعب عليهم حفر قبر لكل واحد، فقال الرسول: ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، عمقوا ووسعوا، ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وكان إذا أراد أن يدفن سأل أيهم أكثر قرآناً فقدمه. ويؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإذاً حفظ القرآن فيه ميزة عظيمة، كيف لا وأنت تستطيع أن تستشهد به في المجالس، وتدعو به إلى الله؟ والله يقول عن القرآن: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52] أي بالقرآن، ونحن أحياناً نأتي بكلام من عندنا مع أن كلام الله عز وجل أشد تأثيراً وأعمق في النفس، لكن نغفل عن قضية الاستشهاد بآيات الكتاب العزيز لأسباب منها: عدم حفظها، كيف تستشهد بها وأنت لا تحفظ؟!
الإلتزام بالإسلام من دون مصاحبة الصالحين:(35/44)
السؤال: من لا يصاحب الصالحين ينحرف ويفعل المعاصي، هل يمكن للإنسان أن يلتزم بالإسلام من دون مصاحبة الصالحين؟ الجواب: نظرياً ممكن للإنسان أن يلتزم بالإسلام من غير مصاحبة الصالحين، لكن كيف يُكمل المشوار، وكثير من تشريعات الإسلام جماعية: يا أيها الذين آمنوا، يا أيها الذين آمنوا... فكيف يمكن أن يكمل الشريعة وكيف له أن يحيا الحياة الإسلامية وحيداً؟ كيف يتعلم التضحية والإيثار من غير أن يكون مع مجموعة من الناس الصالحين؟ كيف يتعلم؟ وممن يتعلم؟ لابد أن يكون هناك إنسان يعلمه.
الواجب تجاه أصحاب الوجهين:
السؤال: أنا في إحدى المكتبات في المساجد، ويوجد فيها طلاب صالحون والعكس فهناك طلاب غير صالحين ويعتبرون من أصحاب الوجهين، ويعتقد أستاذ المكتبة أنهم صالحون، فماذا يجب عليّ؟ الجواب: عليك أن تنصحهم، فإذا لم يتغيروا؛ فلا بأس أن تقول لهذا الأستاذ: إن أناساً فيهم الأمراض الفلانية.. لا للغيبة ولا للنميمة، لكن لكي يجد وسيلة هو يساعدهم بالإصلاح.
حكم من لم يستطع الجهاد لمانع شرعي:
السؤال: إذا أراد المسلم أن يجاهد بنفسه، ثم كانت هناك أشياء تعيقه مثل عدم موافقة أبيه، أو كونه وصياً على أيتام، هل يبلغ مراتب الشهداء؟ الجواب: يُرجى أن يكون له أجر الجهاد إذا منعه عن الجهاد طاعة أوجب منه.
إعطاء الفقير مالاً لا يكفيه: ... ...
السؤال: ما رأيك فيمن قال: لا تعطي المحتاج الفقير مبلغاً كبيراً يغنيه، بل أعطه القليل حتى يبقى دائماً في حاجتك ولا يستغني عنك؟ الجواب: هذا شيء سيء، المال مال الله، أنت الآن تعطيه لله لا تعطيه لكي تلفت إليك الأنظار، والناس يأتون إليك، ويحومون حولك، ويطرقون بابك، ويناشدونك ويلتمسون منك.. لا، فالعلماء قالوا: يُعطى الفقير نفقة سنة حتى يحين موعد الزكاة التي بعدها.
الامتناع عن الزوج لشربه الخمر:(35/45)
السؤال: هل لزوجة شارب الخمر أن تمتنع منه إذا دعاها للفراش؟ الجواب: نعم، لها أن تمتنع منه وتطالبه بالتطهر.
حكم من وضع ولد الزنا في حمامات عامة لا مطروقة ولا مهجورة وذهب:
السؤال: رجل أخذ ولد زنا ووضعه في حمامات عامة لا مطروقة ولا مهجورة، وذهب، وبعد سنوات رآه في المنام يقول له: ضيعك الله كما ضيعتني (ثلاث ليال متوالية) فماذا عليه؟ الجواب: هذا رجل عليه أشياء كثيرة: يتوب إلى الله، ويكفر عن المعصية، ويعمل طاعات كثيرة، وقد أجاب الشيخ عبد العزيز بالنسبة للكفارة قال: عليه التوبة فقط لأن وفاة الولد غير متحققة، يحتمل أنه التقطه أحد ويحتمل أنه ما التقطه، فبما أن الوفاة غير متحققة فلا يلزم الكفارة، لكن عليه أن يتوب إلى الله توبة عظيمة؛ لأن هذه نفس نفخ فيها الروح ولها الحق في الحياة، وليس ذنبه أنه ولد زنا فيموت ويخنق ويرمى في الزبالة، فبعد أن نفخت فيه الروح يتحمل مسئوليته الذي أنجبه.
حكم التبول وانغماس الجنب في الماء الذي في البانيو:
السؤال: هذا سؤال عرض لنا في درس الفقه، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التبول في الماء الدائم، ونهى عن دخول الجنب للماء الدائم الذي لا يجري، فالماء الذي في البانيو الذي في الحمامات اليوم إذا وضع فيه السدادة أو البركة ماذا يكون حكمها؟ الجواب: جواب الشيخ عبد العزيز : حكمها حكم الماء الدائم، لا يجوز التبول فيها ولا الانغماس للجنب فيها، فإذا نزعت السدادة صار حكمها حكم الماء الجاري، فلو كان الماء ينزل عليه والبلاعة تشفط الماء فيعتبر أن هذا الماء جارٍ، فلو أنه دخل فيه وهو جنب فلا يضر ولا بأس بذلك، أو حصل به حاجة للتبول فتبول لا بأس، أما الماء المحصور في حوض أو مكان معين لا يجري فإنه لا يجوز التبول فيه ولا الدخول فيه وهو جنب.
حكم المباهلة في الأمور غير المستحقة:(35/46)
السؤال: ما رأيك فيما يفعله كثير من الناس والشباب حينما يختلفون يعمدون إلى المباهلة؟ الجواب: المباهلة ما هي؟ اثنان متخالفان يقولان: لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين، وذاك يقول: لعنة الله عليّ إن كنت من الكاذبين، أو غضب الله عليّ، أو أهلكني الله إذا كنت كاذباً.. يدعو على نفسه بالهلاك إذا كان كاذباً، هل هذه تُفعل لأي شيء ولأبسط الأشياء؟ أي: أنهم اختلفوا هذه سيارة فلان أو سيارة فلان قال: تعال نتباهل، فهذه من المصائب أن ينزلوا إلى هذه الدرجة، وأما المباهلة فقد قال الله عز وجل: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ [آل عمران:61] فإذاً هذه مع أهل الكتاب يجعل لعنة الله على الظالم فيهم وعلى الكاذب فيهم، بيننا وبين أهل الكتاب نبتهل، وليس بين مسلمين على شيء تافه يقولون: تعال نتباهل..!
حكم مساعدتي لأبي مع الإحراج:
السؤال: أنا أب عائلة وأساعد أبي المتزوج من امرأتين مادياً إلى درجة أني أُحْرج؟ الجواب: يجب عليك أن تساعد أباك المحتاج بشرط ألا تضر بنفسك، فإذا وصل الأمر إلى ضررٍ في نفسك؛ فليس عليك المساعدة في ما لا تطيقه.
كفارة اليمين:
السؤال: زوجتي كانت غضبى وأنا أريد أن أخرج من البيت، فحلفت علي ألا أخرج وخرجت، هل يجب عليها الكفارة؟ الجواب: نعم، إذا حلفت ألا تخرج ثم خرجت فعليها الكفارة. يتبع السؤال: ما هو الترتيب؟ الجواب: أولاً: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، فثلاثة على التخيير والثانية على الترتيب -والتي هي الرابعة- وهي الصيام لا يجوز أن ينتقل إلى الصيام وهو يستطيع واحدة من الثلاث التي قبله. يتبع السؤال: علماً أنها كررت اليمين أكثر من مرة؟ الجواب: من كرر اليمين على شيء واحد فعليه كفارة واحدة.
حكم تقديم الإمام لرجل ليس بالأقرأ:(35/47)
السؤال: إذا نوَّب الإمام رجلاً ليس بالأقرأ فهل يقدم عليه الأقرأ؟ الجواب: الإمام ولي أمر في المكان الذي هو فيه، الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (ولا يؤم الرجل رجلاً في سلطانه) فإذاً الإمام في المسجد هو ولي أمر، فإذا عين أحداً فلا يصلح التقدم على النائب الذي عينه ولي أمر المسجد وهو الإمام، فإذا كان هذا إمام معروف، فإذا نوب شخصاً فيلتزم بالنائب ولا يتعدى عليه.
قراءة الكتب دون الخروج بالفائدة:
السؤال: أقرأ الكتب ولا أخرج بفائدة. أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب: سبق وأن ذكرنا في محاضرة "كيف تقرأ كتاباً" نماذج أو أشياء مما يساعد في حفظ المعلومات؛ منها: تلخيص الكتاب، وضع خطوط تحت النقاط المهمة، ترقيم المعلومات، وضع فهرس دقيق، إعادة قراءة الكتاب أكثر من مرة، إلقاؤه وتقديمه للآخرين. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(35/48)
( سلسلة رسائل أهل العلم، الرسالة الأولى، الرسالة التبوكية )
عناصر الموضوع :
الرسالة التبوكية وموضوعها وتاريخها وسببها
ترجمة الإمام ابن القيم رحمه الله
سبب تأليف الرسالة التبوكية وما تضمنته
الهجرة إلى الله ورسوله
الهجرة إلى رسول الله
كيفية حبنا للرسول صلى الله عليه وسلم
أطفال المؤمنين يلحقون بآبائهم في الجنة
زاد السفر إلى الله وطريقه ومركبه
التفكر في آيات الله والتدبر في كتابه الكريم
الرفيق والطريق
سلسلة رسائل أهل العلم، الرسالة الأولى، الرسالة التبوكية:
إن رسالة ابن القيم رحمه الله المسماة: الرسالة التبوكية، هي كما قال، ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات؛ علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى، وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهو الذي قصد مسطرها بكتابها، وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم. وقد شرحها الشيخ حفظه الله شرحاً موجزاً مفيداً، فجزاه الله خيراً.
الرسالة التبوكية وموضوعها وتاريخها وسببها:(36/1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد: ففي هذه السلسلة من رسائل أهل العلم، سنستعرض -بمشيئة الله تعالى- عدداً من رسائلهم، مع ذكر طرف من سيرة المؤلف، وبعض ما احتوته هذه الرسائل من النفائس والعلم، ولاشك أن الاطلاع على رسائل أهل العلم مما يزيد الإنسان فقهاً ونظراً وبصيرة؛ لأن رسائلهم كالمنائر، يستنير بها الإنسان في ظلمات الدجا، الذي يغشى الواقع، ويتبصر على ضوئها بما حوله، ويعرف كيف يعبد ربه، وهذه الرسالة التي سنستعرضها في هذه الليلة -بمشيئة الله تعالى- هي الرسالة التبوكية ، للعالم الرباني، وشيخ الإسلام الثاني، الإمام ابن القيم رحمه الله، وقد سُميت بالرسالة التبوكية؛ لأنه سيرها من تبوك ثامن المحرم، سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة للهجرة. وقد قال في ذكر أهميتها: (ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات؛ علم أنها من أهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى، وسفر الهجرة إلى الله ورسوله، وهو الذي قصد مسطرها بكتابتها، وجعلها هديته المعجلة السابقة إلى أصحابه ورفقائه في طلب العلم...) وقال: ( ... وإنما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل إلى أخيه المسلم ). هذا موضوع الرسالة، والمكان الذي أرسلت منه الرسالة والتاريخ، والسبب الباعث على ذلك.
ترجمة الإمام ابن القيم رحمه الله: ... ...(36/2)
أما ترجمة المؤلف رحمه الله، فإنه: أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي زين الدين الزرعي ، ثم الدمشقي ، الشهير بابن قيم الجوزية ، ونسبته إلى زَرْع، وهي قرية من قرى حوران ، المكان المعروف في بلاد سوريا الآن، وهي من نواحي دمشق . وقد ولد -رحمه الله- في السابع من شهر صفر، سنة ستمائة وإحدى وتسعين للهجرة، وقد اشتهر أبوه بلقب: قيم الجوزية ؛ لأنه كان ناظراً ومشرفاً وقيماً على المدرسة الجوزية بدمشق مدةً من الزمن، والجوزية اسم المدرسة التي أنشأها وأوقفها أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله، ويقال: ابن القيم على سبيل الاختصار، واشتهر أبوه -رحمه الله- وأخوه وابن أخيه بالعلم والفضل، ونشأ رحمه الله تعالى في بيئة طيبة، وعائلة وأسرة كريمة.
ابن القيم.. وطلبه للعلم:
وكان قد تلقى علمه منذ بداية أمره على الشهاب النابلسي ، والقاضي تقي الدين بن سليمان ، و أبو بكر بن عبد الدائم ، وعدد من أهل العلم، وقرأ العربية والفقه على المجد الحراني ابن تيمية ، وقرأ الأصول على الصفي الهندي وكذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولازمه ملازمة تامة منذ أن قدم من الديار المصرية في سنة (712هـ) إلى أن مات ابن تيمية -رحمه الله- سنة (728هـ). وكان والد ابن القيم -رحمه الله- له علم واسع في الحساب والفرائض، ولذلك أخذه ولده عنه، ولما تم تحصيله، وأصبح لديه ملكة كبيرة، صار بعد ذلك يقرأ بنفسه ويطلع وينهم ويتصدى بعد ذلك للتدريس والإفتاء والتأليف.
أولاد ابن القيم:
للإمام ابن القيم أولاد، ومنهم: عبد الله ، كانت ولادته سنة (723هـ)، ووفاته سنة (756هـ)، وكان مفرطاً في الذكاء، أنه حتى حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة (731هـ)، أي: أنه كان في التاسعة من عمره تقريباً، وأثنى عليه بأمور، وكذلك ابنه إبراهيم كان علامة نحوياً فقيهاً.
العلوم التي برع فيها ابن القيم:(36/3)
وأما العلوم التي برع فيها ابن القيم -رحمه الله- فإنها كثيرة جداً، فهي تكاد تكون علوم الشريعة بأكملها، وعلوم الآلة والتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول الفقه واللغة والنحو.. وغير ذلك. قال ابن رجب واصفاً شيخه ابن القيم: "تفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفاً بالتفسير، وأصول الدين لا يجارى، وإليه فيها المنتهى، والحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط لا يُلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية وله فيها اليد الطولى.. وغير ذلك". وقال ابن كثير رحمه الله في وصفه: "سمع الحديث، واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة، ولا سيما علم التفسير والحديث، ولما عاد شيخ الإسلام ابن تيمية من الديار المصرية سنة (721هـ)؛ لازمه إلى أن مات الشيخ، فأخذ عنه علماً جماً مع ما سلف له من الاشتغال، فصار فريداً في بابه في فنون كثيرة". وقال الذهبي رحمه الله: "عُني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره". وقال ابن حجر: "كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف ، ومن الأشياء التي حصلت له مناظرة مع أكبر من يشار إليه بالعلم عند اليهود، جرت له مناظرة معه بمصر".
مجاورة ابن القيم: ...(36/4)
وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- قد حج مرات كثيرة، وجاور بمكة ، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يُتعجب منه، وألف كتابه: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ، مدة إقامته بمكة ، بما فتح الله عليه .. يقول: "وكان هذا من بعض النُزْول والفتح التي فتح الله بها عليّ حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً، فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله، وأصبح ببابه مقيماً، وبحماه نزيلاً". ومن الأشياء التي حصلت له بمكة : أنه مرض مرضاً شديداً استعصى على الأطباء، فقال: لقد أصابني أيام مقامي في مكة أسقام مختلفة، ولا طبيب ولا أدوية كما في غيرها من المدن، فكنت أستشفي بالعسل وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً. وقال في هذا المرض الذي انقطعت فيه حركته، وحصل له فيه شيء من الألم كثير: "إنه كان يقرأ على ماء زمزم الفاتحة ويشرب، فحصل له شفاء لم يحصل له على يد الأطباء".
مؤلفات الإمام ابن القيم:(36/5)
لقد ألف كتبه في أحوال، منها: أحوال الغربة والسفر، كما ألف كتاب مفتاح دار السعادة ، وكذلك كتاب زاد المعاد ، ألفه في حال السفر لا الإقامة، والخاطر متفرق، والقلب في كل وادٍ منه شعبة، كما وصف رحمه الله. وكان شديد المحبة للكتب، وجمع كتباً لم يتهيأ لغيره -كما يقول ابن كثير - عشر معشار ما اجتمع عنده -رحمه الله- من كتب السلف والخلف، كان مغرماً بجمعها، وحصل ما لا يحصى، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً، سوى ما اصطفوه لأنفسهم، وكان لا يبخل -رحمه الله- في إعارتها. وقد تولى الإمامة بالجوزية، والتدريس في الصدرية -أسماء مدارس- وتصدى للفتوى والتأليف، وقد سجن بسبب بعض الفتاوى، كفتواه في الطلاق الثلاث بلفظ واحد، التي تابع فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وعامة أهل الأرض مطبقون على أن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع ثلاثاً، كما هو قول أهل المذاهب الأربعة. وكذلك حصل له أذى بسبب تأليفه رسالة إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل، وتابع فيها شيخ الإسلام رحمه الله، المتابع لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، في مسائل التوسل، ومقاومة أنواع الشرك.
حسن خلق ابن القيم وتواضعه:
كان ابن القيم حسن القراءة، كثير التودد، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يحقد على أحد، وكان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله، وكان ذا خلق عظيم رحمه الله تعالى. ومن خلقه: تواضعه الذي يظهر في أشياء كثيرة من كتبه، ومن ذلك: قصيدة يظهر فيها تواضعه أنشدها لبعض طلابه، وهو العلامة الصفدي رحمه الله، يقول ابن القيم عن نفسه في هذه القصيدة:
بُني أبي بكر كثير ذنوبه فليـ ... س على من نال من عرضه إثم
بُني أبي بكر جهول بنفسه ... جهول بأمر الله أنى له العلم
بُني أبي بكر غدا متصدراً ... يعلم علماً وهو ليس له علم
بُني أبي بكر غدا متمنياً ... وصال المعالي والذنوب له هم
بُني أبي بكر يروم ترقياً ... إلى جنة المأوى وليس له عزم(36/6)
بُني أبي بكر لقد خاب سعيـ ... ـه إذا لم يكن في الصالحات له سهم
بُني أبي بكر لما قال ربه ... هلوع كنود وصفه الجهل والظلم
فو الله لو أن الصحابة شا ... هدوا أفاضلهم هم الصم والبكم
هذا ما وصف به حاله -رحمه الله- وتواضعه، مع أنه كان ذا عبادة شديدة، وكان ذا تأله وتهجد واستغفار بالأسحار، وافتقار إلى الله عز وجل، وطول قيام، وحج مرات كثيرة، حتى قال ابن كثير رحمه الله: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقة في الصلاة يُطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان، فلا يرجع ولا ينزع عن ذلك رحمه الله، وكان إذا صلى الصبح جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، ويقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي. وهذه عبارة مشابهة للعبارة التي جاءت عن شيخه في هذه المسألة، وهي القعود من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، ثم الصلاة ركعتين، حتى يتعالى النهار، ومن عباراته المشهورة: "بالصبر والفقه تنال الإمامة في الدين".
ملازمة ابن القيم لابن تيمية وتأثره به: ...
وأما تأثره بابن تيمية رحمه الله فكان تأثراً شديداً جداً، فإنه التقى به سنة (712هـ)للهجرة، ولازمه إلى سنة (728هـ)، إلى أن توفي رحمه الله تعالى، وهو الذي كانت هدايته على يديه، ويصف توبته على يد شيخه بقوله:
يا قوم والله العظيم نصيحـ ... ... تي من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت فـ ... ... ي تلك الشباك وكنت ذا طيران
مثل علم المنطق والكلام والفلسفة وغير ذلك ..
حتى أتاح لي الإله بفضله ... ... ومن ليس تجزيه يدي ولساني
فتى أتى من أرض حران ... ... فيا أهلاً بمن قد جاء من حران
فالله يجزيه الذي هو أهله ... ... من جنة المأوى مع الرضوان
أخذت يداه يدي وسار فلم ... ... يرم حتى أراني مطلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها ... ... نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثاراً عظيماً شأنها ... محجوبة عن زمرة العميان(36/7)
ووردت كأس الماء أبيض ... صافياً حصباؤه كلآلئ التيجان
ورأيت أكواباً هناك كثيرة ... ... مثل النجوم لوارد الظمآن
يصف السنة التي قاده إليها شيخه بالحوض الذي فيه أكواب يغرف منها ويشرب ..
ورأيت حول الكوثر الصافي ... الذي لا زال يشخب فيه ميزابان
مثل الميزابين في الآخرة التي تصب في نهر الكوثر، ميزابان في حوض السنة، أو ميزابان في حوض الحق يصبان فيه ..
ميزاب سنته وقول إلهه ... ... وهما مدى الأيام لا ينيان
الكتاب والسنة ..
والناس لا يردونه إلا من ... الألف أفراد ذوو إيمان
وردوا عذاب مناهل أكرم بها ... ووردتم أنتم على عذاب هوان
هذه الهداية التي كُتبت لابن القيم -رحمه الله- على يدي شيخه الذي لازمه، وأخذ عنه العلم والفقه والطريقة السُنْية السَّنية، وكان يشكو إلى شيخه وينصحه شيخه بأشياء، كما قال مرة: جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، فقال: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها، فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشرب قلبك كل شبهة تمر عليك، صار مقاماً للشبهات، قال: فانتفعت بوصيته في دفع الشبهات انتفاعاً عظيماً. وقال: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مرة: "العوارض والمحن والابتلاءات هي كالأمراض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها، لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن". وكان شيخ الإسلام يتابع تلميذه في حفظه للوقت والابتعاد عن الملهيات، فقد قال: "قال لي يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: المباح ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطاً للنجاة -أو نحو هذا الكلام- قال: فالعارف يترك كثيراً من المباح ابقاءً على صيانته، ولا سيما إذا كان المباح برزخاً بين الحلال والحرام". أي: من قسم المشتبهات.
ابتلاءات ابن القيم:(36/8)
لقد نصر ابن القيم -رحمه الله- شيخه ووفى له وامتحن بسببه وأوذي مرات، وحبس معه في السجن بالقلعة منفرداً، ولم يُطلق سراحه إلا بعد موت الشيخ، وتعرض للأذى لما اقتنع بالحق ونشره، وأوذي حتى ضرب وطيف به وأهين مضروباً بالدرة مرة من المرات. ومن الأشياء التي نقموا عليه: مسألة تحريم شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فتاوى الطلاق، وكان مقاوماً للتقليد والتعصب المذهبي، وهذا ما جلب عليه عداوة كثير من أتباع المذاهب. وكذلك نقده اللاذع للفلسفة وعلم الكلام، فإنه كذلك قد جلب عليه عداوة الفلاسفة ، وكان يتضح في تأليفه جداً مسألة اتباع الدليل، وهذه من أعظم خصائص المنهج السلفي، تقديم الكتاب والسنة وأقوال الصحابة على قول كل أحد آخر، وكان -رحمه الله- يستطرد في المسائل، ويذكر أوجهاً كثيرة قلما تحصل لغيره، حتى لا تكاد تجد تحليلات بعض المسائل مثلما تجدها في كلام ابن القيم رحمه الله، حيث كان طويل النفس في عرض المسائل.
تأليف ابن القيم للكتب حضراً وسفراً:(36/9)
وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- كان يؤلف حضراً وسفراً، والتأليف في السفر ليست قضية يسيرة، خصوصاً عند البعد عن المراجع، كما قال في مقدمة زاد المعاد متواضعاً: "وهذه كلمات يسيرة، لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نهمة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره، مع البضاعة المزجاة، مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل وادٍ منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر". ومن لطائف الأمور التي حصلت في تآليفه: ما حصل له في كتابه: تحفة المودود بأحكام المولود .. فإن سبب تصنيف هذا الكتاب أن ولده قد رُزق ولداً، والعادة أن الجد يُهدي للحفيد، أو يُهدي لابنه لأجل الحفيد الذي جاء، ولم يكن عند ابن القيم مالٌ يقدمه لولده، أو هدية من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب، وهو تحفة المودود بأحكام المولود، وقال في مقدمته: "سبب التأليف هو أن الله عز وجل رزق ابن المصنف مولوداً، ولم يكن عند والده في ذلك الوقت ما يقدمه لولده من متاع الدنيا، فصنف هذا الكتاب وأعطاه إياه، وقال له: أتحفك بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك". والحقيقة أن هذا الكتاب من روائع الكتب الذي لا يكاد يوجد مصنف مثله في أحكام وتربية المولود، وقد ذكر في الجزء الأخير من هذا الكتاب فوائد تربوية وطبية بالغة الأهمية.
أعداء ابن القيم: ...
وقد كان له أعداء لعله زاد بسبهم له حسنات كثيرة، من ضمنهم: الكوثري ، الذي وصفه بالزندقة والكفر والضلال والبدعة والزيغ والكذب والبلادة والغباوة.. ونحو ذلك، لكن:
لا يضر البحر أمسى زاخراً ... ... إن رمى فيه غلام بحجر(36/10)
وقد رد على أهل البدع وأعداء الله مثل الجهمية وغيرهم، وتفرغ لأجل مقاومة أهل البدع تفرغاً كبيراً، وعالج عدة أمراض في النفس البشرية، مثل: العشق والهوى، ولأجلها ألف كتاب الجواب الكافي ، و روضة المحبين ، وغير ذلك، وكان له أسلوباً جيداً في العلاج، وكان صاحب استنباطات، حتى قال: إنه استنبط من قصة يوسف ألف فائدة، ثم تمنى على الله عز وجل أن يوفقه لأجل أن يكتب مؤلفاً يجمع هذه الفوائد. ومما ابتلي به بعد موته بأناس كانوا يحرقون كتبه، كما ذكر الألباني في مقدمة الكلم الطيب ، لأحد الأمراء الذين استوطنوا دمشق في القرن الماضي، كان ذا سلطان ومال، جعل يجمع مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويحرقها، ويتقرب إلى الله بها، لأنه يقول: هذه ضلالات وبدع، ويحرقها، ومع ذلك كانت كتبه -رحمه الله- قد سارت في الأمصار، ومع أن المطبوع منها لا يقارب ثلث الأصل من عدد الرسائل والكتب التي ألفها.
وفاة ابن القيم:
اتفقت التراجم على أن ابن القيم -رحمه الله- توفي ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر رجب، وقت أذان العشاء، سنة (751هـ). وقد كمُل له من العمر ستون سنة فقط -رحمه الله تعالى- وصُلي عليه، وكان ذلك وسط حُزن الناس، ودُفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق ، في نفس المقبرة التي دفن فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
سبب تأليف الرسالة التبوكية وما تضمنته:(36/11)
وكتبه التي خلفها كثيرة ومعروفه وموجودة بين طلبة العلم وفي المكتبات، وهذه الرسالة -وهي الرسالة التبوكية - اتضح لنا مما سبق أن ابن القيم -رحمه الله- قد ألفها لأجل شرح قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]. وبيَّن زاد الإنسان في سيره إلى الله عز وجل، وحشد فيها أشياء مما يتعلق بالتصورات الأصلية الأصيلة الإسلامية، مما يُعين طالب العلم، ويُعين الإنسان عموماً على سيره إلى الله، ورسم منهج التلقي في هذه الرسالة، وبيّن أيضاً منهج العلم ومنهج العمل في هذه الرسالة، فقال: (أحمد الله بمحامده التي هو لها أهل، والصلاة والسلام على خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله وعليه وسلم، وبعد: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فيما بينهم بعضهم بعضاً، وفيما بينهم وبين ربهم، فإن كل عبد لا ينفك عن هاتين الحالتين، وهذين الواجبين، واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق). فأما ما بينه وبين الله فلا بد من القيام بحق الله، بفعل الواجبات التي أمر بها، والانتهاء عن المحرمات التي نهى عنها، وأما ما بين الإنسان وبين الخلق، فلا بد أن يكون هناك معاشرة، ومعاونة، وصحبة، وأن تكون هذه قائمة على مرضاة الله، فإذا حصل ذلك للعبد حصل له الخير كله.
حقيقة البر والتقوى والفرق بينهما:(36/12)
قال الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] ما معنى البر وما معنى التقوى؟ وما هو الفرق بينهما؟ البر يدخل في التقوى، والتقوى تدخل في البر في المعنى العام للفظ، كما يكون ذلك في الإيمان والإسلام، والفسوق والعصيان، والفقير، والمسكين، والفحشاء والمنكر، ولكن إذا اجتمعت الكلمتان معاً في سياق واحد فلا بد من تفريق، أما إذا افترقت هذه الكلمات فقد تكون الواحدة بمعنى الأخرى. أما البر: فهو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه، وهو كلمة جامعة لجميع أنواع الخير، وهو عكس الإثم التي هي كلمة جامعة للشرور والعيوب التي يذم العبد عليها، فيدخل في البر: الإيمان وأجزاؤه الظاهرة والباطنة، ولا شك أن التقوى جزء من هذا، وقد جمع الله خصال البر في قوله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]. فماذا جمعت كلمة البر حسب الآية من أركان الإيمان؟ جمعت: الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر، وهذه أصول الإيمان الخمسة. وماذا جمعت من أركان الإسلام والشرائع الظاهرة؟ جمعت: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ويتبع ذلك النفقات الواجبة، وهذه الآية احتوت -أيضاً- خصالاً من الأعمال القلبية، مثل: الصبر والوفاء، فتكاد هذه الآية أن تكون قد جمعت جميع أقسام الدين، ثم أخبر الله في هذه الآية أنها هي خصال(36/13)
التقوى، فقال في الذين يقومون بهذه الأعمال من البر: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] فهذه هي خصال التقوى بعينها. إذا: البر والتقوى يدخلان في بعض، لكن إذا جئت إلى تعريف التقوى، فحقيقتها: العمل بطاعة الله إيماناً واحتساباً، أمراً ونهياً، وقد نبه ابن القيم -رحمه الله- على مسألة مهمة، وهي: كل عمل لا بد له من مبدأ وغاية -هذه مسألة مهمة- مبدأ، أي: باعث على العمل، وغاية، أي: الهدف من العمل .. ما هو باعثك على العمل؟ ولأجل أي شيء عملت هذا العمل؟ فإذا كان الباعث هو الإيمان المحض، ومن بواعث العمل مثلاً: أن يعمل العمل إيماناً بالله وإرضاءً لله، وقد يعمل عملاً لأجل أي شيء آخر، فالباعث على العمل قد يكون شهرة ورياءً، وقد يكون للدنيا، وقد يكون للهوى، أو عن عادة وتقليد، تسأل بعض الناس: لماذا تعمل؟ فيقول: هذه تعودنا عليها، ومثل ذلك أن يقول: كل من حولنا يعملون مثل ذلك .. فلا بد أن يكون الباعث على العمل الصالح هو الإيمان، وغايته: ثواب الله وابتغاء مرضاته، وإلا فلا يكون العمل صالحاً، وكثيراً ما يقرن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذين الأصلين، مثل قوله: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً..) فالإيمان هو الدافع للعمل، والاحتساب هو الغاية من العمل، وهو احتساب الأجر والثواب، ومثل قوله: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)، فالاحتساب هو الغاية التي لأجلها يبدأ الإنسان في العمل. وإذا قرن أحدهما بالآخر (البر والتقوى) مثل قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] فما هو الفرق بينهما؟ قلنا: إذا افترق كل واحد عن الآخر فقد يدخل الأول في الثاني .. البر كلمة جامعة، والتقوى كلمة جامعة، لكن إذا اجتمعا فما هو الفرق بينهما؟ الفرق: أن البر هو العمل المطلوب لذاته، والتقوى هي الوسيلة الموصلة إليه.
ضرر الجهل بحدود الله: ...(36/14)
لا شك أن الإنسان لا يمكن أن يعمل عملاً صالحاً دون أن يكون عنده علم يعمل بناء عليه، ومعرفة الأحكام وحدود الله تعالى هي التي تجنب الإنسان من الوقوع في الضلال. وقد ذم الله تعالى في كتابه من ليس عنده علم بحدود ما أنزل الله على رسوله، والذي ليس عنده علم سيقع في أحد محذورين: الأول: أن يدخل في الشي ء الحرام أمراً ليس منه، أو في الشيء الحلال أمراً ليس منه، ويسوي بينهما، فيجعل الشيء مباحاً وهو ليس بمباح، أو يجعله محرماً وهو ليس بمحرم، وقد يُخرج من شيء أباحه الله أمراً يحرمه بهواه، أو يخرج من شيء حرمه الله شيئاً أباحه الله بهواه، أو العكس. فمثلاً: الخمر حرَّمها الله، وهو اسم شامل لكل مسكر، فيأتي رجل ويخرج من المسكر شراباً معيناً، ويقول: هذا حلال، بهواه أو بجهله، فيفرق بين ما سوت الشريعة بينه في الحكم. أو يُخرج نوعاً من الربا، ويقول: هذا ليس رباً، والربا إذا كان (5%) فهو حلال، وإذا كان (15%) أو أكثر فهو حرام!! ما هذا التفريق؟! إنه تفريق ضلال؛ لأن الشريعة سوَّت بين الربا في كل صوره وأشكاله. أو يقول: الربا إذا كان على فقير فهو حرام، أما إذا أخذته من غني فهو حلال، ويفرق بين ما سوت الشريعة بينه من الصور. وكذلك لو أنه أدخل في النكاح ما ليس بمسمى النكاح الشرعي، ويقول: هذا نكاح شرعي، فيسوي بين حرام وحلال، والله أباح النكاح، وهذا قد أدخل في النكاح صورة من صور النكاح ليست حلالاً؛ كنكاح الشغار، ونكاح المتعة ... إلى آخره. إذاً: العلم هو الذي يميز به الإنسان حدود الله تعالى، والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى، لأن الله يعلم أن الإنسان بمفرده لا يستطيع أن يُقيم الدين كله، ولا أن يتعلم الدين كله، وأن الناس لا يزال يتعلم بعضهم من بعض، ويعاون بعضهم بعضاً على إقامة الدين، ولذلك قال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] ومن حكمة الله أن جعل الناس يحتاجون إلى(36/15)
بعض، ويعيشون مع بعض، وأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش لوحده منفرداً؛ فالإنسان مدني بطبعه، واجتماعي بطبعه.
معنى الإثم والعدوان والفرق بينهما:
ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان، فما هو الفرق بين الإثم والعدوان؟ مثل: البر والتقوى، الإثم سيدخل في العدوان؛ لأنه نوع من الاعتداء، والعدوان سيدخل في الإثم؛ لأن الذي يقوم بالاعتداء آثم، هذا إذا افترقا فيكونان بهذا المعنى، وإذا اجتمعا كما في قوله تعالى: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى اْلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] فلا يمكن أن نقول: إنها مجرد تكرار، فما هو الفرق بين الإثم والعدوان؟ الإثم: ما كان حراماً لجنسه، مثل: الزنا، والخمر، والسرقة .. والعدوان: ما كان حراماً لزيادة في قدره، وتعدٍ لما أباح الله، فلو تزوج رجل خامسة، فإنه يعتبر عدواناً، ولو قطع شخص يد شخص، فجاء الثاني وقطع يديه في استيفاء الحق في القصاص، أو الظالم قطع يديه، فإنه يعتبر عدواناً. فالعدوان: هو تعدي حدود الله عز وجل، وقد قال الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229].. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] فنهى عن أمرين بالنسبة لحدود الله: 1- تعدي الحدود. 2- نهى عن قربان الحدود، لا تتعدَّ ولا تقترب .. لماذا؟ لأن الحدود هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام، والحد قد يكون من الشيء تارة، وقد يكون منفصلاً عنه تارة، أي: الحد بين الشيئين، أحياناً يكون من أحدهما، وأحياناً يكون برزخاً وحاجزاً بينهما، فإذا كان الحد أحدهما.. إذا كان حد الحرام جزءاً منه، فما هي الآية المناسبة؟ قوله تعالى: فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]. وإذا كان الحد هو برزخ منفصل لا من هذا ولا من هذا، فما هي الآية المناسبة؟ قوله تعالى: فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229]. وهذا كله من فقهه رحمه الله؛ الربط بين الآيات والواقع وبين المعاني، هذه اشياء لا تتأتى إلا لأهل العلم.(36/16)
واجب العبد فيما بينه وبين الخلق وبينه وبين الحق:
وهذا كله من فقهه رحمه الله؛ الربط بين الآيات والواقع وبين المعاني، هذه أشياء لا تتأتى إلا لأهل العلم. تكلمنا عن قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] وأن الإنسان في طبيعته في الأرض له علاقة بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، وقد تكلمنا عن أشياء فيما يتعلق بينه وبين الناس. أما العلاقة بينه وبين الله، فلابد أن تكون التقوى هي الضابط في العلاقة بين العبد وربه، قال الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [المائدة:2] فتقوى الله هي العلاقة بين العبد وربه. وكذلك يتقي الله العبد في العلاقة بينه وبين الناس، ولا يمكن للإنسان أن يقوم بعلاقة صحيحة مع الله ومع الخلق إلا بتحقيق التقوى، ولا يمكن أن يقيم علاقة صحيحة مع الخلق إلا إذا كان هناك نصيحة وإحسان من جهة الخلق، وإخلاص ومحبة وعبودية من جهة الخالق.
الهجرة إلى الله ورسوله: ... ...(36/17)
ثم طالعنا ابن القيم -رحمه الله- في هذه الرسالة بعبارة جميلة من عباراته التي ترد عادة في كتبه، قال: "لما فصل عير السفر أي: خرجت من البلد وهي الإبل أو القافلة- واستوطن المسافر دار الغربة، وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه .." ماذا يصير عند الواحد إذا خرج من المكان الذي فيه كل ما يعتاده وكل المألوفات والأقارب؟ يحصل له وحشة وحنين، ويحصل له في ذهنه فراغ، وإذا غادر المكان الذي يعيش فيه باستمرار، تحصل له فكرة لم تحصل له وهو يعيش فيه؛ لأنه ابتعد عن الشيء، والعلاقة قد ضعفت أو انقطعت به. قال: "أحدث له ذلك نظراً، فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، وينفق فيه بقية عمره، فأرشده من بيده الرشد -وهو الله عز وجل- إلى أن أهم شيء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت".
أنواع الهجرة:
والهجرة نوعان: الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة. الهجرة الثانية: وهي التي لا بد منها لكل أحد، هي الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، ولو لم تحصل هذه الهجرة الثانية، فلن تحصل الهجرة الأولى.
مبدأ الهجرة ومنتهاها:
قال: (وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى)؛ فيهاجر المسلم بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله). الهجرة بالجسد من دار الكفر إلى دار الإسلام وهذه معروفة، والهجرة الأخرى هي هجرة القلب، التي لا بد لكل أحد منها، وهذا هو المعنى المهم جداً، الذي انطوى عليه هذا الفصل، والذي هو الرسالة التبوكية .. أن يُهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله، ومن عبودية غير الله إلى عبودية الله، ومن خوف غير الله إلى خوف الله، ومن رجاء غير الله إلى رجاء الله، ومن التوكل على غير الله إلى التوكل على الله، وهكذا ... وهذا معنى قوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50].
الفرار من الله إليه:(36/18)
قال ابن القيم رحمه الله: (وتحت (من) و (إلى) في هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، فإن الفرار إلى الله سبحانه وتعالى يتضمن إفراده بالطلب والعبودية) كيف تهاجر وتفر من غيره إليه؟ إذا جردت الإخلاص وجردت العبودية، بحيث تكون العبودية لواحد وهو الله عز وجل، ومن تصور هذا المفهوم سهل عليه أن يفهم معنى حديث: (وأعوذ بك منك) وسهل عليه أن يفهم معنى حديث: (لا ملجأ منك إلا إليك). وهذه الكلمات عندما يقرؤها الإمام في دعاء التراويح لا يفهمها إلا قليل من الناس، وبالنسبة لكثير منهم تكون طلاسم .. ما معنى (لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)؟ قد يعتبرون هذه ألغازاً، لكن الحقيقة أن كل شيء في الكون تفر منه .. من أذى أو ظلم أو .. إلخ، فهو بتقدير الله ومشيئته، والله هو الذي خلقه. وكذلك أنت تفر من عقاب الله، وتفر من أسباب سخط الله... تفر إليه عائذاً به مستجيراً سائلاً أن يحميك من الوقوع في معاصيه، وأن يرزقك الطاعة والأجر والفوز بالجنة، وكل أحد إذا خفت منه هربت منه -سواء أكان حيواناً أو إنساناً- إلا الله عز وجل؛ فإنك إذا خفت منه هربت إليه .. أين ستذهب؟ أي إنسان مخلوق موجود هنا -مثلاً- وهو ظالم وتخشى منه، فسوف تهرب منه إلى بلدة أخرى، لترتاح منه، وتنفث بريشك، ولكن الله عز وجل إلى أين تهرب منه؟ أينما هربت فثمَّ وجه الله، وأنت في ملكه، لا يمكن أن تفر ولا تخرج، فلا مفر لك منه إلا إليه، ولا مفر من عقابه إلا إلى نعيمه، ولا مفر من معصيته إلا إلى طاعته، ولا مفر من قدرته إلا إليه سبحانه وتعالى، وكل شيء مخلوق في الوجود من الظلم الذي أنت تفر منه أو الشر؛ فهو خالقه، فأنت تفر من هذا الشيء إلى ما ينجيك، وتأخذ بالأسباب التي قدَّرها وشرعها سبحانه وتعالى. فالمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجر ما يكرهه الله إلى ما يحبه ويرضاه، وكل واحد يهاجر من شيء إلى شيء، ويترك بلداً إلى بلد، ووظيفة إلى وظيفة، وشخصاً إلى شخص، في العلاقات(36/19)
وإقامة العلاقات، وما يحمله على هذه الهجرة والترك إلى ذلك الطرف الآخر، إلا أن المهاجر إليه أحب إليه من المهاجر منه، وإلا لما هاجر. فإذا قال أحد: كيف أهجر ما نهى الله عنه؟ كيف أهجر المعاصي؟ كيف أهجر الفسوق؟ كيف أهجر قرناء السوء؟ كيف أهجر مكان الحرام؟ نقول: لا بد أن يكون الطرف الذي ستذهب إليه أحب إليك من الطرف الذي ستخرج منه. ولذلك فالهجرة مرتبطة بالمحبة، ولما كانت الهجرة شاقة على النفس، فلا بد أن هناك شيئاً يعوض المشقة حتى تستطيع الفكاك والهرب والهجرة، فإذا لم ترجع محبة الطرف الثاني الذي ستهاجر إليه على محبتك للطرف الأول؛ فلن تحصل الهجرة، ومن هنا كانت تقوية محبة الله تعالى أمراً أساسياً في حدوث الهجرة، سواء هجرة الجسد أو هجرة القلب. لقد كان خروج المهاجرين من مكة إلى المدينة أمراً شاقاً، حتى إنهم مرضوا في المدينة ، وأصابتهم الحمى، وصار أبو بكر و بلال يأتيان بالأشعار التي فيها التلهف والحنين إلى الإذخر والجليل، وجبال مكة ، والبلاد التي خرجوا منها، والجو والبيوت، ولكن ما هو الذي عوضهم عن ذلك كله؟ إنه محبتهم لله ورسوله، وللدار التي تحكم بما أنزل الله ويحكمها رسوله.
سبب قوة الهجرة وضعفها: ...
والهجرة -كما يذكر ابن القيم رحمه الله في هذه الرسالة- تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد، فكلما كانت المحبة أقوى كانت الهجرة أقوى .. وبعض الناس يهجرون المعاصي هجراً جزئياً، وبعض الناس يهجرونها نسبة أكثر، وبعض الناس يهجرونها هجرة كلية، فما هو السبب الذي فاوت بين هؤلاء؟ إنه المحبة. وعندما يكون الواحد لا يزال قلبه يحب المنكر، ولو وعظ موعظة أو قصة انتهى عن ذلك، وربما يترك تركاً مؤقتاً، أو يترك تركاً جزئياً، لأنه لا زال فيه تعلق ومحبة للشيء الأول، لكن إذا صارت محبة الله طاغية، انقطعت العلاقة.
الهجرة العارضة والهجرة الدائمة:(36/20)
وهناك هجرتان: هجرة عارضة، وهجرة دائمة. فالهجرة العارضة هي هجرة الجسد، فابن القيم -رحمه الله- يتعجب من بعض الفقهاء أو من بعض المؤلفين الذين يركزون على الهجرة العارضة، وهي هجرة الجسد، ويذكرون الفروع والأحكام المتعلقة بها، ويوسعون فيها المسائل، وربما لن تمر على بعض الناس مطلقاً ولا مرة واحدة، وربما أنت في حياتك لا تحتاج إلى هذه الهجرة، في الوقت الذي يفوتون ويغفلون الكلام عن الهجرة الدائمة الواجبة على مدى الأنفاس، وهي هجرة القلب. ولذلك يعد ابن القيم بحق من العلماء الذين تكلموا في الفقه والأحكام، وتكلموا -أيضاً- في القلوب. أي: هناك توازن كبير بين كلامه في الفقه وكلامه في أحكام القلوب وأحكام الحلال والحرام، وهنا يريد أن يتوصل ابن القيم إلى شيء مهم، لما كان في عهده صنم الفلسفة وعلم الكلام قائماً، وطاغوت التعصب المذهبي موجوداً، وكانت هذه الأوثان تُعبد من دون الله؛ علم الكلام و الفلسفة ، والتعصب المذهبي، منكران شائعان في عصره .. فكيف يستطيع ابن القيم وهو الداعية أن يحرر الناس من عبادة هذه الأوثان؛ وثن الفلسفة، ووثن التعصب المذهبي؟ طرح مفهوم الهجرة هنا لأجل أن يقول: أنتم أيها الواقعون في البدعة أو في الأخطاء بسبب تعصبكم المذهبي، متى يمكن أن تتركوا التعصب المذهبي أو البدع إلى السنة واتباع الدليل؟ يجب عليكم أن تهاجروا من البدعة إلى السنة، وتهاجروا من التعصب إلى اتباع الدليل، وتهاجروا من علم الكلام و الفلسفة إلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يمكن أن تهاجروا حتى تكون السنة والدليل الصحيح أحب إليكم من المذاهب، وإذا ما حصل هذا فلن تفعلوا ذلك.
الهجرة إلى رسول الله:(36/21)
ولذلك طرح هنا مفهوم الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يوسع القضية ولا يظن الناس أن الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المدينة وانقطعت الآن؛ فإن الهجرة إلى الرسول صلى عليه وسلم باقية وموجودة، وذلك بالهجرة إلى سنته، وإلى حديثه، وإلى طريقته .. وقد شكا الغربة من قلة هذه الهجرة، فقال: وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه. فصارت الهجرة النبوية كما يقول: شأنها شديد، وطريقها على غير المعتاد بعيد .. وشكا الأذى الذي يجده من بني قومه ممن حوله من الناس، عندما يتبع السنة والدليل، ويقولون له: أنت تخالف المذهب.. أنت تخالف أئمتنا.. أنت خارج عن كلام فلان وفلان، ونحو ذلك.
حد الهجرة إلى رسول الله:(36/22)
ثم شرع يعرف الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان، ومنزلٍ من منازل القلوب وحادثة من حوادث الأحكام، إلى معدن الهدى، ومنبع النور المتلقى من فم الصادق المصدوق، الذي وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات. فلو عندك أي حكم أو أي شيء سمعته أو رأيته أو قرأته أو حفظته، فلابد أن تعرضه على السنة، فإن وافقته السنة فتمسك به، وإن خالفته السنة فاقذف به. بعض الناس عندما تأتي وتعلمهم السنة، وافتراض أن بلداً منتشر فيها القنوت في صلاة الفجر، فعندما تأتي وتعلمهم السنة.. فإنهم سيتركون القنوت في الفجر الدائم إلى السنة وهي قنوت النوازل؟ وإذا خالفتهم كأن صليت بهم ولم تقنت؛ عملت عندهم مصيبة عظيمة، فيعيبونك ويذمونك؛ لأنك أنت مفارق لما عليه الناس، وللطريقة وللجماعة.. ونحو ذلك. وبعض الناس يعيش في بيئة -وهذا الكلام مهم جداً، وليس هو فقط في قضية العبادات بل حتى في المحرمات- بعض الناس مثلاً يقولون: عندنا في بيئتنا مصافحة بنت العم وبنت الخال أمر طبيعي، وإذا امتنعت عن مصافحة قريباتي فستكون القطيعة والمشكلات كثيرة جداً، فماذا أفعل؟ أو تجده يقول: أنا في بيئتي يطوفون بالقبور والأضرحة.. أنا في بيئتي يُقنت في صلاة الفجر باستمرار.. أنا في بيئتي لا تُطبق السنة الفلانية والفلانية، أو تحدث أشياء كثيرة، فما هي الطريقة؟ الطريقة أن كل شيء في بيئتك تعرضه على السنة، فإن وافقها فخذ، وإن خالفها فارم به، وهكذا ... فالعجب للمقيم في مدينة طبائعه وعوائده وما ورثه عن آبائه وأجداده، ولا يريد أن ينتقل إلى مدينة الحق والسنة والدليل وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة. هذه الهجرة أهم من هجرة الجسد، وهذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، وعن الهجرة(36/23)
التي تقتضيها شهادة أن لا إله إلا الله سيسأل العبد يوم القيامة، بل قال ابن القيم : وفي البرزخ، وفي كل الدور هو مسئول عنها. قال قتادة رحمه الله: "كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟". فالأولى: متعلقة بمبعث العمل وغايته، أشهد أن لا إله إلا الله، إيمان بالله، واحتساب لما عند الله. والثانية: متعلقة بكيفية العمل، وهي مرتبطة بشهادة أن محمداً رسول الله، هل تابعت سنته وطريقته في العمل أم لا؟
تأكيد الله باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... :
قال ابن القيم: وهاتان ا لكلمتان هما مضمون الشهادتين، وقد قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65]. انظر إلى المؤكدات التي انطوت عليها هذه الآية. أولاً: صدّرها بالنفي فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ [النساء:65] وهذا منهج معروف عند العرب، كما قال الصديق رضي الله عنه: [لاها الله إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه] هذا كان في قصة أبي قتادة ، لما طالب شخص بسلب من قتله أبو قتادة ، فأبو بكر نفى ذلك، كيف تُعطى سلب القاتل؟ والقاتل أحق به؟ وكما قال الشاعر:
فلا والله لا يلقى لما ... ... بي ولا لما بهم أبداً دواء(36/24)
هذا النفي المستخدم في الآية أسلوب من الأساليب، فهذه الآية التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] في رد الناس إلى السنة، وترك ما هم عليه، فيها مؤكدات كثيرة جداً، مثل النفي الموجود في أوله، كما تجده في أقسام الله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1].. فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75].. فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ [التكوير:15] وهذا يؤكد الحقيقة المذكورة أكثر. ثانياً: القسم نفسه فَلا وَرَبِّكَ [النساء:65] واو القسم. ثالثاً: التأكيد بالمقسم به، فإنه أقسم هنا بالرب سبحانه وتعالى، والله يُقسم بالمخلوقات ويُقسم بنفسه سبحانه، فهنا أقسم بنفسه. رابعاً: أكده بنفي الحرج: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً [النساء:65] لأن بعض الناس يسمع حكم الله ورسوله لكنه يتحرج منه، بل إنه يود لو أنه ما كان هكذا .. يقول عند صفقة كذا وكذا: ما حكمها؟ فتقول: حرام؛ لأنك أنت بعت ما لا تملك مثلاً، فينصرف عنك، ولو سمع الكلام يسمع وفي نفسه حزازة، بل يتمنى أن الحكم ما كان، لأنه فوت عليه أشياء. خامساً: تأكيد الفعل بالمصدر، قال سبحانه وتعالى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فكأنه قال: (ويسلموا) مرتين، لأجل ألا يكون هناك أي نوع من أنواع الاعتراض، ويكون هناك كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم.
كيفية حبنا للرسول صلى الله عليه وسلم:(36/25)
ولذلك طرح هنا مفهوم الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى يوسع القضية ولا يظن الناس أن الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كانت في المدينة وانقطعت الآن؛ فإن الهجرة إلى الرسول صلى عليه وسلم باقية وموجودة، وذلك بالهجرة إلى سنته، وإلى حديثه، وإلى طريقته .. وقد شكا الغربة من قلة هذه الهجرة، فقال: وأما الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم لم يبق منه سوى اسمه، ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه. فصارت الهجرة النبوية كما يقول: شأنها شديد، وطريقها على غير المعتاد بعيد .. وشكا الأذى الذي يجده من بني قومه ممن حوله من الناس، عندما يتبع السنة والدليل، ويقولون له: أنت تخالف المذهب.. أنت تخالف أئمتنا.. أنت خارج عن كلام فلان وفلان، ونحو ذلك.
أدعياء المحبة:(36/26)
لا ينبغي للعبد أن يكون لنفسه حكم أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول صلى الله عليه وسلم يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، ولا يكون عنده مقررات عقلية ينطلق منها، بل ينطلق من الكتاب والسنة. ومن العجب أن بعض الناس يقول: هات فإن وافق عقلي قبلت، وإن خالف عقلي رددت، فيجعل عقله هو الحكم على الكتاب والسنة، والإعراض عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الإثم العدوان، وقد قال الله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135]. إن اللي والإعراض هما السببان الموجبان لكتمان الحق وتركه، فأول ما يحاول أصحاب الباطل أن يلووا الأمور، ويحرفونها، فإذا ما استطاعوا أعرضوا عنها، فكانوا كالشيطان الأخرس. اللي: هو التحريف، فقد يحرفون الألفاظ، إما بزيادة أو نقصان أو تبديل، يقول لك: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أي: استولى، فيزيد لاماً، واليهود ماذا كانوا يقولون في السلام عليكم؟ كانوا ينقصون اللام، ويقولون: السام عليكم، هذا ليّ وتحريف، وقد يحرفون المعنى، قد يحرف اللفظ وقد يحرف المعنى، فيقول: المقصود بكذا كذا، غير ما قصده الله وما أراده سبحانه وتعالى، وبعضهم يُعرض إعراضاً تاماً عن الدليل، وينبغي على الإنسان ألا يختار لنفسه، وإنما يكون لله ولرسوله الخيرة، فإذا ثبت لله ورسوله اختيار معين وجبت الطاعة والاتباع، ومن استبانت له سنة لم يكن له أن يدعها لقول أحد، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، وقد قال الله عز وجل: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [التغابن:12].. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ [النور:54]. إذا توليتم عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما عليه ما حمل، وماذا حمل النبي صلى الله(36/27)
عليه وسلم؟ حمل التبليغ، وعلينا ما حملنا وهو التنفيذ والعمل، فالرسول صلى الله عليه وسلم غير مكلف بتنفيذنا نحن، إنما هو مكلف بالتبليغ فقط، وكل داعية ليس مكلفاً بأن يهتدي الناس ويؤمنوا، هذا شيء لا يملكه، هو مكلف بالتبليغ فقط. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59]. فأمر بطاعته وطاعة رسوله، وصدّر الخطاب بـ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:59] ولم يأتِ بصفة أخرى؛ لأنه نادى بالصفة التي تقتضي الأمر، فالصفة هي صفة الإيمان، كأن تقول: يأيها الحاكم! احكم، يأيها المنعم عليه! أحسن، ويأيها العالم! علِّم، فعندما ناديته بهذا النداء؛ يُفهم منه أن الشيء له علاقة بالموضوع، وأنه يقتضيه الموضوع، فلما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] عُلِمَ أن هذا من مقتضيات الإيمان، لأنه ناداهم به.
طاعة الرسول من طاعة الله ... :(36/28)
لماذا قال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59] فذكر طاعتين؟ حتى لا يتوهم أحد أن الشيء الذي يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس موجوداً في القرآن أنه غير واجب، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله تعالى، ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) الذي أنزله الله وأوجب اتباعه مثل الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع. وتأمل كيف أفرد لنفسه طاعة، وللرسول طاعة، وأدخل طاعة أولي الأمر في طاعة الله ورسوله، ولم يفرد الطاعة؛ لأنها تبع، فلو خالفوا ما وجبت لهم طاعة: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] في أي نزاع، وأي قضية، لا بد من الرد إلى الكتاب والسنة .. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:59] هذا شرط، إذا كنتم تؤمنون فردوه وإذا ما رددتموه، فمعنى ذلك أنكم غير مؤمنين بالله واليوم الآخر. وهذه آية كما قال رحمه الله: عاصمة قاصمة، تعصم المتمسك بها، وتقصم ظهر المخالف لها، فإذا أطعنا الله وأطعنا الرسول وكل شيء تنازعنا فيه رددناه إلى الله والرسول، فإن الذي سيحصل لنا هو الخير: ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] وكل خير في العالم يحدث بسبب طاعة الله ورسوله، وكل شر في العالم يحدث بسبب مخالفة الله ورسوله، وهذا أمر معروف. فإذا صرت إنساناً تطيع الله والرسول، وترد إلى الله والرسول كل شيء يحصل عندك فيه لبس أو غبش أو جهل أو نزاع؛ فإنك تكون قد كملت نفسك، وبقي عليك أمران: الأول: دعوة الخلق إلى هذا الحق. الثاني: الصبر على ما تلقاه. فصار عندنا علم وعمل ودعوة وصبر، هذه أربعة مراتب إذا عملها الإنسان فقد بلغ كماله. ومن الصوارف: العلاقة بالخلق عن الحق، إذا كانت العلاقة سلبية وغير صحيحة، ولذلك(36/29)
اختار العلماء العزلة حينما يكون الأشرار محيطين بالإنسان، وحين ذلك لا بد أن يفارقهم.
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
تعاون على البر والتقوى، اجعل علاقتك بالناس قائمة على: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] وإذا ما وجد التعاون على البر والتقوى فاقطع العلاقة، هذا هو الصحيح.
حال المتخالين على غير طاعة رسول الله:
وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:27-28] فيتندم: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] فتتقطع الأسباب، ويلعن بعضهم بعضاً، ويقول الأتباع: رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:68] فهؤلاء هم الذين ستتقطع بهم الأسباب، إلا أولياء الله سبحانه وتعالى، لأن علاقتهم كانت بالله فاستمرت العلاقات. يوم القيامة لا تتقطع علاقة الإخوان في الله ببعضهم، لكن تتقطع كل العلاقات الأخرى؛ لأن العلاقات المبنية على العلاقة بالله قائمة ومستمرة إلى يوم القيامة، وأما المبنية على الدنيا والهوى فإنها تتقطع ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، وستكون هناك معركة كبيرة جداً يوم القيامة، بين الأتباع والمتبوعين، وكل من تابع آخر في باطل سيسبه ويشتمه، وكل المودات والعلاقات والموالات التي كانت في الدنيا لغير الله، ستنقطع يوم القيامة، ولا تنفعه لا في دار البرزخ ولا في دار الآخرة، وأما العلاقة بالله فإنها تبقى قائمة:
إذا انقطع حبل الوصل بينهم ... ... فللمحبين حبل غير منقطع
وإن تصدع شمل القوم بينهم ... ... فللمحبين شمل غير منصدع(36/30)
هؤلاء أتباع الأشقاء، بينهم يوم القيامة عداوات ومعارك، ولعن وسب وشتم، ولكلٍّ صعف من العذاب.
الأتباع السعداء: ...
أما أتباع السعداء فنوعان: النوع الأول: الذين يكونون مستقلين، اتباع استقلالي، الذين قال الله فيهم: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [التوبة:100] هؤلاء السعداء تبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وتبعوا أصحابه.. كيف تبعوهم؟ تبعوهم بإحسان، فلا بد أن يكون هناك إحسان في الاتباع، ومن الناس من أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، ومنهم من لم يدركه ولم يلحقه، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الجمعة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [الجمعة:2-4]. فالذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لحقوا به في الزمن والفضل، ومن جاء بعدهم ما لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في الزمن، فلن يلحق في الفضل، ولأن فضل الصحابة لن يجاريه أحد، لكنه سيكون له أجر وفضل لاتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا الاتباع الذي يستلزم حسن الأخذ، وحسن التلقي، وحسن التطبيق، مبني على تشرب السنة، وأخذ العلم. أنزل الله سبحانه وتعالى الوحي من السماء غيثاً للقلوب، والغيث كما أنه يحيي الأرض، فكذلك يحيي الله القلوب بالوحي، والأراضي أنواع: 1- أرض تأخذ الماء وتنبت من كل زوج بهيج. 2- وأرض صلبة تأخذ الماء وتحفظه ولا تنبت شيئاً، لكن الماء لا يضيع. 3- وأرض لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، إنما هي قيعان، وهذه أمثلة تفاعل النفوس مع العلم، فهناك نفوس إذا سمعت(36/31)
الأدلة وكلام الله وكلام رسوله أنبتت الثمار، ونفع الله بها، وانتفع الخلق، وهناك نفوس تسمع النصوص وتحفظها.. صالحة في نفسها، لكن لا تستطيع أن تستنبط من النصوص ولا تُعلِّم، فما هو كمالها وحسبها؟ أن تنقل هذا العلم لغيرها حتى يستفيد منه، وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه) ومثل هاتين الدرجتين كالتاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات، فهذا يشغل المال ويكسب منه ويثمر، وآخر يحفظ المال، لكنه لا يستطيع أن ينميه. وهناك الطائفة الأخرى: التي لا تمسك شيئاً ولا تنبت شيئاً، فلا فائدة للغير ولا فائدة لنفسها.
أطفال المؤمنين يلحقون بآبائهم في الجنة:
هناك أتباع مُلحقين، وهم كل من تابع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بإحسان، فسيلحق بهم يوم القيامة، وهناك أتباع ملحقين مثل أطفال المؤمنين، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21]. وعندما يلحق الولد المؤمن بأبيه المؤمن في الآخرة وفي الجنة، هل معنى ذلك أن عمل الأب سيوزع على الأب والولد، أي: ينقص عمل الأب لكي يدخل الولد معه الجنة؟ الجواب: لا، قال تعالى: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21] وحتى لا يتصور أن الأب إذا كان قد عمل سيئة فسيعاقب عليها الولد -أيضاً- من باب الاتباع والإلحاق، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر:18]، ولذلك الإلحاق هنا في الفضل والثواب وليس في العدل والعقاب، فإن الولد ليس له دخل بسيئة أبيه.
زاد السفر إلى الله وطريقه ومركبه:(36/32)
السفر إلى الله يحتاج إلى زاد، والزاد هو العلم، ولا بد أن يكون الرفقاء في السفر طيبين؛ حتى يصل الإنسان بسلامة، وهذا معنى قولنا: إنه يجب على الإنسان أن يكون عنده قرناء صالحون وأخيار وأصحاب طيبون، حتى يصل معهم إلى بر السلامة، والذي يتخذ أناساً من قرناء السوء يحملونه على المنكر والمعاصي فإنه سيتضرر بهم في الدنيا ويوم القيامة عندما يكون معهم في العقاب، فلن ينفعهم اشتراك بعضهم مع بعض في العقاب، كما قال الله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39] لكن في الدنيا لو صارت مصيبة على الجميع فكل واحد يخف عنه الألم لما يجده من مصاب الآخرين، فهذه الخنساء عندما قتل أخوها صخر ، عزت نفسها بأن كثيراً من النساء قد قتل أزواجهن أو أولادهن، فقالت:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلي النفس عنهم بالتأسي(36/33)
تقول: أخي أفضل وأكرم وأحسن، لكن المصيبة لما اشتركوا فيها خف الألم، لكن يوم القيامة عندما يكون أهل السوء مع بعضهم البعض في النار فلن يخف عنهم الألم، ولا عزاء لبعضهم في اشتراكهم في العذاب. والذي يريد أن يسير إلى الله تعالى لا بد أن يكون له مركب يركب عليه .. ذكرنا أن الزاد هو العلم، وانظر إلى التشبيه البليغ من ابن القيم رحمه الله.. المسافر يحتاج إلى زاد، ويحتاج إلى دابة، ويحتاج إلى رفقة، وقد ذكرنا أن الزاد هو العلم، وبينا أمر الرفقة وهم الإخوان الصالحون، فما هو الظهر الذي سيركب عليه؟ يقول ابن القيم رحمه الله: لا يمكن أن تصل إلا إذا امتطيت مطيتين: الأولى: مطية الصبر على لوم اللائمين. الثانية: أن تهون نفسك لله، ولا تبالي بمن خالفك، فإذا لم تبالِ بمن خالف الحق، وإذا صبرت على أذى المخالفين للحق فسوف تصل، ومدار هذين الأمرين على الصبر، وأن يكون مركبك اللجوء إلى الله، والاستعانة بالله، والانطراح بين يديه، والتطلع لما عنده، أن يلم شعثك، ويمدك بفضله، ويسترك بستره.
التفكر في آيات الله والتدبر في كتابه الكريم:(36/34)
قال ابن القيم: ورأس الأمر وعموده التفكر في آلاء الله، والتدبر في آيات الله، وقد تجد شخصاً جالساً فتقول: ماذا يفعل هذا؟! وإن كان ثابتاً ببدنه، لكن عقله جوال في آيات الله المسطورة والمنثورة، يتأمل فيها، وإذا كان الإنسان عنده علم بالتفسير، استطاع أن ينظر ويتفكر في آيات الله عز وجل، وصارت خواطره وفكره مستودع للاستنباطات والفهم من كتاب الله تعالى، وتراه ساكناً وهو يباري الريح وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88] وتدبر القرآن وتفهمه من أعظم الأمور. ثم قال ابن القيم رحمه الله: إن قلت لي: اضرب لي مثلاً على التدبر في القرآن كيف يكون؟ فسأقول لك: آيات في الكتاب العزيز، إذا قرأها الشخص العادي يفهم شيئاً، وإذا تدبرها صاحب العلم يفهم شيئاً آخر، هذه الآيات هي قول الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * < إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * < فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * < فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * < فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * < فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:28-29]. قال: هذه الآيات لو طرحت على الشخص العادي، فسيخرج منها أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة أضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام، والمرأة لما سمعت ضربت وجهها .. قال: فاسمع الآن ما فيها من الأسرار: أولاً: إن الله سبحانه وتعالى قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ [الذاريات:24] افتتحها بأداة استفهام، وهذه الأداة تدل على شيء، فإنها تنبه الشخص لما سيأتيه من العلم، وأن هذا العلم من الغيب مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود:49]،(36/35)
وكذلك تستخدم لتضخيم الشيء: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، وتستخدم لما سيقصه عليه من نبأ الغيب: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [النازعات:15].. وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص:21].. هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] ولما وصفهم بأنهم مكرمون؛ عرفنا أن إبراهيم قد أكرمهم، فإذاً إبراهيم يُكرم الضيوف وهذه من مناقبه، ولو كان المقصود بالمكرمين أن الله كرمهم، فكون إبراهيم يُكرم من كرمه الله، يعتبر من مناقبه أنه كرَّم المكرمين. فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ [الذاريات:25] سلاماً جملة فعلية، وسلامٌ جملة اسمية، والشيء الفعلي يقتضي التجدد والحدوث، والشيء الاسمي يقتضي الثبات والاستقرار، فإذاً: سلامٌ أبلغ؛ لأنها تقتضي الثبات والاستقرار، فكانت تحيته لهم من باب قوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]. قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات:25] ولم يقل: من أنتم؟ أنتم قوم منكرون، ولم يقل: أنا أنكركم، فدل ذلك على لطافة أسلوبه مع ضيفه، فإنه أخبرهم أنه ما رآهم من قبل، لكن لم يخبرهم بأسلوب فيه فجوة بينه وبينهم، ثم إنه راغ إلى أهله: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ [الذاريات:26] باختفاء وسرعة، وهذا هو الروغان، حتى لا يخجّلهم، لا كما يفعله بعض الناس مع ضيوفهم، فإنه يبرز بمرأى منه، و يخرج النقود، ويستدعي الولد، ويقول: خذ اشترِ لنا كذا من السوق، وهاتِ لنا كذا، أمام الضيوف، فإنه استقبال بارد، ويتضمن تخجيلاً للضيوف، وتسبباً في سواد وجوههم، لكن إبراهيم بدون أن يستشيرهم، راغ إلى أهله فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26]، فتضمن ذلك أنه خدم ضيوفه بنفسه، ولم يُرسل عبداً ولا ولداً. ثانياً: أنه جاءهم بحيوان تام، لينتقوا منه ما يشاءون، بعجل كامل، ثم إنه سمين وليس بهزيل، فهو يضيف الناس من نفائس ماله، فقربه إليهم، ولم يقل: تعالوا واقتربوا،(36/36)
وإنما قرب الطعام، وهذا أبلغ في الإكرام، ثم إنه قال: أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:91] فعرض عليهم الأكل بصيغة لطيفة، ولم يقل: كلوا، ضعوا أيديكم.. ونحو ذلك، أو سكت، فيتحرج الضيف، هل يمد يده أو ينتظر إشارة المد؟ فقال إبراهيم: ألا تأكلون؟ وهكذا ... فإذا قارنت بين المعنى العام الذي يفهمه الشخص وبين هذه الدقائق التي لا يُتوصل إليها إلا بالتدبر في الآيات؛ لوجدت ما معنى التدبر في القرآن الكريم؟!
الرفيق والطريق:
ثم قال ابن القيمرحمه الله: (إذا أردت أن تسير إلى الله سيراً حثيثاً قوياً، فعليك بمرافقة الأموات الذين هم في العالم أحياء، واحذر من مرافقة الأحياء الذين هم في الناس أموات ). من هم الأموات الذين هم في العالم أحياء؟ إنهم الصحابة والعلماء وأهل الفضل والكتب، كتبهم وعلمهم، وإن مات المؤلف فعلمه حي بين الناس، كما قالوا: تصنيف العالم ولده المخلد، ليس ولداً عمره ستون أو سبعون سنة ويموت، فانظر إلى كتبهم رحمهم الله، كتب العلماء النافعة، فإنها مئات السنين مستمرة وباقية، ووصلت إلينا، فرافق الأموات الذين هم في العالم أحياء، وتجنب أن ترافق الأحياء الذين هم في الناس أموات.. أموات بسبب معاصيهم وضلالهم وضياع أوقاتهم، وتضييعهم لأوقات غيرهم. يقول: إياك أن ترافق هؤلاء، فإنك لن تستفيد مطلقاً، فإذا حصلت هذه الأمور كان الأصل طيباً، وكان العود طيباً، وكانت النفس قوية، وصار العلم موجوداً، والصحوة الطيبة موجودة، والزاد إلى الله موجود، فإنك ستصل إلى الله بسلام. هذا تمام الكلام عن استعراض هذه الرسالة لابن القيم -رحمه الله- وهي الرسالة التبوكية ، التي أرسلها من تبوك -كما قلنا- ونبه فيها على سير المسلم إلى الله عز وجل .. نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.(36/37)
( رواسب الجاهلية )
عناصر الموضوع :
موقف الإسلام من آثار الجاهلية
ظهور الجاهلية بين أهل الدين بالتعصب
رواسب الجاهلية:
الطبع يغلب التطبع كما قيل، وربما اهتدى المرء لكن مع بقاء أمور في طبعه كان قد اعتادها في جاهليته، فتبدو على حين غفلة، أو في موقف ما، وهذا قد حدث للصحابة على رفعتهم وفضلهم، ونحن بذلك أحرى، ولكن النصح مطلوب، وتقبُّله وإن كان مراً واجب...
موقف الإسلام من آثار الجاهلية:
حث الإسلام على التخلص من آثار الجاهلية:(37/1)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فيا عباد الله! يكون المرء مسلماً، ويولد في الإسلام، ويعيش بين المسلمين، وربما يكون ضالاً فيهديه الله عز وجل، فيغشى دور العبادة، ويصحب الأخيار، ويأتي الطاعات، وينتهي عن كثير من المحرمات، وربما شرع في طلب العلم، ولكن يبقى في نفسه من آثار الجاهلية ما يبقى، يدخل في الإسلام لكن دخولاً ليس بالكلي، فتبقى معه آثار من آثار الجاهلية، وبعضهم تظهر في نفسه بعد حين من الزمن من تلك المورثات الأولى التي كان عليها أيام ضلاله، ويدخل بعضهم في الهداية، ولكن يبقى فيه من لوثات المجتمع الفاسد الذي كان فيه، أو مما ورثه عن بعض أهله وعادات آبائه وأجداده مما يخالف شريعة الإسلام، وهذا عيب كبير أن نكون مسلمين ولكن فينا من لوثات الجاهلية، وأن تظهر علينا علامات الهداية وسمت الإسلام والتمسك بالسنة، ولكن فيها رذاذ يصيبنا من الجاهلية. لقد جاء الله بالإسلام، فمحا الجاهلية، وتتبعت الشريعة كل أمر من أمور الجاهلية القبيحة لتنسفه وتحرمه، وتعظ الناس به، قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] يذكّر النساء المسلمات بالبقاء في البيوت فلا يخرجن لغير حاجة شرعية، كالصلاة في المسجد بشرطها، أو حاجة دنيوية لا أن يخرجن من غير حاجة. وقال تعالى: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية، وقال قتادة : إذا خرجن من بيوتهن كانت لهن مشية وتكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال مقاتل في تبرج الجاهلية: أن تلقي الخمار على رأسها، ولا تشده فيواري(37/2)
قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله، وربما كشف النحر وما على النحر من الحلي نتيجة عدم شد الخمار، هذا من تبرج الجاهلية، فذكر الله النساء المسلمات بترك ذلك فقال: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] لا يريد الشارع أن تبقى عند المرأة المسلمة خصلة من تلك الخصال الذميمة من العهد السابق، وعن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]. لقد كانوا -أيها الإخوة- يدعون الإنسان لمن تبناه، فيأتي إنسان يتبنى شخصاً له أب معروف، فيلغي اسم أبيه، وينسبه إلى نفسه، أو له أب غير معروف فيعطيه اسماً يضيفه إليه، وينسبه إلى نفسه؛ عن عائشة رضي الله عنها أن أبا حذيفة ، وكان ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالماً ، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد ، وهو مولى لامرأة من الأنصار، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً ، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتى أنزل الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ [الأحزاب:5]. لكن لا تجوز النسبة لغير أبيه الحقيقي، وإن لم يعرف فلا ينسب إلى شخص ليس بولده فيرث ظلماً مع أولاده من تركته، وربما كشف كذلك على بنات هذا الرجل، بحجة أنه ولد من أولاده وليس كذلك، فجاءت الشريعة بتحطيم هذه العادة الجاهلية، وأنزل الله في كتابه آية يبين فيها تحريم ذلك، وتغير اسم زيد بن محمد إلى زيد بن حارثة ، ورجع إلى اسمه الأصلي، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب زوجة زيد ، وكان من أكبر العيوب في الجاهلية، أن يتزوج الإنسان زوجة ابنه بالتبني، فكان(37/3)
تحطيمها بتزويج زينب للنبي عليه الصلاة والسلام، لإزالة تلك العادة الجاهلية، ونسخ ذلك، وعندما كان يدخل الشخص في الإسلام كان يمحو من نفسه عادات الجاهلية، ويقاوم نفسه التي تريد العودة إلى الطبع الأول، وربما غلب شيء أو جهل الإنسان شيئاً -والجاهلية من الجهل- فخرج منه أمر يكرهه الشارع، فيعاتب عليه وينبه إليه، كما حصل لأبي ذر رضي الله عنه، فروى المعرور بن سويد ، عن أبي ذر قال: رأيت عليه برداً وعلى غلامه برداً، فقلت -أي: لأبي ذر :- لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة، وأعطيته ثوباً آخر، فيوافق ما عليك ويكتمل الطقم، فقال: كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فذكرني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أساببت فلاناً؟ قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤٌ فيك جاهلية، قلت: على حين ساعتي هذه من كبر السن، قال: نعم) رواه البخاري وفي رواية مسلم : (نعم.. على حال ساعتك من الكبر). فأبو ذر رضي الله عنه لعله كان يجهل ذلك، واستغرب كيف فاتت عليه مع كبر سنه، فأكد له عليه الصلاة والسلام أنها من الجاهلية وإن غفل عنها، ثم أوصاه فقال: (هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولايكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه، فليعنه عليه) رواه البخاري ، وفي رواية: (إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله وعليه وسلم، فقال: يا أبا ذر ! إنك امرؤٌ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: يا أبا ذر ! إنك امرؤٌ فيك جاهلية، هم إخوانكم..) الحديث رواه مسلم. حصل بينه وبين إنسان سوء تفاهم، فعيره بأمه، وفي رواية أنه قال له: يا بن السوداء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك امرؤٌ فيك جاهلي) أي: خصلة من خصال الجاهلية، وهكذا قالها(37/4)
عليه الصلاة والسلام صريحة، و أبو ذر من هو؟ من أصدق الناس لهجة، وأتقاهم لله تعالى، لكن ظهر منه في لحظة من ضعف مكنونٌ من مكنونات الجاهلية، التي كانت قد ترسبت في الباطن عبر السنوات الطويلة التي عاشها في الجاهلية، ظهرت على حين غفلة وغضب، فعاتبه عليه الصلاة والسلام، وبيَّن له ذلك، لأن الإسلام لا يريد أن ترجع أمور الجاهلية، ولا أن تبرز أمور الجاهلية، بل يريدها نقية، يريد شخصية إسلامية سوية طاهرة ليس فيها من الأمر الأول شيء. وقال عليه الصلاة والسلام ذلك في القصة المشهورة التي رواها جابر رضي الله عنه قال: (غزونا من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ساب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين لعاب فكسع أنصارياً، أي: ضربه على القفا يمزح، وكان ذلك عيب عند أولئك، فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها خبيثة) رواه البخاري . (ما بال دعوى الجاهلية) أي: كيف ظهرت بينكم؟ كيف رجعتم إلى الاستنصار بالقبيلة والجماعة، وتتعادون، ويتحزب لكل إنسان جماعته وفرقته، ويتفرقون ويقتتلون؟ هذه دعوى الجاهلية، كيف ظهرت بينكم؟ ما بال دعوى الجاهلية، ترجعون إليها بعد أن هداكم الله؟! مع أنهم رفعوا شعارات إسلامية، فقال هذا: يا للمهاجرين! وقال هذا: يا للأنصار! والمهاجرون والأنصار اسمان إسلاميان، هؤلاء هاجروا إلى الله ورسوله، وهؤلاء نصروا الله ورسوله، ولكن مع ذلك لم يرض بها عليه الصلاة والسلام، لأنها على طريقة الجاهلية في التحزب والتعصب والتقاتل، وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) وقال: (أربع من الجاهلية لا يترك) وستبقى الأمة مبتلاة بهن، ستبقى هذه الأربع(37/5)
موجودة وحية في هذه الأمة مع أن هذه الأربع من أمور الجاهلية (الفخر بالأحساب) يفتخرون تعالياً وتكبراً كل إنسان بأصله وقبيلته (والطعن في الأنساب) فيذم ويطعن ويشتم في نسب الشخص الآخر (والاستقاء بالنجوم، والنياحة) قال (والنائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران أو درع من جرب). فهذه أمور الجاهلية، حذرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنها لا تزال تسري في الأمة، لكي ننتبه لها، ولا نقع فيها، بالرغم من أننا مسلمون، ولكن قد يرجع شخص إلى الطبع الأول، وإلى هذه السيئة التي تسري في الأمة.
الصحابة يسألون عن أمور جاهلية تحرياً لدينهم:(37/6)
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم، يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي بقيت، كما قال معاوية بن الحكم السلمي ((أرأيت أشياء كنا نفعلها في الجاهلية، كنا نتطير، قال: ذلك شيء تجده في نفسك، فلا يصدنك، قال: كنا نأتي الكهان، قال: فلا تأت الكهان) هكذا قال له: إنني حديث عهد بجاهلية، كنا نفعل كذا وكذا فبيِّن لي، فبيَّن له صلى الله عليه وسلم أن التشاؤم من الشيطان، ولا يردنك عن قصدك ولا يصدنك عن حاجتك، امض لمصلحتك، ولا تتشاءم، ولا تأت الكهان. وقال عليه الصلاة والسلام في قوم من العرب، والعرب كانوا مشهورين بالفخر بالآباء، وكانوا يتطاولون على بعضهم في ذلك، وينشدون الأشعار في الفخر، ويؤدي ما يؤدي إليه من احتقار الخلق والبغي والحرب بينهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس قسمان؛ أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من جنهم، أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن) . عُبِّية الجاهلية: فخرها، ونخوتها، وتكبرها، أذهبه الله.. محاه الله.. حرمه الله، ولم يبق الناس يتفاضلون إلا بالإيمان والتقوى، ليدعن هذا الفخر بالآباء مع أن الآباء جاهليون كفرة؛ من فحم جهنم، لكن كان لا يزال هناك من يفتخر بآبائه وأجداده، وإذا لم يترك هذا سيكون عند الله أهون من الجعلان، وهي تلك الدويبة السوداء التي تدير الخراءة بأنفها، صوَّر عليه الصلاة والسلام هذا الفخر بأقبح صورة لحشرة تدفع بأنفها العذرة، هكذا قال عليه الصلاة والسلام محارباً هذه الرذيلة التي ربما تظهر في الأمة. ولما جاءه رجل ممثلاً عن امرأة ضربت بطن الأخرى فأسقطت جنينها، فالنبي عليه الصلاة والسلام قضى بالدية على عصبة القاتلة، فقال الرجل: تغرمني من لا نطق وأكل، ولا شرب واستهل، فمثل ذلك يطل، أي: يبطل دمه وليس له حق، فقال صلى(37/7)
الله عليه وسلم (سجع كسجع الأعراب؟!) أي: رجعتم إلى الكهان، وإلى منطقهم، وشابهتموهم في السجع، وكان الكهان يسجعون، وقضى بالغرة عبد أو أمة مقابل الجنين الذي سقط، وهي عشر الدية، ورفض منطق الجاهلية، بل إنه عليه الصلاة والسلام، كان يغير الأسماء الجاهلية، ليمحو آثار الجاهلية، وقال أحد أولاد الصحابة: كان اسم أبي في الجاهلية عزيزٌ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، العزيز الصلب، ولعله كره له هذه الصفة لأن المؤمن هين لين، فسماه عبد الرحمن، وكذلك قال بشير ابن الخصاصية رضي الله عنه: أنه كان يماشي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر قصته وفيها تغير اسمه إلى بشير ، وكان الصحابة يقاومون الأسماء الجاهلية، فهذا ابن عباس رضي عنه، قال: (من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر ، ولا تقولوا الحطيم ، فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف، فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه) رواه البخاري . هذا الحجر: المنطقة غير المبنية من الكعبة، كان أهل الجاهلية يسمونه الحطيم ، وكانت أصنامهم فيه، وكان الشخص إذا أراد أن يحلف مد عصاً إلى هذه الأصنام الموجودة في الحطيم ليحلف ويسمونه بالحطيم ، فنهى ابن عباس عن تسميته بالحطيم وسماه الحجر ، وهو الاسم الإسلامي المتعارف عليه هكذا، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم تحرجوا من أشياء كانت في الجاهلية، فتحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة ؛ لأن أصنام الجاهلية كانت عليها، وأهل الجاهلية كانوا يطوفون بها، حتى أنزل الله تعالى قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158] وأزيلت الأصنام، ورجعنا إلى طريقة أمنا هاجر ، وتلك الذكرى العطرة. وكان الصحابة قد تحرجوا أيضاً من التجارة في الحج، لأنها كانت من عادات الجاهلية، فكيف يخلطون الدنيا بالآخرة، وقال ابن عباس رضي الله عنه: [كان ذو المجاز و(37/8)
عكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198] في مواسم الحج] رواه البخاري . هكذا إذاً أيها الأخوة، هكذا كانت تسير الأمور، وهكذا المحو لعادات الجاهلية، والإنكار والإباء أن تبرز صفة جاهلية بين المسلمين، فكانوا يريدونها نقية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحيينا على الإسلام، ويميتنا على الإيمان، ويجنبنا الجاهلية أقوالاً وأفعالاً، إنه سميع مجيب قريب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ظهور الجاهلية بين أهل الدين بالتعصب:(37/9)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصبحه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! كيف يكون ظهور الجاهلية بين أقوام من أهل الدين؟ يكون ذلك بمثل هذه العصبيات التي حذر منها النبي صلى الله وعليه وسلم، فيتعصب الناس لأقوال ولمذاهب مثلاً كما كان أهل الجاهلية يتعصبون لقبائلهم ويتعصبون لأنسابهم، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أمور من السنة المتنوعة، قال: ومنها أنواع تكبيرات العيدين، يجوز وكلٌ مأثور، ومنها التكبير على الجنائز يجوز على المشهور التربيع والتخميس والتسبيع، وإن اختار، أي: من اختار التكبير أربعاً، ثم تكلم عن التعصب للمذاهب، والأخذ بقول ومحاربة الأقوال الأخرى وبعضها صحيح، قال: حتى صار الأمر بأتباعهم، أي: أتباع المذاهب، إلى نوع جاهلية، فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك حمية جاهلية، مع أن الجميع حسن، قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بلالاً بإفراد الإقامة، وأمر أبا محذورة بشفعها، فلو أذن مؤذن على أذان أبي محذورة ، فلا ينكر عليه لثبوت ذلك، ومن تعصب لقول واحد مع أن القول الآخر صحيح، وعادى ووالى من أجل ذلك؛ فهو من أهل الجاهلية. وكذلك لما تلكم -رحمه الله- في مسألة البسملة في الصلاة، وذكر عن أقوال أهل العلم في إثبات كونها آية من القرآن، وفي قراءتها أقوال ذكرها، ثم ذكر أن بعض الناس من هذه الأمة، قد تفرقوا في ذلك، ورفعوا الألوية إظهاراً لشعار الفرقة، مع أن المسألة سهلة وواسعة، ولا تحتاج إلى هذه العصبية مطلقاً. إذاً فيمكن أن يحصل تعصب لأقوال من أناس يزعمون التدين، مع أن الكل صحيح مادام أنه قد ثبت بالأدلة. إننا أيها الإخوة! قد تظهر فيها أشياء من هذه الجاهلية، فنتعصب للقريب على البعيد، ويرجع الواحد إلى شعار الجاهلية(37/10)
فمثل: (أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على البعيد) أليس شعاراً جاهلياً؟ ومع هذا فإنهم يفعلونه، ألسنا نحتقر أحياناً أشخاصاً من جنسيات أو بلدان مع أنهم من المسلمين، فنستهزئ بهم، ونذكر ما يسمى بالنكات أو الطرائف عنهم، احتقاراً لهم؟ أو نقول لشخص فيه شيء من السذاجة: (عقليته عقلية كذا) ونحو ذلك؟ أليس فينا مفاخرة؟ أليس فينا مباهاة؟ ألسنا قد ندخل في الدين ونظهر سمات الاهتداء، ثم ننكشف في معاملة من المعاملات المالية، مع أن الشريعة حرمتها فنفعلها؟ وقد نشهد لشخص زوراً في محكمة؟ ألسنا قد نعتدي على المال العام، فنأخذ منه، بحجج مزيفة؟ ونعتدي على حقوق النشر والطبع المحفوظة للآخرين، وربما قال بعضنا: هذا للكفار، وهل كل أموال الكفار مباحة، أم أموال الكفار الحربيين هي المستباحة؟ فنعتدي بحجج واهية، أليس الواحد منا إذا صار في مكان أو وظيفة مهمة، ربما استكبر ومدح فاسقاً، وتعالى على الخلق وظلم، وربما هو يظهر شيئاً من علامات الدين؟ أليس يوجد فينا إسراف، وتبذير وبذخ في تصميم بيوتنا وتزويقها وجمع التحف فيها، ثم نحن نظهر التدين، والدين يقضي ألا إسراف وأن الله لا يحب المسرفين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويق البيوت؟ أليس أيها الأخوة ربما ظهر بذاءة في كلامنا؟ بل ربما ظهرت في كلامنا منكر كحلف بغير الله، مع أننا نقول: إننا من أهل التوحيد، وهذا مثال قد حدث على عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فكيف كانوا يتتبعون هذا الأمر؟ عن سعد رضي الله عنه قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت؛ كلهم قاموا عليَّ في المجلس -لأنه قال كلمة باطلة مع أنه ما قصد ذلك، ولكن مما كان تعود عليه في السابق سنين طويلة يتلفظ بها في الجاهلية، فخرجت الآن- وقالوا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأتيته فأخبرته، فقال لي: (قل: لا إله إلا(37/11)
الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له) رواه النسائي رحمه الله، فهكذا إذاً على أخيهم يعاونون وينبهون، وهكذا يجب أن يكون حالنا أيها الإخوة. أليس فينا أحياناً خصال من عدم التنازل، وعدم العفو، وعدم المسامحة مع أن الدين يقتضي المسامحة؟ ونصرُّ ونركب في رءوسنا جاهلية جهلاء في ألا نكسر كلمتنا، ولا نتنازل لإخواننا المسلمين، ويظن الواحد بالجاهلية أنه إذا تنازل لن يعود رجلاً، وأن رجولته قد نقصت، أليس كذلك يحدث بيننا أيها الإخوة؟ وهكذا وهكذا من الأشياء الكثيرة مما نرثه أحياناً من عادات أهلينا السيئة، بل إن النساء أيضاً حتى لو احتجبت وسلكت سبيلاً كثيراً طيباً من الدين، فإنه يظهر عليها أحياناً من ذلك، فتقول: هذه لم تزرني فلا أزورها، وهذه دعوتها فلم تجبني والآن دعتني فلا أجيبها، هكذا نتعامل مع أننا ينبغي علينا أن نرجع إلى الدين الحنيف، وأن نتخلص من سائر هذه العصبيات، وهذه الترهات من أمور الجاهلية. فهذه تذكرة والذكرى تنفع المؤمنين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيدنا إلى صوابنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً يرزقنا اجتنابه، وأن يقيمنا على الملة السمحاء، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يخرج من أنفسنا أمور الجاهلية، إنه سميع مجيب قريب. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واعل كلمة الدين، وانصر أهل السنة يا رب العالمين.(37/12)
( أسباب الزيادة في الرزق )
عناصر الموضوع :
أسباب الزيادة في الرزق
أسباب غير شرعية لزيادة الرزق
أسباب الزيادة في الرزق:
إن لزيادة الرزق أسباباً شرعية وغير شرعية، فمن الأسباب الشرعية: الاستغفار والتوبة، وتقوى الله تعالى، والتفرغ لعبادته، والتوكل، والمتابعة بين الحج والعمرة، وصلة الرحم، وكذلك الإنفاق في سبيل الله والهجرة .. هذا ما تحدث عنه الشيخ، وذكر أنه لابد أن يأخذ الإنسان بهذه الأسباب حتى يرزقه الله تعالى، وذكر أسباباً غير شرعية؛ كالسرقة والرشوة، والربا وغيرها، وبين أن على الإنسان أن يحتنبها ويحذر منها.
أسباب الزيادة في الرزق:(38/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] . يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فيا عباد الله: إن الله تعالى أمرنا بالضرب في الأرض لطلب المعاش والرزق، وللرزق أسباب شرعية جاءت في الكتاب والسنة، ولعلنا نعرض لها في هذه الخطبة، إضافةً لما تقدم من خطبة ماضية حول هذا الموضوع، وهذا العرض نافع لكل من لم يجد عملاً أو وظيفة، ونافع لكل من ركبته ديون لا يستطيع أداءها، ونافع لكل من لم يحصل على حقه فهو ينتظره على أحر من الجمر، ونافع كذلك لمن لا يكفيه راتبه، ولا يكفيه دخله من كثرة المصروفات وأبوابها المفتوحة عليه. وبالجملة: فإن موضوع المال والاقتصاد من الموضوعات الحساسة، ولذلك جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية ذكر كبير لما يتعلق بهذه القضية؛ لأنها قيام الناس قال تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً [النساء:5] فشأنكم وحياتكم يقوم بالمال. ولذلك فإن هذه المسألة كان لها مساحة لا بأس بها في القرآن والسنة، يحتاج(38/2)
إليها المسلم. ونقول هذا الكلام -أيضاً- في وقت رجع فيه كثير من الناس من الإجازات، وقد أنفقوا كل ما ادخروه في السنة الماضية، وصار بعضهم في شيء من الضيق.
الاستغفار والتوبة:
أيها المسلمون: اعلموا -رحمكم الله تعالى- أن من الأسباب العظيمة للرزق الشرعي: الاستغفار والتوبة .. (أستغفر الله وأتوب إليه). الاستغفار والتوبة من الأمور العظيمة التي جاء في القرآن والسنة ذكرها، قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12] . وكثير من الناس اليوم يستغفرون باللسان؛ لكن لا حقيقة للاستغفار في قلوبهم، وإذا تابوا فتوبتهم ناقصة، فبعضهم لا يقلع عن الذنب أصلاً، وبعضهم إذا أقلع فإنه لا يندم على ما فات، بل ربما تمنى أن يحصل له الذنب مرةً أخرى، وأما العزم على عدم العودة فغير حاصل؛ وذلك لأنه لعله يترقب أن يحصل له من الفرص ما يعود به إلى الذنب؛ لأن الاستغفار ليس من القلب، ولأن التوبة ليست صادقة، فكثير من الناس يُضَيَّق عليهم في معاشهم، وليس كلهم؛ فإن بعض الناس يملي الله لهم ليزدادوا إثماً. والله تعالى لما قال عن نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً [نوح:10-11] قال العلماء رحمهم الله: أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كَثُر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرَّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها. فإذاً: قضية الاستغفار والتوبة مسألة عظيمة. جاء رجل إلى الحسن البصري يشكو الجدب والقحط، فقال له: استغفر(38/3)
الله. ثم جاءه آخر يشكو إليه الفقر، فقال له: استغفر الله. ثم جاء ثالث يقول: ادعُ الله أن يرزقني ولداًَ، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه رابع جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك .. وفي رواية: فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله يقول في سورة نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12]. عباد الله: إن الذي يكثر من الاستغفار؛ فإن الله يفرج همه، وينفس كربه، ويرزقه من حيث لا يحتسب، مصداقاً لما في كتاب الله تعالى.
التقوى:(38/4)
والعامل الثاني من عوامل الرزق الشرعي: التقوى .. وقد عرفها العلماء بقولهم: امتثال أمر الله ونهيه، والوقاية من سخطه وعذابه سبحانه وتعالى. ولذلك فإن الذي يصون نفسه عن المعاصي متقٍ لله، والذي يقوم بالواجبات متقٍ لله، والدليل على ارتباط التقوى بالرزق قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3] . وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ [الطلاق:2] فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، يجعل له من أمره مخرجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:3] أي: من جهة لا تخطر بباله. وهذا له قصص كثيرة، وشواهد في الواقع؛ لكن أين المتقون؟! إن الذين يفعلون المعاصي ويرتكبون المنهيات كثير .. ينظرون إلى ما حرم الله، ويستمعون إلى ما حرم الله، ويمشون إلى ما حرم الله، ثم يقولون: لا نجد رزقاً، لا نجد عملاً، لا نجد وظيفة! نقول: اتقوا الله يجعل لكم مخرجاً، فقد قال ربنا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] . بركات من السماء، أي: المطر، وبركات الأرض، أي: النبات والثمار، وكثرة المواشي والأنعام، وحصول الأمن والسلامة؛ لأن السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ويحصل لهذا المخلوق على الأرض وتحت السماء من الرزق -إذا ما اتقى الله- ما الله به عليم. عباد الله: إن تطبيق الشريعة وسيلة عظيمة لحصول الرزق للناس، ودليله قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:66] أقاموا الشيء المنزل من السماء، أقاموه وطبقوه وحكَّموه لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [المائدة:66] هذه الآية السادسة والستون من سورة المائدة، وهكذا(38/5)
يكون تطبيق الشرع عاملاً من عوامل الرخاء، وسعة الرزق، ووجود البحبوحة للخلق.
التوكل على الله:
وأما النقطة الثالثة: فهي التوكل على الله سبحانه وتعالى .. والتوكل تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد على الله وحده، وعدم التعلق بالعباد؛ لأن الله قال: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17] وهذه أبلغ من قوله: (فابتغوا الرزق عند الله)، أي: عنده لا عند غيره، التمسوه منه لا من غيره. التوكل على الله أن تفرغ قلبك من التعلق بالخلق، وتُوكل أمرك لله، وترجو الفرج من الله، وتنتظر الرزق مع بذل الأسباب والأخذ بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) . (تغدو) أي: تذهب في أول النهار. (خماصاً) أي: جياعاً. (وتروح) أي: ترجع في آخر النهار. (بطاناً) جمع بطين، وهو عظيم البطن، والمراد: شباعاً. هؤلاء خَلْق الله؛ الطير في السماء تتوكل على الله أكثر بكثير من البشر .. (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير) وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] فالله يكفيه، ويقضي دينه، ويسد جوعته. ولا شك أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله، بل إنه داخل في التوكل على الله، ومن صلب التوكل أن تأخذ بالأسباب، وإلا صار التوكل لغواً. سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال: لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي، فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) يعني: الجهاد، وكم يحتاج إلى إعداد! وتجميع الطاقات! وبذل الأسباب! والتوقيت المناسب! وخداع العدو! وأخذه على حين غرة! ونحو ذلك الأمور الحربية! (وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي) فإذا كان الرزق تحت ظل الرمح، وكان الجهاد في سبيل الله باباً عظيماً للرزق؛ لأن الله قال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً(38/6)
طَيِّباً [الأنفال:69] أي: غنمتم من المعارك مع الكفار، خذوه حلالاً طيباً، ولا شك أن الجهاد يحتاج إلى بذل أسباب، والرزق تحت ظل الرمح؛ إذاً: لابد من بذل الأسباب. وقال الإمام أحمد رحمه الله تكملةً للجواب عن السؤال: فقد قال -أي: النبي صلى الله عليه وسلم-: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق. فتأملْ فقه الإمام رحمه الله .. الطير تتوكل على الله؛ لكن هل تقعد في أعشاشها، أو أنها تغدو وتروح، تذهب في الصباح للبحث عن الرزق، وتعود محملةً بالطعام لأولادها في أعشاشها؟ كَدٌّ وسعي وذهاب في طلب الرزق، فلم يقل: توكلوا فقط، بل قال: (اعقلها وتوكل) . وهذه المسألة مسألة الأخذ بالأسباب باب يغرق فيه كثير من الناس، فبعضهم يجعل كل شيء الأخذ بالأسباب، ولا يتوكل على الله، وقلبه غير معلق بالله، وإنما معلق بالواسطة الفلانية، والموظف الفلاني، والصديق الفلاني، والأوراق التي قدمها، والإعلانات، وترقب النتائج من الشركة، ونحو ذلك، لكن لا يترقب شيئاً من الله، وبعض الناس مضيع للأسباب لا يبذل شيئاً. أحدثكم عن قصة حدثت مع شخص جاء إليَّ، شاب يقول: إنني أحتاج إلى إيجار الشقة التي استأجرتها للسكنى، وأحتاج إلى قرض لكي أسكن وأدفع الإيجار، فاعتذرتُ إليه بأن إقراضه غير متيسر الآن، والناس كان أكثرهم مسافرين، فذهب هذا الشخص يسعى في طلب الرزق، فبدأ بهذه المطاعم الموجودة يلف عليها، ويقول: ما حاجتكم من الخضراوات والفواكه واللحوم؟ وبدأ يسجل هذه الاحتياجات ويقولون: قدم لنا تسعيرة. ثم ذهب إلى سوق الخضار المركزي يسجل ويدون الأسعار، ثم قدم تسعيرته إلى بعض المطاعم، واكتفى بربح معقول، فبدأ هذا المطعم يأخذ منه، وهذا المطعم يأخذ منه، والثالث يأخذ منه، وهكذا، حتى دفع إيجار بيته بالكامل. إذاً: يمكن للإنسان إذا تحرك وفكر أن يحصل على الرزق، ولستُ أقول: اذهبوا إلى(38/7)
المطاعم الآن كلكم، وإنما المقصود -أيها الإخوة- ضرب المثل، قد يوجد في البقالات مستلزمات تحتاج إلى شراء من تجار الجملة ونحو ذلك، فالمقصود تحريك الذهن لمن لم يجد وظيفة أن يسعى في العمل، ولو كان عنده وظيفة، يسعى في العمل، والله يرزقه لو أحسن التوكل على الله .. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]
التفرغ لعبادة الله تعالى:
وكذلك من الأسباب العظيمة للرزق: التفرغ لعبادة الله تعالى .. ومعنى التفرغ لعبادة الله: أن يكون العبد حاضر القلب عند العبادة، هذا هو المقصود بالتفرغ لعبادة الله؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (يا بن آدم: تفرغ لعبادتي؛ أملأ صدرك غِنَىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يدك شغلاً، ولم أسد فقرك) حديث صحيح. فبعض الناس عندهم أشغال؛ لكن فقرهم لم يُسَد، الله ملأ أيديهم بالأشغال والمقاولات والأعمال؛ لكن لا يوجد بركة ولا فائدة، خسارات متوالية، ولا يجدون الكفاية. وقال الله تعالى في الحديث القدسي في اللفظ الآخر: (يا بن آدم: تفرغ لعبادتي؛ أملأ قلبك غِنَىً، وأملأ يديك رزقاً، يا بن آدم: لا تباعدني؛ فأملأ قلبك فقراً، وأملأ يديك شغلاً) فيشغله بنفسه، ويكثر عليه الأشغال والأعمال؛ لكن الفقر لا زال موجوداً، وهو تحت الصفر، والحساب بالناقص، وهكذا ...
