( قصة مسجد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه )
عناصر الموضوع :
سياق حديث الهجرة وشرحه
الفوائد المستفادة من حديث الهجرة
قصة مسجد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه
فضائل أبي بكر لا تحصى، عرفها من عرفها وجهلها من جهل، فإنه كان صاحب فضل وخير على الناس في الجاهلية والإسلام، ولا أعظم من أن يكون أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذا استبقاه للهجرة معه، وفي هذه المحاضرة شرح لحديث الهجرة، ومنه يتبين فضل أبي بكر، وتوضيح لقصة بنائه لمسجده الذي جعل كفار قريش يفزعون منه، ويخشون على نسائهم وأطفالهم من أن يدخلوا في دينه.
سياق حديث الهجرة وشرحه:(1/1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا الدرس سيكون عن قصة مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفيَ النهار بكرةً وعشية). وأبوها أبو بكر وأمها أم رومان رضي الله تعالى عنهما؛ ومعنى: يدينان الدين تعني: يدينان بدين الإسلام، فهي منذ أن وعت في هذه الدنيا وعرفت أبويها؛ عرفتهما مسلمَين. وعائشة رضي الله عنها تقول: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفَي النهار بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون ...) يعني: بأذى المشركين من كفار قريش وحاصروهم في الشعب، وآذوا المسلمين بالضرب والسجن والقتل والنفي (خرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة ...) أي: ليلحق بمن سبقه من المسلمين إلى الحبشة ، وهؤلاء المسلمون المهاجرون إلى الحبشة ساروا أولاً إلى جدة، وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة ، بعدما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم. (فخرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغَماد ...) و بَرْك الغَماد : موضع على خمس ليالٍ من مكة إلى جهة اليمن . فلما ابتعد أبو بكر من مكة مسيرة خمس ليالٍ وبلغ هذا الموقع، وهو بَرْك الغَماد (... لقيه ابن الدَّغِنَة ، وهو سيد القارَة ...) من هو ابن الدَّغِنَة هذا؟ هو رجلٌ مشركٌ كافرٌ يُنسب إلى أمه، وقيل: إلى أم أبيه، والدَّغِنَة معناها في اللغة: المسترخيه، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، ابن الدَّغِنَة هذا هو سيد القارَة؛ والقارَة قبيلة مشهورة من خزيمة بن مدركة بن إلياس، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكان يُضرب بهم المثل في قوة الرمي، ولذلك يقول الشاعر:(1/2)
قد أنصف القارَة من رماها ....................
فأبو بكر لقي ابن الدَّغِنَة في هذا الموضع بعدما خرج من مكة يريد الهجرة إلى الحبشة . (... فابن الدَّغِنَة قال: أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي ...) أخرجني قومي أي: تسببوا في إخراجي من بلدي مكة ، وأنا أريد أن أذهب متوجهاً إلى الحبشة . والسياحة في اللغة: أن لا يقصد الإنسان موضعاً بعينه ليستقر فيه، فهو في سياحة يسافر ويرحل بدون قصد موضع معين للإقامة، هذه هي السياحة في اللغة. فيقول أبو بكر : (... فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدَّغِنَة : إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج؛ فإنك تكسب المعدوم. وفي رواية: المعدَم، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ -ومعنى الكل: العاجز الفقير الذي يحتاج من يعوله- وتقري الضيف -يعني: تكرم الضيف- وتعين على نوائب الحق ...) وهذه الصفات مثل الصفات التي وَصَفَت بها خديجة النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا الرجل المشرك يثني على أبي بكر الصِّدِّيق بأنه يعين في النائبات، وأنه كريم، وأنه يساعد ويغيث الملهوف. يقول: (... وأنا لك جارٌ -أي أجيرك وأمنعك ممن يؤذيك- فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدَّغِنَة ورجع مع أبي بكر فطاف في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يُكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدَّغِنَة ...) فلم تكذب قريش جوار ابن الدَّغِنَة ، وأقرت بجواره، وقبلت شفاعته؛ لأن ابن الدَّغِنَة كان سيداً في قومه, وكان له مكانة عند قريش، ولذلك قبلوا شفاعته في أبي بكر ، وكفوا عن أبي بكر الأذى. قالت عائشة : (وآمنوا أبا بكر ، وقالوا لابن الدَّغِنَة : مُرْ أبا بكر فليعبُد ربه في داره، فليصلِّ وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به) أي: ليس عندنا مانع أن نبقي أبا بكر ؛(1/3)
بشرط أن يخفي دينه في بيته ولا يظهره، ولا يتكلم بشيء من دينه جهراً (فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدَّغِنَة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره فترة، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير ذلك، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقَصَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يعجبون منه، وينظرون إليه، وفي رواية: فيتقذَّف إليه) ومعنى ذلك: أنهم يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فينكسر، ومعنى يتقصفون: يجتمعون اجتماعاً عظيماً حتى إنهم يتساقطون من الزحام والرغبة في السماع، قالت عائشة : (وكان أبو بكر رجلاً بكَّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين) وذلك لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب من أولادهم، وقد يميلون إلى دين الإسلام (فأرسلوا إلى ابن الدَّغِنَة ، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فائته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فَعَلَ، وإن أبى إلا أن يُعلن ذلك فسَلْه أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك ...). أي: إذا رضي أن يعود إلى داخل الدار فله ذلك، وإذا رفض وأصر على الجهر بدينه فاطلب منه أن يرد الأمان الذي أعطيناه بسببك. (... فإنا كرهنا أن نخفرك ...) أي: نحن لا نريد أن نغدر وقد أعطيناه الأمان بسببك، لا نريد أن نغدر به ونخفر الذمة، فاطلب من أبي بكر أن يرد إليك الجوار إذا كان يريد أن يستمر على هذا الإعلان. ()... فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة : فأتى ابن الدَّغِنَة أبا بكر فقال: قد علمتَ الذي عقدتُ لك عليه -أي: الشرط بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفرت في(1/4)
رجلٍ عقدتُ له ...) أي: لا أحب أن يكون صيتي بين العرب وسمعتي أنني أعطيت إنساناً جواراً ثم إن هذا الإنسان غُدِر به، وأن جواري لا قيمة له، فإنني أكره ذلك، فماذا كان جواب الصِّدِّيق رضي الله عنه؟ قال أبو بكر : (... إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بمكة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أُرِيت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخلٍ بين لابَتين) أي: أرض مالحة لا تكاد تنبت، وبين لابتين: هما الحرتان، فهاجر مَن هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض مَن كان هاجر إلى أرض الحبشة ، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك! فإني أرجو أن يؤذن لي، قال أبو بكر : هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر أربعة أشهر). هذه رواية مختصرة لحديث الهجرة ساقها الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الحوالة من صحيحه ، وهو قد ساق هذا الحديث في عدد من الأبواب من صحيحه ، ومنها ما هو في المناقب. وهكذا كان من شأن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.
الفوائد المستفادة من حديث الهجرة
هذه القصة فيها عدد من الفوائد:
جواز النزول في جوار المشرك ما لم يكن ذلاً:(1/5)
أولاً: فمن المسائل الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع: أن الإنسان المسلم يجوز له أن ينزل في جوار مشرك إذا لم يترتب على ذلك محظور شرعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله تعالى عنه نزوله في جوار هذا المشرك، ولأن دخول الصِّدِّيق رضي الله عنه في حماية هذا الرجل الكافر لم ينبنِ عليه وقوع معصية من أبي بكر ، أو وقوع شرك، أو تنازل عن شيء من الدين، وإنما كان ذلك حماية مجانية من ابن الدَّغِنَة ، ولم يكن فيها كذلك ذلٌ للصديق رضي الله عنه، ولذلك فإن القبول بمثل هذا في هذه الحالة جائز، بخلاف ما لو ترتب على دخول المسلم في أمان مشرك أو جوار مشرك أن يتنازل عن شيء من دينه؛ كأن لا يقيم شيئاً من الدين، أو ترتب عليه وقوع في معاصٍ، أو ذل، أو أنه يعطي الدنية في دينه.
جواز بناء المسجد في مباح لا يضر بالناس:
ثانياً: وكذلك من فوائد هذا الحديث الفقهية ما عنون البخاري رحمه الله عليه في كتاب الصلاة، باب: المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس. فيجوز للإنسان أن يبني مسجداً في مِلكه، ويجوز أن يبني مسجداً في منطقة مباحة بحيث لا يضر بأحد، وأما بناؤه في مِلك الغير فهو ممنوع بالإجماع. فإذاً: المسجد يمكن للإنسان أن يبنيه في ثلاثة أماكن: يبنيه في مِلكه. الثاني: أن يبنيه في مِلك غيره. الثالث: أن يبنيه في مكان ليس لأحد. فأما بالنسبة لبنائه في ملكه فهذا جائز بالإجماع. وأن يبنيه في ملك غيره فهذا ممتنع بالإجماع. وأن يبنيه في مكان مباح ليس لأحد، هذا جائز إذا لم يكن فيه ضرر على أحد. و أبو بكر رضي الله عنه قد بنى المسجد بفناء داره، فهو مِلكه يفعل فيه ما يشاء. ويجوز للإنسان إذا كان عنده بيت كبير أن يبنى مسجداً في جانب منه ويجعل له باباً إلى الخارج ليدخل إليه الناس؛ وهذا لا بأس به ولا حرج، وقد فعله الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.
جواز الأخذ بالشدة في الدِّين:(1/6)
ثالثاً ومن الفوائد الأخرى في هذا الحديث: جواز الأخذ بالشدة في الدين: فإنه كان يجوز لأبي بكر الصِّدِّيق في هذا الوضع أن يبقى في حماية ابن الدَّغِنَة ، ويعبد ربه في داره، ولكنه أخذ بالشدة، وأخذ بالأمر الشاق، ورد جوار المشرك، وقبل أن يتحمل الأذى، وقال له: (أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله) فهذا دال على قوة يقين أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وعلى الأخذ بالأشد في الدين، وأن عنده قدرة على التحمل، ولذلك رد جوار المشرك، ورضي أن يتعرض للأذى في مقابل أن يعلن دينه.
أهمية التزام الأبوين لبناء شخصية الطفل:
رابعاً: أهمية نشوء الطفل في أول أمره بين أبويَن مسلمَين في بيت مسلم، وأن هذه النشأة لها أثر بالغ عليه في المستقبل: فعائشة رضي الله عنها من أعقل النساء، وأفضل النساء، وأعلم النساء، بل هي أعلم نساء المؤمنين على الإطلاق. ومن أسباب ذلك: أنها نشأت في أول أمرها بين أبوَين صالحَين، لم يضع من عمر عائشة فترة من الزمن وهي في جاهلية أو شرك أو جهل، أو كفر أو فسق، تقول: ( لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين ) ولذلك كلما كان التزام الأبوين بالدين مبكراً كان ذلك في صالح الولد أكثر. وأي تأخر في التزام الأب أو التزام الأم بالدين؛ إنما يكون على حساب الولد؛ لأنه سيضيع فترة من عمر الولد بدون اهتمام أو تعليم؛ لأن الأب جاهل أو بعيد عن الدين، وكذلك الأم. فلا شك أن الولد ...
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوهُ
فكلما كان التبكير بالأخذ بالدين والالتزام به، كلما كان ذلك في منفعة الولد ومصلحته.
شدة علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالصديق:(1/7)
خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وثيق الصلة بأبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه: وكان يشاوره في أمور الدعوة ولا شك، ولذلك كان لا بد أن يمر على الصِّدِّيق يومياً: (ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرَفي النهار بكرة وعشية) وهذا يدل على منزلة الصِّدِّيق من النبي عليه الصلاة والسلام، فهو وزيره الأول.
الهجرة بالدين:
وسادساً: أن الإنسان إذا لم يستطع أن يظهر شعائر الدين في بلده فإنه يُشرع له أن ينتقل إلى بلد آخر. فلما ابتلي المؤمنون خرج الصِّدِّيق مهاجراً، وانتقال الإنسان من بلد إلى بلد آخر لإقامة الدين أمر مهم، بل يجب على المرء إذا لم يستطع أن يقيم شعائر الدين في بلده ما لم تكن في البقاء مصلحة أكبر من مصلحة الهجرة، وأن سلامة الدين أهم من سلامة المال، أو البقاء في البلد، أو الديار، أو الأهل، أو الوطن، وأن الغربة في سبيل الله مطلوبة، ولذلك رضي بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهاجر قسم كبير منهم؛ لأجل أنهم لم يكونوا يستطيعون إقامة شعائر الدين في مكة .
أهمية السمعة الطيبة للمسلم:(1/8)
وسابعاً: مكانة وأهمية سمعة الإنسان المسلم بين الناس: فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه لا نفاقاً ولا رياءً، وإنما هذا من طبعه رضي الله عنه أنه كان كريماً صاحب معروف، يعطي المعدوم، يصل الرحم، يقري الضيف، يعين العاجز الفقير في النوائب، وهذه الأعمال الخيرية التي كانت في الصِّدِّيق كان لها انتشار بين الناس حتى عُرِف بها الصِّدِّيق ، ولذلك لما رأى ابن الدَّغِنَة الصِّدِّيق خرج من مكة قال: (إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج) أي: لا يمكن أن مثل هذا يَخرج أو يُخرج إنسان هذه صفاته، وذكر لهم صفات الصِّدِّيق . فسمعة الإنسان المسلم بأعمال الخير التي يعملها تكون سبباً في نجاته بإذن الله، وييسر الله له من الناس، ولو من الكفرة والمشركين مَن يحميه أو يدافع عنه بسبب أعماله الخيرية، فيجب أن يحرص المسلم على أن يكون له باعٌ في عمل الخير، لا من أجل أن يحمي نفسه، أو من أجل أن يكون له شافع من الناس، أو جار يجيره، ولكن ذلك من طبيعة هذا الدين، والله تعالى يوصلها إلى الخلق، ويصبح هذا الشخص صاحب سمعة طيبة بين الناس، وعمل الخير ينفع صاحبه دائماً، وفي أوقات الشدة يكون هذا العمل من الأشياء التي تعين الإنسان على إقامة دينه.
نصر الله الدين بالرجل الفاجر:
ثامناً: أن الله تعالى قد يقيض من الكفار من يحمي المسلم: إن من الغرائب أن يوجد كافر يحمي مسلماً؛ لكن الله عز وجل يقيض لبعض المسلمين مَن يحميه من الكفار، كما حصل من جوار ابن الدَّغِنَة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه.
أهمية إعلان الدعوة:(1/9)
الفائدة التاسعة: خطورة وأهمية إعلان الدين والصدع بالحق: وأن إعلاء كلمة الدين والوصول بها إلى المنابر، وإلى الأماكن التي تنفُذ من خلالها إلى الناس أمرٌ في غاية الأهمية, وأن تلك الوظيفة الإعلامية المهمة في نقل الدين إلى الناس لها شأن تأثيري عظيم لا يُستهان به، وأن الكفار كانوا يخشون من مجرد قراءة القرآن، والإعلان بالدين، يخشون على نسائهم وأطفالهم أو شبابهم من وصول كلمة الحق إليهم. فوجود أماكن ومنابر ووسائل يُنْقَل بها الدين للناس أمر في غاية الأهمية.
قبول الحق والتأثر به ولو كان السامع كافراً:
والفائدة العاشرة: أن هناك من الكفار من يسمع الحق ويقبل به، ويتأثر بالحق: فإن هؤلاء النساء والشباب الصغار من الكفار؛ كانوا يجتمعون لدرجة أن بعضهم يركب بعضاً، ويزدحمون على دار الصِّدِّيق ، حتى ربما سقط بعضهم من الزحام، ولذلك قال الراوي: (فيتقذَّفوا. وفي رواية: يتقصَّفوا -يزدحمون عليه- حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر) فهذا من شدة الاجتماع والحضور، قد يوجد من الكفار من يستمع.
الإخلاص عامل تأثير في السامعين:
والفائدة الحادية عشرة: أن الإنسان المسلم إذا كان مخلصاً تأثر بكلامه الآخرون، وازدحموا عليه وسمعوا منه، وليس مجرد اجتماع وتجمهر، فإن ذلك يمكن تحصيله بوسائل جمع الناس، لكن التأثير في الناس مسألة قلبية، فأنت ترى في مناسبات كثيرة في الأرض يتظاهرُ آلافٌ مؤلفةٌ، وعشرات الآلاف، ومئات الآلاف؛ ويُجمَعون بوسائل كثيرة من ترغيب أو ترهيب؛ لكن مَن الذي يتأثر ويؤثر، التأثير إنما يكون بناءً على الصدق والإخلاص، فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه كان صاحب تأثيرٍ بصِدْقِه وقلبه النقي في الآخرين، حتى خشي الكفار على أولادهم وشبابهم من أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وقالوا: ( فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا ).
أثر القرآن في الدعوة إلى الله:(1/10)
والفائدة الثانية عشرة: أن هذا القرآن له أثر كبير في نفوس الناس: ماذا كان يفعل الصِّدِّيق غير قراءة القرآن؟ لا شيء، إنما كان يجهر بالقرآن، كل الذي كان يفعله أبو بكر الصِّدِّيق هو أنه كان يجهر بالقرآن؛ ولكن القوم كانوا عرباً فصحاء يفهمون معاني القرآن، ويتأثرون به، وهكذا ارتضعوا اللغة منذ نعومة أظفارهم، ولذلك كان نساؤهم وشبابهم وصغارهم يتأثرون بالقرآن. فإذاً: ينبغي أن لا يُغفل دور القرآن في الدعوة إلى الله أبداً، بل ربما يخطب الإنسان خطبة كلها من القرآن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق. ومن أثر القرآن، ومكانة القرآن وخطورة شأن القرآن في الدعوة إلى الله، قال الله تعالى في كتابه العزيز عن القرآن: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52] جاهدهم به: الهاء ترجع إلى القرآن، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ [الفرقان:52] أي: بهذا القرآن جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان:52] فَعُلِمْنا بهذه الآية أن القرآن وسيلة عظيمة للجهاد.
مكانة الجوار والذمة عند العرب واستغلال القرابة في خدمة الدعوة:(1/11)
الفائدة الثالثة عشرة: أن الجوار والذمة كان لها عند العرب شأن كبير: ولا زال الأمر كذلك عند كثير من أهل البادية؛ أنهم يقيمون وزناً للجوار والذمة، وأن هذه المسألة يمكن أن يستفاد منها في الدعوة إلى الله تعالى كما حصل هنا في حماية الداعية إلى الله وهو أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه. والنبي صلى الله عليه وسلم قد استفاد من علاقاته القَبَلِيَّة، واستفاد من قراباته؛ فمَنَعَه قومُه وأقرباؤه، وبنو هاشم كان لهم دور، وعهد الصحيفة وحصار الشعب إنما انتهى بأن قام ناس من الكفار فأنهوه لقرابتهم من بني هاشم. إذاً: فالقرابات والعلاقات لها أثر في حماية الدعوة أو الداعية، فإنه لا ينبغي أن يُستهان بها، ولولا أن علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بأقربائه كانت قوية لِحُسْنِ معاملته لما دافعوا عنه، ولا ردوا عنه، ولا أُنْهِي حصار الشعب. فإذاً: ينبغي أن تُقَدَّر هذه القضية حق قدْرها.
فضل أبي بكر الصديق وخشيته لله:(1/12)
وكذلك يؤخذ من هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله: وأن أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه من مناقبه: أنه كان رجلاً بكاءً، إذا قرأ القرآن لم يملك عينه، يعني: من الدمع والبكاء، وهذا من مناقبه رضي الله عنه، وكثير من الناس مع الأسف لا يعرفون مناقب الصِّدِّيق جيداً، ولا يتعرفون على شخصيته جيداً، وربما بعضهم يعرف بعض الأشياء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو عن علي بن أبي طالب ؛ لكن لا يعرفون كثيراً عن الصِّدِّيق ، مع أن الصِّدِّيق أفضل الجميع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي معرفة شأن الصِّدِّيق رضي الله عنه في رقة قلبه وإيمانه، وسبقه في الخير والدعوة، وعموم أفعال البر التي كان يعملها، ومكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يمر عليه في اليوم مرتين بكرة وعشية، وأنه الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى حتى يهاجر معه، وأخبره عليه الصلاة والسلام أنه يرجو أن يؤذَن له بالهجرة، فيبقى الصِّدِّيق لكي يهاجر معه، ولذلك حبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلف الراحلتين وجهزهما، وحماه، وخاف عليه، وأصيب بالحزن لما اقترب الكفار من الغار، وهو الذي حلب له اللبن وبرَّده، وكان يضع له ذلك الشيء في الظل حتى يستريح عليه، وكان يورِّي، فكان يقول إذا سئل في الهجرة: (هذا رجل يهديني الطريق) حتى لا يعرف النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أتى بغلامه ليدل على الطريق، وهو الذي أتى بابنه يرعى الغنم، وهو الذي أتى بابنته أسماء التي كانت تأتي بالطعام وتربطه بنطاقَيها، حتى سميت بذات النطاقين. ففضل الصِّدِّيق في الدعوة إلى الله وفي الإسلام، ومكانة الرجل في الإسلام عظيمة ينبغي أن تحفظ له، وأن ندعو الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل العظيم أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لما قدم وأعان في نصرة هذا الدين. وهذا الحديث من تأمل فيه يجد مزيداً من الفوائد؛ خصوصاً في مجال الدعوة والتعامل(1/13)
مع الآخرين، وكيف يستفيد الإنسان من الواقع، ومن الإمكانات المتاحة في الدعوة إلى الله عزوجل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع الصِّدِّيق في الدرجة العالية وأن يجزيه خير الجزاء. والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/14)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ـ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:70 ـ 71 ) ، أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أيها الإخوة :(2/1)
إن للتوحيد مكانةً عظيمةً في نفوس المسلين ، أو هكذا ينبغي أن يكون الحال ، ولذلك جاء في القرآن والسنة ، من النصوص اللتي تحمي جناب التوحيد ، وتسد الذرائع المؤدية إلى الشرك ، أشياءُ كثيرة ، ينبغي أن تنهض بهمة الإنسان المسلم ، حتى يتعلم توحيد الله عز وجل ، ويحذر من الوقوع في الشرك وأنواعه ، وكان من جملة ما أصاب المسلمين في دينهم ، ونسأل الله أن لا يجعل مصيبنتا في ديننا ، أن وقع فيهم البلاءُ والشر المستطير ، في قضايا تنافي التوحيد ، وهي من الشرك الخالص ، بل إنها كفر أكبر ، تنقل الإنسان عن الملة ولا حول ولا قوة إلا بالله ، أشياءُ عظيمةُ أيها الإخوة ، أشياءٌ عظيمة ، تنافي التوحيد وتضاده ، تقع على مسامع كثير من المسلمين وأطفالهم صباحاً مساءا ، بل قد صارت مثل التسالي اللتي يتسلى بها ، أمور تناقض آيات عظيمة من صفات الله عزوجل ، ربنا جل وعلا أيها الإخوة يقول عن نفسه : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) ،# الشيخ قال السماوات والآية السماء # (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (فاطر:38) ، (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (السجدة:6) ، (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ)(الرعد: من الآية42) ، (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)(النمل: من الآية65) ، الآيات تنص ، نصاً واضحاُ قاطعاً ، على تفرد الله عزوجل بعلم الغيب ، وأنه لا يوجد في السماوات والأرض من يعلم الغيب إلا الله ، لا يوجد من يعلم ماذا سيحصل بعد دقيقة ، أو بعد ساعة ، أو بعد شهر ، أو سنة أو سنين ، لا يوجد من يعلم ماذا سيحصل فيها إلا الله عزوجل ، كل الأمور الغيبية ، والحوادث التي ستحدث ، يتفرد الله(2/2)
عزوجل بعلمها ، إن الله عنده علم الساعة ، متى تقوم القيامة ، وينزل الغيث ، وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ، وينشر رحمة ، يتوقع الفلكيون ، نزول الغيث ، ويقولون الفرصة مهيئة لنزول الأمطار ، وتتجمع الغيوم في السماء ، وتنذر الحالة بأن المطر سينزل ، ولكن في اللحظات الأخيرة ، يُصَرِفُ الله الرياح كيف يشاء ، فتذهب بهذه الغيوم القاتمه ، دون أن تنزل من السماء قطرة واحدة ، (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)(لقمان: من الآية34) ، يعلم ما في الأرحام ويعلم ما تزيد الأرحام ، وما تنقص ، وكل شيء عنده بمقدار ، فإن قالوا : لقد عرفنا ، هل في بطن الأم ذكر أم أنثى ، فنقول لهم : متى علمتم بهذا ؟ هل علمتم به في الأيام الأولى للحمل ؟ وكانت نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، هل علمتم بذلك قبل أن يدخل الرجل بزوجته ، ماذا سيولد له ؟ لو علمتم نوع الجنس ذكر أو أنثى ، فهل علمتم مذا سيكسب من الأرزاق ؟ هل علمتم هل هو شقي أو سعيد ؟ هل علمتم كم عمره ؟ وماذا يكون أجله ؟ يُرْسُلُ الله الملك الموكل بهذه النطفة فيكتب أذكر أم أنثى ، أشقي أو سعيد ، ما هو رزقه ، ما هو أجله ، وما هو عمله ، هل يدري عن هذه الأشياء مجتمعة ، أحد غير الله عزوجل (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(لقمان: من الآية34) ، هذه النصوص أيها الإخوة :(2/3)
تتعرض اليوم لمصادمات صريحة ، في الوسائل المرئية والمسموعة والمقروئة ، تهدم عقائد المسلمين ، وتزلزل أركان التوحيد في نفوسهم ، بحميع أنواع الشرك ، والكفر بالله عزوجل ، ومنها أيها الإخوة : ما سنتكلم عنه في هذه الخطبة ، وارجوا أن لا تستغربوا ، من هذا الموضوع الذي انتقلته ، لأتكلم عنه الآن ، فإني قد سمعت كثيرا وبلغني أشياء عظيمة ، من تصديق الناس بهذه الأشياء ، هذه الأمور ، التي تسللت إلى حياتنا ، ونفوسنا ، حتى صدق بها ، كبار القوم وصغارهم ، أغنيائهم وفقرائهم ، إنها مسألة التنجيم ، ومطالعة الأبراج ، التي تخصص لها الزوايا والصفحات في الجرائد والمجلات ، الأبراج أيها الإخوة ، التي يدعي من كتبها علم الغيب ، ويصدق من يقرئها ، ماذا سيحصل ، كما كتب الكاهن والعراف والمنجم ، في تلك الزوايا المتكافرة ، يوماً بعد يوم ، وشهراً بعد شهر ، وسنة بعد سنة ، تغزوا عقولنا ، وأنفسنا وقلوبنا ، بعد أن غزة جرائدنا ومجلاتنا ، عن معاوية بن الحكم قال : [ قلت يا رسول الله : أمورٌ كنا نصنعها في الجاهلية ، كنا نأتي الكهان ، نأتي للكاهن ونسأل ، قال : فلا تأتوا الكهان ، قال : قلت كنا نتطير ، قال : ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدكم ] الحديث رواه مسلم .(2/4)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ موضحاً خطورة إتيان الكاهن أو العراف وسؤاله ، يقول : [ من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ] وماذا أنزل على محمد أيها الإخوة ؟ الذي أنزل على محمد هو القرآن والسنة ، الذي يصدق بهذه التنجيمات ، وهذه التخرصات ، وهذه الأشياء التي تكتب في الصحف والمجلات ، في الأبراج فقد كفر بما أنزل على محمد . ويقول رسوله الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في الحديث الصحيح الآخر مبيناً الخطورة الزائدة . في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وهي حفصة ، كما قال أصحاب طرق الحديث ، أنه قال : [ من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ] لا تقبل له صلاة ، وقال عليه الصلاة والسلام :[ من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ] حديث حسن . حديث صحيح .(2/5)
إذن أيها الإخوة : يكفر بما أنزل على محمد ، ولا تقبل له صلاة أربعين يوماً وليلة ، وهذا لا يعني أنه يترك الصلاة ، بل يصلي ومع ذلك لا يأخذ حسنة واحدة ، على صلاته ، وإذا كانت هذه هي حال السائل الذي يسأل الكاهن والعراف ، فما هي حال المسؤول ؟ الكاهن والعراف نفسه ، كيف يكون حاله ، والعراف أيها الإخوة كما قال علمائنا ، الذي يدعي معرفة الأمور ، بمقدمات يستدل بها ، وقال شيخ الإسلام : إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق ، كالحازر الذي يدعي علم الغيب ، أو يدعي الكشف ، قال : والمنجم يدخل في اسم العراف ، والمنجم يدخل في اسم الكاهن أيضاً ، عن الخطابي وغيره من العلماء ، وقال أبو السعادات رحمه الله : العراف هو المنجم والحازر ، الذي يدعي علم الغيب ، وقد استأثر الله به ، قال في الدين الخالص : والمقصود من هذا كله ، من يدعي معرفة شيء من المغيبات ، فهو إما داخل باسم الكاهن أو مشارك له في المعنى ، فيلحق به .
ومعرفة الغيب أيها الإخوة : تكون بأمرو :
منها : استخدام الشياطين ، والزجر ، والطيرة ، والضرب في الأرض ، والضرب في الحصى والخط في الأرض ، والتنجيم ، والكهانة ، والسحر ، وقراءة الكف ، والإستقسام بالأزلام ، والذي يقرأ أباجاد ، أبجد هوز للإستدلال بها على الغيب ، وغير ذلك ، مثل قراءة الفنجال ، وقاتل الله من وضع كلمات قصيدة قارئ الفنجال ، ومن لحنها ، ومن غناها ، جازاهم الله بشر ما يستحقون ، على تخريبهم ، عقائد الأمة .(2/6)
أيها الإخوة : لا تحسبوا أن كلمات الأغاني هي مجرد كلمات عاطفية ، كلا ، إن في بعضها ، كلمات مناقضة لأصل العقيدة ، وأصل التوحيد ، إدعاء أن قارئة الفنجال تعلم ما في الغيب ، وتخبر هذا السائل ماذا سيحصل له . سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : عمن يعتقد أن الكواكب لها تأثير في الوجود ، أو يقول : إن له نجماً في السماء ، يسعد بسعادته ، ويشقى بعكسه ، ويقول : إنها صنعت ادريس عليه السلام ، التنجيم ، ويقول هذا المفتري الكاذب : ويقول إن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كان نجمه بالعقرب أو المريخ ، هل هذا من دين الإسلام ، وماذا يجب على قائله ؟ فأجاب رحمه الله إجابة طويلة ، منها نقتطف ، قوله [ الحمد لله النجوم من آيات الله الدالة عليه ، المسبحة له ، الساجدة له ، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، النجوم مسخرة بأمر الله ، جعل الله لها وظائف ، هداية المسافر بالبر والبحر ، رجوماً للشياطين ، تسبح الله وتسجد ، ثم قال : وهكذا المنجموم ، في ادعائهم علم الغيب ، والخرافات والأكاذيب ، حتى إني خاطبتهم بدمشق ، لأنه كان يعيش فيها شيخ الإسلام ، وحضر عندي رؤسائهم ، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية ، التي يعترفون هم بصحتها ، قال رئيس منهم : والله إنا لنكذب مائة كذبة حتى نصدق في كلمة واحدة ، واعتقاد المعتقد ، أن نجماً من النجوم السبعة ، هو المتولي لسعده ونفسه ، اعتقاده فاسد ، وإن اعتقد هذا المعتقد ، أن هذا النجم ، هو الذي يدبر له ، يعني أموره ، فهو كافر ، كافر بالله ، ثم إن الأوائل من هؤلاء المنجمين ، المشركين الصابئين ، الصابئة يطلقها بعض العلماء ، على عباد النجوم ، ولا زال هناك إلا الآن ، من يعبد النجوم ، ومنهم أقوام يسكنون بأرض العراق ، حتى هذه الساعة ، وأتباعهم ، قد قيل ، إنهم كانوا إذا ولد لهم المولود ، أخذوا طالع المولود ، وسموا المولد باسمٍ يدل على ذلك ، يعني ذلك الطالع ، وهكذا جاء من بعدهم(2/7)
، يسأل الرجل عن اسمه واسم أبيه واسم أمه ليعرف طالعهم ، ويعرف سعده من نحسه ، وحضه في الدنيا ، ورزقه ، وهكذا ، وأما اختياراتهم ، يقول شيخ الإسلام : وهو أنهم يأخذون الطالع لما يفعلونه من الأفعال ، مثل اختياراتهم للسفر ، إن يقول ، إذا كان في القمر في شَرَفِه ، وهو السرطان ، هذا اعتقاد المنجمين ، إذا كان السفر في برج السرطان ، فهو سفر طيب ، وأن لا يكون في هبوط القمر ، وهو برج العقرب ، فإذا اعتقد هذا فهو من الباب المذموم ، ولما أراد علي بن أبي طالب أن يسافر لقتال الخوارج ، عرض له منجمٌ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تسافر فإن القمر في العقرب ، في برج العقرب لا تسافر ، فإنك إن سافرت والقمر في العقرب ، هزم أصحابك ، أو كما قال ، فقال له علي : بل أسافر ، بل أسافر في هذا الوقت ، بل أسافر ثقة بالله ، وتوكل على الله ، وتكذيباً لك ، وإرغاماً لأنفك ، سأسافر ، فسافر علي رضي الله عنه بجيشه ، فبورك له في ذلك السفر ، حتى قتل عامة الخوارج ، وكان ذلك من أعظم ما سُرَّ به ، ثم أجاب شيخ الإسلام عن من ادعى أن صنعت التنجيم لإدريس عليه السلام ، وإن برج رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في العقرب والمريخ ، فقال : هذا كلام لا دليل عليه ، ولا علم لقائله به ، بل إنه من الترهات ، وكانت إجابة طويلة مسددة ، رحمة الله تعالى.(2/8)
الأبراج أيها الإخوة : التي تكتب الآن في المجلات والجرائد ، تكتب بعدة طرق ، فمنها ما يكتب بطريقة الأبراج ، برج الحمل ، برج الثور ، برج الجوزاء ، برج السرطان ، وهكذا . ومنها ما يكتب بطريقة السنوات ، إذا كنت من مواليد السنة الفلانية فسنتك الجديدة سنة كذا وكذا وكذا ، أو فالحذر مطلوب ، أو فالحظ حليفك ، ومن السخافات ، ما قرأته في بعض هذه الأشياء ، أن المنجم يقول : إذا كنت مولوداً في سنة 1910 ، فليس هناك ما يميز سنتك الجديدة ، سلبياً إلا بعض المشاكل الصحية ، وخصوصاً فيما يتعلق بالعضلات ، طبعاً ماذا نتوقع من شخص مولود في عام 1910 ، وقد تكتب بطريقة الأشهر ، فتجد الجداول ، شهر كانون الثاني ، ماذا يوجد فيه من السعد والنحس ، شهر شباط ، شهر آذار ، شهر نيسان ، وهكذا ، وتستخدم لها عناوين جذابة ، أنت والنجوم ، أُورسكوب ، ألوان الحظ ، ماذا تخبأ لك سنة 1987 أو 88 ، الفلك بين يديك ، حظك هذا الأسبوع ، حديث الأبراج ، أبراج القراء ، وهكذا ، حتى إنهم اخترعوا طريقةً للذي لا يعرف ميلاده ، ولا تاريخ ولادته ، فقال قائلهم : إذا كنت ساقط القيد ، ولم تعرف تاريخ يوم ميلادك ، فبرجك تعرفه من اسمك ، وجعلوا للأحرف موازين ، وأعداد ، واستنبطوا منها ، الأبراج ، ثم قال له : ارجع إلى الجدول المرفق ، بالأبراج لتعرف ماذا ينتظرك .(2/9)
وهؤلاء الدجالون أيها الإخوة : يأتون في كلامهم ، بأشياء تقع دائماً ، تقع دائماً ، ليست غريبة ، بعض الكلام فيه أشياء تقع دائماً ، مثل قولهم : بعض الصعوبات تعترض سبيلك ، وهل يوجد إنسان لا تعترضه بعض صعوبات ، خبر سار يصلك من إنسان تحبه ، وهل رأيتم إنسان ما وصل إليه في حياته خبراً سار من شخص يحبه ، بعض المشاكل المادية ، هل يوجد إنسان ما واجه مشاكل مادية ، علاقتك ببعض الأشخاص تزداد متانة ، أمر طبيعي ، تنتظر جواباً من شخص قد يصلك الرد هذا الإسبوع ، طبعاً قد يصلك في هذا الإسبوع ، وقد لا يصلك في هذا الإسبوع ، ماذا يريدون من وراء هذه الكلمات ، يا أيها المسلمون انتبهوا من رقدتكم ، يريدون ايهام العوام والجهال ، أنه قد تحقق كلامهم ، ويرى الشخص فعلاً بأن الرسالة قد وصلة في هذا الأسبوع ، فيقول نعم إنهم يعرفون ، يرى أنه وقع بعد قليل في مشاكل مادية ، فيقول نعم لقد صدقوا ، هذا من وسائل الإيهام والدجل ، والتخريف ، وخداع الناس ، وكذلك من وسائلهم في كتابتهم في تلك الأبراج ، وسائل خبيثة ، يتقربون إلى الشخص القارئ ، بأسلوب ناصح أمين ، ثم يدس له الأشياء الأخرى ، فيقول له مثلاً بأسلوب الناصح الأمين ، لا تبالغ في إرهاق نفسك ، حافظ على حكمتك ، كن طويل النفس ، انتبه لصحتك ، برج الجوزاء تجنب المشاحنات ، وهكذا ، لماذا ؟ حتى يشعر القارئ بأنه ينصحونه ، ويقدمون له الكلامات المعسولة ، التي تفيده ، وهذه أشياء لا علاقة لها بالتنجيم مطلقاً ، نصائح طيبة في الظاهر ، يراد منها الوصول إلى الأشياء الخطيرة المنافية للعقيدة ، ويضللون الناس بتسمية من يكتب هذه الأبراج ، يعدها اليوم الفلكي الدكتور فلان ، يكتبها الفلكي فلان ، ما معنى كلمة الفلكي ؟ إنها تتضمن حقاً وباطلاً ، قدروا الناس هذه الإبره الكلمية ، الفلكي فلان ، يعني ليس يعدها المشعوذ فلان ، ولا الدجال فلان ، ولا المخرب فلان ، ولا الكهان فلان ، أو الساحر فلان ،(2/10)
وإنما يعدها الفلكي فلان ، يكتبها لك اليوم فلان الفلاني ، اطفاء صفة الشرعية ، على هذه الأشياء المناقضة للعقيدة ، والتوحيد ، إنها الدجل والكذب والإفك ، والعرافة بعينها ، ويسرق بعضهم من بعض ، ما تجده مكتوباً في صحيفة ، تجده بعد فترة مكتوباً بالنص في صحيفة أخرى ، أو في مجلة أخرى ، يسرق بعضهم من بعض ، هم يكذبون ، وجهالنا يصدقون ، هم يكفرون بالرحمن ، ومغفلونا يصدقون بكفرهم ، ويؤمنون به ، ما هي أهدافهم في الكتابة ؟ إذا تأملت في الكلام المكتوب في تلك الأبراج يا أخي المسلم ، تجد أنه السم الزعاف ، المؤدي إلى تحطيم أخلاق المسلمين ، هذا غرض من الأغراض ، تحطيم أخلاق المسلمين ، وأقرأ عليكم بعض الأمثلة ، الواقعية المكتوبة فعلاً . برج الحمل : إذا كان وضعك العاطفي لا يرضيك ، فالوقت مناسب لإجراء التغيرات المطلوبة ، يعني إنشاء علاقات حب ، وغرام جديدة ، حرمها الله عز وجل . برج الثور : استمري في تتبع خطواتك شقيقتك فيما يتعلق بموضوع المهنة ، إذاً إخراج النساء في البيوت ، وزجهن في أماكن العمل ، يخالطن الرجال ، اقتدي بشقيقتك في المهنة . برج الجوزاء : قد تلامين من قبل أسرتك ، على غيابك المتكرر ، لكن تجديد العزاء في العمل .(2/11)
أيها الإخوة : فكروا معي ، ارجوا بأن تفكروا في عقلية المسلم الذي يغار على إسلامه وعلى مجتمعه ، وعلى فتيان هذا المجتمع وفتياته ، ماذا تعني هذه العبارة ، قد تلامين من قبل أسرتك على غيابك المتكرر ، ماذا تعني ؟ أنتم تعرفون ماذا تعين ، تجدين العزاء في العمل ، يعني إذا سألوك ، فتحججي بأي شيء . برج العقرب : انتظارك للحبيب لن يطول ، فالأسبوع هذا يتيح لك فرصة اللقاء به ، سم زعاف ، تحطيم لأخلاق الأمة ، وأخلاق البنات والبنين ، أليس أولئك البنات اللاتي يقرأن هذا الكلام ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، مسكينات ماذا يقرأن . برج الدلو : تتخلص بالشعور من الذنب الذي لازمك في مرحلة سابقة ، فكر في الجملة ، فكر في الجملة ،تتخلص من الشعور الذي ، تتخلص من الشعور بالذنب الذي لازمك في مرحلة سابقة ، نحن المسلمين ، لو وقع الواحد في معصية ، ماذا يشعر ؟ بالذنب ، هذا الشعور بالذنب يدفعه إلا أي شيء ، إلا التوبة ، أليس كذلك ؟ الشعور بالذنب مهم ، أن هذا الذنب يكون مثل الجبل الذي تخاف أن يقع عليك ، فتستغفر أكثر وتتوب أكثر ، وتظل متذكراً لتلك الذنوب ، ماذا يقول هذا الرجل ؟ برج الدلو ، تتخلص من الشعور بالذنب الذي لازمك في مرحلة سابقة ،قطع الطريق على الناس بالتوبة ، إفقادهم الشعور بالذنب غمساً في أوحال المعاصي زيادة بزيادة ، برج كذا تتعرف على صديقة حب ،برج الجوزاء، كوكب الزهره : يزيد من رهافة إحساسك إتجاه الحب ، برج العذراء :حاول أن تأخذ فترة تأمل مع شريكة حياتك أو من تحب مزج الحلال بالحرام ، إذا ماكان لك شريكة حياتك تتأمل معها فقف وقفه مع من تحب تتأمل ، التغرير بالأحداث من وسائلهم ، وجعلهم يتيهون في الأمال الكاذبه والسراب ، فتجد برج كذا مكالمة هاتفيه تجلب لك مستقبلاً باهراً ، إتصال هاتفي هام يجعلك تحلم بمستقبل ماهر ، ويجلس ذلك الشاب المسكين البطال ، وهو ينتظر تلك المكالمه التي تجلب له المستقبل الباهر ، أن يجعل(2/12)
الناس يجرون وراء الأوهام ووراء السراب ويقعدون عن العمل ، ينتظرون المكالمه والرساله المهمه ، التي ستجلب لهم الحظ السعيد وتفتح لهم المستقبل ، إذا كنت ومن غرائب ما قرأة ، وأنا أحضر هذه الخطبة ، وقد جَمَعْتُ مصادر لقرائتها ، لا حباً ولا تسلياً بها ، وإنما من أجل أن أعرض عليكم يا إخواني ماذا يكتم ، إذا كنت من مواليد 1953 أو 1957 فأنت محظوظ في سنة 1987 ، ما علاقة عام 53 و 57 بعام 87 ؟ يجلس هذا العراف على كرسية ويخترع الأرقام ، ويؤلف ومجانيننا يصدقون ، هذا ما يحصل أيها الإخوة ، ضد العقيدة ، ضد التوحيد ، ضد أعز ما يملك الإنسان المسلم . وفقنا الله وإياكم أن نعي هذه الشرور ، وأن نقاومها ، وأن نتمسك بحبل الله المتين ، والعقيدة الصحيحة ، ارجوا أن تقتربوا قليلاً أيها الإخوة ، ومن لا يجد له مكان في الخارج يصعد إلى الدور العلوي ، وصلى الله على نبينا محمد .(2/13)
الحمد لله الذي لا إله إلا هو ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولدا ، وكل شيء عنده بمقدار ، عالم الغيب والشهادة ، الكبير المتعال ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، الذي علمنا التوحيد ، وعلمنا أن الكهانة والسحر والتنجيم والعرافة والتطير من الكفر والشرك ، وما ترك خيراً إلا ودلنا عليه ، ولا شراً إلا وحذرنا منه ، يظن بعض المغفلين ، أن هذه الأشياء تسلية ، لا علاقة لها بالعقيدة ، ولا تمس العقيدة ، ويقولون إن هذه بعيدة عن التنجيم كل البعد ، ولكن أيها الإخوة الذي يقرأ ما كتبوا وسطروا فيها ، يجد المخالفة الصريحة ، للعقيدة ، وإرتباط هذا العمل بالتنجيم المحرم ، فمثلاً : يقول قائلهم : برج العقرب : وجود أورانوس في برجك الشمسي يجعلك عصبياً ومتهوراً ، إذن كاتب هذا يعتقد أن هذا الكوكب له تأثير على أخلاق الناس وطبائعهم . بروج الأسبوع : كوكب زحل يمنحك النجاح والظهور ، في الوقت الذي يزيد فيه من متاعبك ومشاكلك ، ويجعلك زحل حكيماً فيلسوفاً ذكياً مثابراً ، سبحان الله العظيم ، كوكب خلقه الله ، هو الذي يجعلك حكيماً مثابراً فيلسوفاً ذكياً ، ويدخل في هذه الأبراج ، التشائم والتفاؤل بالأرقام ، وهو من الطيرة المحرمة . [ انتهت المادة رقم 1 ].(2/14)
فيقول : برج الحمل رقم الحظ 4 ، يوم السعد 2 ، برج الحوت رقم الحظ 7 ، يوم السعد الثلاثاء ، وهكذا ، هذا الشهر ، الأرقام الأكثر حظاً يوم 7 و 9 و 11 و 25 ، الأيام أقل حظاً يوم 3 و 13 و 19 وهكذا ، هذه القضية أيها الإخوة فيها خطورة كبيرة على الناس ، كثير من الناس يتخذون قرارات هامة ، في قضايا الزواج أو الانفصال والطلاق ، أو السفر أو التجارة ، أو الصداقة وغيرها بناءً على ما كتبه ذلك المنجم في تلك الأبراج ، وترى من يتقدم للزواج تسأله الخطيبة ما هو برجك ؟ فإذا كان العراف قد كتب في ذلك البرج ، أن هذا لا يلتقي مع ذلك البرج الذي فيه الفتاة ، ترفض الفتاة الولد ، الشاب ترفضه ، لأن برجه لا يتوافق مع برجها ، وقد حدثت حادثة طريفة ، أن خطيبةً فسخت الخطبة لخطيبها ، لما اكتشفت أن برجه ، لا يوافق برجها ، فاضطر ذلك الرجل ، أن يذهب إلى محرر صفحة الأبراج ، ليقنعه ويدفع له ، بأن يكتب في العدد الثاني ، أن البرج هذا يوافق البرج ذاك ، لكي تقرأه المرأة وتصدق مرة أخرى ، بأن هذا الرجل مناسبٌ لها ، تحديد مواعيد الزواج باليوم ، والشهر ، والسنة ، من الأمور التي يلجأ فيها إلى العرافين ، وتكتب في المجالات ، الممثلة الفلانية ، قال لها عرافها فلان الفلاني ، إن اليوم المناسب للزواج الذي يجلب السعد ، هو اليوم الفلاني ، في الشهر الفلاني ، في السنة الفلانية ، ويتعلق القراء بهذه الترهات والأباطيل ، ويراسلون ويراسلنه ، محرري صفحات الأبراج والصحف والمجلات ، فتسأل إحداهن وتقول : هذا كلام مكتبوب ، برج الأسد هل يمكنني معرفة حسنات وسيئات هذا البرج ، ومع أي أبراج تثق ، ويجيبها ذلك الدجال فيما عنده ، ويسطر تلك الترهات والأباطيل ، ويظل الناس يقولون ، مع هذا ما فائدة دراسة التوحيد ؟ لماذا ندرس في المراحل الابتدائية توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ، هذه قضايا فطرية ، هذه قضايا معروفة ، هذه قضايا يفهمها كل جاهل ، ما(2/15)
هي قيمة كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب ؟ ولماذا ألَّف الكتاب ؟ الناس في غناً عنه ، ألَّفه أيها الإخوة مثل هذه الأمور ، اقراؤا كتاب التوحيد وادرسوه ، أبواب كتاب التوحيد ، أبواب متينة ، تعالج قضايا خطيرة وأساسية ، تتجنب بواسطة الفقه في الدين في هذه الأبواب كثيراً من الشرور ، فتجد في كتاب التوحيد ، باب ما جاء في السحر ، باب ما جاء في التطير ، باب ما جاء في التنجيم ، وهكذا ، يجب أن تحرصوا أيها الإخوة على تنمية جوانب العقيدة ، ودراسة كتب التوحيد ، لتعرف كيف توحد الله ، وكيف تتجنب الشرك ، هذه الأشياء الخطيرة تنقض الإيمان بالله عز وجل ، تنقض بركن أساسي من أركان التوحيد ، بحقيقة أساسية تكسرها كسراً ، تحطمها تحطيماً ، قضية تفرد الله عز وجل بعلم الغيب ، (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)(النمل: من الآية65) ، هذه الأشياء المكتوبة في الأبراج قد تحطم هذه القضية الأساسية تحطيماً ، وتشوه عقيدة القضاء والقدر ، في نفوس القراء ، مخالفة صريحة وواضحة ، لآيات الله عز وجل ، وأحاديث رسوله ، ما هو حكم هؤلاء في الشريعة يا ترى ؟ قال ابن قدامة رحمة الله : نقل عن الإمام أحمد عن الكاهن والعراف ، أن حكمهما القتل ، أو الحبس حتى يموتا ، ومن اعتقد من القراء الذي يقرؤن هذه الأبراج ، من اعتقد منهم اعتقاداً جازماً ، أن كلام هذا العراف الفلكي ، حقٌ ، ويرسم حياته بناءً على ما كتب ، وفقاً لأقوال الكاهن والعراف ، فلا شك أنه يكفر كفراً مخرجاً عن الملة ، كافر بالله ، خرج من ملة الإسلام ، لا ينفعه صلاة ولا صيام ولا زكاة ، ولا حج ، وهو مناقض لشهادة التوحيد ، التي يلفظ بها في الصلاة ، والذي يأخذ قول الكاهن عن تجربة ، يقول أجرب ، قد يكون صحيح وقد لا يكون ، هذا قد يكون وقع في الشرك العملي ، الشرك الأصغر ، الجاهل يُعَلَّم ، والذي عنده شبهه يناقش لتزال الشبهه ، يعني أقول(2/16)
إن من المحاذير إطلاق الكفر على الناس الجهلة بالسهولة ، لا ، إذا رأيت منهم من يصدق بهذا أجلس معهم ، ناقشه ، وبين له ، بالأدلة من القرآن والسنة ، هذا الكفر وهذا الشرك ، وبعد ذلك إن أصر ، إن أصر على كفره فهو كافر ولا شك ، وقد سألنا بعض علمائنا عن حكم قراءة هذه الأشياء على سبيل التسلية ، لأن بعض الناس يقولون ، أنا أمضي الوقت ، وأقرأ هذه الصفحة ، صفحة الاستراحة ، التي تحوي هذه الأشياء ، ما حكم قرائتها للتسلية ، قال علمائنا : قرائتها للتسلية حرام ، لا تجوز ، وهي ذريعة للشرك ، وقد يصدق هذا القارئ للتسلية ، يصدق بعض ما جاء فيها من أشياء ، وتقرأ هذه القضايا على صغارنا ، يتربون عليها ، نقرأها عليها أمهم ، أو أبوهم أو أخوهم ، أو خالهم ، تقرأ في البيوت ، بصوت مرتفعٍ أحياناً ، فتترسخ في عقول أطفالنا هذه الشركيات ، لماذا نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب عن النظر في صحائف التوراة المحرفة لماذا ؟ غضب الرسول - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً وهو يرى عمر ينظر في صحائف التوراة لماذا ؟ لا يجوز النظر أصلاً ، فيما كتب من الشرك والكفر ، إلا لمن أراد أن يحذر الناس ، وينبههم لهذا الشر المستطير ، عند ذلك يكون من باب الدعوة إلى الله ، أو من يريد أن يرد عليهم ، يكون من باب الأمر بالعروف والنهي عن المنكر ، إذن أيها الإخوة ، يجب أن ننتبه لهذه الشرور وهذه الآفات ، وأن نحصن أنفسنا ، ومجتمعاتنا ، أولادنا نحصنهم ، من هذه الأشياء ، نعلمهم التوحيد ، تعلم التوحيد مهم ، والقضية مرتبطة بالواقع ، ليست خيالات ، أو آثار من القرون البائدة ، إنها أشياء نسمعها اليوم ونقرأها ، وفقنا الله وإياكم للإعتقاد بالعقيدة الصحيحة ، وأن نسير عليها ، وأن نتمسك بتوحيد الله ، ويوفقنا وإياكم ، لتجنب الشرك والكفر ، كبيره وصغيره ، جليله وحقيره ، وإن يجعلنا وإياكم على ملة رسوله الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، على(2/17)
البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، اللهم طهر قلوبنا من الشرك ، والنفاق ، والرياء ، اللهم وسدد ألسنتنا ، واسلل سخائم قلوبنا ، ووفقنا لما يرضيك ، وباعد بيننا وبين ما لا يرضيك ، واجعلنا ممن فقهتهم في الدين ، وصلوا على نبيكم محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، فإن من صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ـ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب: 70 ، 71) ، أما بعد :(2/18)
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، تكلمنا في الخطبة الماضية ، يا إخواني ، عن موضوعاً يمس العقيدة مساساً خطيراً ، وهو موضوع التتجيم ، وأبراج الحظ المنتشرة ، في المجلات والجرائد التي يقرأها أبنائنا وبناتنا في الليل والنهار ، والعقيدة أعز ما يملك الإنسان المسلم ، فإذا طعن فيها فقد سلب فيها أعظم ما يملك ، ولذلك وجب علينا الدفاع عن عقيدة الإسلام ، وعن دين التوحيد الذي بعث الله الأنبياء وختمهم برسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، هذه العقيدة أيها الإخوة ، التي طالما حاربها الكفار والمنافقون في القديم والحديث ، وشنوا عليها غارات التجهيل ، والشعوذة والدجل ، والطرق الشيطانية المستوحات من شياطين الإنس والجن ، ليصدوا الناس عن العقيدة الصحية ، والتوحيد ، يجب أن يكون موقفنا حاسماً ، تجاه هذه الأمور ، التي تكاد تعصف برأس المال للرجل المسلم ، وفي هذا العصر ، مع أنه يسمى عصر الحضارة ، والتقدم العلمي ، والحضاري ، والتقني ، والمكتشفات والمختراعات ، بالرغم من ذلك ، فإن الناس قد تفشت فيهم ، هذه الأوبئة المنافية للعقيدة ، وهذا يدل أيها الإخوة ، على أن الشعوذة ، والدجل ، والكهانة ، لا تحارب بالحضارة والتقدم العلمي ، التقني أو التكنلوجي كما يسمونه ، بل إنها تحارب يا إخواني بالعقيدة ، إنها تحارب بالقرآن والسنة ، سلاح المسلم الوحيد الفعال ، الذي يجابه به الشرور ، والآثام والإفساد في الأرض ، ولذلك ترى في المجتمعات الكافرة ، بالرغم مما وصلوا إليه ، من التقدم والحضارة ، تجد الشعوذة ، والدجل ، والتنجيم ، والعرافة ، والكهانة ، متفشيتاً بينهم ، بل إنك ترى دكتوراً في جامعة من الجامعات المحترمة على حد زعمهم ، يتردد إلى عرافة ، أو دجالٍ من الدجاجلة ، إذن ، فالمصدر الوحيد الذي نستطيع من(2/19)
خلاله ، أن نقاوم ونصد هذه الهجمات الشرسة ، على دين الإسلام ، هو القرآن والسنة ، النور الذي أنزله الله من السماء ، لكي يتبين به المسلم طريقه في دياجير الظلمة والشرك ، واعلموا يا إخواني أن الناس يتبسطون ، ويتساهلون ، في الإقدام وإتيان العرافين والكهنة ، حتى أنه قلما يخلوا بيتٌ من البيوت في هذا العصر ، إلا وتجد فيه مصدقاً بدجال أو مشعوذ ، يأتونهم بالليل والنهار ، بل إنهم يسافرون إليهم ، فتجد إنسان أصيب بسحرٍ مثلا ، يسافر إلى الهند أو بعض البلدان المجاورة ، ليذهب إلى ساحر كافر ، لكي يفك له السحر ، أو يريد أن يعرف مستقبله المالي ، فيذهب إلى عراف أو عرافة ، فتقرأ له الكف أو الفنجال ، أو الودع ، حتى تطمئنه على مستقبله المالي ، لأن الثقة بالله قد فقدت ، ولأن العقيدة قد دمرت في نفوس أولئك الناس ، وذكرنا في المرة الماضية ، شيئاً عن مسألة النتجيم ، والأبراج ، ورسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، يقول في الحديث الصحيح : [ من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر ، زاد ما زاد ] رواه أبو داود بإسناد صحيح . هذه المسألة ، مسألة النتجيم ، التي عرفها علمائنا ، بأنها الإستدلال بالأحوال الفلكيه على الحوادث الأرضية ، هي من الأمور الشائعة اليوم ،ونذكر أيضاً أيها الإخوة ، في هذه الخطبة ، بعض الطرق الأخرى التي يستخدمها الكهان ، فمن الطرق مثلاً ، كتابة الرقى والعزائم ، الرقى الشركية ، التي تحتوي استغاثةً بالجن أو الموتى ، وتحوي كذلك طلاسم ، من الرسومات المجهولة ، أو الأرقام الغريبة ، أو الأحرف التي لا تدل على معناً واضح ، وقد تكون مكتوبة بلغة أجنبية ، لا يستطيع الإنسان أن يقرأها ، وقد تكون مكتوبتاً بلغة عربية واضحة ، وأنا أعرض لكم مثالاً من الأمثلة ، التي وجهت لعلمائنا الإجلاء ، فأجابوا عنها ، الإجابات الشافية الواضحة ، يقول أحدهم متوجهاً بالسؤال ، إن عندنا في بلادنا رقية منتشرة ، تسمى(2/20)
برقية العقرب ، ونص هذه الرقية يقول : بسم الله يا قراءة الله ، بالسبع السماوات ، وبالآيات المرسلات ، التي تحكم ولا يحكم عليها ، يا سليمان الرفاعي ، ويا كاظم سم الأفاعي ،نادي الأفاعي باسم الرفاعي ، إنثاها وذكرها طويلها وأبكرها ، إلى آخر الرقية المزعومة . وقد أجاب علمائنا عن هذه الأسئلة الموجهة عن بعض الحريصين ، الذي وقع عندهم استغراب لما يقرؤن ، ولما اطلعوا عليه ، فأجابوا : بأن مثل هذه الرقية ، رقية شركية ، تنافي التوحيد ، وتضاد العقيدة ، مثل قوله في هذه الرقية ، [ بالسبع السماوات ] ، يستغيث بالسبع السماوات ، والسبع السماوات مخلوقة من مخلوقات الله عز وجل ، أو يقول منادياً ذلك الولي بزعمهم ، يا سليمان الرفاعي ، يا كاظم سم الأفاعي ، ينادي الأفاعي باسم الرفاعي ، والاستغاثة بالأموات لا تجوز مطلقاً ، يقول رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في الحديث الصحيح : [ إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، انظر كيف استبدوا الأدعية الصحيحة التي علمنا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، استبدلوها بهذه الأشياء الشركية ، ماذا علمنا عليه الصلاة والسلام ؟ ألم يقل لنا في أذكارالصباح والمساء ، أن نقول : [ باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ] ، نستغيث بالله عز وجل ، نطلب منه العون ، باسم الله عز وجل ، فقط ، لا باسم غيره ، ولا بأي مخلوق من المخلوقات ، مهما كان عظيماً ، باسم الله فقط ، الذي لا يضرمع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ، الذي يقولها في الصباح والمساء ، لا تصيبه آفة ، ولا يضره شرٌ بإذن الله عز وجل ، ألم يعلمنا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، أن نقول : [ أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ] ، أليس عندنا من الرصيد ، في القرآن وصحيح السنة ، ما يغني عن هذه الأشياء ، المحرمة ، بل إن فيه أجراً بالإضافة إلى الحفظ(2/21)
الذي ، يحفظ الله به قارئ هذه الأشياء وتاليها ، القارئ والتالي يحفظه الله ، ويكسب الأجر أيضاً ، أما تلك الأشياء المحرمة ، فإنها ، توقع في الشرك ، ويكسب بها الإثم ، ولا تحميه من شيء ، وإن حصل شيء فهو بإذن الله عز وجل ، وليس بسبب هذه الشركيات والشعوذات . ووجه سؤال أيضاً ، لعلمائنا ، يقول السائل : هناك فئة من الناس يعالجون بالطب الشعبي ، على حسب كلامهم ، وحينما أتيت أحدهم ، قال لي : اكتب اسمك ، واسم والدتك ، ثم راجعنا غداً ، وحيمنا يراجعهم الشخص ، يقولون له : أنت مصاب بكذا ، وعلاجك كذا ، فما حكم إتيانهم وسؤالهم ؟ فكان الجواب الموفق على هذا السؤال : من كان يعمل هذا الأمر ، في علاجه ، فهو دليل على أنه يستخدم الجن ، ويدعي علم المغيبات ، فلا يجوز العلاج عنده ، كما لا يجوز المجيء إليه ،ولا سؤاله ، لقول النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في هذا الجنس من الناس [ من أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ ، لم تقبل له صلاةٌ أربعين ليلة ] رواه مسلم . وكل من يدعي علم الغيب ، باستعمال ضرب الحصى أو الودع ، أو التخطيط في الأرض ، أو سؤال المريض ، عن اسمه أو اسم أمه ، أو اسم أقاربه ، فكل ذلك دليل على أنه من العرافين أو الكهان ، الذين نهى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ عن سؤالهم وتصديقهم ، وكذلك الذين يكتبون هذه الأحجبه ، والتمائم والعزائم ، هذه الأشياء الشركية ، لا يجوز إتيانهم ، ولا أخذ هذه الأحجبه والتمائم منهم ، ولا استعمالها ، ولا دفع قرش واحد من أجلها ، الآن الناس ، إذا أصاب أحدهم سحرٌ ، أو مرض أو مكروه ، أو شيء غريب ، أو مرأة اسقطت ، أو مرض ولدها ، أو أصابتها عينٌ ، أو أصاب إنسان حسد مثلاً ، يفزعون إلى من ؟ إلى من يفزعون ؟ قال الله عز وجل : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ )(النمل: من الآية62) ، من الذي يجيب المضطر إذا دعاه ؟ ومن الذي يكشف السوء ؟ إنه الله عز وجل ، هو(2/22)
الذي يكشف الضر ، وينزل رحمته على عباده بعد أن قنطوا ، ويأسوا ، بدلاً أن يلتجأ هؤلاء الذي يتسمون بأسماء المسلمين ، إلى الله عز وجل ، ليكشف لهم هذا الذي نزل بهم ، فإنهم يسافرون ، ويذهبون ، وينقبون ، ويسألون ، وتجد الواحد يهمس في أذن الآخر ، هناك عراف في البلد الفلاني ، اذهب إليه ، في الشارع الفلاني توجد امرأة ، تفك هذه الأشياء ، اذهب إليها ، سافر إلى بلد كذا ، وأنا اعطيك عنوان اذهب إليه ، لقد جربته فنفع أكثر من مرة ، ضحك الشيطان عليهم ،(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ )(المجادلة: من الآية19) ، انساهم من الذي يكشف الضر ، (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ـ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ـ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء: 80 ، 82) يقول رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في المعوذات : [ قل أعوذ برب الفلق ، قل أعوذ برب الناس ، قل هو الله أحد ، ما تعوذ متعوذ بمثلهن ] هذه السور التي يجب أن نتعوذ بها ، أن نقرأ بها على أنفسنا ، أن ننفث في أكفنا بعد أن نجمعها ونقرأ هذه السور ، قبل النوم ونمسح بها أجسادنا ، هذا هو العلاج الشرعي لهذه الأشياء ، الناس اليوم ماذا يفعلون ؟ إلى من يلجئون ؟ ماذا يقرؤون ؟ وماذا يستعملون ؟ إنها دياجير الشرك والظلمة ، التي خيمت على عقول وقلوب أولئك النفر ، الذين جهلوا التوحيد ، وما يضاد التوحيد ، لا يكفي أن نتعلم التوحيد فقط ، لكن يجب أن نتعلم ما يضاد التوحيد ، ما الذي ينافي التوحيد ؟ ما هو الشرك ؟ ما هي أنواع الشرك ؟ تعلم التوحيد أيها الإخوة مهم ، لكن تعلم الشرك أيضاً مهم ، ولذلك بين لنا القرآن ، وبينت لنا السنة ، أنواعاً من الشرك ، لكي يحذرها الإنسان ، لا يكفي أن تتعلم الخير فقط ، بل يجب أن تتعلم ما يحذرك من الشر ، ما هي طرق الشر؟ ما هي أساليب الدجالين والمشعوذين ؟ حتى تحذر(2/23)
منهم ، كذلك ، انظر إلى تلك الأوراق ، ماذا يكتب فيها ؟ لقد فتحنا بعضها أيها الإخوة ، فإذا الرائحة العفنة ، تنطلق منها ، أوراق بالية ، كتبت بحبرٍ قديم ، يعلوها التراب ، جلد معفن ، يضعونه على أعناقهم ، أوراق يضعونها بين أجسادهم وثيابهم ، يزعمون أنها تنفع ، وتدفع ، يعلقون الخيوط والتمائم ، والأحراز ، ثم يقول أحدهم : في أحد الرقى التي أعطاها ، أوالعزائم التي أعطاها لبعض الناس ، كتب فيها : ينقش في خاتم من ذهب ، ويبخر بعود وعنبر ،ويلبس على طهارة تامة ، ويديم ذكر اسم الله تعالى عليٌ عظيم في دبر كل صلاة ألف ومائة وثلاثون مرة ، لمدة أسبوع ، من بعد صلاة الصبح من يوم الجمعة ، تنتهي يوم الخميس بعد صلاة العشاء ، إلى آخر الدجل والشعوذة . هات دليلاً على قراءة هذين الاسمين ألف ومائة وثلاثين مرة بعد كل صلاة لمدة أسبوع ، يعطونها للجهلة على أنها وصفات مثل الوصفات الطبية ، لها مقادير معينة ، مرات معينة تستخدم ، مدة العلاج كذا وكذا ، حتى متى يضل أغبيائنا وجهالنا يصدقون بمثل هذه الأمور ، وبعد ذلك يقول ذلك المجرم ، يكتب في خاتم من ذهب ، ينقش في خاتم من ذهب ، وهل يجوز للرجل أن يلبس خاتماً من ذهب ؟ من الطرق أيضاً المستخدمة عند هؤلاء الدجالين والمشعوذين ، قراءة الكف ، ويقولون : أن خطوط الكف ، هذه مرتبطة بالفلك ، وأن الأصابع والنتآت الصغيرة الموجودة على راحت اليد ، لها علاقة بالكواكب . ويقولون في الكف أربعة خطوط ، الخط العمودي الأول يدل على الحالة الصحية ، والخط الثاني خط القلب ، والخط الثالث هكذا ، والخط الرابع خط القدر ، ثم يأتي هذا العراف أو العرافة ، تقول : افتح كفك ، وتقرأ لك مستقبلك ، وعندهم قواعد قعدوها لهذا الفن ، بزعمهم ، فن قراءة الكف ، يقولون مثلاً: الدوائر ترمز إلى الفشل ، والنقط نذير مشاكل صغيرة ، ومع مرور هذا السنين تتغير هذه الخطوط والدوائر في الكف ، فتتغير الأحداث ، ويقولون لك عن(2/24)
الأحداث الجديدة ، التي ستحدث ، ولذلك ينبغي عليك أن تذهب سنوياً لقراءة الكف على الأقل ، هذا عندهم في حد زعمهم ، هذا هو الذي حذرنا منه رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ منه ، فقال عليه الصلاة والسلام : [ من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ] وكذلك ، طريقة قراءة الفنجال ، ولها قواعد عندهم ، يقولون مثلاً : البن يكون مطحوناً وناعماً ، والقهوة على الطريقة التركية ، ويصب التفل في فنجال ، مع كمية قليلة من البن ، ويدار ثلاث مرات باتجاه عقارب الساعة ، ويقلب فجأةً ، ثم تقرأ ، ويقولون أيضاً : فإذا رأيت في الفنجال هذا تمساحاً ، فهو يدل على حالة السيارة أو وسيلة نقل ، وإذا رأيت عنكبوتاً فإنه يدل على مدخول مادي ، وإذا رأيت مظلةً فإنها تدل على حبٍ جديد ، وإذا رأيت جبلاً فإنه يدل على مشروعٍ كبير جداً ، والكلب صديق ، والحصان نصر ، إلى آخر الدجل والشعوذة ، هؤلاء الذين قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ عنهم : [ من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمدٍ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ] وطرق أخرى ، مثل طريقة بقع الحبر ، تأخذ هذا القلم من الحبر فتنفضه ثلاث عشرة مره على صفيحة من الورق ، ثم يبدأ ذلك الدجال يقرأ لك ، عنقود عنب يدل على دعوة غداء أو عشاء ، والبيضة ترمز إلى حب خفي ، والبيت يدل على الأمان ، والطبل يدل على الأقوال المتناقضة ، وهم طبول جوفاء أقوالهم متناقضة ، ثم ظهرت طرق أخرى ، مثل طريقة كرة الكرستال ، التي تتموج ، بالألوان ، فيأخذون من هذه الألوان الحوادث التي تقل لك في المستقبل ، فيقول : إذا كانت الألوان حارة ، فهذا دليل على خطر ، وإذا كانت الألوان مريحة فهذا دليل على خير ، وإذا تحرك الصور إلى أعلى فهذا دليل على إنجاح المشاريع ، وإذا تحركت إلى الأسفل فإنها تدل على فشل المشاريع ، وإذا رأيت صورة رأس في كرة الكرستال فهذا يدل على(2/25)
موتٍ ، سيحدث ، وهكذا ، هؤلاء الذين حذرنا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ منهم ، فقال لمعاوية بن الحكم السلمي : لما قال له : قلت يا رسول الله : إن منا رجالاً يأتون الكهان قال : [ فلا تأتهم ] ، لا يجوز أن تأتيهم ، رواه الإمام مسلم . هؤلاء الذين من طرقهم رمي الودع ، فيذهب الناس إلى العرافة ، أيها الإخوة ، هذه الأشياء ، ليست أشياء بائدة ومنقرضة قد اختفت تماماً ، لا ، هذه أشياء موجودة الآن في مجتمعنا ، الذي نعيش فيه ، في داخل بيوتنا وفي حوارينا وفي شوارعنا ، وفي مجتمعاتنا ، يوجد أناس يصدقون بهذه الأشياء ، ويذهبون وأنتهم تسمعون ، ربما أكثر مما سمعت . [ انتهت المادة رقم 2 ].(2/26)
عما يحدث ، من الأشياء المناقضة لدين الله ، وللتوحيد وللعقيدة ، التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك والكفر ، يذهب أو تذهب إلى العرافة ، أو العراف والدجال ، فتأتي له بكومه من الحصى والودع ، والمفاتيح والحدائد ، فترميها بينها وبينه ، ثم تبدأ تقرأ له من واقع الأشياء ، المرمية على الأرض ، ما هي الحوادث التي ستستقبله ، في زمانه القادم ، هؤلاء الذين قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في وصفهم أنهم يكذبون قال : [ فيكذبون ] كذب ، إذن أيها الإخوة : هذا الدجل ، وهذه الشعوذة ، المنافية للعقل الصحيح ، لو كان عقل أولئك صحيحاً ، لما قبلوه ، وأنت تأمل في بعض طرق العلاج ، التي يأتي بها أولئك الناس ، وانتبه يا أخي فقد تجد مثلاً ، أن أماً من الأمهات ، أو أختاً من الأخوات ، أو كبيرة في السن ، أو رجلاً عجوزاً ، وربما شاباً جامعياً مثقفاً ، يستخدم هذه الأشياء ، تأمل فيها لتعرف ما مدى الدجل الموجود ، العين تعالج بخرزه حمراء أو زرقاء ، وبعضهم يسخن روث الحمار ، لكي يعالج به العين ، وبعضهم يستعمل في العلاج دم الحائض ، ويكتحل به ، يأمر الكاهن والدجال أن يكتحل بدم الحائض المخلوط بالمني ، أيها الإخوة أشياء مقرفة ، تتقزز النفس عند سماعها ، وكتابة الأرقام ، وغيرها من الأشياء ، وهناك كتب لهذه الأمور ، منها كتاب الرحمة في الطب والحكمة ، الذي يستحق أن يسمى اللعنة في الطب والحكمة ، كله علاج مرض كذا ، علاج مرض كذا ، علاج كذا بهذه الأشياء المقرفة ، التي تتقزز منها الأنفس ، وتستك لها الأسماع عند سماعها ، ثم إن الدجل والشعوذة لم ينتهي عند حدٍ معين ، فقد طلع علينا أولئك في أشياء كثيرة ، منها : تلك الوصايا المكذوبه ، التي عمدوا إلى نشرها بين الناس ، منها مثلاً : وصية خادم الحرم النبوي الشيخ أحمد ، كما يزعمون ، هذه الوصية التي فيها أنه رأى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، وفي بعض الأوراق التي وزعت ، وقد حذرت(2/27)
منها الجهات الرسمية ، من نشرها وتداولها ، ويجب على كل من رآها أن يمزقها ، بدلاً من أن ينشرها ، يقول : أنه قد رأى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في المنام ، وفي بعض الأوراق أنه قد رأى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ حقيقةً ، حقيقه قبل أن ينام رآه بعينه ، رأى جسمه حقيقة ، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة ، أن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ لا يمكن أن يرى بعد موته ، حقيقةً ، وإنما يمكن للمؤمنين أن يروه في المنام بصفاته ، الموجودة في السنة ، وقال له أشياء كثيرة ، وهذه الوصية ، مكذوبة عليه ، بل إن بعض أقارب الشيخ أحمد هذا حدثوا ، بأنه ، قد مات من حوالي مائتي سنة ، وأنه لم ترد عنه وصية مطلقة فيما تركه من إرثه ، ولكن الدجاجله يكتبون ويؤلفون ، والجهال والمجانين يصدقون وينشرون ، في هذه الأشياء ، قضايا من علم الغيب لا يمكن أن يطلع عليها إلا الله عزوجل ، أنه مات في يوم كذا في الجمعة الفلانية مائة وستين ألف ، من الذي يعرف أنه مات مائة وستين ألف على الشرك أو الكفر ، إلا الله عزوجل ، ثم يقول من كتب هذه الورقه أو وزعها أو نقلها من بلد إلى بلد ، بنى الله له قصراً في الجنة ، ما رأينا في القرآن ولا في السنة ، أن من كتب القرآن العظيم ، كتبه بيده ، من أوله إلى آخره ، يبنى له قصراً في الجنة ، فهل كتابة هذه الوصية أغلى عند الله من كتاب القرآن الكريم ، وكذلك هذه الرؤية المنسوبه إلى زينب عليها السلام ، والتي ينبغي أن توزع ثلاث عشرة مره ، أناس في المكاتب في العمل في المدارس يوزعون ، ويقشعر أحدهم خوفاً وهو يقرأ ، إذا لم تصور ولم توزع ، ستنزل بك المصيبة الفلانية ، هذا نتج من أي شيء يا إخواني ، ما نتج إلا من الجهل المستقر في أنفس هؤلاء ، ما نتج إلا من الشرك الذي قد انطلع عليهم ، والأمور كثيرة ، ونسأل الله السلامه ، وصلى الله على نبينا محمد .
ارجوا من الإخوان في خارج المسجد أن يتقدموا قليلاً .(2/28)
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبةً ولا ولدا ، أشهد أنه رب الأولين والآخرين ، سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة لا يطلع على غيبه أحداً ، إلا من ارتضى من رسولٍ ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أدى الرسالة ، وبلغ الأمانة ، ونصحنا وحذرنا ، ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه ، ولا شراً إلا وحذرنا منه .
أيها الإخوة : هذه الأشياء التي نسمعها اليوم ، كثيرة جداًَ ، وقد حدثني بعض الإخوة ، عن أمور منتشرة ، في المجتمع ، قد لا يعرفها كثير من الناس ، وقد لا يعرف كثير من الناس أنها أمور من الشرك ، وأنها محرمة ، بعضهم ، يحرق ، البخور أو الشبه لطرد الجن من الغرفة ، أو يحرق الحبة السوداء ، وكذلك ،يذهب أحدهم بامرأة إلى بعض الدجالين والمشعوذين ليعالجها ، ويطلب هذا المشعوذ من الزوج أن يبقى في الخارج ، ثم هو بعد ذلك يمارس الفاحشه مع امرأته ، أي دين هذا ، وأي عقيدة فاسدةٍ هذه ، وأي فقدان للغيرة ، قد انطوت عليها أنفس هؤلاء ، الأطفال عندما يولدون ، من ضمن الهدايا التي تأتي إليهم من الأقارب ، الخرزات الزرقاء ، مصحف ذهب ، آية الكرسي ، الله ، ومعها أيضاً خرزات زرقاء ، هذا ما يهدى اليوم عند ولادة الأطفال ، يزعمون أن هذه الخرزات الزرقاء ، تقي هذا الولد العين ، كذلك أيها الإخوة ، ما يسميه البعض بالطبوب ، وهو لا شك أنه من السحر ، يذهبون إلى بعض السحرة ، ليفك السحر الذي حدث له ففرق بينه وبين زوجته ، ويقول له المشعوذ افعل كذا ، اقرأ سورة يس مائة مرة ، صلي ثمانين ركعة ، افعل كذا ، وبعد ذلك لا يحدث شيء ، يصب الماء على المسافر ، ويوضع القرآن فيمر تحته بزعمهم حتى يسلم في سفره ، ويكتبون على جدران البيوت (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)(القصص: من الآية85) يزعمون أن هذه الآية ترد المسافر إلى بيته سليماً ، حوادث فضيعة ، نسمعها ، بسبب التصديق بهؤلاء المشعوذين ، امرأة تسقط أولاداً(2/29)
كلما جاء جنين أسقطته ، تذهب إلى مشعوذ من المشعوذين ، فيقول لها : عندك بنت في البيت ، بنتك هذه نذيرة شؤم ونحس على البيت ، ما هو الحل ؟ يا أيها الكاهن والعراف ، الحل ، أن تكويها بمسار مسخن من الحديد ، ثلاث مرات في ظهرها ، وتذهب هذه الأم الجاهلة فتكوي هذه البنت الصغيرة ، وتأنُّ ، وتصرخ من الألم ، وتلك الأم جاهلة ، تحرف ابنتها بذلك المسمار المحمى بالنار ، وما هي قيمة الوصفة ، خمسمائة ريال ، تحرق البنت ثلاث مرات بمسمار من نار ، والقيمة ، قيمة الوصفة ، خمسمائة ريال ، سلسلة توضع على البطن ، مقفوله بقفل ، يزعمون أن وضع السلسلة عليها القفل ينفع المرأة إذا اسقطت عدة مرات ، يعني قفلنا القفل فلن يسقط الجنين مرة أخرى ، ويعلقون الملح في السيارات ، ويزعمون بأن السباحة في الماء المالح أو السفر في البحر يدفع العين ويزيل الحسد ، والشر ، يذبحون الخروف على باب البيت ، ويلطخون عتبة البيت وباب البيت بدم الذبيحة ، وبعضهم يخوضون في الدم بأقدامهم ، أو يذبح دجاجةً ، على السيارة ، لكي لا يصيب السيارة مكروه ، وهكذا ، يا أخي لو كان في ثوبك بقع من الزيت ، هل تغسله بالقطران ، ذلك ما يفعله الذبن يذهبون إلى المشعوذين ، كذلك ، يذهب إلى الكاهن فيقول له الكاهن لكي تشفى يجب عليك أن تذبح ذبيحةً للجن الفلاني ، باسم الجن الفلاني ، فيذهب صاحبها ويفعل هذا ويقع في عين الشرك ، يقول الله عز وجل (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2) ، انحر لله عزوجل ، وهذا ينحر باسم الجني الذي أعطاه له الكاهن ، فيقع في الشرك الأكبر وهو الذبح لغير الله ، أجزاء من حيوان توضع في علبة تعلق في الصدر ، حدوة حصان تعلق على الباب ، وتحضير الأرواح ، وغير ذلك ، وغير ذلك كثير ، كثيرٌ جداً ، من الشعوذة ، ويضحكون بها على أولئك المغفلين ، جاء أحد الناس عليه ديون كثيرة ، قالوا له اذهب إلى ذلك العراف لعله يساعدك في قضاء الديون ، فقال له العراف :(2/30)
هات مائة هات مائة وستين ألف ريال ، وأنا أجعلها لك مليون وستمائة ألف ريال ، يزيدون أصفاراً ، فذهب بها إليه ، فعملوا له بخوراً وشعوذات كثيرة ، ثم سلبوا منه المال ، وهربوا ، وبقي هو وقد ازداد الدين الذي عليه ، هكذا ، هكذا يفعل هؤلاء المحتالون ، وكذلك أيها الإخوة من القضايا المنتشرة ، مسألة التشاؤم ، التشاؤم بصوت البوم أو الغراب ، مثلاً ، أو أنهم يجعلون للأيام مهمات معينة ، فيقولون يوم السبت يوم مكيدة أو صيد ، ويوم الأحد يوم بناء وغرس ، ويوم الاثنين يوم سفر وتجارة ، ويوم الثلاثاء يوم دم ، ويوم الأربعاء يوم نحس ، ويوم الخميس لقضاء الحوائج ، والجمعة للنكاح والأعراس ، وهكذا ، يعتقدون عقائد في هذه الأيام ، ويتشائمون بالأرقام ، كما ذكرنا لكم سابقاً ، يوم السعد كذا ويوم النحس كذا ، ويتشائمون بالأرقام ، فيقولون رقم ثلاثة عشر هو الرقم المشؤوم ، وقد فعلت بعض شركات الطيران العالمية ، مصدقه بهذا ، فلا يوجد في مقاعد الطائرة مقعد رقم 13 ، إلى هذه الدرجة أولئك المساكين ، ونحن الذين شرفنا الله بهذا الدين ، الذي ينافي الخرافة والدجل ، نصدق أولئك الكفرة ، في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي ، أنه قال : لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ منا أناس يتطيرون قال :[ ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدكم ] لو أنك تشائمت بشيء يا أخي ، تشائمت بأي صوت ، أو بأي منظرة ، فردك عن سفرك فقد وقعت في الشرك ، فإذا تشائمت وشعرت بحرج ، فعليك أن تمضي ولا تعتمد على ما جال في نفسك ولا ما حاك فيها ، يقول عليه السلام في الحديث الصحيح : [ ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن له أو سحر له ] رواه البزار بإسناد جيد ، وعن ابن مسعود مرفوعاً أنه عليه السلام قال : [ الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل ] يعني ما من أحد إلا ويقع في نفسه شيء من التشاؤم ، والتطير ، ولكن كيف يذهب ، بالتوكل على الله ، وعن ابن عمر(2/31)
مرفوعاً [ من ردته الطيرة عن حاجته ، فقد أشرك ، قالوا فما كفارة ذلك يا رسول الله ، قال أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ] هذه هي كفارة التشاؤم أو التطير ، إذا وقعت فيه ، أن تقول : [ اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ] حديث صحيح . يجب أن تعلم يا أخي أن الله يقول : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22) ، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ، اللهم واجعلنا هداةً مهتدين ، غير ضالين ولا مضلين ، اللهم باعد بيننا وبين أهل الشعوذة والدجل والسحر ، واجعلنا من أهل التوحيد وصحح عقائدنا ، وتوفنا علىالملة المحمدية ، واجعل خروجنا من الدنية على شهادة التوحيد ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ، اللهم وفقنا لما يرضيك ، وباعد بيننا وبين ما لا يرضيك ، واكشف لنا سبل المجرمين ، اللهم واجعنا هداة مهتدين دعاة إلى سبيك نحذر الناس من الشر ، ومن الوقوع فيه ، اللهم وفق أبنائنا في امتحاناتهم ، اللهم واجعل عملهم في رضاك ، اللهم وباعاد بينهم وبين الغش والخديعة ، وأكل مال الحرام بالشهادات المزورة ، اللهم واجعلنا ممن يخافك ويتقيك ، وصلي اللهم على نبينا محمداً صلاةً كاملة تامة ، كما تحب وترضى ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله ، وصلى الله على نبينا محمد .(2/32)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ـ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب: 70 ، 71) ، أما بعد :(2/33)
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخيرالهدي هدي محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، إخواني تكلمنا في الخطبتين الماضيتين ، عن أمور تتعلق بالتنجيم ، وهي أبراج الحظ المنتشرة في المجلات والجرائد ، وتكلما عن بعض الأمور المتعلقة بالكهانة ، والسحر والدجل ، الذي يقارفه كثير من الجهلة ، وأعوان الشياطين ، وحكم الذين يذهبون إليهم من المسلمين ، وبينا صوراً كثيرة ، للبدع المنتشره في هذا المجال ، ونريد أن تختم الكلام في هذا الموضوع في هذه الخطبة ، بتبيان الواجبات على المسلم ، ما هو دوره في إنكار هذا المنكر الذي قد استشرى وانتشر كالهشيم ، في مجتمعات المسلمين ، ما هي الوسائل التي يجب اتخاذها ، لكي نحارب هذه الأمور ، المنافية للعقيدة ، والمخالفة لها من جميع الوجوه ، ونحن نجمل ، بعض النقاط التي تتعلق بهذا الواجب ، حتى تتكون لدى المسلم فكرة واضحة ، عن الأمور التي تساعده في محاربة هذه الأشياء ، واعلموا بادأً ذي بدء يا إخواني ، أن طريقة الشريعة في محاربة الأوبئة والأمراض تتلخص في قضيتين أساسيتين ، الأولى : تحقيق الشروط ، والثانية : انتفاء الموانع ، فترى طريقة الشريعة في محاربة إتيان الكهان ، أو البدع المتعلقة بالسحر ، والدجل والشعوذة ، إذا تأملت فيها ، فإنك تجد الإسلام قد جاء بنصوصٍ ، فيها تحقيق شروط التوحيد ، التي تؤدي إلى هدم قواعد السحر ، ... والكفر والكهانة والتنجيم وغيرها ، هذا من باب تحقيق الشروط ، وأما الثاني ، فإنك تجد الشريعة قد جاءت بنصوص تحرم إتيان الكهان والسحرة ، وتحرم تلك الأعمال ، بل إن فيها ألفاظاً شديده ، من جهة الخروج عن شريعة الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ والكفر بما أنزل عليه ، وهذا من باب تحقيق انتفاء الموانع ، ولذلك كان لابد للمسلم ، عندما يحاول أن يحارب هذه الأشياء ، أن يبحث عن سبب المشكلة أولا ، فقد(2/34)
تجد ان السبب عند من يأتي المنجمين ، وقراء الكف وغيرهم ، أو يفتح أبراج الحظ في الجرائد والمجلات ، قد تجد السبب في هذا ، أنه لا يؤمن بقول الله عزوجل : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)(النمل: من الآية65) ، ولم يستقر في عقله وقلبه مطلقاً ، أن الله عزوجل هو الذي يتفرد بعلم الغيب ، وأنه لا يمكن لأي أحد آخر ، أن يعلم الغيب إلا الله عز وجل ، تفرد الله بعلم الغيب ، هذه المسألة هي سبب البلاء ، واقصد ، أن عدم الإيمان بها هو سبب المشكلة ، ولب الموضوع ، فإذا أردت أن تجابه هؤلاء الناس ، فإن عليك أن تُقِرَّ في أذهانهم ، هذه المسألة ، وتأتي بالنصوص من القرآن والسنة ، وأقوال علماء السلف ، أن الله هو الذي يعلم الغيب فقط ، وأن من ذهب إلى أناس ، يعتقد أنهم يعلمون ما يحدث في المستقبل ، فإنه قد نازع الله في حق عظيم من حقوق الربوبية ، وهو علم الغيب ، وهذا كفر شنيع ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وإذا تأملت مثلاً ، وأردت أن تعالج أحوال الناس الذين يعلقون التمائم الشركية ، والأحجبة ، التي يسمونها بالعزائم ، فإنك ستجد أن هؤلاء الناس ، يعانون من نقص خطير ، في فهم قول الله عزوجل : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ )(الأنعام: من الآية17) ، والإيمان بهذا النص ، وما شابهه ، فإذاً ، لو كانوا يؤمنون ، بأنه إذا مسَّ الإنسان ضر ، فإنه لا يكشفه إلا الله عز وجل ، فلماذا يذهبون إلى أولئك الكهان والعرافين ، يطلبون منهم أن يكشفوا هذا الضر الذي نزل بهم ، وبالجملة ، فإن تعليم الناس أسماء الله وصفاته ، من الأمور التي تحارب الشرك والدجل من أساسهما ، وإذا انتقلت معي إلى الشطر الآخر ، وهو انتفاء الموانع ، فإننا يجب أن نعلم الناس ، ما هو حكم إتيان الكهان ؟ وماذا يكون حكم من صدقهم ؟ ونأتي لهم بالآيات والنصوص الدالة على ذلك ، وهذه مسألة سبق أن(2/35)
بيناها فيما مضى ، ثالثاً يا إخواني : من الوسائل ، أو الوسيلة التي تخدم الغرضين السابقين ، إقامة الحلقات العلمية ، في المساجد والبيوت ، وغيرها من مجالس الناس ، وأماكن اجتماعهم ، التي تنتقى فيها المراجع الجيدة ، من كتب التوحيد التي ألفها علمائنا الأجلاء ، وتدرس دروس خاصة ، في هذا الجانب ، يجمع لها الناس ، وخصوصاً النساء في البيوت الذين طالما صدقوا بهذا الدجل والشعوذة ، نتيجة قل العقل والدين ، الذي طبعت عليه المرأة ، فلو وجدنا مثلاً ، أن في مجتمعنا ، مسألة تعليق التمائم والعزائم منتشرة ، وتعليق الأوتار والخيوط ، فنأخذ مثلاً كتاب التوحيد وشرحه ، لمجدد الدعوة ، الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ، ومن شرحه ، فنستخرج لهم من هذا الكتاب ، الأبواب المناسبة لمحاربة هذه اللأجواء التي انتشرت فيما بينهم ، ونقرأ عليهم : باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ، لُبْس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه ، وأبواب التي تتكلم عن العزائم والتمائم وحكم تعليقها ، والتصديق بما فيها ، وإذا رأينا أن السحر هو المنتشر ، فننتقي لهم كذلك الأبواب التي تتكلم عن السحر ، والنشره ، وهو إزالة السحر وحله عن المسحور ، وما حكم إتيان الكهان لرفع السحر ، أو إزالته وحله ، وهكذا تعليم الناس وتوعيتهم ، بهذه الأمور ، وتوزيع الكتيبات والأشرطة المتظمنة للشروح الجيدة لأبواب التوحيد ، وكذلك الأبواب التي تبين أنواع الشرك ، حتى يحذرها الناس . رابعاً : إعطاء البديل الإسلامي المشروع ، في علاج كثير من الأمراض والنوازل والأدواء ، التي بسببها يقع الناس في الشرك ، ويحاولون لحلها وإزالتها ، أن يأتوا الكهان والسحرة ، فيقعوا في الكفر والعياذ بالله ، فنقول لهم مثلاً ، إن في القرآن الكريم ، آية يقول الله فيها : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(الاسراء: من الآية82) ، فإذاً في القرآن شفاء من الأمراض(2/36)
البدنية والقلبية ، وهذا السحر ، أو العين مرض من الأمراض ، التي تصيب البدن ، بأشياء خفية ، علاجها أين ؟ في القرآن الكريم ، مثل ماذا ؟ مثل المعوذات القواقل ، قل أعوذ برب الفلق ، قل أعوذ برب الناس ، قل هو الله أحد ، وسورة الفاتحة ، وآية الكرسي ، وتقرأ الآيات التي فيها مثل قول الله عز وجل : (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)(يونس: من الآية81) ، ( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)(طه: من الآية69) ، على من أصيب بالسحر ، فتنفعه بإذن الله ، وتقرأ الآيات التي فيها الإستعاذة من شر الحاسد إذا حسد ، (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ )(القلم: من الآية51) ، فتنفع من أصيب بالعين بإذن الله ، ونعلمهم كذلك ،أن لكلٍ من هذه الأمراض ، طرق للعلاج بينها العلماء ، فمن علاج السحر مثلاً ، استخراج السحر والبحث عنه ، وإتلافه بالحرق ونحوه ، حتى يزول أثره ، حتى يزول أثره عن المسحور ، وهكذا فعل رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ لما سحره اليهودي ، الساحر لبيد ، فإن رسول الله عليه السلام ، قد طلب السحر الذي سحربه ، حتى استخرج له ، استخرجه عليٌ رضي الله عنه ، فأتلفه فزال أثر السحر عنه عليه السلام ، وكثيراً ما يكون هذا ، في بيت الإنسان المسحور ، أو متاعه الشخصي ، فينقب عنه ، فإذا وجده أتلفه ، فيكون هذا من أسباب زوال هذا السحر ، والضرر عن المسحور ، وقد تنفع الحجامة كما بين ابن القيم رحمه الله في الزاد ، ونبين للناس أيضاً ، أن هناك أذكاراً ، أن هناك آياتٍ وأذكاراً ، ودعواتٍ ، جاء بها الإسلام ، كنحو ما قدمنا قبل قليل من الآيات ، ونحو قول رسول الله عليه السلام فيما علمنا الإستعاذات ، [ أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ] ، [ أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ] ، [ أعوذ(2/37)
بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل إلا طارق يطرق بخيرٍ يا رحمان ] وغيرها كثير ، من الأذكار الواردة في علاج هذه الأمور ، وكذلك علاج العين في صب غسالة العائن على المعين ، [ انتهت المادة رقم 3 ].
بأن يؤمر فيتوضأ ، ويغسل داخلة إزاره وأطرافه ، ثم يؤتى بهذه الغسالة فتصب ، على المعين من خلفه ، فيزول أثر العين بإذن الله ، كذا روى أبو داود عن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في الحديث الذي صح في ذلك ، ويُقْرَأُ على هذا الذي أصابته العين [ باسم الله أرقيك من كل شيءٍ يؤذيك ومن شر كل نفسٍ أو عين حاسدٍ الله يشفيك باسم الله أرقيك ] رواه مسلم . فإذاً إيها الإخوة : نربط هؤلاء الذي قد وقع فيهم هذا المصاب ، بالله عزوجل ، القرآن كلام الله ، أذكار يذكر الله فقط ، تعاويذ علمنا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كيف نتعوذ وبما نتعوذ ومن أي شيءٍ نتعوذ ، فالقضية ربط هذا المريض بالله فقط ، وهكذا ينفع العلاج إذا تم التوكل على الله ، ويأتي بعض الناس يقولون : قرأنا فلم ننتفع ، وجربنا فلم نبرأ ، فنقول : إن البلاء في نفوسكم أنتم ، ليس البلاء في الآيات والأذكار ، والتعويذات النبوية ، لو صح التوكل في قلوبكم على الله لبرئتم ، ولكن لما أقبلتم على هذه الأشياء ، بنفس المجرب الذي يشك ، هل تنفع أو لا تنفع ، أو هل تؤثر هذه الآيات أو لا تؤثر ، وتأخذونها مأخذ المجرب ، الذي يشك في الأمور ، فلذلك لم تنفع ، فالبلاء في نفوسكم أنتم ، لا في هذه الآيات ، والأحاديث ، صححوا التوكل ، وصححوا الإيمان في القلوب ، فإنكم تبرؤن باستخدامها بإذن الله . خامساً : مناقشة هؤلاء الدجالين والمشعوذين ، إذا استطاع أن يصل الإنسان إلى أحد منهم ، أو قابله ، أو مرَّ على(2/38)
مجلسٍ من مجالسه ، حتى يبين لهذا الكاهن ، أو الساحر أو الدجال أن فعله شرك ، ويقيم عليه الحجة ، كما فعل رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في حديث الصحيحين ، أنه تقصد أن يذهب إلى ابن صياد الدجال ، واختبأ لكي ، يصل إليه ، فلم يشعر به ابن صياد حتى ضربه رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ على ظهره من الخلف ، ثم قال له عليه السلام : أصل القصة في الصحيحين وهذه الرواية من صحيح مسلم ، قال : [ أتؤمن أني رسول الله أو أتشهد أني رسول الله ، قال ابن صياد أشهد أنك رسول الأميين ثم قال ابن صياد لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أتشهد أني رسول الله فرفضه رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وقال : آمنة بالله ورُسُلِه ، ثم قال له عليه السلام ، ما يأتيك ؟ فقال يأتيني صادق وكاذب ، ثم قال له عليه السلام ، ما ترى ، ماذا ترى ؟ قال أرى عرشاً على الماء ، قال عليه السلام ، فإني قد خبأت لك خبيأً ، قال ابن صياد : الدخ الدخ ، قال علي السلام ، إخسأ فلن تعدو قدرك ، فإنما أنت من إخوان الكهان ] فناقشه عليه السلام ، وأفحمه ، وأخبره أنه قد خبأ له آية من الآيات ، وهي شرط من أشراط الساعة ، وهي الدخان الذي يخرج ، ولم يخبره عليه السلام ما هو الشيء الذي خبأه له ، ولكن ذلك الرجل ابن صياد ، كانت الشياطين تنزل عليه ، فتخبره بالخبر النازل من السماء ، واسترقوا السمع ، فلم يسترقوا منه ، إلا نصف الكلمة ، لم تسمع الشياطين إلا الدخ الدخ ، لم تسمع الكلمة كاملة الدخان الدخان ، فنزلوا على ابن صياد ، فأخبروه ، فقال : الدخ الدخ ، فقال عليه السلام ، إخسأ فلن تعدو قدرك ، فإنما أنت من إخوان الكهان ، فأقام عليه الحجة ، وألزمه بالحق ، وكشف باطله ، وبين له أنه من إخوان الكهان ، وكذلك كان يفعل شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله تعالى ، في مناقشته ومناظرته للبطائحية ، والرفاعية ، وغيرهم ، وقال لهم ، لما دخلوا في النار وزعموا أن(2/39)
أجسادهم لا تحترق ، قال اغسلوها ، حتى يزول هذا الدهن ، والنارنج وغيره ، من الأشياء التي طلو بهها أجسادهم ، فلا تؤثر فيها النار ، قال : اغسلوها ، ثم ادخلوها لو كنتم صادقين ، فبين عوارهم ، وكشف دجلهم وباطلهم ، أمام الناس مجتعين ، وسبق أن ذكرنا في مرة ماضية مناقشته لبعض المنجمين ، رحمه الله تعالى .
سادساً : من الواسائل أيها الإخوة : إتلاف وتمزيق هذه الأشياء التي فيها السحر ، وهذه التمائم المربوطة التي تعلق ، وهذه الوصايا المكذوبة ، التي سبق أن بيناها ، كوصية خادم الحرم ، أحمد الشيخ أحمد ، فيما كذب عليه ونسب إليه ، كما بين ذلك أقربائه ، وغيرها من الوصايا التي تنتشر بين الناس ، من لم يكتبها يحصل له من المصائب كذا وكذا ، ولا زال هذا أيها الإخوة حتى هذه الساعة ، توزع في بعض المساجد هنا ، يقوم بعض الجهلة بتوزيعها ، والجهلة الآخرون بأخذها وتصويرها ونشرها ، هذه الأشياء ، التمائم والعزائم ، وهذه الأشياء المنتشرة ، يجب أن نمزقها ونحرقها أمام الناس ، لنبين لهم أنه ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في السماء إلا بإذن الله ، وأن من يمزق هذه ويحرقها لا يضره شيء ، إلا بإذن الله ، وأنني قد مزقة هذه الورقة أمامكم أيها الناس ، فما أصابني شيء ، وهذا كذب ، وحتى لو أصابني ، فإني أعتقد وأؤمن أن ما أصابني ليس بسبب تمزيقي هذه الأوراق ، وإنما لأن الله قدر علي هذا ، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ـ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (القمر: 49 ،50) ، القدر والقضاء من الله تعالى ، فنمزق ونحرق هذه الأشياء ونقول للناس انظروا ، ماذا تغني عنكم ؟ وماذا حصل لنا لما أحرقناها ومزقناها ؟ فنبين للناس عملياً ، عملياً ، دجل وكذب ما هو مكتوب فيها .(2/40)
سابعاً : كشف حقيقة الكهان والشعوذين ، والعرافين والسحرة للناس ، وأنه يتعاملون مع شياطين الإنس ، وأنه يقعون في الكفر ، نبين للناس فنقول : إن الذين يأتون هؤلاء الكهان ، الذين يتصلون بشياطين الجن ، لا يرضون منهم إلا أن يقعون في الشرك ، حتى يقع هذا المريض المسكين الجاهل يقع في الشرك ، فيطلب الكاهن يقول له : إن الجن الفلاني يطلب منك لكي يعالجك ، أن تذبح له ذبيحةً ، فيذبح هذا المسكين ، للشيطان ، فيكون قد وقع في الشرك وهو الذبح لغير الله ، أو يقول : أريد مالاً أو أريد شيئاً ، وهكذا من الأشياء ، أو يقول : يطلب منك أن تدعوه وتقول ، يا فلان اشفني أو عافني ، أو أزل كربتي ، فيقع في الشرك وهو الدعاء لغير الله ، فنكشف للناس نقول : انظروا ماذا يطلبون ؟ لكي يزيلوا الضر بزعمهم الذي نزل بكم ، يطلبون منكم أن تقعوا في عين الشرك ، ولذلك إذا وجدت يا أخي بعض الآيات ، في الأحجبة التي يكتبها هؤلاء المشعوذون ، فلا تظن بذلك خيراً ، ومثل هذا لا يفرح به أبداً ، فإن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله : فإنهم يكتبون كلام الله في النجاسة ، يأخذ من النجاسة يقطر قلمه بها ، يكتب بها الآيات ، بعدما يلوثه بحبر ونحوه ، أو يكتب كلام الله ، الآيات بالدم ، النجس ، وغيره ، وقد يقلبون الحروف ، ويكتبون الآيات في المعكوس ، هذا لكي يضلوا الناس ، ويهينوا كلام الله عزوجل .(2/41)
ثامناً : نشر قصص الدجالين والمشعوذين ومن انخدع بهم ، بين الناس في المجالس حتى يحذورا منهم ، فيقال للناس مثلاً : هذا المسكين الذي كان به دَيْن ، قال له بعض المشعوذين : هات مائة وستين ألف ونحن نجعلها لك مليون وستمائة ألف ثم خدعوه وأخذوا المال وهربوا ، وتلك المرأة التي قصصنا قصتها في الخطبة الماضية ، التي سمعت كلام ذلك الكاهن المشعوذ ، فكوت أبنتها بثلاث كويات ، بمسمار محمى للإحمرار ، فصارت تلك العلامات في ظهر البنت حتى الآن ، هذه البنت التي تشكوا إلى الله صنيع أمها الجاهلة ،وتقف تلك الكوايات في ظهرها ، وهذه التشويهات عقبةً أمام كل خاطبٍ ومريدٍ للزواج ، فإذاً ، تين هذه الأشياء ، وعرضها للناس ، يزيل الغشاوة عن أعينهم .
تاسعاً : تنبيه الناس إلى الغش والوسائل التي يستخدمها أؤلئك الدجلة ، بعض الناس يأتي ويقول : يا أخي إن الكاهن أو الرجل الفلاني ، لما ذهبت إليه ، قال : سيحدث لك غداً كذا ، وبعد أسبوع كذا ، أو بعد شهر كذا ، وقد حدث لي فعلاً بالتفاصيل التي ذكرها ، كيف تقول أنه دجال ومشعوذ ، لقد رأيت بعيني ما أخبرني به قد حصل ، ماذا نقول للناس عند ذلك ؟ وهذا كثير منتشر .(2/42)
نقول : أولاً : إن الكلام الذي قد أخبروا به ، إما أن يكون خبراً عاماً قد يحصل جداً لك إنسان ، كما سبق أن بينَّا في الخطبة الأولى عن موضوع التنجيم وأبراج الحظ ، يكتبون مكافأة مالية ستصلك ، وكل الناس ممكن أن تصلهم مكافآت مالية ، فإذا حدثت قال قد صدق الكاهن ، وأي صدق في ذلك ، ترى غائب قادم من سفر بعيد ، من الممكن أن تجد غائب قادم من سفر بعيد ، فنبين لهم هذه الخديعة ، وإن كانوا قد أخبروا بأشياء لا تحدث في العادة ، فقال لك مثلاً : إنك ستذهب إلى الصين وتقابل كذا وكذا ، وحدث لك أن ذهبت فعلاً ، فنقول للناس عند ذلك : الأحاديث التي قالها رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ [ إن الشياطين يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء فيسمع الخبر الذي تتناقله الملائكة ] الله عزوجل يوحي إلى الملائكة ، افعلوا كذا ولفلان كذا ، وأنزلوا كذا ، فيسمع بعض الشياطين الخبر ، فينقلونه إلى شياطين الإنس ، فيكذبون معها تسعة وتسعين كذبة ، ثم يخبرون الناس ، والناس المشكلة فيهم ، أنهم لا يتذكرون من كلام الكاهن إلا المرة التي صدق فيها ، يكون الكاهن قد أخبر مائة خبر ، واحد صادق وتسعة وتسعين كذب ، الناس مشكلتهم أنهم لا يتذكرون ولا يعلق في أذهانهم إلى الخبر الصادق ، فيقولن ويْ ، فلان صدق ، عجباً لقد أخبر بما تحقق فعلاً ، إذاً هو يعلم ما في الغيب ، وينسون تلك الكذبات ، فنقول لهم هذا بسبب استراق السمع ، من الشياطين الذين يخبرون أوليائهم من شياطين الإنس ، فيخبرونكم أنتم به ، فتظلون ، كذلك أيها الإخوة : يأتي بعضهم فيقول : لقد ذهبنا إلى الكاهن أو العراف الفلاني ، وقبل أن نسأله عن شيء ،بمجرد ما أخبرناه عن الاسم ، اسم الآتي ، أخبرني عن اسم أبي ، واسم أمي ، واسم أخوالي ، وأسماء أعمامي ، وأين كانوا يعملون ، وكيف انتقل أحدهم من بلد إلى آخر ، وماذا جاء لفلان من الأولاد ، كيف عرف هذا ؟ وهذا الكاهن في بلد بعيد ذهبت إليه ، فنقول له : يا(2/43)
أخي افهم أن الجن قال الله عنهم ، ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ )(لأعراف: من الآية27) ، هم يروننا من حيث لا نراهم ، ويرون أحوالنا ، ويسمعوا كلامنا ، فينقله هذا الشيطان ، إلى ذلك الكاهن الذي أنت تأتيه ، يقول له : إن فلان له من الأخوال كذا ، ومن الأعمام كذا ، وأبوه كان لونه كذا ، وعمله كذا ، وتوفي في اليوم الفلاني ، بالمرض الفلاني ، ويخبرك الكاهن أنت فتصدق ، ولو أنك علمت أن الله يقول ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ )(لأعراف: من الآية27) ، وعلمت بأن مع كل إنسان شيطان ، كما قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم ، عن ابن مسعود [ ما منكم من أحد إلا وكَّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة ] كل واحد فينا الآن ، قرين من الجن وقرين من الملائكة ، فهذا الملك يحثه على عمل الخير ، وذلك الشيطان يحثه على عمل الشر ، هذا الشيطان الملازم للإنسان يعرف أحوال الإنسان ، ويرى الإنسان ، ولذلك شرعت لنا التسمية ، وقرائة المعوذات ، لنستعيذ من شرهم ، هذا الملازم لك يعرف أحوالك ، فيخبر الكاهن التي تذهب أنت إليه بأحوالك الشخصية ، حتى لو أغلقت الغرفة عليك وفعلت أشياء ، فيقول الكاهن لك : لقد أغلقت عليك الغرفة في اليوم الفلاني وقد فعلت كذا ، من الذي أخبر الكاهن ، هذا الشيطان الملازم لك ، وصل الخبر إلا الكاهن عن طريقه ، لو عرفنا هذه الأحاديث لم نستغرب مطلقاً ، تلك الأخبار والتفصيلات الدقيقة التي يخبر بها بعض المشعوذين ، وكذلك القصة التي حدثت مع بعض الصالحين ، لما دخل على بعض الأمراء وعنده عراف ، يقول للناس : خذوا ما شئتم من الحصى في أيديكم ، وأنا أعرف كم ، فيأخذ الناس الحصى ، ويخبئونه عن ذلك الرجل ، فيعدونه ثم يقول ذلك العراف : بيدك كذا من الحصى ، عدد كذا ، ويكون كلامه صحيحاً ، فلما جاء ذلك الرجل(2/44)
الصالح ، قال أنا أتحداه أن يعرف ما في يدي ، فأخذ قبضةً من الحصى فَلَمْ يعدها ، قال كم بيدي ؟ قال كذا ، فعدها فإذا هي بخلاف ما قال العراف ، فقالوا له : كيف فعلت ؟ قال أنتم عددتم لما قبضتم الحصى ، فعد معكم القرين ، فأخبره ، وأنا لم أعد فلم يعد معي القرين ، فلم يستطع أن يعرف ، فإذاً أيها الإخوة : لا ننخدع بهذه الألاعيب ، وهذه الأشياء التي نسمعها ، وفقنا الله وإياكم أن نعيش ونحيا على التوحيد ، وأن نموت على التوحيد ، وأن يكون آخر كلامنا من الدنيا شهادة التوحيد ، وصلى الله على نبينا محمد ، وأستغفر الله لي ولكم .
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد آدم .(2/45)
ومما ينبغي عمله يا إخواني كذلك مع هؤلاء الناس الذين يصدقون ، بهذه الترهات ، أن نزيل استغراباتهم من بعض الحوادث الحقيقة التي تقع ، ونبين لهم ما هو سبب وقوعها ؟ حتى نسد عليهم الطريق أمام الذهاب إلى العرافين والكهان ، بعض الناس شكوا ، وسمعت هذا منهم شخصياً ، يقولون : تختفي الأموال من بيوتنا بطريقة عجيبة ، نغلق عليها ونضعها في أماكن لا يعرفها أحد ، ولا يدخل الغرفة أحد لا خادم ولا خادمة ، ولا إنسان ، لا يمكن أين يصل إلى ذلك المكان أحد ، أو جميع من في البيت موثوق بهم ، ومع ذلك اختفت الأموال ، فقد يأتي هؤلاء الشيطان فيقول لهم اذهبوا إلى الساحر أو الكاهن الفلاني ، حتى يعلمكم من الذي أخذها ، وأين توجد ، فيقعون في شيء من الشرك ، ولكن إذا رجعنا نصوص أئمة الإسلام ، لوجدنا الجواب واضحاً ، قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي عن بعض الأشياء التي يقوم بها بعض شياطين الجن ، يقول : وإما أن يأتيه بمال من بعض أموال الناس ، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين ، ومن لم يذكر اسم الله عليه ، وتأتي به ، فإذاً هؤلاء الشياطين الذين ينفذون من الجدران ، ويدخلون البيوت ، التي لم يقل صاحبها عندما أقفل بابها باسم الله ، ولم يقل صاحب المال لما أودعه في مكانه باسم الله ، يستطيعون أن يذهبوا إلى المال فيخرجوه ، ويسرقوه من جوف البيت ، ولم يرهم أحد ، يمكن أن يفعلوا هذا ، ويأتون به ذلك الكاهن ، وينصح هؤلاء المساكين أن يأتوا الكاهن ، فيذهبوا للكاهن فيقولون لقد سرقنا ، أين المال ابحث لنا ، فيقول أنا آتيكم به ، ثم يغيب ويخرج المال ، وهو عين المال والمجوهرات والمصوغات التي سرقت ، فيتعلق الناس بهذا الكاهن ، من الذي جلبها إليه ، إنه الشيطان الذي سرقها من ذلك البيت ، الذي لم يذكر فيه اسم الله ، فإذاً ، ويقول شيخ الإسلام : وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع ، من الأمور المعينة ، ومن وقعت له ، ممن أعرفه ، مما يطول حكايته(2/46)
، فإنه كثيرٌ جداً ، كان شيخ الإسلام ،رحمه الله ، مركز معلومات ، يأتيه الناس القاصي والداني ، يشكون إليه وهو يعلمهم التوحيد ، ويكشف لهم الخدع والألاعيب ، هكذا يجب أن يكون موقفنا مع الناس ، فنقول له قبل أن تضع نقودك سم الله ، واحرص على أن يكون حلالاً ، فلا تصل إليه الشياطين بإذن الله ، هذا بعد أن يكون قد دقق أن لا أحد من أهل البيت قد سرقه ، لأنه قد تكون حادثة سرقة عادية جداً ، كذلك من كشف ألاعيب هؤلاء وحيلهم ، أن الشياطين تستطيع أن تتشكل وتقلد أصوات بني آدم بدقة ، فيقوم بعض جهلة العباد ينادون أولياء الله ، الميتين أو الأحياء ، وهم في مكان بعيد جداً ، يقول يا سيدي فلان اشفِ كذا ، اشفِ مريضي ، فيقلد الشيطان صوت ذلك الميت ، لأنه كان قد ضبطه ، أو الحي البعيد ، فيقول نعم قد أجبتك ، فيظن هذا المسكين أنه قد ، دعا ذلك ، السيد أو الولي فأجابه ، وهذه أيضاً من الأشياء التي ذكرها شيخ الإسلام عليه رحمة الله ، وقد يخبرك يوماً من الدهر إنسانٌ أنه قد حدثت له ، أو قال لك أسمع أصواتاً لا أدري ما مصدرها ، اسمع شخصاً يناديني باسمي ، وألتفت لا أرى أحد ، حدثت قصص واقعية للسلف ، بسبب إيذاء الشياطين الذين يريدون أن يخيفوا بنوا آدم ، فينادونهم بالليل بأصواتهم ، وأسمائهم ، كذلك أيها الإخوة ، نبين للناس ما حكم الأموال التي تدفع إلى هؤلاء الكهان والمشعوذين ، ونقول لهم : إن الإجرة التي تدفع إلى هؤلاء الناس حرام ، وقال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في الحديث الصحيح أو جاء في الحديث الصحيح أنه عليه والسلام : [ نهى عن حلوان الكاهن ومهر البغي ] حلوان الكاهن ، هو الحلاوة المالية النقدية ، الأجرة التي تدفع للكاهن ، لقاء قيامه بالعمل من كشف الغيب ، وإزالة الضرر ونحوه ، وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال : [ حلوان الكاهن خبيث ] فإذاً هذه الأجرة ، حرامٌ أن تدفها ، قال شيخ الإسلام : الأجرة المأخوذة على(2/47)
ذلك والهبة والكرامة التي تعطى للساحر والمشعوذ والكاهن ، حرامٌ على الدافع والآخذ ، وقال يحرم على ، لو قال إنسان أنا عندي عقارات ، وقد اكتشفت أن أحد الغرف المؤجرة يسكن بها أحد الكهان ، وأن الناس يأتونه ، يأتونه ليقرأ لهم الغيب ، والطالع والفأل ويعالج أمراضهم بالشعوذة ، ماذا أفعل ؟ أقول لك اسمع هذه الفتوى من شيخ الإسلام ، يحرم على الملاك ، ملاك العقارات ، والوكلاء ، كأصحاب المكاتب العقارية مثلاً ، إكراء الحوانيت أو غيرها من هؤلاء الكفار والفساق ، إذا غلب على ظنهم أنهم يفعلون فيها هذا الجبت المعلون . قال شيخ الإسلام : ويجب على ولي الأمر وكل قادر السعي في إزلة ذلك ، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت أو الطرقات ، أو الدخول على الناس في منازلهم لذلك ، وإن لم يفعل ذلك ، وإذا ما فعلت وغيرة هذا المنكر ، فيكفيك قول الله عزوجل(كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ )(المائدة: من الآية79) ، وقوله سبحانه وتعالى (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ)(المائدة: من الآية63) ، يجب أن نتناهى عن المنكر ، وأن نبين للناس هذا الدجل ، ثم قال شيخ الإسلام : والقيام في ذلك من أفضل الأشياء .(2/48)
وختاماً أيها الإخوة : أذكرُ كل مسافر إلى أي بلد من بلاد المسلمين ، أو حتى إلى بلاد الكفار ، في الإجازة القادمة ، لأن كثيراً من إخواننا المقيمين في هذه البلاد ، يذهبون إلى بلادهم في الإجازة ، أو ناس يذهبون إلى الخارج للعلاج وما شابه ذلك ، اذكرهم بأن عليهم واجباً أساسياً ، من الواجبات ، وهو الدعوة إلى الله ، ونشر التوحيد ومحاربة الشعوذة ، بين أقربائهم ومعارفهم وأصدقائهم ، في بلدانهم التي يذهبون إليها ، ويتزودون لذلك في كتب العلم النافعة ، ينشرونها بين الناس ويبينون لهم ، وحتى أيها الإخوة في بلاد الكفار ، مع الأسف ، لما نام أهل السنة ، في سبات عميق ، ماذا حصل ، انتشرت بين الكفار الدعوات الصوفيه والشعوذات باسم الإسلام ، ترى رجل أمريكي دخل في الإسلام ، فعندما تدقق في أحواله تجد أنه على دين الصوفية ، الملاحدة المخرفين ، سواءً أرتفع كفرهم أو نزلت بدعتهم ، فإن كان يؤمن بوحدة الوجود وهو أنك كل ما ترى بعينك فهو الله ، فيكون قد انتقل من النصرانية ، إلى الردة والإلحاد ، وإن كان على بدعة مثل حلق الأذكار ، أو حلق الذكر المبتدعة بالطبول ، وهذا موجود في أمريكا وغيرها ، من أناس يزعمون أنهم دخلوا في الإسلام ، ما وجدوا أمامهم إلا أؤلئك المنحرفين ، ليعرضوا عليهم الصورة المحرفة للإسلام ، المشوهة ، من تلك الطرق المبتدعة ، فيكون أحسن أحوالهم ، أنهم انتقلوا من دين النصرانية إلى البدع ، فنحن قد نقابل هؤلاء في سفرنا ، مثلاً ، الذي ينبغي أن يكون سفر طاعة أولاً وأخيراً ، فنبين لهم ، وندعوهم إلى الله ، ونبين لهم التوحيد ، ونتلوا عليهم النصوص من القرآن والسنة ، ونحارب تلك الشعوذات التي في البلاد التي نذهب إليها ، اللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، اللهم بيّن لنا دينك وفقهنا فيه ، اللهم واجعلنا على ملة التوحيد ، التي عليها نحيا وعليها نموت ، وعليها نبعث إن شاء الله ، اللهم وهيئ لنا من أمرنا رشدا(2/49)
، وأصلح لنا بيوتنا وذرياتنا ، ونسائنا ، وأزواجنا ، اللهم واجعلنا من التائبين لك ، الأوابين إليك ، المنيبين إليك ، واجعل لنا بلاغاً إلى خير ، اللهم وفقنا لما يرضيك ، وكن معنا يا رب العالمين ، اللهم وفق أبنائنا في اختباراتهم ، وكن معهم ، واجعل عملهم في رضاك ، اللهم واجعل خروجنا من الدنيا على شهادة التوحيد ، وصلي يا ربي وسلم على نبينا محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ، صلوا عليه أيها الإخوة فيه هذا اليوم العظيم ، الذي تضاعف فيه أجر الصلاة على رسولكم ، عليه السلام ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله .
تمت المادة الرابعة
ولله الحمد والمنة
# تعني تنبيه ثم تحذف فقط من باب التذكير .
أخوكم خالد العنزي
حفرالباطن
Khalad1423@hotmail.com(2/50)
خطبة الجمعة 9 – 6 – 1426هـ
للشيخ / محمد صالح المنجد
" الألعاب "
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
قال تعالى: " وما هذه الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان أي الحياة الحقيقية الدائمة لو كان يعلمون ".
واللهو ما كان من الأعمال غير الجادة وغير المقصودة لغاية بذاتها وما شغلك فقد ألهاك واللعب ما لا ينتفع به وذمر رجل الدنيا عند علي رضي الله عنه فقال : الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنا لمن تزود منها واللهو واللعب غرور ولذلك كان الكفار في حياتهم يتفرغون لهذا لأنهم لا يؤمنون بالآخرة فليس عندهم إلا هذه الدنيا فهي فرصتهم الوحيدة في اعتقادهم فلذلك يلهون فيها ويلعبون بالنسبة لهم هذا هو الأمل .(3/1)
عباد الله ، اللعب واللهو كثر اقترانه في الكتاب العزيز واللعب زمن الصبا واللهو زمن الشباب كما قال بعضهم وتفاخر وتكاثر هكذا تلهي الدنيا من فيها الدنيا بزخرفها تلهي عن الآخرة وفرق بين هذا وبين ما يحتاجه الأولاد من اللعب فإن من جعل الدنيا كلها لهوا ولعبا فهو مذموم مغرور وأما من خص هؤلاء الأولاد بالمباح من اللعب المناسب لسنهم وحالهم فإنه محمود حكيم . والترويح الفسحة والانبساط وإزالة التعب والمشقة ويحتاجه الناس إذا كثرت الهموم والأعمال عليهم والمسلم وإن كان جادا لا يعرف الكسل والإهمال ولا يؤثر الراحة والدعة ويكون مجتهدا في طاعة الله فإنه يحتاج إلى فترات استرخ إلى فترات استرواح . قال أبن القيم رحمه الله : وعمارة الوقت الاشتغال في جميع أنائه بما يقرب إلى الله أو يعين على ذلك من مأكل أو مشرب أو منكح أو منام أو راحة فإنه متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت وإن كان له فيها أتم لذة فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات فأوقات المسلم عبادة إلى عبادة ومن طاعة إلى أخرى .(3/2)
أيها المسلمون ، هذه الإجازة وما فيها يقبل كثير من الناس على الترويح وأنواع اللعب ويعدونها فرصة أيضا لكي ينتقل بالأولاد من مكان إلى مكان ترويحا وتسلية ولا شك أن من قصد وجه الله تعالى بهذا في إدخال السرور على من يرعى من المسلمين من هؤلاء الأولاد المحتاجين إلى ذلك لأن أسنانهم تدعوا الحاجة فيها إلى إشباع غريزة اللعب لديهم وإلى أن يكون لهم أنواع من الترفيه والتسلية فإنه يكون حين ذاك مأجور على فعله ولا شك أن المسلم إذا كان في مسجده وفي حلقة درسه وفي الدعوة مع إخوانه له شأن وحال تختلف عما يكون بين أولاده وأهله وقد لقي أبوبكر رضي الله عنه حنظله فقال كيف أنت يا حنظله ؟ قال نافق حنظله فقال أبوبكر سبحان الله ما تقول ؟ قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأن رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا قال أبوبكر فوالله إنا لنلقى مثل هذا وهكذا اشتكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حالهما نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأن رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو تدرون على ما تكونوا عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظله ساعة وساعة ثلاث مرات . قال الأبي رحمه الله سنة الله تعالى في عالم الإنسان أن جعله متوسطا بين عالم الملائكة وعالم الشياطين فمكن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون ويسبحون الليل والنهار لا يفترون ومكن الشياطين في الشر والإغواء بحيث لا يغفلون وجعل عالم الإنسان متلونا ومعنى قوله يا حنظله ساعة وساعة قال العلماء يعني لا يكون الرجل منافقا بأن يكون في وقت على الحضور وفي وقت على الفتور ففي ساعة الحضور تؤدون حقوق ربكم وفي ساعة الفتور تقضون حظوظ أنفسكم يعني في المباحات فليس(3/3)
العتب إذا على من أراح نفسه وأجمها بالمباح لتنشط للعبادة لتنشط للدعوة لتنشط لطلب العلم لتنشط لصلة الرحم لتنشط في قيام القيام بخدمة الشريعة والدعوة للإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونفع المسلمين والاشتغال بسد حجاتهم لكن العتب على من يجعل اللهو واللعب هو الأساس هو الأساس في حياته فعلا وإليه تنصرف مجمل أوقاته وغالب حياته على هذه التسليات والترفيهات ثم يكون للعبادة شيء يسير أو للدعوة شيء يسير هذا إذا كان أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيء لا يذكر أو لطلب العلم كذلك فلا شك أنه مفرط ومضيع لأنه جعل الأصل جعل الأصل طارئا والطارئ أصلا وجعل التسلية والترفيه في المباح لكي تنشط النفس للطاعة جعله هو الأكثر وجعل الطاعة هي الأقل وأما بالنسبة للعيال للأطفال فإن الأمر مختلف فإن الله سبحانه وتعالى خلقهم على هذا على محبة اللعب وليس عندهم من العقل ما يدركون به أمور الكبار لينشغلوا فيها ليس عند الطفل من العقل ما يقوم به بالدعوة وطلب العلم والجهاد والقيام بأمور الدين والسعي في حاجات المسلمين ونحو ذلك ولذلك كان من السنة أن يجعل لهؤلاء من الألعاب ما يناسبهم فتقول عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي وذكرت القصة والشاهد وهذا هو الشاهد منها أنه كانت لها أرجوحة وصواحب وهي بنت ست سنيين وهذا شأن طبيعي للفتاة وعن عائشة رضي الله عنها قالت كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعنا منه فيسربهن إلي فيلعبن معي وهكذا أبيحت لعب أبيحت العرائس في لعب البنات بالشروط الشرعية كعرائس العهن الصوف ونحو ذلك مما ليست فيه هذه التفصيلات الدقيقة ولكنه الهيكل العام الذي تكون به لعبة تتدرب بها هذه الفتاة على مشاعر الأمومة ورعايتها وقد أجاز العلماء هذه هذه وقد أجاز العلماء للبنات اللعب بهذه العرائس لتدريبهن(3/4)
من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن ولما كبرت عائشة رضي الله عنها عند النبي صلى الله عليه وسلم سابقها أيضا دليلا على الترويح المباح للأهل وخصوصا في السفر الذي يحصل فيه ملل للنفوس فسابقها في السفر وهكذا سابقها مرة أخرى وكانت وكان من الأدلة على أن هذه الألعاب تتخذ للتصبير على العبادة ما روته الربيع بنت معوذ الربيع بنت معوذ قالت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى القرى الأنصار من أصبح مفطرا فاليتم بقية صومه قالت فكنا نصومه ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار قال علي رضي الله عنه روح القلوب ساعة فإنها إذا أكرهت عميت وقال روح القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان فإذا للكبار ترويح أيضا يناسب حالهم كما أن للصغار ترويح يناسبهم فإذا كان ترويح عائشة باللعب والأرجوحة فإن ترويح العلماء عن أنفسهم كان بالشعر والقصص هذا مما كان يجمهم ليشرعوا في الأمور العظيمة بعد ذلك من العلم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم مزاح أيضا مع بعضهم وخصوصا في الأسفار وكانوا يتبادحون بالبطيخ فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال والتبادح الترامق الترامي بشيء رخو وهكذا انقلب عمر رضي الله عنه من ابن عباس في طريق السفر لما مرا على عين ماء قال تعال أباقيك أينا أطول نفس يعني يغطسان في الماء معا لينظرا كل واحد منهما من الأطول نفس من الآخر يستطيع أن يلبث مدة أطول تحت الماء وكان عمر شيخا وكان ابن عباس شابا حدثا هذا من المعاني التربوية التي كانت على عهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن سيرين يداعب أصحابه وكذلك كان الأعمش يمازحهم فهكذا كانت المزاح كان المزاح المباح بينهم لكي ينشطوا في العلم ولكي يسهروا في طلبه وتحصيله وحفظه وسماعه وروايته وهكذا فاللبكار إذا أيضا شيء يسليهم يروح عنهم يناسبهم فماذا حصل في مفهوم ترفيه(3/5)
الترفيه والترويح في هذا الزمن . عباد الله لقد صار أصلا بعد أن كان شيء يؤخذ منه بقدر صار تفنن والتنوع فيه أمرا عجيبا ونظرا لمذهب الكفار لهذا عندهم في الحياة الدنيا لعب ولهو يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام هذه الدنيا بالنسبة لهم فهم نوعوا فيها وتفننوا في صناعة الترفيه بناءا على مذهبهم وصدروا إلينا كل ذلك ونحن أمة لنا رسالة أناس لنا هدف ونسعى لطاعة الله فلا يليق بنا أن نسير مسار الكفار في هذا وليس كل ما أتجوه مناسب لنا وليست الساعات الطويلة التي يستغرقونها هم في اللهو واللعب تناسبنا والعجيب أنهم قوم في أمور الدنيا ينشطون يتعبون وهكذا يخلصون في الأعمال في الوظائف في المصانع في المكاتب ثم بعد ذلك يقضون بقية يومهم في لعب ولهو ونوم وشهوات ونحن عند بعضنا كسل وسوء عمل في نهاره في الوظائف وأنواع الأشغال التي يكسب منها التي يكسب منها رزق أو يدرس فيها ثم في بقية اليوم نشابههم في اللعب واللهو والنوم والاشتغال بالشهوات فلا نحن أخذنا جدهم في الدنيا ولا نحن أخذنا جد أسلافنا في الآخرة فكروا أيها الأخوة في هذا الأمر الذي صار في كثير من المسلمين لا هم أخذوا بجد الغرب في العمل ولا هم اخذوا في جد أسلافهم في أمور الآخرة فماذا صارت حالهم فلا تعجب بعد ذلك من حصول التخلف عند كثير من المسلمين .(3/6)
عباد الله نعود إلى قضية اللعب المباح للأطفال والأولاد هذا اللعب الذي يفرغ الطاقة التي تكون حبيسة في أجسامهم ومن المناسب لاستقرار نفوسهم أن تنطلق أن تنطلق في هذه الألعاب المباحة المناسبة ونطرد عنهم الملل والضجر وضيق الصدر بل أحيانا يكون بعض العمال في حاجة إلى هذا قال ابن الجوزي رحمه الله مر بي حمالان تحت جذع ثقيل وهما يتجاوبان بإنشاد الشعر وكلمات الاستراحة فأحدهما يصغي إلى مايقوله الآخر ثم يعيده أو يجيء بمثله وهكذا فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا زادت المشقة عليهما وثقلا الأمر فتأملت السبب في ذلك فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر وإجالة فكره في الجواب بمثل ذلك فينقطع الطريق وينسى ثقل المحمول وهكذا التكاليف الصعبة تحتاج إلى شيء يرافقها قال صاحب الفنون رحمه الله يرد على من زعم أن الدين ليس فيه مجال للترفيه المباح ما أدري ما أقول في هؤلاء المتشدقين بما لا يقتضيه شرع ولا عقل يقبحون أكثر المباحات ويفجمون تاركها حتى تارك التأهل والنكاح والعبرة في العقل والشرع إعطاء العقل حقه من التدبر والتفكر والاستدلال والنظر وإعداد العواقب وكان عليه الصلاة والسلام يلاعب الحسن والحسين ويداعبهما وسابق عائشة ويداري زوجاته إلى أن قال والعاقل إذا خلى بزوجاته وإمائه ترك العقل في زاوية وداعب ومازح وهازل ليعطي الزوجة فليس العالم في المسجد كالعالم عند زوجته .(3/7)
عباد الله لقد ورد عن في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق وليس المراد بقوله باطل يعني أنه حرام وإنما المقصود أنه عار على الثواب وأطلق البطلان على ماعدا هذه الأشياء ليبين فضل هذه الأشياء لأن الرماية وتأديب الفرس هذا مما يعين على الجهاد وملاعبة الأهل مما يعني على الأستدامت العشرة بين الزوجين والإنسان يحتاج إلى هذا في الجبهة الداخلية وللآخر في الجبهة الخارجية ولذلك جاء التأكيد عليهما كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق .
أيها المسلمون إن من العجائب في هذا الزمان ما ينفق على الترويح تصل مرتبات بعض مهندسي الترفيه وصانعي الألعاب في العالم في السنة إلى نحو من 50 مليون دولار للواحد هؤلاء الذين يخترعون بلي أستيشن وإستار بوكس وغيرها يتقاضون مرتبات سنوية تصل إلى خمسين مليون من الدولارات بينما أكبر أطباء في المستشفيات وأعظم المهندسين في التخصصات المتخلفة بل والمفكرين والمخترعين والباحثين والعلماء والقضاة في الغرب لا يصل مرتبهم السنوي إلى نحو واحد في المائة من هذا في العادة وفي عام تسع وتسعين وتسعمائة وألف بلغت مرتبات العاملين في مجال الترفيه والتسلية والفنون في الولايات المتحدة أربعين بليون دولار وبلغ عدد الموظفين مليون ونصف المليون صناعة الترفيه في عالمنا صارت عالم قائم بذاته وصارت فيها أمور ضخمة كثيرة وأنواع منوعة فما هي الضوابط الشرعية بعد هذا التنوع ومن الذي يجوز ومما لا يجوز في هذا الكم الهائل المتراكم من هذه الألعاب والتسالي وأنواع الترفيه يحتاج المسلم إلى معرفة الضوابط الشرعية في هذا لكثرة هذه الألعاب وما يتناول منها ويتداول بين الأيدي وفي البيوت وخارج البيوت .(3/8)
نسأل الله أن يفقهنا في دينه وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه هو العليم الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله أشهد ألا إله إلا هو وحده لا شريك له وأكبره تكبيرا وأشهد أن محمدا رسول الله الرحمة المهداة البشير والنذير والداعي إلى الله بإذنه جعله الله سراجا منيرا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطبيين وخلفائه وأزواجه وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
عباد الله قامت هذه الشركات العالمية بإنتاج هذه الأشياء التي تشغل الكبير والصغير ووسعت الدائرة المتعاملين بها والموجهة إليهم لتكون في كل الأعمار كما يقولون وقد علمنا أن الشريعة قد راعت الصغار في هذا الجانب بشكل أساس وللكبار شيء يناسبه والكبار كانوا يشاركون بعض والكبار كانوا يشاركون الصغار في بعض ألعابهم من باب إدخال السرور عليهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمهل للحسن أو الحسين ليركبه ويرتحل فإذا قضى وطره ونزل عن ظهر جده قام النبي صلى الله عليه وسلم .(3/9)
عباد الله وجهت الشريعة ما يتعلق بممارسة بعض هذه الألعاب توجيها معينا في مسألة القوس والفرس وأرادت بالتأكيد أمرا معينا في هذا وأما بالنسبة للضوابط الشرعية فإن الأصل في الأشياء الإباحة كما نعلم إلا ما دل الدليل على تحريمه ولذلك فإنه لا يمكن أن نحصر المباحات في الألعاب وأن نكرر أو نسرد سردا طويلا جدا هذه المباحات ولكن طريقة الشريعة في مثل هذا أن تبين المحظورات وتقول للناس إذا الباقي مباح هذه هي طريقة الشريعة فتزوج من شئت من النساء ما عدا الأمهات والبنات والخالات والعمات والأخوات وهكذا وكل ما شئت من الأطعمة ما عدا الخنزير والميتة وما أهل لغير الله به والدم المسفوح ونحو ذلك وهكذا وأشرب ما شئت من الأشربة إلا ما أسكر فإنه محرم وما ضرك السموم ونحوها وهكذا هذه طريقة الشريعة تفصل في المحرمات وتجمل في المباحات لأن هذا قابل للتعديد وهذا غير قابل للتعديد من كثرته فمما جاء من المحرمات من الشريعة في الألعاب ما أشتمل على النرد وهذا حجر الزهر المكعب المعروف وقد قال عليه الصلاة والسلام من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزيره ودمه رواه مسلم حرمت الشريعة مثلا ضرب الوجه ففي الألعاب التي تمارس من ألعاب القوى وغيرها يجتنب الإنسان وجه أخيه المسلم لأن الشرع كرم الوجه ولذلك لا يجوز ضربه لا فالملاكمة ولا في غيرها وكذلك فإن الألعاب الألعاب المشتملة على صور ذوات الأرواح أو المصحوبة بالموسيقى أو التي تؤدي إلى الشجار والنزاع والأحقاد وإثارة الضغائن كذلك محرمة وأيضا فإن القمار محرم فلا تجوز المراهنة بين اللاعبين وكذلك أن يجعل الجعل للمتسابقين إلا ما ورد الدليل فيه من نصل أو خف أو حافر وأن لا يكون اللعب صادا عن ذكر الله وعن الصلاة ومضيعا للفرائض وأن لا يستغرق الوقت أو أكثر الوقت لأن الكفار هم الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا وهذا ضابط مهم لأن كثيرا من الذين يلعبون اليوم من الكبار(3/10)
يستغرق لعبهم في كثير من الأحيان أغلب الوقت بل منهم من يسهر في لعب الورق ويذهب متأخرا إلى عمله الذي منه كسبه ورزق أهله وأولاده وكذلك يشترط أن لا يكون في اللعب شيء من السحر وبعض الألعاب اليوم فيها هذا ويشترط أيضا أن لا يكون فيها صلبان فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكسر الصليب ويزيله وكان ينقض التصاليب وأيضا أن لا يكون فيه إشغال عن واجب شرعي كبر الوالدين مثلا ، وكم من الأولاد اليوم يشتغلون بالألعاب عن سماع أوامر الوالدين وحق الوالدين ويشترط أن لا يكون فيها أضرار على النفس أو الغير كما يكون في بعض الألعاب النارية وكما يحدث في الركوب الجنون لهذه الآلات ذات الإطارات على الرمال كما يحدث وبالأمس زالت فرقة من العمود الفقري لشخص كان يركبها وما أكثر الذين انقلبوا بما يسمى بهذه الدبابات على الشواطئ وبجانب الطرقات وكانت وسيلة للإجرام ومثار للفساد وملاحقة الفتيات ونحو ذلك مما هو معلوم مشاهد فإن بعض الناس قلبوا الألعاب البريئة إلى وسائل أخرى إلى وسائل أخرى وكم فر بعضهم بها سرقة بهذه الآلات من أصحابها وكذلك فإنه يشترط أن لا يتعلق القلب بها بحيث تصبح هي الشغل الشاغل فكأنه صار منشغلا بها تمام الانشغال فبدلا من أن يتعلق القلب بالله تعلق باللعبة وكذلك فإنه لا بد من الانتباه لبعض الأفكار الخطيرة التي تقف وراء بعض الألعاب وخصوصا الألعاب الإلكترونية فإن فيها فإنها فيها أو في بعضها ما يغرز حب الكفار بل ومحاربة المسلمين فقد وجدت ألعاب قائمة على هذا خصوصا في هذه السنين المتأخرة ، وفي ما يسمى بتدمير الأهداف وقتال الأعداء بالأسماء واضح أنها موجهة ضد المسلمين في بعضها وكذلك فإن بعضها تقوم على أفكار كفرية كالمواجهة بين أهل السماء وأهل الأرض وأن أهل السماء الأشرار وأهل الأرض الأخيار ونحو ذلك وبعضها يقوم على تقديس الصليب وأنه يعود الروح ويعطي الصحة والقوة وبعضها تقوم على العقائد الباطلة مثل تناسخ(3/11)
الأرواح أو عودة الناس بعد الموت مرة أخرى فيموت ويحيى ويموت ويحيى وهكذا وبعضها تفسد عقائد الأطفال في هذا فتغرز في نفوسهم أن بمقدور هوتر أو غيره أن يعيد شخص إلى الحياة بعد الموت وبعضها فيه تقرير للسحر وتمجيد للسحرة وفي بعضها كذلك اشتمال على عورات مكشوفة وتكون جائزة الفائز صورة عارية وهذا كثير قد سمعنا عنه بل وتواتر في عدد من هذه الألعاب ويشترط كذلك أن لا يكون فيها إضرار بالجسد كالعينين والأعصاب والإدمان وما أكثر هذا وأيضا يشترط أن لا يكون فيها تربية على الإجرام والقتل كما في عدد من هذه الألعاب وقد ثبتت خطورتها على الأطفال من هذه الجهة وأيضا فإنها لا بد أن لا تخالف الشرع في قضية التستر وعدم التعري وأن لا تغرس حب تقليد الكفار في نفوس الأولاد وأيضا أن لا يكون فيها اعتداء على شيء من خصائص الله تعالى كما تقدم من إحياء الموتى وإنزال المطر ونحو ذلك من إبراء المرضى وهذا كثير في الأفلام بل وفيها غرس حب الصليب وأنه يفعل ذلك كله وبركة الصليب ونحوها وأيضا فإنه يشترط أن لا تصل إلى حد الإسراف وتجاوز وتجاوز الحد الوسط في الإنفاق فيها فإن بعضها تذهب فيه أموال عظيمة ويشترط في الألعاب أن لا يكون فيها سخرية ولا تنابز بالألقاب ولا إضرار بالبهائم كألعاب التحريش بين الديكة وصراع الأكباش ومصارعة الثيران فكل ذلك تعذيب للحيوان وأيضا فيشترط أن لا يكون في اللعب ببعضها إيذاء للجيران كما يفعله بعض اللاعبين بالحمام من الإشراف على عورات الجيران بسبب صعودهم للأسطحة وكذلك يشترط أن لا تكون فيها أن لا يكون فيها إيذاء لبدن الشخص أو خطورة على نفسه كما يفعله بعضهم من القفز من الإرتفاعات العالية بدون ضوابط كافية أو يتحدى في البقاء مع الأفاعي والعقارب ونحو ذلك وهذه الألعاب الخطيرة الألعاب التي يمكن أن يحصل لصاحبها شلل كامل في لحظة وطرفة عين ويكون مكسبه منها شد أنظار الناس ونفوسهم لهذه الحركات الخطيرة التي يؤديها(3/12)
واليوم الصباح صباحا أيها الأخوة حدثنا بعض الشباب الثقات عن منظر شاهدوه على شاطئ على شاطئ البحر سيارة سوبر فيها خمسة من الشباب يمارسون التفحيط والحركات الطائشة التي أرعبت من كانوا في المكان في طيش وتهور وما هي إلا لحظات حتى تقلبت في الهواء وتطاير أشخاص من السيارة لكي تستقر بعد ذلك على ظهرها مضغوطة قد وصل سقفها إلى حد الزجاج الأسفل ، كان منظرا رهيبا في هؤلاء المتناثرين بين الحياة والموت وهذا مرفقه خارج عن اليد وهذا عظمه بائن وهذا ينزف من أذنيه ومعنى ذلك نزيف دماغي وهذا وهذا حركات طائشة يمارسها هؤلاء الشباب برياضة التفحيط التي يسمونها تفحيطا فيا لله كم من جريمة قاموا بها في إزهاق الأرواح وترويع الآمنين وجرح المسلمين وإثارة الغبار على المساكين ويا لله كم أتلفوا من إطارات وأسرفوا في أموال سيسألون عنها يوم الدين ويا لله كم جعلوا في أجسادهم من الجراحات والعاهات المستديمة التي ستبقى معهم حتى الممات .
عباد الله ينبغي أن نكون منضبطين بالشرع وعقلاء وهذه هي الخلاصة أن ننضبط بالشرع في ما نقوم به.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات أللهم إنا نسألك حبك وحب ما تحب يا رب العالمين اللهم أجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الضمأ أحينا مسلمين وتوفنا مؤمنين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين آمنا في البلاد وأصلح الأئمة وولاة العباد اللهم أجعلنا من الآمنين يوم المعاد اللهم أجعلنا شاكرينا لنعمائك يا أرحم الراحمين .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(3/13)
( ألفاظ العامة المخالفة للشريعة )
عناصر الموضوع:
التحذير من خطر اللسان
ألفاظ شركية يقع فيها كثير من الناس
النهي عن سب الدهر
استغاثات غير شرعية
حرمة المغالاة في المخلوقين ورفعهم فوق منزلتهم
منهيات شرعية في باب التحية والتهنئة
النهي عن الدعاء بطول العمر والبقاء
مخالفات شرعية في باب الرجاء
ألفاظ في ميزان الشريعة
النهي عن اختصار بعض الألفاظ
التحيات لله فقط
ألفاظ العامة المخالفة للشريعة:
في هذه الخطبة حذر الشيخ من خطر اللسان وذكر أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم أورد كثيراً من ألفاظ العامة التي تخالف الشريعة، فمنها ما هو لفظ شركي، ومنها ما هو ذريعة للشرك والعياذ بالله.
التحذير من خطر اللسان:(4/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني في الله: لقد جاء الإسلام بحفظ اللسان، ونهى القرآن عن أشياء ذميمة، مما تتحرك به ألسنة الناس لفحشها وكبرها عند الله عز وجل، وأمر اللسان من الأمور الخطيرة؛ لأنه أسرع الأعضاء حركة وأسهلها، فإنه لا شيء أسرع ولا أسهل حركة من اللسان، ولهذا كان الزلل بهذا العضو وهذه الجارحة من الجوارح من أعظم الزلل وأكبره عند الله عز وجل. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علَّم معاذاً رضي الله تعالى عنه حديثاً جليلاً فيه وصايا جامعة، قال له في آخر الحديث: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأسباب التي تكب الناس في النار وترميهم فيها هو حصائد هذه الألسنة،(4/2)
ونتائج الكلام. وقال صلى الله عليه وسلم مهدداً ومتوعداً في الحديث الصحيح الذي رواه مالك رحمه الله والإمام أحمد، عن بلال بن الحارث مرفوعاً: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت -أي: لا يقدر خطورتها، ولا يظن أنها ستبلغ به عذاباً شديداً- فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة) بسبب هذه الكلمة. وأيضاً فإن المسألة أخطر من ذلك، ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخطورة بقوله في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً، يهوي بها سبعين خريفاً في النار) فهذا المتكلم لا يرى فيها بأساً، ويظن أنه لا شيء فيها، ولكنها في الحقيقة تهوي به سبعين خريفاً في نار جهنم، ولذلك كان لا بد من المحافظة على هذا اللسان وجعل المجال الذي يستعمل فيه مجال خير وإصلاح ودعوة إلى الله وطلب العلم وذكر الله عز وجل. نحن -أيها الإخوة- في هذا المقام نتكلم عن قضية مهمة، وهذه القضية لو أنك تأملت معي في ألفاظ العامة اليوم، من الأمثال ونحوها، لوجدت أن في ألفاظ العامة وأمثالهم أموراً مستشنعة، وبشعة، وبعضها يخالف العقيدة ويمسها مساساً سيئاً، وبعض هذه الأشياء ورد فيها النهي الصريح، وبعضها إذا تأملت فيها عرفت مصدر الخطر وعظم الأمر. وسوف نضرب بعض الأمثلة على ما يتداوله العامة اليوم في كلامهم من الأمور المستبشعة المخالفة للعقيدة أو للأدب الإسلامي على الأقل. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، اللهم ارزقني إن شئت، وليعزم في المسألة، فإنه يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى) ولذلك ما يفعله بعض الناس من قولهم: اللهم اغفر لي إن شئت، فهذا لا يجوز. وكذلك -أيها الإخوة- بعض الناس يقول عند الحلف مثلاً، أو إذا أراد أن يعزم على نفسه في مسألة يقول: أنا بريء من الإسلام لو فعلت كذا،(4/3)
أو يقول: ترى أنا يهودي لو فعلت كذا، أو أنا نصراني أو كافر لو فعلت كذا، يريد أن يمنع نفسه من الوقوع في هذا الأمر بعزم وقوة، وهذا خطير جداً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي عن بريدة رضي الله عنه: (من قال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً لم يعد إلى الإسلام سالماً) سيناله شيء من الخدش في العقيدة الذي سببه هذا الكلام؛ ولذلك ينبغي إذا أراد الإنسان أن يعزم في مسألةٍ من الأمور أو يبين للناس بأنه لم يفعل هذا الكلام فإنه لا يستخدم مثل هذه الألفاظ البشعة المخالفة للعقيدة، كونك ترفض أن تعمل أمراً من الأمور هذا لا يعني أن تعرض نفسك للخروج من الدين، أو تقول: بأنك يهودي أو نصراني، من المسميات التي تطلق على الأمم الكافرة.
ألفاظ شركية يقع فيها كثير من الناس:(4/4)
بعض الناس في حلفهم يحلف بغير الله تعالى، فتجد أن بعضهم يحلف بالأمانة مثلاً، ويقول: والأمانة ما أفعل كذا، أو شخص يحلف الآخر يقول: بأمانتك حصل كذا وكذا، أو بالأمانة حصل كذا وكذا ... إلخ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (من حلف بالأمانة فليس منا) وبعضهم يقول: بذمتك ما حصل كذا وكذا، أو بذمتي ما حصل كذا، أو وحياة أبي ما حصل كذا، أو وحياتي وحياتك ما حصل كذا.. إلخ. أو يقسم بشرفه هذه كلها من الأمور المحرمة: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. وبعضهم يحلف بالنبي فيقول: والنبي أعطني الشيء الفلاني، والنبي ما حصل كذا، فهذا أيضاً حرام لا يجوز، حتى ولو كان نبي الله صلى الله عليه وسلم، لأننا مع احترامنا لرسول الله عليه الصلاة والسلام فإننا لا نرفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها. بعض الناس يقول في عباراته أشياء من الشرك؛ كقوله مثلاً: لولا فلان ما حصل كذا.. لولا الله وفلان ما حصل كذا، وهذا خطأ، وإنما الصحيح أن يقول: لولا الله ثم فلان، وبعضهم يقول: أنا بالله وبك، أو أنا في جوار الله وجوارك، أو أنا في وجه الله ووجهك، كما يقع من البعض، أو يقول: أنا في حسب الله وحسبك، أو يقول: أنا متوكل على الله وعليك، أو أنا معتمد على الله وعليك، هذا كله محرم، لا بد أن يقول: أنا معتمد على الله ثم عليك، أو يقول: أنا متوكل على الله ثم عليك في فعل القضية الفلانية. وكذلك لما جاء أحد الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً -أجعلتني لله شريكاً، أساويت مشيئتي بمشيئة الله- قل: ما شاء الله وحده).
النهي عن سب الدهر:(4/5)
كذلك يقع كثير من الناس في عبارات فيها سب الدهر، يقول مثلاً: يا خيبة الدهر، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر). وبعض الناس يقول: الله يلعن الساعة التي صار فيها كذا وكذا، ويلعن السنة التي صار فيها كذا وكذا، هذه ساعة سيئة التي حصل فيها كذا وكذا، هذا زمن تعيس الذي حصل فيه كذا وكذا، وهذا يؤدي كله إلى سب الدهر، والله تعالى هو خالق الدهر، فسبُّك للساعة أو اليوم أو السنة أو الدهر أو الزمان، يرجع إلى من؟ يرجع إلى الله الخالق لهذا الدهر وهذه الساعة وهذه السنة، لذلك لا بد من الحذر حذراً شديداً في هذا الأمر.
استغاثات غير شرعية:(4/6)
بعض الناس يستغيثون في عباراتهم بالمخلوقين، فيقول مثلاً: بجاه النبي أفعل كذا، أو يسأل الناس يقول: بجاه النبي لا بد أن تتغدى عندي، هذا السؤال بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحد المخلوقين بل هو أعظم المخلوقين قاطبةً منافٍ للسؤال بالله عز وجل، فإن الله تعالى يقول: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180]، وقال: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] لو أردت أن تدعو لا تقل: بحق الولي الفلاني، بحق النبي، بجاه النبي، وإنما قل: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد، اللهم إني أسألك بأنك أنت الله المنان ... إلى آخره. تقول هذه الأسماء الحسنى التي وردت لله عز وجل في القرآن والسنة، بأنك على كل شيء قدير، اللهم إني أسألك بأنك رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمني، إنك أنت الغفار اغفر لي: وهكذا، تسأل الله بأسمائه الحسنى، أما أن تسأل بأسماء المخلوقين أو بحق النبي الفلاني أو الولي الفلاني، أو كما يفعل بعض الجهلة يستغيثون بغير الله، أو بعضهم يستغيث بالجن، ويقع هذا في بعض القبائل وبعض الأماكن أنه يقول: يا جن! افعلوا به كذا وكذا، أو يا جن! خذوه، أو يصرخ في الوادي خذوه، يقصد صاحباً له أو عدواً صارت بينه وبينه مشكلة، فيقول: يا جن! افعلوا به كذا، هذا كله من الأمور المحرمة التي لا تجوز.
حرمة المغالاة في المخلوقين ورفعهم فوق منزلتهم:(4/7)
كذلك يقع في ألفاظ بعض العامة مغالاة في المخلوقين ورفعهم فوق منزلتهم رفعاً لا يجوز مطلقاً في الشريعة الإسلامية؛ كتسييد بعض الناس، أو كتسييد أي واحد من الناس، كقولهم: سيدي فلان، أو يا سيدي فلان، هذا حرام لا يجوز، وأعظمه عندما يكون نداءً للمنافق أو الكافر أو الفاجر أو المبتدع أو العاصي الفاسق بقولك له: يا سيدي، هذا حرام أيضاً لا يجوز (لا تقولوا للمنافق: يا سيد، فإن قلتم ذلك فقد أغضبتم ربكم). ولذلك ما يقع عند بعض الناس من الكتابة على الرسائل أو الخطابات، السيد فلان، أو في الفواتير التجارية: السادة شركة كذا وكذا، هذا أيضاً منهي عنه، وإنما تقول: المكرم كذا، فلان كذا، حضرة فلان كذا، لكن لا تغال ولا تطلق ألقاب المدح على من ليس بأهل، كأن تخاطب الفاسق بهذه الأشياء، ينبغي أن نبتعد عن هذه الألفاظ.
منهيات شرعية في باب التحية والتهنئة:(4/8)
رد الإسلام تحيات الجاهلية وتهنئاتها وتسمياتها ومسمياتها وعاداتها، لأن الإسلام يحرص على تميز المسلم وابتعاده عن مشابهة الكفرة وأحوال الجاهلية. من عقيدة الإسلام التميز عن سائر ألوان البدع والكفر والجاهليات، فالإسلام يحرص على أن يبرز المسلم بين الناس بروزاً صحيحاً لا لبس فيه من شرك ولا بدعة، يحرص الإسلام على أن المسلم يكون متميزاً بأخلاقه وعقيدته وشكله ومظهره عن سائر أمم الكفر وفرق الضلال. ولذلك نهى الإسلام عن التشبه بالنصارى، ونهى عن التشبه بالكفار، ونهى عن التشبه بالأعاجم، ومن ضمن هذه الأشياء نهيه عن تحية المسلمين بعضهم لبعض بتحيات الجاهلية، فلذلك نهى صلى الله عليه وسلم المسلم أن يقول لأخيه: أنعم صباحاً، أو أنعمت صباحاً، وما شابه ذلك من الألفاظ؛ لأنها من تحيات الجاهلية، وإنما يقول الإنسان المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أو يقول: مرحباً وأهلاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بابنتي فاطمة ) إلى آخر ذلك من الألفاظ الحسنة الطيبة التي لا يعلم اختصاص الكفار بها، فمتى علم اختصاص الكفار بهذه الأنواع فلا يجوز حتى وإن كانت حسنة في ظاهرها. ولذلك نهى الإسلام عن أن يهنئ الناس المتزوج بقولهم: بالرفاء والبنين كما يحدث اليوم، وتطبع هذه الكلمة على بطاقات التهنئة ودعوات وولائم الأعراس، فإنهم يقولون: بالرفاء والبنين، أو بالرفاه والبنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في الحديث الصحيح عن هذا النوع من التهنئة، لماذا؟ أما كلمة الرفاء: فإنها تعني الالتحام والمقاربة والوئام وهذا لا إشكال فيه، أن تدعو للمتزوجين بالمقاربة والوئام والتوافق. ولكن الإشكال في قولهم: بالبنين، لماذا أيها الإخوة؟ لأن العرب كانوا يكرهون البنات، وكانوا يئدون البنات وهن أحياء، وكانوا ينسبون البنات لله عز وجل: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل:58] ولذلك كان(4/9)
إذا جاء أحدهم البنت تمنى موتها، وإذا أتى لجاره بنت تمنى له أن تموت البنت.. وهكذا. ولذلك كانوا يقولون في تهنئتهم بالزواج: بالرفاء والبنين، أي: الذكور وألا يجيئك إناث، ولذلك حرَّم هذا القول في الإسلام ونهي عنه، وإنما تقول مهنئاً للمتزوج أو المتزوجة: (بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير) وكم يود الإنسان المسلم إذا فتح بطاقة من هذه البطاقات، أو تهنئة من هذه التهنئات بدلاً من أن يجد بالرفاء والبنين أو بالرفاه والبنين كما هي تهنئة الجاهلية، يجد مثلاً: (بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير). لا بد أن نتميز عن الكفار وأهل الجاهلية في ألفاظنا وعباراتنا وتحياتنا وتهنئة بعضنا لبعض.
النهي عن الدعاء بطول العمر والبقاء:(4/10)
يقع أيضاً في ألفاظ العامة الدعاء بطول العمر والبقاء، فتجد أحدهم يقول: أطال الله بقاءك، أو أطال عمرك، أو أدام الله أيامك، أو عشت ألف سنة.. وهكذا. هذا اللفظ مكروه، ولما سئل الإمام أحمد عن الدعاء بطول العمر؟ كرهه، وقال: إنه أمر قد فرغ منه، أي: أن عمر هذا الرجل قد كتب وهو في بطن أمه، كتب هذا العمر وانتهى وفرغ منه قبل أن يلد الرجل، فما فائدة أن تقول: أطال بقاءك، أو أطال عمرك، أو دامت أيامك، أو عشت كذا آلاف السنين.. إلى آخر ذلك من الأشياء المستحيلة. أو يقول بعضهم في جواب على كلمة حياك الله، يقول: أبقاك الله، وكلمة أبقاك الله كلمة مكروهة، لماذا؟ لأنه لا بقاء إلا لله، كل الناس سيموتون ويفنون: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:27] ولذلك يكره أن تقول: أبقاك الله، أو أدامك الله؛ لأن الله لن يديم أحداً ولن يبقي أحداً، كل الناس سيموتون. فلننتبه -أيها الإخوة- لهذه الألفاظ المشكلة أو المكروهة أو المحرمة، وتحذير الناس منها. وكذلك ما يفعل البعض في تعازيهم عندما يقولون: البقية في حياتك! هذه لفظة منكرة، لو كان هناك بقية هل مات الرجل؟ لو كان هناك بقية في عمر الرجل الذي مات هل كان سيموت؟ لا. ولذلك عندما تقول: البقية في حياتك، وهذه العبارة قد يقصد بها بقية عمر ذلك الرجل الذي انقطع، بقيته في حياتك أنت، وهذه لفظة منكرة مستبشعة فلا يقول شخص لآخر: البقية في حياتك، فأما إن قصد: بقية الخير وبقية البركة، فهذا لا إشكال فيه، ولكن كثير من الناس إنما يقصدون بهذه اللفظة بقية عمر الميت في حياتك أنت، وهذه مسألة غير جائزة، والدعاء فيها غير صحيح.
مخالفات شرعية في باب الرجاء:(4/11)
ويقع في ألفاظ العامة كذلك: رجاؤهم وتعلقهم بغير الله عز وجل، فتجد أحدهم في لحظة الحرج ولحظة الشدة، واللحظة التي يكون فيها في خطر محقق، يقول للآخر: أرجوك رجاءً حاراً، رجاءً خاصاً كذا وكذا من ألفاظ الترجي ألا تفعل كذا، وافعل كذا، بينما من المفروض أن يتوجه في هذه الحالة إلى الله تعالى لأنه هو الذي يرجى وحده عز وجل؛ لإزالة الضر وكشف الكربة وإزالة الخطر، وإن كان لا بد فيقول: أرجو الله ثم أرجوك، مثلاً. وهذه اللفظة (أرجوك) ليست محرمة إن لم يرجوه في عمل لا يقدر عليه إلا الله، إذا قال: أرجوك يا دكتور أن تشفي مريضي، هذا حرام وشرك؛ لأن الله هو الذي يشفي، أما لو قال: أرجوك -يا فلان- أن تذهب بهذه الحاجة إلى جيراننا، هذا لا إشكال فيه. لكن الرجاء الذي يكون في مجال أو في قضية لا يقدر عليها إلا الله فهو شرك بالله تعالى، ولهذا تجد بعض الأمهات الفارغات قلوبهن من الإيمان والتوحيد، وبعض الآباء الذين استزلهم الشيطان، إذا ذهبوا بولدهم وحالته خطيرة إلى الطبيب، يقول له: يا دكتور! أرجوك أنقذ الولد، فمن الذي ينقذ الولد؟ ومن الذي يشفي الولد؟ إنه الله. أيها الإخوة .. يقع في ألفاظنا وعباراتنا تساهلات شنيعة تؤدي إلى قضايا خطيرة إذا اعتقدها الإنسان تخرجه من الملة، ونحن عندما نقول هذه التحذيرات لا نقول: إن كل من تلفظ بها كافر. حتى لو كانت العبارة نفسها كفر، لماذا؟ لأن كثيراً من القائلين لا يقصدونها، لا يقصد المعنى، لا يعتقد بقلبه أن الطبيب هو الذي يملك الشفاء من دون الله. يعتقد أن الله يشفي ولكن هذه الأخطاء لا يسكت عنها مع ذلك، كون الناس الآن يقعون فيها بغير قصد أو بنية حسنة لا يعني أن نقول لهم: لا بأس استمروا على هذه الألفاظ لا. لا بد أن نحذر ونصحح هذه الألفاظ، حتى لو ما قصدنا المعنى لا بد أن تكون ألفاظنا صحيحة، لا تكون ألفاظنا شركية أو موهمة أو فيها اشتباه؛ لا بد أن تكون ألفاظاً واضحة دالة على التوحيد.(4/12)
وفقنا الله وإياكم لقول الحق وعمل الحق، وأن نكون من أهل الحق، وصلى الله على نبينا محمد.
ألفاظ في ميزان الشريعة:
الحمد لله لا إله إلا هو وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سيد الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
حكم مقولة: (شاءت الأقدار أو الظروف):
أيها الإخوة: يقع بعض الناس في ألفاظ مثل قولهم: شاءت الظروف، أو شاءت الأقدار، فتجده يقول: ثم شاءت الظروف أن يحدث كذا وكذا، وشاءت الظروف أن أجد فلاناً في مكتبه.. وهكذا، وهذا أيضاً من الأشياء المخالفة للتوحيد، فإنك لا بد أن تقول في كلامك: وشاء الله أن أجد فلاناً في مكانه، وشاء الله أن يقف لي على الطريق فلان الفلاني، وشاء الله أن يحدث كذا وكذا، فتنسب المشيئة إلى الله وحده سبحانه وتعالى.
حكم مقولة: (هذا الطائر وهبته الطبيعة كذا وكذا):(4/13)
يقع في ألفاظ بعض الناس المثقفين عبارات كفرية مثل قول بعضهم: هذا الطائر وهبته الطبيعة كذا وكذا، وهذا الحيوان وهبته الطبيعة المقدرة الفلانية.. من الواهب؟ إنه الله عز وجل. أيها الإخوة! عندما ننسب الوهب للطبيعة نكون قد وقعنا في عين ما تكلم به الشيوعيون وأهل الإلحاد الذين يعتقدون أن الطبيعة خلقت هذا الكون وخلقت هذه الحيوانات وخلقت الأرض والسماوات تعالى الله عن هذا القول علواً كبيراً. وهذا يكون من تأثر كثير من هؤلاء المثقفين كما يسمون بكتب الكفار الملاحدة التي كتبت وسبكت عباراتها بألفاظ الإلحاد والشرك، التي انطوت عليها قلوب أولئك الناس الذين لا يؤمنون بالله رباً، ولا بمحمد نبياً، ولا بالإسلام ديناً، ولذلك ينبغي عند نقل عباراتهم من هذه الكتب أن يحرص الإنسان المسلم على أن ينقل العبارات بصيغة إسلامية، وعلى أن يؤديها إلى السامعين تأدية تتقيد بالتوحيد وما يرضي الله عز وجل، وكذلك ما يرد في بعض هذه الكتب التي تسمى كتباً علمية من القوانين والقواعد المخالفة للتوحيد، مثل قولهم: إن المادة لا تفنى ولا تستحدث، هكذا يقولون، في علم الفيزياء مثلاً. وهذه القاعدة مخالفة للتوحيد، ومخالفة لقضية خلق الله للمادة، وأنه لم يكن هناك شيء، فخلق الله تعالى السماوات والأرض وخلق العرش وخلق الحيوانات وخلق الآدميين وخلق سائر ما يدب في الأرض والسماوات، والله تعالى قادر على أن يفني هذه الأشياء كلها ويرجعها إلى العدم إلى لا شيء مرة أخرى كما كانت. فلذلك قولهم: إن المادة لا تفنى ولا تستحدث، إنما هو من الوقوع في هذا الشرك المنافي للتوحيد، وهذا الكفر والضلال، ولذلك يجب على من درس شيئاً من هذه المواد، أن يبين لطلاب المسلمين وأبناء المسلمين خطأ هذه المعتقدات والقواعد الفاسدة.
حكم مقولة: (عباد الشمس):(4/14)
إن التسميات المخالفة للعقيدة قد وصلت إلى حد التسميات حتى تسمية الورود والأزهار، فأنت -مثلاً- إذا نظرت إلى هذا النبات الأصفر الذي يتوجه إلى الشمس، هناك نبات يزرع ويتوجه إلى الشمس إذا أشرقت، ويستدير معها حتى تغرب، فيكون متوجهاً إلى جهة الغرب في المساء وإلى جهة الشرق في الصباح. ماذا يسمي العامة هذا النبات؟ يسمونه: عباد الشمس، أو عبادة الشمس، وهذا اسم خطير، يقولون: إن هذا النبات يعبد الشمس، هذه الألفاظ ليست سهلة، ولكن مع ذلك فهي شائعة حتى في الأشياء الدقيقة، مثل تسمية الأزهار وغيرها. لا بد أن ننتبه إلى هذه القضايا المخالفة للتوحيد.
حكم قول: (مطرنا بنوء كذا):
عندما ينزل مطر من السماء تجد بعض العامة يقولون: هذا النجم، طلع النجم كذا، وتتعلق قلوبهم بأن الذي أنزل المطر هو ظهور النجم الفلاني، وليس هكذا أيها الإخوة، لذلك ورد في الحديث الصحيح عن الذين قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا، مطرنا بنجم كذا وكذا، هؤلاء قد أشركوا بالله تعالى: ( أصبح اليوم مؤمن بي وكافر بالكوكب، وكافر بي ومؤمن بالكوكب، فأما الذين قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهم مؤمنون بالكوكب كافرون بالله، وأما الذين قالوا: مطرنا بفضل الله وهذا المطر من الله وحده، فهم الذين أصابوا الحق وكانوا على ملة التوحيد ). ويقع عند بعض العامة أيضاً، أنه إذا نزل المطر بكثافة وأغرق أشياء يقولون: هذه قطرة ما وزنت، تعال الله عن ذلك، إن الله تعالى يقول: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8]، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:21] لا شيء ينزل من السماء بلا حساب ولا وزن، إن الله تعالى عنده خزائن هذه الأشياء ينزلها كيف يشاء، إن حصل غرق فهذا ابتلاء من الله، وعقاب لبعض عباد الله.
حكم قول: (ما صدقت على الله أن يحدث كذا):(4/15)
كذلك يقع في ألفاظ العامة قول بعضهم لبعض، أو قول بعضهم في حكاية يرويها: ما صدقت على الله أن يحدث كذا، أو: ما صدقت على الله أن تنتهي المشكلة، ما صدقت على الله أن أنجو من الحادث، ما صدقت على الله أن أنجو من الإحراج الفلاني.. وهكذا! هذه العبارات من العبارات المشكلة والموهمة، لماذا؟ لأنه قد يكون معنى ما صدقت على الله مثلاً، يكون معناها: أن هذا القائل يشك في قدرة الله، ما صدقت على الله أن يفعل كذا، كان يشك في قدرة الله ثم حصل، هذا احتمال، واحتمال آخر: أن يكون في هذه العبارة سوء ظن بالله.. كيف ذلك؟ كأن هذا القائل يقول: ما ظننت أن الله يخلص هذه المشكلة، أو ينهي هذه المشكلة، ولكن حصل، هذا يعني سوء الظن بالله عز وجل، وإن كان كثير من الذين يقولون هذه العبارة لا يعنون المعنى الفاسد والباطل، لكن لا بد من التصحيح، تقول مثلاً: ما صدقت أن يحدث كذا، ما ظننت أن يحدث كذا، لماذا تضيف عليها كلمة (على الله) وتقول: ما صدقت على الله، فتقع في هذه الإشكالات والعبارات الموهمة.
حكم قول: (الله يسأل عن حالك):
كذلك قول بعض أهل البادية، إذا جئته وقلت له: كيف حالك؟ يقول: الله (ينشد) عن حالك، أو الله يسأل عن حالك! أقول: الله عز وجل يعلم العلم كله، لا يحتاج إلى سؤال عن أحد، وتجد هؤلاء يقولون: الله يسأل عن حالك، كأنها عبارة يريدون أن يكرمون بها الشخص الآخر الذي سأل عن حالهم، وهذه عبارة خاطئة تخالف المفهوم الصحيح للعقيدة.
حكم قول: (الله على ما يشاء قدير):(4/16)
بعض الناس يقول: الله على ما يشاء قدير، من الألفاظ الموهمة التي تؤدي إلى تأكيد مذهب القدرية، الذين يقولون: إن هناك أشياء يشاؤها الله تحدث، وأشياء لا يشاؤها الله لا يستطيع أن يحدثها، ولذلك يقولون: الله على ما يشاء قدير، فهو إذن على ما لا يشاء ليس بقدير. هذه العبارة من الذرائع التي ينبغي أن تسد، وإنما نقول: إن الله على كل شيء -شائه أو لم يشئه-. على كل شيء قدير؛ لأن بعض الناس يفهمون أن الله فيفهم على ما لا يشاء ليس بقدير.
النهي عن اختصار بعض الألفاظ:(4/17)
كذلك يقع في ألفاظ العامة قولهم: لا حول لله، اختصار عبارات، يقع في بعض الأحيان اختصار عبارات، وتغييراً وتحريفاً فيها يؤدي إلى معانٍ قبيحة، مثل قول بعضهم: لا حول لله، أو لاحول الله، والصحيح: لا حول إلا بالله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أما أن يحدث الاختصار الشنيع: لا حول لله، أي: لا قوة لله، فهذا شيء مستبشع، أو يقول بعضهم عند التكبير: الله أكبار بمد التكبير، وما هو الأكبار أيها الإخوة؟ الأكبار جمع كبر وهو الطبل، فإذا قلت: الله أكبار كأنك تقصد: الله طبول، أو هذا مفهوم كلامك الذي يفهم منه، وإنما تقول: الله أكبر، بالفتحة وليس بالألف أكبار كما يفعل البعض. أو يقولون في الفاتحة: إياك نعبد، لا يقولون: إيَّاك نعبد بالتشديد، وإنما يقول: إياك نعبد، والإياك هو قرص الشمس، معنى ذلك: أننا نعبد قرص الشمس، والصحيح الموجود في كتاب الله: إيَّاك نعبد، بتشديد الياء. أو كما يفعل بعض المؤذنين اختصاراً يقول: حصلاة، بدلاً من: حي على الصلاة.. وهكذا، أو يقول بعض الناس الذين يحيون بعضهم يقول: كالله بالخير، أو ساك الله بالخير، أو الله بالخير ونحو ذلك، وهذا خطأ لأن هذه الكاف كاف التشبيه، كيف (كالله بالخير) عبارة خاطئة خطيرة لا بد أن نقول: مساك الله بالخير واضحة، ولا داعي للاختصارات، ما وراءك شيء يعجلك عن قول التحية بعبارة صحيحة كاملة، قل: مساك الله بالخير، لا تقل: كالله بالخير.
التحيات لله فقط:(4/18)
كذلك هناك من الأشياء ما هو من الأدب تركه، قد لا يكون حراماً في ذاته، ولكن من الأدب تركه، مثل عبارة: تحياتي لفلان، لا يعلم -كما قال بعض أهل العلم- أن جمعت التحية بالتحيات إلا لله وحده في التشهد: التحيات لله، فلذلك لا يستحب جمعها لأحد غير الله تعالى، فتقول -مثلاً-: تحيتي لفلان، أو أبلغ فلان تحيتي، ولا تقل: تحياتي، أو أبلغ تحياتي لفلان، لأننا نقول في التشهد: التحيات لله، أدباً مع الله. القضية واسعة ومتشعبة، وهناك ألفاظ وأمثال مخالفة للعقيدة مخالفة صريحة، أو فيها سوء أدب مع الله عز وجل على الأقل، ينبغي أن ننقح وندقق في هذه الألفاظ التي تخرج من الألسنة. وفقنا الله وإياكم أن نحصن ألسنتنا من الكذب والشرك والنفاق. اللهم طهر قلوبنا من الرياء، وألسنتنا من النفاق، وأعمالنا من الكذب، اللهم واجعلنا مخلصين العبادة لك، اللهم واجعلنا من أهل ملة التوحيد، أهل لا إله إلا الله، عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نلقاك يا رب العالمين. وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.(4/19)
( المدح )
عناصر الموضوع:
ما يترتب على المدح من فساد
علل وآفات يسببها المدح للمدوح
عادة السلف وأهل العلم في المدح
نهي الشرع عن مدح الموت
كيفية الاعتدال في المدح
المدح:
كثير من الناس اليوم يطلقون ألفاظ المديح والثناء ويكيلونها لكل أحد، حتى لو لم يكن أهلاً لها، بل ربما كان منافقاً أو كافراً والعياذ بالله. وهذه المسألة تؤدي إلى مخاطر على الشخص المادح والممدوح، سواء كان الخطر اجتماعياً أو في دين الشخص وعلاقته بربه عز وجل؛ لذا فقد جاء الشرع بضبط هذه المسألة ووضع الشروط الحاكمة لها دون إفراط أو تفريط.
ما يترتب على المدح من فساد:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
فساد اجتماعي:(5/1)
إخواني المسلمين: إحدى المشاكل الاجتماعية التي هي واقعة بكثرة في حياة المسلمين اليوم شيء مما يتعلق بعيوب اللسان، وهذا العيب وهذه الآفة تؤدي إلى مخاطر كثيرة، هذه الآفة: مسألة التمادح. كثير من الناس اليوم يطلقون ألفاظ المديح والثناء ويكيلونها لكل أحد حتى ولو لم يكن أهلاً لها، فتجد هذا يقول: فلان الفلاني كذا وكذا من ألفاظ المديح، وهذا الرجل من أفجر الناس ومن أفسق الناس، وقد يكون منافقاً أو كافراً والعياذ بالله. هذه المسألة أيها الإخوة! كيل الثناء والمدح لمن ليس له بأهل تؤدي إلى مخاطر كثيرة سواء على الصعيد الاجتماعي في قضايا الزواج مثلاً أو التعامل والوظائف، لأن الإنسان إذا مدح رجلاً فإنه يوثقه عند الآخرين، فقد يستخدمونه وهو ليس بأهل للاستخدام في هذا الجانب، وقد يؤدي إلى إفساد قلب الرجل ونيته؛ لأن كيل ألفاظ الثناء والمدح مما يخرب الإخلاص ويجرحه تجريحاً، ولذلك كان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المسألة بحسب ما جاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، وما ذكر العلماء في هذه القضية.
فساد الشخص نفسه:(5/2)
اعلموا رحمكم الله تعالى أنه قد ورد في الحديث الصحيح عن همام بن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد -أحد الصحابة وكان جالساً في المجلس- فجثا على ركبتيه وكان رجلاً ضخماً فجعل المقداد الصحابي يحثو في وجه المادح الحصباء، الحصى الصغير مع التراب يحثوه في وجه المادح، فقال له عثمان : (ما شأنك؟ ماذا جرى لك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) رواه مسلم . وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: [مدحك أخاك في وجهه كإمرارك على حلقه موسي رهيصاً] . كأنك تمرر على حقله موسى شديداً وحاداً جداً. ومدح رجل ابن عمر رضي الله عنه في وجهه، فقال ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب، ثم أخذ ابن عمر التراب فرمى به في وجه المادح وقال: هذا في وجهك، هذا في وجهك، هذا في وجهك، ثلاث مرات) أخرجه أبو نعيم ، قال في الصحيحة : السند جيد.
توضيح لكيفيةحثو التراب:(5/3)
هذا الفعل أيها الإخوة -حثو التراب في وجوه المداحين- من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا بد عند تطبيق الأحاديث من مراعاة أحوال الحديث، فهذا لا يقول لك بأنه إذا جاءك رجل يمدحك الآن فإنك تأخذ التراب وترميه في وجهه مهما كان حاله، كلا يا أخي! فلا بد من مراعاة حال المادح فقد يكون جاهلاً لأحكام المدح وما يترتب عليها، ثم إن ابن عمر رضي الله عنه من فقهه أنه علَّم الرجل أولاً وقرأ عليه الحديث ثم حثا في وجهه التراب. ثم أنك إذا رأيت بأن حثو التراب في وجه هذا المادح قد يباعد فيما بينك وبينه، ويصده عن الإسلام، ويمنعه من التأثر فيك أو الاقتداء بك فإن من الحكمة في هذه الحال عدم استعمال هذا، ليس تعطيلاً للحديث وإنما حكمة في الدعوة إلى الله، وترفقاً بالجاهل. وكذلك يا أخي المسلم! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا الحديث: (احثوا في وجوه المداحين) وأتى بصيغة المبالغة (المداحين) وهم الذين يكثرون المدح ويستعملونه بكثرة فيجعلونه صنيعهم ودأبهم الدائب. قال ابن العربي رحمه الله: وصورة تطبيق هذا الحديث أن تأخذ كفاً من تراب وترمي به بين يديه، وليس في وجهه فتعمي به عينيه، كلا، وإنما ترميه أمامه، لماذا؟ فإنك تقول له: ما عسى أن يكون مقدار من خلق من هذا. لماذا قال عليه السلام التراب؟ من الحكم أيها الإخوة: أنك تأخذ التراب وترميه أمامه وتقول له: أنا خلقت من هذا التراب، فهل أنا أهل لهذا المديح وما خلقت إلا من الطين؟ وأنت كذلك ما خلقت إلا من هذا التراب فاربأ بنفسك عن هذه الآفات التي تعرضك إلى ما لا يُحمد عقباه، وتعرف المادح قدرك وقدره. قال النووي رحمه الله: ومدح الإنسان قد يكون في غيبته وهو غير موجود، وفي وجهه، ففي الحالة الأولى إذا مُدح وهو غائب عن المجلس فإن هذا المدح لا يمنع منه إلا إذا دخل المدح في الكذب حتى ولو كان الممدوح غير موجود؛ لأنه يدخل في الكذب لا لكونه مدحاً. ويستحب كذلك أيها(5/4)
الإخوة: أن الإنسان إذا مدح ألا يبالغ حتى ولو كان الممدوح أهلاً لهذا المدح، كما سيمر معنا بعد قليل.
علل وآفات يسببها المدح للمدوح:
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة المدح فقال: (إياكم والتمادح فإنه الذبح) فإنه في خطورته مثل الذبح، مدحك لأخيك في وجهه مثل أن تذبحه بالسكين. رواه ابن ماجة ، وهو في صحيح الجامع . وقال أيضاً: (ذبح الرجل أن تزكيه في وجهه) هذا قوله عليه السلام، وهو حديث مرسل تشهد له أحاديث أخرى، وهو في صحيح الجامع . هذا المدح أيها الإخوة يسبب عللاً كثيرة وآفات كبيرة في دين المادح والممدوح، فلذلك سماه عليه الصلاة والسلام ذبحاً لأنه يميت القلب ويخرج الممدوح عن دينه، وفيه ذبح للمدوح أيضاً من جهة أنه يغره بأحواله ويغريه بالعجب والكبر، ويرى نفسه أهلاً للمدحة لا سيما إذا كان من أبناء الدنيا، لذلك قال بعض السلف : لو أن إنساناً صنع إليك معروفاً وهو يحب المدح والثناء والظهور بين الناس فلا تمدحه على صنيعه، لا تمدحه ولكن ادع له أدعية، مثلما قال عليه الصلاة والسلام: (من صنع لأخيه معروفاً فقال له: جزاك الله خيراً فقد أجزل في العطاء، أو فقد أجزل في الثناء) . الدعاء له لا بأس به، أما لو شعرت بأن هذا الرجل الذي صنع لك معروفاً وهو يحب من وراء هذا المعروف أن تمدحه وتثني عليه في المجالس، وتذكر سيرته أمام الناس ففي هذه الحالة لا تمدحه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ناهياً عن الإطراء وهو الزيادة في المدح، قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى) ما قال عليه السلام لا تمدحوني، ولكن قال: ( لا تطروني ) والفرق أيها الإخوة! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحق المدح، ومع ذلك فقد أوصانا بعدم إطرائه، والإطراء هو المبالغة في المدح حتى يرفعه فوق قدره ومنزلته التي أنزله الله إياها. ولذلك قال بعض العلماء: ويحرم مجاوزة الحد في الإطراء في المدح وترد به الشهادة. كان قضاة المسلمين إذا جاء رجل معروف(5/5)
بالإطراء والزيادة في المدح، وعادته الثناء على الناس بما ليسوا له بأهل كانوا يردون شهادته ولا يقبلونها. وهذه الحالة أيها الإخوة! معروفة في الشعراء كثيراً، ولذلك قال بعضهم: لا تؤاخي شاعراً لأنه يمدحك بثمن ويهجوك مجاناً، يمدحك ويأخذ أجراً على هذا الشعر، ولكنه إذا أراد أن يهجوك هجاك مجاناً، ولذلك وقع من جراء التمادي في المدح في بعض أشعار السابقين واللاحقين أشياء لا يرضاها الله تعالى، فمن ذلك قول الشاعر ابن هانئ الأندلسي ، وهو يمدح المعز المعبدي مخاطباً له، وصل به الإطراء إلى درجة أنه قال له هذا البيت مخاطباً إياه:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار:(5/6)
هذه الصفات لمن أيها الإخوة؟ هذه الصفات لله عز وجل، هو الذي يشاء ومهما شاء البشر فمشيئته نافذة، وهو الذي يحكم وهو الواحد القهار، وصل الحال بهذا الشاعر لدرجة أن خرج عن الملة بإطلاق هذه الألفاظ على عبد من العبيد. وروى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه : عن أبي موسى قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة -يبالغ في المدح- فقال: أهلكتم، أو قطعتم ظهر الرجل) وترجم عليه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الشهادات، قال معنوناً: باب ما يكره من الإطناب والمدح. وعن أبي بكرة رضي الله عنه: أن رجلاً ذُكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجلٌ خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك، ويحك، ويحك! قطعت عنق صاحبك يقول ذلك مراراً) . يقول له: ويحك قطعت عنق صاحبك (إن كان أحدكم مادحاً لا محالة -يقول عليه الصلاة والسلام موجهاً للأمة: إن كان أحدكم لا بد أن يمدح- فليقل: أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك) . ليس فقط أن يقول المدح، وهذا لا يعني أن يستاهل في المدح حتى ولو قال: أحسبه كذا لا بد أن يكون مصلياً حتى تقول: أحسبه من أهل الصلاة، أما إن كان غير مصلٍ فلا يجوز أن تقول له من أهل الصلاة حتى لو قلت قبلها أحسبه، لأنه ليس من أهل الصلاة، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إن كان يرى أنه كذلك، والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحداً) لذلك إن رأى إنسان أن يمدح إنساناً لحاجة شرعية أو مصلحة شرعية فليقل في مدحه: أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً أن الرجل هذا من أهل كذا. وبوب النووي رحمه الله تعالى على هذا الحديث باب: كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه وجوازه -يعني: بلا كراهة- لمن أُمن ذلك في حقه، وذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته.
شروط جواز المدح:(5/7)
شرط جواز المدح ألا يكون فيه مجازفة، فإذا كان فيه زيادة عن حال الرجل ومجازفة فإنه عند ذلك لا يجوز مطلقاً. وكذلك أيها الإخوة من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه فإن الممدوح لا يأمن على نفسه العُجب، فربما ضيع العمل والزيادة من الخير اتكالاً على ما وصف به، لو أنك أخذت إنساناً ومدحته وقلت: أنت كذا وكذا.. أمام الناس أو بمفرده ماذا يحصل لهذا الرجل؟ يحصل بسبب مدحك إياه بأنه قد وصل إلى منزلة عالية من الخير، وأنه عند الله في كذا وكذا، وأنه من أهل الجنة مثلا، هذا الشيء يدفعه إلى ترك العمل لأنه يشعر بأنه قد أمن على نفسه، وبأنه قد أصبح في المنزلة العالية، ولذلك قال العلماء: إن الرجل لا يعمل إلا إذا أحس بالتقصير، فأنت إذا مدحته مدحاً زائداً فإنك تزيل عنه التقصير من نفسه، تزيل عنه الإحساس بالتقصير فلذلك يتكاسل عن العمل ويتوانى، هذه أيها الإخوة من أضرار الإفراط في المدح. وأما من مدح إنساناً بما فيه وكان هذا الرجل من أهل الصلاح والتقوى، ولا يوجد عنده حب للظهور، أو لا يوجد عنده اغترار بالكلام الذي سيمدح به فإنه والحالة هذه لا يكره مدحه، ولكن هذا الأمر لعمر الله يحتاج إلى فراسة إيمانية لا تتوفر لكثير من الناس، لذلك كان الأحوط ألا تبالغ في المدح ولا تمدح إلا للضرورة الشرعية. ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في الفتح : وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة، بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب والممنوعة بخلافها. يعني: أنت أحياناً تضطر إلى المدح فماذا تقول في مدحك؟ فلان إن شاء الله من أهل الخير ما دام متمسكاً بالدين، أو ما دام متبعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الشرط أو التقريب ما دام متبعاً مهمٌ جداً لكي يكون المدح شرعياً وإلا كان إطلاق المدح: فلان من أهل الخير والصلاح هكذا تزكية ومدح بدون قيد أو شرط، هذا المدح يخشى أن يكون مما لا يرضي الله عز وجل، أو تقول: فلان نحسبه من كذا على سبيل(5/8)
التقريب، نحسبه من أهل كذا، هذه الصيغة لا بأس بها إذا احتاج الإنسان إليها.
ما يسببه المدح للمادح:
وكذلك فإن المادح نفسه يتضرر من وراء هذا المدح، فيضطر للكذب في المدح، وقد يضطر للرياء، وقد يرتكب منهياً عظيماً من المنهيات وهو يمدح إنساناً فاسقاً أو ظالماً، وقد يطلق الكلام لا على سبيل التحقق يقول: فلان من أهل كذا، وفلان صفته كذا وهو ما تحقق ولا تأكد؛ خصوصاً أيها الإخوة أن بعض الأشياء التي يمدح بها بعض الناس لا سبيل إلى التأكد منها مطلقاً، لأنها قد تكون أشياء قلبية، كيف اطلعت على قلبه لتقول هذا الرجل من المخلصين وإيمانه كامل، وكذا وكذا؟ والإيمان محله القلب ويصدقه العمل، أنت تحكم بالعمل فقط ولم تطلع على قلبه؟ وتحكم لفلان من الناس بكمال الإيمان وهي مسألة الحكم بها مستحيل لأنها تحتاج على اطلاع على القلب، وهذا ليس إلا لله عز وجل.
عادة السلف وأهل العلم في المدح:(5/9)
أيها الإخوة: بعض الناس قد يقول: فلان ورع، فلان تقي، فلان زاهد، هذا المدح ليس بصحيح، هذا بخلاف ما إذا قال: رأيت فلاناً يصلي، رأيت فلاناً يحج، رأيت فلاناً يزكي. لو طلب منك شهادة في فلان في مسألة زواج مثلاً، لا تقول: فلان ورع وتقي وعابد وزاهد وكامل الإيمان، ولكن تقول مثلاً: أنا رأيته يصلي، رأيته يدعو إلى الله على بصيرة، رأيت فيه علماً، فلا تطلق الألفاظ، تقول هذا الكلام مما يسهل الاطلاع عليه لأنه يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل الصلاة، يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل العلم وهكذا. وكذلك أيها الإخوة قال سفيان بن عيينة : إذا مدح الإنسان في وجهه ماذا يقول؟ (اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون) أخرجه البيهقي في الشعب . وتستنكر هذا المدح وتنكر على هذا الرجل هذا الكيل المتدفق في المدح لأنه مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلماؤنا من السلف رحمة الله تعالى عليهم كانوا لا يكيلون المدح جزافاً ولا يطلقونه إطلاقاً؛ بل إنك إذا رجعت إلى كتب الجرح والتعديل التي فيها تقييم لرجال الحديث؛ وجدت العلماء من السلف في هذا الجانب يدققون جداً، لا يقولون: فلان إمام عدل ثقة ثبت، ورع زاهد تقي عابد إلا إذا كان من أهل هذه المنزلة فعلاً، أما إذا كان فيه شيء آخر فإنهم يبينونه، فلذلك مثلاً يقول الذهبي رحمه الله في ترجمة إسماعيل بن سميع الكوفي : ثقة فيه بدعة، كونه ثقة ما منع الذهبي أن يقول: فيه بدعة، وكونه فيه بدعة ما منع الذهبي أن يقول عنه: ثقة وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85] قال عنه: ثقة فيه بدعة. وقال في ترجمة أبو سليمان داود المدني رحمه الله: ثقة مشهور له غرائب تستنكر، مع أنه ثقة مشهور لكن عنده غرائب تستنكر منه، ما منع الذهبي ثقة الرجل وشهرته أن يضيف هذه الإضافة: له غرائب تستنكر، لا بد من إنزال الناس منازلهم، وعدم إطلاق ألفاظ الثناء(5/10)
عليهم. مثال أخير: قال الذهبي رحمه الله في ترجمة طلق بن حبيب : من صلحاء التابعين إلا أنه يرى الإرجاء، وقال ابن حبان في نفس الرجل: كان عابداً مرجئاً، الإرجاء بدعة في الدين، وهو مذهب باطل إلا أنهم لما ترجموا لهذا الرجل قالوا: من صلحاء التابعين، هو صالح نعم، لكن عنده في فكره انحراف منهجي في قضية الإرجاء. ومن أعظم المصائب في قضية المدح: مدح المنافق والفاجر أو الكافر بقول سيد، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يرويه أحمد وأبو داود عن بريدة وهو في صحيح الجامع : (لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم) . قال العلماء في شرح الحديث: إذا قلت للمنافق يا سيدنا أو يا سيدي، وهذا الرجل سيد فعلاً عنده عبيد وعنده أموال وعنده جاه ومنصب، فإن قلت له: يا سيدي وهو منافق فعلاً فقد أسخطت ربك، فكيف إذا كان هذا المنافق ليس بسيد أصلاً، بل هو من عامة الناس، وهو منافق، وأنت تقول له: يا سيد أو يا سيدي؟! ولذلك قال النووي رحمه الله معنوناً على هذا الحديث: باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه، قال الشارح في دليل الفالحين : ونحوهما -يعني: الفاسق والمبتدع- من الظلمة وأعوانهم، وبعض الناس اليوم عندما يخاطب الكفار يقول له بلهجته أو بلغته الأجنبية: نعم يا سيد، كما يقول بعض الطلبة للمدرس الكافر يقول له: يا سيد! هذا أيها الإخوة داخل في الحديث حتى ولو قالها بلغة الكافر، وهذه اللفظة شائعة على ألسنة كثير ممن يتعاملون مع الكفرة، لماذا هذا النهي وهذا التعظيم وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فقد أسخطتم ربكم) قال الشارح رحمه الله: لأن فيه تعظيماً لمن أهانه الله، الله عز وجل يهين منافقاً أو مبتدعاً أو فاجراً ويتوعده في كتابه بالنار والعذاب والإهانة في الدنيا والآخرة، وأنت أيها المسلم تأتي وترفع هذا الرجل إلى مرتبة السيادة، إنه لأمر عجيب فعلاً! وهذا الشيء مقيد بمن لا يكون(5/11)
على نفسه ضرر في أهله أو ماله فلا كراهة حينئذٍ، وقوله: (فقد أسخطتم ربكم) أي: عظمتم من خرج عن عبودية الله واتخذ له ضداً ونداً، وكذلك العصاة فإنهم اشتركوا مع المنافق في الخروج من حزب الرحمن والانتظام في إخوان الشيطان. هذا أيها الإخوة لا يجوز بحال، كثير من المسلمين اليوم يعظمون الفجار والفسقة والمبتدعين والمنافقين ويكيلون لهم ألفاظ الثناء والمدح بغير حساب. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم هذه الآفات، وإن يرزقنا وإياكم العدل في القول والعمل، وألا نبخس الناس أشياءهم، وصلى الله على نبينا محمد. أستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
نهي الشرع عن مدح الموت:(5/12)
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أقام الله به الملة العوجاء، ودعا الناس إلى لا إله إلا الله وعلمهم ما ينفعهم في الدنيا والأخرى. أيها الإخوة: ومما يتعلق بالموضوع كذلك: ما تراه أيها المسلم أحياناً في نعي الجرائد، فإن كثيراً من الناس إذا ذهب ينشر نعياً عن ميت من أصحابه أو من أهله، تراه يقول مثلاً في مطلع النعي: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:27-28] أو يقول في لقب: انتقل إلى رحمة الله فلان، أو يقول: المغفور له فلان قد مات في كذا وكذا، أو يقول: الشهيد فلان، أو مات شهيداً ونحو ذلك، إلى آخر ذلكم من الآيات التي يصدر بها النعي، وإلى آخر ذلك من الألفاظ: المرحوم فلان. يا أخي المسلم ما يدريك بأنه مرحوم؟ ما يدريك لعله انتقل إلى غضب الله وعذابه بدلاً من أن ينتقل إلى رحمته؟ ما يدريك لعل نفسه أمارة بالسوء وليست نفساً مطمئنةً؟ كيف تحكم عليه؟ كيف تحكم عليه بهذه الأحكام فتقول هذا صاحب النفس المطمئنة: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:28-30] ما يدريك أنه قد دخل الجنة عندما مات؟ ما يدريك بأن الله قد غفر له أو لم يغفر له؟ ما يدريك بأنه شهيد؟ ربما كان غير شهيد. فلذلك أقرأ عليكم أيها الإخوة هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله، والذي يوضح لك بجلاء خطأ ونكارة ما يفعله الناس اليوم في هذه الأمور. عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء الأنصارية -امرأة من الأنصار- قالت: لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة ، كانوا فقراء ليس عندهم مأوى ولا مكان يبيتون فيه، إخوانهم الأنصار كانوا يحرصون عليهم أشد الحرص، فتقول المرأة: اقتسموا المهاجرين قرعة، كل واحد من الأنصار قال: أنا أريد فلان أنا(5/13)
أريد فلان، والمهاجرين قلة في العدد أقل من الأنصار، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قسمها بالقرعة، يأتي برجل من المهاجرين، فيقرع بين الأنصار فيخرج هذا من نصيب فلان فيأخذه معه في بيته، ويسكنه ويكرمه ويطعمه، قالت هذه المرأة رضي الله عنها: فصار لنا عثمان بن مظعون المهاجري رضي الله تعالى عنه، وأنزلناه في أبياتنا، أكرمناه فوجع وجعه الذي توفي فيه، نزل به المرض والوجع الذي أدى به إلى الوفاة، فلما توفي غسل وكفن في أثوابه، تقول هذه المرأة التي أضافت هذا الرجل: ما علمت منه إلا كل خير، أي أنها ما رأته إلا عابداً مجاهداً في سبيل الله، تقول: رحمة الله عليك يا أبا السائب -وهي كنية عثمان بن مظعون - حتى هنا الكلام صحيح ودعاء بالرحمة له، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي أنت يا رسول الله! فمن يكرمه الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين -أي: الموت- والله إني لأرجو له الخير) . انظروا إلى التصحيح والتعليل، المرأة قالت: شهادتي عليك لقد أكرمك الله، ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ( والله إني لأرجو له الخير ) فلو قلت مثلاً: أرجو أن يكون فلاناً من أهل الجنة، أرجو أن الله قد أكرمه، نسأل الله أن يغفر له ذنوبه، نسأل الله أن يبلغه عليين، إلى آخر ذلك من ألفاظ الدعاء للميت، فلا بأس، لكن إطلاق الحكم له بالجنة وإطلاق الحكم له بالمغفرة أو الشهادة هذا مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة ، لأن من عقيدتهم أنهم يقولون: لا يجوز الحكم لمعين بجنة أو نار إلا من حكم له الوحي، فإذا حكم الوحي لأبي بكر أنه من أهل الجنة فنحن نقطع أنه من أهل الجنة، إذا حكم القرآن أن أبا لهب في النار قطعنا بأنه في النار، أما غير ذلك من الأشخاص لا نقطع لهم بجنة أو بنار إلا ما ورد في الوحي، بل نقول: إن فلاناً عمله من عمل أهل الجنة، وفلان عمله من(5/14)
عمل أهل النار، وهكذا. ثم قال عليه الصلاة والسلام مكملاً حديثه: (والله إني لأرجو له الخير، ووالله -انظروا أيها الإخوة إلى هذه العبارة- ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي) . ولذلك تقول هذه المرأة: فما زكيت بعده أحداً أبداً.
كيفية الاعتدال في المدح:
نقطة أخيرة في هذا الموضوع: عندما نقول بالنهي عن المدح والتمادح والثناء فلا نعني أيها الإخوة بأي حال من الأحوال الجفاف في معاملة الناس، وعدم الثناء على من يستحق الخير، وأنه إذا ورد أمامنا ذكر عالم أو رجل من المخلصين ألا نقول له كلمة مدح أو ثناء البتة، كلا أيها الإخوة، ولا يعني ذلك أيضاً أننا في حال الدعوة إلى الله لا نترفق بالناس، ونستثير كوامن الخير في أنفسهم بالثناء على ما فيهم من الخير، أنت كداعية عندما تريد أن تدعو إلى الناس لا تذهب إلى الرجل وتقول في وجهه: افعل كذا وكذا بدون مقدمات تستثير بها عاطفته وتفتح قلبه، فمثلاً تقول للرجل: أحسب أنك من أهل الخير.. هلا فعلت كذا وكذا، أحسب أنك من أهل طاعة الله لم لا تفعل كذا؟ أو تقول مثلاً لرجل وهو يصلي: يا أخي أنت من أهل الصلاة والحمد لله، وفيك خير كبير، وفيك إيمان ما دمت أنك من أهل الصلاة، لماذا لا تكمل هذا الإيمان بالإقلاع عن المعصية الفلانية والفلانية؟ وقد قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس ... عيباً كنقص القادرين على التمام(5/15)
هذا الأسلوب أيها الإخوة مطلوب، تشجيع طلبة العلم أثناء تعليمهم بقول المعلم للرجل: أحسنت مثلاً، والثناء عليه لا بأس بذلك، تشجيع الناس الذين يفعلون الخير بالكلمات الطيبة لا بأس بها، بشرط أن يؤمن بأنهم لن يأخذوا كلامك هذا ويفسد نياتهم ويتركون العمل، وذلك بأن تقتصد في المدح وتعطي كل رجل الألفاظ المناسبة لحاله بغير أن تخرجه عن الحد المشروع. ولذلك أيها الإخوة أبو سفيان المشرك لما أسلم رضي الله عنه، كيف أسلم؟ من الأسباب التي دعته للإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنزله منزلة فيها إظهار لبعض قدره حتى يؤلف قلبه على الإسلام، فلذلك قال عليه السلام مخاطباً أهل مكة: (من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن) لماذا قال هذه الجملة؟ قالها إعطاء لهذا الرجل شيئاً من المنزلة لعل الله أن يهديه، فأصاب أبو سفيان هذه المنزلة تأليفاً لقلبه، وهذا قدوة نقتدي بها أيها الإخوة في باب الدعوة إلى الله عز وجل. وفقنا الله وإياكم لمعرفته حق المعرفة، وعبادته حق العبادة، وأن نقوم بحقوق الله جل وعلا، وأن نقيم حدوده عز وجل في أعمالنا وجوارحنا وألسنتنا، ونسأله تعالى أن يقينا وإياكم آفات اللسان فإنها مهلكة. اللهم اجعلنا من الطائعين لك سراً وجهراً، ومن القائمين بحقوقك في الليل والنهار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.(5/16)
( السامري دروس لأهل التربية )
عناصر الموضوع :
قصة موسى مع قومه
من قصة السامري
الأسئلة
السامري دروس لأهل التربية:
لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في أكثر من سورة، وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، وهذه القصة فيها الكثير من الدروس والوقفات لأهل التربية.
قصة موسى مع قومه:
الحمد لله الذي هدانا إلى الإسلام دين الله القويم، ومَّن علينا بإرسال أفضل الأنبياء والمرسلين بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة وداعياً إلى الله بإذنه، فتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه، وموسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وهو ثالث أفضل رسول في البشرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، كان كل نبي يعيش مع قومه حتى يهلكهم الله وينجو بمن ينجو من أهل الاتباع والإسلام، لكن موسى عليه السلام عاش حياتين؛ عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، ومات موسى وبني إسرائيل في التيه.
إغراق فرعون وجنده:(6/1)
لقد عانا موسى عليه السلام معاناة شديدة جداًَ، وصبر وكان ذا شخصية عظيمة، وجاهد في سبيل الله وقدم أشياء كثيرة، وهيأه الله سبحانه وتعالى واصطنعه لأجل القيام بهذا الدور العظيم في جهاد فرعون وقومه ثم في قيادة بني إسرائيل، وجاهد موسى عليه السلام وقال كلمة الحق عند الملك الظالم الذي ادعى الربوبية والألوهية، وخلص ببني إسرائيل إلى البحر وأتبعه فرعون بجنوده، فلما نظر بنو إسرائيل وراءهم فرعون وجنوده، قال أصحاب موسى: إنا لمدركون لا محالة، وسيقضى علينا، ولكن موسى عليه السلام قال: كلا. لا يمكن أن يحصل ذلك ولو كانوا وراءنا بمسافة بسيطة: قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] وأوحى الله إلى موسى فضرب بعصاه البحر فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، كان جبلاً كبيراً عن اليمين والشمال وفي الوسط درب أيبسه الله؛ لأن قاع البحر طين لكن الله أيبسه، وأمره أن يسلك في البحر يبساً لا يخاف دركاً ولا يخشى، ودخل موسى ومن معه في هذا الطريق، وعبروا إلى الجانب الآخر، ولما وصل فرعون وجنوده إلى المكان فوجئوا بهذه القضية، فضرب فرعون فرسه ومشى وتشجع وأظهر الجلد، ومشى في ذلك الطريق، ولما استكمل دخول فرعون وجنوده في هذا الدرب أطبق الله عليهم البحر، فعاد كما كان فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ فصار الماء فوقهم بمسافة، فأعلاهم وأغرقهم وقضى الله على ذلك الطاغية وجنوده جميعاً. عبر موسى البحر ومعه بنو إسرائيل الذين نجاهم الله وامتن عليهم بأن نجاهم من فرعون وجنوده.
السامري وتشكيله للعجل وافتتان بني إسرائيل به:(6/2)
ثم إن الله سبحانه وتعالى واعد موسى عليه السلام، كما قال سبحانه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه:80] لما نجاهم من عدوهم فرعون وأقر أعينهم منه، واعد الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام وبني إسرائيل على جانب الطود الأيمن عند الجانب الأيمن من الطور، ولكن موسى عليه السلام استبق قومه للقاء الله سبحانه وتعالى، وسأله ربه عم أعجله؟ فقال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] لتزداد عني رضاً، ولما سأله ربه: لماذا سبق قومه؟ قال: هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي [طه:84] قادمون سينزلون قريباًً من الطور، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أنه قد فتن قومه بعبادة العجل في أثناء غيابه، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148] كان بنو إسرائيل قد استعاروا من القبط -وهم سكان مصر الفرعونيين- استعاروا منهم حلياً ولما هرب بنو إسرائيل أخذوا معهم الحلي؛ لأن هذه أموال محاربين فهي جائزة للمسلمين أخذوها معهم وعبروا بها، وكان هناك رجل، قيل: إنه ليس من قوم موسى ولكنه من طائفة تعبد البقر، يقال له: السامري دخل معهم، ولما ألقى بنو إسرائيل هذا الذهب في الحفرة تحرجاً منه، وقالوا: كيف نأخذه معنا وهي أموال مسروقة، لما وضعوها في الحفرة كان السامري قد رأى أثر فرس جبريل فأخذ منه قبضة من وطأة الفرس على التراب، فألقاها في الحفرة التي فيها الذهب؛ فشكل لهم منه عجلاً من الحلي، ثم ألقى هذه القبضة من التراب من أثر فرس جبريل، فصار العجل له صوت -وهو الخوار: صوت البقر- قال الله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ(6/3)
بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148] فوبخهم ربهم، قال: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148]. وأخبر الله سبحانه وتعالى موسى أنه قد فتن من بعده وأضلهم السامري ، قال بعض المفسرين: إن هذا العجل من لحم ودم، وقال بعضهم: إنه لم يزل على طبيعته الذهبية إلا أنه يدخل فيه الهواء ويخرج؛ فيكون له صوت كصوت البقر فافتتنوا به أيما افتتان، وقالوا لبعضهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] وبخهم الله على ذلك (وحبك الشيء يعمي ويصم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود ، لما افتتنوا به أحبوه وتغلغل فيهم، فلم يكونوا على استعداد لتركه.
عتاب موسى لهارون عليه السلام ... :(6/4)
اختصرت القصة في سورة الأعراف، فقال الله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:149] فاعترفوا بالذنب بعدما تبين لهم وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً [الأعراف:150]، والأسف: هو أشد الغضب، قال موبخاً لهم: بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [الأعراف:150] بئسما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن تركتكم: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150] استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله سبحانه وتعالى، وألقى الألواح التي أعطاه الله إياها وأنزلها في جبل الطور.. أعطاه الله التوراة مكتوبة في الألواح، فلما رأى موسى ما حلَّ بقومه ألقى الألواح غضباً على قومه وليس إهانة للألواح، وهذا قول الجمهور من أهل العلم وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150] لأنه كان قد استخلفه على قومه خوفاً من أن يكون قد قصر في أمرهم ونهيهم، ولكن أخاه توسل إليه قائلاً: قَالَ ابْنَ أُمَّ [الأعراف:150] يا بن أم! أنا وإياك من بطن واحد: لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] ولا تشدني شداً إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الأعراف:150] أنا لست قوياً مثلك، فالقوم استضعفوني وما أعاروني اهتماماً ولا سمعوا كلامي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف:150] وصل الأمر بهم إلى مقاربة قتل هارون، وبنو إسرائيل معروفون بقتل الأنبياء، فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ [الأعراف:150] توبخني أمام الناس وتجرني أمامهم، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150] تخلفني معهم وتسوقني مساقهم، وقال له: ابن أمَّ لتكون أرأف وأنجع عنده، مع أنه شقيقه من أبيه وأمه، لكن عندما ناداه بالأمومة لأجل أن يكون هناك(6/5)
عاطفة -يستجر العاطفة من موسى عليه السلام- وقد ذكر ابن كثير رحمه الله هذه النقطة في كتابه العظيم البداية والنهاية وفي التفسير، قال: ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هنا أرق وأبلغ -أي: في الحلول والعقل- لما تحقق موسى عليه السلام من براءة ساحة هارون، وأخبره هارون بما صنع في غيابه من مجاهدة هؤلاء القوم، قال موسى عليه السلام: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]، ثم قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:152-154] وابتدأ في السير مع بني إسرائيل من جديد، والصحيح أن الألواح لم تتكسر إنما مجرد الإلقاء، ثم جمعها موسى مرة أخرى وأخذها ليقود بني إسرائيل بمقتضاها. وجاءت هذه القصة -أيضاً- في سورة طه بتفصيل أوسع، فقال الله سبحانه وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [طه:80-81]، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً(6/6)
[طه:83-86] أي: حزيناً شديد الغضب على ما صنع قومه من بعده، وخبر الله لموسى صدق أنه قد يُفتن القوم في غيابه فرجع إليهم، فقال لهم: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه:86] أنجاكم من عدوكم وأنعم عليكم وأكرمكم، أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ [طه:86] في انتظار ما وعدكم الله أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ [طه:86] "أم" هنا بمعنى: بل، أي: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [طه:86] لما وبخهم على عبادة العجل، فإنهم اعتذروا بعذر فارغ سخيف غير مقبول على الإطلاق، وهو قولهم: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا [طه:87] ملكنا، أي: قدرتنا واستطاعتنا واختيارنا، كأنهم مكرهين على ذلك ليس لهم إرادة، وأخبروه أن المسألة تورع منهم عن الذهب الذي كانوا قد أخذوه من الفرعونيين وحلي الفضة التي استعاروها منهم عند خروجهم من مصر ، فقذفناها وألقيناها عنا، فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [طه:87-88] صنعه لهم، (( فَقَالُوا الضلال منهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] فنسي، قيل: فيها ثلاثة أقوال: الأول: أن موسى نسي ربه هاهنا، وذهب يطلبه عند الجبل، والعياذ بالله. الثاني: نسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم. الثالث: أن الذي نسي هو السامري أي: ترك ما كان عليه من الإسلام ورجع إلى ما كان عليه قومه من عبادة البقر. السامري الذي صنع لهم العجل وفتنهم به لا تزال طريقته موجودة إلى الآن، وهناك طائفة من اليهود عباد العجل يعلقون في رقابهم بقرة صغيرة، يمكن أن يراهم الشخص وهم يعلقون في رقابهم سلسلة فيها عجل أو بقرة صغيرة، وقيل: إنهم لازالوا يقولون عبارة: لا مساس، ويرددونها في ترانيمهم أو أذكارهم التي يزعمون أنهم يعودون بها، قال الله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ(6/7)
قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه:89] هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يرد عليهم إذا خاطبوه، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً في دنياهم ولا في أخراهم، فحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة الكفر، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير مع أنه جائز لهم؛ لأن هذه من أموال المحاربين أخذوها منهم، وقد أثبت الله تعالى أن هارون في غيبة موسى كان حريصاً عليهم، وأنه كان مقاوماً للشرك فيهم، ولذلك قال الله عز وجل: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ [طه:90] البيان لم يحصل من موسى فقط بل حصل من قبل من هارون، فقال: هذه فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن وليس هذا العجل، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي [طه:90] فيما آمركم به وأنهاكم، وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طه:90] ولكن هؤلاء الشرذمة أصروا على عبادة العجل، وقالوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ [طه:91] وكانوا هم الأغلبية، ثبت مع هارون أناس لكن ما استطاعوا أمام هذا الطوفان من الأشخاص الذين يريدون عبادة العجل أن يغلبوهم، بل إن الطائفة الأخرى هي التي غلبت حتى كادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91] نحن نسمع كلام موسى فقط، كلامك عندنا غير مقبول ولا نأخذ به، وسنبقى على عبادة العجل حتى نرى موسى ماذا يقول، وحاربوا هارون وكادوا أن يقتلوه. توجه موسى عليه السلام إلى أخيه هارون بالخطاب: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:92-93] وأخذ برأس أخيه يجره إليه كما حصل وتقدم في سورة الأعراف، وشرع يلوم أخاه هارون: لماذا لم تخبرني بهذا الأمر أول ما حصل؟ لماذا لم تتبع آثاري وتأتي إلي وتخبرني بما حصل؟ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:93]؛ لأن موسى قال(6/8)
لأخيه: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] هذه وصيته لأخيه هارون قبل أن يفارقه، قال: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، فلما عاتبه قال: أفعصيت أمري الذي كنت أمرتك به؟ قال: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] كانت لحية هارون وافرة، وهذا رد على الذين يحلقون اللحى، ويقولون: حلق اللحية من سنن المرسلين، وهارون كانت لحيته وافرة، ولذلك استطاع موسى أن يأخذه منها وأن يقبض عليها لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] وأنها أقل ما فيها أنها قبضة يمكن أن تقبض. قال هارون مجيباً عن السبب: لماذا لم يتركهم ويلحق بموسى، ويقول: حصل كذا وكذا الحق بالقوم؟ قال هارون: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ [طه:94] إذا لحقت بك لأخبرك عما حصل، كنت أخشى أن تقول لي: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْر
النقاش الذي دار بين موسى والسامري:(6/9)
قال موسى وهو ملتفت إلى السامري : فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ [طه:95] انتقل الحساب إلى السامري، كان موسى ينتقد بسرعة وبحزم للقضاء على هذه الفتنة، قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ [طه:95] ما حملك على ما صنعت؟ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ [طه:96] رأيت شيئاً لم يره القوم، رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرسه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه:96] من أثر الفرس، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم كما يقول ابن كثير رحمه الله: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه:96] من تحت حافر فرس جبريل، والقبضة ملء الكف، فأخذتها وخبأتها عندي، والشيطان يسول للسامري ويخطط له ويلهمه الأشياء، وألقى الشيطان في روع السامري أنك إذا ألقيت القبضة على هذا الحلي بعدما تصنعه عجلاً سيكون له صوت ويفتن به القوم، فألقى هذه القبضة عليه، وكان عجلاً له خوار، قال: فَنَبَذْتُهَا [طه:96] أي: ألقيتها؛ لأن بني إسرائيل جمعوا الحلي وجعلوا يلقونه في الحفرة، فجاء هذا وألقى معهم، وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه:96] أي: حسنت نفسي هذا الشيء وأعجبها، قال موسى للسامري: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طه:97] كما أخذت ومسست ما لم يكن أخذته من أثر الرسول لتفتن به الخلق، فعقوبتك من جنس عملك أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طه:97] لا تمس الناس ولا يمسونك فتكون مقبوحاً منبوذاً طريداً، لا أحد يريدك ولا تستطيع أنت أن تقترب من أحد وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً يوم القيامة لَنْ تُخْلَفَهُ ولن تغيب عنه وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ ومعهودك هذا الذي فتنت به الناس (( الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً )) ومقيماً على عبادته لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [طه:97] حرقه في النار إذا كان من لحم ودم، أو برده بالمبارد إذا كان من ذهب حتى صار ذرات، ثم(6/10)
أذرى الرماد هذا أو الذرات في هواء في البحر ليفرقه الهواء في ماء البحر فيتلاشى تماماً ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [طه:97]، ثم قال موسى عليه السلام لقومه: إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه:98]. وقد جاء تفصيل لهذه القصة في حديث الفتون الذي رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، لكن الراجح أن هذا الحديث من الإسرائيليات، فلذلك نبقى على ما جاء في الكتاب العزيز.
عقوبة عبدة العجل: ...(6/11)
هذه عقوبة السامري، فما هي عقوبة الذين عبدوا العجل؟ وما هي عقوبة الذين سكتوا؟ وما هي عقوبة الذين لم ينكروا المنكر؟ قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51] لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف:142] بعد خلاصهم من قوم فرعون ونجاتهم من البحر، أنزل الله عليه التوراة، وهذا -أيضاً- بعد خروجهم من البحر، واتخذوا العجل، فماذا قال موسى لقومه عن قضية توبتهم من عبادة العجل؟ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] هذه هي الطريقة الوحيدة للتوبة من عبادة العجل، حين وقع في قلوبهم عبادة العجل والشرك والكفر بالله يقولون: الله هو هذا العجل، ما أسفه عقولهم! قال تعالى: فلمَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا [الأعراف:149] فعند ذلك قال موسى: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة:54] الذي خلقكم؛ لعظم جرمكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54] لا بد أن تقتلوا أنفسكم، لا بد أن يقتل بعضكم بعضاً، وفي هذا وردت عدة آثار عن السلف رحمهم الله تعالى، فمما ورد عن ابن عباس قال: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كلما لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن. وكذلك جاء أنهم أخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلة شديدة، أي: أظلم الجو في ظلة أرسلها الله حتى لا يرى(6/12)
بعضهم البعض عند القتل، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلة عن سبعين ألف قتيل، وتاب الله على القاتل والمقتول؛ لأن القتل كان هو التوبة، كل شخص يرفع السيف على الآخرين ويقتل من يلقى، بهذه الظلة أو بهذه الظلمة لم يعد أحد يرى من أمامه فيقتل من يلقاه من ولد ووالد وقريب وصاحب، لا يدري من أمامه فيقتله، فجعل بعضهم يقتل بعضاً، وربما قتل الولد أباه، وربما قتل الأب ولده أو عمه وخاله.. وهكذا. وقال بعض السلف: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى أوقف الله ذلك بأمر منه، فانكشف عن سبعين ألف قتيل. وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فأمسك عنهم القتل فجعله لحيهم توبة، ولمقتولهم شهادة. وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة الحندس؛ أي: الحديدة، فقتل بعضهم بعضاً، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك. وجاء -أيضاً- في كلام بعض السلف: كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. فقال الله سبحانه وتعالى: فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54]. أصاب موسى الحزن على قومه، لكن الله عز وجل أخبره أنه تاب عليهم، وأن المقتول شهيد، والباقي تاب الله عليهم. فانتقلوا بعد ذلك إلى المرحلة التي تليها في قصة موسى مع بني إسرائيل. هذه خلاصة قصة العجل، وكيف انتهت هذه النهاية المأساوية التي كان يجب عليهم للتوبة أن يقتل بعضهم بعضاً، حتى كاد بعضهم أن يفني بعضاً.
من قصة السامري:
وعند هذه القصة العظيمة التي أخبرنا الله عز وجل عنها لنا وقفات نقفها، ودروس نأخذها:
أثر الاستعباد على النفوس:(6/13)
هؤلاء القوم -بنو إسرائيل- ألفوا الاستعباد الطويل.. استعبدهم فرعون سنين طويلة جداً، ومع هذا الاستعباد والذل الطويل في ظل الفرعونية الطويلة فسدت طبيعة القوم وهذا شيء متوقع، وصار في كيانهم النفسي خلخلة، والاستعداد للانقياد لكل ناعق، فما كاد موسى يترك قومه ويبتعد عنهم قليلاً حتى تخلخلت عقيدتهم، وانهارت أمام أول اختبار، إنهم لما عبروا البحر وجدوا أناساً عاكفين على أصنامٍ لهم: قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] الآن أنجاكم الله قبل قليل.. الآن النعمة عليكم واضحة جداً، تقولون: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة! ما رأيتم بأعينكم صنيع الله وفضله عليكم حتى تطلبوا أن يجعل لكم آلهة، فما أعجب التواء تلك النفوس! فما من عجب أن الله يضرب عليهم الذل والضعف، وأن يغلبهم الناس ويقهروهم ويستحقرونهم إلى قيام الساعة إلا فترات يسيرة جداً في التاريخ، منها: الفترة التي نعيشها الآن التي بلغت الذروة في تسلط اليهود، وإلا فاليهود على مر التاريخ محقورين منبوذين حتى إذا أراد الواحد أن يسب واحداً قال: يا يهودي. فطبيعة بني إسرائيل ما كانت تستقيم وإنما تلتوي دائماً، وما كان موسى عليه السلام ينتهي من محنة معهم إلا ويدخل في محنة جديدة، ولذلك عندما نعدد الانحرافات التي أصابتهم: اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] وعبدوا العجل، قالوا: المن والسلوى لا نريده، نريد بصلاً وثوماً وقثاء، حتى في الأكل مزاجهم منحرف، شخص يترك المن والسلوى ويقول: أعطنا ثوماً وبصلاً وقثاء -كراث-؟! ثم بعد ذلك يقولون: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] وبعد ذلك قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة، فقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].. إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا(6/14)
[المائدة:22] ثم ما أشد وقاحتهم حينما قالوا: لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] نحن ننتظر الفتح إذا فتحتوها ادعونا لدخولها. وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم، يرون الآيات تلو الأخرى وليست هناك فائدة، وفي النهاية لما امتنعوا عن دخول القرية، حكم الله سبحانه وتعالى عليهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة يخرجون من الصباح للبحث عن منفذ ولا يأتي عليهم المغرب إلا ويجدون أنفسهم في نفس المكان الذي ذهبوا منه في الصباح، ومات موسى وفي نفسه أشياء على بني إسرائيل، مات موسى وبنو إسرائيل في التيه مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة:26] وسأل موسى ربه أن يدفن في الأرض المقدسة، فجعله الله يقبض هناك ويموت في الأرض التي كان يتمنى أن يدخلها مع بني إسرائيل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو شئتم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر) في داخل أرض فلسطين. ومن هذه القصة نأخذ عدداً من الفوائد: منها: هذه الطبيعة الملتوية لبني إسرائيل. ومنها: كيف أن هذا النبي الكريم صابر وجاهد بهذه النفوس الملتوية، وأراهم الله آيات ومعجزات على يديه ومع ذلك ما استجابوا ولا انقادوا، كان فيهم صلحاءً كان فيهم قوم مستقيمون كان فيهم أناس رفضوا عبادة العجل مع هارون لكن ليس هم الأكثرية وإنما هم الأقلية، وحتى الصفوة الذين أخذهم لميقات لقاء الله قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153] طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى. من الدروس التي نأخذها من هذه القصة العظيمة: أن الاستعباد يخرب النفوس، ويجعلها تنقاد بسهولة لأي مخرف وناعق، والاستعباد من أشنع الأشياء.. استعباد الشعوب وتربية الناس تربية العبيد، ولا شك أن هذا النوع من التربية يجعل الناس أذلاء صاغرين خائفين، يمكن أن يضحك عليهم أي إنسان ويقودهم، ولذلك ترى الناس أحياناً رعاع همج إلا(6/15)
من رحم الله، يتبعون كل ناعق، لو جاء أحد فنعق بهم يميناً أو شمالاً ذهبوا معه، هذه نتيجة تربية الناس تربية العبيد وليس تربية الأحرار، هذه نتيجة الإذلال والكبت والضغط، ونتيجة التخويف، والتجويع؛ وهذه الأشياء يمارسها الطواغيت مع الناس لتركيعهم وإذلالهم، فإذا فقه دعاة الله بهذه النقطة عرفوا كيف يربون الناس تربية القادة وتربية الأحرار لا تربية العبيد، كان ذلك من أسباب نقلهم من عالم الضلال إلى عالم الهدى، ومن عالم الكفر إلى عالم الإيمان، ومن عالم الذل إلى عالم الحرية، ولذلك لما ذهب ربعي يخاطب رستم: [إن الله ابتعث هذا النبي لينقذنا به من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام] .
كيف واجه موسى قومه بعد اتخاذهم العجل: ...(6/16)
ومن الفوائد -أيضاً- المهمة في هذه القصة: كيف واجه موسى عليه السلام هذا الموقف العظيم؟ أولاً: غضب لله عز وجل، وبلغ من غضبه أنه لم يتمالك نفسه، فألقى الألواح، ولو ألقى أحد الألواح إهانةً كفر، أما موسى فقد ألقاها غضباً لله، لم يتمالك نفسه عندما رأى ما حصل، وذهب يقرع قومه ويوبخهم: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150] لماذا فعلتم هذا؟ ألا ترون أنه لا يكلمكم؟ ونزل توبيخاً في قومه، وهم يستحقون هذا التوبيخ بما فعلوا هذا الظلم، ثم إنه حاصر مصدر الفتنة مباشرة واتجه إلى السامري ليحقق معه، ثم إنه أخذ مصدر الفتنة وهو العجل، وحرقه ونسفه في اليم نسفاً؛ بحيث لا يعود أبداً كما كان، فكان تعامل موسى مع القضية تعاملاً عجيباً فيه حزم، وسرعة التحقيق مع قومه، ثم التحقيق مع السامري، ثم محاصرة السامري وجعله بمعزل عن الناس، هذا مبتدع هذا رأس بدعة أضل الناس ولا بد من جعله بمعزل عن الناس.. وهكذا لا بد أن يعامل المبتدع؛ يعزل ولا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، ولذلك قال بعض المبتدعة لأيوب رحمه الله: أريد أن أكلمك كلمة، قال: ولا نصف كلمة. يرفضون سماع البدع، الذين شقوا عصا طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين ابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به. وينبغي على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى إذا رأوا مبتدعاً من مثل الصوفية أو غيرهم أن يحاصروهم، ولا يجعلوا له مجالاً ليتنفس ولا لينفث سمومه في الناس، وهذا الشيء لا بد منه، وينبغي أن يدقق جيداً في هذه المسألة حتى لا تستغل من أعداء الإسلام فيرمون العلماء والصالحين بالبدع؛ لأن هذا سلاح ذو حدين، يمكن أن يستخدمه أعداء الله في رمي أهل الصلاح بالبدعة حتى ينفر عنهم الناس، ولذلك ينبغي أن يعرف من هو المبتدع؟ وما هي البدعة؟ وما هي أنواعها؟ والفرق بين البدعة المكفرة وغير المكفرة، والفرق بين المسائل الاجتهادية وما يجوز الاجتهاد فيه، وما لا يقبل فيه الكلام بين المسائل الخلافية(6/17)
الاجتهادية المقبولة والخلافية التي ليس فيها الاجتهاد مقبولاً، لا بد من الوعي بجميع هذه الأشياء حتى يعرف من هو المبتدع؟ فقد يكون الذي يرمي الناس بالبدعة هو المبتدع. وكذلك فإنه لا بد من عزل المسلمين عن أسباب الفتنة، كل شيء يثير فتنة بين المسلمين يعزل ويحاصر ويحذر منه، مصدر الفتنة في الدين، وكذلك لا يجوز تسمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة بين الناس؛ لأن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن قال عن آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر: إنه يفتن أو يبذر بذور الفتنة فهو المفتون، والآمر والناهي بمنزلة عند الله، (ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) هذا أعظم الناس منزلة عند رب العالمين (أعظم الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) .
اتباع أصحاب الخوارق والفرق بين الكرامة والخارقة:(6/18)
كذلك من الدروس العظيمة: أنه ليس أي شخص أتى بأي خارقة من الخوارق اتبعناه لأنه خرق لنا العادة وأرانا شيئاً عجيباً ما رأينا مثله. من قواعد أهل السنة والجماعة في الفرق بين الكرامة والخارقة التي تكون للمشوعذ والساحر، وهي من الفروق الهامة بل هي أهم الفروق، لو قال لك أحد: كيف تفرق بين الساحر الذي يطير في الهواء ويمشي على الماء وبين عباد الله الصالحين الذين ربما مشى أحدهم على الماء، أو الغلام في قصة أصحاب الأخدود لما أرسله الملك مع جنوده إلى عرض البحر في سفينة في قارب، قالوا: إن رجع إلى دينه وإلا فألقوه، فدعا الغلام ربه وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلبت السفينة فغرقوا كلهم إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك.. أين مشى الغلام؟ على الماء، لم يغرق، جاء إلى الملك يمشي.. إذاً كيف نفرق بين شخص أعطاه الله كرامة بأن يمشي على الماء، وبين ساحر مشعوذ يسير على الماء أو يطير على الهواء؟ الفرق في حال الشخص؛ لا بد أن نبحث في حال الشخص، لو أخذ رجل كفاً من حصى فقبض يده عليها ثم فتحها فإذا بالحصى تتحول إلى ذهب، كيف نعرف هل هذا تقي وهذه كرامة أعطاه الله إياها فقلب الحصى في يده ذهباً، أو أنه مشعوذ دجال، الجن أو الشياطين هم الذين اشتركوا معه في هذه الفتنة، وجعلوا مكان الحصى ذهباً، أو أنهم سحروا أعين الناس فأصبحوا يرون الحصى ذهباً؟ الفرق في حال الشخص، فإذا كان الإنسان على منهج السلف، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة يقوم بأمر الله، طائع لله قائم بالواجبات مبتعد عن المحرمات، ملتزم بالدين، لا يقول: أنا ولي!
الحذر من شخصيات كشخصيات السامري:(6/19)
وكذلك من الدروس المهمة في هذه القصة: الحذر من شخصيات كشخصيات السامري التي عندها قدرة على البهرجة بالقول، وخداع الناس، وصنع الأشياء التي تذهب القلوب وتحير الألباب، فهؤلاء الأشخاص لا بد من الحذر منهم، ومن عذوبة منطقهم وحلاوة ألسنتهم، أو دقة صنعتهم، فإن هناك كثيراً من يقوم بدور السامري بين المسلمين.
يجب على الداعية ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاس من يدعو:
ومن الدروس المهمة في هذه القصة: أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى يجب ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاساً خطيراً قد حصل في قومه، ولو كان قد مشى معهم فترة طويلة، هب أنك دعوت شخصاً إلى الله، فاستجاب لك وتأثر ومشى معك، وأعطاك القيادة، فجعلت تعلمه وتذهب وتجيء معه، وتذهب من خطبة.. إلى درس.. إلى موعظة.. إلى حلقة علم.. إلى مجتمع، ثم ذهب عنك في إجازة من الإجازات وفوجئت بأنه وقع -مثلاً- في فاحشة والعياذ بالله، فهل يسقط في يدك وتقول: لم تعد هناك فائدة، بعد كل هذا التعب وقع في الفاحشة، أقول: لا أكمل معه المشوار، فنقول: لا. هذا موسى عليه السلام كم جاهد قومه لما وقعوا في الشرك الذي هو أكبر معصية على الإطلاق؟ التوحيد أعظم معروف في الدنيا والشرك أعظم منكر، لم يقل: هؤلاء لا فائدة منهم، أو قال: اللهم خذهم وزلزل بهم الأرض، وأسقط عليهم كسفاً من السماء وأرحنا منهم.. سنوات يجاهد فيهم ثم لا فائدة، يرجعون إلى الشرك بكل سهولة، خذهم أخذ عزيز مقتدر، لا. النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عائشة، قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت) ومن أعظم ما لقي منهم: أنه خرج إلى الطائف يرجو فرجاً من أهل الطائف فطردوه، فهام على وجهه، لم يدرِ أين يسير، قال: (فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب ) موضع قريب من مكة، فأرسل الله إليه ملك الجبال يقول له: (ما تأمرني به أنفذ -الله عز وجل أرسلني إليك أنتظر أمرك- إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أطبق عليهم الجبلين، لأن مكة بين(6/20)
جبلين عظيمين- قال: لا. إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله) فإذاً: الداعية لا ييئس مهما حصل من الانحراف في قومه أو في الشخص الذي يدعوه، هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الداعية، فلا بد من العودة للعلاج والعودة أن نبدأ من البداية فلا بد أن يوطن الداعية نفسه على المفاجآت، وألا ييئس مهما حصل .
التعلق بالمنهج لا بالشخص:
كذلك من الدروس: أنه يجب التأكيد على عدم التعلق بشخصية الداعية، وإنما يكون التعلق بمنهج الداعية، لو كان التعلق بشخصية الداعية فيعني أنه متى ما غاب الداعية عن المدعو فإن المدعو ينتكس؛ لأنه متعلق بشخصية الداعية، ينبغي أن نربط الناس بالمنهج لا بالأشخاص.. بالكتاب والسنة لا بزيد وعمرو.. نربط الناس بدين الله سبحانه وتعالى، حتى إذا غاب الداعية بقي المنهج موجوداً حياً في قلب المدعو، فيستمر على المنهج، ويستمر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والالتزام بهذا الدين، وهذه من الدروس البالغة الأهمية، وهذا الأمر قد يخطئ فيه عدد من الدعاة إلى الله عز وجل، يجعلون ارتباط الشخص بشخصيته هو، وأنه ينبغي أن يكون موجوداً دائماً، فلذلك إذا غاب فترة لأي ظرف تغيروا من بعده .
مراعاة أدنى المفسدتين: ...
ومن دروس هذه القصة: مراعاة أدنى المفسدتين، فبقاء هارون في قومه على الشرك الذي حصل معهم مفسدة، وخروجه من عندهم مفسدة أخرى، فالحل أنه يبقى مراعاة للمفسدة الأعظم ودرءاً لها فيبقى، كان بإمكانه أن يتخذ إجراءً حاسماً ويتركهم وشأنهم، ولا يبالي بما حصل، لكنه آثر أن يبقى بناءً على أوامر موسى، وبناءً على مواصلة الدور في الدعوة لعل الله أن يهديهم، يحاول فيهم حتى يرجع موسى، يبقى على الحق الأصلي حتى يرجع موسى، يبقى على توحيد الله عز وجل والدعوة إليه حتى يرجع موسى .