المتابعة بين الحج والعمرة:
ومن أسباب الرزق -يا عباد الله- المتابعة بين الحج والعمرة .. ومعنى المتابعة بين الحج والعمرة: أن يجعل أحدهما تابعاًَ للآخر، واقعاً عقبه، أي: إذا حج يعتمر، وإذا اعتمر يحج، وهكذا ... والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة -أي: الأشياء الرديئة والشوائب- وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة) فتأمل أنه جعل المتابعة بين الحج والعمرة، نافية للفقر والذنوب، مذهبة لهما.
صلة الرحم:(38/8)
ومن أسباب الرزق الشرعية: صلة الرحم .. والرحم هم أقرباء الرجل من جهة أبيه وأمه، سواءً كانوا يرثونه أو لا يرثونه، وهذا الكلام مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، وأن يُنْسأ له في أثره؛ فليصل رحمه) . وقال صلى الله عليه وسلم: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، مَنسأة في العمر) يعني: تطيل عمر الإنسان. فهذه صلة الرحم بما فيها من هذا الفضل العظيم، حتى لو كان الإنسان فاسقاً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، حتى إن أهل البيت لَيَكونوا فَجَرَة -مقيمين على مَعاصٍ- فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا) رواه ابن حبان وهو حديث صحيح. فإذاًَ: عليك بصلة الرحم، تصل الأقارب وتزورهم، تعين محتاجهم، تهديهم، وتعودهم، وجميع أنواع الصلات سبب لمجيء الرزق إليك، ولو كانوا على البُعد، فلن يخلو الأمر من وسيلة للصلة.
الإنفاق في سبيل الله، والنفقة على طلاب العلم:(38/9)
سابعاً: الإنفاق في سبيل الله .. قال تعالى: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: يا بن آدم أَنفق أُنفق عليك) رواه مسلم رحمه الله تعالى، فهذا وعد الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] ومن أصدق من الله وعداً. والملَك يدعو ويقول: (اللهم أعطِ منفقاً خلفاً) والنبي عليه الصلاة والسلام يوصي بلالاً ويقول: (أنفق يا بلال ، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً) قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ [البقرة:268] يقول: لو أنفقتَ نقص مالك، أنت محتاج إليه، قدم نفسك على الناس، أولادك أحوج، والله يقول: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39] .. ( أَنفق أُنفق عليك ) . ومن الأسباب كذلك: الإنفاق وإعاشة عباد الله المتقين من طلاب العلم .. والدليل على هذا الكلام: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف -واحد متفرغ للعلم، وواحد متفرغ للتجارة- فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! لا يبذل شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك تُرْزَق به) لعل السبب في رزقك هو إنفاقك عليه، رواه الترمذي رحمه الله تعالى، وهو حديث صحيح.
الهجرة:(38/10)
أيها المسلمون: هذه بعض الأسباب الجالبة للرزق؛ فإذا ضاقت الدنيا بالإنسان في بقعة من البقاع فمن أسباب طلب الرزق: الهجرة .. قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [النساء:100] سعة في الرزق، وإرغاماً لمن أخرجوه، ولذلك لما هاجر المهاجرون في سبيل الله، وتركوا وطنهم لله، فَتَحَ الله عليهم الدنيا، وجاءت الغنائم، وتَبِعَتْ غنائمَ المشركين غنائمُ كسرى وقيصر، جاءت إلى المهاجرين، فوسَّع الله عليهم توسعة عظيمة، ومشكلة الناس أنهم يستعجلون النتيجة، يقولون: تُبْنا اليوم فما جاءنا الرزق بسرغة، هاجرنا اليوم فما حصل شيء بسرعة، ولكن المسألة تحتاج إلى مصابرة وتحتاج إلى استمرار، فإن نتائج كثير من الأعمال لا تُرى فوراً. نسأل الله تعالى أن يمد في أعمارنا في طاعته، وأن يوسع في أرزاقنا ويجعلها عوناً لنا على طاعته. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
أسباب غير شرعية لزيادة الرزق:(38/11)
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. أشهد أن لا إله إلا هو الرزاق وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] كتب الرزق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب رزق كل مولود قبل أن يولد -سبحانه وتعالى- وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: هذه بعض الأسباب الشرعية لطلب الرزق، فهل هناك أسباب غير شرعية لطلب الرزق؟ الجواب: نعم، وهي كثيرة جداً، وإن البلاء في هذا الزمان أن يجد العبد أبواباً للحرام كثيرة، ولا يجد أبواب الحلال إلا قليلة، ولكن: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2] . فأبواب كسب الرزق بالحرام متعددة: كالسرقة، والرشوة، والشفاعة مقابل المال .. أنقلك من مكانك إلى مكان وتدفع لي خمسة آلاف .. أبحث لك عن عمل .. أشفع لك لتأخذ الوظيفة، وأنقل لك زوجتك من مدرسة إلى مدرسة، وأساعد في توظيف زوجتك بعد تخرجها من الكلية بالمال، والشاهد أخذ المقابل على الشفاعة، وقد جاء النهي عن ذلك، فأما من يقوم بالعمل، ويطالب وراء المعاملة، ويذهب ويجيء؛ فهذا يأخذ أجرة تعبه دون تَعَدٍّ على غيره، فإن كثيراً من الذين يشتغلون في هذه الأعمال يتعدون على دَور غيرهم، ويظلمون الناس. ومن الناس من يتعامل بالربا، ويستلف بالربا؛ ليقيم مشروعاً بالربا، ثم يأخذ بعض العوائد ليسدد الربا، ويجادلون بالباطل ويقولون: استفدنا واستفاد البلد، ونقول: إنما هو دمار وخراب ونزع للبركة، ولو كثرت الأرقام فإنه كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قُلٍ) سيكون قليلاً. وهكذا يفعل كثير من الناس في أنوع من المحرمات والشبهات، ثم يجادلون بالباطل، صار الربا شيئاً مسَلَّماً من المسلمات الشرعية، صار يُناقش ويقول: أقنعني، ويعطون الرُّشا لمندوبي(38/12)
المبيعات، ومندوب المبيعات لا يشتري من الدكان إلا برشوة محسوبة داخل الفاتورة أو خارج الفاتورة، علماً أن له راتباً يأخذه من الشركة التي يعمل فيها، وتجده قد يعطى مبلغاً زهيداً إذا كان من هذه العمالة الآسيوية أو غيرها، ويعطى غيره مبلغاً أكبر، وهكذا، والجامع واحد؛ إعطاء الرشوة، إفساد الذمم، وتخريب العمال على مَن وظفهم، وأصحاب شركاتهم، وصارت هناك دخول أخرى، هناك بعض الناس لهم دخول أخرى، دخلهم الوظيفي ليس بشيء بجانب هذا، وأكثرها من الحرام، ومن تأمل عرف وشاهد بأم عينيه. ومنهم من يسعى لجذب الزبائن باستخدام الميسر وجوائز السحب، وما أكثرها! ويعملون المسابقات التي لا تَمُتُّ لا إلى جهاد ولا إلى علم شرعي، ويعطون عليها الجوائز لجذب الناس، وإيغار صدور الباعة الآخرين عليهم، والتغرير بالمشترين، وهذه أشياء كثيرة. وقد تكلمنا في خطبة ماضية عن الدولار الصاروخي، الذي يتعامل به الآن عددٌ من الناس، ويوزعون قسائمه، ويبيعونها، ويرسلون المبالغ بالشيكات إلى الكفار يا عباد الله! ويُضْحَك عليهم بإرسال أربع قسائم ليبيعوها، ويقول: رجع إلي مالي، ومسكت الدور لعلها تأتيني الفرصة والكسب العظيم، وقد سبق بيان أن ذلك حرام، وفتوى أهل العلم في المسألة في هذا الدولار الصاروخي الذي يقولون فيه: استرخِ وأَصْبِح غنياً، ووصف للنجاح بواسطة هذه الوصفة، تستطيع أن تربح رأس المال بدون التزامات مالية مقابل دفع كذا على القسائم، تغريرٌ بالناس، وأكل أموالهم بالباطل، وقد أفتى علماؤنا أنه ميسر داخل في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] ثم بعد ذلك إذا بيعت هذه القسائم، وتطورت الأمور، سيجد عددٌ كثير من الأغبياء عندهم قسائم، ولا يجدون من يبيعونها عليه؛ لان أكثر الناس قد اشتروا القسائم ولا يوجد من يباع عليه، وهذه القاعدة الهرمية السفلى(38/13)
هم الأغبياء والمغفلون، والذين باعوا عليهم هم آكلو الحرام، الواقعون في الميسر، المُعِيْنُون للكفرة، المُرَوِّجُون للباطل. فالناس بين ذكي يستخدم ذكاءه في الشر، وبين غبي تنطلي عليه الخدع بسبب جهله وعدم استفتائه وعدم سؤاله، فهو واقع فيه، ومع التحذير الذي ذكرناه سابقاً والفتوى التي أشرنا إليها من أهل العلم؛ فلا زال الناس يتعاملون، وتنتشر هذه الأوراق سعياً في طلب رزق يكون وهمياً بالنسبة لأكثر من (99%) من الذين يشترون هذه القسائم، ويبقى بعض المحظوظين بزعمهم الذين ينالهم شيء. فابتعدوا -يا عباد الله- رحمكم الله عن أبواب الرزق المحرم، ابتعدوا عن الشبهات، اتقوا الله وخلِّصوا أموالكم من الحرام. نسأل الله تعالى أن يطيب مكاسبنا، وأن يجعل رزقنا حلالاً. اللهم اقضِ ديوننا، وسُد جوعتنا.اللهم اكفنا مد الأيدي للناس، واجعلنا غير محتاجين إلى أحد من خلقك. اللهم اجعلنا عليك متوكلين، وإليك منيبين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين. والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(38/14)
( أحكام المسابقات وأضواء على عاشوراء )
عناصر الموضوع :
أقوال أهل العلم في السباق وبعض أحكامه
حكم صيام يوم عاشوراء
مسائل متفرقة في عاشوراء
أحكام المسابقات وأضواء على عاشوراء:
أصل المسابقات مشروع في الإسلام، ولكن بشروط وأركان، وقد جدَّ اليوم ما جد من الحوادث، وتوسع الناس في المسابقات حتى دخلت في أمور هي محل نظر عند أهل العلم، وفي هذا الدرس تجد نبذة عن هذا الموضوع وما يحل منه وما يحرم .. ثم تجد حديثاً لطيفاً عن يوم عاشوراء وحكم صومه، وما أحدث فيه أهل البدع...
أقوال أهل العلم في السباق وبعض أحكامه:(39/1)
إن الحمد لله؛ نستعين به ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله: لما كثرت المسابقات وجوائزها، وانتشرت بين الناس؛ رأيت أن أنقل لكم طرفاً من أقوال أهل العلم في مسألة السباق وبعض أحكامه، والمسابقة وما جاء عنهم فيها من أحكام.
حكم السباق والمسابقة:(39/2)
فأما السباق -أيها المسلمون- فإن الأصل فيه الجواز بالسنة والإجماع، أما السنة فروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (سابق بين الخيل المضمرة من الحيفاء إلى ثنية الوداع وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق) وهذه مسافة معلومة سابق فيها النبي صلى الله عليه وسلم -أي: أذن بالسباق فيها- والمسابقة سنة إذا كانت بقصد التأهب للقتال بإجماع العلماء ولقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [الأنفال:60] وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي، وقد روى البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على قومٍ من أسلم ينتضلون فقال: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) ولخبر أنس رضي الله عنه وأرضاه: (كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابيٌ على قعودٍ له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سبقت العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) قال الزركشي رحمه الله: وينبغي أن تكون المسابقة والمناضلة فرض كفاية؛ لأنهما من وسائل الجهاد، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، والمسابقة في السهام آكد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا) وقال الترمذي -رحمه الله- حسنٌ صحيح، ومعناه أن السهام تنفع في السعة الضيق، بخلاف الفرس فإنه لا ينفع في مواضع الضيق؛ بل قد يضر، ولذلك يكره لمن تعلم الرمي أن يتركه كراهة شديدة، بل قد يكون حراماً لظاهر الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما إذا قُصدِتْ المسابقة لغير الجهاد، فالمسابقة حينئذ مباحة بالشروط الشرعية. واعلموا رحمكم الله أن المسابقة تكون على جوائز وتكون على غيرها.
من أحكام المسابقة:(39/3)
فأما المسابقة بغير جوائز كالمسابقة على الأقدام، وبالسفن والبغال والحمير، والمصارعة، ورفع الحجر ليعرف الأشد، والمسابقة على الأقدام قد وردت بالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم و عائشة ؛ فمثل هذه المسابقات جائزة إذا كانت بغير جوائز، وبغير عوض كما ذكر ذلك الفقهاء رحمهم الله تعالى، أما المسابقات التي فيها إيذاءٌ للنفس، أو التي فيها فعل محرمات أو التي فيها لبس قصيرٍ وإظهار عورة، ودق طبولٍ ومزامير، وإضاعة للصلوات، فلا شك أنها حرام، سواء كانت بعوضٍ أو بغير عوض. أما النوع الثاني من المسابقات: وهو المسابقة بعوضٍ وجوائز كغالب المسابقات اليوم؛ فلا شك أن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى أنه لا يجوز السباق بعوض إلا في النصل والخف والحافر؛ لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٍ أو حافر) أي: لا جائزة تجعل للسباق ولا عوض إلا في هذه الأشياء الثلاثة. قال ابن قدامة -رحمه الله-: المراد بالنصل هنا السهم، وبالحافر الفرس، وبالخف البعير، فهذا المقصود به المسابقة بجوائز وعوض في كل ما يعين على الجهاد، وذهب بعض الفقهاء رحمهم الله، إلى إلحاق الرماح، والرمي بالأحجار بمقلاعٍ، والرمي بالمنجنيق ونحوه، والتردد بالسيوف والرماح، أن ذلك داخلٌ فيما يجوز بعوض ؛ لأنه يعين في الجهاد. وكذلك المسابقة في الرمي بالآلات الحديثة، جائزة بعوض قياساً على ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الفقهاء رحمهم الله: ولا تصح المسابقة بعوضٍ على كرة الصولجان، وكان عندهم لعبة يركب فيها بعض الناس دوابَّ، ويقذفون بالكرة بعضهم إلى بعض، قال العلماء: لا تصح المسابقة بعوض -بجوائز- على كرة الصولجان، ولا على الشطرنج، ولا على الوقوف على رجلٍ واحدة ليُنظَر من الذي يصمد أكثر، ولا على معرفة ما في يده شفع أو وتر فإن قال: اعلم ما في يدي إذا كان خمساً أو ستاً أو سبعاً أو ... شفعاً أو وتراً ولك كذا فهذا لا يجوز، وكذلك سائر أنواع(39/4)
اللعب كالمسابقة على الأقدام؛ لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب؛ كاللعب بكرة الصولجان والشطرنج فإنه لا يجوز جعل الجوائز فيها؛ فضلاً عن كون بعضها محرماً عند كثيرٍ من أهل العلم. ولا تصح المسابقة بعوضٍ على الكلاب ومهارشة الديكة ومناطحة الكباش بلا خلافٍ بين أهل العلم، وذهب بعضهم إلى جواز جعل الجوائز على مسابقات الغطس لأنه يستعان به في الحرب. فأنت ترى -رحمك الله تعالى- أنهم إنما أباحوا الجوائز على المسابقات التي فيها تدربٌ على الجهاد وإعدادٌ للعدة فيه؛ لأن هذه الأمة أمة جهاد، ولا يجوز لها ترك الجهاد، ولو تركت الجهاد ذلت؛ ولذلك حثت الشريعة على كل ما يعين على الجهاد، وأباحت الجوائز بالمسابقات على كل ما يعين على الجهاد، وأما غير ذلك فلا يجوز جعل الجوائز فيه على قول جمهور العلماء، وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم رحمه الله جعل الجوائز على مسابقات حزب القرآن الكريم والحديث، ونشر العلم والسنة، والدين والشريعة الإسلامية قياساً على إباحة الجوائز في مسابقات الجهاد؛ لأن ذلك مما يرفع شأن الدين ويقويه، أما جعل الجوائز على مسابقاتٍ لا علاقة لها بالعلوم الشرعية، ولا علاقة لها بالجهاد؛ فإن جمهور العلماء أخبروا على تحريم ذلك، وأن المال الذي يؤخذ منه حرامٌ لا يجوز.
توسع الناس في العصر الحاضر في المسابقات التجارية:(39/5)
أيها المسلمون انظروا -رحمكم الله- فيما توسع فيه الناس اليوم في جعل الجوائز على المسابقات، وما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٍ أو حافر) فهذا واضحٌ في جعل الجوائز لمسابقات الجهاد، أما غيرها مما لا يعين على الدين، فلا يجوز جعل الجوائز في المسابقة عليه، وحتى المسابقات التي فيها جوائز إنما تشرع وتجوز بشروطٍ ذكرها الفقهاء؛ منها تحديد المسافة، وتعيين أول المسافة، وتعيين الفرسين أو البعيرين، وكذلك أن يكون هناك من يعيّن بدايته ونهايته، وأن يكون فيها محللٌ لا يدفع من الجائزة شيئاً عند الجمهور. وكذلك فإن لهم شروطاً في السباق في السهام؛ كأن يستوي عدد الرشق، وصفة الإصابة، ومعرفة قدر الغرض وهو الهدف الذي يرمى، ونحو ذلك من الأمور. وكذلك فإن هذه المسابقات التي توسع فيها الناس اليوم في كثيرٍ من الأمور التي لا تخدم الجهاد، ولا تعين على نشر الدين؛ فإن كانت بغير عوض، وكانت المسابقة مباحة كالسباق على الأقدام وغيره فلا بأس به، أو من يرفع حجراً فلا بأس به إذا كان بغير جائزة، أما إذا كان في أمرٍ محرم كنطاح الكباش ومهارشة الديكة ونحو ذلك؛ فإنه حرام لا يجوز بعوضٍ ولا بغير عوض، فتأمل الآن حال هذه المسابقات التجارية التي يكتبون فيها عن اسم المنتج وصفته ولونه، والذي يحلها له جائزة، وعند جمهور أهل العلم أخذ الجوائز على هذه المسابقات لا يجوز لأنه مخالفٌ لحديث: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٍ أو حافر). قارن الآن بين الحديث وكلام أهل العلم وبين التوسع الذي يحصل لتعلم -رحمك الله- أن القضية الآن لا تدور على الشريعة في كثيرٍ من الأمور، وإنما هي داخلة في تغريرٍ أو خداعٍ، أو دعاية رخيصة، أو إضاعة لأوقات الناس، أو إكساد لسلع التجار الآخرين ومنافسة غير شريفة ونحو ذلك. وقد كثر الحرام في الأموال ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله عز وجل أن يحعلنا من(39/6)
الذين يدورون على الشريعة، وأن يجعلنا من المتمسكين بها الحريصين عليها, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.
حكم صيام يوم عاشوراء:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين ورب الآخرين، أشهد أنه الحي القيوم، لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. عباد الله: مناسبة عاشوراء في الأمة الإسلامية مناسبة عظيمة وشرعية، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس قال: (قدم رسول صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم) نحن أمة التوحيد وموسى من الموحدين، ونحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه؛ انتزع الفضيلة فلم يبقِ لهم فضيلة، وإظهاراً للمخالفة فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يومٍ قبله وقال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، وصار المستحب صيام تاسوعاء وعاشوراء.
وجوب صيام عاشوراء قبل فرض رمضان:(39/7)
كان عاشوراء صياماً واجباً، فلما فرض رمضان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عاشوراء يومٌ من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) لأنه صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فكان صياماً واجباً فرضاً، فلما فرض رمضان صار صيام عاشوراء مستحباً ونسخت فرضيته، وقال: (فمن شاء صامه ومن شاء تركه) رواه مسلم ، ولما قال عليه الصلاة والسلام: ( عاشوراء يومٌ من أيام الله ) علمنا أنه شرفٌ عظيمٌ لهذا اليوم؛ لأن إضافة الشيء إلى الله تدل على عظمة هذا الشيء، فلما قال: ( يومٌ من أيام الله ) دل ذلك على شرف هذا اليوم وعظمته، وفي الصحيحين عن الربيع بنت معوذ تروي لنا قصة جميلة، وتعرض لنا لوحة فذة مما كان عليه المجتمع الأول، حيث كانت العبادة في المجتمع الأول من الرأس إلى القاعدة، وكانت العبادة على جميع المستويات قالت: (فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم، ونذهب من المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن -الصوف- فإذا بكى أحدهم على الطعام -أي: بسبب الجوع- أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار) يلهون الأولاد تصبراً لهم على الصيام، وفي رواية: (فإذا سألونا الصيام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم) رواه مسلم رحمه الله. هذا اليوم العظيم الذي احتسب النبي صلى الله عليه وسلم على الله أن يكفر بصيامه السنة التي قبله، ولا يحتسب عليه الصلاة والسلام إلا على حق ووعدٍ أكيدٍ من الله عز وجل.
استحباب صيام التاسع والعاشر من محرم:(39/8)
أيها المسلمون! صار الأفضل صيام تاسوعاء وعاشوراء، وإن صام عاشوراء ويوماً بعده صح أيضاً، وإن صام عاشوراء وحده جاز أيضاً. وأما الذين صاموا الأربعاء والخميس فلا حرج عليهم في ذلك أبداً، ولو اكتشفوا أن عاشوراء الجمعة فإن صيامهم الأربعاء لا حرج عليهم فيه، كيف وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامِ محرم، وأن أفضل شهرٍ يصام بعد رمضان محرم، فأي صيامٍ فيه شرعيٌ موافقٌ للشريعة، فهو مستحبٌ لأنه من محرم، فلا حرج عليك -أيها المسلم- إذا صمت الأربعاء، والخميس، وإن أضفت إليه الجمعة احتياطاً فهو أحسن وأحوط لإصابة عاشوراء، فإن من صام الخميس والجمعة أصاب عاشوراء قطعاً في هذه السنة، ولو صام الأربعاء لا حرج عليه ولو صارت ثلاثة أيام، وفي رواية الميموني عن الإمام أحمد قال: نصومهما -أي التاسع والعاشر- فإن اختلف في الهلال صام ثلاثة أيامٍ احتياطاً، و ابن سيرين يقول ذلك، وممن قال بصيامهما الشافعي وأحمد وإسحاق، وإذا جاءك حكم منهم فحسبك به..!
مسائل متفرقة في عاشوراء:
وجه مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في يوم عاشوراء:(39/9)
لقد ظهر في هذا اليوم مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب؛ حيث كانت اليهود من أهل المدينة و خيبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذونه عيداً، وكان أهل الجاهلية يقتدون بهم في ذلك، وكانوا يكسون فيه الكعبة، وقد ورد شرعنا بخلاف ذلك، ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: (كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود وتتخذه عيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموه أنتم)، وفي رواية لمسلم : (كان أهل خيبر يصومون عاشوراء ويتخذونه عيداً، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم -والشارة: هي اللباس الحسن الجميل، والمظهر الحسن- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصوموه أنتم) وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيداً، وعلى استحباب صيام أيام أعياد المشركين؛ لأن الصيام ينافي معنى العيد؛ لأن العيد فيه توسعٌ ومآكلٌ، والصيام فيه امتناعٌ عن الأكل والشرب؛ لذلك لا يجوز صيام عيد الفطر ولا الأضحى، ولا صيام الجمعة فقد ورد النهي عنه لأنه عيد المسلمين في الأسبوع. لما كان اليهود يظهرون الفرحة فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامه، وإن كانوا صاموه فقد خالفهم بصيام يومٍ قبله، فلا يبقى في الشريعة موافقة لأهل الكتاب بالكلية.
حكم تخصيص عاشوراء بالتوسعة على العيال أو اتخاذه مأتماً:(39/10)
أما مسألة التوسعة على العيال فقد ورد فيه حديثٌ حكم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بالوضع وما أبعد، وقد سئل عن الحديث الإمام أحمد فقال: لا أراه شيئاً، فلا تقوم به حجة، وسع على عيالك سائر السنة ولا تخص عاشوراء بعيدياتٍ ولا بتوسعة. قال ابن رجب رحمه الله في كتابه لطائف المعارف : وأما اتخاذه مأتماً -أي اتخاذ عاشوراء مأتماً- كما تفعل الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً. قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً [الكهف:103-106]. قال ابن رجب رحمه الله: ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً، فكيف بمن دونهم، كالحسين وغيره، لم يؤمر باتخاذ يوم أحد مأتماً وقد قتل فيه سبعون من المسلمين الأخيار الأبرار، ولا يوم بئر معونة الذي قتل فيه سبعون من القراء من حفظة كتاب الله من الصحابة، ولا في يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أهل الشرك فهم يفعلون المآتم، والله يريد أن يعذبهم في الدنيا بأيديهم قبل الآخرة، يعذبون أنفسهم بأيديهم ويصدون الناس عن دين الإسلام، ليأخذ الناس الفكرة السيئة عن دينهم وأصحابه وأهله، والكفرة مهرة في اقتناص مثل هذه الفرصة إعلامياً.
دروس وعبر من يوم عاشوراء:(39/11)
أيها المسلمون! يوم عاشوراء يذكرنا بالتوبة إلى الله عز وجل، هذا يومٌ من أيام الله نجى الله فيه موسى وصامه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو موسم عبادة، قال بعض السلف : آدم أخرج من الجنة بذنبٍ واحد وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها وتريدون أن تدخلوا بها الجنة.
تصل الذنوب إلى الذنوب وتر ... ... تجي درج الجنان بها وفوز العابدِ
ونسيت أن الله أخرج آدماً ... ... منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ
العجب ممن عرف ربه ثم عصاه، وعرف الشيطان ثم أطاعه: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50] نريد أن يكون هذا اليوم موسم انطلاقة في العبادة والطاعة والتوبة والاعتراف بالذنب؛ ربنا إنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا، نريد أن يكون هذا اليوم تجديداً للعهد مع الله تعالى، وتجديد عقد التوبة مع الله -عز وجل- أيها المسلمون، لا نريد أن يكون منعطفاً أو انتكاسات. تقول إحدى النساء: تزوجته وهو ملتزمٌ بالدين، في أول سنة صار يدخن، وفي السنة الثانية عكف على أهل السوء والفسق، وفي السنة الثالثة صار يشرب الخمر، وبعد ذلك ترك الصلاة بالكلية، إذا سافر لأهله أو جاءه ضيف قام يصلي مجاملة، فإذا ذهبوا ترك الصلاة. وتقول الأم المسكينة: صبرت عليه وتعبت عليه، وعالجته وأدخلته المستشفى من المخدرات، ثم يخرج فيرجع إلى رفقاء السوء، ويقول: تبت وتبت وأقلعت كيف أصدقه؟! كيف يتوب وأنا أرى بين أغراضه إبر المخدرات وعليها أثر الدم، نريد أن يكون هذا اليوم توبة إلى الله، نريد أن نجعل هذا اليوم عودة إلى الله، نريد أن نجعله ذكراً لله تعالى. وصلت إليكم معشر الأمة رسالة من أبيكم إبراهيم بعد وفاته، مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت يوم أسري بي إبراهيم فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة عذبة الماء، طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن(39/12)
غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) قال الحسن رحمه الله: [الملائكة يعملون لبني آدم في الجنان، يغرسون ويجنون، من قال سبحان الله غرسوا له نخلة، ومن بنى بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة، وربما أمسكوا وتوقفوا عن الغرس والبناء فيقال: لهم ما لكم توقفتم؟ فيقولون: حتى تأتينا النفقة، فهل نبني بغير نفقة ونغرس بغير نفقة، قال: فابعثوهم بأبي أنتم وأمي على العملبذكر الله تعالى، أرض الجنة اليوم قيعان والأعمال الصالحة لها عمران، بها تبنى القصور وتغرس أرض الجنان، فإذا تكامل الغراس والبنيان انتقل إليه السكان ]. رأى بعض الصالحين في منامه قائلاً يقول له: قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك، واسمها دار السرور فأبشر، وقد أمرنا بتنجيدها وتزيينها والفراغ منها إلى سبعة أيام، فلما كان بعد سبعة أيامٍ مات، فرئي في المنام فقال: أدخلت دار السرور وأنا في سرور، فلا تسأل عما فيها لم ير مثل الكريم إذا حل به المطيع. ورأى بعضهم كأنه أدخل الجنة، وعرض عليه منازله وأجواده، فلما أراد أن يخرج تعلق به أزواجه، وقالوا له: بالله حسن عملك، فكلما حسنت عملك ازددنا نحن حسنا. العاملون اليوم يسلفون رءوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، إلى أجل يومٍ مزيد في سوق الجنة، فعجلوا رحمكم الله بالأعمال، وقدموها أمامكم، وانتقلوا بخير ما بحضرتكم. اللهم تب علينا، واغفر ذنبنا، واقضِ ديننا، واشفِ مريضنا، وارحم ميتنا، واهد ضالنا، اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا، واجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين، من أرادنا بسوءٍ فاكشف زيفه، واجعل شأنه في تباب وأمره إلى خراب، يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، انصر إخواننا الذين يقاتلون لإعلاء كلمتك يا(39/13)
رب العالمين. وهاهم وقد اجتمع عليهم من الغرب والشرق، ولا ناصر إلا الله، ولا معين إلا هو سبحانه، وأنتم ترونهم في بلاد البوسنة و كشمير و الشيشان لا منقذ لهم إلا الله، اللهم إنا نسألك أن تنصرهم على عدوهم، وأن تسدد رميتهم، وأن تجمع كلمتهم على التوحيد يا رب العالمين. وهاهم قد اقتحموا المنطقة التي وقف عندها العسكريون النازيون الألمان في الحرب العالمية، وسموها بوابة موسكو قد اقتحمها المجاهدون المسلمون في بلاد البوسنة ، وانتزعوها من أيدي الصرب، وقتل الله منهم أكثر من مائة، واختار الله الشهداء، نسأل الله أن يجعلهم كذلك، وأن يغفر لهم وأن يرفع درجتهم في عليين. ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الشهادة، وأن يجعلنا يوم الدين من الفائزين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(39/14)
( صدأ النفوس )
عناصر الموضوع:
ما الفقر أخشى عليكم
الصحابة وحالهم مع الغنى
حال الأمة اليوم مع الأموال والثراء
وقفة مع المسافرين
صدأ النفوس:
في هذه الخطبة تحدث الشيخ عن أحوال الصحابة رضوان الله عليهم مع الفقر، مبيناً كيف صبروا على ذلك ولم يفتنوا في دينهم بسبب الفقر، ثم تكلم عن أحوالهم وقد فتحت لهم الدنيا على مصراعيها، وأتتهم الأموال من كل حدب وصوب، فلم يتغيروا أبداً، وإنما أدوا حق الله في شكر تلك النعم، وهذا بخلاف ما عليه المسلمون اليوم الذين أغناهم الله فتكبروا وتجبروا، وطغوا وأفسدوا إلا من رحم ربك.
ما الفقر أخشى عليكم:(40/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها المسلمون: إن فتنة المال من الفتن العظيمة التي وقع فيها المسلمون، وفتنة الجاه من الفتن الكبيرة التي أودت بكثير من أخلاق المسلمين، هذه الفتنة التي عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنها فقال: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخشى على أصحابه الفقر، (لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) تنشغلون بالدنيا وبالأموال، فتفتنون فيصبكم ما أصاب الأمم من قبلكم. أيها المسلمون: مالنا نرى اليوم كثيراً من الناس إذا أصابتهم نعمة من الله كفروا، وإذا وسع الله عليهم شيئاً من معيشتهم نسوه سبحانه وتعالى، وإذا أعطاهم الله وظيفة أو جاهاً تكبروا على عباد الله. ما(40/2)
هو السبب الذي يجعل كثيراً من النفوس تصاب بهذه المصيبة الكبيرة؟ أو رجل يزاد له في دخله شيء أو يتجر تجارة أو تكثر أمواله بوجه من الوجوه، فتخرب نفسه ويتعالى على عباد الله، ويقطع الرحم، ويتكبر في الأرض، ويفسد فيها ويعلو علواً كبيرا؟!
الصحابة وحالهم مع الفقر:
لا بد لنا من رجعة إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف عاشوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا، وكيف كانوا وصاروا بعد أن فتحت عليهم الدنيا. إن الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً منهم قد أدرك الحالين: حال الفقر وحال الغنى، فكيف كان حالهم في وقت الفقر وكيف صار حالهم في وقت الغنى، هل تغيرت نفوسهم؟ هل اضطربت أحوالهم؟ هل رجعوا وارتدوا على أعقابهم؟ كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل الفتوحات حالاً شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة مالي ولبلال من طعام -ليس لي ولبلال طعام- إلا شيء يواريه إبط بلال)، قالت عائشة : (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض) ما شبعوا من طعام البر ثلاث ليالٍ متوالية، ما مر عليهم، وقالت: (ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر) وقالت: (كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً إنما هو التمر والماء، إلا أن نأتي باللحيم -واللحيم تصغير لحم- من الجيران أو الصحابة الذين يهدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم) قالت لابن أختها عروة : (يا بن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار)، قال قتادة : (كنا عند أنس وعنده خباز له بعد ذلك، قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطة حتى لقي الله). كان أهل الصفة فقراء، ليس لهم مأوى فينامون في(40/3)
المسجد، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإضافتهم ويأخذ معه بعضاً منهم إلى بيته، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أهله فيقول: (عندكم طعام؟ فيقولون: لا. فيقول: إني إذاً صائم). ولما أراد الصحابي أن يتزوج لم يجد مهراً ولا خاتماً من حديد، ليس له إلا إزاره يواري به عورته، لو أعطاه للمرأة لم يغنِ عنها شيئاً وبقي هو بغير ثياب. عن عائشة قالت: (دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل -محتاجة ومسكينة- فلم تجد شيئاً عندي غير تمرة) -يا أيها المسلمون! اتعظوا! بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إلا تمرة- فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته فقال: من ابتلي بهذه البنات بشيء كن له ستراً من النار) فقم بتربيتهن -يا أبا البنات- واحفظهن يحفظك الله في الدنيا والآخرة. كان الصحابة يقدم عليهم إخوانهم من سائر النواحي فقراء مطاردين مشردين، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين والأنصار! إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة) هذا شيء يسير جداً من حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ما شبعوا من التمر إلا بعد معركة خيبر ، أما غير ذلك فلم يكونوا يرون الطعام إلا يسيراً، وكانت خفافهم مشققة وثيابهم مرقعة رضوان الله عليهم، يجاهدون في سبيل الله ولو لم يجدوا في طريق الجهاد إلا ورق الشجر.
الصحابة وحالهم مع الغنى:(40/4)
وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومحاربة أهل الردة بدأت الفتوحات شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، بدأت الفتوحات فانهالت الأموال على الصحابة لما فتحوا المدائن وهي مستقر كسرى وعاصمة مملكته، ومكان كرسيه وعرشه، أخذوا تاج كسرى وهو مرصع بالجواهر، وبساطه منسوج بالذهب واللآلئ ومصورة فيه جميع ممالك كسرى، بأنهارها وقلاعها وأقاليمها، وكان كسرى إذا جاء يدخل تحت تاجه، ويجلس على عرشه وتاجه معلق بسلاسل الذهب، لأنه لا يستطيع حمله على رأسه من ثقله وكثره ما فيه من الذهب والجواهر المرصعة، وملابس كسرى مرصعة بالجواهر، لما قاتل الصحابة الفرس فهزموهم وأخمد الله نار المجوس وجدوا تاج كسرى وبساطه واللآلئ والجواهر، ووجدوا دوراً مليئة بأواني الذهب والفضة، ووجدوا كافوراً كثيراً جداً ظنوه ملحاً خلطوه بالعجين فصار العجين مراً، فعرفوا أنه ليس بملح. لما قسم سعد الغنائم حصل الفارس اثنا عشر ألفاً وكانوا كلهم فرسان، كانوا في معركة بدر ليس معهم إلا فارس، وبعضهم يتعاقبون بعيراً وبعضهم مشاة حتى عقلة البعير لا يجد، وبعث سعد أربعة أخماس البساط إلى عمر ، فلما نظر إليه عمر قال: [إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقال علي : إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا، ثم قسم عمر البساط على المسلمين، فأصاب علياً قطعة من البساط فباعها بعشرين ألفاً]. توالت الأموال على الصحابة، غنائم جهاد، وأعطيات، و عمر يعدل ويقسم على المسلمين، و عمر كيف كان حاله؟ الصحابة بعد الفتوحات والغنائم -يا أيها المسلمون- كيف صار حالهم؟ لما فتحت عليهم الدنيا كيف كان حالهم؟ خليفتهم كان في إزاره اثنتا عشرة رقعة، وفي ردائه أربع رقع كل رقعة مختلفة عن الأخرى وكان باستطاعته أن يأكل لحماً مشوياً كل يوم، ولكنه كان يأكل زيتاً وكان يأكل خبزاً وملحاً، ويرفض أن يأكل من الطعام الهنيء، ورفض أن يجلس على الفراش الوثير، ونام في المسجد، حتى دخل مرسول من الكفرة فرآه في المسجد قال:(40/5)
عدلت فأمنت فنمت يا عمر . كيف كان حال الصحابة بعد أن صاروا أمراء على البلدان، هل طغوا وبغوا؟ هل غيرتهم الأموال؟ هل غيرتهم الدنيا؟
خباب يحكي حال الصحابة:
روى البخاري رحمه الله عن أبي وائل قال: عدنا خباباً -و خباب أصابه ما أصابه في مكة ، أحرق ظهره بأسياخ الحديد ومع ذلك عاش حتى رأى الفتوحات- قال خباب : هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، ما أردنا مالاً ولا شيئاً من الدنيا فوقع أجرنا على الله تعالى من مكة إلى المدينة ، فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً -هذا خباب يتكلم بعد أ، تدفقت الأموال- فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير الذي مات قبل الفتوح فوفى الله له أجره كاملاً، لم يأخذ منه شيئاً في الدنيا، قال خباب : منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة فإذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنا من جاءته الأموال، أينعت له الثمرة فهو يقطفها، هذا الصحابي يذكر نفسه ويذكر الحاضرين، ويذكر هذا الحديث ما كان عليه الصحابة من الصدق في وصف أحوالهم، يقول: منا من مات في فتح البلاد فتوفر له ثوابه كاملاً، ومنا من بقي حتى نال من طيبات الدنيا حتى خشينا أن حسناتنا قد عجلت لنا، وأن أجر الطاعة قد جاءنا منه شيء في الدنيا، وأنه نقصنا من الآخرة شيء، ولذلك كان عمر يتجنب هذا ويقول: إن قوماً قال الله فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [الأحقاف:20]. روى البخاري بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أتي بطعام وكان صائماً - عبد الرحمن بن عوف من كبار الأغنياء، قال لما قرب إليه الطعام، فنظر إلى الطعام الشهي- قال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني -هذا من تواضع عبد الرحمن رضي الله عنه، مع أنه أفضل من مصعب - وكفن في بردة إن(40/6)
غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطت رجلاه بدت رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، ما تغيرت نفوسهم والله، ولا تبدلت، ولا بطروا، ولا أشروا، وإنما تواضعوا لله، كانوا يذكرون على الطعام إخوانهم القتلى قبل الفتوحات.
فضالة بن عبيد وحاله أثناء الإمارة:
عن عبد الله بن بريدة : أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد - فضالة بن عبيد هذا صحابي جليل، وهو بمصر صار أميراً على مكان- فقدم عليه وهو يمد ناقة له، الأمير يسقي الناس مديداً من الماء، فقال: إني لم آتك زائراً وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم، فرآه شعثاً -المسافر القادم رأى أمير البلد شعثاً متفرق الشعر- فقال: مالي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟! قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، يعني: التدهن والتنعم -وشبابنا اليوم بالكريمات والشعر بالاستشوار وصالونات الحلاقة، وهذا أمير البلد فضالة بن عبيد شعره متفرق، والتنعم والدعة ولين العيش خطير على الأمة إذا تفشى فيها، هل يرجى منها الجهاد أو الوقوف أمام الأعداء؟ كلا والله- ورآه حافياً، فقال: مالي أراك حافياً؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحياناً - أحياناً نحتفي لنشعر بالخشونة، هذا الأمير يحتفي، ما تغيرت أحوالهم بل بقوا على إيمانهم، إنهم تربية محمد صلى الله عليه وسلم، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حتى لما جاءتهم الدنيا ما تغيروا.
أبو هريرة بعد تولي الإمارة:(40/7)
عن محمد قال: [كنا عند أبي هريرة فتمخط فمسح في ردائه، وقال: الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان] هذا بعد الفتوحات، وصار أبو هريرة أميراً وقال: [ الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً علي من الجوع، فيمر الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول: ليس الذي ترى إنما هو الجوع] أي: يظنه مصروعاً فيه جني، فيجلس على صدره ليرقيه ويقرأ عليه فيقول أبو هريرة : ليس هناك جنون ولا جن ما هو إلا الجوع- قال أبو هريرة : [والله إني كنت لأعتمد بكتفي على الأرض من الجوع، وكنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشياً علي فيأتي الآتي فيضع رجله على عنقي، يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع]. ماذا صار حال أبي هريرة بعدما صار أميراً؟ عن ثعلبة بن أبي مالك القرضي قال: أقبل أبو هريرة في السوق -صار أميراً على البلد في عصر الفتوحات- يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان، فقال: أوسعوا الطريق للأمير، أو في رواية يقول: طريق للأمير، طريق للأمير، طريق للأمير، والأمير يحمل حزمة من الحطب على ظهره. فهل تغيرت أحوالهم بعد الأموال والمناصب؟ ما تغيرت أحوالهم، فكيف حال المسلمين اليوم؟ تأتيه وظيفة أو يصبح موظفاً بعد أن كان طالباً، أو ينجح في شيء من التجارة، انظر إليهم في فسقهم وماذا يفعلون؟ انظر إلى حالهم لتعلم فتنة المال.
الصحابة ينفقون أموالهم في سبيل الله:(40/8)
كان عند أنس خباز يخبز له، وربما صنع له لونين من الطعام، وخبزاً حوارياً -يعني: نقياً منخولاً- يجيء إليه الضيوف يكرم الضيوف يأتي بالخباز يصنع ويطبخ لهم، هذا في عصر الفتوحات، قال قتادة : [كنا نأتي أنس وخبازه قائم و... يقول: كلوا -وهذا إكرام للضيف- يقول: كلوا أنتم كلوا فما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطة -وهي الذبيحة الصغيرة الطرية التي تشوى- حتى لقي الله عز وجل]. كل ما تقدم من الأحاديث في صحيح البخاري أو هو حديث صحيح، وقال عروة : [بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة خادمة عائشة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم واحد من المائة ألف من أجل طعام الإفطار، فقالت عائشة : لو ذكرتيني لفعلت] وتصدقت بسبعين ألف درهم وإنها لترقع جاني درعها رضي الله عنها. وزار أبو هريرة قوماً فأتوه برقاق فبكى قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بعينه. ومن أعظم الأحوال خطبة عتبة بن غزوان في صحيح مسلم ، وهو أمير البصرة قال في خطبته للناس: [ولقد رأيتني سابع سبعة -أسلم سابع واحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- مالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك ، فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني ..] -الآن هذا الكلام يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الأمير في الخطبة بعد أن بين حاله السابق- ثم قال: [ وإني أعوذ بالله أن أكون عظيماً وعند الله صغيراً ] أعلم القوم بأول حاله وآخره إظهاراً للتواضع وتحدثاً بنعمة الله وتحذيراً من الاغترار بالدنيا. أيها المسلمون: هل يكون في هذا الحال وفي هذا الوصف عظة للمتعظ، وعبرة للمعتبر، ومانعاً لنا من الكبر إن أصابنا شيء من الدنيا، أو نعمة المال أو التجارة، أو المناصب والوظائف؟! هذا حال الصحابة ربما(40/9)
أتاهم من المال أكثر مما أتانا، لكن ما تغيروا رضي الله عنهم، بل بقوا على حفظ العهد الذي عاهدوا به محمداً صلى الله عليه وسلم. اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المال ونعوذ بك من فتنة الجاه ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
حال الأمة اليوم مع الأموال والثراء: ... ...
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد السراج المنير سيد الزاهدين وإمام العابدين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين. أيها المسلم: إذا رأيت الغني يصف حاله أيام فقره، ويذكر نعمة ربه، فهذا فيه خير كثير. قال غني لأولاده: كنا أيام الفقر في الحر ينزع أحدنا ثوبه ينقيه وينفضه من القمل، القمّل التي كانت تعلق به، وإذا رأيت الغني يقول: ورثت هذا كابراً عن كابر، فاعلم أن الخير من نفسه منزوع، وأن نصيبه من الرحمة والتواضع مفقود. وتلك قصة الثلاثة الذين أنعم الله عليهم؛ هذا بقطيع من الإبل، وهذا بقطيع من البقر، وهذا بقطيع من الغنم، وزال من كل واحد عيبه؛ زال الصلع، وزال العمى، وزال البرص، فماذا قال الأول والثاني: ورثته كابراً عن كابر، والأعمى قال: خذ ما شئت، هذا مال الله أعطاني إياه، خذ منه ما شئت، ما أمنعك من شيء منه أبداً.
عدم المبالاة من أي باب جمع المال:(40/10)
أيها المسلمون: إن من أشراط الساعة أن يفيض المال، ففي بعض بلدان المسلمين فاض المال، فهل شكروا نعمة الله أم ماذا فعلوا بالمال؟ فجروا وطغوا وبغوا وكفروا بنعمة الله، ولذلك يستحقون ما أصابهم من خوف، ويستحق المسلمون ما يصيبهم من جوع وفقر وسلب نعمة وتحول عافية وزوال، وسيسيرون في الطريق حتماً إن استمروا على ذلك، ثم إن الناس لم يعودوا يبالون أكلوا من الحلال أو من الحرام، قال صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أمن حرام) حديث صحيح رواه البخاري وغيره. وفي رواية: (يأتي على الناس زمان لا يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام) وهؤلاء الناس اليوم لا يبالون، يظلم، أو يأخذ راتب عمال، أو أسهم بنوك، أو شركات محرمة، لا يبالون بما أخذوا من حلال أو من حرام، غصب أموال، أخذ حقوق أيتام، وهكذا، صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم، وصار الجشع والشرة في الناس عظيماً، يتنافسون على الدنيا ويتقاتلون وقد يشتكي الابن أباه في المحكمة، (يا أبا ذر ! أترى أن كثرة المال هو الغنى، إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها) قاله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (اثنتان يكرهما ابن آدم -اسمع أيها الفقير، أو يا صاحب الدخل المحدود، أو الذي لا يكفيه راتبه اسمع- (اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت والموت خير له من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب). ولذلك الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، لأن أصحاب الجد محبوسون يحاسبون على الأموال، فلا تجزع إذاً إذا فاتك شيء من الدنيا. المهم -أيها المسلمون- أننا إذا أصابتنا نعمة من الله حمدنا الله وشكرناه وعرفنا حقه في نعمته، وإذا ابتلينا صبرنا ولم نجزع لفوات شيء من الدنيا، الدنيا(40/11)
ملعونة ملعونة ملعونة، هل نريد أكثر من هذا؟!! الدنيا ملعونة، هكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً).
وقفة مع المسافرين:
أيها المسافر: اتق الله سبحانه وتعالى وأنت تستعد لسفرك، واجعل نيتك في السفر إرضاء الله وصلة الأرحام وتعليم الجهال ودعوة الأهل والأقارب إلى الله، اصطحب معك من الكتب والأشرطة المفيدة ما تستعين به على هداية أهلك ونشر الخير بينهم في البلاد التي ستذهب إليها، ومن السنة السفر صباح الخميس إن تيسر، وأذكار السفر لا تنساها، وجمع الصلاة وقصرها في طريق السفر من السنة، وصلاة النافلة في السيارة والحافلة والطائرة في السفر من السنة، والتدبر في آيات الله في الأرض وإعانة الرفيق، وإذا قعدت في بلد أكثر من أربعة أيام فقول الجمهور أنك تتم الصلاة، لا تسافرن امرأة بغير محرم، واصطحب معك في طريق البر إذا سافرت من الأشرطة النافعة ما يقطع الطريق وأنت تذكر الله عز وجل. أكثر من سماع القرآن ودع سماع الأشعار، واذكر الله تعالى عند كل مرتفع وكل منخفض، كبره إذا ارتفعت وسبحه إذا انخفضت، سبحان الله إذا انخفضت تنزيهاً له عن النقائص والعيوب، واعلم أن دعاء المسافر مستجاب، وعجل الرجوع إلى أهلك إذا قضيت حاجتك، هكذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم. ولا تطرق أهلك ليلاً إلا بخبر مسبق، والنقيعة: الطعام الذي يصنعه المسافر إذا رجع من سفره شكراً لله وحمداً على السلامة من السنة، وبيع وشراء الأموال: كثير من الناس يحتاجون إلى بيع وشراء العملات وهم في السفر في البلدان التي يسافرون إليها، تذكر أنه يشترط لبيع وشراء العملات الحلال أن تكون يداً بيد، تسلم ريالات وتستلم دينارات، تسلم دولارات وتستلم ليرات، تسلم جنيهات وتستلم ريالات، وهكذا يداً بيد، في أي مكان، سوق بيضاء أو سوداء ينبغي أن يكون التسليم يداً بيد، حتى يكون البيع والشراء جاهزا، ولا تعمل(40/12)
شيئاً فيه مضرة لعموم المسلمين، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) واتق الله واحذر من أماكن الفحش، واعلم بأنك موقوف عند الله وسائلك عن البلد الذي سافرت إليه لأي شيء سافرت؟ وماذا فعلت في السفر؟ وكم أنفقت من المال؟ أنت مسئول عند الله. يقولون لك في تعليمات السفر: اركب وسائل النقل العامة، واحذر من سيارات الأجرة الخاصة حتى لا تكون عرضة للنهب وعمليات السلب، وضع جواز السفر والجواهر والحلي في قسم الأمانات في الفنادق، ونحن نقول: اهتم بحفظ الدين الذي هو أهم من حفظ الأموال وحفظ جوازات السفر، حفظ الدين الذي قصر فيه المقصرون وفرط فيه المفرطون. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في هذا اليوم من عتقائك من النار، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور وعمل مبرور، اللهم اجعل فيما سمعنا حجة لنا لا حجة علينا، اللهم إنا نسألك أن ترفع البلاء عن المسلمين، اللهم انصر المستضعفين، اللهم ارفع سيف الذل والبغي عن عبادك الصالحين، اللهم انصر المجاهدين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين. اللهم دمر اليهود ومن شايعهم، اللهم من ولاهم على ظلمهم أو كان معهم في فسقهم وبغيهم فدمره تدميراً وخذه أخذ عزيز مقتدر إنك أنت العزيز الجبار، نسألك بكل اسم هو لك أن ترحمنا وتجعلنا من عتقائك من النار.(40/13)
( صدقات مهجورة )
عناصر الموضوع :
مقدمة عن الصدقة بالأموال وغيرها
أبواب متفرقة في الصدقة
قرض الناس له أجر عظيم
فضل الضيافة وإحياء الأرض
تصدق الرجل بشيء من جسده
الإنفاق على الأهل
صدقات مهجورة:
لقد تحدث الشيخ في هذه الخطبة عن أبواب كثيرة من أبواب الصدقة، والتي هجرت في يومنا هذا، وحث على المبادرة إلى اغتنامها والسعي في نيل أجورها، ومن هذه الأبواب: صلاة الضحى.. الذكر.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. احتساب الأجر في الإنفاق على الأهل .. غرس الأشجار .. رفع الأذى عن الطريق ... إلخ.
مقدمة عن الصدقة بالأموال وغيرها:(41/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون: لقد ندب الله عباده إلى الصدقة ودعاهم إليها وحثهم عليها، وبين لهم الثواب الجزيل فيها، وجعل باباً من أبواب الجنة خاصاً بالمتصدقين، فكما أن للجنة باباً يقال له باب الصلاة يدخل منه المصلون، وكما أن لها باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون، فكذلك فيها باب للجهاد يدخل منه المجاهدون، وبابٌ للصدقة يدخل منه المتصدقون كما ورد بذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. والصدقة بالمال يربيها الله لصاحبها فتتضاعف أضعافاً كثيرة، ولا يجزي أحد على شيء كما يجزي ربنا على الصدقة التي تخرج خالصةً لوجهه سبحانه وتعالى، هذا من حكمة الدين، هذا من الحكمة في تشريعات هذا الدين أن جعل الله للفقراء من المسلمين فرجاً ومخرجاً(41/2)
من صدقات إخوانهم المسلمين. والحديث عن الصدقة طويل، فإن الحديث عن حكمتها ومشروعيتها وفضلها وأجرها وأحكامها حديث طويلٌ لعلنا نتطرق إليه في وقت آخر، وذلك لأن الشح قد كثر في المسلمين وخصوصاً بعد هذه الأحداث العادية صار الكثيرون يدخرون ويوفرون أموالهم للمستقبل زعموا، فبخلوا بالصدقات ونسوا الأجر الذي كان مكتوباً في كتاب الله سبحانه وتعالى للمتصدقين، وكثيرٌ من الناس الذين يريدون التصدق وأموالهم قليلة قد يتحسرون، فهل جاءت الشريعة بأمور من الصدقات غير الصدقات المالية؟ وكثيرٌ من المتصدقين الذين يتصدقون بأموالهم يغفلون عن جوانب خفية للصدقة جاءت بها الشريعة، وكثيرٌ من المسلمين تصورهم للصدقة ناقص، فيتصورون أن الصدقة بالأموال فقط، من أجل ذلك كانت هذه الخطبة التي نبين فيها جوانب للصدقة قد يغفل عنها الناس مع أنهم قد يسمعون أحاديثها ولكنهم لا يقدرون قدرها، فهذا التنبيه على هذه الأبواب الخفية أو المتغافل عنها أو غير المحتسب فيها الأجر، فإن كثيراً من الناس قد يقومون بها دون احتساب أجر.
الصدقة على المصلي المنفرد بالصلاة معه:
من ذلك الصدقة على المصلي المنفرد الوحيد، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيصلي معه) وله قصة، فعن أبي سعيد الخدري : (أن رجلاً دخل المسجد وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يتصدق على ذا فيصلي معه؟ فقام رجلٌ من القوم فصلى معه) فإذاً صدقتك على المصلي المنفرد بالصلاة معه تؤجر عليها كما ورد في الحديث الصحيح، ولو كان عقب صلاة الفجر أو عقب صلاة العصر، قيام الرجل مع أخيه يكسبه أجر الجماعة ويرأف بحاله خصوصاً المتأخر لعذر الذي فاتته صلاة الجماعة يجد أخاً مسلماً في المسجد يواسيه فيصلي معه.
احتساب الأجر في الإنفاق على أدوات الجهاد:(41/3)
واحتساب الأجر في الإنفاق على الخير وأدوات الجهاد في سبيل الله فيها أجرٌ عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (المنفق على الخيل في سبيل الله كباسط يديه بالصدقة لا يقبضها) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، وهذا باب عظيم من أبواب الأجر لئن كنا حرمنا منه نتيجة عدم رفع راية الجهاد الصادقة في سبيل الله، فإن المخلصين من المسلمين يبحثون عن أمثال تلكم الأبواب ولو كانت قليلة شحيحة في هذا الزمن ليضعوا فيها أموالاً من أموالهم، يحبسون بها أدراعاً وأسيافاً وخيلاً في سبيل الله، فكذلك يحبسون اليوم من أدوات القتال الحديثة يعينون به المجاهدين في سبيل الله، وما ينفق فيها من صيانتها وذخيرتها فهي تجري عليهم باباً عظيماً من أبواب الصدقة لا يغلق لهم؛ جزاءً وفاقاً على ما أعانوا المجاهدين في سبيل الله.
أبواب متفرقة في الصدقة:(41/4)
قال صلى الله عليه وسلم: (على كل سلامى من ابن آدم في كل يوم صدقة، ويجزي عن ذلك كله ركعتا الضحى) وقال مبيناً ذلك في الحديث الصحيح الآخر: (في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة) حق الله في هذه المفاصل التي أنعم بها علينا يجب علينا في كل يوم صدقة عن كل مفصل، فكيف يا ترى نحصل ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم لكي نقوم لله بشكر نعمة هذه المفاصل؟ فقال صلى الله عليه وسلم رافعاً هذا الحرج: (النخاعة في المسجد تدفن -هذا البلغم والأذى والبصاق المتجمع في جدران المسجد أو في أرضه أو في بابه تحكه فتنظف المسجد منه- ذلك صدقة، والشيء تنحيه عن الطريق صدقة). وقال عليه الصلاة والسلام: (يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة، تسليمه على من لقيه صدقة، وأمره بالمعروف صدقة، ونهيه عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وبضعه في أهله صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان من الضحى) .. (فكل تسبيحة صدقة -كما في رواية- وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى) وقال صلى الله عليه وسلم: (ابن آدم ثلاثمائة وستون مفصلاً، على كل واحدٍ منها في كل يوم صدقة، فالكلمة الطيبة يتكلم بها الرجل صدقة، وعون الرجل أخاه على الشيء صدقة -لو أعنته على فتح قارورة لا يستطيع فتحها كان ذلك منك صدقة- والشربة من الماء يسقيها صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة). وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً أيضاً: (كل سلامى من الناس عليه صدقة -على كل مفصل صدقة- كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة -وضعك المتاع في سيارة أخيك ومساعدته في حملها على دابته صدقة- والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة). من أبواب الصدقة:(41/5)
التكبير وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله وأستغفر الله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعزل الشوك عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، تشير له تفهمه حتى يفهم ما يريد، وتدل المستدل على حاجة قد علمت مكانها، لو سألك عن دكان خبزٍ فدللته عليه صدقة، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جماع زوجتك أجرٌ: (أرأيت لو كان لك ولدٌ فأدرك ورجوت أجره فمات، أكنت تحتسب به؟ فأنت خلقته، فأنت هديته، فأنت ترزقه، فكذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته، ولك أجر) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم صدقة، فإنه بكل صلاة صدقة، وصيام صدقة، وحج صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة، وتحميد صدقة، ويجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى). فإذا أردت أن تعرف كيف تحصل ثلاثمائة وستين صدقة في اليوم، وهو حق الله في هذه المفاصل فارع سمعك لهذه الأبواب المتعددة التي يذكرها محمدٌ صلى الله عليه وسلم. هؤلاء الفقراء من المسلمين قالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الأموال ذهبوا بالأجر- يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم ) -لقد تفوقوا علينا بالأموال يتصدقون منها فيؤجرون ونحن فقراء، كيف نفعل لاستدراك ما فاتنا وتعويض النقص الذي عندنا في هذا الباب من أبواب الأجر؟ فماذا قال لهم صلى الله عليه وسلم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة ونهيٌ عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس يكون عليه وزرٌ،(41/6)
فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر) وجماعك زوجتك أيها المسلم تبتغي إعفاف نفسك وإعفافها، وابتغاء الولد لك صدقة عند الله، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمط الأذى عن الطريق فإنه لك صدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصدقة سقي الماء) حديث حسن. وقال عليه الصلاة والسلام وجاء في الحديث أيضاً: (إن سلامك على عباد الله صدقة) وقال صلى الله عليه وسلم: (على كل مسلم صدقة، فإن لم يجد فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، فإن لم يستطع فيعين ذا الحاجة الملهوف، فإن لم يفعل فيأمر بالمعروف) هذا كله من أبواب الصدقات. وقد كانت أمنا زينب أم المساكين تعمل بيدها لتتصدق، فقال عليه الصلاة والسلام: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً) فكانت زينب رضي الله عنها أول من لحق به من أزواجه.
قرض الناس له أجر عظيم:(41/7)
ويبين عليه الصلاة والسلام باباً آخر من أبواب الصدقة، فيقول: (إن السلف يجري مجرى شطر الصدقة) حديث صحيح رواه الإمام أحمد ، وقال موضحاً: (من أقرض ورقاً مرتين كان كعدل صدقة مرة). فأنت أيها المسلم إذا أسلفت رجلاً سلفاً، إذا أعطيته مالاً ديناً -مثلاً- ألف ريالٍ فكأنك تصدقت بخمسمائة والألف سترجع إليك، فلو أسلفتها لرجل مرة أخرى له أو لغيره، كان لك أيضاً أجر نصفها صدقة، فصار لك أجر المال كله صدقة لك والمال سيرجع إليك، وهذا يبين فضل إقراض الناس وفك أزمة المحتاجين بالإقراض. إن قال قائل: هذه البنوك الربوية لا تقرض إلا بالربا ونحن نحتاج مالاً، من الذي يقرضنا مثلاً بمثل دون زيادة؟ وما هو الدافع على إقراض الناس للناس إذا كانوا لا يأخذون فوائد ربا، الربا مهم لأجل إقراض الناس وفك الأزمات؟ فنقول: هذا في شريعة الكفرة لا في شريعتنا، أما شريعتنا فإن الحوافز على إقراض الناس للناس موجودة، في شريعتنا لا نحتاج إلى ربا، لا نحتاج إلى فوائد زعموا، في نار جهنم يأكلونها في بطونهم يوم القيامة، فإن في شريعتنا الحث على إقراض المحتاج من المال، ومن يقرض أخاه المسلم كان له من الأجر نصف ما أقرض صدقة، هل سمعت بفائدة خمسين في المائة؟ وأي بنك يعطيك ذلك؟ فاعلم بعد ذلك أن الإسلام قد أوجد الحل لمشكلة الإقراض بأبواب من الأجر أخروية ليست في الدنيا، فجعل في الإقراض الأجر العظيم، فمن أقرض مسلماً قرضاً كان له شطره صدقة، فكأنه تصدق بنصف المال ترغيباً للناس في إقراض الناس، فتنحل هذه الأزمة. وقال صلى الله عليه وسلم: (من منح منحةً غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها) وفي رواية للبخاري : (نعم الصدقة اللقحة، الصفي منحةً، والشاة الصفية منحةً، يغدو بإناء ويروح بإناء) تصور لو أنك تصدقت بشاة حلوب كان الإناء الذي يذهب به في أول النهار (شرب أول النهار الصبوح) والإناء الذي يشرب في أول الليل ويحلب من هذه الشاة وهو الغبوق، كل إناء(41/8)
يروح بصدقة في أول النهار، وكل إناء يغدو منها بصدقة. فإذاً، أبواب الصدقة كثيرة، فمن الذي يتحفز ويتحمس لولوج هذه الأبواب الخفية التي قد يغفل عنها الناس؟! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من التوابين والمتطهرين، ونسألك أن تجعلنا من المتصدقين الذين يلجون أبواب الصدقة فيؤجرون عليها يا رب العالمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
فضل الضيافة وإحياء الأرض:
الحمد لله الذي لا إله إلا هو الكريم المنان مالك الملك، المال ماله، والخلق خلقه سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، علمنا فأحسن تعليمنا، ووعظنا وأدبنا بكلامه وكلامه صلى الله عليه وسلم، جزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ورضي عمن تابعه وسلك سبيله إلى يوم الدين. أيها المسلمون: مبيناً لباب آخر من أبواب الصدقة يقول صلى الله عليه وسلم: (الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو صدقة) وفي رواية: (فما كان وراء ذلك فهو صدقة) نقولها للذين حلَّ عليهم ضيوفٌ فأكثروا عليهم في أيام الضيافة، فإن كانوا من المحتاجين الذين لا مأوى لهم فليحتسبوا هذا الأجر عند الله. وقال صلى الله عليه وسلم: (من غرس غرساً، لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله إلا كان له صدقة) يوضحه فيقول: (ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطيور فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة) رواه الإمام مسلم . وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً فيأكل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة إلا كانت له به صدقة) وقال: (من أحيا أرضاً ميتةً فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فهو له صدقة) فهذه الأغراس وهذه النباتات التي تزرع لو نوى بها وجه الله ونوى بها أجر الصدقة عندما يؤكل منها، بل عندما يعبث الأطفال فيها فيأكلون ويرمون الشجر فيأخذون من ثمره له فيه صدقة، وهذه الطيور التي تغدو وتروح على أغصان(41/9)
الأشجار فتأكل.
تصدق الرجل بشيء من جسده:
يا أيها الناس: أي دين أعظم من هذا الدين الذي جعلت فيه لنا كل هذه الأبواب؟! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجلٍ يجرح في جسده جراحةً فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثلما تصدق) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، فيه قصةٌ توضحه، مثالٌ من أمثلته فيها انقطاعٌ لكن فيها عبرة في مسند الإمام أحمد ، قال: (كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية وكان خليفة، فقال الأنصاري: إن هذا دق سني، قال معاوية : كلا. إنا سنرضيك، وكأن معاوية رضي الله عنه رأى أن الدية أنفع للأنصاري وأرحم بالقرشي، قال: فلما ألح عليه الأنصاري، يعني: يطلب القصاص، قال معاوية : شأنك لصاحبك، و أبو الدرداء جالس، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء في جسده يتصدق به إلا رفعه الله به درجة، قال: فقال الأنصاري: أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي، فعفا عنه) فهذا الذي يشهد له الحديث السابق وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من رجلٍ يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثلما تصدق). يبين أن الإنسان إذا اعتدي عليه بشيء فتصدق بدية هذا الجرح أو هذا السن، أو تصدق بدية الولد عندما يقال: فلان صدم ولد العائلة الفلانية بالسيارة فسامحوه بالدية، كلمة فسامحوه بالدية -أيها المسلمون- لها معنى عظيم جداً، تصور عندما يسامحونه بأكثر من مائة ألفٍ مثلاً كم يكون لهم من أجر الصدقة، والناس يغفلون، يحسبون فقط أنه من مكارم الأخلاق مع أن فيها أجراً عظيماً جداً، هذا من أنواع الصدقة. وبالجملة يقول عليه الصلاة والسلام: (كل معروف صدقة) وقال: (كل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة).
الإنفاق على الأهل:(41/10)
ولما كان بعض الناس يستخسرون في صرف الأموال على أهليهم، ويبخلون على زوجاتهم وأولادهم بالصرف جاءت هذه الأحاديث لتبين لك -يا عبد الله! يا أيها المسلم!- أجر الأموال التي تنفقها على أهلك، قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك -من المحتاجين- فإذا فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا من الأموال التي تنفق في أوجه الخير) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة) إذا كنت تبتغي وجه الله. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطى الرجل امرأته فهو صدقة) بعض الناس يبخلون على زوجاتهم بالمصروف، يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (ما أعطى الرجل امرأته فهو صدقة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم) وقال عليه الصلاة والسلام: (نفقة الرجل على أهله صدقة) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة) فاحتسبوا إذاً هذه الأموال التي تنفق على أهاليكم من المصروفات اليومية، مصروف الأكل واللبس والسكن وغيره صدقة. (أربعة دنانير: دينارٌ أعطيته مسكيناً، ودينارٌ أعطيته في رقبة، ودينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أفضلها الذي أنفقته على أهلك) رواه البخاري في الأدب المفرد ، وهو حديث صحيح. إن صدقة من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإنما تأكل امرأتك من مالك صدقة، وإنك إن تدع أهلك بخير خيرٌ من أن تدعهم يتكففون الناس. (ما كسب الرجل كسباً أطيب من عمل يده) و (ما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو له صدقة). فإذاً يا عبد الله! أي دين أعظم من هذا الدين الذي يجعل حاجة الرجل النفسية في الإنفاق على من يعول صدقةً له؟! لكن نحن ننسى الاحتساب عندما ننفق على الأهل، وننسى الاحتساب عندما(41/11)
نشتري المأكولات من السوق، وننسى الاحتساب عندما نشتري ألبسة لأولادنا، وننسى الاحتساب ونحن ندفع إيجار السكن من أجلهم ومن أجلنا، إذا ابتغيت وجه الله فعليك الاحتساب. أيها المسلمون: الاحتساب: حضور النية عند إخراج المال أن ذلك لوجه الله، وتنفيذاً لحكم شرعي ودرء المفسدة الشرعية الأخوية عن النفس. (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) كل هذا صدقة، فإن لم يحصل كل هذا المعروف، يقول عليه الصلاة والسلام: (كف شرك عن الناس فإنها صدقةٌ منك على نفسك) حديث صحيح. فاغتنموا -أيها المسلمون- هذه الأبواب من أبواب الصدقات، واحرصوا ألا يفوتكم منها شيء، فإن هذه الدنيا دار عمل والآخرة دار حساب. وأنت تتصدق الآن وتنفق، ولا تنتظر حتى إذا صرت في سياقة الموت، ونزل بك وبلغت الروح الحلقوم، قلت: أعطوا من هنا، وتصدقوا من هنا، ولا تنسوا هذا وهذا، كيف؟ لا يمكن أن يقبل تصرفك في مالك إذا بلغت الروح الحلقوم، صار المال لغيرك ولمن وراءك من الورثة، فاغتنم الفرصة إذاً وتصدق بما تجود به نفسك: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة:110] الصدقة بالكلمة، والصدقة بالبدن، والصدقة بالمال، الصدقة بالنية عند الاحتساب. اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا من الشح والبخل، وأن تجعلنا من الكرماء في سبيلك، اللهم اجعلنا ممن ينفقون ويبذلون، اللهم اجعلنا ممن تضاعف لهم الأجور في صدقاتهم، واكتب لنا بها أجراً عندك يا رب العالمين، وأدخلنا من باب الصدقة في جنات النعيم. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(41/12)
( سلامة الصدر من الأحقاد )
عناصر الموضوع :
سلامة الصدر وأهميته
حرص السلف على سلامة الصدر
باب وحر الصدر
سلامة الصدر من الأحقاد:
لقد جاءت هذه الشريعة بإصلاح ذات البين؛ من أجل أن تكون العلاقة بين المؤمنين على أحسن ما يمكن؛ وتكون صدورهم سليمة، لكن الواقع اليوم مليء بالأحقاد والشحناء، والتي تسببها الغيبة والنميمة، وبعض الآفات الأخرى، وهذه المادة خطوة في طريق إصلاح هذه الاختلالات.
سلامة الصدر وأهميته:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا مضل له، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: عباد الله! إن هذه الشريعة جاءت فيما جاءت به إصلاح ذات البين، لأجل أن تكون العلاقة بين المؤمنين على أحسن ما يمكن، وأمر الله تعالى بإصلاح ذات البين لأجل حفظ سلامة الصدور، فقال الله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] وجاءت الشريعة بكل الأمور التي تكفل سلامة صدر المسلم لأخيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم) كل هذه الإجراءات لسلامة لصدور، سلامة الصدر مطلب شرعي، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا ذل ولا حسد) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح. عباد الله: لقد كثر اليوم في الناس الشحناء، وصارت الأحقاد في القلوب كثيرة، لقد صرنا نجد تقطع العلاقات، وحمل الناس في قلوب بعضهم على بعض، مع أن هذه الشريعة قد جاءت فيما جاءت به تصفية القلوب والنفوس ومراعاة المشاعر، وقد قال الله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] علم الله(42/1)
تعالى أن بعض الناس إذا استأذن فلم يؤذن له وقيل له: ارجع، أنه قد يجد في نفسه على أخيه صاحب البيت، فقال الله معزياً ومسلياً حتى يرجع المؤمن ونفسه راضية عن أخيه المؤمن قال: فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28] فسلاه وعزاه بالتزكية التي تحصل له في قلبه إذا رجع لما يقال له ارجع، ولذلك كان بعض السلف يفرح إذا قيل له: ارجع، ولم يؤذن له بالدخول؛ لأنه يريد موعود الله بحصول التزكية التي وعد الله هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]. وسلامة الصدر نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] فأهل الجنة لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلبٌ واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً، كما جاء في صحيح البخاري رحمه الله. سلامة القلب: طهارته من الحقد والغل للمسلم، وهذه راحة ونعمة، ولذلك أكدت عليها الشريعة حتى يعيش الناس في بحبوحة من أمرهم، وفي سلامة وعافية، فإن سلامة صدر المسلم لأخيه من أعظم الأسباب لتحقيق ذلك، وهذه مسألة صعبة ولا شك، فإن الإنسان قد يحسن مكابدة الليل وقيام ساعاته، ولكنه قد لا يستطيع أن يزيل من قلبه كل شيء فيه على إخوانه، وقد وصف العلماء رحمهم الله أخلاق طالب العلم فقالوا: لا مداهن، ولا مشاحن، ولا مختال، ولا حسود، ولا حقود، ولا سفيه، ولا جاف، ولا فظ، ولا غليظ، ولا طعان، ولا لعان، ولا مغتاب، ولا سباب، يخالط من الإخوان من عاونه على طاعة ربه، ونهاه عما يكرهه مولاه، ويخالط بالجميل من لا يأمن شره إبقاءً على دينه، سليم القلب للعباد من الغل والحسد، يغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين في كل ما أمكن فيه العذر، لا يحب زوال النعم على أحدٍ من العباد، هذا دأب طالب العلم والداعية إلى الله والمتمسك بالدين، هذا حاله وهذا خلقه، لقد أثنى الله على الأنصار لأمر مهمٍ في غاية الأهمية قال الله عز(42/2)
وجل: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9]. لما فضل المهاجرون على الأنصار كانت قلوب الأنصار سليمة لإخوانهم، ولم يعترضوا على تفضيلهم ولم يحسدوهم على ما آتاهم الله من فضله، وإنما كانت الأنصار كما قال الله: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9] أي: مما أوتي إخوانهم المهاجرون من الفضل: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] لو كان بهم حاجة مع ذلك يؤثرون على أنفسهم. إن مما يدل على صعوبة تحقيق سلامة الصدر هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام أحمد وغيره: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يدخل عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم تبعه -أي تبع الرجل الممدوح- عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال للرجل: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي -أي: هذه الأيام الثلاث- فعلت، قال: نعم، قال أنس : وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا عداء، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك(42/3)
فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله بن عمرو : هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق) حديث صحيح.
حرص السلف على سلامة الصدر:
إنها ليست مسألة سهلة أن يكون الإنسان دائماً سليم الصدر لإخوانه، ليس في قلبه غش ولا حقد ولا حسد على أحدٍ من إخوانه، إنه أمرٌ بالغ الصعوبة، ولكن يحصل بالمجاهدة، فمن وفقه الله له حصل له. كان الصحابة رضوان الله عليهم يلتمسون إزالة أي شيء يحصل في صدر الأخ على أخيه، لما أتى أبو سفيان على سلمان وصهيب وبلال في نفر قالوا: (والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر مستدركاً -لعله يطيب خاطر الرجل الذي يرجى إسلامه- قال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيدهم -لعلها عبارة أراد أن يتألف بها قلب الرجل- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبت إخوانك من أجل هذا المشرك، -قبل إسلامه رضي الله عنه- يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لأن كنت أغضبتهم لقد أ غضبت ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا. ويغفر الله لك) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه. فهذا يدل على أنه ينبغي على المسلم إذا خشي أن يكون أخوه المسلم قد أخذ عليه في نفسه، أن يسارع لتطييب خاطره والاعتذار إليه، وأن يتأكد بأن صفحة قلب أخيه لا زالت بيضاء، وأنه لم يتصرف تصرفاً يدخل في قلب أخيه شيئاً عليه. وفي المقابل ينبغي على من اعتذر إليه أن يقبل العذر وأن يسارع إلى تطييب خاطر الآخر، وأن يدعو له بالمغفرة، يغفر الله لك يا أخي، لقد كانت المناشدة بأسلوبٍ غاية في المحبة، يا إخوتاه! أغضبتكم؟ تلك أخلاق الصديق رضي الله تعالى عنه. وقد قال ابن(42/4)
عباس> -أيضاً- كلماتٍ تدل على صلاح قلبه لإخوانه ولجميع المسلمين، لما شتمه رجل قال له: [إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله عز وجل فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم] ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلمه الله القرآن، ففتح الله على ابن عباس أشياء كثيرة في تفسير كتابه، كان ابن عباس يتمنى أن جميع المسلمين يعلمون ما يعلم من تفسير الآية إذا مر بها، ولم يكن يتمنى أن يتفرد بالعلم، ليكون بارزاً بينهم، متميزاً عليهم، وإنما يتمنى أن كل المسلمين يعلمون منها ما يعلم، ثم قال: [وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين -أي القضاة الذين ينظرون في قضايا الناس- يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبدا] أفرح به لأجل مصلحة إخواني المسلمين، لأنه عادل أفرح لوجوده بين المسلمين، ولعلي لا أجد فرصة ولا علاقة لي بهذا الرجل ولا أتوقع أن أعرض قضية لي عليه، ثم قال ابن عباس : [وإني لأسمع أن الغيث قد أصاب بلداً من بلدان المسلمين فأفرح به، ومالي به سائمة] لا غنم ولا زرع في تلك البلد، ولكنني أفرح لأن مطراً أصاب بلداً من بلاد إخواني المسلمين فانتفعوا به، هذه أخلاق ابن عباس . وأما أبو دجانة رضي الله عنه لما دخل عليه وهو مريض كان وجهه يتهلل، فقيل له: [ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، -والأخرى- وكان قلبي للمسلمين سليماً]. وعن أبي حبيبة عمران بن طلحة قال: [أدخلت على علي رضي الله عنه بعد وقعة الجمل -المعركة التي استشهد فيها طلحة - فرحب به، ثم أدناه، ثم قال لولد طلحة يطيب خاطره بعد مقتل أبيه: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال الله فيهم: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]] وهكذا مضى علماء هذه الأمة على هذا الطريق؛ طريق سلامة الصدر(42/5)
للمسلمين، فهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى كان فيما يجمع من الخصال: سلامة الصدر لإخوانه من أهل العلم، مع أن بعضهم حصل لهم حسدٌ عليه، بل قاموا ضده، بل سعوا في سجنه، وألبوا عليه الحكام، ومع ذلك كان ممسكاً للسانه، وممسكاً لألسنة أصحابه أن تنال أحداً من أهل العلم، فقال في رسالته التي بعثها من السجن، قال لأصحابه خارج السجن، وهو يتوقع أن صدورهم كالغلال على أولئك الذين كانوا سبباً في جعله في ذلك السجن، يقول: تعلمون رضي الله عنكم أني لا أحب أن يؤذى أحدٌ من عموم المسلمين، فضلاً عن أصحابنا بشيء أصلاً، لا ظاهراً ولا باطناً، ولا عندي عتبٌ على أحدٍ منهم ولا لومٌ أصلاً، بل هم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كلٌ بحسبه، ولا يخلو الرجل من أن يكون مجتهداً مصيباً، أو مخطئاً، أو مذنباً، فالأول مأجور مشكور، والثاني مع أجره على الاجتهاد معفوٌ عنه مغفور له، والثالث المذنب فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين, فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل، لا تتكلموا بأي عبارة، كقول القائل: فلان قصر، فلان ما عمل، فلان أوذي الشيخ بسببه، فلان كان سبب هذه القضية، فلان كان يتكلم في كيد فلان، ونحو هذه الكلمات التي فيها مذمة لبعض الأصحاب والإخوان، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال ابن القيم رحمه الله: كان بعض أصحاب ابن تيمية الأكابر يقولون: وددت أني لأصحابي كابن تيمية لأعدائه وخصومه، وما رأيته يدعو على أحدٍ من خصومه قط، بل كان يدعو لهم، وجئته يوماً مبشراً بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذىً له، من أصحاب المذاهب، فنهرني وتنكع لي واسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما أخبرت بموت الرجل، ثم قام من فوره إلى بيت أهله -أي أهل الميت- فعزاهم وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمرٌ تحتاجون فيه إل مساعدة إلى وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له. وقال ابن مخلوف(42/6)
-وكان من أشد الناس عداوة لابن تيمية رحمه الله، بل أفتى بقتله- كان يقول: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا، ذلك أن الأيام قد دارت وتولى السلطان الناصر وقرب شيخ الإسلام، وأراد أن ينتقم له من أعدائه ممن أمر بسجنهم ولكنه رحمه الله أبى ذلك، وقال: إن قتلتهم من أين تأتي بمثلهم، وهم علماؤك ونحو ذلك من الكلام حتى سكنه. عباد الله: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب) كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ) في ذلك الوقت قال هذه الكلمة: (ولكن في التحريش بينهم) فالشيطان هو الذي يئز هذا على هذا، ويريد أن يحقد هذا على هذا، وينفخ في نفس هذا، ويريد أن يمتلئ القلب غيظاً على أخيه، فلنحرص على تجنب عداوة اللعين الذي طرده الله من رحمته وأبعده إلى يوم الدين، ولنعلم أن كل حقدٍ أو حسد مصدره هذا الشيطان، وكذلك لنعلم أن الحقد على المسلم أو الحسد له يعرض الإنسان لرد عمله وحرمانه من الفضل العظيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرض الأعمال كل إثنين وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك به شيئاً، إلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم . فلذلك المشاحن لأخيه يحرم من المغفرة يوم الإثنين والخميس؛ بسبب الشحناء، وبسببها حرم الناس من معرفة ليلة القدر على التعيين . كما أن هذا الحقد بين المسلمين سببٌ لسوء الخاتمة، قال عليه الصلاة والسلام (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، فمن هجره فوق ثلاثٍ فمات دخل النار) رواه أبو داود وهو حديث صحيح. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل قلوبنا سليمة لإخواننا المسلمين، اللهم طهر قلوبنا من كل غلٍ وحقدٍ وحسدٍ وغش، اللهم اجعل قلوبنا تقية نقية، واجعلها سليمة يا رب العالمين، واجعلنا ممن يأتيك يوم القيامة بقلبٍ سليم، واغفر لنا(42/7)
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنك رءوف رحيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وتقاربوا وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.
باب وحر الصدر:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: إنه ينبغي الكف عن أعراض المسلمين، وإن من أعظم الأشياء التي تسبب وحر الصدر الغيبة والنميمة، وهما أمران عظيمان، فكم صار بين المسلمين أحقاد بسببهما، وكم جرت من مآسي في انفصام عرى الأخوة بين أطرافهما، ولذلك كان حرياً بالمسلم أن يمسك لسانه عن الفري في أعراض المسلمين، وكم من رجلٍ متورعٍ عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، وربما تورع بعضهم عن أكل بعض اللحم المستورد وهو لا يزال يأكل لحم إخوانه: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12]. وكذلك لنتوجه عن تتبع العثرات وتسقط العيوب، فإن الاشتغال بعيوب النفس يشغل عن عيوب الغير، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: "كان هنا -يعني: بالمدينة- أناسٌ لهم معايب، فسكتوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم، وكانت أناسٌ لهم معايب، فتكلموا في عيوب الناس فبقيت عيوبهم وذكرت من بعدهم" ثم إن النفس الأصل فيها الجهل والظلم والتعدي على الخلق، فلذلك يرى الإنسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه) فهو يبصر أخطاء الناس وإن دقت، وينسى أخطاءه هو. وكذلك ينبغي على الإنسان ليسلم صدره لأخيه أن يترك المراء والجدال والخصومة، فإن من أكثر ما يحدث الحقد والضغائن بين الإخوة: المراء، والجدل، والنقاش(42/8)
العتيل، وكذلك فإنه ينبغي الحذر من التعصب، فكم كان التعصب سبباً في إثارة الأحقاد والضغائن، قال يوسف الصدفي رحمه الله: ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة واحدة؟ إذاً الخلاف في الرأي لا يفسد الود بين المسلمين، لا يفسد للود قضية. ثم إن التعصب لغير الحق، لمذهبٍ، أو قبيلة، أو حزبٍ، أو جماعة، أو شخص تقليداً أو حمية من أعظم الأسباب التي تورث الضغائن بين المسلمين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن نصب شخصاً كائناً من كان، فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل، فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً. فكان التعصب سبباً عظيماً لوقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين. وقال الشيخ ابن القيم : وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله، وهم الذين فرقوا الدين، وصنفوا أهله شيعاً كل فرقة تنصب متبوعها وتدعو إليه، وتذم من خالفها ولا يرون العمل بقولهم، حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم، ويقولون: كتبهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبي واحد، والدين واحد، والرب واحد، ولذلك كان لا بد من ترك هذا التعصب، والحوار بالحسنى، والمباحثة في مسائل العلم بصدر متسع، وأن ينشد الجميع صحة الدليل والفهم السليم. عباد الله: إن التنافس في الدنيا من الأشياء التي توغر الصدور، لماذا حرمت الشريعة بيع المسلم على المسلم، وشراء المسلم على المسلم، وسوم المسلم على المسلم؟ حتى في حال المساومة لا يجوز أن تدخل بينه وبينه، وخطبة المسلم على خطبة أخيه، لأن الشريعة تريد المحافظة على صدور المسلمين نقية، وقال عليه الصلاة والسلام: (أوغير ذلك؟ تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون) قالها لما بشرهم بما يفتح عليهم من فارس و الروم. وكذلك فإن حب الرئاسة هو من أعظم أسباب الحقد على(42/9)
الإخوان، قال الفضيل رحمه الله: ما من أحدٍ أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير. ثم إن هناك بعض الأمور التي يتساهل فيها بعض الناس، ولها صلة وثيقة بقضية اختلاف القلوب، مثل اختلاف الصفوف للصلاة، وعدم تسوية الصفوف، وسد الفرج، والتقدم والتأخر، وعدم الإتمام من الجانبين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم). وينبغي على المسلم أن يترك كل ما يكون سبباً للعداوة كالمزاح الثقيل، والنجوى بين اثنين التي تحزن الثالث، وليكن الشعار الدعاء دائماً وأبداً، بأن يجعل الله قلبه سليماً، قال الله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]. عباد الله: إن الهدية تذهب وحر الصدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) فلو كان بين إنسان وأخيه شيءٌ فأهدى له هدية، فلا شك أن مثل هذه الهدية كفيلة في الغالب بإذهاب ما في القلب، فهذه من العلاجات الشرعية. عباد الله: إن بعض الناس لا يفرق بين صاحب القلب السليم الطيب، وبين الإنسان المغفل الساذج، ويظن أنه عندما يقول: فلان قلبه طيب أي: مغفل وساذج، وأن الدعوة إلى أن يكون الشخص طيب القلب سليم القلب، يعني: أن يكون مغفلاً ساذجاً، كما يقولون: على نياته، فما هو الفرق بين المغفل والساذج، وبين الإنسان سليم الصدر طيب القلب الذي ننشده ونتحدث عنه؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله: القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، إذاً ليس أن يكون مغفلاً أمراً مطلوباً، أن يكون الإنسان مغفلاً لا يدري عن طرق أعداء الله، ولا يدري عن وسائل المجرمين؛ المجرمون لهم وسائل في اصطياد الناس، والمخدرات، وأوكار(42/10)
الرذيلة، وجر الناس إلى الفساد، ومن المهم بالذات في هذا الوقت، وفي هذا الزمان أن يكون المسلم واعياً منتبهاً، فكثير من الناس قد جروا إلى فاحشة، وجروا إلى مسكرات ومخدرات، وجروا إلى محرمات، بسبب الغفلة والسذاجة، مغفل لا يدري عن طرق أهل الشر، وليس هذا هو سليم الصدر طيب القلب الذي ننشده، نعم. ربما يكون حاله في الإثم مختلفاً عن حال القاصد الذي يعلم الشر وينجر إليه، ولكن على المسلم أن يكون نبيهاً غير مغفلاً، قال ابن القيم رحمه الله معقباً على كلام شيخ الإسلام الذي قال فيه: فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به. عبارة ذهبية، قال ابن القيم رحمه الله: الفرق بين سلامة القلب، وبين أن يكون أبله مغفل: أن سلامة القلب تكون مع عدم إرادة الشر بعد معرفته، فيسلم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، هذا بخلاف البله والغفلة فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا نقص لا يحمد به صاحبه، فالأمر كما قال عمر رضي الله عنه: [لست بخب ولا يخدعنا الخب، وكان عمر أعقل من أن يُخدع، وأورع من أن يَخدع] قال عمر رضي الله عنه: لست بخبٍ يعني: لست بلئيم ولا مخادع، لست بخبٍ ولكن في نفس الوقت الذي لست بخبٍ قال عمر : ولا يخدعنا الخب، وكان عمر أعقل من أن يخدع وأورع من أن يخدع، فهذا الذي نريده، نريد مسلماً يعرف طرق الشر، ويعرف أهل الشر وهو نبيه فطن، ولكنه لا يريد شراً لأحد، ولا يخدع أحداً، فإذا وصل المسلم ووصل المسلمون إلى هذا الحد، فهذا ما نتمناه. فينبغي التفرقة إذاً بين المغفل الأبله، وبين طيب القلب الممدوح شرعاً. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتفقهين لأهل الشر وكيدهم، وأن يباعد عنا كيد الفجار وشر الأشرار إنه سميعٌ مجيب. اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا.. ربنا إنك رءوف رحيم. اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، وأهلك أعداء الدين إنك على كل شيء قدير، اللهم(42/11)
أخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، واجعلهم في ديارهم خائفين مذعورين، واغفر لمن قتل في سبيلك يا رب العالمين. اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولمن مات من المسلمين على التوحيد يا رب العالمين، واجعلنا ممن يلقاك بقلبٍ سليم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(42/12)
( طالب العلم والحفظ )
عناصر الموضوع :
الحفظ نعمة وعبادة
ماهية الحفظ وميزاته
أهمية الحفظ في طلب العلم
الأمور المساعدة على الحفظ
وظائف طالب العلم
أوقات الحفظ
أماكن الحفظ
أبحاث متعلقة بالذاكرة
أولويات الحفظ
من أخبار الحفاظ
طالب العلم والحفظ:
وضح الشيخ في هذه المادة أهمية الحفظ في طلب العلم، وماهيته وميزاته، وأنه نعمة من الله قد تكون فطرة وقد تكتسب، ثم تطرق الشيخ إلى الأمور المساعدة على الحفظ واستفاض فيها مبيناً أهمية التكرار وإخلاص النية، والعمل بالمحفوظ، والمذاكرة مع الأصحاب، والتعليم، والمداومة على الحفظ والصلاح وفعل الخيرات وترك المحرمات، والتقلل من الدنيا، والحجامة، والأدعية والأذكار ورفع الصوت بالقراءة والتمهل بها... إلى غير ذلك من الأمور المساعدة على الحفظ. ثم بين وظائف طالب العلم، وما هي الأوقات والأماكن المناسبة للحفظ، مذيلاً إياها بذكر جملة من الأبحاث المتعلقة بالذاكرة، وما هي الأوليات في الحفظ، ثم ختمها بجملة من أخبار الحفاظ.
الحفظ نعمة وعبادة:(43/1)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه والتابعين. الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي جعل كتابه محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. فحفظ الله كتابه بأمور كثيرة: منها صدور أهل العلم: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]. وحفظه بحفظ شرحه وبيانه في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لما ألهم أوائل هذه الأمة حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين كلام الله. وقد أنزل الله هذا الكتاب على أمة أمية، وهم العرب الذين ما كانوا يعرفون القراءة والكتابة إلا في النادر، وكانت معيشتهم في جو من الصفاء، جعلت قرائحهم متقدة، وأذهانهم صافية، ولذلك كان الحفظ عليهم سهلاً، حتى إنهم كانوا يسمعون الخطبة والقصيدة الطويلة فيحفظون ذلك، وما روي أنهم استعادوا الخطيب والشاعر شيئاً من كلامهما. فصفاء أذهانهم وصِحّت أجسادهم، ونقاوة البيئة وقلة الكتابة فيهم كانت من العوامل التي ساعدت على شدة الحفظ، فأنزل الله الكتاب على تلك الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب، وهدى الله من العرب حملة كتابه ووراث نبيه، الذين تلقوا عن النبي الكريم العلم فحفظوه، ثم أدوا ذلك كله إلينا بأمانة، فرضي الله تعالى عنهم وعمن نقل عنهم، ورضي الله عن الحفاظ الذين دونوا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام حتى وصلت إلينا كاملة متقنة. والحفظ من النِعم التي أنعم الله بها على الإنسان، ولو لم يكن الإنسان يحفظ لكان في حياته همٌ وصعوبة بالغة، ولكن الله أنعم علينا بهذه الذاكرة التي نحفظ بها. إن موقع الحفظ في الدين موقع عظيم، ويكفي شرفاً(43/2)
الحافظ لكتاب الله أن الله جعله من أسباب حفظ كتابه، وأن الحافظ من أهل العلم، وينبغي أن يضيف إلى علمه بحفظ الكتاب علماً بفقه الكتاب. وقد كان حفظ الكتاب وحفظ الحديث من العبادات العظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل يُريد الزواج ولم يكن يملك ولا خاتماً من حديد، لم يأمره عليه الصلاة والسلام بالاستدانة، وإنما قال له ميسراً: (ماذا معك من القرآن؟) لما طالب بالمهر وليس عند الرجل شيء، قال له عليه الصلاة والسلام في نهاية الأمر: (ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا، -عدها- قال: أتقرأهن عن ظهر قلب؟ -هذا الحفظ- قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) فكان حفظه سبباً في تيسير زواجه. والكلام في فوائد الحفظ كثير، ولكن قلنا: إن الحافظ له أجر عظيم، ويكفي في ميزاته أن جسد الحافظ لا تمسه النار يوم القيامة، فإن القرآن إذا جُمع في إهاب -وهو جلد الحافظ ، نفس الحافظ التي بين جنبيه- لا تمسه النار، طالما كان قائماً بأمر الله.
ماهية الحفظ وميزاته:(43/3)
وحفظ بعض كتاب الله أيضاً له ميزات، فنحن نعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال)، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحفظون هذا الكتاب، كما كان الله عز وجل قد يسر لنبيه حفظه: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:17-18].وكان جبريل يراجع حفظ النبي عليه الصلاة والسلام كل سنة مرة ، وفي السنة التي تُوفي فيها صلى الله عليه وسلم راجع معه الحفظ مرتين. وأما سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ندب لحفظها، ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب العلم: باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وراءهم. ولذلك جاء في الحديث أنه علمهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن يُعطوا من المغنم الخُمس، ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت، وهي بعض الأواني التي إذا وضع فيها الشراب صار مسكراً، وربما قال: الموقير، وقال -وهذا هو الشاهد- : (احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم). أما الحفظ فقد سأل مهنا رحمه الله أحمد : ما الحفظ؟ قال: الإتقان هو الحفظ، وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: الحفظ الإتقان. وسنبين إن شاء الله في هذا الدرس أموراً تتعلق بالحفظ نظراً لأهميته في طلب العلم، وطالب علم بغير حفظ لا يساوي شيئاً، ولعلنا نتكلم بإذن الله عن أهمية الحفظ بالنسبة للكتابة، وكذلك بعض الطرق والوسائل في الحفظ، والأمور المعينة على الحفظ، وأوقات الحفظ، وأماكن الحفظ، وذكر بعض سير الحفاظ فيما يتعلق بالحفظ، ونورد بعض الفوائد من النظريات الحديثة المتعلقة بالحفظ والذاكرة والنسيان.
أهمية الحفظ في طلب العلم:(43/4)
ينبغي لطالب العلم أن يكون جُل همته مصروفاً إلى الحفظ والإعادة، فلو صح صرف الزمان إلى ذلك كان الأولى، أهم شيء لطالب العلم أن يحفظ، غير أن البدن مطية، وإجهاد السير مظنة الانقطاع، وكان الخليل بن أحمد رحمه الله يقول مبيناً أهمية الحفظ لطالب العلم: الاحتفاظ بما في صدرك أولى من حفظ ما في كتابك، واجعل كتابك رأس مالك، وما في صدرك للنفقة. وقال عبد الرزاق رحمه الله: كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فلا تعده علماً. لأن الصفحات والكتب التي فيها ذكر الله لا يُمكن أن تدخل الحمام، لكن الحفظ الذي يكون في صدر الحافظ يذهب معه في كل مكان. وقال هبة الله البغدادي :
علمي معي أينما همت يتبعني ... بطني وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق
وقال عبيد الله الصيرفي:
ليس بعلم ما حوى القمطر ... ... ما العلم إلا ما حواه الصدر
وقال ابن شديد الأزدي :
أأشهد بالجهل في مجلس ... ... وعلمي في البيت مستودع
إذا لم تكن حافظاً واعياً ... ... فجمعك للكتب لا ينفع(43/5)
فبعض الناس يكثرون من شراء الكتب، وترى كثيراً من الشباب إذا صارت الفرصة في معارض الكتاب اشتروا الكتب، وهذا أمر مهم لا يمكن التزهيد فيه؛ أن يحوي المراجع عنده، ويشتري من الأمهات والكتب المهمة والرسائل النافعة ما يعينه على الطلب والبحث، ولكن الأهم من هذا كله هو الحفظ. وبعض الأغبياء يهونون من أمر الحفظ، فإذا رأوا شخصاً حفظ صحيح البخاري مثلاً، قالوا: وماذا استفادت الأمة لما زادت نسخه من صحيح البخاري؟ فهؤلاء ما علموا أهمية الحفظ ولا علموا فائدته. الحفظ: هو الذي يجعل العلم في صدرك فتستفيد منه، فإذا احتجت إليه كان معك؛ في تعليم، وفي دعوة، وفي نصيحة وفي فتوى، حتى في تحضير الدروس، وعدد من العلماء الكبار لا يحضرون الدروس؛ لأن العلم في صدورهم محفوظ، ومن العلماء المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، لم يكن يحضر دروسه مطلقاً؛ لأن العلم في صدره مستودع، ومتى احتاجه وجده، فلو كان في سفر ليس معه مكتبته ولا مراجع فعنده العلم في صدره.
الأمور المساعدة على الحفظ:(43/6)
والحفظ كما لا يخفى أمر صعب، قال ابن الجوزي رحمه الله: ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار له، خصوصاً تكرار ما ليس في تكراره وحفظه حظ مثل مسائل الفقه، بخلاف الشعر والسجع فإن له لذة في إعادته وإن كان صعباً؛ لأن النفس تلتذ به مرة ومرتين، فإذا زاد التكرار صعُب عليها، ولكن دون صعوبة الفقه وغيره من المستحسنات عند الطبع، فترى النفس تخلد إلى الحديث والشعر والتصانيف والنسخ؛ لأنه يمر بها كل لحظة ما لم تره فيكون هناك تجديد، فهو في المعنى كالماء الجاري لأنه جزء بعد جزء، لكن الحفظ ما هو إلا إعادة لشيء موجود قد لا يشعر الشخص وهو يعيده بشيء جديد. وهذا من أسباب الملل، وهذا مما يبين صعوبة الحفظ، ولكن الحفظ لا يأتي إلا بالمران، ومجاهدة النفس، قال الزهري رحمه الله: إن الرجل ليطلب وقلبه شعب من الشعاب -يطلب العلم وقلبه شعب صغير- ثم لا يلبث أن يصير وادياً لا يوضع فيه شيء إلا التهمه. أول الحفظ شديد يشق على الإنسان، فإذا اعتاده سهل عليه، وكان العلماء يقولون: كل وعاء أفرغت فيه شيئاً فإنه يضيق، إلا القلب فإنه كلما أُفرغ فيه اتسع. وقال بعض أهل العلم: كان الحفظ يثقل عليّ حين ابتدأت، ثم عودته نفسي إلى أن حفظت قصيدة رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترقن
قال: حفظتها في ليلة. وهي قريب من مائتي بيت، وكانت هذه انطلاقة.
تكرار المحفوظ:(43/7)
ومن أعظم الأمور التي تُساعد على الحفظ، بل هو السبب الحقيقي في الحفظ، بل لا يُوجد سبب يفوقه أصلاً -التكرار، مهما حاولت أن تأتي بوسيلة أو سبيل للحفظ لا يمكن أن تأتي بأعظم ولا أحسن ولا أفضل، ولا أشد أثراً ولا أعظم مردوداً من التكرار، فالتكرار هو الحفظ، وهو الوسيلة الحقيقية للحفظ. وتكرار المحفوظ وإعادته على النفس يحصل به الإتقان، وهكذا كان العلماء يقرءون المرات الكثيرة، يعيدون مراراً وتكراراً حتى يحفظوا، قال بعضهم: سمعت صائحاً يصيح: والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، ساعة طويلة، فكنت أطلب الصوت إلى أن رأيت ابن زهير وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش . وعن معاذ بن معاذ قال: كنا بباب ابن عون ، فخرج علينا شعبة وعقد عقداً بيديه جميعاً، فكلمه بعضنا، فقال: لا تكلمني فإني قد حفظت عن ابن عون عشرة أحاديث أخاف أن أنساها، فهو لازال يعيد ويكرر حتى يحفظ. وكان أبو إسحاق الشيرازي يعيد الدرس مائة مرة، إذا أراد أن يحفظ درساً أعاده مائة مرة. وكان الكيا من فقهاء الشافعية يعيده سبعين مرة. وكان الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول: لا يحصل الحفظ لي حتى يُعاد خمسين مرة. لابد من الإعادة، لا تفكر -يا طالب العلم- بأن تأتي بوسيلة أخرى غير التكرار والإعادة مهما اجتهدت وصعدت ونزلت، وبحثت ونقبت، لا يمكن أن تأتي بوسيلة للحفظ غير الإعادة والتكرار، قد تختلف وسائل الإعادة والتكرار، لكن يبقى الأصل هو الإعادة والتكرار، ولما سُئل البخاري رحمه الله تعالى عن سبب حفظه، قال كلاماً معناه: لم أجد أنفع من مداومة النظر، الإعادة ومداومة النظر هما سبيل الحفظ. وحُكي أن فقيهاً أعاد الدرس في بيته مرات كثيرة، فقالت له عجوز في بيته: قد والله حفظته أنا، فقال: أعيديه، فأعادته، فلما كان بعد أيام، قال: يا عجوز! أعيدي ذلك الدرس، فقالت: ما أحفظه، قال: أنا أكرر الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك. فلابد من(43/8)
تكرير الكلام مراراً وتكراراً، هذا هو سبب الحفظ. وكلما كان التكرار أكثر ثبتت قاعدة الحفظ، فلا يحتاج إلى أوقات أخرى لاسترجاعه عند النسيان، التأسيس البطيء الذي يكون فيه التكرار الكثير قاعدة للحفظ. ثم لابد من المراجعة المستمرة بين الحين والحين، لأنهم قالوا: إن القلوب تربٌ والعلم غرسها، والمذاكرة ماؤها، فإذا انقطع عن التُرب ماؤها جف غرسها، فلابد من الإعادة والمراجعة. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصياً من صدور الرجال -أشد هرباً من صدور الرجال- من النعم من عقلها) أي: الإبل التي تحاول دائماً التفلت. ولذلك تعاهدوا القرآن: أي كرر وراجع ، ثم كرر وراجع ، ثم كرر وراجع ، دائماً، هذا هو الحفظ. وكان بعضهم لا يخرج كل غداة حتى ينظر في كتبه، ويتعاهد المحفوظ دائماً، ومراجعة الحفظ السابق أولى من حفظ شيء جديد، لأن المحافظة على رأس المال أولى من جمع الأرباح. وقال الخليل بن أحمد : تعاهد ما في صدرك أولى بك من أن تحفظ ما في كتبك، ولذلك بعض العلماء كان لهم أوقات مراجعة؛ لا يخرج لأحد، ولا يسمح لأحد أن يأتي إليه، ولا يُعطي موعداً أبداً في وقت المراجعة؛ من السابقين واللاحقين، ومن المعاصرين على سبيل المثال الشيخ علي الزامل النحوي اللغوي، العلامة في القصيم ، له بعد الفجر وقت يومي يراجع فيه حفظه من القرآن، وهو ضرير ومعه رجل ضرير آخر يراجع معه، ولا يمكن أن يقبل موعداً أو درساً في هذا الوقت؛ لأنه وقت مراجعة.