غياب المربي عمن يربيه والداعية عمن يدعو:(6/21)
وفي هذه القصة أيضاً: أنه لا بد للمربي ألا يغيب عمن يربيه، ولا ينبغي للداعية أن يغيب عمن يدعوهم، فإن الغياب في هذه الحالة يؤدي إلى وقوع القوم في الانتكاسات، ومهما حاول ألا يربطهم بشخصه لكن وجوده سيبقى مهماً؛ لأنه هو مصدر الخير والإشعاع بالنسبة لهؤلاء القوم، ولذلك يحرص الداعية والمربي ألا يغيب عمن هو معهم حتى لا يحصل لهم انتكاس وانحدار. من الدروس المتعلقة بهذه النقطة أيضاً: أنه لا بد أن يكون هناك بدائل، فإذا غاب عنهم لا بد أن يكون وراءه من يقوم بأمرهم، ولذلك موسى استخلف هارون، ومن أبسط الأشياء أن إمام المسجد لو غاب عن المسجد ينبغي أن يستخلف رجلاً ثقة يصلح للإمامة، أما أن يترك المسجد بلا إمام فهذا خطأ، وهذا يفعله بعض الأئمة في رمضان، وهذه من الأخطاء، يتركون مساجدهم ويذهبون عشرة أيام في نصف رمضان، من أول الشهر يصلي كم ليلة ويمشي ولم يضع مكانه ثقة يقوم بهم ويأمهم، فتحدث الفوضى في أوقات إقامة الصلوات، ويتقدم من ليس بأهل، والناس فيهم من قلة الفقه ما يجعل زعزعة الموقف في الصلاة وارد جداً، وربما صلوا ظهراً بدلاً من الجمعة قالوا: تأخر الخطيب، أو ما جاء الخطيب، اجلسوا لا يخطب أحد، فمن أبسط الأشياء: أن الثغرات التي يكون فيها الداعية إلى الله موجوداً لا ينبغي له أن يتركها، ولو تركها لا يطيل الغياب، ولو غاب لا بد أن يستخلف بدلاً منه من يقوم بدوره.
طريقة موسى في عتابه لهارون:(6/22)
ومن دروس هذه القصة أيضاً: طريقة موسى في عتابه لهارون عليه السلام، غضب موسى عليه السلام لكن كان غضبه، ما كان يغضب لشخصه أنه ما أعطي، لا. وإنما كان يغضب لله، لكن كان فيه شيء من الحدة، ولعل في شخصية عمر بن الخطاب مشابهة من شخصية موسى عليه السلام في بعض الجوانب، فموسى عاتب هارون بشدة لكن لما اعتذر هارون واسترحم موسى، قبل موسى عذره، وقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي [الأعراف:151] ولم يصر على وضع الخطأ كله على هارون، وقال: أنت السبب لا، شخصية هارون ليست كشخصية موسى، يمكن أن يستجيبوا لموسى لكن قد لا يستجيبون لهارون، وقوة الشخصية فضل يؤتيه الله من يشاء، فإذا أنعم الله به على شخص لا يلوم الآخر الذي هو أقل منه ويضع كل الخطأ عليه؛ لأنه قد يكون معذوراً، ويكون سبب الانحراف ليس منه إنما هناك أشياء أقوى، فقبل موسى عليه السلام اعتذار هارون، وكان اعتذار هارون مشوب بالعواطف وبالاسترحام، كان هارون رجلاً رحيماً رقيقاً رفيقاً؛ ولذلك فإنه آثر أن يجمع شمل القوم، وعندما رجع موسى مع إنكاره للشرك لم يكن موافقاً، ولذلك بعض الناس قد يقول: لماذا لا نحتج في هذه القصة على بقاء الشخص في الصف ولو كان فيه شرك؟ نقول: أبداً، ليس مقبول على الإطلاق، لا يمكن، فبعض الناس قد يبقى في صف فيه شرك ويتعلق بقصة هارون مع قومه مع الفوارق العظيمة. أولاً: هارون تبرأ من الشرك وواصل في دعوة قومه للعدول عن الشرك، فهل يفعله هذا ويعلن البراء من الشرك وأهل الشرك الموجودين في الصف؟ أم أنه يقول: أنشغل بأشياء أخرى وأدعهم وشركهم؟ إذاً: البراءة من الشرك وأهل الشرك واجبة. ثانياً: هل الباقي في هذا الصف منصبه مثل منصب هارون خليفة؟ أو أنه شخص عادي لا يؤبه له؟ على الأقل هارون كان يرفع راية التوحيد، فالثابتين على التوحيد معهم هارون حامل راية وحامل لواء الشرعية، وعنده أمل أن يعود من يعود من هؤلاء الضلال ويلتحقوا به، ثم هناك أمر من موسى(6/23)
-وموسى نبي- أن يبقى، فأين أمر الوحي بالنسبة لهذا الشخص؟ ثالثاً: هل هذا الشخص ينتظر شخصية مثل شخصية موسى لترجع بعد حين يسير وتعالج الأوضاع؟ رابعاً: هل يوجد جماعة لأهل الحق كما كان على عهد هارون يكون معهم أو أنه واحد في هذا الخضم؟ ولذلك لا يجوز البقاء في صف أهل الشرك مطلقاً، يجب على المسلم أن ينحاز لأهل التوحيد، ولا يبرر لنفسه البقاء في صف فيه شرك ويحتج بقصة هارون لهذه الفوارق التي بيناها.
الخلط بين المسئوليات والعاطفة:(6/24)
ومن دروس هذه القصة العظيمة: عدم الخلط بين المسئوليات والعاطفة عند المحاسبة، لم يقل موسى: هذا أخي فحصل خير.. لأنه أخي فلا أحاسبه، بل حاسبه حساباً شديداً، ودقق معه، وحاصره بالأسئلة، ولم تغلبه العاطفة، فينبغي في مسألة المحاسبة في موقع المسئولية محاسبة أهل المسئولية وعدم الخلط بين ما ينبغي أن يفعل هنا، وبين مسألة العواطف والقرابات والصحبة.. ونحو ذلك: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]. وكذلك من دروس هذه القصة: بقاء السامري معذب، ليكون عبرة حتى لا يسول لأي أحد أن يعمل عملاً مثل هذا وهو يرى السامري منبوذاً مقبوحاً لا يقترب أحد منه. وكذلك: فإن في التعامل الأخوي بين موسى وهارون قدوة للآخرين، ومن الأشياء المهمة: أن الخلاف بين المربين ينبغي ألاَّ يخرج إلى الناس، الخلاف بين الدعاة لا ينبغي أن يخرج إلى الناس مادام أنه ضمن الدائرة الشرعية، أي: في مسائل الاجتهاد، اتبع القاعدة الشرعية العظيمة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لا يشنع بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، فمثلاً: هذا يرى أن النزول في الصلاة يكون على الركبتين وهذا يرى أنه على اليدين، لا مشاحاة ولا تعليق ولا لوم ولا توبيخ ولا إنكار في مباحثة علمية.. هذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون الجهاد فيعمل في حقل الجهاد، وهذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون العلم الشرعي فيعمل في حقل تعليم العلم الشرعي، وهذا يرى أن المسلمين بحاجة إلى إغاثة فهو يعمل في العمل الإغاثي، والأجواء كلها تكمل بعضها بعضاً، ولا داعي للإنكار ما دام الجميع على معتقد سليم ومنهج صحيح، فكل شخص يؤدي كل ما يستطيعه؛ لأن الثغرات المفتوحة على المسلمين كثيرة في جهل وهجوم من الأعداء، وفي فقر ومرض وموت، وفي منكرات، فيفرغ جهده لإنكار المنكر. إذاً: لا بد أن تتكامل الجهود مع المعتقد السليم العام لجميع الذين يسيرون ضمن دائرة أهل السنة والجماعة. أقول -أيها(6/25)
الإخوة- في مسألة النقد بين الإخوان: موسى عليه السلام انتقد هارون وحاسبه، وهارون كان يرجو من موسى ألا يشمت به الأعداء، فينبغي أن نفرق بين قضية المحاسبة والنقد، وبين قضية التخطئة العلنية التي يكون مبعثها التشهير والتشفي، والتخطئة العلنية أحياناً يكون لا بد منها؛ لإحقاق الحق ولبيان الحق، والنبي عليه الصلاة والسلام خطأ أشخاصاً، لكن متى تكون التخطئة سلبية ومتى تكون التخطئة علنية إيجابية؟ إذا كانت لإحقاق الحق وبيانه، وأنه لابد منه لبيان الحق فلا بأس أن نخطئ، مثال: لو أخطأ الإمام في الصلاة، هل تقول: لا أرد عليه حتى لا أفشله عند الجماعة أو أظهر أنه لا يحفظ، لا. بل ترد على الإمام، ولكن إذا كان مبعث التخطئة التشفي والتشهير، وليس بيان الحق، فهذه التخطئة حرام وهي مما توغر الصدور، فينبغي معرفة الفارق بين هذا وهذا. ثم إن من النقاط المهمة في هذه المسألة: قضية ستر جميع العيوب، المهم ألاَّ يظهر عيب للناس مهما حصل بحجة عدم نشر الغسيل، هذه المسألة غير صحيحة بإطلاقها، لكن الأخطاء التي لا يفهمها ولا يدركها العامة، لا تخطئ أمام العامة شيء على جنب ينبغي أن يكون هذا هو الأدب، والأشياء التي ليس من المصلحة إشهارها لا تشهر، لكن أن يرفض الإنسان أي نقد حتى يبقى في الظاهر للناس سليماً من أي نقد بأي صورة، فهذا -أيضاً- خطأ (كل بني آدم خطاء) . وينبغي أن نفرق -أيضاً- بين الخطأ الذي يتعدى إلى الناس وبين خطأ الشخص في نفسه، لو كان الشخص يخطئ في نفسه نبهناه في نفسه، لكن لو كان خطأً متعدياً للناس لا بد أن نبين للناس ولو علموا أن فلاناً هو مصدر الخطأ، لو قام شخص وتكلم بكلام باطل على الناس، فقام شخص ورد عليه الرد الحق هذه تخطئة علنية، لكن لا بد منها؛ لأنه نشر خطأه على الناس، لكن لو أنه عمل منكراً بينه وبين نفسه هل يجوز التشهير به؟ هل يجوز أن يقوم شخص بين الناس ويقول: فلان فعل كذا، ما يخاف الله، ارتكب المنكر(6/26)
الفلاني، هذا لا يجوز، التشهير هنا حرام، كذلك ما ينصب من التخطئة على المناهج التي فيها أخطاء لا بد من البيان؛ لأن الناس قد يتبعون هذا النهج الخاطئ، فلا بد من بيانه، ويبقى لصاحب الفضل فضله وخطأه، ينبغي أن يعلم إذا كان منشوراً. ومن الفوائد كذلك في هذه القصة: عظم نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بأن جعل توبتها كلمات، وتوبة بني إسرائيل كانت القتل، الواحد مهما أجرم لو أشرك بالله يتوب إلى الله: (من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو قال شخص لك: أنا أخطأت، وقلت: بذمتي.. بأمانتي.. برأس أولادي.. بحياة أبي وحياة أولادي.. ونحو ذلك، وشرفي وأمانتي، كيف أتوب؟ هذا حلف بغير الله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فلتقل له: إن كفارتها أن تقول: لا إله إلا الله (من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق) على عادة الجاهلية تعال نتقامر. فتأمل في عظمة الله على هذه الأمة أن الإنسان لو وقع في الشرك كفارته أن يتوب إلى الله، والتوبة كلمات يستغفر الله ويوحد الله ولو شرك، لكن بني إسرائيل لما وقعوا في هذا الشرك كانت عقوبتهم القتل، لا توبة إلا بالقتل، ويمكن أن يقول بعض الناس: هذا شيء عظيم، لماذا أوجب عليهم هذه الطريقة الشنيعة في التوبة؟ نقول: لأنهم يستحقون ذلك لو نظر في التواءات القوم وانحرافاتهم وعرفها لرأى أنهم يستحقون ذلك، ثم إن فضل الله عليهم عظيم، فقد جعل المقتول شهيداً والحي تيب عليه.
ليس الخبر كالمعاينة ... :(6/27)
وكذلك من دروس هذه القصة أنه: (ليس الخبر كالمعاينة) وهذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد و الحاكم وغيرهما، عن ابن عباس مرفوعاً: أخبر الله موسى لما استلم الألواح أنه فتن قومه من بعده وأضلهم السامري، خبر الله صدق لا شك فيه؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] ولما رجع موسى إلى بني إسرائيل كان يعلم يقيناً أن قومه قد عبدوا العجل؛ لأن الله أخبره بذلك، لم يلق الألواح لما قال الله له: فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه:85] ولكنه ما ألقاها إلا عندما رجع إلى قومه فرآهم بعينيه يعبدون العجل. إذاًَ: الخبر ليس كالمعاينة، يمكن أن يقال لك: فلان حصل له حادث فضيع وحصل له كذا وكذا، تتأثر لكن إذا رأيته ونظرت إليه ورأيت ما حل به فعلاً من الأشياء المفضعة فإن الشفقة والشعور والألم سيكون أكثر.. لماذا؟ لأن النظر ليس كالخبر، والخبر ليس كالمعاينة، وهذه مسألة لا بد أن تراعى، ومن راعاها كان حكيماً في كثير من تصرفاته.
تقبل الوصية ولو كان فيها شدة:
وكذلك من دروس هذه القصة: أنه ينبغي تقبل النصيحة ولو كان فيها شدة، يقول موسى لهارون: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] قد يرى الإنسان هذه الكلمة ثقيلة، لكن موسى يعرف طبيعة بني إسرائيل، خبرهم عنده لأنه عاش معهم منذ صغره فهو يعرف طبيعة قومه، ولذلك كان شديداً في وصيته لأخيه: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] فالوصية ولو كانت شديدة فالإنسان يتقبلها، ليس هناك غضاضة أن يقبل الوصية ولو كانت شديدة.
لا ينبغي التوقف في الحرام:(6/28)
وكذلك من دروس هذه القصة: أن الحرام لا ينبغي التوقف فيه، ولذلك من سفاهة عقول هؤلاء عباد العجل أنهم قالوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91] لا نغير حتى يرجع إلينا موسى، جاء في حديث الفتون أن بعضهم توقفوا، وهؤلاء المتوقفين توقفهم غلط؛ لأن التوقف ضلال، ولذلك الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت طائفة تقول: لا نقول القرآن مخلوق أو غير مخلوق، هؤلاء الواقفة، بدعهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقال: إن قولاً شر عظيم. فمسألة التوقف في تخطئة المنكر أو الخطأ لا يجوز أن يقول إنسان: أتريث وهو يعلم أنه شرك، ليس هناك تريث ما دمت علمت أنه شرك لا بد من إنكاره، لكن لو أنه لا يدري هل هذا خطأ أم لا يقول: أتوقف في الإنكار حتى أسأل عالماً، فإذا قال لي: هذا خطأ أنكرت وإلا سكت. وكذلك لا بد من تبيان العقيدة الصحيحة عند محاربة الشرك، موسى لما تخلص من العجل وتخلص من السامري وقضى على الفتنة ماذا قال بعدها؟ إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [طه:98] فإذاً بين لهم من هو إلههم سبحانه وتعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ [طه:98] مبيناً لهم. ومن فوائد هذه القصة: خطورة أصحاب الموروثات السابقة عند انضمامهم للصف، فهذا السامري الذي قيل: أنه كان من قومه من يعبدون العجل فأظهر الإسلام ودخل مع بني إسرائيل، كيف صار خطره عظيم؟ لذلك لا بد من الانتباه لأصحاب الموروثات السابقة الذين يدخلون في الصف فيفسدون ويخربون. ومن فوائدها كذلك: أن وجود سلبية المربي لا يمنع من التلقي عنه والتأثر به، والعلة التي لا تكون قادحة لا تجعل الإنسان بمعزل عن التأثير والإمساك بزمام الأمر؛ لأنه ما من إنسان يخلو من سيئات، لا بد أن يكون كل واحد عنده أخطاء وسلبيات، ولذلك إذا كان الشخص سجاياه الحميدة أكثر من أخطائه فهذا مرضي يناصح بأخطائه، لكن لا شك أن موقع القدوة والقيادة يتطلب وجود صفات(6/29)
عالية، وأن تكون الصفات السلبية أقل ما يمكن. كذلك من فوائدها: أن الإنسان عليه ألا يتحمس وينفعل جداً ويزيد في التخطئة والهجوم؛ لأنه لو اكتشف أن رأيه خطأ سيكون الانسحاب عليه صعباً، لو سمع أحد أن فلاناً أخطأ فذهب يشنع عليه ويصب عليه غضبه ويعنفه تعنيفاً شديداً، ثم بعد ذلك يتضح له أن القضية ليست كما سمع، وأن المسألة فيها اختلاف، وأن الرجل هذا قد يكون له عذر، فسيكون الانسحاب شديداً، ولذلك نأخذ من قضية شدة موسى مع هارون في البداية أن الإنسان إذا أراد أن يخطئ غيره عليه أن ينظر في ظرفه وعذره جيداً، وألا يشتد في التخطئة ما دام لم يعرف كل ملابسات الموضوع، فقد يكون الانسحاب صعباً عليه.
فائدة من قوله تعالى: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ).(6/30)
وكذلك فإن هناك فائدة مهمة للغاية في قولهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]: لقد حاولت الفئة الضالة إطفاء الشرعية على هذا الانحراف، فقالوا لبقية القوم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طه:88] حاولوا إطفاء الشرعية على هذا العجل وأن يجعلوه مقراً: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طه:88] وهذه الفائدة لا شك أن لها أثراً في نفوسنا عندما لا نغتر بأي شيء مكتوب على الإسلام، أو هذه القضية إسلامية، أو هذا الشيء إسلامي دون أن نعرف حقيقته، فمحاولة أعداء الإسلام لإطفاء الشرعية على كثير من المناهج المنحرفة وعلى كثير من الكيانات، وعلى كثير من الشخصيات، وعلى كثير من الكتب، محاولات لا شك أن القصد منها تضليل المسلمين. على سبيل المثال: لو وجدت أي لحم مكتوب عليه: مذبوح على الطريقة الإسلامية، هل مجرد أن عليه ختم مذبوح على الطريقة الإسلامية أي: أنه كان مذبوحاً على الطريقة الإسلامية؟ محاولة إطفاء الشرعية على هذه اللحوم -مثلاً- من قبل أي تجار أو جهات مصدرة هل تجعل هذه القضية شرعية بمجرد أنه كتب عليها ذلك؟ إذا كانوا قد ذبحوا السمك على الطريقة الإسلامية فما بالكم ببقية الأشياء التي يصدرونها للمسلمين من الأفكار والمناهج غير مسألة السمك، مما هو أخطر من السمك بكثير، ويحاول اليوم عدد من أصحاب المناهج المنحرفة أن يضفوا الشرعية على اتجاهاتهم، ومن أخطرهم في نظري في هذا الوقت أصحاب الفكر العقلاني أو الإسلام المستنير، أو الإسلام الحضاري كما يسمون أنفسهم، وهؤلاء يقولون: لا بد من الموافقة بين الإسلام وبين واقع العالم الذي وصل إليه، فإذا كان العالم اليوم يرفض -مثلاً- الرق والإسلام فيه أشياء تفيد بجواز الرق، فلا بد أن نجد لهذه الأدلة صرفة، وأن نخرجها إذا كان العالم لا يقبل فكرة أهل الذمة ولا يقبل فكرة دفع الجزية، وهكذا مسائل وأفكار خطيرة.. إذا كان العالم لا يقبل حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم(6/31)
امرأة) ولو قلنا بهذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في محفل من الناس وفيهم غربيين مفكرين عالميين قلنا لهم: عندنا نحن المسلمين لا يجوز للمرأة أن تتولى ولاية عامة، فسيقولون: ظلمتم المرأة! لماذا تجعلونها في مستوى ثانٍ؟ لماذا لا تتولى الوزارة والقضاء والرئاسة؟ فيحاول بعض العقلانيين أن يضعف الحديث، ويستدل باستدلالات منحرفة، إذا كان العالم لا يقبل فكرة الجهاد اليوم ويقول: إن الجهاد هو اعتداء على مجتمع آخر أو على كيان آخر، والجهاد ما وضع في شريعتنا إلا جهاد دفاعي هجومي، ويحاول العقلانيون اليوم أن يثبتوا أن الجهاد دفاعي فقط، وأنه ليس هناك جهاد اسمه جهاد هجومي في الإسلام، والله يقول: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36]، قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29] ونص: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] قال العلماء: لا تقبل منه إذا أرسل غلامه أو خادمه ليدفعها لا بد أن يأتي بنفسه؛ لأن الله يقول: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة:29] أي: يسلمها بيده بنفسه، ثم قال: وينبغي على الإمام أن يطيل وقوفهم عند بيت المال إذلالاً لهم ثم يقبلها منهم ولا يقبلها منهم مباشرة؛ لأن الله قال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] نسأل الله أن يبلغنا هذا الوقت الذي يطبق فيه هذه الآية. فأقول: إن من أخطر الناس الذين يحاولون إطفاء الشرعية اليوم على مناهجهم المنحرفة هم العقلانيون المنحرفون أو أصحاب الفكر المستنير. من مداخلهم: الموسيقى الإسلامية، والفن الإسلامي، والرقص الإسلامي، هذا ما طرحوه بوضوح وصراحة، وقالوا: أسلمة كل شيء لا بد أن نؤسلم الفن ونؤسلم التماثيل فن النحت الإسلامي، الرقص الإسلامي، هذا كله هراء، هذا ما يطرحونه ويجاهرون به في مقالاتهم.(6/32)
كذلك من فوائد هذه القصة: كيف يتحرج الإنسان من الشيء الذي ليس فيه حرج ويقع في الشيء العظيم والطامة، قالوا: هذه حلية تورعنا منها خفنا أن تكون ليست حلالاً علينا أخذناها من الفرعونيين القبط وهربنا بها، ليست حلال علينا، فنبذناها وألقيناها، ثم عبدوا العجل، هؤلاء الذين قال في مثلهم ابن عمر في قضية أهل العراق قتلوا الحسين بن علي ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وحبيبه، ثم جاءوا يسألون: هل قتل البعوض من محظورات الإحرام أو لا؟ وهذه المسألة قضية التحرج من الأشياء اليسيرة والوقوع في الأشياء العظيمة، هذا ديدن كثير من الناس، تجدهم اليوم يقولون: هو واقع في الربا والزنا، وإذا جاء على عشر ذي الحجة في الأضحية قال: سقطت مني شعرة وأنا أحك ماذا أفعل؟ الأضحية بطلت أم لا؟ أنا قلق أخبروني، الله أكبر! أنت الآن قلق على الشعرة التي سقطت بالحك، ولست قلقاً على الملايين الموجودة في البنك تأخذ عليها ربا وفوائد محرمة! وكذلك في الإحرام يسأل: يجوز ترجيل الشعر أم لا؟ وتراه يغتاب ويلعب ورقاً في الحج، ويفعل كل المحرمات ويمكن أن يستمع الأغاني، وإذا ذهب يطوف حول الكعبة نظر للنساء، وربما أبطل حجه أو عمل شيئاً خطيراً، ثم يقول: سقطت شعرة.. إن مسألة التورع عن الأشياء الصغيرة والوقوع في الأشياء العظيمة هذا منهج بني إسرائيل. ثم نلاحظ -أيضاً- درساً في الفتنة بالذهب الذي هو معبود اليهود الأصيل. إن قضية العجل تبين لنا تغلغل الذهب في نفوس اليهود، وأنهم فتنوا بالعجل المصنوع بالذهب وأن فتنتهم هي الذهب، وهم الذين يملكون أكثر الذهب في العالم اليوم ولا شك، فيتبين لنا فتنة هؤلاء القوم بهذا الذهب في القديم والحديث. لعل هذه بعضاً من أهم الدروس والفوائد التي تؤخذ من هذه القصة وهي قصة عظيمة جداً جديرة بالتأمل، والله سبحانه وتعالى ما قص علينا هذه القصة ولا غيرها من القصص إلا ليتدبرها أولو الألباب، ويتعظ بها المتعظون، ويأخذ من(6/33)
فوائدها الذين ينهلون من حياض هذه الشريعة وينجون من مواردها. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وإلى طريق الحق والثواب. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الأسئلة ... :
حكم الصلاة على المنتحر:
السؤال: ما حكم الصلاة على المسلم المنتحر؟ الجواب: إذا كان مسلماً لم يخرجه ذلك عن الإسلام فإن الصلاة عليه تصح؛ لأنه مسلم، لكن ينبغي لأهل الفضل والعلم والقدوة مثل القاضي والعالم إذا حضروا ألا يصلوا عليه ويتركوا الصلاة لبقية الناس، يقول: صلوا على صاحبكم، زجراً لغيره ممن يحاول محاولته، وكذلك الصلاة على مدمن المخدرات وشارب الخمر وغيرهم ممن عرف بالشر.
نصائح لمن يؤخر الصلاة عن ميقاتهم:
السؤال: ما هي النصائح لمن يضيع أوقات الصلاة؟ الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ [مريم:59]، وقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5] ولا شك أن الويل هنا عقوبة من الله عظيمة ينبغي أن ينزجر بها الذين يؤخرون الصلوات عن وقتها وخصوصاً صلاة الفجر.
السيارة ليس عليها زكاة إنما على المال الذي يدخل بسببها:
السؤال: أملك سيارة كبيرة وأعمل عليها يومياً، فهل يجوز أن أزكي على السيارة أم أزكي على المبلغ الذي يدخل علي؟ الجواب: بما أن السيارة ليست للبيع فإذاً الزكاة في الإيراد، إذا حال عليه الحول تخرج في كل ألف خمسة وعشرين ريالاً، مثل: المبنى المؤجر ليست الزكاة في قيمته، الزكاة فقط في الإيجار إذا حال عليه الحول، بمعنى: أنك إذا أخذت الإيجار من هنا وأنفقته من هنا قبل أن يحول الحول فليس عليك زكاة.
حكم إعطاء المرأة زكاة مالها لزوجها:(6/34)
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تعطي زكاة أموالها لزوجها وهو في حاجة؟ الجواب: إذا كان فقيراً فنعم؛ لأن الزوج ليس ممن تلزم الزوجة نفقته، فيجوز أن تعطي زكاة مالك لمن لا تلزمك نفقته، لكن العكس لا يجوز للرجل أن يعطي زكاته لزوجته.
رمضان ليس اسماً من أسماء الله:
السؤال: هل رمضان اسم من أسماء الله كما ورد في الحديث: (لا تقولوا: جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله)؟ الجواب: هذا الحديث لم يثبت، وهو حديث ضعيف غير صحيح، فإذاً رمضان مأخوذ من الرمضة: وهي شدة الحر، وهذا اسم إسلامي لم يكن هكذا اسمه في الجاهلية، وقيل: إن سبب ذلك، أول ما فرض الصيام كان في شهر شديد الحر فسمي رمضان من الرمض وهي شدة الحرارة مثل: جمادى الأول وجمادى الآخرة.. لماذا سمي بهذا الاسم ؟ لأنه يتجمد فيه الماء من شدة البرد، فأول ما عرف الشهر هذا عند العرب كان في وقت يتجمد فيه، وإلا فالسنة الهجرية تدور على الفصول الأربعة، رمضان قد يأتي في الحر، وقد يأتي في البرد، لكن أول ما فرض كان في وقتٍ شديد الحر.
العقيقة ... :(6/35)
السؤال: العقيقة للمولود ما صفتها؟ وما شروطها للذكر والأنثى؟ وكيفيتها؟ الجواب: العقيقة مستحبة وبالذات على القادر، وغير القادر ليس عليه شيء، وقال بعض العلماء بوجوبها لكن الجمهور على استحبابها، وفيها فائدة كبيرة على المولود وهي فكه من أسر الشيطان؛ لأنه قال في الحديث الصحيح: (كل غلام مرتهن بعقيقته) وكما ذكر ابن القيم في كتابه العظيم: تحفة المودود بأحكام المولود، أن ما من مولود يولد إلا وللشيطان عليه نوع من التسلط، وأن العقيقة تفك تسلط الشيطان على المولود، بالنسبة للذكر شاتان ويجوز شاة، لحديث: (ضحى عن الحسن و الحسين كبشاً كبشاً) وهو حديث صحيح، والأفضل شاتان، والأنثى شاة واحدة، وقد فاوت الله بين الذكر والأنثى في عددٍ من الأحكام، فجعل شهادة المرأتين بشهادة الرجل، وجعل دية المرأة على النصف من دية الرجل، وجعل في الإرث للمرأة نصف ما للرجل، وجعل في العقيقة للذكر شاتان وللأنثى شاة.
النهي عن كف الثوب والشعر:
السؤال: ما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (أريد أن أكف ثوبي)؟ الجواب: الرواية المعروفة في صحيح مسلم: (نهى عن كف الثوب وكف الشعر) فأما كف الثوب فيدخل فيه تشميره أو جمعه كما يفعله بعض الناس عندما يجمعونه عند السجود، فهذا مما ينهى عنه، وجمهور العلماء على الكراهة كما ذكر ذلك النووي رحمه الله، يكره كف الثوب في الصلاة فيتركه يسجد معه لا يضمه ولا يجمعه ولا يشمره، وكف الشعر: حبسه تحت العمامة أو الطاقية، يجمعه ويحبسه حبساً، بل يتركه يسجد معه.
حكم طواف الوداع للمعتمر:(6/36)
السؤال: هل طواف الوداع للمعتمر واجب؟ الجواب: هذه مسألة فيها خلاف عند أهل العلم، والراجح فيها إن شاء الله عدم الوجوب، ومن المعاصرين من يفتي بذلك كالشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني، أن طواف الوداع للمعتمر سنة وليس بواجب، وذهب آخرون إلى الوجوب كالشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين، فمن عرف خلاف العلماء لا تلتبس عليه الأمور.
ماذا يفعل من أقيمت الصلاة وهو يصلي سنة المسجد ؟.
السؤال: ماذا يفعل المصلي الذي يصلي سنة المسجد قبل الصلاة وأقيمت الصلاة هل عليه أن يقطعها أو يتابع ....؟ الجواب: في المسألة أقوال: القول الأول: أن يقطعها بكل حال. القول الثاني: أن يتمها بكل حال. لكن من أعدل الأقوال: أنه إذا أنهى ركوع الركعة الثانية فكأنه أنهى الصلاة؛ لأنه ما بقي له إلا شيء يسير فيتمها بخفة، وأما إذا كان قبل ركوع الركعة الثانية فيبقى له ركعة كاملة فإنه يقطعها بدون سلام بالنية.
كيف نفرق بين السحرة والدجالين وبين الصالحين في العلاج بالقرآن؟.
السؤال: كثير من السحرة والمشعوذين يدجلون على الناس بأنهم من أهل الصلاح والصلاة ويعالجون بالقرآن، فكيف نفرق بين السحرة الدجالين وبين الصالحين؟ الجواب: ينظر في حاله: فإن رأيناه يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ولا يعرف عنه معصية لا في سماع الأغاني ولا التدخين أو الإسبال، أو ما هو أعظم من ذلك، مثل التساهل في لمس النساء وربما كان إنساناً سيئاً يريد الوصول من وراء القراءة إلى العبث بالنساء مثلاً، فإذا لاحظنا عليه التساهل وأنه يخلو بها ويقول لوليها: لا يخرج الشيطان إلا إذا خرجت أنت، فنعرف أنه دجال وأنه كذاب أشر، وأن له مقصداً سيئاً، ولا تلمس المرأة إلا للضرورة، لكن ليس من جهة أنه يقول: لا بد من المباشرة، أو لا بد من لمس المرأة عند القراءة، فيمس يدها أو وجهها، فهذا حرام ولا يجوز. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(6/37)
( التأثر والتفاعل )
عناصر الموضوع :
الصحابة وشدة تأثرهم بالآيات والمواعظ والمواقف
تأثر الصحابة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجوع السلف عن الخطأ بعد التبيين لهم
التأثر والتفاعل:
في هذه المادة بيان لما كان عليه الصحابة من تأثر بمواعظ النبي صلى الله عليه وسلم وتفاعل معها، أو دعائه أو عتابه، كما أنهم كانوا يتأثرون عند حدوث الخطأ منهم فيتراجعون عن ذلك ويتوبون إلى الله عز وجل.
الصحابة وشدة تأثرهم بالآيات والمواعظ والمواقف:(7/1)
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. في وسط هذه الجاهلية التي يعيشها المسلمون اليوم ضاعت هوية الشخصية الإسلامية، وانعدمت ميزاتها إلا من رحم ربي عز وجل، والبحث عن سمات الشخصية الإسلامية من الأمور المطلوبة لكل مسلم يريد أن يسير إلى ربه على نور من الله في صراط مستقيم، وللشخصية الإسلامية -أيها الإخوة- سمات بارزة، وعلامات مميزة، ونحن في هذه الخطبة سنتعرض لواحد من سمات هذه الشخصية. إن الشخصية المسلمة سريعة التأثر والانفعال من أدلة القرآن والسنة .. سريعة التأثر مع المواقف التي جاء في القرآن والسنة ذكر لها .. سريعة التأثر والانفعال إذا ما حدث خطأ من الأخطاء .. سريعة التأثر والانفعال إذا ما وقع المسلم في ذنب من الذنوب .. سريعة التأثر والانفعال عند رؤية أحوال المسلمين .. سريعة التأثر والانفعال لمواعظ الله ورسوله، ونحن اليوم نذكر أمثلةً لهذا التأثر والانفعال في عصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الشخصيات التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهج الله، فمشت بخطىً ثابتة مستقيمة على منهج الله ورسوله، نذكر هذه الأمثلة في وقت تبلدت فيه إحساسات المسلمين، وانعدم التأثر والانفعال لكثير من المواقف التي ينبغي أن يقف المسلم حيالها وقفة التأثر والانفعال الدافعة إلى العمل لا عند حدود البكاء وذرف العين فقط.
تأثر الصحابة من قوة بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم:(7/2)
كان أول تأثر صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما عرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة، عندما عرض عليهم نصوص القرآن والسنة، ولذلك كانت الصفوة المختارة عندما تسمع كلام الله تتأثر مباشرةً؛ فترق القلوب؛ وتدخل تلك النفوس في دين الله. وهذه الأحاديث التي سأتلوها الآن هي في الصحيحين أو أحدهما.. عن ابن عباس أن ضماداً قدم مكة فقيل لضماد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنون أو دخل فيه جن أو مصاب بمرض، وكان هذا الرجل طبيباً يداوي الناس من الأمراض فقال: لعل الله أن يشفيه على يدي، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات الجامعات: (إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد، فقال ضماد : أعد كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوت البحر -يعني: وسط البحر وعمقه من شدة تأثيرهن- ثم قال: هات يدك أبايعك، فبايعه ثم قال له عليه السلام: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي). يذهب إليهم داعية إلى الله. أيها الإخوة .. تأثر هذا الصحابي من أي شيء؟ ما هي الكلمات التي نقلته من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام؟ إنها كلمات جامعات لكنها وجدت في قلبه مكاناً فتأثر لها، فدخل في دين الله، اعتنق الإسلام بعد الكفر. عتاة اليوم من الكفرة والمرتدين الذين يتسمون بالإسلام لو عرضت عليهم مثل هذه الكلمات يا ترى هل سيستجيبون ويتأثرون أدنى تأثر؟! وعند سماع المواعظ كانت نفوس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترق رقة عجيبة لكلمات يسمعونها من رسول الله على المنبر. مثلاً: عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً ما سمعت مثلها(7/3)
قط! قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) لو تعلمون ما أعلم من عذاب الله، وتفاصيل العذاب كيف يعذب أهل النار وكيف يحرقون؟! لو تعلمون ما أعلم من أهوال المحشر ومن شدة الحساب.. لو تعلمون ما أعلم من عظمة الصراط وشدة المشي عليه والكلاليب التي تتخطف الناس فيهوون في جهنم.. لو تعلمون ما أعلم. يقول عليه الصلاة والسلام: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) الرسول صلى الله عليه وسلم أراه الله جهنم بعينه، ما اطلع على هذا من الصحابة أحد، فقال لهم هذه الكلمات التي يعبر فيها عما رآه: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) ماذا فعل الصحابة؟ هل قالوا: ما دمنا لم نر ما رآه عليه الصلاة والسلام فلماذا نتأثر كما تأثر؟ لا، هذه الكلمة دفعتهم إلى التأثر حالاً، فقال أنس رضي الله عنه: ( فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين ) ذلك الأزيز: الصوت الذي يرتفع من الصدر بالبكاء، صوت يتأزز من الصدر من البكاء لهذه الكلمة التي أخبرهم بها عليه الصلاة والسلام. يا إخواني .. عندما نسمع المواعظ اليوم هل نتأثر بها كما كان صحابة رسول الله يتأثرون؟! هل نغطي وجوهنا كما غطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم؟! هل تنخنق العبرات، وتذرف الدموع، وتخرج الأصوات كالأزيز الذي يغلي به المرجل من الصدور للتأثر من هذه المواعظ؟! لقد تبلدت إحساساتنا والله، إن على قلوبنا غلافاً سميكاً لا تنفذ من خلاله آيات الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم في المواعظ، يجب أن نرقق هذه القلوب -أيها الإخوة- بشتى أنواع المرققات حتى نصل إلى الدرجة التي إذا سمعنا فيها المواعظ تأثرنا.
تأثر الصحابة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم:(7/4)
كان أصحاب رسول الله إذا سمع أحدهم دعاءً طيباً ولو لميت تأثر به. يقول الراوي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يبكي: (اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار -ماذا قال الصحابي لما سمع هذه الدعوات؟ هي لميت مات، ماذا قال الصحابي- حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت) يقول الصحابي: تمنيت أن أكون ذلك الميت. لماذا تمنى أن يكون ذلك الميت؟ لأنه تأثر -أيها الإخوة- من هذه الأدعية التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الميت، يتأثرون حتى من الدعاء ولو لميت يتمنى أن يكون مكانه لهذه الأدعية التي دعا بها عليه الصلاة والسلام.
تأثر الصحابة عند حثهم على الصدقة والإنفاق:
الصحابة رضوان الله عليهم كثير منهم كانوا فقراء لا يملكون شيئاً خصوصاً في بداية الدعوة، عندما يسمع الصحابة الأوامر التي تحث على أفعال الخير وهم لا يملكون شيئاً، عندما يسمعون الأحاديث تحث على الصدقة وهم لا يملكون دنانير يتصدقون بها، كيف كانوا يتصدقون؟ كان تأثرهم -يا إخواني- من الأحاديث وهذه الكلمات التي تحث على الصدقة يحملهم على فعل أمر عجيب حتى يدركوها، ماذا كانوا يفعلون؟ قال الصحابي: [أمرنا بالصدقة. قال: كنا نحامل -أي: يؤجر أحدنا نفسه لرجل عنده متاع ليحمله له- فإذا حمله له أخذ أجرة التحميل فتصدق بها] ما عنده دنانير ماذا يفعل؟ يذهب يؤجر نفسه فيحمل هذه الأحمال، يأخذ أجرة التحميل فيتصدق بها! أناس تأثروا من هذه الأحاديث التي تدفع إلى الصدقة، ما عندهم شيء، هكذا كانوا يفعلون.
تأثر الصحابة بعد ارتكاب خطأ ما:(7/5)
وإذا اعتدى أحدهم على مسلم، ضعفت نفسه في موقف، عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال -في حديث طويل يرويه الإمام مسلم منه-: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد ، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً -ضربها بكفه على صفحة وجهها، تأثر كيف يذهب الذئب بغنمة! بشاة! كيف يذهب بها؟ أين أنتِ؟! أين حراستكِ؟! أين رعايتك للغنم؟! تأثر فضربها بيده على صفحة وجهها، فماذا كان موقف الصحابي لما أخطأ في حق هذه المرأة المسلمة؟- فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه الضربة كما أثرت في وجه المرأة أثرت في نفس الضارب- فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي -كيف تفعل هذا الفعل؟ كيف تضرب على الوجه؟! كيف تضرب أصلاً؟ ماذا فعل الصحابي عندما عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر؟- قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ -أيهما أغلى: الشاة أم المرأة الراعية، الأمة عند الرجل؟ الأمة عند الرجل أغلى، وفائدتها عنده عظيمة، لكن لما تأثر ما صار عنده مانع أن يعتقها- قال: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة). كثير من المسلمين اليوم يعتدون بالضرب على إخوانهم المسلمين الآخرين المستضعفين من الخدم، وحتى إخوانهم الصغار، يا ترى هل إذا أخطئوا يتأثرون مثل تأثر هذا الصحابي؟ هل إذا أخطئوا تنطلق منهم كلمات التأسف، الاعتذار، أم أن أحدهم تأخذه العزة بالإثم فيرفض أن يتفوه بكلمة واحدة يعتذر بها عما فعله؟
خوف الصحابة من فوات الطاعة عليهم:(7/6)
الصحابة حتى النساء كانوا يتأثرون إذا خافوا أن تفوتهم الطاعة، عن جابر بن عبد الله قال في الحديث الطويل في الحج: ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي، فقال: (ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن) الناس يذهبون إلى الحج، أنا لا أستطيع أن أذهب، أنا حائض. هذا الحيض خوفها فوات العبادة، خوفها فوات موسم الحج، موسم الفضل العظيم، عائشة رضي الله عنها تبكي في بيتها، تخاف أن يفوتها هذا الموسم، ماذا تفعل؟ حاضت، لا تعلم الحكم، فبكت تأثراً وخوفاً من فوات الطاعة، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بكلمات المربي الذي يعالج الحرج في نفوس أتباعه، قال لها: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج) أعطاها الحكم، فرج الهم الذي كان بها، خافت عائشة . اليوم -أيها الإخوة- كم من مواسم الطاعات تفوتنا؟ صغيرها وكبيرها، تفوتنا مواسم الطاعات، هل نحدث أي نوع من الأسف؟ هل نبكي على فوات صلاة الجماعة؟
تأثر الصحابة من عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:(7/7)
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاتب أصحابه على الخطأ كانوا يتأثرون من المعاتبة أشد التأثر لدرجة عظيمة. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة -قوم من الكفار- فأدركت رجلاً، فلما رفع أسامة عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فطعنته -أسامة يظن أن الرجل قال: لا إله إلا الله؛ اتقاء السيف، فقال: وماذا تنفعه؟ فطعنه فقتله- فوقع في نفسي من ذلك -هذا الفرق أيها الإخوة بين كثير من المسلمين اليوم وبين الصحابة- فوقع في نفسي من ذلك -كانوا إذا صار لهم أمر شك أنه خطأ يأتي فوراً ويعاتب نفسه إذا ظن أن الأمر فيه شيء، الناس اليوم تمر عليهم أمور وهو متأكد من تحريمها ولا يحدث في أنفسهم شيء مطلقاً، وقع في نفسه شيء، ربما أنه أخطأ، ماذا يعمل؟ إلى المرجع مباشرةً: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]- قال أسامة : فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لا إله إلا الله وقتلته؟! قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها متعوذاً، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) أقالها خوف السلاح أم لشيء آخر؟ فما زال يكرر ذلك، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقتلته؟ قال: نعم. قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فيقول أسامة: يا رسول الله! استغفر لي. قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فيقول أسامة: يا رسول الله! استغفر لي. فجعل لا يزيده على أن يقول: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) ماذا حدث -أيها الإخوة- في هذا الموقف؟ لما عاتبه على خطئه وبخه توبيخاً شديداً، وذكره بالحساب، ماذا تمنى الصحابي؟ ماذا قال؟ ما هي الكلمات التي عبر بها عن الحرج العظيم في نفسه؟ قال: ( فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ) تمنيت أني ما دخلت(7/8)
في الإسلام إلا بعد هذا الخطأ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، تمنيت أني ما أسلمت إلا في ذلك اليوم؛ لأنه عظم عليه هذا جداً. اليوم كثير من المجرمين يفعلون جرائم متعددة، وكبائر كبيرة جداً، لو سمعوا وعظم ذلك عليهم وقرعوا على أفعالهم، وأقيمت عليهم الأدلة على شناعة ما فعلوا ماذا يحدث لديهم من التأثر؟ أي تأثر يحدث في نفوسهم؟ فرق أيها الإخوة، هذه النفسيات اختلفت، فالناس نفوسهم اختلفت تماماً. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا من أهل العزة والبصيرة، من الذين يتأثرون إذا تليت عليهم آيات الله، وتزيدهم إيماناً. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
رجوع السلف عن الخطأ بعد التبيين لهم:(7/9)
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وأكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ووعظ الأمة فأثر فيها، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه. وعندما تقام الحجة على أناس ممن أخطئوا في تصوراتهم، وتقام الحجة على أهل الشبهات كانوا يرجعون، وكانوا يفيئون، حتى أهل البدع منهم، من أراد الله به خيراً كان يتأثر من كلام الصحابة، ورجوع ثمانية آلاف من الخوارج لما بين لهم ابن عباس رضي الله عنه الحجة دليل على هذا. وروى مسلم رحمه الله عن يزيد الفقير قال: [كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس.. هذا هو منطوق الخوارج ومفهومهم، نريد أن نحج -نأتي بالعبادة- ثم نخرج على الناس بالسيف ونقتل المؤمن والصالح والمحسن.. هذا المنطق الأعوج. قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم وهو متكئ على سارية، فقال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين. قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تحدثون والله يقول: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192] و كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22] -لأن الجهنميين قوم يخرجون من النار بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هذا الذي تقولون؟- قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام الذي يبعثه الله فيه؟ المقام المحمود، قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج -يعني: من النار- قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه.. إلى أن قال: فرجعنا فقلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله؟ فرجعنا -فرجعنا عن رأينا الفاسد، ورجعنا عن تلك المصيبة العظيمة التي وقعنا فيها- فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد..] أو(7/10)
كما قال أبو نعيم. فإذاً كان هؤلاء إذا أقيمت عليهم الحجة وأزيلت الشبهة، من أراد الله به الخير منهم كانوا يرجعون، وكثير منهم رجعوا، الأكثرية رجعوا، المسلمون اليوم ممن ينتسبون إلى الإسلام من أصحاب الشبهات لو أقيمت عليهم الحجة، هل يرجعون؟ الأكثرية رجعوا في عهد الصحابة، اليوم القلة، قلة جداً هي التي ترجع وتتأثر من الحجة عندما تقام عليها، عندما تسمع يا أخي الحجة أقيمت عليك ماذا يبقى لك بعد ذلك؟ وعندما كانت المرأة تجهل شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تعرف تلك الشخصية وقد أخطأت في حقها تتأثر تأثراً عظيماً. أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: (اتقي الله واشكري) فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، ما كانت تعلم أنه رسول الله، فألقت كلمة: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، فأخذها مثل الموت، كيف تكون علامات الميت من الاصفرار والذبول..؟ هذه العلامات أخذت المرأة، أخذها مثل الموت، لماذا أخذها مثل الموت؟ لأنها عرفت هذه الكلمة العظيمة أمام من ألقتها، استعظمت الكلمة التي ألقتها. اليوم تقول للناس شيئاً فيستهزئون به وينكرونه، فإذا قلتم لهم: يا جماعة.. إن هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يحدث لهم؟ هل يتأسفون؟ هل يأخذهم مثل الموت أو أدنى من ذلك؟ إذا عرفوا كلام من الذي استهزئوا به، ولا نقول أيها الإخوة: إن التأثر يقتصر على الحزن وذرف الدموع فقط، بل كان تأثرهم في أحيان فرحاً، يتأثرون من الفرحة، والحديث الصحيح لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فرح الناس بمقدمه فرحاً عظيماً حتى جعلت الولائد والإماء يقلن: جاء رسول الله، جاء رسول الله. جاء المربي، جاء المعلم، جاء صاحب الوحي الذي سينقل لهم مباشرةً وحي الله عز و جل، فرحوا بمجيء المعلم، فرحوا بمجيء الواعظ. اليوم الناس في مجالسهم لو جاءهم واعظ أو(7/11)
معلم هل يفرحون بمقدمه؟ هل يفرحون بمجيئه؟ هل تشتعل أنفسهم سروراً وغبطةً ويقولون في أنفسهم: الحمد لله، جاء من يرشدنا ويعلمنا. أم تعلوا وجوههم قترة وغبرة، ويتوارون من المجلس من سوء ما رأوا، ويريدون اللهو؟ إذاً -أيها الإخوة- الانفعال من سمات الشخصية الإسلامية، هذا الإحساس المرهف، هذه النفسية الرقيقة التي تتأثر لأدنى المواقف وأدنى الكلمات، حال إخواننا المسلمين اليوم في العالم يرثى له من التشريد والتقتيل والسجن والمجاعات، وأنواع الأوبئة والأمراض والاضطهاد، وأحوال الأقليات الإسلامية في العالم، من الذي يتأثر لها التأثر العملي -أيها الإخوة- الذي يؤدي إلى الدعم وإلى الإنفاق في سبيل الله؟ أشياء وأمور كثيرة جداً. نسأل الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم ممن يتأثرون بالوحي، وممن ينتفعون بهذا التأثر إلى أعمال البر وأعمال الخير بجميع أنواعها. وصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أخبر أنه من صلى عليه فإنه عز وجل يصلي عليه بتلك الصلاة عشر مرات، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صلى عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة فله أجر عظيم، فصلوا عليه -أيها الإخوة- سائر هذا اليوم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(7/12)
( العقوبات المعجلة للمعصية )
عناصر الموضوع :
آثار السيئات
المسلمون في الشيشان
العقوبات المعجلة للمعصية:
إن الرزق الحلال، والتوفيق إلى الطاعات، والمسرة والسعادة، وحلاوة العبادة ولذتها، والاستغناء عن الخلق واتباع الحق لهي الحياة الطيبة التي هي بغية كل إنسان. ولأجل الدعوة إلى ذلك جاءت هذه المادة موضحة نقيض ما سبق: الحياة الضنك، التي هي نتاج معجل للذنوب والمعاصي في تسعة آثار تلحق العاصي في الدنيا.
آثار السيئات:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يعطي الحياة الطيبة للمستقيمين على شرعه كما قال عز وجل: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] كما أنه يعطي المعيشة الضنك لمن يعصي الله تعالى، كما أخبر عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً [طه:124] قال السلف في الحياة الطيبة: الرزق الحلال، وقيل: القناعة، وقيل: التوفيق إلى الطاعات، وقيل: المسرة والسعادة، وقيل: حلاوة العبادة ولذتها، وقيل: الاستغناء عن الخلق واتباع الحق، والحياة الطيبة تشمل جميع أنواع الراحة الدنيوية أياً كانت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه) رواه مسلم
العيش الضنك:(8/1)
وأما المعيشة الضنك: فإنها تكون بأمورٍ كثيرة يحس بها العاصي، قال ابن القيم رحمه الله: وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمرٌ مشهودٌ في العالم، لا ينكره ذو عقلٍ سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وكما أن للحسنة نوراً في القلب وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق؛ فإن للسيئة في المقابل سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق، وكذلك فإن المعاصي تورث قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وخمول الذكر، وإضاعة الأوقات، ونفرة الخلق، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، وحرمان العلم، ولباس الذل، وضيق
الصدر، والهم والغم، وهكذا تتوالد هذه الآفات بسبب المعاصي
الحرمان من السعة في الرزق:(8/2)
والحرمان من السعة في الرزق بسبب الذنوب أمرٌ واضح [فإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه]. وقال الحسن رحمه الله لما شكا إليه رجلٌ الجدب: استغفر الله. وشكا إليه آخر الفقر فقال: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال: استغفر الله. وشكا إليه آخر عدم الولد فقال: استغفر الله. ثم تلا عليهم قوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح:10-12] ولذلك فلا تعجب إذا كانت المعاصي سبباً للطرد من وظيفة، أو تحصيل إنذارٍ في العمل، ومتعاطو المخدرات من أشد الناس فقداً لوظائفهم بسبب معاصيهم، وقد يترتب على المعاصي إتلاف عين المال، كما وقع لأصحاب الجنة الذين أتلف الله جنتهم وبستانهم بآفة سماوية أهلكت بستانهم وثمارهم، وأحرقتها، وجعلتها هشيماً يابساً، كما قال عز وجل: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:19-20]
هلاك مال العاصي:(8/3)
ولا تعجب يا عبد الله! من هلاك مال العاصي؛ لأن هناك ملائكة تدعو عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يومٍ يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) رواه البخاري ، قال ابن حجر رحمه الله: وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه، وقد يكون بمحق بركة المال، كما قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة:276] إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، تذهبه النفقات والفواتير والأمراض وغير ذلك؛ من وجوهٍ تنفتح على صاحب الربا، تمتص ماله وتذهبه، وهذا ذهاب عين المال، وأما ذهاب البركة فلا يحس له بفائدة، ولا يطعم منه خيراً، إن هذا المعنى موجودٌ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قِلة أو إلى قُلٍ) رواه ابن ماجة وهو حديثٌ حسن، ولذلك فإن هؤلاء الباعة الذين يغشون ويدلسون ويخفون عيوب السلع، وينزعون الملصقات المكتوب عليها بلدان التصنيع الحقيقية، ويضعون ملصقاتٍ أخرى لبلدان تصنيع وهمية، ونحو ذلك من أنواع الغش الذي يمارسونه في السوق، حتى قلما تجد صندوق خضرة أو فاكهة إلا ووجدت الرديء في أسلفه مغطىً بطبقةٍ جيدة فوقها، غش متكاثر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الباعة: (البيَّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). ولذلك تجد كثيراً من هؤلاء الباعة بركة كسبهم ممحوقة، لا يستمتعون بمال، فإذا حلفوا على الكذب (فإن الحلف منفقةٌ للسلعة ممحقةٌ للبركة) كما روى البخاري رضي الله عنه في صحيحه
الحرمان من الرزق:(8/4)
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن آثار المعاصي في الحرمان من الرزق في قوله: (ولم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين -أي القحط- وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا) وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذا الحرمان أمراً داخلياً في نفس العاصي، فلو ملك كنوز الدنيا فهو لا يزال يحس بالجوع والحرمان؛ لأنه لا قناعة لديه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قُدِّر له) فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: (جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله) فمهما كان عنده من الأموال فلا قناعة تريحه، ويحس دائماً بأنه منقوصٌ مبخوس ولو كان عنده ملايين، فالشره سيعذبه، والحرص والجشع سيحطمه، وهكذا لا يستمتع بمال
الإصابة بالمسخ والأسقام والأوجاع والأمراض:(8/5)
ثم إن للمعاصي -أيها الإخوة!- آثاراً سيئة على مرتكبيها في أنفسهم وأبدانهم، بما يصابون من المسخ والأوجاع والأسقام والأمراض، إن هذه المصائب قد تكون أوجاعاً ظاهرة، وقد تكون أوجاعاً نفسية، فأما الظاهرة فقد تكون بسبب عقوبةٍ شرعيةٍ حديةٍ، أي بالحدود والتعزيرات؛ كقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، ورجم الزاني ونحو ذلك، وقد تكون عقوبة قدرية في بدنه، فقد تكون على شكل مسخٍ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر هذه الأمة -ونحن في آخر الأمة نترقب حدوثه- خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ) رواه الترمذي وهو حديثٌ صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحر -أي الزنا- والحرير -... ثم قال: ويمسخ منهم آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة) فهذا مسخٌ حقيقي سيحدث بسبب المعاصي، فيصبح هؤلاء وقد مسخهم الله قردةً وخنازير، فيراهم الناس في صباح ذات يوم قردةً وخنازير، فهذه عقوبة حسية جسدية بالمسخ. وقد تكون بتسليط جنود الله الكونية، مثل هذه الميكروبات والفيروسات؛ فيصيبهم من الآفات ما الله به عليم، كما أخبر عليه الصلاة والسلام: (لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ) ومن تأمل ما حصل في هذا الزمان من الأمراض العجيبة التي ليس لها علاجٌ كمرض الإيدز وغيره؛ عرف أن هذه الإصابات عقوبة إلهية؛ لأنه مرضٌ لم يكن في أسلافنا الذين مضوا، فتنتشر هذه الآفات وتفتك بالملايين، ويقف الأطباء حيرى أمام هذه الأقدار الإلهية والعقوبات الربانية، لا يستطيعون بالرغم من تقدم علومهم، وتطور آلاتهم وأجهزتهم، ودقة مختبراتهم أن يقضوا على هذا المرض، بل لا زال ينتشر ويتفاقم ويودي كل يومٍ بالآلاف، وينتشر بالملايين، وهكذا يعاقب الله على المعاصي في الدنيا، ناهيك عن غير ذلك من الأمراض الجنسية وغيرها التي تصيب الناس بسبب وقوعهم في الزنا واللواط، وهذه القاذورات التي(8/6)
حرمها الله تعالى. وقد يكون المرض والألم مرضاً نفسياً، وأوجاعاً داخليةً ربما تفاقمت وزادت على بعض الأمراض الحسية، فالعبد قد يصيبه ألمٌ حسيٌ، فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه، ويجعله في شقاء دائم، وهذه الآلام النفسية قد تكون عند بعض المسلمين بسبب تأنيب الضمير من جراء المعاصي التي وقعوا فيها، وقد تكون عند متبلدي الإحساس كآبة ووسوسة وهواجس، وحزن وخوف، وإقدام على الانتحار، وإصابة بالجنون، ومن تأمل الازدياد المريع في الحالات النفسية، والأمراض التي انتشرت، وعدد رواد عياداتها ومستشفياتها؛ علم قدر ما تؤدي إليه المعاصي من الفتك الذريع في نفوس هؤلاء: رعبٌ داخلي، وسوسة مستمرة، خوفٌ وهلع، قلقٌ وأرق، لا يأتيه النوم بسبب المعاصي. ويطلق زوجته، ويشرد أولاده، ويهجر أقرباءه، وهكذا يعيش العصاة مطاردون والبلاء داخل نفوسهم، فكيف يهربون والله يعاقبهم من الداخل والخارج
فقدان الأمن:
وكذلك فقدان الأمن من آثار المعاصي، فتحدث المشكلات الكثيرة بسبب انتشارها، ويخاف الناس من بعضهم، وعلى أولادهم وممتلكاتهم بكثرة المعاصي
تسليط الأعداء:(8/7)
وتسليط الأعداء من آثار المعاصي أيضاً، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم) فإذا نزعت المهابة من صدور أعدائنا فإنهم سيتسلطون علينا بأنواع التسلط، فلا عجب في ذلك، وإذا صار بأسنا بيننا بسبب المعاصي والانحرافات العقائدية والعملية؛ فلا غرابة في ذلك، وإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما عصوه في أحد، وابتدروا الغنائم وتركوا المكان عوقبوا بتلك المصيبة العظيمة، كما جاء في الرواية: فلما أبوا صَرْفَ وجوههم أصيب سبعون قتيلاً، فما بالك بنا نحن ونحن أقل إيماناً وأضعف؟ ولذلك كان تسليط الأعداء علينا في هذا الزمان سبباً مباشراً وطبيعياً لما حدث عندنا من الانحرافات والمعاصي، ثم إن لله جنوداً يسلطهم؛ من ريحٍ مدمرة، أو زلازل مهلكة، أو براكين وهزاتٍ أرضية وصواعق وخسف وغير ذلك، وحتى عامة المسلمين يحسون بهذا. ولذلك وقعت مشاجراتٌ في تركيا بين بعضٍ عامة المسلمين وأصحاب الملاهي والخمارات، وقالوا لهم عيانا: أنتم سبب نكبتنا، وقام بعض العامة بالهجوم على شابٍ يُقَبِّلُ فتاة في الشارع بعد الزلزال بوقت، لا زالت الكارثة في أذهانهم ونفوسهم! ليقولوا وهم يهجمون: هذا سبب البلاء الذي نزل بنا، ولكن أصحاب الغفلة لا زالوا يصرون على تعليل هذه المصائب بأمورٍ دنيوية، وأنه لا علاقة للمعاصي بالقضية، ولا لترك الإسلام، وإذاً فقد كان المكان الذي ضربه الزلزال هو الذي اتخذ فيه قرار مواجهة المسلمين، وكذلك الإصرار على تنحية شرع الله، وليتهم يتعظون، فها هم يسنون القوانين لأجل تغيير أحكام قوامة الرجل على المرأة بحيث تخرج وقتما تشاء، وتكون حرةً في حياتها، وتشاركه في المقابل في النفقة، وهذا عين الفساد الذي أصاب الأسر الغربية، ولكن الله إذا طمس(8/8)
البصائر فلن تملك لهؤلاء هادياً ولا نوراً يدخل إلى قلوبهم. اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الحي القيوم أن ترزقنا التوبة من المعاصي، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين، إنك سميعٌ مجيب قريب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم
الحرمان من نور العلم:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أنه لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: إن من أشد العقوبات على المعاصي: الحرمان من نور العلم، فقد قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] فجعل التقوى سبب تعلم العلم، ولذلك تكون المعصية في المقابل وهي ترك التقوى سبب الخذلان والحرمان من العلم [إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها] وقال بعض السلف لآخر من أهل العلم يوصيه: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية، وصية عظيمة من مالك للشافعي لِمَا رأى من فطنته وذكائه، يوصي بها كل مدرسٍ كل طالبٍ يرى عليه مخايل الذكاء والنجابة، والفهم العميق، فيقول: لا تطفئ ذلك بظلمة المعصية، وكم من نجباء وأذكياء ضاعوا في خضم المعاصي، فلم ينفعهم ذكاؤهم، ولم يوجه إلى خيرهم ونفعهم، ولا نفع غيرهم من المسلمين، وقد يكون للطائع من التوفيق في اتخاذ القرارات في الطاعات في بعض المسائل التي لا يعلم حكمها، ويقع فيما لا بد من اتخاذ قرارٍ فيه، فيصيب الحق بنور الطاعة، بينما يخسر آخرون كثيرون فلا يهديهم الله تعالى لإصابة الحق، إن من أساسيات طالب العلم البعد عن المعاصي حتى يوفقه الله للفهم، ويمكنه من التعلم: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].
النفور الاجتماعي:(8/9)
ومن الآثار الفضيعة للمعاصي والذنوب: النفور الاجتماعي الذي يصاحب العاصي، فالمعاصي تُلحق بصاحبها بغضاً ومعاداة ونبذاً اجتماعياً رهيباً، والله تعالى لما أمر بإقامة حد الزنا قال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] فأراد الله إلحاق الأذى والذل بهؤلاء، وعدم الشفقة عليهم، وأن تكون الفضيحة بحضرة مجمعٍ من الناس ليكون أبلغ في الزجر والإهانة، ويحدث النفور الاجتماعي، والبغض في قلوب الخلق، وكذلك تغريب الزاني عاماً، فتحصل الوحشة في قلبه، وهكذا تكون الحدود من أسباب إهانة هؤلاء. ثم إن الشهادة عند القاضي المردودة بالمعصية من آثار هذا، وقد قال عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4] فالله تعالى حكم عليهم بالفسق وأمر ألا تقبل شهادتهم، وسلب اسم الإيمان عنهم، وألحقهم بأسماء الفسق، فقال: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ [الحجرات:11]. والإنسان العاصي يُسلب أسماء المدح والشرف؛ كالمؤمن والبر، والتقي والمنيب، والولي والأواب، والعابد والخائف، ويبدل بدلاً بذلك أسماء الفجور والمعصية؛ كالمفسد والخبيث، والزاني، والسارق، والقاتل، والكاذب، والقاطع، والغادر، ونحو ذلك، هذه الأسماء التي تجعل له وحشةً في قلوب الخلق فينفرون منه. وإن من الشؤم أن ينبذ الإخوان في الله صاحبهم العاصي من جراء معصيته، وهو يحس بأنه لا مكان له بينهم بسبب معاصيه، ويحس بأن قلوبهم قد تغيرت عليه، وأن هناك نفرةً، حتى ولو لم يؤذهم فإنه يحس بأن العلاقات(8/10)
متغيرة، وأن الوحشة حالة، وأن هناك تغيراً دون سببٍ ظاهرٍ، ولكن الله يوحش قلوب المؤمنين على العاصي؛ فلا يستقبلونه كما كانوا يستقبلونه، ولا يرحبون به كما كانوا يرحبون، ولا يكرمونه كما كانوا يكرمونه بسبب المعصية التي فعلها، وهكذا تتراكم المعاصي على قلب العاصي؛ فتهجره زوجته، ويستوحش منه أولاده وجيرانه، وهذه العلامة يحس بها العاصي إذا كان من حوله من عباد الله الصالحين، أما إذا كانوا من الفاسقين من مثله، فإنه قد لا يحس بشيء، بل هو في غفلته مع من يعمهون، ولذلك كان الانتظام في أهل الخير من أسباب سرعة الرد إلى الحق، عندما يحس العاصي بالوحشة فيسارع إلى التوبة والأوبة، والعودة إلى زمرة الصالحين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التقوى، وأن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
المسلمون في الشيشان:(8/11)
عباد الله! إن إخواننا في الشيشان يعيشون اليوم محنةً عصيبة بما حشد هؤلاء الكفرة عليهم، ومن يؤيدهم من النصارى واليهود في العالم، من هذه القروض التي تتوالى، والسكوت الذي يتعاظم، وعندما يريد أهل تيمور النصارى الاستقلال يفزع إخوانهم في الغي إليهم، وعندما يريد المسلمون في الشيشان أن يكون لهم كيانٌ مستقل فالخذلان، بل والتأييد على حرمانهم من حقوقهم، ولا عجب في ذلك، فإن الله قد أخبرنا أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، ولا يُنتظر من كافرٍ حماية لمسلمٍ أصلاً، ولو فعلوا ذلك نادراً فإنما هو لمصالحهم، لا من أجل سواد عيون المسلمين، إن هؤلاء النصارى الروس يتقدمون نحو نهر تيريك الكبير ليشكلوا حاجزاً بينهم وبين بقية بلاد الشيشان و الداغستان ، وتكون حينئذٍ المنافذ الوحيدة للسيارات والشاحنات والأفراد هي الجسور المعلقة التي يسيطرون عليها، ثم ينقلون العملاء إلى هذا المكان الذي احتلوه ويقيمون فيه كياناً يدفعون إليه اللاجئين، ويغدقون عليهم من أنواع الأموال، والمزايا الدنيوية ما يجعل الشطر الآخر فقيراً معدماً، ويجعل هذا الشطر الذي صار تحت حمايتهم غنياً تقوم فيه أنواع الخدمات المختلفة، ولا شك أن هذه الخطة الخبيثة التي ستقطع جزءاً كبيراً من أراضي المسلمين إنما هي نتيجة طبيعية لمكر هؤلاء الكفرة، نسأل الله عز وجل أن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، وأن يرزق إخواننا القيام بالجهاد الحق في ذلك المكان، لنشر الإسلام وإقامة الدين، وطرد أعداء الله النصارى الحاقدين. اللهم دمر الروس ومن والاهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، فجر بلادهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل عليهم عذاباً من فوقهم، الله أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً. اللهم فرق شملهم، وشتت جمعهم، الله اجمع كلمة المسلمين على جهادهم، وأيقظ في قلوب المؤمنين الحمية لقتالهم، اللهم اجعلنا ممن يشد أزرهم، ويعينهم على مصابهم، اللهم اجعلنا إخوةً في سبيلك متكاتفين،(8/12)
واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين، اللهم آمنا في بلداننا يا أرحم الرحمين، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، واحفظنا بحفظك، واغفر لنا يا عزيز يا غفور. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالم(8/13)
( الأذكار الشرعية بين الاهتمام والإهمال )
عناصر الموضوع:
أثر الأذكار في تقوية الإيمان
من أسباب إهمال الأذكار عدم معرفة فوائدها
الجهل من أسباب إهمال الأذكار
من أسباب إهمال الأذكار
فوائد مراجعة الأذكار
بعض الآداب والأحكام المتعلقة بالأذكار
الأذكار الشرعية بين الاهتمام والإهمال:
أمر الله المؤمنين بالإكثار من ذكره، وحمده وشكره، وأخبرهم أن ذلك أكبر، وأثنى على مجالس فيها يذكر، وعلى من ذكره خالياً فاتعظ واعتبر. تتمحور هذه المادة حول أسباب إهمال الأذكار، مع نقاش مستفيض عن كل سبب. وقد اشتملت أيضاً على كثير من الأذكار الواردة في السنة، مع بيان فوائد الأذكار في الدنيا والآخرة، وأهميتها، وغير ذلك مما يتعلق بها.
أثر الأذكار في تقوية الإيمان:(9/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن من عوامل تقوية الإيمان وتقوية الصلة بالله عز وجل ذكر الله تعالى، وما حصل الضعف والوهن في علاقتنا بالله تعالى إلا من وراء نسيان أسباب كثيرة، منها: إهمال الأذكار الشرعية التي شرعها الله لنا في كتابه، وعلمنا إياها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك صارت الأذكار مجهولة منسية مهملة عند الكثيرين من المسلمين، ولأجل هذا صار درسنا هذه الليلة للتذكير بهذا الموضوع الذي نحتاج إليه جميعاً بلا استثناء. وقد أمرنا الله عز وجل في كتابه بالإكثار من ذكره فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42] وأخبر أن ذكره أكبر من كل شيء، فقال عز وجل: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، وأخبر بأنه سبب لطمأنة القلوب: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وامتدح الله أقواماً من المؤمنين لأنهم يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] وهكذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأرضاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله) فجعله مفضلاً في وجه العموم على الإنفاق وعلى الجهاد، يعني: أن جنس الذكر أفضل من جنس الإنفاق ومن جنس الجهاد، وهو وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كثرت عليه شعائر الإسلام: (لما شكا الرجل حاله قال: يا رسول الله! إن شعائر الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بأمر أتشبث به،(9/2)
قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).
ذكر المنفرد وذكر المجالس ... :
والذكر من علامات الإخلاص، فإن الرجل الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه كان في ظل الرحمن يوم القيامة. ومجالس أهل الذكر محفوفة بالملائكة، مغشاة بالرحمة، منزل عليها السكينة، مذكور أهلها عند الله، وهو سبب نجاة يونس عليه السلام، فلولا أنه كان من المسبحين -قبل الحوت وفي بطن الحوت- فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].
أثر الذكر في الوقاية من الشيطان:(9/3)
وهو سبب لفك عقد الشيطان ونجاة المسلم منها، فمثلاً: عند القيام لصلاة الفجر إذا ذكر الله انحلت عقدة، فإذا توضأ انحلت الثانية، فإذا صلى انحلت الثالثة. وهذا الذكر حصن حصين إذا دخله العبد نجا من الشياطين إنسهم وجنهم، ولذلك لما جمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل كان مما قال لهم: وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلب العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً، فأحرز نفسه فيه، (وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى) حديث صحيح. وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت، أو مثل الحي والميت) وفي رواية لمسلم : (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)، (ما من ساعة تمر بابن آدم لا يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة) حديث صحيح، وليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت عليهم في الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها. وهو أرجى عمل ينجي العبد من عذاب الله: (ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله) أنجى عمل ينجي الإنسان من عذاب الله، وأرجى عمل ينجي الإنسان من عذاب الله ذكر الله عز وجل. وقال عليه الصلاة والسلام لرجل من الصحابة: (ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك وإن كنت مغفوراً لك؟ قل: لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله الحكيم الكريم، لا إله إلا الله سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين) حديث صحيح.
من أسباب إهمال الأذكار عدم معرفة فوائدها:(9/4)
فإذا جلسنا نتأمل الآن أيها الإخوة في الأسباب الباعثة للناس على إهمال ذكر الله عز وجل وعلى إهمال الأذكار الشرعية، فالأذكار الشرعية مهملة منسية عند كثير من المسلمين، لماذا؟ ما هو السبب؟ كيف نعالج الأمر؟ كيف نتدارك أنفسنا؟ من الأسباب أيها الإخوة: عدم معرفة فوائد هذا الذكر، ونستطيع أن نتوصل إلى حمل أنفسنا على ذكر الله بالأذكار العامة أو بالأذكار الخاصة، الأذكار العامة مثل: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله)، (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنز الجنة) أذكار عامة، هناك أذكار خاصة عند النوم، وعند الوضوء، وفي السفر، وفي الصباح والمساء، وأذكار خاصة بمناسبات معينة، فكلا الأمرين صار فيهما غفلة، ينبغي أن نعرف أولاً فوائد الذكر، حتى نشعر بأهمية هذا الموضوع، فنستطيع أن نرتقي بأنفسنا منازل للأخذ بزمام هذه الأذكار، فلو لم يكن الذكر مهماً ما شدد عليه في القرآن والسنة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41] وأمر بالذكر في أصعب المواقف عند المعركة، إذا احتدمت الحرب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الأنفال:45]. وصدأ القلب الذي نحس به في كثير من الأحيان، هذه السحابة التي نحس بها تظلل قلوبنا في كثير من الأوقات، لا يقشعها إلا ذكر الله عز وجل بأنواعه، فالغفلة والذنب لا يزيلها إلا ذكر الله عز وجل، وهذا الران الأسود الذي يعلو القلوب لا يمكن أن يزال إلا بذكر الله عز وجل، وهناك أناس من الغافلين طبع الله على قلوبهم، قال الله في التحذير منهم: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] كيف تفارط أمره؟ لما أعرض عن أمر الله عز وجل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28] هناك أيها الإخوة في المكاتب والمدارس(9/5)
والمستشفيات والقاعات المختلفة، والأروقة والدهاليز أناس كثيرون لا يذكرون الله، من الأغنياء، والرؤساء، والوجهاء، والكبراء أناس لا يذكرون الله، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28] عاقبهم الله على إعراضهم عن شريعته بأن حرمهم من ألذ شيء للروح والقلب وهو ذكر الله عز وجل: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا [الكهف:28] فأية عقوبة أسوأ من هذه العقوبة؟!
ذكر ابن القيم لفوائد الذكر: ...
وفي الذكر فوائد كثيرة، عدها ابن القيم رحمه الله تعالى وغيره: فمنها: أنه يطرد الشيطان. ومنها: أنه يرضي الرحمن. ومنها: أنه يزيل الهم والغم عن القلب. ومنها: أنه يفرح القلب ويجعله مسرورا. ومنها: أنه ينور الوجه. ومنها: أنه من الأسباب الجالبة للرزق. ومنها: أنه يورث القلب محبة الله عز وجل، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره. ومنها: أنه يجعل العبد منيباً إلى ربه، رجاعاً إليه، فيكون الله ملاذه وملجأه سبحانه وتعالى. ومنها: أن الله يفتح للذاكر أبواب العلوم والمعارف، فيفقه في أنواع من العلم لا يفقهها بدون ذكر الله عز وجل، ولذلك كان الناس من الصالحين والعلماء يستعينون على فهم المسائل بذكر الله، والابتهال إليه، والتضرع عنده، والتذلل على أعتابه عز وجل، طالبين منه أن يفتح عليهم: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني. بل إن الله أمر القضاة، أمر الناس الذين يفصلون في المسائل، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم إذا فصل في المسألة أن يقول: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ * وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً [النساء:104-105] لذلك قال أهل العلم: يشرع للقاضي إذا فصل في مسألة أن يقول بعد حكمه فيها: أستغفر الله.
فائدة الذكر في تقوية القلب:(9/6)
ومن فوائده أيضاً: أنه يقوي القلب ويجرئه في مواجهة أعتى المواقف. ولذلك ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم في قتال فارس والروم مع أنهم أعظم أجساماً وأقوى أسلحة وأكثر عدداً وعدة كيف صبر الصحابة أمامهم، ومع الكفار الفيلة، ومعهم أنواع من المنجنيقات وآلات الحرب لم يكن العرب يعرفونها أو يعرفون مثل عظمها؟ كيف ثبتوا أمامهم؟ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً [الأنفال:45] فغلبوهم بإذن الله. وذكر الله عز وجل يورث أن يذكرك الله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).
فائدة الذكر في علاقة العبد بربه:(9/7)
وكذلك فإن ذكر الله يزيل الوحشة بين العبد وربه، هذه الظلمة أو هذا البعد الذي نحسه أحياناً في علاقتنا بالله عز وجل هذا لا يزيله إلا ذكر الله تعالى، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن ما تذكرون من جلال الله عز وجل من التهليل والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن، أفلا يحب أحدكم أن يكون له ما يذكر به؟!) الناس يحبون في الدنيا أن يعملوا أعمالاً يذكرون بها بعد ذلك، وأهل الصلاح أيضاً يحبون أن يكون لهم ما يذكرون به في الدنيا وفي الآخرة؛ في الدنيا لكي يترحم عليهم الناس .. ألم يقل نبي الله: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84] يذكرني الناس به، فيدعون لي فأزداد أجراً وثواباً، هذه الأذكار عند الله تحمي صاحبها في أوقات الشدة، في أهوال يوم القيامة، هذا التحميد، وهذا التكبير، وهذا التهليل، يكون عوناً لصاحبه في الشدائد يوم القيامة. وكذلك فإن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ويأمن العبد من الحسرة يوم القيامة كما قدمنا بذكره لله في جميع الساعات، ومع أن الذكر باللسان حركته خفيفة لا يأخذ جهداً إلا أنه عند الله ثقيل جداً: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) كم تأخذ منك جهداً لتقولها؟ كم تأخذ منك وقتاً لتقولها؟ لكنها أثقل عند الله من الجبال الرواسي. وكذلك فإن غراس الجنة ذكر الله، وقد جاء في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقيت ليلة أسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه الترمذي وهو حديث صحيح. ولذلك: (من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له نخلة في الجنة) كما ورد في الحديث الصحيح. وكذلك فإن قسوة القلب كما قدمنا يذيبها ذكر(9/8)
الله كما جاء رجل إلى أحد السلف، فشكا إليه قسوة قلبه، فقال: أذبها بذكر الله. أذب هذه القسوة بذكر الله. وما استجلبت نعمٌ للعبد بمثل ما تستجلب بذكر الله، الأسباب الجالبة للنعم كثيرة، ومن أعظمها ذكر الله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] ورأس الشكر هو ذكر الله عز وجل. وكذلك فإن ذكر الله يجعل للعبد الذاكر صلوات عليه من ربه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب:41-43] فأتى بهذه: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب:43] بعد أي شيء؟ بعد الأمر بالذكر. وكذلك فإن الله يباهي بالذاكرين الملائكة، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: (خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، قال: آالله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله تعالى، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: آالله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة) ما هو المجلس أيها الإخوة؟ يذكرون الله تعالى ويتذكرون نعمة الله فيما من الله به عليهم من الهداية إلى الإسلام، ولذلك ينبغي أن يكون هذا الموضوع مما يكثر طرقه في المجالس، ذكر الله وحمده على نعمة الهداية إلى هذا الدين،(9/9)
أناس في غياهب الشرك يعبدون بقراً وحجراً ونجوماً وكواكب وأناساً وأصناماً وشياطين وجنا، وبعضهم وصل به إلى أن عبد فرج المرأة، أفلا تكون هذه النعمة العظيمة نعمة الهداية إلى الله للإسلام من الأمور التي ينبغي أن يكثر من طرقها في المجالس؟
نيابة الذكر عن بعض التطوعات: ...
وكذلك فإن دوام ذكر الله عز وجل ينوب عن التطوعات الكثيرة التي تأخذ جهداً ووقتاً، وتعوض الذي لا يستطيع أن يفعل بعض الأعمال فتعوضه، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم -هم أغنياء يتصدقون، ونحن فقراء ليس عندنا ما نتصدق به، فحرمنا من أجر الصدقة، يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون بالأموال- فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا أحد يكون أفضل منكم إلا من صنع ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ... الخ). وذكر الله يسهل الصعب وييسر العسير، ويخفف المشاق، وما ذكر عبد ربه في شدة إلا زالت، ولا مشقة إلا خفت، ولا كربة إلا فرجت، وهو الجالب للفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، وبعد الغم والهم.
فائدة الذكر في تقوية البدن:(9/10)
ومن فوائده: فذكر الله يعطي الذاكر بالإضافة إلى قوة القلب قوة في بدنه، وهذا ما استدللنا به قبل قليل على صمود الصحابة أمام الكفار، وهزيمتهم للكفرة مع أنهم أقوى أبداناً، وقال ابن القيم رحمه الله: وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناس في جمعة أو أكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب -لما حارب التتار- أمراً عظيماً. ومن الأدلة على أن الذكر يقوي الجسد: أن فاطمة و علياً شكيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضعف، فاطمة عليها شغل كثير في البيت، طلبت خادماً فعلمهما صلى الله عليه وسلم أن يسبحا ويهللا ويكبرا قبل النوم ثلاثاً وثلاثين يغنيهم عن الخادم. فاستدل منه بعض أهل العلم على أن ذكر الله للمرأة التي تعمل في البيت تستفيد من هذا إذا كثر عليها الأولاد، ونظافة البيت والطبخ والغسيل، ونحو ذلك، فإن من أهم ما تستعين به على هذا؛ هذا التسبيح والتكبير والتهليل قبل النوم. ولا أعظم من فوائد الذكر من أن يصدق الرب عبده حين يذكره، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا قال العبد: لا إله إلا الله والله أكبر، يقول الله تبارك وتعالى: صدق عبدي لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال: صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي) هؤلاء أيها الإخوة من رزقهن عند موته لم تمسه النار. وكذلك فإن ذكر الله يبعد عن مشابهة المنافقين، فإن من صفاتهم أنهم لا يذكرون الله إلا قليلا.
شهادة الأرض للذاكر:(9/11)
ومن فوائده: أن تضاريس الأرض تشهد للذاكر عند الله عندما يذكر الله عندها، (فما من عبد يذكر ربه في سهل ولا جبل، ولا طريق ولا بقعة أرض في سفر ولا في حضر -في بيت أو خارج البيت، على أريكة أو كرسي أو على الأرض، قائماً أو قاعداً أو نائماً يذكر الله- إلا شهدت له هذه البقاع عند الله) ولو أنه صعد في الطائرة فذكر الله في ذلك الموضع لشهد له ذلك الموضع عند الله، ألم يقل الله عز وجل: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:1-5] وما هو تحديثها لأخبارها؟ (أنها تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا) حديث حسن بشواهده، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذهب من طريق يوم العيد رجع من طريق آخر، ولذلك أمر المسافر أن يكبر عندما يصعد ويسبح عندما ينزل، كل هذه المرتفعات والمنخفضات تشهد للذاكر عند الله. ونختم هذه الفوائد المختصرة: أنه لو لم يكن في ذكر الله من الفائدة إلا أن يشغل اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والقول بلا علم إلى غير ذلك من آفات اللسان لكان كافياً، أليس كذلك؟ عندما ينشغل الإنسان بذكر الله لا يشتغل بالمصائب والمعايب.
فوائد الأذكار في الوقاية من الأمراض: ...(9/12)
وهناك فوائد كما قدمنا شرعية دينية، وفوائد بدنية للأذكار، فمثلاً: عندما يرى الإنسان مبتلى فيقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، فعندما يرى مشلولاً أو أعمى، أو مجنوناً، أو معتوهاً، أو عجوزاً بلغ به الخرف كل مبلغ، أو أبرص، أو أي عيب من العيوب، فيقول: (الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، لم يصبه ذلك البلاء) هذا من الفوائد الدنيوية. ومثلاً: ذكر الله يحمي من صرع الجن، وعامة من يتلبس بهم الجان فيصرعهم، وتأتيهم نوبات الصرع من الذين كانوا غافلين عن ذكر الله، ويبعد تأثير السحر، وكثير من الناس في هذا الزمان انتشرت فيهم قضية الإضرار بالسحر، والتضرر به ويقولون: ماذا نفعل؟ ويلجئون إلى العرافين، والكهان والمشعوذين والدجالين ويقولون: ماذا نفعل؟ نقول: أين أنتم من ذكر الله؟ لو ذكرتم ربكم لذهبت عنكم هذه الآفات ولما حصلت بكم أصلاً. ومن الفوائد أيضاً البدنية أو الدنيوية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقربٍ لدغتني البارحة -لدغة عقرب شديدة- قال عليه الصلاة والسلام معلماً: أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك) انظر.. ما تضرك لدغة العقرب مع أنها طبياً مميتة قاتلة، لكن لو قلت حين أمسيت: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك) وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال حين يمسي ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضره حمة تلك الليلة) الحمة: كل ما يلدغ ويؤذي من العقارب والحيات ونحوها، قال سهيل أحد السلف: فكان أهلها تعلموها -علمناها لأهلنا هذا الذكر- فكانوا يقولونها كل ليلة، فلدغت جارية منهم -بنت صغيرة- فلم تجد لها وجعاً .. حديث صحيح. وانظر كيف تقرب الأذكار بين المسلمين فإن لها فوائد اجتماعية، فمثلاً: السلام ورد(9/13)
السلام، وما يقوله المسلم عند العطاس والرد على ذلك ورد العاطس بعده، وقول الرجل لأخيه: إني أحبك في الله، ورد أخيه عليه: أحبك الله الذي أحببتني فيه. هذه الأشياء أيها الإخوة تقرب بين المسلمين، هذه من فوائد الأذكار.
الأذكار فيها تفاعل الحواس مع الأحداث:
وتأمل كيف أن الأذكار تجعل اشتراك الحواس قوياً فيها، ولذلك مثلاً: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً) فجاء الذكر بعد ماذا؟ بعد السماع. (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، من رأى مبتلى فقال كذا .. (إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً)، (إذا سمعتم نباح الكلب ونهيق الحمار بالليل فتعوذوا بالليل فإنهن يرين ما لا ترون)، عند سماع الرعد: يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك. فإذاً: هذه الأذكار عبارة عن مشاركة.. عبارة عن تفاعل حواس المسلم مع ما يحدث يومياً من الأشياء، وهي ليست عبارة عن نصوص تقال فقط، وإنما بعض الأذكار عبارة عن ردة فعل من المسلم لما يراه أو يسمعه أو يحسه، فهذه نقطة مهمة جداً في الأذكار، إن الأذكار ليست نصوصاً تقال وتسمع فقط، أشياء روتينية، لا، وإنما بعض الأذكار عبارة عن تفاعل إحساس المسلم مع الأشياء التي تحدث حوله، فإذا رأى أو سمع أو أحس قال أذكاراً معينة، مالها وقت محدد، إذا حدث ذكر، وهذا يعني أن الأذكار توقظ في نفس المسلم الحس بذكر الله في الأحداث المختلفة، وتأمل أيضاً أن بعض الأذكار تقال في مواضع عجيبة، تدل فعلاً على أن شرعية الأذكار هذه شرعت لأجل إيقاظ حس المسلم، أول شيء يقوله الإنسان إذا قام من النوم، الموتة الصغرى أول شيء: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) تقال الأذكار في مواضع بعض الناس يستغرب، مثلاً الذكر عند الجماع جماع الزوجة، وعند اشتداد شهوة الإنسان، يطالب بأن يقول: (بسم الله اللهم(9/14)
جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) هذا موضع غريب يلفت الأنظار أن يكون في ذلك الموضع ذكر الله. عند دخول الخلاء موضع غريب لكن يقول عند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) فأنت إذا تأملت أيضاً المواضع التي تحصل فيها الأذكار فإنك تحس بأنها في أوقات مختلفة أحياناً لكونها في وقت معين وأحياناً لا يكون لها وقت معين، وفي أحوال مختلفة من الحزن والفرح والشهوة والغم والضعف والقوة والموت -الموتة الصغرى- والبعث منه ونحو ذلك. هذه قضية واحدة: معرفة فوائد الأذكار تحمس المسلم وتدفعه للذكر.
الجهل من أسباب إهمال الأذكار:(9/15)
ثانياً: إن كثيراً من المسلمين قد فرطوا في الأذكار وأهملوا فيها بسبب جهلهم بالأذكار، ببساطة لا يعرف ما هي الأذكار، لا يدري ماذا يقول، يقول واحد من الناس: والله لا أدري يا أخي ماذا أقول عند النوم .. إذا سألتني ماذا أقول عند النوم فإني لا أدري! لو قلت لي: ماذا تقول عند دخول المسجد؟ أقول لك: لا أدري، لو قلت لي: ماذا تقول عند الكرب والهم؟ أقول لك: لا أدري، فالجهل بها من أسباب الإهمال، ولذلك لا بد من تعلم الأذكار، لا بد من تعلم ماذا يقال في المناسبات المختلفة، وها نحن نعرض لكم بسرعة طائفة من الأذكار في مناسباتها المختلفة: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن) وعندما يقول: حيّ على الصلاة، ماذا نقول؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: الصلاة خير من النوم، ماذا نقول؟ الصلاة خير من النوم، (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)، وعند الشهادتين إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله نقول: أشهد أن لا إله إلا الله (رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. من قالها غفر له ذنبه) حديث صحيح. (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة). قبل الوضوء ماذا نقول؟ بسم الله (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) صحيح بشواهده. وبعد الوضوء ماذا نقول؟ (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) وماذا أيضاً؟ (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. من قالها وضعت في رق فختم عليه بطابع فيجعل عند الله -لا يكسر- إلى يوم القيامة ليجزي الله به صاحبه)، وعندما يكون المسلم في الخلاء يقول: بسم الله، في نفسه لا يجهر بها، وإذا نسي فوضوءه صحيح. وعند دخول المسجد: (أعوذ بالله العظيم،(9/16)
وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، إذا قالها العبد قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)، وإذا دخل أيضاً المسجد يقول: (اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وإذا خرج: (اللهم إني أسألك من فضلك).
أذكار الصباح والمساء:
وفي الصباح والمساء يقول أذكاراً كثيرة: عن خبيب قال: (خرجنا في ليلة مطيرة وظلمة شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، قال فأدركته، قال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، فلم أقل شيئاً، قال: قل، قلت: ما أقول؟ قال: قل هو الله أحد، والمعوذتين حين تمسي وتصبح، ثلاث مرات تكفيك من كل شيء) اعتبرها مثل الدواء، وهي أعظم من الدواء، إن الناس يحافظون على الأدوية بمقاديرها وعدد مرات أخذها أكثر مما يحافظون على الأذكار بكثير، ويتفطنون للدواء الذي يعالج الجسد وقد لا يعالج الجسد، ولا يتفطنون لذكر الله الذي يعالج القلب والجسد. ومن أذكار الصباح والمساء: سبحان الله وبحمده مائة مرة، سيد الاستغفار: (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء) ثلاث مرات، ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) ثلاث مرات، (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت)، (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير ...) الخ، (اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم)، (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني ومن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي). (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت. عشر مرات). (إذا أصبح أحدكم فليقل: أصبحنا وأصبح الملك لله رب(9/17)
العالمين، اللهم إني أسألك خير هذا اليوم، فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه -وفي رواية: فتحه ونصره وتأييده- وأعوذ بك من شر ما فيه وشر ما قبله وشر ما بعده) حديث صحيح. عند النوم ماذا نقول؟ (باسمك اللهم أموت وأحيا) وإذا قام من النوم: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، عند النوم قراءة المعوذات والنفث في اليدين ومسح الوجه والجسد بهما ثلاث مرات. (التكبير أربعاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتسبيح ثلاثاً وثلاثين، خير لكما من خادم) كما قال عليه الصلاة والسلام. (باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)، (اللهم اغفر لي ذنبي واخسئ شيطاني، وفك رهاني، وثقل ميزاني واجعلني في الندي الأعلى)، (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية)، (اللهم إني أسلمت وجهي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت). إذا انتبه الإنسان من الليل.. استيقظ من الليل فجأة ماذا يقول؟ (من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا إلا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).
أذكار السفر والنكاح والطعام: ...(9/18)
عند السفر أنتم تعلمون الأذكار.. التكبير ثلاث مرات سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13] (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ..) الخ، (اللهم أنت الصاحب في السفر)، والاستعاذة من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، وعند الصعود يكبر، وعند النزول يسبح، سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار ... في بداية النكاح خطبة الحاجة المعروفة، وإذا دخل بزوجته: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)، ماذا نهنئه؟ (بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير)، ماذا نقول له أيضاً؟ (على الخير والبركة وعلى خير طائر) كما قالت نساء الأنصار. عند الجماع قدمنا الذكر فيه، وإذا رزقنا بمولود فتأسى ببنت عمران: وأعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم، كان حسناً. وعند الطعام: بسم الله، وإذا نسي: أضاف: أوله وآخره، وبعده: الحمد لله، وأيضاً: (اللهم إنك أطعمت وسقيت، وأغنيت وأقنيت، وهديت واجتبيت، اللهم فلك الحمد على ما أعطيت، الحمد لله الذي كفانا وأروانا -وفي رواية: وآوانا- غير مكفي ولا مكفور)، (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع -يعني متروك- ولا مستغنىً عنه ربنا، الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، الحمد لله الذي كفانا وآوانا). (إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأبدلنا خيراً منه، وإذا شرب لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيءٌ يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن).
أذكار المطر والريح والفزع:(9/19)
عند المطر: (مطرنا بفضل الله ورحمته)، وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى المطر يقول: (رحمة رحمة) ويقول: (اللهم صيباً نافعاً) وإذا رئي القمر قال لعائشة : (استعيذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب). وإذا جاء لمريض: (طهور، لا بأس إن شاء الله) بالإضافة للأدعية الأخرى. وإذا بدأ صلاح الثمرة -الثمر بدأ الآن ينضج ويستوي- (اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي ثمارنا، وفي مدنا وفي صاعنا، بركة مع بركة)، وإذا جيء به إلى شخص يعطيه إلى أصغر الصبيان عنده ليأكله كما هي السنة. وإذا عصفت الريح: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)، وإذا اشتدت قال: (اللهم لقحاً لا عقيماً) يعني: مفيدة لا ضارة. وإذا فزع من النوم: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فلو قالها: لا يضره شيء)، وكان إذا تضور من الليل قال: (لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار).
أذكار الغضب والمصائب:
وعند الغضب ماذا يقول؟ (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وإذا جاءه الشيطان في الصلاة: (يستعيذ ويتفل عن يساره ثلاثاً)، وإذا نزل منزلاً في رحلة في بر في سفر: ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق )، وإذا ذكر رسول الله ماذا يقول؟ صلى الله عليه وسلم، وفي كل مجلس يقول: صلى الله عليه وسلم، وقبل الدعاء يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، يوم الجمعة في التشهد الأول أحياناً ثبت أنه يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الأخير وجوباً يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم. وعند المصيبة: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إنا لله وإنا إليه راجعون)، في التعزية: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب).
أذكار أخرى متفرقة:(9/20)
وعند وضع الميت في القبر: (بسم الله وعلى ملة رسول الله)، وعند التعجب من أمر: سبحان الله، وعند السرور من أمر: الله أكبر، لما أخبرهم قال: (أنتم ربع أهل الجنة فكبروا، أنتم نصف أهل الجنة فكبرنا)، عند السرور بشيء، وعند البشارة بشيء: الله أكبر، عند اللقاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وردها، وأيضاً: مرحباً، كان يقولها صلى الله عليه وسلم، وإذا تعثرت الدابة يقول: بسم الله، والمسافر يقول: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، ماذا يرد؟ (أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه) فإن قال المودع: (أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه) ورد في السنة أيضاً. وعند لبس الثوب الجديد: (البس جديداً وعش حميداً ومت شهيداً)، ويقال: ابلي واخلقي، وماذا يقول اللابس؟ (اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له)، وإذا رأى رؤيا طيبة يحمد الله، وإذا رأى حلماً سيئاً يستعيذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى ثلاث مرات، ويتفل عن يساره ثلاثاً. وإذا سبك أحد عند الصيام تقول: (إني صائم إني صائم). أذكار الحج في طوافه وسعيه وتلبيته ورميه ووقوفه كثيرة جداً، وإذا خاف قوماً: (حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم إني أجعلك في نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم)، وإذا قدم إنسان بصدقة ماذا نقول له؟ (اللهم صل على آل أبي فلان) لو كان اسمه عبد الرحمن نقول: اللهم صل على آل عبد الرحمن كما ورد في السنة. إذا خاف إنسان أن يصيب نفسه بالعين أو أولاده أو صديقه أو مالاً من الأموال ماذا يقول؟ (إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة فإن العين حق)، (استعيذوا بالله من العين فإن العين حق) حديثان صحيحان. إذا عطس يقول: الحمد لله رب العالمين، فيقول له صاحبه: يرحمك الله، فيقول هو: يغفر الله لنا ولكم، هذه إحدى الصيغ. الصيغة الأخرى: الحمد لله على كل حال، يقول له من حوله: يرحمك الله، يقول هو:(9/21)
يهديكم الله ويصلح بالكم. صيغة ثالثة: يقول: الحمد لله، يقول له صاحبه: يرحمك الله، يقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم، وهي المشهورة، وكل الثلاثة صحيحة ومن ينكر على من يفعل واحدة منها فإنه جاهل. إذا عطس الكافر وقال: الحمد لله، ماذا نقول له؟ نقول: يهديكم الله ويصلح بالكم. كما رد عليه الصلاة والسلام على اليهود الذين كانوا يتعاطسون عنده. في كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك)، إذا رأيت شيئاً ساراً ماذا تقول؟ إذا جاءك خبر طيب، إذا جاءك الخبر كما تريد: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. إذا رأيت شيئاً مكروهاً وحصل لك ما ليس مرغوباً تقول: الحمد لله على كل حال. إذا نزل بك كرب أو هم أو غم أو بلاء .. (ألا أخبركم بشيء إذا نزل بأحد منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا دعا به ففرج عنه دعاء ذي النون: (( لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ))[الأنبياء:87])، (دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت (( لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )) [الأنبياء:87] لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له). (ألا أعلمك كلمات تقولهن عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً)، (كان إذا راعه شيءٌ قال: الله الله ربي لا أشرك به شيئا). (كان إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث). دعوات المكروب: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت). (من أصابه هم أو غم أو سقم أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له، كشف عنه). كلها أحاديث صحيحة. إذا صابك دين .. هم من الدين وأصبح الدائنون يطاردونك ويقضون مضجعك ويقلقون راحتك: (ألا أعلمك كلمات لو كان عليك مثل جبل صبير ديناً أداه الله عنك قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك) حديث صحيح. هذه -أيها الإخوة- طائفة من(9/22)
الأذكار التي تقال عند الأحوال المختلفة، فلماذا يقصر الناس في الأذكار؟ لأنهم لا يعلمون ماذا يقولون، ما هو الواجب؟ قراءتها وحفظها، واستعمالها دائماً لترسخ في الذهن.
من أسباب إهمال الأذكار: ... ...
الجهل بأجر الأذكار:
ومن الأسباب التي نعالج بها قضية الإهمال في الأذكار: معرفة الأجر؛ لأنك إذا عرفت الأجر يحصل حماس للعمل. فمثلاً: إذا قلت بعد الوضوء الذكر الذي ذكرناه تفتح أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل، وإذا خرجت من المنزل وقلت الدعاء المعروف في خروجك من المنزل حفظت من الشيطان، وإذا قلت: آمين، في الصلاة (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، (من وافق قوله: اللهم ربنا لك الحمد، قول الملائكة بعد الرفع من الركوع غفر له ما تقدم من ذنبه)، من قال: (ربنا ولك الحمد حمداً كثيرً طيباً مباركاً فيه، قال صلى الله عليه وسلم: رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً)، (وإذا سبح ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة وحمد وكبر وأكمل المائة لا إله إلا الله، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت)، (من صلى صلاة الصبح في مسجدي جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين تسبيحة الضحى كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) حديث صحيح من روايات مجتمعة. والمرأة إذا صلت في بيتها لأن السنة لها أن تصلي في البيت، وقعدت في مصلاها تذكر الله إلى طلوع الشمس يرجى لها نفس الأجر. سيد الاستغفار إذا قيل في الصباح ومات الإنسان وقد قاله موقناً به أو في المساء دخل الجنة. (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي). بل ورد في الحديث الصحيح: (أن الله يبعث له مسلحة(9/23)
تحرسه في النهار -يعني: ملائكة- ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل عملاً أكثر من ذلك). (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) قال عليه الصلاة والسلام: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة).
الجهل بمعاني الأذكار:
من الأسباب أيضاً أيها الإخوة التي تؤدي إلى إهمال الأذكار: عدم معرفة معانيها. فمثلاً أسألكم: سيد الاستغفار ما نصه؟ (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي) ما معنى أبوء؟ يعني: أعترف بنعمتك علي وأقر بذنبي، وأبوء بذنبي.. الذي لا يعرف معنى: أبوء سيصبح هذا لغزاً بالنسبة له، فلن تتشوق نفسه وتنجذب إلى قوله، ولذلك ينبغي فهم معاني الأذكار وهناك كتاب اسمه تحفة الذاكرين للشوكاني جيد في معرفة معاني الأذكار .. وفيه في أحاديث صحيحة وضعيفة لكن خذ شرح الأحاديث الصحيحة من هذا الكتاب.
البيئة الفاسدة من أسباب إهمال الأذكار:
لقيت شخصاً مرة من المبتعثين إلى الخارج فقلت له: برأيك ما السبب في إهمال الناس للأذكار؟ فقال: أنت يا أخي إذا سافرت إلى ذلك المكان، كل الذين حولك لا يذكرون الله أبداً، فكيف سيخطر ببالك ذكر الله؟ قال: نحن في أمريكا نعيش مع ناس كفار من جميع الجوانب معك دائماً في كل مكان لا يمكن أن نتذكر ذكر الله، كل أحاديثهم عن الدنيا. إذاً: من الأسباب أن بعض الناس يعيشون في بيئات لا تذكر بالله أصلاً .. أصحاب معاصٍ وفجور وفسق وكفر واستهزاء بالدين، أو على أقل أحوالهم اقتصار الكلام في الدنيا والدنيا: الأسعار والأسواق والسلع والوظائف والترقيات..! فكيف سيتذكرون أصلاً ذكر الله؟! ولذلك لا بد للإنسان أن يعيش في جو يذكره بالله. هذا من العلاجات المهمة.(9/24)
التلفظ بالأذكار وإسرارها:
بعض الناس يعتقدون أن التلفظ بالأذكار بدعة، فقال لي واحد: أنا كنت أظن منذ أن تعلمت أن النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة، أقول: معنى ذلك ينبغي أن ننوي الأذكار نية بالقلب، فلا نتلفظ بشيء، لأن التلفظ بدعة، فهذا أتي من باب عدم التفريق بين النية وبين الأذكار، النية شيء و(سبحان ربي الأعلى) شيء ثان، النية شيء و(الله أكبر) في تكبيرة الإحرام شيء آخر، فإذاً من أسباب الإهمال: اعتقادات خاطئة مغلوطة مثل هذا الاعتقاد. أحياناً بعض الناس يظن أن الجهر بالأذكار والتلفظ بها يخالف الحضارة والرقي، وأن المدير والطبيب والمهندس لا يليق يعني في صالة الاجتماعات في المستشفى وفي القاعات وهذه الأمكنة الراقية كما يقولون .. مطعم راق، فندق راق، يعني هذا ليس محلاً يقال فيه: سبحان الله، يعني لا يتلاءم، بهو المستشفى، وفخامة القاعات والناس الذين يأتون للتجارة والأعمال والوظائف، كيف أقول فيها: بسم الله ولا إله إلا الله، فلذلك تجد بعض الكبار في السن يدخل في أكبر قاعة فتجد لسانه من عادته تحصله يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بعض الناس ينظرون إليه ويقولون: انظروا إلى هذا المتخلف القادم من العصور الحجرية، قادم من آخر الدنيا لكي يقول: لا إله إلا الله، انظر إلى أي درجة تصل الأمور الآن فعلاً .. أضرب لك مثالاً: ذهب أحدهم ليحضر مؤتمراً دولياً مثلاً يمثل البلد في مؤتمر دولي، وحضر الكفار وأجهزة الإعلام والتصوير والمصورون من كل جانب والقاعات والأنوار والكراسي الفخمة هل تراه سيقول في ذلك الموضع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له؟ أحياناً الواحد يحضر مثلاً بحثاً في جامعة، يقدم بحثاً في جامعة ويحضره الدكاترة، وهذا البرفسور فلان والبرفسور فلان، شيء أبهة، فالآن يرى أن (سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم)، ليست مناسبة ولا تتلاءم مع هذا الديكور الموجود. وإذا دخل واحد مجمعاً تجارياً ضخماً وسوقاً(9/25)
وطوابق وسلالم كهربائية تطلع وتنزل ونوافير! كيف يقول دعاء دخول السوق: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير)!! يرى أن المسألة لا تتناسب، نعم صحيح هذا موجود، هذه الهزيمة النفسية التي أصبنا بها. وإذا دخل غرفة مسئول كبير قد لا يجرؤ على أن يتلفظ بأي ذكر من الأذكار، يقول لك: هذا مكان عمل، مكان عمل ماذا يعني مكان عمل؟! يعني لا نذكر الله في مكان العمل؟! أيها الإخوة! من أسباب التفريط في الأذكار: النوم بعد الفجر مباشرة، ثم الذهاب إلى العمل بسرعة، فهذا كيف يقول أذكار الصباح؟! بعد الفجر مباشرة نام ووضع الساعة وقام من النوم فزعاً إلى العمل والشغل! يلبس بسرعة، ويقود السيارة بسرعة، ويدخل بسرعة، ويوقع بسرعة!! من أين له بوقت لأذكار الصباح والمساء؟! هذه مشكلة أخرى.
مشكلة التسويف في وقت الأذكار: ...
ومن المشاكل أيضاً: التسويف في الأذكار في الوقت المعين، فمثلاً: قد يخطر لشخص بعد الصلاة أن يخرج من المسجد بسرعة ويقول: سأذكرها في الطريق، فينسى في الطريق ولا يقول شيئاً! وإذا خرج من المسجد بسرعة ليلحق شخصاً فإنه يقول: سأذكرها بعد مقابلته، فينساها ولا يذكرها. بعض الناس مثلاً قبل النوم يريد أن يقرأ كتاباً يقول: بعد القراءة أذكار النوم، فلا يلبث أن ينام ويسقط الكتاب بجانبه، لا هو قرأ ولا ذكر أذكار النوم. فإذاً، إذا ما ذكرتها في لحظتها قد تفوت عليك.. إذا فاتت عليك حاول أن تتداركها بسرعة.
إهمال الأذكار بسبب الأعباء والأشغال:(9/26)
من الأسباب أيضاً: كثرة الأعباء والأشغال، فالمسلم أيها الإخوة ينبغي أن يكون له خلوة بربه، وقت يخلو فيه بالله، فعصرنا هذا عصر المادة الذي طغت فيه المادة على كل شيء حتى ذكر الله، ولم يعد الفرد يجد وقتاً يذكر الله فيه، يقوم مسرعاً ويلبس مسرعاً ويخرج مسرعاً ويشتري الأغراض ويذهب للوظيفة، ثم يرجع وينام ويأكل، ثم يقوم وعنده موعد وعنده أشغال، وشغل مع فلان، وموعد مع فلان، صار اليوم مملوءاً بالأشغال لدرجة أن الإنسان ما عنده وقت يذكر الله، وهذه لا بد من التخفيف منها، ليس معقولاً أن نصل إلى مرحلة أننا نطارد وراء الأشغال والوظائف والتجارات والأعمال والدراسات ولا يكون عندنا وقت نذكر الله فيه، فهذا خطأ واقع ينبغي تصحيحه. ولذلك تجد بعض الناس المنشغلين إذا أذن المؤذن لا يحس أنه أذن أصلاً حتى يردد معه! مع الاشتغال والانهماك في العمل لا يسمع، لا ينتبه أنه أذن أصلاً، وكذلك في اللحظات الخطيرة والطارئة الناس عادة يصيبهم الصدمة تشغلهم عن ذكر الله، مع أن المفروض أنهم في الصدمة يذكرون الله.
إهمال الأذكار بسبب الذنوب:(9/27)
ومن أسباب التقصير في الأذكار الشرعية: كثرة الذنوب، وعدم تذكر الموت، والتوسع في المباحات .. فالمعاصي أيها الإخوة إذا لم يتحرز منها الإنسان ولو كانت صغائر وتراكمت الصغائر عليه فإنها توقعه في مصائب وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] كيف يعفو عن كثير؟ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45] لو أن الله عز وجل يريد أن يحاسب الناس فعلاً على ما يعملون ما ترك على ظهرها من دابة لكنه يعفو عز وجل. يقول أحد السلف وهو الضحاك رحمه الله: ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم تلا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] ثم يقول الضحاك رحمه الله: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن. ودخل بعضهم على كرز بن وبرة وهو يبكي، فقال له: أتاك نعي بعض أهلك؟ قال: أشد، قال: وجعٌ يؤلمك؟ قال: أشد، قال: وما ذاك؟ قال: بابي مغلق ولم أذكر حزبي البارحة. ما الذي حز في نفسه وأبكاه؟ فات عليه الحزب، فاتت عليه الأذكار ونام عنها فهو يبكي، ثم قال: لم أقرأ حزبي البارحة وما ذاك إلا بذنب أحدثته. الله عز وجل لم يفوت عليه هذه الأذكار إلا بذنب .. كم من ذنب منع من صلاة جماعة؟! وكم من أكلة منعت من قيام ليلة؟! وكم من نظرة منعت من قراءة سورة؟! وكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فالفحشاء تنهى عن الصلاة والخيرات. وقال ابن القيم رحمه الله: من آثار المعصية حرمان الطاعات. فالعبد إذا أذنب ذنباً حرم بسبب هذا الذنب طاعة وثانية وثالثة ورابعة حتى يصبح بعيداً عن الطاعات وعمله في المعاصي، وهذا كرجل أكل أكلة أوجبت له مرضة طويلة منعته من أكلات، مع أن المرضة التي تمنع من أكلات دنيوية بسيطة فإن الشخص يشفى ويأكل فهذه ليست مشكلة، لكن المشكلة عندما يحرم من الطاعات بسبب مرض القلب أو(9/28)
بسبب الذنوب.
إهمال الأذكار بسبب الأسوة:
ومن أسباب التفريط في الأذكار أيضاً: مشاهدة بعض ذوي الأسوة والقدوة على شيء من التفريط. فلو أن واحداً يقتدي بفلان معين، ففلان هذا بشر، صحيح أنه قد يكون أحسن منه، لكن الشخص هذا عندما يعتقد أن هذا القدوة نمط فريد من الناس فإذا رأى منه تفريطاً في شيء يقول: هذا الشيء الذي فرط فيه ليس مهماً، لو كان مهماً لما فرط فيه هذا القدوة، فيحاكيه في التفريط، وتنقص هذه الطاعة في نفسه لأنه يرى القدوة لم يفعلها، ونحن أيها الإخوة نعتقد أن البشر كلهم خطاءون، ونحن لا نقلد بشراً في تقصير أو معصية، فلو شاهدت أكبر شيخ انشغل عن الأذان وما ردد مع المؤذن تعتقد أن الترديد مع المؤذن ليس شيئاً مهماً؟! فلو أنك رأيت أكبر شيخ أذن المؤذن أمامه وانشغل عن الترديد أو نسي، هل تعتقد وتظن بأن الترديد شيء غير مهم؟ لا طبعاً. ومن الأمور المهمة: أن نربي أطفالنا على هذه الأذكار، فنحفظهم إياها ونعلمهم إياها منذ نعومة أظفارهم، وما أحسن الأب وهو يهتم بولده فيعلمه أذكار الصباح والمساء وعند النوم والأكل والشرب والعطاس والسلام ودخول الخلاء والخروج منه.. أذكار بسيطة تناسب الولد الصغير حتى ينشأ ويدرج على هذه الأذكار، هذه ترى مسألة مهمة، فتصبح الأذكار سهلة عليه في المستقبل، بدلاً من أن يأتي وهو بالأربعين سنة يريد أن يحفظ الآن الأذكار، فيجد في ذلك صعوبة.
فوائد مراجعة الأذكار:(9/29)
وكذلك من المسائل المهمة: مراجعة الأذكار بين فترة وأخرى، فلو أنك حفظت أذكاراً فبعد شهر أو شهرين أو ستة أشهر راجع الأذكار، فإن في مراجعتها فوائد: منها: تذكر ما نسيته، أحياناً تكون نسيت ذكراً كاملاً فتقول: قد غاب هذا الذكر، ولم أذكره منذ فترة، أو أنك نسيت شيئاً من الذكر كلمة أو كلمات فتستعيدها. وكذلك: قد تصحح كلمة خاطئة بالمراجعة، أحياناً يكون الواحد يلفظ الذكر بطريقة خطأ، فعندما يراجع يقول: أنا دائماً أقولها كذا والصحيح خلاف هذا، فتصحح الأخطاء التي عندك.
تنويع صيغ الأذكار: ...
ومن الأمور التي تمنع انقلاب الأذكار وهي عبادة إلى عادات وتصبح أموراً روتينية كما يقولون، من هذه الأسباب التي تمنع هذا: الإتيان بالصيغ المختلفة للأذكار والتنويع فيها، ولذلك للصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير صيغ مختلفة، أدعية الاستفتاح فيها صيغ مختلفة، أدعية الفراغ من الطعام فيها صيغ مختلفة، فإذا أتيت بهذا مرة وبذاك أخرى، تقضي على الرتابة؛ وتحدث تغييراً، إلا إذا كانت الأذكار من السنة أن تجمعها كلها في موضع معين فتجمعها، وإلا فإنك تذكر هذا مرة وهذا مرة وهذا مرة. ومرافقة الصالحين والمعيشة معهم من أهم الأشياء والأسباب التي تؤدي إلى استرجاع الأذكار والمداومة عليها والانتباه لها، ماذا قال موسى في دعائه؟ وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً [طه:29-34] فقد طلب العون من الله بأخ صالح يشرك معه في النبوة لماذا؟ ليستعين به على ذكر الله.