مذاكرة المحفوظات مع الإخوان:(43/9)
ومن الأمور المهمة في الحفظ: مذاكرة المحفوظات مع الإخوان، والمذاكرة مع الأصحاب، قيل إن ابن عباس كان يقول: يا سعيد ! اخرج بنا إلى النخل، ويقول: يا سعيد ! حدث، فأقول: حدث وأنت شاهد، قال: إن أخطأت فتحت عليك. قال إبراهيم رحمه الله: إنه ليطول عليّ الليل حتى ألقى أصحابي فأذاكرهم، يشتاق إلى أصحابه لكي يتذاكر معهم العلم، يقرأ عليهم ويقرءون عليه، ويسرد عليهم ويسردون عليه. وكانوا أيضاً في هذه التسميعات وهذا السرد المزدوج كان ينبه بعضهم بعضاً على أشياء، ويمتحن بعضهم بعضاً في أشياء، قال أبو بكر بن أبي داود لأبي عليّ النيسابوري الحافظ: يا أبا علي ! إبراهيم عن إبراهيم عن إبراهيم من هم؟ وهذا سند فيه ثلاثة أو أربعة أسماؤهم متشابهة، من هم؟ فقال: إبراهيم بن طهمان عن إبراهيم بن عامر البجلي عن إبراهيم النخعي ، فقال: أحسنت. وينبغي للعاقل أن يكون جُلّ زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عنده استقراراً لا يزول، وكان من فعل بعض السلف في إعادة العلم ما يلي، وعلى رأسهم الزهري رحمه الله: روي عن الزهري أنه كان يرجع إلى منزله وقد سمع حديثاً كثيراً، فيعيده على جارية له من أوله إلى آخره كما سمعه، ويقول لها: إنما أردت أن أحفظه. وكان غيره يعيد الحديث على الصبيان، يجلسهم في الطريق ويسرد عليهم حفظه، لأجل الاسترجاع، إذا لم يلق أصحابه ليحفظ معهم فإنه يسرد على النساء والصغار.
العمل بالمحفوظ:(43/10)
ومما يعين على الحفظ: العمل بما تحفظ، وهذا من أهم الأمور، وهو ثمرة العلم، ولذلك فإن الله عز وجل نبهنا على العمل مراراً في القرآن الكريم، وأخبر أن العاملين هم الناجون الفائزون يوم الدين، وأن الإثم في ترك العمل بالعلم، وقد تواترت على ذلك الآيات والأحاديث والشواهد الكثيرة في أهمية العمل بالعلم، وألف العلماء وصنفوا في اقتضاء العلم العمل. ولاشك أن العمل بالعلم يزيد الحفظ (استعمال الآثار وتوظيف السنن) الإمام أحمد رحمه الله ما كان يضع حديثاً في مسنده إلا ويعمل به، حتى إنه احتجم وأعطى الحجام ديناراً، لأجل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إسماعيل بن إبراهيم بن مُجمع بن جارية يقول: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، فإذا عملت بالعلم كان ذلك سبباً عظيماً للحفظ.
تعليم العلم:
ومن أسباب الحفظ: تعليم العلم للناس، ونشره بينهم، وقد قدمنا قبل قليل قصة ابن شهاب الزهري رحمه الله أنه كان يسمع العلم من عروة وغيره، فيأتي إلى جارية له وهي نائمة فيُوقظها، فيقول: اسمعي، حدثني فلان كذا وفلان كذا، فتقول: مالي ولهذا الحديث؟ فيقول: قد علمت أنك لا تنتفعين به، ولكن سمعته الآن فأردت أن أستذكره. وكان يجمع الأعاريب فيحدثهم، يريد أن يحفظ. الداعية إلى الله إذا حفظ العلم فإنه يؤديه إلى الناس، وتعليم الناس زكاة العلم، تبليغه إلى الناس، وكلما بلغته كلما رسخ في ذهنك؛ لأن التبليغ نوع من التكرار والإعادة، ولذلك فإن العلماء الذين يفتون الآن، يحفظون أدلة الفتاوى، ففتواهم من أسباب حفظهم للأدلة، رغم تقدم أسنانهم لكنهم كثيراً ما سردوه على مسامع الناس، لقد ألقوه إليهم وسئلوا فأجابوا، فمن كثرة الإلقاء والإجابة عن الأسئلة رسخ العلم في الأذهان.
المداومة على الحفظ ولو على القليل:(43/11)
ومن القواعد المهمة في الحفظ: المداومة ولو على القليل، ولعل من الحكمة في نزول القرآن منجماً ومفرقاً، ولم ينزل جملة واحدة أنه أَثبتُ في الحفظ، فحفظ النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32] وكانت طريقة الصحابة رضي الله عنهم أخذ عشر آيات يحفظونها ويفقهونها ويعملون بها، ثم يأخذون العشر التي تليها وهكذا، وتعلم ابن عمر سورة البقرة في ثمان سنين وقيل غير لك. قال حماد بن أبي سليمان لتلميذ له: تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها. وكان أحمد بن الفرات لا يترك كل يوم إذ أصبح أن يحفظ شيئاً وإن قلّ. فإذاً: لابد من المداومة على الحفظ؛ لأن بعض الناس قد يحفظ أياماً ويترك أسابيع لا يحفظ فيها، وهذه الذاكرة كلما استمر المران كلما ازدادت قابليتها للحفظ أكثر، وإذا تركتها انكمشت، ولذلك فإن المداومة مهمة، والمداومة المداومة على الأعمال الصالحة أصل من أصول الشريعة، كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل). وإذا كان ما جمعته من العلم قليلاً، وكان حفظك له ثابتاً كثرت المنفعة به ولو كان قليلاً، ولو قرأت أشياء كثيرة جداً، أنهيت كتباً، لكن ما قرأت غير محفوظ لديك قلّت المنفعة، مهما كانت قراءتك واسعة، إذا كانت هذه القراءة غير محفوظة قلّت المنفعة، ولو كان الشيء الذي اطلعت عليه قليلاً، لكنه محفوظ متقن، فإن المنفعة كبيرة.
إخلاص النية:(43/12)
ولاشك أن من أكبر الأسباب المعينة على الحفظ وينبغي البدء به، ولكن حتى لا نكون في شيء من التكرار الذي يقلل أهمية هذا الأمر أحياناً فنقوله الآن: وهو النية في الحفظ، ما هي النية؟ هل هي للمباهاة؟ هل هي لمناقشة العلماء وإظهار العلم، أو لمماراة السفهاء؟ أو لتصرف وجوه الناس إليك؟ إن كانت هذه هي النية فالنار النار، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كان الإنسان أخلص لله كان حفظه أفضل وأشد بركة، قال ابن عباس : [إنما يحفظ الرجل على قدر نيته].
الصلاح وترك المحرمات:
ومن الأمور المهمة في الحفظ: الصلاح وترك المحرمات، سأل رجل مالك بن أنس رحمه الله: يا أبا عبد الله ! هل يصلح لهذا الحفظ شيء؟ قال: إن كان يصلح له شيء فترك المعاصي، وهذا معنى الأبيات التي تنسب إلى الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم فضل ... وفضل الله لا يؤتاه عاصي
ولهذين البيتين ألفاظ كثيرة، فالمعاصي كما ذكر ابن القيم رحمه الله تُذهب العلم وتُنسي المحفوظات؛ لأن المعصية لها شُؤم، وشُؤم المعصية ينعكس على العلم المحفوظ، وعدد من الناس حفظوا كتاب الله ثم نسوه، من أسباب نسيانهم لآيات كثيرة من كتاب الله المعصية، فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، ولما قست القلوب ذهبت الأشياء المحفوظة، وضيع اليهود والنصارى كتاب الله بالمعاصي، وقد وكل حفظه إليهم: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [المائدة:44] فضاع، وكان من عقاب الله لهم: ضياع هذه الكتب منهم بسبب معاصيهم، وقد ذكر الله هذا في كتابه. ولذلك كلما كان الطالب أتقى لله كان حفظه أحسن، وقد يوجد نماذج من العصاة يحفظون، ولكن حفظهم لا بركة فيه، وقد يكون حفظهم من باب الاستدراج لهم، ولا تجد فيه نفعاً، لكن أهل التقى حفظهم نافع ومبارك.
فعل الطاعات:(43/13)
ومن أسباب الحفظ: الطاعات؛ صلاة الليل وقراءة القرآن من أسباب الحفظ، حتى قال بعض العلماء: ليس شيء أزيد للحفظ من قراءة القرآن نظراً، وقد جاء في الحديث الحسن : (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف) فالقراءة في المصحف نظراً وغيباً وتدبراً من الأشياء المعينة على الحفظ. ولاحظ أن الحافظ لكتاب الله يسهل عليه حفظ ما بعده، حفظ القرآن يُسهِّل ويُذلِّل الصعوبات في الحفظ، لأن الإنسان إذا جمع القرآن وتذلل لسانه بهذه الآيات، والله ييسر هذا الأمر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] فإن حفظ ما بعد القرآن يسهل بسبب حفظ القرآن.
التقلل من الدنيا:
ومن أسباب الحفظ: التقلل من الدنيا، وأنتم تذكرون أن أبا هريرة رضي الله عنه كان متقللاً من الدنيا، وكان ذلك من أهم أسباب حفظه، حتى عدها ابن حجر رحمه الله فائدة في حديث أبي هريرة ، قال: وفيه أن التقلل من الدنيا أمكنُ للحفظ. فإذاً: ترك المعاصي وفعل الطاعات من أسباب الحفظ، وفعل المعاصي من أسباب نسيان العلم، قال عبد الله : إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها. وقيل لسفيان بن عيينة : بم وجدت الحفظ؟ قال: بترك المعاصي.
الحجامة:(43/14)
ومن أسباب الحفظ التي وردت في الأحاديث: الحجامة، كما جاء في الحديث الحسن عند ابن ماجة والحاكم وابن السني وأبي نعيم مرفوعاً من حديث ابن عمر : (الحجامة على الريق أمثل، وفيها شفاء وبركة، وتزيد في الحفظ وفي العقل). والحجامة مؤكد عليها في الشريعة، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما مررت على ملأ من الملائكة في المعراج إلا وأمروني أن أوصي أمتي بالحجامة) فالحجامة من الأشياء التي تزيد الحفظ، نعم هي ليست كل شيء، فبعض الناس يفكر أنه لو احتجم اليوم غداً يحفظ صحيح البخاري ، هذا لا أساس له، لكن قال عليه الصلاة والسلام: ( وتزيد في الحفظ ) قال: (فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واجتنبوا الحجامة يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، فإنه اليوم الذي عوفي فيه أيوب من البلاء، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء، فإنه اليوم الذي ابتلي فيه أيوب ... الحديث) هذا الحديث حسنه الألباني ورواه ابن ماجة وغيره كما تقدم.
الأدعية والأذكار:
ومن أسباب الحفظ العظيمة: الأدعية والأذكار، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له) وقد شرب عدد من العلماء ماء زمزم وهم يدعون الله أن يُعطيهم حافظة قوية، وشرب ابن حجر ماء زمزم وسأل الله أن يُبلغه مرتبة الذهبي في الحفظ، فالدعاء وشرب ماء زمزم من أسباب الحفظ. ولاشك أن من أسباب الحفظ العظيمة: ذِكر الله عز وجل، قال الله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24] ذكر الله مما يزيل النسيان، ويُقرب الأشياء في الذهن، وذكر الله من أدوية النسيان، سواء كان النسيان نسيان الذهن والذاكرة، أو كان نسيان غفلة، فإن ذكر الله علاجه.
رفع الصوت بالقراءة:(43/15)
ومن الأمور المعينة على الحفظ: الجهر ورفع الصوت بالقراءة فيما يراد حفظه؛ لأن الجهر بالقراءة يجعل حاسة السمع مشتركة في الحفظ مع حاسة البصر، وإن كان الرجل أعمى فإن حفظه يكون شديداً؛ لأجل أن منفذ السمع إلى القلب أقوى وأشد من منفذ البصر، ولذلك قلنا: العرب كانوا يحفظون الخطبة الطويلة والأبيات الكثيرة من أول مرة، ما كانوا يقرءون ولا يكتبون. وهكذا تلقَّى معظم الصحابة الأحاديث، تلقوها وحفظوها بالسماع، فالسماع مهم جداً، قال الزبير بن بكار : دخل علي أبي وأنا أروي في دفتر ولا أجهر -أروي فيما بيني وبين نفسي- فقال: إنما لك من روايتك هذه ما أدى بصرك إلى قلبك. فإذا أردت الرواية فانظر إليها واجهر بها، فإنه يكون لك ما أدى بصرك إلى قلبك وما أدى سمعك إلى قلبك. وهم يقولون الآن: إنه كلما اشتركت حواس أكثر في الحفظ كان الحفظ أكثر، وهذه مسألة يختلف فيها الناس؛ بعض الناس لا يحفظ إلا إذا رفع صوته، وبعض الناس يكون عنده الحفظ أحسن إذا كان يقرأ بصمت وينظر، فينطبع في ذهنه، حتى إن بعض الحُفاظ كان يضع يده على صفحة إذا أراد أن يحفظ الصفحة التي تليها، حتى لا تختلط عليه السطور. وينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يُسمع نفسه، فإن ما سمعته الأذن يرسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه، وعن أبي حامد أنه كان يقول لأصحابه: إذا درستم فارفعوا أصواتكم فإنه أثبت للحفظ وأذهب للنوم، وكان يقول: القراءة الخفية للفهم -القراءة الخفية إذا أردت أن تتدبر وتفكر وتنظر- والرفيعة -التي فيها رفع صوت- للحفظ. يقول: القراءة الخفية للفهم، والرفيعة للحفظ.
التمهل في القراءة:
وكذلك من أسباب الحفظ: التمهل في القراءة، وكان بعضهم يقرأ الكتاب ثم يذاكر به حرفاً حرفاً كأن قارئاً يقرأه عليه فيفسره له. أي: قراءة مبينة، مفسرة، مترسلة، بطيئة، حتى يكون أرسخ علماً، وبعض الناس يحفظ إذا سرد أكثر.
حسن الاستماع لما يراد حفظه:(43/16)
وكذلك مما يعين على الحفظ: حُسن الاستماع لما يراد حفظه، عن سفيان قال: كان يُقال: أول العلم: الصمت -أول شيء أن يأتي الطالب ويجلس في الحلقة فلا يتكلم ولا كلمة، المبتدئ يجلس عند الشيخ لا يتكلم ولا كلمة، فقط يسمع، لا يسأل ولا يقاطع ولا شيء، يسمع فقط- والثاني: الاستماع له وحفظه، والثالث: العمل به، والرابع: نشره وتعليمه. ونُقل عنه أنه قال: تعلموا هذا العلم، فإذا علمتموه فاحفظوه، فإذا حفظتموه فاعملوا به، فإذا عملتم به فانشروه بين الناس، وقال هذا الناظم:
يا طالباً للعلم كي تحضى ... ... به ديناً ودنياً حظوة تعليه
اسمعه ثم احفظه ثم اعمل ... ... به لله ثم انشره في أهليه
عدم إرهاق النفس وإملالها ... ... وحملها على ما لا تطيق(43/17)
وينبغي لمن يريد الحفظ: ألا يرهق نفسه ويملها، فإذا تعب من الحفظ أخذ قسطاً من الراحة، وكيف كانت راحة العلماء؟ يجعلون أوقات التعب من الإعادة والتكرار، وللنسخ ونقل الأشياء، وكانوا يجعلونها كذلك في قراءة الأشياء التي فيها نوع من الترويح؛ كالأشعار والأمثال، والقصص والطرائف وغير ذلك. وينبغي أن نعلم أن الناس في الحفظ طاقات متفاوتة؛ فمنهم من يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا أراد الذي مقدار حفظه نصف صفحة أن يحفظ عشر ورقات تشبهاً بغيره؛ لحقه الملل، وأدركه الضجر، ونسي ما حفظ، فليستقر كل امرئ على مقدار ما يستوعبه، وعليه أن يشفق على نفسه من أن يحملها فوق ما تطيق، لكن كيف يعرف الإنسان طاقته؟ الجواب: بالتجربة. ولا ينبغي للعاقل أن يزج نفسه فيما يستفرغ جهوده، فيتعلم في يوم ضعف ما يتحمل، فهذا وإن تهيأ له أنه حفظها هذه المرة، وأنه ضبطها في هذا اليوم، فإنه في الغد سيثقل عليه جداً إعادة ما مضى وحفظ شيء جديد، وهذا كمن يحمل حملاً ثقيلاً يرهق نفسه في أول يوم ، فيحدث ضررٌ، نعم هو حمله، لكن حصل ضرر في جسده، في الغد لا يستطيع أن يحمل شيئاً. وينبغي أن يجعل الحافظ لنفسه مقدراً كلما بلغه وقف عليه لا يزيد؛ لأجل المراجعة، ويستريح ثم يواصل الحفظ، ولا يأخذ الطالب نفسه بما لا يُطيق، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه ويحكم حفظه ويتقنه، قال سفيان : كنت آتي الأعمش ومنصور ، فأسمع أربعة أحاديث وخمسة ثم انصرف كراهة أن تكثر وتتفلت. وعن شعبة قال: كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين، فيحدثني ثم يقول: أزيدك؟ فأقول: لا. حتى أحفظهما وأتقنهما. وقال بعضهم: من طلب العلم جملة فاته جملة. وقال بعضهم: إنما كنا نطلب حديثاً أو حديثين. وعن الزهري قال: إن هذا العلم -هذه تجارب حفاظ- إن أخذته بالمكابرة عسُر عليك، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً تظفر به.
التدرج والاقتصاد:(43/18)
فمن الأمور المهمة في الحفظ: التدرج والاقتصاد وتقليل المحفوظ مع المداومة على الحفظ فهذا أصل عظيم، ولا تشرع في شيء جديد حتى تحكم ما قبله، ومن لم يجد نشاطاً في الحفظ بعد مدة من الحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح. وقال ابن الجوزي : اعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن الغلط الانهماك في الإعادة ليلاً ونهاراً فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر ويمرض، فمن الغلط تحميل القلب حفظ كثير أو الحفظ من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، فمن الناس من يحمل مائة رطل، ومنهم من يعجز عن حمل عشرين رطلاً، فكذلك هذه القلوب أوعية بعضها يستوعب كثيراً وبعضها يستوعب قليلاً، فليأخذ الإنسان على قدر قوته، فإنه إذا استنفذ القوة في وقت ضاعت منه أوقات، والصواب أن يأخذ قدر ما يُطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل. مثلاً: قال: أنا أستطيع أن أحفظ خمس آيات، يقول: أحفظ خمس آيات، نقول: أعدها مرتين بالليل ثم أعدها في النهار. فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فأضاع زمناً طويلاً في استرجاع محفوظه، أي: أنه ينبغي على الإنسان أن يراجع باستمرار؛ لأنه إذا راجع وحفظ بتأني سهل عليه الاسترجاع، وإذا حفظه دُفعة واحدة الآن صعب عليه أن يسترجعه فيما بعد. وكذلك ذكرنا أنه لابد من ترفيه النفس مع الإعادة يوماً في الأسبوع، يجعل يوماً في الأسبوع للمراجعة ليثبت المحفوظ، وتأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبنى عليه، لا يبنى مرة واحدة وإلا فإنه ينهار.
الاهتمام بالغذاء المناسب:(43/19)
وكذلك مما يعين على الحفظ: الاهتمام بالغذاء المناسب، فإن التخمة من الأسباب المانعة من الحفظ، ولذلك كانوا يقللون الطعام؛ لأن كثرة الطعام تتخم النفس وتجعل القلب مشغولاً ومثقلاً، فلا تتمكن النفس من الحفظ، وكانوا يعتنون بأنواع الطعام، وليس فقط بكميته، ومن الأشياء المجربة التي ذكروها مما يزيد الحفظ: شُرب العسل وتناول الزبيب، والرمان الحلو، والحبة السوداء، واللبان على الريق، ليس اللبان الذي تستخدمونه الآن، الذي يعملون منه بالونات للأطفال، وإنما هو نوع من اللبان كانوا يمضغونه على الريق. وكانوا يجتنبون الأشياء الحامضة، حتى كان الزهري رحمه الله يجتنب التفاح الحامض، وهذا مجرب؛ الحوامض مما يقلل الحفظ، وكان العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله كما حكى عنه بعض أولاده، قال: كان أبي يزجرنا زجراً شديداً إذا رأى مع أحدنا لبناً حامضاً. وهذه الأشياء نسبتها في الحفظ قليلة، فالزبيب لا يجعل غير الحافظ حافظاً أو اللبان، وإنما هي أشياء معينة ومساعدة، ونحن نذكر العوامل وإن كانت نسبتها في الحفظ كثيرة أو قليلة من باب جمعها وذكرها. وكذلك إصلاح المزاج من الأصول العظيمة في الحفظ، ولاشك أن بعض الأطعمة تؤثر في الأمزجة فتسبب تعكيراً، وتسبب أشياء في المعدة، وشيئاً من الغثيان، والغثيان يضاد الحفظ.
السعي للتذكر:
وكذلك من الأمور المهمة: السعي للتذكر، بعض الناس إذا سئل عن شيء وهو لا يتذكره يمضي، لكن ينبغي عليه لكي يمرن ذاكرته أن يتوقف يتذكر، ويعتصر ذهنه وذاكرته حتى يتذكر؛ لكي يدرب الذهن والذاكرة على استرجاع المعلومات، أما كلما نسي شيئاً للوهلة الأولى تركه ومضى فإنه يتعود على النسيان السريع، أما إذا كان يعود نفسه كلما نسي شيئاً أن يحاول جاهداً أن يتذكره فإنه يكون أحسن وأنفع في استرجاع المعلومات.
وظائف طالب العلم:(43/20)
ومما يُضعف الذاكرة: كثرة الكتابة والاعتماد على الأشياء المكتوبة. أما بالنسبة لوظائف طالب العلم فهي كثيرة، يحتاج أن يحفظ وأن يقرأ وأن ينسخ، وربما احتاج أن يُلقي ويُدرس، فعليه أن يُوزع هذه الأشياء على وقتها، قال ابن الجوزي رحمه الله: ولما كانت القوة تُكلفه فهي تحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لابد منه مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين، فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل النسخ والمطالعة وراحة البدن وأخذهِ لحظِّه، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء، فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر الغبن وبان أثره، وإن النفس لتحدب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخف عليها، ومع العدل والإنصاف يتأتى كل مراد. فإذاً: حسن توزيع الوظائف -يا طالب العلم!- على الوقت من الأمور المهمة.
أوقات الحفظ:(43/21)
فإذا قلت: ما هي الأوقات المناسبة للحفظ؟ إن العمر مراحل: الطفولة والصبا وسن الشباب، ثم الكهولة والشيخوخة والهرم، فلاشك أن أحسن الأوقات للحفظ هو الصبا والطفولة والفترة المبكرة من العمر، فللحفظ أوقات من العمر أفضلها الصبا، وما يقاربه من أوقات الزمان، وقديماً قالوا: حفظ الغلام الصغير كالنقش في الحجر، وحفظ الرجل الكبير كالكتابة على الماء. وقال علقمة : ما حفظت وأنا شاب كأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة. وعن الحسن قال: [قدموا إلينا أحداثكم فإنهم أفرغ قلوباً وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله أن يتمه له أتمه]. وعن معمر قال: جالست قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة فما سمعت منه شيئاً وأنا في ذلك السن إلا وكأنه مكتوب في صدري. لقد أكملنا سن الطفولة، والعلماء كانوا يحفظون القرآن وهم أبناء ثمان سنين وتسع وعشر، فهل فاتنا القطار أم لا؟ الجواب: لا. لم يفت القطار، مهما بلغ الإنسان من التقدم في السن فإنه يستطيع أن يحفظ، وليس هناك سن لا يستطيع أن يحفظ فيها شيئاً مادام العقل باقياً، فمادام العقل باقياً فالحفظ ممكن، لكن كلما كان في الصغر كان أسهل. ولو فاتك أنت وقت الحفظ الجيد، ينبغي ألا يفوتك: أولاً: أن تحفظ فيما بقي من عمرك، وثانياً: أن تتدارك هذا مع ولدك الصغير، فلو فاتتنا أشياء نتيجة لعدم التربية الجيدة في الماضي، فإننا نستدرك هذا مع أولادنا الآن، فنجعلهم يحفظون ونساعدهم على الحفظ، ونجعل لهم الجوائز التشجيعية حتى لا يندموا إذا كبروا، ويكون لك من الأجر نصيب عظيم. وأما بالنسبة للوقت المناسب للحفظ في اليوم، من ذلك: قالوا من أفضلها: أفضلها أوقات الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع، وقال بعضهم ينصح ولده بالحفظ في الليل: أحب لك النظر في الليل، فإن القلب بالنهار طائر وبالليل ساكن. وقال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: المطالعة في الليل لخلو القلب، فإن خلوه يسرع(43/22)
إليه الحفظ. وعن عبد الرزاق قال: كان سفيان الثوري عندنا ليلة، قال: وسمعته قرأ القرآن من الليل وهو نائم، ثم قام يصلي فقضى حزبي من الصلاة، ثم قعد فجعل يقول: الأعمش والأعمش والأعمش ، ومنصور ومنصور ومنصور ، ومغيرة ومغيرة ومغيرة ، فقلت: يا أبا عبد الله ! ما هذا؟ قال: هذا حزبي من الصلاة، وهذا جزئي من الحديث. وقال الشافعي : الظلمة أجلى للقلب. أي يستطيع الإنسان أن يحفظ في هدوء الليل أكثر. وقال أحمد بن الفرات : لم نزل نسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ، فأجمعوا أنه ليس شيء أبلغ فيه إلا كثرة النظر، وحفظ الليل غالب على حفظ النهار. وقال إسماعيل بن أبي أويس : إذا هممت أن تحفظ شيئاً فنم وقم عند السحر -أي: قبيل الفجر- فأسرج سراجك -والآن اضغط الزر- وانظر فيه -في هذا الكتاب- فإنك لا تنساه بعد إن شاء الله. أي إن حفظ الأسحار قبيل الفجر من أحسن أنواع الحفظ، فإذا نام مبكراً فإنه يستيقظ نشيطاً ويكون ذهنه صافياً؛ لأنه ليس قبل اليقظة شيء إلا الراحة، ولا يكون مشغولاً بأشياء كثيرة، وسمع أشياء كثيرة، بل قام من النوم وذهنه صافٍ قبيل الفجر وقد نام مبكراً ، فهذا يكون من أصفى الأوقات للحفظ على الإطلاق. وقال ابن جماعة الكناني رحمه الله: الخامس في آداب المتعلم في نفسه: أن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار -جمع بكرة: وهي أول النهار- وللمطالعة والمذاكرة الليل، وللكتابة وسط النهار. وقالوا في أجود أوقات الحفظ: الأسحار، وبعده وقت انتصاف النهار، وبعده الغدوات دون العشيات، وحفظ الليل أسرع من حفظ النهار. وقيل لبعضهم: بم أدركت العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح. وقال آخر: بالسفر والسهر، والبكور في السحر. والسحر: آخر الليل، وانتصاف النهار: عند الظهيرة، والغدوات: أول النهار.
أماكن الحفظ:(43/23)
أما بالنسبة لأماكن الحفظ، فقد قالوا: إنها في الغُرف العالية أحسن من السُفل؛ لأن المكان العالي يكون في الغالب خالياً، لا زوجة ولا أولاد ولا ضوضاء، ولا دخول ولا خروج، وكل موضع بعيد عما يُلهي فإنه يجعل القلب خالياً لأجل الحفظ، وليس بالمحمود أن يتحفظ الرجل بحضرة النبات والخضرة، ولا على شطوط الأنهار، ولا على قوارع الطريق، لكثرة الشواغل والصوارف والأشياء المارة والعابرة، فالعجب من بعض الطلاب الذين يذاكرون في الحدائق العامة أيام الامتحانات. وقالوا: لا يحمد الحفظ بحضرة خضرة ولا على شاطئ نهر؛ لأن ذلك يُلهي، والأماكن العالية للحفظ خيرٌ من السوافل، والخلوة أصلٌ، وجمع الهم أصل الأصول، لذا ينبغي تفريغ الذهن من الشواغل.
أبحاث متعلقة بالذاكرة:
ونذكر هنا بعض الأشياء من الأبحاث الحديثة المتعلقة بالذاكرة، وهي أشياء يسيرة جداً لأن الجري وراء هذه متعب، وبعض الأبحاث الطبية والنفسية فيها فوائد، ولكن (اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً)، فهؤلاء العلماء المجربون قد تكلموا. من الأشياء الموجودة عند المعاصرين ويستفاد منها:
1/ قالوا: الذاكرة في الإنسان مثل العضلة في الجسم، كلما زدت في تمرينها واعتنيت بها كبرت وتوسعت، وإذا أهملتها تضاءلت وضعفت.
2/ وقالوا: إذا استمر أي شخص في الحفظ والمراجعة بقيت ذاكرته قوية ونشيطة، مادام عقله سليماً فاعلاً قادراً على التركيز وإن جاوز الخمسين، أي: يستطيع أن يحفظ وإن جاوز الخمسين مادام مواظباً على المراجعة والحفظ ومادام عقله موجوداً.
3/ وقالوا: إن الذاكرة عند الكثيرين غير مستغلة، وبإمكان الذاكرة أن تتسع لأعداد خيالية من الجزئيات والمعلومات. وقالوا: ليست كثرة المعلومات هي التي تشوش الذاكرة، وإنما الطريقة الخاطئة في إدخال المعلومات واستخراجها، وضعف القُدرة على التركيز والتفكير.(43/24)
4/ وقالوا: إن التكرير كان ولا يزال هو الوسيلة التقليدية للحفظ، ولكن التكرار له قواعد ينبغي الالتزام بها. من هذه الأشياء، وقد مرت معنا، لكن هم يقولون إنها من تجاربهم واكتشافاتهم: قام أحد العلماء الألمان بتجربة جمع فيها مجموعة وأعطاهم نصاً معيناً في يوم واحد، قال: احفظوه اليوم، فاحتاجوا إلى تكراره ثمان وستين مرة حتى حفظوه، ثم طلب منهم حفظ نص آخر مثل ذلك في الطول والصعوبة على فترة ثلاثة أيام، فاحتاجوا لتكراره أربع وثلاثين مرة فقط، أي: النصف. فإذا كان عندك شيء تريد أن تحفظه، فكررته مثلاً خمسين مرة إلى أن تحفظه اليوم، ولم تفعل شيئاً في الأيام القادمة، هذا أسرع للنسيان وأصعب للحفظ أيضاً من أن تقرأه في كل يوم عشر مرات لمدة خمسة أيام، أي: نفس عدد مرات التكرار لو جعلتها موزعة على الأيام فهو أحسن في الحفظ وأثبت من أن تجعلها في يوم واحد، ثم لا تفعل شيئاً في الأيام التي بعدها.
5/ وقالوا: العقل كالجسم يتعب عند الاستهلاك الشديد، ويحتاج إلى فترة راحة، ومن النادر أن تتعدى فترة التركيز عند أي شخص ساعة أو ساعة ونصف، وبعد ذلك يتوتر الجهاز العصبي، ويبدأ الذهن في رفض المعلومات التي تصل إليه، فلابد أن يتخلل وقت الحفظ فترات قصيرة من الراحة والاسترخاء، وهم يقولون: الموسيقى، ونحن نقول: تجديد الوضوء، ودخول الخلاء، وشرب شيء من المباحات لا بأس.(43/25)
6/ وقالوا: كلما ازداد الاهتمام بالموضوع، وأحس الشخص بأهميته كان حفظه أسرع وأشد، وكلما كان كارهاً مرغماً كان الذهن أسرع في الشرود، ويكون الحفظ أصعب، ولذلك الطلاب الذين يذاكرون لأجل النجاح ويحفظون، الحفظ عندهم صعب، أما طالب العلم الذي همه العلم؛ يحيا لأجل هذا العلم، لطاعة الله، ليعبد الله على بصيرة، ويعلم قدر جلالة الكتاب العزيز، فإن انصرافه لهذا أشد وأفضل وأعلى وأحسن من انصراف صاحب الدنيا إلى كتبه ودراسته الدنيوية بلا شك؛ لأن صاحب العلم يشعر أن العلم الذي عنده أهم بكثير وأجل، ولذلك العلماء حفظوا أشياء لا يستطيع الآن الكيميائي ولا الفيزيائي أن يحفظ مثلهم.
7/ وقالوا كذلك: إذا تخيلت صوراً لما تحفظ يكون حفظك أثبت، وهم يضربون أمثلة، ونحن يمكن أن نقول مثلاً: إذا أراد إنسان أن يحفظ آيات فيها بناء الكعبة، فلو أنه وضع في ذهنه صورتها مثلاً والطائفين حولها، أو البناء كيف يبنى وهو يقرأ ليحفظ، ربما يكون أثبت له، وكذلك لو قرأ نصوصاً في الجهاد فكان يستحضر في ذهنه صوراً للجهاد والجياد والسيوف والطِعَان، فربما تكون أيضاً الصورة مرتبطة بالمقروء، ولذلك من أصعب الأشياء حفظ الأرقام المجردة، لكن لو قلت: خمس صلوات وكذا فربطت الأشياء بالأشياء صار أسهل.(43/26)
8/ ولذلك عندهم من القواعد في الحفظ: الترتيب والتصنيف، فلو أخذنا مثلاً عشرين أداة من الأدوات وجعلناها مبعثرة، فإذا أردت أن تحفظها جميعاً يكون أصعب من أن لو صنفتها فوضعت مثلاً أدوات الطبخ جانباً، وقلت: هذه في خانة، وأدوات الكتابة جانباً، وقلت: هذه في خانة، وما يتعلق باللباس في جانب، وقلت: هذه في خانة، وحفظت كل خانة لوحدها، هذا يكون أحسن. فإذاً: تصنيف الأشياء وترتيبها يُعين على الحفظ. وكذلك من الأشياء التي تُستفاد في قضية الترتيب: الترتيب في حفظ القرآن، لو أراد إنسان أن يحفظ سورة البقرة مثلاً، من الأشياء المعينة على الحفظ أن يعرف مواضيع السورة، وأن يعرف ترتيب المواضيع في السورة، فمثلاً: بدأ بذكر المؤمنين، ثم المنافقين، ثم اليهود، ثم خلق آدم، ثم بناء الكعبة، وهكذا، فحفظ ترتيب المواضيع من الأمور المهمة، ولذلك يوجد تفاسير تعتني بذكر مواضيع السورة قبل البداية في تفسير السورة، فمثلاً من كتب علوم القرآن في هذا كتاب البقاعي رحمه الله، وكذلك كتاب الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز، فهذان كتابان فيهما ذكر مواضيع كل سورة. وكذلك من الكتب الحديثة التي تعتني بهذا كتاب الأستاذ سيد قطب رحمه الله يبين في مقدمة كل سورة ماذا تتناول السورة من المواضيع. وينبغي أن ننتبه إلى أن النظريات الحديثة تُزهد في الحفظ، وتُركز على الفهم، وتقول: المهم الفهم، وربما يُزهدون في الحفظ، فلا تستمع لهم؛ لأننا نعرف أن الأمر مكون من حفظ وفهم، وهذه طريقة علمائنا رحمهم الله تعالى، فإذا قالوا لك: لا داعي لإشغال الصغار و الأولاد بحفظ هذه المقطوعات الطويلة، وهذا مُضر تربوياً، فاعلم أنهم هم المأفونة عقولهم، الذين عاقبة أمرهم إلى الزوال وشأنهم في سِفال، وهذه أفكار ضلال، ولكن هذه الطريقة التي سلكها العلماء وجربوها صاروا بها علماء. ولذلك دعك من هذه النظريات الحديثة التي تقول: إن حشو أذهان الأطفال بالمعلومات مُضر، والمهم أن الولد(43/27)
يفهم. لا. كانوا يحفظونهم المتون ولو فهم الصغير بعد ذلك يستعين بحفظه.
أولويات الحفظ:
ثم نأتي إلى نقطة مهمة، وهي قضية الأولويات في الحفظ، فينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل؛ لأنه أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم، وهذه طريقة الصحابة ومن بعدهم، كانوا يحفظون الكتاب العزيز. عن الوليد بن مسلم قال: كنا إذا جالسنا الأوزاعي ، فرأى فينا حدثاً، قال: يا غلام! قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، وإن قال: لا. قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم. وكان يحيى بن يمان إذا جاءه غلام استقرأه رأس سبعين من الأعراف، ورأس سبعين من يوسف، وأول الحديد، فإن قرأها حفظاً حدثه، وإلا لم يحدثه. وقال أهل العلم: وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل، وأفضل ما تُشوغل به حفظ القرآن الكريم: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282]. فإذا رزقه الله تعالى حفظ كتابه فليحذر أن يشتغل عنه بالحديث أو غيره من العلوم اشتغالاً يؤدي إلى نسيانه، ثم الذي يتبع القرآن من العلوم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه، فيجب على الناس طلبها، إذ كانت أس الشريعة وقاعدتها، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]. وكذلك ينبغي انتقاء الأشياء، فإذا أراد أن يحفظ من السنة ينتقي الأحاديث الصحاح الجياد، وأحاديث الأحكام -مثلاً- من الأحاديث الصحاح الجياد، قال أبو حاتم الرازي : سمعت أبي يقول: اكتب أحسن ما تسمع، واحفظ أحسن ما تكتب، وذاكر بأحسن ما تحفظ. ويبتدئ بسماع الأمهات من كتب أهل الأثر والأصول الجامعة، قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: عجبت لمن ترك الأصول وطلب الفصول. وبعض الطلاب الآن يريد أن يدخل في التفاصيل فقبل أن يحفظ قصيدة(43/28)
رجزية في مصطلح الحديث، يبدأ بحفظ تقريب التهذيب وأسماء الرجال ومراتبهم، وهذا خلل ولا شك. إن أصح كتب الحديث الصحيحان ، وبعدهما سنن أبي داود وسنن النسائي ، وكذلك سنن الترمذي وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله. وينبغي على طالب العلم أن يحفظ من موقوفات الصحابة وأقوالهم؛ لأنها في لزوم العمل بها وتقديمها على القياس ملحقة بالسنن، والموقوفات على التابعين، فيعلم أقوال أهل العلم ولا يشذ عنهم، ويحفظ من أقوال المفسرين ما يلزم في معرفة معاني الآيات، ويحفظ من مغازي وسير النبي عليه الصلاة والسلام في السيرة، ويحفظ كذلك بعد ذلك أشياء ومنها الشعر والحكم والأمثال. هذه طريقة العلماء، لكن نحن الآن إذا قلنا أن الغالب عدم التفرغ، فماذا يفعل الإنسان؟ لو قلنا له: اذهب واحفظ القرآن ثم تعال، ما تسمع منا ولا مسألة فقهية حتى تحفظ القرآن!! الآن هذا لا يُناسب، فينبغي على الطالب في هذا الزمان أن يُقدم كتاب الله في الحفظ، ويحفظ أحاديث، ويحفظ فتاوى العلماء؛ لكي ينقلها إلى الناس ويستفيد منها هو. فنقول: صحيح أن هذه الزمان تضاءلت فيه الهمم، وقلّت الأوقات، وكثرت الشواغل والصوارف، وصحيح أن برنامجاً مثل هذا البرنامج الذي يذكره بعض العلماء في حفظ الأشياء لا يكون متيسراً، لكن نحن نُسدد ونقارب، ولا نقول للشخص: هذه هي الصورة المثالية ولابد أن تفعلها، ونحن نعلم أنه لا يستطيع أن يفعل، وأنه يحتاج لحفظ القرآن ربما خمس عشرة سنة، لا نعلمه مسألة فقهية واحدة في خلال هذه السنوات، هذا غير صحيح.
من أخبار الحفاظ:(43/29)
ونأتي في ختام المطاف إلى ذكر شيء من أخبار الحفاظ الذين أنعم الله بهم على هذه الأمة، وثقوا -أيها الإخوة- أننا نشعر بالعز والفخار من معرفة سيرهم، وأننا نقارع بهم الأمم، لا توجد أمة عندها حفاظ مثل الأمة الإسلامية مطلقاً، لا الإنجليز ولا الألمان، ولا الأمريكان ولا البيزنطيون، ولا الروم ولا الفرس، لا يوجد ناس عندهم حفاظ مثل الأمة الإسلامية أبداً، هذا شيء يشهد به القاصي والداني، والقريب والبعيد، ويشهد به التاريخ. ولذلك عندما تسمع الآن أخبار هؤلاء هات مثلهم من الغربيين، إذا صار عندهم هذا فهو ندرة، خزنوا كل شيء في الكمبيوترات وصارت عقولهم خاوية، وإذا توقف الكمبيوتر لا يستفاد لا منه ولا من جهازه، ولذلك نقول: صحيح أننا نستفيد من وسائل حفظ المعلومات، لكن إلغاء الحفظ شيء مضر جداً، ومن أسوأ الأشياء إلغاء الحفظ بالزعم أن هناك طرق تخزين حديثة، وماذا ينفعك الكمبيوتر وأنت بين الصفا والمروة تريد أن تستذكر شيئاً من الأذكار والأدعية، أو إذا قام الإمام إلى الركعة الخامسة، وتريد أن تستذكر الحكم فيها، أين جهازك في الصلاة؟! فإذاً: نرجع ونقول: أولاً وأخيراً الحفظ الحفظ.
أبو هريرة رضي الله عنه:(43/30)
وأما الحفاظ فإن على رأسهم بعد الأنبياء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى رأس الصحابة في الحفظ أبو هريرة رضي الله عنه، روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة ، قال: [إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة ، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى )) [البقرة:159] إلى قوله: (( الرَّحِيمُ )) [البقرة:160]، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم -المزارع- وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشبع بطنه، ويحضر مالا يحضرون، ويحفظ مالا يحفظون]. هذا هو التفرغ وجمع العقل والهم، والهم: هو الحفظ، وقال أبو هريرة: ( إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثونا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة ؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملئ بطني -لا آخذ إلا ما يكفيني من الطعام- فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناًَ من مساكين الصفة، أعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه : إنه لم يبسط أحدٌ ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول، فبسطت نمرة عليّ حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت بعد مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء). هذا أبو هريرة رضي الله عنه، ومع ذلك ما حدث بكل ما حفظ، وهو أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، فإنه الذي قال: [حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم] ولعل من ذلك حديث: (إن(43/31)
من أشراط الساعة إمارة الصبيان). ولذلك كان أبو هريرة يقول: [اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين وإمارة الصبيان] ولذلك لما تولى الصبي في عام ستين للهجرة من الأمويين، الله عز وجل قبض أبا هريرة قبلها بسنة، فمات سنة تسع وخمسين للهجرة على قول.
الإمام البخاري رحمه الله:
ومن الحفاظ الأجلاء وأعظم الحفاظ على الإطلاق، ومن أعظم من أنجبتهم هذه الأمة في الحفظ على الإطلاق الإمام البخاري رحمه الله تعالى بلا منازع، وهو مفخرة في جبين هذه الأمة، وغرة ودرة رحمه الله تعالى. كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا -هذا كلام حاشد بن إسماعيل - إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب -يأتي للحلقة ولا يكتب شيئاً- حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يوماً بعد ستة عشر يوماً مضت: إنكما قد أكثرتما علي وألححتما، فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه -نصحح دفاترنا على حفظ البخاري - خمسة وأربعون يوماً جلس مع الشيخ، هم يكتبون وهو لا يكتب، إلى أن قالوا له: أنت تلهو وتلعب، فلتكتب مثلنا وإلا فارحل!! قال: اسمعوا.. فسرد علينا خمسة عشر ألف حديث من حفظه، فصرنا نصحح كراريسنا على حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد. وقدم البخاري إلى بغداد ، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، ركبوا متن هذا على سند هذا، وعملوا لخبطة، ودفعوا إلى كل إنسان منهم عشرة أحاديث، وكانوا عشرة أشخاص، فصار المجموع مائة حديث، ثم جلس البخاري رحمه الله في المجلس وقد جاء الناس وأهل العلم وجلسوا، يأتي واحد يقول: يا أبا عبد الله ! إني سائلك عن أحاديث، قال: سل، ويعطيه الأولَ المغلوطَ، يقول البخاري : لا أعرفه، الثاني، يقول البخاري : لا أعرفه، الثالث،(43/32)
العاشر، يقول البخاري : لا أعرفه، يأتي الثاني يقول: سائلك عن أحاديث، فيذكر الأول والثاني فيعرض العشرة التي عنده، والبخاري يقول: كذلك هذا، يقول: لا أعرفه، والثالث والرابع والخامس والعاشر، عرضوا عليه مائة حديث مغلوطة، كل ذلك يقول: لا أعرفه. أما أهل الغفلة؛ الناس الذين لا يعلمون من هو البخاري، كانوا يقولون: هذه سمعةٌ، جلسنا فما رأينا منه شيئاً، كله: لا أعرفه.. لا أعرفه، وأما أهل العلم بالبخاري ، قالوا: ما سكت إلا لشيء!! فلما انتهوا، قال: انتهيتم؟ قالوا: نعم، قال: أما أنت فقد قلت: كذا وكذا، والصحيح كذا وكذا، وقلت: كذا وكذا، والصحيح كذا وكذا، فصحح له أحاديثه العشرة كلها، ثم استلم الثاني وصحح له أحاديثه العشرة كلها، إلى أن أكمل مائة حديث. قال ابن حجر رحمه الله في كلامه: ليس العجب أن يحفظ البخاري الصحيح، ولكن العجب أن يحفظ البخاري الخطأ، أي: يقول: أنت قلت: كذا، والصحيح كذا، وهو الآن قاله لأول مرة! وحِفْظُ أشياء مغلوطة ليس كحفظ الصحيح الذي سمعه مراراً وتكراراً! فسبحان الذي أعطاه هذه الموهبة!! قال البخاري : تذكرت أصحاب أنس ، فحضرني في ساعة ثلاثمائة. حضره هذا العدد فقط وهو يتذكر: من هم تلاميذ أنس ؟ ثلاثمائة واحد في الذاكرة. قال أبو الأزهر : كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل البخاري ، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق ، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين ، فما تعلقوا منه بسقطةٍ لا في إسناد ولا في متن. وقال محمد بن خميرويه : سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، أي: لكي ينبه الأمة على الأحاديث الصحيحة، ويفلي الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. فالرقم هذا قد يبدو للبعض مبالغاً فيه، لكن قال الذهبي رحمه الله: ما على وجه الأرض من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام قرابة عشرة آلاف(43/33)
حديث صحيح، فإن قال البخاري : أحفظ مائة ألف حديث صحيح، فإنه يقصد الطرق والشواهد والمتابعات والمقاطيع، وغير ذلك، الطرق بأنواعها وأصنافها.
أحمد بن حنبل رحمه الله:
أما أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، قال أبو زرعة : كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب. وقال عبد الله بن أحمد قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف، فإن شئت تسألني عن الكلام حتى أخبرك الإسناد، وإن شئت الإسناد حتى أخبرك عن الكلام.
إسحاق بن راهويه رحمه الله:
وكذلك فإن من العظماء في الحفظ إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى، قال ابن هشرم : كان إسحاق بن راهويه يملي علي سبعين ألف حديث حفظاً. وقال أبو إسحاق بن إبراهيم الحنظلي : أعرف مكان مائة ألف حديث كأني انظر إليها، وأحفظ منها سبعين ألف حديث من ظهر قلب صحيحة، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة، فقيل: ما معنى المزورة تحفظها؟ قال: إذا مر بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة، فليته منها فلياً.
بكر بن محمد الحنفي رحمه الله:
وكان بكر بن محمد الحنفي إذا طلب منه المتفقه الدرس ألقى عليه من أي موضع شاء من غير مطالعة كتاب، يسرد له من هنا ومن هنا من أي مكان في الكتاب، وسئل عن مسألة، فقال: هذه المسألة أعدتها في برج من حصن بخارى أربعمائة مرة.
سليمان بن داود الطيالسي رحمه الله:
وسليمان بن داود الطيالسي كان من كبار الحفاظ، قال عمر بن شبة : كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث وليس معه كتاب.
سفيان الثوري رحمه الله:
وسفيان الثوري رحمه الله قبل ذلك من أشد الناس حافظة، قال: ما استودعت أذني شيئاً قط إلا حفظته، حتى أمر بكذا، فأسد أذني مخافة أن أحفظها، وفي رواية: أمر بالحائك يغني فأسد أذني. لأنها لو دخلت لما خرجت.
الشعبي رحمه الله:(43/34)
والشعبي كذلك رحمه الله تعالى، قال ابن شبرمة : سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، وما حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده عليّ، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالماً. أي: رغم هذا الحفظ الأشياء المنسية لو أن أحداً آخر حفظها لأصبح عالماً. وعن الشعبي قال: لا أروي شيئاً أقل من الشعر -أقل محفوظاتي شعر- ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أعيد. هذا أقل المحفوظات، لو جلس يسرده شهراً فإنه يأخذ وقتاً كثيراً بدون أي بيت معاد.
عبد الله بن أبي داود السجستاني رحمه الله:
وأما عبد الله بن أبي داود السجستاني ، عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن أبي داود رحمه الله تعالى، قال إبراهيم بن شاذان : خرج أبو بكر بن أبي داود إلى سجستان -هذا الولد- فاجتمع إليه أصحاب الحديث، وسألو أن يحدثهم فأبى، وقال: ليس معي كتاب، فقالوا له: ابن أبي داود وكتاب؟!! قال: فأثاروني فأمليت عليهم ثلاثين ألف حديث من حفظي، فلما قدمت بغداد ، قال البغداديون: مضى فلعب بالناس -نتحقق- فكتبوا كل ما قيل، وجاءوا بها إلى بغداد ، وعرضت على الحفاظ، فخطئوني في ستة أحاديث، منها ثلاثة حدثت بها كما حُدثت -أي: حفظتها أصلاً خطأ- وثلاثة أحاديث أخطأت فيها. من كم؟ من ثلاثين ألف حديث، هذا الابن فما بالك بأبي داود رحمه الله؟!
أبو زرعة رحمه الله:(43/35)
وأما أبو زرعة الرازي ، قال أبو زرعة : في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة ولم أطالعه منذ كتبته، وإني أعلم في أي كتاب هو، وفي أي ورقة هو، وفي أي صفحة، وفي أي سطر هو، وما سمعت أذني شيئاً من العلم إلا وعاه قلبي، فإني كنت أمشي في سوق بغداد فأسمع من عزف المغنيات، فأضع إصبعي في أذني مخافة أن يعيه قلبي. وسُئل أبو زرعة الرازي عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة الرازي يحفظ مائتي ألف حديث، هل حنث؟ فقال: لا. وقال أبو زرعة الرازي : أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان (قل هو الله أحد) وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.
أبو عبد الله الختلي رحمه الله:
وأبو عبد الله الختلي دخل وليس معه شيء من كتبه، فحدث شهوراً إلى أن لحقته كتبه، أي: جاء إلى بلد مسافراً ولم تصل كتبه بعد، الكتب في الشحن ، فحدث، قال: حدثت بخمسين ألف حديث من حفظي، إلى أن لحقتني كتبي.
الحافظ الدارقطني رحمه الله:
وأما الحافظ الدارقطني رحمه الله، فإنه من صغره كان مشهوراً بالحفظ، حضر في حداثة سنه مجلس إسماعيل الصفار ، فجعل ينسخ جزءاً معه وإسماعيل يُملي، الدارقطني يكتب و هو صغير، فقال له أحد الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ، إذا أرادت أن تكون صحيح السماع، فلابد أن تسمع وتتفرغ للسماع، ولا يصلح أن تنشغل بالكتابة، فقال الدارقطني : فهمي للإملاء غير فهمك، ثم قال: أتحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن؟ فقال: لا، فقال: أملى ثمانية عشر حديثاً فعد، قال: فعددت الأحاديث فكانت كما قال، قال: الحديث الأول عن فلان عن فلان ومتنه كذا، والحديث الثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا، فلم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء، حتى أتى على آخرها فتعجب الناس منه. أي: وهو يكتب عن الشيخ يحفظ! والآن كثير من الناس يكتبون، لكن إما كتابة أو حفظاً، لا يستطيع أن يجمع بين الأمرين.
الجعابي رحمه الله:(43/36)
والجعابي رحمه الله دخل الرقة وكان له قنطاران من الكتب، فأنفذ غلامه ليأتي بالكتب فضاعت، فرجع الغلام مغموماً، قال: ضاعت الكتب، فقال: يا بني! لا تغتم، فإن فيها مائتي ألف حديث لا يُشكل عليّ منها حديث، لا إسناداً ولا متناً. فسواء ضاعت الكتب أو ما ضاعت. هذا حال طائفة من جهابذة هذه الأمة وحفاظها، فأين لهؤلاء الكفرة والذين يدعون الحضارة والعلم مثل هؤلاء؟! وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا.(43/37)
( قصة طالوت وجالوت )
عناصر الموضوع :
بنو إسرائيل مع نبيهم وملكهم طالوت
فوائد قصة طالوت مع قومه في قتال جالوت
فوائد للقصة ذكرها محمد رشيد رضا
الأسئلة
قصة طالوت وجالوت:
لقد قصَّ الله علينا في كتابه الكريم قصصاً كثيرة لأجل العبرة والعظة، ولحكم منها: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين على الحق، وحثهم على الصبر على دين الله عز وجل، وقد ذكر الشيخ من ضمن هذه القصص قصة طالوت وجالوت، ثم استطرد في ذكر الفوائد المستفادة من هذه القصة العظيمة.
بنو إسرائيل مع نبيهم وملكهم طالوت:(44/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ(44/2)
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:246-252].
بنو إسرائيل في حالة الاستضعاف ... :
تشير هذه الآيات الكريمة إلى قصة وقعت لبني إسرائيل في فترة من فترات حياتهم في الأرض المقدسة، كانوا مضطهدين مهزومين أمام أعدائهم، وقد سلب أعداؤهم منهم التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وقد شعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان، وكان هذا الشعور عند العامة والملأ، فأرادوا أن يغيروا واقعهم الذليل وأن يبدلوا ذلهم عزة، وهزيمتهم نصراً، وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو الجهاد في سبيل الله.
مطالبة بني إسرائيل نبيهم بالجهاد واختباره لهم:(44/3)
هذه إذاً قصة بداية الصحوة في هذه الفترة، استيقظت العقيدة في نفوس وجهائهم، وكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما مات نبي خلفه نبي، ولا شك أن شدة الذل والاستضعاف يولد في النهاية التحدي، وإرادة التغلب والإنقاذ من هذه الورطة التي يعيش فيها المستضعفون، وهذا النبي الذي لا نعلم اسمه كان معهم في فترة الاستضعاف، وليس من المهم معرفة اسمه ولذلك أبهم في الكتاب العزيز فقال الله: إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ [البقرة:246] ليس المهم ما هو اسم النبي، المهم أنهم قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، أرادوا أن يقاتلوا مع ملك ولم يريدوا أن يقاتلوا مع النبي. ولما كان النبي فيهم -هذا- يعلم طبيعتهم المائعة، وهمتهم الرخوة، وأنهم لو أمروا بالقتال فسوف يرتدون عنه، وينكصون ويقعدون، قال لهم يريد التأكد منهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]؟ يريد التأكد من هذه الهمة وهذه الروح الجهادية التي استيقظت الآن؛ لأنهم قالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] يعني: القوم يريدون الجهاد، وهذا النبي الكريم يريد أن يتأكد من حالهم، فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]؟ فأظهروا الإيمان، وحب الجهاد، وإرادة الخلاص من الذل والصغار، ولكنهم في أول اختبار ظهرت طبائع نفوسهم التي امتلأت بحب الدنيا والظهور فيها، وعدم التسليم لأمر الله تعالى. هم طمأنوا نبيهم أنهم سوف يقاتلون ولا يتخلفون، وإنما فقط الذي يمنعهم من عدم الجهاد هو عدم وجود ملك، فلو وجد ملك سيسارعون للقتال، وبينوا له الباعث القوي للقتال وقالوا: إنه الذل الذي يعيشونه: وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]. فلما سمع نبيهم بذلك، ولاحظ حماستهم،(44/4)
واندفاعهم، جاء الوحي من الله تعالى بأن الملك الذي عينه الله لقيادتهم في الجهاد هو طالوت ، وأنه هو الذي سيقودهم إلى النصر والعزة وتحرير أرضهم من المغتصبين، لكن هؤلاء القوم لم يتخلصوا من حب الدنيا أبداً، ولذلك في أول اختبار بمجرد أن أعلمهم باسم الملك الذي سيقودهم قالوا: أنى يكون له الملك علينا؟ اعتراض أولي وفوري، اعتراض على اسم القائد، لماذا فلان؟ بدلاً من أن يسلموا لأمر الله جاءت الطبيعة اليهودية -كما مر معنا في قصة البقرة- لتعترض: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [البقرة:247]. بعد أن استعدوا قبل قليل للقتال إذا بهم يعترضون على القائد الذي عين من عند الله تعالى لأنه قال: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً [البقرة:247] فلم يكن منتخباً منهم أو معيناً من نبيهم فقط وإنما كان من الله، وهذا الاعتراض ولا شك كان دليلاً واضحاً على تلكؤ القوم في تنفيذ الأوامر. وتمضي القصة لتبين بأنهم فوجئوا إذ كانوا يتوقعونه ملكاً قادماً من بيت الملك، وأن طالوت ليس من بيت الملك، ثم إنه فقير، وبين القوم تعلقهم بالدنيا بقولهم: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247] فعجب النبي لموقف القوم الذين كانوا يريدون ملكاً يقاتلون وراءه، فبين لهم نبيهم المواصفات التي تؤهله للملك، وأنه أنسب الناس حسب الميزان الرباني: (( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ )) تمكناً منه (( وَالْجِسْمِ )) يعني: قدرة على القيادة وتحمل أعباء القتال: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247] وأراد نبيهم أن يبين لهم بالتأكيد آية وعلامة على صحة تولي هذا الملك عليهم فقال لهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ(44/5)
هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248] يأتيهم التابوت بدون قتال ولا حرب، ستحمله الملائكة وتأتي به إليهم، وهذا دليل على أن طالوت هو الملك من عند الله، والسكينة: هي الراحة والرضا واليقين، وفي هذا التابوت أشياء مادية ورثوها عن آل موسى وآل هارون.
خروج طالوت بقومه للقتال واختباره لهم ... :
ولما جاءت الآية سلم القوم مكرهين ووافقوا على تملك طالوت ، وتسلم الملك والسلطان، وعبأ قومه للقتال وجهزهم لمحاربة الأعداء، ولما خرج بهم للمعركة الفاصلة أراد أن يختبر حماستهم وطاعتهم، وأن يبلو هذا الفورة التي حصلت في البداية؛ لأنه لا بد قبل المعركة من اختبارات للتأكد من حماسة الجند واستعداداتهم للمواجهة، لا بد من اختبارات صغيرة قبل الاختبار الكبير، فلما فصل بهم وغادر البنيان والعمران قال: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ [البقرة:249] فعندما تمرون عليه لا تشربوا منه، فمن خالف أمري فليذهب عني وليس من جيشي ولا يتبعني؛ لأنه ليس جندياً يستحق أن يكون في هذا الجيش، لكن الذي لم يشرب والتزم الأمر وأطاع فإنه يبقى معي ويقاتل. ثم إنه أراد أن يجعل فرجة وفسحة في الأمر لأن في القوم عطشى قال: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249] يبل بها فمه ويطفئ عطشه، ولما وصلوا النهر عصوا طالوت وشربوا منه إلا قليلاً منهم التزموا الأمر وأطاعوه.
الاختبار الثاني لأصحاب طالوت:(44/6)
ترك طالوت جموع العصاة المخالفين وسار بالقلة الباقية المطيعة حتى وصل بهم إلى أرض المعركة، فلما نظر جنوده إلى جنود الأعداء خافوا قتالهم، وجبنوا عن مواجهتم، وكان أعداؤهم الكفار بقيادة جالوت الكافر، وكانوا أكثر عدداً منهم، فهنا حصل امتحان آخر قبل أن تنشب المعركة وهي أن بعضهم قالوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249] وهم الأكثرية، ولا قدرة لنا على حربهم، وبعضهم -هؤلاء الخائفون- جبنوا عن المعركة، وبقي مع طالوت من القليل الأول قلة وهم الذين يظنون أنهم ملاقو الله، وهؤلاء القلة: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً [البقرة:249] دخلوا المعركة مؤمنين بالله، صابرين على بلواه، وبدأت المعركة، فطلبوا النصر من الله واستغاثوا به وتضرعوا إليه وقالوا: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250] وحقق الله وعده، وأنزل نصره، فهزموهم بإذن الله، وبرز في المعركة داود عليه السلام ولم يكن نبياً ولا ملكاً وقت ذاك، برز بقوته وشجاعته وقتل جالوت وآل إليه الأمر بعد طالوت ، ومن الله على داود بالملك والحكمة، وعلمه مما يشاء.
فوائد قصة طالوت مع قومه في قتال جالوت:
مرحلة الاستضعاف تولد التحدي وقوة الإيمان:(44/7)
وبعد هذا الملخص للقصة نأتي إلى ذكر بعض الفوائد والدروس المأخوذة منها: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] كما قلنا في البداية: إن مرحلة الاستضعاف تولد التحدي، وإن شدة الطغيان من الأعداء لا بد أن يوقظ أشياء في بعض النفوس، وتنتفض العقيدة في القلوب، ويستيقظ الإيمان، وهذا ما هو موجود الآن في المسلمين، فإن المسلمين اليوم يعيشون -ولا شك- مرحلة استضعاف كبرى، فقد تسلط عليهم الأعداء من كل جانب، ولا شك أننا في هذه المرحلة ينبغي أن نستلهم بعض ما في هذه القصة من الفوائد التي تعين على مواجهة الاستضعاف الذي نعيشه في هذه المرحلة. لا شك أن التحدي يجب أن يكون موجوداً في نفوسنا، وينبغي علينا ونحن نعيش في هذا الذل الذي فرضه علينا أعداؤنا أن نسعى للخلاص منه، لا يصح أن نستسلم للواقع بأي حال، ولذلك قالوا: ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] فإذا وضحت النية، ووضح الطريق من أن الجهاد في سبيل الله هو سبيل الخلاص من الذل، عند ذلك ينقطع نصف الطريق إلى النصر، فإن الهدف لابد أن يكون واضحاً فلا يغشاه الغبش الذي لا يدري معه الشخص أين يسير.
الاعتداد في الملك والقيادة بالعلم والقدرة ... :(44/8)
ولما أنهكت الحروب وقهرت الأعداء أولئك القوم، سألوا نبيهم رجلاً يقاتلون وراءه، وعندما قال لهم نبيهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] ما الذي يمنعنا من القتال ونحن نعيش في غاية الذل، وما فائدة العيش؟ فنلاحظ هنا -أيها الإخوة- أنهم أول ما تولوا عندما أنكروا إمرة طالوت ، كانوا يتوقعون شخصاً، وإذا بشخص آخر يخرج، وأظهروا التولي عن طاعته من البداية أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا [البقرة:247] ولذلك لا بد أن يتأسس في النفوس الميزان العقدي الإيماني الرباني للاصطفاء، ولا يجوز أبداً أن ننظر إلى قضية المال على أنه ميزان أو على أنه ميزة: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247] إذاً هو فقير، قال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:247] طعنوا في طالوت لأمرين: الأمر الأول: أنه ليس من بيت ملك. والثاني: لأنه فقير. والله تعالى رد هذه الشبهة بقوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:247] وقوله: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] بينت الآية أن للقائد صفتين مهمتين: الأولى: العلم. والثانية: القدرة: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] فأول صفة من صفات القائد: العلم، والصفة الثانية: القدرة، ولا يستحق أن يكون قائداً ملكاً عليهم إلا إذا جمع بين العلم والقدرة. هذا العلم والقدرة أهم من الجاه والمال، لكنهم اعترضوا وقالوا: هذا ليس بذي جاه: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [البقرة:247] والاعتراض الثاني: أنه فقير: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247](44/9)
فرد الله عز وجل عليهم بصفتين أهم من الصفتين اللتين اشترطوهما هم وفكروا فيهما فقال لهم: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] فلماذا كان العلم والقدرة أهم من الشرف والمال، وأهم من النسب والمال، وأهم من الجاه والمال؟ لأسباب: أولاً: أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية، فهما: كمال حقيقي أن يوجد في الشخص علم وقدرة بخلاف الجاه والمال. وثانياً: أن العلم والقدرة من الصفات الذاتية للشخص، بخلاف الجاه والمال الذي هو أمر منفصل عن الإنسان، فإن الإنسان قد يكون بغير جاه ولا مال ثم يكتسب جاهاً ومالاً، يكتسبه من شيء خارجي، لكن العلم والقدرة صفات ذاتية في الشخص لا تنفك عنه. ولذلك من الأسباب أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان، لكن المال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان. وكذلك فإن العالم بأمر الحروب القوي الشديد على المحاربة، يحصل الانتفاع به في حفظ البلد ودفع شر الأعداء أكثر من الانتفاع بصاحب النسب والغني إذا لم يكن عنده علم ولا قدرة على دفع الأعداء.
الله خالق أعمال العباد:(44/10)
وقوله تعالى: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] يدل على خلق الله لأعمال العباد وأنها من عنده، الله خلق فيه العلم، وخلق فيه البسطة في الجسم، قال بعضهم: إن المراد بالبسطة في الجسم طول القامة، وأنه سمي طالوت لأنه كان طويلاً وأن (طالوت) مبالغة من الطول، ولكن هذا ليس صحيحاً فإن طالوت اسم أعجمي وليس مشتقاً من الطول، ولذلك فإن القول الراجح في البسطة التي آتاها الله طالوت أنها القوة والشدة، فالمراد بها القوة ليس الطول ولا الجمال وإنما القوة. ولا شك أن العلم والقوة أجل صفات القائد، والله يؤتي ملكه من يشاء ولا يعترض عليه أحد: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247] وتأمل كيف ختمت الآية بصفتين من صفات الله مناسبة لما في الآية فقوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ ))[البقرة:247] هذا مقابل لقولهم: إنه فقير ولم يؤت سعة من المال فقال: الله واسع الفضل، أنتم طعنتم فيه لكونه فقيراً والله واسع الفضل والرحمة، والله يعلم أن القيادة لا تتأتى بالمال، والله قادر أن يفتح عليه من أبواب الخير والسعة ما يريد، والله عليم فعلم هذا الشخص، وعليم في من يصلح للقيادة، وعليم باصطفائه واختياره سبحانه وتعالى.
أخذهم الجلال والهيبة والوقار من التابوت:
وفي قوله: (( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ )) يعني: علامة ملكه: (( أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ )) وهو صندوق التوراة: (( فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ )) الجلال والوقار والهيبة: (( وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ )) لا يهمنا ما هي هذه البقية، هل هي عصا موسى؟ هل هي بقية الألواح التي تكسرت؟ ما هي هذه البقية؟ الله أعلم: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248] في هذه الخارقة التي هي علامة ملكه.
النصر يكون ببذل الأسباب الشرعية:(44/11)
وكذلك فإن في قوله: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ [البقرة:249] قد ورد في الحديث عدد هؤلاء، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى عن البراء ، وروى ابن جرير أيضاً عنه قال: (كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن) فإذاً كم عدد الذين جاوزوا مع طالوت النهر؟ ثلاثمائة وبضعة عشر شخصاً مثل عدد المسلمين في بدر . ولما غلبت الفئة القليلة في بدر الفئة الكثيرة وهم المشركون كان هذا مثالاً آخر مضافاً إلى الأمثلة التي سبقت مثل قصة طالوت على القاعدة العظيمة التي ذكرها الله بقوله: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] وانكسر العدد الكبير أمام العدد اليسير، وفي هذا دليل على أن الإيمان في المعركة هو المرجح، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: [إنما تقاتلون بأعمالكم] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم) فإذا كانت الأعمال فاسدة، والضعفاء مهملون، والصبر قليل، والتوكل ضعيف، والتقوى زائلة فلا سبيل إلى النصر البتة فإن الله ذكر أسباب النصر فقال: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:200] وقال: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [المائدة:23] وقال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وقال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج:40] وقال: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45] فهذه أسباب النصر وشروطه لما كانت معدومة، وضعيفة وضئيلة لذلك لم يأت النصر، وانحسر سلطان المسلمين. قال القرطبي رحمه الله في وقته -وكان وقت قوة للنصارى، في أواخر العهد الأندلسي- قال: فإنا لله(44/12)
وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا، بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد، ولكثرة الطغيان، وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقاً وغرباً، براً وبحراً، وعمت الفتن، وعظمت المحن، ولا عاصم إلا من رحم.
العبرة ليست بكثرة العدد: ...
وفي قوله تعالى: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249] أراد عز وجل أن يقوي قلوب هؤلاء الذين قالوا هذه الكلمة بقوله: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249] فالعبرة ليست بكثرة العدد ولكن بالتأييد الإلهي، ولذلك إذا جاءت الهزيمة فلا ينفع كثرة العدد، وإذا جاء النصر فلا يمنعه قلة العدد.
قيمة اللجوء إلى الله ودعائه:(44/13)
وفي قوله تعالى: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً [البقرة:250] فائدة بلاغية بليغة وهي: أنهم طلبوا من الله أن يفرغ عليهم الصبر أي: يغمرهم به من فوقهم؛ فتستقر قلوبهم ولا تقلق، وأن يثبت أقدامهم من الأسفل، أفرغ علينا صبراً من فوقنا، يعني: أنزله علينا كثيراً عامراً كما يفرغ الإنسان الإناء كله: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا [البقرة:250] فسألوا الله تثبيت الظاهر والباطن، فإذاً إذا جاء الصبر من فوق، وثبات الأقدام من الأسفل جاء النصر. وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:250] المبارزة: أن يبرز كل واحد منهم لصاحبه في وقت القتال، نلاحظ هنا دور العلماء والأقوياء إيمانياً لما قالوا: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً [البقرة:249] ونلاحظ تضرعهم إلى الله بإفراغ الصبر، وإنزال النصر، كما قال الله في آية أخرى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلجأ إلى ربه في هذه المواطن الشديدة، ويجأر إليه، ويلح عليه إلحاحاً شديداً، ولذلك كان يقول في معركة بدر : (اللهم بك أصول ..) كان يستنجز نصر الله وموعوده ويقول إذا لاقى العدو: (اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، وأجعلك في نحورهم) وكان يقول: (اللهم بك أصول وبك أجول). فالإفراغ: هو الصبر وإخلاء الإناء مما فيه: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً [البقرة:250] المبالغة في طلب الصبر من وجهين: الأول: أنه إذا صب(44/14)
الشيء في الشيء فقد أثبت فيه بحيث لا يزول عنه: أَفْرِغْ عَلَيْنَا [البقرة:250] يعني: صبه علينا صباً بحيث لا يخرج بل يبقى مستقراً في أنفسنا. والثاني: إفراغ الإناء هو إخلاؤه، معنى ذلك: صب كل ما فيه، ولذلك سألوا صبراً كثيراً وداخلاً ولذلك قالوا: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً [البقرة:250] وهذا أبلغ من قولهم: صبرنا فالإفراغ إذاً طلب الكثرة من الصبر، وأن يكون فيه -داخله- ممتلئاً بحيث إنه لا يخرج منه.
الصبر واتخاذ الأسباب المادية عند لقاء العدو:
وكذلك فإنه يتبين أن من الأمور المطلوبة عند المحاربة: أولاً: أن يكون الإنسان صبوراً. كذلك أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يعينه على المواجهة. ثالثاً: أن تزداد قوته على قوة عدوه؛ فيحصل عند ذلك الانتصار، فأما الأولى فهي المذكورة في قوله تعالى: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً [البقرة:250] والثانية: وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا [البقرة:250] والثالثة: وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250] فإذا تحقق الصبر وثبات الأقدام والغلبة -الزيادة- على العدو -الزيادة العامة- يحصل الانتصار.
فضل داود عليه السلام: ...(44/15)
وقوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ [البقرة:251] يعني: هزم هؤلاء الأقلون أولئك الكثيرين: بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:251] يعني: ليس بقوتهم ولا بعددهم، وإنما بإذن الله فهو الذي شجع القليلين وخذل الكثيرين: وَقَتَلَ دَاوُدُ [البقرة:251] وهو واحد وفرد من جنود طالوت : جَالُوتَ [البقرة:251] وهو عظيم الكفار ومقدمهم وقائدهم: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:251] وقلنا المُلك: صار مَلك بني إسرائيل، والحكمة: هي النبوة، وعلمه مما يشاء: صناعة الدروع من الحديد ونحو ذلك. ولا شك أن في ذلك دليلاً على شجاعة داود عليه السلام، وأنه قتل جالوت قتلاً أذل به جيشه وكسره وهزمه، فإنه إذا قتل ملك الجيش وقائدهم فإن ذلك أدعى لفرارهم وانحسار أمرهم، وهذه غنائم كثيرة ساقها الله تعالى بعد أن قتل جالوت ورزقها المسلمين.
في هذه الآيات تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم:
وفي قوله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [البقرة:252] تلك: إشارة إلى ما سبق ذكره في الآيات من إماتة الألوف منهم ثم إحياؤهم، وتمليك طالوت ، وإتيان التابوت، وانهزام جالوت وقتل داود له، وتملك داود، هذه آيات الله، أخبار غيب أخبرنا بها الله عز وجل: نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [البقرة:252] ليس بالباطل: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252 ]. هذه الآيات تنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها تسلية له، ومواجهة لأعدائه من الكفار والمنافقين، فكأنه يقول له: هذه آياتنا وهكذا نصرنا أولياءنا فاصبر يا محمد -صلى الله عليه وسلم- وإنك لمن المرسلين المنصورين بإذننا.
ما ورد من الإسرائيليات لا يُستند إليه:(44/16)
وما ورد في الإسرائيليات في قصة طالوت و جالوت أشياء كثيرة جداً ولكنها رجم بالغيب، والله أعلم بصحتها، مذكور فيها أسماء، ومذكور فيها أشياء عجيبة، كما أنهم قالوا في إسرائيلياتهم أن داود رمى جالوت بحجر واحد كسر الخوذة التي على رأسه، ودخلت رأسه، وفتتت دماغه، وخرجت من الخلف، وأصابت وراءه ثلاثين رجلاً فقتلتهم، ثم تفتت الحجر، وأصابت كل قطعة من الحجر المفتت جندياً من جنود جالوت فقتلته، هذا شغل الإسرائيليات؛ ولذلك لا يعول عليها البتة. ثم إن من الإسرائيليات الخطيرة جداً الموجودة عندهم في هذه القصة أنهم يقولون: إن طالوت بعد عدة محاولات حسد داود، قالوا: طالوت حسد داود وكاد له بعدة محاولات لقتله ولكنها فشلت كلها... إلى آخر القصة الباطلة، فلذلك لا يعول على الإسرائيليات البتة. ثم إن هذه القصة التي فيها مبهمات يعني مثلاً: متى حدثت؟ وهو قال: مِنْ بَعْدِ مُوسَى [البقرة:246] لكن بعد موسى بكم سنة؟ الله أعلم، ما اسم هذا النبي؟ الله أعلم. ما تفصيلات السكينة والبقية التي ستكون في التابوت من آل موسى وآل هارون؟ لم يذكر. ما اسم النهر؟ كم عدد الذين خالفوا وشربوا؟ كيف كانت نهاية طالوت؟ طالوت ماذا حصل له بعد ذلك؟ لم تذكر. فإذاً كل شيء لم يذكره الله عز وجل فليس فيه فائدة لنا ولو كان فيه فائدة لذكره، وما ذكره يغني عما لم يذكر من التفصيلات.
فوائد للقصة ذكرها محمد رشيد رضا:
وذكر العلامة/ محمد رشيد رضا رحمه الله من فوائد هذه القصة أشياء كثيرة:
القائد قد يكون مغموراً فتظهره الأحداث:(44/17)
فمن الفوائد قال: إن الأمم إذا اعتدي على استقلالها، وأوقع الأعداء بها فهضموا حقوقها، تتنبه مشاعرها لدفع الضيم، وتتوجه إلى شخص يقودها للخلاص. فتطلع الأمة لقائد يقودها في مرحلة الذل التي مرت بها هذا هو الطبيعي هذا هو الشيء المفترض أن يحصل؛ ولذلك فإن كثيراً من الناس ينتظرون الخلاص على يد قائد، وأنه لا بد من قائد يقود، وأن عدم وجود القائد مشكلة كبيرة، لكن هل نقف مكتوفي الأيدي حتى يظهر قائد يقودنا؟ الجواب: لا. لابد من أخذ العدة والاستعداد، وقد يكون القائد واحداً من هؤلاء المسلمين الذين يقودهم إلى النصر؛ ولذلك قد يكون القائد مغموراً، فهذا طالوت أول الأمر ما كان ذا ملك ولا من سبط النبوة، ولا كان صاحب مال، كان رجلاً مغموراً بين الناس؛ لذلك فوجئوا، ولذلك يمكن أن يكون الذي يقود الأمة رجلاً من أغمار الناس يظهره الله تعالى في حادثة أو مناسبة فيعظم أمره ويقود الأمة. فداود برز في المعركة، وعظم شأنه لما قتل جالوت ، فالأحداث تظهر الأشخاص، وتظهر القادة، وهذا درس آخر فإن القادة والذين يتولون الأمة ويقودونها لا يظهرون من كسل، لا يظهرون من فراغ، لا يظهرون بدون خلفية، يظهرون من الأحداث، فهي التي تظهرهم؛ ولذلك فإن أحداث المعركة هي التي أظهرت داود عليه السلام لما قتل جالوت .. شجاعته وشكيمته أبرزته، وتطلعت الأنظار إليه.
البلاء إذا نزل أدركه الناس كلهم: ...
وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: أنه عندما يحدث البلاء بالأمة فإن الخطر يدركه الكبير والصغير، والخاص والعام؛ ولذلك قال الملأ من بني إسرائيل: ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً [البقرة:246] فالملأ هم الذين يريدون الخلاص أيضاً وليس فقط العامة، وأنه متى عظم الشعور بوجوب دفع الظلم والقيام على الأعداء فإنه لا يلبث أن يسري إلى العامة حتى يكون شعوراً عاماً.
القائد ينتخبه أهل الحل والعقد:(44/18)
وكذلك فإن الاختلاف على مقدم القوم وقائدهم من شأن الأمم، ولذلك جعل الإسلام انتخابه إلى أهل الحل والعقد والناس تبع لهم، وليس للغوغاء والعامة أن يرشحوا أحداً أو ينتخبوه كما هو شأن الديمقراطيات الغربية، فإنهم قد يكون عندهم شواذ كثر، وغوغاء وهمج، ومع ذلك يشتركون في انتخاب رئيس لهم فقد ينتخبون شاذاً أو عربيداً مثلهم أو شخصاً يحقق لهم أهواءهم، ولا يهم هؤلاء الشواذ أن يكون عالماً أو حكيماً أو تقياً أو يعرف المصلحة، ولذلك تنطلي كثير من حملاتهم الانتخابية على هؤلاء الناس في الشارع فيرشحونهم، ولذلك في الإسلام معروف كيف يكون انتخاب الإمام، وكيف يكون إظهاره لأهل الحل والعقد وليس لعامة الناس.
الجهل سبب في فقد الموازين الشرعية:
وكذلك فإن الأمم في طور الجهل تتغير عندها الموازين وتضطرب، ولذلك هؤلاء كانوا يرون أن أحق الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة، ولذلك قالوا: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ [البقرة:247] لكن الميزان الرباني يختلف، ولذلك فإن التجهيل الذي يصيب الأمة خطير في إفقادها الموازين الشرعية، وهذه قضية مهمة، فإنه يجب أن تبين الموازين الشرعية للناس الذين يعيشون في طور الجهل؛ لأنهم في طور القدرة على التمييز، والعمل بحسب الموازين الشرعية، ولذلك قال لهم نبيهم: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] فبين الشروط التي تبين اختيار القائد: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:247].
طاعة القائد سبب في النصر:(44/19)
وكذلك يتبين من القصة أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به وينهى عنه مما هو من طاعة الله هو شرط للنصر واستقامة الأمر، ولذلك الرماة في أحد لما عصوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، كان سبباً في الهزيمة، ولذلك كان لا بد من تجريد الجيش من هؤلاء المنهزمين وهؤلاء العصاة قبل دخول المعركة، لأنه لو دخل بهم المعركة فسيكونون من أول الفارين، وسيشيعون روح الهزيمة في بقية الجيش، ولذلك لأن يكونوا قلة ثابتين أحسن من كثرة ينهزم أكثرهم فيتبعهم البقية، إذا صارت هزيمة صارت فوضى، وإذا صارت فوضى ما عاد من الممكن ترتيب الصفوف ولا توزيع الجيش ولا المقاومة؛ ولذلك كان من الحكمة أن يقول: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي [البقرة:249] فليخرج عني وعن جيشي، لا أريده أن يقاتل معي. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ العهد عليهم أن يطيعوه في منشطهم ومكرههم؛ ولذلك كان لا بد أن يطاع القائد في طاعة الله تعالى.
أن التوجه إلى الله مهم جداً حال القتال:
ومن فوائد هذه القصة كذلك أن التوجه إلى الله في القتال مهم في النصر، ومفيد جداً؛ ولذلك بعد أن سألوا الله قال: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:251] وجاءت عاطفة على آية الدعاء: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:250-251] إذاً الفاء هذه التي تفيد التعقيب معناها: أن الله يستجيب الدعاء بسرعة، لكن المهم أن يكون الدعاء من قلب خالص.
سنة التدافع بين الناس: ...(44/20)
وكذلك فإن في قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [البقرة:251] بيان لسنته العامة عز وجل، وهذه التي يعبر عنها علماء الاجتماع المتأخرين بتنازع البقاء، وأن هناك مصادمات تفيد في النهاية بقاء هذا وزوال ذاك، وقوله عز وجل: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251] فيه دليل على السنة الربانية أن البقاء للأصلح، وأن الأمثل هو المستحق لأن يستمر، ولذلك يقول الله عز وجل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17] فلذلك الحوادث ونيران التنازع هذه تطير زبد الباطل وتقشعه؛ ليبقى إبريز الحق واضحاً متلألئاً يحصل في ظله الأمان والنمو. ولا شك أن هذه القصة في ضمن ما تبرز أن بعد مرحلة الاستضعاف التي تكون فيها الصحوة والانتفاضة على الواقع الباطل يأتي التمكين، فإن أعلى قمة وصلت إليها دولة بني إسرائيل في الأرض في عهد داود وسليمان، وكانت هذه الفترة الذهبية لهم بعد مرحلة المحنة التي حصلت فيها الفورة والحماس لإنهاء هذا الوضع -وهو وضع الذل- ولذلك التمكين لا يأتي إلا بعد الاستضعاف، هذه من آيات الله وسننه الكونية، التمكين لا يأتي إلا بعد الاستضعاف، يكون قوم مستضعفون فيمكن الله لهم، ولذلك فنحن نتفاءل من الواقع الموجود أن التمكين سيكون حليف الإسلام وأهله بإذن الله تعالى.
الحنكة والحكمة في القيادة الصالحة:(44/21)
وكذلك تبرز من هذه القصة حكمة القيادة الصالحة المؤمنة التي تخبر النفوس، ولا تغتر بالحماسة الظاهرة، فإن طالوت لم يغتر بهذه الكمية من الناس التي خرجت معه وبهذا العدد، وإنما ابتلاهم وخبرهم، والتجربة الأولى لما كتب عليهم القتال تولوا، هم قالوا: نريد أن نقاتل؛ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم، فأخذ طالوت القليل وسار بهم، وابتلاهم واختبرهم في قصة النهر، فتولوا إلا قليلاً، ساروا للقاء الأعداء، لما رأوا كثرة الأعداء وقلتهم قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، البقية هم الذين كتب الله النصر على أيديهم. إذاً: التمحيص يمر بفترات لأن الإنسان قد ينجو في اختبار ويتعداه، لكن يسقط في الاختبار الثاني أو الثالث، لكن في النهاية الذين تبقوا بعد التمحيص هم الذين ينتصرون مهما كانوا قلة.
عدم ضعف طالوت عند تخاذل قومه:
وكذلك فإن هذا الملك العظيم وهو طالوت لم يضعف وينكمش عندما رأى جنوده يتخاذلون ويتساقطون في موقف بعد آخر، تضاءلوا في تجربة بعد تجربة ولم يثبت معه في النهاية إلا قلة، فئة مختارة خاض بها المعركة ثقة بالله تعالى، وهذه الفئة الصغيرة القليلة هي التي تلقت النصر واستحقته من الله تعالى.
أهمية وجود الأمير والقائد في الجيش:
وكذلك فإن في هذه القصة -كما ذكر القاسمي رحمه الله في تفسيره - أن الأمير يُحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمور الجيش، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليها أميراً، وأنه لا بد منه ولولا ذلك لانفرط عقد الجيش، وتنازعوا، وكل واحد ادعى الرئاسة، فلا بد من واحد يقود، ولا بد للبقية من السمع والطاعة له فيما هو من طاعة الله حتى يحدث النصر.
إذا عظم الأمر عظمت الإمرة: ...(44/22)
وكذلك فيه أنه كلما عظم الأمر كان أمر الإمرة أخطر، ولذلك فإن إمرة الجيش أخطر من إمرة السفر، وإمرة المسلمين أخطر من إمرة الجيش، فكلما عظم الأمر كانت الإمرة أعظم، ولا بد أن تكون الشروط فيه أدق وأشد؛ لأن هذه مسئوليات كلما عظمت لا بد أن يعظم الرجال المنتخبون لحملها.
في هذه القصة عزاء للصحوة الإسلامية:
وكذلك فإن في هذه القصة عزاء لهذه الصحوة الإسلامية المعاصرة، فإن بني إسرائيل هم الذين قالوا: سمعنا وعصينا، وهم الذين قالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا، فهؤلاء بعد فترة من الزمن نصرهم الله، فإذا كان المسلمون الآن ليس عندهم هذه البذاءة وليس عندهم هذا الحد من التردي فإنهم أقرب إلى نصر الله، ولذلك قُرب النصر من المسلمين الآن أقرب إليهم من بني إسرائيل على ما فعلوه من تقتيل الأنبياء وقالوا: حنطة، وسمعنا وعصينا، ويد الله مغلولة، واذهب أنت وربك فقاتلا... إلى آخره، ففيه شيء من العزاء لأبناء المسلمين في هذا الزمان، وأن الله تعالى يكلل جهود الساعين بالنجاح، وعمل العاملين بنصرة الدين ولا شك.
الابتلاء للمؤمنين حاصل:
وكذلك فإننا نلاحظ أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده، ويختبرهم في الأعداء، ويختبرهم في أنفسهم فإنه ابتلى بني إسرائيل بطالوت ، وابتلاهم بالعدو الذي لاقاهم، فيكون الابتلاء من الداخل والخارج.
لا ينبغي الاغترار بالحماسة:(44/23)
وكذلك في هذه القصة درس عظيم: أنه لا يصلح الاغترار بالحماسة أبداً، فإن الحماسة الجماعية قد تخدع، ويقوم جمهور من الناس يهتفون ويقولون: سنفعل ونفعل، لكن القيادة الإسلامية لا تغتر بهذه الحماسة أبداً، وإذا كان هؤلاء بنو إسرائيل بمجرد أن كتب عليهم القتال تولوا قبل أن يقاتلوا، بمجرد فرض القتال تولوا! وسقط كثير منهم في امتحان شرب النهر، وكذلك كثير منهم عندما رأوا الجيش تخاذلوا وقالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فإذاً الحماسة لا يجوز أن تخدع المسلم، وإنما العبرة بالحقيقة، وكذلك فإن مصير المعركة ينقلب، والموازين تنعكس بإرادة الله عز وجل كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249].
اختلاف الناس في التقليد:
وكذلك فإن في هذه القصة: أن الناس لا يتفقون في التقليد، فكل واحد يفكر حسب مصلحته، ولذلك لما قيل لهم: إن طالوت ملك عليكم تنازعوا الأمر واختلفوا على نبيهم، كل واحد ينظر من جهة المصلحة، ينظر من جهة الدنيا؛ ولذلك فلا بد من التوعية، فإذا كان الناس همجاً ورعاعاً وجهلة فإن الاختلاف فيهم أسهل ما يمكن، أما إذا كان عندهم وعي وعلم تتحد قلوبهم على الاختيار ويتفقون، ويعلمون مضرة الاختلاف، لكن إذا كانوا جهلة غوغاء ما يعلمون مضرة الاختلاف فيختلفون؛ فيتفرقون فينهزمون.
الأيام دول بين الناس ... :(44/24)
وكذلك أن الله سبحانه وتعالى يداول الأيام بين الناس، فبينما كانت القوة لجالوت وجنوده فإذا بها تصبح لطالوت ومن معه، ويزول سلطان الظالمين، ويورث الله الأرض للصالحين، وهذه مشاهد متكررة ومواقف متعددة عبر التاريخ. وكذلك فإن بقاء الكفار مسلطين على المسلمين فيه فساد للأرض؛ ولذلك لم يشأ الله ذلك ولم يقدره، وإنما قدر الله أن تكون المعركة والأيام مداولة بين الناس: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251] إذاً سنة التدافع مهمة لتصحيح الأوضاع، والله قادر أن ينزل النصر بلا جهاد، لكن لا بد من الجهاد لإزالة ما في النفوس من الشوائب، ويعلم الله الصابرين، ويتخذ شهداء، ويعلم المنافقين.
لو بقيت الأرض تحت سلطان الكافرين ما عُبِد الله سبحانه:(44/25)
وكذلك فإن قوله تعالى في آية أخرى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً [الحج:40] دليل على أن الأرض لو بقيت تحت سلطان الكافرين ما عبد الله، ولهدمت كل أماكن العبادة من الصوامع والبيع والصلوات والمساجد؛ ولأجل هذا فإن الله لم يقدر أن الكفار يستولون على الأرض دائماً وأبداً، بل إنه عز وجل يداول الأيام بين الناس، والدول تكون مرة لأهل الحق، ومرة لأهل الباطل، وكل ذلك فيه فائدة للمسلمين، فإذا كانت الدولة لأهل الصلاح والغلبة لهم؛ طبقوا شرع الله وفتحوا الفتوحات وجيشوا الجيوش، وحكم الناس بشريعة الله، وعدلوا وأقاموا العدل، واستقرت الأحوال، وظهرت البركة في الأرض، وزال الفقر والجهل، وعندما تكون الغلبة لأهل الباطل ينكشف المنافقون، ويظهر إخلاص المخلصين، ويشتد السعي والحماسة؛ لأن هناك تحدياً يوجب المداومة في الأعمال، والمواصلة عليها، ومضاعفة الجهود لأننا في ضعف، ويتخذ الله شهداء، ويَظهر علم الله في الواقع من الذي يثبت ومن الذي لا يثبت، ولا شك أنه عندما يكون في محنة يزداد الذين آمنوا أجراً، للصابر فيها أجر خمسين.
مضاعفة الأجر للقابض على دينه:
كذلك فإنه يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر، ويكون لهم الأجر العظيم بثباتهم وقبضهم هذا، فسواء كنا في محنة أو في نعمة، سواء كان المسلمون في انتصار أو كانوا يعيشون تحت قهر العدو فإنه فيه خير في كِلا الحالتين للمسلمين، والدفاع عن الحق لا يكون إلا إذا صار هجوم، وأن الشهادة والقتل في سبيل الله لا يكون إلا إذا صار هناك قتال مع الكفار، إظهار غلبة الدين على المبادئ الأخرى عندما يكون هناك مناقشات ومحاجات ومصادمات فكرية وعقدية.
تعليم الخبرات في مواجهة المواقف الجديدة:(44/26)
وكذلك فإن الله يعلمنا بهذه القصة خبرة يضيفها إلى خبراتنا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ [البقرة:246] وهذا التعليم مهم جداً إضافة الخبرات لكي نواجه المواقف الجديدة بخبرات قديمة، ومواجهة المواقف الجديدة بخبرات قديمة يثمر النجاح في المواجهة.
فراسة نبي بني إسرائيل:
وكذلك فإن قوله عز وجل: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ [البقرة:246] يظهر فراسة النبي الذي قال لهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246] لأنه لما كتب عليهم القتال قال الله: تَوَلَّوْا [البقرة:246] فكانت فراسة نبيهم فيهم صحيحة، فالفراسة من طبيعة المؤمنين وشيء يجعله الله تعالى في نفوسهم فيستشفون بها شيئاً مما يمكن أن يحدث في المستقبل ويتوقعونه، وهي ليست علماً غيبياً، فعلم الغيب لله، فأنت إن تقدم على الشيء وأنت تتوقعه أهون من أن تفاجأ به، ولذلك هذا النبي بالتأكيد ما فوجئ عندما تولى بنو إسرائيل عن القتال؛ لأنه توقعه من أول الأمر وأعرب لهم عن ذلك، فقال: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا [البقرة:246]؟ وفعلاً ما توقعه حصل، فإنهم عندما كتب عليهم القتال تولوا.
الأمة المنعمة تنهزم حال الحرب:(44/27)
كذلك فإن الأمم التي تعيش متنعمة تميل إلى الدعة قد يأتي عليها وقت تتمنى الحرب، لكن إذا حضرت الحرب انهزمت، كان بعض المسلمين يتمنون الجهاد فلما فرض الجهاد ماذا حصل؟ قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى [النساء:77] وهذا يعلمنا ألا نكثر من الوعود والأمنيات الجهادية، ولا نسرف في إظهار الرغبة في القتال، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) أما أن نتوعدهم وأن نظهر أننا سنفعل.. ونفعل.. ونفعل.. ونرمي بهم في البحر فهذا كله هراء؛ لأن العمل الحقيقي عند اللقاء وليس قبل.
الإمامة ليست موروثة: ...
وكذلك فإن الناس الذين قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [البقرة:247] ذكر بعض المفسرين أن فيها دلالة على بطلان قول من يقول: إن الإمامة موروثة، الإمامة ليست موروثة وإنما هي من أهل الحل والعقد بناءً على العلم والقوة.
المظهر ليس دليلاً على الجوهر:
وفيه أن المظهر ليس دليلاً على الجوهر فقد يكون الشخص نحيلاً لكنه قوي، ولذلك قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
وقد عظم البعير بغير ... لب فلم يستغن ذي العظم البعير
فزيادة الجسم كانت في كثرة معاني الخير و الشجاعة، وليست فقط أنه طويل وعريض ومفتول العضلات.(44/28)
إثبات قاعدة: إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع.
وفي إباحة طالوت لجيشه أن يشربوا غرفة فيه دليل على قاعدة: إذا أردت أن تطاع فمر بما يستطاع، وأن من حكمة القائد ألا يمنعهم من شيء يحتاجون إليه منعاً باتاً، وإنما يبقي لهم فرصة لإزالة ما يحتاجونه من الحاجة؛ ولذلك فإن طالوت لم يقل: لا تشربوا أبداً ولو متم من العطش لا تشربوا، بل قال: إلا من اغترف غرفة بيده؛ ولذلك لا بد أن يكون القائد حكيماً في أمره ألا يكون تعسفياً، لأن التعسف يؤدي إلى النفور والخروج عن طاعته، وإذا منعهم عن شيء مباح لفائدة فإنه لا يمنع منعاً نهائياً وإنما يبقي فيه بقدر الحاجة، ولم يشتط عليهم في التكليف ويغلق كل الوسائل، وإنما لما منعهم من شيء أباح لهم شيئاً آخر؛ وهذا يدل على حنكته وسياسته وخبرته بالنفوس وأنه -فعلاً- أهل لما أعده الله له، ونزله فيه وهو منزلة قيادة الجيش. ولا شك أن هناك فرقاً بين من يشرب ويعب عباً وبين من يغترف غرفة بيده يروي بها ظمأه، ويقتل بها عطشه.
الشراب يقوم مقام الطعام إذا عدم:
وفي قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة:249] عبر عن الشرب بالطعام لأنه في حال شدة العطش يكون كالطعام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ماء زمزم: (إنها طعام طعم) وقيل لأبي ذر : فمن كان يطعمك؟ -لما جاء مكة وجلس- قال: [ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع] فهذا من بركة ماء زمزم أنه سمن حتى تكسرت عكن بطنه، يعني: سمن سمناً حتى صار شحم البطن طبقات، صار بعضه فوق بعض، وهذا خاص بماء زمزم ولا شك، لكن الذي عطش ولم يجد إلا الماء فإنه يقوم مقام الطعام بالنسبة له.
عدم الهجوم على الماء حال العطش: ...(44/29)
ثم إن الحكمة أن الإنسان إذا عطش جداً ألا يهجم على الماء هجمة واحدة فربما يهلك، ولذلك لو وجد الإنسان في متاهة -في صحراء- وصار له فترة طويلة ما شرب فإنه يعطى قليلاً من الماء ولا يمكن من شرب الكثير فربما يموت. وكذلك فإن على القائد أن يكون موضوعياً في تكليفاته ليس بتعسفي ولا مرهق، ولا يستغل الإمرة في إذلال من تحته أو التحكم به بتجبر، ولكنه يأمر بما فيه الحكمة.
شدة يقين الذين بقوا في النهاية:
وكذلك فإن هذه القصة تبين شدة يقين الذين بقوا في النهاية؛ ولذلك معنى قول الله عز وجل قال: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ [البقرة:249] الظن ليس هنا الشك وإنما هو اليقين؛ لأنه يأتي بمعنى اليقين، ويأتي بمعنى الشك، ففي هذه الآية قال: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ [البقرة:249] يعني: يعتقدون اعتقاداً جازماً أنهم ملاقو الله.
المواهب تنبع من ميادين القتال:
وكذلك فإنه يتبين أيضاً من هذه القصة أن الأدوار العظيمة لا تأتي من الفرش الدافئة، ومن بيئات الترف والنعومة والراحة، وإنما تأتي من ميادين المعركة، فالميدان هو الذي يكشف على المواهب، ولذلك برزت حكمة طالوت من خلال القيادة، وبرز موقع داود من خلال المعركة، فهذا الذي يؤهل الشخصيات، أما الذي يظن أنه يمكن أن يكون داعية عظيماً وقائداً مرموقاً، وهو جالس على أريكته، متكئ، فهذا إنسان مسكين لا يدري من أين يبدأ الطريق. هذه بعض الفوائد، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بكتابه، وأن يرزقنا ما ينفعنا، وأن يجعلنا من الذين يتعلمون كتابه عز وجل، ويستفيدون من العبر التي قصها علينا في هذا الكتاب، والله تعالى أعلم.
الأسئلة:
المراد بالنصارى الأقرب مودة للمؤمنين:(44/30)
السؤال: في الآية التي قرأت في صلاة التراويح تشير إلى أن أقرب الناس إلى المسلمين هم النصارى، فكيف نوفق بين هذا وبين عداوة النصارى للمسلمين في الوقت الحاضر؟ الجواب: أن الناس الذين ذكر الله في القرآن أنهم أقرب مودة إلينا ليسوا هم النصارى بإطلاق، وإنما هم النصارى الذين جاءت صفاتهم في الآيات: مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82] هذه أول صفة: أنهم لا يستكبرون، ثاني صفة: أنهم كما قال تعالى: إِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا [المائدة:83] فإذاً يؤمنون ويدخلون في ديننا، فليس النصارى الذين أقرب مودة إلينا هم النصارى هؤلاء، لا، هم طائفة معينة من النصارى، نوعية معينة، وهم الذين إذا سمعوا ما أنزل إلى رسولنا دخلوا في الإسلام: وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل:49] عندهم تواضع، أما هؤلاء الذين يشربون من دماء المسلمين فلا يمكن أن يكونون أبداً أقرب مودة إلينا.
حكم تحليل الدم في نهار رمضان: ...
السؤال: ما حكم تحليل الدم في نهار رمضان؟ الجواب: تحليل الدم في نهار رمضان لا يفطر؛ لأنه شيء يسير.
المقصود بعلم طالوت في الآية:
السؤال: ما المقصود بالعلم هنا: العلم الشرعي أو علم الأمور العسكرية؟ الجواب: كلاهما، كلام المفسرين يدل على الأمرين.