بعض الآداب والأحكام المتعلقة بالأذكار:(9/30)
وختاماً: فإننا نذكر هنا -أيها الإخوة- طائفة من الآداب والأحكام المتعلقة بالأذكار على وجه من السرعة.. إذا عرفت ذكراً معيناً اعمل به ولو مرة واحدة، وواظب عليه ما استطعت. كذلك: اعلم بأنه كما يستحب الذكر فإنه يستحب مجالسة أهل الذكر. كذلك: اعلم أن الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان، وهو مراتب أعلى مرتبة إذا وافق القلب اللسان. (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ماذا يحتمل؟ أنه رجل في خلوة ذكر عظمة الله في قلبه وما قال شيئاً، ذكر عظمة الله في قلبه ففاضت عيناه، ويحتمل أنه ذكره بلسانه، فذكر الله يحتمل الأمرين: ذكر في القلب مثل: تذكر عظمة الله، عذاب الله، الخوف من الله، صفات الله، معاني أسماء الله. وذكر باللسان، لكن من الخطأ أن يذكر باللسان دون القلب، مثلما نفعل نحن في الصلوات، نقول الأذكار في الصلوات وقلوبنا في وادٍ واللسان في وادٍ آخر. كذلك من الأشياء المهمة: أن نعلم أن الذكر ليس منحصراً في التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، بل كل واحد يعمل بطاعة يعتبر ذاكراً لله عز وجل، فليحضر حلقة علم ويسمع، فماذا يعتبر؟ ذاكر لله، جلس في مجلس يذكر الله، وعندما يصلي أيضاً، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)، ولذلك قال بعض أهل العلم: إذا واظب على الأذكار المأثورة صباحاً ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. وهنا مسألة: نحن نعرف أن أفضل الذكر هي تلاوة الذكر فهل الذكر هو سماع الصوت؟ فبعض الناس عندما تراه في الصلاة يكبر ويطبق شفتيه من أول تكبيرة في الإحرام إلى الركوع، مطبقاً شفتيه، فهل يعتبر هذا قرأ الفاتحة بدون حركة لسان وشفتين؟ هل يعتبر قرأ الفاتحة؟ لا، هل يعتبر قرأ أذكار الركوع والسجود؟ لا، لذلك انتبهوا فهذا خطأ شائع جداً، وهو قضية أن بعض الناس(9/31)
يذكرون ويقرءون الفاتحة بدون حركة لسان ولا حركة الشفتين، ولذلك بعض العلماء قال: لا يعتبر الذكر ذكراً ولا ينال أجره إلا إذا أسمع نفسه، فقد قال النووي بهذا القول، وبعض العلماء قالوا: لا، المهم أنه يحرك لسانه وشفتيه، وإلا (إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) لكن نقول: على الأقل لا يعتبر ذكراً ولا تؤجر عليه إلا إذا حركت لسانك وشفتيك، وجرى الهواء به، سمعته أو ما سمعته فلا بد أن تحرك. كذلك: يجوز الذكر بالقلب وباللسان للمحدث والجنب والحائض والنفساء، ولو كان جنباً يذكر الله، (كان يذكر الله على كل أحيانه) ولو كان جنباً لكن لا يقرأ القرآن، الجنب لا يقرأ القرآن، لو أن واحداً أجنب وصارت له مصيبة هل يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] أم لا؟ لو أن واحداً نام وهو جنب، هل يقول: الحمد لله والحمد لله موجودة في القرآن؟ الجواب: نعم، يقولها لا بنية تلاوة القرآن ولكن بنية الإتيان بهذا الذكر الذي علمناه في هذا الموضع. ولو أن جنباً ركب سيارته هل يقول: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف:13]؟ نعم، ليس على أنه من القرآن لكن لأنه ذكر يقال في هذا الموضع. وكذلك يستحب أن يكون الذاكر مستقبل القبلة متذللاً متخشعاً بسكينة ووقار، وإن ذكر الله على كل أحيانه، فحسن الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] وأن يكون المكان الذي يذكر الله فيه نظيفاً خالياً ما أمكن. وأن يكون متسوكاً نظيف الفم، وأن يتدبر ما يقول، ولو أن واحداً لا يعرف معنى ذكر معين حفظه لكن دون أن يعرف المعنى هل يقوله؟ هل يؤجر عليه؟ نعم. لكن ليس مثل أجر الذي يعرف المعنى ويتدبر المعنى. وكذلك: ينبغي إذا فات على الإنسان ذكر معين أن يتداركه، فلو فاته: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة، وخرج من المسجد ووصل إلى البيت(9/32)
فهل يقوله؟ نعم، يتدارك ما فات من الذكر. ولا بأس أن يقطع الذاكر الذكر لحاجة شرعية مثل: أن يسلم عليه إنسان وهو يسبح بعد الصلاة، فيرد السلام؟ وإذا عطس عاطس عنده يشمته، وإذا أذن المؤذن، يترك الذكر ويؤذن مع المؤذن بطبيعة الحال، أو رأى منكراً وهو يذكر الله فليغيره ويقول: يا فلان لا تفعل. ولو سأله أحد عن مكان معين فيرشده إليه وهكذا. وإذا غلبه النعاس يقطع الذكر وينام حتى لا يسب نفسه كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
إسرار الذكر من علامات الإخلاص:(9/33)
والإسرار بالذكر أيها الإخوة من علامات الإخلاص: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205] إلا ما دل الدليل على الجهر به ورفع الصوت، فالأفضل أنك تسره، فلا تسمع الناس إلا في حالات مثل: التلبية، وتعليم الناس، والأذان، والإقامة، يجهر طبعاً، والتكبير في العيدين في الشوارع وهم ذاهبون إلى المسجد يكبرون، وبعد الصلوات يجهر بالذكر، وإن كان في المسألة خلاف بين أهل العلم، لكن دلت الأدلة كما في صحيح البخاري : عن ابن عباس : (كنت أعرف قراءة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير، وكان رفع صوتي بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) لكن انتبهوا لا يحدث ذكراً جماعياً؛ لأنه في بعض البلاد إذا التفت الإمام بعد الصلاة.. يبدأ الجميع بالأذكار بصوت واحد فهذا بدعة من البدع. وأيضاً الأذكار التي تقال للناس الآخرين مثل: تهنئة بالزواج، فهذه يجهر فيها، وغير ما ورد فيه الجهر والإسماع للآخرين فإن الإنسان يسر به أفضل (ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي). واعلموا أيها الإخوة أن الثواب في الأذكار ليس دائماً فيها على قدر المشقة، فهناك أذكار قصيرة لو قورنت بغيرها أطول منها كانت أكبر، والدليل: عن جويرية : (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) إذاً ليس الثواب دائماً على قدر المشقة، فبعض الأذكار أكثر أجراً من أذكار أخرى مكانها ولو كانت أطول منها.
تحذير من الأذكار المبتدعة:(9/34)
وختاماً: احذروا -أيها الإخوة- من الأذكار المبتدعة سواء في النص، فبعض الأذكار وردت في أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو مثلاً درج عليها الناس، إذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قالوا: "استعنا بالله" قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة.. "أقامها الله وأدامها" بعد الصلاة: "حرماً" وذاك يقول: "جمعاً" وبعد الوضوء: "زمزم" وذاك يقول: "الله يزمزمك" فهذه أشياء لم ترد في السنة، فهذه أذكار مبتدعة فلا يصح أن نأتي بها ولا أن نواظب عليها، لا نخترعها بالنص ولا بالهيئة والكيفية، واحفظوا هذه القاعدة المهمة جداً جداً: كل ذكر مقيد بزمان أو مكان أو كيفية أو عدد لم يرد به الشرع فهو بدعة. فإذا جاء شخص وقال: (سبحان الله) هذه من الدين أم لا؟ قلنا: من الدين، قال: سأقولها ثلاثاً وسبعين مرة الساعة اثنين ونصف بعد الظهر واضعاً إحدى رجلي على الأخرى، نقول: بدعة، لماذا بدعة؟ كل ذكر قيد بعدد، أو زمن أو كيفية أو هيئة لم ترد في الكتاب والسنة فهو بدعة. هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لذكره، واللهج به، سبحانه عز وجل. وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/35)
( آيات يخطئ فهمها الكثيرون )
عناصر الموضوع :
أهمية تدبر القرآن
العلوم التي يحتاجها المفسر
أسباب الضلال في فهم القرآن
أمثلة على الفهم الخاطئ المؤدي إلى العمل الخاطئ
من نتائج الفهم الخاطئ للقرآن
آيات يخطئ فهمها الكثيرون:
إن القرآن العظيم هو مصدر الهداية والنور، يهدي الله به من شاء من عباده، وقد أمرنا الله بتدبره والتأمل في آياته، ويسر لنا الادكار به حيث جعله سهلاً ميسراً تفهمه العقول ويلامس شغاف القلوب، ولكن التدبر والتأمل للقرآن ومعرفة أحكامه وحكمه لا بد لها من ضوابط من الشريعة، وفي هذا الدرس يتطرق الشيخ لبعض الآيات التي يخطئ فهمها الكثير من الناس.
أهمية تدبر القرآن:(10/1)
الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المجتمع الذي نسأل الله أن يكون من مجتمعات الخير ومغفرة الذنوب، وأن يتجاوز الله عنا وعنكم التقصير والغفلة، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات. هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه الليلة إن شاء الله تعالى، موضوع حساسٌ وخطيرٌ في نفس الوقت، لأنه يتعلق -أيها الإخوة- بأغلى شيء عند الإنسان المسلم، أغلى ما يملكه الإنسان المسلم في هذه الحياة، وأعز شيء عنده، بل هو دليله ونوره الذي لا يستطيع السير بدونه، ألا وهو القرآن. وسيكون محور الكلام في هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه متعلق بهذا القرآن العظيم الذي هو مصدر الهداية وإشعاع النور الذي يهدي الله تعالى به من شاء من عباده. أيها الإخوة: إن الله عز وجل أمر بتدبر القرآن، فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [محمد:24] دعوة للتدبر، أفلا يتدبرون القرآن أم أن القلوب مقفلة؟! أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] فالناس قلوبهم غفلت عن ذكر الله وعن القرآن، وصار عليها أقفال غليظة من الغفلة والإعراض، فهي لا تنفتح مطلقاً لهذا النور الرباني، والذكر العظيم الذي أنزله الله تعالى، والله عز وجل من رحمته بالمسلمين أنه يسر هذا الذكر للادكار لمن يريد أن يدكر ويتذكر، فقال الله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:40] أي: هل من مدكر يريد أن يتذكر؟ أيها الإخوة: إن القرآن ليس صعباً بحيث لا تفهمه العقول ولا تدركه النفوس، كلا. إنه سهلٌ ميسرٌ لمن أراد الله تعالى به الخير، ولذلك كثيرٌ من الناس يفتحون القرآن يريدون أن يفهموا ماذا يحوي، ولكن بسبب الغفلة والجهل المسيطر على أفئدتهم وعقولهم، فإنهم لا يلبثون أن يقفلوا هذا الكتاب، لأنهم لا يعون ما يقرءون، أما من وفقه الله تعالى وقذف في قلبه النور والهداية -نسأل الله(10/2)
أن نكون منهم- فإنهم لا يجدون المشقة، ولا يجدون المستحيل والمعوقات وهم يقرءون كتاب الله لكي يتذكروا ما فيه ويفقهوا معناه. أيها الإخوة: إن التدبر والتأمل في القرآن وإرادة معرفة المعاني وما اشتمل عليه من الفوائد والحكم والأحكام مسألة لابد لها من ضوابط من الشريعة الإسلامية، وإلا فإن الإنسان المسلم ينحرف بدونها. ولذلك كان من أسباب ضلال أهل الكتاب ممن كانوا قبلنا أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، والله عز وجل عنفهم على هذا وأنبهم تأنيباً شديداً فقال: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] وقال الله عز وجل أيضاً: كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:90-91] مفرقة، فآمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر، جعلوه عضين، مقسماً ومجزأ إلى أجزاء، فما وافق هواهم آمنوا به واتبعوه، وما كان مصادماً لأهوائهم وشهواتهم أعرضوا عنه وأغفلوه، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يأخذون هذا القرآن بقوة، ويعرفون معناه، ويطلبون المعنى الذي أراده الله عز وجل، يريدون أن يعرفوا المعنى حتى لا يصبحوا كمن كان قبلهم من أهل الكتاب. وكذلك كان السلف رحمهم الله في غاية الدقة، والحرص، وفي غاية التحرج وهم يفسرون هذه الآيات، والعلماء الواحد منهم يعلم أنه لو قال برأيه في القرآن فأصاب فقد أخطأ، فكان أحدهم عندما يفسر القرآن يعلم تماماً أنه إذا خاض في آية ليس عنده علم بها أنه سيأثم حتى وإن كان ما قاله صواباً، ولذلك قال ابن كثير رحمه الله معلقاً: أي أخطأ؛ لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكنه قد أخطأ، لأنه لم يأت الأمر من بابه. ليس عنده العدة التي يفسر بها حتى وإن كان كلامه صحيحاً، فهو آثم؛ لأن القرآن لا يصح لأحدٍ أن يخوض في تفسيره وتبيان المراد منه بغير علم وبغير أدلة. ولذلك كان أبو بكر الصديق رضي(10/3)
الله عنه يقول: [أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!]. وكان ابن أبي مليكة -من كبار علماء السلف - يقول: سئل ابن عباس عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها -لو أحد سئل فيها الآن لأفتى وقال فيها- فأبى أن يقول فيها. أبى ابن عباس ، و ابن عباس هو الحبر البحر، إمام أهل السنة في التفسير قاطبةً، الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعا الله عز وجل أن يعلمه التأويل، فعلمه الله عز وجل أشياء كثيرة، فلما جاء عند آية لم يعرف معناها، رفض أن يتكلم فيها!
العلوم التي يحتاجها المفسر:(10/4)
وكذلك- أيها الإخوة- لو أردنا أن نسرد شيئاً من أطراف العلم، أو شيئاً من أنواع العلم التي يحتاج إليها المفسر، لوجدنا علماءنا قد نقلوا أشياء كثيرة، فمنها ما نقله الذهبي المتأخر رحمه الله تعالى المتأخر في كتابه التفسير والمفسرون ، قال: العلوم التي يحتاج إليها المفسر كثيرة منها: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم الصرف، وعلم الاشتقاق، وعلم البلاغة بأنواعه الثلاثة: البيان والبديع والمعاني، وعلم القراءات، وعلم العقيدة، وعلم أصول الفقه، وعلم أسباب النزول، وعلم القصص والتاريخ، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأحاديث المبينة لمجمل القرآن ومبهمه. فإذاً المفسر شأنه عظيم، ليس أي واحد يشتغل بالتفسير، نحن المسلمين ماذا نفعل الآن؟ نحن نقرأ هذا القرآن مفسراً بأقوال علماء السلف، هذا القرآن أنزل نعم، ومن هذا القرآن ما يفهمه العامة كقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] هل هناك أحد لا يفهمها؟ لا. قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ماذا تعني لكن اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2] قد نحتاج في فهم كلمة ( الصمد ) إلى الرجوع لأقوال المفسرين والعلماء: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] ما المقصود بالفلق؟ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] ما هو ( الغاسق إذا وقب )؟ هذه الآيات التي يرددها كثير من المسلمين في صلواتهم بدون معرفة لمعناها، كم شخص الآن من الذين يقرءون هذه الآية: غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3] يعرف ما معناها؟ قلة. أيها الإخوة: لا بد من الرجوع إلى أقوال العلماء في التفسير، وإلا لضللنا ضلالاً بعيداً بدون أقوال علماء التفسير، ولا يمكن أن نتقدم خطوة إلى الأمام في فهم القرآن. أيها الإخوة: هناك علماء عندهم العدة فهم يفسرون، وهناك أناسٌ من طلبة العلم ومن عامة الناس الذين أراد الله تعالى بهم الخير يقرءون القرآن وتفسيره على ضوء أقوال علماء المسلمين المتخصصين في هذا المجال. إذاً: لا بد(10/5)
أن يفتح المسلم قلبه لهذا القرآن، وأن يعي معناه، وأن يتعلم تفسيره حتى يستطيع أن يسير على نور من ربه. أيها الإخوة: لابد أن يدخل المسلم منا عالم القرآن الكريم بدون مقررات سابقة، وبدون مؤثرات سابقة، وبدون فلسفات وثقافات سابقة، لا بد أن يدخل المسلم ساحة القرآن الكريم وصدره خالٍ من أي شيء سابق؛ حتى يشكل القرآن خلفية هذا المسلم ويكون له فكره، ويكون القرآن هو الذي ينشئ معرفة المسلم، وثقافته وقيمه وموازينه ومعاييره، وإلا فإن الأمور ستضطرب. ومن الأمثلة على هذا: هؤلاء الناس الذين ضلوا من قبلنا ودخلوا عالم القرآن وعندهم قواعد فلسفية من علم الكلام والمنطق وما شابه ذلك، فنزلوا آيات الله على أشياء لم يردها الله عز وجل، وضلوا ضلالاً بعيداً.
أسباب الضلال في فهم القرآن:
إذا أردنا أن نستعرض معكم جزءاً من أسباب الضلال في فهم القرآن، فإنها- أيها الإخوة- ترجع إلى عوامل كثيرة منها:
الزيغ في العقيدة:
الزيغ في العقيدة، فالإنسان إذا كانت عقيدته منحرفة ودخل في فهم القرآن، فإنه لا بد أن يضل في القرآن، ولذلك تجد طوائف كثيرة ممن انتسبوا إلى الإسلام عندما دخلوا في القرآن وعندهم قواعد سابقة من الضلال في العقيدة، انحرفوا انحرافاً كبيراً، ولا أدل على ذلك من استدلال كافة الفرق المنحرفة لصحة مذاهبهم بالقرآن، حتى ولو كانت استدلالات مضحكة، هؤلاء المعتزلة يستدلون على صحة مذهبهم بأن إبراهيم قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم:48] قالوا: بما أن إبراهيم اعتزل إذاً الاعتزال هو الصحيح، ومذهب المعتزلة هو الحق، وهؤلاء الرافضة وغيرهم من الفرق المنحرفة عندما دخلوا في القرآن بقواعدهم الفاسدة، أفرزوا إفرازات غريبة عن المنهج الإسلامي.
اتباع الهوى:(10/6)
وإذا أردت سبباً آخر من أسباب الضلال في فهم القرآن، فإنه: اتباع الهوى: اتباع الهوى بكافة فروعه وأنواعه، فمن الناس من يكون اتباعهم للهوى في فهمهم للقرآن ناتجاً عن التهجم على كتاب الله والجرأة عليه بغير علم، كل واحد يظن نفسه أنه سيفتي ويفهم القرآن على كيفه، ويقول: أنا أفهم، وأنا مجتهد، وهكذا يدخل ويفسر يميناً ويساراً، وتجد التخبط الشديد في هذا الجانب، وأمثلة كثيرة في هذا المجال لعل الوقت يتسع لذكر بعضها، ومنهم من يحمله الهوى على محاولة تبرير أخطائه هو لتشهد الآيات عليها، يعني: هو إنسان مخطئ ومذنب ومقصر، فيأتي إلى القرآن يبحث عن آيات يحملها على محمل لكي تبرئه وتظهره أمام الناس بأنه إنسان مستقيم وغير مخطئ، ولا مقصر- كما سيمر معنا أمثلة من هذا.
أخذ بعض القرآن وترك بعضه:
كذلك- أيها الإخوة- من أسباب الضلال في فهم القرآن: أخذ بعضه وترك بعضه، وكما ذكرنا قبل قليل أن أحدهم يأخذ آية ويترك آيات. وإذا ما جمعنا النصوص من مذهب أهل السنة والجماعة عن طريقتهم في فهم القرآن والسنة تجد العالم النحرير عندما يطرق موضوعاً لا يأتي له بآية واحدة إلا إذا لم يكن يوجد غيرها في هذا الباب، أو حديث واحد، ولكنه يجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب، لأن الآية ربما تتكلم عن جانب من الجوانب، ولا تتكلم عن جانب آخر، أو آية تتكلم مثلاً عن فترة معينة نزلت، ثم نسخت بآية أخرى، فيكون الاستدلال بالآية الأولى المنسوخة فيه ضلال، لأن هذا الرجل لم يجمع الآيات في الباب الواحد، فيكون فعله مثل الذي يأخذ قول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ويسكت عن الباقي ويفعل كما فعل أبو نواس عندما قال:
ما قال ربك ويلٌ للألى ... سكروا وإنما قال ويلٌ للمصلينَ(10/7)
ما قال الله ويلٌ للذين يسكرون، وإنما قال: ويل للمصلين، يعني: نحن لا نصلي ونسكر!! فإذاً- أيها الإخوة- أخذ بعض الكتاب وترك بعضه من أسباب الانحراف والزيغ الذي وقع فيه كثير من الطوائف السابقة واللاحقة.
الهزيمة النفسية أمام الغرب الكافر:
كذلك: الهزيمة النفسية أمام الغرب، من العوامل التي تحمل بعض المسلمين على الدخول والخوض في القرآن ونفسيتهم متصفة بالهزيمة أمام الكفار، أمام الغربيين وغيرهم، فيأخذ يستنتج من القرآن كل شيء، يريد أن يثبت للناس أن القرآن فيه كل شيء، وأنه سبق الأمم في العلوم، وأن فيه جميع أنواع العلوم ...إلخ، كما فعل طنطاوي جوهري وغيره من الذين انحرفوا في هذا المجال. فهذا أيضاً من أسباب الضلال في فهم القرآن، و الشاطبي رحمه الله بين في كتابه الموافقات قواعد عظيمة للاستنباط والفهم واستخراج الأحكام وكذلك في كتاب الاعتصام أيضاً، وينبغي لمن أراد التوسع في هذا المجال أن يرجع إلى هذه الكتب.
أمثلة على الفهم الخاطئ المؤدي إلى العمل الخاطئ:
واعلموا -أيها الإخوة- أن عدم الفهم الصحيح يؤثر على التطبيق تأثيراً مباشراً، إذ أن الخطأ في الفهم يقود إلى الخطأ في التطبيق. لماذا نحن الآن نركز على مسألة كيف يفهم القرآن فهماً صحيحاً؟ ونحن الآن لم نتوسع فيها وما ذكرنا جوانبها المتشعبة، بل ذكرنا لمحة بسيطة، لكن ما هي أهمية الموضوع؟ الذي لا يفهم القرآن فهماً صحيحاً لا يطبق تطبيقاً صحيحاً، وينعكس فهمه الخاطئ إلى فهمه العملي انعكاساً مباشراً، فتنتج هذه الانحرافات والخرافات في الفهم والتصور والعمل والتطبيق.
قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...).(10/8)
فإذا أردنا مثالاً فلنأخذ بعض الأمثلة على آيات يخطئ في فهمها الكثير من الناس، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] ماذا يفهم الآن كثيرٌ من المسلمين من هذه الآية؟ إن هذه الآية أيها الإخوة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] صارت معتمداً للكسالى والقاعدين والمقصرين في باب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعتبرها هؤلاء الناس عذراً لهم في القعود عن القيام بواجب التبليغ والدعوة إلى الله، وقال كل إنسان منهم: عليك نفسك، لأن الله قال: عليكم أنفسكم، عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، ما دام أنك تطبق الشرع ما عليك من الناس، هكذا يفهم من هذه الآية. فعند هؤلاء المنحرفين هذه الآية تجيز لكل مسلم في مفهومهم أن يلتزم بالطاعة هو، وأن يبتعد عن المحرمات هو، وأنه إذا فعل هذا، فقد أدى الواجب الذي عليه، وأن الله لا يريد منه أكثر من هذا، وأنه ليس عليه أن يدعو الآخرين، ولا أن يدلهم ويهديهم هداية الإرشاد والدلالة، وأن كون المجتمع فاسداً والناس منحرفين لا يضر، لأن الله يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] هكذا يفهمون. أما إذا جئت معي إلى المفهوم الصحيح الذي ذكره علماؤنا في تفسير هذه الآية، فإنك ستجد الأمر مختلفاً تماماً، وستجد عندما ترى الصورة الصحيحة يتبين لك مدى الانحراف الحاصل في فهم هذه الآية عند كثير من المسلمين، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي تفسير ابن كثير -مثلاً- نجد قولين أساسيين في تفسير هذه الآية: فمن(10/9)
العلماء من يقول أن هذه الآية خاصة بظرف معين، أي كما قال بعض علماء السلف: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، ولم يستجب لك، ولم تطع، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت. إذا أنت قمت بالواجب، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وما سمع لك الناس، وما استجابوا لك، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وكذلك يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: " إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت". إذاً: هذه الآية خاصة بظرف معين وهو إذا كان الناس لا يستجيبون، وصار الوقت وقت فتنة، ويدخل في هذا الأوقات والظروف التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيقتصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القلب في بعض الأحيان عندما تشتد الظروف على المسلمين في بعض الأوقات والأحوال، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، إذا فسد الناس وفسد المجتمع، وصار الوضع أن يخرج الإنسان إلى الجبال -كما سيحدث في آخر الزمان- فتكون أحسن أحوال المسلم أن يأخذ قطيعاً من الغنم ويخرج خارج هذا المجتمع، لأنه لم يعد يجد على الخير أعواناً، ولا يمكن أن يبقى، لأنه سينحل ويفسد لو بقي في المجتمع، هذا حال آخر الزمان، وقد يحدث جزءٌ من هذه الحال في بعض الأوقات والأحيان، ولكنها تتغير، لأن الله عز وجل يغير الظروف، ويداول الأيام بين الناس، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فيكون المسلمون في حالة ضعف يعقبها حالة قوة، ثم حالة ضعف، ثم حالة قوة، وأحياناً يكونون في مكان قوة، وفي مكان ضعف في نفس الوقت: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. المعنى الثاني وهو فقه مهم، يقول الله عز وجل: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] هل تتصور -يا أخي المسلم- أن تهتدي ويصير اسمك مهتدياً إذا اهتديت وأنت لا تأمر بالمعروف، ولا تنهى عن المنكر، ولا تدعو إلى(10/10)
الله، هل يكون اسمك مهتدياً؟ لا طبعاً. إذا كنت صالحاً في نفسك فقد حققت جزءاً من الهداية، لكنك لم تحقق الهداية كلها، لأنك لا يمكن أن تصير مهتدٍياً تماماً إلا إذا قمت بهذا الواجب العظيم، فعند ذلك نستطيع أن نفهم: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] إذا اهتديتم: سرتم على الهداية بجميع فروعها، ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وما عليك إلا نفسك، أنت لا تحاسب إلا عن نفسك: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]. الأمر الثالث: أنه يجب أن نجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب قبل أن نستنبط عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا جمعت الآيات الأخرى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] وإذا اطلعت على هذا الحديث الصحيح عن قيس بن أبي حازم ، قال: (قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ))[المائدة:105] وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بالعقاب). أيها الإخوة: إن أخذ الموضوع من جميع جوانبه، والاستشهاد بالآيات والأحاديث بعمومها هو الذي ينجي الإنسان من هذه المآزق التي يقع فيها، ولابد أن نقوم بالواجب كاملاً: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] ثم إن هذه الآية لسان حالها يقول لكل مسلم: عليك نفسك أصلحها وأبعدها عن المعاصي، حسناً كيف نبعد النفس عن المعاصي ونحن نترك الناس في الفساد يرتعون ويمرحون كما شاءوا، يعني: هل يمكن أن تصلح نفسك وأهلك الذين أنت مكلفٌ بإصلاحهم(10/11)
والمجتمع من حولك فاسد؟ لا يمكن. إذاً إصلاحك لنفسك ولأهلك يستلزم أن تصلح المجتمع، وتسعى في إصلاح المجتمع؛ لأنك لا يمكن أن تصلح نفسك في بيئة فاسدة، هل أنت تعيش لوحدك في قمة جبل ليس عندك أحد حتى تصلح نفسك بدون مؤثرات خارجية؟ لا يمكن. فإصلاحك لنفسك أيضاً: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105] يتطلب ويتضمن أن تسعى في إصلاح البيئة التي من حولك. فهذه الآية -أيها الإخوة- تأمرنا بالعمل في المجال الخاص وهو الإقبال على النفس، وتربية النفس وإصلاحها؛ لتستقيم على طاعة الله، وتبتعد عن معصية الله، وكذلك تأمرنا بأن نعمل في مجال العامة، وهو الإقبال على الآخرين ووعظهم ونصحهم وتذكيرهم بأمر الله عز وجل، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).(10/12)
تعال معي إلى آية أخرى، وانظر كيف يكون سوء الفهم، وعدم الفهم الصحيح للآية قائداً ودليلاً إلى سوء التطبيق -والعياذ بالله- يقول الله عز وجل: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]. ماذا يفهم الآن كثير من المسلمين من هذه الآية؟ إنهم يفهمون أن التقصير في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات، والترخص في بعض الأحكام، نأخذ من الرخص مما هب ودب، والتفلت من بعض التكاليف، هذا ليس فيه شيء، لأن الله قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] يعني: إذا استطعت على بعض الأشياء، لا بأس أن تأخذها، وإذا لم تناسب الظروف ولم تساعد الأحوال، لا بأس أن تترك بعض الواجبات، وتتفلت من بعض الأحكام، وإذا وقعت في بعض المنكرات، فلا بأس أيضاً وهكذا، ويبرر هؤلاء الناس حالهم بهذه الآية، فيقولون: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]. كثير من الناس تناقشه في الواقع الفاسد، يقول: يا أخي! فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وهذه استطاعتي. إذاً: عندما تأتي لتفهم هذه الآية: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] إنها تعني -يا أخي المسلم- كما يقول ابن كثير رحمه الله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] يعني: بحسب وسعكم وطاقتكم. انظر! الفرق في الفهم عندما تفهم: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وعندما تفهم اتق الله ما استطعت، يعني ما استطعت إلى ذلك سبيلاً اتق الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) على قدر الاستطاعة، ما استطعت إلى تنفيذ هذا الأمر سبيلاً، طبق والتزم ما استطعت، وليس معنى ما استطعت هنا أي: كم في المائة تطبق لا بأس، لا. ما استطعت، يعني: على قدر كل استطاعتك، كل(10/13)
قدراتك، تتقي الله عز وجل، لا تفرط ولا بشيء من استطاعتك في طاعة الله مطلقاً. وإذا تذكرنا الآية الأخرى وهي قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] كيف يتقي الإنسان حق التقوى إلا إذا اتقى الله بقدر استطاعته وقدر جهده؟! كل ما عندك من جهد، وكل ما عندك من إمكانيات واستطاعات اتق الله عز وجل، فهذا يحمينا من الانحراف الذي يقع فيه كثير من المسلمين في فهمهم القاصر لهذه الآية مما يترتب عليه تفاوتهم في الالتزام بالإسلام؛ لأن كل واحد يقول: هذه استطاعتي، الثاني يقول: لا. أنا أقدر، وكلهم يستطيعون، لكن كل واحد يأخذ على حسب هواه. فيتفاوت التزامهم بالإسلام نتيجةً لفهمهم الخاطئ لهذه الآية وغيرها، فيقدم كل منهم صورة مختلفة عن الإسلام، ويتحول الإسلام عملياً إلى إسلامات، لأن كل واحد يعمل على قدر فهمه، يعني: على حسب الظروف، ويتحول الإسلام في واقعه العملي إلى صورة مشوهة جداً، كل واحد يفعل على مزاجه، ويطبق على مزاجه، ويقول في النهاية: هذه استطاعتي، ثم يزعمون أنهم على الحق، وأن القرآن يشهد لفعلهم. كذلك -أيها الإخوة- ليس الشخص هو الذي يحدد مقدار استطاعته، وإنما الشرع هو الذي يحدد لك مقدار استطاعتك، فإذا فرض الله عليك الصلاة، معناها أنك تستطيع أن تصلي في الظروف العادية غير الحالات الطارئة، وإذا فرض الله عليك الزكاة وأنت عندك مال، يعني: باستطاعتك أنك تزكي مادام عندك مال، ... وهكذا. فالشرع هو الذي يحدد الاستطاعات العامة، ولكن في نفس الوقت هناك أناس معذورون لأعذار قاهرة، هؤلاء أعذارهم بينها الشرع الحنيف، ولم يترك شيئاً إلا وبينه. وكذلك نفس الموضوع هذا عندما تكلم الكثير من الناس عن واقع المنكرات التي يعيشونها ويحيون فيها، يقولون لك: يا أخي! لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] تقول:(10/14)
يا أخي! هذا العمل وهذه الوظيفة لا تجوز، هذا الراتب الذي تأخذه من هذه الوظيفة حرام؛ لأن عملك هذا فيه منكر، أنت تعمل في منكر، يقول: يا أخي! أين أحصل على غيره؟ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]. فتجده يحتج بهذه الآية على تقصيره وإهماله وتفريطه في حق الله عز وجل. وعندما تأتي معي إلى سبب نزول هذه الآية ينجلي عنك الإشكال والغموض واللبس تماماً، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (لما نزلت على رسول الله (( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ...)) [البقرة:284] إلى آخر الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق -الصلاة والصيام والزكاة والصدقة، ما عندنا في ذلك إشكال- وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -يعني: (( وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ )) [البقرة:284] سواءً أسررته، أو أعلنته يحاسبكم به الله- فقالوا: يا رسول الله! أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -في نوع من الجرأة كان في كلامهم رضي الله عنهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين -اليهود والنصارى- سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا) ما دام أن الله أنزل عليكم هكذا، قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، واسألوا الله المغفرة على هذا التقصير الذي يحصل منكم، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] ثم انظر إلى العبارة التي ستأتي الآن، وقد عبر عنها الراوي بعبارة دقيقة وجميلة جداً، يقول: ( فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا(10/15)
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285] وأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] ) نزل التخفيف، كان من أول: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] سواءً أظهرت النية السيئة، أم لم تظهرها، ما دام أنها جاءت في نفسك، سيحاسبك الله عز وجل عليها، ويسجل عليك سيئات، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، استسلموا لأمر الله، قالوا: ما دام أنها نزلت من عند الله، سمعنا وأطعنا. انظروا -أيها الإخوة- كيف إن الله عز وجل يكافئ المطيع على طاعته، فلما أطاع الصحابة الله عز وجل، نزل التخفيف، فقال في الآية: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: نعم. لا يؤاخذهم إن نسوا، أو أخطئوا: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال: نعم. رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286] قال: نعم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] قال: نعم. فنزلت الرخصة، ونزل التخفيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب طاعتهم لله عز وجل. وهذا -أيها الإخوة- من فضل الصحابة، وهذا التصرف كان سبباً في نزول التخفيف، وصارت الآن القضية لو جاء في نفسك خاطر سوء، لكنك لم تنفذه فلا تعاقب عليه بعد التخفيف بل: (من هم بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله له حسنة). انظر! التخفيف، كانت القضية من أول: لو جاء في نفسك خاطر سوء، تأثم ولو لم تفعله، وصارت المسألة بعد ذلك -في التخفيف- لما اقترأها الصحابة وذلت بها ألسنتهم إذا همت نفسك بالسيئة وهممت بها(10/16)
ولم تعملها يكافئك الله عز وجل بالحسنات، لأنك ابتعدت وتركت المنكر والسيئة لأجل الله عز وجل، وهذا من فضل الله على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ).
كذلك عندما تأتي معي إلى آية أخرى، يقول الله عز وجل: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] يؤخذ هذا الشطر من الآية اليوم عند المسلمين وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] فإذا رأوا مجاهداً في سبيل الله يخوض غمار الحروب، قالوا: ألقى بنفسه في التهلكة، مجاهد يذهب في سبيل الله ويشق صفوف العدو، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، وهكذا في الدخول في غمار الأجواء التي ترضي الله عز وجل، ويكون فيها خطر على النفس، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، ولم يعرفوا كيف نزلت هذه الآية، ومعرفة سبب النزول يقود إلى أخذ الفكرة الصحيحة المطلوبة من هذه الآية. هذه الآية -أيها الإخوة- نزلت كما روى الترمذي رحمه الله بإسناد صحيح يقول الراوي: (كنا في حرب مع الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم، أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن نافع ، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد ، فحمل رجل من المسلمين -شخص واحد فقط- على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أيها الناس! إنكم تأولون هذه التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها) الصحابة قالوا في فترة من الفترات بعد فتح مكة ، أو بعد ما انتشر(10/17)
الإسلام، قال هؤلاء الصحابة في أنفسهم: الآن الحمد لله انتشر الإسلام، وكثر المناصرون للإسلام، وأموالنا نحن في غمار الجهاد والتضحيات السابقة تلفت، وصار الواحد منا ليس عنده ما ينفق على نفسه، ليس عنده أموال ولا زرع، وما عنده بيوت، فالآن الحمد لله الدنيا صارت بخير وانتشر الإسلام، صار في مركز قوة، فنلتفت نحن إلى أموالنا فنصلحها، وهذا الكلام سر فيما بينهم، وهذه خاطرة يعني: قد تكون طبيعية في هذا الجو، أناس تعبوا وجاهدوا وقاتلوا وضحوا سنوات طويلة جداً حتى انتشر الإسلام، فجاء في أنفسهم هذا الخاطر، لو الآن أقمنا والتفتنا إلى أحوالنا، فأصلحناها. فهنا -أيها الإخوة- ينزل الله هذه الآية العظيمة لكي يربي المسلمين على مبادئ كبيرة جداً، فيقول الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] فيقول الصحابي رضي الله عنه: (وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سيبل الله حتى دفن في أرض الروم). أيها الإخوة: انظروا كيف إن المسلمين يستدلون بها على أي شيء، وهي نزلت في أية مناسبة؟ فرق كبير جداً، فالآية لا تتخيل، ولا تتصور إلا بعد أن تعرف سبب النزول فإذا عرفت سبب النزول، فهمت أن الله يريد أن يربي المسلمين على الاستمرارية في التضحية، لا تقول: أنا جاهدت ودعوت عشر سنوات، عشرين سنة، دعني الآن أشتغل في التجارة، وأتفرغ لنفسي وأحوالي المعيشية، والحمد لله الآن الدعاة كثروا، بعض الناس عندهم هذا المفهوم، يقول: الحمد الله الآن الدعاة كثروا، والإسلام بخير، والصحوة الإسلامية منتشرة، وأنا لي الآن فترة طويلة أدعو وأضحي، فدعني الآن ألتفت إلى تجارتي ومعيشتي أنشغل بها فيما بقي من عمري، وأصلح أحوالي وأحوال أسرتي. هذه الحالة منافية للحالة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المسلم. فالإنسان المسلم -أيها الإخوة- داعية(10/18)
ومجاهد على طول الخط، وفي طول الطريق يبقى مضحياً في سبيل الله، ويبقى عطاؤه وإنفاقه مستمراً في سبيل الله لا يتركه لحظة واحدة، ومتى ما ترك ذلك فقد هلك وانتهى؛ لأن الشخص الذي ينتقل من أجواء الدعوة والتضحية والبذل والعطاء إلى جو الأموال والمتاع الدنيوي، يقضى عليه تماماً، وينسى حتى الأشياء الأساسية، النفس تغفل، إذا انشغلت بالدنيا انتهت. فلذلك الله يأمر المسلمين بالاستمرارية في العطاء، صحيح أن الإسلام انتشر، لكن ما زال هناك أناس لم يصل إليهم الإسلام، ما زال هناك جهاد في سبيل الله، ما زال هناك مجالات للإنفاق، لا تقل أنا أشتغل بنفسي، وأترك الإسلام ينتشر لوحده، أو الأجيال الجديدة التي ظهرت الآن هي التي تتحمل، فأنا أقدم استقالتي، وأترك هذا العمل الإسلامي، كلا. إن هذه القضية خطيرة جداً تعود بالوبال على من يفكر فيها لحظة واحدة وينقلها إلى مجال التطبيق، فهؤلاء الذين يبررون قعودهم عن أداء الواجب، ويرون الرخص في عدم الجهر بالحق والصدع بالأمر وتبليغ الدعوة، أحياناً تطلب الدعوة تبليغ الحق يكون فيه أذى عن النفس، ويكون فيه شدة ومشقة، فيأتي الشيطان يقول للإنسان: يا أخي! لا تلق بنفسك إلى التهلكة، لماذا تذهب تصدع بالحق وتجر الأذى على نفسك، وتفعل وتفعل؟ لا، الآن الحمد الله الناس بخير والصحوة الإسلامية منتشرة، أنت الآن لا تصدع، فيبرر لهؤلاء الكسالى المتقاعسين القعود عن التضحية والعمل من أجل الإسلام. والآية -أيها الإخوة- ترد على هذه المزاعم: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. فأنفق يا أخي! أنفق مالك في سبيل الله، أنفق وقتك في سبيل الله، أنفق جهدك في سبيل الله، اجعل تخطيطك ومخططاتك أيضاً فيها حظ كبير للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وتربية النفس وتربية الناس ونشر الخير بين المسلمين بدلاً من أن تجعل كل مخططاتك(10/19)
وتخطيطك كلها دنيوية بحتة، ماذا أفعل غدا؟ وكيف أقيم مشروعاً؟ وكيف أكسب؟ وكيف أزيد دخلي؟ وهكذا؛ لأن من صدق الالتزام بالإسلام أن يكون شغلك الشاغل وتخطيطك للمستقبل فيه تفكير لأمور الإسلام والمسلمين، لكن أكثر المسلمين اليوم تجد تفكيراتهم المستقبلية كلها دنيوية لا يفكر بأحوال المسلمين ماذا ستكون، ماذا يمكن أن نقدم في المستقبل، كيف أطور نفسي، ما هي الأساليب الجديدة في الدعوة إلى الله، كيف أدخل في آفاق جديدة ومجالات لم أتطرق إليها من ذي قبل، كيف أصعد من همتي ونشاطي في الدعوة إلى الله. إذاً: لا بد أن تكون حتى أفكارنا ومشاعرنا، وآلامنا وآمالنا كلها من أجل الإسلام ومصلحة المسلمين، فلابد أن ننفق حتى الأفكار والمشاعر، وحتى الآمال والتطلعات والتخطيطات، وحتى الأموال والجهد والوقت، لا بد أن ينفق هذا كله في سبيل الله. ويقول ابن كثير رحمه الله في هذه الآية بعدما فسر الآية ونقل أقوال السلف : ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر أوجه القربات وأوجه الطاعات، وخاصةً صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوي المسلمين على عدوهم، ويقول: والإخبار- يعني: هذه الآية تتضمن أيضاً- أن ترك ذلك هلاكٌ ودمارٌ إن لزمه واعتاده. فنسأل الله أن يجعلنا من الذين ينفقون أوقاتهم وأعمارهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل.
قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ... ).(10/20)
فإذا أتيت معي إلى آية أخرى، وهي قول الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125]. هذه الآية -أيها الإخوة- يحارب بها بعض المسلمين، أو المتمسلمين كثيراً من الدعاة إلى الله عز وجل، وينتقدونهم ويرفضونهم ويخطئونهم لنصحهم الناس ودعوتهم الناس إلى الخير، ويأخذون عليهم جهرهم بالحق، لماذا؟ لأنهم يخالفون -بزعمهم- هذه الآية، فتجد أحدهم يأتي إليك ويقول: يا أخي! لماذا تنكر على الناس المنكرات؟ ولماذا تكلم الناس عن هذه المعاصي؟ ولماذا تصدع بالحق؟ ولماذا تجهر به؟ أما قال الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125]؟ فالناس عندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن تسكت عن تبيين الحق، وعندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن الإنسان إذا جلس في مجلس يعصى الله فيه يسكت ولا يتكلم ولا كلمة؛ لأنه يقول: هذه حكمة، الآن عندما أسكت حكمة؛ لأني لو تكلمت كرهوني وانتقدوني وعابوني، فإذاً أسكت، فيعتبر هذه حكمة. والناس الآخرون لو تكلم، قالوا: أين الحكمة في الدعوة؟ فيثبطونه ويقعدون به عن المضي في صراط الله المستقيم، فما كانت هذه أبداً في شرع الله عز وجل، ما كان حضور المنكرات والانفعال فيها ومشاركة الناس فيها أبداً من باب الحكمة والدعوة بالموعظة الحسنة مطلقاً، والله عز وجل يأبى هذا ولا يرضاه، وشريعة الله لا تقر هذا بأي حال من الأحوال. وما كانت -أيها الإخوة- الحكمة والموعظة الحسنة عند السلف في يوم من الأيام أن يرضى الإنسان المسلم الدنية في دينه، ويرضى مواقف الذل في حياته، ويشارك أعداء الإسلام، ويتنازل عن تشريعات كثيرة، وأحكام كثيرة من أحكام الدين باسم المرونة، أو التطور وما شابه ذلك، فالآن الناس يفسرون ويقولون:(10/21)
كن مرناً، الحكمة والموعظة الحسنة أن تكون مرناً، ليس هناك داع أن تنكر وتلتزم بكل هذه الأشياء، فيجعلون التفلت من الالتزامات الإسلامية، والسكوت عن الحق والمداهنة هو الحكمة والموعظة الحسنة. وعندما ترجع إلى التفسير تجد أن القضية مختلفة تماماً، فيقول ابن كثير رحمه الله ناقلاً عن ابن جرير : الحكمة هي ما أنزله الله على رسوله من الكتاب والسنة. هذه هي الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269]. وهذا طبعاً لا يعني أنك عندما تعرض الكتاب والسنة على الناس أن تترك الأشياء المساعدة لك في الدعوة إلى الله، كالقول المناسب في الوقت المناسب بالقدر المناسب والأسلوب المناسب، فإن هذا من تكملة الحكمة ومن تفريعاتها ومن مستلزماتها ومتضمناتها، والحكمة أساساً هي: الكتاب والسنة، لكن هذا يتضمن دعوة الناس إلى الكتاب والسنة، فلابد أن تنتقي القول المناسب وتنتقي الوقت المناسب، وتنتقي الأسلوب المناسب بالقدر المناسب والتدرج المناسب، وهذا لا ينافي الشريعة مطلقاً، بل إن هذا أمر مطلوب، وتدعو إليه الشريعة، وأحوال الرسل والأنبياء. والموعظة الحسنة- كما يقول ابن جرير رحمه الله- أي: ما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا من بأس الله. يعني: بالموعظة الحسنة ادعهم بما يرقق قلوبهم من ذكر النار وعقاب الله عز وجل والعذاب، ومصائر الأمم الغابرة التي أهلكها الله تعالى، رقق قلوبهم حتى بآيات الجنة وآيات الثواب، وآيات الرحمة والمغفرة، استخدم هذه الأشياء التي ترقق القلوب، المهم أن ترقق القلوب، هذا هو استخدام الموعظة الحسنة. فانظر -رحمك الله- إلى فهم الناس للآية والفهم الإسلامي الصحيح، تجد الفرق شاسعاً نتيجة التصور الخاطئ، لم يكلفوا أنفسهم بفتح كتاب واحد من كتب التفسير المعتمدة، وإنما أطلقوا العنان لأهوائهم في حمل هذه الآيات على المحامل المختلفة التي ليس من شأنها إلا تثبيط المسلمين(10/22)
وتبرير الأخطاء.
قوله تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً).
أيضاً إذا جئت إلى قول الله عز وجل: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] يقول الله لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] الآن ماذا يحصل نتيجة الفهم الخاطئ لهذه الآية؟ الذي يحصل -أيها الإخوة- أن الناس صاروا يخلطون بين مضمون الإسلام وبين الأسلوب، أو المنهج الذي تعرض به حقائق الإسلام، ما معنى: قَوْلاً لَيِّناً [طه:44]؟ أي: يكون أسلوب الإنسان في الخطاب ليناً، درجة الخطاب، مستوى الخطاب، القالب الذي تقدم به الحقائق وليست الحقائق نفسها، فالقالب الذي يقدم به الحقائق والصورة التي تعرض بها الحقائق، والإطار -اختيار الألفاظ والمفردات والتراكيب والعبارات- هذا لين، هذا مأمور فيه باللين واختيار الألفاظ والتراكيب والعبارات والجمل التي تدل على الموضوع، هذا الذي فيه لين، أما أن نقول: إن الحقائق نفسها هي التي نلين فيها فهذا من الضلال، والعياذ بالله! فالآن الناس ينقلون هذا المفهوم: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] ينقلونه من الأسلوب إلى المضمون، المفروض أن يكون الأسلوب ليناً، وليس المضمون يعني: أنت الآن إذا عرضت حقيقة من حقائق الإسلام، حكم معين بأسلوب ما، فقال الشخص الآخر: لا. أنا أرفض هذا الحكم، هل تقول: حسناً يا أخي ليس هناك مانع، الزنا ليس حرام، حسناً ليس هو حراماً، بعض الناس سبحان الله! كما يقول صاحب الظلال رحمة الله تعالى عليه، يعني: يعرضون أحكام الإسلام على الناس كأنهم يربتون على أكتافهم ويتدسسون إليهم بالإسلام تدسساً. يعني: كأن الواحد منهم خجلان من الأحكام التي يقولها للناس، ولذلك هو يعرض شيئاً، ويترك شيئاً، ويعلن شيئاً، ويخفي أشياء، وهكذا يتدسس تدسس كأن أحكام الإسلام عار وخزي وخجل. فهذا -أيها الإخوة- من الضلال، فمن أكبر الانحرافات في الدعوة إلى(10/23)
الله أن نخلط بين الرقة في الأسلوب واللين في الحقائق والمضامين، فإن هذه الأمور إذا اختلطت صار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وصارت أحكام الإسلام كلها مرنة من هذه المرونة الشيطانية التي كلها تنازل عن حقائق الإسلام، وتغيير وقلب للأمور وتسميتها بغير مسمياتها كلها انطلاقاً من هذه الأفهام الخاطئة لمثل قول الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] أو فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44].
قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).(10/24)
كذلك -يا أخي- إذا جئت إلى قول الله عز وجل: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56] ماذا تجد في الواقع؟ تجد أن الناس غالباً يحتجون بهذه الآية في احتجاجات خاطئة، مثلاً: عندما يرون داعياً إلى الله عز وجل يدعو الناس، ويتعب ويبذل الجهد، يأتي شخص من هؤلاء المخذلين والمثبطين فيقول: يا أخي! لماذا تتعب نفسك؟ لماذا تدعو؟ ولماذا تنصح؟ يا أخي! إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].. اترك الناس، تريد أن تهديهم بالقوة؟! أعرض عن هذا واشتغل بأي شغل آخر وهكذا. من واقع ماذا؟ يقول: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] وهو يخلط تماماً وليس عنده أصلاً أي فكرة في التفريق بين هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق، وهذا الجهل أصلاً في الفرق بين أنواع الهداية، وهو الذي يعرض الناس للوقوع في هذه المزالق، والإنكار على الصالحين بمثل هذه الآيات، يقول: لماذا تتعب نفسك وليس هناك فائدة؟ بل إنه أحياناً تجد أن العاصي الذي تدعوه وصاحب المنكر إذا جئت تذكره وتنصحه، يقول لك: تريد أن تهديني بالقوة؟! إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] سبحان الله! يأتي بهذه الآية ويضعها ستاراً ويدافع بها عن نفسه يقول: تريد أن تهديني بالقوة؟! إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]. يا أخي! الهداية بيد الله، وتقول لهذا الرجل من الناس الذين طبع الله على قلوبهم فأصمهم وأعمى أبصارهم: انظر في سبب النزول دائماً، فإنها من الأمور المهمة جداً، كيف نزلت هذه الآية؟ وفيمن نزلت؟ وما مناسبة النزول؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة -عم الرسول صلى الله عليه وسلم- جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبو جهل ، و عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(10/25)
يا عمِ! قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل و عبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب -آخر كلامه-: هو على ملة عبد المطلب) اختار الكفر-والعياذ بالله- لأن الناس هؤلاء يضغطون على رأسه.
لولا الملامة أو حذار مسبة ... ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فهو خشي الملامة والمسبة، وخشي أن يعيره الناس، يقولون: ترك دين آبائه وأجداده، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات، فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] وأنزل الله في أبي طالب -هذه تكملة الرواية-: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]) أنزلها الله في أبي طالب فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] هل هذه الآية نزلت قبل أن يبذل الرسول جهداً في دعوة أبي طالب ؟ هل نزلت هذه الآية بعد أن قطع الرسول مرحلة في دعوة أبي طالب ؟ متى نزلت الآية؟ نزلت بعد أن استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم جهده كله في دعوة أبي طالب بالليل والنهار، سراً وعلانيةً، بل حتى على فراش الموت، نزلت هذه الآية بعدما شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من الحزن والندم لمصير هذا الرجل، قال الله عز وجل له: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] بعدما استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم وسعه وطاقته في دعوة أبي طالب نزلت هذه الآية، فانظر كيف يستخدمها الآن هؤلاء المغفلون المغرضون في حجب النور عن الناس، وتثبيط الدعاة إلى الله.(10/26)
من نتائج الفهم الخاطئ للقرآن:
أخذ تصورات خاطئة عن أقوام من البشر:
كذلك -أيها الإخوة- عدم فهم بعض الآيات فهماً صحيحاً يؤدي إلى أخذ تصورات خاطئة عن أقوامٍ من البشر، مثال: يقول الله عز وجل: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82] كثيرٌ من المسلمين الآن يقولون: الآية هذه تقول أن النصارى يحبوننا لأن الله قال: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]. وهذه الآية -للأسف- يستخدمها المبشرون استخداماً رهيباً في الكلام مع المسلمين لإزالة الحواجز التي ترسخت بفعل العقيدة الإسلامية الصحيحة، يأتي بعض المبشرين الآن ويقولون للمسلمين وهم يخاطبونهم: نحن وإياكم شيء واحد، نحن نحبكم ونودكم، وما نقول هذا الكلام من عندنا، لا. إن قرآنكم يقول هذا، لأن الله يقول: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] فإذاً نحن وإياكم أصحاب، ونحن وإياكم شيء واحد، ونحن بيننا علاقات وجسور قوية ومتينة من المحبة والمودة- يضحكون على المسلمين- وكذلك بعض المسلمين يلين للنصارى كثيراً ويشاركهم في معتقداتهم، ولا ينكر عليهم، بل لا يكلف نفسه حتى بالنصح لهم، لماذا؟ لأنه رأى الآية: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82]. فأين منشأ الخطأ؟ الخطأ أن هذا الرجل الذي فهم هذا الفهم لم يتأمل قول الله كاملاً، وإذا كنت تريد معرفة الرد، فانظر إلى تكملة الآيات التي بعدها: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ(10/27)
آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [المائدة:82] من أين أتت هذه المودة؟ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]. فإذاً أول شيء أنتج هذه المودة عدم الاستكبار، وهو الاستكبار الذي يمنع قبول الحق. ثانياً: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ [المائدة:83] رسولنا صلى الله عليه وسلم: تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83] هل النصارى الآن يفعلون هذا: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83]؟ ليس هذا فقط، ليس فقط لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ترى أعينهم تفيض من الدمع، لا، وإنما أيضاً: يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83] يعني: دخلوا في الإسلام: وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:84] هذه تكملة الآيات: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ [المائدة:85]. إذاً- أيها الإخوة- هذا الصنف من الناس هم أقرب مودة للذين آمنوا، يعني: الآيات هي التي تحكي هذا: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]. إذاً هو صنف معين من النصارى عرفوا الحق وآمنوا به، ليس عندهم استكبار، هؤلاء أقرب الناس، وسيدخلون بعد ذلك في الإسلام، هؤلاء هم أقرب مودة للذين آمنوا، وإلا فإن واقع النصارى اليوم والواقع السابق أيضاً الواقع الأسود والحملات الصليبية التي خاضت فيها خيول النصارى في دماء المسلمين إلى ركبها في(10/28)
فلسطين وغيرها عندما دخلوها وقتلوا المسلمين، وما حدث في الأندلس المفقود عندما دخله الأسبان النصارى، وما يحدث اليوم من النصارى ضد المسلمين في أنحاء العالم، إنه أمر يهز الإنسان المسلم هزاً. وأفيدك -يا أخي- بأن هؤلاء لا يزالون في عداوة شديدة للإسلام والمسلمين، وأن حالهم أبداً لا يقارن ولا يقارب شيئاً مطلقاً من الأحوال التي ذكرها الله عن صفات هؤلاء النصارى. إذاً لا بد أن يعرف المسلم عدوه، وألا يخلط الأمور، وألا يلبس عليه وألا يفهم خطأً.
يوقع في حبائل أهل الهوى:
كذلك أيها الإخوة: عدم الفهم الصحيح للقرآن يوقع المسلم في حبائل أهل السوء، ويجعله يقع أيضاً في الحرام وتتلبس عليه الأمور.
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا...).(10/29)
مثلاً: يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] كثيرٌ من الناس اليوم يقولون: الله نهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفةً كأن يؤخذ (50%) أو (100%) أو (300%) هذا هو المحرم، أما إذا أخذنا شيئاً بسيطاً، كأن يؤخذ (5%) أو (7%) أو (3.5%) فهذا ليس فيه شيء؛ لأنه الله يقول: لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] يعني: الأضعاف المضاعفة هذه هي التي منهي عنها، لكن هذه النسب البسيطة ليس فيها شيء ولا تدخل في الآية، من أين أتي هؤلاء في سوء النتيجة التي وصلوا إليها؟ أولاً: لم يعرفوا هذه الآية نزلت في أي شيء، هذه الآية نزلت -أيها الإخوة- تنكر واقعاً ربوياً قد تعارف عليه العرب في الجاهلية، العرب في الجاهلية كان الواحد منهم إذا استلف من الآخر نقوداً ثم جاء موعد السداد ولم يؤد الذي عليه مع النسبة الربوية مثلاً، يقول له الشخص الآخر صاحب المال: أؤجلك سنة وأضاعف عليك النسبة، وتأتي السنة التي بعدها ولم يستطع الأداء، يقول له: أؤجلك سنة أخرى وأضاعف عليك النسبة، فهذه الآية في بيان فساد هذا الواقع: لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] كلما عجز عن التسديد، أعطى له زيادة في المدة مع مضاعفة الربا، لكن الله يقول في آية محكمة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: 278] ثم يقول مهدداً: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]. فإذاً - أيها الإخوة - الاحتجاج بهذه الآية ونسيان الآيات الأخرى، وعدم معرفة هذه الآية نزلت في تبيان أي واقع من الأمور يسبب الانحراف عن منهج الله والوقوع في المحرمات.
الشعور بتناقض القرآن:(10/30)
كذلك يؤدي عدم فهم بعض الآيات إلى الشعور بأن القرآن فيه تناقض، مثال: روى البخاري عن سعيد بن جبير ، قال: جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ، قال: وما هو؟ -كان يجد أشياء متناقضة- قال: وما هو؟ قال: قال الله: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] وقال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:25] يعني: الله سبحانه وتعالى ذكر في آية حالة من الحالات لا يتساءلون، وفي حالة أخرى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:25] فهذا فيه تناقض، فكيف؟ فقال ابن عباس ورضي الله عنه وأرضاه: [فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى -ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون- ثم في النفخة الثانية: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون]. فإذاً هذه آية وردت في حال وهذه في حال آخر، إلى آخر المناقشة، وهي مناقشة جيدة ينبغي الرجوع إليها لمعرفة كيف يكون أحياناً عدم فهم الآيات مشعر لبعض المسلمين بالتناقض في القرآن مع أنه ليس هناك تناقض، وإنما التناقض في فهم هذا الشخص.
اعتقاد مخالفة القرآن للوقائع:(10/31)
أحياناً يؤدي عدم فهم القرآن إلى الاعتقاد بأن القرآن مخالف للحقائق التاريخية، يعني مثلاً: يأتي واحد ويستعرض قول الله في سورة مريم: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28] هذا الكلام يوجهه إلى من؟ إلى مريم، ومريم بعد هارون الذي كان مع موسى بمئات السنين، وربما بآلاف السنين، فكيف يقول قومها: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم:28] وهارون الذي كان مع موسى بينه وبين مريم آلاف السنين؟ كيف صارت أخته! هذا الإشكال أورده نصارى نجران لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم المغيرة بن شعبة ، فلما قدم عليهم، قالوا له: إنكم تقرءون: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته، فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: هارون هذا غير هارون أخي موسى، حيث كان بنو إسرائيل يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، مثلنا نحن الآن نسمي إبراهيم على اسم النبي إبراهيم، نسمي صالحاً على اسم النبي صالح وهكذا، فبنو إسرائيل هكذا أيضاً، فقال هذا هارون الذي أخته مريم ليس هو هارون أخا موسى، هذا هو الرد ببساطة. وقال بعض المفسرين: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] يعني: أخته في الدين، حتى لو كان هارون ذاك أخا موسى. وقال بعضهم: حتى لو كان هارون ذاك، فإنها تحمل على: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] يعني: أخته في الشبه في العبادة، الآن بعض العامة يقولون: هذه السيارة أخت السيارة هذه، ماذا يقصد؟ هل يعني أختها بالنسب؟ لا، ولكن بالشبه، يقولون: هذه أختها بالضبط، يعني: يَا أُخْتَ هَارُونَ [مريم:28] يا شبيهته بالعبادة، ولكن القول الأول الذي فسره صلى الله عليه وسلم هو الأولى، ولو كانت باقي الأقوال تصح في المعنى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم(10/32)
فسرها تفسيراً واضحاً جلياً.
فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس:
كذلك -أيها الإخوة- الفهم الخاطئ لآيات القرآن يؤدي إلى فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس، وقد يوضع أناس في غير منازلهم التي هم عليها حقيقة، مثال: يقول الله عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] ويقول الله عز وجل: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] الآن الناس يستشهدون بها على أن هؤلاء العلماء الكفار الذين في الغرب عندهم خشية لله، لأن الله مدحهم وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. هؤلاء علماء الفلك وعلماء الطب، وعلماء الأرصاد وعلماء وعلماء.. إلى إلخ، وبعضهم يضل ضلالاً أكثر ويفهم الآية بالعكس، يقول: الله يخاف من العلماء، يعني: العلماء عندهم سلطان وعلم، فلذلك الله يخشى منهم، وهي الآية: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ [فاطر:28] لفظ الجلالة مفعول به مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] والعلماء هم الفاعل، فالفاعل الذي يخشى هو العلماء، وهو فاعل مؤخر، ولفظ الجلالة مفعول به مقدم، يعني: إنما يخشى العلماءُ اللهَ، فهذا الأصل. وهذه جاءت في القرآن لمعانٍ بلاغية كبيرة. من هم العلماء الذين يخشون الله؟ علماء الشريعة وليسوا علماء الفلك والطب وعلماء العلم الدنيوي، علماء الشريعة هم الذين يخشون الله، وإلا فهناك علماء كبار في الذرة والفلك ما نفعهم علمهم، وإنما قادهم إلى تشغيل مخترعاتهم فيما يدمر البشرية، وما يعود على الناس بالوبال وبسائر الأمور الشريرة. فإذاً يجب أن نفهم: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] حتى إن بعض السلف قال: العالم هو كل من خشي الله، كل من خشي الله فهو عالم، يعني: عالم عنده علمٌ بالخشية، نفس الشيء: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(10/33)
[الزمر:9]. ومن الناس الآن من أخذ شهادة -مثلاً- في حقل الهندسة، أو الطب، أو الفلك وترى مكتوباً على الشهادة: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] وشهادات التقدير الدراسية التي تمنح في التفوق في الرياضيات والإنجليزي وكذا.. مكتوب عليها: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]. فهل المقصود في الآية هذا؟ لا طبعاً، لما ترجع إلى تفسير السلف إلى هذه الآيات، تجد أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فمن هم الذين يعلمون؟ صفتهم في نفس الآية سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] هؤلاء الذين يعلمون؛ لأن الله قال: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]هؤلاء الصنف: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فهم الذين يعلمون. أيها الإخوة: لو لم يفهم هذا فإننا سوف نفسر القرآن ونضع هؤلاء الناس الذين عندهم علم الدنيا في المنازل العالية، ونفسر الآيات بناءً على هذا، وهذا من القضايا الخطيرة.
اتهام الأنبياء بما لا يتصوره مسلم:(10/34)
كذلك قد يؤدي أحياناً عدم الفهم لآيات القرآن الكريم إلى اتهام الأنبياء بأشياء لا يمكن أن يتصورها مسلم صحيح العقيدة، يخشى الله ويعظم قدر الأنبياء. فمثلاً: قصة إبراهيم: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:75-78]. فالآن بعض المسلمين يفهمون أن إبراهيم مر في حياته في فترة تردد وحيرة وضياع، وما كان يعرف أين الله، ولذلك مرة يقول على الكوكب هو الله، ومرة يقول على الشمس الله، وتخبط حتى اهتدى في الأخير إلى التوحيد. والله عز وجل يقول: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً [آل عمران: 67] ما كان ولا في يوم من الأيام: وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران:67] طول عمر إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، ولا يمكن أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو رجلاً لا يعرف الله، ولا يعرف أين ربه. فإذاً كيف نفهم هذه الآيات؟ لما نرجع إلى التفسير، نجد أن علماءنا قالوا: إبراهيم عليه السلام كان يناقش قومه ويجادلهم، فلو قال لهم: هذا الكوكب ليس هو الله من أول مرة، ما استطاع أن يفحمهم؛ لأن آل إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، وكذلك كانوا يعبدون النجوم والكواكب والشمس والقمر، فإبراهيم أراد أن يفحمهم بأسلوب عجيب يجب أن يتعلم منه كل داعية، حيث كان مع قومه في مناسبة، فخرج كوكب، قال: هذا ربي، ليس اعتقاداً من إبراهيم، إنما تنزلاً معهم في المجادلة والنقاش، وهذا أسلوب معروف في النقاش، وهذا مثلما نقول نحن الآن على فرض(10/35)
أنه كذا، فكذا وكذا وكذا، وإن كان هذا الفرض خاطئ ولا يمكن أن يحصل. فهذه كانت طريقة إبراهيم، قال: هذا ربي، فلما غاب -وهو يعرف إبراهيم أن الكوكب سيغيب- قال: لا أحب الآفلين، يعني: لا يمكن أني أحب إله يغيب، والقمر نفس الشيء، والشمس وهي الأكبر، قال: هذه أكبر، الآن هذه ربي، فلما غابت، قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78] هذه أسلوب في العرض، يتنزل معهم في النقاش حتى يوصلهم إلى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً [الأنعام:79]. وأيضاً يونس عليه السلام نبي كريم من أنبياء الله، وقد جاء في آية: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] كيف يفهم الآن الناس: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]؟ هم يفهمون أن يونس ذهب مغاضباً، وفكر أن الله لا يقدر أن يأتي به، فكان جزاؤه أن التقمه الحوت، فجلس ينادي في الظلمات، فهم يفسرون قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] أنه فكر أننا لن نقدر على الإتيان به. وفعلاً -أيها الإخوة- هذه من الأمثلة على أنه لا بد من الرجوع إلى كتب التفسير ومعرفة أقوال العلماء، ترجع إلى كتب التفسير فتجد أن (نقدر) هنا ليس من القدرة وهي الاستطاعة، بل الفعل: نقدر ماضيه: قدَر وليس قدِر، قدِر يعني: استطاع، وإنما قدَر يعني: ضيق، ولذلك يقول الله في القرآن: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7] الذي ضيقنا عليه في الرزق ينفق على حسب استطاعته وما عنده، وكذلك: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16] فقوله تعالى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16] أي: ضيقه. فماذا يكون معنى(10/36)
الآية؟ معنى الآية أن يونس ذا النون لما صار في بطن الحوت- ابتلاء من الله ليعظم الدرجات له في الجنة، ظن يعني: أيقن، فهي قد تأتي بمعنى أيقن، وقد تأتي بمعنى شك، وهي هنا بمعنى: أيقن، وهذا مثل قوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20] يعني: متأكد أني ملاقٍ حسابيه: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87] يعني: أيقن أننا لن نضيق عليه في بطن الحوت، وأننا سننجيه ولن نضيق عليه ولن ننساه، وسنجيب دعاه، فلذلك نادى، وإلا لو أنه ظن أنه ليس هناك أمل، لماذا قال: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]؟ لم يكن هناك فائدة من الدعاء، ولكن لأن هذا النبي الكريم يعلم بأن الله لن يقدِر عليه، لن يضيق عليه في بطن الحوت، فلذلك نادى في الظلمات: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
إخضاع الآيات القرآنية لمخترعات الكفار:(10/37)
إذاً: أيها الإخوة! المنعطفات والمزالق كثيرة في قضية فهم الآيات، ومن هذه المزالق والمنعطفات قضية الفتنة التي حصلت بهذا العلم التجريبي عند الكفار، مما جعل بعض المسلمين يتهافتون تهافتاً على إخضاع الآيات والأحاديث لنظريات الكفار، فنتجت عن هذه أشياء عجيبة جداً مذهلة، هذا مصطفى محمود يقول: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] هذا يؤيد نظرية دارون، في أن الإنسان أصله خلية، وبعد ذلك صار برمائيات وزواحف وثدييات، وبعد ذلك صار قرداً، وبعد ذلك صار إنساناً، لأن الله يقول: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً [نوح:14] يعني: كان في طور من أطواره خلية، ثم صار برمائياً، وطور صار فيه زواحف، وطور صار فيه ثديات، هذا فهمه، وله كتاب خطير جداً القرآن محاولة لفهم عصري كله من هذه الخرافات والشعوذات، هكذا فهم خلقناكم أطوار، مع أن المفهوم الصحيح لخلقناكم أطواراً نطفة، علقة، مضغة، عظاماً، فكسونا العظام لحماً، هذه الأطوار، وهذه خطورة عدم الاعتماد على أقوال المفسرين من السلف ، حيث أدى إلى هذه النتيجة الوخيمة. وأحدهم قال: أما تدري أن المكيف موجود في القرآن؟ كيف يكون المكيف موجوداً في القرآن؟! قال: أليس الله يقول: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13] يعني: من الداخل رحمة وبرودة، ومن خارج عذاب وحر، يعني: هذا المكيف موجود في القرآن، هذا يوم القيامة يضرب بين الكفار والمؤمنين بسور له باب داخله فيه الرحمة: الجنة ومما يلي المؤمنين، ومن قبله العذاب مما يلي الكفار، هذا السور الذي يضرب بينهم، فهذا الأخ يقول: ورد المكيف في القرآن. وأحدهم يقول: الطائرات موجودة في القرآن؟ كيف؟ قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] الطائرات النفاثات في القرآن. وأحدهم يقول: الذرة هذه مكتشفة: مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:8]. أيها الإخوة: اللَّهُ(10/38)
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35] أحد المؤلفين له كتاب فيه، قال: هذه تدل على أشعة الليزر، وظل يقول: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [النور:35] وأن أشعة الليزر تتولد من مصباح في زجاجة، وتوضع في... فهو مثل الكوة، وتخرج أشعة لا هي شرقية، ولا هي غربية، ويؤلف تأليفاً كله من هذا الباب العجيب. ولذلك أختم كلامي بقول الشنقيطي رحمه الله -وهو مهم جداً في هذا الموضوع- في أضواء البيان: واعلم وفقني الله وإياك أن التلاعب بكتاب الله جل وعلا وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء الكفرة والإفرنج -مثلما فعل هذا في نظرية دارون وغيرها- ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا والآخرة، وإنما هو فساد الدارين، ونحن إذ نمنع من التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحض المسلمين على بذل الوسع في تعلم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم كما قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]. وهذا كلام نفيس جداً، يقول: نحن لا نخضع الآيات، لكننا نقول للمسلمين.. ادرسوا وتعلموا هذه العلوم حتى تنصروا بها الدين. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القارئين لكتاب الله، اللهم اجعلنا ممن يقرءون كتابك فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويؤمنون بمتشابهه، واجعلنا ممن يقيم حدوده وحروفه، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده، واجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، واجعله حجةً لنا لا حجةً علينا بحولك وقوتك يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(10/39)
( أي الناس أنت؟ )
عناصر الموضوع :
أصناف الناس في القرآن والسنة
أصناف الناس في الدين والدنيا عند العلماء
أقسام الناس باعتبار الحسنات والسيئات ونسبتها إلى الله
أقسام الناس في المحبة والقدرة
أقسام الناس في مسألة الغضب للرب والغضب للنفس
أقسام الناس في مسألة العبادة والاستعانة
أي الناس أنت؟:
خلق الله الناس وقسمهم على الخير والشر درجات مختلفة، وقد بين الله أصناف الناس في القرآن، وذلك في مختلف المواقف، فما عليك إلا أن تتبع القرآن لتنظر من أي الناس أنت، أو فطالع هذه المادة تفتح لك الطريق في ذلك.
أصناف الناس في القرآن والسنة:(11/1)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فأي الناس أنت؟ هذا سؤال سألنا أنفسنا فيه: من أي أنواع الناس نحن؟ وقد ذكر الله عز وجل أنواعاً من الناس فقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]. وقال جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] وقال جل شأنه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]. وقال سبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج:3]. وقال جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]. وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]. وقال جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6]. وهناك في الجانب المقابل يقول الله جل وعلا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ(11/2)
بِالْعِبَادِ [البقرة:207] إذاً هناك من الناس ألوان وأنواع وأصناف وأجسام وأشكال ذكرها الله عز وجل في كتابه، وهذا التنويع في الناس يجعلنا نلتفت -أيها الإخوة- إلى هذه الأقسام، ثم نحن نتعرف على حال أنفسنا من خلال هذه الأقسام المذكورة في الكتاب والسنة. فمثلاً: الله -سبحانه وتعالى- قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] فجعل الله -سبحانه وتعالى- الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد: هو الذي يؤدي الواجبات ويترك المحرمات، والسابق بالخيرات: هو المحسن الذي يعبد الله كأنه يراه فيزيد في المستحبات ويتقرب إلى الله بالنوافل بالإضافة للفرائض.. فهذه ثلاثة أقسام -أيضاً- من الناس ذكرها ربنا عز وجل، قسم هذه الأمة إلى هذه الأقسام الثلاثة: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32]. وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم سراً من الأسرار في أصل تكوين الناس وأصل خلقتهم، وكيف كان هناك ارتباط بين أصل الخلقة والتكوين من تربة الأرض وبين الطبائع والدين الموجود في النفوس، فقال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر هذه القبضة المأخوذة من جميع الأرض، جاء منهم الأبيض، والأحمر، والأسود -هذا من جهة الألوان: جاء من الناس أبيض وأحمر وأسود- وبين ذلك، والخبيث، والطيب، والسهل، والحزن وبين ذلك، فهذه القبضة التي أخذها ربنا من جميع الأرض جاءت فيها اختلاف الألوان والطباع). يقول المبارك فوري في شرح الحديث: هذه الثلاثة هي أصول الألوان، وما عداها مركب منها، هذه الثلاثة أصول الألوان: الأبيض، والأحمر، والأسود، والألوان(11/3)
الأخرى إذا خلطت بنسب مختلفة جاءت الألوان الأخرى. ثم بالنسبة للطبائع قال: وجاء منهم السهل: اللين، والحزن: الصعب الشرس الغليظ، والخبيث: خبيث الخصال، والطيب: بحسب الأرض التي خلقوا منها، لوناً وطبعاً وخلقاً، وهكذا تجد الناس باختلاف الطبائع يرجع اختلاف طبعهم إلى اختلاف الأرض، هناك أرض سبخة مالحة ما ينبت فيها شيء، وهناك أرض صخرية ليس فيها أي لين ولا سهولة، وهناك أرض لينة طيبة، وهكذا نفوس الناس من هذه القبضة، وهذا سر من الأسرار وقد اطلعنا عليه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أخبرنا عن أنواع من الناس من جهة عطاء الدنيا والآخرة فقال في حديث الإمام أحمد : (الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس: موسع عليه في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مقصور عليه في الآخرة، ومقصور عليه في الدنيا موسع عليه في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة) أي: لا دين ولا مال. وأما الأعمال فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الأعمال موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبعمائة ضعف. فالموجبتان: من مات مسلماً مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً فوجبت له الجنة -وما هي الموجبة الثانية؟- من مات مشركاً بالله عز وجل كافراً وجبت له النار، ومن هم بحسنة لم يعملها علم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقةً في سبيل الله كانت له بسبعمائة ضعف). الآيات والأحاديث تتكلم عن أنواع من الناس، تقسم الناس إلى أنواع باعتبارات مختلفة، وهذا التقسيم -أيها الإخوة- يفيدنا في فهم الطبائع والأحوال، حتى إذا عرضنا أنفسنا عليها عرفنا أين نحن؟ ما هو نوعنا؟ ما هو جنسنا نحن؟
أصناف الناس في الدين والدنيا عند العلماء:(11/4)
بالرجوع إلى كلام العلماء -أطباء النفوس- يتبين أن هناك أنواعاً -أيضاً- من الناس باعتبارات كثيرة، ومن هؤلاء العظماء: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم ، اخترت لكم من كلامهما هذه الأنواع: الناس في الدين والدنيا أقسام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: منهم أصحاب دنيا محضة ما عندهم إلا الدنيا، أما الآخرة فهم معرضون عنها وليس لهم في الآخرة نصيب، ما لهم نصيب إلا في الدنيا، ومنهم أصحاب دين فاسد وهم الكفار والمتبعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات من جنس الصابئة و الهند وغيرهم. الشيخ العالم/ محمد أمين المصري رحمه الله، ذهب يدرس في بريطانيا فنزل في عمارة وسكن فيها، وكان له جار بروفيسور هندوسي، فاشترى الشيخ لحماً لبيته -لحم بقر مفروماً- فلما جعله على النار يطبخه مر ذلك الجار به وهو يطبخ اللحم، فنظر إليه فذرفت عيناه وجعل يبكي، فتعجب وقال: ما لك؟ ما الذي يبكيك؟! قال: لا تدري لماذا أبكي؟ قال: لا، لحم مفروم يطبخ.. قال: إني أرى إلهي يقلى في المقلاة ولا أبكي؟!! لأنه هندوسي من عباد البقر.. هذا شغلهم. وبعض هؤلاء يتدينون بترك اللحم، من هذه التدينات من جنس تدين الرهبان ما أنزل الله بها من سلطان كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله: مثل بعض الجهال يمزح يقول: فلان ما نكح ولا ذبح. يعني: أنه زاهد في الدنيا، لا زواج ولا لحم، وهذا زهد فاسد؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم: (أتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني). فإذاً قال: الناس في مسألة الدين والدنيا أقسام: منهم أصحاب دنيا محضة، غارقون في الدنيا يعبدون الدرهم والدينار فقط، ومنهم أصحاب دين فاسد، مثل هؤلاء الهندوس وغيرهم، وقسم ثالث وهم: أهل الدين الصحيح، أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة، إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.(11/5)
أقسام الناس باعتبار الحسنات والسيئات ونسبتها إلى الله:
تقسيم آخر للناس باعتبار الحسنات والسيئات ونسبتها إلى الله عز وجل، الناس -أيضاً- يتفاوتون، يقول شيخ الإسلام : فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القدر سبق ذلك وأنه لا خروج له عن القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك لنفسه ونسي نعمة الله في تيسيره لليسرى، فإذا عصى قال: شيء مقدر ومكتوب، ولماذا تلومونني على ما قدر الله علي من المعصية؟ وإذا أحسن قال: أنا فعلت، أنا .. أنا ... ولم ينسب إلى الله أن يسره لهذا العمل، يسره لليسرى، كما قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي : أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. الآن لو أن شخصاً أعطى شخصاً مالاً لكي يضارب به قال: هذه مائة ألف شغلها لي. جاء في آخر السنة قال: يا فلان المبلغ خسر. قال: ماذا؟! قال: والله قضاء وقدر. ماذا سيفعل؟ يناقشه، تعال.. قضاء وقدر! ماذا فعلت، ولماذا خسرت؟ رجل أعطى شخصاً من رأس ماله يفتح متجراً، كل يوم يمر أمام المتجر، ومرة جاء الشخص متأخراً قال: اليوم شمسك مرتفعة. يعني: معناها أنك متأخر عن المتجر -فتحه متأخراً- فإذا جاءه في الدنيا لا يقبل قضاء ولا قدراً، لا، يناقشه في قضية الأسباب ولماذا ما فعل كذا؟ ولماذا ما فعل كذا؟ وإذا صارت المعصية قال: قضاء وقدر! تلومونني على القضاء والقدر؟ فهؤلاء شر الناس. قال: وخير الأقسام -وهو القسم المشروع الذي جاءت به الشريعة- إذا أحسن شكر نعمة الله عليه، وحمده إذا أنعم عليه أن جعله محسناً ولم يجعله مسيئاً، فإنه فقير محتاج إلى الله، وإذا أذنب تاب واستغفر، وهذا هو حال المؤمن.
أقسام الناس في المحبة والقدرة:(11/6)
تقسيم آخر: الناس في المحبة والقدرة -يقول شيخ الإسلام - أقسام: فمنهم من لهم قدرة وإرادة قوية، عندهم عزم وتصميم وجهد كبير، لكنهم -قال شيخ الإسلام - يستعملون جهدهم وطاقتهم لا في سبيل الله بل في سبيل آخر، إما محرم كالفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والإشراك بالله، وإما في سبيل لا ينفع عند الله مما جنسه مباح لا ثواب فيه، لكن الغالب أن مثل هذا كثيراً ما يقترن به ما يجعله في سبيل الله أو في سبيل الشيطان، أي: مباح لا ثواب فيه ولا عقاب، لا يستمر، لا يصفو إما أن يصير في النهاية إلى طاعة الله وإما إلى معصيته. فيقول شيخ الإسلام : هناك أناس عندهم قدرة، وإرادة، وعمل، وعزيمة قوية؛ لكن يسخرونها في الشر، أو في مباحات ليس منها نتيجة في الآخرة، ولا فائدة له قال: ومن الناس مؤمن قوي، قوم لهم إرادة صالحة، ومحبة كاملة لله، فهؤلاء سادة المحبين المحبوبين المجاهدين في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين عملوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رفعة شأن الدعوة، والذين جاهدوا، وعملوا لله تعالى، وحملوا راية الإسلام، دعوا إلى الله، فتحوا البلاد، ذهبوا شرقاً وغرباً، ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عندهم همة وعمل وجهد فرغوه، وأين وضعوه؟ وضعوه لنصرة دين الله عز وجل. قال: والقسم الثالث: قوم فيهم إرادة صالحة ومحبة لله، لكن قدرتهم ناقصة، من ناحية القدرة على نصرة الدين ناقصة، لكن نيته طيبة، عنده إرادة حسنة. قال: هؤلاء يأتون بمحبوبات الحق من مقدورهم لكن قدرتهم قاصرة، وما زال في المؤمنين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من هؤلاء خلق كثير، منهم الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا سلكتم وادياً إلا كانوا معكم وهم بالمدينة ، قالوا: وهم بالمدينة؟! قال: هم بالمدينة حبسهم العذر) وهؤلاء لهم فائدة عظيمة وهي(11/7)
التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم). هتلر كان عنده مبدأ، هتلر يقول: كيف يكون في المجتمع أناس أصحاب عاهات؟ أي: صاحب عاهة لابد أن نعدمه، نقتله؛ لأنه عالة على المجتمع، فنخلص من ميزانية العجزة الكبار والمرضى..! هؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمبدأ الإسلامي ماذا يقول فيهم؟ (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟) هذه النوايا الحسنة التي عند هؤلاء لها فائدة عظيمة في المجتمع، تمكين النصر، النصر يأتي من الله لسببين: بسبب الضعيف الخيِّر، هذا الضعيف الخيِّر، أما الذي يلام من هو؟ الذي عنده مشكلة في نيته أو عنده قدرة على نصرة الدين ولا ينصره، عنده قدرة ولا يستعملها.
أقسام الناس في مسألة الغضب للرب والغضب للنفس:(11/8)
تقسيم آخر: الناس أنواع في مسألة الغضب للرب والغضب للنفس، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والناس في هذا المقام أربعة أقسام: منهم من يغضب لربه لا لنفسه وهذا أعلى نوع، ومنهم بالعكس يغضب لنفسه ولا يغضب لربه، ومنهم من يغضب لهما -يغضب لله ويغضب لنفسه- ومنهم الذي ما من ورائه رجاء، لا يغضب لنفسه ولا لربه. قال: فأعلاهم حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه، يصبرون على أذى الناس ويجاهدون في سبيل الله، وينتقمون لله لا لنفوسهم، ويعاقبون لله لا لأشخاصهم، وهكذا في جهاد الكفار وإقامة الحدود. قال شيخ الإسلام : وأدناهم عكس هؤلاء، يغضبون وينتقمون ويعاقبون لنفوسهم، إذا أخذت ريالاً من دراهمه ثارت ثورته، إذا آذيت ولده ثارت ثورته، ولكن إذا انتهكت محارم الله؟ قال شيخ الإسلام: فإذا أوذي أحدهم أو خولف هواه غضب وانتقم وعاقب، ولو انتهكت محارم الله أو ضيعت حقوقه لم يهمه ذلك، وهذا حال الكفار والمنافقين. وأما الذي لا يغضب لا لله ولا لنفسه فهذا إنسان جبان ضعيف، خائر القوى، لا دين ولا دنيا، لا عنده قدرة في الانتصار للدين ولا في الانتصار للنفس، ومن الناس من تجده يغضب لنفسه ويغضب لربه لكن ما هو الأفضل؟ أن الإنسان يسامح في حق نفسه ولا يسامح في حق الدين، إذا انتهكت حرمات الدين يقوم لله، إذا اعتدي عليه هو يسامح في حق نفسه وأجره على الله .. فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه [الشورى:40]. قريب منه -أيضاً- تقسيم آخر ذكره رحمه الله في موضع آخر في مسألة الانتقام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال لأنس عشر سنين: (أف) أبداً، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلته؟ ولا لشيء لم تفعله: لِمَ لم تفعله؟ مع أنه خادم عنده. أيها الإخوة.. هذه قضية صعبة جداً، شخص عنده خادم، تصور أن عندك خادمة في البيت عشر سنوات لا تقول لها: لماذا لم تعملي كذا؟ لماذا عملت كذا؟ انظروا..! هذا أنس خدم عند رسول الله عشر سنوات ما قال له لشيء(11/9)
فعله: لم فعلت؟ ولشيء ما فعله: لِمَ لمْ تفعله؟ وهذه قدرة عجيبة على ضبط النفس تخلق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقسام الناس في مسألة العبادة والاستعانة:
تقسيم آخر في مسألة العبادة والاستعانة: يقول شيخ الإسلام رحمه الله: الناس في عبادتهم واستعانتهم على أربعة أقسام: فالمؤمنون المتقون له وبه، أي: العبادة له -لله- والاستعانة بمن؟ بالله، هذا معنى: له وبه، هؤلاء المؤمنون المتقون له وبه، يعبدونه ويستعينون به، وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحرياً للطاعة والورع ولزوم السنة، انظر هذه نوعية موجودة من الناس، لكن أحياناً ما نتفطن، وما نربط الأشياء ببعضها ربطاً جيداً، يقول شيخ الإسلام : هناك أناس عندهم تحرٍ للطاعة والورع ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر بل فيهم عجز وجزع، أي: أنك قد تجد شخصاً في الصف الأول في صلاة الفجر في المسجد، ويجلس إلى طلوع الشمس، ويصلي الضحى، ويأتي بالأذكار والأدعية وقراءة القرآن والأوراد والمحافظة عليها وعبادات، لكن إذا مات ولده سقط وانهار.. انهار!! إذا صار لزوجته حادث انهار! إذا ذهب ماله انهار! يعني: عنده عبادة لكن ليس عنده صبر وتوكل، فهذا الشخص إذاً هو ناقص من هذه الجهة. وطائفة ثالثة فيها الاستعانة والتوكل والصبر لكن على غير استقامة ولا متابعة للسنة، عندهم صبر وعندهم الاستعانة لكن على غير متابعة للسنة، ولذلك تجد بعض الكفار إذا مات ولده يتجلد ويصبر لفقد الولد، ويوجد شخص مؤمن يموت ولده ولا يصبر.. لماذا؟ هذا الكافر عنده صبر وتجلد لكن لا يؤجر عليه؛ لأنه لم يفعله لله
وتجلدي للشامخين أريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضع:(11/10)
دخلوا عليه فتجلد عند المصيبة، قالوا: لماذا تجلدت؟ ما شاء الله صبرت، قال: من أجل ألا يشمت الناس بي. ما صبر لله، فيوجد أناس عندهم صبر وعندهم -كما يقولون- صبر كصبر الحمار، لكن ليس لله، فهناك أناس عندهم صبر وتجلد لكن ما عندهم لزوم السنة ولا استقامة على الدين، توجد نماذج من هذا في المجتمع؟ موجودة، ما يقوله شيخ الإسلام موجود، بعض الكفار عنده قلب أجرأ من بعض المسلمين، وبعض الناس عندهم توكل في المعصية، شخص ذهب لبلد من بلاد الفحش يفعل الفاحشة، فواحش، جاء شخص وقال له: يا أخي.. اتق الله، وهذه فيها أمراض، فيها أشياء يصيبك إيدز، يصيبك مرض وبلاء. قال: أنا متوكل .. لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51] أنا ذاهب، لن يصيبني إلا المقدور، وهذا شيء مكتوب، وإذا عزمت فتوكل على الله، فبعض الناس -ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كلام له- آخر قضية توكل بعض قطاع الطرق، إن بعض قطاع الطرق عندهم توكل عجيب، وأنهم بسبب هذا التوكل يتجاوزون عقباتٍ وأخطاراً ومفازاتٍ، ويقطعون صحاري وينجون ويسلمون ويسرقون ويهربون، عندهم هذه القضية، لكن على ماذا؟ على إجرام، وعلى فساد. فالمقصود: لا نستغرب إذا وجدنا تجلداً وصبراً عند أهل المعاصي، وبعض هؤلاء عندهم توكل في الأشياء وهم على جريمة، وينجحون في أشياء بسبب ما عندهم من هذه الاستعانة وهذا التوكل، وقد يكونون من أصحاب البدع، كثير منهم أصحاب بدع لكن عندهم توكل، لكن على بدعة. فإذاً من هم الطائفة؟ ومن هو القسم الناجي؟ ومن هو الذي عنده الاستعانة والتوكل مع العبادة والطريقة الصحيحة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟! من كان على سنة محمد صلى الله عليه وسلم لكن بصبر واستعانة وتوكل.(11/11)
( بين الهداية والانتكاس )
عناصر الموضوع :
مقدمة في الهداية وفضلها
أسباب الهداية
أناس عادوا إلى الله
معوقات الهداية
الانتكاس
أسباب الانتكاس
بين الهداية والانتكاس:
الهداية منة من الله على كثير من عباده، ولها أسباب منها: العلم.. الإيمان.. التوبة.. المجاهدة.. الرفقة الصالحة... كما أن للهداية عوائق كثيرة منها: الاحتجاج بالمشيئة.. تكرار الوقوع في المعصية.. التسويف… وقد تحدث الشيخ عن قصص بعض التائبين، ثم انتقل إلى موضوع الانتكاس، وعرض في بداية كلامه عن الانتكاس بعض الرسائل التي يشكو أصحابها الانتكاس، ثم تحدث عن أسباب الانتكاس.
مقدمة في الهداية وفضلها:(12/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: أحييكم -أيها الإخوة- في مطلع هذا الموسم من الدروس وأقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لقاءنا هذا لقاءً في طاعته، وأن يجعل مجلسنا هذا مجلساً مباركاً ونافعاً لنا جميعاً، وأن يجعل ما نسمع حجة لنا لا علينا. يجدد الإنسان إيمانه بحلق الذكر وملاقاة إخوانه، والعودة لما كان متعوداً عليه من الطاعات والعبادات التي كان يمارسها في مكانٍ معين، كالمدرسة أو الجامعة، ونحو ذلك من الأنشطة الإسلامية، ولا شك أن مثل هذه العودة في بداية العام الدراسي لها أثرٌ في النفس، والعبد دائماً ينبغي أن يتقلب في مواسم الطاعات والعبادات، فسواء كان في عملٍ أو وظيفةٍ أو إجازةٍ فإنه يعبد الله سبحانه وتعالى. ودرسنا في هذه الليلة: بين الهداية والانتكاس، هذا الدرس هو انطلاقٌ من الحقيقة التي أقسم الله عليها بعدة أقسام في كتابه الكريم فقال الله عز وجل:(12/2)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] يعني: ضوءها وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:1-5] أي: ذات البناء أو ومن بناها؟ فيكون قد أقسم بنفسه: وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا [الشمس:6] يعني: دحاها وبسطها وقسمها: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7] يعني: خلقها مستقيمة على الفطرة القويمة: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8] بين لها طريق الخير والشر، وهنا يأتي جواب القسم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. قال بعض أهل العلم من المفسرين: زكاها: أي: زكى نفسه بطاعة الله وطهرها من الأخلاق الرديئة والرذائل، ودساها: يعني: أخملها بخزيانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل، فالشاهد قوله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فمن زكاها: فهذه هي الهداية، ومن دساها: فهذا هو الانتكاس، بين الهداية والانتكاس.
هداية النفس تزكيتها:(12/3)
ونتحدث أولاً عن الهداية في هذه التزكية التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسألها ربه كما جاء في صحيح مسلم : (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنتَ خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) الهداية المقصودة: هي الهداية التوفيقية التي هي من الله، وهي أعظم نعم الله على العبد، وهي التي اختص الله بها: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]. يحبب إلى العبد الإيمان، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، هذه هي الهداية التي لا يملكها إلا الله عز وجل، وهي المقصودة لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] وهي المعنية في قوله عز وجل: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]. والهداية يا إخواني منةٌ من الله على عباده، كما قال عز وجل: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ [الحجرات:17].. كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]. وقد استشعر الصحابة هذا المعنى وهو أن الهداية منة من الله ونعمة، ولذلك جاء في صحيح البخاري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً، فقال رجلٌ من القوم لعامر بن الأكوع ، ألا تسمعنا من هنيهاتك؟ -وكان عامر رجلاً شاعراً- فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لو لا أنت ما اهتـ ... دينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداءً لك ما اقتفينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا(12/4)
فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من هذا؟ قالوا: عامر ، فقال: يرحمه الله). وأعظم منةٍ من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هي الهداية كما قال الله عز وجل وعدد نعمه على نبيه صلى الله عليه وسلم: وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:7-8]. وبين النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة هذا فقال عندما جمع الأنصار في الخطبة المؤثرة المشهورة: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟) فبدأ أولاً بذكر الهداية من الضلالة، فالضلالة هي: الشرك، والهداية: الإيمان، وثنى بالتأليف والجمع وثلث بالغنى والمال، فرتب النعم ترتيباً بالغاً. وأهل الجنة حينما يدخلون الجنة يحمدون الله على نعمة الهداية التي هداهم في الدنيا: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]. قال الطبري رحمه الله: الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله وصرف عذابه عنا، هذه الهداية من الله يقذفها في قلوب من يشاء من عباده، وأحياناً يهتدي الشخص فجأةً بين عشيةٍ وضحاها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في شأن المهدي قال: (المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة) فالمهدي حقاً سيخرج وهو من أشراط الساعة ويحكم سبع سنين، يملأ الأرض عدلاً، كما ملئت ظلماً، ويعطي المال بدون عدٍ ولا إحصاء، وإنما يحثو حثيه، هذا الرجل يصلحه الله في ليلة، الهداية ليست لها قاعدة ولا مكان، فإن الله سبحانه وتعالى قد يهدي الرجل في أفسق الأماكن، وقد يضل بعضهم في مكة، فكثيرون من الناس ذهبوا إلى أمريكا فأضلهم الله، وبعضهم ذهبَ إلى هناك فهداه الله، فهذا شيء من الله لا يملكه أحد: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ(12/5)
[القصص:56].
أسباب الهداية:
لكن للهداية أسباب كثيرة فمنها: أولاً: العلم؛ العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، فمن أراد الهداية فلا بد أن يكون عالماً بالله وأسمائه وصفاته: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] وأن يعلم حق الرب على عبده وهو: أن يعبده لا يشرك به شيئاً. ثانياً: الإيمان، فهو من أعظم أسباب الهداية، الإيمان الذي هو الاعتقاد والتصديق بالجنان، والنطق باللسان، والعمل بالأركان، الذي يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقال الله عز وجل: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [يونس:9] فالإيمان من أعظم أسباب الهداية. ثالثاً: الدعاء: وهو العبادة ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] ونحن نقول في الصلاة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] دلنا على الصراط المستقيم، وفقنا لطريقة الشرع وزدنا هدى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لعلي رضي الله عنه: (يا علي ! سل الله الهدى والسداد، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك السهم) فضرب له المثل الحسي: إذا سألت الله الهداية تذكر كيف إذا خرجت إلى مدينة أو بلد سلكت طريقاً فإنك تجتهد في معرفة الطريق والاستدلال إلى المكان، وعدم الضياع عن هذا الطريق وفقدانه، وتذكر بطلبك السداد، تذكر بالسداد تسديدك السهم، فإن الذي يسدد يصوب ويجتهد. ومن أسباب الهداية: التوبة، كما قال الله عز وجل: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد:27] فإذا أناب العبد هداه الله سبحانه وتعالى. السبب الخامس من أسباب الهداية: المجاهدة؛ يقول الله سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] والمجاهدة على نوعين: مجاهدة النفس، ومجاهدة الشيطان، وأيضاً جهاد أعداء الله، فأما مجاهدة النفس فهي أنواع، فمنها: مجاهدة النفس(12/6)
على تعلم الهدى، وثانياً: مجاهدة النفس على العمل بالعلم، وثالثاً: مجاهدة النفس على الدعوة لهذا العلم، ورابعاً: مجاهدتها على الصبر على الأذى في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. وأما مجاهدة الشيطان فإنها تكون بأمرين: مجاهدة الشيطان بالشبهات التي يلقيها في نفس العبد، وكذلك مجاهدته على الشهوات التي يلقيها في نفس العبد ويثيرها. ومن أسباب الهداية أيضاً: الجماعة الطيبة، قال الله عز وجل: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [الأنعام:71] وكيف يقتنع الشخص بأن الهداية هي مصلحته؟ بأن يعلم أنه هو المستفيد من الهداية ليس الله عز وجل، وأنه هو المتضرر من الضلالة وليس الله عز وجل: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس:108]. وجاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً). وهذه الهداية التي يقذفها الله سبحانه وتعالى في قلب من يشاء من عباده قد تكون عقب أمرٍ من الأمور وشيءٍ من الأشياء، فبعض الناس قد يهتدي من خطبة أو محاضرة، أو موعظة، أو دعاء تراويح، أو بعد حجٍ أو عمرةٍ، وبعضهم يهتدي لرؤيا يراها أو حادث يصيبه أو مصيبة كفقد وظيفته، أو موت قريبٍ، أو يمرض مرضاً تضعف نفسه فيه فيرجع إلى حقيقة أمره، ويفكر في شأنه فيهتدي، وبعضهم يهتدي بنصيحة أو دعوة يدعو بها رجل، وبعضهم يهتدي من رؤيةٍ نكبات المسلمين وما أصابهم، وبعضهم يهتدي(12/7)
بمرافقة الرفقة الطيبة، وبعضهم يكون مهتدياً من صغره، لتربيةٍ طيبةٍ في البيت. وأسباب الهداية كثيرة والتي يجعلها الله سبحانه وتعالى سبباً لدخول هذا النور إلى قلب العبد، وربما لو أنكم عدتم بأذهانكم إلى الوراء كل واحدٍ منكم، ففكر في السبب -إذا كان مستقيماً- الذي به أدخل الله الإيمان إلى قلبه، لوجد قصةً أو حادثةً كانت كذلك، ويمكنكم المشاركة بكتابة هذا الأمر من سببٍ عجيبٍ أو قصةٍ مؤثرة كانت سبباً في هدايتك أو هداية شخصٍ تعرفه، لنرى في الختام أمثلة واقعية من هذه الأشياء فيتعجب العبد من أقدار الله سبحانه وتعالى، وقد تكون الهداية بحدث تعقبه الهداية فوراً، وقد يهتدي الإنسان تدريجياً كما إذا دخل في وسطٍ طيب، فإنه يبدأ بالتأثر وممارسة العبادات وهكذا حتى يصل إلى الهداية والاستقامة والالتزام بشريعة الله سبحانه وتعالى، فقد لا يحس بالنقل المفاجئ بين عشية وضحاها ولكن يصل إلى المطلوب.
أناس عادوا إلى الله ... : ...
لنتحدث عن بعض القصص من الماضين الذين هداهم الله سبحانه وتعالى، كيف هداهم، وأمثلة عن هذه الأسباب.
جبير بن مطعم وكيف اهتدى:(12/8)
فمن ذلك هداية جبير بن مطعم الصحابي رضي الله تعالى عنه وكان قد جاء في أسارى بدر ، وهؤلاء من حكمة النبي عليه الصلاة والسلام وفطنته أنه جعله في مكانٍ قريبٍ من المسجد، وكان ربما جعل الأسير في المسجد حتى يسمع القرآن وصوت النبي صلى الله عليه وسلم به، قال جبير : (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35-37] قال جبير : كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي) يعني: سكن وثبت، وهذا الحديث في صحيح البخاري رحمه الله. قال ابن كثير : فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك، فقد تكون الهداية نتيجة أسباب تجتمع وقد لا تكون في وقتٍ واحد، لكن هذا السبب الآن مع سبب آخر بعده بشهر أو شهرين، أو سنة أو سنتين تحصل الأسباب التي تؤدي بالشخص إلى الهداية.
زاذان وسبب هدايته:(12/9)
ومن التابعين: زاذان رحمه الله قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : زاذان أبو عمر الكندي مولاه الكوف البزاز الضرير أحد العلماء الكبار، قال ابن عدي : تاب على يد ابن مسعود وعن أبي هاشم قال: قال زاذان : كنتُ غلاماً حسن الصمت جيد الضرب على الطمبور -وهو آلة من آلات العزف- فكنت مع صاحبٍ لنا وعندنا نبيذ -خمر- وأنا أغنيهم فمر ابن مسعود فدخل وضرب الباطية -يعني: إناء الخمر- فبددها وكسر الطمبور، ثم قال: [لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنتَ أنت أنت] -أي: لو كنت بدلاً من أن تصرف هذه الطاقة الصوتية الجميلة بهذا الغناء المحرم جعلته في القرآن كنتَ أنتَ أنتْ- ثم مضى فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود ، فألقي في نفسي التوبة فسعيت أبكي وأخذت بثوبه فأقبل علي فاعتنقني وبكى وقال: [مرحباً بمن أحبه الله، اجلس ثم دخل وأخرج تمراً] وكثير من الأسانيد تجد فيها هذا الرجل زاذان رحمه الله.
القعنبي:(12/10)
ورجلٌ آخر من أهل الحديث وهو القعنبي من الرواة المشهورين قال أحد أولاده: كان أبي يشرب النبيذ ويصاحب الأحداث -أي: جماعةٌ من الفسقة- فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم -ينتظر هذه الشلة من أهل السوء- فمر شعبة بن الحجاج -المحدث المشهور الثقة المتقن الضاد- على حماره والناس خلفه يهرعون فاستغرب من المنظر فقال: من هذا؟ قيل: شعبة ، قال: وماذا شعبة ؟! قالوا: محدث، فقام إليه هذا القعنبي وعليه إزارٌ أحمر -معروف أن هذا اللبس ليس من لبس المؤمنين، فلقد نهينا عن لبس الأحمر الخالص للرجال- فقام إليه وعليه إزارٌ أحمر، فقال له: حدثني، فقال له: ما أنتَ من أصحاب الحديث فأحدثك! -لا سيماك سيما أصحاب الحديث ولا الهيئة ولا المنظر- ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك! فأشهر سكينه وقال: تحدثني أو أجرحك، فقال له: حدثنا منصور عن ربعي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت). فرمى سكينته ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فأراقه وقال لأمه: الساعة يأتون أصحابي، فأدخليهم وقدمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا فخبريهم بما صنعت بالشراب حتى ينصرفوا، ومضى من وقته إلى المدينة فلزم مالك بن أنس فأثر عنه ثم رجع إلى البصرة -وقد مات شعبة- فما سمع منه غير هذا الحديث.
الفضيل بن عياض: ...(12/11)
والفضيل بن عياض رحمه الله توبته مشهورة نقلها الذهبي رحمه الله أيضاً فقال: عن الفضل بن موسى : كان الفضيل بن عياض شاطراً -يعني: لصاً، الشاطر: هو اللص يقطع وينهب- يقطع الطريق بين أبي ورد و سرخس وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو قول الله عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16]. هذا جاره يقوم الليل بالقرآن، وهذا يتسور إلى المرأة الجدار ليفعل بها الفاحشة، فلما سمعها قال: بلى يا رب -وقعت في قلبه موقعاً، إذا شاء الله أن يهدي رجلاً كشف الحجب الكثيفة التي كانت تغطي قلبه، فدخل النور: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] قال: بلى يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خيمة، فإذا فيها أناس مسافرون، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، لا نرحل الليلة، فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، وقد سمعهم بالمصادفة قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل بالمعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبتُ إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.
توبة لص في بيت مالك بن دينار:(12/12)
والأمثلة كثيرة جداً من الهداية، لكن هذه قصة أخيرة عن توبة أحد اللصوص: جاء في سيرة مالك بن دينار ، في سير أعلام النبلاء ، قيل: دخل عليه لصٌ -أي: على مالك بن دينار وكان معروفاً بالزهد- فما وجد اللص ما يأخذه فانتبه مالك فنادى اللص قائلاً له: لم تجد شيئاً من الدنيا، فهل ترغب في شيءٍ من الآخرة؟ قال: نعم. قال: توضأ وصلِّ ركعتين، ففعل ثم جلس وخرج إلى المسجد فسئل مالك : من ذا؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه. فهذا مثال عن ما يمكن أن ينتقل إليه الشخص من الإجرام إلى الاستقامة، ومن الضلالة إلى الهداية وهذا هو المطلوب، إذا صفت النفوس وأقبلت على الله فإن الله يهدي، وإذا ابتغى العبد أسباب الهداية فإن الله لا يضله، الله عز وجل رحيمٌ بعباده، لا يضل من أراد الهداية، لكن الناس أنفسهم يظلمون بعدم إرادتهم الهداية.
معوقات الهداية: ... ...
وقد مر معنا من أسباب الهداية: المجاهدة: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]. وهذه المجاهدة هي التي خالفها الكثير من الناس فلذلك لا يهتدون؛ أو أنهم يعلمون شيئاً من الشريعة والدين، لكنهم لا يعلمون الكثير ولا يطبقون.
الاحتجاج بالمشيئة:(12/13)
من معوقات الهداية: الاحتجاج بالمشيئة، هذا الذي نسمعه كثيراً من الناس، الذين يقولون: لو شاء الله لهدانا، وهؤلاء قد سبقهم الكفار بالاحتجاج بالمشيئة، فقال الله عنهم: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20] لو شاء الرحمن ما عبدنا هؤلاء وأشركنا في الله، وقال عز وجل في آية أخرى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]. احتج المشركون بالمشيئة، كلامهم في الظاهر صحيح، لو شاء الله ما أشركوا لا شك في ذلك: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، لكن الله عز وجل كذبهم، وقال في آية الأنعام: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام:148] وقال في آية الزخرف: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف:20]. فكيف كذبهم وظاهر كلامهم صحيح؟! الجواب: لأن مرادهم بكلامهم: لو شاء الله ما أشركنا، قولهم: إن الله لما كان قادراً على منعهم ولم يمنعهم دل ذلك عندهم على أنه راضٍ عنهم وعن الشرك، قالوا: لو لم يكن راضياً لصرفنا، فكذبهم الله على هذا الزعم، وأن الله لو شاء شيئاً لا يعني أنه يحبه، ولو قدر شيئاً ليس يقتضي ذلك أنه يحبه، فإن الله يشاء الخير ويشاء الشر سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تقول: ما دام الله شاء هذا، يعني: أن الله يحبه وأن الله يقره، أبداً. ولذلك هؤلاء العصاة الذي يقولون: لو شاء الله لصرفنا عن هذا الشرك، لو شاء الله لهدانا، نقول: إذا كنتم تحتجون بواقعكم على أنه صحيح، بأن الله شاء ذلك فأنتم ضلال، فالله عز وجل شاء كل ما يقع، لا يقع شيءٌ إلا بمشيئته قطعاً، خلافاً لمن ضل في ذلك من القدرية ، وإذا كنتم تقولون: إننا مجبورون على الفعل، ولو شاء الله لأخرجنا، لكنه جبرنا على المعصية، فنقول: أنتم ضلالٌ أيضاً، فإن الله سبحانه وتعالى قد أعطاكم الإرادة. قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات(12/14)
والأرض، وكتب أهل الجنة وأهل النار، وأقام الحجة على الجميع بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ووفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق عليه الكتاب الشقاء، وخلق لكل إنسانٍ قدره، فلا يحتج أحد بأنه مجبور؛ لأن له قدرة وإرادة، ولا يحتج أحد على الغواية بأنه لا يعرف الحق، فالله قد أرسل الرسل وأنزل الكتب، وبين طريق الخير والشر: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] وهذا الفاسق الذي يفعل ما يفعل يفعله مختاراً ليس مجبوراً، طائعاً غير مكره هو الذي اختار شرب الخمر فشرب، وهو الذي اختار الزنا فزنى، وهو الذي اختار سماع الغناء فسمع، وهو الذي اختار الإسبال فأسبل ونحو ذلك، فهو الذي اختار بإرادته وقدرته التي أعطاه الله إياها ولذا اختار الشر، فلا يصح بعد ذلك لإنسان أن يقول: أنا مجبور! أو أن يحتج بمشيئة الله على أن الله يرضى واقعة السيئ، كلا. بعد هذا كله لو خالف فهو يستحق العقاب، والهداية لا تصل إلى الناس من الشباك وهم يتفرجون أو وهم نائمون، تصل إليهم الهداية يقولون: نحن ننتظر الهداية تظن أن الهداية شيءٌ سيأتي من خلفك فيقذف فيك بدون أي عملٍ منك؟! بل إن الإنسان لو رأى أمامه أشد الحوادث تأثيراً! لو كان قلبه مغلفاً لا يريد التأثر فإنه لن يتأثر.
تكرار الوقوع في المعصية ... :(12/15)
ومن عوائق الهداية: تكرار الوقوع في المعصية، فإن بعض الناس يقول في نفسه: أنا أدخن وأترك ثم أدخن وأترك، ثم أدخن وأترك، أنا أحلق اللحية ثم أعفيها، أحلقها ثم أعفيها، ثم أحلقها ثم أعفيها، أنا أسمع الأغاني ثم أترك، وأسمع الأغاني ثم أترك، فيقول: أنا لستُ مستعداً لهذا التردد؛ فيفلت العنان لنفسه وهواه، ويرجع إلى الضلال ويستمر فيه، فنقول له: يا هذا! لا شك أنك عند رجوعك عن الباطل، وإن كان لفترة مؤقتة فإنك أحسن من الذي يستمر عليه دائماً! إذا رجعت فأنت أحسن من الذي يدخن دائماً أو يحلق دائماً أو يسمع المحرمات دائماً، ثم إن الازدواجية التي وقعت فيها ينبغي أن تدفعك إلى الثبات على الحال الحسن، واختيار الخير، وليس أن ترجع وتستقر على الحال السيئ، ثم إن الإنسان إذا وقع في معصية فإن ذلك لا يعني أن يترك بقية الطاعات، هب أنك وقعت في معصية، هل تترك بقية الطاعات، وتقول: ما دام ارتكبت بعض المعاصي، إذاً سأسلك سبيل المعاصي المفتوح بجميع ما فيه؟ كلا. ثم إن هذا الحديث يدل على أن الإنسان إذا فعل معصية، فإنه يرجع ويتوب، وليس أن يقول: وقعت فأكمل فيما وقعت فيه، لا. عن ابن مسعود قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! وجدت امرأةً في بستان ففعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً، فذهب الرجل، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم النظرة ثم قال: ردوه علي، فردوه عليه، فقرأ عليه قول الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] فقال معاذ رضي الله عنه -وفي رواية: عمر -: يا رسول الله! أله وحده أم للناس كافة؟ قال: بل للناس كافة). فنقول: إذا وقع الإنسان(12/16)
في معصية لا يستسلم، بل يقبل على الله ويتوب، يذهب ويتوضأ ويصلي ركعتي التوبة، وإذا كانت جريمة يذهب فيعمل عمرة أو يحج من أجل هذه المعصية، فإن عمر قال عن ذنبٍ فعله: [فعملت لذلك أعمالاً من أجل هذا الذنب].
القنوط من رحمة الله ... :
ومن عوائق الهداية: أن بعض الناس يعتقد أن الله لا يمكن أن يغفر له، وأن ذنوبه كثيرة جداً، من كثرة سيئاته لا يمكن أن يغفر الله له، وهذا باطل، وهذا سوء ظن بالله، وهو شكٌ في قدرة الله، بل إن الله عز وجل قد قال في الحديث القدسي: (من علمَ أني ذو قدرةٍ على مغفرة الذنوب غفرتُ له ولا أبالي، ما لم يشرك بي شيئاً). إذاً لا يمكن للإنسان أن يقول: لن أدخل الهداية؛ لأن ذنوبي أكثر من أن يغفرها الله، هذا باطل وهذا اعتقادٌ محرم، بل ينبغي أن يتوب إلى الله، ويقبل على الله ما دام لا يشرك بالله شيئاً: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة).
النظرة الخاطئة للالتزام: ...
ومن عوائق الهداية: اعتقاد أن جو الهداية شدة وتزمت ووسوسة ورهبنة وحرمان وتحريم الضحك ونحو ذلك من الأشياء الباطلة. الجواب: كلا. فإن جو الهداية على عكس من ذلك، هو اطمئنان وسكون وسرور وحبور وفرح نفسي وطمأنينة يقذفها الله في قلوب المهتدين، ويحصل في قلوبهم من أنواع السرور ما يحمد به العبد ربه على نعمة الهداية، وليست الهداية تحريماً للطيبات، فإن الله قد قال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32] من الذي حرمها؟ الله أباحها فمن الذي يجرؤ على تحريمها؟!
التسويف: ...(12/17)
ومن عوائق الهداية: التسويف؛ فإن بعض الناس يخطر في باله خاطر الهداية، يأتيه خاطر من الملك أن يهتدي؛ لأن الله جعل مع الإنسان ملكاً وشيطاناً، الملك يأمره بالخير والشيطان يأمره بالشر. يأتيه الخاطر من الملك أن يتوب ويهتدي، ويترك ما هو فيه من الباطل، فبعض الناس يسوف يقول: سوف أفعل ذلك إن شاء الله في المستقبل سوف أفعل ذلك، فنقول: هذا شيءٌ لا تعرف نهايته، فقد تموت قبل ذلك، وتقول نفسٌ: يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه [الزمر:56] لو أن الله هداني: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] وقد يقال له عند موته: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100] وهذا التسويف من أضر الأشياء على العبد، فبسببه تؤخر التوبة وتؤخر مشاريع الانتقال إلى طريق الخير والهداية بسبب التسويف، كلما جاء بواب الخير كلما جاء طارق الخير صرفه بواب لعلّ وعسى، ثم إن الإنسان إذا استمر في الشر صار الشر عادة، فصار ترك الشر صعباً عليه، كمثل رجلٍ خرجت له نبتةٌ في بيته، في مكان غير مناسب مؤذٍ، فقال: اليوم أقتلعها، غداً أقتلعها وهي تنمو وتكبر اليوم أقتلعها غداً أقتلعها، حتى إذا كبرت وصارت جذورها ضاربةً في الأرض وقويت صار هو في المقابل أضعف وأعجز، والشجرة صارت أقوى وأكبر فأنى له أن يقتلعها؟! ولذلك من البداية غير ولا تسوف.
ربط الالتزام بأشياء أخرى: ...(12/18)
ومن معوقات الهداية: ربط الأشياء بعضها ببعض، وترتيب الأشياء بعضها على بعض، وهذا من حيل الشيطان، كما قال بعضهم مرةً قال لي: أنا أشتهي وأريد أن أعفي لحيتي ، قلتُ: ما الذي يمنعك من ذلك؟ قال: لأنني عقدت العزم على أن أفعل ذلك بعد حدوث شيءٍ معين، وما هو؟ قال: إنني الآن في مرحلة الخطوبة يعني: الآن أخطب وأتقدم إلى الناس لأتزوج، فإذا تزوجت أنوي أن أحج بالمرأة، فإذا حججت بها فمن ذلك الوقت -من بعد الحج- سأترك المنكرات وأعفي لحيتي، فهذا علق قضية هذه الطاعة على الزواج! ثم يعلق الزواج على الحج، فيربط الأشياء بعضها ببعض، ويقول: أريد شيئاً نهائياً، فنقول: ابدأ من الآن حتى إذا دخلت سهل عليك، لكن أن تقول: سأفعل ذلك إذا تزوجت وحججت وعند ذلك عصمت نفسي وعند ذلك صرتُ عفيفاً، والحج يهدم ما قبله، وابدأ عند ذلك صفحةً جديدة، نقول: يا أخي! التوبة تفتح لك صفحة جديدة، ليس بشرط أن تتزوج وتحج حتى تفتح صفحة جديدة! ممكن أن تفتح صفحة جديدة الآن، وما يدريك فقد يأتيك ملك الموت قبل أن تتزوج أو قبل أن تحج، فما عذرك عند الله؟!.
الاحتجاج بواقع بعض الملتزمين: ...(12/19)
ومن عوائق الهداية أيضاً: الاحتجاج بواقع بعض الناس الذين ظاهرهم الالتزام، لكنهم عندهم معاصٍ وإساءات، فيقول لك: انظر هذا فلان، لحيته هذا طولها، ومع ذلك رأيته ينظر إلى النساء، أو أنه يلعب بفواتير الشركة، أو أنه ليس بنظيف، أو أن فلانة محجبة، لكن أنها تفعل من وراء الحجاب أشياء، نقول: وما لك ولهم، إذا كان ظاهرهم الطاعة، وباطنهم عندهم فسق؟ هل هذه حجة أمام الله تحتج بها يوم القيامة؟ إذا سألك: لماذا لم تسلك سبيل الاستقامة والهداية قلت: فلان هذا ظاهر الهداية، لكن في الحقيقة عنده أمور أخرى؟! نعلم بأن هناك منافقين بالمجتمع هل ألوان النفاق هي حجةٌ لك على ترك الهداية؟ أبداً لا يمكن أن تكون حجة: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] الحق نفسك، قبل أن تؤتى فلا تستطيع الحراك. وكذلك فإن الإنسان يلجأ إلى المنهج، ولو انحرف الأشخاص، فهو لا يربط هدايته بفلان أو فلانة، فإذا ضل فلان ضل معه، وإذا اهتدى فلان اهتدى معه، كلا. بل هو دائماً مع المنهج مع القرآن والسنة يدور معهما حيثما دارا، ولا عليه من تصرفات الناس وأخطائهم؛ أخطاء الناس ليست بحجة على الشريعة، الشريعة هي حجة على الناس، ونحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال.
اعتقاد أن النية الطيبة وحدها تكفي:(12/20)
وكذلك من معوقات الهداية: اعتقاد أن النية الطيبة وحدها تكفي، وأن الأعمال لا داعي لها ما دام أن القلب طيبٌ وسليم، فنقول: هذا زعمٌ فاسد، الله عز وجل قال لأهل الجنة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] فالأعمال سبب لدخول الجنة، فإذا لم تعمل، فبأي شيءٍ تدخل الجنة، والله عز وجل مدح الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإذا لم تعمل الصالحات، فبأي شيءٍ تنجو يوم القيامة؟!: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البروج:11]، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ [يونس:9].. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96]. هؤلاء الناجون، لكن إذا لم تعمل الصالحات؟ فبأي شيءٍ أو على أي حالٍ تكون يوم القيامة، الإيمان قولٌ وعمل، أما الضلال هم الذين يقولون الإيمان هو: الاعتقاد بالقلب والتصديق فقط.
النظر إلى من هو دونه في الالتزام:(12/21)
ومن معوقات الهداية أيضاً: أن ينظر الشخص إلى من هو دونه في الدين، فيقول: أنا أصلي الصلوات الخمس، فلان يقطع الصلوات، وإذا كان يقطع الصلوات قال: أنا أفضل من فلان؛ فلان لا يصلي أبداً، وإذا كان لا يصلي أبداً، قال: أنا أفضل من البوذي وعابد البقر، فنقول: هذا مفهوم خاطئ وهذه نظرة منحرفة، فإن الإنسان في الدين ينظر إلى من هو أعلى منه، ثم أنه قد جعل لنا قدوة نقتدي به وأمرنا باتباعه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].. فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]. لكن متى تنظر إلى من هو دونك؟ في أمور الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم في أمور الدنيا، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) رواه أحمد و مسلم وغيرهما. فعلى الإنسان أن ينظر إلى من هو دونه في الدنيا، فيرى من هو أسوأ منه حالاً فيحمد الله على النعمة التي هو فيها، لكن في الدين، لا يقارن نفسه بمن هو أدنى منه، وإلا فإنه سينزل درجات أو دركات.
النظر إلى المكاسب والمغانم الدنيوية:
ومن عوائق الهداية: هواة المكاسب والمغانم الدنيوية، فبعض الناس يعملون في أعمال محرمة كرجلٍ يعمل في مؤسسة ربوية، أو في عمل محرم في فندقة أو سياحة يشارك في المحرمات كالفواحش والخمور، ونحو ذلك من الأعمال المحرمة، فإذا جاءه خاطر الهداية، قال: الآن لو اهتديت، وجب علي ترك العمل؛ لأنه محرم يتناقض مع الهداية، فإذا تركت العمل فات المرتب والمرتبة! وأين أجد عملاً آخر؟ أو فاتني الجاه والمنصب، كما وعظ أبو العتاهية الشاعر الخليع أبا نواس فماذا رد عليه أبو نواس ، قال:
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي ... أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهيِ(12/22)
تريدني أن أصبح متنسكاً فأفسد جاهي عند القوم، أنا محدثهم أو أنا مضحكهم والذي أقص عليهم القصص التي ترفه عنهم ونحو ذلك، فكان مقرباً من بعض السلاطين، وكان يحبه الوجهاء والأغنياء ونحو ذلك من السفهاء والفسقة، فيأتون به يحدثهم ويقص عليهم، فإذا اهتدى معناه أنه سيترك هذه الأجواء وتفوته الأعطيات، أو يكون الإنسان في مكان يأخذ الرشاوى والعمولات، فإذا جاء خاطر الهداية، قال: سيفوتني هذا الدخل وهذه الأموال، هذه أشياء دنيوية زائلة، والدنيا كلها ملعونة بنص الحديث: (الدنيا ملعونة؛ ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالمٌ ومتعلم) ثم نقول: إن الله عز وجل يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. فاتركها لله يعوضك الله خيراً منها.
حب التحرر وعدم التقيد: ...(12/23)
ومن عوائق الهداية: حب التحرر وعدم التقيد، وإن بعض الناس يعتقد أن الهداية تقييدات وكبت للحريات، وتعتقد بعض الفتيات بأن الالتزام كبتٌ لحريتها، وتركٌ للزينة والخروج والكلام في الهاتف، كما يعتقد ذلك أيضاً بعض الفسقة من الناس يقولون: هذا تقييد، هذه قيود نحن لا نريد القيود، نصافح النساء والأقارب وغير المحارم، نتبرج، نسافر إلى بلاد الكفار، نسيح في الأرض، نسمع ما نشاء، نرى الأفلام، لا نريد الهداية؛ الهداية تقيدنا، وتكبلنا، وهي ثقيلة على النفس. نقول: هذا صحيح، لكن اعلم أنك أن تكون عبداً لله خيرٌ من أن تكون عبداً لشهواتك، وأن الجنة قد حفت بالمكاره، ولا شك أن هذه الأشياء المحرمات تقييد لا شك، لكن من قيد نفسه بالشريعة في الدنيا، أخذ حريته يوم القيامة، ومن كان عبداً لشهواته في الدنيا، فهو من أهل النار يوم القيامة، ثم إن الطاعة فيها حلاوة، وهذا شيء ثابت ومجرب، قاله العلماء والزهاد والعباد، كما قال بعضهم: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة! وقال بعض السلف : إنه لتمر بالقلب ساعة أقول فيها لنفسي: إن كان أهل الجنة دائماً في مثل هذا، فهم في نعيمٍ كبير. فإذاً الإيمان له حلاوة، والحلاوة هذه تنسيك جميع التقييدات التي تتصورها أنت عائقاً عن الهداية.
الخوف من اضطهاد المجتمع والأهل وأذيتهم:(12/24)
ومن عوائق الهداية: خوف الاضطهاد والأذية التي قد تكون من بعض الأقرباء أو أهل البيت، بل قد تكون من الأب والأم والإخوان، أو من زملاء العمل، أو الدراسة، أو الجيران، ونحوهم من أهل الشارع، فيمر المتمسك بالدين بينهم فيستهزئون ويسخرون ويلمزون ويغمزون بمظهره أو لحيته وثوبه، أو حجابها، وربما تعدت الأذية إلى أن يسجن أو يفصل أو يضرب ونحو ذلك من أنواع الاضطهاد والأذية، فنقول: هذه طبيعة هذا الدين: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]. هذا طريق الأنبياء، الجنة حفت بالمكاره، وليس من الصحيح أن تتصور أنك إذا اهتديت فلابد أن تجد الطرق معبدة مذللة، وكل الناس يضربون لك تحية احترام، لا. فإنك ستصاب بسبب التزامك بالدين بأنواع من الأذى، هذا ما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام، سبوه وشتموه وخنقوه وبصقوا في وجهه، وجعلوا الشوك في طريقه، وضعوا سلى الجزور على رقبته .. عذبوا أصحابه .. وسلسلوهم بالسلاسل .. قتلوا بعضهم .. جرحوهم وحاصروهم في الشعب .. جوعوهم .. حملوا السلاح عليهم، إذاً الإنسان الذي يتصور أنه إذا اهتدى سيعيش في أمان وسلام، هذا تصور عن هذا الدين وهو تصور ناقص مشوه ليس بصحيح. نعم. ليس بالضرورة أن تحدث لك مشكلات، لكن إذا حدثت فينبغي لك أن تتوقع ذلك، خصوصاً في هذا الزمان الذي هو زمان الغربة؛ غربة الدين، وغربة الإسلام، وبعض الناس يقول: أنا سأجرب الالتزام والدخول في الهداية وأرى، إذا صارت أموري جيدة والناس احترموني أكملت الطريق، وإلا رجعت، هذا الذي يعبد الله على حرف: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]. كان بعضهم يأتي إلى المدينة يسلم، يقول: نجرب هذا الإسلام، فإن(12/25)
نتجت خيله ورزق ولداً وجاءه مال، قال: هذا دينٌ حسن، وإذا لم تنتج خيله ولا جاءه ولد، ولا رزق مالاً، قال: هذا دين سوء قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج:11]. فنقول: التزامك بالدين هذا يكلفك أشياء كثيرة، فيه مصاعب، وفتن، لا شك في ذلك، يتفاوت الناس فيها، ولذلك لابد من توطين النفس على هذا، أما أن نفر من الواقع ونفر من الزحف لأي أذى نصادفه ونرجع وننتكس ونقول: مالنا وللمشاكل؟ ودعونا من الالتزام بهذا الدين فإنه مشاكل ومصائب، فلا شك أن صاحب هذا مسكين، وهو الخاسر؛ لأن هذه الدنيا زائلة وماضية وعابرة بكل ما فيها من الفتن والاضطهادات والمشكلات، فهي زائلة وعابرة، والحياة الحقيقية في الآخرة: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]. الحيوان: الحياة الأبدية الدائمة المستقرة. وبعد ما عبرنا على بعض الأمور التي تتعلق بالهداية، فإننا نتكلم -إن شاء الله- في الشق الثاني من هذا الموضوع عن قضية الانتكاس.
الانتكاس:
قد سبق الكلام في موضوع الانتكاس في بعض المحاضرات الماضية، ونريد أن نجدد بعض المفاهيم والتصورات، وأن نعيد إلى الأذهان بعض القضايا المتعلقة بذلك، ولأبدأ هذا الشق معكم ببعض الرسائل التي جاءتني متنوعة، اخترت منها رسالة من عامل ورسالة من فتاة، ورسالة من شاب، ورسالة من داعية، كلها تتعلق بموضوع الانتكاس. فلنقرأ بعض هذا، ثم نبين بعض الأسباب والعلاجات.
رسالة من شاب منتكس: ...(12/26)
هذه رسالةٌ من شابٍ تائهٍ يتخبط، فأرجو أن تقرأ رسالتي بدون ملل لأهميتها القصوى وأرجو الرد عليها بسرعة. أنا شابٌ عمري ثمانية وعشرون سنة، حاصل على الشهادة الفلانية ومتزوج وعندي طفلان، وأتيت للعمل، وراتبي كذا، وقد انقلبت حياتي رأساً على عقب، فأنا كنتُ في بلدي شاباً ملتزماً جداً، وأصلي الصلوات الخمس في وقتها، وفي الشتاء والليل والبرد القارس وأصلي الفجر، وأقوم الليل، وأقرأ وأحفظ القرآن وأزور في الله وأتصدق. ولا يفوتني درسٌ علميٌ ديني، وكنتُ أدعو الله ولا أسمع الأغاني، وإذا رأيت تلفازاً أدرت له ظهري والنساء عندنا عاريات وبرغم ذلك كنتُ أغض بصري، وغير ذلك من أعمال الخير ولا أزكي نفسي على الله، ولكن ماذا حدث لي الآن؟ انظر الفارق بين القلب الخير والقلب القاسي أصبحتُ لا أصلي في المسجد سوى وقتين أو ثلاثة، ولا أصلي الفجر إلا قليلاً، أستمع إلى الغناء، وأشاهد التلفاز، بل في بعض الأحيان الفيديو، ولم أحضر درساً علمياً واحداً سوى خطبة الجمعة، ومع أن النساء في حجاب أحسن حالاً في المكان الذي أنا فيه، رغم ذلك أنظر إليهن، ونسيت ما حفظته من القرآن، وألغو في كلامي، وأتحدث ما كنتُ أستحي منه قبل ذلك، وغير ذلك من الأمور التي أستغرب أنا شخصياً من فعلها، وهذا التحول له أسباب منها: أولاً: أنا أسكن مع شابين لا يحلون حلالاً ولا يحرمون حراماً إلا نادراً، ويستمعون الغناء والموسيقى والتلفاز بكثرة، وقد جاهدتهم ولكن أصبحت أخوض معهم، ليس عندي وقت لحضور دروس العلم، ووجدت الناس قلوبهم مغلقة وقاسية ولا هم له سوى جمع المال، لا أجد أصدقاء يعينوني على طاعة الله، وكذلك فإنني أبيع العطورات، وتدخل علي النساء وهن على كل شكلٍ وقد تطلب الواحدة مني وتقول: هل تبغي؟ فإذا وجدتني أصمت من هول الصدمة تلاحقني، وتقول: هات مائتين ريال وهيا، وفي مواجهة هذه الفتنة قمت بأعمال العادة السرية التي لم أستعملها في حياتي، وأنا الآن بعيدٌ عن(12/27)
أهلي إلى آخر الرسالة.
فتاة تشكو الانتكاس:
وهذه رسالة من فتاةٍ تقول: كنتُ أعيش في هذه الدنيا في طاعة الله، وأصلي وأتصدق وأذكر الله عز وجل، وكنتُ أقوم بأعمالٍ كثيرة من الطاعات، ولكن الآن انقلب أمري رأساً على عقب، فصرتُ لا أصلي وأكره الصلاة، وقطعت رحمي ونسيتُ أهلي وتشاحنت مع أخواتي على دنيا فانية، واغتبت أختي، وكذلك فإنني الآن حزينة على نفسي أشد الحزن، ولا أدري كيف لا أعود عن خطئي، وأنا الآن غافلة وتراودني المشاعر للتوبة الصادقة، ولقد ظلمت نفسي وضيعتها وأهويتُ بها في الجحيم كل ذلك حدث خلال سنةٍ واحدة، أقطع الصلوات، وصيامي عن الطعام والشراب فقط، كنتُ أقسم مصروف المدرسة بيني وبين الصدقة، والآن لا أخرج شيئاً، وإن سألتني عن لساني فلقد اتخذت الكذب هواية، والغيبة فاكهة، والنميمة وسيلة لأعيش بها، والشتائم والمسبات صارت روتيناً دارجاً لا أستطيع تركه، وإن سألت عما أرى فإنني أرى الأفلام ولا أغض بصري، وأسهر على المسلسلات، وأذني لسماع الموسيقى والأغاني، والحسد قائم، وأنا عاقةٌ لوالدي، وأهملت حتى في الدراسة ... إلى آخر هذه الرسالة الطويلة. ورسالة أخرى من شاب من المغرب يقول: كنتُ في بيتٍ تربيت فيه تربية دينية وأحافظ على الصلوات منذُ الصغر، وأرافق والدي إلى المسجد وأنا ابن ثلاث سنين، وأتقنت كل العبادات، وأحسست برضا الله ورضا الناس، وكنت الوحيد الذي يدخل المسجد في سن مبكرة كسني، وكانت تلك السنوات أحسنها ما في تاريخ ميلادي، لكن ما أن وصلت إلى سن المراهقة بدأت أتأخر في صفوف المصلين، وفجأةً انقطعت عن الصلوات، ورافقت أصدقاء السوء من حولي، وفارقت بلدي للدارسة فانقطعت عن أهلي ووالدتي، وتولد عندي مرضان خبيثان، مرض حب المال وحب الشهوة! واستعملت ذلك فيما حرم الله ووقعت على الأخص في فواحش الزنا واللواط حتى بالحيوانات والسرقة من الأسرة، وأكل أموال أصحاب الدين، والغش ... وإلى آخره. وعرضتُ عن كتاب الله،(12/28)
وانكببت على قراءة الكتب الخليعة ومشاهدة أفلام الجنس، ولم أعمل بأحكام كتاب الله، مع العلم أنني أعرفها تمام المعرفة، وأعرف الفرق بين الحلال والحرام، والمكروه والمستحب، كلما تذكرت ذلك يحترق قلبي ألماً وحزناً حتى دراستي التي كنتُ متفوقاً فيها أصبحت في هذه السنة أنفر منها ... إلى آخر الرسالة الطويلة.
رسالة من داعية يشكو كثرة المنتكسين:
وهذه الرسالة الأخيرة من داعية من إحدى المدن يقول: أكتب إليك هذه الرسالة بمدادٍ من الأسى والحزن، ومزيد من التحرق والتأسف بسبب الواقع المرير الذي تعيشه مدينتنا، الذي يتألم منه كل من في قلبه غيرة على دين الإسلام، ويبكي منه كل من يرى تدهور هذا الحال والرجوع إلى الخلف، وكأننا نسير بعكس ما يسير عليه العالم من الصحوة والرجوع إلى الله، وألخص هذا الواقع في النقاط التالية: أولاً: منذُ فترة ونحن نرى حالات كثيرة من الانتكاس والانحراف بين شباب هذه المدينة، فهذا شابٌ سلك الصراط المستقيم منذُ سنتين أو ثلاث، وفي هذه الأيام الأخيرة انتكس وانحرف إلى حالةٍ شديدة، سهر على الحرام ومشاهدة الخنا والفجور وسماع الغناء والمعازف وترك الصلاة، وعقوق الوالدين، وجولات على السيارات في الأسواق .. معاكسات .. تفحيط في الشوارع .. فعل الفواحش ... إلى آخره.
انتكاس شاب عمره خمس عشرة سنة: ...(12/29)
وهذا شابٌ آخر عمره خمس عشرة سنة تقريباً كان في جاهليةٍ وفسق، فبدأ يماشي الشباب الملتزم فترةً ليست بالقصيرة منذُ صغره، وفي هذه الأيام استطاع الشباب الفاسد أن يذهبوا به إلى صفوفهم، وأن يجعلوه واحداً منهم، وصار أسوأ مما كان عليه أولاً، والحالات كثيرة جداً يطول عدها وسردها في هذا المقام: ولكن هذه مجرد أمثلة لهذا التساقط المؤلم، وكثرة الانحرافات التي جعلتنا نتوقع أن أي ملتزم وتائب جديد قد ينحرف بعد فترة قصيرة لما يراه من الواقع المرير، وأصبحنا نخشى على كثيرٍ من الشباب مهما كان عهدهم بالالتزام قديماً. ثانياً: لم تنفع المناصحة لمثل هؤلاء المنحرفين ولا الرسالة ولا الشريط الإسلامي ولا المكالمة الهاتفية ولم تجد معهم طريقة. في أول الأمر: يبدأ بالمجاملات والمداهنة معنا في أول انحرافه ثم يعلنها أخيراً أنه ترك الالتزام وسلك طريق الفسق. وكثيرٌ من هؤلاء يعطيهم آباؤهم السيارات ويطلقون العنان لهم في الفساد. ثالثاً: ونحن نعتقد أن هناك بعض الأشياء المدبرة من بعض أصحاب السوء من المنافقين، حتى أن بعضاً من الشباب الفاسد يظهر الالتزام مدة قصيرة، ويدخل بين أوساط الملتزمين، ولكنه ينحرف ساحباً معه اثنين أو ثلاثة، وخاصةً من الصغار ... إلى آخر هذه الرسالة. وهذه الرسائل تعبر عما نريد أن نتكلم عنه في قضية الانتكاس.
أسباب الانتكاس:(12/30)
لما تكلمنا عن موضوع الهداية -أيها الإخوة- والأسباب التي تجعل الإنسان يهتدي إلى الله عز وجل، لابد أن نتحدث في المقابل عن قضية الانتكاس التي تصيب بعض الذين يدخلون في هذا الدين ويسلكون سبيل الاستقامة، ونحن لا نريد أن نهول الأمر، ونقول: ليست هذه هي الأكثرية والحمد لله، بل إنه ولله الحمد الذي يدخل في هذا الدين، ويعرفه، قلما يتركه، وإنما الترك يكون من الذين في قلوبهم مرض ولا شك في ذلك، ممن في قلبه مرض من الأمراض فيترك الالتزام بهذا الدين، أما إنسان دخل الدين وعرفه وعرف الحق وذاق حلاوة الإيمان وجاهد نفسه، فإن الله لا يضله، فالله رحيم بعباده. ومسألة الانتكاس هذه مسألة نسبية، فمن الناس من يرتد عن الدين، بمعنى يخرج منه بالكلية، فيصبح كافراً بعد إسلامه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [البقرة:217] وبعض هؤلاء قد يكفرون بترك الصلاة بالكلية مثلاً، أو سب الدين والاستمرار على ذلك، أو غير ذلك من المكفرات، وبعض الناس يترك الالتزام إلى الفسق فيعمل بعض المنكرات والمحرمات يقع فيها مرةً أخرى، فيعود إلى أمور من الشهوات المحرمة، أو الأشياء الأخرى كأن يحلق لحيته ويدخن ويسمع الأغاني ويشاهد الأفلام وهكذا. ومن الناس من لا يفعل المحرمات لكنه يبرد بروداً ويفتر فتوراً مذموماً، فبعد أن كان داعية إلى الله نشيطاً يطلب العلم، أصبح غير طالب للعلم ولا داعية إلى الله، يعني: يترك واجبات من الدين، فيكون مقصراً ويقول: أنا أريد أن أصبح مسلماً عادياً، وطبعاً هذا في الغالب يترك النوافل والمستحبات كقيام الليل وقراءة القرآن والصدقة والذكر تخف عنده جداً، وبعض الناس قد يترك المستحبات فترة لفتور ثم يعود مرةً أخرى، هذا وضع طبيعي، أقصد: أنه في دائرة المقبول: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) إذا كان الفتور لا يجعلك تترك واجباً،(12/31)
أو ترتكب محرماً فأنت بخير، لكن النظر الآن في الانتكاس في هؤلاء الذين يعودون ويرتدون على أدبارهم. لقد حفل التاريخ بقصص وأنواع من الناس الذين ارتدوا على أدبارهم، كالكاتب النصراني الذي أسلم وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم فترة ثم ارتد، والناس الذين ارتدوا بسبب حادثة المعراج التي لم تقبلها عقولهم وتصدقها فارتدوا، وبعض الناس الذين ذهبوا إلى مكانٍ بعيد، كما تنصر عبيد الله بن جحش لما ذهب إلى الحبشة ، إن هؤلاء ومثلهم الذين دخلوا في هذا الدين هو ينطبق عليهم قول الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:175-176] إذاً هو الذي اتبع هواه: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:176] لابد أن يعلم المنتكس أن الله ناصرٌ دينه مهما حصل من حالات الانتكاس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]. وهدد الله هؤلاء المنتكسين المرتدين على أدبارهم بقوله: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]. نقول: أيها الإخوة! إن اتساع الصحوة وانتشارها جعل هناك حالات كثيرة من الدخول في طريق الهداية، وتسببت بعض الأشياء في خروج بعض الذين دخلوا من طريق الهداية مرةً أخرى.
عدم معرفة الدين كاملاً يسبب الانتكاس:(12/32)
ونريد أن نتكلم عن بعض الأسباب التي تؤدي إلى هذا الأمر، ونتحدث ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يضل إنساناً يريد الهداية، ولعل من أعظم الأسباب: أن بعض هؤلاء المنتكسين لما دخلوا في طريق الهداية دخلوا في أوله، لم يدخلوا فيه بالكلية، وإنما ذاقوا شيئاً من الحلاوة، عرفوا شيئاً من الحق، عرفوا شيئاً من العلم، لكنهم لم يسلكوه كما ينبغي وكما يجب، ولذلك الذي بدأ في أول الطريق يسهل عليه أن يعود، بخلاف الذي دخله دخولاً تاماً، فنجد أكثر هؤلاء المنتكسين الذين ينتكسون بعد فترة وجيزة من التزامهم، وليس الأكثرية الذين ينتكسون بعد فترة طويلة من الالتزام، أناس تغير واقعهم فترة وجيزة من الزمن، أطلق لحيته، حافظ على الصلوات في المسجد، بدأ يقرأ بعض الكتب، يسمع بعض الأشرطة، يحضر بعض الدروس، ثم بعد ذلك يرجع مرةً أخرى وينتكس، هذا الشخص ما فقه دين الله عز وجل، ولا دخل نور الإيمان في قلبه كما ينبغي، هذا عرف طرفاً وعرف شيئاً وذاق شيئاً، ثم رجع مرةً أخرى.
خطأ الاقتداء والتعلق بغير المنهج الإسلامي: ...(12/33)
ونقول: إن السبب في كثير من الحالات هو خطأ الاقتداء، فبعض هؤلاء دخل في طريق الهداية لارتياحٍ عاطفي، أو تعلقٍ بشخص (بشخصه) لا بمنهجه ودينه، تقبل الأحكام؛ لأنه خرجت من فم فلان، يصبح فلان كأنه هو الوسيط بينه وبين الله، فإذا ابتعد فلان أو سافر حدثت المشكلات وصار الانقلاب، وإذا رجع فلان تحسنت أحواله، نقول: إن فساد الاقتداء هو سبب انتكاس هذا الشخص، وبعض الناس يكون عنده من يسانده من قريب أو صاحب فإذا غادره ابتعد عنه وحصلت الزلزلة والانتكاس، إن هذا لم يعتصم بالله، ولم يقبل على الله، إنه لم يأوِ إلى ركنٍ شديد، ولذلك تراجع، ولذلك قضية التعلق بالأشخاص دائماً من الأسباب التي تكون في الانتكاس: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً [آل عمران:144] ينبغي أن يكون التدين لله.
سلوك طريق الهداية لأغراض فانية:(12/34)
ومن الأسباب أيضاً التي تكون الانتكاس: أن يكون دخول بعض الناس في هذا المشوار طريق الهداية لأجل تحصيل منفعة دنيوية، كما يدخل بعضهم في جمعيةٍ أو نشاطٍ إسلامي، يبتغي السمعة أو الدرجات ونحو ذلك، أو أنه يريد أن يخطب فتاةً أو امرأةً فيتبين فترة من الزمن حتى إذا سألوا عنه قالوا: صاحب دين، أو أنه يريد أن يدرس في كليةٍ شرعية ولا يناسب الحال أن يكون مظهره منحرفاً فهو يريد أن يتوصل إلى وظيفة في القضاء أو غير ذلك، فيغير من شكله أو طريقته لأجل المنصب والوظيفة، هذا الشخص ما غير لله، إنما غير لطمع ومنفعة دنيوية، ولذلك فإن الانتكاس غالب في حال مثل هؤلاء الأشخاص. والذين يدخلون الدين ويتوقعون أن ينتفعوا، وأن يقدم لهم الآخرون الخدمات، هؤلاء الأشخاص ما دخلوا في الدين لله، ولذلك فإن رجوعهم متوقع وليس بغريبٍ أبداً، بل هو الأقرب، لذا لابد للإنسان إذا دخل في الدين أن يدخل لله، وأن يجرد نفسه من جميع المطامع الدنيوية، ليس الدخول في البداية -أيها الإخوة- تجربة لكي يقول الشخص: أفعل وأقرر بعدها ماذا أفعل؟! بل هو الخيار الوحيد الذي ليس لك غيره، لأنه ليس ثم إلا النار بعد ذلك.
عدم التخلص من شوائب الماضي:(12/35)
وبعض الناس يكون من أسباب انتكاسهم أنهم لا يخلصون أنفسهم من شوائب الجاهلية بالكمال، فيدخل في الدين ويدخل معه أنواعاً من المنكرات يقيم عليها وتكون هذه المنكرات سبب انتكاسهم في المستقبل، فمن ذلك ألا يقطع الصلة بأصحاب السوء، مع أن قطعها واجب، والرجل العالم لما نصح قاتل المائة بالخروج من البلد بماذا نصحه؟ لأن البلد بلد سوء، اذهب إلى قرية كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، لا يصلح أن يكون الشخص كالشاة الحائرة بين الغنمين، يذهب إلى هؤلاء ثم إلى هؤلاء، يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، هذا لا يجوز، لابد أن يقطع الصلة بأصحاب السوء والماضي السيئ، لا يجوز أن يبقي شيئاً يذكره بالماضي السيئ، فإن بقاءه سبب من أسباب الغواية والرجوع إلى الفساد. ثم إن الشخص الذي يدخل في الهداية لابد أن يوطن نفسه على التربية، لا بد أن يتربى على هذا الدين، يتعلم هذا الدين، يمارس العبادات، يدخل مع الرفقة الطيبة، يعمل للإسلام، العمل للإسلام من أكبر المثبتات التي تثبت الشخص؛ لأنه يكون في حالة هجوم، بينما لو قعد وقال: أنا أريد أن أكون مسلماً عادياً هذا ستتناوشه المهلكات من كل جانب، ولذلك ينبغي أن يمارس الإنسان التربية في نفسه .. طلب العلم .. الدعوة إلى الله عز وجل، إذا مارس ذلك حافظ على نفسه من الانتكاس.
عدم الإكثار من سماع المواعظ:
وكذلك فإنه لا يصلح أن يكون السبب الذي يبقينا في دائرة الهداية هو أثر من موعظةٍ سابقة دون ازدياد من مواعظ أخرى، أو أثر من علمٍ سمعناه دون ازدياد من العلم، أو أثر من أخوةٍ طيبة دون الازدياد منها، لابد من الازدياد وتأسيس النفس على تقوى من الله ورضوان.
الانعزال عن الرفقة الصالحة: ...(12/36)
ثم إن بعض الناس الذين يميلون إلى الفردية، ولا يريدون أن يعيشوا في جو الأخوة الإسلامية والجماعة الطيبة والرفقة الصالحة، هؤلاء من أكثر الناس تعرضاً للانتكاس، فهذا الدين قائم على أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد، والله سبحانه وتعالى امتن على عباده بأن ألف بين قلوبهم، ولذلك يا أيها الإخوة! قلنا في أول محاضرة عندما تكلمنا عن تذكير النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (كنتم ضلالاً فهداكم الله بي) كانوا متفرقين فألفهم الله وجمعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا دين جماعي، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. ولابد أن يعلم الشخص كذلك أن الالتزام ليس له حدٌ محدد والهداية ليس لها حدٌ محدد، فلابد أن يستمر في العمل، لسنا كالصوفية الذين يقولون: إذا وصلت إلى مرتبة اليقين سقطت عنك التكاليف، لا شيء اسمه سقوط التكاليف، لابد أن نستمر في العبادة.
الآفات القلبية سبب للانتكاس:(12/37)
وكذلك من الأمور المهمة: أن نطهر أنفسنا من الآفات القلبية؛ فالآفات القلبية خطيرة جداً، فمثلاً: العجب .. الغرور .. الكبر، هذه الأمور التي تكون عند بعض الناس ولا تظهر؛ لأنها خفية خصوصاً إذا صار معها شهوات خفية، كحب الرئاسة، وحب الظهور، لابد أن تؤدي إلى قضايا من مراءاة الخلق، وإلى التعاظم والانتكاس في النهاية، كما حصل لبعض الناس الذين كان بعضهم من أهل العلم، لكن بسبب ما كان في قلوبهم من هذه الآفات، حصلت عندهم هذه الانتكاسات، وقد ذكر العلماء حالات من ذلك، قالوا: كان فلان من الذين يطلبون الورع والزهد وقيام الليل واقتفاء آثار العباد، وكنا نجتنب المزاح بحضرته، وبعد ذلك فتن وتراجع وسقط، فتنته إحدى بنات الحرس وألقت عصاها به، فافتتن الرجل وانتكس ورجع، وفلان اختصر كتاب كذا، كان يعلم في القراءات ونحو ذلك وكان مجتهداً ومثابراً على النسخ، ولكن حصل له خذلان وتراجع، جاءت فترة ضعف والرجل ما جاهد نفسه ولا قاوم نفسه، فنسي كل شيء. وآخر عشق فتىً نصرانياً حتى ترك العلم وأهل العلم، حتى ألف لهذا النصراني كتاباً في تفضيل التثليث على التوحيد. فإذاً هذه القضايا الداخلية قضايا خطيرة جداً، لابد أن تعالج من البداية، فإذا تركت قضية العجب والغرور وحب الرئاسة فإنها تستفحل وتستشري وتقضي على الشخص في النهاية.
الشعور بالكمال سبب في الانتكاس:(12/38)
وكذلك من أسباب الانتكاس إحساس بعض الناس أنه صار كاملاً لا ينقصه شيء، ولذلك يكون هذا من أسباب كبره وعجبه بنفسه، فيسقط بعد فترة من الزمن. وكذلك الحسد، فكم تسبب في فتنة أناس، والتساهل واتباع الرخص واحتقار الصغائر من الأسباب التي تؤدي إلى الانتكاس، قيل لبعض أهل العلم: إن فلاناً يبيح الغناء، وفلاناً يبيح النبيذ وفلاناً يبيح كذا، قال: إن الذي يبيح الغناء لا يبيح النبيذ، والذي يبيح النبيذ لا يبيح الغناء، ونحو ذلك، فهذا يتتبع سقطات العلماء ويأخذ بالرخص، ويجمعها معاً فيتبعها. فهذا العالم أخطأ، سواء أخطأ لجهل أو هوى أو أخطأ لاجتهادٍ خاطئ، وإذا تتبعت الرخص خرجت من الدين، ولذلك فالذي يقول: والله فلان رخص في الأخذ من اللحية، وفلان رخص في الغناء إذا كان ما فيه أشياء من وصف النساء، والموسيقى إذا صارت هادئة لا بأس ونحو ذلك من الأشياء، فإن هذا هو بداية الانتكاس بل هو الشروع في الانتكاس فعلاً، إن تتبع الرخص من المشكلات والقضايا الخطيرة التي أودت بأشخاصٍ كثيرين وأوصلتهم إلى معسكر أهل الباطل.
عدم هجر قرناء السوء:(12/39)
ومن الأمور التي ينبغي الحرص عليها كذلك وتجنبها: عدم مخالطة أهل السوء والاستئناس بهم، وعدم القعود معهم، لا يجوز أن نقعد معهم لغير حاجة شرعية، مصلحتها راجحة، وبعض الطيبين يتساهلون في الجلوس مع أهل الفسق والفجور، ولابد أن يأخذ منهم وأن يتأثر بهم، ولو سألته وقلت: أجبني بصدق: عندما خرجت منهم هل قلبك على الحال التي كان عليها قبل الدخول عليهم؟ أبداً لا يمكن أن يكون كذلك، وهذه المسألة -الجلوس مع الفسقة إيناساً لهم أو استئناساً بهم- هي من أسباب الانتكاس ولا شك. فلا يجوز الجلوس معهم، الله سبحانه وتعالى نهانا عن الجلوس مع هؤلاء. وقلنا قبل قليل قضية التهاون بالصغائر، مثل نظرة إلى امرأة أجنبية، تكون هذه هينة، أو مشاهدة شيء محرم يستهين به، ثم يستمر شيئاً فشيئاً كما قال بعضهم: كنت أولاً أرفض أي نوع من أنواع الرشوة ولا أقبل أي هدية، ثم قال: صرت أنتقي أقول: هذا يمكن ما يتأثر ولا يطلب مني شيئاً يتعلق بالوظيفة فآخذ منه، ثم فتحت المجال قليلاً فصرت آخذ بشروط، أقول: هات هدية هات كذا لكن بشرط أن لن أفعل خدمة، ثم تنازلت عن الشرط وفي النهاية قال: صرت أنتقي الهدايا انتقاءً وأشترط في النهاية، أقول: لا بد أن تأتي لي بكذا. فالناس الذين يتساهلون في البداية يتسع الخرق عليهم في النهاية، ولذلك لنجتنب الصغائر وهي محقرات الذنوب؛ لأن الإنسان يحتقرها وهي التي تورد المهالك: (يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) وبعض الناس يقول: أترك حضور اجتماع العمل لأجل الصلاة ماذا يقولون عني؟ قد يكتب فينا المدير تقريراً سيئاً، قد يخصم علي كذا، أو أمنع من الترقية، طالب يحضر فيلماً في موسيقى ويتساهل في ذلك يقول: يخصم علي درجات أو يسجلني غائباً أو يستهزئ بي الطلاب في الفصل، نقول: هذه بداية التنازلات، أيها الإخوة! سلم التنازلات لا ينتهي، والإنسان إذا تعود واستمرأت نفسه التنازل سهل الذي يليه، وهكذا حتى يقع في النهاية.(12/40)
الاشتغال بالدنيا: ...
من أسباب الانتكاس: الاشتغال بالدنيا، فبعض الناس كانوا عباداً زهاداً أتقياءً دعاة، يطلبون العلم، اشتغلوا بالتجارة، وبعضهم ربما اشتغل بالتجارة لسبب ديني أن يقول: أكسب عيشاً حلالاً وأتصدق وأدعم المسلمين بدلاً من أن أترك الفسقة يعملون أنا أدخل في التجارة، لكن لا يدخل بمقدمات صحيحة، ولا بعهدٍ متين مع الله، ولا بنفسية خالية من الشح، ولكنه يدخل على وهنه، ويتغير شيئاً فشيئاً، حتى يكون في النهاية بعض الناس المتساهلين من التجار أحسن منه وأكثر صدقاتٍ منه، ويتوسع ويتوسع حتى يقع في الحرام، ويترك الواجبات وقد لا يخرج صدقة فصدقاته شحيحة، لو قارنت نسبة الصدقات التي كان يتصدق بها وهو طالب لوجدت رصيد التصدق وهو طالب أكثر مما تصدق وهو تاجر: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [التوبة:75-76]. فانتبهوا يا أيها المشتغلون بالتجارة المقبلون على الدنيا أو طلب الوظائف الكثيرة، أو العمل في أكثر من وظيفة، لربما تكون هذه الوظائف سبباً في فتنتك وانتكاستك، ولا تجد وقتاً للعبادة، إن الضرورة لها حالات، لكن الذي يقبل للتوسع في الدنيا يكون هذا من أسباب انتكاسه، وبعض الناس ينتكسون بسبب التخويف والإرجاف، فيسمع عن حالات، أو يسمع عن تعذيب، وسجن ونحو ذلك وابتلاءات وقعت لبعض الناس فيخاف ويخشى الناس وينسحب! ينبغي أن يكون حالنا كما قال الله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، هذا هو الحال، لا أننا إذا سمعنا الأخبار أو تطايرت الأنباء، خفنا وجبنا وتراجعنا وانسحبنا، أو إذا حصل لأحدٍ شيء خاف الآخرون وتركوا التمسك(12/41)
بالدين، هذا فعل الذي لم يثبت، ولم يشأ الله أن يثبت قدميه على طريق الهداية.
السفر إلى بلاد الكفار:
ثم إن من الأمور المهمة التي ينبغي أن تجتنب حتى لا يقع الانتكاس: ترك الصحبة الطيبة والابتعاد عنهم، كم كانت الإجازات والسفر إلى الخارج والابتعاد عن أهل الخير في هذه السياحة ونحوها من الأمور التي أردت بأشخاص كان لهم فضل ودين وعلم ودعوة في أسفل السافلين! ورجعوا وقد تغيروا بعضهم أسبوعين، أحدهم ذهب إلى أمريكا دورة أسبوعين فقط، كان يعبد الله وحالته طيبة ورجع مقلوباً رأساً على عقب، معجب بالكفار أيما إعجاب، ماسك للشوكة باليسار والسكين باليمين، وقد كان قبل قليل -أسبوعين- يعرف السنن ويقوم بالعبادات، وهو الآن رجع منقلباً تمام الانقلاب، فنقول: لا شك أن الذهاب إلى بلاد الكفار بشكل عام وكذلك الابتعاد عن الطيبين بشكل خاص من أسباب الانتكاس. بعض الأقارب يكون فيهم فسق، فيضغطون على الإنسان وينتقدونه ويهاجمونه ويقاطعونه ويحرمونه من العطايا وربما من الإرث ومن المصروف وربما طردوه من البيت وتعاونوا عليه، وجعلوا المغريات أمامه، وجلبوا الأفلام إليه والصور وأمروه بمصافحة بنت عمه أو بنت خاله ونحو ذلك، أو أن هذه تشد أمها الحجاب من على رأسها، وتراقبها عند الخروج من البيت تتأكد هل هي مستمرة في عدم الحجاب أم لا، هذا الإكراه الذي يحدث لابد أن يستعين فيه الإنسان بالله، وأن يعتصم بالله عز وجل. نعم. إنه لا يأثم إذا أكره، لكن لابد أن يكرهه بقلبه، بعض الناس يزول كراهية المنكر بقلبه إذا أجبر عليه وهذه خطورة، نحن لا نقول: يأثم إذا أكره لكن لابد أن يستمر على كره هذا المنكر في قلبه، وأن يصبر على هذه الفتن وعلى هذه المحاكمات التي قد يعملونها له، أو يشهرون به في المجالس ويستهزئون به فيعلم أن هذه سنة المرسلين، وتعلم المرأة التي هددها زوجها بالطلاق لنزع الحجاب أن الدنيا ابتلاءات وأنها فتن، فتصبر على ذلك. وكذلك أيها(12/42)
الإخوة: فإننا أيضاً نذكر في هذا المجال بقضية طاعة الله عز وجل إذا خلا الإنسان بنفسه، وأن الخلوة بالنفس ينبغي أن يكون الإنسان فيها مستحضراً لمراقبة الله عز وجل له، وأن يعلم أن الله مطلعٌ عليه، ناظرٌ إليه، يرى حركاته وسكناته، ولابد على الإنسان إذا أحس بشيءٍ أن يرجع، إذا قصر في صلاة الفجر أن يعود مرةً أخرى، ثم إننا نوصي الدعاة إلى الله عز وجل بالحكمة في معالجة المنتكسين بالصبر والمواصلة والتذكير بالماضي وانتقاء الأشخاص المؤثرين الذين لا يكرههم الشخص ولا زالت تربطهم به علاقةٌ طيبة. ونذكر بالقاعدة في الهجر، القاعدة الشرعية: إذا أدى الهجر إلى منكرٍ أكبر وساءت أحوال الشخص أكثر لا يجوز الهجر، وإذا كان الهجر علاجاً يرده فالهجر يكون هجراً شرعياً، وقلَّ من الناس من يفقه ذلك. ولابد لأهل التربية أن يربوا الناس على دين الله عز وجل، وليس على التعلق بالشخصيات، لابد أن تكون الأسس قوية، والإنسان كذلك أن يذكر الناس الذين فيهم ضعف، أنه مهما رأى المنتكسين من حوله والمتساقطين، فإن ذلك لا يصلح أن يدفعه للتشبه بهم أو أن يبرر انتكاسه بهذا أبداً. إذا نوقش واحد من هؤلاء يفوته الظهر والعصر لينام وقد يكلم النساء بالهاتف فإذا نوقش قال: فلان كذا.. أنت تكلمني بينما فلان يفعل ذلك، وفلان انتكس، وفلان كان ملتزماً وانتكس، فنقول: هذه محاولة التبرير فاشلة لا تصلح أبداً ولا تكون عذراً عند الله سبحانه وتعالى. ونسأل الله عز وجل أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم. وأن يثبتنا على الدين القويم، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/43)
قصة مؤثرة عن بر الوالدين
كم فرطت في هذه الفريضة فتيات هذا الزمان و صار العصيان للأب و هو يأمر بطاعة الله أو الأم و هي تنهى ابنتها عن معصية الله، هذه البنت التي غرّها شبابها و جمالها و أمها و أبوها يستغيثان الله و لكنها مصرة على المعصية و اتباع دروب الشر، و ربما رفعت صوتها على أمها و نفضت يديها و تأففت في وجه أمها، و الله يقول: (.....فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا.....) (الإسراء 23)، فنهى عن القول السيئ و عن الفعل السيئ، و أمر بالقول الحسن و الفعل الحسن، (.....وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ? وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.....) (الإسراء 23-24).
عن الحسن بن علي قال: بينا أنا أطوف مع أبي حول البيت في ليلة ظلماء و قد رقدت العيون و هدأت الأصوات، إذ سمع أبي هاتفاً يهتف بصوت حزين شجي (يناجي الله عز و جل يدعو) و هو يقول:
يا من يجيبُ دُعا المُضطر في الظُلَمِ يا كاشف الضُرِّ و البَلوى مع السقمِ
قد نام وفْدُك حول البيت و انتبهوا و أنت عينك يا قيوم لم تنمِ
هب لي بجودك فضل العفو عن جُرمي يا من إليه أشار الخلق في الحرمِ
إن كان عفوك لا يُدركه ذو سَرَفٍ فمن يجود على العاصين بالكرمِ(13/1)
قال: فقال أبي: يا بني أما تسمع صوت النادب لذنبه المستقيل لربه؟ الحقه فلعل أن تأتيني به، فخرجت أسعى حول البيت أطلبه فلم أجده حتى انتهيت إلى المقام و إذا هو قائم يصلي، فقلت: أجب ابن عم رسول الله –صلى الله عليه و سلم- فأوجز في صلاته و اتبعني، فأتيت أبي فقلت: هذا الرجل يا أبت، فقال له أبي: ممن الرجل؟ قال: من العرب، قال: و ما أسمك؟ قال: مُنَازِل بن لاحق، قال: و ما شأنك و ما قصتك؟ قال: و ما قصة من أسلمته ذنوبه و أوبقته عيوبه فهو مرتطم في بحر الخطايا، فقال له أبي على ذلك فاشرح لي خبرك. قال: كنت شاباً على اللهو و الطرب لا أفيق عنه، و كان لي والد يعظني كثيراً و يقول: يا بني احذر هفوات الشباب و عثراته فإن لله سطوات و نقمات ما هي من الظالمين ببعيد، و كان إذا ألح علي بالموعظة ألححت عليه بالضرب، فلمّا كان يوم من الأيام ألح علي بالموعظة فأوجعته ضرباً، فحلف بالله مجتهداً ليأتيَّن بيت الله الحرام فيتعلَّق بأستار الكعبة و يدعو علي، فخرج (مسافراً) حتى انتهى إلى البيت فتعلَّق بأستار الكعبة و أنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحُجاج قد قطعوا عَرْض المَهَامِه من قُرْبٍ و من بعدِ
إني أتيتك يا من لا يخيِّب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمدِ
هذا مُنَازِل (اسم الولد)
هذا مُنَازِل لا يرتد عن عَقَقِي فخذ بحقِّي يا رحمن من ولدي
و شُلَّ منه بحولٍ منك جانبهُ يا من تقدَس لم يُولَد و لم يَلدِ(13/2)
قال: فوالله ما استتم كلامه حتى نزل بي ما ترى، ثم كشف عن شقه الأيمن فإذا هو يابس (صار الولد مشلولاً شلل نصفي)، قال: فأُبْت و رجعت و لم أزل أترضَّاه و أخضع له و أسأله العفو عني إلى أن أجابني أن يدعو لي في المكان الذي دعا علي، قال: فحملته على ناقة عُشراء و خرجت أقفو أثره حتى إذا صرنا بوادي الأراك طار طائر من شجرة فنفرت الناقة (الناقة التي تحمل أباه) فرمت به بين أحجار فرضخت رأسه فمات (هذا في الطريق قبل أن يصل إلى البيت الحرام) فدفنته هناك و أقبلت آيساً و أعظم ما بي ما ألقاه من التعيير أني لا أعرف إلّا بالمأخوذ بعقوق والديه، فقال له أبي: أبشر فقد أتاك الغوث، فصلى ركعتين ثم أمره فكشف عن شِقِه بيده و دعا له مرات يرددهن فعاد صحيحاً كما كان، و قال له أبي: لولا أنه قد كان سَبِقْت إليك من أبيك في الدعاء لك بحيث دعا عليك لما دعوت لك. قال الحسن: و كان أبي يقول لنا: احذروا دعاء الوالدين فإن في دعائهما النماء و الإنجبار و الإستئصال و البوار.(13/3)
( دروس وعبر من قصة أبي ذر )
عناصر الموضوع :
جيل الصحابة كون مجتمعاً مسلماً متكاملاً
أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ترجمته وحياته
قصة إسلام أبي ذر في الرواية المتفق عليها
قصة إسلام أبي ذر في رواية مسلم
فوائد قصة إسلام أبي ذر
دروس وعبر من قصة أبي ذر:
إننا لو نظرنا -نحن المسلمين- إلى حياة الصحابة، وكيف كانوا يُبلُون لأجل نصرة الدين وانتشار الإسلام؛ لما وجد هذا الذل والاضطهاد من قبل أعداء الله المشركين. وإن قصة أبي ذر رضي الله عنه لتشهد لنا حقيقة وتبين لنا كيف كانت هممهم في طلب الحق واعتناقه، ثم إذا اعتنقوه دافعوا وبذلوا النفس رخيصة من أجله، وقاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون خوف من أحد.
جيل الصحابة كون مجتمعاً مسلماً متكاملاً:(14/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييكم في هذه الليلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سنسمع فيها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبكم خيراً على حضوركم واستماعكم، ونسأل الله أن يجعل مجلسنا هذا من المجالس التي تثقل فيها أعمالنا يوم القيامة، إن دراسة قصص الصحابة رضوان الله عليهم لها أهمية كبيرة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم أولئك الجيل الذي رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه، ولقنهم مبادئ الوحي ومضامين الرسالة التي أنزلت عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم هذه الأمة قاطبة جنها وإنسها، ولذلك فإن هذا المربي العظيم عندما يربي ذلك الجيل على تلك التعليمات الإلهية، كتاباً وسنة، فإن ذلك الجيل لا بد أن يكون جيلاً عظيماً، جيلاً تستفيد منه البشرية إلى قيام الساعة، وهذا الجيل -أيها الإخوة- عبارة عن أفراد تجمعوا وآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وانصهروا في تلك البوتقة الإيمانية التربوية، حتى خرجت تلك النماذج، وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم يتفاوتون في ميزاتهم، وصفاتهم الشخصية، ولذلك نجد أن أرأف الأمة: أبا بكر وأشدها في أمر الله: عمر ، وأكثرها حياءً: عثمان ، وأحسنهم قضاء بين الخصوم: علي بن أبي طالب ، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ بن جبل ، وأعلمهم بالفرائض: زيد بن ثابت ، وأكثرهم أمانة: أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأعلمهم بالقراءة -قراءة القرآن- أبي بن كعب ، فإذاً الصحابة رضوان الله عليهم كانت صفاتهم الشخصية واستعداداتهم وقدراتهم تتفاوت، ومن مجموع هذه القدرات وتنوع هذه الشخصيات، تكون ذلك المجتمع المسلم.
أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ترجمته وحياته:(14/2)
ونحن اليوم سنلقي الضوء في هذا الليلة إن شاء الله عن شخصية من تلكم الشخصيات العظيمة التي نشأت في ظل النبوة نشأة إيمانية، فالصحابة رضوان الله عليهم كثير منهم دخلوا في الإسلام وهم كبار السن، ومع أن تشكل الكبير على أمر جديد صعب، ولكن عندما يسلم الإنسان تسليماً كاملاً وينقاد فإن ذلك التشكل يكون سهلاً، والرجل الذي سنتكلم عنه في هذه الليلة، هو: أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، هذه الشخصية التي لا يعلم عنها الكثيرون، وبعض من يعلم عنها شيئاً يعلمون عنها أشياء مشوهة، قد أخذوا عنها فكرة غير كاملة وصحيحة، فمن الناس من يعتقد أن أبا ذر شخصية ضعيفة مهزوزة، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنك لضعيف) ولكن الحقيقة غير ذلك كما سنبين إن شاء الله.
اسمه ونسبه وفضله:
فأما أبو ذر فإن اسمه: جندب بن جنادة -جُندُب أو جُندَب لغتان صحيحتان- ابن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار وغفار يرجع أصلهم إلى بني كنانة، قال الذهبي رحمه الله في السير : هو أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كان يفتي في خلافة أبي بكر و عمر و عثمان ، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم بالعمل، قوالاً بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على حدة فيه. وقال عليه الصلاة السلام مبيناً فضائل ذلك الرجل في الحديث الصحيح: (ما أقلت الغبراء - الأرض- ولا أظلت الخضراء - السماء- من رجل أصدق لهجة من أبي ذر). أما بالنسبة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول: (يا أبا ذر ! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تتأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) فهذا التعليم منه عليه الصلاة والسلام والإرشاد لأبي ذر ذلك لأن أبا ذر كانت تعتريه حدة في كثير من الأحيان، مما قد لا يكون مع تلك الحدة جيداً في الإمارة، وكان يرى أن إبقاء المال هو كنز للمال، ولا بد من إنفاقه كله، ولذلك لو تولى مال يتيم قد ينفق مال اليتيم في سبيل الله.(14/3)
قصة إسلام أبي ذر في الرواية المتفق عليها:
وأما من ناحية شخصية الرجل، فإنها عظيمة، وموضوعنا الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة هو عن جزء من حياة أبي ذر وهذا الجزء هو قصة إسلامه، إن قصة إسلام أبي ذر -أيها الإخوة- من القصص الشيقة الممتعة التي تحتوي على دروس عظيمة، وهذه القصة رواها الإمام البخاري رحمه الله والإمام مسلم في صحيحيهما ، وغيرهما، وهناك رواية اتفق على إخراجها البخاري و مسلم ورواية أخرى أخرجها مسلم وغيره، وبين الروايتين تغاير واضح في السياق، حتى إن بعض أهل العلم قالوا: إنه يتعذر الجمع بين بعض التفاصيل الواردة في السياقين، وبعضهم قال: يمكن الجمع، والمسألة فيها دقة وفيها صعوبة شديدة، ولذلك نحن سنقتصر إن شاء الله على إيراد الروايتين، وشرحهما، مع ذكر الفوائد فيهما، ونبدأ بذكر رواية الصحيحين التي رجحها بعض أهل العلم، على رواية مسلم ، وإن كانتا من ناحية صحة السند ثابتتين، فأما رواية البخاري و مسلم فهي عن عبد الله بن عباس أنه كان في مجلس فقال لمن حوله: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟ قلنا: بلى. قال ابن عباس : قال أبو ذر : (كنت رجلاً من غفار -قبيلة غفار- فبلغنا أن رجلاً خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وائتني بخبره). وفي رواية: أن ابن عباس قال: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي، - مكة ، لأنها في وادي- فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق -أي الأخ- حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر ، فقال: والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشر) وفي رواية: فقال: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر -ليس شعراً- فقال أبو ذر : ما شفيتني -أي ما أتيت لي بالكلام الذي يلبي حاجتي في نفسي، ما شفيتني فيما أردت- فتزود أبو ذر وحمل شنة له فيها ماء(14/4)
وجراباً وعصا حتى قدم مكة -الآن أبو ذر يذهب ليبحث عن هذا الرجل وعن حقيقة الأمر، هل هو حق أم لا؟- حتى قدم مكة ، فأتى المسجد، فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه -لكن لا يعرف من هو الرسول صلى الله عليه وسلم- وكره أن يسأل عنه) لماذا كره أبو ذر أن يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هناك أسباب ذكرها ابن حجر رحمه الله قال: لأنه عرف أن السؤال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذي السائل، أو أن السؤال عن الرسول صلى الله عليه وسلم يؤذي المسئول عنه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن كفار قريش لن يدلوا السائل على الرسول صلى الله عليه وسلم لعداوتهم له، أو يمنعونه من الاجتماع به، أو يخدعونه حتى يرجع عنه ولا يقابله، ولذلك كان أبو ذر رحمه الله حكيماً عندما لم يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أدركه الليل. وفي رواية: أنه قال: (وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد -يعني: أجلس في المسجد الحرام، وأشرب من ماء زمزم- فاضطجع رضي الله عنه، فرآه علي بن أبي طالب ، فعرف أنه غريب من هيئته ومظهره، فقال علي رضي الله عنه: كأن الرجل غريب؟ -يقول: لأبي ذر كأن الرجل غريب؟- قال: قلت: نعم، قال: فانطلق إلى المنزل -أي حتى أضيفك- فلما رآه تبعه فلم يسأل الواحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ذهب أبو ذر مع علي وما سأل علياً عن شيء ولم يسأله علي عن شيء، حتى صار الصباح، ثم احتمل قربته -وفي رواية: قريبته، تصغير- وزاده إلى المسجد، خرج من بيت علي ورجع في الصباح إلى المسجد، فظل ذلك اليوم، ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي للمرة الثانية، فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟). أي: كأنه يريد أن يضيفه مرة أخرى، يعرض عليه الضيافة، وفيها تلميح إلى أنه ما هو قصدك؟ ماذا تريد؟ (أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره بشيء حتى إذا كان اليوم(14/5)
الثالث، فعل مثل ذلك -أخذه معه إلى منزله في المساء، ويرجع أبو ذر رضي الله عنه في الصباح إلى المسجد- فقال علي في المرة الثالثة: ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟) وفي رواية: فقال: (ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت) لو أعطيتني العهد والميثاق أن تخبرني عما أنا جئت بسببه، أخبرتك، وفي رواية: أنه قال لعلي : (إن كتمت علي أخبرتك، قال علي: فإني أفعل) أعطاه وعداً أن يفعل -الآن علي مسلم وليس بكافر- وقال ابن حجر : والراجح أنه أسلم وهو ابن عشر سنين ولذلك يقول: فالراجح أن هذه القصة وقعت بعد البعثة بسنتين على الأقل، بسنتين فأكثر، أي: يحتمل أنه كان سن علي في ذلك الوقت بين اثنتي عشرة سنة وبين عشرين سنة تقريباً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر بعد البعثة، أو أكثر، المهم أنه فوق أثنتي عشرة سنة، لماذا؟ لأن اثني عشر سنة هو السن المعقول في أن رجلاً مثل علي يخاطب رجلاً ويضيفه، ولذلك فإن هذه القصة على الراجح كما سيمر معنا بعد قليل أنها حصلت قبيل الهجرة إلى المدينة - (فقال أبو ذر لعلي رضي الله عنه: سمعنا أنه ظهر نبي في مكة ، وأتيت أتحقق من الأمر وأسأل، فأخبره أبو ذر ، فقال علي رضي الله عنه: إنه حق وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: أنه قال له: أما إنك قد رشدت) أي: قد أصبحت على الرشد، أنت فعلاً جئت لشيء صحيح وحق (وهذا وجهي إليه) علي يقول لأبي ذر ، إنني متوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول علي رضي الله عنه: (فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك قمت كأني أريق الماء) يقول علي : هناك مشكلة وهي أن كفار قريش يقومون بضغط شديد على الدعوة ومحاربة عظيمة جداً، وتتبع مستمر لكل رجل يحاول الالتحاق بركب الدعوة، ولذلك فعلي بن أبي طالب كان لا بد أن يلجأ إلى طريقة لا تشعر الناس أن أبا ذر سيتبعه إلى الرسول صلى الله عليه(14/6)
وسلم، فقال علي لأبي ذر : (فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخافه عليك، قمت كأني أريق الماء). وفي رواية: (قمت كأني أصلح نعلي -في هيئة الذي يصلح نعله- فإذا أنا فعلت ذلك فأمض أنت دون أن تلتفت) معناها: أن تتابع سيرك فيما بعد، قال ابن حجر رحمه الله: ويحتمل أنه قالهما جميعاً، قال: كأني أريق الماء، أو كأني أصلح نعلي (فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على أبي ذر ، فسمع من قوله، فأسلم أبو ذر مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك). وفي رواية: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل -إذا بلغك أننا ظهرنا على أعدائنا فتعال إلي من بلدك- فقال: والذي بعثك بالحق، وفي رواية: والذي نفسي بيده، لأصرخن بها بين ظهرانيهم) يقول: لا أكتم الأمر، ولا أكتم إسلامي، وسأذهب وأصرخ بالشهادتين بين ظهرانيهم، أي: بين ظهراني المشركين في مكة ، (فخرج فجاء إلى المسجد وقريش فيه، فنادى بأعلى صوته، يا معشر قريش! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فرآهم وهم يضربونه فأكب على أبي ذر وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟). وفي رواية قال: (ويلكم تقتلون رجلاً تعلمون أنه من غفار وهي طريق تجاركم إلى الشام ) انظر إلى ذكاء العباس يقول: أنتم الآن تريدون أن تقتلوا رجلاً من غفار وطريق تجارتكم تمر من بلادهم، فيمكن أن يثأروا له عن طريق تجارتكم؛ فأنقذه منهم (فأقلعوا عني -أي كفوا عني- ثم أصبحت الغد، فرجعت فقلت مثلما قلت بالأمس! فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ فصنع بي مثلما صنع بالأمس -ثاروا إليه،(14/7)
فضربوه- فأكب عليه العباس فأنقذه)، هذه الرواية في البخاري و مسلم ، أما رواية الإمام مسلم رحمه الله ففيها زيادة تفاصيل في بداية القصة وفي نهايتها، وفيها طريقة أخرى لمقابلة أبي ذر للرسول صلى الله عليه وسلم لأول مرة.
قصة إسلام أبي ذر في رواية مسلم:
روى الإمام مسلم رحمه الله عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر : (خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام -غفار كانوا في جاهليتهم يحلون الشهر الحرام الذي حرم الله القتال فيه- قال: فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا) هؤلاء الثلاثة هؤلاء أبو ذر و أنيس وأمهما كانوا لا يرضون عن فعل غفار، ولأجل المنكر الذي كانت عليه غفار خرجوا من غفار (فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه، فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك -الكلام موجه إلى الخال- فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك، أي: زوجتك، خالف إليهم أنيس) يعني: أنت إذا خرجت من هنا هو جاء إليهم من هنا، وكان أنيس جميل الخلقة (فجاء خالنا، فنثى علينا الذي قيل له -أي أفشى علينا وأشاع ما قيل له- فبلغ أخي هذا الكلام؛ فقال: والله لا أساكنك، فقلت: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته) -قد فعلت الشيء الطيب لنا وضيفتنا، والآن ماذا فعلت بكلامك هذا؟ هذه الإشاعات التي قال لك الناس، ونشرتها الآن، ماذا فعلت؟ لقد أفسدت المعروف- (ولا جماع لنا فيما بعد، لا نلتقي بك، فقربنا صرمتنا -وهي: القطعة من الإبل أو الغنم يقال عليها صرمة- فاحتملنا عليها، ركبنا عليها وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي -تأثراً من الخطأ الذي فعله- فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة ، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيساً فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها). وفي رواية: (فتنافر إلى رجل من الكهان، قال: فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه، فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا) ما معنى هذا الكلام؟ معنى هذا الكلام أنهم كانوا في الجاهلية، يتفاخرون بالشعر،(14/8)
أيهم أشعر من الآخر، ويتحاكمون إلى رجل ثالث يقضي بينهم أيهما أشعر من الآخر، فهنا تفاخر أنيس مع رجل رآه في الطريق، فاحتكما إلى كاهن، وهذا عمل حرام، لكن هذا وقع منهم في الجاهلية قبل أن يسلموا، فاحتكما إلى كاهن أيهما أشعر وجعل أنيس القطيع الغنم الذي معه -الصرمة- رهناً، وذلك الرجل كان معه قطيع آخر جعله رهناً أيضاً، فالذي يفوز ويكون أشعر من الثاني يأخذ القطيعين كلهم ويمشي، فكسب أنيس ، (فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا، فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها، فيقول أبو ذر للشخص الذي سمع منه الحديث: وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) يقولأبو ذر: إني كنت أصلي قبل أن ألقى الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، فيقول الذي سمع منه القصة: (فقلت: لمن؟ -أي: لمن تصلي؟- قال: لله تعالى، قلت: فأين توجهت؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي) أصلي حيث يوجهني ربي، فالمؤمن يصلي لله، وقد ذكروا أن أبا ذر كان رجلاً في الجاهلية مثل قومه، فاجر من الفجار، ثم هداه الله إلى التوحيد قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان من جنس الموحدين مثل ورقة بن نوفل وغيره من الناس الموحدين، وبعضهم كان عنده علم من الديانات السابقة، الأديان السابقة، كان أبو ذر على التوحيد، وكان يعلم أن الذي يستحق العبادة هو الله عز وجل، لكن لا يعرف كيف يصلي ولا أين يستقبل!! ولذلك يقول: (صليت قبل أن آتي الرسول صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) صلى قبل الإسلام بثلاث سنوات، وكان يتوجه حيث يوجهه الله (أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خثاء)أصلي حتى أتعب ويأتي آخر الليل وأنا تعبان من الصلاة، فألقى كأني كساء أي: من تعب العبادة، حتى تعلوني الشمس، فتوقظه، فقال أنيس : (إن لي حاجة بمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة). وهنا يمكن أن نجمع بين الروايتين ونقول: إن أبا ذر طلب من أخيه في هذا الوقت أن يذهب إلى مكة ، ليعلم(14/9)
له خبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول أبو ذر : (فراث علي -أي: أبطأ عليه أخوه، لم يأت بسرعة- ثم جاء فقلت ما صنعت؟ قال لي: لقيت رجلاً بمكة على دينك) فأنيس الآن يرى أن أخاه على التوحيد، فقال: حينما ذهبت إلى مكة وجدت رجلاً على دينك، يزعم أن الله أرسله. وفي رواية قال لي: (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ، هو أشبه الناس بك، قلت: فما يقول الناس عن هذا الذي ظهر في مكة ؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر -وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس لأخيه: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم -لست بكاهن- ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر -أي طرقه وأنواعه- فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر) لا يمكن أن يكون شاعراً لأني أعرف أوزان الشعر وطرقه فلا يمكن أن يكون كلامه شعراً (والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر). هنا كأن أبا ذر قال لأخيه: إني بعثتك لتأتيني بتفاصيل، والتي أتيتني بها غير كافية، أنت أتيتني بأشياء مجملة، فأنا أريد أن أستقصي بنفسي، قال: (فأتيت مكة ، وقبل أن يأتي مكة قال له أخوه: كن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) أي أنه لما عرف حال الناس ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: انتبه من أهل مكة ، فإنهم قد أبغضوه وعادوه، وكادوا له، وهذا يدل على أن هذه القصة وقعت والدعوة في مكة أصبحت جهرية؛ لأنهم عادوه، فإذا عادوه وشنفوا له وتجهموا له معنى ذلك: أنه أعلن الدعوة، ولذلك وقفوا منه هذا الموقف. قال أبو ذر : (فأتيت مكة فرأيت رجلاً فقلت: أين الصابئ؟). وفي رواية: (فتضاعفت رجلاً منهم) أي: بحثت عن واحد ضعيف مسكين، يقول أبو ذر : (وسألت هذا الضعيف قلت له: أين الصابئ؟) ما قال أين محمد؟ ولا أين نبي الله؟ قال: أين الصابئ؟ فلماذا سأل رجلاً ضعيفاً؟ لأن العادة أن الضعيف لا يخشى منه، فيجيب بسذاجة ولا يخشى منه أن يكون رجلاً شريراً، فهو ضعيف، لكن يبدو أن ذلك الوقت كان وقت شدة،(14/10)
بحيث إن هذا الرجل الضعيف لما سمع أبا ذر يسأل عن الصابئ قال: (فرفع صوته عليّ، فقال: صابئ، صابئ، فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم) أي: نبه كفرة قريش قال: الصابئ، الصابئ هذا الذي يسأل عن الصابئ، فمال عليه كفار قريش بكل مدرة وعظم: كل حجرة وعظم رموا به أبا ذر ، فيقول: (فرماني الناس حتى خررت مغشياً عليّ كأني نصب أحمر) والنصب: هو التمثال الذي كان كفار قريش يقيمونه، وكانوا يذبحون عنده حتى يصير لون التمثال الصنم أحمر من كثرة الدم، فرموا أبا ذر وضربوه حتى سال الدم منه، كأنه الصنم الذي عنده الدماء، تصور كيف رموه حتى سال عليه الدم حتى كأنه نصب أحمر! قال: (فخررت مغشياً علي، فارتفعت حين ارتفعت، كأني نصب أحمر -من كثرة الدماء التي سالت- فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء، وشربت من مائها، فاختبأت بين الكعبة وبين أستارها) وكانت بطريقة بحيث أن الواحد يمكن أن يختبئ بين الكعبة وبين أستارها (.. ولقد لبثت يا بن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فقط، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني) فالبطن إذا سمنت تتثنى، واللحم إذا سمن جداً ينثني، فلو رأيت شخصاً سميناً جداً قبض يده تجد أنه صار ينثنى، فهذه الثنيات تسمى: عكن، ولذلك في حديث: المخنث الذي كان يدخل على بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم منعه الرسول صلى الله عليه وسلم من الدخول؛ لأنه قال: إذا فتح الله عليك الطائف فعليك ببنت فلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فإنهم كانوا من قبل يحبون تزوج المرأة السمينة، ولذلك يقول هذا الرجل: إذا فتحت الطائف عليك ببنت فلان؛ لأنها تقبل بأربع أي: أنها من شدة سمنها من الأمام أربع ثنيات، وإذا أدبرت من الخلف تصير الأربعة ثمانية، أربعة من الجهة اليمنى وأربعة من الجهة اليسرى، لأن العظم الفقري ينصف العكن هذه، فهذا الرجل ليس بذكر ولا أنثى، وهذه طبعاً خلقة من الله عز وجل في ناس من هذا القبيل، وكان يدخل على النساء، وحكمه(14/11)
أنه ليس برجل مكتمل الرجولة، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل بدأ يصف النساء يقول: هذه كذا .. فمنعه من الدخول على نسائه صلى الله عليه وسلم، والشاهد: يقول أبو ذر : (فتكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سُخفة جوع) وفي رواية: (سَخفة جوع) سمن من ماء زمزم حتى تكسرت عكن بطنه! سمن جداً وما أحس بالجوع مطلقاً. فقال: (وما وجدت على كبدي سخفة جوع) أي: ضعف الجوع وهزاله ما أحسست به، قال: (فبينما أهل مكة في ليلة قمراء) أي مقمرة (أضحيان) أي: مضيئة ( إذ ضرب على أصمختهم ) وأصمختهم أي: آذانهم، ومعنى ضرب الله على آذانهم أي: أنهم ناموا في إحدى الليالي قبل الوقت، مثل قول الله عز وجل: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [الكهف:11] أي: ناموا، وأبو ذر الآن مختبئ بين الكعبة وبين أستارها، قال: (إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت -في هذا الوقت، لأنهم ناموا- من كفار قريش إلا امرأتان منهم تدعوا
فوائد قصة إسلام أبي ذر:
أيها الإخوة! نأتي لنستعرض بعض الفوائد والعبر المأخوذة من هذه القصة العظيمة.
حرمة الجلوس في أماكن المنكرات:(14/12)
أما من ناحية القصة الثانية التي انتهينا منها، فإننا نلاحظ يا إخواني: أن أبا ذر وأمه وأخاه قد تركا المكان؛ لأن قومهم غفار كانوا يستحلون الشهر الحرام، ومع أن هذا وقع في الجاهلية، لكن هذه كانت بادرة طيبة منهم حين أن تركوا ذلك المكان، ولذلك إذا كان الإنسان في مكان فيه منكر لا يستطيع أن يغيره، ولا يستطيع البقاء، ربما لا يستطيع البقاء فيه سليماً فعليه أن يهاجر مباشرة، فلو أن شخصاً -مثلاً- سافر إلى بلاد أخرى ليدرس، فرأى منكرات حين عاش هناك، وأحس من الوضع هناك بأنه محتمل جداً أن يقع في الفاحشة، أو محتمل جداً أن ينحرف عن دينه، وأحس بضغوط فعلاً وأنه إذا بقي فترة أخرى فقد ينحرف، فهل يجوز له أن يبقى لإتمام دراسته؟ لا. بل يجب عليه أن يرجع إلى البلد الأخف شراً، أو إلى المجتمع المسلم، ليجلس فيه؛ لأن سلامة الدين أهم من جميع الأشياء الأخرى. ولو أن شخصاً شاباً -مثلاً- في بيت فيه خادمات فاتنات، ويعلم هذا الشاب أنه لو استمر بالبقاء في بيت أبيه وهؤلاء الخادمات حوله ورفض أبوه النصيحة ورفض إخراج الخادمات، وهذا الشاب بدأ فعلاً يخشى على نفسه، ولاحظ بوادر ذلك، فهل يجوز له أن يبقى في بيت أبيه؟ لا. بل يجب عليه أن يخرج من بيت أبيه، ويسكن في بيت أقاربه أو يدبر له مكاناً، ولا يجلس في مكان الفتنة.
الاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان خوف الحسد وغيره:(14/13)
والقضية الأخرى -أيها الإخوة- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) فما هو السبب الذي من أجله يأمر صلى الله عليه وسلم بإخفاء نجاح الإنسان المسلم، أن يخفي نجاحه عن الناس الحساد؟ خوفاً من حسدهم، والناس حساد جهال قد يحسدون على أدنى شيء، هؤلاء ناس جاءوا إلى خالهم فأكرمهم، فهم يستحقون الإكرام، لأنه خالهم، وهذه الأم أخته، ومع ذلك حسدوه. ولذلك فينبغي لصاحب النعمة إن كان خشي من حسد الناس، ومن العين مثلاً، ألا يخبر بالنعمة التي هو فيها، ويخبئها، لأنهم قد يفشلون مشاريعه وخططه، وقد يصيبونه بعين، أو يصيبون النعمة التي هو فيها بعين متلفة فتزول. والأمر الآخر، مشكلة تصديق الشائعات والتهم، وخصوصاً كثير من الشائعات والتهم مصدرها الحساد، فهم لا يريدون أحداً أن يعلو عليهم في أي شيء من الأشياء، ولذلك لو أن شخصاً علا عليهم بالمال، أو علا عليهم بمنصب أو علا عليهم بالعلم، حتى بالعلم الشرعي مع الأسف، أي: تجد هذا بين بعض الذين لا يتقون الله من المنتسبين إلى العلم، يحسدون من فضله الله عليهم، فيكيدون له، وينشرون الشائعات عنه، ويتهمونه بالتهم الباطلة، ويتلبسون بلبوس الناصحين على قلوب الذئاب! وقد يقولون له كلاماً، إننا نخشى عليك .. أننا نخاف عليك .. وإننا كذا .. حتى ينحجب عن أداء دوره التعليمي بين الناس، وقد يسعون بالوشايات عند الناس حتى يزيلوه عن مكانه، وقد يتهمونه بالتهم الباطلة وينشرونها بين الناس، حتى ينفروا الناس عنه، انتبهوا! قد يكون داعية ناجحاً، فيأتون إلى من يدعوهم مثلاً فيقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا حتى يصدوهم عنه، حسداً من عند أنفسهم. وهذا الحسد مشكلة كبيرة، ولذلك ينبغي على الإنسان دائماً أن يقرأ المعوذات، وأن يستعين بالله على أولئك الناس، وهذه القضية لا يسلم منها إلا النادر، أي حتى الناس الذين فيهم استقامة وفيهم دين قد يقع منهم(14/14)
الحسد، وحصل هذا فيمن قبلنا لبعض الكبار، ولذلك عائشة أثنت على زينب في حادثة الإفك، أثنت على زينب بأن الله عصم زينب ، فهناك منافسة بين عائشة وبين ضرائرها، زينب ما تكلمت بشيء مطلقاً، بل إنها أثنت على عائشة مع أنها فرصة حيث اتهم الناس عائشة بالإفك، إذاً تخوض معهم، فهي فرصة بأن تنال من ضرتها. ولذلك الحسد بين الضرائر من المشاكل التي ينبغي على الزوج أن يراعيها، ولعلنا نفرد إن شاء الله درساً خاصاً ربما للنساء عن قضية الغيرة، التي تحدث بين النساء وبين الضرائر بالذات، ومعالجة هذه المشكلة وكيف يمكن للمرأة أن تتغلب عليها، وكيف يكون موقف الرجل من هذه الأشياء.
عدم التسرع في تكدير المعروف:
الشيء الآخر أيها الإخوة: أن الإنسان أحياناً يفعل معروفاً، ولكن نتيجة تسرع منه يأتي بما يكدر هذا المعروف! فكثير من الناس أحياناً يكون محسناً وكريماً وباراً ويفعل الخير بالناس، لكنه في لحظة من اللحظات يفعل شيئاً يفسد ذلك المعروف كله، فقد يحسن شخص إلى الناس، ويعطيهم ويتصدق عليهم وينفق عليهم، وفي لحظة من اللحظات، يأتيه الشيطان فماذا يفعل؟ يقول كلمة فيها منّ: ألم أعطك كذا، وكذا ...؟ قد يكون أعطاه مائة حاجة، فيقول له مرة من المرات: أما أعطيتك كذا ..؟ ويذكر له حاجة واحدة، فهذا يؤدي إلى إفساد المعروف كله، ولذلك ينبغي للمحسنين سواء كان إحسانهم إحسان علم، أو إحسان مال، أو إحسان مساعدة ومعاونة وبذل جهد، ألا يمنوا، ولا يأتوا بشيء فيه تكدير لذلك المعروف.
من يبحث عن الحق يوفقه الله إليه:(14/15)
وكذلك قوله: (وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين) هذه النقطة يؤخذ منها: أن الإنسان الذي يبحث عن الحق، فإن الله يوفقه ولو إلى شيء منه، فقد كان أبو ذر رضي الله عنه مقتنعاً بالتوحيد، كان مقتنعاً أن الله واحد، وأن الناس الذين يعبدون الأصنام هؤلاء مشركون، وأنه لا يمكن أن يكون هذا هو الحق، ولذلك هو يؤدي أي شيء يعبر فيه عن الوحدانية، يصلي لله، ولذلك فإن الباحث عن الحق بتجرد إذا سلك الطريق وأخلص فلا بد أن يصل إليه، وقد يصل إليه على مراحل، أي: أول شيء يهتدي إلى هذه الجزئية من الحق ثم إلى الجزئية الأخرى، ثم إلى الجزئية الأخرى حتى يهتدي إلى الحق في أغلب أموره.
أهل الحق يتشابهون:(14/16)
وكذلك قول أنيس لأبي ذر (أتيت مكة فرأيت رجلاً يسميه الناس الصابئ هو أشبه الناس بك، أو لقيت رجلاً بمكة على دينك) هذا فيه إشعار بأن أهل الحق يتشابهون، وأهل التوحيد يتشابهون، ولو لم يلتق أحد منهم بالآخر، أو كان بعيداً عنه كل البعد، فلو رأيت رجلاً من أهل السنة والجماعة في أبواب العقيدة والعمل، في اعتقاده، وعمله، وعبادته، وجميع الأشياء. ثم سافرت إلى مكان بعيد جداً، فوجدت رجلاً بنفس الصفات فإنك تحس أن هذين النفرين من أهل الحق متشابهان ولو لم يكن قد تلاقوا من قبل ولا عرف أحد منهم الآخر، ربما تسأله: أتعرف فلاناً؟ يقول: لا، وتستغرب كيف تشبه صلاة ذلك صلاة الآخر، وكيف كلام هذا عن السنة والبدعة مثل كلام ذلك الرجل، وكيف تصور هذا عن الواقع يشبه تصور ذاك، فتستغرب من التشابه والتطابق في الوجهات أو في المعتقدات والأعمال والآراء. ولكن الذي يبرر هذا الأمر أن الحق -أيها الإخوة- إذا وقر في النفوس، فإن أتباعه يتشابهون أينما كانوا، و عمر رضي الله عنه كان من الناس المعروفين بأنه يصيب الحق، فقد تنبأ بأشياء، أو كانت عنده فراسة وإلهام، ألهمه الله بأشياء حصلت فعلاً، مثل أنه كان يتحرى نزول تحريم الخمر ويعلن بذلك، فنزل تحريم الخمر، وكان يتحرى نزول آية الحجاب، ويرى أنه وضع غير طبيعي أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتجبن ونساء المسلمين، فنزلت آية الحجاب، وكان رأيه في أسارى بدر صائباً موافقاً للقرآن، وأشياء أخرى، كان فيها رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه موافقاً للحق، وهذه قضية إلهام يلهمه الله عز وجل، فأحياناً أهل الحق الواحد منهم من قد يهتدي إلى شيء من غير تعليم؛ بسبب سلامة فطرته، وصحة تفكيره، يهتدي إلى الحق، ولو ما دله عليه ولا علمه إياه أحد، وهذا أبو ذر ما علمه التوحيد أحد، لكن الرجل فكر في الواقع، فليس من المعقول أن هذه السماء يكون خلقها هبل، وهذه الأرض والأشجار خلقتها إساف ونائلة، لا بد أن(14/17)
يكون هناك واحد أوجد هذه الأشياء وخلقها، ولذلك عرفه وصار يعبده، فمن الذي علمه؟ فأصحاب الفطر السليمة لا بد أن يهتدوا إلى الحق، وربما يتشابهون في أعمالهم ومعتقداتهم.
وجود الخلفية عن الواقع لدى المسلم أمر مهم:
وكذلك نأخذ من كلام أنيس : (لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ووضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه الشعر) نأخذ منه أهمية المعرفة، أن معرفة الأمور تأتي بمعرفة خلفيات الأشياء، فيستطيع أن يحكم عليها، فلأن أنيساً رضي الله عنه يعرف أوزان الشعر، وطرق الشعر، ويعرف أقوال الكهان وعنده خلفية عن هذه الأشياء ما ضُلِّل وما صدَّق أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاهن ولا شاعر، ولذلك لا بد أن يكون للإنسان المسلم خلفية عن الواقع وأن يعلم الأمور حتى لا تتشابه عليه الأشياء، فتكون نظرته غير صائبة، وغير صحيحة، فلا بد أن يعلم عن المذاهب الهدامة مثلما علم أنيس عن كلام الكهان، ومن قبل كانت المذاهب الهدامة: الكهانة والسحر إلى آخره، أما الآن فقد اختلفت الأمور وزادت، فالكهانة والسحر موجودة لكنها زادت مذاهب أخرى كثيرة ضالة، فلا بد أن يتعلم المسلم عن المذاهب الهدامة، وعن النفاق والمنافقين ومساجد الضرار حتى لا يخدع بكثير من الشعارات التي ترفع، والأعمال التي تعمل، وليست لوجه الله، وإنما يراد من ورائها الصد عن سبيل الله.
أهمية التناصح بين المسلمين:(14/18)
وكذلك فإن هذا الأخ أنيساً قد أعطى أخاه الخبرة، قبل أن يذهب إلى مكة ، فقال: (كن على حذر من أهل مكة ، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا) فقد زوده بالنصيحة، والمسلم أخو المسلم، ينصحه، فإذا أراد شخص أن يذهب إلى مكان، وأنت تعلم أشياء هناك ولديك معلومات تفيده، فعليك أن تقدمها له، وتقول: يا أخي انتبه سوف ترى هناك كذا وكذا، واحذر، أو استغل كذا، فإن هناك -مثلاً- خيراً، لو أنك ذاهب إلى البلد تلك فهناك يوجد رجل عالم بالحديث، وهناك رجل عالم بالأصول، أو قابلت مرة من المرات رجلاً يعلم اللغة العربية، فانتهز الفرصة، قابل فلاناً: فعليك النصيحة له.
الأمور المهمة والخطيرة لا يكتفي المسلم فيها بخبر الناس:
كذلك بعض الأمور، أو بعض المهام، لا يكفي الإنسان فيها كلام الأشخاص، فهذه قضية رسول ونبي ظهر، وهي قضية خطيرة، وليست سهلة، وليست مثل شخص يقول: اذهب إلى ذلك المكان فإذا وجدت فيه ماء أعلمني، إن هذه قضية تحدد مسار الإنسان وتحدد مصيره، وتحدد اتجاهه وتفكيره فهذه فيها تغيير شامل لحياة الإنسان ولذلك ما اكتفى أبو ذر بكلام أخيه، بل قال: ما شفيتني، وذهب بنفسه. فإذاً: بعض المهمات العظيمة، والأشياء المصيرية لابد أن يطلع الإنسان عليها بنفسه، إذا ما اشتفى من كلام الموثوقين، لأن هذه قضايا مصيرية، فلا بد أن يتحرى عنها، ويسأل عنها ويطلع هو عنها بعينيه ويسمع بأذنيه؛ حتى يكون السند عالياً جداً بينه وبين الحق، أو بينه وبين الواقع الذي يريد أن يطلع عليه.
ذكاء أبي ذر في سؤاله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(14/19)
وكذلك ذكاء أبي ذر رضي الله عنه في انتقاء الناس الذين يريد أن يسألهم، انظر قال: (فتضاعفت رجلاً فسألته). فهذا رجل ذاهب إلى مكان فيه تضليل إعلامي على الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس في عداء شديد، فعرف من يسأل، قال: ( فتضاعفت رجلاً ) ما سأل أي واحد من الناس وقال: أين الرسول صلى الله عليه وسلم وأين محمد صلى الله عليه وسلم؟ وإنما: (تضاعفت رجلاً وقلت: أين الصابئ) وهذا فيه ذكاء في البحث، ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- أن الإنسان قد ينتقل إلى مكان لا يعرف فيه أعداءه من إخوانه، ولا يعرف فيه أهل الحق المحقين من غيرهم، ولا يعرف فيه الأحسن من الحسن، ولذلك عليه أن يتحرى بدقة وبشدة، عندما يذهب إلى ذلك المكان، وأن يكون ذكياً في معرفة أهل الحق، كما كان هذا الرجل الصحابي ذكياً في معرفة أهل الحق، ما يقول: دلوني على فلان، ولا دلوني على الناس الذين صفاتهم كذا وكذا، لأنه قد يُضلِّل عنهم، وقد يواجه تضليلاً إعلامياً وقد يواجه تكثيفاً في الآراء والأقوال التي تصرفه، ولذلك كان كلام ابن حجر رحمه الله دقيقاً جداً قال: قد يؤذى السائل وقد يؤذى المسئول، وقد يصدونه عن صاحب الحق، وقد يمنعونه من الالتقاء به، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق. هذه نقطة مهمة جداً، وقد يخدعونه حتى لا يلتقي بصاحب الحق، ويضللونه، ويصرفونه بشتى الصوارف عن أصحاب الحق، فهذه قضايا خطيرة، قضية حق وباطل، ولا يصح للإنسان أن يحجب دينه الرجال في مثل هذه الأمور، أو يتبع كلام الناس، ويمشي مع الإشاعات وعلى السائد أو على رأي الأغلبية، بل لا بد أن يكون دقيقاً فطناً حذراً ذكياً وهو يتوصل إلى الحق وأهله.
من أراد أن يصل إلى الحق فإن الله يعينه:(14/20)
وكذلك -أيها الإخوة- فإن الله يعين الذي يريد أن يصل إلى الحق حتى بالأشياء المادية، فلا يوفقه حتى يصل إلى نهاية المطاف فقط، وإنما مثل ما أن الله عز وجل أعان أبا ذر فرزقه شرب ماء زمزم ثلاثين يوماً بدون طعام، يعينه لأنه يريد أن يصل إلى الحق.
غيظ الكفار من شعائر المسلمين:
وكذلك أيها الإخوة: فإن في فعل أبي ذر تجاه الأصنام فيه إغاظة الكفار، وسب آلهتهم وغيظهم وهذا أمر مهم أن نفعله اليوم، أن نستهزئ بآلهة الكفار ومعتقداتهم - إذا لم يؤد ذلك إلى سبهم لله عز وجل ودين الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام- مثل النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فأنت يجب عليك أن تفند شبهاتهم، تقول: هل هذه عقيدة عقلاء؟! أن الواحد في ثلاثة والثلاثة في واحد! وأن الأب الإله ينظر إلى ولده الإله وهو يصلب ولا يستطيع أن ينقذه! وكيف يموت الله؟!! فهناك يمكن أشياء أن تستهزئ بها على تلك المعتقدات الكافرة التي يعتنقها أولئك الكفرة، فهؤلاء الناس عندهم تخطيط في إضلال المسلمين وتشكيكهم، ولقد اطلعت على كتاب كتبه أحد القساوسة على الغلاة في صورة ميزان فرسم كفةً فيها صليب وهي الراجحة، وكفة فيها المسجد وهي مرتفعة إلى الأعلى ومكتوب على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فالصليب راجح والمسجد تحت، وكتب هذا الخبيث على الكتاب: في الموازين هم إلى فوق، فيظن الشخص أنه يمدح المسلمين إلى فوق، لكن ماذا يعني في الموازين هم إلى فوق؟ أي: أن أصحاب الصليب هم الأثقل، فإغاظة الكفار هذه من شعائر دين المسلمين، أن يظهرها الإنسان. وليس بلازم أن أول شيء يفعله هو أن يستهزئ بهم ومعتقداتهم، بل أولاً يدعوهم بالحسنى ويجادلهم بالتي هي أحسن، فإذا رفضوا فيستخدم مثل هذه الوسائل، ونلاحظ أن لكل مقام مقال، فكان أبو ذر رضي الله عنه، أديباً جداً هنا، يقول: (فقلت: هن مثل الخشبة غير أني لا أكني) أي: أنه لما صار مع الراوي وهو مسلم فليس هناك داعٍ أن يقول له الكلمة(14/21)
القبيحة التي قالها لسب آلهة المشركين، ولذلك أتى بكلمة (هن) هذه كناية، قال: ( غير أني لا أكني ) لكني ما كنيت، لما قلت للمرأتين الكافرتين ما كنيت، وهذا من الأدب في استخدام العبارات، وفي أن لكل مقام مقال يناسبه، عندما تقول للمسلم شيئاً، ترويه خلافاً لما تجابه به الكفار وأصنامهم.
الكفار يعتقدون أنهم على حق:
كذلك أن الشبه التي عند الكفار قد تكون عظيمة وأنهم يقتنعون بآلهتهم قناعة شديدة، وأن المرأتين ولولتا، فالمسألة عندهم وصلت إلى أنه كيف يقول هكذا عن الآلهة؟! فاعتقادهم في الآلهة اعتقاد كبير، ولذلك قال: (فانطلقتا تولولان ثم قالتا للرسول صلى الله عليه وسلم: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم) وجلستا تقولان: (لو كان ها هنا أحد من أنفارنا). فإذاً لا تظنوا أن السخافة التي نرى بها أصنام الجاهلية ومنطقهم ومعتقداتهم هم ينظرون إليها بنفس المنظار، فنحن قد أنعم الله علينا بالإيمان فقد نرى أن شبههم تافهة، لكن في منظارهم هم القضية أن هذا حق، وأنه كذا، وكيف يُنْتقص ولا بد من الدفاع عنه، فال الله عنهم: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء:68].. أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6] لا بد أن نصبر على الآلهة، ولا بد أن ندافع عنها، هكذا ينظرون، ولذلك من الخطأ أن تأتي إلى شخص عنده شبهة وتقول: ما هذا الشيء التافه الذي أنت مقتنع به، فهذا لا يصلح؛ لأنه هو ما يرى أنه تافه، وهذا لا يعتبر رداً. وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغشى أماكن التجمعات التي قد يوجد فيها أناس يأتون للتوحيد، مثل ما فعل علي بن أبي طالب مع أبي ذر رضي الله عنه. وهنا نقطة نحب أن نذكرها: لماذا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم يده على جبهته لما قال أبو ذر : من غفار؟ لأنهم كانوا قطاع طرق، يقطعون الطريق على الحجيج ويسرقونهم بالمحجن، وهو شيء مثل العكاز، أي: أن قبيلة غفار كانوا(14/22)
مشهورين بقطع الطريق على الحجيج وسرقة الحجاج، مع أن الحجاج كانوا مشركين لكن وصل بهم السوء إلى هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم فعل حركة عفوية كيف يأتي رجل من الناس الذين يسرقون الحجاج؟! وكأنه أراد أن يستوثق منه أكثر، فقال: (متى كنت هاهنا؟ ومن كان يطعمك؟) حتى توثق منه صلى الله عليه وسلم، ثم كلمه عن الإسلام.
العلم يؤدي إلى تعظيم حرمات الله:
وفي هذا أيضاً: تبجيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أن أبا بكر أمسك أبا ذر ، فمنعه من أن يمسك يد الرسول صلى الله عليه وسلم ويرجعها، وهذا التبجيل يأتي من من؟ ماذا يقول في الرواية: ( وكان أعلم به مني ) وأنه يأتي من الأعلم وأن العلم يؤدي إلى تبجيل وتعظيم حرمات الله.
تفقد القادمين للحاق بالدعوة:
وكذلك تفقد أحوال القادمين للحاق بالدعوة، ولو في أمور معاشهم، فبعض الدعاة قد يصادف مدعواً، فلا يقول له مثلاً: هل يكفيك معاشك أو أين تسكن؟ أو كذا، وإنما يقول له بداية: هل تريد أن تعتقد بكذا..؟ وما نظرتك بكذا؟ وهذه أدلة على كذا .. فقط. بينما نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم اهتم بأبي ذر فسأله عن طعامه وعن معيشته، صحيح أنه جاء للحق، لكن النفس البشرية لها حاجة للمسكن ولها حاجة للطعام ... فلابد من الاهتمام بهذه الأشياء، ولا نقول: هذه أشياء جانبية وأشياء سطحية وغير مهمة، المهم الدعوة، والمهم الحق والأدلة، والمهم المبادئ، لا، وإنما حتى هذه الأشياء مهمة، فراحة الناس والأشخاص، والذين يريدون أن ينضموا إلى ركب الدعوة مهمة جداً، وضيافتهم للاستئناس، يقولأبو بكر: (ائذن لي في طعامه الليلة) حتى يتداخل معه، ويحصل استئناس بينهم، ويكرم ذلك الرجل الذي أتى، وخصوصاً أنه قد اضطهد اضطهاداً بالغاً فلا بد من تعويضه بشيء من الإكرام.
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن تخطيطه للدعوة:(14/23)
وكذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مرحلياً مخططاً لدعوته، وكان إذا ما وجد فائدة كبيرة أو كان هناك مضرة في بقاء الشخص في مكة وهو من غير أهلها، ماذا كان يقول له؟: (ارجع إلى قومك فإذا سمعت أني قد ظهرت فائتني) قالها لعمرو بن عبسة وقالها لأبي ذر الغفاري و الطفيل بن عمرو الدوسي ارجع إلى أهلك؛ لأن هذه مرحلة استضعاف، ومن الحكمة والخير أن تنتشر الدعوة في أجواء أخرى وبلدان أخرى غير مكان الاضطهاد مثل مكة ، ولذلك لما انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، جاء الطفيل بثمانين بيتاً من دوس كلهم قد أسلموا، وجاء أبو ذر بالقبيلة كلها، جاء النصف الأول وجاء النصف الثاني وأسلموا، وجاء أناس من الصحابة بأقوامهم، فاجتمعوا في المدينة لتأسيس المجتمع الإسلامي، وهذا الأمر لا يمكن أن يوجد في مكة وهذا العداء قائم، والحرب قائمة، فهذا من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد نظره، في تخطيطه لأمور دعوته.
من يصدق في اللهجة يفتح الله على يديه:(14/24)
وكذلك فإن الذي يصدق في اللهجة، يفتح الله على يديه مغاليق قلوب الناس، فأبو ذر صادق اللهجة، عرض الكلام على أخيه فأسلم، ثم على أمه فأسلمت، ثم على القبيلة فأسلم نصفهم، وهذا ليس شرطاً، فقد يكون هناك أناس صادقون لا يستجاب لهم، لكن ليس هناك أناس كاذبون يستجاب لهم بالحق، وتفتح لهم قلوب الناس فيتابعونهم بإخلاص، ولو تابعهم بعض الناس وصدقوا بعض الكاذبين فهذا قليل ونادر، ولا يدل على المتابعة الصحيحة، ولا بد أن أولئك من الأئمة المضلين، وسيكون لهم أثر سلبي على من استجابوا له. والترغيب في الدعوة إلى الله، وعظم أجر الدعوة إلى الله، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم) وتصور أن الشخص إذا دعا فله من الأجر مثل أجور من تبعه، عندما تسلم قبيلة أو قبيلتان فكم من الأجر يكون لهذا الشخص؟! ألا يكفي مثل هذا الكلام، حتى يكون هذا محمساً لنا وباعثاً لنا على الانطلاق والتحرك والدعوة إلى الله عز وجل ونشر الخير بين الناس.
بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق:
وكذلك بعض الناس قد يتريثون في قبول الحق، فلا نعدم منهم الأمل، فقد يقول لك شخص: أريد أن أفكر في الأمر، أنت تعرض عليه الحق لكنه يقول: أفكر، قد أحتاج إلى وقت، لا تقول: إما أنك تسلم الآن وإلا اذهب فإني مخاصمك ومقاطعك إلى يوم الدين، لا، لماذا؟ بعض هؤلاء القوم قالوا: فأسلم نصفهم، والنصف الباقي قالوا: إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمنا، ما قال :لا، تسلموا الآن وإلا ..، فقد يتريث بعض الناس، وقد يكون التريث صحيحاً والتأني طيباً إلا في عمل الآخرة، وفي قبول الحق، لكن بعض الناس طريقة تفكيرهم هكذا ما يريد أن يعتنق ولا يلتزم ولا يستقيم بسرعة، لكن اصبر عليه.
هداية الله عظيمة .. وجواز التفاؤل بالأسماء الحسنة:(14/25)
وكذلك أيها الإخوة: فإن هداية الله عظيمة، فقد كانت هذه القبيلة قطاع طريق، وكانوا يسرقون الحجاج، وهذه من الجرائم العظيمة، ثم هداهم الله فأصبحوا من أعوان وأنصار الإسلام، وكانوا من سراق الحجيج، فلا تستبعد على أي إنسان مهما كان مغرقاً في المعاصي أن يهديه الله عز وجل. وكذلك الأسماء الحسنة، تدع المجال لمن أراد أن يتفاءل بالخير، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (غفار غفر الله لها) لو كان اسمهم: (كعب) أو كان اسمهم: (حرب) أو (كلب) مثل بعض القبائل، فهذه الأسماء لا تتيح مجالاً للتفاؤل، ولذلك حيث الرسول صلى الله عليه وسلم على الأسماء الحسنة، حتى يتفاءل بها.
لابد من الدقة والتعمق في البحث عن الحق:(14/26)
وأما بالنسبة لرواية البخاري و مسلم لحديث ابن عباس فإن فيها قول ابن عباس : (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟) وهذه من الأشياء المهمة جداً، هذه القصص التي حدثت، هذه قصة الدعوة، هذا تاريخ، فهذه ليست مسألة سهلة، هذا تاريخ لا بد أن ينقل إلى الناس، ولا بد أن يتعلموه، ولا بد أن يقدم إلى الأمة رصيد التجربة للأجيال القادمة، ولذلك الآن نحن نستفيد من قصة أبي ذر كم مضى عليها؟ مضى عليها سنوات طويلة جداً، من الذي قدمها لنا؟ مثل ابن عباس رضي الله عنه، قال: (ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟) فهذا الرصيد لا بد أن يقدم للأجيال حتى تستفيد منه، وهذه القصة، قصة عظيمة، وحياة الدعوات وتاريخ الدعوات مهم ينبغي الاهتمام به؛ لأن فيه دروساً وفوائد، والتاريخ يعيد نفسه، والأحداث تتشابه، وللمعتبر أن يعتبر. وبعد ذلك -أيها الإخوة-هذا الأسلوب اللطيف من ابن عباس رضي الله عنه في التعليم: (ألا أخبركم) ماذا في هذا الأسلوب؟ إنه تشويق للسامعين، ألا أخبركم بإسلام، ما قال: يا جماعة! أنا عندي محاضرة ألقيها عليكم؟ فينبغي لمعلم الناس والداعية إلى الله أن يعرف طرق التشويق وشد الانتباه حتى يستقطب الأفكار، والأذهان، حتى يستطيع أن يدخل وهي مفتوحة، فالناس يتفاوتون في استقصائهم للحقيقة، فمنهم من يكون استقصاؤه سطحياً، ومنهم من يكون استقصاؤه أعمق، وطريقة بحثه أعمق، والطرق التي يتوصل بها أعمق، وهذا الفرق واضح بين أنيس وبين أبي ذر ، ولذلك أبو ذر اتبع طريقة وأسلوباً ما أتى بها أنيس ، فإذاًَ هذا يعود إلى نتيجة تفاوت الأفهام، وأن البحث عن الحق لا بد أن يكون استقصاءً عميقاً، وأن الاعتناء بالبحث عن الحق نابع من الاهتمام بالحق، فبعض الناس يقول: أين الحق؟ هات الدليل؟ أعطني شيئاً؟ فقد أعطيه أي شيء وأي دليل حتى لو لم يكن دليلاً حقيقياً ولا صحيحاً، فيقتنع به ويمشي، لكن الأذكياء الذين هداهم الله عز وجل لا يقبلون بأي شيء، ولا يقبلون أي طريقة وأي(14/27)
فكرة، فلا بد من التمحيص، والبحث، والتدقيق، فأبو ذر جلس فترة طويلة، وجلس يدقق، ولا يسأل أحداً، و علي بن أبي طالب مع أنه مسلم فكل واحد كان يخفي عن الآخر، وعلي لا يسأله خلال ثلاثة أيام، حتى صار فيه نوع من الاطمئنان ثم بدأ يتوغل معه ويسأله، فإذاً أوصي كل أخ يبحث عن الحق: أن يكون دقيقاً في بحثه، عميقاً، وألا يكتفي بالأشياء السطحية، أو الأشياء التي يراها عرضاً أمامه، أو الأكثرية، أو الرأي العام، وإنما يدقق حتى يصل إلى الحقيقة، وهذا سيكون من دقة فهمه وهو مأجور على هذا عند الله، لأنه ما اتبع أي شيء، بل فحص ومحص الأمور ولم يقلد الرجال، وإنما قارن حتى وصل بعلمه الذي اطلع عليه، كلام أهل العلم، قراءة الكتاب والسنة، حتى أيقن أن هذا هو الحق وأن هذا هو الطريق المستقيم، ومن الناس شخصيات جريئة تركب المخاطر للوصول إلى الحق، أبو ذر أول ما ضرب ما قال: تركت الأمر، بل استمر، وضرب حتى صار أحمر اللون، ومع ذلك استمر، فالناس شخصيات، ويختلفون في الجراءة، وبعضهم يركب الأهوال، وهذه فيها الثواب من الله عز وجل، حتى يصلوا إلى الحق، واهتمام الصحابة بالقادمين إلى مكة يتلقطونهم، فعلي بن أبي طالب شاهد الرجل قال: كأنه غريب، فكان نبيهاً، وليس عندما رآه قال: ما عليّ منه اتركه، قد يكون مسافراً، بل ضيفه أول يوم، وثاني يوم، وثالث يوم، ثم فاتحه في الموضوع.
الاطمئنان وسيلة لتحقيق المعاشرة:(14/28)
وكذلك أيها الإخوة: فإن الاطمئنان يكون فعلاً نتيجة للمعاشرة التي تدل على السلوك الصحيح، والمعاشرة تؤدي إلى الاطمئنان، ولما اطمأن أبو ذر لعلي فاتحه بالأمر، و علي رضي الله عنه كان حريصاً على شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حريصاً على أبي ذر ، ولذلك أشار له بهذه الإشارات الخفية، أو هذه الإشارات لجأ إليها علي لما كان الجو فيه شدة، وما كانت هذه الأشياء منهجاً ينتهج دائماً، وإنما كان شيء يفرضه الواقع، وتفترضه الطبيعة التي كانت موجودة، وهي شدة كفار قريش التي أدت إلى هذه السرية البالغة التي تعامل بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع أبي ذر . بقي نقطتان أو ثلاثة في قضية الجرأة في الصدع بالحق، وأن ذلك تابع للمصلحة، وطلب كتمان الحق؛ لأجل المصلحة، والفعل الحسن من العباس رضي الله عنه في انتقاء الشيء الذي أقنع به كفار قريش فعلاً بأن يكفوا عن أبي ذر . وبعد ذلك أيها الإخوة فإن تلك الشخصية العظيمة، شخصية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، الذي تحمل ما تحمل، لأجل الوصول إلى الحق، والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه، ثم ذهب داعية إلى قومه واجتهد فيهم ثم هاجر إلى المدينة ، وشهد الغزوات، وبعدما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ظل ثابتاً، وكان لا يخشى في الله لومة لائم حتى تأذى منه بعض المسلمين في صدعه بالحق في عهد عثمان ، وطلبوا منه أن يأتي به إلى المدينة ، ثم بعد ذلك ذهب إلى الربذة ، وتوفي بها رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه الله عن المسلمين كل خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(14/29)
( عبر وعظات من حياة الإمام الشافعي )
عناصر الموضوع :
الشافعي وبعض ميزاته
تحول الإمام الشافعي من الشعر إلى الفقه
رحلة الشافعي إلى مالك في المدينة
تصدر الإمام الشافعي للفتيا
سبب تأليف الشافعي لكتاب الرسالة
مكانة الشافعي عند أهل البدع
وصف بعض العلماء للشافعي
وعظ الشافعي وعبادته
بعض تلاميذ الشافعي
موسوعية الشافعي في جميع الفنون
شغف الشافعي بطلب العلم
الشافعي وانقياده لنصوص الكتاب والسنة
عقيدة الشافعي وموقفه من أهل الكلام
الشافعي وبعض مناظراته وأخلاقه فيها
تأديب الشافعي لطلابه
ملاطفة الشافعي لأصحابه وحسن خلقه معهم
فراسة الإمام الشافعي
اهتمام الشافعي بالواقع
كرم الشافعي وعزة نفسه
حسن الاستماع والتثبت في السؤال والجواب عند الشافعي
بعض أبيات الشافعي الشعرية
صفات الشافعي الخلقية وموته
عبر وعظات من حياة الإمام الشافعي:
لوجود القدوة في المجتمع أهمية بالغة، ودراسة حياة العظماء تيسر للجيل الاقتداء بهم، وسلوك سبيلهم. وللإمام الشافعي شخصية فذة، يجد المطالع لحياته كثيراً من شمائله وخصاله الحسنة، وهذه المادة تسلط الضوء على ولادة الشافعي ونشأته، وطلبه للعلم ونبوغه، وأخلاقه وثناء العلماء عليه، وغير ذلك من الجوانب المتعلقة به.
الشافعي وبعض ميزاته:(15/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم في هذه الليلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على عبادته وذكره وشكره، وأن يعفو عنا فيما قصرنا وأذنبنا في حقه سبحانه وتعالى. الحمد لله الذي جعل نجوم السماء هداية للحيارى في البر والبحر من الظلماء، وجعل نجوم الأرض -وهم العلماء- هداية من ظلمات الجهل والعمى، وفضل بعضهم على بعض في الفهم والذكاء، كما فضَّل بعض النجوم على بعض في الزينة والضياء، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأتقياء، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين. وبعد.. أيها الإخوة! فإن موضوعنا في هذه الليلة عن شيء من العبر والعظات من حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، ومن حق سلفنا علينا أن نتعرف على سيرهم، وأن نقف مع أحداث حياتهم، وخصوصاً إذا كنا نريد طلب العلم، فإن القراءة في حياة أهل العلم لاشك أنها من الأمور التي تكسب طالب العلم أدباً وفقهاً وخشوعاً وإعجاباً بهؤلاء، والخير في هذه الأمة لا ينقطع ولله الحمد، ولكنه كان كثيراً في أولها. إن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتنة، والمطلوب منا هو الصبر على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، والتفقه في هذا الدين؛ لأن التفقه في الدين من الواجبات. إن حياة هذا الإمام -رحمه الله تعالى- حياة حافلة، ولاشك أنه من المجددين، وهو من الأئمة الذين كانوا يهدون بأمر الله وصبروا على ذلك، ولاشك أنه كان للمتقين إماماً ولا يزال، وقد عدَّه كثير من أهل العلم من المجددين، ولاشك أنه أول من كتب في أصول الفقه في كتابه الرسالة ، وكانت حياته -رحمه الله تعالى- مليئة بالعبر والعظات. وأما حياته، فإنه رحمه الله تعالى- كما هو معلوم لكثير من الإخوان- كان قد توفي في مصر ، كما ذكر أهل العلم عنه في مسألة نسبه(15/2)
ومولده، فإنه قد ولد بغزة في سنة (150هـ) وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وكان في أول عمره في عسقلان وبها ولد، و غزة و عسقلان شيء واحد، ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز ، ودخلت به إلى قومها وهم من أهل اليمن ؛ لأن أمه كانت أزدية من الأزد، فنزلت عندهم، فلما بلغ عشراً خافت على نسبه الشريف أن ينسى ويضيع، فحولته إلى مكة. وقد اتفق أهل العلم على أن الشافعي رحمه الله ولد سنة (150هـ) وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، وقال الشافعي عن نفسه: قدمت مكة وأنا ابن عشر أو شبهها، فصرت إلى نسيب لي ... إلى آخر القصة.
الشافعي قرشي مطلبي:(15/3)
لاشك أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى من جهة النسب، كان عربياً قرشياً، ولاشك أن هذه ميزة، وهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ، فإن اسم الشافعي هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي ... إلى آخر النسب المعروف، فهو يجتمع مع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبد مناف . إذاً: الشافعي قرشي، وهو ينسب إلى جده شافع بن السائب ، وهو لاشك أنه مطلبي، وبما أنه قرشي فنحن نعلم ميزة قريش التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن الله قد اصطفاهم من قبائل العرب) ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: (تعلموا من قريش ولا تعلموها، وقدموا قريشاً ولا تؤخروها، فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش) أي: في الرأي، وهذا من الأشياء التي تدل على نباهة هذا الإمام القرشي الشافعي، وأن عقله كان فيه من الكمال أمر عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعلموا من قريش ولا تعلموها ). ولأن القرشي فيه من رجاحة العقل أكثر من غيره ولذلك كان الأئمة من قريش، فالشرط في الخليفة شرعاً أن يكون قرشياً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدموا قريشاً ولا تؤخروها، وتعلموا من قريش ولا تعلموها، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها مال لخيارها عند الله تعالى) وقد رواه الطبراني رحمه الله، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من أهان قريشاً، أهانه الله). وقريش أول الناس من العرب موتاً، وأسرعهم فناءً وزوالاً، فالشافعي رحمه الله إذاً هو إمام قرشي، وأمه من الأزد، والأزد من اليمن وهم أصل العرب، ولاشك أن أهل اليمن كثير منهم قد أقام في بلاد الشام وفي أرض فلسطين وغيرها. ومن طريف ما يحكى عن أم الشافعي من الحذاقة: أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد القاضي أن يفرق بين المرأتين ليختبر صدق كل واحدة -يفرق بينهما(15/4)
فيسمع من هذه على حدة ومن الأخرى على حدة- فقالت له أم الشافعي : ليس لك ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة:282] إذاً لا يكون لك أن تفرق بيننا، قال ابن حجر رحمه الله: "وهذا فرع غريب واستنباط قوي". وبالنسبة لكنيته فإن الشافعي رحمه الله تعالى يكنى بأبي عبد الله، وقد تزوج، وله أولاد، واستدل عدد من أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) بأن الشافعي هو المجدد في المائة الثانية، و عمر بن عبد العزيز هو المجدد في رأس المائة الأولى. والبحث في موضوع التجديد طويل، والتجديد الصحيح أنه يتجزأ، فمن الناس من يبعثهم الله ليجددوا للأمة في الحديث، ومنهم من يجدد في الفقه، ومنهم من يجدد في أصوله، ومنهم من يجدد في الجهاد.. وهكذا، وقد تجتمع نواحي التجديد كلها في شخص واحد كما حصل في عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. ومن الرؤى التي رؤيت ما جاء عن ابن عبد الحكم ، وهو من مشاهير تلاميذه، قال: لما حملت أم الشافعي رأت كأن المشتري خرج منها حتى انقض بمصر ، ثم وقع في كل بلد منه شظية، وهذا فيه إشارة إلى انتشار علم الشافعي رحمه الله تعالى في أرجاء المعمورة، وأن علمه سيدخل البلدان.
ولادة الشافعي في عسقلان وتربيته في الصحراء:(15/5)
وولادته بعسقلان أيضاً ميزة؛ لأنها من الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، وذكرنا أنه حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وتوفي بمصر سنة (204هـ) وهو ابن (54) سنة في آخر يوم من شهر رجب سنة (204هـ). وكان من أمر الشافعي رحمه الله تعالى في بداية أمره أنه دخل في الصحراء وجلس إلى العرب يستمع منهم ومن أخبارهم، حتى بلغ عشرين سنة، وهذا كان من الأسباب التي جعلت لغته قوية جداً، وحفظ من الشواهد المهمة في تفسير النصوص ومعرفة التنزيل شيئاً كثيراً، حتى أنه كان يحفظ نحواً من عشرين ألفاً من الشواهد، ولاشك أن هذا قد ساعده كثيراً في مسألة فهم الكتاب والسنة. ولاشك أن طفولة الشخص من الأشياء التي تؤدي إلى نبوغه وبراعته، فنحن نأخذ من هنا درساً وفائدة، وهي أن الإنسان المسلم إذا أراد أن يعد ولده لأن يكون طالب علم، فلابد أن يعتني بنشأته، وأن يبذل من الأسباب ما يجعل هذا الولد من المتفوقين في هذا الجانب، ولاشك فإن طلب العلم الشرعي من أعظم الأمور. وكان الشافعي رحمه الله تعالى قد رزق فطنة كبيرة، وقد رزق أيضاً ذكاءً وحفظاً، حتى أنه قال عن نفسه: كنت أنا في الكُتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها، ولقد كنت أسمع وهم يكتبون، فما أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم إلا وقد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً- لا أخذ منك أجرة، وأنت بهذا النبوغ والحفظ- ثم لما خرجت من الكُتاب كنت أتلقط الخزف -وهو الآجر؛ الطين المشوي الذي يشوى لكي يكون صلباً- والدفوف وكرب النخل -أصول السعف الغلاظ من النخل -وأكتاف الجمال- وهي: العظام العريضة خلف المنكب وكانت تستعمل للكتابة- أكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور -وهي الأوراق- وأكتب فيها، حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافاً -والحباب: الجرار جمع جرة، كان عندها جرار فملأها من هذه الأشياء المكتوبة- ثم إني خرجت عن مكة، فلزمت هذيلاً في البادية أتعلم(15/6)
كلامها وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، مع السنتين التي قضاها في مكة قارب العشرين، فرجع إلى مكة وقد حفظ شيئاً عظيماً.
تحول الإمام الشافعي من الشعر إلى الفقه:
كان اهتمام الشافعي في بداية أمره بالأشعار، وهذا نجده موجوداً عند بعض الشباب، أنهم يستغلون حافظتهم في حفظ الأشعار، ويكون لهم اتجاهات أدبية، ولكن قد يقدر الله سبحانه وتعالى شيئاً يجعل اتجاه الشخص يتغير، وقد حدث للشافعي رحمه الله في هذه الفترة من حياته قصة كانت عبارة عن كلمة غيرت اتجاه هذا الرجل. كان السبب في اتجاه الشافعي من الشعر والأدب إلى الفقه أنه كان ذات مرة يسير على دابة، فتمثل ببيتٍ من الشعر، فقال له كاتب كان لوالد مصعب بن عبد الله الزبيري : مثلك يذهب بمروءته في هذا! أين أنت من الفقه؟ -قال له: إن هذا يذهب بمروءتك، تعلم الفقه -فهزته هذه الكلمات- وبعدها قصد الشافعي رحمه الله مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة فلازمه، ثم قدم المدينة على الإمام مالك رحمه الله تعالى، ودرس الموطأ عنده. إذاً توفيق الله عز وجل يكون من الأشياء التي تؤدي بطالب العلم إلى الاتجاه في طلب العلم، وقد يكون له اتجاهات أخرى. بعض الناس لهم اشتغال بعلوم دنيوية، أو بأدب وشعر، أو بتجارة وأمور من الوظائف ونحوها، فيقدر الله سبحانه وتعالى حادثة تجعل الشخص يتجه إلى الاهتمام بطلب العلم، ولذلك لابد أن يطلب الإنسان من الله عز وجل التوفيق دائماً.