حكم استنشاق رائحة ملطف الجو:
السؤال: ما حكم استنشاق رائحة الملطف الذي يستخدم لتلطيف الجو؟ الجواب: هذا من ضمن العطورات وله رائحة؛ ولذلك الإنسان يجتنب أن يستنشقه مباشرة، لكن لو دخل إلى غرفة قد رش فيها هذا وبقيت رائحته في الجو فإنه لا يضر.
الخلوة بالمرأة للقراءة عليها:(44/31)
السؤال: هل يجوز للقارئ أن يخلو بالمرأة بدون محرم للقراءة عليها أو الرقية؟ الجواب: لا. هذا حرام، فلا يخلو بامرأة ولو كان يعلمها القرآن، فإذا كان معها غيرها من النساء إذا كان ثقة مأموناً فلا بأس؛ لأن بعض من يتولى هذا قد لا يكون فيه دين، وقد يتخذها طريقة للتكسب، وقد يتخذها طريقة للوصول إلى مآرب خبيثة والعياذ بالله.
حكم التسمي بـ(عُلا):
السؤال: ما رأيك في اسم "عُلا"؟ الجواب: لا بأس به إن شاء الله.
حكم نصارى اليوم في تعازيهم:
السؤال: هل نصارى العصر الذين يعيشون معنا هم كفار أم أهل كتاب؟ الجواب: هم كفار وأهل كتاب، لا شك في ذلك. تعزيتهم جائزة لكن بغير الدعاء لهم بالرحمة.
جواز صلاة الفريضة وراء المتنفل:
السؤال: هل يجوز لمن دخل المسجد ووجد الإمام قد شرع في التراويح أن يدخل معه بنية العشاء؟ الجواب: نعم.
بطلان دعاء: اللهم إني صائم على رضاك.. عند الإفطار ... :
السؤال: ما صحة هذا الدعاء أثناء الإفطار " اللهم إني صائم على رضاك، مفطر على عطية من عطاياك"؟ الجواب: هذا مؤلف تأليفاً، ليس بدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم.
حكم من أسلم في رمضان:
السؤال: إذا أسلم الكافر في رمضان هل يقضي ما فاته من الشهر؟ الجواب: لا، لم يكن مكلفاً.
معنى الحجامة وحكمها في رمضان:(44/32)
السؤال: ما معنى الحجامة. الجواب: الفصد، إخراج الدم من موضع معين بمصه وشفطه، وتفعل لأجل التداوي، وقد فعلها النبي عليه الصلاة والسلام، وحث عليها، ونصح بها، حتى إن الملائكة أوصته في المعراج أن يوصي أمته بالحجامة، ولذلك فهي مفيدة للغاية، وتفعل في السابع عشر، والتاسع عشر، والحادي والعشرين أحسن شيء، والأفضل أن تكون في يوم الخميس، يعني: لو كان الخميس وافق 17 أو 19 أو 21 فهو من أنفع الأيام للحجامة. وأما حكمها فقد اختلف العلماء هل تفطر أم لا، فذهب الذين يقولون بعدم التفطير إلى حديث البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) وهذا قول جمهور أهل العلم، وذهب الذين يقولون بالتفطير إلى حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) وغيره من الأشياء التي تدل على أنها تفطر، وقالوا: إن اللفظة التي في البخاري غير ثابتة، وأن اللفظة الثانية (احتجم وهو محرم) أم لفظة ( احتجم وهو صائم ) فليست بثابتة. ولذلك يقولون بالتفطير، وذهب إلى هذا الإمام أحمد رحمه الله، وشيخ الإسلام ، وتلميذه ابن القيم ونصره نصراً مؤزراً في شرحه على أبي داود.
حكم الاشتراك في بطاقة الفيزا:
السؤال: هل الاشتراك في بطاقة الفيزة جائز؟ الجواب: هذه البطاقات فيها عدة محاذير شرعية، المحذور الأول: أنهم يقولون: إنك إذا اشتريت بالمبلغ وتجاوزت رصيدك نغطي لك بفائدة. ويقولون كذلك: إذا تأخرت عن موعد التسديد لشركة الفيزة فإننا نرتب على تأخيرك فائدة، يعني: ربا، وهذان كلاهما حرام، وهذه من الشروط الموجودة في الفيزة. ثالثاً: أن الفيزة عقد كفالة، وعقد الكفالة في الشريعة من عقود الإرفاق والإحسان لا يجوز أخذ مقابل عليه، فرسوم الإصدار والرسوم السنوية في الفيزة لا تجوز، وهذا ملخص فتوى الشيخ: عبد العزيز في هذه المسألة.
حكم من ينتظر في التراويح حتى إذا ركع الإمام ركع معه:(44/33)
السؤال: ما حكم الذي ينتظر في صلاة التراويح الركوع ثم إذا ركع الإمام يركع مع المصلين؟ الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فمن وجدني قائماً أو راكعاً أو ساجداً فليكن معي أو يدخل معي على الحالة التي أنا عليها) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وبناءً على ذلك فإن الذي ينتظر حتى يركع الإمام ثم يأتي ويدخل معه في الصلاة أنه مخالف للسنة، لكن إذا كان قصد السائل: أنه دخل في التراويح من أولها، لكن قعد لأجل أنه تعب، فلما أراد الإمام أن يركع قام وركع، فلا بأس بذلك؛ لأن صلاة التراويح نافلة يجوز أن تصلى في الجلوس، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء عنه أنه جلس في قيام الليل، فلما كان قبيل الركوع قام وقرأ آيات ثم ركع، فإذا احتاج إلى ذلك فلا بأس، أما أن يأتي شخص كسلان في سن الشباب يريد أن يجلس فهذا عيب.
حكم صبغ الشعر بغير الأسود:
السؤال: هل يحرم صبغ الشعر بغير الأسود؟ الجواب: لا يحرم بغير الأسود، لكن إذا صبغه على جهة التشبه بالكفار بألوان معينة، أو أخلاط من الألوان، فهذا لا يجوز للتشبه.
حكم المرأة تشم النساء: ...
السؤال: هل يجوز لامرأة أن تشم النساء؟ الجواب: إذا كان المقصود: الوشم المعروف الذي هو غرز الألوان في الجلد بالإبر فهذا حرام، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لعن الواشمة والمستوشمة) الواشمة: التي تقوم بالوشم، والمستوشمة التي تطلب منها ذلك، وإذا كان السؤال هو عن جواز إمامة المرأة للنساء فالجواب: نعم. يجوز لها، وتقف في وسط النساء.
حكم تعلم المواد غير الشرعية:
السؤال: هل تعتبر دراسة الرياضيات، والفيزياء، والطبيعة، والكيمياء من العلوم الشرعية؟ الجواب: لا. لأن كلمة "الشرعية" معناها: علم الكتاب والسنة، لكن أنها تدرس لفائدة المسلمين فنعم، لا شك في ذلك.
بيان بطلان أحقية اليهود لبيت المقدس:(44/34)
السؤال: لقد ذكرت في بداية الحديث على أن اليهود قد استوطنوا في الأرض المقدسة منذ زمن طويل، فهل هذا دليل على صحة ادعاء اليهود في الوقت الحاضر بأن لهم الحق في الأرض المقدسة؟ الجواب: لا. لأنه نحن نعلم أنهم كانوا في أرض فلسطين قبل العرب هذا ليس فيه شك، والعرب دخلوها في الفتوحات مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن لأننا -المسلمين- وُرَّاث النبوة، ديننا هو الدين السائد والنهائي، وهو الذي يجب على جميع الناس اتباعه، ونحن مأمورون بتحكيم شرع الله في الأرض، ولأن هذه الأرض أرض إسلامية لأن المسلمون هم الذين فتحوها، فإنه لا حق لليهود فيها مطلقاً لا من قريب ولا من بعيد، لأننا ورثناها عن المسلمين أولاً. وثانياً: لأن الذي يجب أن يحكم فيها هو الإسلام. وثالثاً: لأن هؤلاء لما كانوا فيها كان يحكمهم الأنبياء وأما هم الآن فهم على الكفر فكيف يمكنون من حكمها بالكفر؟
حكم شراء أوراق أسئلة المسابقة:
السؤال: المسابقة التي يدفع فيها نقود لتشترى بها صفحات المسابقة أو الجرائد، ثم يتسابق فيها؟ الجواب: هذه صورة من صور الميسر الذي لا يجوز.
حكم من نوى الإفطار ثم لم يفطر:
السؤال: ما حكم من نوى أن يفطر في نهار رمضان ثم توجه إلى المطبخ ووجد أمه فيه فلم يستطع أن يأكل وأكمل إلى غروب الشمس؟ الجواب: هذا فيه خلاف بين أهل العلم هل يفطر أم لا، فقال بعضهم: إنه إذا أفسد النية أفطر، وقال بعضهم: إنه لا يفطر حتى يتناول مفطراً من المفطرات، وهذا هو الراجح، لكن الأحوط له أن يقضي.
بيان أقل مدة للاعتكاف: ...
السؤال: ما هو أقل مدة الاعتكاف؟ الجواب: أقل مدة للاعتكاف ورد في حديث عمر ليلة: (إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: أوف بنذرك).
حكم المحرم إذا تعطر ناسياً:(44/35)
السؤال: قمت بعمرة وبعد أن انتهيت من السعي خرجت من الحرم متجهاً إلى السيارة، وفي الطريق شاهدت محل عطور، فدخلت وسألت عن نوع من أنواع العطور، فأخذت منه قليلاً ووضعته على يدي حتى أجربه، وفي هذه اللحظة تذكرت أنني لا زلت محرماً، ثم انصرفت بعد هذا كله وأنا لم أحلق رأسي؛ مع العلم أني كنت ناسياً؟ الجواب: إذا كنت ناسياً تذهب وتغسل يدك مباشرة، تغسل يدك وتحلق رأسك، فإن فعلت جهلاً فلا شيء عليك.
حكم وضوء النائم:
السؤال: هل النوم يبطل الوضوء؟ الجواب: إذا كان النوم مستغرقاً بحيث يغيب عما حوله فإنه يبطل الوضوء.
حكم من صلى العصر بغير وضوء:
السؤال: ما حكم من صلى العصر بغير وضوء؟ الجواب: يعيد صلاة العصر التي صلاها بغير وضوء.
حكم من نوى صلاة الفجر ثم نام عنها:
السؤال: ما حكم من كانت نيته أن يصلي الفجر فغلبه النوم؟ الجواب: يؤجر على نيته إذا كان غير مفرط.
حال حديث (لا تظهر الشماتة بأخيك...):
السؤال: ما حال حديث: (لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك)؟ الجواب: هذا حديث ضعيف، لكن معناه صحيح.
حكم الجلوس مع مشاهدي المسلسلات المحرمة:
السؤال: ما حكم الجلوس مع من يشاهد المسلسلات المحرمة تحتوي على موسيقى؟ الجواب: لا يجوز أن تجلس معهم.
حكم رفع اليدين في الدعاء:
السؤال: ماذا عن التأمين؟ هل يجب رفع اليدين فيه؟ الجواب: إذا كان في الدعاء فإنه يرفع يديه لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أنه رفع يديه، وهذا دعاء فترفع فيه اليدين، ويكون كالذي يسأل شيئاً فيمد الكفين ويلصقهما ويدعو، كالذي يسأل شيئاً يقول: أعطني، يعني: هات، فإنه يمد يديه يجمعهما ويدعو. نكتفي بهذا القدر من الأسئلة لطول الوقت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(44/36)
( تربية النفس على العبادة )
عناصر الموضوع:
طرق تربية النفس على العبادة
الأسئلة
تربية النفس على العبادة:
إن الله سبحانه قد امتدح أقواماً بأنهم من العابدين، فأثنى عليهم لاجتهادهم في عبادة ربهم، وجعل الأجر لهم كاملاً موفوراً بما صبروا على عبادة ربهم، وقد ضرب لنا -أيضاً- الأمثال في القرآن من العابدين والعابدات، فحريٌ بالمسلم أن يجتهد في العبادة، وأن يربي نفسه وأهله على العبادة؛ حتى تكون زاداً لهم يوم القيامة.
طرق تربية النفس على العبادة:(45/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وتحيةٌ في هذا المجلس الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون زائداً في إيماننا، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا. أيها الإخوة: موضوعنا الليلة بعنوان: تربية النفس على العبادة. إن الله سبحانه وتعالى قد امتدح أقواماً بأنهم من العابدين، فقال عز وجل: وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:73] فأثنى عليهم لاجتهادهم في عبادة ربهم، وجعل الله الأجر للعابدين كاملاً موفوراً بما صبروا على عبادة ربهم، وضرب الله لنا الأمثال في القرآن من العابدين والعابدات، فذكر لنا من أنبيائه الذين كانوا يسارعون في مرضاته وعبادته رغباً ورهباً وكانوا لله سبحانه وتعالى من الخاشعين، ولو أخذنا مثالاً واحداً على نموذج من النماذج وهو مريم عليها السلام، مريم التي كانت قدوة للعابدين والعابدات في القديم والحديث، التي كانت تقنت وتركع وتسجد، مريم التي وصفها الله بأنها(45/2)
من القانتين: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران:37] هذه التي اتخذت مكاناً شرقياً، شرق بيت المقدس تعبد الله، وكانت أمها قد نذرتها لخدمة المسجد فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران:35] وأعاذتها وذريتها من الشيطان الرجيم. ولذلك، ما أحوجنا إلى التأسي بعبادة العابدين! ولا شك أن العبادة شيء شاق ويتطلب كثيراً من الجهد والتعويد والمجاهدة لحمل النفس على العبادة، وتربية النفس على العبادة نتكلم عنها من خلال بعض نقاط ومنها: أولاً: العلم بها. ثانياً: معرفة فضلها. ثالثاً: المسارعة إليها. رابعاً: الاجتهاد فيها. خامساً: تنويعها. سادساً: الاستمرار عليها. سابعاً: عدم إملال النفس منها. ثامناً: استدراك ما فات. تاسعاً: رجاء القبول مع خوف الرد. وكذلك من تربية النفس على العبادة: تعويدها من الصغر، وقراءة سير العباد والزهاد، والانخراط في الأوساط الإيمانية.
العلم بالعبادة:
العلم بالعبادة لا شك أنه ركن مهم لكي تصح؛ لأن العبادة تتحول إلى بدعة إذا كانت بناءً على جهل، فإنه لا يُعبد الله إلا بالعلم، وعلى العلم وبنور من العلم فإذا كانت العبادة من جاهل وقعت في البدع، وهذا هو سبب وقوع الكثيرين ممن أرادوا التعبد لله والتنسك وقعوا في البدع والسبب هو جهلهم. ولذلك يخشى اللهَ من عباده العلماءُ؛ لأنهم علموا الشريعة وعلموا العبادة، وطبقوا ذلك وما رسوه، وهذا أمر بدهي ومعروف، لا يعبد الله إلا بما شرع، ولا يعبد بالبدع.
المسارعة إلى العبادة:(45/3)
وأما بالنسبة للمسارعة إليها فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133] ومرة قال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد:21]. فأنت ترى أن لفظة المسارعة والمسابقة وكذلك قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] أي: السعي. ووصف الله عباده الصالحين وهم زكريا وأهله بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه : (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة) فإنه لا تؤدة ولا انتظار وإنما هو مسارعة ومسابقة، وهذه المسارعة والمسابقة تدل على عمق الإيمان في النفس، فإنه كلما تأصل الإيمان في النفس كان العبد إلى المسارعة في مرضاة ربه أكثر، ولما دنا المشركون من المسلمين في غزوة بدر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) قال أنس -راوي الحديث والحديث في صحيح مسلم -قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري : (يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال:نعم. فقال عمير بخ! بخ!) وهذه كلمة تطلقها العرب لتفخيم الأمر وتعظيمه (بخ بخ! فقال رسول الله: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها) ما قصدت بهذه الكلمة إلا وأنا أرجو أن أكون من أهل هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض. قال صلى الله عليه وسلم وكلامه وحي يوحى: (فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة) قال: فرمى بما كان من التمر ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه. كانوا يتسارعون إلى(45/4)
طاعة الله، فإذا نادى المنادي وأذن المؤذن وقد رفع أحدهم مطرقته، ألقاها وراء ظهره ثم سارع إلى الصلاة.
الاستمرار على العبادة:
الاستمرار على العبادة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه عز وجل: (وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) وكلمة: (ما يزال) في هذا الحديث تدل على الاستمرارية، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة) وهذه المتابعة تفيد القيام بالشيء تكراراً ومراراً وهذا المبدأ -وهو الاستمرار على العبادة- مهم في تقوية الإيمان وعدم إهمال النفس حتى لا تركن وتأسن، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع. ذلك أن بعض الناس إذا سمع خطبة أو شريطاً أو موعظة يتحمس للعبادة، قد يتحمس للعبادة ويستمر في هذا الحماس أياماً، ولكنه بعد ذلك ينطفئ حماسه ويعود إلى سابق عهده من الدعة والكسل عن العبادات والتقاعس عن الأعمال الصالحة. ولذلك، فإن من التربية أن يعود الإنسان نفسه على الالتزام بقدر من العبادة يداوم عليها من الأعمال المشروعة، أما الواجبات فلا بد من القيام بها دائماً، لكن المستحبات مثل: قراءة القرآن، وذكر الله، ونحو ذلك، لا بد أن يعود الإنسان نفسه على القيام بشيء منها، لما (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل ) أي: أن المسلم مطالب بأن يستمر، وهذا معنى المداومة. وروى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا عمل عملاً أثبته فداوم عليه واستمر عليه) .
الاجتهاد في العبادة: ...(45/5)
أما الاجتهاد في العبادة: فإن الاجتهاد فيها من سيماء الصالحين وصفات عباد الله المقربين، وقد ذكر الله في كتابه من اجتهاد أوليائه في عبادته أحوالاً عدة، فمن ذلك قوله عز وجل: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:15-16] بالإضافة إلى الصلاة والصيام: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16]. وقال الله تعالى عن عباده الصالحين أهل الجنة: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:17-19]. والذي يطلع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين، والاجتهاد في العبادات فهو شيء يبعث على العجب والإعجاب، ويقود إلى الاقتداء من أصحاب النفوس السليمة، ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل أصحابه مرة فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر : أنا ) وجب أن يجيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وأبو بكر لا يريد المفاخرة بالأعمال ولا الرياء (من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال أبو بكر : أنا، قال: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر : أنا، قال: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ قال أبو بكر : أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر : أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة). وفي رواية: (ما اجتمعن في امرئ في يوم إلا دخل الجنة) فإذا كنا نستطيع في يوم من الأيام أن نصبح صائمين، ونتبع جنازة، ونطعم مسكيناً، ونعود مريضاً، فإننا في هذه الحال نشعر ولا شك بنوع من السمو في الإيمان والقوة في الدين بسبب اجتماع العبادات والاجتهاد فيها، ولا شك أن الصديق لما سئل لم يكن مخططاً(45/6)
بأن يقوم بهذه الأعمال من أجل السؤال، وإنما كان ذلك يوماً طبيعياً عادياً من أيام الصديق ، وما سبق الصديق الأمة وكان في الفضل بعد نبيها إلا بأشياء من هذا القبيل، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى، يجتهدون في العبادة ويملئون أوقاتهم بها، وهذه عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف ، ومنهم حماد بن سلمة على سبيل المثال، قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: لو قيل لحماد بن سلمة : إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، فهو بالغ للغاية والنهاية في أعمال البر والعبادة، ولا يستطيع المزيد، لأنه مشبع، ويومه مشبع بأوقات الطاعات والعبادات. ومن الأمور -كذلك- التي تدل على أن السلف رحمهم الله كانوا مجتهدين في العبادة، ما نقرأ في سيرهم أنهم كان لهم سبع من القرآن يختمونه كل يوم، هذا حال الصحابة يختمون القرآن في أسبوع سبعة أقسام معروفة، وكانوا يقومون الليل وحالهم معروف في قيام الليل وقراءتهم للقرآن القراءة الكثيرة المتواصلة، حتى إن بعضهم ربما إذا أصبح رفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى الجسم من طول القيام، وكانوا يقومون الليل في ليالي الغزو، ففي الصباح قتال وفي الليل صلاة وقيام، يذكرون الله ويتهجدون، حتى في السجن لو أدخلوهم قاموا يصلون، يصفون أقدامهم، وتسيل دموعهم على خدودهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. يخادع أحدهم زوجته، كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام، وكان بعضهم يقسم الليل على نفسه وأهله، فيوقظ بعضهم بعضاً متتابعين للصلاة، ونهارهم في الصيام، والتعلم، والتعليم واتباع الجنائز، وعيادة المرضى، وقضاء حوائج الناس. إذاً: أوقاتهم كانت مملوءة بالطاعة وهذا شيء مهم جداً أن تكون الأوقات ممتلئة بالطاعة، لو حصل هذا لو صلنا إلى مراتب عليا، ولوصلنا إلى منازل في غاية الرفعة والسمو، وكان بعضهم يُنفق على عيال أخيه بعد موت الأخ لسنوات، فهؤلاء الذين(45/7)
كانوا يراعون جميع الجوانب من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وعبادة وصلاة وقيام، وأمور اجتماعية كالإنفاق على المحتاجين وغيرهم، هؤلاء هم أهل الجنة فعلاً.
عدم إملال النفس:
ومن الأمور كذلك: عدم إملال النفس: فليس المقصود من المداومة على العبادات والاجتهاد فيها إيقاع النفس بالسآمة وتعريضها للملل، وإنما المقصود عدم الانقطاع عن العبادة والموازنة بين الأمرين، وذلك بأن يكلف المسلم نفسه من العبادة ما يطيق ويسدد ويقارب فينشط إذا رأى نفسه مقبلة ويقتصد عند الفتور، يقتصد بمعنى: يمسك الواجبات ويعمل ما تطيق نفسه من المستحبات، ولو كان أقل من أيام النشاط؛ لأنها لقط أنفاس ليتابع العمل بعد ذلك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) فإذاً: لا بد من مراعاة النفس إذا أقبلت فأعطها المجال للزيادة؛ لأن النفوس لها إقبال وإدبار، لها ارتفاع وانخفاض كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل عمل شرة) وفي رواية: (لكل عامل شرة) أي: نهاية عظمى وقمة، (ولكل شرة فترة) تقابلها وتعقبها، وهكذا في ازدياد ونقصان فالإيمان يزيد وينقص، وارتفاع وانخفاض (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) فمن كان في حال فتوره متبع للسنة موافق، بحيث إنه قائم بالواجبات ممتنع عن المحرمات فهذا مهتد (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) من كان في حال فتوره قائم بالواجبات تارك للمحرمات فهذا على خير عظيم. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (القصد القصد تبلغوا) الاقتصاد في العبادة، بمعنى: أنه يراعي نفسه، فينشط وقت النشاط ويرتاح في وقت الفتور والتعب؛ لأنه إذا حمل على نفسه حملة واحدة، شق عليها وربما تركت العبادة وانقطع به الحبل، لكن لو أنه يعمل الواجبات ويترك المحرمات، والمستحبات يأخذ ما استطاع منها، إذا نشط زاد، وإذا فتر ارتاح، هذه الطريقة المثلى في(45/8)
العبادة. وقال البخاري رحمه الله: باب ما يكره في التشديد في العبادة: عن أنس رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت) تقوم وتصلي في الليل، فإذا أصابها الفتور والتعب تعلقت بالحبل لتبقى واقفة وتظل قائمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا -رفض هذا العمل- ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) حكم وقواعد العبادة مهمة ولا بد من الانتباه لها وإلا فإن عاقبة كثير من الذين يشدون على أنفسهم في فورة الحماس تكون إلى الانقطاع (لا. حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد). ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله ويصوم النهار متتابعاً، سأله فأخبره وأقر أنه هذا ما يفعله، فنهاه عليه الصلاة والسلام وعلل ذلك بقوله: (فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك) هجمت عينك أي: غارت أو ضعفت من كثرة السهر، ونفهت نفسك أي: كلت وتعبت وسئمت هذا التواصل المستمر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله عز وجل لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومه وإن قل) . نحن نقول: إننا لا نشتكي من قضية الذين يشددون على أنفسهم في العبادات بقدر ما نشتكي من المفرطين على أنفسهم من الذين قصروا في العبادات. أقول مرة أخرى: في هذا الزمن الواقع الذي نعيش فيه نحن لا نشتكي من الذين يشددون على أنفسهم في العبادات بقدر ما نشتكي من قلة العبادات فينا ومن تكاسلنا عن العبادات، وتراخينا في القيام بها، وتقاعسنا عن أدائها، ورغبتنا عنها وعن مواسمها، وكأننا مستغنون عن الأجر، هذا الذي نشتكي منه أكثر، لكن من باب عرض الموضوع فهذا من الشمولية فيه وإلا فإن التقصير عندنا أكثر من الزيادة، الزيادة مضرة لكن نحن نشتكي من التقصير أكثر، ونشتكي من الكسل.
استدراك ما فات: ...(45/9)
وكذلك من النقاط في هذا الموضوع المهم جداً؛ لأننا لا يمكن أن ننتصر على عدو ولا أن نواجه بدون عبادة، فمن النقاط استدراك ما فات منه، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها، وكان إذا فاته القيام من الليل -بسبب مثلاً غلبته عيناه بنوم أو وجع- صلى ثنتي عشرة ركعة من النهار] يعني: كان يشفع وتره، أي: يزيد ركعة. وفي رواية: (كان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) ومن الأدلة كذلك: أن أم سلمة -والقصة في صحيح البخاري - جاءها ضيوف من الأنصار، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام وصلى ركعتين، وهي عندها ضيوف، وكانت لا تريد تركهم، فقالت للجارية: اذهبي إليه فقومي بجانبه فقولي له: تقول لك أم سلمة : إنك نهيت عن الركعتين بعد العصر، وأراك تصليهما، فإن أشار إليك فتأخري عنه، فجاءت الجارية ووقفت بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقالت له هذا الكلام، فأشار إليها فتأخرت الجارية وذهبت، وبعدما فرغ من صلاته جاء إلى أم سلمة فقال: (يا ابنة أبي أمية ! سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس -أي: بعد الظهر- فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر -السنة الراتبة بعد الظهر- فهما هاتان) هل تركها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا. وإنما صلاها، وفي هذا الحديث فوائد منها: جواز تكليم المصلي لحاجة وأن الذي يكلم المصلي يقوم بجانبه، لا يتقدم ولا يتأخر. وكذلك: جواز الإشارة في الصلاة. وفوائد كثيرة أخرى ذكرها الحافظ رحمه الله في الفتح ، الشاهد أنه قال لها: (يا ابنة أبي أمية ! سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما(45/10)
هاتان) وفي رواية: (وكان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعده) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. وهذه الأحاديث تدل على مشروعية قضاء السنن الرواتب، وتدل على مشروعية قضاء صلاة الليل، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله في صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره، لماذا كان عليه الصلاة والسلام يصوم أكثر شعبان؟ حتى قالت: بل كله، ذكر ثلاثة أسباب في تعليقه على سنن أبي داود ، وابن القيم له تعليق نفيس جداً على سنن أبي داود مطبوع مع شرح الخطابي ، يقول: ليس فقه ابن القيم في زاد المعاد فقط، بل في هذا الكتاب فقه عظيم. يقول: من أسباب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فكان ربما شغل عن الصيام أشهراً فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض، كأن يخرج في سفر أو في جهاد أو أنه قد يمرض فلا يصوم ثلاثة أيام من الشهر التي كان يصومها وهو متعود عليها، فكان يقضيها في شعبان. وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان -وهذا معروف- فلما فاته الاعتكاف مرة لعارض السفر، اعتكف في العام المقبل عشرين يوماً، ولذلك عنون عليه البخاري : الاعتكاف في العشر الأواسط، يعني: أن الاعتكاف في العشر الأواسط، من رمضان -أيضاً- مشروع، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاته شيء لا يضيعه ويتركه لفواته وإنما كان يستدركه، وهذا الاستدراك مهم في الاستمرار على العبادة، والحمد لله أن الشريعة فتحت لنا باب الاستدراك، حتى يحس الإنسان أنه عوض شيئاً فاته.
رجاء القبول مع الخوف من الرد:(45/11)
وكذلك من الأمور المهمة في العبادة وتربية النفس عليها، رجاء القبول مع الخوف من الرد، فإن بعض الناس إذا عملوا أعمالاً وعبادات أصيبوا بنوع من الغرور أو الاغترار بالعبادة، وشعروا أن فيهم صلاحاً عظيماً، وأنهم صاروا من أولياء الله، ولكن المسلم يخشى ألا تقبل عبادته، فهو يجتهد ويلتزم بالسنة ومع ذلك يخشى على نفسه. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟) -يعني: يعملون أشياء ويخافون من الأعمال السيئة التي فعلوها، يعبدون الله ويتصدقون ويخافون مما عملوا من شرب الخمر والسرقة مثلاً- (قال: لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. لا يا ابنة الصديق ! ليس ما ظننتيه ولكنهم الذي يسارعون في الخيرات منهم، ولكنهم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون:61] الخشية هذه من رد العمل مهمة، والمؤمن يجب أن يعيش بين الخوف والرجاء، مهما كثرت العبادة يخشى على نفسه لربما وقع في عجب أذهب أجره، أو وقع في شيء من الرياء أو الاغترار، ثم إنه مهما عبد فلا يكافئ نعمة البصر، فأي شيء يظن في نفسه؟ ومن صفات المؤمنين: احتقار النفس أمام الواجب من حق الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد : (لو أن رجلاً يُجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة) كله عبادة متواصلة لا نوم ولا أكل ولا شرب، كله عبادات متواصلة في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة، يعني: بجانب ما يرى من الواجب عليه(45/12)
في النعم وحق الله يرى أن ما عمله طيلة حياته من يوم ولد إلى يوم يموت يراه لا شيء بجانب حق الله، ولذلك لا يمكن أن يكون المسلم مغتراً بالعبادة مهما كثرت عبادته؛ لأن من عرف الله وعرف النفس، يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفيه ولو جاء بعمل الثقلين، وإنما يقبله الله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله. ومن اللفتات الجليلة ما كان يقوله أبو الدرداء رضي الله عنه: [لئن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول: (( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ))[المائدة:27]] لو علمت أن الله تقبل صلاة واحدة، لكان عندي شيئاً عظيماً، ولشعرت بطمأنينة، ونحن نعمل ولا ندري أيقبل منا أو لا يقبل، لكن يجب أن يكون عندنا حسن ظن بالله أنه يقبلها منا، إذا صليت وصمت يجب أن يكون عندك حسن ظن بالله أنه يقبلها منك، لكن هل تقطع لنفسك أنها قبلت؟ لا. حسن الظن بالله أنه يقبل، ورجاءً أن يقبل لا يعني: أنك تقطع لنفسك أنه قبلك، فإذا بقيت على هذا الشعور بين الرجاء وحسن الظن بالله أنه يقبل، وبين الخوف من ردها عليك وعدم قبولها، أو حبوطها، لكان المسلم يعمل ويعمل وهو على خير عظيم.
التنويع في العبادة: ...(45/13)
وكذلك من الأمور المهمة في تربية النفس على العبادة التنويع في العبادة: التنويع فيها من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا، أن نوع علينا العبادات، فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة، ومنها ما يكون بالمال كالزكاة، ومنها ما يكون بهما معاً، مثل حج بيت الله الحرام، فإنه تجتمع فيه العبادتان المالية والبدنية، ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء، وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة، والفرائض تتنوع والسنن تتنوع، هذه الصلاة فيها فرائض متنوعة في الوقت، وعدد الركعات، وسنن الصلاة متنوعة، فهناك سنن رواتب وهناك ما هو أعلى منها في قول بعض أهل العلم وهو صلاة الليل، ويوجد ما هو أدنى منه وهو مثل صلاة الضحى والأربع التي قبل العصر أي: بين الأذان والإقامة قال صلى الله عليه وسلم فيها: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) فهذه سنة، ولكن دون السنن الراتبة -الاثني عشر- في المرتبة. وإذا التفت إلى هذا النوع من قيام الليل لوجدته أنواعاً متنوعة، فمنه تستطيع أن تصلي واحدة وثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً، وإحدى عشرة، تستطيع أن تصلي مثنى مثنى، وفي قول بعض أهل العلم في رواية: (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً) ووردت رواية: (أنه يصلي خمساً بتشهد وسبعاً بتشهد واحد وتسعاً بتشهد واحد) فإذاً: الكيفيات تتنوع، فالتحيات -الصلاة الإبراهيمية- صيغها متنوعة، ودعاء الاستفتاح متنوع الصيغ. هذا التنوع يمنع الملل، وهذا من رحمة الله، وكذلك الصيام فيه معنى لا يوجد في الزكاة، والزكاة فيها معنى لا يوجد في الصلاة، والحمد لله أن عبادات هذا الدين ليست نوعاً واحداً ولا متماثلاً وإنما هي متنوعة تنوعاً كثيراً، ولذلك يحصل التجدد في النفس، فلا تمل وتنجذب وتستلذ بالعبادة. وسبحان الذي جعل أبواب الجنة منوعة على أنواع العبادات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في البخاري: (من أنفق زوجين في سبيل الله ) -من أي شيء؟ من(45/14)
الإبل أو من البقر أو من الغنم أو من الذهب أو من العبيد- (نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله ! هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) الحديث. أبواب الجنة منوعة، ومنها باب الوالد: (الوالد أوسط أبواب الجنة) كما جاء في حديث أبي الدرداء ، يعني: أن بر الوالدين باب من أبواب الجنة، فتنوعت أبواب الجنة على أنواع العبادات، وهناك من يدعى من هذه الأبواب، ومنهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولعله مما يفسر ذلك الحديث المتقدم، في عيادة المريض والجنازة وإطعام المسكين والصيام، ما المقصود بباب الصيام وباب الصلاة؟ هل معناها أن المصلين يدخلون من باب الصائمين والذين لا يصلون يدخلون من باب آخر؟ كل هؤلاء الذين يدخلون من هذه الأبواب يدعون -حسب الحديث- يدعون من الأبواب المختلفة، كلهم من القائمين بالواجبات الذين يدخلون الجنة ولا شك، لكن الذي يدعى من باب الريان المكثر من الصيام النفل، والذي يدعى من باب الصلاة: الذين يكثرون من صلاة النفل، والذي يدعى من باب الصدقة المكثر من الصدقة النفل، وإلا فإنهم جميعاً يصلون الفرائض، ويصومون رمضان، ويؤتون الزكاة الواجبة. ولكن لأن بعض النفوس تستلذ بعبادة دون أخرى، وتميل إلى نوع دون آخر، وقد تزيد فيه وتكثر منه، فالله جعل لهم باباً يدعون منه على حسب العمل الذي قد استكثروا منه في الدنيا، وإلا فجميع من يدعى ممن أدوا الفرائض بطبيعة الحال، وهناك أناس يتقنون فن الجهاد ويحبون الجهاد ولا يتركون سريةً ولا جيشاً إلا يخرجون فيه، وهكذا.. وأناس اشتهروا ببرهم لآبائهم وأمهاتهم، ملازمين لهم، طائعين لهم بطاعة الله، هؤلاء لهم باب يدعون منه، لكن الجميع قائمون بالواجبات تاركون للمحرمات، هذا واجب عليهم، لكن المكثر من نافلة من النوافل يدعى من بابه يوم القيامة،(45/15)
وهذا التنوع الاستفادة منه في جذب النفس إلى العبادة، لأن بعض الناس -مثلاً- قد يكون له جسم قوي، ويصبر على الجوع، ولا يشعر بألم الجوع كثيراً، فيجد الصيام سهلاً بالنسبة له، وآخر عنده مال كثير فالصدقة سهلة بالنسبة له، وإنسان لسانه سهل الحركة، وكل الألسنة سهلة الحركة لكن عنده أن الذكر مهم، عنده أن الذكر له مرتبة خاصة، مكانة خاصة في نفسه، فهو يكثر منه، فتراه دائماً يذكر الله ولا يمل لسانه من ذكر الله، ولا يفتر لسانه من ذكر الله، ولا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، فهذا النوع عنده سهل، فأقول: لا بأس أن الإنسان إذا وجد نافلة من النوافل سهلة عليه أكثر من غيرها، فالأفضل له أن يستزيد منها وأن يكثر منها وهو مبشر بهذا الأجر، وهو الوارد في حديث دعاء أصحاب النوافل من أبوب الجنة التي خصصت لهم، وهناك عبادات للإنسان فيها طعم خاص، ولها أثر خاص في النفس مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين يحبهم الله: (الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب له نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم) هذا الرجل أصابه ألم السفر وتعب السفر مثلما أصابهم، لما أحبوا أن يمسوا الأرض، مسوا الأرض ليناموا فإذا به يتوضأ ويقوم للصلاة حتى يوقظهم لرحيلهم، هذا يحبه الله. (والرجل يكون له جار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ضعن) إما أن يرحل هو عن جاره أو أن يرحل الجار عنه، أو يموت واحد منهما، فهو صابر على أذى الجار، هذه عبادة لها لذة في النفس وأثر. أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك وتدرك حاجتك) فالاعتناء باليتيم عبادة لها أثرها في النفس، ولذلك قال: (أتحب أن يلين قلبك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من(45/16)
طعامك) .
الإلمام بنصوص الترغيب في العبادة: ...
كذلك من الأمور المهمة في العبادات أو في تعويد النفس وتربيتها على العبادة: الإلمام بشيء من نصوص الترغيب الواردة في العبادة. فالشريعة لما فتحت الباب للعبادات وحثت عليها، كان من وسائل الحث -أيها الإخوة!- ذكر الأجور، أجور معينة للعبادات؛ لأن النفس تتحمس إذا ذكر الأجر، فلنأخذ على سبيل المثال بعض الأحاديث الواردة في أجور مرتبة على أداء بعض العبادات، ونتمعن فيها لنجد أن ذكر الأجر يحمس النفس ويشجع على العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة) أي: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، تجلس معهم يذكرون الله، ويقرءون القرآن، ويقرءون العلم، هذا أحسن من أن يعتق أربعة رقاب، مع أن عتق الرقبة فيه فضل عظيم. (من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، حتى الفرج بالفرج) فقال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الفجر حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة) وقال عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فقال بعد فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) هذه كلمة مثل كفارة المجلس (كتب في رق، ثم جعل في طابع، فلا يكسر إلى يوم القيامة) يجعل في مظروف مختوم لا يكسر إلى يوم القيامة. وقال عليه الصلاة والسلام لإحدى زوجاته: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم) -لأنها من الفجر، وهي جالسة في مكانها تذكر الله حتى طلع النهار- قال: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد(45/17)
خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته). وفي فضل حفظ القرآن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) الإهاب هو الجلد، ويقصد به جسد الحافظ للقرآن (يأتي القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق، ويزاد في كل آية حسنة) . ومن الأحاديث: الاستعداد ليوم الجمعة، وهذا أمر فرطنا فيه كثيراً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع وأنصت ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة أجر صيامها وقيامها) تكبيرة الإحرام مع الإمام التي تفوت كثيراً من الناس (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتب الله له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق) . الجهاد: (لقيام رجل في الصف في سبيل الله عز وجل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة) ويقول صلى الله عليه وسلم: (موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود). إماطة الأذى عن الطريق: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس). عيادة المريض: (ما من امرئ مسلم يعود مسلماً إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح) السواك والقيام من الليل: (إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه) - فم الملك على فم القارئ- (ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك) احتساب الأجر في الخطوات إلى المسجد والتبكير إلى المسجد: قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة - من أجل الصلاة- كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة كالقانت،(45/18)
ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه) يعني: لا تحسب الخطوات في الذهاب فقط بل حتى في العودة، الذي ينتظر بنفسه يرعى الصلاة، ينتظر كالقانت ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه.
البدء في التعود منذ سن مبكرة: ...
ومن الأمور كذلك: البدء في التعود منذ سن مبكرة للسهولة والاستمرارية؛ لأن الإنسان كلما كبر كثرت شواغله وعمت الصوارف، فإذا تعود من الصغر فإنه يسهل عليه، والآن هناك من كبار السن يعملون أنواعاً من العبادات كالقيام الطويل، والتبكير إلى المسجد ونحو ذلك، ولو نظرت في تاريخهم لوجدت أنهم قد تعودوا على هذه العبادة من سن مبكرة، وهذا ينادي علينا بأن نعود أطفالنا على العبادة منذ الصغر حتى يألفوها، وتستمر معهم سهلة إذا كبروا، وكذلك الشاب عندما يكون طري العود حدث السن، فإن تشكيل نفسه سهل، فإذا تعود العبادة منذ بدء حياته صارت سهلة عليه في المستقبل.
الانخراط في الأوساط الإيمانية:
وكذلك من الأمور: الانخراط في الأوساط الإيمانية، دع عنك قساة القلوب وشلل الأنس، ولكن عليك بالذين امتلأت قلوبهم إيماناً، فإذا ذكر الله وجلت قلوبهم، يحبون القراءة في المصحف، شعارهم قيام الليل، قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين) -وأفصحها بضم الراء رُفقة- (بالقرآن حين يدخلون بالليل) إذا دخلوا إلى بيوتهم من المسجد أو من شغل خارج البيت إذا دخلوا يعرفهم بأصواتهم بالقرآن (وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم بالنهار) رواه البخاري ، وهذا في فضل الأشعريين. ومن الأمور كذلك: إذا أذن المؤذن أوقفوا أعمالهم وأنهوا ما لديهم وهرعوا إلى الصلاة، إن بقاء الإنسان فيها لا شك أن فيه تربية لنفسه على العبادة، أما أن يكونوا من المتخلفين عن صلاة الجماعة، وبالذات كانوا دعاة فإنها نقيصة وعيب من العيوب.
تخصيص وقت من اليوم للعبادة والأذكار:(45/19)
ومن الأمور كذلك ونختم به: أنه لا بد من وجود أوقات للعبادة والأذكار في اليوم، لا تُشغل بأي شيء آخر ولا تزاحم، ولا يصلح الاعتذار بأعمال الدعوة وإنكار المنكر وطلب العلم عن هذه الأوقات ولا يصلح أن نزاحم الأذكار والمواسم بأعمال أخرى هي من العبادة، لكنها تؤدي إلى إسقاط الأذكار والنوافل بالكلية، وقد يطرأ على الإنسان في بعض الأحيان شيء يشغله عن أذكار ما بعد الصلوات أو أذكار النوم أو يفوته شيء من قيام الليل، لكن أنه يشتغل بأشغال ولو كانت من باب الدعوة، أو القراءة بحيث إنها تشغله دائماً عن النوافل والعبادات والأذكار، فتجده دائماً منشغلاً عن الأذكار ليس عنده وقت للدعاء. فهذا شيخ الإسلام رحمه الله كان يخرج بطلابه إلى السوق لإنكار المنكر، ويكسرون آلات اللهو ويشقون جرار الخمر، ويخرج لتنظيم العساكر والجهاد، ويعلم ويعمل أشياء كثيرة، لكن الأمر في حياته كما يقول تلميذه رحمه الله: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء سقطت قوتي. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد لتلك الراحة إلى ذكر آخر. هذه غدوته، ولو لم أتغد هذا الغداء، ما هو الغداء؟ من صلاة الفجر إلى أن ينتصف النهار ذكر لله، قراءة وذكر ودعاء، لو لم أتغد هذا الغداء سقطت قوتي، ولا يصلح إشغال أوقات العبادات المشروعة بأمور أخرى دائماً، أن يقول إنسان: بعد كل صلاة سأشتغل بشيء آخر، أقرأ في كتب، وينسى أن يقرأ الأذكار، ووقت ورد القرآن لا يصلح أن يُترك ويُشغل بشيء آخر لا بد أن نحافظ على هذه الثوابت في حياتنا، وأقول لشباب الصحوة: لا ينبغي أن تشغلنا الأحداث المتلاحقة عن أداء العبادات، ألم تر أن علياً رضي الله عنه ما ترك الأذكار في ليلة صفين ، قالوا ولا ليلة صفين؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصاه هو وفاطمة أن يسبحا الله ثلاثاً(45/20)
وثلاثين، ويحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا الله أربعاً وثلاثين. قالوا ما تركتها ولا ليلة صفين ؟ -ولا في معركة- قال: ولا ليلة صفين ، فبعض الشباب إذا طرأت عليهم أحداث وأحوال ينسون الأذكار وينسون الأدعية والصلوات، أقول: إذا حصل يحصل أحياناً، فقد يطرأ على الإنسان طارئ. فقد قام النبي عليه الصلاة والسلام مرة مسرعاً من بعد الصلاة مباشرة لأنه تذكر شيئاً، أما أن الإنسان يكون دائماً في طوارئ وأشياء تشغل عن العبادات، ولا يصبح هناك في اليوم متسع لأذكار الصباح والمساء والنوم وورد القرآن والأدعية، فهذا خطأ. فهذه -أيها الإخوة- بعض النقاط في موضوع تربية النفس على العبادة. ونقول مرة أخرى: لا بد من العلم بها، ومعرفة فضلها، والمسارعة إليها، والاجتهاد فيها، والتنويع والاستمرار عليها، وعدم إملال النفس ورجاء القبول مع خوف الرد، واستدراك ما فات منها، وقراءة سير العباد والزهاد، والتعود عليها منذ سنٍ مبكرة، والانخراط في الأوساط الإيمانية، وعدم إشغال أوقات الأذكار والأدعية بأمور أخرى ولو كانت من الصالحات، لأجل ألا تضيع هذه العبادة.
الأسئلة ... :
مراجع المحاضرة:
السؤال: ما هي المراجع لهذه المحاضرة؟ الجواب: المراجع هي كتب الحديث، وكتب ابن القيم رحمه الله وليست مأخوذة من مرجع واحد.
المقصود بالعلماء في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ):
السؤال: يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] من هم العلماء المقصودون، هل هم علماء الفيزياء والكيمياء؟ الجواب: لا. المقصود علماء الشريعة، وهذا معروف، راجع التفاسير وكلام العلماء.
دلائل قبول العمل:
السؤال: هل هناك دلائل على قبول العمل؟ الجواب: إن من علامة الحسنة الحسنة بعدها، إذا أحسست نفسك بعد العمل أنك مندفع للعمل الآخر، وصلحت أمورك واقتربت إلى الله أكثر، فهذا دليل على قبول العمل.(45/21)
موقف الإسلام من المتصوفة:
السؤال: ما موقف الإسلام من جماعة المتصوفة الذين يهتمون بالأذكار والأوراد؟ الجواب: هؤلاء قد لا يقترب منهم الشيطان، ماذا يفعل الشيطان بالبيت الخرب؟ أذكار مبتدعة، يقولون: الصمدية، وهي: (قل هو الله أحد) تسعمائة وتسعة وتسعون ألفاً وتسعمائة وتسعة وتسعون مرة، تقول: أحد هؤلاء المتورطات مع هذه الطرق الصوفية: أنا إلى الآن أربع سنين كل يوم أقرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرات مع الصمدية، ومسبحة بألف عقدة، وقس على ذلك من الأذكار المبتدعة ذات الأرقام المكررة، أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعون، وأنت لو نظرت إلى الأذكار في السنة لا تجد فيها عدداً أكثر من مائة، وهؤلاء يعملون أشياء مبتدعة، فعملهم مردود عليهم. لما ذهب أحد الصحابة إلى المسجد وجد عجباً، فرجع إلى ابن مسعود وقال: دخلت المسجد فرأيت فيه حلقاً حلقاً، ورجل قائم عليهم يقول: سبحوا مائة فيسبحوا مائة، احمدوا مائة فيحمدوا مائة، هللوا مائة فيهللوا مائة، كبروا مائة فيكبروا مائة، قال: وماذا قلت لهم؟ قال: أنتظر أمرك، أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم؟ وأنا ضامن لهم أي: أن تزيد حسناتهم ثم تقنع فخرج ثم دخل المسجد فكشف اللثام عن وجهه، وأخبرهم عن نفسه أنه عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم، هذه ثياب نبيكم لم تبل وآنيته لم تكسر، ما انقضى على وفاته زمن طويل، ما أسرع البدع إليكم] فهؤلاء عملهم حابط مردود عليهم؛ لأنهم فقدوا شرطاً مهماً جداً من شروط العمل وهو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
لا يشترط النوم قبل قيام الليل:(45/22)
السؤال: هل قيام الليل يجب أن يكون قبله نوم؟ الجواب: لا. هذا اعتقاد شائع عند بعض الناس، أنه لا يسمى قيام ليل إلا إذا كان قبله نوم، وهذا خطأ فإن الإنسان لو أنه سهر إلى الساعة الواحدة ليلاً، والثلث الأخير قد بدأ، فصلى قيام ليل بالثلث الأخير من الليل، فهو أجر عظيم في وقت فضيل وعبادة رفيعة، ولذلك لا نشترط أن يكون قبله نوم.
قراءة الحفظ في قيام الليل:
السؤل: أقوم الليل وأحياناً لا أقوم، وأحفظ من كتاب الله الكثير فما هي الطريقة؟ الجواب: اقرأ الذي تحفظه في قيام الليل.
من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه:
السؤال: لي أصحاب فيهم عادات سيئة وإذا تركتهم غضبوا؟ الجواب: من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ولا طاعة لبشر في معصية الله عز وجل.
ساعة وساعة:(45/23)
السؤال: يصيبني فتور متواصل وملل متنامٍ لا أستطيع كسره إلا بمصاحبة الأبرار وحضور الدروس والمحاضرات، لكن طبيعة عملي وأموري العائلية تمنعني من ذلك فأشعر بتدهور؟ الجواب: نعم -يا أخي- هذه ظاهرة، الآن إذا التفت إلى الناس في أعمالهم لوجدت أنه يأتي إلى المسجد فيتغير عليه الجو تماماً، لماذا؟ لأنه ماذا يوجد في العمل؟ رجل يردد كلمات أغنية وآخر يدخن وثالث يغتاب، ورابع في أخبار المباريات، وخامس يقلب مجلة ماجنة، وهكذا.. هذا حالهم، هذا حال المكاتب في وقت الدوام، الذي يكون في هذه الحالة من الكيفية كيف يكون إيمانه؟ يقسو قلبه لا شك، ولا بد أن يعمل ليكسب رزقه، ولذلك لا بد أن يطهر قلبه بأن يداوم الحضور في مجالس الذكر ومرافقة الطيبين، قال حنظلة رضي الله عنه: (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات) -الضيعات: هي المعاش من المال والحرفة والصنعة- (فنسينا كثيراً، قال أبو بكر : فوالله إنني لألقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك فتذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ! ساعة وساعة). لا بد أن نطهر ما علق في قلوبنا من الصدأ ودخان أنفاس بني آدم نطهرها بمجالسة الأخيار والأبرار وحضور مجالس الذكر، هذا هو الحل، لأن انقطاعنا عن المجتمع بالكلية، ليس(45/24)
أمراً عملياً، فهذا هو الحل، وقد ثبت عن معاذ رضي الله عنه أنه كان يقول لرجل: [اجلس بنا نؤمن ساعة] مجالس الذكر يمكن أن تتكون من شخصين، فالمسألة ليست صعبة.
نهي النبي لزينب عن الاستعانة بالحبل:
السؤال: ما هي الحكمة في رفض النبي صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالحبل؟ الجواب: لأن معنى ذلك أنها تكلف نفسها ما لا تتحمل؛ وهذا يؤدي إلى السآمة في النهاية والنفور من العبادة.
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:
السؤال: أنا شاب استقمت على طاعة الله، وتزوجت امرأة رقيقة القلب، وطلبت وألحت عليّ إدخال جهاز التلفاز في المنزل، فأتيت به بعد إلحاح متواصل وأصبحت أشاهده معها، فلاحظت نقصاناً عجيباً في إيماني وقسوة في قلبي وتأخراً عن بعض الصلوات، وارتكاباً لبعض الصغائر، فلما عرفت أن السبب هو ذلك البلاء أصبحت أنصحها فلم تنته وترفض بشدة إخراجه من البيت، فما هو الحل؟ الجواب: أن تأخذ هذه المصيبة والبلية -بارك الله فيك- من بيتك فتتلفها وتخرجها، هذا لا بد منه، سواء رضيت أو سخطت لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم أنت تقول: تزوجت من امرأة رقيقة القلب وطلبت وألحت علي بإدخال جهاز التلفاز، فما هو وجه رقة القلب هنا؟ هل هو في طاعة الله، أو أنها امرأة تجيد التوسل والاستعطاف، أم أنك أنت صرت رقيق القلب بمعنى أنك صرت متخاذلاً جباناً عن موقف الحق، وهنا -يا أخي- أقول: تعس عبد الزوجة، لا يمكن لإنسان أن يطيع في هذا بمعصية الله، مادام أنك جربت بنفسك وأنت تعترف وتقول: نقصان في الإيمان، وقسوة في القلب، وتأخير عن الصلاة، وارتكاب للصغائر، فلا بد من إخراجه بسرعة ولو سخطت ولو طلبت الطلاق، المسألة أعظم من ذلك، هذه دياثة، يعني: أنت تقر الخبث في أهلك.
لا يأثم من ينشط في العبادة بسبب خطبة أو موعظة:(45/25)
السؤال: هل يأثم من ينشط في العبادة بسبب خطبة أو موعظة؟ الجواب:لا. ولو عاد بعد فترة إلى الفتور، لا يأثم، وحتى لو رأى إنساناً يعبد الله فتحمس لأجل الإنسان هذا أي: متأثراً به، لا أنه صلى من أجله، لا. لكن تأثر به فصلى فهو مأجور.
استحباب أن يكون للمسلم عمل يداوم عليه:
السؤال: ألا ترى معي أنه ينبغي للملتزم أن تكون له عبادة معينة يتمسك بها حتى يلقى الله عز وجل، مثل حديث بلال رضي الله عنه؟ الجواب: نعم. إذا كانت العبادة مشروعة قال: [ما توضأت إلا وصليت ركعتين] .
علاج الخوف من الرياء:
السؤال: أنا طالب من طلاب الجامعة، ونحن نصوم أحياناً صيام تطوع ولكن أخاف من الرياء؟ الجواب: جرد لله النية ولا تهم، ولو كان يصوم معك مجتمع من الناس.
الاكتفاء بالقيام بالواجبات وبعض المستحبات وترك المحرمات في حال الفتور:
السؤال: ذكرت أنه في حالة عدم النشاط ووجود الفتور يكفي للعبد أن يقوم بالواجبات ويترك المحرمات؟ الجواب: لا. أنا قلت: يترك المحرمات ويقوم بالواجبات، ويأتي بما يستطيع من المستحبات، ولو كان أقل من وقت نشاطه.
سبب التقصير في العبادة:
السؤال: لي سنوات طويلة مع الشباب الطيبين، ومع ذلك فالأمور العبادية أنا فيها ضعيف جداً، مما يؤدي إلى فعل الكبائر؟ الجواب: ينبغي أن تراجع نفسك، وتنظر في وضعك لماذا يحصل هذا؟ والعلة لا شك أنها منك، مادام أنهم شباب طيبون كما تقول فإذاً العلة منك أنت، فينبغي أن تنظر في أمرك، تذهب تأتي بعمرة، وتجدد العهد مع الله ألا ترجع إلى المعصية، ربما يكون وضعك في السكن خطأ، فتنتفل من مكان سكنك، أو ربما يكون عندك منكرات في بيتك، فتخرجها، أو ربما يكون لك أصدقاء سوء قدامى لا زلت على علاقة معهم فتقطعها، وهكذا.. .
في حالة الطاعة يغلب جانب الرجاء وفي حالة المعصية العكس:(45/26)
السؤال: هل الأفضل على المسلم في حالة الطاعة أن يغلب جانب الخوف أم جانب الرجاء؟ الجواب: ذكر العلماء في ذلك أشياء فقالوا: المؤمن بين الخوف والرجاء، يغلب جانب الرجاء في حال ويغلب جانب الخوف في حال، مثلاً: إذا كان يرتكب المعاصي فإنه يغلب جانب الخوف، فيذكر ما أعد الله للعصاة من العذاب والنكال، وإذا كان تائباً مقبلاً على الله يغلب جانب الرجاء حتى لا يقع في اليأس، وعند الموت يغلب جانب الرجاء ليحسن ظنه بربه.
الحذر من الترف الزائد:(45/27)
السؤال: ألا ترى الاهتمام بأمور الدنيا الزائدة من المثبطات كالقيام بالكثير من العبادات ولو كانت بسيطة؟ الجواب: لا شك في ذلك، أنت ترى الناس يخفقون في الأسواق وبعضهم مع الأسف قد يكونون من الدعاة إلى الله المشتغلين بالدعوة، الخفق بالأسواق ليس لشراء الأشياء التي يحتاجون إليها والضروري منها وإنما تحسينات وكماليات وجرياً على عادة الناس، والسوق فيه مغريات، وفيه فتن، وفيه نساء متبرجات، وفيه صخب ولغط أهل السوق، وسباب وشتائم ولعن وغفلة عن ذكر الله وأيمان كاذبة، كل هذا بالسوق، وهذا إنسان يتضرر، ادخل من أول السوق واخرج من آخره ثم اذهب إلى المقبرة، ولا حظ ماذا يقع على نفسك من التغيير، فأقول: إن هذه عملية التوسع، وكذلك أن يأتي بمن يعمل له في بيته الزينة، أو للسيارة، ويشتغل في الزخارف، ويبذر الأموال، وإخوانه المسلمون يحتاجون إلى القرش ولا يجدون التمرة، هذا سوف يحاسبنا الله عليه ولا شك في ذلك، كوننا موجودين في مجتمع فيه ثراء وفيه مال وثروات جيدة ودخول عالية لبعض الناس، هذا لا يمكن أبداً أن يكون سبباً للطغيان عند المسلم، وأحياناً تكون الزوجة السبب، وأحياناً تكون المنافسة في الدنيا سبباً، وحب تقليد الآخرين سبب، يدخل بيت جاره ومن أين اشتريت هذا وكيف ركبت هذا في السقف؟ ومن أين اشتريت هذه؟ ويدله عليها، ولو كان شيئاً نافعاً جيداً، لا بأس وكذلك لو كان شيئاً يحتاج إليه البيت، هل من الصحيح أن المسلم يأخذ كل شيء أعجبه؟! يجب أن يفطم نفسه عن شراء هذه الأشياء، وينفق قيمتها في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى حذرنا من فتات الدنيا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً [الحديد:20] ذابل زائل. فالدنيا مثل الأكل(45/28)
الذي يأكله الإنسان، منه كيف يخرج؟ كيف تخرج أشهى أكلة من الإنسان، كيف تخرج من دبره؟ هكذا ضرب لنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن مثل مطعم ابن آدم ضرب مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فلينظر إلى ما يصير).
تخصيص وقت للعبادات:
السؤال: أخرج من عملي الساعة الثانية ظهراً، فأكون في هذا الوقت حتى المغرب مع العائلة وبعد الظهر يوجد معي عمل أخرج الساعة العاشرة إلى الثانية؟ الجواب: وبعد ذلك ماذا بقي، يعني: دور العمل الإضافي والثاني، والعائلة، لم تذكر لنا وقتاً جعلت فيه شيئاً من قيام الليل أو طلب العلم، على الأقل ما قلت: أحضر درساً في الأسبوع، لا أقل من أن يكون عندك درس علمي في الأسبوع، بالنظر إلى العلم الكثير الذي نحن مطالبون به، بتحصيله، والجد المطلوب في طلب العلم، وأيضاً ليس قراءات فردية، ولا ورداً من القرآن تقرؤه في اليوم.
علاج الفتور في العبادة:
السؤال: ما علاج الفتور الذي ينتاب المرء بعد الاجتهاد في العبادة؟ الجواب: يأخذ راحة بسيطة وينتقل إلى عبادة أخرى.
معنى: (ما سبقكم أبو بكر بكثير صلاة ولا عمل ...):
السؤال: ما معنى (ما سبقكم أبو بكر بكثير صلاة ولا عمل، ولكن سبقكم بشيء وقر في قلبه) ؟ الجواب: هذا ليس حديثاً مرفوعاً، لكن المقصود: أن بعض الناس يعتقدون أن أبا بكر سبق الأمة فقط لشيء وقر في قلبه وهذا شيء خطأ، الرجل له أعمال، أعمال عظيمة وجليلة، وما سردنا في المحاضرة من أعمال أبي بكر فيه توضيح، شيء وقر في قلبه بالإضافة إلى الأعمال التي كان يقوم بها، لا شك في ذلك.
مقدار الزمن الذي يختم فيه القرآن:
السؤال: كم يجب علينا القراءة من القرآن يومياً؟ الجواب: ليس هناك حد معين، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (في كل شهر مرة) ومرة قال: (في أربعين مرة) ولا أقل من ثلاثة أيام، عندك ثلاثة أيام، وأكثر ما ورد في الحديث أربعين يوماً، فأنت مخير، بحسب عملك وظروفك.
ضعف الإيمان .. الأسباب والعلاج ... :(45/29)
السؤال: إني شاب أشكو إلى الله قسوة قلبي أسمع القرآن وآيات العذاب، أبحث عما يلين قلبي؟ الجواب: ستكون هناك رسالة -قريبة إن شاء الله- بعنوان: ظاهرة ضعف الإيمان المظاهر والأسباب والعلاج، فيها جواب على هذا، وبالنسبة للرياء يجب أن تدعو الله سبحانه وتعالى فتقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك مما لا أعلمه، هذا الدعاء يجب أن يواظب عليه الإنسان.
حكم النزول عن الحد الأدنى للعبادات:
السؤال: هل يجوز للإنسان أن ينزل عن الحد الأدنى للعبادات؟ الجواب: يجب على الإنسان أن يجتنب المحرمات ويأتي بالواجبات، والمستحبات لا شك أن الإيمان يزيد وينقص، لا يوجد أحد في الدنيا المستحبات عنده في درجة واحدة.
حكم محاسبة النفس على صيغة جدول:
السؤال: هل يجوز وضع جدول على صيغة أسئلة مقسمة على عدد أيام الشهر؟ الجواب: هل صليت الفجر في الجماعة؟ وهل..؟ وهل..؟ أشار العلماء إلى أن هذه بدعة من البدع، سلوك سبيل الجدول في المحاسبة والصح والخطأ والأرقام، والعلامات هذه من البدع، فلا يجوز عملها ولا القيام بها، ولا توزيعها على الناس، هذه طريقة صوفية ليست من طرق أهل السنة في محاسبة النفس عمل الجداول والعلامات والإجابة بنعم أو لا. ليست هذه حسابات وكشوفات تقدم للميزانية، الإنسان يستحضر تقصيره في نفسه، ويندم ويتوب إلى الله ويعزم أن يواصل النشاط ويجتهد هذا هو المطلب، يتذكر ذنوبه أما كتابة الجداول فلا، وممن أشار إلى بدعية الجداول الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين نفع الله بعلمه.
استدراك ما فات:
السؤال: إذا فاتني حزبي من الليل بعد شروق الشمس وكنت مشغولاً بعمل لم أنته منه إلا بعد العصر؟ الجواب: لا بأس أن تقضيه فهذا جائز.
لذة المناجاة في الخلوة:(45/30)
السؤال: عند الخلوة أجد للعبادة لذة أكبر وخصوصاً في الدعاء لا أجد ذلك بين الناس؟ الجواب: هذا طبيعي أن الإنسان إذا ناجى الله بمفرده في خلوة فهو ألذ، ولذلك الخلوة للمناجاة من أعظم العبادات.
الحذر من الانشغال بالأعمال عن الطاعات:
السؤال: العمل الدعوي فيه أشياء تتعلق بالتربية وأعمال تأخذ وقتاً في إدارة الأمور، وهذا قد يقسي القلب ما هي النصيحة؟ الجواب: سبق أن ذكرت نصيحة قلت: ينبغي ألا يشغلنا هذا النوع من الأعمال عن الأذكار والأوراد والأدعية وقراءة القرآن هذا مهم جداً، وكذلك أن يكون العمل لله، فإذا لم يكن العمل لله تكون هذه الترتيبات في الدعوة مثلها مثل أي شركة أو مصنع، ولذلك ينبغي على الدعاة والمربين أن يذكروا الله دائماً في أعمالهم، ولا شك أنها أعمال إدارية.
يقدم في الأعمال الأهم فالأهم:
السؤال: يتعارض عندي عملان أو أكثر كلهم مطلوب؟ الجواب: انظر أيهما الأقرب إلى الله، وأيهما الأحب إلى الله، والأنفع إلى الناس، وما هو الأشق على النفس الذي فيه مخالفة هذه النفس، هذه دلائل.
المباحات قد تصبح عبادة:
السؤال: هل المباحات تكون عبادة إذا صدق الإنسان نيته؟ الجواب: نعم وقد تصبح عبادة مثل النوم والأكل، لكن لا ينبغي أن تكثر من هذه، تنام عشر ساعات ثم تقول أنام وآكل.
الخير مطلوب من الإنسان أن يقوم به:
السؤال: هل يطلب مني أن أعمل بعض الجوانب التي فيها خير؟ الجواب: نعم، الإنسان المطلوب أن يعمل في كل جانب من الجوانب التي يستطيعها.
كيفية التخلص من الوساوس في الصلاة:
السؤال: يحدث لي وساوس تأمرني بالمعصية وتفسد العبادات؟ الجواب: إذا جاءك في الصلاة فتعوذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاثاً، ريق مع الهوى عن اليسار دون أن يحدث إيذاء للذي بجانبك أو توسيخ للسجاد في المسجد مثلاً، وإنما هو شيء من الريق مع الهوى، ثلاث مرات تعوذ بالله من الشيطان في الصلاة.
كتاب سير أعلام النبلاء:(45/31)
السؤال: ما هو أفضل كتاب يبين أحوال السلف ؟ الجواب: هناك مجموعة من الكتب ذكرنا بعضها في المحاضرة، ولا شك أن كتاب سير أعلام النبلاء من الكتب العظيمة جداً.
الفهم الصحيح لحديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل):
السؤال: بعض الناس يفهم الحديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) التلازم بين المداومة والقلة؟ الجواب: لا. هذا خطأ، قال: (أدومها وإن قل) يعني: إذا كان أدومها وكان كثيراً فهو أفضل، لكن لو كان مقارنة بين كثير منقطع، وقليل دائم فأيهما الأفضل؟ القليل الدائم.
الابتعاد عن أوساط المعصية ... :
السؤال: من أسباب نقص العبادة تبدل أحوالنا وتغيير أوقاتنا عما كان عليه السلف ؟ الجواب: لا شك في ذلك، ولذلك ينبغي للإنسان أن يجتنب أوساط المعصية ويحتك بأوساط أهل الخير حتى يكون أقرب إلى واقع السلف.
قرب التوبة من صاحب المعاصي القليلة:
السؤال: أنا شاب ملتزم، أحضر الدروس وأذهب إلى المحاضرات، واستمع الأشرطة ولكني أفعل بعض المعاصي مثل رؤية التلفاز؟ الجواب: هذا إن شاء الله رجوعه سهل وتوبته قريبة، مادام أنه يفعل هذه الطاعات فتوبته قريبة، فما عليه إلا أن يزيد في المجاهدة، ويعزم على أن يترك هذه الأشياء وهو إن شاء الله سيفعل ذلك.
الجمع بين الحديث الذي فيه دخول الصائم من باب الريان وحديث فتح أبواب الجنة:
السؤال: كيف نجمع بين دخول الصائم من باب الريان، وبين حديث فتح أبواب الجنة؟ الجواب: فتح أبواب الجنة عندما يُذكر الذكر بعد الوضوء، دليل على قبول العمل ورفعه إلى الله سبحانه وتعالى، وليس المعنى أنه إذا ذكر الذكر بعد الوضوء يدخل الجنة، وهو في الدنيا، لا.
حكم المداومة على صلاة الضحى:
السؤال: هل يجوز المداومة على صلاة الضحى؟ الجواب: هذا فيه خلاف بين العلماء، ولكن إذا داوم عليها -إن شاء الله- فالصحيح أنها سنة؟
حكم قول: (لو):(45/32)
السؤال: يقول ما حكم قول بعض الناس: لو كان كذا ما صار كذا؟ الجواب: إذا كان على سبيل التعليم فلا بأس: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66] أما إذا كان على سبيل التحسر والتندم الذي لا يفيد، فهذا من عمل الشيطان الذي تفتحه لو.
الخوف من الفتور:
السؤال: يجد الإنسان حلاوة في قلبه في الصلاة فيتذكر الفتور فيضيق صدره؟ الجواب: صحيح هذه ظاهرة، أول هذا الشيء معروف، لكنه يستعيذ بالله، لا يعني أنه سيفتر بعد السلام من الصلاة، لأنه بعد السلام يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، عبادة خلف عبادة. وختاماً: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سبيلنا وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(45/33)
( التساهل في ستر العورة )
عناصر الموضوع:
حث الشريعة على غض البصر وستر العورة
أدلة ستر العورة عن النظر
أحكام العورة
مخالفة البشرية لشرع الله
التساهل في ستر العورة:
جاءت الشريعة بمحاسن الأمور ومنها ستر العورة، لكن الناس تساهلوا في هذا الأمر بشكل كبير، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، وفي هذه الخطبة أتى الشيخ بأدلة ستر العورة من الكتاب والسنة، وتوسع في ذكر الأحكام الشرعية الخاصة بأحكام العورة بين الرجال والنساء والأطفال.
حث الشريعة على غض البصر وستر العورة:(46/1)
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون: لقد جاءت الشريعة بمحاسن الأمور، وأمر شرع الله سبحانه وتعالى بكل ما يُصلح البشرية، ولما خالفت البشرية شرع الله؛ عمتها النكبات، وانتشرت فيها الرذائل، وصارت في الهاوية، ونزلت إلى الحضيض، ولا شك أننا في زماننا هذا قد حصل فيه من هذا الشيء الكثير. أيها المسلمون: حديثنا في هذه الخطبة عن أمرٍ مهم أمرت به الشريعة، وجاء به الدين، لكن الناس ضيعوه وترتب على ذلك ما ترتب من انتشار الرذائل والفواحش، ألا إنه حفظ العورة الذي له أحكام كثيرة، وفروع متعددة، وأدلة كثيرة أمرت بستر العورة. العورة التي قال في شأنها أهل العلم: العورة سميت عورة لقبح ظهورها؛ ولأجل غض النظر عنها سمي العور عوراً وهو النقص والعيب، ولذلك فإن العورة هي كل(46/2)
أمرٍ يُستحيا منه، وأما في شريعة الله فهي كل ما يجب ستره من بدن الإنسان. والعورة كما ذكر أهل العلم: عورة نظر، يجب سترها عن عين الناظر، وعورة الصلاة وهو ما يجب على الإنسان ستره حال الصلاة، أما الذي يجب على الإنسان ستره حال الصلاة، فإن أدلته في الشريعة معروفة، لكن الناس ينبغي عليهم ألا يخلطوا بين عورة النظر وعورة الصلاة، حتى لا يحصل عندهم احتجاجات فاسدة، فأنت ترى أنه يجب على الرجل أن يستر منكبيه في الصلاة لما ورد في الحديث الصحيح، لكن لا يجب عليه ستر المنكبين أمام رجال مثله مثلاً. وكذلك المرأة تكشف وجهها في الصلاة، لكن لا يجوز لها كشفه في غير الصلاة، وكذلك تستر ساقيها مثلاً وبدنها في الصلاة، لكن يجوز لها أن تكشفه أمام الزوج، فلا يحتجن محتج بعورة الصلاة على عورة النظر. واعلموا أن الشريعة قد جاءت بالأمر بغض البصر، قال سبحانه وتعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30-31]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يا علي ! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنه لك الأولى، وليست لك الثانية).. (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة) هكذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم، ارتباط مسألة النظر بالعورة، وغض الأبصار عن العورات.
أدلة ستر العورة عن النظر:
أدلة وجوب ستر العورة من القرآن:(46/3)
فأما الأدلة التي جاءت بها الشريعة على ستر العورة فهي كثيرة، خذ على سبيل المثال قول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] كيف نزلت؟ ومتى نزلت؟ وأين نزلت؟ نزلت في شأن عظيم، كانت المرأة في الجاهلية تطوف بالبيت عريانة، وكان أهل الجاهلية يطوفون عراة، يزعمون أن هذه الملابس التي لديهم قد عصوا فيها، فلا ينبغي أن يطوفوا بها، فأنزل الله عز وجل: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] وشنَّع الله على أهل الجاهلية فعلهم هذا في آية أخرى كذلك، فقال: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28]، وقول الله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، وقوله: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] دليل على غض البصر عن العورات، وقوله تعالى: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30].. وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31] هذا كذلك دليل على وجوب ستر العورات عن النظر.. فتأمل محاسن الشريعة كيف أنها أمرت بغض البصر، وأمرت بستر العورة؛ لكي تعالج الموضوع من جميع جوانبه.
أدلة وجوب ستر العورة من السنة:(46/4)
أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث الواردة فيها بستر العورة كثيرة، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح قال: (يا نبي الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يراها أحد فلا يراها، قلت: يا رسول الله! فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس). وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً من الصحابة قد كشف فخذه، قال: (غط فخذك؛ فإن الفخذ عورة) أمره بالتغطية والستر.
إجماع أهل العلم على وجوب ستر العورة:
وكذلك أجمع أهل العلم على أن ستر العورات عن العيون واجب، فإذا قال إنسان: إذا كان الرجل خالياً؛ فهل يجوز له أن يكشف عورته؟ أجاب أهل العلم عن ذلك، فقالوا: إذا دعت الحاجة لذلك مثل قضاء الحاجة من بول أو حلق عانة أو اغتسال أو جماع لزوجته؛ فإنه لا بأس بذلك، أما إذا كان ليس هناك حاجة؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم للرجل لما سأله: إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: (فالله أحق أن يستحيا منه) قال أهل العلم: إن الإنسان لا يكشف عورة نفسه إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك، وبعضهم أوجب ذلك وغلظ فيه. إذاً: كشفها لغير حاجة حتى لو كان الإنسان خالياً دون حاجة؛ فإنه أمر مذموم. واعلموا -أيها الإخوة- أن الناس تساهلوا في أشياء عجيبة تساهلاً كبيراً جداً، وخصوصاً في مسألة الفخذ بالنسبة للرجال، لأن بعض الناس عندهم منطق جاهلي، يقول: العورة للنساء وليس للرجال عورة، ولذلك تراهم يجلسون في المجالس يرفعون رجلاً على رجل، وقد لا يكون أحدهم لابساً تحت ثوبه سروالاً طويلاً مثلاً فيظهر فخذه، فإذا جئت تنبهه؛ قال لك: الرجل ليس له عورة، كبرت كلمة! رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (غط فخذك؛ فإن الفخذ عورة) وهذا يقول: الرجل ليست عورة.
أحكام العورة:(46/5)
أيها المسلمون: لقد تكلم علماؤنا في عورة الرجل للرجل، وعورة الرجل للمرأة، وعورة المرأة للمرأة، وعورة المرأة للرجل، وعورة الطفل، وعورة المرأة أمام الطفل، وعورة المرأة أمام المخنث، وعورة المرأة أمام العبد، وعورة الأمة للرجل.. ونحو ذلك من الأشياء. الخلاصة: أن الرجل والمرأة إذا كانت زوجته أو أمته؛ جاز لهما كل شيء، بما في ذلك الكشف التام.
عورات الرجال:
أما عورة الرجل بالنسبة للرجل؛ فإن العلماء قد اتفقوا على أن عورة الرجل للرجل ما بين السرة إلى الركبة، فلا يجوز له كشف ما بين سرته وركبته. وأما عورة الرجل بالنسبة للمرأة الأجنبية: فإن كل من جاز لك نكاحها في الأصل فإنها امرأة أجنبية عنك، والمرأة تنظر إلى الرجل إذا لم يكن هناك فتنة أو شهوة، أما إذا لم تؤمن الفتنة وثارت الشهوات؛ فيجب عليها أن تغض بصرها كما قال الله في الآية أياً كان، وفي أي مكان كان، وهذا أمر، وكل واحد وكل واحدة أعلم بما في نفسه، والله عز وجل مطلع على الجميع، فاتقوا الله سبحانه وتعالى. أما عورة الرجل بالنسبة لمحارمه؛ والمحارم كل من حرم عليك نكاحها لحرمتها، فإن الرجل والمحرم ومحرمه من النساء يجوز له أن ينظر إليها فيما جرت العادة بظهوره منها على ما سنبين بعد قليل إن شاء الله.
عورات النساء:(46/6)
أما عورة المرأة بالنسبة للرجال الأجانب؛ فإنها على الصحيح كلها عورة، كما قال الله عز وجل: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:31] قال أهل العلم: الرداء والثياب لا يمكن إخفاؤه.. لا يمكن إخفاء العباءة إلا ما ظهر منها وهو الرداء والثياب، وكذلك قال الله: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]. فلا بد من حجاب يحجب المرأة كلها؛ سواء كان جداراً أو باباً أو عباءة أو خماراً ساتراً.. ونحو ذلك، وقال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] فالإدناء من الأعلى إلى الأسفل يستر الجسم كله، ولما جاء صفوان بن المعطل السلمي ومر بعائشة وهي جالسة واسترجع قائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالت عائشة : [فخمرت وجهي] سارعت رضي الله عنها إلى تغطية وجهها، وهذا الحديث في صحيح البخاري . وقال عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) فقوله: (المرأة عورة) أي: أنها كلها عورة، أما الرجال الأجانب فليس هناك شيء تكشفه، هل ترى استثناءً في الحديث: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) أسماء تقول: [كنا نغطي وجوهنا من الرجل] وعائشة عندما كانت محرمة، كانت كاشفة لوجهها مع النساء، فإذا مر بها الرجال غطت وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن النقاب في الإحرام؛ دل ذلك على أنه كان معروفاً عندهم ومستعملاً، وأما المرأة فكانت تستر وجهها. أيها المسلمون: لو قال قائل: إن هناك أقوالاً أخرى؟ فنقول: ما هو الأليق بعصرنا الذي كثرت فيه الفتن، وعمت فيه الشرور، فأنت تراهن الآن في جميع الأماكن كاشفات عاريات إلا ما كان من أمر لا تستطيع فعله الآن، لكنها لو استطاعت فعله؛ لفعلت ولجرت(46/7)
وراء الكفرة حذو القذة بالقذة. أما المرأة والأطفال فإن هذه من القضايا التي جهلها كثير من الناس، بل وتساهلوا فيها تساهلاً شنيعاً، والخلاصة: أن الله عز وجل يقول في أصناف الناس الذي يجوز للمرأة أن تبدي زينتها عندهم، قال عز وجل: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31] فيجوز للمرأة أن تكشف على الطفل الصغير الذي لم يفهم أحوال النساء بنص كتاب الله لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ [النور:31] لم يفهموا أحوال النساء، ولم يميزوا بين الحسناء والشوهاء، هذا يمكن من الدخول على النساء، لكن إذا كان له التفاف وصار له اهتمام وتمييز؛ فإن النساء يحجبن عنه. والآن في البيوت تساهل عظيم وشنيع، لا سيما في قضية الولد الذي يكون قبيل البلوغ، فإذا بلغ صار رجلاً، لكن قبيل البلوغ، بسبب انتشار الأفلام والمجلات والخنا والفواحش في المجتمع؛ صار الأطفال لهم تمييز في مسائل جمال المرأة، والنساء بالعكس عندهن تساهل وتسيب في هذه القضية، فإذا لوحظ على الطفل التفاف على للمرأة وتمييز لمحاسنها؛ وجب عليها أن تستر نفسها ولا يجوز إدخاله عليها. وأما بالنسبة لعورة المرأة أمام المحارم، فيا أيها الآباء! ويا أيها الإخوان! ويا أيها الأزواج! فإن العلماء قد قالوا في ذلك قولين مشهورين، والذي يدل عليه الدليل -والله أعلم- في قول الله عز وجل: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31] أن المرأة تظهر أمام المحرم ما يظهر غالباً أمامهم في العادة، كالوجه والشعر والرقبة وما فوق القلادة، وليس ما تحت القلادة، وما تحت الدملج الذي عند العضد وليس ما فوقه، وأسفل الخلخال، هذا الذي تظهره وهذا الذي جرت العادة بإظهاره، أما غير ذلك فإن بعض أهل العلم قد نصوا على أن الظهر والبطن عورة أمام المحرم، لا تظهر ظهرها ولا بطنها أمام المحرم، واستدلوا بقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31]. إذاً: الذي(46/8)
يظهر غالباً منها كما بينا، مثل: الوجه والشعر والرقبة وما فوق القلادة وما أسفل الدملج الذي يوضع على العضد، هذا في العادة والخلخال وما تحته القدمين هذا الذي يظهر أمام المحارم، وبعض العلماء شددوا في الخال والعم أكثر من تشديدهم في الأب والأخ والابن، نظراً لأن الآية التي فيها قول الله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31] لم يرد فيها ذكر الخال والعم، فلذلك ينبغي التنبه لهذا الأمر، وينبغي عليكم يا معشر الرجال أن تأمروا النساء في بيوتكم بالتستر والحشمة.
عورات الصغار:
أما بالنسبة للصغار، فإن كان الطفل صغيراً أو رضيعاً؛ فإنه لا عورة له ولا حكم لعورته، فإذا كان مميزاً، فينبغي عليه ستر الفرجين على الأقل، ويجب عليه وعلى أولياء الأمور مراعاة ذلك، فإذا بلغت الأنثى تسعاً والذكر عشراً، فينبغي الاعتناء التام باللباس، وعند ذلك تعلم التساهل الذي يحدث عند كثير من الناس، الذين يظهرون بناتهم ذات التسع والعشر السنين بملابس قصيرة فوق الركبة أمام المحارم، ويقول: هذا عمها، وهذا ابن أخيها، وابن أختها، وهذا خالها.. ونحو ذلك. وعصرنا الآن كما قلنا أيها المسلمون: انتشرت فيه الفواحش وعمَّ فيه الفساد، فينبغي أخذ الحيطة في هذا الأمر، والتشديد في المسائل؛ لأنك تسمع عن جرائم تدل على انتكاسة الفطرة، فلا تتساهلوا رحمكم الله في هذه القضية. ينبغي أن يربى أولادنا ذكوراً وإناثاً منذ الصغر على الستر والحشمة حتى يتعودوا عليه، أما أن نرخي الحبل ثم إذا جاء وقت الحجاب المأمور به شرعاً والواجب قلنا: الآن استصعبت النفوس الأمر، بسبب عدم التعويد. وقضية التساهل في لباس البنات الصغيرات قد حصل فيه جرائم وحصل فيه ما يندى له الجبين؛ بسبب أن الرجل أو الأب أو الأم تساهلوا في لباس البنات الصغيرات.
تغير حكم العورة عند الفتنة:(46/9)
نحن في عصر انتكست فيه الفطر، وذهبت العفة إلا من رحم الله، ولذلك ينبغي التشديد وعدم التهاون في هذه القضية، ولذلك فإن العلماء بعدما بينوا أن عورة المرأة أمام المرأة من السرة إلى الركبة، وقالوا أقوالاً أخرى في المسألة؛ قالوا: النظر عند خشية الفتنة حرام، حتى للمحارم فيما يجوز لهم النظر إليه من النساء، قالوا: لا يجوز النظر عند خشية الفتنة، فعندما كانت المجتمعات نظيفة في الماضي، عندما كان الصحابة و السلف يعيشون في مجتمعات نظيفة، لم تكن الشهوات تثور؛ لأن المجتمع محتشم، لكن اليوم لأتفه الأسباب تثور الشهوات، ولذلك لا بد من الاعتناء بهذه القضية أشد الاعتناء. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للخير، وأن يجعلنا من الحافظين فروجهم، اللهم اجعلنا من الذين يحفظون حدودك فلا يتعدونها، واجعلنا من الذين يغضون أبصارهم فلا ينظرون إلى الحرام، اللهم اجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
مخالفة البشرية لشرع الله:(46/10)
لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصلى الله وسلم على نبينا المصطفى الأمين، الذي بلغ رسالة ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها المسلمون: لقد خالفت البشرية اليوم شرع الله في ستر العورات. لقد خالفت البشرية شرع الله لما ابتكروا شوارع وشواطئ للعراة. لقد خالفت البشرية شرع الله لما ظهروا بهذه المايوهات والملابس القصيرة على شواطئ البحار وفي المسابح وغيرها. لقد خالفت البشرية شرع الله في ستر العورات عندما أنتجت وسوقت الأفلام التي تظهر فيها المرأة كاشفة لعورتها، أو لجزء من العورة التي أمر بها الشرع. لقد خالفت البشرية أمر الله في ستر العورات لما قامت الإعلانات التجارية تروج للبضائع، وفي كثير منها صورة امرأة كاشفة عن عورتها أو جزءاً من عورتها، في أمور لا علاقة لها بالنساء مطلقاً كعلب البيبسي مثلاً. لقد خالفت البشرية شرع الله عندما طبعت المجلات، وعلى أغلفة هذه المجلات فتاة الغلاف، الداعية بجمالها الصارخ وزينتها ومكياجها إلى الفحشاء والمنكر. لقد خالفت البشرية شرع الله عندما دخلت النساء في الأسواق متبرجات، وتُرك ستر العورة حتى بالنسبة للرجال، الذين خالفوا شرع الله في هذه الألعاب الرياضية التي يزعمون أنها رياضية، وكشفوا فيها من العورات من الفخذ وغيره ما يندى له جبين المسلم الحر الكريم. لقد خالف الناس شرع الله عندما قام الاختلاط في البيوت بين النساء والرجال الأجانب. لقد خالفوا شرع الله في تساهلهم في ظهور أولادهم وبناتهم بالذات الذين هم في سن البلوغ بثياب قصيرة أمام الضيوف وأمام الأجانب، بل حتى أمام المحارم كشفوا ما لا يجوز كشفه. لقد خولفت الشريعة في قضية سد الذرائع مخالفة شنيعة؛ لأنهم خالفوا الأصل فكيف لا يخالفون قاعدة سد الذرائع، كذلك قاعدة سد منافذ(46/11)
الفتنة غير مراعاة في كثير من الأحوال. لقد خولف الشرع وخولف مراراً ومراراً وتكراراً، وهذه الأشياء الوافدة إلينا والتي نقترفها نحن بأيدينا دليل واضح على تضييع قضية ستر العورة، صارت مسألة ستر العورة الآن من المسائل الضائعة المضيعة في عالمنا وواقعنا؛ لأن من مخططات اليهود إظهار العورات وكشفها؛ لكي يصبح المجتمع مجتمعاً إباحياً، حتى تشغل القضية الأذهان ولا يبقى هناك مجال للعاقل لكي يبصر ما ينقذ به أمته. أيها المسلمون: إن كل شر يحدث في مجتمعنا بسبب مخالفة الشريعة، ونحن الذين تساهلنا في قضايا كثيرة، وتساهلنا في قضية كشف العورات في مسألة السائق الأجنبي والخادمة، وحتى في قضية الممرضات والمضيفات، والذهاب بالنساء إلى المستشفيات، أفلا ترون أن هذه المخالفات تستوجب عقوبة من الله: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:7-8]. اللهم إنا نسألك رحمتك، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نعوذ بك من تحول عافيتك، وزوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، وأن تقيم علم الجهاد في ربوع العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تنصر عبادك الموحدين، وتقيم شرعك في الأرض يا رب العالمين. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(46/12)
( ظاهرة الفحش والبذاءة )
عناصر الموضوع :
آداب النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام
استخدام ألفاظ الكناية في الكتاب والسنة
خطورة انتشار ظاهرة اللعن والسب بين الناس
أسباب نهي الشارع عن اللعن والسب
حالات جواز الجهر بالسب والشتم
واجبنا تجاه انتشار ظاهرة اللعن والسب
ظاهرة الفحش والبذاءة:
إن ظاهرة السب والشتم واللعن ظاهرة اجتماعية سيئة تفشت بين أوساط المجتمع الإسلامي، ولقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام صاحب المنزلة العالية في الآداب الحميدة والكلام الحسن والابتعاد التام عن فحش القول وزوره، وقد حذر من هذه الظاهرة القرآن العظيم والسنة المطهرة في مواضع كثيرة، فواجبنا تجاه هذه الظاهرة بترها وقطع دابرها حتى يعيش الناس على ألفاظ القرآن والسنة، ومجانبة الألفاظ التي تؤذي المسلمين.
آداب النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام:(47/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله! حديثنا في هذه الخطبة عن ظاهرة اجتماعية سيئة عمت كثيراً من الخلق، وهي متعلقة باللسان الذي هو أسهل الأعضاء حركة (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) وهذه الظاهرة هي ما نراه من انتشار السب واللعن والشتم في أوساط المسلمين، واستعمال الألفاظ البذيئة، فلا تكاد تدخل في سوق، أو محل، أو تجلس في مجلس إلا سمعت أشياء كثيرة، فضلاً عن الطرقات ، والمدارس .. وغيرها من مجتمعات الناس. وهذه الظاهرة .. ظاهرة السب والشتم واللعن والبذاءة في الكلام قضية خطيرة، لا ينبغي التساهل فيها أبداً [لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً] رواه البخاري و مسلم . والفحش هو ما قبح من القول والفعل، وشر الناس منزلة عند الله(47/2)
من تركه الناس اتقاء فحشة، فترى هؤلاء ينطقون بالأقوال الأثيمة، وأحدهم عينه غمازة، ولسانه لمازة، ونفسه همازة، وحديثه البذاءة، لا يذكر أحداً إلا شتمه، ولا يرى كريماً إلا سبه وتعرض له بالسوء. والسب والشتم والطعن: التكلم في عرض الإنسان بما يعيبه، وهو فسوق وخروج عن طاعة الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بالغ في المعاتبة قال: (ما له ترب جبينه) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء) وقال: (إن الله لا يحب كل فاحش متفحش) وقال: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بالدنيا، جاهل بالآخرة) والجعظري هو: الغليظ المتكبر، والجواظ هو: الجموع المنوع، والصخاب هو: كثير الصياح. وهذه أوصاف تنطبق على كثير من الناس .. غالب أحاديثهم ألفاظ شنيعة مستبشعة، يأتون بها من الأماكن القذرة، وحديثهم من المراحيض، وفي العورات، وأسماء الدواب والبهائم على ألسنتهم، واللعن جارٍ عليها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق) أي: يخرج عن طاعة الله تعالى، وقال: (ساب مؤمن كالمشرف على الهلكة) وقال: (المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أربى الربا شتم الأعراض) .. (أتدرون من المفلس؟ إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا... الحديث) وفي آخره: (فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار). إذاً: عقوبة السب والشتم، والطعن واللعن، والفحش في القول يكون يوم القيامة، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم موصياً أحد الصحابة: (اتق الله! ثم قال له: وإن امرؤٌ شتمك وعيرك بأمر ليس هو فيك، فلا تعيره بأمر هو فيه، ودعه يكون وباله عليه، وأجره لك، ولا تسبن أحداً). إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرضَ من عائشة فعلاً معيناً كان في أعداء(47/3)
الدين، فقد استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم- وكانوا يعنون بذلك الموت- أو يقولون: السِّلام عليكم- أي: الحجارة- فقالت عائشة رضي الله عنها- وقد فطنت لما قالوا وكانت نبيهة ذكية- قالت: وعليكم السام واللعنة، وفي رواية: عليكم السام ولعنة الله، وغضب الله عليكم، وفي رواية: عليكم السام والذام- أي: الموت والذم- هذه الكلمات التي تلفظت بها في حق هؤلاء اليهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المربي لزوجته: (يا عائشة ! لا تكوني فاحشة) وفي رواية: (مه يا عائشة ! فإن الله عز وجل لا يحب الفحش والتفحش، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم) رد بكلمة واحدة ليس فيها فحش ولا تفحش، وقال: (أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟) هذا كلامها رضي الله عنها في هؤلاء.
استخدام ألفاظ الكناية في الكتاب والسنة:
إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد نهيا عن الفحش، ولا يريد الشارع أن يتعود لسان المسلم على السب والشتيمة واللعن مطلقاً، وتأمل طريقة القرآن في الكناية عما يستبشع ذكره ويستحيا منه. ألم تر أن الله كنّى عن الجماع بالملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والسِّر، قال ابن عباس : [المباشرة الجماع، ولكن الله يكني، أو يُكنِّي] وقد قال أيضاً: [إن الله كريم يكنِّي ما شاء، وإن الرفث هو الجماع].
ألفاظ الكناية في القرآن:(47/4)
قال العلماء: من أسباب الكناية في القرآن: أن يذكر بالكناية ما يفحش ذكره في السمع، فيكني عنه بما لا ينبو عنه الطبع، وقد قال الله تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [الفرقان:72] ومما قيل في تفسيرها: أي: كنوا عن لفظه ولم يوردوه على صيغته، وقد قال تعالى: وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً [البقرة:235] فكنى عن الجماع بالسر، وقال: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187] فكنى عن الجماع بالمباشرة لما فيها من التقاء البشرتين، وقال: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43] بدلاً من الجماع، إذ لا يخلو الجماع من ملامسة، وكنى كذلك بقوله: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] واللباس من الملابسة وهي الاختلاط الحاصل عند الجماع. وكذلك قال في آية أخرى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة:223] فكنى عنها بالحرث، وقال تعالى في قصة امرأة العزيز: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:23] فطلبت منه ما تطلب المرأة من الرجل، فعبر عن ذلك بالمراودة. وقال كذلك في الجماع: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ [الأعراف:189]. وكنى عما يخرج من الإنسان من الفضلة في قصة مريم وابنها كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75] قال بعض أهل العلم بالتفسير: "أراد أيضاً مع الأكل البول والغائط، فأخبر بالمسبب إذ لابد للإنسان من البول والغائط، لكن لما كان مما يستقبح كنى عنه بذلك، وأراد أن يقول: إن مريم وابنها يأكلان الطعام ويخرجان الفضلات، ولا يمكن لأحدهما أن يكون إلهاً، فإن الله تعالى منزه عن ذلك". وقال عز وجل: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [المائدة:6] والمقصود بالغائط قسيم البول، ما يخرج من الإنسان من الفضلة، ولكن قال: الغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض، لأن العرب كانوا إذا أرادوا قضاء(47/5)
حاجاتهم أبعدوا عن العيون إلى مكان منخفض من الأرض، حتى إذا نزل أحدهم فيه ليقضي حاجته لا يرى، فكنى عنه بالغائط، فانظر إلى لطيف اللفظ، وكيف يعلمنا الله الأدب في كتابه. وقال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ [الممتحنة:12] ومعلوم ماذا يوجد بين أرجلهن، فالكناية عن الزنا، وكنى عن الاست بالدبر، فقال: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [الأنفال:50].
ألفاظ الكناية في السنة النبوية:(47/6)
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان في غاية الأدب وهو يتحدث بتلك الأحاديث مما يعلم منه سلامة لسانه صلى الله عليه وسلم، وعفته . روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: (خذي فرصة من مسك، فتطهري بها) ومعنى فرصة: أي قطعة من القطن أو الصوف قد أصابها المسك لتطييب المكان بالرائحة الطيبة، فقالت المرأة: (كيف أتطهر؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله! تطهري) وفي رواية قالت أم المؤمنين : فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمت ما أراد، قالت: فاجتبذتها إليّ، فقلت: تتبعي بها أثر الدم، طهري واغسلي ونظفي مكان الدم من الداخل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله! تطهري بها) ولم يزد على ذلك. وكان عليه الصلاة والسلام حيياً أشد حياءً من العذراء في خدرها، ولما أراد أن يعلم الأمة متى يجب الغسل، قال: (إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل)، وفي رواية: (إذا مس الختان الختان، فقد وجب الغسل) وقال صلى الله عليه وسلم لما سألته امرأة عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، هل عليها من غسل؟ فقال: (نعم إذا رأت الماء) وقال: (الماء من الماء) فسمى ما يخرج من الرجل عند الجنابة ماء، وقال باللفظ اللطيف: (الماء من الماء)، فغسل الجنابة ماؤه واجب من الماء الذي يخرج، وكذلك إذا مس الختان الختان. هل تراه ذكر أسماء العورات كما يذكرها الناس اليوم والتي يعبرون عنها بأبشع الألفاظ، وأسوأ العبارات، وهذا نبيهم صلى الله عليه وسلم بهذا العفاف والطهر، ولكنهم لا يتعلمون منه، وترى المجالس يذكر فيها من أبشع الألفاظ وأسوأ العبارات، مما يخدش الحياء، ويذهب المروءة، والناس ساكتون، ومنهم من يضحك ويشارك، والنكات القذرة لا تخفى عليكم مما يذكر فيه كثير من هذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم(47/7)
الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه) رواه أبو داود و النسائي وهو حديث صحيح. قال ابن الأثير رحمه الله: الاستطابة: الاستنجاء؛ لأن الرجل يطيب نفسه بالاستنجاء من الخبث، والاستنجاء أثر النجوة وهو الغائط، وهكذا إذاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وحتى الرواة لما نقلوا الكلام والفعل والحركة كانوا في غاية العفاف. ففي رواية أبي داود في الحديث الصحيح، قال: (فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى)، يقول أبو قتادة واصفاً صلاته صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى، وجلس على مقعدته) فكنى واستخدم لفظ المقعدة فيما هو معلوم. وروى ابن ماجة في سننه في كتاب الطهارة -وهو حديث صحيح- عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل مقعدته ثلاثاً في التطهر من الغائط) وكذلك عندما كانت الاستفتاءات تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغاية الأدب، يقول: وقعت على أهلي، أو وقعت على امرأتي في رمضان .. أو نحو ذلك، ولا يفحشون، ولا يقولون فحش القول أبداً، كيف وهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهذه امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة جالسة عنده، وعنده أبو بكر فقالت: يا رسول الله! إني كنت تحت رفاعة ، فطلقني فبت طلاقي- أي: بالثلاث- فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها، تريد أنه ضعيف، لا يستطيع الوقاع والجماع، فكنّت بهذه الكناية اللطيفة، ما معه إلا مثل هذه الهدبة، فما تسمي شيئاً من العورة، أو تذكر شيئاً قبيحاً، ومع ذلك كان خالد بن سعيد بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر ! ألا تنه هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على التبسم، لأن من حق المرأة أن تستفتي وتشتكي، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لعلكِ تريدين(47/8)
أن ترجعي إلى رفاعة- أي: الزوج الأول- لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) وهي: كلمة فيها معنى اللذة، وهي إشارة إلى وجوب الوطء بالنكاح الثاني، حتى إذا طلقها عادت إلى الأول. فانظر إلى عفافه صلى الله عليه وسلم، وقارن بينه وبين ما يتلفظ به كثير من الناس في هذه الأيام، [وقد جاء رجل إلى عائشة -رضي الله عنها- وهو عبد الله بن شهاب الخولاني كما في صحيح مسلم ، فقال: فنزلت عندها- نام ضيفاً- فقال: احتلمت في ثوبي فغمستهما بالماء، فرأتني جارية لعائشة فأخبرتها، فبعثت إلي عائشة ، فقالت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه- لاحظ الأدب في العبارة والنائم يرى أشياء كثيرة، لكن فيها إشارة إلى شيء معين- قالت: هل رأيت فيهما شيئاً؟ قلت: لا، قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري]. لقد عبر الصحابة عن التبول بإراقة أو إهراق الماء، وكان أحدهم يقول: أصابتني جنابة، وكان يقال في الحديث: حصل بعض ما يكون بين الرجل وامرأته، ومعلوم ماذا يكون، ومع ذلك فإنهم كانوا يستخدمون الألفاظ المؤدبة النظيفة في الكلام والخطاب. وكذلك ما يحدث بين الرجل وامرأته لا يجوز الحديث به مع أنها امرأته وحلال له، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعل رجل يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها، فأرمَّ القوم- أي: سكتوا- قال عليه الصلاة والسلام: لا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون) هذا إذا حدث بالحلال الذي بينه وبين زوجته، فانظر -الآن- ماذا فعلوا في الإجازة الماضية من المنكرات والكبائر، وهم يتفوهون بها. فإذاً هذه الألفاظ المستبشعة المستشنعة، وما يكون بين الرجل وزوجته لا يجوز الحديث به أمام الناس من باب الأدب، والعفاف.