رحلة الشافعي إلى مالك في المدينة:(15/7)
ولما قصد الشافعي رحمه الله مالكاً في المدينة ، أخذ كتاباً معه من والي مكة إلى والي المدينة توصية، وجاء والي المدينة معه إلى مالك وهو متهيب، وهو يقول له: مالنا و لمالك ، الشافعي يريد من الوالي أن يذهب معه إلى مالك ليكون هذا من نوع التوصية، فلما قصدوا مالكاً ، تقدم رجلٌ فقرع الباب، فخرجت جارية سوداء، فقال لها الوالي: قولي لمولاك إني بالباب، قال: فدخلت فأبطأت ثم خرجت، فقالت: إن مولاي يقرئك السلام، ويقول: إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب- هذا من عزة العلماء في ذلك الزمان- وإن كان للحديث- إن جئت لتسمع الحديث- فقد عرفت يوم المجلس فانصرف." اليوم المخصص للحديث أنت تعرفه. فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة، قال: فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي، فوضعته، ثم إذا أنا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية -أي: طويل اللحية- فجلس وهو متطلس -لابس الطيلسان: كساء مدور لا أسفل له- فرفع إليه الوالي كتاباً، فبلغ إلى هذا: إن هذا رجلٌ من أمره وحاله، فتُحدثه وتفعل وتصنع، توصية للشافعي مكتوبة، فرمى مالك الكتاب من يده، ثم قال: سبحان الله! أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل؟! -أي: الوساطات- قال: فرأيت الوالي وقد تهيبه أن يكلمه، فتقدمت إليه وقلت: أصلحك الله، إني رجل مطلبي، ومن حالي وقصتي، وأخبره، فلما سمع كلامي نظر إليّ ساعة، وكان عند مالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال لي: يا محمد! اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، هذه من فراسة مالك رحمه الله تعالى، وفي رواية أنه قال له: إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي. وطلب الشافعي من مالك أن يقرأ عليه، قال له: لابد لك من مقرئ، لا تقرأ مباشرة على الشيخ، تقرأ على تلميذ الشيخ الذي ضبط كتاب الشيخ، فقال الشافعي -التمس من مالك - قال: اسمع مني ولو(15/8)
صفحة، فإن أعجبتك أواصل، وإلا فلا، فأمره أن يقرأ، قال: فبدأت أقرأ كتاب مالك رحمة الله عليه، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع القراءة وأقف، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى! زد، حتى قرأته في أيام يسيره، ثم أقمت بالمدينة حتى توفي مالك بن أنس . ثم ذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى اليمن. إذاً: جلس الإمام الشافعي إلى الإمام مالك ، وسمع منه الموطأ ، وهذا فيه فائدة وهي: 1- الحرص على التلقي من الأكابر، طلب ما أمكن من أهل العلم الكبار، فإن لم يكن، فطلبة العلم الآخذين عن العلماء، وهذا أمر مهم جداً. 2- عدم إذلال العلم، وإنما يعز:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم:
ولكن للأسف! فإن كثيراً من حملته لا يقدرون العلم حق قدره، فيضعونه عند الأسافل، ويكونون مطية لغيرهم من الفسقة والفجرة. 3- أن من الأمور المهمة لطالب العلم الاعتناء بالإعراب، فإنه إذا قرأ على الشيخ ونحوه، وكان يلحن في قراءته، يرفع المنصوب، ويخفض المرفوع.. ونحو ذلك، كان ذلك منفراً للشيخ، حتى لا يريد أن يسمع منه شيئاً. ثم انظروا -أيها الإخوة- إلى قدر الله سبحانه وتعالى الذي جعل الإمام الشافعي ينصرف من الشعر إلى الفقه، من جراء تلك الكلمة التي سمعها، فرضي من دينه ودنياه أن يكون معلماً، وأن تكون القضية قضية شعر، فوقر في قلبه ذلك الكلام، فالإنسان إذا وجد من يعظه ويوجهه فعليه أن يتوجه، ولاشك أن من صفات المسلم أن يقبل النصيحة.
تصدر الإمام الشافعي للفتيا:(15/9)
كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى منذ صغره معروفاً بالنباهة، حتى قال مالك: "ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الفتى". وكان مسلم بن خالد الزنجي يقول للشافعي: "أفتي يا أبا عبد الله ، فقد آن لك والله أن تفتي"، وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان قد لقي مالكاً وعمره ثلاث عشرة سنة. وقال إبراهيم بن محمد بن عباس: كنت في مجلس ابن عيينة و الشافعي حاضر، فحدث ابن عيينة عن الزهري بحديث صفية والرجلين، وفيه: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) فقال ابن عيينة للشافعي : ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ وكان إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتوى يسأل عنها التفت إلى الشافعي ، فقال: سلوا هذا. وقد أثنى العلماء عليه ثناءً عظيماً، وأثنى عليه من الأئمة الكبار يحيى بن سعيد القطان، و عبد الرحمن بن مهدي، حتى قال يحيى بن سعيد القطان: "إني لأدعو الله للشافعي في كل صلاة، لما فتح الله عليه في العلم ووفقه للسداد فيه".
سبب تأليف الشافعي لكتاب الرسالة:
وأما بالنسبة لعبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى فإنه قد كتب إلى الشافعي وهو شاب أن يصنع له كتاباً في معاني القرآن يجمع فيه قبول الأخبار، وحجية الإجماع، وبيان الناسخ من المنسوخ في القرآن والسنة، فكانت رسالة عبد الرحمن بن مهدي للشافعي هي السبب في تأليف الشافعي كتاب الرسالة المعروف والمشهور، وهو أول كتاب في أصول الفقه. ويعتبر الشافعي رحمه الله هو أول من كتب في هذا العلم، فكان جواب الشافعي لعبد الرحمن بن مهدي هو كتاب الرسالة المجلد المعروف المطبوع الموجود، فلما وصل الكتاب إلى عبد الرحمن بن مهدي -وكان من كبار الأئمة- قال: "ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها". وقال: "لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني؛ لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له".
مكانة الشافعي عند أهل البدع:(15/10)
أيضاً كان المبتدعة يهابون الإمام الشافعي ويعرفون مكانته، فهذا بشر المريسي -وكان في بداية أمره على السنة ثم انحرف، نسأل الله الهداية والثبات- وكان بشر يرافق الشافعي ، كان زميلاً له وكان يعرفه، ولكنه انحرف وصار من أهل البدعة، ولذلك لما جاء بشر المريسي وكان عنده أشياء من علم الكلام، قال بعضهم: كنا لا نقدر على مناظرته، فقدم الشافعي فأعطانا كتاب الشاهد واليمين ، الحكم والقضاء بالشاهد ويمينه، فدرسته في ليلتين، ثم تقدمت إلى حلقة بشر ، فناظرته فيه فقطعته- أي: أسكته وأفحمته- فقال بشر: "ليس هذا من كيسك، هذا من كلام رجل رأيته بمكة ، معه نصف عقل أهل الدنيا"، يقصد الشافعي .
وصف بعض العلماء للشافعي:
وصف يحيى بن أكثم للشافعي:
وصفه يحيى بن أكثم فقال: كنا معاً عند محمد بن الحسن في المناظرة، فكان الشافعي رجلاً قرشي العقل والفهم والذهن، صافي العقل والفهم والدماغ، سريع الإصابة، ولو كان أمعن في الحديث لاستغنت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن غيره من العلماء، ومعروف أن الشافعي رحمه الله لم يكن من المكثرين في جمع الحديث، وإن كان جمع في أشياء وله المسند، ولكنه لم يكن مثل الإمام أحمد رحمه الله الذي كان من المكثرين من جمع الحديث.
وصف أحمد بن حنبل للشافعي:(15/11)
قال أحمد رحمه الله يصف الشافعي : قدم الشافعي فوضعنا على المحجة البيضاء. يقول عبد الله بن أحمد : جاء الشافعي إلى أبي زائراً وهو عليل يعوده - الشافعي يعود أحمد مع أن أحمد من تلاميذ الشافعي ، لكن الشافعي رحمه الله كان يعود تلاميذه- فوثب أبي إليه، فقبل ما بين عينيه، وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه، مع أن أحمد كان مريضاً، فلما قام ليركب، راح أبي فأخذ بركابه ومشى معه. وكان أحمد رحمه الله حريصاً على مجلس الشافعي كثيراً، وعلى الجلوس إليه، وكان ربما يفوت مجالس علماء ومحدثين كبار كابن عيينة من أجل أن يجلس عند الشافعي ، حتى قال بعض أهل العلم: حججت مع أحمد بن حنبل فنزلت في مكان واحد معه، فخرج باكراً وخرجت بعده، فدرت المسجد فلم أجده في مجلس ابن عيينة ولا غيره، حتى وجدته جالساً مع أعرابي، فقلت: يا أبا عبد الله ! تركت ابن عيينة وجئت إلى هذا؟ فقال لي: اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول، لو فاتك ابن عيينة -تأخذ حديث ابن عيينة من تلاميذ ابن عيينة - وإن فاتك عقل هذا -أي: الشافعي- أخافك ألا تجده، ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله من هذا الفتى، قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي . وقال أحمد رحمه الله: كان الفقه قفلاً على أهله، حتى فتحه الله بالشافعي ، وقال أحمد أيضاً: ما أحدٌ مس محبرة ولا قلماً إلا و للشافعي في عنقه منة، وقال أحمد أيضاً: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، فالشافعي له فضل على أهل الحديث بتبيان معاني الحديث، والناسخ والمنسوخ، والجمع بين الأحاديث المتعارضة، وكان بعض العلماء مثل يحيى بن معين يستغربون من إقبال أحمد على الشافعي، حتى أن يحيى بن معين -مرةً- بلغه أن الإمام أحمد مشى مع بغلة الشافعي فأرسل إليه يعاتبه، فأرسل أحمد رداً يقول ليحيى : لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك. أي: لو مشيت أنت من الجانب الآخر من البغلة كان أنفع لك. فالشافعي رحمه الله رزق منهجاً سليماً، وفكراً(15/12)
ثاقباً، وحصافة وفطنة، وكانت أصوله في غاية الجودة، فسهَّل على أهل الحديث كثيراً فهم الأحاديث، صحيح أنه ما كان واسعاً جداً في طلب الحديث وجمعه، ولكن إذا بلغه يعرف وجهه، وكثيراً ما كان يقول: إذا صح الحديث هذا فأنا أمشي عليه؛ لأنه لم يكن يعرف صحته في بعض الأحيان، ولكن من تجرده وإنصافه- كما سيأتي- أنه كان يتبع الحديث.
وصف الربيع بن سليمان للشافعي:
قال الربيع بن سليمان: "لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض لرجحهم، ولو كان من بني إسرائيل لاحتاجوا إليه". وكان الشافعي رحمه الله سبباً في توجيه بعض طلبة العلم المشتغلين بعلم الكلام إلى اتباع السنة، منهم الأئمة الكبار، مثل: أبي ثور رحمه الله تعالى، و الحسين بن علي الكرابيسي، أبو ثور من كبار الفقهاء، وكذلك الحسين بن علي الكرابيسي كان أول ما اشتغل هؤلاء بعلم الكلام، وكانوا ينبزون بأهل الحديث. ولما جاء الشافعي إلى العراق ، قال أبو ثور للحسين بن علي الكرابيسي -وكانا من أهل الرأي، وربما تهكما بأهل الحديث، واعتبرا أن الرأي الذي عندهما هو القوي، وهو العلم- قال أبو ثور للكرابيسي: ورد رجلٌ من أهل الحديث يتفقه، فقم بنا نسخر منه -لأنهم يقولون: هؤلاء حملة آثار لا يفهمون شيئاً، فقط يحملون النصوص لكن لا يفهمونها- فذهبنا إليه، فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل يقل: قال الله، قال رسول الله، حتى أظلم عليهم البيت، فتركا ما كانا عليه واتبعاه. تركا قضية الرأي واشتغلا بالنصوص والآثار، فكان له فضل على مثل هؤلاء. وكان بليغاً جداً في المناظرة، حتى قال بعضهم: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة بأنه من ذهب لأقنعه بأنه من ذهب، وستأتي بعض قصص مناظراته.
وصف يونس بن عبد الأعلى للشافعي:(15/13)
ومن الأمور المهمة التي حصلت للشافعي الجمع بين الفقه والحديث، وكان عذب المنطق جداً، حتى قال يونس بن عبد الأعلى : كانت ألفاظ الشافعي كأنها سكر، وقال: كنا إذا قعدنا حوله لا ندري كيف يتكلم، كأنه سحرٌ، وكان اطلاعه في الأنساب واسعاً جداً، حتى أن ابن هشام النحوي صاحب المغازي جاء فجلس إلى الشافعي، فذاكره أنساب الرجال، هذا يذكر نسب رجل، وهذا يذكر آخراً، فقال له الشافعي بعد أن تذاكرا: دع عنك أنساب الرجال فإنها لا تذهب عني وعنك، وخذ بنا في أنساب النساء، قال: ندخل في أنساب النساء، فلانة بنت من؟ قال: فلما أخذ فيها قعد هشام ، أي: بقي هشام ساكتاً و الشافعي مستمر في سرد أنساب النساء.
وعظ الشافعي وعبادته:(15/14)
كان رحمه الله أيضاً واعظاً جيداً، وهذه من الأمور المهمة لطالب العلم، أن يكون بالإضافة لاشتغاله بالعلم مجيداً للوعظ؛ لأن الناس قد لا تتحرك قلوبهم بالمسائل العلمية، فلابد أن تُحرَّك بالوعظ، فقال بحر بن نصير: كنا إذا أردنا أن نبكي قلنا: اذهبوا إلى هذا المطلبي نقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن، فتساقط الناس بين يديه، يكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته، فإذا رآهم كذلك أمسك عن القراءة، وهذه كانت طريقة السلف حتى لا يصاب بالعجب، الواحد منهم إذا أجاد في الشيء، فرأى إعجاب الناس توقف وأمسك عنه. وكان عابداً، وكان يختم القرآن ختمات كثيرة، وكان يقسم الليل ثلاثة أقسام: الثلث الأول للاشتغال بالعلم، والثلث الثاني للصلاة، والثلث الثالث للنوم، ويقوم إلى صلاة الفجر نشيطاً. ومسألة أن يكون طالب العلم مشتغلاً بالعبادة مسألة مهمة جداً، وهذا درس عظيم وفائدة بليغة، فإن بعض الناس إذا اشتغلوا بطلب العلم نسوا العبادة، فصارت عبادتهم عادية جداً، كعبادة العوام أو أقل، بل إن بعض العوام في العبادة أحسن من بعض الذين يشتغلون بالقراءة أو تحصيل العلم، وهذا راجع إلى خلل في المنهج، ولذلك لابد أن يكون طالب العلم له حظ كبير من العبادة. و الشافعي رحمه الله وفقه الله لأمورٍ كثيرة، حتى قال بعض أهل العلم: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، فأول ذلك: 1- شرف نسبه، وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم. 2- صحة دينه وسلامة معتقده من الأهواء، وسخاوة نفسه. 3- معرفته بصحيح الحديث من سقيمه، وبالناسخ والمنسوخ. 4- حفظه لكتاب الله تعالى ولأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفته لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، وتأليف الكتب. 5- وأنه اتفق له من الأصحاب ما لم يحصل لغيره.
بعض تلاميذ الشافعي:(15/15)
من فضل الرجل أن يكون تلاميذه أجلاء، فإذا كان تلاميذه أجلاء دل ذلك على جلالته، فمن هم تلاميذ الشافعي؟ 1- أحمد بن حنبل رحمه الله. 2- سليمان بن داود الهاشمي. قال الإمام أحمد فيه: "يصلح للخلافة"، أي: في العلم والتقوى والورع والنسب يصلح للخلافة. 3- الحميدي. 4- الكرابيسي. 5- البويطي. 6- حرملة. 7- ابن عبد الحكم وكان من مشاهير تلاميذه، فيوفق الله بإخلاص صاحب العلم بتلاميذ أقوياء يحفظون علمه وينشرونه، فيزداد أجره.
موسوعية الشافعي في جميع الفنون:(15/16)
والشافعي رحمه الله -وهذه فائدة لطالب العلم مهمة- لم يكن مقتصراً على فن واحد من فنون العلم، وإنما كان متوسعاً في جميع الفنون، ولذلك كان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح، فيجيء أهل القرآن فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا، وجاء أهل الحديث فيسألونه عن معانيه وتفسيره، فإذا ارتفعت الشمس قاموا، واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة، فإذا ارتفع النهار تفرقوا، وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو، حتى ينتصف النهار فيذهب إلى منزله. قارنوا -الآن- بين طريقة السلف في طلب العلم، وبين الطريقة الحديثة التي تجعل الواحد يتخصص في فرع دقيق ولا يدري عن الأشياء الأخرى، فترى الواحد يتخصص في (الطب) مثلاً، ثم إنه لا يدري عن بقية العلوم حتى الدنيوية، وأكثرها عيباً أن يكون جاهلاً بالأمور الشرعية، وإذا تخصص تخصصاً دقيقاً في شيء نسي الأشياء الأخرى، فالطريقة الحديثة في التخصص من سلبياتها أنها تمنع الشخص عن الإسهام والقراءة في المجالات الأخرى، ويقول: هذا تخصصي ليس لي علاقة بغيره، الهمم ضعفت؛ ولذلك صار الاتجاه العام أن يكون الإنسان موسوعياً في الطلب صعباً، إلا على من وفقه الله عز وجل، فقد تجد الشخص مبرزاً في الحديث لكنه جاهل في التفسير والفقه، وقد تجد آخر عنده علم بالفقه ومتوسع فيه، ولكن عنده جهل عجيب بالحديث، وقد يستشهد بالأحاديث الضعيفة والموضوعة. لكن طريقة السلف في طلب العلم كانت طريقة موسوعية، فلم يكن عندهم تخصص ينسيهم بقية مجالات العلم وفروعه، حتى أن بعض أهل العلم كانوا يرون بعض اللغويين في مجلس الشافعي ، يقولون لهم: أنتم لستم بطلبة علم ولا بأهل علم فلماذا تأتون؟ يقولون: نتعلم منه اللغة؛ لأن الشافعي رحمه الله كان يجلس المجالس الطويلة جداً، لا يسمع منه لحن واحد أو خطأ.
شغف الشافعي بطلب العلم:(15/17)
كذلك من الأمور المهمة أن يكون عند طالب العلم شغف بطلب العلم، إذا لم يكن عنده شغف بالطلب فلن يحصِّل، والشغف هو الذي يجعل الإنسان منهمكاً بالشيء ومشتغلاً به. قال الشافعي عن نفسه: أسمع بالحرف مما لم أسمعه -أي: تعلمت فائدة جديدة أو شيئاً جديداً ما هو وقع الفائدة عليك إذا سمعت شيئاً جديداً، وتعلمت مسألة ما كنت تعلمها من قبل؟ كيف تشتاق لهذه الفائدة؟- قال الشافعي: فتود أعضائي -اليد والرجل وغيرها- أن لها أسماعاً تتنعم به مثلما تنعمت به الأذنان، فقيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع. مثل الذي يهتم بالمال يجمع ويمنع، إذا دخل الشيء لا يخرج ودائماً يدخل، لا يذهب منه شيء، فكان الشافعي في العلم جموعاً منوعاً، يجمع ولا يخرج منه شيئاً، بمعنى: لا ينساه ويذهب عنه. فقيل له: كيف طلبك للعلم؟ قال: كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره. أي: كيف تبحث عنه؟
الشافعي وانقياده لنصوص الكتاب والسنة:(15/18)
هل كان الشافعي رحمه الله متعالياً؟ هل العلم الكثير الذي جمعه أدى به إلى الكبر كما يحدث عند البعض إذا اجتمع له شيء من أطراف العلم، أحس بأنه قد وصل، ويتعالى على الناس ويريد أن ينسب إليه العلم، ويقال: هذا كلام فلان، أما الشافعي رحمه الله، فإنه سُمع وهو مريض، وقد ذكر ما جمع من الكتب، فقال: وددت لو أن الخلق تعلموه ولا ينسب إليّ منه شيء، وقال: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدونني. لم يكن علمه الواسع سبباً في غروره بمؤلفاته وكتبه؛ بل كان يقول: لقد ألفت هذه الكتب، ولم آلو فيها، أي: اعتنيت واجتهدت، ولابد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] يقول: لابد أن هناك أخطاء، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعت عنه. وقال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول صلى الله عليه وسلم فقولوا بها ودعوا ما قلته. وكان يقول: كل ما قلت فكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى. انظروا الآن -أيها الإخوة- إلى متعصبة المذاهب، يقول أحدهم للآخر: إلى أين؟ قال: أسافر. قال: ما هو مذهبك؟ قال: أبي حنفي وأمي شافعية، قال: سلم لي على أمك فقط، أصبح تعصب الناس للمذاهب شيئاً عجيباً، أين كلام الشافعي رحمه الله ومبادئه ومنهجه من المتعصبة الذين كانوا يقولون: نزوج فلاناً؛ لأنه على مذهبنا ولا نزوج فلاناً؟ لا يمكن أن تكون ابنتنا من مذهبنا تحت رجل آخر مذهبه مختلف، لا يمكن أن نعطي حنفية لشافعي، لكن العكس، يقولون: يمكن تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب، نأخذ من نسائهم؟ لكن لا نعطيهم من نسائنا، أين هذا التعصب من كلام الأئمة الذين كانوا يربطون الناس بالكتاب والسنة؟ وهذه من الفوائد العظيمة: أن طالب العلم يربط الناس بالكتاب والسنة، لا بقول فلان وعلان، وإنما(15/19)
بالأدلة الشرعية. يقول: إذا وجدتم سنة صحيحة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد. وكان يقول: كل مسألة تكلمت فيها، وصح الخبر فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وسأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه، وقال الشافعي : قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: يا هذا! أرأيت في وسطي زناراً -والزنار كان من لباس أهل الذمة، مشروط عليهم لبس الزنار، ولا يلبسوا عمائم المسلمين- أرأيتني خارجاً من كنيسة؟ أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: أتقول بهذا؟ أي: واعجباً لك! هل أسأل أنا آخذ بالحديث أو لا، الحديث حجة بنفسه. وكان يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم أقل به. وكان يقول هذا الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وكان يقول: إذا صح الحديث فقل لي أذهب إليه. يقول الشافعي لأحمد ؛ لأن الشافعي يعرف أن أحمد أكثر اشتغالاً منه بجمع الحديث: "إذا صح الحديث فقل لي أذهب إليه حجازياً كان أو عراقياً أو شامياً أو مصرياً؛ لأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، فصار بعضهم في العراق ، وبعضهم في الشام ، وبعضهم في مصر ، وبعضهم في اليمن ، وبعضهم في الحجاز ، وصارت الأحاديث موجودة. يقول لأحمد : الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عنه وأنا أتبعه، أياً كان مصدره، سواءً مصدره الصحابة الذين في الحجاز، أو الشام، أو غيرهم. وكان رحمه الله تعالى يعلق القول في كثير من الأحيان على ثبوت الحديث، فكان يقول مثلاً: إن صح الحديث في الغسل من غسل الميت قلت به. وكان يقول: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط في الحج، قلت به، ضباعة رضي الله عنها خافت أن تحتبس، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراط، أي: إذا وصل الإنسان إلى الميقات ينوي الإحرام،(15/20)
ويقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وإذا حبسه الحابس هذا، فإنه يجوز له أن يحل دون أن يكون عليه دم، ولا يلزمه شيء، فكان الشافعي رحمه الله لم يثبت عنده حديث ضباعة هذا، ولكن لإنصافه قال: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط قلت به. حتى أن بعض العلماء ألف كتاباً سماه: المنحة فيما علق الشافعي القول فيه على الصحة ، والمؤلف هو ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى. كان الشافعي يوصي بالحديث وبأصحاب الحديث، يقول: "عليكم بأصحاب الحديث، فإنهم أكثر صواباً من غيرهم".
عقيدة الشافعي وموقفه من أهل الكلام:
وكان حسن المعتقد، سواءً كان في الإيمان أو في الأسماء والصفات أو في القضاء والقدر، كان يقول: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص)، وكان شديداً على أهل البدعة، بعض الناس -الآن- يطلبون الفقه، لكن ليس عندهم مواقف مفاصلة لأهل البدعة، قال الشافعي في حكمه في أهل الكلام: "أن يضربوا بالجريد والنعال، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام".
الشافعي وبعض مناظراته وأخلاقه فيها:(15/21)
وبالنسبة للأخلاق: فإن الشافعي رحمه الله كانت أخلاقه عالية جداً، وقال عنه ولده: ما سمعت أبي يناظر أحداً قط فيرفع صوته، وكان من خلقه أنه يحب أن تكون الغلبة لخصمه، وكان يقول: "ما عرضت الحجة على أحد فقبلها إلا عظم في عيني، ولا عرضتها على أحد فردها إلا سقط من عيني". ويقول: "ما ناظرت أحداً قط على الغلبة -ما دخلت في مناظرة مع أحد لكي أتغلب عليه- وإنما لكي يتبين الحق". وكان يقول: "ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ". وهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان بالسهولة مطلقاً. وقال: "ما ناظرت أحداً قط إلا على النصيحة". كثير من الشباب -الآن- الذين يدخلون في نقاشات فقهية، يكون قصد الواحد منهم أن يتغلب على الآخر، وأن يظهر خطأ الآخر، وأن يظهر صوابه وفضله، فأين هؤلاء من أخلاق الشافعي رحمه الله؟ يجب علينا أننا إذا دخلنا في مناقشات علمية أن يكون قصد الواحد منا ظهور الحق، ولا فرق أن يكون ظهر الحق منه أو من الآخر، هذا ما ينبغي أن تكون عليه أخلاق طلبة العلم، يقولالشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه.
مناظرته مع من يقول بعدم جواز الدعاء في الصلاة بغير القرآن:(15/22)
كان الشافعي رحمه الله كان له مناظرات، فكان من مناظراته لمن كان يمنع الدعاء بشيء من خارج القرآن في الصلاة، كان بعض أهل العلم يرون أن الدعاء في الصلاة لابد أن يكون من القرآن: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] وأنك إذا دعوت بشيء من خارج القرآن لا يجوز لك ذلك، فناظر الشافعي واحداً من هؤلاء، وقال له: ماذا تقول في الصلاة بغير ما في القرآن؟ قال: تفسد صلاته، وإن دعا بما في القرآن لا تفسد. قال: فقلت له: أرأيت إن قال: أطعمنا بقلاً وقثاءً وفوماً وعدساً وبصلاً، ما هو الحكم؟ قال: تفسد صلاته، قال: أنت تقول بفسادها، وأنت تقول: يجوز أن تدعو بما في القرآن، قال الآخر: فماذا تقول أنت؟ قال الشافعي: ما يجوز أن يدعو به المرء في غير الصلاة جاز أن يدعو به في الصلاة؛ لأن المخاطب في ذلك ليست إلى الآدميين- المصلي إذا دعا لا يتكلم مع الآدميين وإنما يدعو ربه- وإنما الخبر أنه لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس، هذا الذي يفسدها؛ أن يكلم الناس بعضهم بعضاً، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لقوم وسماهم بأسمائهم. النبي صلى الله عليه وسلم قنت ودعا على أناس وسماهم بأسمائهم، وعلى عصية ورعل وذكوان، ودعا وقال: اللهم أنجي الوليد بن الوليد وغيره ممن دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسماهم بأسمائهم، ونسبهم إلى قبائلهم. وهذا كله يدل على أن المحرم من الكلام إنما هو كلام الناس بعضهم بعضاً في حوائجهم، فأما ما دعا به المرء ربه تبارك وتعالى وسأله إياه، فهذا لا أعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من اختلف فيه. والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فإنه قمن- أي: حري- أن يستجاب لكم) ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم دعاء دون دعاء، وكلما كان يجوز أن يسأل الرجل ربه في غير الصلاة، فهو جائز في الصلاة.(15/23)
مناظرة الشافعي مع الرشيد:
وكذلك من الأشياء التي حصلت له رحمه الله تعالى، لما دخل هو ورجل آخر على الرشيد ، فلما استويا بين يديه، قال: يا أبا عبد الله ! تسأل أو أسأل؟ قال: قلت: ذاك إليك، قال: فأخبرني عن صلاة الخوف أواجبة هي؟ قلت: نعم. قال ولم؟ فقلت: لقول الله عز وجل: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] فلتقم: هذا فعل أمر، فدل على أنها واجبة. قال: وما تنكر من قائل قال لك: إنما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فيهم، فلما زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت تلك الصلاة: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ قال: فقلت: وكذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنهم الصدقة؟- لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم تذهب الزكاة- فقال: لا. قلت: وما الفرق بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهما جميعاً؟ قال: فسكت. أي: الرشيد.
مناظرة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه:(15/24)
حصلت مناظرة بين الإمام الشافعي رحمه الله و إسحاق بن راهويه والإمام أحمد موجود يسمع في مسجد الخيف بمنى، مناظرة مشهورة جداً، وذلك أن الموضوع الذي أثير هو: ما حكم شراء بيوت مكة وبيعها وإجارتها؟ فكانت فتوى الشافعي الجواز، إسحاق بن راهويه يسأله، الشافعي يفتي بالجواز، فقلت: إي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة و عبد الرحمن و عمر وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كري بيوت مكة، وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه، فلما فرغت سكت ساعة، وقال: يرحمك الله -الآن إسحاق يحتج بكلام بعض الصحابة على عدم جواز ذلك في مكة وهذه مسألة خلافية عند أهل العلم على أية حال- فقال الشافعي : يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار)؟ لأنه تصرف فيها قبل فتح مكة وباعها- قال: فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها، قال إسحاق: أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم. فقلت: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وأخبرنا أبو نعيم، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك. فقال الشافعي رحمه الله: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: عطاء و طاوس و إبراهيم و الحسن، هل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟ ثم قال الشافعي مناظراً إسحاق: يقول الله عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [الحشر:8] المهاجرون من أين أخرجوا؟ من مكة ، نسب الدار إلى المالكين أو إلى غير المالكين؟ قال إسحاق: إلى المالكين، قال الشافعي : فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدار إلى مالك أم إلى غير مالك؟ قال إسحاق: نسبها إلى مالكها. فقال الشافعي : وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وأيضاً عمر بن الخطاب اشترى دار صفوان(15/25)
ليجعلها سجناً بمكة فكونه اشترى دار صفوان فهذا يعني أن شراء بيوت مكة جائز، وذكر له جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اشتروا دوراً في مكة وجماعة باعوها. فقال إسحاق: يقول الله عز وجل: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ أي: أنهم كلهم لهم حق العاكف والباد، فقال الشافعي : اقرأ أول الآية: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] قال الشافعي : والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [البقرة:125]؟ والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]؟ فدل ذلك أن قوله عز وجل: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ في المسجد خاص، فأما من ملك شيئاً فله أن يكري وأن يبيع. هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فبعضهم رأى جواز بيع بيوت مكة وشرائها وإجارتها، وبعضهم رأى منع ذلك كله، وتوسط الإمام أحمد فقال بجواز شراء وبيع البيوت في مكة ، وعدم جواز الإجارة. والمسألة من المسائل التي فيها مبررات من قال بالمنع، مثل: إن مكة يفد إليها الناس من جميع الأنحاء، فالأصل أن الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، لا نجيز التملك فيها؛ لأننا إذا أجزنا التملك ضيق الناس على الحجاج والعمار، فإذاً الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، وليس هناك أجرة ولا تأجير، فإذا انتهت حاجته من مكة ذهب، وجاء غيره فخلفه فيه، وبالنسبة لمنى ليس هناك خلاف، منى مناخ من سبق، فمنى الذي يأتي أولاً يأخذ المكان لا شك في ذلك، لكنهم اختلفوا في مكة ، هل يجوز البيع والشراء والتأجير فيها أم لا؟ هذه مسألة طويلة، وذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه في ترجمة الشافعي توسط أحمد رحمه الله بين الشافعي و إسحاق. وأيضاً مما يدل على فقهه رحمه الله، ما قال له عبد الله بن محمد بن هارون الفريالي ، قال: وقفت بمكة على حلقة(15/26)
عظيمة وفيها رجل، فسألت عنه، فقيل: هذا محمد بن إدريس الشافعي ، فسمعته يقول: سلوني عما شئتم، أخبركم بآية من كتاب الله، وسنةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول صحابي، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل جريء، ثم قلت له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ -الزنبور الذي يلسع، من أين تأتي للزنبور بآية وحديث؟- فقال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر و عمر ) وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه [أمر المحرم بقتل الزنبور]. فأولاً أتى بالآية وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ . ما هو الذي أتى من الرسول؟ (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر و عمر) وعمر أمر بقتل الزنبور، فهكذا أجاب رحمه الله تعالى.
تأديب الشافعي لطلابه:
وكذلك فإن من الأشياء التي كان الشافعي رحمه الله متحلياً بها ومجيداً لها: تأديب الطلاب، فمن الأشياء التي ورد فيها تأديب لطلابه أشياء كثيرة.
تأديب الشافعي لطالب في نفسه وسوسة في أمر التوحيد:(15/27)
كان أحد طلاب الشافعي قد وجد في نفسه أشياء من الوسوسة المتعلقة بأمرٍ من أمور التوحيد، مثل ما يجد بعض الناس أشياء يلقيها الشيطان عن الله عز وجل أو عن ذات الله من الشكوك والأوهام والوساوس ونحو ذلك، فقال أحد تلاميذه: صرت إليه في مسجد مصر، وقد هجس في ضميري مسألة في التوحيد، فأخبره عن هذا الشيء الذي في نفسه، فغضب الشافعي رحمه الله، وقال: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم. قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون -أي: في بلاد مصر- أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ هذه بعض الأشياء التي بعض الناس يتناقش فيها في أمور تتعلق بالتوحيد مما ليس عندنا دليل عليه، أمور من أمور الغيب، لأن قضايا الغيب يجب أن نمسك فيها، حتى أن الشافعي رحمه الله من الحكم التي قالها: "إن للعقل حداً ينتهي إليه". أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت: لا. قال: هل تكلم فيه أحد من الصحابة؟ قلت: لا. قال: تدري كم نجماً في السماء؟ قلت: لا. قال: فكوكب منها تعرف جنسه.. طلوعه.. أفوله.. مم خلق؟ قلت: لا. قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه! أي: الآن بعض المخلوقات العقل عاجز عن إدراكها، تتكلم في أمور تتعلق بالخالق مما لم يأت في الكتاب والسنة، ثم سألني عن مسألة في الوضوء، فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم أصب في شيء منها، فقال لي: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات، تدع علمه، وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله، وإلى قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... الآية ))[البقرة:163-164].
تأديب الشافعي لطلابه بآداب المناظرة:(15/28)
ومن تأديب الشافعي لطلابه: أنه كان إذا ناظره إنسان في مسألة وتعداها إلى غيرها ولم يفرغ من المسألة الأولى، قال له: ننتهي من هذه المسألة ثم ننتقل إلى ما تريد، دعنا ننتهي من المسألة الأولى، ثم ندخل في الثانية؛ لأن هذا من الآداب، تجد بعض الناس إذا ناقشوا تنقلوا في المسائل من هذه إلى هذه، لم يفرغ من الأولى حتى يدخل في الثانية والثالثة والرابعة، ويخلط الأمور، وتتعقد النقاشات، ولا ينتهي الناس إلى نتيجة، بسبب أنهم يفتحون أكثر من موضوع في نفس الوقت، ولا ينتهون لا من هذا ولا من هذا ولا من هذا، فكان الشافعي رحمه الله إذا ناظرة إنسان في مسألة وتعداها إلى غيرها قبل أن تنتهي، قال: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد، فإذا أكثر علي وأصر وألح الدخول في مسألة جديدة ولم تنته الأولى، قال: مثلك مثل معلم كان بالمدينة يعلم الصبيان القرآن من كراس، فأملى على صبي بسؤال نعجتك، يريد أن يملي عليه الآية التي فيها قول الله عز وجل: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ... [ص:24] فقال بسؤال ولم يدرِ ما بعده، المعلم في غفلة، فأراد أن يملي عليه بسؤال نعجتك، فقرأ الكلمة الأولى ولم يدرِ بالثانية، فمر رجل فقام إليه، فقال: أصلحك الله، بسؤال نعجتك أو بعجتك؟ -هو لا يدري نعجتك أو بعجتك- فقال له رجل: يا أبا عبد الله ! أفرغ من سؤال ثم سل عما بعده، إنما هو -ويحك- بسؤال نعجتك. وكذلك من الأشياء التي حصلت للشافعي رحمه الله تعالى أنه كان يوصي طلابه بالفقه، ويقول ليونس بن عبد الأعلى : يا أبا موسى ! عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه. بعض النباتات إذا زرعت -الآن- لا تثمر إلا بعد أعوام، قال: عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه، أي: أنه من النباتات التي ثمرتها عجلة تخرج بسرعة وهكذا الفقه، وكان يقول: "طلب العلم أفضل من صلاة النافلة".(15/29)
الشافعي وتأديبه لأبي ثور:
وكذلك فإنه -رحمه الله تعالى- كان من تأديبه لطلابه ما حصل ذات مرة أنه دخل بغداد ، فنزل في مكان فانصب الناس إليه، فاستووا في مجالسهم، حتى جاء أبو ثور بمسألة -قبل أن يرحب بالشيخ ويعطيه قدره ويؤنسه بالكلام، مباشرة دخل في السؤال، فهذا ليس فيه الأدب المطلوب مع العالم، مجرد أن ينزل يبادر بسؤال قبل شيء من الاستئناس معه والانبساط وشيء من السؤال عن الحال أو المودة- فلما بادره بالسؤال، قال: يا أبا ثور ! (الإيناس قبل الإسناس) -الإسناس ليست شركة الـ (D-H-L) هذه- فلم يدرِ ما قلت له، فقال: ما هو يا أبا عبد الله ؟! فقلت: الإيناس مسح الناقة بيدك حول ضرعها، والإسناس حلب ضرعها بيدك، قبل أن تحلب الناقة تمسح على الضرع وتؤنس الناقة ثم تحلب، فكأنه يقول: قبل أن تسأل العالم وتستخرج منه ؛ آنسه أولاً ثم اسأله (الإيناس قبل الإسناس) وهذا من علمه رحمه الله باللغة. وكان من تأديبه للناس أيضاً ما حصل مرة، قال محمد بن عبد الله بن الحكم : دخل رجل من الحرس يوماً على الشافعي وأنا آكل معه خبزاً فدخل وجلس يأكل معنا- بدون استئذان- فلما فرغ، قال الحارس: يا أبا عبد الله ! ما تقول في طعام الفجاءة؟- يسأل الشيخ الآن عن حكم إذا دخل على أناس أن يأكل معهم بدون استئذان- فقال الشافعي سراً: هلاّ كان هذا منه قبل الأكل.
ملاطفة الشافعي لأصحابه وحسن خلقه معهم:(15/30)
ومن ملاطفته لأصحابه وحسن خلقه وإحسان الظن بهم، قال ربيع بين سليمان : دخلت يوماً على الشافعي ، فقلت: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت ضعيفاً، فقلت: قوى الله ضعفك، فقال لي: يا ربيع ! أجاب الله قلبك ولا أجاب لفظك -أي: أجاب الله نيتك، لكن لا أسأله أين يجيب ما تلفظت به- إن قوى ضعفي علي قتلني -إن قوى الضعف صار الضعف قوياً- ولكن قل: قواك الله على ضعفك، فقال الربيع : والله ما أردت إلا خيراً، قال الشافعي : أجل والله يا بني! لو تشتمني صراحاً لعلمت أنك لم ترد، أي: أعلم أن نيتك طيبة، لكنه قصد أن يعلم رحمه الله تعالى. وكذلك فإنه رحمه الله كان ذكياً فطناً، وكان ذكاؤه ينعكس على فقهه وفتاويه. سئل الشافعي في رجل قال لامرأته وفي فيها تمرة: إن أكلتيها فأنتِ طالق، وإن طرحتيها فأنتِ طالق؟ يقول: ربما هذا إنسان يريد أن يطلق زوجته بأسلوب ابتكاري، ويمكن أنه ضاق بها ذرعاً وانتهز فرصة أنها وضعت التمرة في فمها، فسئل الشافعي رحمه الله عن هذا ماذا يفعل؟ فأجاب مباشرة، تأكل نصفها إذا طرحت النصف الآخر؛ لأنه إذا أكلت نصفها ما أكلتها، وتطرح النصف الثاني فما تكون قد طرحتها. وكذلك فإنه من حسن خلقه -أيضاً- ما روى المزني ، قال: كنت عند الشافعي يوماً ودخل عليه جار له خياط، فأمره الشافعي بإصلاح أزراره فأصلحها، فأعطاه الشافعي ديناراً ذهباً، فنظر إليه الخياط وضحك، فقال له الشافعي : خذه، فلو أحضرنا أكثر منه ما رضينا لك به، فقال له: إنما دخلت عليك لأسلِّم عليك، لم أدخل لأعمل عملاً، قال الشافعي : فأنت إذاً ضيف زائر، وليس من المروءة استخدام بالضيف الزائر، فإذاً لابد من إعطائك الأجرة.
فراسة الإمام الشافعي:(15/31)
كان -رحمه الله- صاحب فراسة، إذا ظن شيئاً يكون على ظنه، قال الحميدي : خرجت أنا و الشافعي من مكة ، فلقينا رجلاً بالأبطح، فقلت للشافعي: أزكن ما الرجل؟ -أي: خمن ما عمل هذا الرجل؟- فقال الشافعي عندما نظر إلى الرجل: نجار أو خياط، قال: فلحقته فسألته عن مهنته، فقال: كنت نجاراً، وأنا الآن أشتغل بالخياطة. وكذلك وردت قصة أخرى حملها ابن حجر رحمه الله، والقصتان على التعدد؛ لأن هذه شبيهة بتلك، عن محمد بن الحسن و الشافعي أنهما كانا قاعدين بفناء الكعبة، فمر رجل فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نزكن على هذا الرجل الآتي أي حرفة معه، فقال أحدهما: خياط، وقال الآخر: نجار، فبعثنا إليه فسألاه، فقال: كنت خياطاً وأنا اليوم نجار، فتحمل على أنها قصة أخرى. وكذلك قال الربيع : مر أخي في صحن الجامع، فدعاني الشافعي ، فقال: يا ربيع ! هذا المار الذي يمشي أخوك؟ قلت: نعم. ولم يكن رآه قبل ذلك. وقال المزني : كنت مع الشافعي في الجامع، إذ دخل رجل يدور على النيام الذين ينامون في المسجد، فقال الشافعي للربيع : قم فقل له: ذهب لك عبد أسود مصاب بإحدى عينيه؟ قال الربيع : فقمت إليه فقلت له، فقال: نعم. فقلت: تعال، فجاء إلى الشافعي ، فقال: أين عبدي؟ فقال الشافعي : تجده في الحبس، فذهب الرجل فوجده في الحبس. قال المزني : فقلت للشافعي : أخبرنا فقد حيرتنا، قال: نعم. رأيت رجلاً دخل من باب المسجد يدور بين النيام، فقلت: يطلب هارباً، ورأيته يجيء إلى السود دون البيض، فقلت: هرب له عبد أسود، ورأيته يجيء ليرى العين اليسرى، فقلت: مصاب بإحدى عينيه، قلنا: فما يدريك أنه في الحبس، فقال: هذا هو الغالب، أي: أنهم إذا جاعوا سرقوا، وإذا شبعوا أفسدوا، فتأولت أنه قد فعل شيئاً في ذلك، مادام أنه هارب يبحث عن شيء، فقد سرق وأنه في السجن.
اهتمام الشافعي بالواقع:(15/32)
كان الشافعي مشهوراً بالطب وحريصاً عليه، وله قولة عظيمة جداً تبين بعد نظر الرجل في الواقع، كان الشافعي رضي الله عنه يتلهف فيما ضيع المسلمون من الطب، ويقول: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى". لم يكن الشافعي رحمه الله يعجبه أبداً أن يكون اليهود والنصارى متفوقين في الطب؛ لأن مجال الطب مجال مهم جداً، وكان اليهود والنصارى بارعين فيه، والمسلمون عندهم شيء من القصور فيه، فكان الشافعي رحمه الله متحسساً جداً من هذه النقطة، وهذا يدل على أنه يدرك خطورة أن يكون بعض غير المسلمين عندهم احتكار أو شبه تفوق في هذا الجانب بحيث يحتاج إليهم المسلمون، ولاشك أن مهنة الطب فيها اطلاع على الأسرار، ولذلك قال الشافعي: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى" وله أقوال في الطب لعلنا نأتي على بعضها.
كرم الشافعي وعزة نفسه:(15/33)
كان للشافعي -رحمه الله- كرم وعزة نفس، ما كان يأخذ من الناس ويسأل، أفلست ثلاث مرات، فكنت أبيع قليلي وكثيري، حتى حلي ابنتي وزوجتي، ولم أستدن قط، ما مد يده إلى الناس ولا طلب شيئاً، وقال الربيع: رأيت الشافعي ركب حماراً، فمر على سوق الحذائين، فسقط سوطه من يده، فوثب غلام من الحذائين فمسح السوط بكمه وناوله إياه، فقال الشافعي لغلامه: ادفع تلك الدنانير التي معك لهذا الفتى، قال: لا أدري إن كانت تسعة أو سبعة، أي: أنه حتى لو أن واحداً ناوله شيئاً لابد أن يكافئه، حتى لا يكون لأحد عليه منّة. ومن مهارات الشافعي رحمه الله: إحسان الرمي، قال: كان همتي في شيئين: العلم والرمي، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة، ومر برجل يرمي، فقال له: أحسنت، وبرك عليه -دعا له بالبركة- ثم قال لغلامه: ما معك؟ قال: ثلاثة دنانير، قال: أعطها إياه، لهذا الرامي تشجيعاً على الرمي. كان الشافعي كريماً ينفق أمواله، فمرة قدم من اليمن ومعه عشرون ألف دينار إلى مكة ، فضربت له خيمة خارج مكة ، فما دخل مكة حتى كان قد فرق كل الدنانير على من حضره وعلى أصحابه، وعندما يكون العالم وطالب العلم عنده سخاوة نفس، وعنده كرم يحبه الناس ويحترمونه، وهذه من الأشياء المهمة، ليست القضية قضية علم، وإنما لابد أن يكون مع العلم أخلاق.
حسن الاستماع والتثبت في السؤال والجواب عند الشافعي:(15/34)
تميزت شخصية الشافعي رحمه الله بأشياء مهمة لطالب العلم، كما قال محمد بن الحسن : إن كان أحد يخالفنا فيثبت خلافه علينا فالشافعي ، فقيل له: فلِمَ؟ قال: لبيانه وتثبته في السؤال والجواب والاستماع، وهذه خصلات تفوت كثيراً من الطلاب، قد لا يحسنون الاستماع ولا الجواب، ولا يفهمون السؤال، ولا يتثبتون في النقل، فتحدث لأجل ذلك طامات. وكان للشافعي رحمه الله أقوال من الحكم المأثورة، فمن الأقوال التي تنسب إليه: 1- يقول: "ليس العاقل الذي يميز بين الشر والخير فيختار الخير، لا. إنما العاقل الذي يقع بين الشرين فيختار أيسرهما. فمعرفة أدنى المفسدتين هي فعلاً الدليل على قوة العقل. 2- وقال محمد بن عبد الله بن الحكم : رآني الشافعي ، وأنا أستمد من دواة على اليسار، الدواة على اليسار المحبرة، فقال لي: أشعرت أنه يقال: إن من الحماقة أن يضع الرجل دواته على يساره. 3- وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يسكن بلدة ليس فيها عالم ولا طبيب. 4- وقال: عجبت لمن يحتجم ثم يأكل من ساعته، كيف يعيش؟! أي: أنه لا ينصح بالأكل بعد الحجامة. 5- وقال أيضاً في الأشياء التي فيها دواء: العنب ولبن اللقاح وقصب السكر. 6- وكان يقول: عجباً لمن تعشى البيض المسلوق ثم نام كيف لا يموت؟! ففعلاً فإن من النصيحة ألا يتعشى أحد على البيض المسلوق.
بعض أبيات الشافعي الشعرية:
وأما بالنسبة لأشعاره، فقد كان للشافعي رحمه الله تعالى أشعار كثيرة وكثيرة جداً، وله ديوان عظيم، وأشعاره في غاية الجمال والجودة، فمن أشعاره:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا ... تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفي عنه يغيب
غفلنا لعمر الله حتى تداركـ ... ... ت علينا ذنوب بعدهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما ... مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
ومن أشعاره أيضاً:
لا خير في حشو الكلام ... ... إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل للفتى من ... ... منطق في غير حلمه(15/35)
وعلى الفتى لطباعه سمـ ... ... ـة تلوح على جبينه
ومما قاله أيضاً رحمه الله تعالى:
المرء إن عاقلاً ورعاً ... ... يشغله عن عيوبه الورع
كما العليل السقيم يشغله ... ... عن وجع الناس كلهم وجع
وقال:
ومنزلة السفيه من الفقيه ... ... كمنزلة الفقيه من السفيه
فهذا زاهد في قرب هذا ... ... وهذا فيه أزهد منه فيه
إذا غلب الشقاء على سفيه ... ... تنطع في مخالفة الفقيه
وهو الذي قال:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نورٌ ... ونور الله لا يهدى لعاصي
وهو القائل أيضاً:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
في كل يوم يبتديك بنعمة منه ... وأنت لشكر ذاك مضيع
وهو الذي قال:
نعيب زماننا والعيب فينا و ... ليس لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنبٍ ... ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ... ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
وهو الذي قال:
إن لله عباداً فطنا طلقوا ... ... الدنيا وخافوا الفتنا
ونظروا فيها فلما علموا ... ... أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا ... ... صالح الأعمال فيها سفنا
وهو الذي قال:
دع الأيام تفعل ما تشاء ... ... وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي ... ... فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلاً على الأهوال ... ... جلداً وشيمتك السماحة والوفاء
ورزقك ليس ينقصه التأني ... ... وليس يزيد في الرزق العناء
وقال:
وأرض الله واسعة ولكن إذا ... ... نزل القضاء ضاق الفضاء
صفات الشافعي الخلقية وموته:(15/36)
وكان الشافعي رحمه الله عز وجل من جهة صفة خلقته طويلاً سائل الخدين، قليل لحمة الوجه، طويل العنق، أسمر، خفيف العارضين -جانبتي اللحية- يخضب لحيته بالحناء، حسن الصوت والسمت، مهيباً فصيحاً، وكان طويل أرنبة الأنف، وكان مفلج الأسنان -أي: بين كل سن وسن فرجة- وكان رقيق البشرة، واضح الشبهة، معتدل القامة، لونه يميل إلى السمرة. ولما مات الشافعي رحمه الله نعاه كثيرٌ من أهل العلم، وفقدت الأمة بوفاته علماً رائعاً، ولكن نعيمه المدون والمنقول من طريق تلاميذه الذين وفقهم الله له لاشك أنه من الأشياء الكثيرة التي نحسب أن الرجل قد كسب بها طرقاً للخير توصل الثواب إليه وهو في قبره. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمه، وأن يجزيه خير الجزاء، عما قدم للإسلام وأهل الإسلام، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلمه وما ترك وخلف. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(15/37)
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )
عناصر الموضوع :
ما يستنبط من قوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً)
ما يستنبط من قوله: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ)
ما يستنبط من قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)
قوله: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ)
ما يستنبط من قوله عز وجل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
أهل البيت النبوي
ميزان التقوى وأهميته
الأسئلة
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الله سبحانه وتعالى يرضى عن عباده بقدر ما في قلوبهم من التقوى والخشية، فأكرم الناس أتقاهم لله عز وجل وأخشاهم له، أما اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل فهو من أجل أن يتعارفوا فيما بينهم ويتواصلوا، وقد كانت الجاهلية قديماً -أيضاً- وحديثاً تبني أسسها ودعائمها على التمييز بين البشر وتعبيد العباد للعباد، ولكن جاء الإسلام ليهدم هذا الأساس الجاهلي ويضع للناس ميزاناً للتفاضل بينهم، وهو ميزان التقوى.
ما يستنبط من قوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً)(16/1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أحمد الله إليكم -أيها الإخوة- الذي وفقنا وإياكم لحضور مجالس الذكر والانتفاع بمائدة القرآن، فإن مثل هذه الحلق من الأشياء التي يرضى الله عز وجل عن أصحابها، ويحفها بملائكته جل وعلا، ويسطرها لهم في صحائف حسناتهم إن شاء الله تعالى، لما في هذه الحلق من زيادة العلم والدين وزيادة الإيمان في قلوب المؤمنين: لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]. وقد تكلمنا- أيها الإخوة- في المرة الماضية عن بعض آفات اللسان أثناء تفسير سورة الحجرات، وكانت هناك أسئلة كثيرة، ولذلك سنقتصر الكلام في هذا الدرس على قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] ثم نجيب بعد ذلك على الأسئلة. ونسأل الله عز وجل ألا نتجاوز إن شاء الله الساعة الثامنة حتى لا نطيل على الإخوة، ومن أراد من الإخوة أن يذهب فله ذلك، فلا يشعر بالإحراج والأمر متسع إن شاء الله، وبإمكانه أن يسمع(16/2)
المحاضرة بعد ذلك.
الفائدة الأولى: المطابقة في تمثيل المغتاب بآكل الميتة
ذكرنا -أيها الإخوة- في التعليق على قول الله جل وعلا: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات:12] أن هذا مثل، وقلنا: إنه مثل ضربه الله جل وعلا للذي يغتاب الناس وينهش أعراضهم، مثله ربنا بالذي يأكل لحم إنسان ميت. وهذا المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى فيه مطابقة من حيث التمثيل فهو تمثيل بديع جداً، فكما أن الإنسان عندما يموت لا يحس بمن ينهش لحمه لغياب روحه عن جسده، فكذلك الشخص الذي يُغتابُ ويُنهشُ عرضُه غير موجود، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه، لأنه غائب كما أن الميت لا يستطيع الدفاع عن نفسه، لأن روحه قد فارقت جسده. وكما أن الميت يعجز عن رد آكله، فكذلك الذي يغتاب يعجز عن رد من يغتابه. والذين يأكلون لحوم البشر يتفكهون ويتلذذون بأكلها حسب مزاجهم الفاسد، كذلك أصحاب المزاج الفاسد من البشر الذين يغتابون الناس أيضاً يتلذذون ويتفكهون بنهش أعراض البشر.
الفائدة الثانية: تحريم الغيبة(16/3)
أيضاً يؤخذ منه فائدة تحريم الغيبة، لأن أكل لحم الموتى حرام، بل هو كبيرة من الكبائر، ولاحظ أن المثل يشمل أشياء كثيرة جداً، ليست البلاغة هي الموجودة فيه فقط، وإنما -أيضاً- الحكم، لأن المشبه يأخذ حكم المشبه به، فالمشبه به هنا أكل لحم الموتى، وأكل لحم الموتى حرام، وهو كبيرة من الكبائر، ولذلك أيضاً الغيبة حرام، وقال بعض العلماء: إنها كبيرة من الكبائر، لأن الله مثلها وشبهها بأكل لحم الميت وهو من الكبائر، والفائدة الأخرى أيضاً: تشنيع هذه الصورة في نفوس المؤمنين، فمن فوائد هذا التشبيه أن نفس الإنسان المسلم تكره سماع الغيبة وتكره الاغتياب، لأنها تسمع هذا التمثيل البشع: يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]. فهذه الأمثال- أيها الأحبة- لا يعقلها إلا العالمون، والله أمرنا أن نتدبر الأمثلة، فقال تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:25] لعلهم يتفكرون، لأولي الألباب وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]. تجد العجب العجاب في كتابة الذين يكتبون عن الأمثال مما فتح الله عليهم مثل ابن القيم رحمه الله تعالى عندما يفسر آيات فيها أمثال.
ما يستنبط من قوله: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ)(16/4)
وفي قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12]. ثلاثة أشياء متوالية، فيها تصحيح عجيب لسلوك الإنسان، كيف ذلك؟ يقول أحد أهل العلم في التفسير: تأمل كيف أن الله عز وجل حرم الظن السيئ بالمؤمنين، فالظن الجزاف الذي لا يعتمد على شيء حرمه الله جل وعلا، ثم لما حرم هذا الظن، حرم سلوك السبيل الذي يؤكد هذا الظن، وهو: التجسس، لأن الإنسان عندما يتجسس، فإنما يحاول أن يؤكد ظناً عنده؛ فحرم الله سوء الظن، وحرم السبيل لتأكيد هذا الظن، وهو التجسس، وحرم الغيبة التي هي التكلم بما تأكد له من التجسس. حرم الله ثلاثة أشياء متوالية: حرم الله سوء الظن -غير الظن الذي هو على قرار- ثم حرم سلوك السبيل لتأكيده وهو التجسس، ثم حرم التكلم عنا المسلم بما فيه حتى لو علمه وتيقن به، وذلك بتحريم الغيبة، وهذا كله لحماية أفراد المجتمع المسلم من جميع الآفات والشرور.
ما يستنبط من قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)(16/5)
ثم قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13] الذكر والأنثى هما- كما نعلم- آدم وحواء، وهذه الآية تفسرها آية في مطلع سورة النساء وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً [النساء:1]. (نفس واحدة) هي: آدم، ( خلق منها زوجها) من هذه النفس التي هي آدم خلق حواء، (وبث منهما) من هذا الرجل والمرأة (رجالاً كثيراً ونساء). والناس من جهة الذكر والأنثى أنواع كما أنهم من جهة اللون أنواع، ففيهم الأبيض والأسود والأسمر والحنطي إلى غيره، كذلك من جهة الشكل الخارجي، فهناك الطويل والقصير والسمين والنحيل، فكذلك من جهة الذكر والأنثى الناس أربعة أصناف: فمنهم من خلقه الله عز وجل من ذكر وأنثى، وذلك مثل عامة البشر تقريباً، ومنهم من خلقه الله بلا ذكر ولا أنثى، وهو آدم عليه السلام، ومنهم: من خلقه الله تعالى من أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام خلقه الله من أنثى بلا ذكر، ومنهم من خلقه الله من ذكر بلا أنثى كحواء، فقد خلقها الله من ذكر بلا أنثى. وهناك كلام مهم للعلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان عند تعليقه على قول الله عز وجل: مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [الحجرات:13] فإنه وضح الفوارق بين الذكر والأنثى، ووضح ما ينبني عليها من الأحكام الشرعية التي جعلت الطلاق والقوامة بيد الرجل، والحمل ورعاية الأبناء الصغار عند المرأة، فليراجع فإنه كلام جميل.
قوله: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ)
معنى الشعب والقبيلة(16/6)
شُعُوباً وَقَبَائِلَ [الحجرات:13] الشَّعبُ هو: الحي العظيم من الناس، الجماعة الكثيرة من الناس تسمى شعباً؛ مثل مضر وربيعة، فهما شعبان من شُعُوب العرب، والقبائل دون الشعوب في الاتساع والكثرة، مثل بني بكر من ربيعة وتميم من مضر، تميم قبيلة من شعب مضر، وبنو بكر قبيلة من شعب ربيعة، وأهل اللغة يصنفون هذه الأسماء من حيث القلة والكثرة ومسمياتها كالتالي، يقولون: أولاً: الشعب، وأصغر منه القبيلة، وأصغر من القبيلة العمارة، وأصغر من العمارة البطن، وأصغر من البطن الفخذ، وأصغر من الفخذ الفصيلة، وبعضهم قال: وأصغر من الفصيلة العشيرة. فمثلاً: إذا جئنا إلى نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإننا نجد أن خزيمة شعب خرجت منه كنانة، وهي قبيلة من قبائلهم، وخرجت من كنانة قريش وهي عمارة من عمائر كنانة، وخرج من قريش بنو قصي وهم بطن من بطون قريش، وخرج من هذا البطن فخذ وهم بنو عبد مناف، وخرج من هذا الفخذ بنو هاشم، وهم فصيلة الرسول صلى الله عليه وسلم.
نبذة عن الشعوبية
هناك كلمة مشتقة من هذه الكلمة ترد أحياناً في كتب المؤرخين المسلمين وهي كلمة" الشعوبية "، الشعوبية -أيها الإخوة- مذهب من المذاهب الضالة التي دفع أصحابها ضغائنهم الموجودة في قلوبهم ونفوسهم على الإسلام وأهله إلى كراهية العرب وبغضهم والتنقص منهم، وذكر معايبهم ومثالبهم، وقد ألف بعض الشعوبيين مصنفات في هذا، ومن بينهم أبو عبيدة الخارجي-وليس هو أبا عبيدة بن الجراح الصحابي المعروف- صنف كتاباً في مثالب العرب ونقائصهم، وكذلك ألف ابن غرسية رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب. أصحاب هذا الاتجاه يسمون بالشعوبيين وهم طائفة ضالة، ومن كره العرب بلا استثناء، فقد كفر، لأن منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كرههم بلا استثناء يكفر، لأن معنى ذلك أنه كره الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد رد عليها بعض علماء الأندلس وغيرهم من علماء المسلمين.(16/7)
الحكمة من تعدد الشعوب والقبائل
لماذا خلق الله الشعوب والقبائل؟ ولماذا خلقنا من ذكر وأنثى؟ ما هي الحكمة من جعلنا شعوباً وقبائل؟ يقول الله عز وجل: لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13] فالتعارف هو الحكمة التي من أجلها جعلنا شعوباً وقبائل: لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]. ومعنى لِتَعَارَفُوا : لكي ينتسب كل إنسان لأبيه، فيعرف أن فلاناً هو فلان بن فلان بن فلان من القبيلة الفلانية، أو العائلة الفلانية، ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من انتساب الإنسان لغير أبيه، أو انتساب المولى لغير مواليه تحذيراً شديداً، فقال في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو داود عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: (من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة) الذي يدعي أنه ابن فلان، ويسمي أباً له غير أبيه، وينتسب إليه، فهذا يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة).
ثمرات التعارف بين الشعوب والقبائل(16/8)
ومن نتائج هذا التقسيم إلى شعوب وقبائل: أولاً: صلة الأرحام حتى يكون الناس بينهم قرابات ويتزوج بعضهم من بعض: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الفرقان:54] جعل بينهم زواجاً ومصاهرةً وأنساباً، فالرجل يخرج منه ابنه، فهذا نسب، والرجل عندما يتزوج يصبح بينه وبين أهل زوجته مصاهرة، فهذه من الفوائد، فعندما يتعلم الإنسان الأنساب، يستطيع أن يعرف أرحامه، فيصلهم، ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعلم الأنساب في الحديث الصحيح بقوله: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأةٌ في الأثر) حديث صحيح. الآن لما صارت القضية فيها نسب وشعوب وقبائل، صار تعلم النسب واجباً، أوجب بعض أهل العلم تعلم النسب، لماذا؟ حتى يصل الإنسان رحمه، ويعرف من أبوه، ومن عمه، ومن جده، من هم أقارب الجد؛ والفروع والحواشي والأصول. الأصول هم: الأب والجد .. وإن علا، والفروع هم: الابن وابن الابن وإن نزل، والحواشي: العم والعمة والخال والخالة وأولادهم، فيتعلم الإنسان الأصول والفروع والحواشي حتى يصل رحمه، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، والذي يصل رحمه يكون محبوباً في العائلة بخلاف الإنسان الذي لا يصل رحمه، وهذا من النقاط المهمة التي يقع بسببها تقصير كثير من الدعاة إلى الله عز وجل. قد يقول الإنسان: أنا مشغول، ويترك أقاربه وأرحامه ولا يصلهم، ولا يعرف أخبارهم مع أنهم بقليل من الصلة قد يتأثرون به ما لا يتأثرون من غيره نتيجةً للقرابة الموجودة بينهم وبينه، يذهب ليدعو فلاناً البعيد مع أنه لا يعرف عنه شيئاً، ويترك أقاربه، والله قد قال لنبيه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] ويترك أقاربه مع أنهم بقليل من الجهد قد يتأثرون منه، ولا يتأثرون من غيره، لأن بينه وبينهم صلة وقرابة ومساهمة وعلاقة، فلا بد من استغلال هذه العلاقة في الدعوة إلى(16/9)
الله عز وجل والتأثير على هؤلاء الأقارب. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (مثراة في المال) ففيها قولان لأهل العلم: أحدهما: أن الله عز وجل ببركة صلة الرحم يبارك لك في مالك ويثريه لك وينميه ويبقيه ويكثره. القول الثاني: أن الإنسان إذا وصل رحمه، فإنهم قد يوصون إليه ببعض مالهم عند الموت للصلة الحسنة بينهم وبينه، وهم من غير الأقارب الذين حدد الله لهم نصيبهم في الإرث لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث). فقد يوصي الإنسان لقريبه البعيد، لأن بينه وبينه علاقة حميدة في صلة، أو شيء من ذلك، فقد تعود عليه المنفعة، لكن الإنسان عموماً إذا وصل رحمه، فلا يكن قصده المال، وإنما رضا الله عز وجل، والقيام بحقوق هؤلاء الأقربين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم (منسأة في الأثر) فمعناه يزيد عمره زيادة مكتوبة في اللوح المحفوظ ومقدرة عند الله عز وجل. توضيح المسألة: الإنسان إذا لم يصل رحمه، فقد يعيش أربعين سنة، فإذا وصل رحمه، عاش ستين سنة، ويكون مقدراً عند الله أن فلاناً إذا لم يصل رحمه فسيكون عمره كذا، فلو وصل رحمه -وكونه سيصل أو لا يصل مكتوب عند الله عز وجل- فسيزاد له في عمره، ولو لم يصل رحمه فسيبقى عمره كذا عند الله عز وجل، فصلة الرحم منسأة في الأثر، أي تطيل العمر.
ما يستنبط من قوله عز وجل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
ذم الفخر بالأنساب(16/10)
ثم يقول الله عز وجل: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] هذه قاعدة عظيمة جليلة من قواعد المجتمع الإسلامي يوضحها الله جل وعلا هنا في هذه السورة العظيمة، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الذي شرحت سنته كتاب الله وفصلته وبينته- يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد و أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية -العبية هي: الكبر، أي: إن الله قد أذهب عنكم بهذا الدين وبهذا القرآن الكبر الذي هو سمة من سمات أهل الجاهلية -وفخرها بالآباء، مؤمنٌ تقي وفاجرٌ شقي-أي: هناك قسمان: مؤمنٌ تقي وفاجرٌ شقي- أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوامٍ إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن). (ليدعن رجال فخرهم بأقوامٍ إنما هم فحم من فحم جهنم) بعض المسلمين آباؤهم كفار جاهليون، ومع ذلك يتفاخرون بآبائهم، وآباؤهم جاهليون وكفار، وهم فحمٌ من فحم جهنم، فكيف يتفاخر الإنسان المسلم بأبٍ له، أو جدٍ له من أهل الكفر؟ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم مهدداً هذا الصنف الذي لا يرعوي ولا ينزجر: (أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).
من أكرم الناس ؟(16/11)
وكذلك سأله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة -كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله عن أبي هريرة-: (من أكرم الناس؟ قال: أكرمهم أتقاهم). لاحظ أن جواب الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن من قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] (قالوا: يا نبي الله! ليس عن هذا نسألك؟ قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله) فيوسف عليه السلام أكرم الخلق من ناحية النسب لأنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق؛ وإسحاق ابن خليل الله، وخليل الله هو إبراهيم، وهو في ترتيب أولي العزم من الرسل بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، لأن أفضل أولي العزم الخمسة الرسول صلى الله عليه وسلم ويليه إبراهيم. (فقالوا له: ليس عن هذا نسألك؟ قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا). فكان الجواب الأول من جهة الأعمال الصالحة: ( أكرمهم أتقاهم )، وكان الجواب الثاني من جهة النسب الصالح: (نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله) فلا يمكن أن يكون نسب أعلى من هذا، ونلاحظ-أيها الإخوة- أن هذا النسب ليس عربياً، وكان الجواب الثالث: معادن العرب، وهي أصولهم التي ينتسبون إليها ويتفاخرون بها، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: تسألوني عن الأشياء التي تتفاخرون فيها من النسب والأصل والحسب، فهذا جواب ما تسألونني عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم ربط هذا المفهوم الجاهلي بالمفهوم الإسلامي في قوله: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) فالرسول صلى الله عليه وسلم وضح لهم أنه ليس المقصود في هذا كرم الأصل وكرم النسب فقط؛ بل قال: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) أي أن أشرف الناس من جمع ثلاثة أوصاف: أنه كان شريفاً في الجاهلية، أي: من قبيلة عظيمة، ثم دخل في الإسلام -الشرف الحقيقي- فانضم شرف الإسلام إلى(16/12)
ذلك الشرف الأول، ثم انضم إلى الشرف الأول والثاني الشرف الثالث وهو الفقه في الدين، فمن كان ذا حسب مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الناس حسباً ونسباً، حتى الجاهليون كانوا يعظمون نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انضم إليه شرف الإسلام، وانضم إليه شرف الفقه في الدين، فمن نال هذه الثلاثة مع بعضها، فقد حاز الشرف كله، والذي يلي هذا في المرتبة من كان شريفاً في الإسلام وفقيهاً، ولم يكن ذا شرف في الجاهلية، فهو يلي الأول في المرتبة، وهو أحسن ممن كان شريفاً في الجاهلية شريفاً في الإسلام ولم يكن عنده فقه في الدين، أي أن: من كان شريفاً في الإسلام وفقيهاً في الإسلام، ولم يكن ذا شرف في الجاهلية هو أحسن من الذي يكون شريفاً في الجاهلية شريفاً في الإسلام ولكن لم يتفقه في الدين. وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم نعرة الجاهلية بأنها منتنة، فقال: (دعوها فإنها منتنة). ولما جاء أبو هند أحد الصحابة يخطب من بني بياضة ابنتهم ولم يكن حسيباً نسيباً يكافئهم في النسب، رفضوا أن يزوجوه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: (يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه) أي: أعطوه ابنتكم، وتزوجوا منه فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بتزويجه وهو غير مكافئهم في النسب، فهو ليس مثلهم، وربما كان أقل منهم في الدرجة وفي النسب، ولكن الإيمان لا يمنع الزواج، وهذا فيه قضاء على الجاهليات التي تكون بين الناس في قضية القبيلي والخضيري، هذا من قبيلة، وهذا له أصل، والناس يضعون العقبات، قد يكون في الرجل دين وخلق وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) فيضعون هذه العراقيل الجاهلية والعقبات الجاهلية أمام هذا الشاب الذي يريد الزواج، ويمنعونه من الزواج لهذه الحجة التافهة. وقد قال أهل العلم: إن الكفاءة في النسب لا تشترط، فإذا جاءك شاب ذو دين وخلق وهو نسيب، وشاب ذو دين(16/13)
وخلق وهو غير نسيب، فقدم الأول، ولا مانع من هذا، إنما المذموم أن يتقدم إليك شاب يريد الزواج وهو ذو دين وذو خلق، ولكنه ليس نسيباً، أو ليس من قبيلة معروفة أو عائلة لهم مكانة سامية، فتمنعه، وتزوج ابنتك إنساناً فاجراً، أو إنساناً -والعياذ بالله- من أصحاب الكبائر، أو إنساناً عاجزاً، وذاك إنسان تقي وورع، تتركه لأجل أنه ليس نسيباً وتزوج هذا، فهذا- لعمر الله- فيه خراب المجتمعات، إذا صار المقياس في التزويج قضية النسب فقط، فهذا فيه خراب للمجتمعات.
أهل البيت النبوي
نتعرض هنا لآل الرسول صلى الله عليه وسلم، الرسول صلى الله عليه وسلم له رحم من فاطمة و علي ؛ وهؤلاء آل الرسول صلى الله عليه وسلم ونسله. وهناك كلام طويل للعلماء واختلاف حول من هم آل الرسول صلى الله عليه وسلم بالضبط. ولكن آل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم حقٌ علينا، إذا ثبت لديك أن هذا فلان من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب عليك أن توقره وتحترمه، لأن له نسباً موصولاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لكن إذا ثبت هذا، فإن الدعاوى في هذا كثيرة، وكل واحد يقول: نحن من أصل نرجع إلى الرسول، نحن نرجع إلى الحسن ، ونحن من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منهم كثير دجالون كذابون يريدون أن يصلوا إلى قلوب الناس، ويسرقون منهم التوحيد، ويوقعونهم في شرك الصوفية وغيرها.
مقارنة بين تقي ونسيب(16/14)
ويحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجتمع وكان فاسقاً ظاهر الفسق، وكان هناك مولىً أسود تقدم في العلم والعمل، فأكب الناس على تعظيمه، فاتفق أن خرج هذا المولى الأسود من بيته إلى المسجد، فاتبعه خلقٌ كثيرٌ يعظمونه ويأخذون عنه العلم، فلقيه الشريف سكراناً، الشريف لقي هذا الرجل في الطريق وهو سكران فكان الناس يطردونه عن طريق المولى هذا الرجل العالم، فغلبهم هذا السكران بقوة وتعلق بأطراف الشيخ، وقال له: يا أسود الحوافر والمشافر! يا كافر ابن كافر! أنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذل وأنت تجل! وأهان وأنت تعان! فهم الناس بضربه، فقال الشيخ: لا تفعلوا، هذا محتملٌ منه لجده -فأنا أتنازل عن حقي في السب والشتيمة من أجل جده الرسول صلى الله عليه وسلم- ولكن أيها الشريف! بيضتُ باطني وسودتَ باطنك -يقول: أنا بيضت باطني وأصلحت نيتي وأنت سودت باطنك- فرأوا بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنتُ، ورأوا سواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحتَ، وأخذتُ سيرة أبيك -يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم- وأنت أخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك، ورأوك في سيرة أبي، فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) فاحترام العلماء من الواجبات. ولذلك يقول الشاعر:
ولا ينفع الأصل من هاشمٍ إذا كانت النفس من باهلة(16/15)
وباهلة: قبيلة من قبائل العرب، وكان فيها أشياء تشينها، منها: أنهم كانوا يغلون عظام الميتة ويشربونها، كان يفعلون أشياء تشين بالنفس، ولذلك كانوا في الجاهلية مذلين من قبل العرب، كانت أذل قبيلة هي باهلة، حتى قيل لأعرابي: أترضى أن تدخل الجنة وأنت من باهلة؟ قال: لا، إلا ألا يعلم أهل الجنة أني من باهلة. وقبيلة باهلة دخلها الإسلام، ودخل الإسلام صحابة كبار من قبيلة باهلة، فمن الخطأ الاعتقاد السيئ في قبيلة باهلة، وهو شيء جاهلي، وحين جاء الإسلام، صار الانتساب للإسلام، فإذا كان من قريش رجل فاجر فهو ذليل، ولو كان من باهلة وهو مسلم تقي، فهو عزيز، ولذلك قال الله عز وجل لنوح عليه السلام: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] مع أنه ولد نوح لصلبه، يقول له: إنه ليس من أهلك، لأنه كفر: قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ [هود:43] وذكره الله مع الكافرين، فقال الله عز وجل يعلم نوحاً، ويعلم المؤمنين من بعده إلى قيام الساعة: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] فنفى الله عن نوح هذا الولد، وجعله يتبرأ منه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] وكذلك إبراهيم عليه السلام، فكما أنه ما نفعت نبوة نوح ابن نوح، كذلك ما نفعت نبوة إبراهيم أبا إبراهيم، فهذا آزر أبو إبراهيم مات على الكفر، والله عز وجل يوم القيامة- كما في حديث البخاري - معنى الحديث يقول: (يقول إبراهيم لله عز وجل: لا تخزني يوم يبعثون فيقول الله: إني لا أدخل الكفار إلى النار، فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه، ثم يلقى في النار) أي: يمسخ الله عز وجل آزر هذا بشكل ضبع متلطخ بقذارته، ثم يؤخذ هذا الضبع المتسخ من قوائمه ويوضع في النار، فهذا مصير أبي إبراهيم، يمسخ ضبعاً متسخاً، ثم يؤخذ به ويلقى في النار.
ميزان التقوى وأهميته(16/16)
إن جنسية المسلم عقيدته، والمكانة في الدين ليست بالحسب والنسب، وإنما هي بالتقوى، ويجب أن يكون هذا هو المقياس الصحيح والميزان الحق في عقول الناس، ويجب أن نعلم الناس هذا المقياس، لأنه ينبني عليه أشياء كثيرة. والناس الآن يتعاملون فيما بينهم بموازين عجيبة، يقولون: هذا كذا، وهذا كذا؛ مع أنه مسلم، بل قد يكون أفضل منهم علماً وتقوى. أحد الناس أخبرني بقصة أن أحداً من الناس عنده خادم هندي في البيت، ولكنه رجل مسلم يطيع الله عز وجل ويقوم الليل ويعمل الصالحات، وصاحب البيت عاصي، وفي يوم من الأيام خصم صاحب البيت من المعاش على هذا، أو آذاه في شيء، فدعا عليه الهندي، فاستجاب الله دعوته، فالقضية ليست قضية هندي وعربي أو كذا، بل القضية قضية تقوى وإيمان، فكلما ازدادت التقوى وازداد الإيمان، قرب العبد من الله عز وجل، ولذلك يقول الشاعر:
فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
الإسلام رفع سلمان الفارسي ، ووضع الكفر الشريف أبا لهب ، فأبو لهب شريف، وهو عم الرسول، لكن وضعه الكفر، وذكر عن سلمان أنه كان يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
بعض الناس يقول: أبي كان وكان، فهو يفتخر بعظام ناخرة وعظام بالية، وافتخار الرجل بأبيه كافتخار الكوسج بلحية أخيه، والكوسج: هو الإنسان الذي لا تنبت له لحية، فالذي يفتخر بأبيه افتخاره مثل: افتخار الكوسج بلحية أخيه، وافتخار هذا لا ينفعه.
وأعجب شيءٍ إلى عاقلٍ أناسٌ عن الفضل مستأخرة
إذا سئلوا ما لهم من علا أشاروا إلى أعظمٍ نخرة
إذا قلت له: ماذا صنعت؟ قال: جدي كان كذا وأبي كذا، صحيح ذاك جدك عليه رحمة الله، لكن ماذا فعلت أنت؟ وهل سينجيك أبوك يوم القيامة؟ واشتهر عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال:
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهمُ آدم والأم حواء
نفسٌ كنفسٍ وأرواحٌ مشاكلةٌ وأعظمٌ خلقت فيهم وأعضاءُ(16/17)
فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدر كل امرئٍ ما كان يحسنه وللرجال على الأفعال سيماءُ
وضد كل امرئ ما كان يجهلهُ والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
واختتم الله الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13] أي: عليم بنياتكم وعليم بأعمالكم وخبير بما تفعلون، وخبير بمراتبكم عنده؛ ودرجات الجنة ليست بدرجات القبائل؛ وإنما هي بحسب الأعمال والتقوى. وفقني الله وإياكم لأن يجعلنا ممن يتقيه، فيجعلنا من الأكرمين، ويدخلنا جنة النعيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الأسئلة
حكم قراءة الحائض للقرآن ومسها للمصحف
السؤال: هل يجوز قراءة القرآن للمرأة الحائض؟ الجواب: مجرد القراءة من غير مس، رخص فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. والعلماء منهم الشيخ: ابن باز لما سئل عن المرأة التي تدرس أو الطالبة إذا كان عندها اختبار: ماذا تفعل؟ فقال: لهذه الضرورة لا بأس أن تمسك المصحف بخرقة أو بعازل وتقرأ فيه لضرورة الامتحان، أو لضرورة التدريس، ولكن -كما نبه بعض أهل العلم- غلاف القرآن من القرآن، أحدهم يقول: هذا غلاف، فهو عازل، وليس هو كذلك، لأن غلاف القرآن من القرآن، ولذلك يجب أن يأتي بشيء منفصل عن القرآن حتى يجوز للحائض أن تمسك المصحف وأن تقبضه.
حكم إزالة شعر اللحية والشارب للمرأة(16/18)
السؤال: ما هو النمص؟ وهل إزالة شعر الشارب واللحية بالنسبة للمرأة جائزة أم لا، وكذلك شعر القدمين والرجلين؟ الجواب: النمص هو إزالة الشعر، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة، النامصة: التي تزيل شعر حاجب المرأة، الكوافير التي تزيل شعر حاجب المرأة تسمى نامصة. المتنمصة هي: التي تطلب إزالة شعر حاجبها، تذهب إلى هذه المزينة، فتقول لها: اعملي لي كذا، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة. ونفصل في قضية الشعور: الشعر ثلاثة أقسام: قسم أمر الله بإزالته، وقسم أمر الله بإبقائه، وقسم مسكوت عنه، فالقسم الذي أمر الله بإزالته مثل: شعر العانة وشعر الإبط، فهذا أمر الله بإزالته، وشعر أمر الله بإبقائه كشعر اللحية، فهو شعر أمر الله بإبقائه. ويدخل في الشعر الذي أمر الله بإبقائه شعر الحاجبين للمرأة، وشعر مسكوت عنه كشعر اليدين وشعر الرجلين وشعر الفخذ والصدر والدبر، هذا الشعر مسكوت عنه إلا من ألحق من العلماء إزالة شعر الدبر بحلق العانة، لأن المقصود إزالة ما يمكن أن تتعلق فيه النجاسة، فألحق بعضهم شعر الدبر بشعر العانة في إزالته، فالشعر المسكوت عنه يحل للإنسان أن يبقيه أو يزيله، ليس هناك إشكال. بقي شعر المرأة على وجهها، هل يعتبر إزالة غير شعر الحاجبين تغييراً لخلق الله أم لا يعتبر تغييراً؟ أي: إذا نبت للمرأة شارب، أو لحية -وقد يحدث هذا- فهل يجوز لها أن تزيله أو لا يجوز؟ هذه مسألة جاء فيها أقوال مختلفة لأهل العلم، فمنهم من حرم الأخذ نهائياً مثل ابن جرير الطبري قال: يحرم على المرأة أن تزيل ما اتصل بحاجبيها، يعني: إذا اتصل الحاجبان مع بعض، أو اتصل بشعر الرأس، يحرم عليها أن تزيله، وكذلك الشارب واللحية إذا نبتت، لأن هذا تغيير لخلقة الله سواء أذن الزوج أو لم يأذن. النووي رحمه الله على العكس من ذلك، يقول: يجوز للمرأة أن تحلق أو تزيل شعر شاربها وشعر اللحية إذا نبت لها، بل قد يستحب ذلك(16/19)
إذا أدى إلى الأذى، و ابن حجر رحمه الله رأيه مثل رأي النووي ، لكن يقيد ذلك بإذن الزوج، أي: لو أذن لها الزوج بإزالة شعر الشارب، أو شعر اللحية، جاز لها ذلك، وإن لم يكن بإذنه فلا يجوز لاحتمال التلبيس، أي: أنها قد تزيله في فترة، فيأتي الزوج ويرى المرأة بهذا الشكل وهي مزيلة للشعر، فيتزوجها ويرغب فيها على أساس هذا الشكل، فبعدما يتزوجها يراها في شكل آخر، فهذا فيه تدليس، ففي هذه الحالة لا تجوز الإزالة، فابن حجر يقيدها بإذن الزوج. الشيخ عبد العزيز يقول: إذا نبت للمرأة شعر اللحية أو الشارب فإنها تأخذه، لأن فيه مثلة، المثلة هي: التشويه، يقول: يجوز لها أن تأخذ هذا الشعر، لأن فيه تشويه وأذى، وقد يتسبب -باحتمال تسعين في المائة- في أن الزوج يكرهها لهذا المنظر، وأصلاً هذا ليس مكان النمو الطبيعي لشعر المرأة، فحلقه ليس من تغيير خلق الله، لأن خلق الله أصلاً أنه ليس لها شعر، هذا رأيه، وأنا أذكر آراء العلماء ولست مرجحاً.
حكم قطع الصلاة لمن دعته أمه
السؤال: يقول: ما حكم من قطع صلاته إذا نادته أمه، هل يجوز، أم لا يجوز؟ الجواب: بعض العلماء أخذ الحكم من قصة جريج العابد من بني إسرائيل حين نادته أمه، فلم يرد عليها ثلاث مرات، ثم دعت عليه، قالوا: يجوز للإنسان المصلي أن يقطع صلاته إذا نادته أمه أو أبوه في صلاة النافلة، فإذا كنت تصلي أي صلاة غير الفرض، ونادتك أمك أو أبوك، فتجيبهما وتقطع الصلاة، وخصوصاً إذا خشيت أن يغضبوا، وإذا كان المصلي في آخر الصلاة أكملها، لكن إذا كان في أول الصلاة ويخشى غضب أبيه أو أمه إذا تكرر النداء، فعند ذلك يجوز له أن يقطع الصلاة ويذهب ويجيب أباه وأمه، ثم يعود ويبدأ الصلاة من جديد؛ فهذا من حق الوالدين، فقد بلغ حق الوالدين على الأبناء أن أجيز للمصلي الابن أن يقطع الصلاة من أجل إجابة والديه.
حكم انتهاء الصلاة بتسليمة واحدة(16/20)
السؤال: هل يجوز للإمام أن يسلم في انتهاء الصلاة تسليمة واحدة؟ الجواب: حديث التسليمة ضعفه بعض أهل العلم، وصححه بعضهم، فلو ثبت عند أحد منكم الحديث واقتنع بصحته، فيجوز له أن يسلم تسليمة واحدة.
التوفيق بين حديث : (اختلاف أمتي رحمة) وقول الله: (وأصلحوا بين أخويكم)
السؤال: كيف نوفق بين ما جاء في سورة الحجرات من أن الإصلاح بين المتخالفين سبب من أسباب الرحمة، وبين ما يروى مما اشتهر بين المسلمين أنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة)؟ الجواب: السائل أراد تضعيف الحديث بقوله: (يروى) لأن (يروى) من ألفاظ التضعيف، لكن هذا الحديث ليس بضعيف، بل هو باطل، فإن من أقسام الضعيف حديث باطل، ثم إن التوفيق إنما يكون في الأحاديث الصحيحة إذا تعارضت، وهذا حديث لا يصلح للمعارضة أصلاً، لأنه ليس صحيحاً بل هو باطل، بل الاختلاف شر، والله عز وجل حذر من سبل التفرقة حيث قال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فاتضح من ذلك أن التفرق مذموم في القرآن والسنة.
عود الضمير في قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه)
السؤال: ذكرت ضمن كلامك آية في توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه الآية: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9] فهل هنا الضمير يعود على الله أم على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لأنه في آخر الآية يقول الله عز وجل: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:9]؟ الجواب: أهل التفسير اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ فبعض أهل العلم قالوا: إن الضمير في قوله تعالى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والضمير في قوله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:9] يرجع إلى الله عز وجل. والتعزير هنا بمعنى النصرة والتأييد.
تغيير المنكر في المدارس(16/21)
السؤال: في إحدى المدارس المتوسطة، وفي الصف الذي أنا أدرس فيه تحدث بعض التصرفات الشاذة لبعض الطلبة في الصف عند خروج المدرس، وهذه الأعمال لا ترضي الله، وأنا أتألم عندما أرى هذا الشيء، فهل أخبر عنهم من يهمه الأمر، أم لا؟ الجواب: طبعاً يا أخي: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) فعليك أن تنصحهم وتحذرهم بأنك ستخبر الإدارة، فإن لم يرجعوا عن تصرفهم، فلتذهب إلى من يوثق بدينه من المدرسين، لأنه قد تخبر أحد المدرسين فلا يفعل شيئاً، فتحر من يوثق بعلمه ودينه من المدرسين أو من الإدارة، وليكونوا من الذين في قلوبهم غيرة على الإسلام والمسلمين وعلى المنكرات، وتخبره بهذا.
كفارة التائب من تعليق التمائم
السؤال: هل على التمائم كفارة؟ الجواب: إذا علق أحد الناس تميمة، ثم تاب فما عليه كفارة، إنما الكفارة هي التوبة إلى الله عز وجل منها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمةً فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعةً فلا ودع الله له). وهذا تحذير شديد من تعليق التمائم، ولو على الأطفال الصغار، ولو كانت من القرآن في أصح أقوال أهل العلم، لأنها تؤدي إلى امتهان القرآن عند دخول الخلاء، ولأنها تفضي إلى تعليق ما ليس بقرآن، ربما علق أحدهم دعاء، أو آية الكرسي، لكن بعضهم يعلق دعاء فيه توسل بالصالحين، وهكذا تتطور القضية.
ترك الجدال إذا لم يكن فيه فائدة
السؤال: كيف تجادل الذي يجادلك في السنة ويقول: إنها بدعة، ويقول لك: قال الله وقال رسوله، أو قال الشيخ على الأقل؟ الجواب: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] فإذا صار الجدال عقيماً لا ينفع، فالسكوت في هذه الحالة هو المطلوب.
الحكمة في الدعوة(16/22)
السؤال: تقول السائلة: إن لها أختاً ملتزمة، ولكن عندما أقول لها: افعلي كذا، تقول: نعم، لكن بغير رضا، فماذا أفعل لها؟ الجواب: الإنسان في نفسه كبرياء، إلا من عصم الله فإنه لا ينزعج، ولا بد من الحكمة في الدعوة، ومن الدعوة إلى الله الموعظة الحسنة والأسلوب الحسن حتى لو كان الشيء صحيحاً، فإنك قد تنفر الناس بأسلوبك الخاطئ، وكثيراً ما يحدث هذا، يكون المدعو إليه شيئاً حسناً، لكن طريقة الدعوة تجعل الناس ينفرون من هذا الكلام الذي تقوله.
قصة محاولة نبش القبر النبوي
السؤال: يقول: سمعت أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قد حاول بعض الناس نبشه في عهد بعض الخلفاء، أرجو أن تذكر هذه القصة؟ الجواب: أنا لا أعرف هذه القصة، لكن ذكر ابن تيمية رحمه الله في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم أن بعض الناس في عهد بني أمية بنوا على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد لما تولى الخلافة أزال هذه الأشياء من فوق القبر، أو قال: إنها لما أزيلت، بدت قدم ففزع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، فقال له عروة بن الزبير : لا تجزع يا أمير المؤمنين، هذه قدم عمر بن الخطاب .
درجة حديث (مطل الغني ظلم)
السؤال: ما رأيك في حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)؟ الجواب: في المرة الماضية قلنا: أنه ضعيف، وهو حديث حسن في صحيح الجامع .
كتب ينصح بقراءتها
السؤال: أريد أهم كتب ابن القيم رحمه الله؟ الجواب: كتب ابن القيم كلها طيبة وفيها فوائد كثيرة، ولكن من الكتب الطيبة جداً كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وكتاب: زاد المعاد ، ولطلبة العلم كتاب: مفتاح دار السعادة .
حكم دخول المرأة المسجد حائضاً(16/23)
السؤال: ما حكم من تدخل المسجد لحضور حلقة العلم، وبها الدورة الشهرية؟ هل عليها إثم؟ وسمعت من بعض المدرسات أنه يجوز. الجواب: لا يجوز دخول الحائض إلى المسجد، وذكره الشيخ عبد العزيز قال: لا بأس أن تجلس خارج المسجد وتسمع الدرس أو المحاضرة.
حكم تأخير صلاة العشاء
السؤال: يقول: ما حكم تأخير صلاة العشاء إلى التاسعة أو العاشرة مساءً على سبيل الأفضلية؟ وما حكم جهر المرأة بالصلاة إذا كانت في بيتها لوحدها ولا يسمعها أي رجل؟ الجواب: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤخر بعض الصلوات، ويعجل بعض الصلوات، فمن الصلوات التي كان يؤخرها صلاة الظهر وصلاة العشاء، فيقول: (أبردوا بالصلاة) أي: صلاة الظهر حتى تميل الشمس، وذلك من شدة الحر، وأخر صلاة العشاء مرةً إلى نصف الليل، وبين الحكم في تأخيرها، لكن الآن في المساجد الصلوات مؤقتة، ويصعب أن تؤخر الصلاة إلى نصف الليل، أو إلى قرب نصف الليل، أما بالنسبة للمرأة التي لا تجب عليها صلاة الجماعة، فلا بأس أن تؤخر صلاة العشاء، ويكون ذلك أكثر أجراً لها. أما حكم جهر المرأة، فالمرأة مثل الرجل في الصلوات الجهرية والسرية، وليس هناك تخصيص، فيجوز لها أن تجهر في الجهرية وتسر في السرية، وذلك عند عدم سماع الأجانب لها.
حكم خروج الرجل بعد الأذان من المسجد
السؤال: إذا دخل المسلم المسجد هل يجوز أن يخرج منه قبل أداء صلاة الفريضة؟ الجواب: حديث أبي هريرة في صحيح البخاري : إنه رأى رجلاً خرج بعد الأذان، فقال: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم) لذلك لا يجوز للإنسان أن يخرج بعد الأذان، ولو دخل المسجد وكان المؤذن قد أذن، فلا يجوز له أن يخرج إلا أن يكره على الخروج أو لضرورة.
نصيحة لمن ينام عن صلاة الفجر(16/24)
السؤال: يقول: إني لا أقوم الفجر، فماذا أفعل؟ الجواب: قضية القيام لصلاة الفجر مشكلة، لكن من الأسباب، فنرجو أن يسامحه الله عز وجل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد واجبة، وما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، فلو كان القيام لصلاة الفجر لا يمكن أن يتم إلا إذا نمت، فيجب عليك أن تنام مبكراً، وتأثم إذا نمت متأخراً، إذا كنت تعلم أنك لو نمت متأخراً فلن تقوم إلى الصلاة، لذا فإنك تأثم لو نمت متأخراً، حتى ولو كان ذلك السهر في طلب العلم، وعليك أن تعمل بالأسباب. مثلاً: توصي أحداً من الجيران أن يدق عليك بالهاتف، وهناك الآن خدمة الساعة المنبهة، فلا بد من اتخاذ الأسباب، فإذا اتخذ الأسباب ولم يقم إلى الصلاة، فالله عز وجل لا يعاقب النائم.
معنى كلمة: الوحي
السؤال: وردت كلمة: الوحي فما المقصود؟ الجواب: المقصود: القرآن والسنة، لأن الحديث وحي من الله، الشافعي رحمه الله بين أن الوحي هو: القرآن والسنة.
إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء
السؤال: هل يجزئ غسل الجنابة عن الوضوء؟ الجواب: نعم.
خروج الريح لا يوجب الاستنجاء
السؤال: إذا خرج الإنسان منه ريح فهل يجب عليه الاستنجاء؟ الجواب: لا، خروج الريح لا يوجب الغسل ولا الاستنجاء.
مشكلة ثوران الشهوة عند الشباب(16/25)
السؤال: أنا عندما تأتي شهوتي أفعل شيئاً فما حكم ذلك؟ الجواب: قد يشير السائل إلى استخدام العادة السرية، والأرجح من كلام العلم أنها محرمة لقوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المعارج:29-31]. ولا شك أن ممارستها تسبب أضراراً، وينصح كل شاب بالزواج، بل قد يجب عليه وجوباً. وإن كان غير مستطيع للزواج، فعليه أن يذهب مع الدعاة للعلم والتعلم والدعوة حتى لا يجد لحظة فراغ، فلا يستلقي على السرير إلا وينام من التعب، وعليه بالأعمال الصالحة فهي من أعظم العلاجات.
بم تدرك صلاة الجماعة؟
السؤال: يقول: إذا أدرك المصلي التسليمة الثانية، فهل أدرك الصلاة؟ الجواب: الصلاة لا تدرك إلا بالركوع، أي أن أجر صلاة الجماعة ما يدرك إلا إذا أدرك الركوع، والتسليمة الثانية سنة والأولى فرض على التحقيق، فإذا سلم الإنسان التسليمة الأولى، حل من الصلاة لأن تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فالتسليمة الأولى تعتبر التسليم، ويؤيد هذا القول الأحاديث الواردة في التسليمة الواحدة، فلذلك من أدرك التسليمة الثانية لا يعتبر من الذين أدركوا الصلاة، فإذا دخلت المسجد ووصلت الصف، وسلم الإمام التسليمة الأولى فلا تجلس ولا تصل معهم، بل تنتظر إلى الجماعة التي بعدها.
حكم لبس السلاسل الفضية والساعات المزينة للرجال(16/26)
السؤال: ما حكم لبس السلاسل للرجال؟ وإن لم تكن من ذهب؟ الجواب: يعني: لو كانت من فضة. أجاب على هذا الشيخ عبد العزيز بن باز جزاه الله خيراً، يقول: هذا ليس بمعتاد من فعل الرجال، ولذلك لا يجوز وفيه تشبه بالتزين، وإنما يكون التزين بهذه الأشياء للنساء. ويستثنى من هذا الحكم الخاتم لورود النص به، وأما الساعة فيجب أن ندقق فيها، والمفروض أن يكون الغرض من لبس الرجل للساعة هو المعرفة للوقت، لا لشيء آخر. فإذا اشترى أحد الناس ساعة جميلة ومزخرفة، فهل يجوز له لبسها أم لا؟ إذا كان لبسه لها للزينة، وليس لمعرفة الوقت، فعند ذلك يكون هذا فيه تشبه بالنساء، وهذا حكمه معروف. فلذلك ينبغي للرجال أن يتنبهوا لهذا، والمسألة تحتاج إلى زيادة تفصيل.
درجة حديث (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً)
السؤال: يقول: ما مدى صحة حديث: (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً، كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من الشرك)؟ الجواب: الحديث هذا حسن كما في صحيح الجامع: (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً، كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من الشرك) أي: من أدركها أربعين يوماً في الصلوات المفروضة المتتالية.
شكوى الصحابة لا تنقص من قدرهم
السؤال: كأني سمعتك تقول: إن بعض الصحابة قد سخر بعضهم من بعض، فإذا كان الأمر كذلك، فإن ذلك ينافي رضوان الله عليهم؟ الجواب: أنا لا أعتقد ذلك، فقد ثبت أن أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: يا بن السوداء، لبعض الصحابة، فاشتكى منه، فالصحابة من البشر، فهذا لا ينقص من قدرهم شيئاً.
أحاديث الآحاد هل تفيد القطع؟(16/27)
السؤال: ذكرت أن أحاديث الآحاد ظنية لا يقينية، فهل هذا يعني عدم الجزم بها؟ الجواب: إنما قلت: بعض أهل العلم الذي قالوا: إن أحاديث الآحاد ظنية يخالفهم علماء آخرون، لكن أنا بنفسي أوجه قول هؤلاء، وأوضح ما هو مقصودهم بالفعل، إذا قالوا: إن أحاديث الآحاد تفيد الظن لا القطع، فإنهم لا يعنون أنه لا يعمل به، أنا دافعت عمن يقول بهذا القول أنه لا يعني أنه لا يعمل به، وإذا وجد الحديث الصحيح المعروف فإنه يجب العمل به. أما من حيث المسألة فهل حديث الآحاد يفيد الظن أو القطع؟ فحديث الآحاد قسمان: قسم اتفقت عليه الأمة واشتهر واستفاض، كما في أحاديث الآحاد التي في الصحيحين ، فهي تفيد القطع، لأن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول. أما الأحاديث الأخرى التي صححت الآن، وما استفاض عمل الأئمة فيها، فهي تفيد الظن، بعضهم يصححها، وبعضهم يضعفها.
علامة الأخوة في الله
السؤال: كيف أعرف أن أُخُوَّتي مع أَخي أُخُوَّة في الله؟ الجواب: هذا سؤال مهم أيها الإخوة، لأن بعض الناس يؤاخون أشخاصاً، لكن أخوتهم ليست أخوة في الله. إذا أردت أن تعرف هل هذه الأخوة في الله أم لا، فاسأل نفسك: لماذا أنا آخيت فلاناً؟ هل آخيته لإيمانه وتقواه، ولأعمال صالحة؛ لخشوعه في الصلاة، ولطلبه للعلم، ولدعوته إلى الله عز وجل، أم أنك آخيته لظرافته، أو شكله، أو خفة دمه؟ فإذا كان شيء من الطرف الثاني هذا، فاعلم أنك على خطأ.
كيفية معاملة أهل الكفر(16/28)
السؤال: كيف تكون معاملة من ينتسب إلى الباطنية ، أو إلى مذاهب خارجة عن الإسلام؟ الجواب: أيها الإخوة إن قضية الولاء والبراء، الولاء بيننا وبين المؤمنين والبراء بيننا وبين الكفار، تعني أن الإنسان لا يتودد إليهم، ولا يبدي لهم البشاشة بلقياهم، ولا يتحبب إليهم، ويقطع الصلة بيننا وبينهم، لأنهم قطعوا حبل الله، لكن هذا لا يعني الإساءة إليهم، وأن أسبهم في المجامع وألعنهم بما فيهم، فإن فيه مفاسد أكبر من السكوت، ولذلك يقول الله عز وجل: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] فسب الكفار جائز لا حرج فيه، لكن إذا أدى سب الكفار إلى مفسدة أكبر مثل: أن يسبوا الله، أو يسبوا الدين أو النبي، فعند ذلك لا يجوز سبهم، فلا بد أن نفهم أن عدم الإحسان لا يعني الإساءة، وأنه إذا توفرت مفاسد كبيرة على شتمك له، فلا تسبه، ولا تشتمه، فالإنسان المسلم الداعية إلى الله حكيم في أفعاله، والحكمة تقتضي أحياناً إخفاء العداوة.
ضرب الطبل في الشعر
السؤال: ما هو حكم ضرب الطبول في الشِّعر؟ الجواب: ورد النهي الكوبة في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكوبة هي الطبل، فلا يجوز.
مع ملتزم مبتدئ
السؤال: لدي شخص بدأ بالالتزام، فما هي المراحل التي يجب أن يتبعها باستمرار؟ الجواب: هذا يحتاج إلى جواب طويل، لكن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فإذا كان هناك إنسان بدأ في الالتزام، فاحرص على جلب المصالح إليه، وتكثيرها، ودرء المفاسد عنه وتقليلها، فعليك ببناء الإيمان في نفسه وإبعاده عن الأجواء السامة وإزالة الشرك والجاهلية من قلبه.
صلة الأرحام والمحاذير الموجودة(16/29)
السؤال: الذي يريد أن يصل أقاربه، ولكنهم كثرة، فماذا يفعل إذا كان خائفاً من الفتنة؟ الجواب: إذا تبين أنه أراد أن يزور رحمه ويصلهم، وعندهم بنات، وهو لا يمكن أن يخالطهم حتى يجلسن معه، فهذا في الشريعة لا يجوز، لا يعني الأمر بصلة الرحم أن يتعدى حدود الله وينتهك محارم الله عز وجل. ويمكنه أن يتصل بهم على الهاتف، ويبلغهم السلام عن طريق فلان وفلان، وذلك إذا لم تتمكن من دخول البيت بطريقة شرعية، وإذا دخلت تعرضت للفواحش، فهناك وسائل أخرى لصلة الرحم، إذ ليست الصلة مقصورة فقط على الزيارة، فهناك الاتصال والمراسلة وإرسال السلام مع الناس، وإهداء الهدايا إليهم والطعام فكل ذلك من الصلة والإحسان إليهم، أما أن تجلس إذا دخلت عندهم مع ابنة عم أو ابنة خال متكشفة ومتبرجة، فهذا ليس من صلة رحم.
مراعاة المصالح الشرعية في جرح الأشخاص(16/30)
السؤال: أحياناً يطلب مني أن أتكلم عن شخص، والكلام الذي سأقوله قد يكون فيه سلبيات هذا الشخص، فهل يجوز لي أن أتكلم؟ الجواب: حدود الكلام متعلقة بالمصلحة الشرعية، فإذا كان هناك مصلحة شرعية في كلامك، فلتتكلم، إذا لم يكن هناك مصلحة شرعية، فلا تتكلم. وإذا تكلمت عن فلان، فتكلم فقط في الجانب الذي يريده السائل. فلو أن إنساناً مثلاً سألك عن فلان: أريد أن أشغله عندي في المعمل، أو في الدكان فتكلم فيما يتعلق بأمانته وبراعته في العمل، ولا تقل: إن هذا الرجل له علاقة بفتاة، فإنه لا دخل لهذه القضية بهذه، أنت فقط تتكلم جرحاً وتعديلاً في الجانب الذي يتعلق به السؤال. أحد الناس سألك وقال لك: أنا أريد أزوج ابنتي على فلان، فبماذا تنصح؟ فتكلم له عن الجانب الذي يخص الزواج؛ دينه وخلقه، بعض الناس يتكلم ويعدد كل السلبيات وكل الأمور التي لا تهم، لا بد من مراعاة المصالح الشرعية. رجل أراد أن يزوج ابنته لرجل كان فاجراً ثم تاب إلى الله عز وجل، فلا تقل له: كان يفعل، وكان يعمل، فقد تغيرت حاله وتاب إلى الله عز وجل.
هل تعلم العلوم الطبيعية جهاد؟
السؤال: هل تعلم العلوم الطبيعية الدنيوية جهاد في سبيل الله؟ الجواب: العلم الدنيوي مثل الرياضيات والفيزياء، الشيخ ابن باز ينبه إلى قضية كل الناس يخطئ فيها فيقول: كل الآيات والأحاديث التي تتكلم عن العلم مثل قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [الزمر:9].. إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].. شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [آل عمران:18] إنما يقصد بها العلم الشرعي. إذا وجد حسن النية في العلوم الدنيوية وكان فيها منفعة للمسلمين فهي جهاد في سبيل الله.
حكم قول المدرسة للطالبة: يا شقية! يا كسلانة!(16/31)
السؤال: هل تأثم المعلمة عندما تقول للطالبة: يا شقية يا كسلانة؟ الجواب: الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو الإفتاء، يقول: هذا يعتمد على النية، فإذا كان قصد المعلمة من هذا الكلام تحفيز الطالبة من أجل الدراسة جاز، أما إذا كان قصدها الاستهزاء والسخرية، فذلك لا يجوز. بل لو نظرت إلى شكل فلان وحدثتك نفسك عنه بسخرية واستهزاء، لكنك ما أظهرت هذا الكلام فإن ذلك يعتبر استهزاءً وسخرية. يقول الشيخ عبد الرزاق : ولا يجوز أن تسخر وتستهزئ لا في نفسك ولا في ظاهرك. نكتفي بهذا القدر من الأجوبة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(16/32)
( استدراك ما فات )
عناصر الموضوع :
فضل حلق الذكر
فوات الدِّين أعظم من فوات الدنيا
أحوال السلف في استدراك ما فات
كيفية استدراك السلف لبعض الطاعات التي فاتتهم
أمثلة من الشريعة في مجالات استدراك ما فات
أسباب تفويت الطاعات
من الوسائل في الاستدراك
الشعور بأن هناك شيئاً فات والاندفاع إلى التعويض
استدراك ما فات:
خلق الله الإنسان ضعيفاً، وسلط عليه الشيطان فتنة، فلا إنسان إلا ويفوته من فعل الخيرات أمور كثيرة، بل قد يقع في المنكرات قلَّت أو كثرت، لكن السلف كانوا يستدركون ذلك، ويبحثون عن خير القربات للتعويض، ولا ييئسون لكبر عمر أو ضعف جسم أو قلة ذات اليد، وفي هذه المادة كلام غزير نافع حول هذا الأمر، يبحثه من حيث أسبابه وعلاجه، ويضرب أمثلة ويبين سبلاً ... فعليك به لعلك ترشد!
فضل حلق الذكر:(17/1)
الحمد لله الذي لم يزل عليماً خبيراً، قد أحصى كل شيء ولا يفوته شيء، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وكان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. إخواني الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: فإنني أسأل الله كما جمعنا في بيته هذا، أن يجمعنا في دار كرامته ومستقر رحمته وفسيح جنته، النفس أيها الأخوة تزكو بالذكر، والبلد يزكو بحلق الذكر ودروس العلم، فتصبح الملائكة في شوارعها وأحيائها تذهب وتجيء، وتصعد وتنزل ملتزمة حلق الذكر؛ فتتنزل السكينة وتعم الرحمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ... الحديث إلى أن قال في آخره: أن الله يقول للملائكة: فأشهدكم أني قد غفرت لهم) رواه البخاري . وفي رواية أحمد (إن لله عزَّ وجلَّ ملائكة فضلاً يتبعون مجالس الذكر يجتمعون عند الذكر، فإذا مروا بمجلس علا بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش ... الحديث) اللهم اجعلنا في هذه الساعة من أهل هذا الحديث يا رب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً وارزقهم من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. وقبل البداية أيها الأخوة، لابد من شكر المسئولين والقائمين على هذه السلسلة الطيبة التي استمعتم إلى عدد من دروسها في هذا المكان الطيب، فجزى الله بالخير كل من تسبب في قيامها وتنفيذها والإعانة عليها ابتغاء وجهه الكريم. أيها الأخوة: درسنا لهذه الليلة أحكام وعظات، ونظرات تربوية في استدراك ما فات، وسبب الحديث عن هذا الموضوع أن هناك ملحظاً فيما يخص مسألة التفويت والتضييع، والاستسلام لليأس، وعدم السعي إلى الإصلاح والاستدراك. أناس كانوا في جاهلية فهداهم الله، وبعضهم(17/2)
كانوا في بدعة فأنقذهم الله، فكيف يعوضون ما مضى من عمرهم؟ وآخرون تردت أحوالهم، وضعف إيمانهم، وانتكست مسيرتهم، وبردت هممهم، واعتراهم من الشيطان ما اعتراهم، ومسهم من كيده ما آذاهم، فوقفوا يتلمسون الطريق. ولهم أصحاب يدعونهم إلى الهدى ائتونا، قل إن هدى الله هو الهدى، وبعض هؤلاء يحاولون الرجوع، وبعضهم لا يزالون في أمرهم يترددون.. فلنلق نظرة على هذا الموضوع، وأجد أنه بحق موضوع مهم لنا جميعاً (استدراك ما فات) ننظر ماذا قال العلماء في هذا الموضوع، وكيف يمكن أن نستفيد منه في مسيرتنا وحياتنا..
فوات الدِّين أعظم من فوات الدنيا:(17/3)
العنوان مكون من جزئين: استدراك ما فات. والاستدراك لغة: استفعال من درك، والدرْك والدرَك اللحاق والبلوغ، وفي اللغة استدرك الرأي والأمر إذا تلافى ما فرط فيه من خطأ ونقص، والاستدراك عند العلماء، وهو الذي يرد كثيراً في كلام الفقهاء: إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور أو فوات، ويقولون: استدراك نقص الصلاة بسجود السهو، واستدراك الصلاة إذا بطلت بإعادتها، واستدراك الصلاة المنسية بقضائها، والاستدراك بإبطال خطأ القول وإثبات صوابه، إذا كنت تتحدث وأخطأت تستدرك كلامك وتأتي بالصواب. ويقول العلماء أحياناً: التدارك، وهي لفظة أخرى يستخدمها الفقهاء، والتدارك في الأفعال: فعل العبادة المتروكة، أو فعل جزئها في محله المقرر شرعاً ما لم يفت، كما في قول صاحب كشاف القناع رحمه الله من علماء الحنابلة: لو دفن الميت قبل الغسل، وقد أمكن غسله لزم نبشه، وأن يخرج ويغسل تداركاً لواجب غسله، وكقول الرملي رحمه الله: إذا سلم الإمام من صلاة الجنازة تدارك المسبوق باقي التكبيرات بأذكارها، وقوله: لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذكرها وقد شرع في القراءة وفاتت فلا يتداركها. وقد يقطع الغلط في القول فيحتاج الإنسان إلى تداركه، بأن يبطله ويثبت الصواب، ولذلك طرق ومنها: قولهم ( بل .. ) فيقول كلاماً فيتذكر أو يعرف أنه خطأ، فيغير ويقول ( بل .. ) ويأتي بالصواب، هذا هو الاستدراك. أما الفوات فمن الفوت، والفوات يقال في اللغة: فاته الشيء إذا ذهب عنه كما في اللسان ، والفوات منه ما يكون في أمور الدين، ومنه ما يكون في أمور الدنيا، أما فوات الدنيا فهو شيء قليل سهل ويسير يمكن تعويضه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله الله به عليه كتبه الله شاكراً صابراً. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه، لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً، وقد(17/4)
تولى الله علاج الألم النفسي الذي يترتب على الفوات، تولى الله علاج ما حصل من ذلك في نفوس الصحابة في غزوة أحد، فقال الله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]. فقوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ [آل عمران:153] أي: فجزاكم غماً على غم، وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: الغم الأول بسبب الهزيمة، والغم الثاني حين قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة، فإذاً: كان ألماً عظيماً بالهزيمة والقتل والجراح. لما قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان غم غطى على الغم الأول فنسوا الغم الأول، ثم تبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم حي، فسروا وكان الغم الأول قد نسي في غمرات الغم ا لثاني، وهذه حكمة إلهية بديعة قدرها الله تعالى في أحداث هذه الغزوة. لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [آل عمران:153] أي: على ما فاتكم من الغنيمة، والظفر بعدوكم، ولا ما أصابكم من الجراح والقتل. إذاً.. فوات الدين في نفوس المؤمنين هو الأعظم، ويحصل الهم لفوات الدنيا لأنهم بشر، فأي إنسان إذا فاته شيء من الدنيا ربما يتألم؛ لكن ينبغي أن يعلم أن فوات الدين أعظم بكثير من فوات الدنيا. ومما يساعد على التغلب على ألم فوات شيء من مال أو نجاح أو أي شيء فاتك من الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، ولذلك قال الله تعالى في سورة الحديد: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] فأخبر أنه كتب كل المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكل مصيبة قبل أن تحدث فهي مكتوبة عند الله، أي: فعلنا ذلك وكتبناه وقدرناه من قبل أن نخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة لِكَيْلا تَأْسَوْا(17/5)
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] أي: فأعلمناكم -كما يقول ابن كثير في تفسيره رحمه الله- بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدر شيء لكان. إذا فاتتك عبادة وعلم فهو الذي يحزن عليه حقاً، وهو المصيبة كما جاء عن نوفل بن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي: فكأنما فقد أهله وماله. أما الدنيا فتعوض؛ حدثني أحد التجار في الحج قال: أنا نزلت إلى تحت الصفر وطلعت إلى مئات الملايين، ثم نزلت إلى تحت الصفر ثم طلعت إلى مئات الملايين أربع مرات في حياتي، فالدنيا تذهب وتجيء، لكن الدين إذا ذهب:
لكل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض
أحوال السلف في استدراك ما فات:
هناك آية في سورة الفرقان تذكر المؤمنين باستدراك ما فات، قال الله عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] قال المفسرون في قوله خلفة، أي: من فاته في الليل عمل أدركه بالنهار، أو فاته بالنهار أدركه بالليل، فمن رحمة الله بهذه الأمة أنه لما علم قصر أعمارها، وضعف أجسادها بالنسبة لمن سبقها، عوضهم تعالى بالمناسبات تضاعف فيها الأجور، يدركون بها من سبقهم ويسبقونه، ليلة القدر خير من ألف شهر، صيام عرفة يكفر سنتين، وعاشوراء يكفر سنة، وصيام شوال بشهرين، الحسنة بعشر أمثالها.
كيفية استدراك السلف لبعض الطاعات التي فاتتهم:
كيف كان حال السلف رحمهم الله إذا فاتهم شيء من الطاعات؟ نحن الآن نتكلم أيها الأخوة في غمرة أحوال تفوت فيها علينا أشياء كثيرة من الطاعات، وربما يكون عندنا ضعف في الإيمان فلا نحزن على ما فات من الطاعات.(17/6)
استدراك الصحابة ما فاتهم من الجهاد:
مثال فوت ملاقاة العدو: كان بعض الصحابة يفوتهم أشياء لعذر ويتأسفون عليها يريدون التعويض، ونحن تفوتنا أشياء لغير عذر وربما لا نحزن ولا نتألم، ولا نسعى للتعويض؛ عن أنس قال: غاب أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، أي: المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، أي: المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة! ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد ، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. فهذا الذي وجد فيه بضع وثمانون ضربة وجرحاً، كم قاتل حتى ضرب هذه الضربات؟ وكم تحامل على نفسه وواصل في القتال حتى يضرب هذا العدد؟ ومن حنقهم عليه مثلوا به هذا التمثيل. قال أنس : كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ... الآية )) [الأحزاب:23]) وهذا الحديث رواه البخاري رحمه الله. وروى النسائي عن عاصم بن سفيان الثقفي أنهم غزوا غزوة ذات السلاسل ففاتهم الغزو، فرابطوا ثم رجعوا إلى معاوية وعنده أبو أيوب و عقبة بن عامر ، فقال عاصم : يا أبا أيوب ! فاتنا الغزو العام، وقد أخبرنا أنه من صلى في المساجد الأربعة غفر له ذنبه، فقال: يا بن أخي! أدلك على أيسر من ذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما قدم من عمل) أكذلك يا عقبة ؟ قال: نعم. وشهد معه على الحديث. إذاً: فهناك تحسر على ما فات ورغبة في التعويض، وسؤال واستفتاء: فاتنا فكيف(17/7)
نعوض؟
استدراك بعض السلف ما فاتهم من اللقاء بالنبي صلى الله علهي وسلم أو بالشيوخ:
من الأشياء التي نلاحظها أيضاً في سير السلف ألمهم لفوات لقاء الشيوخ والعلماء، وعلى رأس هؤلاء محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان بعض التابعين يريدون اللحاق به ليصبحوا صحابة فلم يقدر لهم؛ كما حدث لأبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى، رحل إلى المدينة ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل المدينة إذا الصحابة قد فرغوا من دفنه عليه الصلاة والسلام. و أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور، ذكر ابن حجر رحمه الله في الإصابة عنه، قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا جميعاً بالإحرام فقلت: ما الأمر؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الرجل كان الطاعون قد أصاب خمسة من أولاده فماتوا في عام واحد، وكانوا رجالاً ولهم بأس ونجدة، فقال في قصيدته التي أولها:
أمن المنون وريبها تتوجع ... ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
وتجلدي للشامتين أريهم ... ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
والنفس راغبة إذا رغبتها ... ... وإذا ترد إلى قليل تقنع(17/8)
المحدثون ذهبوا في المدن يجوبون الطرق راحلين لطلب العلم وسماع الحديث، فكيف حصل لبعضهم عندما يفوته الشيخ؟ روى السمعاني رحمه الله عن رجل من المحدثين أنه رحل إلى ابن خلف -وهو من مشاهير المحدثين- فقال: دخلت نيسابور وأنا أعدو إلى بيت أحمد بن خلف ، فلقيت أحد طلابه، فعاتبني وقال: تعال أطعمك أولاً، فقدم طعاماً وأكلنا، وأخرج لي مسموعاته من ابن خلف ، وقال: مات ودفنته، قال: فكادت مرارتي تنشق لفوت الشيخ. وذيَّل الخطيب البغدادي رحمه الله، كتابه الرحلة بذكر من رحل إلى شيخ يبتغي علو إسناده، فمات قبل ظفر الطالب منه ببلوغ مراده، وذكر أن عبد الله بن داود الخريبي قال: كان سبب دخولي البصرة لأن ألقى ابن عون ، فلما صرت إلى قناطر بني دارى تلقاني نعي ابن عون فدخلني ما الله به عليم، فهكذا كان شعورهم في فوات الشيوخ.
فوات مجالس العلم:(17/9)
وأيضاً: فوات مجالس العلم، كان المحدثون يحدثون في الحلقة ثم ينتهي الدرس، فبعض الناس يأتي بعد الدرس ولم يسمع الشيخ، وربما لا يسمع والشيخ وفاته الحديث، الشيخ سيحدث بأحاديث أخرى، فكان لفوات المجلس عليهم أثر عظيم، خصوصاً أن المشايخ في ذلك الوقت كانوا يشعرون الطلبة بأهمية الدرس، ولا يعيدونه حتى يقول أحد: يا أخي! إذا ما لحقت الجماعة الأولى ألحق الجماعة الثانية، المسجد -الحمد لله- فيه جماعات متوالية، المسألة عندهم يسيرة، ولكن أين أجر الجماعة الثانية من أجر الجماعة الأولى؟ كان المشايخ يعلمون الطلبة قيمة الدرس، وكان الناس في الخير الذي هم فيه يتأملون ويحسون، جاء رجل إلى الأعمش فقال: يا أبا محمد ! اكتريت حماراً بنصف درهم وأتيتك لأسألك عن حديث كذا وكذا -بعد ما انتهى من المجلس- فقال: اكترِ بالنصف الآخر وارجع. وقال يحيى بن معين : كنا عند ابن عيينة، فجاء رجل وقد فاته إسناد الحديث، فذكر الشيخ المتن، فقال هذا الآتي: أمل علي إسناده فقد فاتني الإسناد فقال: قد بلغتك حكمته ولزمتك حجته، ولم يحدثه؛ ليتعلم ويأتي مبكراً مرة أخرى. وكان يزيد بن هارون رحمه الله إذا جاءه من فاته المجلس، قال: يا غلام! ناوله المنديل، أي: أكلنا وغسلنا والآن في التنشيف، أعطه المنديل. وكان يزيد بن هارون يقول لرجل من ولد عمر بن الخطاب من نسله، جاء وقد فاته المجلس وسأله أن يحدثه، فقال له: يا أبا فلان أما علمت أنه من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب. وقال الخطيب رحمه الله: وقد كان خلق من طلبة العلم بالبصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء، ويبيتون هناك حرصاً على السماع وتخوفاً من الفوات، قال جعفر بن طلسطويه : كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل مخافة ألا نلحق من الغد موضعاً يسمع فيه. والآن بعض المشايخ لا يجدون طلاباً للدروس، وتفتح الدروس ثم تغلق، وتبدأ(17/10)
ولتنتهي ولا يوجد طلاب، أو ثلاثة أربعة، خمسة، من ضعف الهمم، وعدم الحرص على العلم.
استدراك الصحابة ما فات من أعمارهم في الجاهلية وسؤالهم عن أفضل الأعمال:
ثم لننتقل إلى جانب آخر، ومسألة تحصيل ما فات، كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أسلموا بعدما تقدم بهم العمر، فكانت سنون طويلة من حياتهم قد ذهبت في الجاهلية، وما عاش بعضهم في الإسلام إلا فترة يسيرة، أو عاش سنين، لكن هذه السنين اغتنموها فعلاً إلى الحد الأقصى، ولذلك نحن نعيش الآن عشرات السنين في الإسلام ولا ندرك شيئاً مما فعلوه. من الأسباب التي رفعتهم: أنهم نظروا في أعمارهم فعرف الواحد منهم أنه لم يبق إلا القليل، فأحب اغتنام هذا القليل في أفضل ما يمكن، ولذلك إذا استعربت كلمة أفضل في بعض المعاجم الحديثية، وجمعت الأحاديث التي فيها كلمة أفضل، ستلاحظ أمراً واضحاً في حرص الصحابة رضوان الله عليهم ليس فقط على الخير، وإنما على الأفضل؛ لأنهم قالوا: هذا العمر قصير، فينبغي أن نستغله في الأفضل. فمثلاً: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني). رواه البخاري . وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور). رواه البخاري .
بحث الصحابة عن الأجور المضاعفة:(17/11)
أمة تبحث عن الأجر المضاعف، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده). رواه البخاري. ثم لم يقتصر الأمر على الأفضليات في الأمور عامة، وإنما سألوه عن الأفضل في الأبواب المخصوصة المعينة، ففي الصلاة مثلاً: روى جابر رضي الله عنه قال: (سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت) رواه مسلم . وفي العتق سأله أبو ذر رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها) رواه البخاري . وفي الصدقة جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح ترجو الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) راوه البخاري . فإذا بلغت الحلقوم لم تعد تنفع الوصية، تقول: وزعوا كذا، وأعطوا فلاناً كذا، وضعوا في الأيتام كذا، وفي المساجد كذا، وفي أبواب الخير الفلانية كذا، لا. انتهى، إذا وصلت روحه الحلقوم صار في حكم الميت، وقوله عليه الصلاة والسلام: وقد كان لفلان، -أي: المال قد أصبح للورثة- انتهى الآن وأقفل باب التوزيع. وفي الذكر روى أبو ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال (ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده) رواه مسلم . وفي أبواب من الخير مجموعة: روى عبد الله بن حبشي الخثعمي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة، قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل) الآن لو أن واحداً عنده ألف ريال فتصدق بخمسمائة، فقد تصدق بنصف ماله، وآخر عنده مائة مليون تصدق بمائة ألف ريال، فقد تصدق بعشر ماله، والأول أفضل، وهو جهد المقل. (وقيل: فأي(17/12)
الهجرة أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله عزَّ وجلَّ، قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده) رواه النسائي . ومما يدلك على أن القوم كانت هممهم متصاعدة لعمل أفضل وليس لعمل فاضل فحسب؛ هو أن المناقشات كانت تدور بينهم على هذه الأشياء، وستنظر في المناقشات التي تدور بين الإخوان والأصحاب، وتعرف ما الذي يشغل بالهم. جاء عن النعمان بن بشير قال: (كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان يوم الجمعة- ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: (( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) [التوبة:19]) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.
أمثلة من الشريعة في مجالات استدراك ما فات:
ومباحث المفاضلة في كتب العلماء كثيرة مما يدل على أن المسألة لها وزن واهتمام، ولنأتِ -أيها الأخوة- الآن إلى صعيد آخر لننظر ما هي الوسائل التي جاءت بها الشرعية للاستدراك: إن الله عزَّ وجلَّ يعلم أن البشر ضعفاء، تعتريهم عوامل النقص والضعف، والنسيان، والمعصية، فإذا قصر الواحد في عبادة، وجد السبل متاحة أمامه كي يعوض، وفي كتب الفقه أبواباً لذلك؛ فمن ذلك: القضاء والإعادة والفدية والكفارة.
القضاء والإعادة والفدية والكفارات:(17/13)
والعلماء يعرفون القضاء بأنه: فعل الواجب بعد وقته، والإعادة: فعل الواجب في وقته مرة أخرى لخلل حصل في المرة الأولى، كمن صلى الظهر بدون وضوء، ثم بعد الصلاة تذكر ذلك فعليه أن يعيد صلاته، وأما الأداء فهو: فعل الواجب في وقته. والقضاء والإعادة لاستدراك ما فات في العبادة، أحياناً لا يوجد سبيل للاستدراك من جهة الإعادة أو القضاء كمن ترك الرمي حتى انتهت أيام التشريق، فإذا غربت شمس يوم الثالث عشر انتهى وقت الرمي، ولا يمكن أن يقضي الرمي في اليوم الرابع عشر. وهل هذا له حل في الشريعة؟ وهناك أشياء يرتكبها الإنسان، كمن يفعل محظوراً من محظورات الإحرام، وله أيضاً حل في الشريعة رحمةً من رب العالمين، فقد جاءت الشريعة بما يقضي الفوائت، ويعوض الناس عما فاتهم، فمثلاً: الفدية، وهي البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه، أو وقع فيه، والكفارة تغطي الإثم وهي أخص من الفدية، مثل كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة القتل. هناك أشياء جاءت بها الشريعة لتعويض النقص الذي هو من طبيعة البشر، لو جئنا إلى موضوع الصلاة، لوجدنا بعض الناس تركوا الصلوات متعمدين، فماذا يفعل الواحد منهم، خصوصاً إذا عرفنا مثلاً أن القول الراجح: أن من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها فلا سبيل إلى قضائها، والله لا يقبلها في غير وقتها، وإن لله عملاً في الليل لا يقبله بالنهار، وعملاً في النهار لا يقبله بالليل. هل هناك يا ترى فرصة؟ يأتيك الآن تائب يقول لك: أنا ضاعت علي صلوات لمدة سنين، فما هو الحل وأنت -مثلاً- تعرف هذا القول الراجح في عدم القبول؟
تكميل الفرائض بالنوافل:(17/14)
الحل: عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة ، فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً قال: فجلست إلى أبي هريرة ، فقلت: إني سألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن خابت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عزَّ وجلَّ: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) رواه الترمذي وصححه في صحيح الجامع . ورواية النسائي عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة ، قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحا، فجلست إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقلت: إني دعوت الله عزَّ وجلَّ أن ييسر لي جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به، فذكر الحديث وفيه: (فإن انتقص من فريضته شيء قال: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة، ثم يكون سائر علمه على نحو ذلك). وروى أبو داود رحمه الله أيضاً، وقال فيه: (انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم) وفي رواية قال: (ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك) رواه أبو داود وصححه في صحيح الجامع . شخص نقص من الزكاة وما عوض، ينظر يوم القيامة في صدقاته فيعوض منها، وشخص نقص في الصيام، كأن جرح صيامه بعمل المعاصي، فينظر في صيام نوافله، وتعوِّض ما فاته من رمضان.
الإتيان بما نسي وقت تذكره أو جبره بنحو سجود السهو:(17/15)
إذاً من المسائل المهمة جداً في استدراك ما فات الإكثار من النوافل، وحتى النوافل نفسها لو فاتت فتحت الشريعة فيها أبواباً للتعويض، مثلاً: البسملة في الوضوء واجبة، فإذا نسيها في أوله وذكر أثناء الوضوء، ماذا قال العلماء؟ قالوا: فإن نسي في أوله وذكر أثناءه سمى بقوله: باسم الله، يأتي بها في أثنائه تداركاً لما فاته، كما في كتاب نهاية المحتاج . وبعضهم قاس على الطعام فيقول: باسم الله أوله وآخره، لكن إذا فاتته ولم يتذكر إلا بعد نهاية الوضوء فات محلها، فيكثر من ذكر الله أي: الأذكار العامة. غسل الميت تقدم معنا، لو دفن ميت دون غسل وقد أمكن غسله لزم نبشه لغسله تداركاً لواجب غسله، ما لم يُخشَ تغيره وهذا قول الجمهور. تدارك المتروك في الصلاة، كمن نسي سجدة مثلاً، أو التشهد الأول فإن كان ركناً عاد إليه وجوباً، فأتى به وما بعده على الترتيب، وواجبات الصلاة عند الحنابلة كالتشهد الأول وتكبيرات الانتقال، وتسبيح الركوع والسجود، إن تركه سهواً فيجب عليه تداركه ما لم يفت محله -قبل أن يرفع من الركوع تذكر أنه ما قال سبحان ربي العظيم، إذاً يأتي بها- ويفوت محله بالانتقال لما بعده، فإذا اعتدل من الركوع وقد نسي سبحان ربي العظيم فلا يعود؛ لأنه دخل في الركن فلا يعود للواجب، ويستدرك بسجود السهو -سبحان الذي شرعه- فإذا لم يعتدل رجع إلى الركوع فأتى بالتسبيح، وكذلك التشهد الأول يرجع إليه ما لم يعتدل قائماً، فإذا اعتدل فلا يرجع وعليه سجود السهو. وأما السنن فقد جاء في كشاف القناع أنه لا تتدارك للسنن إذا فات محلها، كما إذا ترك الاستفتاح حتى تعوذ، أو ترك التعوذ حتى بسمل، أو ترك البسملة حتى شرع في القراءة، أو ترك التأمين حتى شرع في السورة. وسألت والدنا وشيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن بعض هذه المسائل فقال: إذا تجاوز الاستفتاح يرجع إليه ولو شرع في الاستعاذة، ويرجع إلى الاستعاذة ولو شرع في البسملة، ويتدارك(17/16)
السنن، قال: وما المانع؟ إلا إذا كان مأموماً وشرع الإمام في القراءة فإنه ينصت. لو نسي سجود السهو يرجع فيأتي به و شيخ الإسلام يقول: حتى في البيت، أي أنه لم يتذكره إلا بعد فترة، والجمهور يقولون: إذا تذكره عن قرب رجع إليه فأتى به. إذا نسي تكبيرات صلاة العيد حتى شرع في القراءة، فلا يتداركها لأنها سنة فات محلها، وهذا قول الشافعية والحنابلة، غير أن الشافعية قالوا: يتداركها في الركعة الثانية مع تكبيراتها. ومن دخل في صلاة الجنازة والإمام في التكبيرة الثالثة فماذا يفعل؟ سألت شيخنا -نفع الله بعلومه- عن هذه المسألة، فقال: إنما أدركه المأموم مع الإمام هو أول صلاته، ثم يتم الباقي إذا سلم الإمام، فإذا دخلت مع الإمام في صلاة الجنازة وهو في التكبيرة الثالثة يقرأ الدعاء للميت، وأنت تقرأ سورة الفاتحة.
ما لا يدرك كله لا يترك كله:(17/17)
إذا ترك شوطاً في الطواف أو بعض شوط كمن دخل في الحجر وخرج منه أثناء الطواف، فعليه أن يأتي بما تركه إذا كان في وقت قريب عند الحنابلة؛ لأنهم يشترطون الموالاة بين الطوافات، وأما من ترك شوطاً من السعي أو بعض شوط، فعليه تداركه بالإتيان به ولو بعد مدة، لأنه لا يشترط الموالاة في الطواف كما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني . إذا نسي الرمل في الأشواط الأولى من طواف القدوم -وهو سنة للرجال- فات محله، لكن لو تذكر في الشوط الثاني، تذكر أنه لا يرمل وبإمكانه أن يرمل، هل يقول: فاتنا الأول فنكمل على الأول؟ نقول: لا. انتهز الفرصة وأكمل الرمل في الثاني. ولا يشرع له تدارك الهرولة في السعي بين العلمين الأخضرين في الصفا والمروة إذا فات؛ لأنه تعدى الموقع فلا يهرول بعدما تعدى الموقع. إذا فاته الاضطباع في طواف القدوم ثم تذكر وهو في الشوط السابع أنه لم يضطبع، فعليه أن يخرج كتفه الأيمن ويكشفه، ولا يقول: فاتني ستة فأكمل، لا. بل ينتهز الفرصة ويأتي بما بقي. وهكذا من الأشياء في طواف الوداع إن خرج دون أن يأتي به فعند الشافعية والحنابلة يجب عليه الرجوع لتداركه إن كان قريباً دون مسافة القصر، ويسقط عنه الإثم والدم، فإن تجاوز مسافة القصر لم يسقط عنه الدم، ومن تجاوز الميقات دون إحرام، إذا رجع إليه فأحرم فلا يلزمه شيء. نلاحظ عموماً أيها الأخوة، أن المبادرة بالتدارك تنقذ الشخص من الإثم أو التبعات كالكفارة أحياناً. وفي مجال الآداب قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً، فليقل: باسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: باسم الله في أوله وآخره) يتدارك، رواه الترمذي . وفي النوافل: عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل -من وجع أو غيره- صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة) رواه مسلم. من فاتته صلاة الجماعة: قال البخاري في صحيحه : باب فضل صلاة الجماعة، وكان الأسود إذا فاتته(17/18)
الجماعة ذهب إلى مسجد آخر. صلاة العيد: قال البخاري رحمه الله: باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء، ومن كان في البيوت والقرى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا عيدنا نحن أهل الإسلام) وقال عطاء : إذا فاته العيد صلى ركعتين. وهناك صلوات إذا فاتت فلا تتدارك، كصلاة الكسوف، إذا انتهى الكسوف فلا يمكن الصلاة. وهكذا النوافل كالعيد والضحى والرواتب التابعة للفرائض والأظهر أنها تقضى، وسألت شيخنا الشيخ عبد العزيز -نفع الله به- عمن دخل المسجد فجلس؛ هل تفوت التحية؟ فقال: يقوم فيصلي ركعتين كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. حتى قضاء الحقوق، قال العلماء: يتدارك بقضاء ما عليه كالنفقة الواجبة على الزوجة عند الجمهور، فمن تركها وأهملها فلا تسقط النفقة، وتبقى على الرجل لزوجته ديناً لا يسقط بمضي الزمن. وحتى مسألة العدل بين الزوجتين، قالوا: والزوج إذا لم يبت عند ذات الليلة لعذر أو لغير عذر قضاه لها عند الشافعية والحنابلة. وإذا استعرضنا القواعد الفقهية وجدنا أن من بينها (مالا يدرك كله لا يترك كله) و (الميسور لا يسقط بالمعسور) واستدلوا له بحديث البخاري : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وللقاعدة ألفاظ منها: مالا يدرك كله لا يترك جله، أي ما لا يدرك كله لا يترك باقيه، ومنها: مالا يدرك كله لا يترك كله، أي بل تأتي بما تستطيع، ومثلوا لها بأمثلة فمثلاً: إذا كان بعض العضو مقطوعاً وجب عليه غسل ما بقي، وإذا قدر على ستر بعض العورة لزمه ذلك، ومن قدر على بعض صاع في الفطرة أخرجه، ولو عجز عن سداد كل الدين أدى ما قدر عليه. وهذه مسألة يخطئ فيها كثير من الناس، فبعض الناس قد يستلف عشرة آلاف، فإذا جاء وقت السداد، وطولب بالدين وما عنده إلا خمسمائة، يقول: ماذا تغني الخمسمائة في العشرة آلاف؟! فينفقها هنا وهنا ويقول لصاحب الدين: ما عندي شيء، نقول: تستطيع أن تؤدي خمسمائة من العشرة آلاف أدها، ومسألة(17/19)
تضييع الحقوق في الديون لا تحصى ولا تعد. ثم أيها الأخوة: في مسألة تدارك ما فات، قد يكون ما فات بتقصير وقد يكون بغير تقصير، وليست الدعوة الآن لأن نعوض ما فاتنا إذا قصرنا فقط، بل حتى إذا لم تقصر وفاتك شيء من الخير فابحث عن أبواب أخرى، وتمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة). هؤلاء هم المهاجرون رضي الله عنهم فقراء، فاتتهم الصدقة ليس بتقصير منهم، ومع ذلك جاءوا يسألون كيف نعوض؟ الرسول عليه الصلاة والسلام فاته قضاء سنة الظهر، ليس من تقصير ولكن شغل بطاعة عن طاعة، شغله وفد عبد القيس، فاستدركها وقال لمَّا سئل عن ذلك: (وإنه أتاني أناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان) كما في البخاري عندما رأته أم سلمة يصلي بعد العصر وكان عندها نساء، فقالت للجارية: (قومي بجنبه، فقولي له: تقول لك أم سلمة : يا رسول الله! سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، ثم ذكر الحديث). ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا احتاج أن يكلم المصلي ولا بد، يكون بجانبه ليس أمامه ولا خلفه، يكون بجانبه ويكلمه، وأرادت أم سلمة أن تذكره عليه الصلاة والسلام لأنه ربما نسي.
أسباب تفويت الطاعات:
التسويف من أسباب التفويت:(17/20)
فإن جئنا -أيها الإخوة- إلى أسباب التفويت وجدنا أن من أعظم أسباب التفويت التسويف، وعندنا شاهد لهذا المعنى في قصة كعب بن مالك لما قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ثم قال: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً. فأقول في نفسي: أنا قادر عليه -لاحظ هنا التسويف- فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم؛ وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء . رواه البخاري.
الرفقة من أسباب التفويت:
من أسباب التفويت عند كثير من الشباب رفقاء السوء، أو الرفقاء الذين لا فائدة منهم، نحن الآن إذا جئنا ننصح الشباب نقول لهم: رفقاء السوء .. ورفقاء السوء، بعضهم يقول: ليس عندنا رفقاء سوء، الحمد لله كلهم أصحاب لحى، وكلهم على خير، لاحظ -يا أخي- قد لا يكونون أهل سوء، لكن لا يكونون أهل فائدة، فإنك لا تستفيد منهم يضيعون وقتك.
من أسباب التفويت الزوجة والأولاد:(17/21)
قد تكون الزوجة هي سبب فوات الطاعات، وقد يكون الأولاد إذا شغلوك بغير الطاعة: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] ونأخذ مثلاً من السيرة يوضح كيف كان الأولاد والزوجات سبباً في تفويت طاعة عظيمة وهي الهجرة، ثم ننظر في موقف الإنسان المسلم في عدم الانتقام ممن كان سبباً في التفويت إذا كان الانتقام بغير فائدة؛ عن عكرمة عن ابن عباس ، وسأله رجل عن هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. قال ابن عباس : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة ، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، إذاً: الزوجة والأولاد قد يقعدوا بالإنسان عن الطاعة، أو يثبطوه عن فريضة، عن حج، يقعدوا به عن طلب علم، قال: فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، وتحت وطأة الزوجة والأولاد ينهار الإنسان، وفي كثير من الأحيان تغلب العاطفة، يتابع الزوجة والأولاد فيما يسيرونه إليه. فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين بعد سنوات، فرأوا الناس قد فقهوا، فالذي تعلم قد تعلم، والذي جاهد جاهد، فلما رأوا ذلك هموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم؛ فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. ثم أمر تعالى بالعفو، ما فائدة الانتقام من الزوجة والأولاد الآن وقد فاتهم ما فات؟ الآن راقب الله فيهم واحملهم على الطاعة.
من الوسائل في الاستدراك:
البيئة تؤثر على المرء في الاستدراك:(17/22)
وسط الإنسان المحيط به له دور في دفع الشخص للاستدراك أو للتفويت، والدعاة إلى الله عليهم دور عظيم في حث المسلم الجديد لاستدراك ما فاته بعمل الصالحات، مقابلة السيئات التي كان يفعلها في الجاهلية. بعض الصحابة لما أسلموا كان عندهم هذا الشعور. عن ابن عباس قال: (كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! ثلاثاً أعطنيهن قال: نعم. قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجك، قال: نعم -وبعض المحدثين قد اعترض على هذه اللفظة، والخطأ في هذا الموضع- قال: و معاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم. قال: وتؤمرني -هذا الشاهد- حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم) رواه مسلم . إذاً: أبو سفيان لما رأى نظرة الناس له عرف وأحس بالتقصير، وأراد أن يعوض. ,خالد بن الوليد و عمرو بن العاص ، لما أسلموا اندفعوا للتعويض، وينبغي على المسلم إذا هداه الله أن يندفع للتعويض، فقد كان في جاهلية؛ كان في سنوات الضياع والتيه والبعد عن الشريعة، فإذا اهتدى اندفع للتعويض. لاحظ معي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله، وقال الهيثمي عن إسناده: رجاله ثقات، ولعل في بعضهم شيئاً من الكلام، لكن هذه المسألة في القصص والسيرة، يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق -وكان مع المشركين- جمعت رجالاً من قريش، وكانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون -والله- إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً كبيراً منكراً، وإني قد رأيت رأياً فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي ، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرف، نرجع إلى قومنا فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا لرأي. واضح أنه بعد معركة الأحزاب بدأ ميزان(17/23)
القوى يتحول، قال: فقلت لهم: فاجمعوا له، أي: للنجاشي ما نهدي له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، أي: الجلود، فجمعنا له أدماً كثيراً، فخرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه -أي: إلى النجاشي- في شأن جعفر وأصحابه، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشي، فسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد صلى الله عليه وسلم. فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي -وهذا يدل على قوة العلاقة بين النجاشي و عمرو بن العاص- أهديتني من بلادك شيئاً؟ قال: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قدمته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك! إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة فظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال النجاشي : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟! قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو؟ فقال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعله الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قال: قلت: فبايعني له على الإسلام، قال: نعم. فبسط يده وبايعته على الإسلام ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة إلى المدينة ، فقلت: أين يا أبا سليمان ؟ قال: والله لقد استقام المنسم -وفي بعض المراجع الميسم: هو أثر الحسن والجمال في الشيء، ويعني: خالد رضي(17/24)
الله عنه الحق، أي أن: الحق استبان- وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم، فحتى متى؟ هذه كلمة مهمة جداً، يقول خالد بن الوليد : الحق استبان فحتى متى لا نتدارك أمرنا الآن ونسلم، فقلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمنا. وهكذا قد يسمع بعض الشباب التائبين الحق في أمريكا ، هو هنا ضال، يذهب إلى أمريكا يسمع كلمة الحق هناك ويهديه الله، ويرجع مهتدياً من هناك بعد أن كان ضالاً هنا، وهذا عمرو بن العاص ذهب فسمع من النجاشي ، ورجع متأثراً.
التوبة وسيلة لاستدراك ما فات:(17/25)
إن هناك عدداً من المذنبين سمعوا مواعظ، وسمعوا أشياء حركت فيهم المشاعر الجياشة للتوبة، بعض الناس عندهم رغبة في التوبة، ومن المهم جداً للدعاة إلى الله أن يفتحوا لهم الأبواب، بتوضيح كيف يستدركوا ما فاتهم، وكيف يصلحوا أخطاءهم، يريدون التوبة لكن لا يعرفون كيف الطريق! عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن -نحن مقتنعين بما تقول- ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله تعالى وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68] ثم قال: إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:70] ونزل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ... الآية [الزمر:53]) رواه مسلم . نلاحظ أن الشريعة فتحت باب الاستدراك، أنت يا أيها التائب عندك معاصٍ كثيرة والقضية مهمة، وبعض الناس يسألون عن أحكام التوبة، ما هي؟ والتوبة: هي عملية استدراك لما فات، فكما قال السفاريني رحمه الله تعالى في غذاء الألباب : اعلم -رحمك الله تعالى ووفقك- أن الحق الذي تاب منه التائب إما أن يكون لله أو لآدمي، ثم ذكر أشياء عن حق الله، وأشياء عن الحقوق المشتركة، ثم حق الآدمي المحض، وكل معصية وكل اعتداء على حق آدمي فهو اعتداء على حق الله تعالى ومعصية لله، لا بد أن يتوب منها الشخص ثم يعيد حق الآدمي. إذا كان حق الآدمي قصاصاً مكنه من نفسه، أو كان مالاً أعاده إليه، فإن كان قد أتلف شيئاً عوضه عنه، وإذا لم يستطع استسمح منه، وإذا اغتابه أو قذفه، ثم لو جاء وقال: يا فلان! أنا اغتبتك وقلت فيك كذا وكذا، وخصوصاً أن بعض الناس لا(17/26)
تدري ما ردة فعله، فإنه قد يطلب منك ما قلته فيقول: لا. ماذا قلت بالضبط؟ أنا أريد أن أعرف ماذا قلت بالضبط، وإلا لا أسامحك إلى يوم الدين. يأتي الأخ هذا فيقول: أنا أريد أن أتوب قذفت فلاناً واغتبت فلاناً، فكيف أفعل؟ لو أخبرته لربما تفاقم الشر، فذهب شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم وغيرهم من العلماء، إلى أنه إذا قدر أن الشر سيزيد ويعظم ويقع في نفس صاحبه عليه أشياء، ويجد عليه أموراً ما كان يجدها عليه من قبل، فإنه يكتفي بالاستغفار والدعاء له، ويدافع عنه في المجالس الذي اغتابه فيها، ويكذب نفسه في المجالس الذي قذفه فيها، ثم لعله إذا جاء يوم القيامة ووجد في صحيفته حسنات فيقال له: هذا استغفار أخيك الذي اغتابك فإنه استغفر لك، لربما سامحه إذا وجد استغفار أخيه له. وهكذا عللوا قضية الاستغفار، رجاء أن يرضى عنه خصمه يوم القيامة ببركة استغفاره، وقال ابن المبارك : لا تؤذه مرتين، اغتبته ثم تقول له: قلت فيك كذا وكذا. وكل أنواع الذنوب لها حل، وهذا ما يجب أن نؤكد عليه أمام التائبين، ونخبرهم به لنفتح لهم الأبواب فيقبلوا، ولا بد أن نعيد الحقوق لأصحابها قبل أن يأتي يوم لا دينار ولا درهم، ولكن بالحسنات والسيئات، كما جاء في الحديث الصحيح.
التغلب على مشاعر الإحباط لاستدراك ما فات:(17/27)
من الأمور المهمة في علاج ما فات -ونتكلم عن بعض الأمور التربوية- أنه لابد من التغلب على مشاعر الإحباط التي تعتري الشخص المقصر، خصوصاً عندما يأتيه شيطان فيقول: لا فائدة! فما فعلته في الماضي لا سبيل إلا إنقاذ نفسك من تبعته ومسئوليته، ولا تستطيع أن تعوض. فلا يجوز أن يشعر الإنسان بمشاعر الإحباط حتى تسيطر عليه وتقعد به عن محاولة التقدم وتعويض ما فات. بعض الناس إذا استعرض في ذهنه الأشياء الذي فاتته وجدها كثيرة جداً فيستعظم ذلك، وقد نهينا عن (لو) التي تفتح عمل الشيطان؛ لأنها تسبب القنوط واليأس الذي لا فائدة منه، بل يضر. إن تحقيق الأماني لا يكون بالندم على ما فات، ولا باجترار الأحزان على الماضي، وهو الندم السلبي؛ -لأن هناك ندم إيجابي كما سيأتي- وإنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة.
بادر الفرصة واحذر فوتها ... ... فبلوغ العز في نيل الفرص
فابتدر مسعاك واعلم أن من ... ... بادر الصيد مع الفجر قنص
أما إضاعة الحاضر بالاستسلام للأوهام والأشياء التي حصلت في الماضي، والانسياق وراء وساوس الشيطان فإنها ضارة للغاية.
أفنيت يا مسكين عمـ ... ـرك في التأوه والحزن
وقعدت مكتوف اليديـ ... ـن تقول حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنـ ... ـت فمن يقوم به إذن؟(17/28)
من المهم -أيها الأخوة- أن ننظر في أحوالنا، ونصحح المسيرة، ونستدرك ما فاتنا، ونحاسب أنفسنا بحسب الإمكانات، ولا يمكن أن تكون محاسبة طالب في تخصص شرعي في مسألة طلب العلم كمحاسبة الموظف الذي له دوامان أو دوام طويل، لأن الإمكانات تختلف، فما يفوت هذا أعظم مما يفوت ذاك، وما ينبغي أن تكون عليه الدرجة في المحاسبة أشد في حق طالب العلم المتفرغ. ثم لابد من إزالة الحواجز النفسية التي تمنع الاستدراك، كأن يقول: أنا كبرت، وذاكرتي قد ضعفت فلا فائدة الآن من حفظ المتون وطلب العلم في حالتي. نقول: يا أخي! بعض الصحابة أنتجوا في أعمار متأخرة، وبعضهم ما عاشوا إلا أشهراً قلائل وعلموا أشياء كثيرة جداً، ثم استحضار قصص الذين طلبوا العلم متأخرين، بعضهم ما طلب العلم إلا بعد الأربعين وأصبحوا علماء، فابن أبي ذئب طلب العلم متأخراً، وكان يقارن بمالك ، وقالوا: لو طلب العلم مبكراً لما قورن به مالك ولا كان قريباً منه، رضي الله عنهم جميعاً ورحمهم. وإذا نظرنا في حال بعض العلماء كيف استدركوا الأمور وكيف تقدموا، لوجدنا أمراً عظيماً! ابن حزم رحمه الله طلب العلم بعدما بلغ السادسة والعشرين و ابن حجر رحمه الله مرت عليه سنوات لم يكن يطلب فيها الحديث، حتى كان ينشد شعراً فسمعه شخص فقال: ليس هذا من شأنك، هذا لا يليق بك، فانصرف إلى الحديث. الذهبي رحمه الله قال: رأى خطي رجل، فقال: إن خطك يشبه خط المحدثين، فوقع في نفسي طلب الحديث. ابن القيم رحمه الله مضى فترة من عمره مع الصوفية ، ثم رجع وصار العلم العظيم، يقول:
يا قوم والله العظيم نصيحة ... ... من مشفق وأخ لكم معوان
جربت هذا كله ووقعت في ... ... تلك الشباك وكنت ذا طيران
حتى أتاح لي الإله بفضله ... ... من ليس تجزيه يدي ولساني
حبر أتى من أرض حران ... ... فيا أهلاً بمن قد جاء من حران
فالله يجزيه الذي هو أهله ... ... للجنة المأوى مع الرضوان(17/29)
أخذت يداه يدي وسار فلم ... ... يرم حتى أراني مطلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها ... ... نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثاراً عظيماً شأنها ... ... محجوبة عن زمرة العميان
لا تقل: فاتتنا المرحلة الذهبية في طلب العلم، فاتتنا مرحلة الذاكرة القوية، ولا فائدة، فهناك من طلب العلم متأخراً وأفلح، وهذا عبد الصمد شرف الدين ذكر في مقدمة تحقيقه لتحفة الأشراف أنه ما طلب العلم إلا بعد الأربعين. الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جاء إلى شيخه السندي في المدينة فرأى الناس يطوفون بقبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مقتبل عمره، فقال لشيخه السندي : ما تقول في هؤلاء؟ قال: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، ولكن من يقوم لهم؟ قال الشيخ: فوقعت في نفسي. أحياناً كلمة من عالم موجه، من مربٍ فاضل، أو قدوة، تغير مجرى حياة الإنسان، وحتى لو ذهبنا بعيداً بين الشعراء هذا النابغة الذبياني ما قال بيتاً من الشعر إلا بعد أن بلغ الأربعين. أيها الأخوة: بعض الناس فاتهم حفظ القرآن، فلما تقدم بأحدهم العمر قال: لا سبيل إلى حفظه وقد ضعفت الذاكرة، نقول له: راجع ما حفظته يا أخي، واسع للحفظ من جديد، بعض الناس حفظوه بعد الأربعين، وهناك امرأة كبيرة في السن حفظت القرآن في سنة ونصف، من كثرة سماعه ومواظبتها وحرصها وسعيها، فتحت الشريط وهي تغسل الصحون في المطبخ، ذهبت مركز تحفيظ القرآن فتأثرت، وأحضرت أشرطة القرآن، وهي في المطبخ تستمع الأشرطة، تستمع وتستمع حتى حفظته في سنة ونصف، ولو كانت أمية فإنها تحفظ من الأشرطة. فالإنسان إذا كان صاحب همة يستدرك ما فاته مهما كان، ويمكنه أن يعمل أشياء كثيرة جداً، مثلاً: عدد من الطلاب ندموا أنهم لم يكونوا يكتبون الفوائد والنفائس، ويقيدون الأفكار والخواطر، وذهب الموضوع من ذهنهم وضاع التحضير، لأن النقاط كانت في ورقة صغيرة وضاعت، فيقول: لا فائدة قد(17/30)
ذهب الكثير، نقول: قيد الآن، ابدأ من جديد، قيد ورتب وفهرس.
الشعور بأن هناك شيئاً فات والاندفاع إلى التعويض:
وختاماً أيها الأخوة! في مسألة استدراك ما فات ينبغي أن ينتابنا شعوران: الشعور الأول: أن نشعر فعلاً أن هناك أشياء فاتت؛ لأن الذي لا يحس أن هناك أشياء فاتت سيندفع إلى ما هو أعظم؛ لأنه لا يشعر أنه قد فاته شيء، فلابد أن نحاسب أنفسنا ونعرف ماذا فاتنا في كل جانب من الجوانب؛ في طلب العلم، في الأخلاق، في الدعوة إلى الله، في بر الوالدين، في صلة الرحم، وهكذا ثم نستدرك ونبدأ بإصلاح الأوضاع. الشعور الثاني: العزم والاندفاع للتعويض، إذاً الشعور الأول أن نحس أن هناك أشياء فاتت، الشعور الثاني العزم والاندفاع للتعويض، ونمثل للأول بأبيات، وللثاني بأبيات نختم بها هذا الدرس. الأول الذي هو المحاسبة والشعور بأن هناك أشياء فاتت، قال الشاعر رحمه الله:
تفيض عيوني بالدموع السواكب ... ... ومالي لا أبكي على خير ذاهب
على العمر إذ ولى وحان انقضاؤه ... ... بآمال مغرور وأعمار ناكب
على غرر الأيام لما تصرمت ... ... وأصبحت منها رهن شؤم المكاسب
على زهرات العيش لما تساقطت ... ... بريح الأماني والظنون الكواذب
على أشرف الأوقات لما ... ... غبنتها بأسواق غبن بين لاهٍ ولاعب
على أنفس الساعات لما ... ... أضعتها وقضيتها في غفلة ومعاطب
على صرفي الأيام في غير ... طائل ولا نافع من فعل فضل وواجب
على ما تولى من زمان قضيته ... ... ورجيته في غير حق وصائب
على فرص كانت لو اني انتهزتها ... ... لقد نلت فيها من شريف المطالب
وأحيان آناء من الدهر قد مضت ... ... ضياعاً وكانت موسماً للرغائب
هذا شعور بالتفريط والمحاسبة وأن هناك أشياء كثيرة فاتت، ثم هذه الأبيات لجمال الدين الصرصري رحمه الله، وبعد هذا الشعور، يقول في قصيدة له:
فيا من مد في كسب الخطا ... ... يا خطاه أما يأن لك أن تتوبا(17/31)
ألا فاقلع وتب واجهد فإنا ... ... رأينا كل مجتهد مصيبا
وأقبل صادقاً في العزم ... ... واقصد جناباً للمنيب له رحيبا
وكن للصالحين أخاً وخلاً ... ... وكن في هذه الدنيا غريبا
وغض عن المحارم منك ... ... طرفاً طموحاً يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العيون كأسد غاب ... ... إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ولا تطلق لسانك في كلام ... ... يجر عليك أحقاداً وحوبا
ولا يبرح لسانك كل وقت ... ... بذكر الله رياناً رطيبا
وصلِّ إذا الدجى أرخى ... ... سدولاً ولا تضجر به وتكن هيوبا
تجد أنساً إذا أودعت قبراً ... ... وفارقت المعاشر والنسيبا
وصم ما تستطيع تجده ريا ... ... إذا ما قمت ظمئانا سغيبا
وكن متصدقاً سراً وجهراً ... ... ولا تبخل وكن سمحاً وهوبا
تجد ما قدمته يداك ظلاً ... ... إذا ما اشتد بالناس الكروبا
وكن حسناً السجايا ذا حياء ... ... طليق الوجه لا شكساً غضوبا
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من التائبين المنيبين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات والحسنات وحب المساكين، اللهم إنا نسألك ترك المنكرات، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، الأتقياء الأخفياء الحنفاء، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(17/32)
( الاستشارة في حياة المسلم )
عناصر الموضوع :
أهمية الاستشارة في حياة المسلم
تعريف الاستشارة
أهمية الاستشارة وفوائدها
مجالات الاستشارة
صفات المستشار
من الذي يستشير؟
كيف تستشير؟
متى نستشير؟
موانع الاستشارة
الأسئلة
الاستشارة في حياة المسلم :
الحياة مليئة بالمشكلات التي قد تجبر الإنسان على الاستعانة بغيره، ومن هذه الاستعانة المشورة، ومن جرب المشورة عرف أهميتها وقدرها، وقد تحدث الشيخ عن كثير مما يتعلق بالاستشارة من حيث السبب والأهمية، والكيفية والنتائج، وصفات المستشار والمستشير، والموانع التي تمنع من المشورة، وكيف تعالج هذه الموانع.
أهمية الاستشارة في حياة المسلم:(18/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة! أحييكم في هذه الليلة وفي هذا المجتمع الطيب، وأقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد الله عز وجل أن جمعني وإياكم في هذا المكان، وأحمده على هذه النعمة، وهي نعمة التقاء الأخ بإخوانه في الله للتذاكر والتناصح، ونسأل الله عز وجل أن يجعل مجلسنا هذا مجلس خير، وأن يجعلنا من المقبولين عنده إنه سميعٌ مجيب. حديثي إليكم في هذه الليلة عن موضوع بعنوان: (الاستشارة في حياة المسلم) وأهمية هذا الموضوع في عدة نقاط، منها: أن هذا أدبٌ إسلاميٌ عظيم حصل فيه نوع من التفريط بين المسلمين، وهذا الأدب يعكس جوانب من عظمة هذا الدين في ترابط أفراد المجتمع الإسلامي الواحد، وهو كذلك مهمٌ في ضبط الأمور ومنع الفوضى التي قد تحصل نتيجةً لبعض الآراء التي لا تكون ضمن الطريق الصحيح، وكذلك تمنع حدوث كثيرٍ من الكوارث الفكرية وغيرها؛ نتيجة بعض الآراء الشاذة التي لا يخلو منها بعض أذهان الناس، وسيكون حديثي مركزاً حول نقاط، وهي: ما هي الاستشارة؟ أي: تعريف الاستشارة. لماذا نستشير؟ أي: أهمية الاستشارة. أين نستشير؟ أي: ما هي مجالات الاستشارة؟ من نستشير؟ أي: ما هي صفات المستشار؟ من الذي يستشير؟ كيف نستشير؟ متى نستشير؟ ما هي موانع الاستشارة؟
تعريف الاستشارة:(18/2)
الاستشارة مأخوذةٌ من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجريٍ أو غيره، وشرت الدابة إذا امتحنتها فعرفت هيئتها في سيرها، وشرت العسل إذا أخذته من مواضع النحل. وهذا يبين لك الارتباط بين المعنى اللغوي والمعنى الذي نقصده نحن اليوم، فكونك تشور الدابة، أي: تختبرها، وكونك تشور العسل، أي: تبتغي الصفاء والنقاء في العسل بأخذه من مواطنه الأصلية، ومعنى قولهم: شاورت فلاناً، أي: أظهرت ما عندي وما عنده. وزيادة الألف والسين والتاء في بداية الكلمة: (الاستشارة) هي للطلب، أي: طلب المشورة من الآخرين، وأما الأدلة على هذا، فمنها قول الله عز وجل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج بها منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحيٌ من أمر الحروف والأمور الجزئية". وقال النووي رحمه الله: "إذا أمر الله بها النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه أكمل الخلق، فما الظن بغيره؟". وقد مدح الله سبحانه وتعالى من عمل بها في جميع أموره، قال تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] وهذا من الثناء على المؤمنين، وكانت سادات العرب قديماً إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر؛ فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم، فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم. وأما الآيات التي أثنى الله فيها على(18/3)
صفات المؤمنين ومن ضمنها صفة المشورة، قال الله عز وجل: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الشورى:36-38]. وقال ابن القيم رحمه الله في الزاد مبيناً هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب: "واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أصحابه أيخرج إليهم -أي: إلى الكفار- أم يمكث في المدينة". وفي معرض سياقه لغزوة الخندق قال: "فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو والمدينة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به؛ فبادر إليه المسلمون وعمل بنفسه فيه". وكذلك في غزوة الحديبية كان من ضمن الدروس التي استنبطها ابن القيم رحمه الله في هذه الغزوة" استشارة الإمام لأصحابه". وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدوا إلى تطبيق هذه السنة، والالتزام بهذا الأدب الإسلامي العظيم، فتجد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد شاور الصحابة في أمور المرتدين، وتسيير البعوث والجيوش وغيرها، وكذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له مجلس مشورة خاص، وكان في هذا المجلس الشباب والشيوخ كما سنبين ذلك. ومن الأمثلة على استشارة عمر رضي الله عنه: ما ورد في صحيح مسلم لما خرج رضي الله عنه إلى الشام ، ثم لقيه أهل الأجناد -أبو عبيدة وأصحابه- فأخبروه أن الطاعون قد وقع في الشام ، قال ابن عباس: [فقال عمر : ادع لي المهاجرين الأولين، فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام...] إلى آخر الحديث الذي فيه قصة عبد الرحمن بن عوف المعروفة. رواه الإمام مسلم في صحيحه. وإذا أردت(18/4)
أن تستدل أو تعرف مدى أهمية أمرٍ من الأمور عند السلف أو عند علماء المسلمين؛ فإنك تستدل على هذا بـ(هل عقد المصنفون كأهل الحديث في كتبهم أبواباً خاصة لهذا الأمر أم لا؟). فإذا كانوا قد أفردوا هذا الأمر، فهذا دالٌ على أهميته؛ لأنه لو لم يكن مهماً جداً لما أفردوه، ولما جعلوه ضمن شيء من الأبواب، أو يجعلوه شيئاً جزئياً في داخل المصنف، ولكن عندما ترى أن الإمام البخاري خصص أبواباً في كتابه للمشورة، ويقول في أحدها: (وكان الأئمة يستشيرون الأمناء) وترى أبا داود رحمه الله يقول في سننه: (باب في المشورة) وترى الترمذي رحمه الله يقول أيضاً في سننه: (باب ما جاء في المشورة) وغير هؤلاء تراهم قد عقدوا أبواباً خاصة، فإنك لابد أن تستدل بذلك على أن لهذا الأمر أهميته؛ ولذلك أفردوا له هذه الأبواب والكتب في مصنفاتهم.
أهمية الاستشارة وفوائدها:(18/5)
السؤال الآن: لماذا نستشير؟ وما هي أهمية وفوائد الاستشارة؟ الفائدة الأولى: اتباع الأثر: فنحن المسلمين نتبع ونقتفي آثار من مضى، (عليكم بالأمر العتيق). ونحن أيضاً ننفذ ما أمرنا الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال الله لرسوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لنا، فيعني ذلك: أن نقتدي به صلى الله عليه وسلم في المشورة. وإذا كان الله أثنى على المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] ونحن من ضمن المؤمنين، فإذاً لابد أن نطبق هذه المسألة، أضف إلى ذلك أن هذا التطبيق فيه أجر التنفيذ لهذا الأمر الوارد، وإذا تشبهنا بالمؤمنين وبخصالهم فسنكون منهم إن شاء الله. الفائدة الثانية: بالإضافة إلى التطبيق والأجر الحاصل: استنباط الصواب، فإن من أعز الأشياء أن تهتدي إلى الأمر الصحيح والحق والصواب. فأنت ماذا تريد وعم تبحث؟ ألست تبحث عن الصواب في الأمر الذي تحتار فيه، وتريد أن تقدم عليه؟ عن الحسن قال: [والله ما استشار قوم قط إلا هدوا لأفضل ما بحضرتهم، ثم تلا: (( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )) [الشورى:38]]. وينبغي أن تكثر أيها الأخ المسلم من استشارة ذوي الألباب، لاسيما في الأمر الجليل، فقلما يضل عن الجماعة رأي أو يذهب عنهم صواب، لأن إرسال الخواطر الثاقبة، وإجالة الأفكار الصادقة هذا هو الذي يجعلك تصل إلى الصواب، ومن أكثر المشورة لم يعدم الصواب، والخطأ إلى الجماعة أبعد من الخطأ إلى الفرد، لأن احتمال أن يخطئ الفرد أكثر من أن تخطئ جماعة من الناس. الفائدة الثالثة: اكتساب الرأي: إن الإنسان إذا شاور وحاور وتناقش وطلب الأمر وقلَّبه على وجوهه، فإن هذه المناقشة مع الآخرين تكسبه رأياً وتُوسع مداركه، وتجعله يعرف من أين تؤتى الأمور، وما هي طريقة تفكير فلان وفلان، ويعرف أن فكره قد انصرف إلى جانب معين، وأن هناك جوانباً أخرى؛ فتتوسع مداركه،(18/6)
ويكتسب طرق في التفكير لم يكن ليهتدي إليها لولا الاستشارة. وقال بعض الحكماء: "نصف رأيك مع أخيك، فشاوره يكمل لك الرأي".
خليلي ليس الرأي في صدر ... ... واحدٍ أشيرا عليّ بالذي تريان
ومن حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فرأي الفرد الواحد ربما زلّ، والعقل الفرد ربما ضلّ، ولكن عندما تجتمع العقول تصل إلى المأمول، وروي عن بعض السلف : "الرأي الفرد كالخيط السحيب -الخيط الرقيق الذي سرعان ما ينقطع- والرأيان كالخيطين المبرمين -أقوى قليلاً- والثلاثة مرار -وهو الحبل المفتول لا يكاد ينتقض- والمستشير الحازم يزداد برأي الوزراء الحزمة كما يزداد البحر بمواده من الأنهار". الفائدة الرابعة: أنك تتحصن من الوقوع في الخطأ والزلل باستشارتك، قال حكيم لابنه: "شاور من جرب الأمور، فإنه يعطيك من أمره ما قام عليه بالغلاء وأنت تأخذه مجاناً". الله أكبر! هذه هي الحكمة، الآن الشاب في مقتبل عمره تجاربه محدودة وقليلة، وحتى يكتسب تجارب فإنه يحتاج إلى وقت وجهد، وربما يقع في أخطاء كثيرة حتى يصل في النهاية إلى الرأي الحكيم وإلى الصواب في أمرٍ من الأمور، فعندما يذهب إلى شيخ مجرب وإنسان قد عركته الحياة، فإنه يأخذ منه الخلاصة التي توصل إليها هذا الشيخ؛ فهذا الشيخ يكون قد توصل إلى الحكمة والتجربة والخلاصة والصواب، ودفع كثيراً من الجهد والوقت حتى وصل إليه بالغلاء، وأنت تأتي وتأخذه بالمجان، فانظر إلى عظم هذه الاستشارة وعلو موقعها. الفائدة الخامسة: أنها حرزٌ من الملامة، فلو أن شخصاً فعل أمراً من الأمور، ثم تبين له أن هذا الأمر خطأ، وظهرت النتائج عكسية وسيئة وفشِل، ماذا سيقول له الناس؟ لماذا لم تشاور؟ أنت مخطئ، أنت وأنت... وتوجه إليه سهام الانتقاد من كل جانب ويلام، لكن عندما يكون هذا الشخص قد استشار مجموعة من الناس الحكماء والخبراء، ثم يخطئ وتكون النتيجة عكسية، هل سيلومه الناس؟ لن يلوموه(18/7)
لأنه استشار، ولو لاموه لقال لهم: أنا سألت فلاناً وفلاناً وهم الذين أشاروا عليّ بهذا الأمر؛ حينها كلهم يسكتون، لكن لو لم يشاور لظل عرضه للنقد من كل جانب. الفائدة السادسة: أنها نجاة من الندامة، أن الشخص الآن فعل أمراً دون أن يستشير ثم فشل في هذا الأمر، فسيشعر بالندم ولو من توبيخ نفسه له وهي تقول له: لو أنك سألت ما حصل هذا! ولو أنك استشرت ما وصلت إلى هذه النتيجة المخيبة للأمل، فيشعر بالندم. لكن عندما يستشير حتى لو أخطأ، فيقول لنفسه: هذا أمر خارج عن إرادتي، أنا استشرت وأخذت بالأسباب ثم أخطأت، والحمد لله هذا ليس رأيي فقط، فهو ينجو حتى من لوم نفسه، وعندما يستشير الإنسان ويخطئ؛ فإنه يعلم أن هذا الأمر قضاء وقدر، لكن لم يخطئ في الخطوات التي وصلت إلى هذه النتيجة، فيعلم أنه لم يكن بوسعه أن يفعل شيئاً، استشار فحصل خطأ، فلا يلوم نفسه. الفائدة السابعة: ألفة القلوب: فأنت الآن عندما تستشير اثنين وثلاثة، وعندما تذهب إليهم، وتقول: يا أخي! أشر علي في هذه القضية، يا أيها الوالد! أشر عليّ في هذه القضية، يا أيها الأستاذ! أشر عليّ، يا أيها الصديق...، فكيف تكون نظرة الناس إليك؟ وما هو الانطباع الذي يكون في نفوسهم تجاهك وأنت تستشيرهم؟ وبماذا سيشعرون؟ سيشرعون لك بتقدير ومحبة، ويقولون: فلان ما استشارنا إلا لأنه يعتقد أننا أصحاب رأي، وأننا أمناء.. فلان ليس بمنعزل عنا.. فلان متداخل معنا.. فلان يثق فينا وإلا لما استشارنا، فهذه تقرب ما بين القلوب، وتربط ما بين الناس، وفيها تقدير للأطراف المستشارة، وأنك تقدره وتضعه في موضع أنك تستشيره، ولذلك يقول عبد الملك بن مروان : لأن أخطئ وقد استشرت، أحب إلي أن أصيب وقد استبددت برأيي. الفائدة الثامنة: أن القائد والمربي والداعية إلى الله والذي يقود الناس يكون تواقاً لمعرفة الحق وما فيه من المصلحة، ويلح بنفسه على جنوده لإظهار ما عندهم من الحجج والأدلة والآراء، ويسمعها(18/8)
ويقلِّب وجهات نظرهم طمعاً إلى الوصول لما فيه الصالح العام، وعندما يحدث الفشل فإنه يكون موزعاً على جميع الجند والناس الذين استشيروا، فلا يشعر الإنسان أنه يتحمل الخطأ لوحده. وكذلك فإنه يصل إلى مدى نضجهم، ويعرف مستوى تفكيرهم وعمق آرائهم، ويميز بالاستشارة كيف يشير فلان، وكيف يفكر فلان، فيعرف النوابغ من الناس الذين يعيش بينهم، ويكتشف الطاقات والمواهب التي فيهم. وهذا الأمر من الأمور المهمة لمن كان يريد أن يسوس الناس بالهدي الصحيح، لأن هناك أناساً يسوسون الناس -بغض النظر عما يكون في أفكارهم من الآراء- ولا يعرفون من هو الناضج من غيره، ومن هو الذكي ممن هو واسع الأفق، ومن هو الشخص صاحب الرأي الصحيح والمشورة الطيبة ممن هو ليس كذلك، فهو بسبب أنه لا يعرف من يستشير، أو قلما يستشير يقع في الخطأ، وأنت لا تكتشف أن فلاناً هذا إنسان يؤخذ برأيه إلا عندما تستشير فيشير عليك برأي، فتعرف رجاحة عقله من خلال رأيه.
مجالات الاستشارة:
قد يقول إنسان: الاستشارة في كل أمر، وهذا صحيح، والرسول صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى السماء -كما في حديث المعراج في صحيح البخاري - وفرض الله على رسوله صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة في كل يوم وليلة، قال له موسى: (إن أمتك لا تستطيع ذلك، ارجع فليخفف ربك عنهم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره -هذه رواية البخاري - فأشار إليه جبريل: أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خفف عنا...) إلى آخر الحديث. فأنت ترى هنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد استشار جبريل في أمرٍ عظيم، وهو قضية الصلوات التي تفرض على الأمة إلى آخر الزمان.
الاستشارة في أمور يعود تأثيرها على المجتمع كله:(18/9)
كذلك ترى استشارته في مجال المعارك، وهي من المجالات الهامة جداً، والتي يترتب عليها مصائر ومنعطفات تغييريه أحياناً في حياة المجتمع كله. فمثلاً: في مسند أحمد و صحيح مسلم عن أنس بن مالك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان في معركة بدر ، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال سعد بن عبادة : إيانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رد أبو بكر وعمر وهما بهذه المنزلة إلا أنه يعنينا نحن الأنصار، فقام وقال: والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخوض هذه البحار لخضناها معك"، هذا لفظ مسلم . فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يستوثق أن الأنصار سوف يحاربون معه خارج المدينة ، وأنهم على استعداد للخروج، وأن وعيهم قد بلغ بهم أن يخرجوا ويقاتلوا الكفار خارج المدينة . وكلما عظُم الأمر وكان أهم كلما كانت الاستشارة فيه أبلغ وأعظم وأهم، ومثال ذلك: ما وقع في حادثة مقتل عمر رضي الله عنه وتولية عثمان بن عفان الخلافة، فعهد عمر إلى سته من الصحابة، ثم عهد ثلاثة من الستة إلى الثلاثة الآخرين وتنازلوا لهم عن الأمر، فصار الأمر في النهاية إلى عبد الرحمن بن عوف و علي بن أبي طالب و عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين. فقال عبد الرحمن بن عوف: إذا رضيتما بمن أختاره فأنا أتنازل لواحدٍ منكما، فقالوا: رضينا. فالآن عبد الرحمن بن عوف صار في موقف عظيم وجليل جداً، والقضية من أهم القضايا، وفيها اختيار خليفة للمسلمين. وعبد الرحمن بن عوف لن يتخذ قراراً فردياً، ويقول: فلان أفضل، لا. بل ذهب يشاور المهاجرين والأنصار، ويدخلون عليه ويطلبهم ويستشيرهم في المسجد، وكلما لقي أحداً من أهل الرأي استشاره، حتى يقول عبد الرحمن بن عوف: [مرت علي ثلاث ليال ما اكتحلت فيها بنوم إلا شيئاً يسيراً جداً]. ولذلك قال المسور : [فما رأيت مثل عبد الرحمن ، والله ما ترك أحداً من المهاجرين والأنصار ولا(18/10)
غيرهم من ذوي الرأي إلا استشارهم تلك الليلة].
الاستشارة في القضايا العلمية وقضايا الأحكام:
قد تمر بالإنسان أشياء لا يدري ما الحكم فيها ولابد أن يستشير، فعن المغيرة بن شعبة : أن عمر رضي الله عنهما استشاره في إملاص المرأة، فقال المغيرة: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة) أي: عبد أو أمة، وهذا في صحيح البخاري، فعمر استشار الصحابة في المرأة إذا ضربت على بطنها فسقط الجنين ومات، فما هي الدية؟ فجاء له المغيرة بالحكم الذي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عمر : أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً، فانظر إلى الراوي وهو يقول: إن عمر استشارهم في إملاص المرأة. الناس يحتاجون إلى استشارة أهل العلم، ويحتاجون إلى معرفة الأحكام في الأمور والمسائل، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أُمر بتخيير نسائه بين أن يبقين معه على ما عنده، أو يمتعهن ويسرحهن سراحاً جميلاً، عن عائشة قالت: (أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سأعرض عليك أمراً فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تشاوري أبويك، فقلت: وما هذا الأمر؟ قالت: فتلا علي: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:28-29]، فقالت عائشة: وفي أي شيء تأمرني أن أشاور أبواي؟! بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة) هذه رواية البخاري.
الاستشارة في قضايا الزواج:(18/11)
ومن الشواهد على هذه المسألة ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده -وهو حديث صحيح- عن أبي برزة الأسلمي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار: (زوجني ابنتك، فقال: وكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعم عيني، فقال: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لجليبيب ، قال: فقال: يا رسول الله، أشاور أمها، فأتى أمها....) إلى آخر الحديث وكانت البنت عاقلة، قالت: هل تظنون أنكم ستأتونني بأفضل مما عرض عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأقنعتهم أن يزوجوها لجليبيب رضي الله عنه الذي قتل في معركة أحد شهيداً، فأنت ترى أن الأب لم يستبد برأيه، وأنه شاور أم البنت، فهي لها دور في الموضوع ولابد أن تشاور. ومن الأمثلة على الاستشارة في مجال الجهاد الحديث الحسن عن معاوية بن جاهمة : أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أردت الغزو وجئت أستشيرك - هذا مسألة مهمة نحتاج إليها الآن جداً، وهذا حديث فيه فقه مهم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من أم؟ قال: نعم، فقال: الزمها، فإن الجنة عند رجليها) ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير عليه بنفس الرأي، وقد أخرج طرق هذا الحديث الشيخ ناصر في إرواء الغليل . ومن الأمور المكملة في موضوع استشارة النساء للزواج استشارة نفس البنت التي تريد أن تتزوج، فمعرفة رأي البنت أمر مهم جداً، وبعض أولياء الأمور في هذه الأيام لا يضربون لها أي حساب، قال ابن عمر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أبت، اخطب لي ابنة صالح ، فقال عمر : إن له يتامى ولم يكن ليؤثرنا عليهم، فانطلق عبد الله إلى عمه زيد بن الخطاب ليخطب له، فانطلق زيد إلى صالح ، فقال: إن عبد الله بن عمر أرسلني إليك يخطب ابنتك، فقال صالح : لي يتامى، ولم أكن لأترب لحمي وأرفع لحمكم، أشهدكم أني قد أنكحتها فلاناً، اتخذ القرار(18/12)
فجأة في نفس المجلس، وكان هذا رأي أبيها. فأتت أمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا نبي الله! خطب عبد الله بن عمر ابنتي، فأنكحها أبوها يتيماً في حجره، ولم يؤامرها، ما استشارها ولا استأذنها، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صالح ، فقال: (أنكحت ابنتك ولم تؤامرها، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أشيروا على النساء في أنفسهم- الشاهد أشيروا- فقال: إن البكر تستحي يا رسول الله، قال: الثيب تعرب عن نفسها بلسانها، والبكر رضاها صماتها)، حديث صحيح في السلسلة الصحيحة . وقد وقعت لابن عمر قصة مشابهة ولكن بنتيجة مختلفة، وهي أيضاً قصة حسنة، قال ابن عمر : توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن أمية ، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون. قال عبد الله : وهما خالايا، أي: عثمان بن مظعون و قدامة بن مظعون خالا ابن عمر، فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها. ودخل المغيرة بن شعبة الصحابي الآخر إلى أم البنت، ولعله لم يكن يعلم بموضوع خطبة عبد الله بن عمر والله أعلم، فأرغبها في المال، فحطت إليه الأم ورغبت في المغيرة ، وولي البنت زوجها لعبد الله بن عمر ، وحطت الجارية إلى هوى أمها، والبنت غالباً لا تخالف الأم، فصار خلاف، فارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: (يا رسول الله! ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر ، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة وإنما حطت إلى هوى أمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها قال عبد الله بن عمر : فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة). أخرجه الإمام أحمد والدارقطني ، وهو حديث صحيح. هذه نماذج من السيرة وحياة الصحابة رضي الله عنهم تبين بعض مجالات الاستشارة، ونحن هنا نبين ونضيف أيضاً قضايا أخرى نذكرها بشكلٍ عام.(18/13)
الاستشارة في طلب العلم والدعوة إلى الله:
الاستشارة في طلب العلم أمر مهم جداً، ولابد أن يستشير الإنسان ماذا يقرأ؟ وماذا يسمع؟ وكيف يطلب العلم؟ وكيف يبتدئ؟ ومن هم الثقات من العلماء ليجلس إليهم؟ ويستشير هؤلاء العلماء في بداية الطلب، وبعد كل كتاب مثلاً ماذا يقرأ؟ وفي أي فن يبدأ؟ وما هي الفنون المهمة؟ وهكذا، وهذه أشياء أهل العلم يشيرون بها لما عندهم من الخبرة في هذا المجال، بعض الشباب يضع لنفسه برنامجاً في طلب العلم، يقول: أنا أريد أن أقرأ هذا الكتاب، ثم هذا الكتاب، وأريد أن أنهي هذا الكتاب في أسبوع، فيبدأ متحمساً في هذا البرنامج الذي وضع لنفسه، وقد لا يعرف هو طاقات نفسه، ولا الفنون التي يبدأ بها، وقد يبدأ في حفظ متون وغيرها أهم منها ليبدأ بها. وإنني أعتب عتباً خاصاً على بعض الشباب الذين يبدءون بحفظ المتون وهم لا يحفظون إلا نزراً يسيراً من كتاب الله، والواجب أن تسير الأمور مع بعضها البعض، أأحفظ المتون وأترك أهم متن وهو كتاب الله عز وجل لا أحفظ منه شيئاً؟ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كالأربعين النووية لا أحفظ منها شيئاً، هذه مصيبة، فلا بد أن نحفظ باستشارة أهل العلم بشكل متوازن لنحقق الأهداف التي نحتاج إليها في طلبنا للعلم. أحياناً يخطر لشخص خاطرة في آية أو حديث، فيستنبط بعقله حكماً منها، يقول: سبحان الله! هذه الآية كأنها تومئ إلى الحكم الفلاني، ولكن لا يفعل إجراءً آخر وهو أن يتأكد من صحة استنباطه، ثم بعد فترة ربما سنوات يسأله شخص عن هذه المسألة- هذا يحدث أحياناً- فبماذا سيجيبه في الغالب وهو ليس عنده أقوال العلماء مطلقاً فيها؟ سيجيبه بنفس الاستنباط الذي استنبطه هو شخصياً وعلق بذهنه منذ ذلك الزمن ولم يعرضه على أهل العلم، ولو أنه استشار أهل العلم، وقال: يا أيها العالم! خطر في ذهني أن هذه الآية يؤخذ منها كذا، فهل هذا الاستنباط صحيح؟ وهل له وجه؟ وهل قال به أحد من العلماء؟ السفر(18/14)
في طلب العلم: - يستشير الإنسان في السفر في طلب العلم إلى من يسافر مثلاً؟ ومن المشايخ الذين يحرص على لقياهم؟ وغالباً تجد أن الشيخ أو العالم سيقول لك: إذا ذهبت إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها الشيخ فلان، فاذهب إليه زره واستفد منه في الجانب الفلاني فهو ضليع في هذا الجانب... وهكذا. وهذه عادة علمائنا منذ زمن بعيد، يشيرون على طلبتهم بالمشايخ إذا أرادوا أن يسافروا في طلب العلم في البلدان المختلفة لما تجمع عندهم من الأخبار، ويقول: اسأل فلاناً، اذهب إلى فلان، فلان من أهل السنة احرص على لقياه.. وهكذا. - تقديم الأولويات في طلب العلم: نبدأ بأي شيء، ثم بعده بماذا؟ أحياناً تتزاحم الأشياء عند الشخص، ولا يعرف هل يبدأ بالتفسير، أو بالحديث، أو بالفقه، ومن الذي يقرر لك بماذا تبدأ؟ - الاستشارة في تغيير المنكر: كيف نغير المنكر الفلاني؟ ما هي الطريقة السليمة لتغيير هذا المنكر والتي لا تؤدي إلى مضاعفات أو حصول منكر أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره، أو تؤدي إلى فوات معروف أكبر من هذا المنكر الذي نريد أن نغيره؟ الاستشارة في طرائق الدعوة إلى الله: بمن نبدأ من الناس؟ وكيف نبدأ معهم؟ وكيف ندعوهم؟ وكيف نفتح معهم المواضيع المختلفة؟ وما هي المواضيع المناسبة للعامة والشباب والكبار والجيران وأهل الحي وطلبة المدارس والعمال والموظفين وغيرهم؟ وما التوقيت المناسب لطرح المفهوم الفلاني؟ هل يصلح أن نطرحه الآن؟ هل هؤلاء يفهمون ما سنقوله لهم؟ حدث الناس على قدر عقولهم وبما يفهمون.. هل سيفهمون أم أن هذا المفهوم من السابق لأوانه أن يطرح مثلاً؟ - كيفية الاستفادة من الوقت: أحياناً بعض الناس يقول: يا أخي كيف أستفيد من الوقت الذي من بعد الدراسة إلى الساعة الفلانية لا أدري ماذا أعمل به، هلا تشير عليّ بشيء أفعله لتغطية هذا الوقت؟ - مصادقة الأصحاب والإخوان: بمن تشير عليّ أصاحب؟ أصادق من؟ أشر عليّ من هم الناس الذين أمشي معهم(18/15)
وأصادقهم وأتعاون معهم على الخير والبر والتقوى؟... وهكذا. - تجريح وتعديل الأشخاص: من القضايا المهمة التي ينبغي أن يستشار فيها: ماذا أقول عن فلان؟ ماذا تعرف عن فلان؟ ما مدى ثقة فلان؟ ما مدى ضعف فلان؟... وهكذا. ولذلك- كما سنذكر فيما بعد- يجب أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى، لأن بعض الناس قد يستشير صاحباً له أو عظيماً عنده في نفسه، ثم يقبل التجريح الذي يأتي منه أو التعديل الذي يكون نابعاً من هوى في نفس المشير. - قضايا الزواج: لابد أن يستشير الإنسان في قضايا الزواج، مثلاً: أريد أن أتزوج من بنت فلان، ما رأيك يا فلان أنت تعرف هذا البيت؟ اسأل أهل البيت عندكم هل يعرفونها؟ حتى قضايا الفسخ والطلاق أيضاً الإنسان يحتاج أن يسأل فيها لأنها مسألة صعبة، ليس من السهل أن تطلق امرأة، لابد أن تستشير خاصة الناس الذين يعرفون أمورك وعندهم خلفية عن أحوال هذه المرأة أو هذا البيت الذي نشأت فيه. مثلاً: هل هذه المرأة يحصل منها كذا وكذا، وأنا تضايقت جداً، وبلغ الأمر عندي أوجه، هل أطلقها؟ هل أصبر عليها؟ هل أعطيها فرصة؟ إذا طلقتها هل يا ترى سأجد أحسن منها أم أنني لن أجد؟ وبعض الناس يستخدمون الطلاق في لحظة غضب، ويتسرع فيه، كأن يحصل تصرف من المرأة أو أكثر، فتزداد المسألة عنده ثم يقوم بالطلاق مباشرة، وهذا من الأخطاء.
الاستشارة في مشاكل الأسرة:(18/16)
أحياناً تحدث في البيت خلافات وانشقاقات في الأسرة.. مشاكل بين الأب والأم، والأب والأولاد، والأم والأولاد... وهكذا، فيحتار الإنسان ماذا يفعل؟ أين يكون موقفه؟ أحياناً يقول: لو وقفت مع أبي ستغضب أمي، ولو وقفت مع أمي سيغضب عمي... وهكذا، فيحتار ماذا يفعل، فلابد أن يلجأ إلى أهل الخبرة في الجوانب الاجتماعية، ويسألهم عن الأسلوب الصحيح في التعامل مع هذه المشاكل. - بعض الأوضاع في البيت.. تغيير منكرات البيوت: ما هي وسائل الإصلاح في البيت؟ كيف نغير وضع البيت، حتى الأشياء الدنيوية منها. كذلك المركب: الإنسان يريد أن يشتري سيارة، قد لا يكون في بداية الأمر عنده خبرة بأنواع السيارات، وما هو النوع المناسب الذي يفي بحاجياته. - التخصص الدراسي: كثير من الطلبة الذين يتخرجون من المرحلة الثانوية قد لا يدركون ما هو التخصص المناسب بالنسبة لهم، وما هو التخصص الذي يمكن أن يبدعوا فيه، وما هو التخصص الذي للمسلمين فيه حاجة، فقد يدخل تخصصاً ويفشل فيه، ثم ينتقل إلى تخصص آخر ويفشل فيه، ويضيع جزءاً طويلاً من عمره هكذا، ولو أنه استشار أهل الخبرة من البداية لما حصل له هذا التشتت. - الوظيفة: إذا وجد عنده أكثر من مجال للعمل، ففي أي مكان يتوظف، هذا أيضاً من الأمور المهمة أن يستشير فيها. حتى في هيئة الإنسان ومنظره أحياناً، إذا كان يخرج إلى العامة ويظهر أمامهم، ويستشير تفادياً للشذوذ الذي قد يحصل في بعض الآراء.
صفات المستشار:(18/17)
من نستشير؟ وما هي صفات المستشار؟ هذه نقطة حساسة، لأننا قد نتفق على أهمية الاستشارة، وأننا لابد أن نستشير، ولكن عندما نأتي إلى التطبيق هنا تبرز مشكلة: من هم أهل الاستشارة؟ هل أنتقي شخصاً من الشارع أو المسجد أسأله.. إلى من أتجه؟ هذا سؤال مهم جداً، وتترتب عليه نتيجة مهمة، بعض الناس يسأل بطانته والمقربين إليه ولو كانوا أجهل وأسوأ منه حالاً، ولذلك نقول: أولاً: لابد أن تصلح بطانتك حتى إذا استشرتهم أشاروا عليك بالرأي السديد الذي يرضي الله عز وجل. وثانياً: ما الفائدة من جاهل يستشير جاهلاً آخر؟ فلابد من إحسان الاستشارة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له أناساً من أصحابه لهم مميزات معينة؛ لذا كان يستشيرهم ويأخذ بمشورتهم، مثال: حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لو اجتمعتما في مشورةٍ ما خالفتكما) رواه الإمام أحمد. وسألت الشيخ عبد العزيز بن باز عن هذا الحديث؟ فقال: إسناده حسن. فالرسول صلى الله عليه وسلم لو اجتمعت عنده مشورة أبي بكر و عمر على شيء واحد لم يخالفهما فيه. وعمر رضي الله عنه كان لديه مجموعة من المستشارين، وكان فيهم الشباب والشيوخ، ولذلك كان بعض السلف يقول: يا معشر الشباب! لا تحتقروا أنفسكم، فإن مشورة عمر رضي الله عنه كان فيهم شباب حدثاء السن. وهؤلاء أهل المشورة عند عمر رضي الله عنه كانت لهم مواقف جميلة، فمنها مثلاً: أن عم الحر بن قيس ويدعى عيينة بن حصن ، قال لابن أخيه: يا بن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس : فاستأذن لعيينة فلما دخل، قال عيينة -وكان فيه شيء من البداوة- يا بن الخطاب ! والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ أن يقع به، فقال الحر : يا أمير المؤمنين! -الحر هذا من مستشاري عمر - إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه(18/18)
وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)[الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله. فانظر كيف تنفع الاستشارة.
من صفات المستشار: أن يكون صاحب دين وتقى.
والمشير دائماً يأمر بالخير والرأي السديد، وينصح بالشيء الصحيح، فمن خصال المشير مثلاً: أن يكون صاحب دين وتقى: فإن صاحب الدين يكون أميناً في إعطاء الرأي.. مأمون السريرة.. موفق العزيمة. واستشارة الناس الذين لا خير ولا دين فيهم كثيراً ما تكون آرائهم وبالاً على المستشير. انظر على سبيل المثال النكبات التي أصيبت بها جيوش المسلمين في العصر الحاضر، كل الهزائم التي مني بها المسلمون في هذا الزمان كانت بسبب استشارة الكفرة والمنافقين والناس الذين لا يوثق بهم أبداً من أعداء الله، لأن المنافق عدو الله ما هو الخير من وراء استشارته، وإذا أردت مثلاً من القديم: فما هو السبب في تخريب بغداد ودخولها إلا أن مستشار الخليفة يومئذٍ هو ابن العلقمي الخائن الرافضي؟ ولما كان مثل ابن العلقمي الخائن هو المستشار حل الخراب في بلاد المسلمين، وهكذا في يومنا هذا تحصل النكبات والنكسات بسبب وجود أولئك الخبثاء الذين يشيرون بالخطأ عمداً ونكاية، وتقع النكبات نتيجة أخذ آرائهم. وورد في حديث ضعيف: (لا تستضيئوا بنار المشركين) استنبط منه الحسن البصري استنباطاً يقول فيه: أي: لا تأخذوا بآراء المشركين، ولا تستشيروهم في أموركم، ولا تأخذوا بآرائهم، لأن آراءهم مثل النار، وإن كان المعنى الأقرب للحديث: ابتعدوا عن المشركين ولا تساكنوهم ولا تخالطوهم، والحديث فيه ضعف. ولكن لا مانع أن يستشار الكافر أحياناً إذا كان موثوقاً به، مثلاً: مقاول رأى مهندساً كافراً، لكن تبين له من أمر هذا المهندس أنه ثقة في الرأي لا يخون، وينبغي أن ينتبه؛ لأن هؤلاء الكفرة لا خير فيهم، قد يكون فيهم خبث، وقد يكون في(18/19)
استشارتهم دمار عليه، وعلى العمل الذي يريد إنشاءه، لكن لو وثق به مثل ما وثق الرسول صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط المشرك فقد استئجره في الطريق، وكان إنساناً مأموناً، قد يكون كافراً لكن فيه أمانة. لكن ما هو الغالب على الكفار؟ الغالب عليهم أنهم أعداء للدين، وأنهم يريدون الشر بالمسلمين، وأن آراءهم وبال على المسلمين وليست لصالح المسلمين.
من صفات المستشار: أن يكون عاقلاً مجرباً.
فيكون معروفاً بكثرة التجارب، "استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا"، وقال عبد الله بن الحسن لابنه محمد : احذر مشاورة الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر عداوة العاقل إذا كان عدواً، فإنه يوشك أن يورطك بمشاورته. وقبيلة عبس كانوا معروفين بكثرة الصواب، حتى إن رجلاً سأل آخر من قبيلة عبس قال: ما أكثر صوابكم؟ قال: نحن ألف رجل وفينا رجل حازم، ونحن نطيعه فكأننا ألف حازم. وقال بعض الحكماء: التجارب ليس لها غاية، والعاقل منها في زيادة. وقال بعض الحكماء: من استعان بذوي العقول فاز بدرك المأمول. وقال أبو الأسود الدؤلي رحمه الله:
وما كل ذي لب بمؤتيك نصـ ... ... حه لا كل مؤتٍ نصحه بلبيب
ولكن إذا ما استجمعا عند صاحـ ... ... ـب فحق له من طاعة بنصيب
من صفات المستشار: أن يكون عالماً بما يستشار فيه.(18/20)
هنا تبرز قضية وهي: هل يوجد إنسان معين يصلح أن نستشيره في جميع الأشياء، أم أن هناك أناساً نستشيرهم في أشياء ولا نستشيرهم في أشياء أخرى؟ الحقيقة أن هذا الأخير هو أقرب إلى الصواب، فإنه ينبغي أن يستشار كل إنسان في مجال تخصصه، فإذا كانت قضية شرعية لا تعرف حكمها؛ فإنك تستشير العلماء.. إذا كان عندك مشكلة في تخصص دراسي تستشير أهل الخبرة بالتخصصات.. إذا كان عندك مشكلة وظيفية في الوظائف لا تدري إلى أي وظيفة تذهب، تستشير الخبراء بهذا. إذاً: ليس بالضرورة أن يوجد شخص يفهم في كل الأمور، بعض الناس يظن أنه إذا استشار فلاناً في شيء، ولم يستشره في شيء آخر فإن هذا إزراء عليه، يقول: هذا رجل موثوق، إذا لم أستشره في كل القضايا فكأني أزري به، ولكن ليس الأمر كذلك، فبعض الناس يفهمون في الأدوات الكهربائية، وبعض الناس لا يفهمون في الأدوات الكهربائية، وإن كان هؤلاء الذين لا يفهمون في الأدوات الكهربائية قد يكونون أعلم بعلوم الشريعة من غيرهم، فإذاً نستشير كلاً في مجال تخصصه.
من صفات المستشار: أن يكون عنده علم بالشريعة.
يتضمن العلم بأحوال الناس، وعلم الزمان والمكان والترجيح، كما ذكر المناوي رحمه الله في شرح حديث: ( المستشار مؤتمن ). فما يصلح لمكان قد لا يصلح لمكان آخر، وما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وأحياناً تتزاحم الأمور، فلابد أن يكون المستشار عنده عقل راجح يرجح لك به أي الأمور تقدمها الآن عندما تتزاحم الأشياء. وأن يكون ناصحاً ودوداً، فإن النصح والمودة يصدقان الفكرة ويمحصان الرأي.
من صفات المستشار: أن يكون سليم الفكر من الهموم والغموم.(18/21)
فلو استشرت إنساناً مغموماً وفكره مشغول بأشياء، فهل تتوقع أن يعطيك إشارة واستشارة صحيحة؟ كان كسرى -هذه من الحكم تؤخذ حتى من الكفار- إذا دهمه أمرٌ بعث إلى مرازبته -وهم الأمراء الكبار وأهل الرأي- فاستشارهم، فإن قصروا في الرأي، أي: لم يعطوه الرأي الصحيح، ضرب قهارمته -وهم القائمون على الأموال- لماذا؟ لأنهم لم يعطوهم أرزاقهم، وكان يقول لهم: أبطأتم بأرزاقهم فأخطئوا في آرائهم، ولو أعطيتموهم الأموال التي يحتاجوها لما جلس واحدهم مهموم يفكر من أين يسترزق، فانشغل همه بتحصيل المال والرزق، فصارت آراؤه ليست سديدة. ولذلك يقال: إن حارثة بن زيد مرَّ بالأحنف بن قيس، فقال: لولا أنك عجلان لشاورتك في بعض الأمر، فقال: يا حارثة أجلّ. وكانوا لا يشاورون الجائع حتى يشبع، والعطشان حتى ينقع، والأسير حتى يطلق، والمضل حتى يجد، والراغب حتى يمنح. وقيل: لا تشاور صاحب حاجة يريد قضاءها، ولا جائعاً. وقالوا: لا رأي لحاقن ولا لحازق، ومن هو الحازق؟ هو الذي ضغطه حذاؤه فهو يؤلمه، فطالما وهو يمشي ذهنه مشغول بضيق الحذاء، ولذلك هذا لا يصلح لأن يستشار، لأن ذهنه مشغول بالحذاء، والحاقن هو: الذي يجد شيئاً في بطنه، مثل الغازات أو الألم أو شيء من هذا القبيل، فهذا الذي في بطنه هذا الشيء لا يعطيك الرأي الصواب؛ لأن ذهنه مشغول بشيء آخر.
من صفات المستشار: ألَّا يكون صاحب هوى.(18/22)
لابد أن يكون المستشار ليس بصاحب هوى أو غرض شخصي يتابعه، فإن هذا الشخص لو كان ذكي وخبير لكنه صاحب هوى فإنه سيشير عليك بالرأي الذي يهواه هو، وهذا شيء خطير جداً. فلو أن شخصاً يميل إلى شيء، وجئت واستشرته؛ فإنه سوف يشير عليك بما يهواه لا لأنه صواب ولكن لأنه يهواه. مثلاً: رجل عنده أخت فيها عيوب، لكن همه أن تتزوج بأي وسيلة، وجئت تستشيره، وقلت له: أريدك أن تبحث لي عن فتاة، فماذا سيقول لك؟ سيقول: طلبك عندي، أشيرك على فلانة مع أن فيها عيوباً. لكنه الآن عنده هوى وغرض شخصي، مثل: صاحب الدكان يكون عنده بعض السلع، وعند جاره سلع أفضل منها، وتستشيره تقول: ما رأيك آخذ هذا، أو أبحث عن نوع آخر، هو صاحب غرض الآن، سيقول: لا. هذه نوعية ممتازة خذ منها، فالآن يجب أن يكون المستشار ليس صاحب هوى، ولا صاحب غرض شخصي. وبعض الناس يذهب يستشير صاحب هوى فيشير عليه بما يهواه، ثم يقول: الحمد لله استشرت، نقول: لا. أين استشرت؟! أنت الآن استشرت من لديه ميول معينة، فأشار عليك بما يهواه وبما يميل إليه، فاستشارتك ناقصة في الحقيقة. وبعض الأحيان يكون معرفة حال المستشير مهم للمستشار: فلابد أن تسأل الشخص الذي يعرف حالتك أكثر من غيرك، فبعض الناس أحياناً يتخطون أناساً قريبين منهم، مع أن عندهم عقل راجح، وعندهم بصيرة، وهم أهل للاستشارة، فيتخطون القريب إلى آخر بعيد لا يعرف حال المستشير، ويقول له: أشر عليّ، وماذا تنصحني في حالتي هذه؟ ويعرض له مشكلة خاصة تتعلق بواقعه الشخصي، وقد يخفي شيئاً من خلفيتها، والمستشار لا يدري عن الخلفية، لأنه ليس محتكاً ولا قريباً من المستشير، فيشير عليه برأيه، فيقول هذا: الحمد لله أنا استشرت. فنقول: لا. أنت استشرت مَنْ ليس لديه خبره بحالك، وتخطيت أناساً آخرين لهم معرفة بحالك من الممكن أن تستشيرهم، لكنك تخاف أن يقولوا لك: لا تفعل، أو افعل، وأنت لا تهوى هذا الشيء، وبنفس الوقت تريد أن تستشير، لكن تريد(18/23)
الجواب الذي تهواه؛ لذا ذهبت إلى البعيد، ولو كان شيخاً كبيراً وعظيماً، وتقول له: ما رأيك في المشكلة الفلانية؟ وتخفي عنه أشياء، ولا تعرض له خلفية القضية، وتقول: أشر عليّ، فلما يشير عليك بالذي تهواه. وقد يستشير الشخص مَنْ يرتاح إليهم عاطفياً، لا لأنهم أهل بصيرة، ولا لأنهم أهل تجربة، ولا لأنهم أهل دين، ولكن لأنه يستريح لهم ويتقارب معهم نفسياً، فتجد أنه يستشيره في أموره الخاصة والخطيرة، مع أن هذا المستشار أدنى منه منزلة، لكن لأنه يرتاح إليه عاطفياً ونفسياً، فتجده يستشيره في أشياء كثيرة من أموره التي من الأولى أن يستشير فيها أناساً آخرين. وما هي المنفعة من استشارة شخص تميل إليه عاطفياً وليس عنده خبرة في المشورة؟
من صفات المستشار: أن يشعر بعظم أمانة مشورته.(18/24)
المستشار يجب أن يشعر بالمسئولية، بأنه الآن استؤمن على شيء، ولذلك قيل: المشاورة راحة لك وتعب على غيرك؛ لأن المستشير الآن تحمل مسئولية عظيمة، ولذلك ليتق الله كل مستشار فيما يستشار فيه، ويعلم أنها أمانة، ويعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: ( المستشار مؤتمن ) والقضية أمانة: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان [الأحزاب:72]، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. فمن جعل أخاه مستشاراً واستشاره فقد جعله بمنزلة المؤتمن، فيجب عليه أن يكون أميناً وهو يشير عليه، وألا يفشي بالسر. فإذا كانت لديك قضية خاصة لا تريد خبرها أن يتسرب إلى أحد فتستشير فيها، فمن أمانة المستشار ألا يسرب هذه القضية إلى أناس آخرين، إلا إذا كان هناك مفسدة عظيمة تنشأ، أو مصلحة كبيرة تفوت أكبر من مفسدة هذا، لأنك الآن تستودع عنده سرك، وأحياناً تكون قضية خاصة جداً تستودعها عند هذا المستشار. ومما ورد في هذا: قال البخاري رحمه الله في الأدب المفرد: (باب المستشار مؤتمن) عن أبي هريرة قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم : هل لك من خادم؟ قال: لا. قال: فإذا أتانا سبي فأتنا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم -حسب الاتفاق- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر واحداً من هذين الرجلين، فقال الصحابي وكان فطناً: بل أنت اختر لي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي واستوصي به خيراً). حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد و الترمذي وغيرهما. انظر من قبل قال: اختار لك فلما حُمل الرسول صلى الله عليه وسلم أمانة الاستشارة صار عنده موقف آخر، قال (المستشار مؤتمن، خذ هذا فإني رأيته يصلي)(18/25)
انظر كيف تغير موقف الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المسألة أصبحت أمانة. ومن أشار على أخيه المسلم برأي ليس صواباً وهو يعلم أنه ليس بصواب، ورد فيه وعيد في حديث صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار، ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد، فقد خانه)، وفي رواية: (وأشار عليه بأمر يعلم أن الرشد في غيره، فقد خانه، ومن أفتى بفتيا غير ثبت فإثمه على من أفتاه). إذاً: الذي يشير على أخيه بشيء وهو يعلم أن الصواب غير هذا فهذه خيانة، وفيها أثم عظيم: (ومن غشنا فليس منا) كما قال عليه الصلاة والسلام. ومن النوادر العجيبة في هذا: أن أحد الحكام استشار شخصاً، قال له: ما رأيك في تولية فلان القضاء؟ قال: فلان هذا شخص موثوق، ورأيي أنك توليه القضاء. ثم جاء هذا الشخص الذي يراد أن يتولى القضاء إلى المستشار الذي استشاره الحاكم، فقال له: يا فلان، عرض عليّ الحاكم أن أتولى القضاء، فما رأيك؟ قال: اللهم لا. لا أشير عليك أن تتولى القضاء، القضاء فيه فتنة، وفيه مسئولية. فالحاكم لما سمع استعجب، قال: أنا عندما أستشيرك، تقول:نعم، وعندما يستشيرك فلان، تقول: لا. ما هذا؟! فقال: أيها الأمير! استشرتني فاجتهدت لك رأيي ونصحتك، واستشارني فاجتهدت له رأيي ونصحته، المسألة بالأمانة، فأنا لا أقول له عندما يستشيرني: نعم؛ لأنك أنت تريده.
من أخطاء المستشار:(18/26)
بعض الناس يشيرون قبل أن يطلب منهم الرأي، وهذا يعتبر نوع من التدخل، إلا إذا كانت المسألة تتطلب أن يبدي رأيه الآن لتوقعات ستحدث، لكن هناك بعض الناس يدسون أنوفهم في كل شيء، دائماً يبدي رأيه، مع أن التدخل قد لا يكون مناسباً، أو يشير وهو ليس بأهل. إذا جاءك من يستشيرك وأنت ليس عندك خبرة في هذا الشيء، فماذا تفعل؟ تقول له: أرجو المعذرة، أنا ليس عندي خبرة، ولا أستطيع أن أشير عليك، اذهب إلى غيري، وهذا إذا أردت أن تكون أميناً. لكن بعض الناس ما إن يأتيه مَن يستشيره حتى يخرج له الرأي، حتى ولو كان رأياً فاشلاً، أو غير مبني على أي شيء من العلم أو الخبرة، وفي كثير من الأحيان إذا كان المستشار غير أهل للمشورة وجاءه إنسان واستشاره، فإن رأيه يزيد الأمور تعقيداً. في بعض الحالات يأتي من يقول: أنا عندي مشكلة مع أهلي كذا وكذا، فيأتي من يقول: أنا أشير عليك أن تتركهم لمدة أسبوع وتنام خارج البيت حتى تأدبهم. أو يقول: زوجتي كذا وكذا، فيقول: أنا رأيي أنك تطلقها. وفي بعض الحالات عندما تكون الاستشارة خاطئة تؤدي إلى نتائج عكسية، ولذلك لابد من انتقاء المستشار، ولا ينبغي للإنسان أن يتبرع برأييه كما قال الشاعر:
فلا تمنحن الرأي من ليس أهله ... ... فلا أنت محمود ولا الرأي نافع(18/27)
أحياناً بعض الناس يتدخل ويعطي رأيه، فإذا كان الذين أعطاهم الرأي ليسوا بأهل، فقد يقولون له: لماذا تتدخل في الموضوع؟ فيكون رأيه وبالاً عليه، فلذلك لا يعطي الرأي المناسب إلا في الوقت المناسب، وعندما يسأل الشخص ويعطي الرأي، يكون الرأي أثقل مما إذا أعطاه ابتداءً دون طلب استشارة. بعض الناس يعتقدون أن استشارة النساء من النكبات والمصائب، ويستدلون على ذلك بأحاديث: (شاوروهن وخالفوهن) هذا حديث مشهور عند بعض العوام، مع أن هذا الحديث لا أصل له مرفوعاً، ومعناه خطأ، وكذلك ما يروى عن عمر: [خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة] وهذا أيضاً إسناده ضعيف ولا يثبت، والحديث الموضوع الآخر: "طاعة المرأة ندامة"، لأن النساء صحيح أنهن أقل عقلاً، لكن بعض النساء قد تأتي برأي لا يأتي به أكابر الرجال. مثال ذلك: في حادثة الحديبية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا وينحروا بعد أن عقد الاتفاقية مع قريش، ومن الغم ماذا فعل الصحابة؟ لم ينفذوا الأمر، فمن الذي حل المشكلة؟ أم سلمة رضي الله عنها، دخل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها مكروباً، كيف يأمر الصحابة ولا ينفذوا؟!. شيء عظيم، فقالت أم سلمة: [يا رسول الله! احلق رأسك أمامهم وانحر هديك وسوف سيتابعوك]. وفعلاً خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ برأي أم سلمة فحلق الصحابة رءوسهم ونحروا هديهم، وكان الذي أتى بالرأي الذي حل هذا الإشكال العظيم أم سلمة ، امرأة لكن ليست كأي امرأة، وهذا يبين لنا أن النساء لسن محتقرات الرأي في الإسلام، ولكن لا يعني الأمر هذا أن الرجل يفلت الزمام للمرأة فتكون هي التي تشير وهو الذي ينفذ، فلا إفراط ولا تفريط، لا احتقار ولا إهانة. ويروى أن رجلاً كان دائماً يشاور زوجته ويخالفها، فتضايقت منه جداً، وفي يوم من الأيام شاورها في شيء ثم خالفها؛ فثارت في وجهه، فقال: إنما أفعل هذا ديانة، لحديث: (شاوروهن وخالفوهن) لماذا تلوميني؟ فعندما ذهب وسأل(18/28)
تبين له أن الحديث ليس بثابت، وأنه لا يثبت مرفوعاً، فهذه قضية اجتماعية -شرخ في البيت- بسبب هذا الحديث الضعيف أو الموضوع.
من الذي يستشير؟
العادة أن الصغير هو الذي يستشير من هو أكبر منه، أو الأقل علماً يستشير من هو أعلم منه... وهكذا، لكن لا يمنع أحياناً أن الكبير يستشير من هو أصغر منه، عمر رضي الله عنه وهو خليفة يستشير أناساً فيهم ابن عباس وهو صغير السن، وهذا من ذكاء عمر رضي الله عنه وحسن إدارته للأمور، أنه كان يجمع في مجلس مشورته بين شباب في مقتبل العمر، وبين شيوخ كبار في مجلس واحد، فيجمع بين شدة تفكير الشباب، وخبرة وحكمة الشيوخ. أحياناً ذهن الشباب ينقدح فيه ما لا ينقدح في ذهن الكبير، لأن الشاب حاد الذهن متوقد وفيه حيوية ونشاط، ممكن أن يأتي برأي لا يستطيع بعض الشيوخ أن يأتي به، وبنفس الوقت بعض الشباب قد يطرحوا آراء متهورة اندفاعية بسبب الاندفاعية التي توجد في طبيعتهم، فلابد أن يوجد هناك شيوخ يقيدون هذه الاندفاعية، ويوجهون هذا الإقدام الشديد بخبرتهم وحكمتهم، وكذلك إذا كانت هناك مجموعة تريد رأياً معيناً فيكفي أن يأتي اثنين بالخبر اليقين، وليس هناك ضرورة في أن تذهب المجموعة كلها وتستشير. استشارة الوالدين مهمة، لماذا؟ لأن الاستشارة فيها تقدير، فالإنسان دائماً يحرص على استشارة والديه، حتى لو أنه تبين له الأمر وعرف أن مصلحته كذا، لكن من باب تأليف القلوب، إلا إذا علم أن الوالدين قد يأمرانه بأمر ليس مخالف للحق، فقد يكون عدم أخذ رأيهم أحسن، حتى لا تظهر مخالفته بشكل واضح، لكن إذا علم أن والديه لن يشيرا عليه بأمر باطل، فشيء طيب على أن يحرص على أخذ آرائهم دائماً. وكذلك النساء عليهن استشارة الرجال؛ لأن الرجال أكمل عقلاً وأقوم في الأمور، فالنساء أحياناً قد يحتجن إلى أشياء في طلب العلم أو في الدعوة إلى الله، وقد تأتي أحياناً بين النساء أفكار فيها نوع من الخروج عن المألوف، أو الخروج عما(18/29)
يمكن أن يقبله الناس، أحياناً قد يأتي عند النساء أشياء تطرح بقوة في مجالات معينة لا يمكن أن يتقبلها الناس وليست من المألوف، بل قد تسبب مشاكل في المجتمع، فلذلك لابد أن يكون هناك نوع من الرجوع من قبل النساء إلى الرجال.
كيف تستشير؟
هل أستشير فرداً، أم جماعة، أم أستشير الجماعة كل شخص بمفرده؟ نحن نثق ونعلم ونوقن أن الإسلام سبق الغرب في القيادة الاستشارية، وأن خلفاءنا وعلماءنا من القديم كانوا يطبقون هذا المفهوم، وليس الغرب الآن هو الذي اكتشف هذا ودونت في كتب الإدارة الحديثة، بل هي قضية قديمة. الاستشارة لها منازل، منها: ما يدخل فيه الرهط، ومنها: ما يستعان فيه بقوم، ومنها: ما يستغنى فيه برأي واحد، ليس هناك قاعدة معينة أنك تسأل جمع كثرة أو قلة أو واحد حسب الحالة. بعض علمائنا ناقشوا قضية استشارة الجماعة أم استشارة الفرد؟ فبعضهم قال: الأولى أنك تجمع الناس المستشارين وتستشيرهم؛ لأن هذا فيه إجالة فكر، ومناقشة الأشياء وتنقيحها، وإذا طرح رأي يعارض من قبل الذين عندهم آراء أخرى، ويرى الجميع سلبيات وإيجابيات الرأي، وتقع مناظرة تنتهي بتنقيح المشورة، أي: سيتناقشون ويتناقشون حتى يظهر الرأي الصحيح. وبعضهم قال: الأولى أنك تستشير كل واحد بمفرده، لماذا؟ قال: لأنك لو طرحت على الجماعة، قلت: أستشيركم في كذا، كل شخص سوف يلقي المسئولية على الآخر ويسكت، ويقول: الآن فلان سيأتي بالرأي، فلا يحدث إنقداح قوي للأذهان، لكن لو استشرت كل واحد لوحده، فعندما تسأله يحس بالمسئولية، فيعطيك الرأي بعد تفكير وتمحيص، لكن لو جمعتهم يمكن أن يكون هناك تواكل. والحقيقة أن المسألة ليس لها جواب معين، أي: ليس دائماً استشارة كل واحد لوحده صحيحة، وليس دائماً استشارة المجموعة هو الصواب، بعض الأحيان يكون الاجتماع أبلغ وأحسن، وبعض الأحيان تكون استشارة كل واحد على حدة أفضل.
كيفية استشارة الرسول:(18/30)
نأخذ مثالاً من السيرة: حادثة واحدة وقع فيها نوعين من الاستشارة: استشارة فردية واستشارة جماعية، حادثة الإفك، الرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلم في أهله المنافقون ونشروا الفتنة والبلبلة، ماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ صعد على المنبر، وخطب الناس، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أشيروا عليّ في قوم يسبون أهلي، والله ما علمت عليهم من سوء قط) استشارة جماعية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يتخذ موقفاً جماعياً من المنافقين المندسين بين الأنصار، فإذاً لابد من أن يجتمع الناس على رأي؛ لأن المسألة تعم الجميع. لكن لما جاء عليه الصلاة والسلام ليستشير في أمر عائشة ، ماذا فعل؟ استشارة شخصين هما: أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، واستشار علي بن أبي طالب الصهر، وهل من المصلحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على المنبر يقول: يا أيها الناس، أشيروا علي في براءة زوجتي؟ هذا ليس بمناسب، ولذلك أخذ علياً وسأله، وأخذ أسامة وسأله، لكن عندما صارت المسألة موقف من المنافقين، وشيء يعم الجميع صعد على المنبر واستشار. فإذاً: عندما يكون الأمر متعلقاً بالجميع، فتكون الاستشارة جماعية، وعندما يتعلق الأمر بشيء خاص، أو تكون هناك حساسية معينة، وليس من المعقول أن يجمع الناس ويؤخذ رأيهم في شيء من هذا فتكون فردية، فمن سيتزوج هل يجمع كل أصحابه ويقول: ما رأيكم في زواجي من فلانة؟ لا. وإنما سيذهب إلى واحد بالسر بينه وبينه فيشير عليه، الإنسان إذا عرف الصواب وتوصل إلى نتيجة هل يستشير ويستشير أم ينفذ الاستشارة؟ الجواب موجودٌ في قوله عز وجل: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] وفي البخاري : عندما شاور الرسول صلى الله عليه وسلم الناس في أحد ، أشار عليه المتحمسون بالخروج من المدينة ، فلبس عليه الصلاة والسلام لأمته، فلما أشار عليه الآخرون بالبقاء، ماذا قال عليه الصلاة(18/31)
والسلام؟ (لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن ينزعها) لماذا؟ لأننا استشرنا وأخذنا الرأي هذا إذاً ننفذ. ولم يكن هناك وضوح تام أن البقاء في المدينة (100%) هو الأصلح؛ بدليل أن المسلمين انتصروا في البداية، فلو نفذت الأوامر كما ينبغي لكمل الانتصار.
لا استشارة مع وجود النص:
كذلك إذا تبين للإنسان وجه الحق في شيء فلا يسمع كلام أي شخص بعد ذلك. مثال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما عزم على قتال المرتدين، قال عمر: (كيف تقاتل قوماً قالوا: لا إله إلا الله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم). ثم تابعه بعد ذلك عمر على رأيه -هذه رواية البخاري - فلم يلتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى مشورة عمر، إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة. فإذاً أبو بكر لما عرف الحق لم يقبل مشورة أحد. ونحن الآن يقع بعضنا في إشكال وهو: قد يستشير في أمر، لكن حتى مع الاستشارة لا يتبين له وجه الصواب، ولا يدري ما هو الحق، تضاربت عنده الآراء وكل واحد يشير عليه برأي معين، فماذا يفعل؟ قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي : وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيماً في الدين والدنيا، وإن كان أمراً تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه- أي: الرأي وعلى ماذا اعتمد هذا الرأي؟- فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عمل بها. يقول: أنت يا فلان ما رأيك؟ ما دليلك؟... ثم ينظر هذا الرجل أيها أقرب إلى الكتاب والسنة، وأشبه(18/32)
بنصوص الكتاب والسنة فيعمل به. لو أن إنساناً ليس عنده خبرة أو علم، ولا يستطيع أن يعرف ما هو الأشبه بالكتاب والسنة، فماذا يفعل؟ يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دلّ عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يكن ذلك- هذه مسألتنا الآن- لضيق الوقت. أي: الواحد ليس عنده وقت الآن ينقح الآراء ويقضي وقتاً طويلاً، أو عجز الطالب، عرف أقوال ثلاثة من العلماء متضاربة، وليس عنده قدرة على الترجيح، أو تكافأت الأدلة فلا يستطيع أن يرجحها أو غير ذلك، فماذا يفعل؟ يقلد الأعلم، شخص قرأ ثلاث فتاوى لثلاثة مشايخ فيها آراء مختلفة، وحاول أن يبحث في الأدلة فما استطاع، ماذا يفعل؟ يقلد الأعلم. نرجع فنقول: إذا كانت القضية شرعية فالأعلم فيها هو الأعلم بالشريعة، وإذا كانت قضية تخصص دراسي، فالأعلم بالتخصصات وبواقعك وبشخصيتك تأخذ برأيه، فتقلده إذا تضاربت عندك الآراء. ولذلك نقول: العالم يأخذ بالأعلم، وإذا كانت القضية تتعلق بالواقع يأخذ برأي الأقرب وأوعاهم وأكثرهم وعياً بالواقع، والذي يعرف أصول الإسلام ويثق فيه أكثر، وبعبارة أخرى: يأخذ من تجتمع فيه شروط المستشار أكثر من غيره. أحياناً إذا شعر الواحد أنه إذا استشار عدة أشخاص، فإن هذا يكون سبباً لضياعه وتشتت ذهنه، فإنه لا داعي لأن يفعل هذا، وإنما يستشير من يعتقد أنه الأقرب إلى الصواب. طالب العلم مثلاً لو استعصت عليه مسألة وسأل فيها أكثر من عالم، وشعر أن أخذ آراء خمسة من العلماء سيجعل فيه نوعاً من التشتت، وسيجعله يرجح، إما بالهوى، أو بالأكثرية، وهذا ليس دائماً صحيحاً، أو لأن أحد الأقوال يوافق تفكيراً سابقاً عنده، كمن فكر في مسألة ثم سأل ثلاثة علماء اختلفوا، ومنهم من يوافق الذي في ذهنه، هل يتبع هذا؟ لا. ليس بالضرورة أن الذي يوافق الذي في ذهنك يكون هو الصحيح، ولذلك إذا لم يكن عندك قدرة على الترجيح اسأل الأعلم واتبعه. بعض الناس أحياناً(18/33)
يقعون في مشكلة في الاستشارة، وهي: أخذ الآراء الكثيرة جداً، لماذا؟ لا لأنه يحتاج، لكن بعض الناس يريد أن يضفي أهمية على نفسه، وأهمية على المشكلة، ويكبر المشكلة، فيستشير عشرين شخصاً، لا لأنه يحتاج رأي العشرين، لكن لكي يقول: أنا استشرت فلاناً وفلاناً و... ويكبر المشكلة، ويبين نفسه أنه مهم، وأن المشكلة هذه خطيرة، وأنها تحتاج إلى عشرين شخصاً، فتكون أحياناً من باب التباهي أمام الناس وأمام نفسه، وهذا النوع من الناس غالباً ما يكون ضعيف الشخصية، ليس عنده قدرة على حبس فكرة في ذهنه، فهو كلما رأى شخصاً طرح القضية عليه. فلا يستطيع أن يسيطر على ما بداخل نفسه، فيشعر أنه لابد أن يحدث جميع الناس، فلا هو الرجل الحازم الذي عنده الرأي وأخذ به، ولا هو أخذ برأي الناس ولا يأتمر، كما يقول أحدهم: "رجلٌ حائر بائر، لا يأتمر رشداً ولا يطيع مرشداً"، وإذا عرف الإنسان الحق، فإن الجواب في الآية فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... ... ولا تك بترداد الرأي مفسدا
ويقال: فإن فساد الرأي أن تترددا.
متى نستشير؟(18/34)
الحقيقة أن الاستشارة قد تكون واجبة، وقد تكون مكروهة، وقد تكون محرمة، وقد تكون جائزة. مثال على الاستشارة الواجبة: استشارة الأب ابنته في الزواج قبل أن يزوجها لفلان على قول طائفة من أهل العلم، أو استشارة الفرد في الجيش قبل أن يعمل عملاً، والأمير إذا قال: ائتمروا بأمري فلا يجوز له أن يفعلها، ولابد أن يستشير. أحياناً تكون الاستشارة مستحبة، مثل: مشاورة أهل العلم والخبرة في طرائق الدعوة إلى الله. وأحياناً تكون الاستشارة مباحة، مثل: الاستشارة في شراء السيارة، أو البيت، أو التخصص الدراسي مثلاً. وأحياناً تكون الاستشارة مكروهة، مثل: الاستشارة الزائدة في أمور تافهة من المطعم والمشرب والملبس مما يضيع وقت المستشير والمستشار. وأحياناً تكون الاستشارة محرمة، مثل: الاستشارة في أن يصلي الظهر أم لا؟ هذه الاستشارة لا تجوز، وبالطبع تصلي الظهر سواء أشار عليك أو لم يشر عليك لن يقدم ولن يؤخر.
خطأ التقرير ثم الاستشارة:(18/35)
هناك خطأ في الاستشارة يقع وهو خطأ حساس ودقيق، وهو: أن بعض الناس يقرر ثم يستشير، أي: يفكر في المسألة ويبدو له شيء معين ويهواه في نفسه ويقرر هذا الشيء، وبعد ذلك يستشير من باب أن يقول: إني استشرت، لكنه في الحقيقة هو عازم على تنفيذ ما خطر في باله سواء أشاروا عليه بخلافه أو به هو، فهو عازم على أن ينفذ ما في ذهنه، ولذلك استشارة هذا الشخص ليس لها معنى، وما هي الفائدة منها؟ وهذا يفعله بعض الناس ليبرر لنفسه إقدامه على العمل الذي في رأسه، أو ليخدع نفسه. وأحياناً يذهب إلى المستشار ولا يعطيه الصورة الحقيقة عن القضية، أو يجعل له ملابسات بحيث يقول المستشار الرأي الذي يريده المستشير، مثلاً: شخص قرر أن يخرج من البيت، فذهب إلى شخص يستشيره، قال: عندي مشكلة كذا وكذا، وربما إذا دخلت البيت يطردني أبي ويغلق الباب... ويسهب له في هذه النقطة، مع أن المسألة ليست كذلك، لكن هذا المستشير أوحى للمستشار بأشياء خطأ حتى يأتي له المستشار بالرأي الذي يوافق هواه والذي يريده هو. وأحياناً يكون هناك تشاور أشبه بالتناجي من تشاور أناس أو مجموعات ليس لها خبرة ولا رأي، فيقررون بين أنفسهم أمراً يخرجون به على الناس فجأة، فيكون وبالاً عليهم وعلى آخرين، ولذلك نقول: يا أيها الناس! لا تتسرعوا في الأمور، وإذا أردت أن تقدم على أمر وهذا الأمر فيه خطورة عليك أن تستشير الثقات الأمناء، وليس مجموعة من الشباب الاندفاعيين الذين يستشيرون أنفسهم، ثم يقدمون على عمل يكون فيه وبال عليهم، وقد يكون على غيرهم أيضاً ويكون الشر متعدياً.
خطأ استشارة الخوارج لأنفسهم:(18/36)
هناك خطأ في استشارة الأنفس دون غيرهم مثل الخوارج : اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم ماذا نفعل؟ اجتمع عبد الرحمن بن ملجم وثلاثة أشخاص في الحج، قالوا: ما هي مشكلة المسلمين؟ تداولوا فيما بينهم، قالوا: مشكلة المسلمين تكمن في ثلاثة أشخاص: علي بن أبي طالب، ومعاوية، و عمرو بن العاص، ما هو الحل؟ -الآن هذه مشاورة- قالوا: نقتلهم ونريح المسلمين منهم، فنحن إذا قتلناهم انتهت المشكلة. فقالوا: عبد الرحمن بن ملجم يذهب إلى الكوفة ويقتل علياً ، وفلان يذهب إلى مصر ويقتل عمرو بن العاص، وفلان يذهب إلى الشام ويقتل معاوية بن أبي سفيان ، تشاوروا وتعاقدوا وعملوا هذا العمل، وأنتم تعرفون القصة، وعبد الرحمن بن ملجم له سيف مكث يسقيه السم شهراً، ثم خرج به على علي بن أبي طالب وهو خارج لصلاة الفجر فضربه على جبهته، فتحقق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أشقى الناس عاقر الناقة والذي يضربك على هذه حتى يبل منها هذه) وفعلاً تصبب الدم حتى نزل من لحية علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمات. هذا الخارجي عندما علق وصلب ليقتل، وبدءوا ليقطعوا أطرافه لم يصرخ ولا صرخة، فلما جاءوا يقطعون لسانه صرخ، قالوا: ويحك! قطعنا أطرافك وما صرخت، فلما أردنا قطع لسانك صرخت، قال: لساني أذكر به الله! فالآن يا أيها الشباب! بعض الناس أحياناً يستشيرون بعضهم ويتعاقدون على أمرٍ فيه دمارٌ عليهم، لأنهم لم يعرفوا أنهم ليسوا هم الذين من المفترض أن يستشيروا أنفسهم، وإنما هناك أناس من أهل الخبرة هم مَن يستشارون.
خطأ الاعتماد على المشورة دون الله:(18/37)
من الأخطاء في الاستشارة أيضاً: أن بعض الناس يعتمد اعتماداً كلياً على المشورة دون الله عز وجل، فيظن أنه إذا أخذ المشورة معناها سيكون التوفيق حليفه والصواب معه، وهذا فيه ركون إلى الأسباب الدنيوية، وإلا فمن المفروض أن الإنسان بالإضافة إلى الاستشارة أن يفعل الاستخارة والتوكل على الله عز وجل. أول شيء: الإنسان يستشير حتى يعرف وجه الصواب، فإذا جاء ليقدم عليه وهمَّ بالأمر عليه أن يستخير، حتى يبرأ من حوله وقوته كما في دعاء الاستخارة: (.. فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب...) هذا فيه براءة من الحول والقوة، واعتماد على الله عز وجل، وهذا أمر مهم جداً، هناك حديث: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) ولكن هذا الحديث ضعيف أو موضوع كما ذكر بعض ذلك أهل العلم، وتجدونه في السلسلة الضعيفة برقم [611] .
موانع الاستشارة:
بعض الناس مع علمهم بأهمية الاستشارة لكنهم لا يستشيرون لماذا؟
الاستهانة بالأشخاص المستشارين:(18/38)
عندما تقول له: يا أخي! استشر في المشكلة، يقول: من أستشير؟ تقول له: استشر فلاناً، يقول: وهل فلان أعلم بمشكلتي مني؟! أي: فلان يفهم أكثر مني في المشكلة، وبماذا سيشير علي؟! أنا أعرف المشكلة أساساً وخلفياتها.. أعرف تاريخ المشكلة، وفلان إذا أخبرته لن يأتي لي برأي لم يخطر في بالي، فهذا استهانة بالأشخاص. وأحياناً بالإضافة إلى هذا يصل به غرور الذات إلى الإحساس بالكمال، يقول: أنا رأيي أحسن رأي.. أنا لست بحاجة إلى الاستشارة.. أنا عقلي كامل، لماذا أذهب وأستشير الناس؟ أنا لست بحاجة، أنا إنسان عاقل وفاهم ومجرب وخبير، لماذا أسأل وأستشير؟ ولذلك يقول أحدهم: من أعجب برأيه لم يشاور، ومن استبد برأيه كان من الصواب بعيداً. ويدخل في هذا مسألة نفسية وهي: أن بعض الناس يظن أنه لو استشار كأنه يقول لآخر: أنا لم أستطع أن أحلها بمفردي، وأنا الآن لجأت إليك لأني ضعيف، بعض الناس يأخذ الاستشارة من هذا المنطلق. يقول: لا أريد أن أظهر أمام الناس أني ضعيف، وأني ما استطعت أن أحل المشكلة بمفردي، وأني بحاجة إليهم وإلى آرائهم، لا، أنا أقرر من نفسي وانتهينا، ولذلك يقول الشاعر:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... ... أي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضا ... ... ضةً فإن الخوافي قوة للقوادم
الخوافي: هو الريش الذي يختفي إذا ضم الطائر جناحيه، وهو قوة للقوادم، فإذاً أنت عندما تستشير فأنت في الحقيقة تقوي نفسك لأنك ستستعين وتتقوى بآراء الآخرين.
فارق السن والمنزلة:(18/39)
فمثلاً: شخص يرى شيخاً كبيراً وعظيماً، فيستحي أن يأتي إليه ويستشيره لفارق السن، أو بعض الطلاب يستحي أن يسأل أستاذه لفارق السن، أو بالأحرى يخجل، وهذه عبارة أدق. أو العكس: أحياناً بعض الآباء يكون عنده ولد متعلم وفاهم، والحقيقة أن الأب يحتاج إلى رأي الولد في أمرٍ من الأمور، لكن يقول: أنا أستشير ولدي وأنا أكبر منه؟! ونحن قد بينا أنه لا عيب ولا غضاضة أبداً أن الإنسان كبير السن يستشير من هو أصغر منه، أو مثلاً شخص يستشير من هو أدنى منه منزلة اجتماعية، أي: مدير يستشير موظفاً، أو شخص غني يستشير شخصاً فقيراً، يقول: لا، هذا أدنى مني في المنزلة.