خطورة انتشار ظاهرة اللعن والسب بين الناس:(47/9)
كذلك من المصائب المنتشرة اليوم فيما يتعلق بهذا: انتشار اللعن، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وهو منتشر كثيراً على ألسنة الناس، وقد أخرج البخاري و مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن المؤمن كقتله) وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً) قال العلماء: "يحرم لعن إنسان بعينه أو دابة". وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبواب الأرض دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإن لم تجد مساغاً- أي: مسلكاً- رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها) إذا كان الملعون يستحق اللعن وقعت اللعنة، أو كان ممن لعنه الله تعالى أو رسوله، أو كان لعن الجنس كلعن اليهود والنصارى، أو لعن الفاسقين والمتبرجات، أو لعن النامصات والمتنمصات .. ونحو ذلك مما يجوز لعنه على وجه العموم، وإلا رجعت على صاحبها. حتى الدواب والبهائم والجمادات لا يجوز لعنها، فقد أخرج مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فضجرت امرأة من الناقة، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: خذوا ما عليها من المتاع، ودعوها، فإنها ملعونة) لا يمكن أن يصحبنا ملعون في السفر، قال عمران : فإني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد، الدابة مهملة ولا أحد اقترب منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها) فتركوها، فإذاً هكذا عقوبة تعزيرية للاعن .. (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) حديث صحيح. إذاً: أيها المسلمون هذا اللعن المنتشر بين الناس حرامٌ في حرام، ويرجع على قائله في العموم والغالب، وحتى قضية السباب والشتام إذا جاوز الإنسان المسبوب والمشتوم، فإنه يأثم لا(47/10)
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن إثم السب والشتم على البادئ إلا أن يتعدى المظلوم، فيسب ويشتم بأكثر مما حصل، وإن ترك السب والشتم حتى لو كان مظلوماً، فهو أحسن وأطيب. فعن أبي هريرة أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، و أبو بكر ساكت، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت! قال: (إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله، وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا أبا بكر ! ثلاثٌ كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعزه الله بها ونصره... الحديث) رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى. ولهذا ينبغي الامتناع والكف عن ذلك، وقد ضرب الصحابة المثل الرائع في هذا، فعن جابر بن سليم قال: (قلت: اعهد إليّ يا رسول الله- أوصني- قال: لا تسبن أحداً، قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً، ولا بعيراً ولا شاة) أخرجه أبو داود بإسناد حسن. كم بين هذا وبين ما يحدث الآن من السب والشتم واللعن في المجالس والهواتف، والدكاكين والمحلات، ومجتمعات الناس ظاهرة سيئة، ويسب الرجل زوجته، ويلعن أولاده، وحتى أقرب الناس إليه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر ألسنتنا وقلوبنا، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا يا رب العالمين. أقول قولي لهذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أسباب نهي الشارع عن اللعن والسب:(47/11)
الحمد لله رب العالمين، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه وأنصاره والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! إن التعود على السب والشتم عادة قبيحة جداً، وقد توقع -والعياذ بالله- في الكفر، كما إذا سب الله تعالى أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الملائكة، ومن السب ما يحكم بكفر صاحبه، ومنه ما يوجب الحد كما إذا قذف بالزنا، ولو قال: أنت أزنى من فلان فعليه حدان، لأنه قذف رجلين، وبعض ذلك يقتضي التعزير، وقد اتفق الفقهاء على أن من سب ملة الإسلام أو دين المسلمين يكون كافراً. وكذلك نهى الشارع عن سب الدهر، فقال: (لا تسبوا الدهر) لأن سب الدهر يعود على خالق الدهر، وهو الله تعالى، إذ أن الدهر لا ذنب له، وتأمل في سب الناس اليوم للساعة والأيام والسنين. وأما سب الأموات بغير مصلحة شرعية، فمنهيٌ عنه، وهو يفضي إلى إيذاء الأحياء، وأما أقوال العلماء في السب في هذه الألفاظ المنتشرة، فإن بعض أهل العلم قد ذكروا أنه إذا سبه سباً لا يصل إلى القذف بالزنا، فإنه يعزر بالجلدات المناسبة، أو ما يراه القاضي لدرء ذلك. وذكر العلماء -رحمهم الله- في كتبهم أمثله لمن سب شخصاً بألفاظ مقذعة، أو قال: يا فاسق، أو يا فاجر، أو يا ديوث .. ونحو ذلك، فإنه يعزر تعزيراً رادعاً ينهاه وينهى أمثاله. وكذلك إذا شتمه ببعض أسماء البهائم، فإن بعض أهل العلم قد ذكروا -أيضاً- أنه يعزر في ذلك، وأما النطق بألفاظ الخنا على الملأ مما يستبشع، فإنه يسقط مروءة الإنسان، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادته، قال ابن الهمام رحمه الله: "إظهار الشتيمة مجون وسفه، ولا يأتي به إلا أوضاع وأسقاط".
حالات جواز الجهر بالسب والشتم:(47/12)
وهناك بعض الحالات التي يجوز فيها الجهر بالسب والشتم: كما إذا سب آلهة الكفار لإغاظتهم دون أن يكون هناك منكر أكبر من ذلك يترتب عليه، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه للمشرك: [امصص بضر اللات]، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية- أي: تعصب العصيبة الجاهلية- فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) أي: قولوها بصراحة اللفظ، من باب زجره، والمراد بهن أبيه، أي: ذكر أبيه، يقال له ذلك: اعضضه، إذا تعزى بعزاء الجاهلية. وكذلك في استنطاق القاضي للمعترف بالزنا، كما قال الصحابي في كلمة النبي صلى الله عليه وسلم لماعز ، ثم قال الصحابي، ولا يكني لأجل الحاجة، لأن المسألة فيها إزهاق روحه وقتله، فلا بد من استنطاقه باللفظ الصريح. وكذلك قال النووي رحمه الله تعالى: "يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وكل مؤدب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك الأمر ممن فعل شيئاً سيئاً: ويلك! أو يا ضعيف الحال! أو يا قليل النظر لنفسه! أو يا ظالم نفسه! وما أشبه ذلك، بحيث يؤدبه بمثل هذا، وهذه حاجة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". والحاصل أيها الإخوة! أن الباعث على الفحش إما أن يكون قصد إيذاء الناس، أو العادة التي جرت بمخالطة أهل الفسق واللؤم والخبث، فإن الاعتياد في مخالطة الفساق يسبب تكرار مجالستهم، والاستماع إليهم، والتعود على ألفاظهم، وزوال شناعتها من النفس، والتلفظ بها في تقليدهم والاقتداء بهم. وما فعلته الأقلام الهابطة في القصص السيئة الماجنة، والأفلام المنحطة، ما فعلته في نشر السباب والشتائم والألفاظ الشنيعة، وإزالة الحياء والكلام في العورات، والكلام في الرفث والجماع .. ونحو ذلك، أمر عظيم جداً، وأثره في الأجيال واضح للغاية، وأصحاب السوء، والناس في الشوارع الذين يتعلم منهم بقية الأولاد الصغار السباب والشتائم أمر واضح جداً. لقد أقيمت في بعض الأماكن مسابقة بعنوان: أبو عيون جريئة، يكون الفائز فيها أوقح(47/13)
الشبان وأقلهم حياءً وأدباً، فتصور ذلك في مجتمع من مجتمعات المسلمين إلى هذه الدرجة، من أوقح وأشد شناعة في لفظه هو الذي ينال الجائزة.
واجبنا تجاه انتشار ظاهرة اللعن والسب:
فهذه الأشياء التي تنشر الفحش ينبغي بترها وقطع دابرها، وينبغي على الآباء أن يصونوا أولادهم عن مرافقة أهل السوء، ونحن الآن في بداية عام دراسي جديد، هل ذهبت يأيها الأب إلى المدرسة، وتفرست في وجوه الطلاب الذين يدرسون مع ولدك في الفصل الدراسي الذي هو فيه، فانتقيت له عدداً من الأخيار ولو قلوا، وقلت له: الزم هؤلاء ولا تتعداهم، وتسمح له بأن يزورهم ويزوروه؟ هذه مسئوليتك، ليست المسئولية شراء الأقلام والدفاتر، والمسارعة لتلبية احتياجات المدرسة، إنما الأهم من ذلك مراقبة الولد .. من هم أصحابه؟ من هم الذين يماشيهم ويحتك بهم؟ فإنهم مصدر أخلاقه، ومنبع عاداته. ولذلك فإن مسئولية الأب مسئولية عظيمة، وكل واحدٍ من الراشدين البالغين مسئولٌ عن نفسه في أصحابه الذين يماشيهم ويصادقهم، فإن صاحب الفحاشين صار فحاشاً، وإن صاحب النمامين المغتابين صار كذلك .. وهكذا أيها الإخوة. ولنذكر إخواننا في مطلع هذا العام الدراسي، بالاعتناء بتربية أبنائهم، وعدم الاكتفاء بذهابهم إلى المدرسة، ونذكر المدرسين بمسئوليتهم في التربية قبل التعليم، إذ أن هناك فرقاً بين التربية والتعليم، فليست القضية نقل المعلومات، وإنما تأديب الطلاب وتربيتهم على المنهج الإسلامي. وكذلك نذكر بالفقراء والضعفاء ممن يحتاجون إلى الصدقات حتى في شراء لوازم المدرسة، وقد أفتى أهل العلم بجواز دفع الزكاة لنفقة الدراسة للطالب الفقير؛ لأنها صارت حاجة في هذه الأيام، لا تنال شهادة أو وظيفة في الغالب إلا بها، بل حتى الزواج، ولذلك يجوز دفع الزكاة فيها، ما لم يكن فيها شرٌّ أو إثمٌ أو معصية. وكذلك أيها الإخوة! الشفاعة لمن يحتاج الشفاعة في قبول ولده في المدرسة .. ونحو ذلك، لقوله صلى الله عليه(47/14)
وسلم: (اشفعوا تؤجروا) ونحو ذلك ممن يستحق من المسلمين. نسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا في طاعته، وأن يوفقنا إلى مرضاته. اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، اللهم ارزقنا الطهر والصدق يا رب العالمين. اللهم انصر إخواننا المجاهدين، وافتح لهم بلاد الكفار والمشركين، اللهم عجل بنصرهم، اللهم رد إلينا القدس الشريف وأخرج اليهود منه أذلة صاغرين، اللهم عليك بهم يا رب العالمين وبسائر أعداء الدين .. أرغم أنوفهم، وأفشل خططهم، واجعل مكرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والصلاح للعباد. اللهم إنا نسألك الأمن في الأوطان والدور .. آمنا في أوطاننا، وارشد الأئمة وولاة الأمور، وارحمنا يا رحيم يا غفور. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمة يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(47/15)
( وكونوا مع الصادقين )
عناصر الموضوع:
الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين
تعريف الصدق
مراتب الصدق
من أقوال السلف في الصدق
حث الشريعة على التحلي بالصدق
شرح آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)
ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً
صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق
مجالات الصدق
دواعي الصدق
علامات الصدق
أمور مهمة في الصدق وأهله
الصدق المذموم
الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق
أمور عن الصدق
الصدق في البيع والشراء
الكذب أضراره وعواقبه
دواعي الكذب
الكذب في المزاح
علامات الكذب
مواطن جواز الكذب
وكونوا مع الصادقين:
إن منزلة الصدق في الدين عظيمة، فهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، وهذه رسالة يتحدث فيها الشيخ عن هذا الخلق العظيم، فذكر تعريفه ومراتبه ومواقف السلف معه، ثم بين مجالاته وأماراته ودواعيه. ثم انتقل الشيخ إلى الحديث عن ضد هذا الخلق وهو الكذب، وبين أضراره وأخطاره وعواقبه ودواعيه وبعض مسائله.
الصدق من منازل إياك نعبد وإياك نستعين:(48/1)
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين. أما بعد: أيها الإخوة: من منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الصدق، وهو منزل القوم الأعظم الذي منه تنشأ المنازل كلها، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، به تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وأهل الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، هو روح الأعمال ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، وهو الباب الذي يدخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية على النبوة التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكن النبيين تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين. وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخص الله المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69]. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والإسلام، والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق، فقال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ(48/2)
الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] وهذا صريح في أن الصدق في الأعمال الظاهرة والباطنة وأنه هو الإيمان والإسلام. وأخبر سبحانه وتعالى أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذاب الله إلا صدقه، قال تعالى: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]. وعقد البخاري رحمه الله تعالى في كتابه الجامع الصحيح باباً بعنوان: باب قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وما ينهى عن الكذب.
تعريف الصدق: ... ...(48/3)
وننطلق في هذا الدرس أيها الإخوة: مع الصدق وضده الكذب، أما الصدق فأصل الصدق والكذب في القول ماضياً كان أو مستقبلاً، فيمكن أن يصدق الإنسان في حديثه عما مضى ويمكن أن يصدق في وعده للمستقبل إذا وعد وكذلك يمكن أن يكذب، فأصل الصدق والكذب في القول ماضياً كان أو مستقبلاً وعداً كان أو غيره. والصدق هو: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإذا طابق قولك ما في ضميرك والشيء الذي تخبر عنه فأنت صادق، والعكس بالعكس، فإذا انخرم شرط لم يكن صدقاً، بل إما أن يكون كذباً أو متردداً بينهما -يعني بين الصدق والكذب- كقول المنافق: محمد رسول الله، فهو من جهة المطابقة للمخبر عنه وهو النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فإنه رسول الله حقاً، لكن من جهة ما يعتقده المنافق في ضميره فهو كذاب، ويصح أن يقال كذب؛ لمخالفة قوله لضميره. وقد يستعمل الصدق والكذب في الاعتقاد وفي الفعل كما قال الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم: [إنا قوم صدق في القتال] في الحرب، ومنه قوله تعالى: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا [الصافات:105] عملنا بمقتضاها إذاً: هو قول الحق المطابق للواقع والحقيقة.
مراتب الصدق:
والصدق على مراتب، والصادقون على مراتب، فالصديق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق هي مرتبة الصديقية التي أشار الله إليها بقوله: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] وسمي أبو بكر الصديق صديقاً لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم.
من أقوال السلف في الصدق:(48/4)
ومن عبارات السلف في الصدق، قال عبد الواحد بن زيد : [الصدق الوفاء لله بالعمل]. وقيل: هو موافقة السر النطق. وقيل: استواء السر والعلانية. وقيل: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة. وقيل كلمة حق عند من تخافه وترجوه وقال بعضهم: لا يشم رائحة الصدق من داهن نفسه أو غيره. وقال بعضهم: الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه. وقال الجنيد : حقيقته أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب. والصدق هو من صميم دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يدعو إلى الأسس ولم يكن في دعوته في مكة الفروع ولا التوسع في الأحكام من الحلال والحرام، فإذا عرفنا أن الصدق من أسس دعوته عليه الصلاة والسلام وهو في مكة ؛ علمنا منزلة الصدق من الدين وأنه مما يبدأ به في الدعوة إلى أي شيء ندعو الناس إليه كالتوحيد وأشياء كثيرة، منها ما جاء في حديث هرقل مع أبي سفيان والحديث في البخاري قال له: سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال وهذه صفة نبي. فبعد الصلاة مباشرة أمرهم بالصدق.
حث الشريعة على التحلي بالصدق ... : ...(48/5)
وقد حثت الشريعة على التحلي بهذا الخلق العظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً ما أمر الله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) يعني عن الحرام، وفي رواية: (اكفلوا لي ستاً أكفل لكم الجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا ائتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم) حديث صحيح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة وحسن الخلق، وعفة مطعم) حديث صحيح. وقال النبي صلى الله عليه وسلم مجيباً على سؤال من هو خير الناس؟ قال: (خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد) إذاً: صاحب اللسان الصادق والقلب المخموم، السليم من الإثم والبغي والحسد هو خير الناس. وقد كان أحب الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصدقه، وورد ذلك في صحيح البخاري : لما جاء وفد هوازن مسلمين فسألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم؛ لأن أموالهم وسبيهم قد أخذت من قبل المسلمين في المعركة، لكن القوم الكفار أسلموا بعد ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (معي من ترون وأحب الحديث إليَّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين، إما السبي وإما المال.) إلى آخر الحديث الذي فيه تنازل المسلمين عن السبي لصالح وفد هوازن الذين جاءوا مسلمين.
شرح آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ):(48/6)
وتعالوا لنشرح آية من كتاب الله وحديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالصدق: قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا، هذه الآية قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] كانت بعد ذكر قصة الثلاثة الذي خلفت التوبة عليهم وأرجأ الله أمرهم امتحاناً لهم ولبقية المؤمنين، وجاء المنافقون من الأعراب يعتذرون ويكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا الله ورسوله فأرجأ الله التوبة عليهم وسموا بالمخلفين وكان مما أمر الله به في الآيات التي جاءت تعقيباً على تلك القصة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]. قال القرطبي رحمه الله: الأمر بالكون مع أهل الصدق حسنٌ بعد قصة الثلاثة الذين خلفوا حين نفعهم صدقهم وذهب بهم عن منازل المنافقين. قال مطرف : سمعت مالك بن أنس يقول: [قل ما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف] هذا من فوائد الصدق. وقوله تعالى: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] اختلف فيهم: فقيل خطاب لمن آمن من أهل الكتاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] أي: المؤمنين والصادقين قيل: خطاب لمن آمن من أهل الكتاب، وقيل: هو خطاب لجميع المؤمنين أن اتقوا مخالفة الله وكونوا مع الصادقين الذي خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا مع المنافقين، وقيل: كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم، وقيل: هم الأنبياء، أي: كونوا معهم بالأعمال الصالحة فتدخلوا الجنة بسببها فتكونوا معهم أيضاً.
ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً:(48/7)
والحديث العظيم المشهور في الصدق الذي يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصدق ويوصيهم به: (فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً). والكذب -أيضاً- (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار). قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار، وسلوا الله اليقين والمعافاة). وهذا الحديث الذي فيه قوله: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة) عليكم بالصدق أي: الزموه، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق -يعني- في قوله وعمله ويبالغ ويجتهد حتى يكتب عند الله صديقاً، فهذا يعني أن الصدق لا يصل إليه الإنسان إلا بالمجاهدة، ولا يزال يصدق ويتحرى الصدق، يتعمد ويتحرى ويقصد الصدق، ولا يزال ديدنه وعادته حتى يصل إلى المرحلة العظيمة وهي أنه عند الله صديقاً، يكتب أي: يثبت عند الله. قال الإمام النووي معلقاً على الحديث: فيه فضيلة الصدق وملازمته وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير. ( حتى يكتب عند الله صديقاً ) فيه إشارة إلى حسن خاتمة هذا الرجل؛ لأنه قال: (ولا زال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) فإذا كتب عند الله صديقاً فهذه إشارة إلى حسن خاتمته، وإشارة إلى أن الصدق مأمول العواقب.
صور من حياة الأنبياء والصالحين مع الصدق: ... ...(48/8)
والجولة الآن مع الأنبياء والصالحين في الصدق كما حكى الله تعالى عنهم. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً [الإسراء:80]. وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يهب له لسان صدقٍ في الآخرين، فقال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84]. وبشر الله عباده بأن لهم قدم صدق عند ربهم، وأنه لهم مقعد صدق، فقال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2] وقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55]. قال ابن القيم رحمه الله: وهذه خمسة أشياء: مدخل صدق، ومخرج صدق، ولسان صدق، وقدم صدق، ومقعد صدق، فأما مدخل الصدق ومخرج الصدق بأن يكون دخوله وخروجه حقاً شرعياً موافقاً للكتاب والسنة في أي أمر من الأمور، وهو ضد مخرج الكذب ومدخل الكذب الذي لا غاية له يوصل إليها، فمخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في غزوة بدر هو مخرج صدق، ومخرج الأعداء من كفار قريش إلى غزوة بدر هو مخرج كذب، ومدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان مدخل صدق في الله وابتغاء مرضاة الله، هاجر وترك الوطن والأهل ابتغاء مرضاة الله؛ فاتصل به التأييد والظفر والنصر، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن لله ولا بالله، بل كان محاداً لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار. وفسر مدخل الصدق ومخرجه بخروجه صلى الله عليه وسلم من مكة ودخوله المدينة وهذا مثال على ذلك وليس هو كل مدخل الصدق ومخرج الصدق وإنما هو مثال عليه. والنبي عليه الصلاة والسلام مداخله ومخارجه كلها كانت مداخل صدق ومخارج صدق، لا يخرج من المدينة(48/9)
ويدخل بلداً، أو يدخل في أمرٍ أو يخرج من أمرٍ إلا لله وبالله، وما خرج أحدٌ من منزله ودخل سوقه أو مدخلاً آخر إلا بصدقٍ أو كذب، فمدخل كل واحد منا ومخرجه لا يعدو الصدق والكذب، كلنا الآن نغدو ونذهب، ندخل في أمر ونخرج من آخر، ندخل في مكان ونخرج من آخر، ولذلك الدعاء بأن يدخلنا الله مدخل صدق ويخرجنا مخرج صدق هو في الحقيقة دعاء لله أن يسددنا في جميع أقوالنا وأعمالنا، وأن يكون إقدامنا على الأمور وخروجنا من الأمور موافقاً للكتاب والسنة. أما لسان الصدق الذي جاء في دعاء الخليل إبراهيم فهو الثناء الحسن عليه من سائر الأمم صدقاً لا كذباً، وقد استجاب الله له فصار الناس يثنون على إبراهيم بعد موت إبراهيم بآلاف السنين، يثنون عليه ويذكرون سيرته ويتأسون به. وأما قدم الصدق الذي وعد الله به المؤمنين فقد فسر بالجنة، وحقيقة القدم ما قدموه في الدنيا من الأعمال والإيمان، وما يقدمون عليه في الآخرة وهي الجنة التي هي جزاؤهم وهو مقعد الصدق إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر:54-55] أي: هي الجنة عند الرب تبارك وتعالى.
النبي صلى الله عليه وسلم من صفاته: الصادق الأمين:(48/10)
النبي صلى الله عليه وسلم كان من صفاته الصادق الأمين وساعده ذلك في دعوته لما قام يدعو الكفار، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فلان! يا بني عدي! ينادي بطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً في الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً.. ما جربنا عليك كذباً أبداً). تاريخ الرجل يساعد في نشر دعوته قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:1-5]). وكان من الأشياء التي استدلت بها خديجة على صدق النبي عليه الصلاة والسلام في بعثته وأن الله لم يتخل عنه أنه بعدما جاءه الملك في غار حراء وقال له: اقرأ فرجع خائفاً مضطرباً، فقالت له خديجة لما قال لها لقد خشيت على نفسي، قالت: [كلا فوالله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق]. إذاً: هذا الصدق منه صلى الله عليه وسلم كان معيناً له في دعوته، وكان من أدلة صدقه في بعثته وفيما أخبر به عن نبوته.
يوسف عليه السلام يوصف بالصدق: ...(48/11)
ويوسف عليه السلام كان صادقاً؛ لذلك اعترف له الرجل الذي جاء يستفتيه فقال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ [يوسف:46] فأرسلوا أحد السجينين اللذين كانا مع يوسف إلى يوسف في السجن ليسأله لأنه قال لهم: أنا آتيكم بالجواب، ذهب إليه فقال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ [يوسف:46] وصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجربه من أحواله في مدة إقامته في السجن، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ [يوسف:46].
أبو بكر الصديق مع الصدق:
وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم الأول ورفيقه في الغار ، أبو بكر الصديق سمي صديقاً لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت في أول الأمر، وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها) رواه البخاري .
أبو ذر مع الصدق:
ومن الصحابة المشهورين بالصدق أيضاً أبو ذر رضي الله تعالى عنه، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء -لا الأرض ولا السماء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر وهو شبيه عيسى بن مريم) أبو ذر شبيه بعيسى بن مريم.
كعب بن مالك وصدقه في حادثة تبوك:(48/12)
وكذلك من الصحابة المشهورين بالصدق كعب بن مالك رضي الله عنه، قال حين تخلف عن تبوك : (والله ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني أعظم من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين أُنزل الوحي: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:95]) الحديث في البخاري. وفي البخاري أيضاً عن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب بن مالك لما عمي قال: [سمعت كعب بن مالك يحدث فينا حين تخلف عن قصة تبوك فقال: والله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً أبداً] سنوات طويلة، وأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:117-119].
مجالات الصدق:
وللصدق مجالات عديدة منها:
أولاً: الصدق في الأقوال: ...(48/13)
الصدق يكون في الأقوال كما قلنا سابقاً، وهو: استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها، فحق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه ولا يتكلم إلا بالصدق. وصدق اللسان أشهر أنواع الصدق وأظهرها، وأن يتحرز من الكذب ومن المعاريض التي تجانس الكذب، وينبغي أن يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، فإن كان قلب العبد منصرفاً عن الله منشغلاً عن الدنيا وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض في الصلاة في الاستفتاح فهو كاذب. ومن الأقوال التي ينبغي الحرص على الصدق فيها: الحلف والقسم، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه فقال: لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرضَ ومن لم يرض بالله فليس من الله) حديث صحيح. ويمينك على ما صدقك به صاحبك لا يجوز لك أن توري فيه، ولا تجوز التورية في القسم عند القاضي أو عند الشخص الذي تريد أن تقسم له إذا كان صاحب حق، فلا تنفعك توريتك في اليمين، وهي حرام والواجب أن تكون يمينك على ما يصدقك به صاحبك ويفهم من كلامك، فلو حلف أنه -مثلاً- لم يأخذ منه مالاً ونوى في نفسه أنه لم يأخذ منه مالاً في هذا المجلس فلا ينفعه ذلك ولا يجعل المال حلالاً له، يمينك على ما صدقك به صاحبك، والحقوق لا يجوز لك أبداً التورية فيها.
ثانياً: الصدق في الأفعال:(48/14)
ومن مجالات الصدق: الصدق في الأفعال: وهو استواء الفعل على الأمر والمتابعة كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام وكما أمر، كاستواء الرأس على الجسد، وهو أن تصدق السريرة العلانية حتى لا تدل أعمالهم الظاهرة من الخشوع ونحوه على أمر في باطنه، والباطن بخلافه، فالمراءون أعمالهم الظاهرة بخلاف بواطنهم، فلذلك ليسوا بصادقين في أعمالهم، بل هم من الكذابين وإذا استوت علانية العبد وسريرته قال الله: هذا عبدي حقاً. والأعمال منها ما يكون أعمال قلب ومنها ما يكون أعمال جوارح. والأمثلة في الصدق مع الله والإخلاص لله كثيرة ومنها: قصة الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار فقال بعضهم لبعض: إنه والله لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق الله فيه، توسلوا إلى الله بصالح أعمالكم، فكان كل واحد يذكر أرجى ما عمل في حياته لله وأصدق ما حصل منه لله حتى كان السبب في انفراجها ذلك الرجل الذي وفر أجرة الأجير وحفظها كأمانة ونماها له -أيضاً- حتى صارت وادياً من المال وجاء الأجير فصدقه في هذا المال المحفوظ عنده وأعطاه إياه وسلمه كاملاً بعد تنميته. هل أخذ أجرة على التنمية؟ بل هل التنمية واجبة عليه؟ لا. لكنه نماه مجاناً ولم يأخذ أجرة على التنمية ولم يذكر في الحديث أنه قال له: جزاك الله خيراً أو أثنى عليه، فاستاقه فلم يبقِ منه شيئاً، حتى ما قال: خذ نصفه أو خذ أرباحه وأعطني أجرتي فقط، أخذه فلم يبقِ منه شيئاً فكان الفرج بسبب الدعوة الأخيرة مع الدعوات السابقة. وبعض الناس قد يصدقون في تعبيراتهم الفعلية وقد يكذبون، وقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود وذلك على سبيل المخادعة، فالمخادعة مثلما تكون بالقول تكون بالفعل أيضاً، وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطراً وأقوى تأثيراً من الكذب في الأقوال. من أمثلة الكذب في الأفعال ما فعله إخوة يوسف: وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً(48/15)
يَبْكُونَ [يوسف:16] هذه بكاء كذب ليس ببكاء حقيقي ولا صحيح: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف:18] جعلوا في القميص دماً، ذبحوا شاة فصبغوها فجعلوا الدم في هذا القميص، ليقولوا: إن الذئب قد أكله، ولكن نبي الله يعقوب بفطنته وفراسته عرف أن هذا القميص مصبوغ بدم كذب، فليس فيه تشقيق ولا آثار مخالب ولا أنياب، فاستغرب من كلامهم واستعجب وقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً [يوسف:18] ما أعجب هذا الذئب الذي يخلع القميص عن الولد ثم يأكل الولد وليس في القميص آثار مخالب ذلك الأسد أو أنياب الذئب ولذلك جاءوا على قميصه بدم كذب، وجاءوا أباهم عشاءً يبكون بكاء كذب، إذاً: الكذب يكون في الأقوال ويكون في الأفعال وقالوا -كذباً-: يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:17] فجمعوا بين الكذب في القول والكذب في العمل. وكذلك فإن الأعمال التي يقوم بها المراءون ولو شيدوا مساجد وطبعوا كتباً وعملوا صدقات، إذا كانوا يقصدون الرياء فإنها أعمال كذب وليست بصدق. وقد يكون الكذب في الحركات التعبيرية، كإشارات اليد والعين، والحاجب والرأس، فإن كانت مطابقة للواقع فهي صدق وإن كانت مخالفة فهي كذب، فلو سئل إنسان مثلاً: هل أودع فلان عندك مالاً؟ فهز برأسه نافياً دون أن يتكلم وقد أودع صاحبه عنده المال فعلاً فإن هذه الحركة كذب.
ثالثاً: الصدق في النية والإرادة: ...(48/16)
ومن مجالات الصدق: الصدق في النية والإرادة كما ذكرنا المثال عليه سابقاً وهو الإخلاص في قصة أصحاب الغار الثلاثة. ولنعلم أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: عالم وقارئ ومجاهد، لأنهم ما أرادوا وجه الله. أما الصادقون في النية والعمل، الذين يصدقون الله فإن الله يصدقهم ويصدقهم ويأتي لهم بالنتائج التي يحبها سبحانه وتعالى، ومن الأمثلة التي وردت في السنة ما جاء في حديث شداد بن الهاد : (أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئاً، فقسم وقسم للأعرابي، فأعطى أصحابه ما قسم له لكي يوصلوه إلى الأعرابي، وكان يرعى ظهرهم -ذلك الأعرابي المسلم- فلما جاءوه دفعوا إليه نصيبه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: قسمته لك، قال: ما على هذا تبعتك ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا -وأشار إلى حلقه- بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك -إن كانت فعلاً هذه نيتك صدقت الله فالله يصدقك- فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد أصابه سهم حيث أشار -في نفس المكان الذي أشار إليه- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أهو هو؟ قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى عليه فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً أنا شهيد على ذلك). وكذلك الصدق يكون فيما يريد العبد أن يعزم عليه في المستقبل كما هو حال هذا الصحابي، فبعض الناس يقول: إن آتاني الله مالاً لأتصدقن ولأفعلن، هذه عزيمة لشيء في المستقبل، وقد تكون حقاً: مِنَ(48/17)
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23] وقد تكون كذباً: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ [التوبة:75-77]. وكذلك فإن الصدق يكون في الأحوال كلها وهذه رتبة الصديقين الذين يصدقون في الأقوال والأعمال والنيات والعزائم.
دواعي الصدق:
والصدق له دواعٍ كثيرة منها: أولاً: العقل السليم، فإن العقل الصحيح يدفع إلى الصدق. ثانياً: الشرع المؤكد: الفطرة التي فطر الله الناس عليها والعقول السليمة تحب الصدق وتميل إليه وتنفر من الكذب، والدين يرد فيصدق العقل الصحيح، فالدين لا شك أنه ورد باتباع الصدق وحظر الكذب، لكن الدين يزيد أشياء على الفطرة، والفطرة السليمة لا تعطي التفصيلات لكن تميل إلى الحق، فالعقل قد يقول بجواز الكذب إذا كان فيه مصلحة أو لدفع مضرة؛ لكن يأتي الدين فيقول: إن الكذب كله حرام لا يجوز، إلا في حال الضرورة والقلب مطمئن بالإيمان. ثالثاً: المروءة: فهي خلق مانع من الأخلاق المشينة كالكذب. رابعاً: حب الاشتهار بالصدق
عود لسانك قول الصدق تحظ ... به إن اللسان لما عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سلمت له ... في الخير والشر فانظر كيف ترتاد
إذاً: الصدق عادة إذا كان الرجل لا زال يصدق ويتحرى الصدق يكون الصدق له في النهاية سجية وعادة ويكون سهلاً، أما في أول الأمر فيكون صعباً يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن النفس أمارة بالسوء، تقول: اكذب فالكذب فيه منفعة، اكذب فالكذب يرفع عنك المضرة ونحو ذلك، ولكن إذا جاهد العبد نفسه فإنه يصل إلى مرتبة الصدق.
علامات الصدق: ... ...(48/18)
وللصدق علامات، منها: أولاً: اطمئنان القلب له، يحدثك الشخص أحياناً بحديث فترتاح إليه نفسك وتطمئن، كما أن من علامات الكذب حصول الريبة والشك، يخالج نفسك الشعور بأن هذا ليس بصحيح وهذا المعنى موجود في حديث الترمذي الذي رواه الحسن بن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصدق طمأنينة والكذب ريبة). لو قال واحد: كيف نستدل على الصدق؟ نقول: من علامات الصدق: أن تطمئن نفسك للكلام، ومن علامات الكذب أن لا تطمئن نفسك للكلام، وهذه نفس المؤمن طبعاً، أما نفس الإنسان العاصي قد تطمئن للكذب وتشك في الصدق. ثانياً: كتمان المصائب والطاعات، وكراهة اطلاع الخلق على ذلك، فهو يصبر لله على الطاعة وعلى المكروه، ونحن -أيها الإخوة- في موضوع الصدق لنا الظاهر، قد يخبرك أشخاص بأشياء وأنت لا تدري عن حقيقتها فلك ظاهر حالهم، فإن كان الذي يظهر لك من حاله الصدق فاقبل كلامه، وإن كان الذي يظهر لك منه الكذب والفسق والفجور فاتهمه. وقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن عمر بن الخطاب أنه قال: [إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان الوحي يفضح الكذابين- وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمنّاه وقربناه وليس إلينا من سريرته شيء، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنه] وهذه مقولة عظيمة من عمر رضي الله عنه والحديث عن عمر رواه البخاري رحمه الله تعالى. انظر إلى حال الرجل من بني إسرائيل لما جاءه صديق له يستسلفه ألف دينار، قال صاحب المال: ائتني بالشهداء أشهدهم، قال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل لو هربت يكون بدلاً منك، ولو عجزت يسدد عنك، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، ظهر له من حال صاحبه الصدق، فدفعها إليه وحصلت القصة بعد ذلك، حيث ذهب الرجل وتاجر وعبر البحر وجاء الموعد المحدد ولم(48/19)
يجد سفينة ليرجع بها؛ ليعطي المال لصاحبه فما عنده حيلة، فأخذ خشبة ونقرها ووضع فيها الألف دينار، ودعا الله عز وجل فقال: هذه حيلتي فأوصل هذه الأمانة ورمى الخشبة في البحر، وخرج صاحبه في الشاطئ الآخر على الموعد يتلمس هذا الرجل على الموضع المضروب بينهما ليأتي، لكنه لم يجد سفينة ولم يأتِ أحد ووجد خشبة تتهادى على الماء فقال: آخذها حطباً لأهلي، فأخذها فنشرها فإذا فيها الألف دينار والرسالة من صاحبه، فأدى الله الأمانة عن ذلك الرجل.
أمور مهمة في الصدق وأهله:
الاستدلال على الصدق من مظانه:
يستدل على الصدق من أهله ومظانه، كما حصل في قصة الإفك التي اتهمت فيها عائشة رضي الله عنها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبحث عن الحقيقة ويسأل ويتحرى.. يسأل من؟ (أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: وسل الجارية تصدقك، -بريرة جارية عند عائشة معروفة بالصدق والأمانة، تاريخها صدق وأمانة وهي ملازمة لعائشة، وتعرف سرها وتطلع في بيتها على الأمور الكثيرة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام لبريرة، ولم يسأل الناس الآخرين البعيدين، الإنسان عندما يريد الصدق يتحرى الصدق من مظانه، هل رأيتِ من شيء يريبك؟ قالت: ما رأيت أمراً أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن -يعني الشاة- فتأكله).
تصديق الحق ... :(48/20)
ومن الأمور المهمة أن نصدق الحق، لذلك تجد كثيراً من الأحاديث فيها صدقت.. صدقت.. صدقت، صدق فلان.. صدق فلان، وأعلى أنواع التصديق ما يصدق الله به عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فيأتي الوحي تصديقاً لكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، كما حصل في خيبر ، قال أبو هريرة والحديث في البخاري (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح فأثبتته وعجز عن الحركة، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل الذي تحدثت أنه من أهل النار قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به الجراح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع منها سهماً فانتحر به، فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! صدق الله حديثك قد انتحر فلان فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم فأذن، ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). لو قال واحد: كيف يقاتل مع المسلمين؟ نقول: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وهذا له أمثلة كثيرة في الواقع، فتجد الرجل ينشر العلم ويطبع الكتب ويبني المساجد، ويفعل أشياء ينتفع بها المسلمون وهو فاجر، نقول: هذا لا يجعل فجوره صلاحاً إذا كانت نيته ليست لله لكن هذا مصداق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام: إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر. وقد صدق الله صحابة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن ضمن تلك الأمثلة ما روى البخاري رحمه الله عن زيد بن أرقم قال: (كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول: لا(48/21)
تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا * لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:7-8] فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فدعاني، فحدثته بالذي سمعت فأرسل إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، وكذبني النبي صلى الله عليه وسلم وصدقهم بما ظهر من حلفهم، فأصابني غمٌ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي وقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك النبي صلى الله عليه وسلم ومقتك فأنزل الله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ... [المنافقون:1].. الآيات وأرسل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها، قال: قد صدقك الله يا زيد) نزلت الآية تصديقاً للصحابي. ونحن نأخذ الحق ونصدقه ولو كان مصدره رجلاً كافراً، ولو كان مصدره الشيطان، إذا كان حقاً نصدق به ولا يمنعنا جرم الكافر أن نصدق كلامه إذا كان حقاً، وبعض أهل الكتاب كانوا يخبرون بأشياء من الصدق والنبي صلى الله عليه وسلم يصدقهم، مثل المرأتان اليهوديتان اللتان جاءتا إلى عائشة يخبرانها عن عذاب القبر، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام فصدق كلام اليهوديتين بعذاب القبر. من الأمثلة عن جابر رضي الله عنه قال: (لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر الذين ذهبوا إلى الحبشة - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لما رجعوا: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة ، قالت فتية منهم: بلى يا رسول! بينا نحن جلوس مرت بنا عجوزٌ من عجائز رهبانهم تحمل على رأسها قُلَّةً من ماء فمرت بفتىً منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت العجوز التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدر -يعني يا غادر- إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون كيف أمري وأمرك عنده(48/22)
غداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقت.. صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟) حديث حسن حسنه الألباني في مختصر العلو . وكذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد صدق كلاماً قاله الشيطان لما وكل أبا هريرة بحفظ بيت المال وجاء الشيطان بهيئة رجل يحثو منه، فألقى أبو هريرة القبض عليه في أول ليلة وثاني ليلة وثالث ليلة وفي النهاية قال له: إني أعلمك آية إذا قلتها قبل النوم حفظك الله لا يقربك شيطان، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...)[البقرة:255] وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. أبو هريرة حريص على الخير، أطلق الرجل لأجل هذه الفائدة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب! تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة ؟ قال: لا. قال: فذاك شيطان) إذاً: قد يصدق الكذوب، فإذا قال صدقاً فإننا نقبله ولا نقول: لا؛ لأنهم يكذبون أو فجرة لا نقبل منهم شيئاً ولا نصدقهم، بل نصدق ما قالوه إذا وافق الدين. والنبي عليه الصلاة والسلام صدق أحد أحبار اليهود، قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر -صدقه بالضحك الذي هو كناية عن الرضا والإقرار بما قاله- ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]).
الصدق المذموم: ... ...(48/23)
هل هناك صدق مذموم؟ الجواب: نعم، من الصدق المذموم: الغيبة والنميمة والسعاية، ولو ذكره بما ليس فيه، لكان هذا بهتاناً، لكن لو ذكرته بما فيه وقلت أنا صادق.. فربما عذر المغتاب نفسه بأنه يقول حقاً لكن هذا بعيد عن الصواب ومخالف للأدب؛ لأنه ولو كان في الغيبة صادقاً فقد هتك ستراً كان صونه أولى، وجاهر من أسر وأخفى، وربما دعا المغتاب وهذه نكتة لطيفة يشير إليها الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين ، يقول: فلان فيه كذا وفعل وفعل فهذا الرجل إذا كان مصراً على فسفه وأنت تأتي وتعلن ما فعل الرجل، ربما دعا المغتاب ذلك إلى إظهار ما كان يستره والمجاهرة بما كان يخفيه، يقول: مادام أن الأمر يفتضح بين الناس، سأبهى بالفسق وأعلن به ما دمت قد افتضحت، فهل الذي ذكره وأفشى أمره ساعده على الخير؟ لا. لم يفده إلا فساد أخلاقه بدون صلاح.
صدق النمام:
وكذلك النمام والقتات، النمام يمكن أن يكون في نقل الكلام في غاية الأمانة لا يزيد ولا ينقص من الكلام، يذهب للشخص الآخر يقول: فلان قال عنك في المجلس الفلاني كذا وكذا وكذا، عابك وقال عنك كذا وكذا وكذا، ونقل الكلام بأمانة وبصدق ما كذب ولا افترى، فما حكم هذه النميمة ما حكم هذا الصدق في النقل؟ حرام، نميمة، النمام الذي يكون مع القوم يتحدثون فينم حديثهم وينقله. ما هو الفرق بين النمام والقتات؟ النمام عرفناه فمن هو القتات؟ النمام الذي يكون مع القوم فيسمع الكلام وينقله للإفساد، والقتات الذي يسمع إليهم وهم لا يعلمون فينقل خبرهم، أي: يتجسس عليهم ويسمع كلامهم وينقله ولا يكذب، ولا يزيد ولا ينقص، ينقل بدقة لكن لأجل الفساد، فهذا من المتجسسين وكلاهما لا يدخلان الجنة لأن الحديث جاء: (لا يدخل الجنة قتات) وكذلك: (لا يدخل الجنة نمام).
صدق الوشاية:(48/24)
أما السعاية فهي الوشاية: أن يشي بإنسان عند صاحب سلطان أو منصب لكي يوقع به، وهذه السعاية والوشاية هي شر الثلاثة؛ لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة، ولؤم النميمة، التغرير بالنفوس والأموال، ووردت أمثلة وقصص لهذا فمما ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس قال: استراح رجل إلى جليس له في السلطان، يعني: رجل تكلم مع رجل في المجلس فوقع في السلطان فاستراح ووثق بالذي أمامه فتكلم في السلطان -هذا الآخر كان غير ثقة ولا يحفظ الحديث- فذهب إلى السلطان وقال: فلان قال عنك كذا وكذا وكذا، فرفع ذلك عليه، فلما أوقف السلطان ذلك القائل فقال له: أنت الذي قلت عني كذا وكذا وكذا، فأنكر أن يكون أحد سمع ذلك منه، فقال السلطان: بل فلان سمع ذلك منك هل ترضى به؟ قال: نعم. على أساس أنه صديق وصاحب، فكشف الستر عن الرجل، وكان قد خبأه عنده فقال: بلى أنت قلت ذلك لي، فسكت المرفوع عليه ساعة ثم أنشأ يقول:
أنت امرؤ إما ائتمنتك خالياً ... فخنت وإما قلت قولاً بلا علم
فأنت من الأمر الذي قلت ... بيننا بمنزلة بين الخيانة والإثم
إما أنك خائن أو آثم. وسعي بأحدهم إلى سلطان وكان السلطان عاقلاً فقال للساعي والواشي: أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقول فيك؟ قال: لا. قال: فكف عن الشر يكف عنك الشر.
تصديق العرافين والكهان: ...(48/25)
ومن التصديق المحرم تصديق العرافين والكهان وهذا أعظم الأشياء وأخطرها؛ لأنه يتعلق بالتوحيد، وهو يقدح فيه قدحاً بليغاً، بل إن الذي يصدق العرافين والكهان يكون مشركاً بالله العظيم؛ لأنه يعتقد أن هناك من الناس من دون الله من يعلم الغيب، والله يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65] ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) فلو ذهب رجل إلى الكاهن وقال انظر لي فلانة هذه التي أنا مقدم على زواجي منها، اكشف لي المستقبل، اقرأ الكف والفنجان، اضرب بالودع، انظر لي هل هي خير أو شر في المستقبل، إلى غير ذلك، وذهب الكاهن وادعى النظر ثم قال له: إنها خير لك في المستقبل فصدق السائل الكاهن فإذا صدقه فقد كفر ولا شك في ذلك. وكثير من الناس يأتون إلى الكهان لهذه الأسباب فيكفرون، وإن قال أنا أذهب وأجرب، آخذ كلامه وأجرب، فنقول: مجرد ذهابك إليه حرام وإن فعلت فإنك لا تكفر لكن لا تقبل لك صلاة الأربعين يوماً، هذه هي العقوبة. الكهان قد يصدقون ويأتيهم خبر موثوق، ثقة ثقة فكيف ذلك؟ روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة : (سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيء قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثونا بالشيء أحياناً يكون حقاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة). ويوضح هذا حديث آخر في صحيح البخاري ، يقول أبو هريرة : (إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى الله الأمر في السماء) بأمر معين، بقبض روح فلان، بمرض فلان، بشفاء فلان، بولد فلان وولادة فلان ونحو ذلك: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان) مثل جر(48/26)
سلسلة على الصخر، فكذلك صوت أجنحة الملائكة الخاضعة لأوامر الله النازلة إليهم والتي لابد لهم من تنفيذها: (فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع) الجن يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء يسترقون السمع، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض، ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه بعضه فوق بعض: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها فأحرقه ) فأحرقه وما معه من الخبر، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيصل الخبر إلى الكاهن ويكون هذا فعلاً خبر ثقة صحيح مؤكد؛ لأنه مصدره من السماء عن طريق هؤلاء الجن المسترقين، لكن هذا الكاهن يعمل هذا الخبر الواحد الصحيح وسيلة لكي يدخل الناس في الشرك ويوقعهم في الكفر- فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء. أي: الكاهن يقول: سوف يحدث كذا يوم كذا، ويحدث كذا يوم كذا، وواحد من هذه الكذبات الكثيرة صدق، ومشكلة الناس أنهم لا يتذكرون إلا الصدق، وأما كذبات الكاهن الأخرى فلا يتذكرونها، يقولون: فعلاً فلان قال لنا يوم كذا سيحدث كذا وحدث فعلاً، هذا رجل مجرب فعلاً يعلم ما في الغيب فاذهبوا إليه. والله عز وجل قادر على أن يحرق الجن مسترقي السمع قبل أن يصلوا إلى السماء أصلاً، لكن الله عز وجل شاء أن يجعل هذا الحدث فتنة ليرى من يثبت على الدين والتوحيد ومن لا يثبت.
تصديق أمراء السوء:(48/27)
ومن التصديق المحرم: ما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة عن كعب بن عجرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليّ الحوض -إذاً تصديقه هذا حرام- ومن لم يغش أبوابهم ولم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض). والصدق -أيها الإخوة- نافع جداً في أشياء كثيرة: فهو ينفع الداعية إلى الله عز وجل؛ لأن الناس يتأثرون بالصادق ويرثر صدق الداعية في وجهه وصوته، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتحدث إلى أناس لا يعرفونه فيقولون: والله ما هو بوجه كذاب ولا صوت كذاب، ولا شك أن ظهور أثر الصدق في وجه الداعية وصوته يؤثر على المخاطب ويحمله على قبول القول واحترام ما يصدر من الداعية، إلا إذا كان أعمى القلب، ومهما يكن من أمر فإن الصدق ضروري لكل مسلم.
الحث على الاهتمام بتربية الأولاد على الصدق: ... ...(48/28)
وكذلك من الأمور المهمة في التربية: تربية الأولاد على الصدق، لابد أن يتربى المسلمون جميعاً على الصدق، لكن من الأشياء المهمة تربية الأولاد على الصدق، فالإسلام يوصي أن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، وقد ورد عن عبد الله بن عامر قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبت لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه ثمراً، قال: أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة). فهذه الحركة التي تفعلها بعض الأمهات تقبض يدها وتقول للولد: تعال أعطيك، لو كانت يدها فارغة فهي كاذبة، وتكتب عليها كذبة، وقد صحح هذا الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة بشواهده، ومن الشواهد التي ذكرها: (من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة). فانظر كيف يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآباء والأمهات أن ينشئوا أولادهم نشأة يقدسون فيها الصدق، ويتنزهون عن الكذب، ولو تجاوز الآباء والأمهات عن هذه الأمور وقالوا: هذه توافه وهينة؛ فإن الأطفال سيكبرون وهم يعتبرون الكذب هيناً وهو عند الله عظيم. أما الكذب فلا شك أنه جماع كل شر، وقبل أن ندخل في موضوع الكذب إذا كان الوقت سيسعفنا في ذلك، فإن هناك بعض الأمور السريعة عن الصدق وهي:
أمور عن الصدق:(48/29)
أولاً: من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه. ثانياً: من الأمور التي يكون فيها التصديق له أجر عظيم، تصديق المؤذن، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم، والمؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر من صلى معه). ثالثاً: وكذلك من الأمور المهمة: أن القاضي ينبغي أن يتحرى صدق أصحاب الأقوال، وأن المدعين لا يجوز لهم أن يكذبوا، وبعض المدعين قد يخدعون القاضي فيوهمونه بقول الصدق وهم يكذبون فلا يحسب هؤلاء أنهم قد نجوا أو غنموا شيئاً (فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مرة خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض -في الكلام بلاغة وفصاحة- فأحسب أنه صادق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها) رواه البخاري رحمه الله تعالى. وكذلك الطيرة من الشرك؛ لكن أصدق الطيرة الفأل كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق الطيرة الفأل) فالطيرة تشاؤم وهو حرام، أما التفاؤل فهو أصدقها وهو مباح وجائز، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك ينبغي أن يستعمل لمعرفة الصدق الأدلة وأقوال الثقات، فلو أخبر إنسان بشيء، فنأتي بالشهداء المعروفين بالصدق، فإن أقروا ما قاله قبل قوله، كما قال البخاري رحمه الله: باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض -أي: لو أن امرأة طلقها زوجها فعدتها ثلاث حيض، فلو حاضت في شهر ثلاث حيض تخرج من العدة، لكن ينبغي أن تثبت أنها حاضت في الشهر ثلاث حيض- ولذلك قال: ولا يصدق النساء في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض، لقوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [البقرة:228] ويذكر عن علي وشريح: أن امرأة جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرضى دينه أنها حاضت ثلاثاً في شهر(48/30)
فصُدقت، وقال عطاء : [أقراؤها ما كان] وبه قال إبراهيم . إذاً: بعض أهل العلم يأخذون بذلك لكن بشرط أن تثبت هذا ممن يعرف حقيقة أمرها من الثقات. مسألة: لو أنها أخذت دواءً لإنزال الحيض، ثم أخذت دواءً لرفعه، ثم أخذت دواءً لإنزاله، ثم أخذت دواءً لرفعه، ثم أخذت دواءً لإنزاله، ثم أخذت دواءً لرفعه، هل تخرج من العدة؟ لا. هذا تلاعب وتحايل واضح جداً. وكذلك فإن الإنسان المسلم إذا اشتبه عليه أمر أخيه المسلم، فإن جاءه عنه خبر؛ فإنه يحمل أمر أخيه على أحسنه، وإذا كان هذا الأخ معروفاً بالصدق قبلناه، والناس الذين وشوا به وتكلموا عنه إذا كانوا من المجهولين لا نقبل كلامهم. جاء أناس ادعوا على سعد بن أبي وقاص فقال عمر لسعد : لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة، قالوا: لا يحسن يصلي. قال سعد : [أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو أن أجتهد ما اقتديت به من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال عمر : [صدقت! ذلك ظني بك] هذا معروف بالصدق والمتهمون له مجهولون، أو معروفون بالفسق والكذب فلا يمكن أن نقبل قول الفاسق الفاجر في الثقة الصادق.
الصدق في البيع والشراء:(48/31)
وكذلك فإن من المجالات المهم فيها الصدق: البيع والشراء. وما أكثر الكذب -الآن- في البيع والشراء؛ فإن الصدق في البيع والشراء سبب للبركة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال حتى يتفرقا- فإن صدقا وبيَّنا -بين البائع السلعة هل فيها عيب أم لا؟- فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) والآن الناس يغشون في الحراج وفي أسواق السيارات وغيرها، ولذلك كثير منهم لا بركة في مكاسبهم، وخصوصاً الذين يشتغلون في معارض السيارات من هؤلاء الدلالين وغيرهم، يقولون: (سكر في مويه) (ملح في مويه) و(كومة حديد) وسيارة لا تفتح ولا تغلق، لا تمشي إلى الخلف ولا إلى الأمام، ثم يقولون: برئت الذمة، وهم يعلمون الخلل الذي فيه، فهذا حرام، ولو رضي المشتري فهو حرام. ونحن في هذا الزمان وهو آخر الزمان، أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن الكذب سيفشو فيه، والصدق سيقل، وأن الصادقين سيضطهدون، فقال في الحديث الصحيح: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) في أمر عامة الناس، وكل أهل البلد، يتكلم في أمرهم الرجل التافه، فما أشبه زماننا هذا بما أخبر به صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره. إذاً: هذا عصر يفشو فيه الكذب ويقل الصدق، ولذلك المؤمنون يتحرون الصدق ولا يدفعهم ألم الغربة إلى أن يكونوا مع الكذابين ولو كثر الكذب، ولقد أصبح الكذب -الآن- من أهون الأشياء عند الناس، تجد السنترال في الشركة أو الذي يرد على الهاتف في البيت يكذب، فلان موجود؟ لا. غير موجود، ويحلف على هذه الأشياء، فنسأل الله السلامة والعافية.
الكذب أضراره وعواقبه:(48/32)
والكذب -أيها الإخوة- جماع كل شر، وأصل كل ذم وما ذاك إلا لسوء عواقبه وخبث نتائجه
وما شيء إذا فكرت فيه ... بأذهب للمروءة والجمال
من الكذب الذي لا خير ... فيه وأبعد بالبهاء عن الرجال
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحارب الكذب محاربة شديدة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة.
عقوبة الكذب:
وعقوبة الكذاب شديدة بعد الموت كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا الصادقة التي رآها، وأخبر عنها لما سأل الملكين فقالا: (أما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم ينتقل إلى الجانب الآخر ويعملون به مثل ذلك، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) فهذه عقوبته. وقال في رواية أخرى: (رأيت الليلة رجلين أتياني قالا: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب بالكذبة تحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة) والشق عذاب الكذاب في البرزخ، لكن يوم الدين العذاب أشد وأنكى. قال الحسن البصري عن هذه النوعية: [خرج عندنا رجل في البصرة فقال: لأكذبن كذبة يتحدث بها الوليد ، قال الرجل: فما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها] هو الذي كذبها يقول: ما رجعت إلى منزلي حتى ظننت أنها حق لكثرة ما رأيت الناس يتحدثون بها. فهؤلاء الذين يروجون الإشاعات، ويختلقون الأخبار، ويستغلون الوسائل المختلفة لنشرها؛ فتعم المجتمع لأنها تسمع بجميع الوسائل المسموعة، لا شك أن عذابهم يوم البرزخ أليم، وعذابهم يوم القيامة أشد ألماً وأنكى وأخزى، ولا يقول الناس: هؤلاء أعداء الله ينشرون الأكاذيب ويخونون الأمين ويزعمون أن فلاناً صادق وهو خائن، ويروجون الإشاعات، ويغيرون الواقع، ويتهمون الأبرياء، والناس يروج عليهم هذا الكذب؛ لأنهم ليس عندهم هذه الوسائل التي أمامهم، نقول:(48/33)
رويداً.. سيأتي موعدهم عند الله، فإن الله عز وجل لا يضيع عنده حق وستكون عقوبة هؤلاء أليمة. الواحد قبل مجيء هذه الوسائل الحديثة التي تنشر الأخبار وتذيعها كان يكذب، وتنتشر الكذبة في الحي أو في البلد؛ لكن الآن عبر هذه الوسائل صار الكذب ينتشر في أقطار الأرض، فكيف يكون العذاب؟ أشد وأنكى.
حذر السلف من الكذب: ...
ولما علم الصالحون خطورة الكذب وأنه ثلث النفاق، وأنه يهدي إلى الفجور؛ خافوه على أنفسهم. عندما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر قال: [إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، وأخاف أن ألقى الله بثلث النفاق أشهدكم أني زوجته]. وكان الأئمة يستدلون بحركات الناس وأفعالهم وكلامهم على صدقهم، والبخاري لما خرج يطلب الحديث من رجل فرآه يشير إلى دابته برداء كأن فيه شعيراً وليس فيه شيء رجع وقال: لا آخذ الحديث عمن يكذب على البهائم. وقال الأحنف بن قيس : ما كذبت من يوم أسلمت إلا مرة واحدة. وكان السلف يدققون فيه جداً، لقي أحمد رحمه الله بعض أصحابه فقال: كيف حال أولادك؟ فقال الرجل: يقبلون يديك، قال الإمام أحمد: لا تكذب.
دواعي الكذب:(48/34)
والكذب له دواع كثيرة منها: أن يجلب لنفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه ضرراً، أو أن يقول: الناس لا يقبلون حديثي ويقبلون عليّ إلا إذا كذبت، ولأني لا أجد من الأخبار الصحيحة ما أطرفهم به ويستظرفون به حديثي، فيستحل الكذب ويأتي بعجائب وغرائب من أجل أن يضحك الناس ويجمعهم حوله. وقد يكون الكذب من أجل التشفي بالخصم فيكذب عليه لأجل تشويه سمعته مثلاً وهكذا. وهذا الكذب خلق ذميم من اعتاده صعب عليه جداً أن يتخلص منه، لأن العادة طبع ثانٍ، إنسان فيه طبع يولد من بطن أمه فيه، والعادة التي يتعود عليها الإنسان طبع ثانٍ ويصعب جداً تغيير الطباع. قال بعض السلف : من استحلى رضاع الكذب عسر عليه الفطام. وقال بعضهم لولده: يا بني! احذر الكذب فإنه شهي كلحم العصفور من أكل منه شيئاً لم يصبر عنه. وقال الأصمعي: قيل لكذاب: ما يحملك على الكذب؟ قال: أما إنك لو تغرغرت بمائه ما نسيت حلاوته. وقيل للكذاب هل صدقت قط؟ فقال: أخاف أن أقول لا فأصدق.
الكذب في المزاح:(48/35)
وبعض الناس يستسهلون الكذب في المزاح ويحسبون أنه مجال للهو، ويختلقون الأخبار من أجله، والإسلام أباح الترويح عن القلوب لكن ليس بالكذب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو مازحاً).. ( ويل لمن يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب ويل له ويل له ) والشاهد أن الناس يطلقون الأعنة لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك ولا يحسون حرجاً في إدارة الحديث المفترى المكذوب، ليتندر بالخصوم ويسخر منهم أو بخلق الله، وهذا اللهو بالكذب حرام ولا شك فيه، فقد يلجأ الإنسان للكذب للتملص من خطأ وقع فيه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من شر إلى شر أشد منه، فالواجب أن يعترف بخطئه فلعل صدقه ينجيه ويكون سبباً في مسح هفوته، ومما يروى عن الحجاج هذا الظالم الباغي الفاجر أنه كان إذا صدقه الخصم عفا عنه. ومن الأسباب التي تدفع إلى الكذب: الديون، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو في الصلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) هذا الحديث كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة: أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) وهذا حال المديونين من الناس، فإنهم يقولون: غداً سوف أعطيك، وهو كذاب ويعده إلى الوقت الفلاني وهو كذاب. وكذلك فإن من أعظم الكذب: الكذب على الله بتحليل ما حرمه أو بتحريم ما أحله، أو إسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لا يجب، أو كراهة ما أحبه واستحباب ما كرهه، هذه من أعظم الكذب، وكذلك الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) هذه خطورة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
علامات الكذب: ... ...(48/36)
وكذلك فإن للكذب علامات وأمارات كما قلنا في الصدق، فمن علامات الكذاب: أولاً: أنك إذا لقنته حديثاً تلقنه ولم يكن بينه وبين ما حكيته فرق عنده، وأخذ مباشرة أي شيء تقوله. ثانياً: أنك إذا شككته فيه تشكك حتى يكاد يرجع عنه. ثالثاً: إنك إذا رددت عليه قوله، حصر وارتبك ولم يكن عنده نصرة المحتجين، ولا برهان الصادقين، إذا رددت عليه أبلس، أما الصادق إذا رددت عليه قوله ثبت عليه. رابعاً: وكذلك ما يظهر عليه من الريبة والتخبط في الكلام؛ لأن هذا لا يمكن أن يدفعه عن نفسه، كما قالوا: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا. وقال الشاعر:
حسب الكذوب من البلية ... بعض ما يحكى عليه
فإذا سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه
من أضرار الكذب أن الكذاب ينسب إليه حتى الأشياء التي لم يكذب فيها، فيكذب على الكذاب، ولو تحرى الصدق يبقى متهماً، إذا عرف الكذاب بالكذب لم يكد يصدق في شيء وإن كان صادقاً، ومن آفة الكذاب نسيان كذبه؛ ولذلك فإن الكذاب يكون في منزلة وضيعة بين الناس.
مواطن جواز الكذب:(48/37)
وهل هناك أمور يجوز فيها الكذب؟ الجواب: نعم يجوز الكذب في الحرب، وإصلاح ذات البين، وبين الزوجين، والنبي عليه الصلاة والسلام قد استخدم التورية، ولذلك نقول: الكذب يجوز في حالات لكن اللجوء إلى التورية أحسن، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قد استخدم التورية فسئل عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل فظنوا أنه على هداية الطريق وهو على هداية سبيل الخير. ومن الأشياء التي يجوز الكذب فيها: بين الزوجين، ليس الكذاب الذي ينمي خيراً أو يقول خيراً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً، أو ليصلح ما بينه وبين زوجته لو كذب عليها فإنه لا يعتبر بذلك كاذباً ولكن الإنسان يستخدم المعاريض كما ذكرنا. كان إبراهيم إذا طلبه إنسان لا يحب لقاءه خرجت الجارية فقالت: اطلبوه في المسجد، وهذا من المعاريض. وقال إسحاق بن هانئ : كنا عند أحمد بن حنبل في منزله ومعه المروذي أحد طلبته ومهنا طالب آخر، فدق داق الباب فقال: المروذي هنا؟ فكأن المروذي كره أن يعلم موضعه، فوضع مهنا إصبعه في راحته وقال: ليس المروذي هاهنا، والطارق يسمع، وما يصنع المروذي هاهنا، فضحك أحمد ولم ينكر. أما أهل الكتاب فإنا لا نصدقهم ولا نكذبهم فإذا وافق ما ورد عنهم الكتاب والسنة أقررنا وإذا خالف الكتاب والسنة رفضناه، إذاً لا نوافق ولا نخالف ولا نصدق ولا نكذب، لأنه إما أن يكون حقاً فنكذب به أو باطلاً فنصدق به، فنكون قد وقعنا في محذور. ومن الكذب الذي يقع: ما أخبر به عليه الصلاة والسلام: (لا تجمعن جوعاً وكذباً) مخاطباً به بعض النساء، قدم لبن فأمر بتقديمه لبعض النساء فقلن لا نشتهي فقال: (لا تجمعن جوعاً وكذباً) وهذه حال كثير من الناس يأتيك في البيت تريد أن تضيفه فيقول: لا أشتهي ولا أريد, وهو يشتهي لكن يعتبر أنها من الحرج أو شيء من هذا القبيل فيكون قد وقع في الكذب، إما أن(48/38)
يقول لا أريد لكن يقول لا أشتهي وهو يشتهي فهذا من الكذب. هذه بعض الأمثلة التي تقع، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصادقين، وأن يباعد بيننا وبين الكذب، وأن يحفظ ألسنتنا وقلوبنا منه، إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(48/39)
( أين ذهبت الغيرة؟ )
عناصر الموضوع :
مفهوم الغيرة وأهميتها
الغيرة صفة من صفات الله
الغيرة قبل الإسلام وبعده
وقفة مع ما يسمى (جرائم الشرف)
أنواع الغيرة
أين ذهبت الغيرة؟
الديوث: هو الإنسان الذي انعدمت فيه الغيرة على أهله، وقد كان عند العرب غيرة شديدة على أعراضهم، وجاء الإسلام فنمى هذه الغيرة وضبطها بضوابط شرعية حتى لا تكون الأمور فوضى. وقد ضرب الشيخ أمثلة من غيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرة أصحابه رضوان الله عليهم مثل: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب. كما تعرض الشيخ لأولئك الذين يدسون السم في العسل، وهم العلمانيون الذي يشجبون ويكتبون في الصحف عن جرائم الشرف، وهي كلمات حق يراد بها باطل. وقد ذكر الشيخ أنواع الغيرة، ومنها: الغيرة على توحيد الله، والغيرة على حرمات الله ... وفي هذا ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
مفهوم الغيرة وأهميتها:(49/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الغيرة من الغرائز البشرية التي أودعها الله في الإنسان، وهي مشتقةٌ من تغير القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وهي الحمية وكره شركة الغير في حق الإنسان، وهذه الغيرة شرعت لحفظ الأنساب، وهي مقصد من مقاصد الشريعة، ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب؛ ولذا قيل: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها، وضعت الصيانة في نسائها. لقد اعتبر الشارع من قتل في سبيل الدفاع عن عرضه شهيداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون أهله فهو شهيد). ومن لا يغار على أهله ولا محارمه يسمى ديوثاً، والدياثة من الرذائل التي ورد فيها وعيد شديد، وهي من الكبائر عند العلماء، كما دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عزَّ وجلَّ إليهم يوم القيامة ... وذكر منهم: الديوث) وهو الذي يقر الخبث في أهله.
الغيرة صفة من صفات الله:(49/2)
والله عزَّ وجلَّ غيور، والله سبحانه وتعالى يغار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، ولما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: [لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غَير مُصْفِحٍ] فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتعجبون من غيرة سعد! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) متفق عليه. وفي الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه). وفي الصحيحين في خطبته صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف أنه قال: (يا أمة محمد! والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد! لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً. ثم رفع يديه، فقال: اللهم هل بلغت؟) وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقيب صلاة الكسوف سرٌ بديع لمن تأمله، فظهور الزنا من أمارات خراب العالم، وهو من أشراط الساعة كما أخبر عليه الصلاة والسلام بقوله في أشراطها: (ويظهر الزنا)، وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه، أنه عند ظهور الزنا يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه، فلا بد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبةً؛ كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما ظهر الربا والزنا في قريةٍ إلا أذن الله بهلاكها]. وغيرة الله صفة من صفاته سبحانه وتعالى، نثبتها له كما يليق بجلاله وعظمته، والمؤمن يستفيد من أسماء الرب وصفاته، ويتخلق بما يناسب ذلك منها في حق المخلوق وبما يليق، فإذا كان الله يغار والغيرة تناسب المخلوق؛ فإن المخلوق يغار أيضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمن يغار.
الغيرة قبل الإسلام وبعده:(49/3)
كان عند العرب غيرة شديدة على نسائهم، حتى كان لا يجرؤ أحدٌ أن يتزوج امرأة رئيس القبيلة بعد طلاقها أو بعد موته.. ونحو ذلك، وجاءت الشريعة فضبطت الغيرة، ولم تبقها فوضى يغار كل إنسان كما يشاء، وإنما جعلت الغيرة على الحرمات.. على المحارم وعلى كل محمود. وإذا تأملت كلام السلف في حفظ النساء، وجدته نابعاً من غيرتهم؛ قال عبد الله عن قرار النساء في البيوت: [فإن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وقال لها: إنك لا تمرين بأحدٍ إلا أُعجب بك] وفي كلام بعض السلف الاستعانة على حفظ النساء في البيوت، وعدم الإكثار من ثيابهن وزينتهن؛ لأنها إذا كثرت ثيابها وحسنت زينتها أعجبها الخروج. وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: [كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها].
غيرة رسول الله على أهله:(49/4)
ما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى في بعض غير أولي الإربة وصفاً للنساء منعهم من الدخول، كما جاء ذلك في أقوال المفسرين في قوله تعالى: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ [النور:31] وهم الذين ليس لهم شأن في النساء، إما لعدم وجود آلة كالمجبوب، وإما لأن الآلة لا أثر لها كالعنين، وكذلك المخنث الذي ليس بذكر خالصٍ، ولا أنثى خالصة، قد لا يكون له ميلٌ إلى النساء، وكان هناك واحدٌ من هؤلاء يدخل على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ذات مرةٍ لأخي أم سلمة : يا عبد الله ! إن فتح الله عليكم الطائف غداً، فإني أدلك على بادنة بنت غيلان فإنها تقبل بأربعٍ وتدبر بثمان، مع ثغر كأنه كالأقحوان، إن جلست تبنت، وإن قامت تفنت، وإن تكلمت تغنت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أرى هذا يعرف ما هاهنا، لا يدخل عليكن) فحجبه صلى الله عليه وسلم، مع أنه ليس من أولي الإربة، ولكن لأنه يصف النساء، فغار على زوجاته، وخشي أن يصفهن في المجالس فحجبه، مع أن الأصل حسب الآية عدم الوجوب، ولكن الغيرة الشرعية حملت النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
عمر بن الخطاب وغيرته:(49/5)
إن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يغار غيرة عظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنه رأى له قصراً في الجنة، وعنده جاريةٌ له، فلم يدخله مما عرف من غيرته، هذا الأمير للمؤمنين، وهذا الصاحب العظيم، غار من أجل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول آية الحجاب، وكان يريد أن تنزل بأي طريقة، وقال لعائشة : [لو أُطاعُ فيكن ما رأتكن عين] فنزل الحجاب. وكذلك كانت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن بالليل إلى المناصع يتبرزن فيه وهو صعيد أفيح، فكان عمر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: [احجب نساءك] فلم يكن يفعل؛ لأن الوجوب لم ينزل بذلك، فخرجت سودة ليلةً من الليالي، وكانت امرأة طويلةً رضي الله عنها وهي أم المؤمنين، فناداها عمر: قد عرفناك يا سودة . حرصاً على أن ينزل الحجاب، قالت عائشة: [فأنزل الحجاب]. وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: [إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر -الضيوف عندك كثر.. الأعراب وزعماء القبائل والناس يأتون إليك يا رسول الله- فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب]. أيها الإخوة: إن غيرة عمر رضي الله تعالى عنه لو رأى بها ما أحدث الناس في هذا الزمان لكان له شأن آخر.
غيرة علي بن أبي طالب وغيره من السلف:(49/6)
وعن علي رضي الله عنه قال: [بلغني أن نساءكم ليزاحمن العلوج في الأسواق، أما تغارون؟! إنه لا خير فيمن لا يغار]. وقال محمد بن علي بن الحسين : [وما من امرئ لا يغار إلا منكوس القلب]. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: فيمن طلع إلى بيته فوجد عند امرأته رجلاً أجنبياً، فوفاها حقها وطلقها، ثم رجع وصالحها، وسمع أنها وجدت بجنب أجنبي مرةً أخرى؟ فأجاب رحمه الله: في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الجنة قال: وعزتي وجلالي لا يدخلكِ بخيل ولا كذابٌ ولا ديوث) والديوث: الذي لا غيرة له، وفي الصحيح، وذكر حديث: (إن المؤمن يغار وإن الله يغار) وقد قال تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ... الآية))[النور:3] ولهذا كان الصحيح من قولي العلماء: أن الزانية لا يجوز تزوجها إلا بعد التوبة، وكذلك إذا كانت المرأة تزني لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال؛ بل يفارقها وإلا كان ديوثاً. وقد ذكر العلماء في اشتراط المحرم للمرأة في سفر الحج والعمرة -فما بالك بالأسفار الأخرى- أنه إذا كان المحرم قليل الحمية لا يغار عليها، فإنه لا يكتفى به في السفر، وأما إذا كان يغار ولو كان فاسقاً في نفسه جاز أن يكون محرماً؛ لأن بعض الناس قد يكون فاسقاً لكن له غيرة على محارمه لا يرضى لهن مواضع الريبة، والنساء من طبعهن التبرج والتبهرج، والتبهرج: هو لبس أفخر الثياب والتجمل والتحسن عند إرادة الخروج، وهذه لو سلمت لم يسلم الناس منها، ولذلك كان لا بد للأزواج وللآباء وللإخوان -بل حتى للأولاد- أن يغاروا على نسائهم.. من زوجاتٍ وبناتٍ وأخواتٍ وأمهات، وأن تفهم المرأة أنها ما التمست وجه الله بمثل أن تقعد في بيتها، وتعبد ربها، وتطيع بعلها. وقال علي رضي الله تعالى عنه لزوجته فاطمة : [ما خيرٌ للمرأة؟ قالت: ألاَّ ترى الرجال ولا يروها]، وكان علي رضي الله عنه يقول: [ألا تستحون؟! ألا تغارون؟!(49/7)
يترك أحدكم امرأته تخرج بين الرجال تنظر إليهم وينظرون إليها] ولذلك كان ينبغي على المرأة أن تغض طرفها حتى هي عن الرجال؛ اتقاء الفتنة، وإذا اضطرت للخروج لزيارة والدٍ أو غيره خرجت بإذن زوجها غير متبهرجةٍ، وتغض طرفها في مشيتها، ولا تنظر يميناً ولا شمالاً، كما ذكر العلماء في آداب خروج المرأة من بيتها. عباد الله: إن الزوج الشهم العظيم الحسن الخلق الذي يخاف الله تعالى ويغار على زوجته أن يرى أجنبيٌ شيئاً من جسدها، إنه لا يخرج بها كاشفةً وجهها ولا مقدم شعرها، لا في سيارةٍ ينظر إليها الغادي والرائح عند إشارات المرور، ولا في الأسواق يمشي بجانبها قد أشهد العالمين على دياثته في رضاه بتبرجها، وإنه يغار عليها أن ينفرد بها أجنبيٌ في سيارةٍ أو غيرها، ويغار عليها أن يسترسل معها أجنبيٌ بحديث في محلٍ أو غيره، ويغار عليها أن تختلط بالرجال في أماكن العمل.. وهكذا تحفظ المرأة إذا كان الرجل صاحب غيرة. أما إذا لم يكن فالشكوى لله، ولا شك أن من أسباب الفساد في هذا الزمان: فسق النساء، ودياثة الرجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وقفة مع ما يسمى (جرائم الشرف):(49/8)
أيها المسلمون: إن الغيرة المحمودة على الحرمات، والتي تكون في مواضع الريبة، فعند ذلك يغار الرجل، وليس الموسوس الذي يغار دون سبب، ويضيق على زوجته العفيفة، ويتهمها في شرفها وهي بريئة، ويظن أن كل أحدٍ ينظر إليها ولو لم يتقصد .. ليس هذا هو المطلوب، وإنما المطلوب الغيرة الواقفة عند حدود الشريعة، والغيرة على حرمات الله. وإذا قال قائل: ما هو الرأي فيما يسمى بـ(جرائم الشرف) التي تتحدث عنها بعض الصحف، ويثيرون هذه القضية فيمن يقتل ابنته أو أخته أو زوجته إذا رآها مع رجل؟ فالجواب: أن حدود الله معلومة معروفة، ولا يجوز لإنسان إذا رأى ابنته أو أخته أن يقتلها في مثل هذه الحال إذا لم يكن الحد الشرعي هو القتل، كأن تكون غير متزوجة، فإن الشارع لم يقل بقتلها حتى لو زنت، وكذلك فإنها تعطى الفرصة لتتوب، وقتلها يفوت الفرصة، ثم هو اعتداء، ثم إن إقامة الحدود مناطة بالحاكم الشرعي وحكم القاضي العدل وليس إلى أهواء الناس. ولكنني أنبه -أيها الأخوة- إلى أن بعض هؤلاء الكتاب الذين يتناولون قضية (جرائم الشرف) ويهولون في الأمر ويعظمونه، لا يريدون من وراء ذلك إظهار حكم الشريعة، ولا أن ينهوا عن الاعتداء الذي حرمه الله كما تبين لكم، وإنما يريدون انهيار الحدود، وتدمير الأخلاق، وشيوع الفاحشة؛ فينتهزون فرصة تعدي بعض الناس فيما يسمى بـ(جرائم الشرف) ليصلوا من وراء ذلك إلى ترك الأخوات والبنات في غاية الحرية يفعلن ما يشأن. إذاً: يريدون من وراء تناول قضايا (جرائم الشرف) -من منظورهم- إعطاء البنت والأخت الحرية لتفعل ما تشاء ولو بالحرام، ويدسون في كلامهم من أجل الوصول إلى هذه الغاية الخبيثة، والمسلم نبيه فطن لا تروج عليه مثل هذه الكتابات الفاسدة. نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يغار على حرماته. اللهم إنا نسألك الغيرة الشرعية، وأن تجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنك سميع مجيب قريب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم،(49/9)
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أنواع الغيرة:
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه والآل.. صلى الله عليه بما علمنا وهدانا وأرشدنا، وهو البشير النذير والسراج المنير. عباد الله: إن الغيرة أنواع، وإنها بحسب ما يغار عليه في الأحكام، وإن الغيرة على شريعة الله ودينه عبادة واجبة يتقرب بها إلى الله، وقد ضيعها اليوم كثيرٌ من المسلمين، فترى دين الله ينتهك في المجالس، وآياته يكفر بها ويستهزأ بها، ولا تجد في المجلس من يغار لله فيرد ويدافع عن شريعته، ويغضب لله عزَّ وجلَّ فيقوم بالواجب في إنكار المنكر.
الغيرة على التوحيد:(49/10)
إن على رأس الغيرة على الشريعة: الغيرة على التوحيد، وهذا مثالٌ من كلام واحد من العلماء يبين ذلك: قال العلامة الشوكاني رحمه الله في شرح حديث سفيان التمار : (أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً) رواه البخاري . قال: كم قد سرى في تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرةٌ على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة: إنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفضيع، لا تجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف؛ لا عالماً ولا متعلماً ولا أميراً ولا وزيراً، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء المقبورين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجراً، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة!! فيا علماء الدين! أي رزءٍ للإسلام أشد من الكفر؟! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟! وأي مصيبةٍ يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأي منكرٍ يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً؟!
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ... ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ... ... ولكن أنت تنفخ في رماد
هذا كلامه -رحمه الله- عن بعض ما شاهده في بلاد اليمن التي كان فيها، وهو من علماء القرون المتأخرة رحمه الله.
الغيرة على محارم الله:(49/11)
كذلك فإن من الغيرة الشرعية: الغيرة إذا هتكت حرمات الله تعالى، إذا انتهكت الحرمات أياً كانت، وليست فقط الزنا ولا الخنا، أي حرمة من الحرمات يجب أن يغار عليها إذا انتهكت، والمؤمنون مأمورون بإنكار المنكر، فما هو الدافع لتطبيق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ...)إن الدافع هو الغيرة يا عباد الله. إن الغيرة هي التي تدفع لإنكار المنكر، وقالت عائشة رضي الله عنها: [ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها] غيرة لله، وغيرة على دينه.
أنواع متفرقة من الغيرة:(49/12)
كذلك فإن من الغيرة المحمودة أن يغار العبد على المحبة، فلا يصرفها إلا لله، ويغار أن يصرفها لغيره. وإن من الغيرة أن يغار في الإخلاص؛ فيغار العبد أن يكون لغير الله في عمله نصيب، ولا يرضى أن يشوب عمله رياء ولا إعجاب ولا استشراف لمدح الخلق وثنائهم غيرةً على عمله أن يفسد ويحبط. وكذلك فإن المسلم يغار على أوقاته أن تذهب سدى في غير رضا محبوبه وهو الله عزَّ وجلَّ. والغيرة على حقوق الآدميين مطلوبة.. الحقوق التي أقرها الشرع وجاء باحترامها وصيانتها، ومنها: أموال المسلمين وأعراضهم، فلو رأيت مالاً لمسلمٍ ينتهك، ورأيت عرضه ينتهك؛ فعليك بالغيرة عليه والدفاع عنه؛ تغار لأن حرمات المسلمين قد انتهكت، وحرمات المسلمين في المسجد الأقصى منتهكة، فأين غيرة المسلمين لله ضد هؤلاء اليهود الخونة الآثمين الفجرة العابثين في مقدساتنا؟! عباد الله: إن غيرة الزوجة من الأمور الفطرية الموجودة عندها في غريزتها، ولذلك كان لابد للزوج أن يتحمل غيرة زوجته التي قد تطغى فتتجاوز الحد، وأن يعذرها لأجل ما ركب فيها من هذا الطبع، وقد تحمل النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة نسائه ما تحمل. نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعلنا بدينه مستمسكين، وأن يجعلنا ممن يغار على حرماته إنه سميعٌ مجيب. اللهم إنا نسألك أن تصلح شأننا، وترفع قدرنا، وتستر عيوبنا، وتحسن أخلاقنا يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(49/13)
خطبة من هم أصدقاء ولدك ؟
12 / 8 / 1426هـ
للشيخ محمد صالح المنجد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }، {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}، { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما}، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.(50/1)
عباد الله، لقد ابتدأ هذا العام الدراسي ورجع الطلاب أبنائنا وبناتنا إلى مقاعد الدراسة، وهكذا رجع الموظفون من إجازاتهم وتوظف عدد ممن لم يكن صاحب وظيفة فيما مضى فصار في وسط جديد، وأنتقل آخرون من مكان إلى آخر ليبدأ أيضا مشوارا جديدان وفي هذه الأماكن في المكاتب والمباني الدراسية تنشأ علاقات، وتتكون صداقات، وهؤلاء الذين ينضمون أيضا إلى الشركات والمؤسسات يدخلون في أوساط وبيئات وعوالم جديدة، والعلاقات من طبيعة البشر وقد خلق الله الإنسان مدنيا بطبعه يألف ويؤلف، لكن هذه العلاقات قضية خطيرة جدا لها شأن عظيم وعليها مدار صلاح وفساد، ويقلق المخلص الذي يفكر جيدا في مصلحة أولاده وإخوانه من يصادقون؟ مع من يقيمون العلاقات؟ من هم الزملاء هؤلاء؟ من الذي يجلس بجانبه؟ من الذي يحبه ويألفه؟ من الذي يآخيه ويمشي معه؟ لأن نشوء العلاقة يترتب عليها تأثر الطرفين ببعضهم البعض وعندما نرى كثيرا من المآسي في الواقع سواء كان الأمر في ترك واجبات أو وقوع في محرمات كالمخدرات وغيرها واقتباس أخلاق سيئة تجد أن من وراء ذلك هذه المخالطة والمعاشرة، وهذه العلاقات التي نشأت شخص بريء وخامة لم يكن له أي تفتح على أنواع الشر وإذا به يتوجه إليه ويغوص فيه، من هو السبب؟ لقد عاشر فلانا وفلانا الشلة هؤلاء الذين أحاطوا به فلان صاحبه الذي سحبه والصاحب ساحب ومن جالس جانس وصار من جنس صاحبه، ويقول هذا الأب لقد نشأت ولدي على معاني فاضلة إنه لا يعرف عندي هذه الأنواع من الفسوق والعصيان، فلما ذهب إلى هؤلاء لما أرتبط بهؤلاء لما صار يزور هؤلاء لما مشى مع هؤلاء لقد تغير علينا بالكلية، صار بعد البر عاقا وبعد الطاعة عاصيا وبعد حسن الخلق سيء الطبع فاحش اللسان.(50/2)
عباد الله، هذه المسألة التي أودت بكثيرين إلى عالم الفواحش أيضا وإقامة العلاقات المحرمة ما نشأت ولا حدثت إلا بسبب هذه العلاقات، ونحن يجب أن نؤسس في نفوس أبنائنا وبناتنا معنى العلاقة وكيف يختار صاحبه، وكيف تأسس هذه العلاقة، على أي شيء، فمما نقول في هذا المجال أولا إن المسألة مسألة دين وإيمان وليست قضية إلف وصحبة، وأن الشخص لا بد أن يكون له أصحاب فهو لذلك صار مع هؤلاء وهذا هو الموجود ونحو ذلك، كلا،، المسألة أصلا مسألة دين وإيمان ألم ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم؟ أخبر أنه لا يجد عبد حلاوة الإيمان إلا إذا أحب في الله وأبغض في الله، وكذلك فإن القضية أيضا قضية نجاة يوم القيامة.
على هذه المسألة تنعقد مصائر يوم الدين قال تعالى: { وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين }، وكذلك فإن كل العلاقات والصداقات هذه والزمالات ستنقلب عداوات يوم القيامة إلا نوعا واحدا قال عزوجل : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو }، الأخلاء هؤلاء الذين يحب الواحد منهم حب جما حتى تخلل حبه شغاف قلبه الأخلاء ، { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو} تنقلب الصداقات والعلاقات والزمالات إلى عداوات يوم القيامة {إلا المتقين}،
فإذا التقوى هي أساس بناء العلاقة لينجوا في ذلك اليوم لا بد أن يفهم الأولاد هذا جيدا ثم يقول تعالى: { وإذا النفوس زوجت } يعني أقترن كل إنسان بمن شاكلة، وقال تعالى:{ أحشر الذين ظلموا وأزواجهم}، ما معنى قوله تعالى أزواجهم؟ قال المفسرون: أشباههم ونظرائهم.(50/3)
فهكذا يحشر المصلي مع المصلين، والصائم مع الصائمين، والذاكر مع الذاكرين، والمستغفر مع المستغفرين، والعفيف مع أهل العفاف، ويحشر كذلك المرابي مع المرابين، والسارق مع السراق، وصاحب الفحش مع أهل الفحش وأرباب الخنا والفجور، والزناة مع الزناة، وأهل الفاحشة مع أهل الفاحشة، وهكذا عباد الأصنام مع عباد الأصنام، ويزوج كل واحد بمن شاكلة. يعني يكون معه ويكون في فريقه ومجموعته، لأن الناس ينقسمون إلى مجموعات يوم الدين {أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم} يعني: نظرائهم وأشباههم ومن هو على شاكلتهم، ولا بد أن يعلموا جيدا أن هنالك تبرءات يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة ويتبرأ بعضهم من بعض، { وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكون من الأسفلين}، هكذا كما قال سبحانه وتعالى: { قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أأنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظما أأنا لمدينون }، هكذا كان يقول له قرينه أتصدق بالبعث؟ هذا كلام غير معقول ولا مقبول، وإذا نجا الله القرين من قرينه الفاسد نجا مما يزين له ويسول له فهذه النجاة العظيمة يوم الدين، ولذلك قال في الآيات: { قال هل أنتم مطلعون فأطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كت لتردين ولولا نعمت ربي لكنت من المحضرين }، أنت صاحبي الفاسد أنت صاحبي الذي كنت تلقي الشبهات علي كنا في ضلال فهداني الله وبقيت على ضلالتك، أدعوك إلى الهداية وأنت تجادلني وتقول: لا بعث ولا حياة بعد الموت، { أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين }، فلما نجا من صاحبه فهدى الله هذا وبقي الآخر على كفره كانت النهاية السعيدة للمهتدي والعقوبة الشنيعة لذلك الضال، وذهب المهتدي بالجنة { إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون}، يوم القيامة، { واتخذوا من دون الله آلهة ليكون لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا }.(50/4)
وينبغي أيضا أن يعلم أبنائنا وبناتنا، أن الدين هو أساس لإقامة العلاقات المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالط رواه أبو داود وهو حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وضرب لنا الأمثلة عليه الصلاة والسلام " في الجليس الصالح كحامل المسك والجليس السوء كنافخ الكير" لا بد أن يتعدى الأثر إلى صاحبه لا تصدق أحد يقول لك: أصادق فلانا ولا أتأثر به أبدا، لا يمكن.
قال أحد الصالحين يا بني: لا تصاحب ثلاثة، قال: من هم يا أبتاه؟ قال: لا تصاحب الفاجر لأن الفاجر ملعون في السماء معلون في الأرض فكيف تصاحب الملعون؟، ولا تصاحب عاق الوالدين لأن عقوق الوالدين يدخل معه قبره، ولا تصاحب الكذاب لأن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد عليك القريب، إذا نبحث عن صاحب التقوى ومن يخاف الله.(50/5)
عباد الله، إن تفحص علاقة الأبناء والبنات ومن الواجبات على الآباء والأمهات، إن تشجيع العلاقات الطيبة والتحفيز عليها وتهيئة الأجواء لها والدلالة عليها ولو من طرف خفي حتى لا يشعر الولد أنه مساق وأنه يسير وأنه غير مختار ونحو ذلك مما ينفخ الشيطان في نفسه أنت صاحب القرار، ولا تجعل لوالدك عليك سبيلا، ولا تمكنه من الاختيار، وأنت تختار وبعض هؤلاء الأولاد يكون غضا لم يعرف الشر بعد، لم يدخل في معترك هذه الحياة، وما فيها الآن. نحن في عالم المفاجآت تظن فلانا من الطيبين تظن فلانا مستور الحال فتفاجأ أن من وراء ذلك أنواع من الشرور لم تكن تحتسب لها، ولذلك لا يكتشف كثير من الأحيان الصديق ماذا وراء صديقه، عالم المفاجآت وهكذا يحسن بعضهم أن يسوق الغر ليس صاحب الخبرة يسوقه إلى الشر رويدا رويدا شياطين الإنس إنهم الذين يستدرجون هؤلاء الغافلين المساكين إلى سبل الشر، عندما تأسس العلاقة في نفوس أولادنا على ذوق حلاوة الإيمان من خلال إقامة العلاقات،" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، قال: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله" إذا نعلمه أنك تحبه لا لشكله ولا لنسبه ولا لماله ولا لأن معه سيارة، أنت تحبه لسبب واحد أنه يحب الله ورسوله أنه صاحب دين أنه من المتقين، ثم إن الإنسان إذا أبتغى الأتقياء أنتفع هم المرء لا يشقى بهم جليسهم فيهم فلان ليس منهم لكن،،،
أحب الصالحين ولست منهم ... ... لعل أن أنال بهم شفاعة(50/6)
لأن الصالحين يوم الدين حتى لو دخل من كان معهم النار يناشدون الله مناشدة عظيمة يقولون: ربنا هؤلاء إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصمون معنا، يحجون معنا، فلا يزالون يلحون على الله حتى يأذن لهم بإخراج هؤلاء الذين كانوا معهم في الدنيا ولو جزئيا يخرجونهم من النار فتنفعهم شفاعة الشافعين بخلاف من لا تنفعهم شفاعة الشافعين فإذا إذا نال الإنسان شفاعة هؤلاء يوم الدين بالمخالطة بالصحبة بالمحبة لا شك أنه يكون قد فاز فوزا عظيما.(50/7)
عباد الله، نحن في عالم عجيب يدخل هؤلاء إلى المدارس والكليات يتغربون عن أهليهم ويسافرون تنشأ أشياء لم تكن بالحسبان، إنه يذهب إلى عالم المجهول ويكون قلب الأب وقلب الأم من وراء ذلك في قلق عظيم، مع من يمشي يا ترى؟ مع من يسكن يا ترى؟ مع من يذهب يا ترى؟ من هو صاحبه؟ من هو جليسه؟ ماذا يفعلون الآن؟ في أي شيء يشتركون؟ وخصوصا عندما تأتي الأخبار في عالم الفضائح اليوم بالأشياء العظيمة بالعظائم الوبيلة، وعندما يفاجئ الأب بتغيرات في ولده دخول في عالم من الجرائم والعصابات من السرقات من المخدرات. ومن السبب؟ يفحص القضية فإذا وراء ذلك فلان وفلان لقد ماشى هؤلاء فسرى إليه العطب وأنت ترى التفاحة الواحدة إذا فسدت في الصندوق أفسدت الصندوق كله، إنه مرض معد أيها المسلمون وقد يقول القائل: هناك علاقات تكونت ويصعب الآن التفريق بين هؤلاء ومهما استخدمنا من المواعظ سيقول كان معي من المرحلة الابتدائية تغير هذا بعد حين ويريد أن يسحب صاحبه إلى هذا التغير، المدرسون المربون أولياء الأمور يجب قيام الجميع بالواجب ومن الأمور المهمة في هذا دفع الجميع إلى المشاركة في الطاعات ما دامت العلاقات تكونت فليوجه هؤلاء إلى الاشتراك في طاعة الله سبحانه وتعالى، كان بين عمر رضي الله عنه وأنصاري في بني أمية بن زيد أخوة في الله أثمرت تناوب بين الجمع بين مصالح الدنيا والدين، فهذا يمكث في الزرع والآخر ينزل إلى المسجد وفي اليوم التالي بالعكس. لقد تعاقد أحمد بن حنبل ويحيى بن معين على طلب العلم فرحل في سماع الحديث ولما قدم سليمان الشاذكوني بغداد قال له أحمد أذهب بنا قال أحمد لعمر الناقض أذهب بنا إلى سليمان نتعلم منه النقدة أي: في الجرح والتعديل، وكان علقمة والأسود يبلغهما الحديث عن عمر فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى المدينة ليسمعا منه الحديث، وأيضا كان التعاون على القيام لصلاة الفجر وأداء العبادات، كان التعاون على حفظ القرآن فهذا يحفظ(50/8)
وهذا يحفظ ثم يسرد الأول ثمنا ويسمع له الآخر ثم يعكسان القضية فهذا يسرد والآخر يضبط له هذا يحفظ والثاني يستمع لمحفوظاته، كانت المراسلات العلمية المراسلات الطيبة بين أهل العلم لها فوائد عظيمة لقد أثمرت العلاقات بين محمد البشير الإبراهيمي وعبد الحميد بن باديس إصلاحات عظيمة في المغرب العربي، لقد كان بين ابن عتيق وصديق حسن خان من المناصحات والمراسلات ما أثمر مؤلفات، لقد كان المسلمون يتعاونون في طاعات كثيرة حتى في شدائد العيش وكان بعضهم إذا أرملوا جمعوا ما عندهم جميعا القليل والكثير ثم قسموه بينهم بالتساوي، قال الحسن: كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين أخيه، قال مساور: ما كنت أقول لرجل إني أحبك في الله فأمنعه شيئا من الدنيا. وكان من السلف من لا يصحب من يقول: نعلي ثوبي وإنما يقول: هات النعل هات الثوب حتى لا ينسبه إلى نفسه لأن له شركاء في ذلك وأخوة يرى أن حقهم فيه ليس بأقل من حقه فيه مع أنه ثوبه ونعله، وكذلك كانت المشاركة في المشروعات الخيرية في التعاون على البر والتقوى كما أمر الله سبحانه وتعالى، وكان من السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته بسنوات طويلة وكان كالأب لهم، كان على مسروق دين وعلى خيثمة دين فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم.(50/9)
أيها المسلمون، يا عباد الله، عندما يكون الاجتماع على الطاعات عندما يكون الاجتماع على كتاب الله على العلم على الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على إطعام الطعام على بذل المعروف على إعانة المحتاجين توجه العلاقة يملئ الفراغ ونعلمهم فيما نعلمهم آدابا الأخوة لا جدل لا مخاصمات، قال ابن عباس: ثلاثة لا أكافئهم، رجل يبدأني بالسلام ورجل وسع لي في المجلس ورجل أغبرت قدماه في المشي إلي يريد السلام علي أما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله، قيل: من هو؟ قال رجل نزل به أمر فبات ليلته يفكر بمن ينزله نزلت به ضائقة فبات يفكر بمن يخبر ثم رآني أهلا لحاجته فأنزلها بي فهو ينظر إلى باب الأجر الذي فتحه له ذاك. واليوم يتبرأ الكثيرون من الكثيرين .
اللهم أجعلنا من أهل الطاعة والدين، اللهم أرزقنا حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إليك، اللهم أرزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الحمد لله سبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله أشهد ألا إله إلا الله الحليم الكريم أشهد ألا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم، وأشهد أن محمدا رسول الله صاحب لواء الحمد يوم الدين، الشافع المشفع صاحب المقام المحمود، هو الحاشر الذي يحشر الناس بعده، والعاقب فلا نبي بعده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين وزوجاته وخلفائه الميامين، اللهم صلى وسلم وزد وبارك على حبيبنا وإمامنا محمد بن عبد الله صلاة وسلام تامين وعلى من نهج نهجه وأقتفى أثره وأتبع سنته إلى يوم الدين.(50/10)
عباد الله، إن جمع هؤلاء الأصحاب على الطاعات من أحسن ما عمل فيه المربون وقام به المعلمون، وأنجزه الآباء والأمهات وحقيقة إن الاشتراك في الطاعات، هو الذي يملئ الأوقات بدل من أن تتسلل المعاصي إلى هؤلاء ولتكن المسألة حبا في الله ليست تعلقا ولا عشقا كما تتحول إليه كثير من العلاقات عندما تغيب قضية إقامة العلاقة لوجه الله وعلى أساس من تقوى من الله ورضوان، رؤيا غني وفقير قد تصاحبا مدة طويلة فسأل أحد الناس عن ذلك، فقيل: كلاهما يحتاج إلى الآخر، هذا يحتاج إليه في ضيق الحال وذاك يحتاج إليه ليكون باب الأجر فلعله يدخل بذلك الجنة.(50/11)
أيها المسلمون، إن الأخوة في الله من أسباب الثبات في عالم التغيرات اليوم، هذا عالم الفتن عالم الانفتاح على الشر عولمة تعولم الشر وتنشره فيكف الثبات أمامها لا بد أن تكون العلاقات هذه التي تؤسس على الدين هي الجدار الواقي أمام التسلل الذي يحصل في هذا الزمن، إن أثر رسالة الجوال التثبيتية الإيمانية الوعظية العلمية التي فيها نصيحة وتسديد وتنبيه بين الأخوة لها أثر عظيم وإن هذا التلاقي على البعد، بما يكون من وسائل الاتصال عبر الشبكة للدلالة على الخير إرسال فتوى إرسال نصيحة بالبريد الإلكتروني ونحو ذلك إن لها أثار طيبة، لقد تكونت مجموعات كثيرة في هذه الشبكة تكونت مجموعات في الشر مجموعات في مراسلة الصور العارية ومقاطع الأفلام الخبيثة تكونت مجموعات على ألعاب ومضيعات للأوقات تكونت مجموعات عبر الشبكة للهوايات الفارغة، وتكونت في المقابل مجموعات أيضا عبر الشبكة لنصرة الله ورسوله وعن هذا نتحدث ولهذا نقصد وإذا كان اتجاه الأبناء اليوم والبنات إلى هذه التقنيات الحديثة إذا فالتوجه هذه العلاقات عبر هذه الشبكة لنصرة الله ورسوله كم سيكون من الأجر العظيم عندما يشارك هؤلاء في نشر دين الله والدعوة إلى الله والبحث عن الحجج في مقارعة أعداء الله إن عالم الانفتاح اليوم لا يترك شبهة ولا شهوة إلا غزانا بها، فما هو الصد والرد؟ لا يكون إلا بجدار الأخوة هذا إذا كانت الشرعية قد صانت العلاقات الأخوية عن كل ما يفسدها حتى هذه النجوة لا يتناجى اثنان دون الثالث من أجل أن ذلك يحزنه فما بالك بما هو أشد من النجوة مما يعكر صفوا العلاقات، إن الوفاء قليل في هذه الأيام ولكن إذا نماه المسلم نمى وعندما ينصر أخاه ظالما أو مظلوما كما جاء في الحديث ولا يهجره فوق ثلاث يقع ما يقع من أنواع التغير بسبب تصرفات وكلمات ومن الذي لا يخطئ ومن الذي لا يزل ومن الناس من يغفر ومنهم من لا يغفر وينبغي على المسلم أن ينظر في صفات ربه وأسمائه(50/12)
فمن أسماء الله الغفور والتواب، فإذا كان ربك كذلك فلماذا لا تعفوا وتصفح؟ لقد كان البائع الذي يؤاخي صاحبه في دكانه المجاور إذا جاء من أشترى منه في الصباح ثم جاءه زبون آخر يقول: أذهب إلى جاري فأنا قد استفتحت، استفتحت بزبون وجاري لم يستفتح فيحول الزبون على جاره.
لقد كانت أخلاق الأخوة حتى بين الباعة من العجب وينبغي إحياء هذه الروح، إن تعاونا على ترتيب أمور الإفطار في المساجد ورمضان قادم نسأل الله أن يبلغناه وإقامة حلقات العلم الشرعي ودروسه ومحاضراته في المساجد وتحفيظ القرآن الكريم، إن التعاقد على النصح لهؤلاء الذين يضيعون أوقاتهم في المقاهي والقنوات والمواقع وغيرها إن التواصي عبر الرسائل بأنواعها المختلفة والاجتماع قربا وبعدا ويحصل الاجتماع اليوم بالوسائل الحديثة والإلكترونية التي تقربهم إلى بعضهم صوتا وصورة فتبنى فرق فعالة لنصرة الدين وما أشد حاجة نحن إلى نصرة ديننا في هذا الزمان الذي يهاجم فيه الدين من القريب والبعيد والمحلي والأجنبي في الصحف والمقالات والقنوات فمن لله ولرسوله؟ ومن لدينه؟.
يا عباد الله، وهذا نشر لخير ورفع لمقال جميل وتشجيع لكاتب متميز وجمع لمقالات ونشر لملفات في العلم الشرعي والخير، إن الدلالة على الخير اليوم ونجدة من يحتاج إلى نجدة وهؤلاء إخواننا اليوم في النيجر يتضورون جوعا فماذا قام المسلمون؟ فبماذا قاموا من أجلهم؟.(50/13)
عباد الله، هؤلاء أحد عشر مليون من البشر يعيش ثلاث ملايين منهم اليوم في مجاعة، هل يتركون لهؤلاء أصحاب الصليب؟ أو يتركون ليموتوا جوعا؟ ونحن نعلم أن الأخوة الإسلامية تتعدى الحدود وترفض أن تقتصر على إقليم معين أو مكان معين، قلة لديهم الأمطار وعم القحط وأنتشر الجراد وهذه الرياح الرملية التي غطت زراعاتهم فابتلاهم الله فيما ابتلاهم به حتى صاروا أخر دولة في الفقر في العالم قبل أخر دولة في الفقر في العالم، فيواجهون الجوع وربما بحثوا عن الطعام في جحور النمل. وقد تحركت الأخوة الإسلامية عند بعض المسلمين فقاموا بزيارة إخوانهم هناك وذهبوا إليهم لينظروا في حاجتهم وإن تعاون المسلمين مع بعضهم البعض في معرفة أحوال إخوانهم وأسباب نجدتهم وكيف يسعى بمفهوم الجسد الواحد هذا تأصيل وتجسيد لمعنى الأخوة الإسلامية وهكذا يجب أن نكون فلا فرق بين أبيض وأسود بين المسلمين.(50/14)
عباد الله، إن القرية الآمنة المطمئنة التي تعيش رغدا لا تترك القرية المسلمة الأخرى التي تعاني من الخوف والجوع والنقص في الأموال والأنفس والثمرات نحن لا زلنا في شهر شعبان يا عباد الله شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله والعمل الصالح فيه عظيم ويغفل الناس عن هذا الشهر والأعمال الصالحة كثيرة، فالنشجع بعضنا البعض على القيام بها، ولنجتنب البعد في دين الله، وبعض الناس يظن أن لليلة النصف من شعبان ميزة خاصة في قيام ليلها أو صيام نهارها وليس الأمر كذلك أبدا وقد سرت بين الناس أحاديث موضوعة وضعيفة في ذلك فهي كغيرها من الليالي في القيام وهي كيوم أيام البيض كغيرها من أيام البيض في الشهور في الصيام، قال النووي رحمه الله:( صلاة ليلة نصف من شعبان مائة ركعة بدعة منكرة ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين ونحو ذلك )، إذا فلا بد من التمسك بالسنة وترك البدع مهما دعى إليها الداعون ومهما تخرص المتخرصون، ولله الأيام والليالي هو الذي يميز ويفضل ما يشاء على ما يشاء سبحانه وتعالى ونحن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا.
اللهم إنا نسألك التقوى ومن العمل ما ترضى والتمسك بالعروة الوثقى، أحيينا مسلمين وتوفنا مؤمنين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم أجعلنا في بلادنا آمنين، اللهم إنا نسألك في بلادنا الأمن والإيمان والسلامة والإسلام يا رحيم يا رحمان، من أراد ببلدنا سوءا وبلاد المسلمين فأشغله بنفسه وأجعل كيده في نحره، اللهم أنصر المجاهدين وأعلي كلمة الدين وأذل أهل الصليب والمشركين وأرزق أهل الإسلام النصر عليهم يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(50/15)
( كيف نضبط انفعالاتنا؟ )
عناصر الموضوع :
الأصل في تكوين النفس البشرية
أمثله على الانفعالات
الغضب المطلوب وعلاجه
ما يجوز وما لا يجوز من الغضب
استخدام التصبر والتحلم لمعالجة الانفعالات
موقف المسلم أمام العاصفة الإلحادية
الوسائل الشرعية في إنكار المنكر وضبط الانفعالات
أثر عدم استخدام السلاح حال الضعف
كيف نضبط انفعالاتنا؟
خلق الله البشرية وجعل لها ميزاناً تسير عليه؛ فهو خالقها وأعلم بما يصلحها، ومن أهم ما يظهر على هذه النفس من الانفعالات اليومية: الحب والبغض، وهي طاقة بشرية مخزونة في النفس، ولكن الحكيم من الناس هو الذي يوجهها إلى الوجهة الشرعية السليمة. والناظر في أحداث الكون الآن يلحظ هوان المسلمين في مقابل رفعة عدوهم؛ وهذا مما يؤدي إلى الغضب، ومن هذا الباب فقد ذكر الشيخ عدداً من الأمور التي يستعملها الإنسان في مراجعة هذا الغضب، وكيف يستفيد من سيرة الرسول وأصحابه في مدافعته وتحويله لصالحهم.
الأصل في تكوين النفس البشرية:(51/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وصلى الله وسلم على رسول الله الذي علمنا فأحسن تعليمنا، وبعثه الله متمماً مكارم الأخلاق وصالحها. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فعنوان درسنا في هذه الليلة: كيف نضبط انفعالاتنا؟ وهذا الموضوع موضوع مهم نظراً لأن الإنسان المسلم الذي يعيش في هذه الحياة يتعرض لكثيرٍ من الأمور التي تسبب انفعاله، ولا بد له أن يعلم كيف يكون الانفعال في مرضات الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد خلق النفس وخلق فيها انفعالات، فالنفس تحب وتبغض، وترضى وتسخط، وتغضب وتهدأ، وتحزن وتفرح إلى آخر ذلك من أنواع الانفعالات التي تعتمل داخل هذه النفس. هذه النفس البشرية شديدة التعقيد التي لم ينته علماء الطب وعلماء النفس من دراسة آثار الانفعالات في هذه النفس حتى اليوم، ولا زالوا يخرجون بنتائج جديدة، وأبحاث متعددة في مجال هذه النفس، هذا المجال الواسع الرحب، ولا يعلم ما في هذه النفس إلا الذي خلقها، ولا يعلم حدودها وما يصلحها إلى الذين فطرها رب العالمين. ولذلك أيها الإخوة! ينبغي أن نرجع في تعاملنا مع أنفسنا إلى القرآن والسنة، فإنه مهما أتى البشر بنظريات ونتائج وأبحاث وتجارب فلا يمكن أن يأتوا بمثل ما جاء في هذا القرآن وهذه السنة المطهرة. والله سبحانه وتعالى خلق آدم من قبضة من جميع الأرض؛ فجاء بنو آدم على قدر ذلك، فكان منهم السهل والحزن، يعني: الناس الذين تتميز أنفسهم بالسهولة والسلاسة، والناس الذين تتميز أنفسهم بالشدة والصلابة، بحسب التربة التي خلقوا منها، فناس أخذوا من تربة من أرضٍ سهلة، فجاءت أنفسهم مثل التربة التي خلقوا منها، وناس كان خلقهم من قبضة من جميع التربة فجاء أولاد آدم على قدر هذه القبضة التي خلق الله آدم منها، فمن الناس من يكون في صلابتهم وشدتهم مثل صلابة الصخر وشدة(51/2)
الجبال ووعورة مسالكها، كذلك وعورة أنفسهم، ولأن تربة الأرض مختلفة الألوان فمنها تربة سوداء ومنها تربة صفراء ومنها تربة بيضاء فجاء بنو آدم على قدر ذلك، فكان منهم الأبيض والأحمر والأصفر والأسود وهكذا، إن الله خلق آدم من قبضة من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر ذلك. فتأمل ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، ثم تأمل في الواقع فستجد انطباق ما أخبر به على الواقع انطباقاً تاماً، ونفوس العباد إذاً ليست سواء، وما يعتلج في هذه النفوس ليس أمراً واحداً بل هو عدة أمور، ولذلك فشخصيات الناس أنواع، منها شخصيات تتميز بالهدوء والرزانة، وشخصيات تتميز بالحكمة، وشخصيات تتميز بالضعف، وشخصيات تتميز بالقوة، وشخصيات تتميز بانضباط النفس، وشخصيات تتميز بالعصبية، وشخصيات تتميز بالعاطفية، وشخصيات تتميز بالغضب، وشخصيات تتميز بالهدوء ... وهكذا من أنواع الخطوط المتقابلة الموجودة في النفس البشرية. ولذلك نجد من الناس من هو عصبيٌ لا يستقر على حال فهو في قلقٍ وتغيرٍ دائم، ومن الناس من يكون غضوباً ينفجر دون أدنى مقدمة، ومن الناس من يكون عاطفياً تغيظه أتفه المضايقات ويتملكه اليأس أمام أيسر العراقيل، ومن الناس من يكون ولوعاً إذا تعلق بفكرةٍ تحمس لها جداً، وتعصب لها وتصدى لتسفيه كل مخالف لهذه الفكرة أنى كان ذلك. ومن الناس من تسيطر عليهم المفاجآت فلا يستطيعون أن يتحركوا ولا أن يتصرفوا، فيتسمرون وتقعد بهم أنفسهم الضعيفة عن مواجهة الواقع، وعن السعي في التحكم في الأمور فتفقده المفاجئة السيطرة على نفسه. ومن الناس من يتبدل مزاجه فجأة، فتكون جالساً معه فتخطر بباله فكرة، ثم تبدأ تتفاعل مع نفسه وتتحرك، ثم يغمره أنواع من الانفعالات مع هذه الفكرة، ويستغرب الجالس من هذا التغيير المفاجئ الذي حصل في الشخص مع أنه لم يقع في المجلس أي حادثٍ يذكر، إلا مجرد الفكرة التي طرأت في ذهن ذلك الشخص العاطفي. ومن الناس من ينجر بسهولة مع أفكاره(51/3)
ومع أحداث الساعة فينتقل فوراً إلى العمل بسبب ما حصل له من تهييج دون أدنى تفكير، فتكون أفعاله ردات فعل لما يحدث في الواقع. ومن الناس من يكون رابط الجأش؛ فيتلقى الصدمات ويدرس الوضع قبل أن يتخذ قراراً عملياً ويفكر قبل التنفيذ. ومن الناس من لا يستطيع كتمان الأخبار، ولا حفظ الأسرار، فهو في قلق، فيسهل استخراجها منه مثل الناس الذين يتميزون بالعاطفية الشديدة، وبعض الناس عندهم أنسجة عصبية متقلبة، وقد يحب إنساناً فيفرط في حبه، ثم يتنكر له لسببٍ بسيط فيفرط في بغضه إلى أبعد الدرجات. ومنهم من يكون عنده نتيجة اضطرابٍ في نفسه غلوٌ في الوصف، فإذا عمل مغامرة عادية أخرجها لك على أنها المعركة الفاصلة، ومنهم من يعيش مع انفعالاته فهي التي تنشطه وتحفزه، فإذا لم ينفعل ولم يستثر، فإنه باردٌ لا حراك فيه. ومنهم من يستسلم للنزوات والإسراف في الأشياء، وهل الصحيح أن يكون الإنسان منفعلاً أو لا يكون منفعلاً؟ الصحيح أن يكون منفعلاً؛ لأن الشخص الذي لا ينفعل أبداً ولا تهزه الحوادث إما أن يكون مجنوناً لا يعي ما حوله، أو أنه مدمن مخدرات مثلاً فهو مصاب بتغليف لذهنه ومخه وقلبه فلا يحس بشيء، ولكن المهم الآن أن نعرف متى تكون الانفعالية إيجابية ومتى تكون الانفعالية سلبية؛ لأننا إذا قلنا: لا بد أن ينفعل الإنسان الصحيح السوي ويتفاعل مع الواقع، ويتفاعل مع الأحداث، ويكون للأحداث تأثيرٌ عليه، فإذا كان هذا الأثر موافقاً للشريعة فهذا هو الانفعال الإيجابي المطلوب، وإذا كان الانفعال مضاداً للشريعة ومخالفاً لها فهذا هو الانفعال المذموم، وليس المقصود من وراء هذه المحاضرة أن نتوصل إلى نموذج نقول من خلاله: إن المطلوب منا ألا ننفعل على الإطلاق، وألا تتحرك فينا أدنى عاطفة، ولا أدنى شعور، ولا أي غريزة ولا دافع لعمل أي شيء، ليس هذا أبداً هو المقصود من وراء عرض هذا الدرس.
أمثله على الانفعالات:(51/4)
أيها الإخوة! لا بد أن نعلم أن دين الإسلام قد جاء لتهذيب وتربية النفس المشاعر وتنقيتها، وتنحية العنصر المذموم في النفوس والتأكيد على استجلاب وجذب وتركيز وتأسيس العناصر الجيدة المفتقدة أو المفتقر إليها، وقد جاءت هذه الشريعة أيضاً بقواعد وضوابط للمشاعر والعواطف، فلنذكر أمثلة على سبيل الإيضاح، وهذا موضوع طويل جداً، وهو ما هي الضوابط والقواعد التي جاءت بها الشريعة لتهذيب ومواجهة انفعالات النفس البشرية. هذا شيء كبير جداً، وبذلك لن نستطيع في هذه المحاضرة أن نغطيه، وإنما سنركز على قضايا معينة، نختصر الكلام عليها ثم نتجه إلى الكلام عن علاقة هذا الموضوع بالواقع المرير الذي يعاني منه المسلمون في هذا العصر وفي هذا الزمان.
كتم السر:(51/5)
خذ على سبيل المثال: كتم السر، بعض النفوس لا تستطيع أن تكتم السر، لقد جاء في الشريعة أوامر معينة وتوجيهات إرشادية في مسألة كتم السر، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن المجالس بالأمانة، وأن الرجل إذا حدث بالحديث ثم التفت فهي أمانة، وأن كتم السر من الإيمان، ومن حسن العهد وحقوق الأخوة الإسلامية وذلك إذا لم يحدث من كتمه ضررٌ على الإسلام والمسلمين، وإنك لتدهش وتتعجب من يوسف عليه السلام لما جاء إخوته وهم لا يدرون أنه الحاكم في مصر على خزائن الأرض، وأراد أن يبقي أخاه عنده، لما جاءه إخوته بأخيهم فعمل حيلة، فجعل صاع الملك في رحل أخيه ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ [يوسف:70-72] المهم أنهم نفوا أن يكونوا سرقوا، وقالوا: فتشوا رحالنا، وقبل أن يفتشوا رحالهم قال: ما جزاؤه؟ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75] على شريعة يعقوب عليه السلام أن السارق يؤخذ عبداً عند المسروق منه كما قيل، فلما وجد الصواع في رحل بنيامين -إن صح اسمه- وهو أخو يوسف الأصغر، قال إخوة يوسف: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ [يوسف:77] لقد كان هذا الاستفزاز غير المقصود ليوسف كافياً طبعاً لأن يعرف عن نفسه ويقول: من تتهمون، أتعرفون من تتهمون وعمن تتكلمون إنه أنا، وكان يمكن أن يقول لهم أشياء كثيرة جداً لكنه كتم هذا الأمر: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ [يوسف:77] لم يأت بعد الوقت المناسب لتوضيح القضية، ولم يأت الوقت المناسب للكشف عن الحقائق.
الحب أو البغض المفرط:(51/6)
وإذا جئت مثلاً للأشخاص الانفعاليين الذين يحبون شخصاً فيصعدون به إلى السماء، ثم قد يبغضونه بعد ذلك فينزلون به إلى أسفل السافلين لوجدت في حديثه عليه الصلاة والسلام: (أحبب حبيبك هوناً ما؛ عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما؛ عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) لعرفت أيها المسلم من هذا الحديث الصحيح قاعدة إسلامية في الاقتصاد في المحبة وعدم الإسراف في المشاعر؛ لأنك لا تدري عن تقلبات الزمان، وقد يصبح هذا العدو يوماً من الأيام صديقاً لك، وقد يصبح الصديق عدواً لك، وذلك بحسب الأطر الشرعية. فإذاً ينبغي الاقتصاد، وهذا درس في الاقتصاد في المشاعر.
الغضب المطلوب وعلاجه:(51/7)
ونأتي إلى مثالٍ واضحٍ جداً يبين لنا موقف الإسلام من بعض الانفعالات، وهو أحد الانفعالات التي تكون في النفس البشرية، ألا وهو انفعال الغضب؛ لنبين من خلال هذا الشعور والانفعال الذي يحدث في النفس، ما موقف الإسلام من هذه الانفعالات، وكيف يندفع المسلم لضبط انفعاله بضابط الشرع. الغضب انفعالٌ يحدث في النفس لا شك في ذلك، فكيف كان علاج الشريعة لهذا الانفعال؟ نأخذه مثالاً نركز عليه لنبين أن في الشريعة علاجات كافية لهذه المشاعر، هل الغضب مذمومٌ دائماً أم لا؟ إن المتتبع لسيرته عليه الصلاة والسلام يجد أنه صلى الله عليه وسلم كان حليماً متزناً، ولكنه في بعض الأحيان يغضب غضباً شديداً صلى الله عليه وسلم، فهل لنا أن نتعرف على الغضب في الإسلام وكيف يواجه كنموذج لموضوعنا في هذه الليلة؟ لا شك أن الغضب في الجملة خلقٌ مذموم، ولا شك أن هذا الغضب له أضرار كثيرة وعواقب وخيمة، ومن أجل ذلك جاءت الشريعة بعلاجات لهذا الغضب، وعلى هؤلاء الناس أصحاب الطبيعة الغضبية الذين يستفزهم الشيطان أن يتأملوا جيداً في علاج الشريعة لهذا الانفعال الحادث في النفس، ويتعلموا كيف يضبطون انفعالهم هذا وهو انفعال الغضب. من الإجراءات الإسلامية التي جاءت لعلاج الغضب: أولاً: تنفيذ وصيته صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أوصني؟ قال: لا تغضب، ردد ذلك مراراً) كل ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب) وهكذا. وفي رواية لأحمد قال: قال الرجل: (ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشر كله) فإذا أردت أن تهذب نفسك من الغضب فعليك بتنفيذ وصيته عليه الصلاة والسلام. ثانياً: أن تعلم الحافز لترك الغضب، وهذا الحافز قد يكون ميزة دنيوية بينها عليه الصلاة والسلام في حال الرجال الأفاضل، أو ميزة وثواباً أخروياً يكون لمن ملك نفسه عند الغضب،(51/8)
فمثلاً: عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقومٍ يصطرعون فقال: (ما هذا؟ قالوا: فلانٌ لا يصارع أحداً إلا صرعه، قال عليه الصلاة والسلام: أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجلٌ كلمه رجلٌ فكظم غيظه، فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه) فهذا الرجل لما استفزه رجل بكلمة فأغضبه صار حليماً، فأمسك زمام نفسه فكظم غيظه، فغلب الرجل الآخر بحلمه وغلب شيطانه هو حتى لا يدفعه إلى عمل شيءٍ ما من الرد، وغلب شيطان صاحبه، فهو قد تغلب على نفسه وعلى شيطانه وعلى صحابه وعلى شيطان صاحبه، قال الحافظ ابن حجر: رواه البزار بسندٍ حسن. وهذا أصله في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة -يعني: إذا صارع غلب- إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وبهذا لو قلنا: أيهما أصعب: أن يغلب الرجل الرجل في المصارعة أو أن يتغلب على غضبه؟ لا شك أن التغلب على الغضب أصعب من التغلب على الرجال في المصارعة. وفي رواية أخرى في حديث حسنٍ قال عليه الصلاة والسلام: (الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه، ويحمر وجهه، ويقشعر شعره، فيصرع غضبه) حديث حسن. إذاً: هذا الانفعال الذي له آثار على النفس، ويحدث منه احمرار الوجه واقشعرار الشعر، هذا إذا كان صاحبه يستطيع أن يغلبه ويكبته فهو الشديد حقاً. ثالثاً: ومن العلاجات: التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً استأذن على عمر رضي الله عنه فأذن له، فقال له: يا بن الخطاب والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه حتى هم أن يوقع به، فقال الحر بن قيس وكان من أصحاب عمر : يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] وإن هذا لمن الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر رضي الله عنه حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند(51/9)
كتاب الله عز وجل. فإذاً التذكر وقبول النصيحة والرجوع إلى النفس، عندما يتذكر الإنسان قول الله عز وجل: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] إن التذكر والرجوع إلى الكتاب يورث في النفس دافعاً لكتمان الغضب وعدم الانقياد وراء التصرفات الهوجاء التي يدفع إليها الغضب. رابعاً: ومن العلاجات أيضاً: تذكر الآخرة وما فيها، ولا شك أن تذكر اليوم الآخر بالنسبة للمؤمنين يعني شيئاً كثيراً، كما أنه بالنسبة للفساق لا يعني شيئاً على الإطلاق، بالنسبة للمؤمنين تذكر اليوم الآخر يعني أشياء كثيرة من التحميس للطاعات، والامتناع عن المعاصي، وضبط النفس. أحد الملوك أو الخلفاء صعد على المنبر يوماً وقال: من أحق منا بهذا الأمر فيظهر لنا قرنه، فكان ابن عمر موجوداً قال: [فكدت أن أقول له: الذي أولى منك بهذا الأمر هو الذي ضربك وأباك على الإسلام] لأن هذا الخليفة كان كافراً ثم أسلم وكان أبوه كافراً ثم أسلم، لكني تذكرت الآخرة، قال ابن عمر : لكني تذكرت الآخرة، فكتم غيظه ولم يرد، والإنسان يستفز بأشياء والشيطان يقول له: رد ويدفعه للرد، لكن الذي يكظم غيظه ويكون الرد غير مناسب شرعاً ما الذي يضبطه ويصرفه عن الرد؟ تذكر الآخرة. خامساً: وكذلك من علاجات الغضب: معرفة الجزاء لمن يكتم غضبه ويكظم غيظه، فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل: (لا تغضب ولك الجنة) وهذا فيه بيان أن منع الغضب يورث صاحبه الجنة، وأن أجر منع الغضب دخول الجنة، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) وكذلك في حديث آخر حسن: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فهل إذا تأمل الإنسان الأجر في كظم الغيظ وكتم(51/10)
الغضب في لحظة الغضب تذكر هذا الحديث، وماذا سيحصل؟ (من كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) فليتأمل الإنسان هل لو أنه انتصر لنفسه الآن ورد، وعافس الناس بالكلام، وربما كان بليغاً فأسكت الشخص الآخر الذي استفزه ورد عليه وأفحمه، هل يكون أجره أكبر أم لو احتفظ بهذا إلى الدار الآخرة لكي يخيره الله من الحور العين يزوجه منها ما شاء، وحتى يملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة؟ فلا شك أن العاقل سيقول: أحتفظ لنفسي بهذا الموقف إلى الدار الآخرة، ولو أن هذا الشخص استفزني ومن المصلحة أن أرد عليه لرددت عليه، لو أنه من أعداء الإسلام أو رجل يثير الشبهات لأسكته نصرة لدين الإسلام، ورفعاً للراية، لكن كثيراً من الشباب والناس في مجالسهم تحدث بينهم مناقشات ومخاصمات كلامية وجدل عقيم، وكلٌ منهم يريد إثبات صواب نفسه وخطأ الآخر، لا لشيء، لا لنصرة لمسألة علمية ولا لقضية في الدعوة إلى الله وإنما (أنت أخطأت.. لا. أنا ما أخطأت.. لا. أنت الخطأ منك) وهذه القضية إذاً صارت انتصاراً للنفس فليتأمل العبد إذاً بدلاً من ضياع الأوقات، وازدياد الحمق والغيظ عليه في نفس أخيه، واستهلاك كلٍ منهما لجهد الآخر؛ ليتأمل الأجر الموجود في الدار الآخرة، دعاء الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء، إنه لأجرٌ عظيم، أجرٌ كبيرٌ جداً يدفع كثيراً من الناس وبالذات الشباب في مجالسهم إلى تجنب الخصومة والمراء والجدل، ومحاولة إفحام أخاه المسلم وإثبات خطأ الآخر والانتصار لنفسه وتبرئتها.. وهكذا من الأشياء التي لا يترتب على الدفاع فيها شأن يذكر. سادساً: ومن علاجات الغضب: تبين مساوئه، ومعرفة ماذا ينتج عن الغضب من الأضرار. ينتج عن الغضب أضرارٌ كبيرة جداً سواء كانت على النفس أو على الآخرين. فمما يحدث على الآخرين إليك هذا المثل العجيب من صحيح الإمام مسلم رحمه(51/11)
الله تعالى: عن علقمة بن وائل أن أباه رضي الله عنه حدثه قال: (إني لقاعدٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسبة -حبل مبتور علقه في رقبة غريمه وجاء يجره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! هذا قتل أخي، فقال رسول الله عليه وسلم للمجرور: أقتلته؟ فقال صاحب الدم: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة، فقال الرجل المتهم الذي في رقبته الحبل: نعم قتلته، قال: كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختبط -يعني: نضرب الشجر ليسقط ورقها فنأخذه علفاً للدواب- من شجرة، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه -أداة حادة قاتلة على جانب رأسه- فقتلته) فنتج الغضب عن أي شيء؟ نتج عن قتله لأخيه المسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ - أي: لو شفعنا لك فهل عندك دية تؤديها؟- قال: مالي إلا كسائي وفأسي، قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذاك، فقال عليه الصلاة والسلام: دونك صاحبك -خذه يا ولي الدم، يعني قصاص القتل- فانطلق به الرجل، فلما تولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله، فرجع فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله وأخذته بأمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريد أن تبوء بإثمك وإثم صاحبك؟) أي: أما تكتفي أن عليه إثم القتل وإثمك أنت لأنه فجعك بقتل أخيك فصار عليه إثمان (قال: يا نبي الله بلى، قال: فإن ذاك كذاك، قال: فرمى بنسعته وخلَّى سبيله). فسبحان الله! كيف
ما يجوز وما لا يجوز من الغضب:(51/12)
هل المطلوب من الإنسان المسلم ألا يغضب أبداً ولا في أي حالة من الحالات؟ طرحنا هذا السؤال في بداية عرض هذا الموضوع، وإليكم هذا الجواب: الإمام البخاري رحمه الله تعالى عقد بابين متتاليين في كتاب الأدب من صحيحه قال في الباب الأول: باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، وقال في الباب الذي يليه: باب الحذر من الغضب، فتبين إذاً أن هناك غضباً محموداً شرعاً وهو ما إذا انتهكت محارم الله، فهو لأجل دين الله عز وجل، الغضب إذا أريد على أمر من الدين، كان عليه الصلاة والسلام إذا غضب احمرت وجنتاه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يغضب، توضح عائشة رضي الله عنها هذا الغضب وأين يكون موقعه، فتقول في حديث مسلم : (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها) من أجل الله يغضب، من أجل النفس لا، فتبين الآن متى يكون الغضب مذموماً ومتى يكون محموداً؟ يكون مذموماً إذا كان انتصاراً لأجل النفس، ويكون محموداً: إذا كان انتصاراً لله عز وجل، وهذا الغضب من أجل الله غضب محمود، قال الله عز وجل: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30] ومن تعظيم حرمات الله أنك لا ترضى بالمنكر، وتغضب لو انتهكت حرمات الله أمامك، وقد قال رجلٌ مرة: (إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلانٍ مما يطيل بنا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذٍ، فقال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم بالناس فليتجوز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة) متفق عليه. وهذا حدث آخر في مناسبة أخرى: لما رأى عليه الصلاة والسلام ستراً فيه صور من ذوات الأرواح في بيت عائشة هتكه وتلون وجهه وقال: (يا عائشة ! أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله). ولما كلمه أسامة في شأن المرأة المخزومية التي سرقت لكي لا تقطع، قال: (أتشفع في حدٍ من حدود الله(51/13)
تعالى، ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) غضب جداً عليه الصلاة والسلام لما جاء يشفع في حدٍ من حدود الله. ولما رأى النخامة في قبلة المسجد حكها وشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه صلى الله عليه وسلم. وعن زيد بن خالد الجهني : (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة؟ فقال: اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فادفعها إليه، فسأله عن ضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فضالة الإبل؟ فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه فقال: مالك ولها، معها سقاءها وحذاءها ترد الماء وترعى الشجر فذرها حتى يلقاها ربها) يعني: صاحبها، فغضب فعنون عليه البخاري رحمه الله: باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره. وروى أيضاً حديث أبي موسى قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها -مثل: متى الساعة؟ ونحو ذلك- فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس: سلوني ما شئتم -إلى آخر الحديث- فلما رأى عمر ما في وجهه عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله! إنا نتوب إلى الله عز وجل). هذا حاله عليه الصلاة والسلام فكيف حال أصحابه؟ أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ حسن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: [لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منحرفين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من دينه دارت حماليق عينيه] وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد : [فإذا أريد أحدهم على شيءٍ من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون] قال الألباني : وهذا سند حسن، هذا يدل على أن الصحابة إذا أريد أحدهم على أمرٍ من دين الله، وانتهاك حرمات الله، فإن أحدهم لا يرضى بالباطل أبداً. فلا بد أيضاً من الغضب، لكن الغضب لمن؟ الغضب لله عز وجل، هذه الغضبة المحمودة التي أخرجت(51/14)
خلفاء وأمراء جيوش إلى قتال الأعداء بسبب كلمة يستغيث بها مسلم بإخوانه، فيخرج الجيش والخليفة والمسلمون للقتال غضبةً لله تعالى، ودفاعاً عن دينه، وحمية ونصرة لهذا الدين.
استخدام التصبر والتحلم لمعالجة الانفعالات:
ومن الأمور المهمة في معالجة الانفعالات: التصبر والتحلم، والصبر هو الخلق الذي يكاد يكون اعتماد ضبط الانفعالات عليه، ومدار تهذيب النفس وتقييد الانفعالات على الصبر. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيناً من الأنبياء صلوات الله عليهم ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) هذا هو الخلق العام الذي ينبغي أن نؤسسه في أنفسنا لضبط الانفعالات، الصبر والتحلم. الصبر بالتصبر والحلم بالتحلم، والرسول عليه الصلاة والسلام لقي ما لقي حين خرج يعرض نفسه على ابن عبد ياليل هذا الذي رفض أن يجير رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره، فانطلق عليه الصلاة والسلام هائماً على وجهه من المصيبة والضعف والشدة حتى لقي ملك الجبال قال: (إن الله أرسلني إليك إذا أردت أن أطبق عليهم الأخشبين قال: لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله). والرسول عليه الصلاة والسلام يضرب لنا المثل الأعلى في الصبر والحلم، الإنسان إذا استفز بأي تصرف فيه حق لنفسه يمكن أن يتنازل ويتغاضى، أما في حق الله فلا يمكن أن يتنازل ويتغاضى، إذا كان حقاً لنفسه يتنازل به لأخيه المسلم، ولا يتنازل لكافر ليذل نفسه، لمسلم ولو لجهلة المسلمين فيحلم على جاهلهم ويصفح عن مسيئهم، لو قطعوا رحمه وصلها، انظر إلى هذا المثل في حلمه عليه الصلاة السلام. في الحديث المعروف عن أنس رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيٌ فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم -بين العتق والكتف العاتق-(51/15)
وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة الجذب) أعرابي جلف يجيء ويسحب البرد ويشده حتى احمرت صفحة عاتقه من شدة الجذبة (ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك). يالله! هذه جلافة الأعراب (يا محمد!) انظر لم يقل: يا رسول الله! يا نبي الله! بل قال: (يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك) ما هو رأيك في موقف مثل هذا؟ واحد يأتي من ورائك ويشدك حتى يجرح جسمك ثم يقول: يا فلان! (فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) المقصود الآن استمالت قلب الأعرابي، والنتيجة تأليف قلبه، هذه النتيجة التي يريد عليه الصلاة والسلام الوصول إليها، (فضحك ثم أمر له بعطاء) متفق عليه. ولذلك ينبغي علينا أن ندرس شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن في شخصيته الكثير من جوانب العظمة عليه الصلاة والسلام، فلا يمكن استيعابها، ولا يمكن من عظمته صلى الله عليه وسلم أن نحيط بها إحاطة تامة، ولكن يجب علينا أن نسعى ونجهد من أجل ذلك ما استطعنا لأجل الارتقاء بالنفس ومزيدٍ من التربية. وهكذا سار خلفاؤه صلى الله عليه وسلم في حلمهم على المسيء وصفحهم. وهذا عمر بن عبد العزيز دخل المسجد ليلة في الظلمة فمر برجلٍ نائم فعثر به، فرفع النائم رأسه قال: أمجنونٌ أنت؟ يقول للخليفة عمر بن عبد العزيز : أمجنون أنت؟ فقال عمر : لا، فهم به الحرس، فقال عمر : مه؛ إنما سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا.
موقف المسلم أمام العاصفة الإلحادية:(51/16)
وبعد عرض هذا المثل وهو الغضب، وما هو الخلق المهم وهو خلق الحلم والصبر في مجابهة الانفعالات، نأتي الآن إلى الجزء الثاني من هذا الدرس وهو: ما هو موقف المسلم من الأحداث التي تعصف بالمسلمين اليوم، والتي فيها عددٌ كبير وهائلٌ جداً من الاستفزازات التي تكاد تخرج الفرد المسلم عن صوابه، ويطيش به عقله، ويذهب في عددٍ من الأودية والمهاوي؟! وماذا نريد من المسلم: هل نريد منه أن يكون رجلاً بارداً لا يتحرك فيه انفعالٌ أبداً ولا يثور في نفسه شيءٌ مطلقاً تجاه ما يحدث من قضايا العالم الإسلامي اليوم؟!
الحكمة الحقيقية في التعامل مع الأحداث:(51/17)
إن المسلمين يعانون في العالم أفراداً وجماعات من الاضطهاد والتعذيب، وقضايا الفقر، وهيمنة الأعداء والتسلط، وأنواع الظلم وسلب الحقوق، إنهم يعانون من الظلمة الذين يسوسونهم بغير شرع الله، وتعم مدنهم وبلدانهم المنكرات، ويراد منهم بالقوة أن ينحرفوا عن شرع الله، وكلما رفع بعضهم رأسه جاءت ضربة لتذهب بهذه الرءوس المرفوعة، مما يجعل المسلمين يعيشون في أجواء من الإحباط والانهيار النفسي، وبعضهم قد يكون من النوع الانفعالي العصبي الغضبي، فيثور ويغضب ويحدث من ذلك نتائج لا تحمد عقباها، فما هو موقف المسلم حيال ذلك؟ هل المطلوب تجاه كثرة المنكرات الشائعة، وتوالي حدوث الأحداث التي يدبرها المنافقون والعلمانيون في العالم الإسلامي وغيرهم من أذناب الكفار هو برودٌ تام، وعدم إحساس، ولا تفاعلٍ؛ أم أن المطلوب ثورة وهيجان ضد هذا الظلم؟! إن هذه القضية هي التي تشغل بال الحريصين والمتفقهين في الدين من المصلحين المخلصين في العالم الإسلامي اليوم، وإن هذه القضية هي لب المشكلة التي نعيش فيها، إن فهمها يُسهّل معرفة الموقف الصحيح من المشكلات التي يواجهها المسلمون اليوم. وإن من الخطأ الكبير أن نقول للمسلمين ولشباب المسلمين بالذات الذين هم إلى الحركة والنشاط أقرب: هونوا على أنفسكم ولا تأبهوا لما يدور حولكم، وإن الله سينصر الدين فلا تكترثوا. كلا والله. إن هذا الكلام هو من اللهو والباطل، وإنه ليس من الصحيح أن تستقبل متحمساً ينقل إليك منكراً من المنكرات، أو يشكو إليك ظلماً من هذه المظالم الكثيرة التي تقع في المسلمين صباح مساء فتقول له: هون على نفسك واجلس في بيتك ولا تتدخل في أي شأن من الشئون، وإنما يكون من المناسب أن يؤخذ بيده فيقال له: تعال ننظر في الوسيلة المناسبة لمواجهة هذا المنكر، ثم تفكر معه في الوسيلة المناسبة لمواجهة هذا المنكر الذي يحدث. لأنك عندما تقول: هون على نفسك ولا تشتغل بشيء، فإما أن يدفعه ذلك إلى(51/18)
الإحباط وهذا أمر لا نريده، أو يدفعه ذلك إلى التمرد والانصراف عنك والسخرية من حكمتك التي جاءت في غير محلها، مما يدفعه إلى التفكير في قضية من قضايا العنف أو استخدام القوة المذمومة في غير محلها فتكون أنت السبب الذي أديت به إلى تلك الحال. ونحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة ونتطلع لفجرٍ قادمٍ بإذن الله، وإن هذه الظلمة التي ادلهمت واشتدت وإن كثرة المنكرات التي حصلت والتي تستفز نفوس المؤمنين فعلاً لا بد من معرفة الموقف المناسب حيالها، وقد بينا أنه لا بد أن ننفعل، وأن الذي لا ينفعل إنسان بارد لا نريده، وإن الذي لا يتحرك ضميره ولا قلبه مع مشكلات المسلمين وما يحل بهم مع الأوضاع المتردية هو إنسان لا يعيش هَمَّ الإسلام، ولا يصلح أن يحمل همَّ الإسلام وهو بهذا القلب البارد وهذه النفس الميتة، لكن ما هو الموقف اليوم وأنت ترى كلا الاحتمالين الخطيرين: الإصابة بالإحباط والقعود، أو التدهور في مهاوي العنف واستخدام القوة المرذولة غير محمودة العواقب. كيف يصل شباب الإسلام إلى الحل الوسط أو الوسطية في مواجهة هذه الأمور؟ كيف يضبطون انفعالاتهم التي تحدث في أنفسهم من وراء تكرر المنكرات وكثرة حصولها وانتشارها، وكلما انتهت قصة ظهرت قصة جديدة، وكلما قام حدث لا يلبث أن يحدث حدث آخر، وهكذا تتوالى الأخبار من أنحاء العالم الإسلامي في عددٍ من حالات الأذى والاضطهاد التي يلاقيها المسلمون من منعٍ وقمعٍ وحيالةٍ بينهم وبين القيام بشرع الله عز وجل، فما هي الطريقة يا ترى وما هو الحل لأجل ذلك؟
الطريقة النبوية في رد الانفعالات إلى الوسطية:(51/19)
أيها الإخوة! إن هذا هو ما نريد أن نلقي عليه الضوء في بقية الحديث في هذه الليلة. إن المفتاح لمعرفة الجواب عن هذه الأمور يكمن في: أولاً: معرفة المرحلة التي نمر بها، والتقويم الصحيح لهذا الوضع الذي نعيش فيه، هل نحن في مكانٍ أو في مرحلة لا نستطيع فيها قول الشهادة على الإطلاق؟ أو أننا في وقتٍ فيه عزة للإسلام تستطيع فيه أن تغير ما شئت من المنكرات كيف شئت؟ الصواب: لا هذا ولا ذاك، وإننا نعيش اليوم مرحلة من مراحل الاستضعاف ولا شك، وإن الهيمنة للكفرة ولا شك، ولكننا نوقن بأن الله ناصرٌ دينه، ومعزٌ أولياءه، ومظهرٌ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فعلينا إذاً لضبط انفعالاتنا في مواجهة هذه الانحرافات والمنكرات وهذا الطغيان والظلم أن نعود بأذهاننا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف كان حاله وحال أصحابه عندما كانوا في وضعٍ يشابه الوضع الذي نعيش فيه الآن، من جهة غربة الدين ووقوع الظلم عليهم؛ كما هو واقع على كثير من المسلمين اليوم، ماذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم عندما كان يظلم وهو بمكة ؟ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي عند الكعبة وجمعٌ من قريشٌ في مجالسهم إذ قال قائلٌ منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، الآن الرسول عليه الصلاة والسلام في أسوء الحالات، وضعوا على ظهره سلى الجزور وهو ساجد عند الكعبة وهو رسول الله وأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، ثم أخذوا يتضاحكون حتى كاد بعضهم يسقط من الضحك، ماذا يمكن للإنسان أن يفعل في هذه الحالة؟ لا بد أن نسائل أنفسنا ونقوم الموقف ماذا يمكن للإنسان أن يفعل في(51/20)
هذه الحالة؟ هل يأخذ أقرب سيف ويتجه إلى أقرب مشرك ويضرب رأسه بالسيف؟! لم يكن المسلمون الذين شاهدوا الحادثة بعاجزين أن يتجه واحدٌ منهم إلى أقرب مشرك ويضربه بالسيف، أو يقطع رقبة الذي وضع سلى الجزور على ظهر الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنهم لم يفعلوا ذلك، فانطلق منطلقٌ إلى فاطمة وهو جويرية صغيرة فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبهم، إذاً الإنكار كان من فاطمة الصغيرة بالقول هذا الذي تستطيعه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، فأنكرت عليهم فاطمة ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا كل ما حصل، تحمل الأذى صلى الله عليه وسلم. قال له أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ ما قال: اسكت يا كذا، الوضع لا يسمح بذلك، جاء في بعض الأحاديث: أن أصحاب بيعة العقبة الثانية رأوا أنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه في مكة ، فتحمسوا وأخذتهم الحمية قالوا: (إن أردت أن نغير على أهل منىً غداً، قال عليه الصلاة والسلام: إنا لم نؤمر بذلك) وهذا الحديث فيه كلام، وهو من رواية ابن إسحاق عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك ، لكن فيه معنىً مفيد ومهم للوضع الذي تعايشه الدعوة اليوم، تحمل عليه الصلاة والسلام الأذى لما كان مستضعفاً، وحتى لما صار في المدينة وهي القاعدة .. ما دام أن الرد ليس في مصلحة الإسلام لم يرد، كم مرةٍ آذاه عبد الله بن سلول ؟ وكم بلغ شر هذا الرجل؟ أوقع بين فئتين من المسلمين حتى اقتتلوا، وقذف عائشة حتى انتشر خبر الإفك في المدينة ، وأوذي عليه الصلاة والسلام في ذاته، ماذا فعل عندما انخذل في أحد ؛ ربما انخذل بعددٍ كبير من الجيش، فعل طامات كبيرة لكن ما كانت المصلحة في قتله، لو قتلوه لقال الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، فصار ذلك سداً ومانعاً من الدخول في الدين بالنسبة للناس البعداء الذين لا(51/21)
يعرفون حقائق الأمور وإنما يظهر لهم أن عبد الله بن أبي رجل من المسلمين ثم يقتله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) لما كانت الأفضلية في عدم قتل الرجل ما قتله عليه الصلاة والسلام مع أن الرجل كان له شرٌ كبير مستطير. المسلمون في مكة اضطهدوا اضطهاداً شديداً، أخذهم المشركون وألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، لا شك أنه كان يمكن اغتيال بعض الكفار في مكة لكن ما هي الفائدة؟ كانوا يضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، فكيف واجه عليه الصلاة والسلام هذه القضية مع أصحابه؟ بثلاثة أشياء: 1- كان يذكرهم بالأجر الذي ينتظرهم ويقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة). 2- كان يقص عليهم من أنباء ما قد سبق ما هو مشابه لمرحلتهم وظروفهم التي يعيشون فيها، فكان يقول لهم: (إن الرجل كان فيمن كان قبلكم يؤتى وينشر بالمنشار الحديد ما بين اللحم والعظم ما يصده ذلك عن دينه) وقصة أصحاب الأخدود من أروع الأمثلة الدالة على هذا المبدأ. 3- كان يذكرهم أن المستقبل للإسلام ويقول: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه).
المستقبل لهذا الدين:(51/22)
نحن اليوم في أشد الاحتياج إلى هذه الأمور التي يتربى عليها أبناء الإسلام. عدم الرد إذا لم يكن الرد من مصلحة أهل الإسلام، وتصبير النفس بالثواب والعقبى في الآخرة، وأخذ العبرة من أنباء ما قد سبق وعلى رأسهم رسول الله صلى عليه وسلم في مكة هو وأصحابه، وأن نتيقن أن المستقبل للإسلام. لأن الإسلام في طريق العودة إلى حياة المسلمين رغم جميع الضربات، الإسلام الآن في تقدم مستمر على جميع الأصعدة، وبعد انتهاء حرب الشرق والغرب انتقل مجال الصراع إلى التحدي بين الشمال والجنوب، أي بين الكفار والمسلمين، وصحيح أن المسلمين لا يملكون سلاحاً للمواجهة والتحدي يحصل به نوعٌ من الموازنة بين القوى، ولكن ماذا يملك المسلمون من الأشياء التي تستثير الكفار فعلاً؟ يملك المسلمون منهجاً حضارياً ينافسون به الكفار، هذا المنهج يعلن تقدمه باستمرار ويتأكد فشل المنهج الغربي يوماً بعد يوم، إن هذا الذي يقلق الكفار فعلاً؛ لأن النظام الحضاري لما درسه المستشرقون وقدموه لأسيادهم، وجدوا أن النظام الحضاري الإسلامي يفوق غيره بكثيرٍ جداً، وهذا ما سيقنع العالم بعد فترة من الزمن، أولئك الناس يخططون ويعرفون أن حضارتهم أنتجت الجنون والأمراض العصبية والنفسية والانتحار والمجاعات، والربا ازداد ازدياداً بحيث فقر الفقير جداً، واغتنى الغني غناءً فاحشاً، وعرفوا بأنه سبب هذه الأمراض التي تفتك بالملايين منهم، يقول لك: الآن موجود في تلك البلد مليون ونصف مصابون بالإيدز، الآن في عام [2000] سيصل العدد إلى كذا، ربما إلى أربعين مليون مصاب بالإيدز، وبعد كذا سنة سيموت هؤلاء؛ لأن هذه الدراسات التي يعملونها تؤكد أنه يمكن أن تنهار حضارتهم بالمرض فقط من غير حرب، ولا يحتاج إلى شيء يمكن أن تنهار بالمرض فقط والله عز وجل على كل شيء قدير. فهم يعلمون أن عند المسلمين نظاماً حضارياً هائلاً وقوياً جداً، ويعلمون أن حضارة الإسلام أفضل من حضارتهم، وأن هذا العلم(51/23)
بالدنيا الذي اكتشفوه جعل لهم ميزة من التفوق لن يصمد طويلاً وأنه سينهار، فنحن اليوم بأمس الحاجة إلى أن نعرف أن المستقبل للإسلام كعلاج نهدئ به أنفسنا في موازنة الانفعالات التي تحدث، وتمنعنا ونحن نسير على يقين بأن المستقبل لنا بإذن الله، المستقبل للإسلام بلا شك؛ لأن هناك عدداً من البشائر الموجودة في القرآن والسنة تؤكد هذا المعنى وهذا المفهوم، هذا الأمر الذي ينبغي أن يتيقنه المسلم .. حتى اليائس ماذا يفعل؟ اليائس الذي يعلم أنه غارق وأنه لا مستقبل له يخبط يميناً وشمالاً، يائس .. لا مستقبل له، لكن ليس هذا وضع المسلمين، لو كنا نعلم أنه لا مستقبل للإسلام وأنه إلى زوال، لكن نحن نعلم يقيناً أن المستقبل للإسلام وأن الله ناصر دينه، وأن هذه فترة مرحلية ستنتهي بالتأكيد، وأن تساقط الحضارات والمجتمعات الكبيرة جداً فيها دلالة قاطعة على بقاء الإسلام، فهناك أفكار بدأت وانتهت وصارت نسياً منسياً، ونظريات زالت وبقي الإسلام موجوداً في الواقع، رغم المحاولات الكثيرة والحملات المتعددة إلا أن الإسلام بقيت جذوره موجودة، ماذا يعني هذا؟ بل إنه في ازدياد كما تدل عليه الحوادث الجارية الآن، والمسلمون في ازدياد وتقدم من الوعي وغيره عدداً وكماً وكيفاً، فمعنى ذلك: أنه لا حاجة إلى أن نخبط خبط عشواء ونحن نعلم أن المستقبل لنا، إذا كنا نحن جيل الصحوة فأولادنا جيل النصر إن شاء الله، ولن نيئس وربما نرى النصر في حياتنا فما يدرينا. فإذاً نقول: أن تعلم أن المستقبل للإسلام هذا مهم في ضبط الانفعالات، لأن الذي يعلم أن المقتول مقتول والزائل زائل فلنخلد ذكراه ولو باللعنات، لكن الذي يعلم بأن المستقبل له فعلام يسير بشكل أهوج ويخبط بدون حساب؟! هذا لا يمكن أن يكون.
الوسائل الشرعية في إنكار المنكر وضبط الانفعالات:(51/24)
أولاً: أن نعرف سيرته عليه الصلاة والسلام كيف انضبط هو والصحابة رضوان الله عليهم في مكة في مرحلة الاستضعاف، ما استعملوا القوة مطلقاً في مواجهة ما واجهوه، وإنما صبر عليه الصلاة والسلام هو ومن معه، و(صبراً آل ياسر) ويصبر ويذكرهم بالجنة ويعطيهم أنباء ما قد سبق، ويبشرهم أن المستقبل للإسلام، هذا ما كان يحدث، إذاً هذا الذي كان يحدث عملياً في مكة. ثانياً: إذا كان استعمال العنف واستخدام اليد ليس من مصلحة الإسلام فلا يجوز الإقدام عليه في أي حالٍ من الأحوال، خصوصاً ونحن نعلم أن القاعدة الشرعية: أن إنكار المنكر بطريقة تؤدي إلى منكر أكبر منه لا تجوز، وبالتالي فقد يقول قائل: فما هو الموقف إذاً حيال المنكر؟ وكيف يتصرف المسلم؟ فنقول: لا بد أن يكون للمسلم موقف، ومن الخطأ ألا يكون له موقف، ولذلك جاءت مراتب الإنكار بالمنكر، ومن أجل ذلك نقول: إن الإنكار باللسان لو استطاع عليه المسلم لا يجوز أن يتركه، لا بد أن يقوم لله ببيان الحق والحجة والصدع بالدين وبيان الحكم، لا بد أن يبلغ الدعوة ويعلم الناس، ولا بد أن يقول لهذا المنكر إنه منكر، ولو أدى ذلك إلى قتله فلا بأس، فإنه عليه الصلاة والسلام قد قال: (أفضل الجهاد كلمة حقٍ عند سلطان جائر) فينبغي أن يقول كلمة الحق، وهذه ليس فيها محذور، كاستخدام العنف واليد والتغيير بالقوة؛ لأن التغيير باللسان قصاراه أن يموت صاحبه ويذهب شهيداً، ولا يمكن ممالأة الناس عليه ولا استخدام الحادثة في استعداء الجمهور على هذا المسلم، لأنهم يعلمون أنه قد ذهب شهيد كلمة الحق، وأنه لم يستعمل شيئاً من الأشياء التي ينفر عنها الناس من استخدام القوة المتنوعة ولكنه استخدم كلمته ولسانه في قول الحق. أما استخدام اليد والعنف فيسهل إقناع الغوغاء بأنه باطل واستعداء الناس على صاحبه، ولا شك أن الصحوة الآن نبتة لم يشتد عودها بالدرجة الكافية بعد، وأنها لا تتحمل أحداث عنفٍ جديدة، وإن التجارب(51/25)
الحالية والماضية قد أثبتت الحاجة إلى الاستمرار في الدعوة والتربية والاقتصار على إنكار المنكر باللسان إن استطاع صاحبه، أو اليد إذا لم يترتب عليه منكر كما ينكر رب الأسرة المنكر في بيته باليد لكسر آلة لهوٍ ونحوها، أو أي صاحب سلطانٍ في سلطانه يستطيع أن يزيل المنكر بيده دون أن يترتب عليه منكرٌ أكبر منه. أما هذا الفقه فإنه فقه دقيقٌ جداً، وليت شعري متى يصل شباب الصحوة اليوم إلى الوضع الذي يفرقون فيه بين الصدع بالحق، وصيحة النذير العريان، وإعلان النصيحة، وإقامة الحجة، وتبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبين إظهار التحدي، وفرد العضلات، وتصعيد الموقف، واستخدام القوة في غير موضعها والتهور في ذلك. لو أن شباب المسلمين فقهوا الفرق بين القضيتين وعرفوا بأن المناصحة والإنكار باللسان بالحكمة والموعظة الحسنة هو الدور المناسب المطلوب في هذه المرحلة، وأن استخدام العنف لا يجدي شيئاً، بل يجدي بالضرر لعلموا ماذا يصنعون وفي أي اتجاهٍ يتحركون. ولذلك فإن من الحكمة التي تقتضيها طبيعة هذه المرحلة عدم التصعيد والابتعاد عنه بكل سبيل. ثالثاً: من الوسائل المهمة لضبط انفعالاتنا في هذه المرحلة: توجيه الطاقات إلى المجالات الأقل حساسية والأكثر فائدة للإسلام، مثل الدعوة والتربية كما قلنا، فإن الإسلام يحتاج اليوم لكسب عناصر جديدة إلى هذا الدين، يحتاج إلى مزيدٍ من الانتشار في الأرض، ولتعلم أيها المسلم أن كل بقعة يدخل فيها الإسلام ويذهب إليها نور الحق إنما هي عبارة عن عمقٍ مهمٍ واستراتيجيٍ للإسلام، وإن صدى صوت الحق يتردد في تلك الأعماق الضاربة في أقصى الأرض التي وصل إليها الإسلام، وأن هذا سيكون مفيداً في نصرة الإسلام إن شاء الله، فكلما انتشر الإسلام، وتعمقت جذوره في الأرض، وازداد أتباعه كسب طاقات جديدة، وازداد هؤلاء الأفراد معرفة بمعنى التربية التي ينشئون عليها؛ فإن هذه القاعدة ستكون هي التي يقام عليها(51/26)
البناء الإسلامي الشامل في المستقبل إن شاء الله. رابعاً: من وسائل ضبط الانفعالات: استشارة الحكماء من أهل العلم والبصيرة والفقه في الأحوال قبل الإقدام على أي خطوة، وإن بعض الناس يظن أنه يحيط بالواقع وأنه قد درس الأمر دراسةً جيدة، لكنه ربما لا يعلم حديثه عليه الصلاة والسلام: (البركة في الجماعة) وإنه لا بد أن يتعلم فائدة قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]. وخامساً: إننا نحتاج إلى الصبر، وحبس النفس عما يمكن أن يؤدي إلى المهلكة، وإلى شيء لا يكون فيه فائدة للإسلام والمسلمين بل ربما ضر. سادساً: لا بد أن نفهم التحكم في انفعالاتنا عند الإقدام على أي خطوة: هل المسلمون على مستوى المواجهة وفتح جبهاتٍ جديدة أم لا؟ لا شك بأن الأمر يحتاج إلى مزيدٍ من الصبر، وما دام الإسلام في الانتشار فلم العجلة؟ وما دمنا نرى الآن أن هذه الصحوة تعم وتشمل وتدخل بيوتاً ويخرج الله بها أقواماً من الضلالة إلى الهداية، ومن الظلمات إلى النور، فنحن إذاً نرى أثر الدعوة إلى الله واضحاً، ونرى أثر التربية في قيام أناسٍ من أهل العلم والفقه في الأحوال، ما دمنا نرى أن التربية ولدت لنا كل هذه العناصر، فلماذا اللجوء إلى حلول أخرى لا يكون فيها فائدةً كما نرى من التجارب المتلاحقة الموجودة؟ فاسأل نفسك: ما المصلحة في الإقدام على أي أمرٍ من هذه الأمور؟ فإذا قالت لك نفسك: إن فيه نجاحاً ففكر: هل هو نجاحٌ جزئي أم هو نجاحٌ شامل؟ هل سيترتب عليه مصلحة للإسلام أكبر، أم المفسدة ستكون فيه أكبر؟ قد يخطر لبعضهم أن يتخلص من بعض الأشرار، فنقول: إن الأشرار كثر، فإن ذهب بعضهم جاء البعض الآخر. سابعاً: فكر ما هي المضرة وما هي المفسدة التي ستنتج عن ذلك؟ ولتعلم يا أخي المسلم أن قطع الطريق على الأعداء في توظيف أحداث العنف لتشويه سمعة الدعاة عند الناس هو مخطط معروف، وإن من أُمنيات أعداء الإسلام أن يخرج المسلمون عن اتزانهم، وأن(51/27)
يسهل استغضابهم واستثارتهم ليقوموا بما لا تحمد عقباه، وإنه ينبغي علينا أن نتأسى بسيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حبس النفس في المواقف الحرجة، إن النفس تميل أحياناً إلى العجلة وإلى التخلص من أي شيء فيه عداء للإسلام.
أثر عدم استخدام السلاح حال الضعف:
لكن تعال معي ننظر في هذه الحادثة: روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه ، عن يزيد التيمي قال: (كنا عند حذيفة فقال له رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، قال له حذيفة : أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، في ليلة ذات ريحٍ شديدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجلٌ يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة، فلم يجبه منهم أحد، ثم الثانية ثم الثالثة مثله، ثم قال: يا حذيفة ! قم فائتنا بخبر القوم، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقال: ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ، قال: فمضيت، كأنما أمشي في حمام -مع أن الجو كان بارداً جداً- حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار -وكان أبو سفيان مشركاً وهو قائد المشركين- لكي يتدفأ فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه ثم ذكرت -وهذه ثمرة التربية- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذعرهم عليَّ، قال حذيفة : ولو رميته لأصبته فرجعت كأنما أمشي في حمام) الآن ربما المشركون يتهيئون للرحيل والريح شديدة، لكن لو قتل زعيمهم، ربما تقوم لهم حمية فيذعرون وتحدث أشياء أخرى، وأنت إذا تأملت واقع المسلمين في مكة لعلمت بأن الحكمة كانت دائماً معهم في عدم استخدام القوة في المواجهة وليس هناك تكافؤ. عمر رضي الله عنه لما قيل إنه قاتل المشركين في مكة ، ولكن ما قاتلهم بالسلاح بل قاتلهم بيديه، فلم يزل يقاتلهم منذ غدوة حتى صارت الشمس حيال رأسه، قال: ورعي وقعد، فدخل عليه رجل؛ قيل: إن هذا الرجل هو العاص بن وائل السهمي دافع عن عمر ورد(51/28)
عنه القوم، قال عمر يومئذٍ: [يا أعداء الله! والله لو قد بلغنا ثلاثمائة لقد أخرجناكم منها] حديثٌ حسن، وصرح فيه ابن إسحاق بالتحديث. فإذاً، هذا تقدير الموقف الذي أشرنا إليه كان أيضاً مع المسلمين دائماً في مخيلتهم لا يمكن أن ينسوه. هذا الإسلام مسئولية وأمانة، ولا بد من نشره بالطريقة الصحيحة، ولا بد من استغلال الفرص لنشر هذا الدين، وهذه الأمانة تأبى وترفض من المسلم أن يتصرف فيها بأي شكلٍ كان لا يعود بالنفع على الإسلام، وفي كل مجتمعٍ متهورون، وهؤلاء طبقة نعلم أنه لا يمكن القضاء عليها مطلقاً، لكن يمكن التخفيف من شرهم بإسداء النصح لهم ومناقشتهم. وقد يقول قائل: إن في بعض هذه الأعمال جوانب إيجابية؟ نقول: نعم، قد يكون ذلك فعلاً، فقد يكون في بعضها إرهابٌ للأعداء، أو ذهاب الشهداء إلى الله تعالى، لكن يبقى الخطأ خطأ، وإن كان فيه بعض الجوانب الإيجابية، فإن المفسدة إذا كانت أكبر من المصلحة غلبت المفسدة. إذا أخطأ المخطئون فقلَّ من يخطئ في شيء فيه مفسدة مائة في المائة، لا بد من مصلحة ومفسدة، مصلحة من وجه ومفسدة من وجه، لكن المشكلة التي تحدث في تقدير هل المفسدة أكبر أو المصلحة؟ ولذلك قلنا: لا بد من مشاورة أهل العلم والحكمة والفضل ورجاحة العقل والبصيرة في هذا الأمر. ولا بد أن نعود ونذكر أيها الإخوة بأن المستقبل لهذا الدين، وأن الله سبحانه وتعالى متمٌ نوره ولو كره الكافرون، وأن الله سيظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون. اللهم أعزنا بالإسلام وأعز الإسلام بنا يا رب العالمين، اللهم اجعل نصرة الدين على أيدينا، اللهم اجعل بلاد المسلمين آمنة مطمئنة بالإسلام، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً بهذا الدين، اللهم من أراد للدين خيراً فوفقه إليه وكن يا مولانا عوناً له عليه، ومن أراد بدينك شراً فاردد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين. إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها،(51/29)
وهذه الأمانة أمانة الدين في أعناقكم، فاحملوه وادعوا إليه وقوموا بتربية أنفسكم على منهجه، وإياكم وسبل الشيطان الرجيم، واضبطوا أنفسكم بضوابط الحكمة في هذا الدين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(51/30)
( لماذا لا نطبق ما تعلمناه؟! )
عناصر الموضوع:
علامات عدم تطبيق ما تعلمناه
الصحابة تعلموا لينفذوا
أسباب عدم تطبيق ما تعلمناه
علاج عدم التطبيق: التفكر في أحوال السلف
لماذا لا نطبق ما تعلمناه؟!
العمل رديف العلم، لكن قد تجد من الناس من لا يطبق ما تعلمه، وفي هذا الدرس بيان مفصل لأسباب التفريط في العمل ممن علم، وقد ذكر الشيخ في بداية حديثه أحوال الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا يتعلمون لينفذوا، وختم درسه بذكر بعض العلاجات الدافعة إلى جعل العمل ثمرة من ثمرات العلم.
علامات عدم تطبيق ما تعلمناه:(52/1)
الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيل الله ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأعوانه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم نلقاه. أيها الإخوة! أيها الشباب! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية طيبة لكم أيها الحاضرون والمستمعون في هذه الليلة ونقف وقفة حساب مع أنفسنا، والمؤمن يحاسب نفسه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]. عنوان درسنا من باب المحاسبة: لماذا لا نطبق ما تعلمناه؟! كم خطبة حضرنا؟ كم كتاباً أو ورقة قرأنا؟ كم شريطاً سمعنا؟ كم نصيحة إليها أصغينا وأسديت إلينا؟ كم ختمة ختمنا؟ فكم من ذلك عقلنا؟ وكم من المضمون طبقنا؟ كم أمراً فيها نفذنا؟ وكم نهياً فيها اجتنبنا؟ لماذا ندعى إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فنتولى ولا نعمل؟ لماذا تقرأ علينا الآيات التي لو أنزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ثم لا نتعظ ولا نتأثر؟ نجد أحياناً أنفسنا نمر بموقف ولا نعمل بالحكم الذي نعمله في هذا الموقف، أحياناً نذهل عنه، وأحياناً نتذكره، ولكننا نتقاعس ونتكاسل، لماذا نجد كثيراً من الناس يحملون شهادة شريعة وحصلوا أشياء من العلم، وآخرين حفظوا متوناً وقرءوا كتباً وحضروا حلقاً، وكثيراً من الشباب فعلوا ذلك، لكن أثر العلم لا يظهر عليهم، لا في سمتهم ولا في طريقتهم، ولا في أخلاقهم؟ لماذا نقصر في الواجبات ونسيء، ونفرط كثيراً في المستحبات ونتقاعس؟ للإجابة على ذلك وإيضاح الأسباب والعلاج كانت هذه الكلمة التي أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها إنه سميع قريب. إخواني! إن العمل يكون له دافع من حرارة الإيمان، فإذا كان الإيمان ناقصاً بارداً لا يدفع الإنسان للعمل، لقد نادانا الله بوصف المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(52/2)
آمِنُوا [النساء:136].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:102] نادانا بالإيمان لكي ننطلق منه للعمل، ربما لا يكون عندنا الجدية الكافية التي تدفعنا للعمل، جمهور الخطب والدروس ليس كلهم يأتي بنفسية التلقي للتنفيذ.
الصحابة تعلموا لينفذوا:
إن هذا القرآن أنزل للتنفيذ، كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتعلمون للتنفيذ، انظر إلى أبي بكر رضي الله عنه، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (علمني دعاءً أدعو به في صلاتي) وفي رواية لمسلم (علمني يا رسول لله دعاءً أدعو به في صلاتي وفي بيتي). يقول أبو برزة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! إني لا أدري لعسى أن تمضي وأبقى بعدك، فزودني شيئاً ينفعني الله به) رواه مسلم . يقول عبد الله بن مسعود: (يا نبي الله! أي الأعمال أقرب إلى الجنة) رواه مسلم . يقول أبو ذر : (يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق... الحديث) رواه مسلم . أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: قل اللهم اغفر لي وارحمني، وعافني وارزقني، وجمع أصابعه الأربع إلا الإبهام، فإن هؤلاء يجمعن لك دينك ودنياك) رواه ابن ماجة . للآخرة اغفر لي وارحمني، وفي الدنيا عافني وارزقني، جمع لك خير الدنيا والآخرة في هذا الدعاء. قالت عائشة : (يا رسول الله! أرأيت لو وافقت ليلة القدر ما أدعو؟) كانوا يسألون للتنفيذ. أبو برزة يقول: (يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة أو انتفع به، قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين) رواه الإمام أحمد . جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! علمني عملاً يدخلني الجنة، فقال:(52/3)
لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة -جئت بمسألة عظيمة- أعتق النسمة، وفك الرقبة) رواه أحمد. أبو جري الهجيني ، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: (يا رسول الله! إنا قوم من أهل البادية، فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به، فقال: لا تحقرن من المعروف شيئاً... الحديث) أبو جري يقول: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتبٍ بشملة له وقد وقع هدبها على قدميه، فقلت: أيكم محمد، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأومأ بيده إلى نفسه عليه الصلاة والسلام، فقلت: يا رسول الله! إني من أهل البادية وفي جفائهم فأوصني، قال: ولا تسبن أحداً، فما سببت بعده أحداً ولا شاةً ولا بعيراً). هو يقول: لا تسبن أحداً، التنفيذ مباشرة، وليس التنفيذ في أول يومين وثلاثة، ثم تنسى، لا، قال: فما سببت بعده أحداً؛ لأنه قال: ولا تسبن أحداً، أنت تلمس يا أخي الصدق من طريقة السؤال. عن عبد الله بن عباس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله! إني شيخ كبير عليل يشق عليّ القيام، فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر، قال: عليك بالسابعة) رواه أحمد . كانوا يطلبون ويطلبون المزيد، ومستعدون للتنفيذ. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! مرني بصيام، قال: صم يوماً ولك أجر تسعة- لأن الحسنة بعشر أمثالها- قلت: يا رسول الله! إني أجد قوة فزدني، قال: صم يومين ولك أجر ثمانية أيام، قلت: يا رسول الله! إني أجد قوة فزدني، قال: فصم ثلاثة أيام ولك أجر سبعة أيام، قال: فما زال يحط لي، حتى قال: إن أفضل الصوم صوم أخي داود أو نبي الله داود صم يوماً وأفطر يوماً) قال عبد الله لما ضعف: [ليتني كنت قنعت بما أمرني به النبي صلى الله عليه وسلم] لكنه استمر إلى آخر حياته؛ لأنه كره أن يغير شيئاً فارق عليه النبي عليه الصلاة والسلام. الصحابة إذاً أيها الإخوة(52/4)
يتعلمون ليعملوا، أبو فاطمة قال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل أستقيم عليه وأعمله، قال: عليك بالسجود، فإنك لا تسجد لله سجدة؛ إلا رفعك الله بها درجة وحط بها عنك خطيئة). إذاً لابد أن يكون عندنا مفهوم العلم للعمل، والتلقي للتنفيذ، نريد أن نقرأ المصحف، وننفذ ما قال الله عز وجل؛ لأن الأوامر لنا وليست لغيرنا، ثم إن التنفيذ يزيدنا خيراً وثباتاً، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء:66] العمل يثبت الإنسان.
أسباب عدم تطبيق ما تعلمناه: ... ...
عندنا -يا إخواني- ضعف في تربيتنا؛ في صياغة شخصياتنا، المقومات المطلوبة في الشخصية الإسلامية فيها نقص عندنا بسبب ضعف التربية، في البيت، في المدرسة، في كل مكان، يوجد ضعف في التربية، قد يوفق الإنسان لمكان طيب يتربى فيه، قد يزرق أبوين صالحين، وقد يكون أبواه من عامة الناس، وكذلك في المدرسة قد يوفق بمدرسين طيبين، وقد يكون المدرسون عاديين، لا يقدمون له شيئاً كبيراً، وهكذا المنكرات المبثوثة ينتج عنها وسط يتربى فيه الإنسان بضعف، بل ربما يتربى على آلة اللهو وأدواته، ولذلك يحصل عندنا ضعف في الشخصية ينعكس على درجة التنفيذ.
عدم معرفة الأجر:(52/5)
يمكن أن يكون عدم معرفة الأجر يؤدي إلى ضعف التطبيق، لو كنا نعرف الأجر لطبقنا، لكن بسبب عدم معرفتنا بالأجر لا نتحمس، لماذا ذكر الله لنا الأجور، وبين لنا أشياء كثيرة في القرآن والسنة؟ حتى نعمل. لو قيل لك: لو فعلت كذا تأخذ ترقية أو نرفعك درجة ورتبة، فإنك تتحمس للعمل، نعطيك ألفاً تتحمس للعمل، أجور كثيرة مذكورة في القرآن والسنة تحمسنا للعمل، ينبغي علينا أن نفكر في هذه القضية، كل حرف بعشر حسنات من القرآن الكريم، كم حرفاً في القرآن؟ أكثر من ثلاثمائة ألف حرف، اضرب في عشرة، ثلاثة مليون حسنة وأكثر، والله يضاعف لمن يشاء وكذلك في الصدقات. من قام الصبح والعشاء في جماعة فكأنما قام الليل كله، وكأنما قام نصف الليل، وهناك أعمال الذي يعملها يغفر له ما تقدم من ذنبه، كما قال عثمان بن عفان بعدما توضأ فأحسن الوضوء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري . وضوء جيد بركعتين مع الخشوع يغفر لك ما تقدم من ذنبك. وربما بعض الناس يظن أن غفران ما تقدم من الذنب لا يتم إلا بأشياء صعبة وعسيرة جداً، وليس الأمر كذلك، تأمل معي الحديث التالي: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمَّن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غُفر له ما تقدم من ذنبه). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غُفر له ما تقدم من ذنبه) رواهما البخاري . فمتى تقول الملائكة: آمين؟ إذا قال الإمام: آمين، فإذا طابق تأمينك تأمين الملائكة، غُفر لك ما تقدم من ذنبك. وعن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكل طعاماً، فقال: الحمد لله الذي أطمعني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة، غُفر له ما تقدم(52/6)
من ذنبه) رواه الترمذي وحسنه، على ذكر تقوله بعد طعام. ولذلك ينبغي علينا إذا كان في قلوبنا حياء أن نتحسر لفوات الأجر، يقول عمرو بن سعد بن أبي وقاص ، وكان قاعداً عند عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (إذا طلع خباب صاحب المقصورة، فقال: يا عبد الله بن عمر! ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خرج مع جنازة من بيتها وصلى عليها، ثم تبعها حتى تدفن، كان له قيراطان من الأجر كل قيراط مثل أحد ، ومن صلى عليها ثم رجع، كان له من الأجر مثل أحد ، فأرسل ابن عمر خباباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره ما قالت، وأخذ ابن عمر قبضة من حصباء المسجد يقلبها في يده -ينتظر على أحر من الجمر ماذا سيرجع به خباب من عائشة - حتى رجع إليه الرسول، فقال: قالت عائشة : صدق أبو هريرة ، فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض، ثم قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة) رواه مسلم . وجاء في رواية أخرى لمسلم كان ابن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة أنك إذا تبعتها إلى المقبرة ودفنت، كان لك قيراط، والقيراط: مثل جبل أحد قال: لقد ضيعنا قراريط كثيرة. رواه مسلم.
الإعراض عن المستحبات والتقصير في الواجبات ... :(52/7)
بعض الناس لا يريد أن يطبق إلا الواجهة، من ضعف التطبيق تطبيقه لا يمتد إلى المستحبات، قصور في الواجبات وإعراض عن المستحبات، أليس في المستحبات أجر؟ نعم هي ليست واجبة، تركها لا تأثم به، لكن هل أنت مستغن عن الأجر؟ لماذا تضاءلت عندنا مكانة السنن والمستحبات؟ بعض الشباب يكون في أول التزامه بالدين متحمساً يريد أن يطبق كل صغيرة وكبيرة، فتراه لا يشرب قائماً، يهتم بالسترة في الصلاة ونحو ذلك، ثم تراه ضعف عن هذه الأشياء، وإذا ناقشته يقول: هناك أولويات، نعم هناك أولويات، لكن هذه الأشياء التي تأتي بعد أليس لها نصيب عندك من العمل؟ لماذا الإهمال في السنن؟ لماذا الزهد في المستحبات؟ أين الصحابة الذين كانوا يعلمون السنة ويحرصون على تطبيقها؟ عن زياد بن جبير قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته لينحرها، أناخها في الأرض، والسنة في النحر أن تكون قائمة، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: ابعثها قياماً مقيدة -معقولة الرجل اليسرى- سنة محمد صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري . من كلام الصحابي تحس بالوفاء بالسنة، وأنه محافظ عليها إلى آخر العمر. عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، أي: العشاء، فقرأ: إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق:1] فسجد، فقلت بعد الصلاة: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه. رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه .
سوء الوسط الموجود فيه الإنسان:(52/8)
من أسباب عدم التنفيذ وقلة التطبيق: الوسط الموجود فيه الإنسان، قد يكون في وسط لا يوجد فيه قدوات، البيئة التي يعيش فيها التطبيق فيها قليل، الموجودون يغلب عليهم الجدل لا العمل، الوسط الذي يحيط بك في غاية الأهمية، غيِّر وسطك إذا كان فاسداً أو ميتاً غيَّره تنطلق، انتقِ الحي، القالب غالب، والصاحب ساحب، الصحبة والقدوة مهمة جداً خصوصاً في هذا الزمان الذي عمَّ فيه الفساد العظيم، لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، غلبت المعصية على الناس والجيران والأقرباء، أطبقت علينا الوسائل المفسدة بالموجات من كل مكان، في الأجواء والفضاء والأرض، غزتنا مسموعة ومرئية ومقروءة. وعاش كثير منا في بلاد الغرب، وعاش بعضنا بين أناس مستغربين من أبناء المسلمين، أجسادهم في الشرق وقلوبهم في الغرب، لقد أصبحت المحرمات جزءاً من حياة بعض الناس العادية اليومية، كل يوم مليء بالمحرمات، تأثرنا ببعض المحرمات التي تراكمت علينا، ومع تقدم السن بقيت هذه المحرمات التي نشأنا عليها.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا ... على ما كان عود أبوه(52/9)
هذا تعليل وتفسير وليس بتبرير، أي: لا نقول: والله يا أخي! مادام أنك نشأت على معصية فأنت معذور، كلا، أنت مسئولٌ عن التغيير، تأثير البيئة على الإنسان لا يمكن أن ينكر، قال تعالى: وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:43] صدها عن الله تعالى أنها كانت في قوم كافرين، ولذلك كانت مشركة وكافرة، فتأثرت رغم رجاحة عقلها وذكائها، فكفرت، ثم لما جاءت إلى سليمان عليه السلام أسلمت. ولذلك يا إخواني! ننادي دائماً بأهمية الوسط الطيب، والصحبة الصالحة، والرفقة الحسنة، قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] اصبر أي: احبس نفسك مع الذين يدعون ربهم، هؤلاء قوم اتصفوا بالإخلاص، وعملهم مستمر بالغداة والعشي، ليس فقط في المسجد، يدعون ربهم بالغداة والعشي، وعندهم إخلاص يريدون وجهه وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] لا ملاعب ولا ملاهي ولا مراكب ولا سفريات ولا سياحات ولا مسلسلات: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] ثم حذر الله من قرين السوء، فقال: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28]. كان الصحابة وسطاً جميلاً جليلاً عظيماً يعيش فيه الناس يتربون ويتأثرون، أبو موسى يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين -قومٌ من أهل الإيمان قدموا من اليمن - بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم(52/10)
أر منازلهم حين نزلوا بالنهار) رواه البخاري. والرفقة: الجماعة المترافقون. حين يدخلون بالليل: قال ابن حجر في فتح الباري : المراد يدخلون منازلهم إذا خرجوا إلى المسجد أو إلى شغل ثم رجعوا. بالقرآن: أي برفع أصواتهم بالقرآن، وفيه أن رفع الصوت بالقرآن مستحسن، لكن محله إذا لم يؤذ أحداً وأمن من الرياء. أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يقول كعب : أنه وجد صفتهم موجودة ومكتوبة في الكتب المتقدمة، الحمادون يكبرون الله عز وجل على كل نجد- أي: على كل مرتفع- ويحمدونه في كل منزلة، يتأزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم، مناديهم ينادي في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم بالليل دوي كدوي النحل. رواه الدارمي كان التابعي ينزل البلد بعد السفر، يتوجه إلى المسجد، ويقول: اللهم إني أسألك جليساً صالحا، اللهم هيئ لي جليساً صالحا. لذلك كل واحد في بيئته فساد، وعنده رفقه سوء لابد أن يتركها ويغادرها، مثلما نصح العالم الصالح قاتل المائة أن يترك بلده التي عمل فيها الجرائم؛ لأن فيها أناساً من أهل السوء يعينونه على السوء، ويذهب إلى قرية كذا وكذا، فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم. إذاً غير بيئتك لتنطلق في عمل الصالحات، تاريخ جديد وحياة جديدة ورؤية جديدة، وأناس يذكرون بالصالحات، بدلاً من أناس رؤيتهم تذكر بالمعاصي: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافح الكير) وبعض الناس يقول: تعودت عليه، وهو زميلي من الابتدائية، ودرسنا مع بعض، كنا جيران عشرين سنة، وما معنى هذا إذا كان رجلاً سيئاً؟ مهما كانت العشرة والصحبة ينبغي أن تتركه لله بعد أن تنصحه، وإذا لم تجد النصيحة فاترك هذا القرين، واذهب إلى أهل الصلاح وإلى أهل الخير، هاجر إليهم في سبيل الله. بعض الناس يقول: أهلي وأهل زوجتي وبيئة العمل، هناك أوساط ممكن نخرج منها، وهناك أوساط لا يمكن أن نخرج منها، أهلك لو كان فيهم فساد أو في(52/11)
بيئتهم شر، أنت لا تستطيع أن تقطع العلاقة بالكلية، أهل زوجتك كذلك، العمل الذي أنت تعمل فيه إذا لم تستطع أن تغيره وما وجدت عملاً آخر، هنا لابد أن نقاوم، لابد أن يكون عندنا مقاومة ومناصحة وتسديد ومقاربة، نناصح ونقاوم هذا مهم جداً، بعض الناس ينصحون ولا يقاومون، وبعض الناس يسكتون ولا ينصحون، لابد أن ننصح ونقاوم ونسدد ونقارب، نحاول ألا يصل إلينا ولا إلى أولادنا شر، ونقلل من الاحتكاك ما أمكن في الوسط الذي لا يمكن أن ننفك عنه.
العمل في بيئات محرمة: ...
وبعض الناس يعملون في بيئاتٍ العمل فيها محرم، يؤثر على التطبيق والتنفيذ، يختاره لجاذبيته المالية، ويقول: علي ضغوط اقتصادية، واحد يعمل في عمل فيه نساء وفتنة، أو في مكان ربوي، ويقول: لا أستطيع أن أترك الوظيفة في هذا الزمان، ومن أين أجد عمل؟ نقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2] هذا فعل شرط مرتب عليه جواب شرط وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2] وليس الاتقاء فقط في ترك هذا العمل، بل في ترك كل المحرمات، حتى يحدث الموعود به وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2]. بعض الناس يقول: يا أخي! زحمة المكان ما تركت لنا مكاناً، ووقت للتطبيق والتنفيذ كله عمل في عمل، وعمل وراء عمل، طبيعة عملنا مرهقة، نقول: هل تعجز عن تطبيق وصية النبي عليه الصلاة والسلام، وهي قوله: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) مهما كان عملك فيه أشغال كثيرة ومتوالية، لا يزال لسانك رطباً بذكر الله، لا يمكن أن تطبق هذا الحديث.
خلل في التطبيق:(52/12)
بعض الناس قد يوجد عنده خلل في التطبيق، أو توقف عن التنفيذ، أو تباطؤ نتيجة لعدم الوضعية في التطبيق، كأن يكون قد هجم في التزامه بالإسلام هجوماً على هذه العبادات والنوافل والمستحبات، فعمل عملاً كبيراً لا يطيقه، فجأة صعد صعدة واحدة أضرت بنفسه، لم يوافق السنة في العمل بالسنن والمستحبات، هنا قد يحدث كلل وملل، وبالتالي يحدث انقطاع، لذلك عبد الله بن عمرو رضي الله عنه لما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أنه يعمل أعمالاً كبيره قد لا يطيقها، قال صلى الله عليه وسلم ينصحه نصيحة مربٍ: (ألم أخبر -لاحظ يريد أن يتأكد ويتثبت- أنك تقوم الليل وتصوم النهار، قلت: إني أفعل ذلك، قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك، وإن لنفسك حقاً ولأهلك حقاً، فصم وأفطر وقم ونم) رواه البخاري رحمه الله. هجمت عينك أي: غارت أو ضعفت من كثرة السهر، نفهت نفسك أي: ملت وكلت، فذكر أن لنفسك عليك حقاً، لابد أن تنام جزءاً من الليل، لابد أن تفطر بعض الأيام لتحافظ على جسمك، فإن لجسدك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوارك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، صم وأفطر. لا حظوا أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على ملازمة العبادة، لم يقل: توقف، ولكن قال: اقتصد، بعض الناس إذا رأى شخصاً عنده عبادات كثيرة، قال: يا أخي! هكذا ستقود نفسك إلى المهلكة، توقف عن كل الأنشطة، ليس بصحيح. قال ابن حجر رحمه الله: من فوائد هذا الحديث: أن من تكلف الزيادة على ما طبع عليه، يقع له الخلل في الغالب، قال: وفيه الحث على ملازمة العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع كراهته له التشديد على نفسه حثه على الاقتصاد، كأنه قال له: ولم يمنعك اشتغالك بحقوق من ذكر أن تضيع حق العبادة، وتترك المندوب جملة، ولكن اجمع بينهما، وفي الحديث أن الإنسان إذا كلف نفسه أكثر مما يطيق توقف عن التطبيق، إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
الرضا بالدون والتواضع السيئ:(52/13)
بعض الناس عندهم خلل في التطبيق وتباطؤ وامتناع؛ لأنهم يتواضعون تواضعاً سيئاً ويرضون بالدون، فيقول: أنا لست عالماً، ولا شيخاً ولا إماماً، ولا خطيباً ولا داعية ولا قدوة، ولا يشار إلي بالبنان، ما أنا إلا واحداً من عامة الناس، فلست مطالباً بمستويات عالية من العبادة أو الزهد أو العلم، من الذي سيسألني ويتلقى عني ويتأثر بي؟ ولذلك لما تطيح الهمة؛ فعند ذلك يكون التطبيق مهلهلاً فعلاً. وبعض الناس همته القاصرة هذه، ستطيح بتنفيذه وتطبيقه، ولكن أنت اعمل لله، رآك أحد أو لم يراك أحد، اقتدى بك أحد أو لم يقتد بك أحد، أنت تعمل لله وابتغاء مرضات الله.
الخوف من انتقاد الناس:
وبعضهم لا يطبق ما تعلمه، بسبب خوف انتقاد الناس له وكلامهم فيه، سيقولون عني متزمت، متشدد، مجنون، فلما جعل رضا الناس غايته ترك أعماله، وربما وقع في محرمات، لو جعل رضا الله غايته لكان انطلق في العمل، دع عنك كلام الناس فليقولوا عنك ما يريدون أن يقولوا، إذا أرضيت الله سيرضي الله الناس عنك، وهذه مسألة مهمة، لا يصلح أن يكون عندنا هزيمة نفسية، أين عزة المسلم؟ بعض الأشخاص قد يستهزئ به لصلاته أو لعبادته، إذا قعد يقرأ القرآن، قالوا: مراءٍ، يريد أن يراه الناس، ما عليك من كلام الناس، قالوا ذلك أو لم يقولوا اعمل، وكذلك لو قالوا: هذا متزمت ومتشدد، فيقولوا ما يريدون أن يقولوا؛ لأن غرضك هو إرضاء الله عز وجل.
ضعف التصديق بالجنة والنار والحساب ... :(52/14)
أحياناً يكون مستوى تصديقنا بالجنة والنار فيه ضعف، ومستوى إيماننا بالحساب فيه نقص، ولذلك نستغرب أحياناً كيف تصدق أبو بكر بكل ماله؟ وكيف تصدق عمر بنصف ماله؟ ما الذي دفعهم إلى هذا المستوى العالي من التطبيق والتنفيذ؟ كل المال ما ترك لنفسه شيئاً، ونصف المال والمدخرات! افترض الآن أن عندك في البنك ثروات، تأخذ كل الرصيد وتتصدق به أو نصفه، ما هو الدافع لمثل هذا العمل؟ الدافع قضية الإيمان بالجنة والنار والحساب وما أعد الله للمتقين، لو كان مستوى الإيمان عالياً لرأيت تطبيقاً عظيماً [لئن أنا عشت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة] ألقى التمرات وقام يقاتل فقتل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) لما وقعت هذه الكلمات في نفس ذلك الصحابي موقعاً حسناً، لقيت قبولاً وإيماناً؛ فقام مباشرة وألقى التمرة وتقدم فقاتل وقتل، وصل إلى الجنة وانتهت المشكلة، كل الأحلام والأماني تحققت.
ضعف الارتباط بالقرآن والسنة:
أحياناً يكون ضعف الارتباط بالقرآن والسنة سبباً في عدم التطبيق أو التباطؤ فيه، لماذا بكت أم أيمن لما زارها أبو بكر و عمر؟ ما بكت لأنها تريد أن يبقى النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا، هي تعلم أن ما عند الله خير لرسول الله، لكنها بكت لأن الوحي قد انقطع، وهي تريد مزيداً من الوحي. كانت قلوبهم حية ومتصلة بالوحي.
التعلق بأحاديث الرجاء وعدم الخوف من الله:(52/15)
عندنا يا إخوان مشكلة أخرى، هي مشكلة في الإرجاء والتعلق بأحاديث الرجاء، وعدم الالتفات إلى الخوف من الله، لو سألت الواحد فينا ماذا تؤمل يوم القيامة؟ يقول: آمل الجنة، وأظن أن الله سيرحمني ويغفر لي، والجنة إذا نحن لم ندخلها فمن سيدخلها؟ ألكفار؟ فنقول: وما أدراك لو دخلتها، هل ستمر على النار قبل دخولها؟ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71] قطعاً كل واحد فينا سيرد النار مائة في المائة كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71] ليس فيها كلام، لكن ليس عندنا وعد أننا سننجو، قال الله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]. مشكلتنا أننا دائماً نقول: إن الله غفور رحيم، وننسى أن الله شديد العقاب: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50] نحن نتذكر جيداً قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53] لكننا قد لا نتذكر قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123] قالوا عن: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53] أرجى آية في كتاب الله، وفي قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123] أخوف آية في كتاب الله، وكذلك: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].
مفهومات خاطئة:(52/16)
بعض الإخوان عندهم مفهومات خاطئة تقود إلى التباطؤ في التنفيذ، يقول: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ظروفي لا تسمح، لا أستطيع، لا أطيق، وقد لا يكون صادقاً في دعواه، يستشهدون بالآيات، أمرنا بالجهاد وفيه قتل نفس، هل ممكن واحد يقول: لا أستطيع، هذا فيه قتل نفس، نقول: أمرت لابد أن تنفذ، وبعض الإخوان هداهم الله إذا وقع في بعض المحرمات، قيل له: ألا تنتهي ألا تكف؟ يقول لك: في المسألة خلاف، والمسألة فيها سعة، وبعض الناس حللوها، والدين فيه فسحة، وهكذا يقعد يترخص لنفسه ويجمع الرخص؛ المشايخ اختلفوا، والفتاوى تضاربت. أولاً: قضية المسألة فيها خلاف، هل نعي أنه ليس كل خلاف صحيح وسائغ، وأن هناك أقوالاً باطلة؟
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلافٌ له حظٌ من النظر:
ليس كل خلاف سائغ، ثم لا يحق للعامي أن ينتقي من الأقوال على ما يشتهي وعلى حسب هواه، لابد أن يسأل أهل العلم ويقلد مادام عامياً، فإذا قال له المفتي الثقة: امتنع، يمتنع، وإذا قال له: يجوز، يجوز، هل طبق قول الله تعالى: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]؟ ثم بعضهم قد يقول: سألت فلاناً فلم يعطني جواباً يعجبني، فيذهب ويسأل واحداً آخر، وبعض الناس مع الأسف يكون ممتنعاً عن محرم معين، فيسمع شيخاً قال يوماً من الأيام: إنه يجوز، فيأتي الشيطان يقول له: هذا فلان أفتى بالجواز، كأنه باب فتح له، وشيء ينتظره، قال: انحلت فقد أفتى فيها فلان، أليس هناك شيء اسمه زلة العالم؟ قد يزل العالم، ثم أين الاعتناء والحرص على الدليل الذي يبين لك الزلة والمقارنة بأقوال أهل العلم؟ أيها الإخوة! إننا لا نستطيع أن نخادع الله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة:9].
طول الأمل: ...(52/17)
لابد أن نعلم أيضاً أن طول الأمل ينسينا ويطغينا ويرجئ التنفيذ عندنا، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]. أيها الإخوة! إن مسألة سوف، ولعل، وسنطبق بعد ذلك قد أساءت إلينا كثيراً، كلما جاء طارق الخير صرفه بوَّاب لعل وعسى، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اغتنم فراغك قبل شغلك) (بادروا بالأعمال) وقال الله قبل ذلك: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] وهذا يعني أنك تعمل الآن ولا تدري ماذا سيحدث لك في المستقبل.
جعل الصلاح كلاً لا يتجزأ:(52/18)
ومن الشبهات التي تؤجل التنفيذ وتمنعه عند البعض: أنه يجعل الصلاح كلاً لا يتجزأ، ويقول: إما التزام كامل أو لا التزام، أما نصف التزام فلا، وهذه مصيبة، وخدعة شيطانية كبيرة؛ فمن منا لا يقصر؟ فما دام التقصير حاصل، فإذاً سيقول لنفسه: أنا في حل الآن، ولا داعي للخداع مع نفسي، مادام أنني لست متديناً تديناً كاملاً، فلا يلزمني أن أفعل هذا وهذا، سأدعه كله، يا أخي افعل وطبق ما تستطيع، ولو كان فيك تقصير فاحرص على الطاعات الأخرى، بعض الناس يمكن أن يمتنع عن معاصي؛ لأن نفسه ليست متعلقة بها تعلقاً شديداً، ويقع في معاصي؛ لأن نفسه متعلقة بها تعلقاً شديداً، أيهما أسوأ هذا أم الذي يقع في كل المعاصي، ويقول: مادام وقعنا في الأولى نقع في الثانية.. أيهما أشد عذاباً؟ ثم لو عملت وطبقت الصالحات فإنها ستنهاك عن المعاصي، وستؤجر على الطاعات، وسترجح كفة حسناتك يوم القيامة. أحياناً يبتلى الإنسان بزوجة جاهلة مفرطة -ربما يكون عندنا قصور في التصور الإسلامي الصحيح- تجره إلى تنازلات وإلى منع من الخيرات، أحدهم رجع بعد خطبة الجمعة متأثراً، الخطيب كان يتكلم عن إسبال الثوب، وأنه لا يجوز، والوعيد الذي جاء فيه، فقال لزوجته: قصري لي ثيابي، فقالت له: لما تصلي في المسجد؛ تعال اقصر لك الثياب، المسكين أفحمته ولم يستطع أن يرد عليها من جهله ومن جهلها أيضاً، إذا أنت تستطيع أن تنفذ شيئاً الآن لماذا لا تنفذه؟ نفذ ولا تقل أبداً: عندي معاصي أخرى، وهذا ينفعك عند الله. وقد يكون عندنا أيها الإخوة استهانة بالصغائر، لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى من عصيت، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن تقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال به هكذا وهكذا، فطار] رواه الترمذي رحمه الله تعالى.
عدم وجود قناعة في الالتزام بالإسلام:(52/19)
كثيراً ما تكون عدم وجود القناعة في الالتزام بالإسلام مانعاً من التطبيق، فبعض الناس يقول: عليَّ ضغوط ولا أستطيع أن أنفذ. يا أخي قاوم، بعض الناس يقنع بالتحسن التدريجي، يقول: أنا سأضع خطة خمسية للالتزام بالإسلام، يمكن تموت في السنة الثالثة أو الرابعة، من أعطاك ضماناً بأنك ستعيش حتى تنفذ كل الخطة. إذاً يا إخوان! لا يصح أبداً أن نقبل خداع أنفسنا لأنفسنا، خداع النفس بالنفس مصيبة كبيرة، بعض الناس يتخيل أنه لا يمكن أن يفارق منكراً من المنكرات، وإذا قيل له: جهاز اللهو هذا الذي وضعته في بيتك، يقول: ما هو البديل؟ وإذا أخرجته كيف سأصرف وقتي؟ وماذا سيقول عني الناس وأهلي وأولادي وزوجتي؟ ويضخم القضية وفي النهاية يترك تنفيذ الحكم الشرعي، سبحان الله! وبعض الناس يقول: أريد أن أتدرج في تخفيف المنكر، ثم يبقى فترة طويلة من الزمن ولا يتخلص من المنكر، الشيطان يضخم المشكلة التي تنتج عن ترك الحرام، ويضخم العوائق، توكل على الله وأخرج المنكر والله يعينك، وينزل معونته على قدر مئونتك، وستشعر مع التنفيذ بحلاوة، وسيعينك الله على مواجهة الانتقادات، وعلى الصبر على الأذى، ويرتفع إيمانك وترزق حلاوة له، وعند ذلك تستطيع المقاومة والصمود والاحتمال، ثم أنت لو فشلت، على الأقل أنت خضت التجربة، وبذلت محاولة، أليس خيراً ممن لا يبذل شيئاً؟ أيها الإخوة! الشيطان حريص على أن يصرفنا عن تنفيذ الأعمال وتطبيق ما تعلمناه، منية الشيطان ألا ننفذ، عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خصلتان، أو خلتان لا يحافظ عليهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، هما يسير ومن يعمل بهما قليل، تسبح الله عشراً، وتحمد الله عشراً، وتكبر الله عشراً في دبر كل صلاة، فذلك مائة وخمسون باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وتسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتكبر أربعاً وثلاثين، إذا أخذ مضجعه، فذلك مائة باللسان وألف في الميزان، فأيكم(52/20)
يعمل في اليوم ألفين وخمسمائة حسنة؟ قالوا: يا رسول الله! كيف هما يسير ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتي أحدكم الشيطان إذا فرغ من صلاته فيذكره حاجة كذا وكذا، فيقوم ولا يقولها- السيارة واقفة خطأ اطلع بسرعة، ينتظرونك في البيت، الآن يأتي فلان ولا يجدك قم بسرعة- فإذا اضطجع - أي: للنوم- يأتيه الشيطان فينومه قبل أن يقولها، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدهن في يده) رواه الإمام أحمد. وفي رواية لابن ماجة ، قال: (يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته، يقول: اذكر كذا وكذا، حتى ينفك العبد لا يعقل، ويأتيه وهو في مضجعه، فلا يزال ينومه حتى ينام) إذاً الشيطان يأتي يهدهد على الإنسان يريد أن ينومه بسرعة قبل أن يقول الأذكار، ولذلك هناك ناس فعلاً، يقول: والله يا أخي أني أحاول أن أقول الأذكار قبل النوم، وأنا أعرف أن هذا ذكر عظيم، سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين قبل النوم، لكن ما أن أضع رأسي على الوسادة إلا وأذهب في الشخير والنوم العميق، لاحظ الحديث يقول: (فلا يزال ينومه حتى ينام) فإذا تسلح الإنسان بالإرادة والعزيمة والتوكل على الله؛ طبق ونفذ ولم يجعل للشيطان عليه سبيلاً.
عدم الإحساس بقيمة المعلومة: ...(52/21)
هنا مسألة مهمة في قضية التنفيذ والتطبيق وهي: الإحساس بقيمة المعلومة، كان الواحد من السلف عندما يأخذ معلومة أو حديثاً أو آية، وعندما يأخذ حكماً شرعياً، يحس أنه عثر على كنز ثمين وصيد وفير، ولذلك يقدر القضية حق قدرها وينفذ، لكن نحن اليوم نسمع العشرات من المعلومات، لكن لا نحس أننا قد حصلنا على شيء كثير، مثل هذه المعلومة مثلاً: يسبح الله قبل النوم ثلاثاً وثلاثين، ويحمد الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبر أربعاً وثلاثين، عددها مائة، أي: ألف حسنة. هل تظن أننا عندما تصل إلينا هذه المعلومة أنها في نفوسنا شيء عظيم جداً، وأننا قد حصلنا كنزاً عظيماً، أم أن المسألة عادية؟ وهذا سر من أسرار التلكؤ أو عدم التنفيذ، أننا لا نقدر المعلومة حق قدرها. كان بعض المحدثين لا يكثر من التحديث، يعطي الطالب في اليوم ثلاثة أحاديث يمليها عليه فقط، ليتمكن من العمل، ويقول للسائل: هل عملت بالذي أمليت عليك أمس؟ فإذا قال: لا. يقول: فلماذا تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟
علاج عدم التطبيق: التفكر في أحوال السلف.(52/22)
إن من العلاجات العظيمة أيها الإخوة: أن نفكر كيف كان السلف ينفذون، نتأمل في تلك القصص، يقول المروذي : قال لي أحمد رحمه الله: ما كتبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً - مسند الإمام أحمد فيه حوالي أربعين ألف حديث، والمطبوع فيه تقريباً سبعة وعشرين ألف حديث- يقول: ما كتبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً إلا وقد عملت به، حتى مر بي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى أبا طيبة ديناراً للحجام، فأعطيت الحجام ديناراً حين احتجمت. والدينار أربع غرامات وربع، وسعر الغرام في السوق ستة وثلاثين وخمسة وثلاثين وكان أربعين من قبل وأكثر، فالإمام أحمد احتجم وأعطى الحجام ديناراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام ديناراً. واستأذن الإمام أحمد رحمه الله زوجته في أن يتخذ أمة طلباً للاتباع، فأذنت له، فاشترى جارية بثمن يسير وسماها ريحانة استناناً بالرسول صلى الله عليه وسلم. كان أبو داود السجستاني في النهر، فسمع رجلاً قد عطس وحمد الله، فاستأجر قارباً وذهب إلى الرجل وشمته، قال: يرحمك الله. استأجر قارباً ليصل إلى هذا العاطس ويشمته ليطبق السنة، كله الحرص على التنفيذ وعلى التطبيق، هذا حالهم، أولئك آبائي فجئني بمثلهم، هؤلاء قدواتنا ينبغي أن نقتدي بهم.
أقوال السلف في الحث على تطبيق العلم:(52/23)
إن العلماء أيها الإخوة قد ذكروا حرص طالب العلم على تطبيق العلم، و الخطيب البغدادي رحمه الله له كتاب اسمه اقتضاء العلم العمل ، يقول فيه: العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، العلم والد والعمل مولود، العلم مع العمل والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل إذا كنت مستوحشاً من العلم، ولا تأنس بالعلم إذا كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما. ثم قال رحمه الله تعالى: فإن الله سبحانه وتعالى قال: فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [آل عمران:187] قال بعض السلف: تركوا العمل به، وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة الذين لا يعملون بعلمهم، وكذلك فإن من الذين تسعر بهم النار، رجل آتاه الله القرآن وعرَّفه تلك النعمة فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وقرأت القرآن وعلمته فيك، فقال: كذبت، إنما أردت أن يقال: فلانٌ قارئ، فقد قيل، فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. قال الناظم:
وعامل بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الوثن(52/24)
قوم يوم القيامة تقرض شفاههم بمقاريض من نار، من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء من أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرءون كتاب الله ولا يعملون. الإنسان يسأل يوم القيامة عن علمه ماذا عمل فيه، وكذلك فإن أبا الدرداء رضي الله عنه قد قال: [إنما أخاف أن يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمت فما عملت فيما علمت]. حسن موقوف عليه. وكان بعض السلف يقول: أخشى ألا تبقى آية في كتاب الله تعالى آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة هل ائتمرت، والزاجرة هل ازدجرت، فأعوذ بالله من علم لا ينفع ومن نفس لا تشبع. كان فتىً يختلف إلى أم المؤمنين عائشة يسألها ويكثر السؤال، فقالت: [يا بني! هل عملت بما سمعت مني؟ فقال: لا والله يا أماه، فقالت: يا بني! فلم تستكثر من حجج الله علينا وعليك؟] قال وهب بن منبه : مثل من تعلم علماً لا يعمل به، كمثل طبيب معه دواء لا يتداوى به. لماذا حصلت البركة عند الأولين؟ لأنهم كانوا يأخذون عشر آيات لا يتجاوزنها حتى يعملوا بما فيها، ولذلك تعلموا العلم والعمل جميعاً. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل]. الإمام أحمد جاءه شاب يطلب الحديث، لما لاحظ عليه الإمام أحمد أنه لا يقوم الليل، قال: أف لطالب حديث لا يقوم الليل. قال خلاد : أتيت سفيان بن عيينة ، فقال: إنما يأتي بك الجهل لا ابتغاء العلم، لو اقتصر جيرانك على علمك لكفاهم، ثم كوم كومة من بطحاء، ثم شقها بإصبعه، ثم قال: هذا العلم أخذت نصفه، هل استعملته؟ ولذلك إيانا وخدعة جمع العلم ثم نعمل، قال حفص بن حميد : دخلت على داود الطائي أسأله مشكلة وكان كريماً، فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع آلته؟ فإذا أفنى عمره في الآلة فمتى يحارب؟ إن العلم آلة العمل، فإذا أفنى عمره في جمعه، فمتى يعمل؟ أيها الإخوة! إن مخالفة العلم للعمل خطيرة جداً، هناك واحد في النار يجاء به يدر(52/25)
بأقتاب بطنه كما يور الحمار بالرحى، فيطوف به أهل النار، فيقولون: (أي فلان! ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله). رواه البخاري . وأناس في آخر الزمان الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عنهم يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. جاءت امرأة إلى ابن مسعود رضي الله عنه تقول: أنبئت أنك تنهى عن الواصلة؟ قال: نعم، ثم بين لها الدليل، قالت المرأة: فلعله في بعض نسائك، يمكن بلغنا أن زوجتك تفعل نمص الشعر، قال: ادخلي بنفسك وتأكدي، فدخلت ثم خرجت فقالت: ما رأيت بأساً، قال: [ما حفظت إذاً وصية العبد الصالح، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، لو فعلت ذلك ما جامعناها ولا سكنا معها أصلاً]. قال الحسن : " كان الرجل إذا طلب العلم؛ لم يلبث أن يرى ذلك في بصره وتخشعه ولسانه وصلته وزهده ".
نداءات لصاحب العلم ... :(52/26)
يا صاحب العلم! إن الذي علمت ثم لم تعمل به؛ قاطعٌ حجتك ومعذرتك عند ربك إذا لقيته. يا صاحب العلم! إن الذي أمرت به من طاعة الله؛ ليشغلك عما نهيت عنه من معصية الله. يا صاحب العلم! لا تكونن قوياً في عمل غيرك ضعيفاً في عمل نفسك. يا صاحب العلم! إنه لا يكمل ضوء النهار إلا بالشمس، كذلك لا تكمل الحكمة إلا بطاعة الله. يا صاحب العلم! إنه لا يصلح الزرع إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل. يا صاحب العلم! كل مسافر متزود، وسيجد إذا احتاج إلى زاده ما تزود، وكذلك سيجد كل عامل إذا احتاج إلى عمله في الآخرة ما عمل في الدنيا. كيف أنت إذا قيل لك يوم القيامة أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت: علمت، قيل لك: فماذا عملت فيما علمت؟ وإن قلت: جهلت، قيل لك: فما كان عذرك فيما جهلت؟ ألا تعلمت؟ الذي يعرف ولا يعمل، ويعلم الناس ولا يعمل، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (مثل العالم الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه) رواه الطبراني ، وصححه الألباني . إذا أراد الله بعبد خيراً؛ فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شراً، فتح له باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل، كان السلف يستعينون على حفظ الحديث بالعمل به، أبو بكر النشهلي في سياق الموت يومئ برأسه يصلي، قال له من حوله: سبحان الله! على هذه الحال، قال: أبادر طي الصحيفة، أي: قبل ما تطوى صحيفتي ألحق ركعتين. وجاء أحد الصالحين الحلاق ليقص له شاربه، وهو لا يفتأ يذكر ربه، فقال: اسكت حتى أقص الشارب، فقال: أنت تعمل وأنا أعمل، قال: لا أتوقف عن العمل.
ولا ترجِ فعل الخير يوماً إلى ... غدِ لعل غداً يأتي وأنت فقيد(52/27)
احذروا سوف، إن سوف من جند إبليس، الآن موسم الحج قادم، بعض الناس شباب بالغون يجب عليهم الحج، ويستطيع يأخذ إجازة ويذهب، ما عذره؟ والحج قريب، يقول: إذا كبرت، وفي المستقبل، وهل تضمن أن تعيش إلى المستقبل؟ علم بلا عمل، كشجرة بلا ثمر.
نظر الناس إلى عمل العالم قبل كل شيء:
أيها الإخوة! إن الناس ينظرون إلى العالم أول شيء في عمله ماذا يعمل؟ إذا عمله طابق قوله، أخذوا به، حتى لو كانت المسألة لا علاقة لها بالموضوع، جاء أعرابي إلى ابن أبي ذئب وهو من كبار الفقهاء، فسأله عن مسألة الطلاق، فأفتاه أن زوجته طالق، فقال: انظر حسناً، هذا أعرابي عنده جفاء يقول للشيخ: فكر وأعد النظر فيها، قال: نظرت وقد بانت منك، فقال الأعرابي الجاهل:
أتيت ابن أبي ذئب أبتغي الفقه ... ... عنده فطلق حتى البت تبت أنامله
أطلق في فتوى ابن ذئب حليلتي ... ... وعند ابن ذئب أهله وحلائله(52/28)
الآن الشيخ زوجته عنده وأنا بدون زوجه، لا يمكن، وهذا من الجهل. فإذاً الناس ينظرون إلى فعل العالم وإلى طالب العلم ويحتجون به، ولذلك لابد أن يتقن طالب العلم العمل. تناقش بعض الأشخاص في حكم النوم بعد العصر، واحد قال: يجوز، وواحد قال: لا يجوز، قال واحد: يا أخي أنا عندي الخبر يجوز النوم بعد العصر، بالطبع هو يجوز النوم بعد العصر، لكن انظر الدليل، فقال له صاحبه: ما هو الدليل على أنه يجوز النوم بعد العصر؟ قال: ذهبت إلى الشيخ فلان بعد العصر فوجدته نائماً، مع أن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام هي الحجة، لكن الناس هكذا. وبعض طلبة العلم يقف مع صورة العمل، مع القراءات والأسانيد، ويقف مع الأقوال يجمعها في الفقه والخلاف، ثم ينسى قضية العمل، ولذلك ابن الجوزي وعظ نفسه في هذا، قال لما رآها وقفت مع صورة العلم فقط، قال: صحت بها، فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف والحذر؟ أوما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم قام حتى ورمت قدماه؟ أما كان أبو بكر شجي النشيج كثير البكاء؟ أما كان في خد عمر خطان من الدموع؟ أما كان عثمان يختم القرآن في ركعة؟ أما كان علي يبكي في الليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: [يا دنيا! غري غيري؟]. أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد، فلم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة؟ أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟ أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ قال: أن أباك يخاف عذاب البيات؟ أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة، وكان يقول: وا لهفاه! سبقني العابدون وقطع بي؟ أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟ أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟ أما تعلمين أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم أبي حنيفة و الشافعي و أحمد و مالك ؟ هكذا يجب على الإنسان أن ينظر إلى السلف ، ويقارن نفسه.(52/29)
حث على العلم والعمل: ...
أيها الإخوة! ينبغي علينا أن نعود إلى الله سبحانه تعالى، وأن نقوم لله عز وجل بالتنفيذ والتطبيق، ونربي أولادنا على العلم والعمل، لنصحح المسيرة من أولها، إذا كان فاتنا من أعمارنا شيء لتقصير أهلينا وآبائنا وأمهاتنا، فلنستدرك ذلك في أبياتنا. هذه أبيات جميلة جداً يعظ بها أبٌ مشفق ابنه، كناه بأبي بكر، يقول له:
أبا بكر دعوتك لو أجبت ... إلى ما فيه حظك لو عقلت
إلى علمٍ تكون به إماماً ... مطاعاً إن نهيت وإن أمرت
ويجلو ما بعينك من غشاها ... ويهديك الصراط إذا ضللت
وتحمل منه في ناديك تاجاً ... ويكسوك الجمال إذا اغتربت
ينالك نفعه مادمت حياً ... ويبقى ذكره لك إن ذهبت
وكنز لا تخاف عليه لصاً ... خفيف الحمل يوجد حيث كنت
يزيد بكثرة الإنفاق منه ... وينقص إن به كفاً شددت
فلو قد ذقت من حلواه ... طعماً لآثرت التعلم واجتهدت
ولم يشغلك عنه هوىً ... مطاعٌ ولا دنيا بزخرفها فتنت
فواظبه وخذ بالجد فيه ... فإن أعطاكه الباري أخذت
وإن أوتيت فيه طول ... باعٍ وقال الناس أنك قد سبقت
فلا تأمن سؤال الله عنه ... بتوبيخٍ علمت فهل عملت(52/30)
وأخيراً: نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء، نسأل الله أن يعيننا على تطبيق ما تعلمناه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يجعلنا من الحريصين على تطبيق العلم والعمل به، يقول أبو بكر بن العربي : كنت مقيماً في ذي الحجة في سنة (489هـ) أشرب من ماء زمزم كثيراً، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان، ففتح الله لي ببركته في المقدار الذي يسره لي من العلم، ونسيت أن أشرب للعمل، يا ليتني! شربته لهما، حتى يفتح الله لي منهما، ولم يقدر- يقول من تواضعه- فكان سطوي للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله الحفظ والتوفيق برحمته. فإذاً ينبغي أن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعمل بالعلم، وأن يعيننا على ذلك، ونسأله سبحانه وتعالى حسن السريرة وحسن السيرة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يرضيه، وأن يباعد بيننا وبين ما لا يرضيه، ونسأله عز وجل أن ينعم علينا بلباس التقوى، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يجعلنا من أهل الإيمان علماً وعملاً ورائحة زكية، كما أن المؤمن قارئ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ونسأله أن يباعد بيننا وبين النفاق، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً إنك سميع مجيب قريب.(52/31)
( فضيحة المشعوذين (1) )
عناصر الموضوع :
حقيقة خلق الجن وقدراتهم
بعض أفعال الجن المحسوسة
فضيحة المشعوذين (1):
الجن خلق من خلق الله خلقهم من نار، فالإيمان بهم واجب، وهم أصناف: فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، وقد عمد كفارهم إلى إغواء المسلمين، بما لديهم من قدرات وإمكانات خارقة. فضيحة المشعوذين هو عنوان هذه الخطبة التي تتضمن كلاماً عن خلق الجن وأصنافهم وقدراتهم؛ لأن الجن هم السلاح الأقوى لدى المشعوذين، الذي يتمكنون به من الإغواء والتزيين. فهذه الخطبة هي الجزء الأول من هذا الموضوع، ويغلب عليها تفصيل قدرات الجن في شتى المجالات.
حقيقة خلق الجن وقدراتهم:(53/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فحديثنا اليوم -أيها الإخوة- عن خلقٍ من خلق الله تعالى، منهم المؤمن ومنهم الكافر، عمد كفارهم إلى إغواء المسلمين وحرفهم إلى الشرك، واستعملوا من أجل ذلك أنواع القدرات التي عندهم لإضلال الإنس، فاستجاب لهم كثيرٌ من الإنس، واستعانوا من أجل تحقيق غرضهم بأمر الشيطان كبيرهم بوسائل متعددة، ومن ذلك: هؤلاء الكهان والعرافون المنتشرون، والمشعوذون وغير ذلك. ومن أسباب طرح الموضوع ما سمعته من عدد من الإخوان الذين سألوا عن أشخاص يذهبون إليهم لمعرفة مكان السحر فيدلونهم عليه، ومكان المسروقات والمفقودات فيدلونهم عليها، ويجرون عملياتٍ بدون جراحة، ويستأصلون الأورام، ويزيلون العاهات، ويقرءون البطاقات الشخصية، ويعدون النقود في الجيب، ويخبرون الإنسان بأحواله الخاصة التي لا يعرفها إلا هو، ويكون كلامهم صحيحاً، وبدأت تجد الناس يصطفون طوابير على هؤلاء المشعوذين المتصلين بالشياطين رجاء شفاءٍ، أو(53/2)
معرفة مفقودٍ، وبعضهم عن فضول وحب استطلاع، فنريد أن نتعرف في هذه الخطبة على طرق هؤلاء الشياطين ووسائلهم وما هي ألاعيبهم، وما هي القدرات التي عندهم؟ لكي يبين بعد ذلك ويستبين للمسلم حقيقة هؤلاء، ولكي يكون الإنسان على بصيرة من أمره، خصوصاً وأن القضية قد دخلت حتى عالم الألعاب، فيحدثونك عن لعبة أو ألعاب تباع في السوق، رقعة تبسط عليها أشياء ثم يشير السهم أو القطعة إلى جوابٍ محدد، وتتحرك هذه القطعة على الرقعة بمفردها بدون أن يمسها الشخص ونحو ذلك. فما هو حكم الشرع في هذه الأشياء؟
تقدم خلق الجن وبيان أصنافهم:(53/3)
أولاً: لا بد أن نعود إلى الجذور، لا بد أن نعود للكلام عن الجن، ذلك العالم الذي خلقه الله تعالى كما خلق عالم الإنس وعالم الملائكة، والحمد لله رب العالمين، والعالمين جمع عالم، أخبرنا الله تبارك وتعالى أنهم خلقوا من النار، فقال عز وجل: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27] .. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] ومارج النار: طرف اللهب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلق الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) رواه مسلم رحمه الله تعالى. وخلق الجن متقدمٌ على خلق الإنس، فكانوا قبلهم في الأرض بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:26-27] وقيل في سبب قول الله تعالى في كلام الملائكة لما قالوا لربهم في خلق آدم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] قالوا: إن الملائكة توقعت أن يكون هذا شأن المخلوق الجديد لما رأوا من المخاليق الذين قبله من الجن الذين أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وسمي الجن جناً لاستتارهم قال تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام:76] واستجن بالشيء أي: اتقى به واختفى وراءه، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن أصنافهم وعن شيءٍ من قدراتهم، فقال في الحديث الصحيح: (الجن ثلاثة أصناف: فصنفٌ يطيرون في الهواء، وصنفٌ حياتٌ وكلاب، وصنفٌ يحلون ويظعنون) فأخبرنا بقدرتهم على الطيران وأخبرنا بقدرتهم على التشكل في هيئة حياتٍ وكلاب، ولا مجال للتكذيب بعالم الجن ألبتة، ومن أنكر وجود الجن فهو كافر، لأنه كذب الله تعالى الذي قال في محكم تنزيله: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ [الحجر:27] .. قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا(53/4)
سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً [الجن:1] .. وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف:29] فالمكذب بوجود الجن كافر، ولم يكذب به إلا طائفة من الفلاسفة والعقلانيين، وبعضهم زعموا أن الجن نوازع الشر في النفس الإنسانية، وأنهم ليسوا خلقاً مستقلاً وأنكروا وجودهم، وهؤلاء ولا شك ضلال، فإن المعرض عن كلام الله ورسوله لا يكون إلا ضالاً.
الهداية والضلال في عالم الجن:
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه التقى بهم ودعاهم إلى الله تعالى وقال: (إنه أتاني وفد نصيبين -وهي بلدة- ونعم الجن! فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظمٍ ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما) فكان منهم المؤمنون الذين انطلقوا في الأرض يستمعون لأي شيء يدل على سبب منع استراق الخبر من السماء وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:29-30] ودعوا قومهم إلى الله تعالى، وكان منهم الفقهاء لما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فكان إذا مر بقوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد! ولكن كثيراً منهم كفار وضلال وفسقة، هؤلاء الجن. ولذلك فإنهم شياطين، الشيطان اسمٌ للكافر من الجن، وهم كثيرون جداً، وكانوا يسترقون الخبر من السماء، يركب بعضهم فوق بعض ليستمع الخبر من السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان) يعني: كصوت جر السلسلة على صخرة، وهو صوتٌ(53/5)
عظيم إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] فيسمعها مسترقو السمع الجن الذين يركب بعضهم فوق بعضٍ إلى السماء يستمعون شيئاً من كلام الملائكة عن أوامر الرب في مرض فلان، أو شفاء فلان أو موت فلان أو زلزالٍ في مكان كذا، ونحو ذلك من الأحداث الأرضية، فيسمعها مسترقو السمع واحداً فوق الآخر، وصف سفيان راوي الحديث بعضهم فوق بعض وفرج أصابع يده اليمنى نصب بعضها فوق بعض (هكذا يركب بعضهم فوق بعض) يستمعون هذه الأوامر بصوت الملائكة الذين نقلوها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه -أي: الذي تحته- فيحرقه ولا تصل الكلمة إلى الأرض، وربما لم يدركه -الشهاب- حتى يرمي بها إلى الذي يليه، حتى يلقوها إلى الأرض، فإذا وصلت الكلمة إلى الأرض من خبر غيبي سيحدث فتلقى على فم الساحر -الجن هؤلاء الشياطين المتعاونون مع الساحر يأتون بالخبر إلى هذا الكاهن- فيكذب معها مائة كذبة فيصدق من قبل المغفلين في الأرض من الإنس الذين يأتون طوابير فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا بكذا وكذا فوجدناه حقاً؟ للتي سمعت من السماء، رواه البخاري في صحيحه ، فالناس لا يذكرون من كلام الكاهن إلا الشيء الذي حصل، ويقولون: أخبرنا بوقوع كذا ووقع، ولا يذكرون الكذبات الكثيرة التي يخبرهم بها من عالم الغيب من التي لا تقع، وبعض هؤلاء الكهان أذكياء يستخدمون ذكاءهم في الشر، فربما يخبرهم عن أشياء متوقعة الحصول، وأشياء لا يبعد وقوعها تعرف بالاستنتاج مثلاً فلا يكتشفون أمره، إذاً لو فرضنا أن كاهنا أو عرافاً أو ساحراً أخبر شخصاً بأنه سيقع حدثاً، وهذا الحدث لا يمكن استنتاجه ولا معرفته أو توقعه ووقع كما قال، فربما يكون مما زوده به شيطانه من الأخبار التي يسترقها الجن من السماء، ولكن نسبة الصدق في كلامهم (1%) ونسبة الكذب في كلام الكهان(53/6)
(99%)، لكن المغفلين لا ينتبهون إلا لهذا الخبر الواحد الذي تحقق ويقولون: يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.
ظهور القدرات الخارقة للجن في خدمتهم لسليمان:
وقد أخبرنا الله تعالى أنهم أصحاب قدرات عجيبة، وسخر الجن لنبيه سليمان فكانوا يقومون له بالأعمال الكثيرة، قال الله عز وجل: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [سبأ:12-13] فيعملون له ما شاء بتسخير الله له، سلطه عليهم، لا يستطيعون أن يخالفوا أمر سليمان ومن خالف أذاقه الله من عذاب السعير، وهو الحريق فيحرق، والمحاريب هي: المساجد والأبنية الكبيرة، والتماثيل قيل: من غير ذوات الأرواح، ولو كانت من ذوات الأرواح فيحمل على أنه لم يكن حراماً في شريعة سليمان مثلاً، وجفانٍ كالجواب: أي أنهم يعملون له أحواض كبيرة جداً للماء، وقدورٍ راسيات: يعني ثابتات في أماكنها لا تتحرك من عظمها واتساعها، قدور يطبخ فيها طعام جيش سليمان الذي كانت تحمله الريح، غدوها شهر ورواحها شهر، ملك لا ينبغي لأحدٍ من بعده، ولا يكون عند الكفار المتقدمين ولا المتأخرين، مهما بلغوا أسباب القوة لا ينالون أبداً ما نال سيلمان عليه السلام من أسباب القوة. إذاً لهم قدرات عجيبة، ومن قدرتهم: استطاعتهم لنقل الأشياء عبر الجدران، والطيران بها في المسافات الشاسعة وإحضارها، وإدخالها عبر الجدران مرة أخرى إلى مكان ما، ولذلك قال سليمان وهو يفكر في طريقة لدعوة ملكة سبأ إلى الله وكيف يقنعها؟ قال يستشير من حوله من أولياء الله الصالحين ومن الجن الذين سخرهم الله له: قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ(53/7)
أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل:39-39] فهذا الجني الشديد كان يستطيع -ولم يكن يكذب في دعواه- أن يأتي بعرش ملكة سبأ من داخل قصرها في اليمن ويضعه داخل قصر سليمان في الشام قبل أن يقوم سليمان من مقامه! إذاً قضية استطاعتهم لنقل الأشياء عبر الجدران والأجسام الصلبة والطيران بها تلك المسافة الشاسعة في وقتٍ قصيرٍ جداً للغاية أمرٌ مقدورٌ لهم، أخبرنا الله عنه لا مجال للتكذيب به، فاستخدمت الشياطين هذه القدرات في إضلال الناس وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] وهذا المنطلق الذي ننطلق به في استكشاف كل القصص التي يأتي بها الناس ويتداولونها عن أشياء خرقت العادة التي يعرفونها، ونقول: انتبهوا يا عباد الله! فليست كل خارقة كرامة من الله، ليست كل خارقة تدل على صلاح صاحبها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يمتحن الدجالين وذهب إلى عبد الله بن صياد ، وكان قد ظن أنه الدجال، وكان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على كشف أمره فقال له: (قد خبأت لك خبئاً -يقول النبي عليه الصلاة والسلام مختبراً له- قال عبد الله بن صياد : الدخ الدخ) والنبي عليه الصلاة والسلام كان قد خبأ له سورة الدخان فقيل: إن شيطان عبد الله بن صياد قد أوصل إليه الخبر من السماء، ولكن الخبر وصلَ ناقصاً، وما وصلت كلمة الدخان كاملة لعبد الله بن صياد، ولذلك قال له عليه الصلاة والسلام: (اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت من إخوان الكهان والشياطين، يأتونك بهذا الخبر ويخلطون فيه، فلذلك أتوك به ناقصاً، وعرف بعد ذلك أن عبد الله بن صياد ليس هو الدجال المنتظر، وإنما هو دجالٌ من الدجاجلة يعينه الشياطين. وهكذا أعانت الشياطين مدعيي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل فتنة الناس فهذا الأسود العنسي الذي ادعى النبوة كان له من الشياطين -كما ثبت في التاريخ-(53/8)
من يخبره ببعض الأمور المغيبة، وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور قال شيخ الإسلام رحمه الله كاشفاً زيف هؤلاء، ومن كلامه ننقل هذه الدرر النفيسة والتجارب العظيمة له رحمه الله مع هؤلاء في كشف أحوالهم، ينقل تاريخياً ومن واقعه، قال: وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد -هو مقيد ويخرج من القيد- وتمنع السلاح أن ينفذ فيه -الشياطين تمنع السيوف والرماح من النفوذ في جسد هذا الدجال. وهذا يذكرنا بما يفعله بعض أصحاب الطريقة الرفاعية الصوفية الضُلَّال من ضرب أجسادهم بالشيش، وما يفعله بعض الذين يستعينون بالشياطين في بعض السيركات أو الحفلات التي يعملونها من ضرب أنفسهم بسكاكين، أو بسيوف، ولا يخرج منه قطرة دم واحدة، وليس خداع نظر، بل شيء حقيقي، ما هو التعليل؟ عندما يعرف المسلم الحقيقة لا تنطلي عليه الأباطيل، الاستعانة بالشياطين، إذا كان الشيطان يستطيع أن يستخرج عرش ملكة سبأ وهو جسمٌ كبير عبر الجدار، فكذلك يستطيع أن يمنع اختراق السيف لجسم شخصٍ، أو أن يخترقه دون إيذاء كما يخترق عرش ملكة سبأ جدران قصرها، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبِّح الرخامة إذا مسحها بيده، هذا الدجال كان إذا مسح رخامة سبَّحت، وصوت التسبيح صادر من الشياطين الذين يعينونه لإضلال الناس -وكان يرى الناس رجالاً وركباناً على خيل في الهواء ويقول: هي الملائكة وإنما كانت جنا- فالجن تتشكل بأشكالٍ يراها هذا الدجال ويظنها ملائكة تنزل عليه بالوحي، وفعلاً يلقون في سمعه كلمات وهكذا مسيلمة كان يسمع شيئاً في أذنه فعلاً، وهو مما تنزلت به الشياطين، ولذلك لا يمكن أن تجعل الأحوال الشيطانية هذه دليلاً على أن هذا الرجل ولي من أولياء الله، ولا يمكن أن تُجعل أي خارقة من خوارق العادات دليلاً على أن هذا الرجل صالح(53/9)
أبداً، فإنه قد يكون مشركاً عظيماً من المشركين تساعده هؤلاء الشياطين.
من قدراتهم: الكلام بألسنة مختلفة والنقل السريع.
ومن طرقهم كذلك: أنهم ربما تكلموا بألسنة مختلفة على لسان هذا الدجال كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ولذلك يحدثك بعض الأشخاص الذين ذهبوا إلى بعض العرافين أنهم سمعوا منه مرة صوت طفل، ومرة صوت امرأة، ومرة صوت رجل، ومرة صوتاً نحيفاً، ومرة غليظاً، وأنه دخل في غيبوبة وأغمض عينيه، وصار يتكلم وهو نائم ونحو ذلك، وكل ذلك من فعل الشياطين، تتكلم على لسانه، وربما لا يدري بما يخرج منه، ومن هؤلاء الدجالين يقول شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد التاسع عشر من فتاويه : من يأتيه الشيطان بأطعمةٍ وفاكهة وحلوى، وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع من فاكهة بلاد بعيدة، يأتيه بها في هذا البلد، ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته، وهذا الذي ادعاه من يسموهم بأهل الخطوة من الصوفية ، الذين كانوا يذهبون في ليلة ويعودون في نفس الليلة، ويخبرون الناس بأشياء في عرفة ممن لقوا من فلان وفلان، وعندما يعود الحجاج يتبينُ أن كلامهم صحيح! كيف؟ حملته الجن، وليس بغريب يا إخوان ما دام أنهم يستطيعون حمل عرش سبأ من اليمن إلى الشام قبل أن يقوم سليمان من مقامه، فلا تستغرب أن يحملوا شخصاً إلى عرفة ويعودوا به، ليس ذلك بغريبٍ ولا مستحيل! وهو بالنسبة إلينا غريب، ولكن هؤلاء الذين يذهبون بهم إلى الحج قال شيخ الإسلام رحمه الله: فلا يحج حجاً شرعياً، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، فهو يتكلم عن مسألة لها علاقة بإحرامنا بالطائرة اليوم من فوق إذا حاذينا الميقات، ولا يلبي ولا يقف بمزدلفة ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة ولا يرمي الجمار بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته وهذا ليس بحج، إذاً إذا سمعتم مرة بأهل الخطوة فكثيرٌ منهم دجالون(53/10)
كذابون لا يستطيعون إلا الاستعانة بالجن، ومنهم نفرٌ قليل تعينه الشياطين فعلاً.
من قدراتهم: التصور بصور الموتى.
ومن طرق الشياطين أن المخلوق قد يستغيث بشخصٍ حيٍ أو ميت؛ سواءً كان هذا المستغيث مسلماً أو نصرانياً أو مشركاً، فيتصور له الشيطان بصورة ذلك المستغاث، فيظن الشخص أنه هو، فإذا نادى مستغيثاً يا فلان أغثني ظهر الشيطان بصورة البدوي ، وظهر بصورة أبي العباس المرسي ، أو العيدروس أو أي ولي من الأولياء المزعومين، النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن الجن يتشكلون بحيات وكلاب، إذاً يمكن أن يتشكلوا بصورة شخصٍ أيضاً، وهنا يلبس على هذا الإنسي المسكين ويظن أن الاستغاثة صحيحة فعلاً، وأن الشيخ أغاثه، وأن الميت حضر وأنجده، قال شيخ الإسلام: ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه على بعض مطالبه، فيقول له: ماذا تشتهي؟ فيقول: عنباً من المكان الفلاني، فيأتيه به، كما قد جرى ذلك لغير واحدٍ من المسلمين واليهود والنصارى، وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، وهذا هو التفسير الحقيقي لعملية تحضير الأرواح، وسيأتي عليها كلامٌ بعد قليل إن شاء الله. فيأتي هذا الشيطان بصورة الميت ويكلم الشخص بأمورٍ دقيقة تتعلق بالميت، وقد أخبرني أشخاصٌ عن أمورٍ حدثت لهم من هذا القبيل، فعلاً يأتيه بصورة أبيه، أو يأتيه بصورة لا يراها ويقول له: أنا روح أبيك، وبصوت أبيه؛ لأن القرين الشيطان الذي مع الأب يعرف صوت الأب، ويقلد صوت الأب، وإذا كانوا ينقلون الأشياء ويتشكلون، فهم يقلدون الأصوات أيضاً، ويصف له أشياء دقيقة في البيت لا يعرفها إلا الولد والأب الذي مات، وفعلاً يخرج الواحد من عند المشعوذ والعراف مذهولاً بسبب أنه لا يعرف حقيقة القضية، ونظراً لانتشار قضية العرافين والدجالين والمشعوذين جداً، فإننا نؤكد ونركز(53/11)
على هذه المسألة، تدخل الشياطين لإغواء الإنس، ويصدق الإنسان فعلاً بالعراف ليوقعه في الشرك. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند فيظنون أنه عاش بعد موته، ومن هؤلاء شيخٌ كان بمصر أوصى خادمه فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحداً يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي، فلما مات رأى شخصاً في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله غاب، وكان ذلك شيطانه، فإذاً لا تستغرب إذا سمعت ببعض الأخبار، فإن القضية واضحة لأهل الحق وضوح الشمس، دجالون ومشعوذون، كهنة وسحرة، وعرافون يتعاونون مع الشياطين لإضلال الناس، وهؤلاء المساكين الذين لم يستقر التوحيد في قلوبهم ينخدعون. نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا على الحق مستقيمين، وبالتوحيد عاملين إنه سميعٌ قريبٌ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
بعض أفعال الجن المحسوسة:(53/12)
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، أشهد أن الله ولي الصالحين، ورب الأولين والآخرين، وخالق الإنس والجن والناس أجمعين، سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء كما يشاء على ما يشاء سبحانه وتعالى، لا معقب لحكمه، ولا يُسْأَلُ عما يفعل وهو الحكيم الخبير. ومما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله: أنه ربما يرى شخص في المنام أن شعره قد قص، أو أنه لبس طاقية، فيصبح وقد قص شعره فعلاً وأُلبس تلك الطاقية، ويكون ذلك بفعل الشياطين، قصوا شعره في المنام، وبعد ذلك يصدق ببقية المنام ويكون فيه من الشرك والكفر ما الله به عليم. وكذلك فإن من هذه الطرق أيضاً مناداة عباد القبور من داخل القبر، وهو شيءٌ تفعله الشياطين، فلا تُكذّب من قال لك: سمعت الشيخ من قبره يتكلم، فربما يكون صحيحاً لكن الذي تكلم هو الشيطان. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد يضعون مصروعاً عند القبر فيغادره الشيطان ويقوم بعافية، ليتوهم الناس أن الولي الذي في القبر عالجه، وإنما فعلت ذلك الشياطين، وغادرت المصروع ليستقر عند الناس أن الميت الذي في القبر هو البركة التي عالجت هذا المصروع، وإذا قُرئت هناك آية الكرسي بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال: لا إله إلا الله فسقط على الأرض، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق، وخرج منه إنسان، فيظنه الميت وهو شيطان، ومثل المناداة من المغارات والجبال والكهوف؛ يأخذون إليها الشخص أو يذهب إليها بعض الناس، ويسمعون أصواتاً من داخل المغارات والكهوف، وما هي إلا شياطين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، وهذا هو الذي يُفعل في حفلات الزار لمن سمع بها، وهي الحفلات التي يجتمع بها أناسٌ يضربون بالدف بالطبول العظيمة بأصواتٍ عالية جداً، ويرقصون رقصات جنونية حتى يؤدي بهم الأمر إلى الوقوع في حالة إغماء(53/13)
ونحو ذلك، ثم تتكلم الشياطين على ألسنتهم، وتحضر حفلات الزار؛ لأن الغناء والطبل يجر الشياطين، كما أن القرآن يطردهم، وربما خاطبه من عصفورٍ، أو من ثمرةٍ، أو من حجرٍ ونحو ذلك، وربما جاءه بصورة جميلة وزعم أنه ملكٌ يريد أن يزوره، وبعد ذلك تأتي الشركيات، والأمر بالسجود له، والصلاة له، وذبح شيءٍ له، ولذلك بعض الدجالين يقول: من شرط العلاج أن تذبح ديكاً أسود لكن لا تقل: باسم الله، لو قلت: باسم الله، فلن ينفع العلاج، وبعض الشياطين يأمرون الكهان الذين يتعاملون معهم أن يخنقوا لهم دابة بدون ذكر اسم الله عليها، وهكذا.
من قدراتهم: إمكان رؤية الأماكن البعيدة.(53/14)
قال شيخ الإسلام: أخبر بعض الشيوخ الذين كان قد جرى لهم قال: يُرونني الجن شيئاً براقاً مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطرد من الأخبار، وهذا شيءٌ قد حدثني عنه شخصٌ ذهب إلى عمان قال ذهبنا إلى ساحر، فوضع لنا طستاً فيه زئبق -سطح عاكس لماع- فقال له الرجل: أريد أن أرى أهلي في البلد التي جاء منها في الخبر في الدمام قال: فجعل يتمتم بأشياء ثم صفا ذلك السطح وظهرت صورة البلد ثم ظهرت صورة الحي ثم ظهرت صورة الحارة ثم ظهرت صورة العمارة ثم ظهرت صورة الشقة قال: فرأيت أولادي يلعبون، لا شيء في هذا مستنكر من جهة الوقوع، إذا كان الإنس قد نقلوا الأشياء بالبث المباشر حياً على الهواء، ترى في بيتك ما يحدث في أمريكا ، أفلا يستطيع الجن أن ينقلوا على هذا السطح صورة أولاده؟ بلى يستطيعون، ولكن القضية فيما بعد ذلك، فيما يأمره به هذا الدجال والساحر من الكفر والحرام، وبعضهم يقول: لا يأخذون نقوداً؛ ليضلوا الناس، أو لا يأخذون نقوداً في البداية، ويقولون: ما فعلناها إلا خدمة وواجباً علينا، وعبادة، لا يأخذون نقوداً ويظهرون العفة وهم يتعاملون مع الشياطين قطعاً وبلا شك، والذي يسمع الأخبار لا يمكن أن يقول إلا هذا. أيها الإخوة: إن إدراك هذه الأشياء يفسر لك شيئاً من الحركات، وبعض الألعاب يقولون: وضعناها وتحركت أمامنا، وأشارت إلى السهم المعين، ومن الذي يحركها؟ هو الشيطان، الشياطين الذين يضلون الناس. ومن ذلك أن يشترطوا على الساحر بكتابة العزائم والطلاسم لكي يساعدوه أن يكتب القرآن بدم الحيض والنجاسات، وهذا مستخدم عندهم، ويعكسون السور من آخرها إلى أولها، وبعض هذه الأوراق لو فتحتها وجدت فيها استغاثات واضحة بجني أو شيطان، ومن شروط الرقية أن تكون بالقرآن، وبالكلام العربي مما يعرف، وليست مشتملة على شرك، ولا يعتقد أنها تنفع بذاتها، وكثيرٌ يأخذون هذه العزائم والتمائم وهذه الأشياء المربوطة، وبالجملة فإن الشياطين هم الذي(53/15)
يفعلون كثيراً من هذه الأشياء بالتعاون مع شياطين الإنس؛ لإضلال هؤلاء المساكين، وكثيرٌ منهم لا يفهمون ولا يدركون ولا يعقلون ويرجعون مخدوعين.
من قدرات الجن في العلاج وحكم ذلك:
قال لي شخصٌ بالأمس: شاب صغير في الأردن يذهبون إليه طوابير يقول للشخص: أنت تحتاج إلى عملية ولا يدخل معه إلا لوحده في الغرفة، ويقول له: مهما سمعت من أصوات فلا تكترث، ويجري العملية دون أي جراحة، ويخرج من عنده، فيمكن أن يقع ذلك من الشياطين التي تعينه، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أم المؤمنين التي كانت تذهب إلى يهودي لرقيتها ونهاها، قالت: هذا إذا رقاني سكن الألم قال: (إن الشيطان ينخس العرق فيسكن) . إذاً: الشيطان يستطيع أن يعمل عمل البنج، وأن ينخس عرقاً فيسكنه، فلماذا إذاً لا يُعمل شيءٌ مثل هذا؟! وهنا قد يقول قائل: فما حكم الاستعانة بالجن في الأمور المباحة؟ ولماذا تحرمون الذهاب إلى هؤلاء وهم يعملون أشياء مباحة؟ والوقت قد ضاق -أيها الإخوة- فلعلنا إن شاء الله نأتي على ذكر هذا الموضوع وأمورٍ أخرى متعلقة به في خطبة قادمة بحول الله وقوته، ونقول هذا الكلام إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل، وردعاً لكل من تسول له نفسه الذهاب إلى هؤلاء المشعوذين، أو الانخداع بهم، مع أن كثيراً منهم كذابون لا عندهم جنٌ ولا شياطين ولا عفاريت، لكنهم يضحكون على الناس ويشوشون عليهم. ولذلك فالمسلم على بصيرة من أمره والحمد لله، والموحد يعرف ربه، ويعرف أن الله خلق هذه الأشياء سبحانه وتعالى، وأنهم لا يخرجون عن إرادته ولا عن مشيئته قيد أنملة، فكلهم تحت قهره وأمره سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء. وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمي، الذي أرسله رحمة للعالمين، فكشف أخبار الدجالين، وبين لنا صفات الدجالين، ونهانا عن الذهاب إلى العرافين والكهنة والمشعوذين، وأخبرنا أنه من ذهب إلى عرافٍ لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً، وأن من صدق كاهناً بما أخبره فقد كفر بما(53/16)
أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم إنا نسألك أن تجنبنا كيد الشياطين ودجل الدجالين، اللهم أرنا التوحيد وبصرنا به، وارزقنا التمسك به يا رب العالمين، وباعد بيننا وبين الشرك وأهله؛ إنك على كل شيءٍ قدير.(53/17)
( فضيحة المشعوذين (2) )
عناصر الموضوع :
علاقة رجال الإنس برجال الجن
صور من عجز الشياطين
صور أخرى من الشعوذة (بدون الاستعانة بالجن)
فضيحة المشعوذين (2):
بعد أن مهد الشيخ لهذا الموضوع في خطبة ماضية بكلام مفصل عن خلق الجن وقدراتهم، استهل هذه الخطبة ببيان علاقة رجال الإنس بالجن، ومنها استغاثة أهل الجاهلية برجال الجن. كما أورد في هذه الخطبة بعض حيل المشعوذين، وكذبهم في ادعاء تحضير الأرواح، وتفصيل صور كثيرة من عجزهم وضعفهم، وبيان الفرق بين حيلهم وبين كرامات الأولياء. وفي ختام هذه المادة ذكر حيل بعض المشعوذين الذي لا يتصلون بالجن، بل يضحكون على الناس بغية المال أو استهداف الدِّين.
علاقة رجال الإنس برجال الجن:(54/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد:فقد تحدثنا في الخطبة الماضية -أيها الإخوة- عن أمرٍ من مظاهرة شياطين الجن لشياطين الإنس، وشيءٍ من ماهية العلاقة بين شياطين الجن وشياطين الإنس، وأن هذه المؤامرة لا تزال مستمرة لحرف الناس عن التوحيد، وإيقاعهم في الشرك، ولا تزال تسمع بين الفينة والأخرى عن قصصٍ عجيبة غريبة تدل على كثرة وقوع الناس في زماننا في حبال الشعوذة والدجل، وكثرة إتيانهم وغشيانهم للسحرة والعرافين والكهان، وهذا أمرٌ يصادم التوحيد بالكلية، وهو أمرٌ خطيرٌ ينبغي أن يتصدى له دعاة التوحيد، وهذا شأنهم دائماً وأبداً أن يبينوا للناس أن أعظم معروفٍ جاءت به الرسل هو التوحيد، وأعظم منكرٍ نهت عنه الرسل هو الشرك. لقد بين الله سبحانه وتعالى هذه العلاقة بين شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويبن الله لنا كيف استهوت بعض شياطين الجن المشركين فعبدوهم: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ(54/2)
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بالوادي في طريق سفره قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فلما استغاثت الإنس بالجن، ازدادت الجن طغياناً وكفراً، كما قال سبحانه تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] ولذلك فإن المسلم لا ينخدع أبداً بما يراه ويسمعه من أفعال هؤلاء الشياطين، مهما كانت الحيل، ومهما كانت الخوارق التي يظهرونها على أنها خوارق، ومهما كان التعاون بين شياطين الإنس والجن من هؤلاء الكهنة والعرافين والمشعوذين، مهما ظهر من الأشياء الغريبة والعجيبة، فإن المؤمن يبقى على الثوابت التي جاءت بها شريعته، ولا يستجرينه الشيطان، ولا تخدعه هذه التصرفات، فإنه ولله الحمد على إيمانٍ ودينٍ وتوحيد.
كلام شيخ الإسلام عما يفعله الجن للمشعوذين:(54/3)
ولما كان من واجب أهل العلم كشف هذه الأشياء سطر ذلك العلماء في كتبهم، وذكرنا شيئاً مما بسطه شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا التعاون، وعن الأشياء التي ظهرت في عهده، وهي في عهدنا موجودة بدرجة كبيرة إن لم تكن أكثر، ذكر رحمه الله فعل هؤلاء الشياطين الذين كانوا يطيرون بأوليائهم في الهواء وينقلونهم من مكان إلى مكان، ويأتون لهم بأشياء يطلبونها، ولكنهم لا يفعلون لهم ذلك إلا إذا كفروا معهم بالله رب الأرض والسماوات، وفعلوا المنكرات والموبقات، وإن تظاهروا بالصلاح والتقوى، ولذلك لما تكلم رحمه الله تعالى عن الحلاج الذي يقدسه اليوم بعض مفكري القرن العشرين، ويكتبون عنه على أنه شهيد الثورة والإصلاح، وإنما كان دجالاً من الدجاجلة، وكان مشركاً بالله تعالى، قال: كان له شياطين تخدمه أحياناً، وكان بعض أتباعه معه على جبل أبي قبيس فطلبوا منه حلاوة، فذهب إلى مكانٍ قريبٍ فجاء بصحن حلوى، فكشفوا الأمر بعد ذلك فوجدوه قد سُرق من دكان حلوى باليمن، حمله شيطان تلك البقعة. قال رحمه الله: ونحن نعرف كثيراً من هؤلاء في زماننا وغير زماننا، مثل شخصٍ هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجيء من الهواء إلى نافذة البيت الذي فيه الناس، فيدخل وهم يرونه، ويجيء بالليل إلى باب الصغير فيعبر منه هو ورفيقه وهو من أفجر الناس، وكذلك كان بالشوبك وهي قلعة من أطراف الشام يأتي من قرية يُقال لها: الشاهدة ، يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه، يحمله ذلك الشيطان يقطع به الطريق، ثم إن هؤلاء الشياطين يسألونهم أموراً كبقرٍ وخيلٍ يخنقونها خنقاً لا يذكرون اسم الله تعالى عليها، وهؤلاء الذين يتعاونون مع الشياطين منهم من يطير في الهواء والشيطان طائرٌ به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم يقول: أنا أصرع أمامكم شخصاً فيسقط شخصاً بالفعل، ويكون الشيطان الذي مع هذا الرجل هو الذي صرع ذلك الرجل، فيحسب(54/4)
الجاهلون أنها كراماتٌ من كرامات أولياء الله المتقين. قال رحمه الله تعالى: فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر ويقول له: هنيئاً لك يا ولي الله والشياطين هي التي تخاطبه، فإذا قرأ آية الكرسي ذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها فخاطبه، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، ومنهم من تأتيه الشياطين بمن يهواه من امرأة أو صبيٍ لفعل الفاحشة من زناً ولواط، وبعض هؤلاء إما أن يؤتى بهم إليه مدفوعاً ملجئاً مكرها أو مختاراً. إلى هذه الدرجة يصل التعامل بينهم إلى قيادة هؤلاء لعمل الفاحشة، وكذلك فإنه رحمه الله قد بين أن بعض هؤلاء الشياطين يتنزلون بأشياء من المكاشفات والتأثيرات على هؤلاء، فيُسمعونهم كلاماً كما كانت الشياطين تدخل في الأصنام وتكلم عابديها في الجاهلية، وفي غير الجاهلية بعد الإسلام، فيتخيل هؤلاء أن الأصنام تتكلم، ثم بين رحمه الله تعالى أن هؤلاء يجتمعون في أماكن الخبث، والأماكن المقفلة المهجورة، وأماكن القمامة والأوساخ، نظراً لأن الشياطين تغشى تلك الأماكن. قال رحمه الله: ولما كان الانقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله؛ صارت الشياطين كثيراً ما تأوي إلى المغارات والجبال مثل: مغارة الدم التي بجبل قاسيون وجبل لبنان الذي بساحل الشام ، وجبل الفتح بأسوان مصر ، وجبالٍ بالروم وخراسان والجزيرة وجبل اللكامي والأحيس وجبل سولانا قرب أردبيل ، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالاً من الصالحين يعتقدون أن فيها أولياء، ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هم رجالٌ من الجن؛ فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ(54/5)
فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] قال رحمه الله: ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجلٍ شعرانيٍ جلده يشبه جلد الماعز، فيظن من لا يعرفه أنه إنسيٌ وإنما هو جني، فهذا من التلبيسات أيضاً، وكذلك التحول إلى الصور والأشكال يساعدهم على ذلك.
قصة من الواقع: فضيحة مشعوذ.
بعد الخطبة الماضية -أيها الإخوة- حضر لدي أحد الإخوان فقال: بمناسبة هذه الخطبة أخبرك عما وقع لي: سمعت أن شيخاً في القرية عندنا وليٌ من أولياء الله وعنده كراماتٌ وخوراق، فذهبت إليه، قال: فمن يوم أن لقيته قال: أهلاً بفلان، وسماني باسمي، ولم أكن رأيته من قبل، واستغربت ودهشت كيف عرف اسمي!! ثم بعد ذلك لزمته وصرت معه أخدمه على أني أخدم الشيخ، وأتقرب إلى الله بتلك الخدمة، وكنت أرى منه عجائب قال وهو يحدثني هذا الشخص: وكنت معه مرة في الغرفة، فالتفتُّ فجأة إليه فإذا شكله قد تغير وصار أقرب ما يكون إلى الشبح، فقلت له: شبهه لي بأي صورة؟ قال: أقرب ما يكون إلى شكل الخنزير، ثم عاد إلى شكله مرة أخرى، إلى هيئته الإنسية التي أعرفها، قال: وأتيته مرة بفتاة أوصتني أمها بالذهاب بها إلى هذا الشيخ، لأن الخطاب ينفرون منها، ولم يكتب لها نصيبٌ في الزواج، فخشيت عليها من العنوسة، قال: فذهبت بها إليه فجلس كأنه يقرأ عليها فذهبت لشيءٍ ثم جئت على حين غفلة، فرأيته يقبلها، ففوجئ لما رآني، وجعل يتمتم كأنه يأخذ عليها العهد بالانتساب إلى الطريقة، وذكر أشياء أخرى. والمهم -أيها الإخوة- أن هؤلاء الناس موجودون إلى الآن، وأن الناس يُفتنون بهم، وأنهم أصحاب فواحش، وهذا الذي يزعم أنه شيخ قال له في آخر الجلسة: اذهب إلى أهلك وأنا أوصلها إلى بيتها، فماذا وراء ذلك إلا فعل الحرام؟ وماذا وراء التعامل مع الشياطين إلا التلبيس على السذج والمساكين، ولذلك إذا قال لك أحد هؤلاء الذين يدعون أنهم يقرءون على المصروعين، ويخرجون السحر ويفكونه إذا قال: لا تدخل مع زوجتك أو لا بد أن أقرأ عليها(54/6)
لوحدها، فاعلم أنه دجالٌ كذاب أشر، وأنه أفاكٌ أثيم: (ما اختلى رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطان ثالثهما).
بعض حيل المشعوذين:
واعلموا -عباد الله- أن هذا شيءٌ موجودٌ واقعٌ عند هؤلاء الدجالين، يطلب الخلوة بالمرأة لكي يُخرج منها الشيطان بزعمه، وهو يريد من وراء ذلك فعل الحرام، وقضاء شهوته ووطره، ولذلك فإن الموحد يعلم علم اليقين أن مثل هذا مخالفٌ لدين الله، مخالفٌ لشريعة الإسلام. ومن حيل هؤلاء.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ويحكى عن شيخٍ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون إبرائه، فيرسل إلى أتباعه من الشياطين فيفارقون المصروع ويقوم ليس به بأس، فيعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة، إذاً العملية عملية ابتزاز، هذا يعمل السحر وهذا يفكه، وهذا يصرعه، وهذا يخرج منه الجن، ويقوم المصروع سواءً كان بالتعاون بينهم أو كان نفس هذا الدجال الذي يرسل شيطانه ليصرع الإنس ثم يخرجه هو، ويأخذ الأشياء ويسرقها ذلك الشيطان ثم يخبرهم بمكانها، فالعملية صارت عملية تجارة، هذا يدخل الجني ثم يخرجه، وهذا يعمل لهم سحراً ثم يفكه، وهؤلاء يدفعون، ولو كانوا يتحصنون بكتاب الله ما جعلوا للشياطين عليهم سبيلاً. أقول لكم بصدقٍ وإخلاصٍ أيها الإخوة: إن هذه العملية نصبٌ واحتيال، ومع ذلك فالناس لا يزالون يذهبون إلى السحرة والمشعوذين الذين يعقدون السحر ويفكونه، أو يتعاونون فيما بينهم على ذلك، ويدعون المغيبات، وقد حصلت قصص ذكرها العلماء، ذكروا أن رجلاً عند أميرٍ في مجلس فيما مضى من الزمان تحدى الناس أن يعلم عدد الحصى في يد كل شخصٍ، فكان الناس يأخذون كفاً من الحصى فيعدونها ثم يخبرهم بعددها ويكون كلامه صحيح، حتى جاء رجلٌ من الموحدين ممن يعرف تلك الحيل فقال: أنا أقبض كفاً من حصى وأتحداك أن تعرف عددها فأخذ كفاً من حصى وقال: بسم الله ولم يعد، ثم قال: كم في كفي؟ قال: عدها حتى إذا قلت لك يكون(54/7)
الجواب مطابقاً، قال: لا أعدها إلا بعد أن تخبرني، فأخبره بعددٍ فلما عد ما في يده كان الذي أخبره به خطأً، ثم أخبرهم بأن القرين من الجن الذي يكون مع هذا العاد يعد معه ويعرف العدد، فيخبر قرين ذلك الدجال أو الذي يدعي معرفة المخبئات بالعدد، فيخبره لصاحبه ثم يخبر الناس، إذاً فهذا النوع من التعاون لا يمكن أن يخفى على الموحدين ولا أن يذهبوا بعد ذلك إلى الدجالين والمشعوذين، ثم إن بعض هؤلاء يأخذون أموال الناس ظلماً إما بالسرقة، وإما بغيرها من النصب والاحتيال. واحد يُتصل به بالهاتف (مكالمات خارجية) يقول: لا أخبركم بمكان السحر ولا بعلة صاحبكم حتى تحولوا لي مبلغ خمسمائة ريال، أو ألف وخمسمائة أو أكثر، وتحول المبالغ إلى ذلك الدجال، ليخبرهم عبر الهاتف أين يوجد السحر، وما هي علة هذا الرجل، ومن الذي سحر صاحبهم، ونحو ذلك من الكلام، هذا ما يحدث حقاً وحقيقةً من النصب والاحتيال على هؤلاء المساكين، والسبب ضعف الإيمان لم يتحصنوا بـ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] .. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] .. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] وآية الكرسي، وباسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، وأعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ فصاروا نهباً للشياطين.
كذب المشعوذين في عملية تحضير الأرواح:(54/8)
وذكرنا كذلك أن ما قام من سوق تحضير الأرواح، وأن بعض الناس يستطيع أن يحضر روح القريب من أبٍ أو أمٍ ونحو ذلك وأنه كله دجل، وأن بعضه من التعاون مع الشياطين الذين يستطيعون التشكل فيأتون الإنسان بصورة أبيه الميت، أو أمه، ونحو ذلك، وقد حكى بعضهم تجربته عن ذلك فقال: ذهبت إلى هذا الذي يقول: إنه تعلم تحضير الأرواح بأذكارٍ وأمورٍ يقرأها، وتلاواتٍ ورياضاتٍ وممارسات، فأكون معه على الطعام فتأخذه الإغفاءة المعهودة فيميل رأسه إلى الأمام وتلتصق ذقنه بصدره ثم يحثني الزائر الذي يزعم أنه ملك أو أبو هريرة أو أبو الحسن الشاذلي أو نحو هؤلاء بأمور، ثم وعدوني وبشروني بقرب زيارة والدي الميت لي في وقتٍ عينوه، وانتظرت الموعد بلهف، وطلبوا مني أن أقرأ سورة الواقعة، إذاً يمكن من طرق التلبيس أن يطلبوا من الشخص أن يقرأ سورة من القرآن، ثم قالوا: سيحضر والدك بعد لحظات، ولكن بشرط لا تسأله عن شيء، وبعد دقائق جاء شخصٌ، ودخل فزعم أنه أبي في شكله، وسلم علي وأظهر سروره بلقائي، وأوصاني أن أعتني بهذا الشيخ وأهله، وأنه فقير محتاج إلى المال، وهذا هو لب القضية (الاحتيال المالي) وبعض الدجالين لكي يخفي أمره بزيادة لا يطلب مالاً في البداية، كنا نقول للناس: إنهم لا يستعملون القرآن، وبعض الدجالين يستعملونه تلبيساً، وقلنا لهم: يحتالون لأخذ المال، وبعض الدجالين يقولون لمن يأتيهم في البداية: لا نريد منكم مالاً، لا نريد إلا وجه الله: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً [الإنسان:9] ولكن بعد ذلك يبدءون بأخذ الأموال. فإذاً لا بد من معرفة الواقع ولماذا قالوا له: لا تسأله عن شيء؟ أو يأتي شكلٌ يخاطبه بالخفاء يقول: أنا روح أبيك ويخبره عن أشياء لا يعرفها إلا هذا الولد فعلاً، ولكن يعرفه القرين ويعرفه الجن المحيطون به، ويخبرون ذلك الشخص فيظنه حقاً وهو دجل وتلبيس، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال: (وإن من فتنته أن(54/9)
يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانانِ في صورة أبيه وأمه فيقولان له: يا بني اتبعه فإنه ربك) الحديث في سنن ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر أن من فتنة الدجال يبعث له شيطانان في صورة أبيه وأمه الميتين. ثم إن مما يدل على كذبهم في عملية تحضير الأرواح أن الله يقول: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42] ويستيقظ الإنسان من نومه، أما الذي يموت في المنام وهو نائم وعددٌ من الناس ماتوا في نومهم، يمسك الله أرواحهم فإذا كان الله يمسكها، فهل تستطيع الروح أن تأتي لهذا الولد؟ ! وإذا وكل الله بالأرواح ملائكة يعذبونها إن كانت شقية كافرة، وينعمونها إن كانت صالحة، فهل يستطيع أحدٌ أن يخرج روح الميت من قبضة الملائكة الموكلين بها؟! فإذا كانت الأرواح ممسكة عند ربها بحسب الآية وموكلٌ بها حفظة أقوياء مهرة، فهل يمكن أن تتفلت لتأتي إلى رجلٍ يقول إنه حضر روح فلان وفلان؟! وإذا كان هذا الشخص الميت صالحاً ينعم في قبره، أو من الشهداء الذين أخبرنا الله عنهم وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم: (إن أرواح الشهداء في حواصل طيرٍ خضر تسرح بهم في رياض الجنة) فهل هذه الروح مستعدة أن تترك النعيم لتأتي إلى هذا الرجل، أو إلى الشيطان، أو إلى الجني، أو إلى الدجال، أو إلى الذي يحضر الأرواح ليلتقي بولده وهو منعمٌ أصلاً في ذلك المكان؟! إذاً: المسألة واضحة ولله الحمد والمنة.
صور من عجز الشياطين:(54/10)
ثم إنه بعد هذا العرض لبعض قدرات الجن والعلاقة بينهم وبين شياطين الإنس؛ لتنكشف الألاعيب لعامة الناس ويكون الناس على بينة لا بد أن نعلم -أيها الإخوة- أن الله لم يتركنا نهباً للشياطين، وأن الجن بالرغم من قدراتهم الهائلة من الطيران والتشكل ونحو ذلك، فإنهم لا يستطيعون أن يلعبوا بنا كيف شاءوا، وبالرغم من كل ما سبق من القصص، فإن ذلك لا يعني بأنهم يحركون من شاءوا كيف شاءوا، ويخطفون من شاءوا، ويصرعون من شاءوا، وينهبون أموال من شاءوا، ويتلاعبون بأضواء البيوت والكهرباء كيف شاءوا أبداً، فإن لهم قدراً مقدوراً وحداً محدوداً لا يتعدونه، فإن الله أخبرنا عن عجزهم.
من عجزهم: أنهم لا يعلمون الغيب.(54/11)
قال الله تعالى في قصة سليمان: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14] وما استمروا على العمل الذي أمرهم به سليمان، وهم لا يعلمون بموته وهم مستمرون في العمل الذي سخرهم الله له، لا يعلمون أن سليمان قد مات تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14]. إذاً: لا يعلمون الغيب، وإذا حصل شيء من استراق السمع من السماء عن مسألة غيبية كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فإن ذلك شيءٌ قليلٌ وليس كثيراً، ولذلك يضطر الكاهن أن يكذب معها تسعة وتسعين كذبة، ولذلك فإنهم كما قال الله تعالى لا يستطيعون استراق الخبر إلا شيئاً يسيرا فبين الله تعالى في كتابه: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:6-10]. وانظر إلى السماء في ليلة صافية في الليل فإنه لا يخلو الأمر أن ترى بعض الشهب النازلة بهذه السرعة والتي نهينا عن تتبعها بأبصارنا خشية على الأبصار، إذاً إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات:10] فهو شيءٌ نادر.
من عجزهم: أنهم لا يستطيعون التمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم.(54/12)
ومن عجز الجن أنهم لا يستطيعون التمثل بصورة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ولذلك قال في الحديث الصحيح: (من رآني فإني أنا هو فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي) (من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتزيا بي) فإذا رأى إنسانٌ في المنام وهو صادق صورة النبي صلى الله عليه وسلم بالأوصاف المذكورة في الكتب شعره غير جعدٍ ولا سبطٍ، في عينيه شدة سواد في شدة بياض، لا بالطويل ولا بالقصير، ربعة، بعيد ما بين المنكبين، عظيم المشاش، أبيض مشرب بالحمرة فهو هو، هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الشيطان لا يستطيع أن يتزيا بصورته عليه الصلاة والسلام في المنام، لكن يمكن أن يخرج له رجلٌ أسود أو شيءٌ غامض يقول: أنا رسول الله افعل كذا، لكن لا يستطيع الشيطان يتمثل بالصورة النبوية الحقيقية في المنام.
من عجزهم: أنهم لا يستطيعون فتح باب مغلق ذكر اسم الله عليه.(54/13)
ومن عجزهم، أنهم لا يستطيعون فتح بابٍ مغلقٍ ذكر عليه اسم الله، ولا فتح إناءٍ أُغلق وذكر عليه اسم الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أجيفوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً أجيف عليه، وأوكئوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله) متفقٌ عليه، ورواية أحمد : (فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، ولا يكشف غطاءً، ولا يحل وكاءً). فإذاً: لا يستطيعون فتح بابٍ ذكر اسم الله عليه، ولذلك إذا دخل العبد بيته وذكر اسم الله قال الشيطان: فاتكم المبيت، فإذا ذكر اسم الله على عشائه قال: فاتكم المبيت والعشاء، فمن رحمته تعالى أنه لم يسلط علينا الجن يفعلون بنا ما يشاءون ويقلبون المعارك، ويقضون مضاجع أهل البيوت كلهم ويلعبون بالعالم، بل إن لهم آثاراً محدودة، وأشياء معينة ينجحون فيها من صرعٍ ونحوه، ولكن ليس نصف الناس مصروعين، ولا ثلاثة أرباعهم، المصروعون عدد قليل، وكذلك المسحورون، وكذلك الذين يصابون بعين، ونحو ذلك من الأشياء، فليس للجن القدرة على التلاعب بكل الناس، فإذا ذكر العبد ربه لم يستطع الشيطان أن يفعل به شيئاً.
من عجزهم: تمكن بعض الإنس منهم.(54/14)
بل ذكر بعض أهل العلم أنه ربما حاول شيطانٌ أن يمس إنساناً مؤمناً ذاكراً لله فيصرع الشيطان، فتجتمع عليه الشياطين، يقولون: ما بال صاحبنا؟ فيقول بعضهم لبعض: صرعه الإنسي. وأبو هريرة ألقى القبض على الشيطان، قبض عليه في القصة المشهورة في الصحيحين الذي جاء يسرق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه صارع شيطاناً فصرعه، والقصة في سنن الدارمي صحيحة عن عبد الله بن مسعود قال: لقي رجلٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي ، فهو عمر رضي الله عنه، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شخيتاً كأن ذريعتيك ذريعتا كلب، فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم؟ قال لا والله إني منهم لضليع _أنا من أقواهم- ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك، قال: نعم قال: تقرأ: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] قال: نعم، قال: فإنك لا تقرأها في بيتٍ إلا خرج منه الشيطان له خبجٌ كخبج الحمار، ثم لا يدخلها حتى يصبحْ. والضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح، يخرج الشيطان من البيت له ريحٌ كريح الحمار لا يستطيع أن يعود بعد ذلك.
الفرق بين خوارق الدجالين وكرامات الأولياء:(54/15)
فإن قال قائل: فرقوا لنا بين خوارق هؤلاء الدجالين الذين يتعاونون مع الجن والمشعوذين والشياطين وبين كرامات أولياء الله المتقين، فالجواب: قال أهل العلم: إن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، ولذلك لا بد من التحري في حال المدعي هذا الخارق أو صاحب الكرامة، فمثلاً هل يصلي الفجر في جماعة؟ هل يغض بصره عن الحرام؟ هل هو ملتزم بأحكام الدين أم لا؟ فإذا تبين لك أنه فاسق فلا يمكن أن يكون الذي يجري على يده كرامة! وإنما هو من فعل الشياطين، ولذلك لا بد من التأكد من صحة معتقد هؤلاء الأشخاص وعبادتهم قبل أن نقول: هذه كرامة، أو هذا من فعل الشياطين. وكذلك فإن ولي الله لو أجرى الله على يده كرامة لا يخبر بها ولا ينشرها في العالمين؛ لأن من إخلاصه أن يكتم أمره، ولكن قد يكشفها الله لبعض الناس، قال تعالى عن مريم: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران:37] كرامة من الله، لكن هؤلاء يقول: تعال أريك أشياء عجيبة، ثم يريه خوارق يفعلون ذلك تباهياً، وهذا لا يمكن أن يعمله ولي الله.
لماذا لا نستفيد من قدرات الجن؟(54/16)
فإن قال قائل: ما دام الجن عندهم قدرات، فلماذا لا نستعملهم في فك السحر، وعلاج المصروع، والبحث عن المفقودات، والسيارة المسروقة ونحو ذلك، فنقول: لا يجوز الذهاب إلى هؤلاء الكهنة أو المشعوذين أو الدجالين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم علينا الذهاب إليهم: (من أتى عرافاً فسأله فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) و (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) فنحن ممنوعون من الذهاب إليهم، حتى لا يستحوذوا علينا ولا يوقعونا في الشرك، والشارع أعلم فلما نهانا عن الذهاب يجب علينا أن ننتهي. ثانياً: ما يدريك بأن العلاقة بين هذا الإنسي والجني علاقة شرعية أليس في الغالب أنها علاقة شركية؟ وأنه يأمره بالشرك؟ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله قال: كان أحد هؤلاء الذين يتعاونون مع الشياطين على فراش الموت فقال لولده: إن شيطاناً كان يطير بي إلى كذا وكذا، فإذا متُّ سيأتيك على هيئة جمل فاركب عليه، فلما مات أبوه جاءه على هيئة جمل فركب عليه فلما صار في منتصف الطريق قال: إن أباك كان يسجد لي، فرفض الولد أن يسجد له فألقاه في الصحراء، فإذاً يأمرونهم بالشرك، وبينا صوراً من ذلك في الخطبة الماضية. ثالثاً: ما يدريك أن هذا الجني المطلوب الاستعانة به مشرك وكافر والله قال عنهم: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14] وكذلك قال: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً [الجن:11] قال المفسرون فمنهم المسلم واليهودي والنصراني والسني والبدعي، وأهل الأهواء موجودون عندهم، فما أدرانا أن هذا الجني صالح مستقيم الدين والعقيدة حتى يجوز لنا أن نتعامل معه، خصوصاً وأن القضية من عالم الغيب؟! إذاً إثبات أن هذا الإنسي صالح وأن الجني الذي يتعامل معه صالح، وأن التعامل مباح، والوسيلة مباحة أمرٌ صعبٌ جداً لا يكاد يثبت، فكيف بعد ذلك يفتح الباب على مصراعيه ونقول: عنده جن يستعملها في(54/17)
المباحات، ولو فرضنا وجد شيء فهو نادر جداً جداً، ولا يجوز التوسع فيه على الإطلاق. قال شيخ الإسلام : والشيطان وإن أعان إنساناً على مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعيذنا من شر شياطين الإنس والجن أجمعين، وأن يحفظنا وأهلينا من كل سوء إنه هو خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
صور أخرى من الشعوذة (بدون الاستعانة بالجن):
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله! إن كثيراً من هؤلاء المشعوذين حيلتهم الدجل والكذب وربما لا يكون عندهم جنٌ أصلاً، ولا يقدرون على تحضير جنٍ ولا على استدعائهم، ولكن يخادعون الناس فيوهمونهم بأشياء، وهذا حال كثيرٍ من الناس، وربما كان بعضهم عاطلاً عن العمل لا يجد عملاً ولا وظيفة فاشتغل مشعوذاً يضحك على الناس يهمه أنه يقرأ ويحصل الأموال الطائلة ويبيع الزيت والماء بأسعار عالية، وما به إلا الفاقة، ثم بعد ذلك ادعى أنه صاحب قدرات وأنه يتعامل مع الجن وهؤلاء كثيرون في المجتمع، وهم يزدادون بشكل مريع، ويجب أن يقف أهل الإيمان والتوحيد لمحاربتهم.
مناظرات مع أهل الشعوذة:(54/18)
وبعضهم ادعى هذه الأشياء فيما مضى فتصدى لهم أهل العلم، فإذا نظرنا في مناظرة شيخ الإسلام رحمه الله للفرقة البطائحية الذين كانوا في عهده ينتسبون إلى الرفاعي ونحو ذلك، كيف ناظرهم وكشف زيف حالهم؟ هؤلاء من حيلهم، قال رحمه الله: كانوا يرسلون بعض النساء إلى بعض البيوت يستخذلون عن أحوال أهلها الباطنة، ثم يكاشفون صاحب البيت بما علموه زاعمين أن هذه الأمور من الأمور التي اختصوا بالاطلاع عليها، فإذاً حيلة إرسال نساء للبيوت يطلعون على أحوال البيت فإذا جاءهم من هذا البيت إنسانٌ مسحورٌ مصروعٌ أو فيه ما فيه قالوا: أنت في بيتك كذا، فهل هذا صحيح أم لا؟ أنت عندكم كذا -من الأشياء الباطنة- وهذا المغفل يقول: صحيح كيف عرفوا، لا بد أن عندهم قدرات، فبين رحمه الله تعالى الطرق التي كانوا يتسترون بها، ومن ألاعيبهم أيضاً: قال: ودلسوا على آخر كان يدعى قبجق إذ أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم، وأتوا به في الليل يقولون: هذا القبر سيخبرك بأشياء وأخبار، وأوهموه أن الموتى تتكلم، وما هو إلا صاحبهم يتكلم من داخل قبرٍ وهذا المسكين يظن أن هذا من أنباء الغيب، يوحون بها إليه، ولذلك ناظرهم رحمه الله لما جاءوا بأطواق الحديد بقضهم وقضيضهم وجموعهم أمام الناس والملأ والأمراء في عهده وقال لهم: هذه بدع وصرخ فيهم، قالوا: نحن نريد الأربعة القضاة والفقهاء ونحن قومٌ شافعية، قال شيخ الإسلام فقلت: هذا غير مستحبٍ ولا مشروعٍ عند أحدٍ من علماء المسلمين، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته وقلت له: يا كمال الدين ! ما تقول في هذا؟ قال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة، وقال: ليس لأحدٍ الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال شيخهم عبد الله الكذاب: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يُوقف عليها وقال: الباطن لنا والظاهر لغيرنا، وأنتم أهل الظاهر ونحن أصحاب الباطن، فقلت(54/19)
له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر، والمدارس والمجالس، والشريعة والحقائق كل هذا مردود إلى الكتاب والسنة، ليس لأحدٍ الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فرفع صوته وقال: نحن لنا أحوال ولنا خوارق وكرامات، ونحن ندخل في النار ولا تحرقنا، فقلت ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمديٍ -المنتسبين إلى أحمد الرفاعي - من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيءٍ فعلوه في النار فأنا أصنع مثلما تصنعون ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت: فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك، فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق، فضج الناس بذلك، فأخذ ذلك الشيخ عبد الله الكذاب يظهر القدرة ويقول: أنا وأنت ندخل في النار وتحدى، فقلت: قم فلم يقم فأخذت أكرر عليه القيام فمد يظهر -خلع القميص- وأنه سيتحدى فقلت: لا حتى تغتسل أولاً بالماء الحار والخل فقال متظاهراً: من كان يحب الأمير فليحضر خشباً أو حزمة حطب فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع ولا يحصل به المقصود، هات قنديلاً لا حزمة من حطب وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغير وذل وذكر لي أنه اصفر وجهه، ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين، ولو طرتم في الهواء ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك دليلٌ على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض: أنبتي فتنبت، وللخرب: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه ثم يقول له قم فيقوم ومع هذا فهو دجالٌ كذاب ملعون لعنه(54/20)
الله، ورفعت صوتي بذلك، فكان لذلك وقعٌ عظيم، وذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف:118-119] فعندما يكون في الناس من أهل العلم من يكشف الزيف والحيل، وأن بعض الناس مشعوذون لا عندهم جن ولا شيء، وإنما مجرد أكاذيب وألاعيب، فإن الناس لا يذهبون إلى هؤلاء، ولكن إذا سكت أهل الحق والناس في جهل، تراكم الناس على أبواب المشعوذين زرافاتٍ ووحداناً، وأتوهم من كل فجٍ عميق.
بعض علامات المشعوذين:
فإذا قلت أعطنا علامات للمشعوذ، فإن لذلك علامات كما قلنا، أولاً: أنه ليس بصاحب دين ولا عبادة. ثانياً: أنه ربما يطلب أشياء من المحرمات كخنق ديكٍ أو ذبح شيء، ويشترط أن لا يذكر عليه اسم الله. ثالثاً: يعطي أوراق فيها مربعات ورسومات عجيبة وغريبة، أو يعطي أشياء فيها طلاسم وكلمات غير مفهومة، ويقول: الزمها وضعها تحت المخدة، وعلقها على جنبك، ونحو ذلك، وكذلك يطلب اسمك واسم أمك، هذا من علامات المشعوذ أيضاً، ونحو ذلك من الأشياء والعلامات التي يعرفها بعض من جرب وذهب إلى هؤلاء. نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نسألك أن تنصر السنة وتعلي شأن أهليها، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم اكبت شأن المشعوذين والدجالين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، واكبت اليهود والنصارى والمنافقين، وأظهرنا عليهم يا رب العالمين!(54/21)
نصائح للمعلمين
مع بداية الدراسة
الشيخ : محمد صالح المنجد
http://www.islam.ws/
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم .
والصلاة والسلام على النبي الأكرم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ...
مقدمة :
( أهمية المعلمين) :
فلما كان المعلمون هم حماة الثغور ، ومربوا الأجيال ، وعمار المدارس ، المستحقون لأجر الجهاد ، وشكر العباد والثواب من الله يوم المعاد ، ولما كان الحديث معهم ذو شجون ، ولهم هموم وشؤون ، ولهم آمال وآلام ، وعليهم واجبات وتبعات .
فإني في بداية حديثي معهم
أولا : أوجه إليهم تحية
تحية إلى من ينفق من مشاعره وأحاسيسه قبل أن ينفق من أوقاته ، وينفق من دمه ونفسه أضعاف ما ينفق من تعليمه وتوجيهاته ، تحية إلى من يحاول أن يرد المعوج إلى طريقه والمنحرف إلى سبيله ، والناد إلى جادته ، والعاق إلى بره ، والجافي إلى عقله ، والمفرط إلى صوابه ، والفاسق إلى دينه تحية إلى من حجز لنفسه في المسجد جلسته ، ليحجز لنفسه في الجنة درجته . وجعل من أبناء المسلمين أبناءه ، فغدا عليهم شفيقاً ، وبهم رفيقاً ، يسعى لزيادتهم كما وكيفاً ، ويجتهد في تعليمهم شتاءً وصيفاً .
تحية إلى من حبس حاجته في صدره ، ولم يبح إلا بحاجة واحدة هي أن يتفيأ الجيل المسلم ظلال القرآن ، ويستنشق عبير الإيمان ، ويفيء إلى طاعة الرحمن ، ولأجل هذا يضحي بالغالي والرخيص ، ويجود بالبسيط والنفيس .(55/1)
تحية إلى من لم يشغل نفسه بماذا أخذتُ ؟ ولكنه يسأل : كم أعطيت ، كم وجهت ، كم علمت ، كم أفدت ونصحت ، ماذا أثرت ، سؤالَ اللائم نفسَه ، وقبل أن يتهم طلابه يتهم نفسه ، يقول : لعلي لم أجرد نيتي ، لعلي لم أحسن طريقتي ، لعلي زدت في قسوتي ، لعلي أفرطت في تجاوزي ومسامحتي ، تحية إلى خير الأمة ، كما شهد بذلك نبي الأمة ، حين قال كما روى البخاري ، عن فضل المقرئ والقاري: [ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] ، فحاز الخيرية من طرفيها ، تعلم وعلم ، وقرأ وأقرأ ، وصلح وأصلح ، ورشد وأرشد ، تحية إلى من سكن القرى والهجر واصطحب معه النور الذي لا يخبو يبدد الظلام ، ويوقظ النيام ، ويبارك به الأيام .
الناس في متاجر الدنيا وهو في متجر الآخرة ، ومعية الملائكة .
الناس أرصدتهم في البنوك ، ورصيده هو في القلوب .
الناس تبني مدائن من تراب ، وهو يبني مدائن من فكر وقيم وآداب ، ويعلي قلاع تناطح السحاب .
تحية لمن فجر في حياتنا ينابيع القرآن دفاقة ، وأجرى في صحاري العقول أنهار الحكمة رقراقة ، تحية وسلاماً إلى معلم القرآن ، في كل زمان ، وكل مكان .
يا من إلى الله تدعو وترتجي منه أجرا
لك المدائح تترى شعراً وإن شئت نثرا
إنا نعيش بعصر يموج ظلماً ونكرا
الخير فيه توارى وأنت بالعصر أدرى
وثانيا :
أقول : لمعاشر المعلمين في بلادنا الحبيبة سلامٌ من الله عليكم ، وتحيات مباركات تزجى إليكم
وإن بعض الخواطر المباركة والنقول المفيدة والتوجيهات السديدة لمثل هؤلاء تكون عوناً لهم ولنا جميعاً للسير بالعملية التعليمية إلى أعلى المراتب وأسمى الغايات ، عسى أن تجد قبولاً عندهم ، وتنال رضاهم بعد رضا الله عز وجل .
فماذا تقولون بدايةً عن مهنة التدريس ؟
التدريس رسالة :(55/2)
شخصية تنظر إلى دورها في التدريس على أنه رسالة تؤدّى ، وليس وظيفة مقابل أجر . وشخصية تضع نصب عينيها أن هذه المهنة ، هي مهنة الأنبياء والرسل وأصحابها هم ورثة الأنبياء وهم الذين يرفعون عن الناس الجهل فينقلونهم من ظلمات الجهالة إلى نور العلم والإيمان والمعرفة . وحسْب المعلم شرفاً أنه دال على الله تعالى , يرشد الناس إلى الطريق الموصلة إلى خالقهم وباريهم , ويدلهم على معبودهم ومربوبهم والغاية التي من أجلها خلقوا ، علاوة على تعليمهم الخلق القويم والسبل التي تكفل لهم حياة طيبة .
العلم ميراث النبي كما أتى في النص والعلماء هم وراثه
ما خلف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه وأثاثه
ولا شك أن النظرة لهذا العمل على أنه رسالة يجازي الله عليها أفضل وأعظم من النظرة إليه على أنه أداء لواجب وظيفي يستوي مع واجب أي موظف آخر .
يجب أن نعلم أن حضارة الغرب وثقافتها ومذاهبها المتعددة أفلست ، وسوف تفصح عن ذلك إن عاجلاً أو آجلاً .
وأن الإسلام وحده هو الذي يستطيع أن يقوم بعملية الإنقاذ وأن يحقق كل ما تريده الإنسانية
والمشكلة الآن هي مشكلة الدعاة في كل مجال ، فالمعلم في مدرسته وفي فصله لابد وأن يكون داعية .
فإن الأمم اليوم تجتمع على محاربة الإسلام قوى رهيبة مثل : الصهيونية والشيوعية ، والإباحية ، والاستعمار المنظم ، والانتهازية ، ... وهي مسلحة بالقوة المادية والعلمية والحضارية ... ومن أجل ذلك فإنه يحتاج أن يكون كل مسلم داعية في مجال عمله .
لاسيما والميدان فارغ ، وهو بحاجة إلى مزيد من الدعاة الأكفاء الذين يحسون بعظم المسئولية اليوم ، ويشعرون بالمخاطر التي تهدد دينهم وأمتهم وعالمهم الإسلامي .
لكن المعلم يعيش بين عناء الوظيفة وشرف المهنة :(55/3)
لذلك نقول يا أيها المعلم : إن مهمتك عصيبة جداً ، ولكنك داعٍ إلى الله ، وحامل لواء المسلمين فلا يؤتى الإسلام من قبلك ، وهنيئاً لك ، [ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ] وهنيئاً لك أنك تُعلم الناس الخير ، وهنيئا أن الله تعالى في عليائه وأهل السماوات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحيتان في البحر يصلون على معلم الناس الخير .
وكما تعلمون أن سياسة التعليم يجب أن تنبثق من الشريعة الإسلامية ، ويجب أن تكون لها أهداف وغايات عظمى لا يمكن أن تتحقق ( بعد توفيق الله ) إلا من خلال معلم ذي شخصية سوية في صفاتها وخصائصها ، في آمالها وتطلعاتها ، في مقاييسها وموازينها ، لم تمسخ فطرتها ، ولم تنحرف أفكارها .
ما هي أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في المعلم ؟
أولاً : الإخلاص :
على المعلم الداعية أن يحرر نيته لله ، ويخلص لله في كل عمل تربوي يقوم به ، سواء أكان هذا العمل أمراً أو نهياً أو نصحاً أو ملاحظة أو عقوبة . يحررها من شوائب الرياء والسمعة وثناء الناس وشكرهم ، فعمله لله وبالله ....
قال تعالى : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )
وروى البخاري في صحيحه عن عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ )
وجاء في الحديث الذي رواه النسائي : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ )(55/4)
فعلى المعلم الداعية أن يحرر النية ، ويقصد وجه الله تعالى في كل عمل يقوم به ، ليكون عند الله من المقبولين ، وبين تلاميذه من المحبوبين والمؤثرين .
والثمرة التي يجنيها هي تنفيذ منهج التربية على الدوام وإفادة وتربية الطالب ، وأيضاً يحظى بثواب الله ورضوانه ، ويظفر بدار المقامة في جنات الخلد في مقعد صدق عند مليك مقتدر ..
ثانياً : التقوى :
أن يتقي الله بفعل ما أمر واجتناب ما نهى الله عنه وزجر ممتثلاً : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) متحرياً ذلك أشد التحري : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )
وامتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : " اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ "
وإنه إذا لم يكن المعلم الداعية متسلحاً بالتقوى وملتزماً في سلوكه ومعاملته منهج الإسلام .. فإن الطالب يحس بالتناقض في داخله مما يدفعه إلى الانحراف عن الطريق القويم .
فهو يتقي الله ويلتزم بإنهاء المنهج وخاصة في الثانوية العامة .
وهو يتقي الله ولا يظلم طالب ويحابي آخر لمعرفة أو ود أو واسطة .
وهو يتقى الله ولا يعامل الطلاب بناءً على مظهرهم أو قبيلتهم ولكن بناءً دينهم والتزامهم واجتهادهم .
وهو يتقي الله فلا يغش فيبيع الأسئلة ويضع الدرجات وينجّح الطلاب بالفلوس وهكذا تضيع هيبة العلم وأنه يقوم بمهمة الأنبياء والرسل ، فكيف يُحل لنفسه أن يبيع دينه من أجل عرض من الدنيا .
ثالثا : استشعار بالمسئولية :
وقد جاء في حديث البخاري ( أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلّكُمْ مَسْئُول عَنْ رَعِيَّته ) وَالرَّاعِي هُوَ الْحَافِظ الْمُؤْتَمَن الْمُلْتَزِم صَلَاح مَا اُؤْتُمِنَ عَلَى حِفْظه فَهُوَ مَطْلُوب بِالْعَدْلِ فِيهِ وَالْقِيَام بِمَصَالِحِهِ .(55/5)
ولذلك عليه أن ينطلق بكليته في مراقبة وملاحظة الطالب ، وفي توجهيه وتعويده وتأديبه ، وَلابْنِ عَدِيّ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ أَنَس " إِنَّ اللَّه سَائِل كُلّ رَاعٍ عَمَّا اِسْتَرْعَاهُ حَفِظَ ذَلِكَ أَوْ ضَيَّعَهُ "
فالمعلم يجب عليه أن ينهض بهذه المسئولية على أكمل وجه ، واضعاً نصب عينيه غضب الله تعالى عليه إذا هو فرّط ، لأن المسؤولية يوم العرض الأكبر ثقيلة والمحاسبة عسيرة ، والهول عظيم .
وإذا أهمل المعلم واجبه ، ووجه طلاب نحو الانحراف ، والمبادئ الهدامة ، والسلوك السيئ ، شقي الطلاب ، وشقي المعلم ، وكان الوزر في عنقه ، وأنه مسئول أمام الله تعالى فالمعلم راع في مدرسته ، وهو مسئول عن رعيته .
إن صاحب الهم الذي يحمل هم الأمانة التي استرعاه الله عز وجل عليها يتساءل دائما كيف أقوم بأداء هذه الرسالة وهذه الأمانة على الوجه الذي يرضي الله عز وجل عني ؟ , ويتساءل دائما كيف أكون معلما ناجحا في حمل أمانتي مؤديا لها على الوجه الصحيح؟ .
بل وحتى الطلاب وكل مسلم يجب أن يستشعر ذلك .
- المعلم الداعية لا يستعجل :
عدم استعجال ثمرة جهدك وجهادك وتعليمك ودعوتك ، فما أنت إلا مجرد زارع يغرس الزرع ويبذر البذر ويفعل السبب ، فلا تتوقع أن يثمر جهدك في كل من هم حولك فقد لا يخرج من مائة علمتهم ودعوتهم عشرة بل واحد ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً ) وفي روايةُ : ( وَقَالَ : لا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً أَوْ قَالَ لا تَجِدُ فِيهَا إِلا رَاحِلَةً ) .(55/6)
وحكى يحيى بن أبي طالب : فقال سمعت أبا داود يقول : كنت يوما بباب شعبة ، وكان المسجد ملأ ، فخرج شعبة فاتكأ علي وقال : يا سليمان ترى هؤلاء كلهم يخرجون محدثين . قلت : لا . قال : صدقت ، ولا خمسة ، يكتب أحدهم في صغره ثم إذا كبر تركه أو يشتغل بالفساد ، قال : ثم نظرت بعد ذلك فما خرج منهم خمسة "
وقال سهل بن بشر: حدثنا سليم أنه كان في صغره بالري ، وله نحو من عشر سنين ، فحضر بعض الشيوخ وهو يلقن ، قال فقال لي : تقدم فاقرأ ، فجهدت أن أقرأ الفاتحة فلم أقدر على ذلك لانغلاق لساني ، فقال لك والدة . قلت : نعم ، قال قل لها : تدعو لك أن يرزقك الله قراءة القرآن والعلم ، قلت : نعم فرجعت فسألتها الدعاء فدعت لي ، ثم إني كبرت ودخلت بغداد فقرأت بها العربية والفقه ثم عدت إلى الري ، فبينا أنا في الجامع أقابل مختصر المزني ، وإذا الشيخ قد حضر وسلم علينا وهو لا يعرفني فسمع مقابلتنا وهو لا يعلم ماذا نقول ، ثم قال متى يُتعلم مثل هذا فأردت أن أقول إن كانت لك والدة ، فقل لها تدعو لك فاستحييت . فالمقصود أن التوفيق بيد الله عز وجل ، وما المعلم إلا مجرد سبب له فقط ، فقد ينجح من يظن به الفشل وقد يفشل من يظن به النجاح والسعيد من وفق .
قال أَبُو تَمَّامٍ :
يَنَالُ الْفَتَى مِنْ عَيْشِهِ وَهُوَ جَاهِلُ وَيُكْدِي الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهُوَ عَالِمُ
وَلَوْ كَانَتْ الارْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا هَلَكْنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنُ أَبِي سُلْمَى :
لَوْ كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءِ لاَعْجَبَنِي سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ
ولابد لك من تقدير بين ما أنتجه وبين الثمار المجنية من هذا النتاج .(55/7)
قال كثير من المعلمين دخلنا التعليم من أجل هدف واضح وهو الدعوة إلى الله تعالى ؛ ولكن بعد مضي عام يتلوه عام تركنا هذا الهدف واشتغلنا بأمور دنيوية تنافسنا عليها !!
خامسا : لا تحتقرن جهدك وبذلك ، فقد تكون مجرد كلمة عابرة وجهد يسير منك يفعل في نفوس الطلاب الأفاعيل
وانظر إلى ثمرة هذا المعلم ماذا أثمرت ؟
طلاب الابتدائي وصلاة الفجر وجد صاحبه :
شاب صغير في الثالثة الابتدائية , كان مدرس المدرسة يحثهم وبقوة أي هؤلاء الشباب على طاعة الله سبحانه وتعالى على أداء صلاة الفجر , على الاستجابة لله سبحانه وتعالى , وكانت النتيجة أن تأثر هذا الغلام الصغير بهذه الدعوة من مدرسة واستجاب لأداء صلاة الجماعة في المسجد ولكن الفجر صعبة بالنسبة له , فقرر أن يصلي الفجر في المسجد ولكن من الذي يوقظه؟ أمه؟ لا, والده؟ لا, ماذا يصنع يا ترى؟ قرر قراراً خطيراً , قراراً صارماً , أن يسهر الليل ولا ينام , وفعلاً سهر الليل إلى أن أذن الفجر وخرج إلى المسجد مسرعاً يُريد أن يصلي ولكن عندما فتح الباب وإذا بالشارع موحش وإذا بالشارع مظلم ليس هناك أحد يتحرك , لقد خاف , لقد ارتاع , ماذا يصنع ؟ ماذا يفعل يا ترى ؟ وفي هذه اللحظة وإذا به يسمع مشياً خفيفاً , رجلاً يمشي رويداً رويداً , وإذا بعصاه تطرق الأرض وبأقدامه لا تكاد أن تمس الأرض فنظر إليه وإذا به جد زميله , أو صديقه , فقرر أن يمشي خلفه دون أن يشعر به , وفعلاً بدأ يمشي خلفه , إلى أن وصل إلى المسجد , فصلى ثم عاد مع هذا الكبير في السن دون أن يشعر به, وقد ترك الباب لم يُغلق , دخل ونام , ثم استيقظ للمدرسة وكأن شيئاً لم يحدث, استمر على هذا المنوال فترة من الزمن, أهله لم يستغربوا منه إلا قضية كثرة نومه في النهار, ولا يعلمون ما هو السبب, والسبب هو سهره في الليل, وفي لحظة من اللحظات , أن خبر هذا الطفل الصغير أن هذا الجد قد تُوفي , مات جد أحمد مات هذا الرجل الكبير في السن , صرخ(55/8)
أحمد, بكى أحمد, زعق أحمد, ما الذي حصل, لماذا تبكي يا بُني, إنه رجلٌ غريب عنك, إنه ليس أباك, ولا أمك ولا أخاك, فلماذا تبكي؟ لماذا يبكي يا ترى؟ فعندما حاول والده أن يعرف السبب , قال لوالده يا أبي ليتك أنت الميت , أعوذ بالله , هكذا يتمنى الابن أن يموت الأب ولا يموت ذلك الرجل!! قال نعم ببراءة الأطفال قال يا أبي ليتك أنت الميت لأنك لم توقظني لصلاة الفجر, أما هذا الرجل فقد كنت أمشي في ظلاله دون أن يشعر إلى صلاة الفجر ذهاباً وإياباً, وقص القصة على والده, كاد الأب أن تخنقه العبر وربما بكى, تأثر فكان تغيراً جذرياً كلياً في حياة هذا الأب بفعل سلوك هذا الابن بل بفعل سلوك هذا المعلم, الله أكبر, انظروا إلى ثمرة هذا المعلم ماذا أثمرت؟ أثمرت أسرة صالحة, وأنتجت منهجاً صالحاً. من شريط ( قصص مؤثرة للشباب ) للشيخ إبراهيم الفارس
- ويقول معلم آخر وقع في نفسي موقف أثر فيّ كمعلم وتأثر به الطالب ، وهو أن الطالب كان يحضر معه مشروب البيبسي الغازي وصادف موقف أثناء اجتياح إسرائيل لغزة وقتل وأصيب العشرات والمئات من الفلسطينيين فاقتربت من الطالب هامساً في أذنه ما هذا ؟ كم ثمنها ؟ فقلت له هل تعلم الشركة المصنعة لهذا المشروب فقال لا قلت له إنها شركة يهودية ألا تعلم ثمن العلبة لمن ؟ فأجاب بالنفي قلت له لشراء رصاصة لقتل مسلم لا يفرقون بين امرأة وشيخ عاجز وطفل رضيع وأخذت أسرد له بعض المشاهد فما كان من الطالب أن استأذن مني وبعد دقائق قليلة رجع باكياً فسألته قال يا أستاذ أيقتل مثلي من الأطفال ثمناً لهذه العلبة فأومأت برأسي إيجاباً فزاد بكاؤه واستمر يبكي حرقة فأخذت أهدئ من نفسه فقلت له أين العلبة قال في مكانها المناسب قلت له إلى أين قال في القمامة كصانعيها والله ما دام يقتل مثلي من الأطفال المسلمين وبعضهم يشرد بلا بيت كما رأيت في الأخبار لن أشربها بعد اليوم تأثرت من كلام الصبي الذي لم يتعد العاشرة من عمره .(55/9)
بل اذكر لك مثالين من سيرة السلف على تأثير كلمات عابرة ، كيف فعلت في نفوس الطلاب ما فعلت ؟ :
1 . صحيح البخاري الذي يعد أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل ، والذي إذا خرج لأحد الرواة رواية فقد جاوز القنطرة ، وإذا قيل رواه البخاري يقع في النفس هيبة له ، ما سبب تأليفه ؟
إنها كلمة واحدة في مجلس واحد وقعت في أذن البخاري فيسر الله له تأليف هذا الكتاب الذي رفع منزلة البخاري في طبقة عالية فلقد ذكر لتأليفه ثلاث أسباب أشهرها أنه كان في حلقة إسحاق بن راهويه فقال لو أن أحدكم يجمع كتابا فيما صح من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم جملة واحدة !! قالها إسحاق فوقع ذلك في نفس البخاري فصنف هذا الكتاب الذي خلد التاريخ اسمه ( هدي الساري : 9 )
2 . الإمام الذهبي هذا الإمام الفحل أبو عبد الله بصر لا نظير له وهو كنز وملجأ إذا نزلت معضلات المسائل ، إمام الوجود حفظا ، وذهب العصر معنى ولفظا ، وشيخ الجرح والتعديل ، ورجل الرجال في كل سبيل ، كأنما الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها .
سبب طلبه لعلم الحديث كلمة واحدة يقول هو بنفسه عن الإمام البِرزالي إنه لما رأى خطه قال له : إن خطك هذا يشبه خط المحدثين . قال فحبب الله لي علم الحديث . فانظر ماذا فعلت هذه الجملة في الإمام الذهبي فقد صار من أئمة الحديث وحفاظه ونقاده .
سادسا : العلم :
الأمر الأهم يجب أن يكون المعلم متمكناً في مادته العلمية الموكّل بتدريسها لأنها أمانة ويجب عليها أن يؤديها على أتم وجه .
ولكن يجب أن لا يغفل عن طلب العلم الشرعي الذي هو واجب على كل إنسان معلماً كان أو متعلماً ، وأن يكون ملماً بالأحكام الشرعية والأمور الأساسية التي يجب على المسلم أن يعرفها فضلاً عن المعلم والمدرس الذي يقتدى به ، لأنه محل ثقة ، وله احترام وتقدير لدى الطلاب ، مما يدفعهم لسؤاله فإن أخطأ سقط من أعينهم أو أخذوا منه حكماً باطلاً .(55/10)
ولهذا يأتي الابن ويرتكب محظوراً في الصلاة أو الصيام ونحو ذلك ويقول أفتاني به الأستاذ ، إنه لظلم عظيم .
التربية قبل التعليم :
رب قبل أن تعلم .
المدرسة هي بيتنا الثاني .
التوجيه إلى الأخلاق خير من التغذية بالمعلومات .
من غشنا فليس منا .
زرع الاستشعار بالأمانة والمسؤولية في الطالب .
التربية بالقصة واستغلال الحدث واستخلاص الدروس التربوية منه .
3. أنت قدوة :
فليكن إصلاحك لنفسك أيها المربي والمعلم قبل كل شيء ، فالحسن عند الأولاد ما فعلت ، والقبيح عند الطلاب ما تركت ، وإن حسن سلوك المربي والمعلم أفضل تربية لهم .
أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام والضنى كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فاذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل ما تقول ويقتدى بالقول منك وينفع التعلم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
غير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو سقيم
ويقول آخر :
مواعظ الواعظ لن تقبلا حتى يعيها قلبه أولا
ياقوم من أظلم من واعظ خلف ما قد قاله في الملا
أظهر بين الناس إحسانه وخالف الرحمن لما خلا
فالطالب في هذه المرحلة يكون كالخامة متفاعلاً مع من حوله من الأشخاص ، وتجد طباعهم تكتسيه ، ويزداد ذلك التأثر لو كان مصدره من يعتقد فيه الطالب المثالية والأسوة الحسنة وهو بطبيعة الحال معلمه ، ولهذا ينبغي للمعلم والداعية الصادق أن يُرِيَه من الخصال الطيبة والصفات الحسنة ما تجعله يتحلى بها ، وعلى أقل تقدير يجُِلّ أهلها ، ويرفع من شأنهم .
أن يعمل بما يأمر به الطلاب من الآداب والأخلاق وغيرها من العلوم ، وليحذر مخالفة قوله لفعله ، وليسمع قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) .
وهذا إنكار على من قال قولاً ولم يعمل به .(55/11)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ) ، أي لا أعمل به ، ولا أبلغه غيري ، ولا يُهذب من أخلاقي .
وهنا أمور يسيرة جدا يمكن تظهر من خلالها الأسوة مثل :
غرس ألفاظ وعبارات اعتيادية في ذهن الطالب :
حيث يعوّد المعلم الطالب دائماً على البسملة قبل البدء مع ذكر خطبة الحاجة ثم إظهار الحوقلة عند الحزن والهم ، وبيان الشكر اللفظي والفعلي عند الفرح والسرور ، والتسبيح عند الاستغراب ، والتكبير عند الإعجاب ، وغيرها من الأشياء التي لابد أن تتكرر أمام الطالب فتؤدي إلى تعويد الطالب على تلك الألفاظ . وتدفعه لتعلم معناها ويرى الطالب في خطاب معلمه الألفاظ القرآنية والعبارات النبوية .
فإلقاء ورد السلام من أعظم ما يتعلمه الطالب .. ( أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ .. ) رواه مسلم
وهذا الحديث َفِيهِ الْحَثُّ الْعَظِيمُ عَلَى إِفْشَاء السَّلام وَبَذْله لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ; مَنْ عَرَفْت , وَمَنْ لَمْ تَعْرِف فلا يسلم على طالب يعرفه وآخر لا يسلم عليه ، وَالسَّلامُ أَوَّل أَسْبَاب التَّأَلُّف , وَمِفْتَاح اِسْتِجْلاب الْمَوَدَّة . وَفِي إِفْشَائِهِ تَمَكَّنُ أُلْفَة الْمُسْلِمِينَ بَعْضهمْ لِبَعْضِ , وتعود الطلاب على َإِظْهَار شِعَارهمْ الْمُمَيِّز لَهُمْ عِنْ غَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْمِلَل , مَعَ مَا فِيهِ مِنْ رِيَاضَة النَّفْس , وَلُزُوم التَّوَاضُع فيلقن الطلاب التواضع لا كالذي يدخل الفصل ولا يسلم ولا يرد السلام ويعامل الطلاب وكأنهم بهائم وهنا أيضاً َإِعْظَام حُرُمَات الْمُسْلِمِينَ .(55/12)
وَفِيهَا لَطِيفَة أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ رَفْع التَّقَاطُع وَالتَّهَاجُر وَالشَّحْنَاء وَفَسَاد ذَات الْبَيْن الَّتِي هِيَ الْحَالِقَة , وَأَنَّ سَلامه لِلَّهِ لا يَتْبَع فِيهِ هَوَاهُ , وَلا يَخُصّ أَصْحَابه وَأَحْبَابه بِهِ " مستفاد من كلام النووي "
هكذا يجب أن يكون المدرس يًعلم طلابه التواضع وكما قيل : تواضع تكن كالنجم لاح لناظر :
الْمُتَوَاضِعُ مِنْ طُلاَبِ الْعِلْمِ والعلماء هم أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا ، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ الْمُنْخَفِضَ أَكْثَرُ الْبِقَاعِ مَاءً . وقال عليه الصلاة والسلام ( ومن تواضع لله رفعه الله ) النووي على مسلم 16/141
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقضي للناس حوائجهم حتى كانت الجارية لتأخذ بيده عليه الصلاة والسلام فتطوف به في المدينة وكان عليه الصلاة والسلام يسلم على الصبيان .
ووصف الله المؤمنين أنهم ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) المائدة/54
أيها المعلم الداعية ليكن المعلم الأول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدوتك ولا تنظر إلى طلابك نظرة استعلاء .
نشر الخير يكون بالأقوال والأفعال :
كان علماء السلف إذا تعلموا أموراً أعطوها للناس بسلوكهم وبتعاملهم وأخلاقهم ومناهجهم في الحياة 0
أساتذتنا من القرون المفضلة خرجوا إلى الشعوب الإسلامية في إندونيسيا وماليزيا فبلّغوا دعوة الله بأعمالهم قبل أقوالهم ، فإنا ندعوك اليوم في أول هذا العام الدراسي إلى أن تقدم للشبيبة علماً نافعاً ، وعملاً صالحاً ورسالة خالدة ، وكلاماً مؤثراً ، وأن تتقي الله عز وجل في هذا النشء ، وهذا الجيل الذي ينتظر منك النصح 00 إنهم عطشى أمامك ، فاسكب على قلوبهم من فيض حنانك وودك ما يكون بإذن الله بلسماً شافياً .(55/13)
إنك تبني عقولاً ورجالاً لخدمة المجتمع، تستطيع أن تؤثر في طلابك بما يخدم المجتمع في شتى المجالات بتعليمهم كيف يستفيدون من أوقاتهم .
خذ مثالا قام به أحد المعلمين حيث وزع كتيب (ما هي الأعمال التي يمكنك القيام بها خلال عشر دقائق) وذلك على طلاب السادس الابتدائي ، ووجد تغييرا كبيرا على الطلاب أثناء الحصة وبين الحصص في استثمار الوقت ومراقبة الله والإكثار من الأعمال الصالحة في الأوقات اليسيرة . فكيف بتوجيه منك طوال سنة ؟ فما حجم التغيير والهداية التي ستحصل بإذن الله ؟!!!
وقد كان الصحابة خير قدوة :
قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ « من كان متأسياً فيتأس بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، وأقومها هدياً ، وأحسنها حالاً ، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في أثارهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم»
الصدق والوفاء بالوعد :
فالصدق تاج على رأس المعلم , فإذا فقده فقد ثقة الناس بعلمه وما يمليه عليهم من معلومات فالطالب غالباً يتقبل كل ما يقوله معلمه
على المعلم أن يلتزم الصدق في كلامه ، فإن الصدق كله خير ، ولا يربي تلاميذه على الكذب ، ولو كان في ذلك مصلحة تظهر له :
حدث أن سأل أحد الطلاب معلمه مستنكراً تدخين أحد المعلمين ، فأجابه المعلم مدافعاً عن زميله ، بأن سبب تدخينه هو نصيحة الطبيب له ، وحين خرج التلميذ من الصف قال : إن المعلم يكذب علينا .(55/14)
وحبذا لو صدق المعلم في إجابته ، وبين خطأ زميله ، بأن التدخين حرام ، لأنه مضر بالجسم ، مؤذ للجار ، متلف للمال ، فلو فعل ذلك لكسب ثقة الطلاب وحبهم ، ويستطيع أن يقول هذا المعلم إلى طلابه : إن المعلم فرد من الناس تجري عليه الأعراض البشرية ، فهو يصيب ويخطئ ، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقرر ذلك في حديث قائلاً : ( كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون ) .
لقد كان بإمكان المعلم المسئول أن يجعل سؤال الطالب عن تدخين معلمه درساً لجميع الطلبة ، فيفهمهم أضرار التدخين ، وحكمه الشرعي ، وأقوال العلماء فيه ، وأدلتهم ، فيكون بذلك قد استفاد من سؤال الطالب واستعمله في التربية والتوجيه .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا .. ) رواه مسلم
فالصدق خلق عظيم ينبغي على المعلم أن يزرعه في طلابه وليكن مطبقاً له في أقواله وأفعاله حتى في المزاح فيمزح ولا يقول إلا حقاً تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وليحذر المعلم أن يكذب على طلابه ولو مازحاً أو متأولاً ، وإذا وعدهم بشيء فعليه أن يفي بوعده لأن الطلاب يعرفون الكذب ويدركونه ، وإن لم يستطيعوا مجابهة المعلم به حياء منه .
الصبر :(55/15)
إن مهنة التدريس مهنة متعبة ، ومع ذلك فقد يلقى المدرس أنواع الأذى ، ويسمع كلاماً قبيحا من بعض الطلاب أو شيئاً من هذا القبيل وله في رسول الله أسوة حسنة لما روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ ثُمَّ قَالَ : مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ .
ونبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معلم البشرية جمعاء .
إني رأيت وفي الأيام تجربة للصبر عاقبة محمودة الأثر
من المؤسف جدا أن بعض المدرسين أحياناً وهم قلة : يلعن الطالب أو يسبه أو يشتمه أو يقول له يا حمار أو يا كلب أو يقول يا كذا وكذا فهذا خطأ وغلط فاحش ، فيسبه ويسب أباه وأنه لم يربيه ويسب قبيلته وينعته بأبشع النعوت ... وهذا يدل على أن هذا المعلم في الحقيقة أقرب ما يكون للفشل لأنه ليس عنده صبر وليس عنده تحمل ولا يستطيع أن يكظم غيظه ولا يستطيع أن يتفاعل فعلاً مع قضايا الطلاب بحيث يمتص ما عندهم من غير إيذاء ، كما تؤخذ الشعرة من وسط العين بدون أن تؤذي العين .
روى الترمذي ( 1944 ) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ ) رواه الترمذي وأبو داود وحسنه الألباني
فإذا قدرت فاعف :(55/16)
كذلك العفو عند المقدرة ، قد يرتكب الطالب جرما يستحق بسببه العقوبة لكن العفو أحب إلى نفس الكريم ولك في رسول الله أسوة حسنة فقد عفى عن أهل مكة وهو قادر وقال قولته الشهيرة :{ اذهبوا فأنتم الطلقاء}.
الرحمة والرفق ً :
- ارحم واعطف على طلابك ولاطفهم : روى أبو داود في سننه وحسنه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ ) .
روى النسائي في سننه عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ ، فَقُلْتُ : وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَلا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلاةٍ رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ) . وصححه الألباني رحمه الله
لذا يجب أن تكون رحب الصدر محبا متسامحاً فلا تنزعج لأقل هفوة ، ولا تدقق على الأمور التافهة والبسيطة والصغيرة ، خصوصاً تلك التي تحصل من الطلبة لأول مرة ، إلا إذا مست الآخرين ، فذاك شأن آخر ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (159)
ولا تكن كبعض المعلمين في إلقاء المحاضرات :
كأنه أسد في غابة .
ليس عنده شيء من الرحمة .
ليس عند شيء من المرونة ولين الجانب والأخذ بالتيسير الذي أباحه الشرع .(55/17)
ففي الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : " ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل ".
وفي الحديث المتفق عليه " ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى" . وأيسر الأمرين يكون في الأمور المباحة والمشروعة ، فيتخير المربي في تعامله مع أبنائه وطلابه أحسن الأساليب وأفضل الأوقات وأحسن الألفاظ والعبارات وأرق التوجيهات ليصل إلى قلوبهم قبل عقولهم بأقل جهد وأقصر طريق .
مطابقة القول العمل :
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون – كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) فالواجب على المعلمين أن يتقوا الله في فلذات الأكباد , فهم أمانة في أعناقهم , فليحرصوا على تعليمهم ما ينفعهم , ومطابقة أقوالهم لأعمالهم , لأن في ذلك ترسيخاً للعلم الذي تعلموه من معلميهم ومربيهم ، وكي لا يصبح به شبه من اليهود الملعونين ، قال تعالى : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) وقال شعيب ( وما أريد أن أخالفكم لما أنهاكم عنه )
وأحسن أبو الأسود الدؤلي حين قال :
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتيَ مثلَه عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
وأبدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك تقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليمُ
تصفُ الدواءَ لذي السَّقام من الضنا كيما يصيح به وأنت سقيمُ
وأراك تلقحُ بالرشاد عقولنا نصحاً وأنت من الرشادِ عديم
العدل والمساواة :(55/18)
قال تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ) النحل/90 , وقال تعالى : ( وأمرت لأعدل بينكم ) وقال تعالى : ( ولا يجرمنكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا , اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) المائدة/8 , وقال تعالى : ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) والمعلون يتعرضون لمواقف كثيرة من قبل طلابهم , سواء في توزيع المهام والواجبات إن كان هناك أعمال تحتاج مشاركة جماعية أو تفضيل بعضهم دون بعض ونحو ذلك ، وإن اختلال هذا الميزان عند المعلم بوجود تمييز بين الطلاب كفيل بأن يجعل هوة واسعة بين المعلم وطلابه الآخرين الذين جار عليهم .....
يا أيها المعلم : إن كانت لديك أي علاقة قربى أو صداقة مع أحد طلابك فلتكن بعيدة عن مسمع ومرأى الطلاب الآخرين ....
روى عن مجاهد قال : ( المعلم إذا لم يعدل كتب من الظلمة ) ..
ويروى عن الحسن البصري قوله : ( إذا قوطع المعلم على الأجر فلم يعدل بينهم – أي الطلاب – كتب من الظلمة ) .
الحلم والأناة واستغلال الفرص :
جاء في الحديث الذي رواه أحمد في المسند عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ في قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا عَائِشَةُ لَمْ يَدْخُلْ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ وَلَمْ يُنْزَعْ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ )
وروى البخاري في صحيحه أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْصِنِي قَالَ : لا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ : لا تَغْضَبْ
وروى البخاري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ )(55/19)
أوصى مسلمة بن عبد الملك مؤدب ولده فقال له : إني قد وصلت جناحك بعضدي ورضيت بك قرينا لولدي فأحسن سياستهم تدم لك استقامتهم ، وأسهل بهم التأديب عن مذاهب العنف ، وعلمهم معروف الكلام ، وجنبهم مثاقبة اللئام ، وانههم أن يعرفوا بما لم يعرفوا وكن لهم سائسا شفيقا ومؤدبا رفيقا تكسبك الشفقة منهم والمحبة والرفق وحسن القبول ومحمود المغبة ويمنحك ما أدى من أثرك عليهم وحسن تأديبك لهم مني جميل الرأي وفاضل الإحسان ولطيف العناية. كتاب العيال برقم 342.
ويجب أن تستغل بعض الفرص التي تفرضها الظروف والحوادث التي يمر بها الطالب كأيام الاختبارات أو غيرها من الظروف العائلية ، فتوجه وتدعو ، لأن النفوس فيها تكون أقرب للاستجابة .
يقول أحد المعلمين : طالب لم يكن من المحافظين على صلاة الفجر رغم أنه حريص على دراسته وعلاقته بزملائه ومعلميه ، كثيراً ما نصحته في ذلك فيعتذر بالنوم تارة وبعدم وجود من يوقظه تارة أخرى إلى أن جاءت أيام الاختبارات فكانت فرصة قوية للتأثر فنصحته مجدداً وطلبت منه أن يراجع المادة بعد الفجر تشجيعاً له على الاستيقاظ فكان ذلك ، وهو الآن بحمد الله لا يفارق الصف الأول في المسجد .
وقد يكون التوبيخ مطلوبا ، وهو عبارة عن شدة في القول يفعله المربي لمن لا يقبل النصح .
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ ) صحيح سنن أبي داود 466.
ولا يخفى أن في أمره بالصلاة وضربه عليها تعليم له وتربية ، وفيها تعليم لأحكام الصلاة من شروط وأركان وواجبات ومستحبات بحسب ما يليق بحاله وعقله.(55/20)
عن فضيل بن مرزوق قال : قلت لسفيان : أضرب ولدي على الصلاة؟ قال : أجِدَّه . كتاب العيال برقم 299 ، ومعنى أجده أي شجعه وحفزه على أداء الصلاة يقال أجد الولد صار ذا جد واجتهاد .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : (علقوا السوط حيث يراه أهل البيت فإنه لهم أدب) السلسلة الصحيحة 1447.
قال العلماء : لم يرد به الضرب لأنه لم يأمر بذلك أحدا وإنما أراد لا ترفع أدبك عنهم .
والسلف كانوا يضربون على تعليم العلم :
عن ابن عمر أنه كان يضرب بنيه على اللحن . كتاب العيال برقم 335 والبيهقي في السنن الكبرى .
هشام بن عمار ابن نصير بن ميسرة بن ابان هو الإمام الحافظ العلامة المقرئ ، عالم أهل الشام أبو الوليد السلمي ويقال الظفري خطيب دمشق ، كان من أوعية العلم وكان ابتداء طلبه للعلم وهو حدث قبل السبعين ومئة ، وفيها وقرأ القرآن على أيوب بن تميم وعلى الوليد بن مسلم وجماعة .
وكان من خبره ما برويه عن نفسه : باع أبي بيتا له بعشرين دينارا وجهزني للحج فلما صرت إلى المدينة أتيت مجلس مالك ومعي مسائل أريد أن اسأله عنها فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك وغلمان قيام والناس يسألونه وهو يجيبهم فلما انقضى المجلس قال لي بعض أصحاب الحديث سل عما معك، فقلت له : يا أبا عبد الله ما تقول في كذا وكذا فقال حصلنا يا غلام احمله فحملني كما يحمل الصبي وأنا يومئذ غلام مدرك فضربني بدرة مثل درة المعلمين سبع عشرة درة فوقفت ابكي ، فقال لي ما يبكيك اوجعتك هذه الدرة قلت ان أبي باع منزله ووجه بي اتشرف بك وبالسماع منك فضربتني فقال اكتب قال فحدثني سبعة عشر حديثا وسألته عما كان معي من المسائل فأجابني .
وفي رواية : فقلت له لم ظلمتني ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم لا اجعلك في حل فقال مالك فما كفارته قلت كفارته ان تحدثني القدرة عشر حديثا قال فحدثني القدرة عشر حديثا فقلت له زد من الضرب وزد في الحديث فضحك مالك وقال اذهب(55/21)
وروي عنه أنه قال : فخرجت ، فقعدت على بابه أبكي ، ولم أبك للضرب ، بل بكيت حسرة ، فحضر جماعة ، قال : فقصصت عليهم ، فشفعوا في ، فأملى علي سبعة عشر حديثا .
وقال علي بن جعفر أخبرنا إسماعيل بن بنت السدي قال كنت في مجلس مالك فسئل عن فريضة فأجاب بقول زيد – رضي الله عنه - .
[ يعني كان الإمام مالك رحمه الله في حلقة من حلقات العلم ، فكان يدرَّس في أحد دروسه ، ثم سئل عن مسألة فرضية فأجاب بقول زيد رضي الله عنه – فقال إسماعيل بن بنت السدي ] : ما قال فيها علي وابن مسعود رضي الله عنهما .
فأومأ إلى حجبة [ الحجبة ] فلما هموا بي عدوت وأعجزتهم ، قالوا ما نصنع بكتبه ومحبرته ؟ فقال : اطلبوه برفق فجاؤوا إلي فجئت معهم ، فقال مالك : من أين أنت ؟ قلت من الكوفة ، قال : فأين خلَّفت الأدب فقلت : إنما ذاكرتك لاستفيد فقال : إن عليّاً وعبد الله لا يُنكَر فضلهما وأهل بلدنا على قول زيد بن ثابت ، وإذا كنت بين قوم فلا تبدأهم بما لا يعرفون فيبدأك منهم ما تكره .
وقد يقول قائل : ألا ينبغي أن نناقش ؟ فيقال : نعم ، ولكن بأدب ، وبخاصّة مع الشيخ ، إذ أنَّ النقاش معه له أدب ، يليق به .
وعلى المستفتي أن يتخير الوقت المناسب للاستفتاء ، فلا يستفتيه إن رآه في هَمّ عرض له ، أو أمر يحول بينه وبين عقله ، ويصده عن استيفاء فكره ، فإذا زال ذلك العارض ، وعاد المفتي إلى المألوف من سكون القلب ، وطيب النفس ، فحينئذٍ يسأله ( الخطيب البغدادي : الفقيه والمتفقه 20 / 179 )
وعن قتادى قال : ( سألت أبا الطُفيل عن حديث ، فقال : لكل مقام مقال . وفي رواية وهب : ( إن لكل مقام مقالاً ) الجامع لآخلاق الراوي والسامع للخطيب ( 1 / 212 )
ومن الغرائب أن أحد المربين في إحدى بلاد المسلمين حاول ضرب طالب لا يتجاوز عمره الثلاثة عشر سنة _ إن كبر _ خمسمائة جلدة لمخالفة صدرت منه ، والأعجب من هذا أن المعلم هو معلم التربية الإسلامية .(55/22)
وفي المغرب العربي معلمة رمت بتلميذين من شباك الفصل لأنهما عملا إزعاجا !
فإذا تقرر العقاب فيجب تتوفر شروط لإيقاعه ومنها :
ـ أن الهدف من العقاب هو منع تكرار السلوك غير المرغوب فيه لا غير
ـ أن يتناسب العقاب من حيث الشدة والوسيلة مع نوع الخطأ
ـ أن يعرف الطالب المعاقب لماذا يعاقب
ـ أن يقتنع الطالب بأنه قد ارتكب ما يستوجب العقاب
ـ أن معاقبة التلميذ بالواجبات المدرسية يؤدي به إلى كراهية المدرس وقد ينتهي الأمر إلى زيادة الفوضى لا إلى القضاء عليها
ـ تجنب أساليب التهكم والإذلال الشخصي فإنها تورث الأحقاد
ـ عدم اللجوء إلى العنف بأي حال من الأحوال لأن ذلك قد يعقد الأمور ولا يسويها
وللضرب في الإسلام ضوابط من ذلك :
- التأكد من وقوع الخطأ ومن شخص الفاعل
- أن يكون الضرب مساويا للعقوبة.
- الحرص على عدم تكرار العقاب البدني لمحاذيره الكثيرة
- عدم إيقاع العقاب البدني أمام الناس لما في ذلك من جرح في الشعور
- تجنب المناطق الحساسة في الجسم كالوجه كان سليمان بن سعد يؤدب الوليد وسليمان فقال له عبد الملك : يا سليمان لا تضرب وجوه بني ، وكان في خلق سليمان شدة . كتاب العيال 347.
- الحرص على عدم إلحاق أذى بالطفل
- عدم الضرب وقت الغضب
- استنفاذ الوسائل التربوية قبله من نصح وتوجيه وتعبيس وزجر وهجر وتوبيخ.
- أن لا يزيد المربي في ضربه عن عشر ضربات.
لما ورد في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله ".
ويجب في السوط كما يقول العلماء:
أ- أن يكون معتدل الحجم فيكون بين القضيب والعصا.
ب- وأن يكون معتدل الرطوبة فلا يكون رطباً يشق الجلد لثقله ولا شديد اليبوسة فلا يؤلم لخفته.
ج- ولا يتعين لذلك نوع بل يجوز بسوط وبعود وخشبة ونعل وطرف ثوب بعد فتله حتى يشتد.
وقال العلماء في طريقة الضرب :
1- أن يكون مفرقاً لا مجموعاً في محل واحد .(55/23)
2- أن يكون بين الضربتين زمن يخف به ألم الأول .
3- أن يرفع الضارب ذراعه لينقل السوط لأعضده حتى يرى بياض إبطه فلا يرفعه أكثر من ذلك لئلا يعظم ألمه .
4- أن يتقي المربي ضرب الوجه والفرج والرأس والمقتل . وفي الحديث الذي رواه أبو داود " إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه ".
وأجمع أهل العلم أن أفضل مكان للضرب اليدان والرجلان .
5- أن يتجنب الغضب عند الضرب للحديث الذي رواه الجماعة " لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان ".
6- أوصى العلماء عند الضرب بالابتعاد عن بذاءة اللسان في السب والشتم وتقبيح الولد كقول من يقول يا قرد- يا كلب .
7- وعلى المربي أن يطيل النظر في شأن الولد قبل الإقدام على الضرب فلعل حالة التقصير والعناد عنده ناشئة من مرض عضوي أو مرض نفسي أو خطأ غير متعمد أو لعله واقع تحت تأثير سحر أو مس أو حسد أو عين.. ولكل حالة من هذه ما يناسبها من علاج.
جلس الدار قطني مرة في مجلس إسماعيل الصفار وهو يملي على الناس الأحاديث ، والدار قطني ينسخ في جزء حديث . فقال له بعض المحدثين في أثناء المجلس : إن سماعك لا يصح وأنت تنسخ فقال الدار قطني : فهمي للإملاء أحسن من فهمك وأحضر، ثم قال له ذلك الرجل : أتحفظ كم أملى حديثا فقال : انه أملى ثمانية عشر حديثاً إلى الآن ، والحديث الأول منها عن فلان عن فلان ، ثم ساقها كلها بأسانيدها وألفاظها لم يخرم منها شيئاً ، فتعجب الناس منه . فمثل هذا الموقف من الدار قطني ربما يحمل بعض المعلمين على ضربه أو تعنيفه بل طرده أحيانا على الرغم من أنه أفضل الحاضرين وأحفظهم
إذا أخطأت فارجع :(55/24)
الاعتراف بالحق فضيلة ، والرجوع إليه خير من التمادي في الخطأ ومن الدليل على ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم في كتابه ( مقدمة الجرح والتعديل) حين ذكر قصة مالك رضي الله عنه ورجوعه عن فتواه حينما سمع الحديث ، وذكرها بعنوان ( باب ما ذُكر من اتباع مالك لآثار النبي صلى الله عليه وسلم ونزوعه عن فتواه عندما حُدث عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه )
قال ابن وهب : سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال : ليس ذلك على الناس ، قال ، فتركته حتى خف الناس ، فقلت له : عندنا في ذلك سنة ، فقال : وما هي؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة ، وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه ، فقال : إن هذا الحديث حسن ، وما سمعت به قط إلا الساعة ، ثم سمعته بعد ذلك يُسأل فيأمر بتخليل الأصابع .
فهذا معلم أخطأ في قراءة حديث ، فلما رده بعض الطلاب أصرّ على خطئه ، وجعل يجادل بالباطل ، فسقط هذا المعلم من نظر طلابه ، ولم يعد موضع ثقتهم .
كن إيجابياً ولا تلق باللوم على الآخرين
لا بأس عليك في استعمال شيء من الدعابة والمزاح المباح :
إن الداعية إذا كان مرحاً كان أدعي إلى حبه من المدعوين ولكن من دون إفراط 0 فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم بعض الدعابة والمزاح ولكنه إذا مزح لا يقول إلا حقاً0(55/25)
روى الترمذي في الشمائل عن الحسن البصري رحمه الله قال : أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : ادع الله أن يدخلني الجنة فقال : ( يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز ) فولت تلك العجوز تبكي فقال النبي عليه الصلاة والسلام : [ أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً(35)فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا(36)عُرُبًا أَتْرَابًا ) الواقعة/الآيات 35-27
وهذا الأثر حسنه شيخنا الألباني في مختصر الشمائل 0
وأما ما كان عليه السلف الصالح فكثير فقد كان الشعبي يمزح وكذلك الأعمش ، وكثير من سلف هذه الأمة كانوا كذلك وخير الأمور أوسطها
الانضباط في السلوك والاتزان في الشخصية :
فلا يسقط ضحية استفزاز طالب أو ولي أمر طالب إلى مهاوي الطيش والسفاهة بل يقابل جميع التصرفات المشاكسة بشخصية منضبطة متزنة فيها من الحكمة والوقار ورجاحة العقل ما يمكنه من معالجة المشكلات بكل سهولة مهما عظمت .
أن يكون قدوة في كلامه وسمته وهديه وأن يتكلم العربية الفصحى ويحببهم بها على اللهجة المحلية لأنها لا تفهم أحيانا لاتساع رقعة البلاد واختلاف اللهجات .
يؤكد الإمام النووي هذه الصفة فيقول :"وينبغي أن يصون يديه عن العبث ، وعينيه عن تفريق النظر بلا حاجة ، ويلتفت إلى الحاضرين التفاتاً قصداً بحسب الحاجة للخطاب".
وأن يفصل بين المدرسة وضغوط البيت من الزوجة والأولاد وغيرها من الضغوطات النفسية
القصد في الموعظة والتقليل في الكلام ولا تكثر فخير الكلام ما قل ودل , والحديث إذا طال أنسى آخره أوله :(55/26)
عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ قَالَ أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا
خاطب الطلاب على قدر عقولهم :
كن مواظبا على طلب العلم حريصا على الزيادة والنمو والتجدد والتزود بشتى الوسائل خاصة في مجال تخصصك وفي العلوم العامة والثقافة الإسلامية ولكن مع هذا يجب أن تراعي مستوى من تتحدث إليهم وتراعي كذلك ما بينهم من فروق فردية .
وتذكر أن ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) فلا تكد عقول الطلاب تصعيب المسائل فإن تسهيل المعلومة أدعى إلى قبولها وقبول صاحبها والناس تنفر من الألفاظ المستغربة والعبارات المرموزة .
واُنْظُرْ إلَى قَوْلِ الشَّاعِر :
رَجُلٌ مَاتَ وَخَلَّفَ رَجُلاً ابْنَ أُمِّ ابْنَ أَبِي أُخْتِ أَبِيهِ
مَعَهُ أُمُّ بَنِي أَوْلاَدِهِ وَأَبَا أُخْتِ بَنِي عَمِّ أَخِيهِ
أَخْبَرَنِي عَنْ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَقَدْ رَوَّعَك صُعُوبَةُ مَا تَضَمَّنَهُمَا مِنْ السُّؤَالِ . فبعد الكد والجهد الجهيد تعلم أنه أَرَادَ مَيْتًا خَلَّفَ أَبًا وَزَوْجَةً وَعَمًّا ، فمَا الَّذِي أَفَادَك مِنْ الْعِلْمِ وَنَفَى عَنْك مِنْ الْجَهْلِ بهذا التعقيد؟.
فاحذر غلو النوكى وتكلف البطالين فإن ( مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ ) ولا تكد عقول الطلاب فيما لا يعود عليهم بالنفع في دينهم ولا دنياهم
النصيحة الطيبة بالكلمة الصادقة :(55/27)
قال أحد النبهاء وقد مر على شاب يلعب حارساً لمرمى فريقه ، كل اهتمامه حراسة المرمى لا يعرف إلا ذلك ، ولا يعيش إلا له ، فقال له عبارة تخير لفظها قال : " أسأل الله أن أراك حارساً لمرمى الإسلام من أعدائه " فاستولى عليه المعنى ، وأسَرَتْه العبارة وترك ما هو فيه ، وأقبل على دينه ، وأصبح من الدعاة المعروفين .
النصيحة المنفردة مجربة :
محاولة نصح وتوجيه الطالب فرديا بالطريقة التي يستشعر فيها الطالب حب المعلم له وتقديره باعتباره رجلا عاقلا لا صغيرا معاندا ..
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
تعمدني في النصيحة في انفراد *** وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
وإن خالفتني وعصيت أمري *** فلا تجزع إذ لم تعط طاعة
احترم الطالب يحترمك :
ما استجلب التقدير بمثل التقدير ، فلا يمكن لأي إنسان أن يقبل منك وأنت تهينه أو تتنقص من قدره هل سمعت أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ أهان أحد من مشركي مكة ابتداءً ؟؟؟ . بل كان مثالاً للداعية الحريص على نجاة الناس .
وهذا الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إبراهيم يسأله كافرين عن رؤى رؤها فقال لهما : " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ " يوسف/41(55/28)
فانظر كيف قال لهما : يا صاحبي السجن ولم يقل : يا مساجين أو نحو تلك العبرات مع أنه سبب سجنه .
تقديمك المساعدة للطالب عند حاجته لها ( طريقك لقلبه وهدايته ) :
قد تمر بالطالب ظروف معينة يحتاج معها للمساعدة سواء كانت المساعدة مادية أو شفاعة " مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا " أو غير ذلك مما قد يعرض للطالب فإنه يحسن بالمعلم أن يتدخل وقد ذكر لي أحد المعلمين أن طالباً كاد أن يطرد بسبب الشك في أنه أفسد أحد أجهزة المدرسة وكان خارج حجرة المدير فلما رآه المعلم قال رأيت وجهاً ليس بوجه كذاب سألته فصدقني فشفعت له عند المدير فقبل شفاعتي فهداه الله بهذه الشفاعة ولله الحمد .
وقد يحسن كذلك السكوت عن خطأ قام به بعض الطلاب إذا علم أن السكوت سيؤثر عليه ومن ذلك أن أحد المدرسيين شاهد طالباً يغش في أحد الاختبارات بأسلوب بدائي ( هكذا قال ) ويظهر منه أن غير متقن لهذه الحرفة المشينة فقال له : هات الورق التي عندك فأخرجها الطالب وقلبه يكاد يخرج من بين ضلوعه ، فأخذها المعلم ولم يتكلم ولما رآه بعد الاختبار قال له : أنت من عائلة محترمة فعليك بالصراط المستقيم ولا تنحرف . فكم أثرت فيه هذه الكلمات وبقي سنين يذكرها لهذا المعلم .(55/29)
وآخر في المرحلة الثانوية كان مسرفاً على نفسه مقصراً في حقوقه وواجباته يقول معلمه : حاولت أن أقيم من عوجه إلا أنه لم يستجب فلقد كانت العلاقة بين المدرسة والبيت مقطوعة وهذه من أكبر المعوقات إلى أن جاء ذلك اليوم في اختبارات منتصف الفصل لإحدى المواد التي أدرسها لصفه وفي الاختبار حاول الطالب أن يغش فكان له ما أراد وعندما كُشف وألغي اختباره استدعيته وناقشت الموضوع معه بهدوء ، لقد كان يواجه ضغطاً كبيرا من جهة والده فإنه يهدده في حال الرسوب لأنه في السنة الأخيرة من الثانوية ، وبعد ذلك وعدني الطالب خيراً في سلوك الطريق السوي وكم تفاجأت عندما قابلته بعد التخرج في إحدى المساجد وعليه سمت الصلاح عندها عانقني بحرارة الشوق والإيمان .
معايشة أحوال الطالب :
إن زيارة المعلم للطالب عند المصائب أو زيارته في الأفراح لها أثر كبير في سلوك الطالب ، فيظهر المعلم الفرح والاستبشار لفرح تلميذه ، ويظهر الحزن والتأثر لحزنه مما يجعل الطالب يشعر بتوحد الشعور بينهما ، فيتعلق بذلك المعلم سمعاً وطاعة ، فإن الطالب كغيره من الناس تمر به المصائب والأحزان ، وقد تكون مصائب بعض الطلاب دائمة بسبب أبٍ قاسٍ أو أمٍ زاهدة فيه أو أب ضال فاجر فيحتاج إلى المواساة . وهنا يأتي دور المعلم كأب مرب مشفق حنون، ليسد حاجة هذا الطالب النفسية فإنه في مثل هذه الحالة يحتاج إلى الحنان من أي أحد كان، وحتى لا تتلقفه أيدي الفسقة والمفسدين ، لا بد للمعلم أن يقوم بواجبه فيأخذه وينجيه من براثن أهل الفساد . والخطر كل الخطر لو كان هذا المبتلى بنتا لأنها ستبحث عمن يسري عنها همها ؛ وهنا مكمن الخطر لأن الذي يستمع لها بإنصات في كثير من الأحيان يكون ذئبا بشريا جبانا فاسقا يريد جسدها لينهشه .
فيجب أن يحسن المعلم الاستماع لتلميذه إذا جاءه مشتكيا أو مستشيرا في أمر من أموره ويحسن كذلك وضع الحلول المناسبة حاله .(55/30)
يقول أحدهم : اشتكى إليّ أحد الطلاب وجود الطبق الفضائي ( الدش ) في منزلهم وقد صار مصدر فساد وخراب فإن إخوانه وأخواته لا يفارقون هذا الجهاز إلا قليلاً وهو الوحيد من بينهم الذي يطلب التخلص منه فجاءني يطلب الرأي والمشورة فسألته أولاً عن حال والديه لأنهما أساس هذه القضية فعلمت أنهما منفصلان منذ زمن وأن أخته الكبرى هي من أحضر هذا الجهاز حاولنا في تغيير قناعات أهل المنزل بالكتب والأشرطة فلم نفلح فكان أخف الضررين هو الحل أن اتفقت مع هذا الطالب على جدول يومي مرتب لا يسمح له بالفراغ والجلوس أمام هذا المنكر فكان يقضي وقته بين المذاكرة وحلق القرآن ونشاط المسجد فأثمرت هذه الجهود فبعد أن كان يجلس أمام ( الدش ) أصبح يعكف على كتاب الله تعالى .
وقال آخر : استشارني أحد الطلاب في قضية تخص والده حيث ذكر لي أن والده يشرب المسكر ولا يهتم بالبيت فأعطيته بعض الحلول التي يمكن أن تكون مناسبة ولقد بشرني بعد فترة يسيرة أن الأمور ولله الحمد على ما يرام .
اكتشف المواهب والرغبات وفجر الطاقات :
إن الله قد أودع الميول والرغبات في الناس وهي مع ذلك تختلف من شخص لآخر فهذا يحلم بالدعوة وآخر بالقيادة وثالث بالطب وهكذا وقد جعل الله لكل شخص قدرة قد تكمل فتعينه على تحقيق رغبته وقد تقصر فتقصر ميوله ولهذا فالمعلم ربّان الفصل الذي يكتشف ويقدر ويفجر مواهب أفراده ، فيرى الشُّوَيْعِر فيبني موهبة الشعر فيه ويحثه ويشجعه على ذلك ويرسم له الطريق والعلامات التي تعينه على خدمة دينه ، ويرى المتكلم فيشجعه على الإلقاء والخطبة حتى ينفع الله به أمته ، وهكذا تصبح إدارة الفصل عبارة عن مصنع يخرج من خلالها من يحمي الدين ويرفع الراية .(55/31)
والاستفادة من قدرات وخبرات الآخرين في الاستكشاف .. فلا شك أن الوسط الدعوي يحتاج إلى الاحتكاك بالآخرين من المربين وبعض طلبة العلم وبعض أئمة المساجد وأولياء الأمور ومراكز الدعوة والإرشاد وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الجهات الخيرية. وغيرهم في داخل النشاط أو خارجه .. ومن خلال هذه الفئات يمكن التعرف على بعض طاقات المتربين ، خاصة إذا كان من هؤلاء من يتميز بالفراسة ودقة الملاحظة ..
فالمعلم الناجح يضم تجارب وعقول الآخرين إلى عقله.
إن بعض القول فنٌ فاجعل الإصغاءَ فنا
إن تجد حسنا فَخذه واطَّرحْ ما ليس حسنا
أنت كالحقل يردُّ الكيلَ للزارع طنا
ربما كنتُ غنياً غير أني بك أغنى
ربَّ غيمٍ صار لمَّا لامسته الريح مُزْنا
ما لصوتٍ أغلقت من دونه الأسماع معنى
يا أخانا أنت إن راعيت فجري صار أسنى
وإذا طفت بكرمي زدته خصبا وأمنا
قد سكبتُ الحب كي تشرب فاشرب مطمئنا
فهو بالإنفاق يبقى وهو بالإمساك يفنى
وقد يكتشف هذه الطاقات عن طريق إثارة المنافسة .. والمنافسة وسيلة من وسائل تفجير الطاقات واكتشاف المواهب وظهور القدرات ، ولكن تكون باعتدال .
أو بالسفر .. وقالوا (ما سمي سفرا إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال) وكلما زادت صعوبات السفر وتكاليفه العملية والفكرية كان ذلك أدعى للتعرف على سلوك المتربين وأخلاقهم .
والتكليف بالمهمات من الوسائل لاستكشاف الطاقات التكليف بمهمات مناسبة لقدرات المتربي ، فمن خلال النظر في نتائج هذه التكاليف ترى منهم المبدع ومنهم الذي يقوم بالمهمة بكمالها ومنهم المقصر ومنهم المراوغ .. وهكذا .. فيمكن النظر في النتائج والأساليب التي استخدمها المتربي لإنجاز المهمات ..
استغل طاقات الطلاب وشجعهم على دعوة إخوانهم في الفصل :(55/32)
إن المعلم الناجح هو الذي لا يعتمد على طاقته الدعوية منفردة في الفصل ، وإنما يضيف لها الطاقات الطلابية الموجودة في الفصل بحيث تصهر تلك الطاقات وتوحد حتى تكون تلك الدعوة أكثر تأثيراً وأعظم أثراً ، والفصول غالباً لا تخلو من الشباب الصالحين المصلحين الذي لا يمانعون من التعاون مع المعلم في ذلك العمل إن لم يكونوا هم من أشد المحبين له ، والمتحمسين إليه ، وهذه الطريقة تحتوي على فوائد عديدة منها :
- تعويد الطلاب على الدعوة إلى الله .
- إثارة الحماس بين المجموعات الدعوية في الفصل .
- يستطيع المعلم من خلال هؤلاء الطلاب معرفة أحوال بقية الطلاب ، وهذا يعين المعلم على تكوين خطة صحيحة في دعوته للفصل تناسب الطلاب زماناً ومكاناً ووسيلة وأسلوباً .
وحتى يحصل الهدف من هذا العنصر فإنه لابد من التنبه للأمور التالية :
أ- أن يكون هناك توافق بين عدد الطلاب الصالحين وعدد طلاب الفصل .
ب- يراعى الاهتمام بالأولويات ، فالمجموعات السهلة المطيعة يُعتنى بها أكثر من المجموعات الصعبة .
ج- وضع خطة فصلية لكل مجموعة فالمجموعات السهلة قد يناسبها جدول لاينا سب المجموعات الصعبة .
د-اجتماع دوري بين المعلم وكل مجموعة دعوية على انفراد لمتابعة الجهود وتقويم الثمرات ومعرفة مدى ملاءمة الخطة لواقع الطلاب ، ومناقشة الظواهر الحسنة والسيئة التي طرأت على الفصل .
غرس القيم والأخلاق الإسلامية من خلال المواد الدراسية .
فمثلا معلم اللغة العربية : يستغل مادة النحو مثلاً في ضرب الأمثلة نحو: أعرب : من لا يصلي فهو في النار ، أو " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " مثالاً على المبتدأ والخبر ويبين فضل ( الصديق الصالح )(55/33)
وكذلك يبين خطورة الدعوة إلى العامية ، ويحذر من الأدباء المنحرفين قديماً ويبين ما يدعون إليه في قصائدهم من أخطاء التوحيد مثل قصيدة ( البردة ) للبوصيري . وحديثاً " نزار قباني " وشعره المنحل و(طه حسين ) ( عميل ) عميد الأدب العربي المزعوم !! ونجيب محفوظ الاشتراكي وسبب فوزه بجائزة نوبل للآداب " لروايته أولاد حارتنا " الذي تطاول فيها على الرب جل جلاله وعلى رسله الكرام عليهم السلام ليوهم العوام أنه ذو أدب رفيع " ولا ينسى المعلم " الحداثة " والحداثيين " وتمركزهم في الملحقات الثقافية !! وكذلك في مادة التعبير يختار الموضوعات الإسلامية .
معلم الأحياء :
يستغل كل شاردة وواردة في بيان محاسن الإسلام و بذكر عظمة الخلاق العظيم الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه ويحذر من الخطأ الموجود في بعض الكتب العلمية والطيبة من نسبة الفعل إلى الطبيعة لا إلى الله وأن من يقول بهذا القول قد خرج من الإسلام . ويركز على أن هذا الكون بمخلوقاته العظيمة وتناسقه البديع وراءه خالق يستحق العبادة وحده لا شريك له .
وعند عمل تجارب " بالنار يذكر الطلبة بنار الآخرة ويذكرهم بالآية " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها " ويذكرهم بالحديث الشريف قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : " ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم لكل جزء منها حرها "
وعند دراسة جسم الإنسان (الحواس) مثلاً : يتوقف عند نعمة السمع والبصر واللسان ، وان الله قد وهبنا إياها لتتقوى على الطاعة ، ومن شكر هذه النعم التي وصى الله بها : فلا تسمع (الأذن) : الغناء والغيبة ، ولا يتكلم اللسان بما حرم الله : الكذب والنميمة " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً.
وعند دراسة الحيوان " بين المعلم الداعية للطلبة عدم جواز تعذيبها ، أو الاحتفاظ بها محنطة لما فيها من الإسراف ، وكونها ذريعة إلى اتخاذ التماثيل في البيوت ونحوها.
ومعلم الكيمياء والفيزياء :(55/34)
عليه أن يبين تسخير الله سبحانه للإنسان في اكتشاف البترول وما ينتج عنه من مشتقات يحتاج إليها في حياته اليومية ويذكرهم بقول الله عز وجل : " ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنه "
ويبين لهم توفيق الله للإنسان في هذا العصر في اختراع ( الكهرباء ـ الهاتف ... ) أما لماذا لم توجد هذه المخترعات في الأزمان الماضية فقد قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله « إن الأولين أقوى أفهاماً ولكن ما أراد الله أن توجد إلا في هذه الأزمان وقّت لها هذا الوقت»
ويستفاد من درس ( الصوت ) في بيان رحمة الله بعبادة أن جعل للأذن البشرية مدى معين لسماع الأصوات ، ولو لم يكن ذلك لسمع أصوات الحيوانات كلها قريبها وبعيدها ، ولسمع أصوات النيازك ، وأصوات أهل القبور ، وهم يعذبون وبذلك لا يستطيع أن يعيش حياة هادئة.
ويعمل مدرس الكيمياء على ربط تصرفات ذرات العناصر التي لا ترى بالعين المجردة بتصرفات الإنسان ليغرس من خلال ذلك المبادئ الأخلاقية الفاضلة في نفوس تلميذاته .
ويبين أن من نعم الله علينا أن جعل الضوء ينتقل في الفراغ ولا يحتاج لوسط مادي لانتقاله ، ولو لم يكن ذلك لما وصلت إلينا أشعة الشمس ولعشنا في ظلام دائم ، قال تعالى : ( وجعلنا الشمس سراجا ) ، وقال : ( وجعلنا سراجاً وهاجاً ) .
وعليه أن يبين أن قوة الدفع من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان ، فنلاحظ أن البحر يحمل على سطحه سفينة ضخمة محملة بالركاب والأمتعة في حين يظل عاجزاً عن حمل مسمار صغير بسبب اختلاف قوة الدفع . قال تعالى : ( والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس )
معلم التربية الفنية :(55/35)
يجنب الطلبة ( رسم ذوات الأرواح ) لثبوت تحريمها بالأدلة الشرعية وأن " الأصل في تصوير كل ما فيه روح من الإنسان وسائر الحيوانات أنه حرام سواء كانت الصور مجسمة أم رسوماً على ورقة أو قماش أو جدران أو نحوها أم كانت صوراً شمسية وينبغي أن يعلمهم المباح من الرسومات .
معلم الجغرافيا :
يبين لطلابه آيات الله في هذا الكون الذي خلقه سبحانه ، وأقر الكتاب والسنة والعقل والفطرة بأن الله تعالى وحده يستحق العبادة دون سواه . وعند الحديث عن عدد سكان العالم : يبين أن هذه الخليقة على كثرتها وانتشارها في بقاع الأرض ستجمع في يوم لا ريب فيه على أرض بيضاء مستوية للحساب ( إن كل ما في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا ، لقد أحصاهم وعدهم عداً ، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً )
وكذلك يذكر بفضل الله عز وجل عليهم ونعمته أن اختصهم من بين مئات الملايين وهداهم للإسلام .
ويعرج على أسباب ضعف الأمة الإسلامية الآن رغم كثرة عددها مقارناً بدولة إسرائيل في فلسطين الإسلامية .
وعند الحديث عن الرحلات والكشوف الجغرافية ، حقيقة هذه الكشوف وصليبيتها ، ويبين أن المسلمين هم أصحاب اكتشاف مناطق مختلفة في العالم وكل ذلك رغبة منهم في نشر الإسلام ويبين كيف أنهم حملوا الإسلام إلى حدود الصين وفرنسا !! وكيف رحل كثير من العلماء لطلب العلم إلى أماكن بعيدة وكيف كانوا يتحملون المشاق عند أداء ( فريضة الحج ) صابرين محتسبين .
معلم التاريخ :(55/36)
ينبغي له إن يحرص على ربط التاريخ بالدين ، ويبين إن المسلمين أصحاب تاريخ عريق مشرق في الفتوحات ، وأن تجعل من شخصيات تاريخنا الإسلامي قدوة حسنة للطلبة لا تلك البطولة المزعومة ، بطولة الممثلين والممثلات ، وعليه أن يحذر من التاريخ المكذوب المشوه لبعض الشخصيات الإسلامية ، كما يبين لهم أن الدولة الإسلامية في العصور السابقة في أوج عزها وازدهارها تخلو من تماثيل ومجسمات للقواد والفاتحين والخلفاء السابقين لعلمهم بتحريم النحت والتماثيل في الإسلام . ويبين لهم أن الخلافة الإسلامية عائدة عما قريب وأن هذه الأرض ستملأ عدلا كما ملئت جورا . وهكذا ...
بناء الطلاب بناء فكريا :
وذلك من خلال مشاورتهم في الأمور المتعلقة بهم ، ويستخرج آراءهم ، ويعوّدهم على تربية أفكارهم وتنمية عقولهم من خلال الأمور الآتية :
ـ تعويد أذهانهم على تدبر وتفهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والاستنباط واستخراج المسائل العلمية من النصوص .
ـ تنميتهم على استدامة التفكير والنظر المعتبر في مخلوقات الله عز وجل.
ـ إبعاد أذهانهم عن التفكير في الأمور الفاسدة.
ـ تربية الطلاب على الاعتزاز بالدين .
ازرع الثقة والاستقلالية في نفوسهم :
خليق بالآباء ـ أولا ، وإن كانوا في غنىً أو جاه ـ ثم المعلمين أن يربّوا أولادهم وطلابهم على مبدأ الاعتماد على النفس بعد الله لأن الحياة لا تقوم إلا بالحركة والسعي والعمل والتدبير وكما يقال علم ابنك كيف يصطاد السمكة ولا تلقمه السمكة .
لاَ خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ خَيْرُ ثَنَائِهِ فِي النَّاسِ قَوْلَهُمْ غَنِيٌّ وَاجِدُ
ويتمثل البناء المهني في الآتي :
ـ تبصير الأبناء بفضل العمل وأهميته ، وتنمية ذلك في نفوسهم.
ـ تعليم الأبناء أخلاقيات العمل وآدابه .
ـ تعليمهم الفنون الاقتصادية حسب رغباتهم وقدراتهم .
ومن أهم الأمور التي ينبغي للمعلم أن يسعى لتحقيقها في نفوس طلابه ، بل أهمها على الإطلاق :(55/37)
وهي خلاصة التوجيه غرس الإيمان بالغيب وتثبيته وتقويته ، في نفوسهم بالحجج والبراهين القاطعة ، وتقوية الجانب العبادي والصلة بالله ، والاعتصام بحبله ، والتعاون من أجل رفع راية (لا إله إلا الله) مستعيناً بما يأتي :
التذكير بحالة المسلمين التي يعيشونها اليوم ، والأوضاع الجاهلية التي أحدثت للعالم كله القلق والاضطراب . وأمرهم بالتمسك بالجماعة وأن (من شذّ شذّ في النار) وأن هذا من صفات الطائفة المنصورة ، والتي تبدأ بالإيمان وتنتهي بالجهاد الذي أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم العهد ، وطلب الشهادة من أجل تحقيق رفع راية الإسلام .
والإخلاص :
ويتجسد هذا المعنى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ... ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن , فأتي به , فعرفه نعمه , فعرفها فقال : ما عملت فيها , قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن , قال : كذبت , ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم , وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل , ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ... الحديث ) أخرجه مسلم والنسائي وأحمد والترمذي . فحري بالمربين والمعلمين أن يغرسوا في نفوس ناشئتهم إخلاص العلم والعمل لله , وابتغاء الأجر والثواب من الله , ثم إن حصل بعد ذلك مدح وثناء من الناس فذلك فضل من الله ونعمة والحمد لله .
اضبط الصف ليحصل لك النجاح :
إن ضبط الصف يؤدي إلى نجاح الدرس ، فالمعلم القدير هو الذي يدفع الطلبة إلى الانضباط بدافع ذاتي نابع من رغبتهم الشخصية في التعليم بمعاملة الطلاب فيكون حزماً من غير عنف ، وليناً من غير ضعف لأن الطلاب متى ما شعروا بضعف شخصية المعلم بدأوا بالاستهزاء به ومتى ما رأوا موقفاً معيناً منه بدأوا التعليق عليه وإصدار الأصوات المزعجة المضيعة للحصة بغية هزه .(55/38)
وقد حدث – وللأسف - أن أحد المدرسين في المرحلة الثانوية قال حكمة أو مقولة جيدة فقال أحد الطلاب بعد أن أنهى المعلم كلامه ( خذ الحكمة من أفواه المجانين ) فضحك جميع الطلاب على المدرس ولم يعمل شيئاً لهذا الطالب لأن المدرس كان ضعيفاً جداً.
كما يجب على المعلم عدم البدء في الدرس قبل أن يسود النظام والهدوء داخل الصف ، لأنه لا يمكن أن يتم أي شيء أثناء الفوضى واضطراب النظام فالهدوء والنظام أولاً حتى يضمن المعلم انتباه الطلاب لما سيقوله ، ليس عن طريق القسوة والشدة ، ولا عن طريق الإغراء بالمكافأة ، وإنما يجعل الانتباه نابعاً من رغبة الطلاب أنفسهم .
فضبط الصف والمحافظة على النظام عملية تتطلب من المعلم الكثير من الحنكة والسياسة ، واللباقة ، فمن الطلبة من لا يكلف المعلم أدنى جهد في الانضباط ، وبعضهم تكفيه النظرة العابسة ويرتجف لها قلبه ، والبعض الآخر تكفيه الإشارة ، والبعض الأخر لا يتعظ إلا بالعبارة والتأنيب والتوبيخ ، والبعض الأخر لا بد معه من التهديد والوعيد ، والبعض الأخر لا يفلح معه إلا الطرد والحرمان من الدرس .
العوامل المؤثرة على عمل المعلم تنقسم إلى قسمين :
( عوامل ذاتية ، عوامل خارجية )
القسم الأول : العوامل الذاتية :
وهي شخصية المعلم وتكوينه الخلقي ، وما وهبه الله تعالى من قدرات واستعدادات ومؤهلات طبيعية ، كما يعود بعضها إلى التدريبات والمهارات التي مر بها المعلم لصقل تلك الاستعدادات الفطرية حتى أصبحت مهارات خاصة يمتلكها ويوجهها حسب الحاجة . وحسب مقتضى الحال .(55/39)
وتعتبر الشخصية القوية من أهم المميزات التي تميز المعلم القدير ... ويتميز شخص ما عن شخص آخر بسبب الاختلاف في تلك الصفات ومن ذلك : الذكاء واللباقة والكياسة ، والنظرة الثاقبة ، والتفكير اللماح والاتصاف بالحزم والقدرة على التأثير والتوجيه ، وكيفية التعامل مع المواقف المختلفة ، والحلم والأناة والتروي والصبر والتحمل وضبط النفس والرفق والرحمة والشفقة والعطف والمحبة ، والعفو والتسامح والإحسان ، والليونة والمرونة والتوسط في الأمور ، والأمانة والديانة والصدق والتقوى وحسن الخلق .
ويصفه الغزالي بقوله : ( يظهر أثر الخشية على هيئته وكسوته وسيرته وحركته وسكونه ، لا ينظر إليه ناظر إلا وكان نظره مذكراً بالله تعالى وكانت صورته دليلاً على عمله )
عوامل خارجية :
ومن العوامل الخارجية التي تؤثر في العملية التعليمية :
1 ـ سعة حجم الفصل .
2 ـ ازدحام الطلبة في الفصل من عدمه .
3 ـ وجود ممرات كافية بين صفوف الماصات أو عدمها .
4 ـ نوعية الكراسي وقابليتها للتحرك من عدمه .
5 ـ الجو الحار جداً أو البارد جداً .
6 ـ حجم السبورة .
7 ـ المساحة التي يتحرك فيها المعلم .
8 ـ التهوية الجيدة أو عدمها .
9 ـ الإضاءة الكافية الجيدة أو عدمها .
10 ـ مناسبة توزيع الطلبة على الصف بحسب أحجامهم وأطوالهم .
11 ـ نوعية الطلبة في الصف ومدى انسجامهم واختلافهم ومن ذلك :
أ ـ وجود الفروق الفردية بين الطلبة ومدى اتساعها .
ب ـ نوعية الطلبة : الراسبون ، المؤدبون ، المشاغبون ، الأذكياء ، الممتازون ،الضعاف ، كبار السن .
ج ـ البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أتى منها الطلبة ، فمن الطلبة من تربى على احترام المعلم وعرفوا فضله وقيمته ومكانته ، وفضله عليهم ، ومن الطلبة من لم يتعود على احترام الآخرين فضلاً عن معلمه خاصة .
12 ـ مدى توفر الأجهزة والأدوات اللازمة للتدريس من عدمه .(55/40)
13 ـ مدى توفر الأدوات اللازمة للكتابة على السبورة مثل الطباشير الأبيض والملون والمساحة من عدمه .
14 ـ المستوى الدراسي للطلبة ، أي المرحلة التعليمية التي يدرسون فيها ، بل وحتى الصف الدراسي في المرحلة التعليمية .
15 ـ وقت الحصة هل هي الأولى أم الرابعة أم السابعة .
16 ـ المادة الدراسية التي يتم تدريسها والموضوع الذي يدرس .
17 ـ أعمار الطلاب ، ففرق بين طلبة السنة الثالثة الابتدائية في المدارس النهارية وبين طلبة السنة الثالثة في مدارس محو الأمية .
وفيما يلي بعض الإرشادات المهمة والنصائح على ضبط الصف وسيادة النظام :-
1- لا تبدأ عملاً قبل أن يسود النظام تماماً في صفك ، أي لا تبدأ في التدريس قبل أن يهدأ الجميع ، وينتبه إليك كافة الطلبة .
2- إذا دخلت الصف والفوضى سائدة ، فلا تجلس ولا تثر ولا تغضب ، واتخذ مكاناً مناسباً بحيث ترى ويراك جميع الطلبة وحاول أن يظهر غضبك على وجهك ونبرات صوتك , ثم نادي أحدهم حتى تضمن أنهم قد أحسوا بدخولك ووجودك بينهم . ثم تجول بنظرك بين جميع الطلبة وتفرس في وجوه من أثار الفوضى وأوقفه عند حده بالأسلوب المناسب ، فلكل حالة أسلوبها الخاص وطريقتها المناسبة .
3- يجب أن تفرق بين عدم استطاعة التلميذ القيام بعمل ما ، وبين عدم رغبته في أدائه ، فالنوع الأول من الطلبة يحتاج إلى التوجيه والإرشاد والشرح والتوضيح ، أما النوع الثاني فهو النوع المتمرد الذي يحتاج المعلم إلى تقديم النصح له وقد يحتاج معه إلى الترغيب والترهيب أو الحزم أو العقاب إن لزم الأمر .
4- احرص على الحصول على قائمة بأسماء الطلبة قبل دخولك للصف ؛ واحفظها بأسرع ما يمكن ؛ حتى لا تضطر إلى تعريف الإشارة ، وكل واحد يقول أنا ، أنا ، حتى وإن كانت إشارتك واضحة !!!.
5- عرف الطلبة على نفسك في أول لقاء بإيجاز ومن دون مغالاة أو مبالغة أو تعال عليهم ، أو اكتب اسمك على السبورة بوضوح وعرفهم كيف ينادون اسمك .(55/41)
6- قم بإعداد درسك إعداداً جيداً ، فالمعلم المتمكن أقدر على ضبط الصف وشد انتباه الطلبة وإثارة اهتمامهم واستقطاب تفكيرهم ، وبالإضافة إلى الكتاب المقرر والاطلاع على المراجع الأصلية ، يحتاج الإعداد إلى هضم المادة واختيار الأمثلة المناسبة ، وكل ما يساهم في ربط المادة بالحياة ، واختيار الوسائل التعليمية المناسبة التي تضفي على الدرس القوة والحيوية . وأيضا تخمين المشكلات والصعوبات التي يحتمل أن تواجهها أثناء التدريس
7- لا تستخدم لغة أو عبارات أو كلمات فوق مستوى الطلبة العلمي قدراتهم العقلية .
8- عند الشرح قف في مكان مناسب ، وتحقق من أن جميع الطلبة يسمعونك بوضوح ، بطرح سؤال على البعيد منهم .
9- يجب على المعلم أن يوزع الزمن على أجزاء الدرس حتى لا ينتهي الدرس قبل فترة طويلة من نهاية الحصة ؛ فلا يدري ما يقول وما يفعل في الجزء المتبقي من الحصة . وقد يختل النظام إذا كانت سرعة التدريس لا تناسب الطلبة ، فإذا أسرع المعلم في عرض الدرس أكثر مما ينبغي ، سرعان ما ينعزل الطلبة عن المعلم بشيء آخر.
10- لا تنغمس في موضوع الدرس بحيث تنسى أنك تدرس بشراً ، ولذلك فإننا ننصح المعلم بأن يجعل الفواصل المنشطة تتخلل درسه ، لأن العقل المجهد المتعب لا يستطيع التركيز ، مما يعوق الانتباه ويحول دون الفهم ، وبالتالي يحصل النفور من المادة والمعلم معا وكثيرا ما يصرح الطلاب أنهم لا يحبون أمثال هؤلاء وذلك للجدية المفرطة .
فلا بد من ترويح القلوب ساعة بعد ساعة ، لأنها إذا كلت عميت ، والمعلم القدير هو الذي يفسح المجال في خطة الدرس لإشباع نشاط الطلبة ..(55/42)
11- يجب على المعلم إشاعة روح المحبة والمودة والألفة والوئام بينه وبين الطلبة ، وهذا من شأنه إزالة التوتر والخوف العصبي والانقباض العقلي ، ويشيع في الصف الشعور الفياض بالسعادة الغامرة ؛ لأن حب المعلم يستدعي بالضرورة حب المادة التي يعلمها ، والمحبة أساس النجاح والتوفيق في أي عمل .
12– حاول ما أمكن توزيع الطلاب والمقاعد بشكل مناسب حتى تسهل الرؤية ، أو مرور الطلبة عند وجود طارئ يتطلب إخلاء الصف بأقصى بسرعة
13- عود الطلبة على عدم الخروج من الصف إلا بإذن منك ، وأن يكون ذلك لسبب مقبول ومعقول ..
14- يجب أن يشعر التلميذ أنه معرض للسؤال في كل لحظة من لحظات الدرس ، وبذلك يركز الطلبة تفكيرهم في الدرس لا في أمور خارجية تستدعيهم الخروج عن فروض الأدب .
15- عود الطلبة الاستئذان وآدابه عند طلب الجواب ، أو تبديل أماكن جلوسهم أو غير ذلك مع رفع اليد في هدوء عند الجواب وعدم قول أنا .. أنا .. أنا
16- اطرح السؤال بأسلوب لا يستدعي أن يقول الطلبة : أنا .. أنا .. أنا ، ولا تقبل الجواب إلا من الطالب المسئول فقط ولا تقبل الأجوبة الجماعية .
17- لا تنصرف تماماً للطالب المجيب أو جانب معين من الصف بالنظر أو السؤال وتهمل بقية الطلبة فينصرفوا عن الدرس ، ولكن نقل نظرك واهتمامك بين الطلاب جميعا حتى يشعر كل طالب بأنه موضع اهتمامك وعطفك وعنايتك ورعايتك ومراقبتك ، وأنه معرض في أي لحظة لسؤالك أو أوامرك .
18- لا تنشغل عن الطلبة بأمور ثانوية ، فتترك فراغ أو فترة صمت طويلة وذلك كأن تضبط جهاز العرض السينمائي أو أي عمل آخر فتولد مرتعاً خصباً للشغب وإثارة الفوضى .(55/43)
19- عند حدوث الفوضى ، حاول أن تفرق بين السلوك الفردي والسلوك الجماعي ، فلا توجه اللوم للصف بأكمله فتخلق تجاهك كرهاً من الجميع ، وتكون عرضة للعداء الجماعي ، فلا ترمهم جميعاً بالإهمال أو قلة الأدب ، أو قلة الذوق ... الخ ؛ لأن ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتشجيعاً لأهل الإساءة على الإساءة .
20– قم بإثارة انتباه الطلبة وترغيبهم في الدرس ، واسعَ إلى استقطاب اهتمامهم ، وذلك بجعلهم المحور الذي تدور حوله العملية التربوية .
21- أحضر جميع مستلزماتك من وسائل وأدوات وطباشير حتى لا تضطر إلى إرسال طالب أو أكثر للخروج من الصف ليحضروا لك ما تريد ، فتفوّت عليهم سماع الدرس ، أو أنك تنتظر عودتهم فتترك مجالاً للفوضى .
22- إذا أمرت بشيء فتأكد من أن تجاب إلى طلبك ؛ حتى تجد لأمرك القادم التجاوب المطلوب مستقبلاً .
23- لتكن أوامرك معقولة ومحدودة ، واطلبها بحزم يعرف من مظهرك ونبرات صوتك ، لا تكن متشدداً في أمورك ولا تهدد كثيراً أو تكثر من الوعيد في أمور لا تستطيع أن تقوم بها ، أو تقول ما لا تفعل ، فيصبح تهديدك من سقط الكلام ؛ فتسقط هيبتك ولتكن سياستك مع الطلبة حزم من غير عنف ، وعطف من غير ضعف.
24- كن واثقاً من نفسك وليظهر ذلك على كلامك وأسلوبك ولهجتك ، فإن ذلك مدعاة لأن يثق بك الطلبة ويقبلون على ما تقوله .
25- كن عادلاً في تعاملك مع الطلبة ، فلا تفرق بين صغير وكبير وأسود وأبيض ، ولا تميز بين غني وفقير ، وقبيح ووسيم وقذر ونظيف ، فالعدل في المعاملة أساس التقارب بينك وبين الطلبة حتى لا تثير سخط بعض الطلبة وتذمرهم ، مما يؤدي إلى انفعالهم وعقوقهم وحقدهم .
26- قف وأنت تكتب على السبورة بزاوية تمكنك من رؤية الصف أو جانب منه على الأقل حتى يشعر الطلبة أنهم تحت الملاحظة ، أما إذا أعطيتهم ظهرك لمدة طويلة أو أطلت الالتفات إلى السبورة ، فإن ذلك مدعاة للهرج والمرج والعبث واللهو والقيل والقال .(55/44)
27– عود الطلبة على أن يحترموا ويقدروا آراء بعضهم البعض ، وإذا وجدت وجهات نظر مختلفة ، أو أراد أحدهم تقديم اعتراض وجيه ، فعليه تقديم ذلك بكل أدب وبدون تهكم أو سخرية أو سوء نية ، وبالمقابل ، فإن المعلم القدير هو الذي يعلم المخطئ شكر زميله الذي دله على الصواب ، وأن يعلم الجميع كيف يغبطون المتفوقين ويهنئونهم .
28- لا تلجأ إلى الطريقة الإلقائية إلا عندما لا تجد طريقة أخرى لعرض المادة أفضل منها ؛ لأن الإلقاء الطويل يؤدي إلى انصراف الطلبة عن الدرس ويدفعهم إلى المشاغبة والخروج على النظام ، أما إذا اضطررت إلى استخدام الطريقة الإلقائية ، فيجب أن تراعي استخدام الوسائل التعليمية المناسبة ، واستخدم التلميحات غير اللفظية ، كالإشارات والإيماءات وتعبيرات الوجه واستعمال طبقات الصوت ونبراته في تمثيل المعاني والمشاعر والأحاسيس المختلفة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنه يستحسن أن يقوم المعلم بالتنويع بين استعمال الإلقاء والمناقشة بين الحين والآخر .
29- لا تتبع طريقة واحدة في العرض ، بل نوع من طرق العرض لإبعاد الرتابة والسأم والملل من نفوس الطلبة .
30– صن نفسك ودرسك عن اللغط والجدل والكلام الفارغ ، فإن ذلك يؤدي إلى العداوة والبغضاء والتنافر والشحناء وعدم التآلف ..
31- تحدث مع الطلبة المشاغبين خصوصاً كبار السن منهم ، وحثهم على الالتزام بالنظام وطالبهم بأن يكونوا هم المسؤولين عن النظام ، وحاول أن تقنعهم بأن مشاغبة بقية الطلبة يؤثر على تحصيلهم ، فيكونون سبباً لرسوبهم فيتضرروا هم أكثر ؛ لأن أعمارهم أكبر من الباقين .
32 - إذا حدث واختل نظام الصف ، فعلى المعلم أن يتخذ بعض الإجراءات المؤقتة التي تحفظ النظام المطلوب ، وليس معنى ذلك أنه توجد بعض الأساليب الثابتة التي تصلح لكل حالة ، وإنما يستطيع المعلم استعادة ضبط الصف من خلال خبراته ومعرفته بالأساليب المناسبة للوضع الذي هو فيه(55/45)
العوامل التي تعين المعلم على أداء دوره : ـ
إن العوامل التي تعين المعلم على أداء دوره ليست عوامل تختص به وحده ولكن هناك عوامل خارجية تساعده على أداء دوره ومن هذه العوامل :
الإدارة المدرسية : ( أيها المدير أنت القائد والأمير)
الإدارة المدرسية تتحمل عبء تسيير دفة المدرسة ، فهي الموجه الأول وعليها مسئولية عظيمة وجسيمة ، ويقف في الصف الأول مدير المدرسة بما حُمّل من مسئوليات تعليمية وتربوية وإشرافية ... فهي أمانة عظيمة سيسأل عنها في الدنيا والآخرة .
نعم هي أمانة ملقاة على عاتقه ( ابتدأ من المساعد إلى المعلمين وإلى المرشد إلى الطلاب إلى المستخدمين إلى حارس المدرسة ) وكل واحد من هؤلاء مسئول عن واجباته وإحسانها وتقصيرها ...وهو مسؤول عنهم جميعاً أمام الجهات المسؤولة ، وفي الآخرة أمام الله عز وجل .
ومن مسئوليات الإدارة والتي يجب الوفاء بها والحرص عليها لتعين المعلم على أداء دوره : الجمع بين الحزم واللين ، كلٌ في موضعه ، واحترام وتقدير ( المعلمين والإداريين ) وكسب ودهم والبعد عن التجريح وخصوصاً أمام الطلبة ، والتواد والنصح وأخذ المشورة والرأي وعدم الاستبداد بالرأي امتثالاً لأمر الله عز وجل " وشاورهم في الأمر " .
والعدل مع الجميع وتوزيع المسئوليات على أهلها ، دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى ، وعدم التهاون مع المعلم المقصر في عمله ، والاهتمام بتوزيع الحصص بما يلائم المادة .. والتحقق من كل ما يسمع قبل إصدار الأحكام ، وأن لا يلازم المكتب ويوكل أمر المدرسة إلى الوكيل أو المساعد ، وعدم التساهل في الخروج من المدرسة أثناء الدوام لقضاء حوائجه الشخصية مما يؤدي إلى إشاعة الفوضى في أرجاء المدرسة .(55/46)
وعليه ـ وهو القدوة ـ عدم المبالغة والإسراف في الزينة واللباس ، والقدوة في اللباس والحجاب والمظهر( للمعلمة ) والاهتمام بالطلاب وملاحظتهم وعدم التساهل معهم في المحرمات والممنوعات ، وتشجيع الندوات والمحاضرات والحرص على حضورها مع جميع المعلمين والطلبة .
ومن مسئولية المدير ـ السرية : سواء في العمل ؛ كالامتحانات التي يجب عليه أن يأمر المعلمين فيها بالعدل والقسط في التصحيح وعدم التساهل ولو في علامة واحدة أو كان ذلك في تعامله ، فلا ينشر أسرار الطلاب أو المعلمين الذين يسمح لهم بالتأخر أو الغياب لعذر شرعي .
قال أحد المدراء وقد انتقل لمدرسته طالب يبلغ 15 سنة في الصف الخامس الابتدائي ، قال : عندما انتقل للمدرسة وجدت أنه سليط اللسان وقمت بالتلطف معه والتودد إليه فلاحظت أنه سهل المراس وفي مرة أساء التصرف مع أحد الطلاب ( أخلاقياً ) فقمت بزجره بشدة فبدأ يصد عني ولا يأتي إلى مكتبي بل يذهب إلى الوكيل الذي معي .
ولا بد من التواصل الجيد النافع بين أركان التوجيه الأربعة ( المعلم ، المرشد ، المدير ، ولي الأمر ) والمحافظة على الدوام وضرورة العمل الجماعي ، وإتباع النظم واللوائح والقوانين الرسمية في معاملته مع مدير المدرسة أو الزملاء أو الوزارة.
بين المعلم والموجه : ليست حربا ضروسا يعمل فيها بمبدأ ؛ الحرب خدعة !!!
من المؤسف له جدا أن العلاقة بين الموجه والمعلم لا تكون على خير ما يرام في الغالب فكثير من المعلمين ينظرون للموجه نظرة عدائية يرون أن الموجه يتربص بهم الدوائر لرفع التقارير فيهم ، ولذلك مهما ظهرت على بعضهم صفة الرحابة بالموجه فإنما هي نوع من التزلف والتملق بل والمراوغة كيما تحصل السلامة من بطش تقاريره ، ولذلك يعمد بعض المدرسين إلى الكذب والتدليس والغش عندما يسمع بزيارة الموجه فتجده يشرح للطلاب درسا قد شرح من قبل ليظهر فيه محافظا على جميع الأسس التربوية في أداء الحصة التعليمية .
خاتمة(55/47)
إن علاقتك بالآخرين عبارة عن علم ودعوة وفن وذوق وأخلاق خالصة لوجه الله ، قائمة على إيصال الخير للآخرين وقصدهم في أماكنهم ، علاقة هداية وتعليم وتحبيب الخير وتبغيض الشر إليهم بأحسن أسلوب ، علاقة قائمة على التذكير بالله واليوم الآخر : وليست علاقة جافة فكرياً وإقناعه ذهنياً دون حركة قلبه . علاقة قائمة على الرحمة والشفقة وليس على التكبر والقسوة والاحتقار.
علاقة قائمة على مراعاة الأولويات ( إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ ) علاقة قائمة على الرفق ( وما كان الرق في شيء إلا زانه )
علاقة مبنية على التدرج والحكمة واجتناب ما يسرع الناس إلى إنكاره من بغرائب العلم ، علاقة أساسها تأليف القلوب بالكلمة الطيبة والفعل الحسن ( ابتسامتك في وجه أخيك صدقة ) ، التبسيط ومراعاة الأحوال لا التعقيد .
علاقة قائمة على الصبر
قائمة على مراعاة المفاسد والمصالح
قائمة على تحمل المدعو والصبر على تغيير واقعه السيء
قائمة على الاحترام المتبادل والمحافظة على المشاعر
علاقة محتفظة بدرجة من الجدية والوقار
علاقة قائمة على نفع المدعو وخدمته وليس انتظار النفع منه
علاقة بعيدة عن العواطف الهوجاء
علاقة قائمة على الأخلاق الحسنة
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على شكره وذكره وحسن عبادته إنه قريب مجيب .
والله الموفق(55/48)
محاضرة للشيخ/محمد المنجد
بعنوان/
حتى لا نصاب بالفتور في رمضان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.{يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا}{يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما} أما بعد:-
فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد-صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.(56/1)
الحمد لله الذي أنعم علينا ببلوغ هذا الشهر الكريم نحمده سبحانه وتعالى على آلائه العظيمة ومننه الكبرى وكرمه البيّن سبحانه وتعالى ما أكرمه وما أعظمه لا إله إلا هو ولا رب سواه. أيها المسلمون هذه نعم الله تتجدد بمرور أيام رمضان وهذه آلائه تتوالى علينا بتوالي ليالي هذا الشهر الفضيل وما عشنا من يوم في هذا في رمضان فهو، كيفة من الله، وما بلغنا زيادة في هذا الشهر فهو منّة من الله فإن من عباد الله من أوقفه انتهاء أجله عن إكمال هذا الشهر الكريم، إن من الناس من أوقفته المنيّة عن الاستمرار في هذا الشهر المبارك فلله الحمد على هذه النعمة، أيها المسلمون إن معرفة نعمة الله علينا في هذا الشهر هو الذي يجدد النشاط في النفس ويبعث العزيمة على الاستمرارية في العبادة والوفاء بعهد الله الذي عاهدنا عليه عهد الله علينا أن نعبده لا شريك به شيئا، وعهد الله علينا أن نعبده دائماً وأبدا لا نتوقف عن عبادته في زمن ونعبده في زمن وإنما مشاور هذه الحياة كلها عبادة لله رب العالمين {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.، ذهب المسلمون فيما يلي تنبيهات على أمور تتعلق بهذا الشهر الكريم نحن الآن على مقربة من نهاية الثلث الأول وقد أنهينا ثلث رمضان فلا بد من حسا، كيفف مضت أيام الشهر الماضية؟وكيف انقضت لياليه، ذهبب الثلث والثلث كثير فماذا فعلنا وقدمنا فيما مضى وهل من عملية تحسين ومضاعفة وازدياد في العبادة فيما سيأتي.أيها الناس إننا نشعر بنوع من نقص العبادة ونوع من التكاسل والفتور في وسط رمضان هذا شيء ملاحظ فإن الناس في العادة ينشطون في أيام رمضان الأولى لما يحسّون من التغيير ويجدون شيئاً من لذة العبادة نتيجة الشعور بالتجديد في أول الشهر ثم ما ليبث هذا الشعور أن يبدأ في الاضمحلال ويصبح الأمر ن، ونلاحظ الرتابة في العشر الأواسط ونلحظ هدأ الرجل على بعض الصلوات في المساجد(56/2)
خلافاً لما كان عليه في أول الشهر، ونلاحظ نوعاً من القلة في قراءة القران في وسط الشهر عما كان عليه في أوله، ثم تأتي العشر الأواخر بعد ذلك وما فيها من القيام وليلة القدر لتنبعث بعض الهمم والعزائم مرة أخرى، لكن فكروا معي هل من الصحيح أن يحدث لدينا نوع من التكاسل ونوع من الفتور في وسط هذا الشهر أمن أنه ينبغي علينا استدراك ذلك ويجب علينا أن لا نخسر شيئاً من أيام رمضان ولا نركن إلى شيء من البرود في أواسط هذا الشهر ولعل من أسباب هذا أن بعض الناس يحسون بالعبادة في أول الشهر فإذا مر عليهم فترة فإن عبادتهم تتحول إلى عادة وشيء رتيب، فما هي السبل لمنع هذا التحول كيف نمنع تحو ل عبادتنا عبادة الصيام إلى عادة كيف نعيد اللذة والحيوية إلى هذه العبادة ونحن في أواسط رمضان؟
أولاً:ينبغي أن نحقق التعبد في الصيام باستحضار النية أثناء القيام به وأن العبد يصوم لرب العالمين، النية لا بد أن تكون موجودة دائماً الصيام لله رب العالمين، والهدف من هذا الامتناع "أي: الملذات" إرضاء رب العالمين(إنما الأعمال بالنيات).
ثانياً:مما يمنع تحول صيامنا إلى عادة..أن نستمر في تذكر الأجر في هذا الصيام وفضيلة العبادة في هذا الشهر الكريم، تذكر دائماً ونعيد إلى الأذهان حديثه-صلى الله عليه وسلم-(من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له متقدم من ذنبه، فما هو الشرط في هذه المغفرة؟إنه الاحتساب في كل الشهر، ليس في أوّله فقط وإنما الاحتساب شرط في حصول المغفرة الاحتساب في جميع أيام الشهر، في أوله وفي وسطه وفي آخره فالمحتسب على الله في الأجر يشعر بكل يوم وبكل صوم ويرجع دائماً إلى الله سبحانه وتعالى يطلب المغفرة.(56/3)
ثالثاً:أن نتمعن في هذا الأجر العظيم الذي يكون بغير اعتبار عدد معين، (كل عمل ابن آدم له كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مئة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)الصيام سبب لتكفير جميع الذنوب، إلا الكبائر، الصلوات الكبائر والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر؛ لا بد أن لا تغيب هذه الأحاديث عن أذهاننا ونحن الآن أشرفنا على الثلث الثاني من شهر رمضان، الصيام يشفع لك يوم القيامة، يقول الصيام:أيا ربي منعته الطعام والشهوة، منعته الشهوات في النهار فشفّعني فيه.هكذا يقول الصيام يوم القيامة.
رابعاً:فضائل الصيام وأهله كثيرة متعددة يفرح الصائم بفطره، وعند لقاء ربه، والباب المخصص الذي يدخله الصائمون إلى الجنة "باب الريان" والخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك وفتح أبواب الجنة وتغليق أبواب الجحيم وسلسلة الشياطين مما يمنع تحوّل الصيام إلى عادة مما يعيد الحيوية إلينا في وسط الشهر هذا أن نعرف حديثه-صلى الله عليه وسلم-(إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردت الجن وغلّقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادي كل ليلة- أول الشهر وأوسط الشهر وآخر الشهر كل ليلة- في جميع رمضان يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر)ثم انتبهوا أيها المسلمون لهذه العبارة العظيمة في هذا الحديث عبارة حساسة جداً تجعل الصوم عبادة لنا في جميع الشهر، عبارة تمنع من تحول صيامنا إلى عادة، عبارة تمنعنا من التكاسل والفتور، قال-صلى الله عليه وسلم-(ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)فقد تكون أنت عتيق الله من النار في أواسط هذا الشهر، فلماذا الكسل والتواني؟لابد من الانبعاث وإعادة الهمة.(56/4)
خامساً:ونتذكر كذلك أن بعض كتب الله العظيمة نزلت في أواسط رمضان، قال- صلى الله عليه وسلم-(أنزل الإنجيل بثلاث عشرة مضت من رمضان وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان)فنزول الإنجيل والزبور كانا في الوسط وسط هذا الشهر الكريم، كما كان نزول صحف إبراهيم-عليه السلام-والتوراة في أول الشهر، ونزول القرآن العظيم في أواخر الشهر.
سادساً:من الأسباب التي تمنع تحول هذه العبادة إلى عادة التأمل فيها والوقوف على شيء من حكم الله؛ توحيد المسلمين، المواساة الإحسان، أثر الجوع والعطش والأمر بضبط النفس..أمور كثيرة.
سابعاً:التفكر حديثه-صلى الله عليه وسلم-(رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يفغر له من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فأدخله الله النار فأُدخل النار فأبعده الله قال جبريل لمحمد:قل آمين، قال محمد-صلى الله عليه وسلم-:آمين.
ثامناً:تنويع العبادة في أيام الشهر صيام، قيام، قرآن، إطعام، إنفاق، زكاة وصدقة، وصدقات..وهكذا تتنوع العبادة، فيتجدد النشاط وتعود الحيوية، يا عباد الله لا تفقدوا لذة مناجاتكم وعبادتكم لله في أي جزء من هذا الشهر، وكذلك التعبير عن الابتهاج والتذكير في مجامع الناس بعظمة هذا الشهر وحلاوة أيامه ولذة عبادته.
تاسعاً:ومن الوسائل، عد كم ذهب من الشهر يرجعك إلى الحقيقة ويبين لك ما بقي، فتشعر بالرغبة في مزيد من الاجتهاد كم مضى من شهرنا..كم ذهب من شهرنا..كم ذهب؟ذهب الثلث والثلث كثير.
عاشراً:مقارنة الحالب ما قبله وما بعده، قارن حالك بما قبل الشهر وبما بعده لتعرف عظمة هذا الشهر..لتعرف قيمة هذا الشهر قبل أن يفوت الأوان فلا تفدك المعرفة.(56/5)
الحادي عشر:تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي شهرنا مرة أخرى تذكر طول الوقت الذي سيمر حتى يأتي هذا الشهر مرة أخرى، أشهر طويلة عديدة مديدة ستبقى حتى يأتي الشهر مرة أخرى هذا التذكر يبعث إلى ازدياد النشاط ومضاعفة العبادة وترك الكسل ونفض الغبار والقيام لله رب العالمين.
الثاني عشر:ابتغاء وجه الله في هذا الصيام قال-صلى الله عليه وسلم-(من صام يوماً في سبيل الله-يعني:صابراً ومحتسباً، وقيل في الجهاد-باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً)وقال(من صام يوماً في سبيل الله باعد الله من جهنم مسيرة مئة عام)وقال(من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض)وقال(من صام يوماً في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفاً).
وثانياً أيها المسلمون:إن الاجتماع لقيام الليل لم يشرع إلا في رمضان وصلاة التراويح هذه عبادة جليلة ينبغي أن تعطى حقها، هذا القيام لابد أن يقام بحقه، التبكير إلى المساجد وعدم تضييع صلاة العشاء في الجماعة الأولى والفرض أهم من النفل.
ثانياً:أن لا يكون تقصد مساجد معينة للصلاة فيها من أجل جمال الصوت فقط وحسن النبرة وإنما ينبغي أن يكون الالتذاذ بسماع كلام الله وفهمه أعظم من الاستلذاذ بسماع صوت القارئ ولحنه، ينبغي أن يكون الالتذاذ بسماع كلام الله وفهمه أكبر وأعظم من الاستلذاذ بسماع صوت القارئ ولحنه، وهذه نقطة مفقودة عند كثير ممن يسعون ويجرون ويتنقلون في المساجد، ونريد من المسلمين أن يعقلوا كلام الله، ولا بأس بأن يقبلوا على صاحب الصوت الحسن فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنه، والتفاعل مع الألحان أكثر مما يتفطنون للمعاني ومعرفة فقه هذا القرآن وهو يتلى على مسامعهم.(56/6)
ثالثاً:استحضار القلب عند الآيات الرحمة..العذاب..الثواب..العقاب..القصص..الأمثال..أهوال القيامة..ذكر أسماء الرب وصفاته-جل وعلا- فينبغي أن تكون الأذان حاضرة للإيصال هذا إلى القلوب الحاضرة الحية لينبعث تذكر ويحدث التفاعل مع سماع هذه الآيات، ونظرة إلى بعض الناس الذين يخشعون في الذكر و لا يخشعون في الدعاء ما لا يخشعون في التلاوة و لا في سماع كلام الله...أمرٌ عجيب! يتعجب المسلم من حالهم! فينبغي أن يُعرَفَ قدر الكلام...وقدر الكلام بقدر المتكلم كلام الله لا شيء أعلى منه، كلام الله لا شيء أحلى منه، و كلام الله لا شيء أجل منه و لا أدعى على التقبل و لا التذكر و لا التأثر و لا الخشوع لا شيء أدعى من كلام الله إلى كل ذلك.
رابعاً: عدم رفع الصوت بالبكاء و النحيب و الصياح
كان صلى الله عليه و سلم يصلي و في صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء كما تغلي القدر بهذا الصوت المكتوم كان صلى الله عليه و سلم يبكي في صلاته. فالإخلاص في كتم البكاء والصياح وعدم الزعيق ورفع الصوت.بكاء القلب أهم!كان بكاء السلف في الصلاة نشيجاً ودموعاً تسيل، وربما يبكي أحدهم تسيل دموعه ولا يشعر من بجانبه. هذا هو الإخلاص لا صياحاً و لا صراخاً...لا صياحاً و لا صراخاً...عليك بالتأثر الذي لا يشعر به الناس.
ثالثاً:السحور
عبادة جليلة يغفل عنها الكثيرون و ينامون عنها وعن صلاة الفجر!، ومع الأسف نجد قلة عن المتوقع في صلاة الفجر في رمضان والسبب من الأسباب عدم الاستيقاظ للسحور، السحور بركة كما قال صلى الله عليه وسلم عليكم بهذا السحور فإنه هو الغداء المبارك هلم إلى الغداء المبارك - يعني السحور - نعم السحور التمر...السحور هذه الأكلة بركة فلا تدعوه قال صلى الله عليه و سلم(فلا تدعوه و لو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله و ملائكته يصلون على المتسحرين فصل ما بين صيامنا و صيام أهل الكتاب أكلة السَحَر). فاعتني بالسحور(56/7)
أولاً:لأن الله و ملائكته يصلون على المتسحرين.
ثانياً:لأن فيه بركة.
ثالثاً:لأن فيه مخالفة لأهل الكتاب و يجب أن نخالف اليهود و النصارى
رابعاً:أنه أعون على الصيام
خامساً:أنه أضمن لأداء صلاة الفجر
فعليك به يا عبد الله و لا تُفَوِّته...كيف و هو بركة!فيه بركة ما لا يوجد في غيره من الوجبات.
و عليكم كذلك بالحرص على تفطير الصائمين في الداخل و الخارج (من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء)... من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء...احرص على إطعامه...وإشباعه...و إيصال الطعام إليه بغير منة ولا أذى، وإنما تحمد ربك أن هيأ لك الفرصة لأن يطعم الصائم من طعامك ويشرب من شرابك.فليست الولائم التي تقام لتفطير الصائمين مجالاً للترح ولا للبذخ ولا للأشر والبطر ولا للفخر والخيلاء...و إنما هي مجال لأن تتواضع لله و تشكره أن هيأ لك هذا العدد من الناس ليفطروا عندك و يأكلوا من طعامك.وتذكر خوانك المسلمين في أقاصي الأرض ممن لا يجدون طبقاً واحداً من الأطباق التي تزخر بها مائدتك...فاتق الله يا عبد الله!
و كذلك من الوصايا...تلاوة القرآن العظيم في هذا الشهر، و سيأتي له تفصيل إن شاء الله.
و من الوصايا: قوموا إلى نسائكم...قوموا إلى نسائكم يا أيها المسلمون...يا أيها الرجال...قوموا إلى نسائكم فعلموهن كيفية الصيام و آداب الصيام.قوموا إلى نسائكم اللاتي يأتين إلى المساجد فعلموهن أموراً ومنها:(56/8)
صلاة المرأة في بيتها خير لها...قال صلى الله عليه و سلم (و بيوتهن خير لهن)...قال لأم حميد زوجة أبا حميد الساعدي(قد علمت أنك تحبين الصلاة معي) ثم قال لها(وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي)بين لها أن الصلاة في قعر بيتها خير لها من الصلاة في المسجد، وكلما كانت أعمق في البيت كلما كان أفضل وصلاتها في مسجد قومها خير لها من الصلاة في المسجد النبوي! النبوي! المسجد النبوي.ولكن إن أرادت المرأة أن تذهب إلى المسجد، فلا تمنعوا إماء الله مساجد الله و قد جاء الجمع بين الفقرتين في حديث واحد (لا تمنعوا نساءكم المساجد، و بيوتهن خير لهن).علموهن هذه المسألة.(56/9)
ثانياً:قوموا إلى نسائكم فأمروهن بالحجاب. الحجاب يا أيها الرجال المسلمون... يا أرباب الأسر...يا أيها الرعاة الذين يرعون شؤون العائلة أنتم المسؤولون أمام الله كل واحد توجد امرأته في الشارع حاسرة مقصرة في الحجاب سواء كان قصيراً أولا يستر الوجه والبدن أو شفافاً أو ضيقاً فهو المسؤول عنها. وهو الذي يشاركها في الإثم قطعاً وهو الساكت عن الحق، و هو الشيطان الأخرس، وهو الذي أقر الخبث في أهله. هو الذي أقر فيهم السوء و هو الذي يراها تمشي ولا ينكر، وهو الذي يراها تسفِر و لا يغيّر. فتباً لمعاني الرجولة كيف اضمحلت في نفسه وكيف نقص الإيمان وكيف زال التأثر بقول الله {قوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس و الحجارة} وقودها الناس – أنفسهم – والحجارة. هؤلاء هم وقودها. كيف ترضى أن تخرج امرأتك و لو إلى المسجد في حالة من قلة الحياء والحجاب والتقصير في اللباس الشرعي...لو ظهرت أظافرها مقصرة وأنت ساكت فأنت آثم و مشارك في العدوان وفتنة المسلمين. لو ظهرت أظافرها وأنت ساكت وأنت تعلم فأنت مشارك في الإثم والعدوان. كان النساء في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم إذا خرجن من بيوتهن إلى الصلاة يخرجن متبذلات بعيدات كل البعد عن الزينة – متلفعات بالأكسية، لا يعرفن من الغَلَس...لا يعرفن...كأنهن غِربان...أسود في أسود لا يرى منها شيء.(56/10)
والآن زوجاتنا، بناتنا، أخواتنا، وحتى أمهاتنا...كثير من المسلمين يعيشون حالة عجيبة من التقصير ونندهش من هذا الشهر الذي هو فرصة للتوبة و التغيير...كيف لم يحدث فيه تغير في الحجاب؟ زينة وماكياج وبهرجة وتجمل ولبس أحسن الثياب وتبخر وتطيب وخلوة بالسائق وهذا الزوج الذي يقر الخبث في أهله...هؤلاء الناس رجالاً و نساءً ما موقفهم أمام الله والسيئة تضاعف في رمضان ما لا تضاعف في غيره؟ تضع حجابها في السيارة فإذا نزلت إلى المسجد لبسته، كحال الرجل الذي يحمل معه المشلح، فإذا وصل إلى مكان الوليمة الرسمية نزل فترجّل فلبس المشلح ودخل! و هكذا يفعل هؤلاء أو بعض هؤلاء ورجالهم في غيهم ساجرون...ورجالهم في سبل الشيطان ماشون منهمكون. (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية)! تقول: ما علاقتنا؟ ما علاقتك؟ {قوا أنفسكم و أهليكم ناراً وقودها الناس و الحجارة}
لا لإهمال الأطفال في البيت ولا لإحضار المزعجين إلى المساجد لإشغال المصلين والتلبيس على الإمام والتشويش على عباد الله. أوصوهن بعدم الانشغال بالقيل والقال وارتفاع الأصوات بعد الصلاة لدرجة يسمعها الإمام و الناس. أوصوهن بتراص الصفوف وسد الخلل وملئ الفُرَج فصفوف النساء في المساجد مليئة بالمآسي. انصحوا نساءكم أن لا يقضوا رمضان في المطبخ، وليبقين من الأوقات للعبادة فهي الأساس وهي الهدف وهي أعظم شيء في هذا الشهر. لا تكلفوهن بكثرة الطبخ، بل أنتم تنهوهن عن التمادي والتفنن وتضييع الأوقات فيه...هذا من وضيفتكم.
يا عباد الله، تجنبوا تحويل ليالي هذا الشهر الكريم إلى ليالي أنس مع الخلائق و مجالس معاصي، ولعب ورقص، ومسلسلات وأغاني، وطبل و زمر، وولائم يتفنن فيها في المأكولات، و ترمى فيها الأطعمة في براميل القمامة. الأمر أعظم من ذلك!
قد رشحوك لأمر لو فطنت له...فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل(56/11)
إذا كنا نخفف من صلاة التراويح حتى لا يشرد المتذمرون و لا يهرب المقصرون الكسالى و حتى يدرك أصحاب الأعمال و الوظائف أعمالهم فهذا لا يعني أن تنقطع العبادة بعد صلاة التراويح، بل بقي لك من قراءة القرآن والصلاة – مثنى مثنى – إذا أردت دون أن تعيد الوتر...بقي لك متسع، والنوم مبكر و إدراك الفجر وأكلة السَحَر...مناقشة جمع الزكوات وتوزيع الصدقات ووصل الرحم وبر الفقراء...قال الله تعالى {و بالأسحار هم يستغفرون} ولم يقل يطبلون ويزمرون! وهؤلاء الناس في الأسحار يطبلون و يزمرون وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل في شهر رمضان في الليالي المباركة يعصون الله سبحانه و تعالى. يقول الله (هل من سائل فأعطيه؟) و أصحابنا في وادٍ آخر...(هل من تائب فأتوب عليه؟) و هؤلاء القوم في لهوهم وشغلهم عن ربهم و عن العبادة. تجنبوا قرناء السوء في هذا الشهر الفضيل. أيها الشباب:دعوا الأرصفة وأقبلوا على الله... أيها الشباب:دعوا الأرصفة وأقبلوا على الله واتركوا العود وهلم إلى التوبة وإلى هذا الموسم الفضيل. اللهم اجعلنا ممن عمّر هذا الشهر بالعبادة ...اللهم أعنا فيه على ذكرك و شكرك وحسن عبادتك...وارزقنا توبة نصوحا...وعملاً متقبلا...وصياماً مبرورا...وقياماً مشكورا. اللهم إنا نبرأ إليك من تقصيرنا...اللهم إنا نسألك أن تتجاوز عما أسرفنا فيه من حق أنفسنا. أقول قولي هذا و استغفر الله لي ولكم.(56/12)
الحمد لله...وسبحان الله...ولا إله إلا الله...والله أكبر...ولا حول ولا قوة إلا بالله...أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، رب العرش العظيم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن. سبحانه والله الذي لا إله إلا هو...إنه ينبغي علينا أن نحبه أكثر من أي شيء. اللهم اجعلنا ممن يحبونك واجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ. صلى الله وسلم على نبينا محمد السراج المنير...الداعي إلى الله بإذنه...البشير النذير...الذي أدى رسالة ربه وبلغ الدعوة ووفى الأمانة – صلى الله عليه و على آله و صحبه أجمعين – الذي حبه مقدم على حب البشر أجمعين.
(لا يؤمن أحدكم حتى يكون رسول الله أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)اللهم أجعل حب رسولك مما تعمر به قلوبنا.
أيها المسلمون عمرة في رمضان تعدل حجة، أجر عظيم وموسم فضيل وثواب جزيل ورب كريم،أبواب الخير مشرعة والبقية عليك يا عبد الله لإكمال المشوار،(عمرة في رمضان تعدل حجة).وفضيلة هذه العمرة في جميع أيام الشهر، هذه الحجة ليست قاصرة على العمرة في العشر الأواخر فإذا رأى المسلم أن من مصلحة عبادته استباق الازدحام الشديد جداً الذي لا يطيقه ويعطله عن أعماله وعن شغله حتى في نفسه وطعامه وشرابه فعليه أن يبادر وإذا رأى أن تشتيت ليالي العشر بالأسفار وفوات القيام سيتحقق فلا بأس عليه أن يعتمر في العشر الأول أو الأواسط، أو كان ممن للمصلحة في بقائه في بلده في العشر الأواخر، أو يخشى عدم التمكن من حجز مكان للسفر فليبادر الآن بالذهاب فالبيت قريب والسبيل آمن والأجر عظيم؛ كم من الناس يتمنون أن يعتمروا وأن يأمّوا البيت العتيق فلا يتمكنون...ولا يستطيعون من ظلم ظالم... أو فقر فقير لا يستطيعون أن يأتوا البيت العتيق، فأنت قريب والسبيل آمن ولله الحمد فلماذا لا تبادر بالذهاب.(56/13)
ونوصي إخواننا الذين سيذهبون في رمضان إلى مكة والآن العطلة دراسية قريبة وبعدها سيعقبه سفر وأسفار نوصي الذين يذهبون لقضاء العشر وغيرها بجوار بيت الله الحرام بما يلي:-
أولاً:اغتنام الوقت في تحصيل أكبر قدر من الأجر، واجتناب الانشغال بسفاسف الأمور كتضيع الوقت في الطبخ والبحث عن الأطعمة فكل مما تيسر،وكذلك الانشغال في الصف في الأسواق،أسواق مكة وتضيع الواجبات الأساسية والأهداف الأساسية من رحلة العمرة.
ثانياً:الطالة المكث في بيت الله الحرام ما أمكن، والاعتكاف فإن فيه أجر عظيماً حتى لا يذهب الوقت في المساكن والشقق المستأجرة فتعظم الخسارة فصل الصلاة بالصلاة،وطف ،وانتظر الصلاة بعد الصلاة في المسجد الحرام فمن جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة.
ثالثا:ًعدم إضاعة الوقت بالكلام في الحرم مع الأصحاب والأصدقاء أو استقبال الغادين والرائحين واستيقاف الأصحاب والفرجة على الناس والطائفين، وإنما دع الوقت الأكبر لعبادة ربك والخلوة به.
رابعاً:ربط الحزام في مسألة النوم،وعدم الإكثار منه لأنك ستكون في حالة استنفار لأجل العبادة.
خامساً:عدم الاشتغال بالمفضول عن الفاضل بأمور وأنشطة تعطل عن المقصود الأساسي لرحلة العمرة، فخذ من هذا وهذا واجعل السهم الوافر للهدف الأساسي والأعظم أجرا.
سادساً:الاستعداد الدائم والتبكير لصلوات،لآن بعض الناس يضيعون تكبيرة الإحرام تقصيراً ولا يعلم قدر ثواب إدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام في الحرم إلا الله عز وجل؛ فهنيئاً لمن طابت سفرته وعظمت عبادته وأصاب بعمرته السنّة.(56/14)
اللهم اجعلنا من أهل السنة والقائمين بالسنة والمحافظين على السنة أحينا على السنة وأمتنا على السنة اللهم اجعل شهرك هذا شهر نصر للإسلام والمسلمين وشهر عزة وتمكين للمجاهدين،اللهم اقمع أعداء الدين اللهم شرّدهم وشرّد من خلفهم،اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين،اللهم أهلك اليهود وأعوانهم وطهّر بلاد المسلمين من رجزهم وانجاسهم،اللهم إن في العباد والبلاد من اللئواء والشدة والضنك مالا نشكوه إلا إليك،اللهم ارفع الظلم عن المظلومين،اللهم فرج هم المهمومين ونفس كرب المكروبين وفك أسرى المأسورين واجعل بلاد المسلمين على التوحيد خالصةً لك قائمة لك،اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد،اللهم ارزقنا توبة نصوحة ومغفرة في هذا الشهر العظيم،نسألك بأسمائك الحسنى أنت الكريم أنت المنان أنت الحي القيوم أن تغفر لنا ي ساعتنا هذه أجمعين وأن تجعلنا من عتقائك من النار في هذه الساعة من يوم الجمعة من شهر رمضان أنت أكرم الأكرمين وأنت أرحم الراحمين أنت إلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا سواك سبحانك وتعالى،تعاليت وتقدست أسمائك؛إن الله يأمر بالإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يغظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(56/15)
??O1بدع رجب
الحمد لله الواحد القهار والصلاة والسلام على النبي المختار وعلى آله وصحبه الطيبين الأطهار . وبعد:
فالحمد لله القائل : { وربك يخلق ما يشاء ويختار } ، والاختيار هو الاجتباء والاصطفاء الدال على ربوبيته ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته0
ومن اختياره وتفضيله اختياره بعض الأيام والشهور وتفضيلها على بعض ، وقد اختار الله من بين الشهور أربعة حُرما قال تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم }0 وهي مقدرة بسير القمر وطلوعه لا بسير الشمس وانتقالها كما يفعله الكفار0
والأشهر الحرم وردت في الآية مبهمة ولم تحدد اسماؤها وجاءت السُنة بذكرها: فعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع وقال في خطبته: إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القَعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان0 رواه البخاري رقم (1741) في الحج باب الخطبة أيام منى ، ورواه مسلم رقم (1679) في القسامة باب تحريم الدماء .
وسمي رجب مضر لأن مضر كانت لا تغيره بل توقعه في وقته بخلاف باقي العرب الذين كانوا يغيّرون ويبدلون في الشهور بحسب حالة الحرب عندهم وهو النسيء المذكور في قوله تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله }0
وقيل أن سبب نسبته إلى مضر أنها كانت تزيد في تعظيمه واحترامه فنسب إليهم لذلك0
- سبب تسميته:
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (ص445) :
رجب: الراء والجيم والباء أصلٌ يدل على دعم شيء بشيء وتقويته ... ومن هذا الباب: رجبت الشيء أي عظّمته ... فسمي رجبا لأنهم كانوا يعظّمونه وقد عظمته الشريعة أيضا ..أ.هـ.(57/1)
وقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر رجب مُنصّل الأسنّة كما جاء عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر ، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جثوة ( كوم من تراب ) ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا مُنصّل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه في شهر رجب. [رواه البخاري]
قال البيهقي: كان أهل الجاهلية يعظّمون هذه الأشهر الحرم وخاصة شهرَ رجب فكانوا لا يقاتلون فيه .ا.هـ.
– رجب شهر حرام:
إن للأشهر الحرم مكانةً عظيمة ومنها شهر رجب لأنه أحد هذه الأشهر الحرم قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام }0
أي لا تحلوا محرماته التي أمركم الله بتعظيمها ونهاكم عن ارتكابها فالنهي يشمل فعل القبيح ويشمل اعتقاده .
وقال تعالى : { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } أي في هذه الأشهر المحرمة . والضمير في الآية عائد إلى هذه الأربعة الأشهر على ما قرره إمام المفسرين ابن جرير الطبري – رحمه الله -
فينبغي مراعاة حرمة هذه الأشهر لما خصها الله به من المنزلة والحذر من الوقوع في المعاصي والآثام تقديرا لما لها من حرمة ، ولأن المعاصي تعظم بسبب شرف الزمان الذي حرّمه الله ؛ ولذلك حذرنا الله في الآية السابقة من ظلم النفس فيها مع أنه – أي ظلم النفس ويشمل المعاصي – يحرم في جميع الشهور .
– القتال في الشهر الحرام :
قال تعالى : { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير }0
جمهور العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى : { فإذا أنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتالهم مطلقا0
واستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم0(57/2)
وقال آخرون: لا يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم وأما استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها فإنه يجوز. وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف على ذلك لأن أول قتالهم في حنين في شوال.
وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود فيه الدفع ، فإذا دهم العدو بلدا للمسلمين وجب على أهلها القتال دفاعا سواء كان في الشهر الحرام أو في غيره .
العَتِيرَة:
كانت العرب في الجاهلية تذبح ذبيحة في رجب يتقربون بها لأوثانهم.
فلما جاء الإسلام بالذبح لله تعالى بطل فعل أهل الجاهلية واختلف الفقهاء في حكم ذبيحة رجب فذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن فعل العتيرة منسوخ واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : لا فرع ولا عتيرة. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
وذهب الشافعية إلى عدم نسخ طلب العتيرة وقالوا تستحب العتيرة وهو قول ابن سيرين.
قال ابن حجر: ويؤيده ما أخرجه ابوداود والنسائي وابن ماجة وصححه الحاكم وابن المنذر عن نُبيشة قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا. قال: اذبحوا في أي شهر كان ……الحديث.
قال ابن حجر : فلم يبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم العتيرة من أصلها وإنما أبطل خصوص الذبح في شهر رجب.
الصوم في رجب:
لم يصح في فضل الصوم في رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه.(57/3)
وإنما يشرع فيه من الصيام ما يشرع في غيره من الشهور ، من صيام الاثنين والخميس والأيام الثلاثة البيض وصيام يوم وإفطار يوم ، والصيام من سرر الشهر وسرر الشهر قال بعض العلماء أنه أول الشهر وقال البعض أنه أوسط الشهر وقيل أيضا أنه آخر الشهر. وقد كان عمر رضي الله عنه ينهى عن صيام رجب لما فيه من التشبه بالجاهلية كما ورد عن خرشة بن الحر قال : رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية. ( الإرواء 957 وقال الألباني: صحيح )
قال الإمام ابن القيم: ولم يصم صلى الله عليه وسلم الثلاثة الأشهر سردا ( أي رجب وشعبان ورمضان ) كما يفعله بعض الناس ولا صام رجبا قط ولا استحب صيامه .
وقال الحافظ ابن حجر في تبين العجب بما ورد في فضل رجب: لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيء منه معيّن ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ وكذلك رويناه عن غيره.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: أما تخصيص أيام من رجب بالصوم فلا نعلم له أصلا في الشرع.
العُمرة في رجب:
دلت الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب كما ورد عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبدالله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فسئل: كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أربعا إحداهن في رجب. فكرهنا أن نرد عليه قال: وسمعنا إستنان عائشة أم المؤمنين ( أي صوت السواك ) في الحجرة فقال عروة: يا أماه يا أم المؤمنين ألا تسمعين ما يقول أبو عبدالرحمن ؟ قالت: ما يقول ؟ قال: يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات إحداهنّ في رجب. قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة إلا وهو شاهد ( أي حاضر معه ) وما اعتمر في رجب قط. متفق عليه وجاء عند مسلم: وابن عمر يسمع فما قال لا ولا نعم.(57/4)
قال النووي: سكوت ابن عمر على إنكار عائشة يدل على أنه كان اشتبه عليه أو نسي أوشك.
ولهذا كان من البدع المحدثة في مثل هذا الشهر تخصيص رجب بالعمرة واعتقاد أن العمرة في رجب فيها فضل معيّن ولم يرد في ذلك نص إلى جانب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه اعتمر في رجب قال الشيخ علي بن إبراهيم العطار المتوفى سنة 724هـ: ومما بلغني عن أهل مكة زادها الله شرفا اعتياد كثرة الاعتمار في رجب وهذا مما لا أعلم له أصلا بل ثبت في حديث أن الرسول صلى الله عليه قال: عمرة في رمضان تعدل حجة.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في فتاويه: أما تخصيص بعض أيام رجب بأي شيء من الأعمال الزيارة وغيرها فلا أصل له لما قرره الإمام أبو شامة في كتاب البدع والحوادث وهو أن تخصيص العبادات بأوقات لم يخصّصها بها الشرع لا ينبغي إذ لا فضل لأي وقت على وقت آخر غلآ ما فضله الشرع بنوع من العبادة أو فضل جميع أعمال البر فيه دون غيره ولهذا أنكر العلماء تخصيص شهر رجب بكثرة الاعتمار فيه ا.هـ.
ولكن لو ذهب الإنسان للعمرة في رجب من غير اعتقاد فضل معيّن بل كان مصادفة أو لأنّه تيسّر له في هذا الوقت فلا بأس بذلك.
البدع المحدثة في شهر رجب:
إن الابتداع في الدين من الأمور الخطيرة التي تناقض نصوص الكتاب والسنة فالنبي صلى الله عليه لم يمت إلا وقد اكتمل الدين قال تعالى: { اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } وجاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد. متفق عليه وفي رواية لمسلم: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. وقد ابتدع بعض الناس في رجب أمورا متعددة فمن ذلك:(57/5)
- صلاة الرغائب وهذه الصلاة شاعت بعد القرون المفضلة وبخاصة في المائة الرابعة وقد اختلقها بعض الكذابين وهي تقام في أول ليلة من رجب قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: صلاة الرغائب بدعة باتفاق أئمة الدين كمالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث وغيرهم والحديث المروي فيها كذب بإجماع لأهل المعرقة بالحديث .ا.هـ.
- وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة ، ولم يصح شيء من ذلك ؛ فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد في أول ليلة منه ، وأنه بعث في ليلة السابع والعشرين منه ، وقيل: في الخامس والعشرين ، ولا يصح شيء من ذلك ، وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي كان في السابع والعشرين من رجب ، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره. فأصبح من بدع هذا الشهر قراءة قصة المعراج والاحتفال بها في ليلة السابع والعشرين من رجب ، وتخصيص تلك الليلة بزيادة عبادة كقيام ليل أو صيام نهار ، أو ما يظهر فيها من الفرح والغبطة ، وما يقام من احتفالات تصاحبها المحرمات الصريحة كالاختلاط والأغاني والموسيقى وهذا كله لا يجوز في العيدين الشرعيين فضلا عن الأعياد المبتدعة ، أضف إلى ذلك أن هذا التاريخ لم يثبت جزما وقوع الإسراء والمعراج فيه ، ولو ثبت فلا يعد ذلك شرعا مبررا للاحتفال فيه لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضوان الله عليهم ولا عن أحد من سلف هذه الأمة الأخيار ولو كان خيراً لسبقونا إليه ، والله المستعان . .
- صلاة أم داود في نصف رجب.
- التصدق عن روح الموتى في رجب.
- الأدعية التي تقال في رجب بخصوصه كلها مخترعة ومبتدعة.
- تخصيص زيارة المقابر في رجب وهذه بدعة محدثة أيضا فالزيارة تكون في أي وقت من العام.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يعظّمون حرماته ويلتزمون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(57/6)
محمد صالح المنجد
بدعة رجب
لفضيلة الشيخ
محمد بن صالح المنجد
أبو علي ـ دار السنة 8946749ـ حفظه الله تعالى ـ(57/7)