الخجل وعدم القدرة على التعبير:(18/40)
أحياناً يكون الخجل أو عدم القدرة على التعبير هو المانع، فمثلاً: شخص يريد أن يستشير لكن لا يستطيع أن يعبر عن المشكلة، فيكون هذا مانعاً له، أو تكون القضية حساسة. مثلاً: شخص واقع في مشكلة ومخطئ فيها، ولا يدري كيف يخرج من هذه المشكلة، فلو ذهب إلى شخص وقال: أنا حدث لي كذا وكذا، فيستحي، يقول: هذا المستشار سوف يأخذ فكرة سيئة عني، أنا كنت في نظره كبير، الآن لو قلت له: أنا وقعت في المطب الفلاني، ولا أعرف كيف أتصرف، أريد منك الحل، سوف يغير رأيه عني. وأحياناً تكون المشكلة حساسة إلى درجة أنه لا يجرؤ أن يصارح بها، فلنفترض إنساناً واقع في هوى فتاة والعياذ بالله، فالآن هو واقع في مشكلة عظيمة جداً، فقلبه متعلق بها، وصلاته ليس فيها خشوع، وإيمانه ضعيف جداً، لا طلب علم، ولا دعوة إلى الله، وصار عنده انحلال في القوى والتفكير والرأي والذهن، الآن كيف يأتي إلى شخص يقول له: أنا واقع في كذا وكذا، وتعرفت على فلانة أو فلان، وصار لي كذا وكذا من المشاكل، وأنا أريد رأيك في الموضوع، هذه مسألة محرجة، أليس كذلك؟ من العلاجات لهذه المشكلة: طريقة الكتابة، وقد جربت هذه الطريقة، فكانت نافعة، فالشخص مثلاً محرج لكن لابد أن يستشر.. اكتب المشكلة في ورقة، ثم اكتب أرجو الإجابة على ظهر الورقة، أو في ورقة أخرى، وسوف أمر بك لأخذ الجواب أو أرسل إليك، وليس من الضروري أن تذكر اسمك. مثلاً: نستقبل رسائل من أناس في المسجد أو يحضر شخص رسالة، ويقول: هذه رسالة من امرأة أو رجل، وأحياناً تكون منه هو، لكن لا يقول: هذه مني، يقول: هذه من شخص -وهو لم يكذب- ويريدك أن تجيب عليها، نفتح الرسالة وإذا بها: أنا واقع في مشكلة كذا وكذا وكذا، أريد الحل؟ ليس من الضروري أنك تأتي تعبر عن نفسك، وتقول: أنا فلان الفلاني، وقعت في مشكلة مع فلان الفلاني أو مع فلانة، أعطني الحل، لا. ممكن أن تستشير بدون أن تكشف هويتك الشخصية، ولذلك لا ينبغي أن يمنع(18/41)
الإنسان أي مانع من الاستشارة، وهي خيرٌ إن شاء الله. وأسأل الله عز وجل أن نكون قد أجبنا على بعض التساؤلات، أو كشفنا بعض النقاط التي قد يكون في البعض غفلة عنها أو عدم إحساس بأهميتها، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بهذه الكلمات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله أولاً وآخراً.
الأسئلة:
كيفية إعداد محاضرة:
السؤال: فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جزاكم الله خير الجزاء على نوعية المحاضرات التي تلقونها، ولتطبيق عملي لمحاضرة هذه الليلة، فإني أستشيرك في كيفية إعداد موضوع متكامل لجلسة معينة أو محاضرة، وجزاكم الله خير الجزاء، وما هي نوعية الكتب التي رجعت إليها في هذه المحاضرة إن أمكن ذلك؟ الجواب: الحمد لله رب العالمين، أما بالنسبة لإعداد الموضوع فهي مسألة مهمة، لأنه يحدث أحياناً ألا يكون الإعداد جيداً، فيكون الكلام ليس له فائدة، نأخذ مثلاً: موضوع الاستشارة، وكيف نعد مثل هذا الموضوع، أحياناً يكون هناك كتاب مؤلف في الموضوع، فيغنيك عن أشياء كثيرة، لكن أحياناً لا يكون هناك كتاب مؤلف في الموضوع، مثلاً هناك كتب عن الشورى وليست عن الاستشارة، لكن تكلم عن الشورى في اختيار الخليفة، وأهل الشورى وأهل الحل والعقد، وصفات أهل الحل والعقد.. وهكذا. فهي ليست في الموضوع الذي نحن نطرقه الآن من الناحية التربوية، ولا يتكلم عن الناحية التربوية وإنما يتكلم عن أحكام الإمامة والاستشارة فيها.. وهكذا، فلو لم يوجد كتاب، ماذا تفعل؟ أول خطوة: ما هي الآيات والأحاديث الواردة في الموضوع؟ ما هي القصص الواردة في الموضوع، ثم ما هي أبيات الشعر والحكم الواردة في الموضوع؟ ولكل من هذه الأشياء مراجع، فمثلاً: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن قد يعطيك الآيات الواردة في الموضوع، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث يعطيك الأحاديث الواردة في الموضوع، ثم تنتقل في مجالات الأحاديث إلى خطوة أخرى وهي تحقيق الأحاديث؛ لأنه لا يصح(18/42)
أن تأتي للناس بأحاديث ضعيفة، فلابد أن تلجأ إلى كتب التصحيح والتضعيف لتعرف أقوال العلماء، وإذا لم تعرف تسأل. مثلاً: ورد هنا حديث لا أعرف درجته، فاتصلت بالشيخ ابن باز وقرأت عليه السند، قلت له: هذا الحديث في مسند أحمد ، فقال الشيخ قال: هذا إسناده حسن. وكذلك من أهم الأشياء بعد ذلك كيف يربط الموضوع في الواقع، لا يكفي أن نتكلم عن الموضوع من وجهة النظر العلمية البحتة النظرية، لابد أن نربطه بالواقع. مثلاً: فقرة ما هي مجالات الاستشارة؟ هذه فقرة عملية، كيف نستشير؟ هذه فقرة عملية، ما هي موانع الاستشارة؟ هذه أشياء مأخوذة من الواقع، قد لا تكون موجودة ولا في الكتاب، إما أن تكون نتيجة تفكير ذهني. ولا يكون التفكير سليماً في هذه الأشياء إلا إذا أخذ من واقع الناس، فالشخص إذا احتك بالناس يعرف ماذا لديهم من إشكالات في هذه القضية، فمثلاً عندما يأتي من يستشير في موضوع، فأقول له: كذا، ومن ثم يأتي شخص يستشير في نفس الموضوع، فألاحظ أن طريقة عرض الأول تختلف عن طريقة عرض الثاني، وأن الثاني أتاني بمعلومات لم يأتني بها الأول، فأعرف أن المسألة فيها لعبة وإخفاء معلومات، فتكتشف أن الشخص الأول يريد جواباً معيناً، فلذلك أتى لك بمعلومات معينة وأخفى الباقي، الشخص الثاني أتى لك بطرف الموضوع الآخر، وهذه كثيراً ما تحدث، يأتي شخص يقول: والله أنا أريد أن أستشيرك في موضوع، يا أخي! أنا علاقتي بفلان سيئة، هذا فلان يفعل كذا وكذا وكذا، فأنت من واقع الأشياء المعروضة تكاد أن تقول له: يا أخي! اجتنبه وابتعد عنه، ليس هناك داعٍ للمشاكل. لكن عندما تسمع من الطرف الآخر، ويأتي يستشيرك الطرف الآخر، تكتشف كما قال أحدهم: إذا جاءك أحد الخصوم مقلوعة عينه، فلا تحكم له على خصمه، فربما قد قلع عينا ذلك الشخص. فإذاً هناك مواضيع لابد من ربطها بالواقع والتفكير من خلال الأحداث الجارية، وهناك أشياء فيها مراجع، مثلاً هذا الموضوع ارجع فيه إلى(18/43)
شروح الأحاديث من مثل: تحفة الأحوذي ، وعون المعبود ، وفضل الله الصمد شرح الأدب المفرد ، وفتح الباري وكتب الأدب، وأنس المجالس فيه كلام أيضاً عن المشورة، وكتاب ابن قتيبة عيون الأخبار مثلاً فيه فصل عن المشورة، وإذا أردت أن تخرج مثلاً معنى كلمة المشورة لابد أن ترجع مثلاً إلى لسان العرب حتى تعرف مادة شور، وماذا قال أهل العلم فيها؟ وهكذا، فتتكامل الخيوط. هناك طريقة أحياناً تصلح في بعض المواضيع وهي: إذا لم تستطع أن تعنصر موضوعاً، هناك أسئلة مهمة لو أدخلتها على أي قضية يمكن أن يصبح عندك عناصر لهذا الموضوع، وهذه الطريقة قد اتبعتها في هذه المحاضرة، وهذه الأسئلة مثلاً: (ما هو، كيف، متى، أين، لماذا، من) هذه الأسئلة أدخلها على أي قضية، مثلاً الحسد، ما هو الحسد؟ لماذا الحسد؟ ما دوافع الحسد؟ أين الحسد؟ في أي مجالات يحدث الحسد؟ وكيف العلاج؟ مثلاً الصدق، ما هو تعريف الصدق؟ من هم الصادقون؟ ما هي المواطن التي يظهر فيها الصدق بجلاء؟ مثلاً أخطأت على شخص أنت المذنب فينبغي أن تعتذر.. وهكذا، وهناك بعض العناصر لا تقبل بعض هذه الأسئلة، فمثلاً: ليس هناك شيء اسمه متى الصدق؟ لكن أحياناً يمكن أن يكون هناك متى الصدق؟ إذا جاء ظالم يأخذ مال مظلوم عندك في هذه الحالة ما حكم الصدق؟ وقال: أين أموال فلان؟ فيمكن أن تستنبط لك أشياء عن طريق إدخال هذه الأسئلة إلى الموضوع.
الاستشارة من أجل تأليف القلوب:(18/44)
السؤال: قد يستشير إنسان إنساناً آخر ليس بأهلاً للمشورة، وقد لا يعلم بالمشورة، ولكن ليؤلف قلبه ويكسر الحاجز الذي بينهما، فهل هذا صحيح؟ الجواب: هذه طريقة جيدة، شخص أحياناً انتهى أمره في مسألة من المسائل، لكن هناك بينه وبين فلان حساسيات أو مشاكل، فهو يريد تأليف قلب صاحبه بأي طريقة من الطرق، فمن الطرق أن يأتي ويستشيره في شيء من خصوصياته، فالشخص الآخر عندما يشعر أنك تستشيره في قضية من خصوصياته، فربما يتغير موقفه منك بالكلية، ويقول: فلان لا يعاديني، ولو كان يعاديني لما استشارني، ولولا أنه يقدرني لما استشارني، فمادام أنه استشارني فهو يقدرني، فقد يذهب كثير مما في نفسه عليك لأنك استشرته.
الفرق بين النصيحة والغيبة:(18/45)
السؤال: هل قضية الكلام والتجريح على بعض الشباب جائزة؟ ومتى تكون؟ وهل هي دائماً أم في بعض الأحيان المهمة؟ وهل هذا يعتبر من الغيبة والنميمة؟ الجواب: هذه من المشاكل التي بلي بها العمل الإسلامي في هذا الزمان، وهي قضية كلام بعض الدعاة في بعضهم البعض، وهي راجعة إلى قلة تقوى الله، وعدم الخوف من الله عز وجل، وعدم احترام حدود الله، وعبادة أوثان وهمية مثل وثن مصلحة الدعوة، فباسم مصلحة الدعوة ترتكب جميع أنواع المنكرات من الغيبة والنميمة والكذب والخيانة وإخلاف الوعد وغير ذلك باسم هذا الوثن الذي هو مصلحة الدعوة. نحن لا ننكر أن هناك مصالح مرسلة، وأن الشريعة مبنية على المصالح، وهذا باب، لكن أن نأتي وندخله في هذه الأشياء بين إخواننا المسلمين وأغشه وأكذب عليه وأغتابه باسم المصلحة، أين المصلحة في هذا الأمر؟! قضية التجريح مثلاً: عندما يسألك شخص عن رجل مبتدع، وإنسان ضال ومشرك وكافر ومنافق من المنافقين، وقد ثبت لديك نفاقه في ذلك الوقت فهذا يمكن من باب النصيحة تقول: احذر من فلان. لكن تأتي إلى إنسان ظاهره الخير وتُسأل عنه، تقول: لا. هذا إنسان مشكوك في أمره، وتبدأ تجرحه، وتلقي ظلال التهمة والريبة على هذا الشخص في نفس سائلك، هذه من الجرائم التي ترتكب من بعض الناس -للأسف- بكل سهولة، ربما لا يتحرج أصلاً ولا يسأل نفسه ما حكم هذه الكلمة التي أقولها الآن في فلان وفلان، وخصوصاً التجريح في بعض أهل العلم، والذي يجرح في العلماء هو إنسان في الغالب صاحب هوى وجهل، وإلا لما جرح في أهل العلم. كونك تذكر ملاحظة في منهج عالم فلاني أو شيء عندما تتعرض له ويصبح فيه حاجة للتبيين، وهذا يقول لك: يا أخي! بعض العلماء يقولون بجواز سفر المرأة بغير محرم، فتقول: يا أخي! مستندهم ضعيف وليس لهم دليل، والحديث واضح وصريح، وأهل العلم قالوا بالحكم الفلاني، هذا ممكن، لكن بعض الناس بدون مناسبة وبدون سؤال وهو في مجلس يقول: العالم(18/46)
الفلاني جزاه الله خيراً -بعض الأشياء تأتي من هذا الباب وهو باب عجيب شيطاني- له جهود كبيرة في خدمة الإسلام، وهو إنسان عنده علم غزير ومؤلفات نافعة، ولكنه...، ويأتي بعد ولكنه من المثالب والمعايب ما ينسي السامع كل المدح، فقرات المدح جاءت مقدمة فقط لاقتحام قلب الشخص، وإفراغ هذه الشتائم أو المعايب في ذلك السائل. ولذلك بعض الناس يحتجون، يقول: العلماء يتكلمون في الجرح والتعديل، لكن في أي شيء؟ في قضية أخذ رواية الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، في تمحيص الأخبار، هذه أحاديث يبنى عليها أحكام، وتبنى عليها عقائد، وأشياء يجب أن نؤمن بها، فاضطروا اضطراراً لذلك، أما أن تكون المسألة ليس فيها حديث ينبني عليه كلام رجال في السند، ولا فيها شيء من هذه الأقاويل، فيقول: علماء الجرح والتعديل تكلموا في فلان. هل الحاجة التي كانت عند علماء الجرح والتعديل فتكلموا في فلان وفلان موجودة الآن في الشخص الذي أنت تتكلم عليه؟ قد يكون هناك حاجة كشخص يريد أن يتزوج أختك، فذهبت وسألت عنه، هناك يكون الكلام واجباً من باب النصيحة في هذا الشخص، فقط في الأشياء المهمة المتعلقة بالزواج، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما معاوية فصعلوك وأما أبو جهم فإنه لا يضع العصا عن عاتقه). لكن لو قال لك شخص: ما رأيك يا أخي، فلان تقدم لأختي؟ فتقول: لا. هذا فلان خطه سيئ، وهو إنسان تلاوته للقرآن غير جيدة وصوته ممل، ثم إنه يلبس ثياباً تفصيلها كذا... أي: تأتي له بأشياء أو عيوب لا علاقة لها أبداً بالزواج. أو مثلاً جاء شخص قال: ما رأيك في فلان أريد أن أشاركه في مشروع تجاري؟ فتقول له: والله فلان يا أخي يضرب زوجته كثيراً، ولا يسمح لزوجته أن تذهب إلى أهلها، ما علاقة هذا بهذا؟! فهنا يتبين لك بالكلام هذا الفرق بين الشيء الضروري الذي ينبغي أن يذكر، وبين الشيء الذي هو غيبة حقيقة ولا يجوز أن يقال.
الاقتصار على الاستشارة في الأمور الدنيوية:(18/47)
السؤال: ما حكم من كانت استشارته جميعها في أمور الدنيا، فمنها ما هو نافع ومنها ما هو ضار، وهل جائز للمستشير والمستشار؟ الجواب: السؤال عندي غير واضح تماماً، لكن أقول: الذي يجعل استشارته فقط في الأمور الدنيوية، فأين يذهب بالأمور الدينية؟ وأين يذهب بقضايا الخير مثل الدعوة إلى الله، وطلب العلم، وتغيير المنكر؟من العجب أن تقتصر استشارة إنسان على استشارة دنيوية، ولا يستشير فيما هو أهم وهو الأمور الدينية والشرعية، ولذلك ينبغي أن تعظم فيها الاستشارة أكثر، لا أظن أن موقف هذا الشخص صحيح عندما يقصر استشارته على الأمور الدنيوية، والله أعلم.(18/48)
( اتقوا الله في أهليكم )
عناصر الموضوع :
شرح قوله تعالى: ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً )
متابعة الزوجة وتفقدها
تربية الأولاد والاهتمام بهم
عاقبة إهمال تربية الزوجة والأولاد
فضل الدعاء
علاج مثل هذه الكوارث ودور الدعاة
اتقوا الله في أهليكم:
إن الله سبحانه وتعالى قد استرعى كل إنسان رعية، سواءً كانت شعوباً أو أمماً أو زوجة وأولاداً، وكل إنسان مسئول عن رعيته أمام الله سبحانه وتعالى، وإن مسئولية الأولاد والزوجة مسئولية عظيمة عند الله، وبحفظها تكون الوقاية من النار، والفوز بالجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى.
شرح قوله تعالى: ( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ).(19/1)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. هذه الآية -أيها الإخوة- تستنهض همم المسلمين، وتذكرهم بمسئوليتهم أمام الله نحو الأهل، نحو الزوجات والأزواج والأولاد، والآباء والأمهات والأقارب. ونحن -أيها الإخوة- إذ نتكلم عن هذا الموضوع في هذا الوقت ندرك أننا نعيش واقعاً مراً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وذلك من كثرة المحرمات التي تفشت في مجتمعاتنا، ومن كثرة الانغماس في أوحال المعاصي والابتعاد عن شرع الله عز وجل، وتأملوا هذه الآية العظيمة: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ [التحريم:6] لأن البداية تكون من النفس دائماً، ولا يمكن أن يصلح حال الآخرين إلا إذا صلح حال المصلح، فإذا كان المصلح في نفسه سيئاً، فأنى(19/2)
يكون الإصلاح؟! وكيف يحدث التأثر؟! قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] هذه نوع من النار، وقودها ليس حطباً ولا بنزيناً أو مادة مشتعلة، وإنما وقودها الناس والحجارة، الناس هم الوقود، وهم الذين تسعر بهم جهنم، هم مادة الاحتراق، قال أهل العلم: أدبوهم .. علموهم .. مروهم بالذكر .. أوصوهم بتقوى الله .. مروهم بالمعروف .. وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة.. مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصية الله، وساعدوهم على المعروف، وإذا رأيت لله معصية -أي: يعصى الله في هذا الوسط، في البيت وفي الأهل- فإنك تقدعهم عنها، أي: تكفهم وتمنعهم، وقال الضحاك و مقاتل : حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه. ويدخل في هذا أمر الصبيان بالصلاة. فتكون وقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب، علموا أنفسكم الخير، وعلموا أهليكم الخير وأدبوهم.
مسئولية الآباء والأزواج:(19/3)
واستُدل بهذه الآية على أنه يجب على الرجل أن يتعلم ما يجب من الفرائض وأن يعلمها لهؤلاء، وإن من المعذبين يوم القيامة من جهل أهله -من كان أهله يعيشون في جهل- وهذه الكلمة تشمل الأولاد والزوجة، وتشمل العبيد والإماء أيضاً: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]. فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم، وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي توصلهم بالله، وما أروع الحياة في ضلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله! إن تبعة المؤمن في نفسه وأهله تبعة ثقيلة رهيبة، فالنار هناك، وهو متعرض لها هو وأهله، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون النار، هذه النار التي تنتظر هناك. إن المؤمن مكلف بهداية أهله -هداية الدلالة والإرشاد- وإصلاح بيته، كما هو مكلف هداية نفسه وإصلاح قلبه. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهذا الحديث يبين لنا مسئولية المسلم، المسئولية العامة التي لا تستثني أحداً: (كلكم راع وكلكم مسئول، فالإمام راع وهو مسئول، والرجل راع في أهله وهو مسئول، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول) هذا لفظ البخاري. وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]. وكان عمر رضي الله عنه له ساعة من الليل يصلي فيها، وكان إذا استيقظ أقام -أيقظ- أهله، فقام وقال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]. وليست هذه المسألة سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقط، بل إنها طريقة الأنبياء من قبل: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً [مريم:54-55] فهذا إسماعيل يأمر أهله(19/4)
بالصلاة والزكاة.
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم النساء والحث عليه:
ولذلك الواجب على الإنسان تجاه أهله من زوجة وأولاد وإخوة وآباء وأمهات واجب ثقيل جداً، وبالذات النساء اللاتي أوصى بهن الله خيراً، ووصى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك تجد أهل العلم في مصنفاتهم قد اهتموا بإبراز هذا الأمر، واهتموا بإبراز اهتمام الإسلام بأمر المرأة في وقايتها من النار، قال البخاري رحمه الله: باب هل يجعل للنساء يوم على حدة؟ أي: في التعليم والتذكير والوعظ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: (غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن). قال ابن حجر : ووقع في رواية سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، بنحو هذه القصة فقال فيها: (موعدكن بيت فلانة، فأتاهن فحدثهن). إذاً خصص لهن موعداً زمانياً ومكانياً، وفي شرح حديث موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد، ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في فوائد الحديث: استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام، وتذكيرهن بما يجب عليهن، ويستحب حثهن على الصدقة، وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد، ومحل ذلك كله إذا أمنت الفتنة والمفسدة. وتعليم الزوجة والبنت هو من جعل وقاية بينهن وبين النار، بل إن الجهل الذي يلحق الزوجة والبنت والأخت بسبب تقصير الرجل قد يصل إلى الرجل في قبره، فعدم القيام والإهمال في شئون النساء من قبل الرجل قد يصل عذابه إلى الرجل في قبره، عن عبد الله أن حفصة بكت على عمر ، لما طعن عمر ، فقال: (مهلاً يا بنية! ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه). وللعلماء رحمهم الله مذاهب شتى في هذا الحديث، ومن أقواها أنه يعذب في قبره إذا أهمل تعليمهم أن النياحة حرام، وإذا كان يعلم أن عادتهن النياحة، وأنهن من المتوقع أن ينحن عليه(19/5)
إذا مات، فأهمل أمر تعليمهن حكم النياحة وأنها حرام، ولم ينههن قبل موته، وهو يتوقع أن يحدث ذلك، فإنه يعذب في قبره بما نيح عليه، لأنه أهمل في هذا الأمر، وهذا حمل جيد لهذا الحديث، وجمع بينه وبين قول الله عز وجل: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]. فإذاً الاهتمام بشأن الأهل في التعليم، وعقد جلسات الوعظ والتذكير، وتمكين المرأة أياً كان مستواها من تعلم الأحكام الشرعية التي تحتاج إليها، وتوفير الإجابات على أسئلتها الفقهية أمر مهم، الإتيان بالإجابات على تساؤلات أهلك، والفتاوى للوقائع التي تحدث لهن في أمور الصلاة والطهارة والحيض والنفاس، فهناك أمور كثيرة تحتاج إليها المرأة، فمن وقايتهن من النار أن تبذل لهن الوسيلة في التعليم. قال البخاري رحمه الله تعالى: باب تعليم الرجل أمته وأهله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم أجران -فذكر منهم- ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها، فتزوجها فله أجران) قال ابن حجر رحمه الله: مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس. وهذا الحديث يحث على تعليم الأمة، والأمة هي الرقيقة، فإذا كان أمر بتعليم الأمة، أليس من باب أولى أن يؤمر بتعليم الحرة؟! ولذلك يقول: إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسله آكد من الاعتناء بالإماء.
اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم أهله:(19/6)
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفتح لعائشة باب النقاش والسؤال، ويوفر لها الإجابة على تساؤلاتها، خذ مثلاً هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، عن ابن أبي مليكة: (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه -أي شيء لا تفهمه تراجع فيه وتسأل حتى تعرفه- وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة من المرات: من نوقش الحساب عذب، قالت عائشة : فقلت: أوليس يقول الله: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً [الانشقاق:8]؟ قال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك). فمن الناس من يحاسبون حساباً يسيراً، فلا يناقشون ويدقق معهم، أما الذين يناقشون ويدقق معهم فهم معذبون، لكن الذي لا يعذب هو الذي يحاسب بسرعة ويمشي إلى الجنة، فلا تعارض إذاً. الشاهد: أن عائشة سألت عن شيء لم تفهمه، ولو لم تجد إيجابية من الرسول صلى الله عليه وسلم هل كانت ستسأل؟ لو لم تكن عائشة تجد انفتاحاً من الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم واهتماماً بأسئلتها وتوفيراً للإجابة هل كانت ستسأل كلما جهلت أمراً، وتتشجع على السؤال؟ ومن آكد الأشياء التي يؤمر بها الأهل الصلاة، فلا يجوز أن يقول الرجل: زوجتي منهكة متعبة دعها تنام، يراها نائمة فيقول لنفسه: دعها نائمة ولا أوقظها للصلاة حتى ترتاح. والمسئولية عن الأهل تدخل فيها المرأة أيضاً، فالمرأة داخلة في الحديث: ( والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ). فلا يجوز أن تقول المرأة: زوجي جاء من الدوام متعباً، فلن أوقظه، فليسترح حتى لو أدى ذلك إلى ضياع وقت الصلاة. وهذا خطير، بل إن راحة زوجك أن توقظيه للصلاة، وراحة زوجتك أن توقظها للصلاة، وليس أن تبقى ويبقى نائمة أو نائم، وتقول: دعها تستريح، أو تقول هي: دعه يستريح. كلا.
متابعة الزوجة وتفقدها:(19/7)
حث الزوجة على قضاء ما فاتها من الصيام، وهذا كثير. حثها على إخراج زكاة حليها ومالها، والنساء قد يكون في بعضهن غفلة عن أمور الزكاة، وأمرهن بالصدقة على الفقراء والمحتاجين كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) كل ذلك داخل في المسئولية، مساعدتها على الحج والعمرة، خصوصاً الحج والعمرة الواجبة، بعض الرجال لا يهتمون بتوفير المحرم لنسائهم في البيوت من زوجة أو أخت أو بنت، وتجلس السنوات الطوال بدون حج الفريضة، لأنه ليس معها محرم، وهو يستطيع أن يكون محرماً لها، أو أن يرسل معها محرماً، لكن يقصر في ذلك.
متابعة الزوجة في أحكام الطهارة والصلاة والمحارم:(19/8)
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] ومنها مسئولية تعليمها أحكام الطهارة والصلاة، كم يسر الإنسان -أيها الإخوة- عندما يسمع برجال يأتون إلى أهل العلم، ويقول أحدهم: زوجتي حصل لها في أمر الطهارة .. نزل عليها دم في الوقت الفلاني .. تقطع الدم معها في الوقت الفلاني .. فهو لا يستحي من هذا، أما المرأة تستحي، فهو يأتي ويقول ويسأل: ماذا تفعل هذه المرأة؟ عندها مشكلة في العادة كذا وكذا، ماذا تفعل؟ إذاً الرجل مهتم بأمر الزوجة، فهو يطبق قول الله عز وجل: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. إذاً هو فعلاً يوقن بالمسئولية وهو يحس بها، ولذلك يسأل عن الأحكام لزوجته، وهو يسأل هل هذا محرم للمرأة أم لا؟ وهو يسأل هل خال الزوج وعمه محرم للزوجة أم لا؟ فهو يسأل ويتأكد من أجل ألا تقع في أمر محرم، ويسأل عن حكم الرضاع بينها وبين رجل آخر، حتى لا تقع في أمر محرم. فيجب على الرجال أن يهتموا بأمر نسائهم. تعليمها المحافظة على وقتها، سواءً كانت زوجة أو أم أو أخت أو بنت أو خالة أو عمة، أياً ما كانت، تعليمها المحافظة على وقتها، عدم إضاعة وقتها بالأشياء التافهة، بعض النساء قد تضيع وقتها بالمكالمات الهاتفية الطويلة بدون فائدة تذكر، فإذاً هو يرشدها، ويعلمها، ويراقبها، ويلاحظها، ويقيها النار، ويعلمها أدب الرد على الهاتف، وكيفية محادثة الرجال الأجانب، ما هو الأدب في ذلك؟ وما هي المحاذير؟ وما هي الأشياء التي يجب عليها أن تنتبه إليها؟ وينتبه للمنكرات التي تحدث أثناء تسوقها، وما هو من الممكن أن يحدث لها من الحرام عندما تنزل إلى السوق، وكيف يجنبها هذا الحرام؟ فهو مسئول عن ذلك.
متابعة الزوجة في الخروج إلى الأسواق:(19/9)
قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6] مخالطة أهل المنكرات وأماكن المنكر، في الأسواق عند الخياطين وفي أماكن النزهة في الحدائق والخلوات، يجب عليه أن ينتبه لزوجته، وبعض الناس عندهم دياثة عجيبة، وتبلد في الإحساس، فإنه أبداً لا يلتفت إلى زوجته في هذه القضايا، ويدع ابنته تذهب كيفما شاءت، لا رقيب ولا حسيب، تذهب مع من تشاء، وتمضي الوقت مع من تشاء، يذهب بها إلى الحديقة والمنتزه، ويفلت لها الزمام تلعب كما تشاء، وهو مسئول عنها، ومثل الإثم الذي اكتسبته يكن على ظهره؛ لأنه كان باستطاعته أن يمنع ذلك ولم يتحرك. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله عز وجل، وكان يغار أن تنتهك أدنى حرمة من حرمات الله، روى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل -وفي رواية مسلم: فاشتد ذلك عليه، تقول عائشة : ورأيت الغضب في وجهه، وفي رواية أبي داود: فشق ذلك عليه، وتغير وجهه، وعوداً إلى سياق البخاري - فكأنه تغير وجهه -كأنه كره ذلك- فقال: يا عائشة ! من هذا؟ فقالت: إنه أخي -أي: أخوها من الرضاعة- فقال: انظرن من إخوانكن -تحققن وابحثن في الأمر- فإنما الرضاعة من المجاعة) أي: انظري يا عائشة! وابحثي ودققي، هل وقعت الرضاعة في وقت التأثير، أم أنها وقعت خارج ذلك الوقت فلا تؤثر، ولا تنتشر الحرمة بسببها؟ مراقبة المرأة عند خروجها، وكيفية حجابها مسئولية الرجل، هل هو سابغ؟ هل هو ساتر؟ هل هو سميك؟ هل هو خال من الطيب؟ هل هو لا يشابه لباس الرجال ولا لباس الكافرات؟ هل هو فضفاض غير ضيق؟ هذه مسئولية يجب على الرجل أن يراقب زوجته وابنته كيف تخرج.
متابعة الزوجة في الأعراس والأخلاق والصديقات:(19/10)
يا أيها المسلمون: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6] والمسألة ليست سهلة، والإفراط فيها في هذا الزمن غريب عجيب كثير حاصل شائع ومتفش. المكياج والزينة.. ذهاب المرأة إلى الأعراس والولائم.. إلى أين تذهب؟ ما هو الوضع هناك يا ترى؟ هل الوضع في ذلك العرس والوليمة مرض لله؟ هل تسمح لها بالخروج أم لا؟ يحب عليك أن تتحقق. يا جماعة: لماذا نفلت نساءنا؟ لماذا نفلت لهن الزمام يعبثن؟ والمرأة خلقت من ضلع أعوج، هناك من النساء من استقامت على شرع الله، تعرف بنفسها الحرام من الحلال، وتجنب نفسها الحرام ربما أكثر من بعض الرجال، ولكن هناك كثير من النساء في الجانب المقابل، لم يحصل عندهن ذلك النوع من التقوى، فمسئولية الرجل أن يحمي ذمته وألا يخفرها، فيراقب لسان الزوجة أو البنت في الغيبة والنميمة، وفي الغيرة والحسد، وفي الأشياء التي تبدر من المرأة، يهيئ لها الجو لتعاشر الصالحات، ويمنع غير الصالحات من دخول بيته، وبعض الناس يوصلون نساءهم إلى أماكن لا يدرون ما هي، ويرمي زوجته هكذا من السيارة أو يجعلها تذهب مع السائق دون أدنى استفسار إلى أين ستذهب؟ أليس هذا أمراً شنيعاً يودي إلى منكرات ومصائب عظيمة في المجتمع؟ ينبغي أن تراقبها فيمن تكشف عليهم من المحارم والناس، هل هو محرم لها تكشف عليه أم لا؟ من هذا الشخص الذي تصافحه أو يريد أن يصافحها؟ قضية الجليسات قضية مهمة جداً، وكثير من المشاكل التي دخلت في كثير من البيوت بسبب جليسات السوء، هل تتصور أن امرأة تأتي وتطلب من زوجها أن يأتيها من الخلف في المكان المحرم؟ لماذا؟ لأنها سمعت امرأة في مجلس تنصحها بهذا الأمر. انظروا -أيها الإخوة- من تخالط نساؤكم، من هن الجليسات للنساء؟
متابعة الزوجة في الخروج للعمل:(19/11)
خروج المرأة خارج البيت كثيراً ما يؤدي إلى الفساد، وعمل المرأة من أبواب الشر العظيمة التي لو لم تجعل إلا في نطاق الضروريات، وفي نطاق النساء التقيات لحصل فساد عظيم، وبين يوم وآخر نسمع عن قصص مأساوية في البيوت بسبب خروج المرأة للعمل ونحوه، ذهبت إلى العمل وتوظفت في شركة، ثم تعرفت على رجل عن طريق العمل، سافر الزوج فكانت النتيجة أن تستقبل ذلك الرجل الأجنبي في بيتها أثناء غياب زوجها، من أين بدأت العلاقة؟ من العمل. خروج المرأة للعمل أمر خطير جداً، ينبغي أن يضبط وأن يراعى، ومكائد تحاك حول الدين وحول المرأة المسلمة من أعداء الله من العلمانيين ونحوهم، الذين يريدون أن يخرجوا المرأة وأن يهدموا آخر معقل من معاقل المجتمع الإسلامي.
تربية الأولاد والاهتمام بهم:
ينبغي للأب أن يكون له إشراف على أولاده، فالأولاد داخلون في الأهل دخولاً أولياً، بل إن بعض العلماء يرى أنهم داخلون في النفس، فقالوا: قُوا أَنْفُسَكُمْ [التحريم:6] يدخل فيها الأولاد، لأن الولد خرج من صلبك أنت، فيرى بعض العلماء أنهم داخلون في قول الله عز وجل: قُوا أَنْفُسَكُمْ [التحريم:6]. ينبغي للأب أن يصون ولده عن نار الآخرة كما يصونه عن نار الدنيا، لو قلت للأب: ولدك تضعه في نار الدنيا، يصيح ويقول: لا، كيف هذا؟! هل أنا مجنون؟! لكن قد لا يصونه عن نار الآخرة. ينبغي تربية الطفل المسلم تربية إسلامية جيدة، فيعلم فروض الأعيان، وبعض فروض الكفاية التي يمكن أن يحتاج إليها، وتنمي المشاعر الإسلامية فيه، وتغرس الأماكن الطيبة: المسجد.. الخطبة.. العمرة، القصص الإسلامية، يعلم سير الأنبياء، الصحابة.. السلف، فيراقبه في صلاته، ويراقب ماذا يقرأ أطفالنا، بماذا يلعب أطفالنا، وماذا يشاهد أطفالنا، تربيتهم على التوحيد وعدم البداية من الشرك وتعليق التمائم في رقاب الأولاد، فينشأ الولد على الشرك منذ نعومة أظفاره.
الأولاد ومنكرات البيوت:(19/12)
أيها الإخوة: إن أولادنا وأطفالنا يُجرم في حقهم في هذا العصر إجرام عظيم، ويشاهد الطفل من المنكرات في البيت ما الله به عليم، وتنغرس في نفسه في كل يوم، ويشرب قلبه كل يوم من حب المنكرات والمعاصي أشياء كثيرة بسبب ما يشاهد في البيت. أستاذ في مرة من المرات يتكلم مع طالب في أول مرحلة من مراحل الدراسة الابتدائية، فيقول الطالب: أنا أبي يشرب الخمر في البيت، لكن إذا جاءه أصحابه ليشربوا الخمر يخرجنا من الغرفة. يقول المدرس: لعله عصير أو ماء، فقال الطالب: لا. أنا أعرفه، إنه خمر. هذا الولد الصغير عمره ست سنوات يقول هذا، ذلك المجرم يظن أنه لما أخرج الولد من الغرفة أن الولد لا يدري ماذا يحدث، والولد يعلم كل شيء، أليس كذلك؟ هذه الحوادث الواقعية هي التي تنبئنا. أيها الإخوة: عندما يقول ولد صغير: إن أبي يفعل مع الخادمة مثلما تفعل أمي مع السائق، ماذا نرجو من وراء هذا الغرس الذي يغرس في بيوتنا؟ وأي حياة وشقاء ونكد يتوقع أن يكون عليه أولئك الأطفال، وهم يشاهدون هذه المنكرات في البيوت؟ مع الأسف كثير من الأشياء التي يسمعها أطفالنا تصادم الدين والعقيدة، وتغرس فيهم الكفر والشرك، حتى إنك تجد في بعض أفلام الكرتون تغرس في نفس الطفل حب السحر والسحرة والساحرة، وأنه شخص طيب، ويساعد الطيبين، وهو ضد الأشرار، والسحر كفر كما قال صلى الله عليه وسلم. مرة من المرات كنت أقلب إبرة المذياع، فاستقرت على قصة للأطفال تقولها مذيعة من المذيعات، ماذا يكون في بالكم وماذا يخطر في بالكم أن تكون القصة؟! وهذا شيء سمعته بنفسي: النملة مجتهدة تجمع الطعام وتدخره في جحرها، والصرصور كسلان لا يجمع الطعام ويبعثره ولا يحتاط لأمره، فجاء فصل الشتاء، والنملة في خير، فخرج الصرصور جائعاً، فطرق باب جارته النملة -حتى الآن كلام شبه مقبول- وقال: أقرضيني حبوباً وأردها لك في السنة القادمة، هنا قالت المذيعة: مع الفائدة طبعاً، تقول المذيعة: الصرصور(19/13)
يقترض من النملة ويردها في السنة القادمة مع الفائدة. ماذا ينغرس في نفس الطفل وهو صغير يسمع هذا البرنامج؟ نحن نفاجئ بانحرافات الأولاد، ثم نقول: عجيب ماذا فعلنا؟! من أين الخطر؟! ومن أين منشأ المشكلة؟ منشأ المشكلة هو ما يسمعه هؤلاء الأطفال وما يشاهدونه، الصرصور يقترض من النملة بالربا -بالفوائد- لأن القصة لا تصلح أن تقال إلا بهذه الطريقة: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30]. ونحن عندما نقول: استوصوا بأطفالكم خيراً، فإننا لا نعني أن المسألة تكون فقط معلومات تصب على ذهن الطفل ودماغه دون ترو ودون إعطائه الحق في اللعب، أو اللهو المباح البريء، بل من حق الأطفال على الأباء أن يوفروا لهم الألعاب المفيدة، وأنواع اللهو البريء، هل تتصورون أن أباً من الأباء لا يشتري لأطفاله أي نوع من أنواع الحلوى أو البسكويت؟! وهذا لأن الأب لا يحب الحلوى شخصياً، فلذلك هو لا يشتري لأطفاله أي نوع من أنواع الحلوى، ويبخل عليهم بذلك، ويقول: هذه أشياء تافهة غير ضرورية، ولا يحضر لهم ألعاباً عند العيد؛ لأنها ليست مفيدة بزعمه، ويرفض أن يعطي الأم مالاً لتشتري لهم به، فتضطر المسكينة أن تشتري بمالها الخاص، أو أن تقترض من أهلها لتشتري لأولادها ألعاباً، أو تأخذ وتدخر من الضيافة التي تأخذها من الناس أثناء زيارتها لهم، فتدخر حلوى لأولادها لأن الرجل لا يأتي بالحلوى للأولاد: ( وإن لأهلك عليك حقاً ). أيها الإخوة: لقد تكلمنا في درس منفصل كامل عن تربية الطفل المسلم، لكن نقول باختصار: إن عدم الاهتمام بالطفل في مقتبل أمره وعمره، يؤدي إلى انحرافه في المستقبل غالباً، فلو ترك الولد دون تدخل سلبي من الأب أو الأم فإنه سينحرف في الغالب، لأن المجتمع فيه قذارات، المدرسة فيها قذارات، الشارع فيه قذارات، الجيران عندهم قذارات، أقران السوء عندهم قذارات، إذا ما انحرف الولد بهذا السبيل سينحرف بالسبيل الآخر. هذا إذا ترك لوحده(19/14)
هكذا دون أن يعمل الأب والأم له شيئاً، فكيف إذا كان بعض الآباء هو المفسد. وهذه أشياء واقعية سمعتها بنفسي، رجلٌ يجلب الأفلام الداعرة الخليعة إلى بيته، ويجبر أولاده الصغار أن يقعدوا منذ نعومة أظفارهم ليشاهدوا هذه الأفلام، بنت عمرها سنتين ونصف تفتحت عيناها على هذه الأفلام، وهو يجبرها ويأتي بها ويقعدها أمام الفيديو لتشاهد الأفلام، وتقول: إذا ذهب أبي إلى الخارج، وأخذنا في الصيف أو في العطلة، فإنه يدخل المرقص في بلاد الكفار، ونحن قد كبرنا فيسلمنا إلى الشباب الكفرة الذين يرقصون ليراقصونا، ويفعلون بنا ما يشاءون. نماذج كثيرة عجيبة غريبة لا تمت إلى دين، ولا إلى خلق، ولا إلى عفة، ولا إلا صيانة، ولا إلى ستر بأي نوع من أنواع العلاقة، موجودة في مجتمعاتنا ليست في مجتمعات الأمريكان والإنجليز والكفرة، موجودون بيننا هنا، هكذا يربون أطفالهم، ثم نقول: لماذا تتفشى الفواحش في المجتمع؟ لماذا المنكرات كثيرة؟ لماذا الزنا كثير؟ لماذا الفاحشة؟
لوط واهتمامه بأهله:(19/15)
لوط عليه السلام لما كان في مجتمع قذر رفض أهل ذلك المجتمع الابتعاد عن الفاحشة، فماذا كان لوط عليه السلام يقول؟ كان يقول: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء:169] لوط عليه السلام يشعر بوطأة الجاهلية وثقلها عليه وعلى أفراد أسرته، هؤلاء الذين يفعلون الفاحشة لا يريدون أن يتوبوا، فيقول لوط عليه السلام وقد شعر بذلك الثقل الذي تضغط به تلك الجاهلية الشريرة في عصره على أعصابه وعلى أهل بيته، وهو يجأر إلى الله وينادي ربه ويقول: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء:169]. فقد كان حريصاً على أهل بيته من الفاحشة، والآن ينبغي لكل عاقل مسلم أن يقول: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء:169] لأن الفواحش موجودة في المجتمع مثل قوم لوط أو أكثر: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ [الشعراء:170] وهذه عاقبة الصدق والإخلاص والتوبة والدعوة إلى الله وتغيير المنكر: إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ [الشعراء:171] كانت مجرمة تنقل أخبار أضياف لوط إلى قومه لكي يأتوا ويطالبوه بالضيوف ليفعلوا بهم الفاحشة.
حال الأولاد إذا لم يربوا:(19/16)
وعندما يكبر هذا الولد ويترعرع مع تأثيرات المجتمع الفاسدة المنحلة وعدم التربية تخرج منهم أمثال العبارة التي سأقولها لكم في هذه القصة المدهشة، التي تنطوي على هذه العبارة المدهشة، التي تحتاج إلى تفكير طويل حتى تعلم كيف انبعثت! الأب والأم والولد أمام الشاشة، خرجت الممثلة بصورتها الفاتنة الجميلة، وهم ينظرون، والولد يحملق في الشاشة ويبحلق، وعندما ظهرت صورة تلك المرأة في غياب عقله-الآن هو غائب في المنظر- انطلقت منه الكلمات وهو ينظر في وجه المرأة الفاتنة، فيقول: كم تعب ربنا حتى خلقك؟! انظر إلى هذا الحالم والغائص في المسلسل، فهو يفكر الآن في المسلسل وفي المرأة وينظر إليها، وقد يكون نسي أن أباه وأمه بجانبه، سبحان الله! هذه العبارة الواحد يقف أمامها حائراً، الولد في مرحلة المراهقة، ويتساءل: كم تعب الله إلى أن خلق هذه المرأة! وهذه ما قالها شخص شيوعي ملحد، بل قالها واحد من أبناء المسلمين الذين يعيشون هنا. عقيدة غير موجودة، وأخلاق غير موجودة، عفة لا توجد، احترام الله عز وجل أمر معدوم، تعالى الله عن هذا الكلام علواً كبيراً، اليهود لعنوا لأنهم قالوا: إن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استراح يوم السبت، انظر اليهود يقولون: الله خلق الدنيا كلها السماوات والأرض في سنة أيام ثم استراح يوم السبت، وهذا الآن يقول: كم تعب؟ أليست مقالته أسوأ من مقالة اليهود الذين لعنوا؟! ويواجه بعض الأباء في بيوتهم في هذه المجتمعات تطورات عجيبة من قبل الأبناء طبعاً؛ لأن التربية إذا أهملت من البداية، وخرج الولد وعايش رفقاء السوء في المدرسة كيف تصلحه وقد كبر وتكونت شخصيته؟ فهو يتمرد الآن، ويفوت قطار الإصلاح في كثير من الأحيان. رجل يشتكي، ويقول للشيخ ابن باز : عندي أولاد لا يصلون أبداً، نصحتهم وكلمتهم ووعظتهم وشتمتهم ولا فائدة، ماذا أفعل؟ كثير الآن من الآباء يقولون ويشتكون مثل هذه الشكوى. فيقول الشيخ حفظه الله: انصحهم،(19/17)
فإذا بلغوا عشراً يضربهم إلى البلوغ، أما عند البلوغ فلا ينفع الضرب بعده، فالضرب عند البلوغ لا يورث إلا أحقاداً، وربما رد الولد بالصاع صاعين على أبيه، وكم تسمع من أولاد يقول أحدهم -بحنق وغلظة عبارات على أبيه- كنت أريد أن آخذ الكرسي وأضربه، أو آخذ العقال وأضربه، وأعلمه ألا يمد يده عليّ، إذا بلغوا ولم يستقم أمرهم فيبلغ بهم من يقيم عليهم حد الردة -القتل- إذا لم يصلوا، وإن لم يستطع يخرجهم من بيته. وهذا الكلام يستثنى منه إذا كان إخراجهم من البيت يؤدي إلى مشاكل أكبر، وإلى وقوعهم وأن تسوء أحوالهم أكثر وأكثر، فعند ذلك لا يكون من الحكمة إخراجهم من البيت، لكن إذا كان إخراجهم من البيت سيدفعهم ويضطرهم إلى الرجوع إلى البيت وهم يصلون، لأنهم لا يجدون مأوى ولا مصروف، فيجب على الأب أن يطردهم من البيت، وألا يؤوي في بيته أناساً لا يصلون. فإذا استنفذ الجهد والطاقة والوسع، ونصح وتكلم وليس هناك فائدة، وكان إخراجهم أقل ضرراً من بقائهم، وكان إخراجهم لا تترتب عليه مفسدة أكبر من بقائهم، فإنه يجب أن يخرجهم من البيت، ولو كانوا أولاده من صلبه.
البقاء مع الأهل وعدم الانقطاع عنهم:(19/18)
البقاء مع الأهل وعدم الانقطاع عنهم: يجب أن يكون الرجل المربي الناصح قريباً من أهل بيته، بعض الناس يسافرون سفريات طويلة جداً، وهذه السفريات الطويلة جداً تؤدي إلى مشاكل كثيرة في البيوت، فتسمع أخباراً عجيبة. فهذه لما سافر زوجها جاءها فلان وفلان، مشاكل متشعبة وشائكة، ولو كان الضرر أقل من هذا، فإنك تجد أن بعض الناس الذين يسافرون في تجارة أو حتى في طلب علم أو دعوة إلى الله، لو كان سفرهم يؤدي إلى تضييع أهلهم فحرام عليهم أن يسافروا، بعض النساء قد يكون فيها خير، لكن زوجها يهجرها أسبوعاً أو أسبوعين وشهراً أو شهرين وثلاثة وأربعة أشهر وهو مسافر مبتعد عنها، تقول: لا أجد ماء أشربه، فضلاً عن الأغراض الأخرى، كيف تشتري الأغراض؟ مرض الولد الصغير من يذهب به إلى المستشفى؟ تضطر إلى الذهاب به أحياناً بسيارة الأجرة، هل هذا واقع صحيح؟ وهل سفر هذا الرجل يبرر مثل هذه الأشياء؟ أم أنه إنسان ظالم لنفسه وأهله عليه من الله ما يستحق لأجل التضييع والتفريط؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي ويقول -انظروا أيها الإخوة الشريعة فيها حكم: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل الرجوع إلى أهله) لأن إطالة الابتعاد عن الأهل مضرة، فعليه أن يعجل بالرجوع إلى أهله، ولا يطيل عليهم الغياب، وأقل ما فيها يصحبهم معه إن كان ولابد، أما أن يهجرهم ويسافر عنهم شهوراً فهذا من الجرائم، وكثير من الساقطات المنحرفات في المجتمع، سبب انحرافها أن زوجها غائب عنها لا يأتيها. واحدة تقول: إن زوجي لا يأتيني من خمس سنوات، وأخرى تقول: أنا معه الآن منذ أكثر من عشر سنين، لكن لا يعاشرني معاشرة الزوجة، فهو يأتي يدخل البيت ويأكل وينام ويمشي. فهذا سبب من الأسباب التي يتولد عنها انحراف الزوجة، وقد يبتعد أحياناً عن أهله بسبب زوجة أخرى، وهو شيء طيب وحلال، لكن إذا لم يحسن هذا المتزوج توزيع وقته والعدل كما(19/19)
أمر الله تقع المصائب، بل قد يميل إلى زوجته الثانية فيترك زوجته الأولى بالكلية، ويترك أولادها، لا يأتيهم ولا يسأل عنهم، ولا يزورهم، ولا يعطيهم الحنان ولا العطف، وقد يكون ولا حتى المصروف. ونسمع قصصاً عجيبة، هذا رجل تزوج بأخرى، فصار يسب بناته من الزوجة الأولى ويشتمهن، ويتهمهن بالفاحشة، ويضرب زوجته الأولى في الشارع أمام الناس، وتضطر الأم المسكينة بالتالي أن تعمل، وأن تصرف على الأولاد في البيت، وربما يكون هؤلاء كلهم من البنات، وحالة الجميع سيئة، والسبب أنه لم يفكر أصلاً في قول الله: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
عاقبة إهمال تربية الزوجة والأولاد:(19/20)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) ففي يوم القيامة تصل قضية المساءلة والحساب أن يسأل عن أهل بيته: أحفظتهم أم ضيعتهم؟ وهذا التضييع الذي تنتج عنه كثير من الفتن، وعلى رأسها الخيانات الزوجية، من ماذا؟ من تضييع الأهل تنتج الخيانات الزوجية المتبادلة من الطرفين. جار عنده مفتاح بيت جاره، فإذا ذهب الجار إلى العمل فتح الباب ودخل وعاشر زوجة ذلك الرجل، وتختلط الأنساب ولا تدري هذا ولد من. ويحدث من وراء ذلك من المصائب والنكبات وخراب البيوت أشياء نسمع عنها صباحاً ومساء، ناهيك عن الفواحش التي تحدث في البيوت من الآباء أو الأبناء مع الخادمات مثلاً، ومشاكل البنات والزوجات مع السائقين والخدم، ما هو أثر ذلك في البيت؟ وما هي عقوبة الله المنتظرة لهؤلاء الناس؟ بل إن تضييع الأهل، وعدم التربية والملاحظة، ينتج عنه نكبات أكثر من ذلك، ونسمع كثيراً عن جرائم اعتداء الأولاد الكبار في البيوت على أخواتهم، وتقع المشكلة وبعد ذلك يقولون: البنت لم تعد بكراً. وهل تعلمون أن من وقع على محرم من محارمه فإنه يقتل حداً في دين الله حتى ولو لم يكن قد تزوج؟! فإن هذه جريمة عظيمة، وقصص تشيب لها الرءوس، وتذوب لها القلوب إن كان في تلك القلوب إيمان وإسلام. أخ يرش على أخته مادة مخدرة ثم يأتيها. أب متزوج من أكثر من زوجة، وهناك أخ يأتي أخته من زوجة أبيه، وأخوه الأصغر يأتي ويهدده، ويقول: سلم لي أختك. وهناك حاجات وأشياء ما كان الواحد يتصور أنه في يوم من الأيام يحدث ذلك، إلا بعد أن تسمعها فتفاجئك الحقائق والحوادث بأشياء، أقسم بالله العظيم إنه يتبين للإنسان حلم الله بأن العقوبة والعذاب لم ينزل منذ زمن بعيد. وبعض الأحيان يصل بعض الأهل والقرابة إلى درجة من السوء لا يصح اعتبارهم بأي حال من الأحوال من الأهل، بل يجب(19/21)
منابذتهم ومعاداتهم وطردهم والتبرؤ منهم، قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:45-46]، ليس من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم، فأولئك المؤمنون من أهلك، لكن هذا الولد الكافر ليس من أهلك، وليس من الناجين. هذا موقف التبرؤ قد يضطر لاتخاذه أحياناً بعض الناس، لما تسمع قصة مثلاً، أن الرجل الشائب الضعيف المسكين يقول: بنتي تخرج إلى الشارع وتركب مع أي سيارة وتأتي وتذهب، والبنت الأخرى نفس الشيء، وعندما وعظتهم وكلمتهم وكلمت أمهم في البيت، قالوا جميعاً بلسان واحد: هذه طريقة عيشتنا، إذا لم يعجبك فاخرج من البيت، ماذا يفعل؟ هناك حالات كثيرة في المجتمع من هذه الأنواع من المصائب. وفي بعض الأحيان يكون من مصلحة هذا الشخص، ومصلحة أولئك المجرمين أن تبلغ بهم الجهات الرسمية، كهيئة الأمر بالمعروف أو مكافحة المخدرات مثلاً، لعلهم أن يفعلوا معهم شيئاً، فالمسألة خرجت عن طور التحكم، وصارت الآن خارج الموضوع، وهناك كثير من الناس الذين فقدوا السيطرة والتحكم على بيوتهم وعلى بناتهم وأولادهم.
فضل الدعاء:(19/22)
وبهذا يتبين لنا -أيها الإخوة- عظمة الدعاء الذي علمنا إياه عليه الصلاة والسلام، دعاء نردده صباحاً ومساء: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي -انظر العفو والعافية في ديني ودنياي- وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي ... الحديث) يدعو به صلى الله عليه وسلم عليه وسلم صباحاً ومساءً، لعل هذا الدعاء إذا خرج من قلب حي متصل بالله عز وجل، أن يُحفظ الأهل والبنات والأولاد بسبب دعاء أبيهم الصالح أو أخيهم الصالح. حتى في السفر ماذا كان صلى الله عليه وسلم يقول؟ (اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) كأن الواحد يقول: اللهم اخلفني في أهلي بخير، إني استودعتك أهلي فاحفظهم، والله إذا استودع شيئاً حفظه كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل). ولذلك الإسلام ينمي في المسلم الغيرة والدفاع عن أهله وعرضه، ويعتبر الإسلام أن من قتل دون أهله فهو شهيد: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شيهد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) حديث صحيح. وينبغي كذلك ألا يكون الأهل حائلاً بين الإنسان وبين طاعة الله، وألا يشغلوه عن طاعة ربه: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] ما هي حجة المنافقين لما تخلفوا عن الجهاد؟ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا [الفتح:11] هناك أناس عندهم إفراط، وأناس عندهم تفريط، ويحتاج الأمر في كثير من الأحيان إلى وقفات صارمة، أحياناً الزوجة يكون زوجها لا يصلي، فهي تنصحه وتقيم عليه الحجة وتذكره بالله فلا يصلي. ماذا تفعل؟ لا يجوز لها أن تبقى معه لحظة واحدة أبداً، لأنه مرتد عن الدين، لا يجوز أن يعاشرها، ولذلك عليها أن تفارقه،(19/23)
فهذا رجل من أهل السوء، من أسوأ من خلق الله، مرتد عن الدين، ويهاجم الدين ويهزأ بالدين لا يصلي ولا يفعل أي فرض من الفرائض، تقول له زوجته: اتق الله، صلِّ، رفض، قالت له: أفارقك ولا أقعد معك لحظة واحدة، فقال لها المجرم: وقعي إقراراً بأنك لا علاقة لك بالأولاد وأنك قد تخليت عنهم، وليس لك شأن بهم، وقعت الورقة وقالت: خذ. ولما رأى إصرارها ورأى موقفها انقلب وصار يصلي: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2] وحتى لو لم يكن لديها مكان تخرج إليه، بل لم تستطع أن تخرج إلى مكان آخر، فإن الحكم الشرعي أن تتحجب منه، ولا تمكنه من نفسها أبداًً، وتعيش في نفس البيت مكرهة، لكن هو أجنبي عنها، لا تخالطه ولا تعاشره ولا تمكنه من نفسها، ولو ضربها وأكرهها فإن الإثم عليه هو.
علاج مثل هذه الكوارث ودور الدعاة:(19/24)
وأخيراً أيها الإخوة! ما هو العلاج لهذه الكوارث؟ هناك أملٌ في الله كبير، في الصحوة الإسلامية المباركة التي بدأت تعيشها مجتمعات المسلمين، الأمل في الدين، الأمل في المتدينين، الأمل في المتمسكين بالدين الآن، هم الذين عليهم المعتمد بعد الله في إنقاذ المجتمع من الشرور. ما هو موقف أولئك المستقيمين على شرع الله؟ كيف ينبغي أن يكون دورهم في علاج ومواجهة مثل هذه المواقف؟ ينبغي أن نتغلغل في أسباب الداء، لماذا لا ينتشر الإصلاح في المجتمع بقوة؟ هناك من أولئك جيل الصحوة أناس عرفوا الله والطريق، وأناس عرفوا الله وأخطئوا الطريق، فتجد من هؤلاء من يحدث عنده تفريط فيتقوقع على نفسه وعلى بعض إخوانه الطيبين، وينزوي عن المجتمع، ويقول: مالي وللناس، مالي وللبيت، مالي ولأهلي، وقد يصيبه الاشمئزاز من بعض ما يفعلونه، فيتركهم ويبتعد عنهم، ويقول: أنا الآن علي بنفسي ولا شغل لي بالآخرين، لو كانوا إخواني أو أخواتي أو أمي وأبي ليس لي علاقة، ويقول: أنا الآن فقط أربي نفسي. فهذا تفريط وإهمال، لماذا تتخلى عن المسئولية؟ هل أنت تدخل في قول الله عز وجل: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] أم لا تدخل؟ إذاً لماذا تتخلى الآن عن المسئولية؟ ولماذا تنطوي وتنعزل وتتقوقع على نفسك؟ وفي الجانب الآخر يوجد نوع من الإفراط في الأمر، وأخذ المسألة بالعنف، بعض الناس يريدون أن يصلحوا البيوت والمنكرات والانحرافات بالعنف والشدة المنافية للحكمة التي أمر الله بها، فتأتي النتائج غالباً عكسية، ويتضاعف الكره للدين وللمتدينين. ولذلك أيها الإخوة: يجب أن يكون دور أولئك المستقيمين على شرع الله، الملتزمين بدين الله في بيوتهم دوراً إيجابياً، ويجب على أولئك الناس الذين هم أفراد من جيل الصحوة أن يستشعروا المسئولية التي أناطها الله بهم، والتي شرفهم الله بالقيام بها، ينبغي على كل واحد من هؤلاء أن(19/25)
يبني شخصية قوية داخل بيته، قوية للإسلام واعية، تقوم بواجب الدعوة إلى الله والتوجيه، وتواجه الانحرافات بالحكمة، وبإقامة البرهان والدليل، وباللجوء إلى القوة في الوقت ا لمناسب، وفي الإنكار بدرجات الإنكار حسب المصلحة الشرعية. على أولئك أن يبدءوا بنشر الوعي الإسلامي في البيت بنشر الكتاب الإسلامي، ونشر الشريط الإسلامي، وفتح القنوات أمام أهل البيت حتى يذهبوا إلى المحاضرات والدروس، وأن يأتوا لهم بالمجلات الطيبة، والكتب الإسلامية الطيبة، يجب على كل واحد من أولئك الشباب وغيرهم من الكبار ممن هداهم الله عز وجل أن يكون لهم دور إيجابي في بيوتهم، يؤثرون على آبائهم وأمهاتهم، وإخوانهم وأخواتهم، وأن يربطوا إخوانهم -مثلاً- بأصدقاء طيبين، وأن يبعثوهم إلى الأماكن الطيبة، لتبدأ تلك البذور في التفتح، وتختفي الانحرافات التي وجدت في بيئات الشر والفساد. ويجب على الشاب ألا يحتقر نفسه، وكثيرٌ منهم ولله الحمد بدأ لهم ثقل واضح في المجتمع، وبدأ لهم وزن في الأوساط الاجتماعية، فكثير من أولئك المستقيمين قد تزوج وأنجب، أو هو يعمل في وظيفة محترمة، وربما صار ينفق جزئياً أو كلياً على أسرته، وتغيرت النظرة إلى كثيرين من أولئك، ولم يعودوا ينتقدون ويعاب عليهم مثلما كانت النظرة الأولى. فعلى أولئك أن يقدروا أن وزنهم في المجتمع قد تغير، وأن نظرة المجتمع إليهم قد تغيرت، وأن الكثيرين من الغرقى بدءوا يمدون أيديهم طلباً ليد العون، ويطلبون منهم المساعدة، وقد لا يطلبونها منهم تصريحاً، ولكن يتمنون في قرارات أنفسهم أن يأتي من أولئك المتدينين المستقيمين من ينتشلهم من تلك الأوحال، ويعلمهم ويوجههم ويرشدهم. على أولئك من أفراد جيل الصحوة الإسلامية المباركة -إن صحت هذه التسمية- أو قل المستقيمين الذين هداهم الله، أن يبعدوا أهلهم عن مصادر الشر من الأسواق ونحوها، والأجهزة المفسدة المرئية أو المسموعة أو المقروءة، وعن جيران السوء(19/26)
وأقرباء السوء وأصدقاء السوء، وأن يحبوا الخير لأهليهم ولإخوانهم، وألا يقول واحد منهم: الحمد لله أنا على خير، وليذهب أخي في ستين جهنم، انظر ماذا قال العبد الصالح موسى عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29-32]. إنه يحب الخير لأخيه، ويطلب إشراكه معه، فما كان أنانياً، وما قال: أنا أتفرد بالأمر، وإنما قال: يا رب! فدعا الله أن أشركه في أمري، كي يصبح معيناً لي على طاعة الله. أنت إذا دعوت إخوانك وأخواتك في البيت، والتزم منهم بدين الله أفراد، فإنك تكون منهم جبهة داخلية في البيت، ويصبح الرأي العام أو أغلبه معك، وتستطيع من خلاله تكوين الرأي العام في البيت، فتغير المنكرات ولو بالقوة المستندة إلى الحكمة أحياناً. وهناك كثير من البيوت لما التزم فيها الأولاد، وأخرجوا أجهزة الفساد، لم يجرؤ الأب والأم على إعادتها مرة أخرى، ورضخوا وتحسنت أحوالهم، وكم من أب اهتدى على يد ولده، وكم من أم التزمت على يد ابنتها. ويجب أن يكون لك -أيها الأخ المسلم- موقف من الخلافات العائلية، وهذا جزء من مسئوليتك، فإنه في كثير من الأحيان قد تؤدي الخلافات إلى طلاق مثلاً، أو إلى انفصال، أو إلى هجر الزوجة لزوجها أو العكس، فعليك أن تقوم بدور في تقريب وجهات النظر، وإزالة الشقاق والخلاف، وأن يحل بمجهودك -بعد فضل الله- وئام وحب بين الأطراف المتنازعة، كثير من أولئك يقفون مواقف سلبية وهم يشاهدون الخلافات العائلية الموجودة، لا يحاولون أن يحركوا ساكناً، ولا أن يتوسطوا لإنهاء الخلافات، على أولئك الإخوة أن ينتبهوا لدورهم، وأن يقوموا بالإصلاح: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:88] .. فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35] نتيجة ماذا؟ السعي في(19/27)
الإصلاح. وأختم هذا الدرس بكلمات لصاحب الظلال يرحمه الله: إن الإسلام دين أسرة، ومن ثم يقرر تبعة المؤمن في أسرته، وواجبه في بيته، والبيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة، وهو الخلية التي يتألف منها، ومن الخلايا الأخرى ذلك الجسم الحي: المجتمع الإسلامي. إن البيت الواحد قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولا بد أن تكون القلعة متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، كل فرد فيها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها، وإلا تكن كذلك سهل اقتحام المعسكر من داخل قلاعه، فلا يصعب على طارق ولا يستعصي على مهاجم، وواجب المؤمن أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله. واجبه أن يؤمن هذه القلعة من داخلها، واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيداً، ولابد من الأم المسلمة، فالأب المسلم وحده لا يكفي لتأمين القلعة، لابد من أب وأم ليقوما كذلك على الأبناء والبنات، فعبث أن يحاول الرجل أن ينشئ المجتمع الإسلامي بمجموعة من الرجال، لابد من النساء في هذا المجتمع، فهن الحارسات على النشء، وهو بذور المستقبل وثماره، ومن ثم كان القرآن يتنزل للرجال والنساء، وكان ينظم البيوت ويقيمها على المنهج الإسلامي، وكان يحمل المؤمنين تبعة أهليهم، كما يحملهم تبعة أنفسهم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6]. هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام، وأن يدركوه جيداً. إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت إلى الزوجة إلى الأم، ثم إلى الأولاد وإلى الأهل عامة، ويجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم، وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولاً عن الزوجة المسلمة، وإلا فسيتأخر طويلاً بناء الجماعة الإسلامية، وسيظل البنيان متخاذلاً كثير الثغرات، وفي الجماعات المسلمة الأولى كان الأمر أيسر مما هو عليه في أيامنا هذه، كان قد أنشئ مجتمع مسلم في المدينة يهيمن عليه الإسلام،(19/28)
يهيمن عليه بتصوره النظيف للحياة البشرية، وكان المرجع فيه من النساء والرجال جميعاً إلى الله ورسوله، وإلى حكم الله ورسوله. ولكن نحن الآن في موقف متغير، نحن نعيش في جاهلية، جاهلية مجتمع، جاهلية تشريع، وجاهلية أخلاق، وجاهلية تقاليد، وجاهلية نظم وجاهلية آداب، وجاهلية ثقافة كذلك، والمرأة تتعامل مع هذا المجتمع الجاهلي، وتشعر بثقل وطأته الساحقة حين تهم أن تلبي دعوة الإسلام، سواءً اهتدت إليه بنفسها، أو هداها إليه رجلها زوجها أو أخوها أو أبوها، ولذلك فإنها ستجد كثيراً ممن يعاديها. فلابد من إنشاء البيت المسلم، وإنشاء القلعة المسلمة، ويتعين على الآباء المؤمنين الذين يريدون البعث الإسلامي أن يعلموا أن الخلايا الحية لهذا البعث وديعة في أيديهم، وأن عليهم أن يتوجهوا إليهن وإليهم بالدعوة والتربية والإعداد قبل أي أحد آخر، وأن يستجيبوا لله وهو يدعوهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(19/29)
ظَاهِرَةُ تَبَلُّدِ الْإِحْسَاسِ
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على نبينا محمد، و على آله و صحبه أجمعين، وبعد،،،
فإننا نعيش كرباً شديداً، و تسلطاً من الأعداء كبيرًا، و حالة المسلمين لا تبعث على السرور، مما أصابهم من التردي في كثير من الأحوال، و لكن الله رحيم يأتي بالفرج، وفي الناس رجاء، وخير، لكنه يحتاج إلى بعث، ولابد من العلاج لهذه الحالة. ومن أمراضنا التي تحتاج إلى علاج: تبلد الإحساس .
لماذا هذا الموضوع؟
للإجابة على هذا التساؤل نقول:
أولاً: لبعد كثير من المسلمين عن دينهم: فقد أصابتنا الذلة لمّا تركنا الجهاد في سبيل الله، و تبايعنا بالعينة، و تعاملنا بالربا، و رضينا بالزرع، فسلط الله ذلاً لن ينزعه حتى نرجع إلى ديننا، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ]رواه أبوداود وأحمد.
وأصبح الحال كما قال الشاعر:
نهارُك يا مغرورُ سهَوٌ وغفلةٌ وليلكُ نومٌ والرّدَى لك لازمُ
وشغلُك فيما سوف تكره غِبَّهُ كذلك في الدنيا تعيشَ البهائمُ
ثانيًا: لموت الشعور بالذنب والتقصير عند الكثيرين: حتى ظن الكثير منهم أنهم على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطره أصلاً أنه مقصر في أمور دينه، فبمجرد قيامه ببعض الأركان و الواجبات؛ ظن نفسه قد حاز الإسلام كله، و أن الجنة تنتظره، و نسي مئات الصغائر التي يرتكبها صباحاً و مساء، من المعاصي التي استهانوا بها، والتي هي سبب للخسارة في الدنيا و الآخرة، فضلاً عن الكبائر، و الموبقات، و الفواحش، و الرشوة، و السرقة، و العقوق، و الكذب، و قطع الأرحام، و الخيانة، و الغش، و الغدر، و غير ذلك.(20/1)
ثالثًا: لطغيان المادة والالتهاء بالدنيا عن الآخرة: فهؤلاء الغافلون قد أغلقت المادة أعينهم، و ألهتهم الحياة الدنيا عن حقيقة مآلهم، و إذا استمروا، ولم يتوبوا ويفيقوا من غفلتهم؛ فإن العذاب ينتظر:
أما والله لو علم الأنامُ لما خُلِقُوا لما غَفَلُوا ونامُوا
لقد خُلِقُوا لما لو أَبْصَرَتْهُ عيونُ قلوبِهم تاهُوا وهامُوا
مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ وتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ
لهذه الأسباب كان لابد من تناول هذا الموضوع، وذلك من خلال العناوين التالية:
أولًا: ماذا نعني بتبلد الإحساس؟
معنى التبلّد: إنه ذل و استكانة، قال الفيروز آبادي: التبلد ضد التجلّد، و كذا قال ابن منظور.
معنى الإحساس: هو العلم بالحواس، وبليد الحس: ميت. و في قوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ...[60]}[سورة الأنعام]. قال البيضاوي:' ينيمكم و يراقبكم، سمّي النوم وفاة لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس'.
ثانيًا: مظاهر تبلد الإحساس:
1- قسوة القلوب: قال تعالى معاتبًا المؤمنين:{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[16]}[سورة الحديد].
استبطأ الله قلوب المؤمنين فعاتبهم بهذه الآية..وهكذا قسوة القلب بطول الأمد، وبُعد العهد من النبوة والعبادة و الرسالة..هذه الغفلة المستحكِمة اليوم لابد من علاجها.(20/2)
2- إلف كثير من المنكرات وعدم مقاومتها: فَتَبَلَّدَ الإحساس..هذا التبرج، والاختلاط، والغناء، والفحش، و هذه الدعارة الفضائية، والخوف من أن ينسلخ من القلوب كره المعصية و قُبحها؛ لأن المعاصي إذا توالت على النفوس، ألِفَتها وعاشت و تعايشت معها، و الواجب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ]رواه أبوداود وابن ماجة وأحمد. فما حال شبابناوبناتنا؟ وما حال أسواقنا؟ ما حال بيوتنا؟ ما هذا التبلد في الإحساس الذي أصابنا حتى لم نعد ننكر كثيراً من المنكرات؟!
كثير من المنكرات منتشرة، لا تجد من يقاومها وينكرها، حتى الدعوة خفّت عند الكثيرين، شغل بالتجارة، شغل بالوظائف، شغل بالدنيا، وهكذا حياة الكثيرين: نوم، طعام، ثم ألعاب إلكترونية وغيرها، صفق بالأسواق، معاكسات، مغازلات، ثم سهر على القنوات، ثم نوم. ثم كثير من التفريط في الواجبات الشرعية وارتكاب للمحرمات!
3- الغفلة في مواطن الذكرى، وعن تذكر الموت، والجهل بما يكون بعده: فَتَبَلَّدَ الإحساس..ولو سألت بعض الناس: ماذا سيكون في القبر؟ وماذا سيكون في الآخرة؟ لجهل كثيراً مما يكون، بل تراهم حتى في مواضع التذكّر في المقابر يضحكون و يمزحون مع بعضهم، وهكذا تبلد إحساس.
4- الغفلة عن شكر النعمة: تَبَلَّدَ الإحساس حتى في النعم، أناس عندهم أموال..بيوت..أثاث..صحة..خير..وظائف.. طعام وشراب..لباس..كماليات وأشياء عجيبة في بيوتهم، لكن الحقيقة كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ] رواه البخاري.(20/3)
5- عدم التأثر بالقرآن: مَن الذين يتأثرون بسماع القرآن الكريم؟ يتبلد الإحساس عند الكثيرين إذا سمعوا القرآن،
وهو عند كثير منهم أصوات من مقرئين يعجبهم لحنها وجمالها، لكن ليس لقلوبهم منها نصيب قال تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ[2]}[سورة الأنفال] . فيخشعون لذكره، و سماع آياته، و الأصل في المؤمن التدبّر والعلم بما أنزل الله، و العمل. إن حال المسلم مع كتاب الله ينبغي أن يكون اجتماع على تلاوته ومدارسته في مجالس تنزل عليها السكينة، وتغشاها الرحمة، وتحفها الملائكة.
6- تَبَلُّدٌ في الإحساس في قطاعات كثيرة من الناس: فَتَبَلَّدَ إحساس أركان الأسرة:
فالأب: لا يهتم بتربية أولاده، ولا بإيقاظهم للصلاة، لا يمنع المنكرات في البيت.. وهكذا .
والأم:لا تقوم على حجاب بناتها، ولا تمنع منكرات الحفلات.
والابن: تعود على شلة السوء، وسماع الغناء، والألعاب المحرمة، والمعاصي داخل وخارج البيت .
حتى بعض الذين هم في سدة التوجيه: من معلم و نحوه، كم منهم ينكر المنكرات؟!، كم منهم يعلّم؟!، يوجّه؟ يربّي؟ يعظ؟ يقص القصص؟ يذكّر؟ قليل الذين يبذلون من أوقاتهم في هذا.. حتى الطلاب تبلد إحساس كثير منهم، فهو لا يفيد و لا يستفيد.(20/4)
7- عدم التأثر والتفاعل تجاه مصائب المسلمين وقضاياهم: وإذا وعظت أحدهم في هذا، قال: ما لنا ولهم، هؤلاء بعيدون عنا، هؤلاء في بلد بعيدة.. أين مفهوم الأمة الواحدة و الجسد الواحد؟!، المصائب هذه التي تصيب المسلمين، أليس الذي لا يهتم بأمر المسلمين ناقص الإيمان؟ أليس الذي لا يحزن لما أصاب إخوانه المسلمين من المصائب ناقص الإيمان؟ أين أنت من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى]رواه البخاري ومسلم. أجيوش الأعداء في البر والبحر والجو وكثير من المسلمين نائمون؟! أالخطر يدق الأبواب وتبلد في الإحساس وكأن شيئاً لا يحدق ولا أخطار قريبة؟!
8- تفسير كل ما يحدث بالتفسيرات المادية البحتة: فهذا من تبلد الإحساس، فمثلاً: الزلازل، يقولون هذه ارتطام طبقات الأرض. ما أحد -إلا من ندر- يقول: هل هذا عذاب؟، هل هذا انتقام إلهي؟ كذلك في الأوبئة و الأمراض، يقولون هذا سببه كذا، و فيروس كذا.. من الذي يفسر ذلك بأنه عقوبة إلهية لأهل المعاصي؟ ولمّا يحدث كسوف، تجد كاميرات، و ناس تصوّر، و نظّارات تقي من الأشعّة، ما هذا التبلد؟ إلى هذه الدرجة ؟
ثالثًا: من أسباب تبلد الإحساس:
1- ضعف الإيمان بالله، واليوم الآخر: ولهذا يغفل العبد، وهذا نقص في العقل؛ لذلك أهل النار يقولون:{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ[10]}[سورة الملك].(20/5)
2- طغيان المادة على الناس، وحب الدنيا: والانشغال بها، فصارت القضية مادة في مادة، حتى صارت المادة تدخل في أمور دينية ، فصلة الرحم تُقطّع لأجل المادة، بر الوالدين يُنسى لأجل المادة، إطعام المسكين يُنسى، إكرام الضيف يُنسى... عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ] رواه البخاري .
لماذا جعله عبدًا للدينار؟ لأنه يرضى ويسخط من أجله، يحب ويبغض من أجله، يحيا ويعمل من أجله..وهكذا، وهناك مَنْ عبدوا الوظائف، ونسوا أهليهم و دينهم؛ بهذا الركض وراء التجارات، والصناعات، والمُساهمات، و: [لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ]رواه البخاري ومسلم.
3- كثرة المعاصي: ومن آثارها في تبلد الإحساس:
1- انسلخ من كثير من القلوب قبحها واستقباحها، حتى صارت عادة لكثير من العصاة الذين يحيون عليها ويعيشون من أجلها. حتى في وقت الابتلاء يعصون الله، إذا كان على سرير المستشفى يسمع الأغاني و يرى النساء المتبرجات وهو في حال الكربة، فأي حالٍ وصل إليه هؤلاء؟! إذا كان في الوقت الذي يؤمّل فيه أن يتوب، و يحتمل أن يرجع إلى الله هذا حاله، فما هي النتيجة المتوقعة؟!
2- المجاهرة بالمعصية في الشوارع، في الأسواق، فالنساء متبرجات أمام الناس ، أليس هذا مجاهرة بالمعصية؟
وهؤلاء الشباب بهذه المناظر العجيبة من التشبّه بالكفار وتقليدهم، الذين يعملون المنكرات في الأسواق علانية، يجلس في المطعم أمام الناس من وراء الزجاج علانية، و وُجِدت فواحش في مطاعم، فما معنى ذلك؟
3- إدمان الذنوب.. وموت القلوب:(20/6)
رَأيْتُ الذّنُوبَ تُمِيتُ القلوب ... وقَدْ يُورِثُ الذّلّ إدمَانُها
وتَركُ الذّنُوبِ حياةُ القُلُوبِ ... وخُيْر لنفْسِكَ عِصْيَانُها
4- إلف المعصية وتعودها: والتعود عليها مصيبة أكبر من اقترافها لأول مرة { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ[100]}[سورة الأعراف]. وبعد الطبع يتبلد الإحساس، فالإنسان بعد ذلك لا يتأثر، لا يرعوي، لا يرجع، لا يتوب، لا يندم، لا يبكي، لا تدمع عينه، قَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ]رواه مسلم. و لذلك بعض الناس تقول:وماذا فيها؟ و كأنك تتكلم عن قضية عادية مثل أكل أو شرب، مع أنه مقيم على كبيرة من الكبائر.
4- الإباحية والتعرّي و كشف العورات: في مواقع وقنوات ومجلات، فما هو أثر الإباحية في تبلد الإحساس؟ و دعونا ننتقل لكلام بعض الكفرة في هذا الموضوع لعله يكون عند بعض الناس أوقع، وجد عالم النفس دكتور إدوارد دورنستين من جامعة وسكنسون بأمريكا :أن الذين يخوضون في الدعارة و الإباحية غالباً ما يؤثر ذلك في أنفسهم عدم الاكتراث لمصائب الآخرين وتقبّل جرائم الاغتصاب.(20/7)
هذا الكافر يلاحظ على قومه أن من انتشار الإباحية تصير نفوسهم فيها تقبُّل لجرائم الاغتصاب وتصير عندهم شيء طبيعي.
كما وجد عدد من الباحثين: أن مثل هذه الإباحية تُورث عدم المبالاة لهذه الجرائم وتحقيرها، و قام الباحث الكندي جيمس شيك بدراسة عدد من الرجال الذين تعرضوا لمصادر مواد إباحية بعضها مُقتَرفة بالعنف وبعضها لا يخالطه العنف، و كانت نتيجة هذه الدراسة أن الباحث وجد في كلتا الحالتين تأثيراً ملحوظاً في مبادئ و سلوك هؤلاء، و تقبّلهم بعد ذلك لاستعمال العنف لإشباع غرائزهم..هذا كلام أبحاث علمية من أناس كفار في رجال تعرضوا لتوالي صور و أفلام مكثفة من المواد الإباحية فكانت هذه النتيجة: تبلد الإحساس، يعني تقبُّل الجرائم، يعني تصبح الجريمة شيء عادي، ليست قبيحة، ليست مرفوضة، هنا الخطر، أن لا يصبح المنكر مرفوضاً، أن لا يصبح المنكر قبيحا.
5- من أسباب تبلد الإحساس: الظلم: الإنسان إذا تعود على الظلم؛ تبلد إحساسه، فلو جاء شخص وقال له: ألا تخشى أن يخسف الله بك الأرض؟ ألا تخشى أن ينزل الله عليك عذاباً؟ ألا تخشى أن يأخذ الله روحك؟ إن الله يمهل و لا يهمل، ستجد تبلد إحساس في القضية:{ ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ[42]}[سورة إبراهيم]. إمهال ليزدادوا إثماً ثم يأخذهم، فإذا أخذهم كان الأخذ أليما شديدًا.
6- إدمان المخدرات و شرب الخمور: ألا توجِد هذه تبلد في الإحساس؟! الآن مدمني المخدرات هؤلاء هل عندهم إحساس بواقع المسلمين، و المعاصي، و انتشار الفساد، و قضية النهوض بالأمة، فإذا صار نسبة كبيرة يتعاطونها فالإحساس هذا ماذا سيكون حاله؟
7- تحول بعض العبادات إلى عادات: وتمر مروراً عادياً جداً.(20/8)
8- التعود على رؤية أهل البلاء كالأطباء مع أهل البلاء ، ومغسل الموتى ، وحفار القبور: إذا كثُر الإمساس قل الإحساس، لذلك لابد دائماً من مراجعة دورية لهذه القضايا التي يمر عليها يومياً و ربما يكون له فيها موعظة وعبرة و هو لا يعتبر ولا يستفيد.
9- عدم محاسبة النفس من أسباب تبلد الإحساس.
10- طول الأمل، وعدم التفكر في الموت من ذلك.
11- الأمنيات الزائفة.
12- التسويف.
13- مخالطة البطّالين.
14- كثرة الانشغال بالمباحات.
15- عدم الاشتياق إلى الجنة و إلى لقاء الله.
16- اللهو.
17- المناصب.
18- الأموال.
19- الألعاب الإلكترونية.
20- ترقيق كل فتنة لما قبلها: فمثلاً: كان بعض الناس يقول أن الذي لديه هذه القنوات المجاورة هذا يعتبر الآن شيء جيد، قنوات عرب سات، و لما جاءت قنوات عرب سات صار يقول: هذا ليس عنده إلا قنوات عرب سات هذا طيب لأن هناك أشخاص لديهم الديجيتل، و هكذا كل حال أنسانا ما قبله.
رابعًا:علاج تبلد الإحساس: ينبغي أن نعالج نفوسنا بأمور منها:
1- احتساب الأجر في الأعمال: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ] رواه البخاري ومسلم. فاحتسب الأجر يا أخي
2-التوبة لعلها تزيل تبلد الإحساس: التوبة سبب نور القلب، ومحو أثر الذنب، و استجلاب محبة الرب، وإغاثة الله للتائبين:{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ...[52]}[سورة هود].
3- تدبر القرآن العظيم: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[24]}[سورة محمد]. و ما تستطيع تتدبر إلا بمعرفة التفسير، على الأقل معاني كلمات الآية لكي تستطيع أن تتدبر.(20/9)
4- التفكر في السموات والأرض يزيل التبلد ويحيي القلب.
5- الاعتناء بالمواعظ لنوقظ هذا الإحساس: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[55]}[سورة الذاريات].
'وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوب'ُرواه أبوداود والترمذي وابن ماجة وأحمد. هذه الموعظة التي ينبغي أن تكون بالأسلوب المؤثر، بالآيات والأحاديث، وليست بكلام البشر فقط، إنها موعظة تحيي النفوس.
6- الجهاد في سبيل الله: قال النبي صلى الله عليه و سلم: [ عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ الْهَمَّ وَ الْغَمَّ] رواه الطبراني في الأوسط وهو صحيح.
7- رحلات الطاعة والرحلة في طلب العلم، ولقاء العلماء: وطلبة العلم، هذه الرحلات العلمية فيها تغيير، و فيها مفاجئات، وفيها إذهاب لتبلد الإحساس، رحلات الطاعة عموماً: رحلة الحج، رحلات العمرة، رحلات طلب العلم، رحلات صلة الرحم.
8- محاسبة للنفس: تتذكر ماذا قمت من حق الله؟ ماذا قمت من حق الوالدين؟ وحق الناس؟ والجيران والأرحام؟ حاسب نفسك، كم آية حفظت؟، كم حديثاً قرأت؟ كم مسألة علمية جديدة تعلمت؟، كم ركعة ركعت؟ هل قرأت وردك من القرآن؟ اسأل نفسك. ثم الانتباه، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [201]}[سورة الأعراف]، الإنسان يقع في معاصي، لكن إذا وقع تذكر، وهذا هو الفرق بين معصية المؤمن ومعصية الفاسق الفاجر، أولئك إذا عصوا ما تذكروا، المؤمن إذا عصى تذكر فرجع.
9- استعمال النعم في الطاعة.(20/10)
10- كثرة ذكر الموت: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ- يَعْنِي الْمَوْتَ-]رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد. ، يقول سعيد بن الجبير:' لو فارق الموت قلبي خشيت أن يفسد علي قلبي'
11- زيارة المقابر لأنها تذكر بالآخرة.
وأخيرًا: ينبغي أن ندرك حجم المأساة التي تعيشها الأمة، فهناك أناس بالرغم من كل المصائب العظيمة ليس عندهم أي انفعال ولا تصرف، ليس عنده ردة فعل إطلاقاً؛ لأنه لا يحس، يرى هجوم أعداء الإسلام الآن على المسلمين، يقولون عن نبينا إرهابي، و القرآن كتاب إرهاب، و الإسلام دين إرهاب... يقولون هذا علناً، و يصرّحون به في وسائلهم، فكل هذا الهجوم على الدين ما أنشأ عندنا غيرة ، ولا تحركاً للدفاع عنه، هذا جيري في برنامج ستون دقيقة يصف الرسول محمد صلى الله عليه و سلم بأنه إرهابي، و قال:' هذا كان رجلاً عنيفاً، رجل حرب،...إلخ، و بات
روبرتسون هذا القائد اليميني المتطرف-و كلهم متطرفون- في قناة فوكس يصف النبي صلى الله عليه و سلم بأنه مجرد متطرف ذو عيون متوحشة هكذا، و يقول عنه: سارق، قاطع طريق.
إذا رأى الإنسان المسلم أن الدين هكذا يُعمل به، ماذا يجب أن يتحرك في نفسه؟، لو كنت غير قادر على عمل شيء، فالله يثيبك على نيتك وعلى إحساسك، أما أننا نمكث هكذا بلا شيء،
فما المعنى بأن نحيا فلا نُحيي بنا الدينا وما المعنى بأن نجتر مجداً ماضياً حينا
و حيناً نُطلق الآهات ترويحاً و تسكينا(20/11)
لابد أن نعمل، و هناك مجال كبير للعمل للإسلام، الدعوة باب مفتوح، عندنا جيران، أصحاب، أصدقاء، أقارب، يحتاجون إلى الدعوة؟ ماذا بذلنا معهم؟ نحتاج إلى عمل، و إذا سمع الإنسان التنصير ماذا يُنفَق عليه من ميزانيات ضخمة، لابد أن يكون في المقابل هناك انفعال لأن تعمل لهذا الدين، عام 99 فقط ميزانية التنصير 200 مليار دولار، و أشياء تحدث كثيرة من المؤتمرات والجهود العظيمة، ثم المسألة الآن في هذا الخِضم من الهجمة الشرسة على الإسلام وبلاد الإسلام وأهل الإسلام، و صلى الله وسلم على نبينا محمد.(20/12)
( فتنة النساء )
عناصر الموضوع :
التعلق بالشهوات
فتنة النساء مستنقع القرن العشرين
بعض قصص الذين فتنوا بالنساء
الحكمة من الأمر بغض البصر
خطورة اختلاط الرجال بالنساء
بيان خطورة ما يعرض من الفحش على الإنترنت والقنوات المشفرة
فتنة النساء:
إن الناظر إلى أحوال الناس يعرف أن الرجل لابد له من محبوب ينتهي إليه، ومعبود يعتمد عليه، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، فلابد أن يعبد غير الله من الشهوات والملذات؛ ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الشهوات، وفي هذا العصر تعاظمت فتنة النساء، وتمادى دعاة الشهوات في الدعوة إليها، تكلم الشيخ حفظه الله عن موقف الشريعة من الشهوات، وحكم التعلق بها وعواقبها، وأقوال السلف في التحذير من فتنة النساء.
التعلق بالشهوات:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل أساس التوحيد لا إله إلا الله، وهو المستحق وحده أن يكون المقصود والمدعو والمطلوب والمعبود عز وجل، فهذه هي الغاية التي من أجلها خلقنا، ومن نظر في الأحوال عرف أن الرجل لا بد أن يكون له محبوبٌ ينتهي إليه، ومعبودٌ يعتمد عليه، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته فلا بد أن يكون له مراد ومحبوب آخر يستعبده غير الله عز وجل، إما المال، وإما الجاه، وإما الأشكال. إن الناظر إلى واقعنا -أيها الإخوة- يرى أن الناس قد غرق الكثير منهم في أنواعٍ من التعلق بالشهوات والافتتان بها، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرئاسات، والولع بالألعاب والملاهي.
موقف الشريعة من التعلق بالشهوات:(21/1)
ما هو موقف الشريعة تجاه الشهوات؟ إن هذه الشريعة المباركة المنزلة من عند أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى سلكت السبيل الوسط بين أهل الفجور وأصحاب الرهبانية والتشدد، فأهل الفجور أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وغرقوا في المعاصي والآثام، وأهل الرهبانية حرَّموا ما أحل الله من الطيبات، فيقولون: فلان ما ذبح ولا نكح، أي: لم يأكل اللحم، ولم يتزوج النساء، ولم يطأ في عمره؛ فلذلك لم يصبر الناس على طريقتهم، فتركوا الرهبان وهجروهم، بل إن كثيراً من الرهبان لم يصبروا على ما اعتقدوه، فوقعوا هم في أنواع الشهوات الخفية، فاكتشفوا وافتضحوا بين الخلق، وهذه الشريعة هي دين الله عز وجل تراعي أحوال الناس، وأن لهم غرائز وشهوات، وكذلك فإن الشريعة تعترف بها ولكن تضبطها وتهذبها. ولما كان العبد لا ينفك عن الهوى مادام حياً، وأن الهوى ملازمٌ له؛ كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية غير ممكن، ولذلك فإن الله عز وجل لم يأمرنا بأن نصرف قلوبنا عن هوى النساء بالكلية؛ بل صرفنا إلى نكاح ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع، ومن الإماء ما شاء الإنسان، فصرف الهوى إلى الحرام بالهوى إلى المباح، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء).
نتائج التعلق بالشهوات:(21/2)
إن المتتبعين لشهواتهم من الأشكال والصور، والطعام والشراب واللباس، لا بد أن يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسيراً للهوى، ولذلك فإن الإنسان إذا صار عبداً لشيءٍ من الدنيا غرق واستولى ذلك الشيء عليه، فصار هو الذي يقوده. قال الشافعي رحمه الله: من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا. لا بد أن يكون عبداً لأحدهم، لجمالٍ أو مالٍ، أو شهوة أو رئاسة.. ونحو ذلك، وإذا كان الإفراط في الشهوات مذموماً شرعاً: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59] فكذلك اتباع الشهوات مذمومٌ عقلاً. إن العاقل إذا تبصر في أمور الذين يتبعون الشهوات ويغرقون فيها، يعرف تمام المعرفة بأن هذا الاتباع للشهوات والعبودية لها يصرف الإنسان عن مصالح كثيرة، ويفوت عليه منافع عظيمة، ولذلك فإن الصبر عن الشهوة -أي: الامتناع عن الشهوة المحرمة- أسهل من الصبر على ما تقتضيه إذا غرق فيها، فإن الصبر عن الشهوة المحرمة تعقبه لذة يقذفها الله في قلب الصابر. وأما إطلاق العنان للنفس في الشهوات، فإن ذلك يوجب آلاماً وعقوبةً وإن كان في لحظة الفاحشة أو لحظة الحرام سكران لا يدرك ذلك، ومخمور لا يشعر به. فتأمل يا عبد الله! كيف تورث المعصية بالشهوة حسرة وندامةً بعدها، (لذة ساعة شرٌ إلى قيام الساعة وما بعد قيام الساعة) أو تثلم عرض الإنسان، أي: أنه ينفضح بين الخلق، أو تذهب مالاً له خيراً له أن يبقى عنده، أو تضع قدراً وجاهاً له فيحقر بين الخلق كان حفظ جاهه أنفع له، أو أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، أو أن تطرق لوضيعٍ -إنسان تافه وحقير- طريقاً يتسلط به عليك بسبب الشهوة، فيهدد أو يتوعد، أو يفعل ويأخذ ما يشاء، أو أن تجلب هماً وغماً، وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، أو أن تنسي علماً ذكره ألذ من الشهوة، أو تشمت عدواً شماتة تتمنى أنك لم تقع في تلك الشهوة، أو تقطع(21/3)
الطريق على نعمةٍ مقبلة من الله، أو تبقي عيباً وصفةً لا تزول، والأعمال تورث الصفات والأخلاق.
فتنة النساء مستنقع القرن العشرين:
وأما شهوة النساء -يا عباد الله- والوقوع في حبائل الشيطان من هذه الجهة؛ فإن السعار الموجود في هذه الأيام والولوغ في مستنقعات الشهوة الآسنة ما أكثر منه، وهؤلاء الذين يتتبعون القنوات وشبكات الإنترنت والصور وغيرها قد سمروا أعينهم على الشاشات في سبيل ملاحقة برامج الفحش والرذيلة، وما أكثر الذين يشدون رحالهم إلى بلاد الفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة، وهذا المستنقع مستنقع القرن العشرين والحادي والعشرين الذي سيقدمون عليه، تعاظمت فيه الشهوات، وبذلت فيه أنواع الفنون في التصوير، وتصوير ذوات الأرواح هو باب الشر العظيم في هذا الزمان، وما أعظم الشريعة حين حرمت تصوير ذوات الأرواح؛ لأن تصوير ذوات الأرواح هو الذي أوقع الناس في ألونٍ كثيرةٍ من الفجور، قال تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] فتكالب شياطين الإنس والجن -يقودهم اليهود- في إفساد العالم، وإغراقه بالجنس، وإشاعة الفاحشة، حتى لا يبقى هناك طهرٌ ولا عفافٌ، ولا عرضٌ محفوظٌ ولا صيانةٌ، ولا تقوى ولا دين، فيسهل لليهود قيادة ذلك القطيع البهيمي، وإرخاء العنان للشهوة، وإحداث السعار والتولع بذلك لا يمكن أن يحدث شبعاً، بخلاف ما يقوله أصحاب النظريات الغربية من أن الإشباع يؤدي إلى الراحة، وهذا لا يمكن إطلاقاً، بل إن الانغماس يؤدي إلى مزيدٍ من الجوع، ولم نسمع أن رجلاً غرق في الزنا فشبع من فتنة النساء فكف وعف. قال علي الطنطاوي رحمه الله: لو أوتيت مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلافٍ من أجمل النساء من كل لونٍ وكل شكلٍ وكل نوعٍ من أنواع الجمال هل تظن أنك تكتفي؟! لا. أقولها بالصوت العالي لا. أكتبها بالقلم العريض، ولكن(21/4)
واحدةٌ بالحلال تكفيك. ولا تطلبوا مني الدليل، فحيثما نظرتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً، واحدة في الحلال تكفيك كثيراً أو اثنتان في الحلال إلى أربع، وأما في الحرام فلو فجر بألف امرأة من نساء الدنيا فلا يمكن أن يكون عاقبته العفة. ومن وقع في هذه المفاسد أنهك الجسد، وأتلف المال، وجلب العار، وأزال المروءة، وذهبت جلالته ووقاره، والعجيب أن يكون الرجل العاقل الكبير صاحب الأولاد والذرية قد أقبل على أقبح ما يكون بالوقوع في هذا السعار، والله عز وجل حكيمٌ عليم، وقد قال لنا: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28].
أقوال السلف في النظر إلى النساء:
قال طاوس رحمه الله: " من نظر إلى النساء لم يصبر ". وقال ابن عباس : [لم يكن كفر من مضى إلا من قبل النساء ] وهو كائنٌ كفر من بقي من قبل النساء، فهذه فتنة بني إسرائيل التي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منها بقوله: (ما تركت بعدي فتنةً أشد على الرجال من النساء) وهذا قد يكون من أسباب الكفر، فإن بعض الناس إذا دخل في هذا المستنقع كفر، وخصوصاً إذا أعجب بكافرة، وخصوصاً من الذين يذهبون إلى بلاد الكفر والانحلال.
بعض قصص الذين فتنوا بالنساء:
ساق المؤرخون المسلمون عدداً من القصص حول هذا الموضوع، ومن ذلك:
قصة صالح المؤذن:
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: بلغني عن رجلٍ كان ببغداد يقال له: صالح المؤذن ، أذن أربعين سنة وكان يعرف بالصلاح، صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن؛ فرأى بنت رجلٍ(21/5)
نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن ، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟! فقال: توافقيني على ما أريد وإلا قتلتك، فقالت: لا. إلا أن تترك دينك، فقال: أنا برئ من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكل من لحم الخنزير فأكل، قالت: فاشرب الخمر فشرب، فلما دب الشراب فيه دنا إليها فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفته في ثوبٍ، فجاء أبوها، فقصت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في الطريق، فافتضح أمره بعد ذلك، فرمي في مزبلة مرتداً!!
قصة ابن عبد الرحيم:(21/6)
ذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية في حوادث سنة (278هـ) ما يلي: قال: وفيها توفي ابن عبد الرحيم قبحه الله، ذكر أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدةً من بلاد الروم إذ نظر لامرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهواها فراسلها، ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إلي، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقةً عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة أثناء الحصار وهو فوق وهم حول السور، فقالوا: يا فلان! ما فعل قرآنك؟! ما فعل علمك؟! ما فعل صيامك؟! ما فعل جهادك؟! ما فعلت صلاتك؟! فقال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله تعالى: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:2-3] وقد صار لي فيهم مالٌ وولد، أي: صار لي عند النصارى مال وولد. يقول يزيد بن الوليد محذراً من سببٍ من أسباب الوقوع في الخنا والفجور -وهذا السبب منتشر كثيراً جداً في هذا الزمان-: يا بني أمية! إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا. قال ابن القيم رحمه الله: ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان وتنقاد، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء، صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة المعنى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة الصحابي: (يا أنجشة! رويدك.. رفقاً بالقوارير) أي: النساء. فكيف إذا استمع إلى هذه الأغنية والدف والشبابة(21/7)
والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من شيءٍ لحبلت من الغناء.
لعمر الله كم من حرةٍ ... صارت بالغناء من البغايا
وكم من حرٍ أصبح به ... عبداً للصبيان أو الصبايا
وكم من غيورٍ تبدل به ... اسماً قبيحاً بين البرايا
وكم من معافى تعرض ... له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا
الحكمة من الأمر بغض البصر
النظر المحرم والغناء طريقان مباشران إلى الزنا، ولذلك حرمت الشريعة الحكيمة النظر، وأمرت بغض البصر، وحرمت الغناء والمعازف، رغماً عن أنف كل قذرٍ يفتي بإباحة الموسيقى التي حرمها الله ورسوله، البصر صاحب خبر القلب.. يأتي إلى القلب بالأخبار.. رسول القلب يرسله فيأتي بأخبار المبصرات فينقشها في القلب، فيجول القلب في هذه الصور ويشتغل ويفكر وينهمك ويهتم بها، ولذلك يكون بعده الوقوع في الحرام: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ * < وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:30-31] بدأ بغض البصر قبل حفظ الفرج، لأن هذا هو الطريق إلى وقوع ذاك في الحرام: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] وهذا النظر -أيها الإخوة- الذي أطلقه الناس اليوم في النساء العابرات، والفتيات الماشيات، والخارجات، وفي الشاشات وأنواع المسلسلات والصور العاريات؛ خرّب أفئدة كثير من الناس في هذا الزمان، والنظرة سمٌ يؤثر في القلب؛ ولذلك كان من الحكمة أن تقطع من أولها ومبادئها، لأن الناظر إذا استمرأ النظر صعب عليه أن يتركه، ثم تتطور الأمور بامتلاء القلب من الصور المحرمة، وعند ذلك يكون الوقوع في الحرام. نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العفة والعفاف، وأن يباعد بيننا وبين المحرمات، وأن يجعلنا من الأتقياء الأطهار، البررة الأبرار، إنه سميعٌ غفار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
خطورة اختلاط الرجال بالنساء:(21/8)
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله: كيف إذا انضم إلى ما سبق: الاختلاط وقيام سوق الاختلاط بعمل المرأة مع الرجال؟ كيف إذا انضم إلى ما سبق هذه المخالطة والملابسة والقرب، وأن تجلس بجانبه أو تتكلم إليه، أو يأتي إليها، أو يخلو بها في مستشفى أو مكتب، أو يسمع الصوت بالهاتف، أو يتخذها سكرتيرة.. ونحو ذلك من الأعمال التي ينادي الكفرة والمنافقون بحصولها بيننا، ويرفعون عقيرتهم بأهميتها، وأنه لا بد من الحرص عليها، وتشغيل نصف المجتمع لتحطيم النصف الثاني وتخريبه، ويكون الخراب في النصفين جميعاً؟! كيف إذا صار الطالب مع الطالبة، والموظف مع الموظفة، والعامل مع العاملة؟ كيف إذا صار الاختلاط يعم؟ فماذا يحدث عند ذلك من أنواع الانغماس في الفواحش والقاذورات؟ عباد الله! قال العلماء: لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. يقول ابن القيم رحمه الله: "ولما اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام، وفشت فيهم الفاحشة، أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يومٍ واحدٍ سبعون ألفاً". والقصة مشهورة في كتب التفسير، فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا. هذا الكلام يقوله ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية منذ مئات السنين، يقول: من أسباب الموت العام الاختلاط. وقد رأينا الطواعين في هذا الزمان التي تسبب الموت العام نتيجة الفواحش، فالكلام واحدٌ ومتصل من القديم إلى الحديث، وهذا الولع والانكباب على الشهوات سبب ضعف التوحيد، ويؤدي إلى العشق، والعشق هو(21/9)
الذي يبتلى به أصحاب الإعراض عن الله، وأما المخلصون فلا يقعون فيه، كما قال الله عز وجل عن يوسف: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] وامرأة العزيز كانت مشركة، فوقعت -مع زواجها- فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة والتهديد بالسجن، عصمه الله بإخلاصه. إذاً: لو كان متزوجاً ولا يريد العفاف فسيقع في الحرام. وقال عز وجل عن إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وقال تعالى إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42] والغي: هو اتباع الهوى. إن الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من البلايا والعقوبات، ويورث عمى لا يبصر حقارة ما يعمله ولا قبحه، كما قال عز وجل: إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72] هؤلاء قوم لوط الذين في الفواحش، فأعماهم ذلك عن معرفة قبح ذنبهم فأدمنوا عليه، والإنسان إذا أصيب بالإدمان فمن ذا الذي يخرجه؟! والتعلق بالحرام لا يكاد الإنسان يفارقه حتى يعود إليه، ولذلك كانت عقوبتهم في البرزخ (في الفرن.. في التنور) الهبوط ثم الصعود، حتى إذا كادوا يخرجوا من التنور رجعوا في قعره مرة أخرى، كما جاء في حديث البخاري، أنه عليه الصلاة والسلام ( رأى الزناة والزواني في تنورٍ أعلاه ضيق وأسفله واسع توقد تحته نار، فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ، فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا أخرجت رجعوا فيها ) وهكذا لا يخرج هذا العاشق ولا المدمن على الحرام منه حتى يرجع إليه، بسبب ما فرط في جنب الله عز وجل.
بيان خطورة ما يعرض من الفحش على الإنترنت والقنوات المشفرة:(21/10)
أيها الإخوة! ولقد وصلتني عددٌ من الرسائل في هذا المسجد، وخلاصتها ومن آخرها: رسالةٌ من امرأةٍ تقول: زوجي كان صاحب دينٍ يختلط بالأخيار ويغشى مجالسهم، وكانت حالنا في البيت جيدة وعلاقته بي وبأولاده ممتازة، وهناك استقرارٌ بيتيٌ وعاطفي، ومنذ أن أدخل اشتراك الإنترنت في بيته -لا بارك الله فيه- انقلبت الأحوال، فصار يغلق على نفسه الباب، وطال انحباسه عنا، ثم تهاون بصلاة الجماعة في المسجد، ثم تهاون بالصلاة أصلاً حتى في البيت، ثم حلق اللحية، ثم ترك الأخيار وترك مجالس الخير، وصار عاكفاً على هذا الصنم، وساءت العلاقة بيننا، وغاب عن أولاده، وصرنا في غاية السوء، وقال: إذا لم يعجبك الحال الحقي بأهلك. ورسالة ثانية: نفس القضية ولكن بالقنوات الفضائية، وببعض القنوات المشفرة وغير المشفرة التي تبث في أوقاتٍ مختلفة، وبأجهزة تركب على الدش ووو... وغير ذلك من أبواب الفواحش التي انفتحت على الناس، فخربت البيوت، وأفسدت العلاقات، وضاع الأولاد، وأزهقت المرأة من هذه الحياة، والمرأة السليمة تغار أن يرى زوجها هذا الحرام، وتقبل عليه تنصحه ولكن أذنٌ من طينٍ، وأذنٌ من عجين، طينٌ حرام وعجين إبليس الذي يسد به طريق النصيحة فلا تصل. أيها الإخوة: إننا -والله- أمام كارثة كبيرة قد أحدثت ببيوتنا وبشبابنا بل وبشيباننا، وترى الرجل الكبير العاقل تفتنه هذه الأمور القذرة. نحن نعلم أننا في آخر الزمان، وأن كيد يهود في نشر هذه الأمور كبير جداً، ولكن أين ذكر الله؟ أين التحصن بالله؟ أين عبادة الله؟ أين بيوت الله التي تقي من دخل فيها؟ من دخلها كان آمناً من الشهوات إذا دخلها بصدق، أين مرافقة الأخيار الذين يحوطونك فيمنعونك من الوقوع في مثل هذه التراهات إذا أنت عملت فيهم بقول الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ(21/11)
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] لا دشاً ولا شبكةً ولا مجلة ولا سوقاً ولا هاتف مغازلة، ولا باب مدرسة بنات، ولا غير ذلك .. وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28]. اللهم احفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعل قلوبنا معمورة بذكرك، اللهم اصرف عنا الشهوات المحرمة، اللهم اصرف عنا كيد إبليس، اللهم اصرف عنا فتنة النساء، اللهم ارزقنا غض البصر. اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن رزقوا العفاف. اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك في الغيب والشهادة.. أمام النا، ومن وراء الناس، وإذا غاب الناس. اللهم اجعلنا ممن يخشاك كأنه يراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تذلنا بمعصيتك، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين، واحفظ أولادنا وأولاد المسلمين، وطهر بيوتنا وبيوت المسلمين. اللهم انصر المسلمين في بلاد الشيشان على الروس الكفرة، وانصر المسلمين في كشمير على هؤلاء الهنود، اللهم إنا نسألك النصر للإسلام وأهله في بلاد فلسطين على اليهود الغاصبين، اللهم إنا نسألك النصر العاجل لأهل الإسلام في أصقاع الأرض يا رب العالمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(21/12)
( كيف تسأل أهل العلم؟ )
عناصر الموضوع :
الإفتاء بين تدافع العلماء واندفاع الجهلة
مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي
آداب سؤال العلماء
ملاحظات حول الاستفتاء بالهاتف
كيف تسأل أهل العلم؟
العلماء ورثة الأنبياء، وهم الموقعون عن رب العالمين، وبعلمهم تكون النجاة، والسؤال مفتاح العلم، والتصدر للإفتاء منصب خطير، تجنبه كثير من السلف، وتهافت عليه أكثر الخلف. وفي هذه المحاضرة عشر مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي، وسرد وبيان لكثير من آداب سؤال العلماء ومناقشتهم، وفي ختام هذه المحاضرة بعض الملاحظات حول استخدام الهاتف في الاستفتاء. تتخلل كل ذلك أمثلة للآداب، وطرائف من الأخطاء، لا يعدم قارؤها الفائدة.
الإفتاء بين تدافع العلماء واندفاع الجهلة:(22/1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب، وعلمنا ما لم نكن نعلم، وهو ذو الفضل العظيم، الحمد لله الذي قال معلماً لعباده: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114]. أيها الإخوة إن موضوعاً كموضوع: كيف تسأل أهل العلم؟ أو آداب المستفتي، من الموضوعات المهمة التي يحتاج إليها المسلم دائماً، لأن المسلم لا بد أن يتعرض في حياته لمواقف كثيرة يحتاج إلى السؤال عنها، وإلى حوادث وحالات لا يعلم حكمها، ولا بد امتثالاً لقول الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الانبياء:7] أن يسأل أهل العلم، لأن هذا فريضة قد أمر الله بها فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الانبياء:7]. وموضوع الفتوى والمفتي والمستفتي من الموضوعات الخطيرة والحساسة التي أفرد لها العلماء الكتب، وصنفوا فيها الرسائل، وتكلموا عنها بكتب أصول الفقه، وموضوع الفتوى موضوع خطير، كيف وقد قال الله عز وجل: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116]. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقون الفتيا، كما قال أحد السلف: لقد رأيت ثلاثمائة من أصحاب بدر ما فيهم أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا، وقال ابن أبي ليلى : أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يسأل أحدهم عن المسألة فيرد هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، هذا المنصب الخطير، منصب الفتيا الذي ضاع اليوم بين المسلمين، منصب الفتيا الذي ملأه في كثير من بلدان العالم الإسلامي أناس من الجهلة، أو من أصحاب الهوى الذين لا يخافون الله عز وجل، من الذين يبيعون الدين(22/2)
بالدرهم والدينار، هؤلاء الذين تورط بهم الناس ورطة كبيرة، فتشعبت الأقوال، وتاه الناس ما بين هؤلاء الجهلة، وسلم من خلق الله من أهل العلم أناس قليلون ونفر معدودون يصلحون للفتيا يلجأ إليهم المخلصون، وهم الذين يعصمون من الهلكة والوقوع في الهاوية، هؤلاء الذين ينبغي على المسلم أن يلجأ إليهم. إن منصب التوقيع عن رب العالمين منصب خطير، والمفتي في الحقيقة يوقع عن رب العالمين، الله يفتي: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء:176] فالمفتي إذاً ينوب عن الله في إخبار الناس بأحكام الله، فهو يوقع عن الله، يوقع بالنيابة عن الله، ولذلك صار فمنصبه جد خطير.
التحذير من الإفتاء بغير علم:(22/3)
وكان الذي يفتي بغير علم إثمه عظيم، قال صلى الله وعليه وسلم: (من أفتي بفتوى غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه) لو قارنا حال الذين يتساهلون اليوم في إفتاء الناس بحال الصحابة التي ذكرناها قبل قليل، لوجدنا أمراً عجيباً، اليوم يفتي بعض الناس وهم جهلة، بل ربما يكون المجيب أجهل من السائل، يفتي بعض الناس من أتباع الهوى، ويأخذون الأموال على الفتاوى الرخيصة، لأجل إرضاء فلان وفلان، قال أبو حصين الأسدي : إن أحدكم ليفتي في المسألة، لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، وكان ابن عمر إذا سئل قال: اذهب إلى هذا الأمير الذي تولى أمر الناس فضعها في عنقه، وقال: يريدون أن يجعلونا جسراً يمرون علينا إلى جهنم، من هو الذي يقول؟ العالم المجتهد ابن عمر رضي الله عنه، والشيء الذي يمنع بعض الناس اليوم من أن يقول: لا أدري كان لا يمنع الثقات العلماء من السلف أن يقولوا ذلك. سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: ألا تستحي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق ؟ قال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا، وهذا الإمام مالك رحمه الله تعالى، سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال: في اثنتين وثلاثين منها لا أدري، يقول له السائل: بماذا أرجع للناس، وماذا أقول لهم؟ قال: قل لهم يقول الإمام مالك : إنه لا يدري. هذا دين إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5].. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:13-14] ولقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أفتوا رجلاً من أصحابه بغير علم، لما أصاب رجلاً شجة في سفر وأصيب بجنابة، فسألهم قالوا: لا بد لك من الاغتسال، فاغتسل فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله) دعا عليهم وقال: (ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) العي والجهل شفاؤه بالسؤال. ولقد كان الأمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سؤال أهل العلم،(22/4)
جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا -اثنان مخاصمان- كان خادماً عند هذا، فزنا بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، أعطيته فدية لقاء ما أفسد ولدي من زوجته، أعطيته مائة شاة ووليدة، ثم إني سألت أهل العلم، فقالوا: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، الرسول عليه الصلاة والسلام قضى بكتاب الله، قال: (الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام). فإذاً الصحابة كانوا يسألون أهل العلم، الذين يخبرونهم بالفتوى الصحيحة، ومن هذا المنطلق نقول في مقدمة هذا الدرس: كيف تسأل أهل العلم؟ نقول يا أيها الإخوة! سنتحدث إن شاء الله عن مسائل أصولية تتعلق بالسائل والمستفتي، وآداب السؤال، والمفتي، وملاحظات على الأسئلة بالهاتف، وأسئلة النساء، وبعض الأسئلة التي فيها أخطاء نلقي عليها بعض الضوء، ولن نتحدث في هذه الليلة أكثر عن خطورة منصب الفتيا ولا عن خطورة القول على الله بغير علم، ولا عن عمل المفتي، وماذا يجب على المفتي؟ هذا أمر طويل جداً، ونحن يهمنا الآن المستفتي أو السائل.
فنقول أيها الأخوة:
مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي: ... ...(22/5)
أولاً: مسائل أصولية تتعلق بالمستفتي: أولاً: يجب على المسلم إذا نزلت به حادثة لا يعلم حكمها، أن يسأل أهل العلم امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] هذا أمر واجب، هذا من صميم الدين، يجب عليه أن يسأل. ثانياً: يجب على المستفتي أن يتحرى وينتقى الأعلم والأورع لسؤاله، فلا يسأل جاهلاً، ولا صاحب هوى، ولا يجوز للعامي سؤال كل من تظاهر بالعلم، أو وضع في منصب من قبل جاهل، أو فاسق عينه في هذا المنصب، ولا يجوز أن يسأل كل من تصدى للتدريس، أو قال للناس: اسألوني، وإنما يجب عليه أن يتحرى، وأن يبحث وأن ينتقي من يسأله الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان:59] [ إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ] فإذاً لا بد من البحث عن أهل العلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) لا بد من اختيار الأوثق، أنت إذا عرض لك مرض، قضية جسدك وذكر لك طبيبان، فماذا تفعل؟ تسأل من تثق بعلمه في الطب، تذهب إلى الأظهر والأكثر خبرة.
طرق معرفة المؤهل للإفتاء:(22/6)
ثالثاً: كيف يعرف العامي، أن فلاناً أهل للسؤال؟ الجواب يعرف ذلك بأمور، منها: التواتر بين الناس والاستفاضة بأن فلاناً أهل للفتوى، والمقصود بالناس العقلاء العارفون، وليس عوام الناس الذين يُلبس عليهم في بعض البلاد، ففي بعض البلاد يُلبس على بعض العامة؛ يقول لك آلاف من الناس: فلان هذا المفتي، اسأل فلاناً، وهذا ملبس عليهم فيه، فمن تواتر بين الثقات العارفين واستفاض بين الناس بأنه أهل للفتوى وعالم فهو الذي يسأل. الطريقة الثانية: تزكية العلماء العدول الثقات لفلان بعينه أنه أهل للفتوى، فيقصد ويسأل. الطريقة الثالثة: إذا تعدد المفتون في بلد، فماذا يجب على الشخص؟ هل يجب عليه أن يعرف الأعلم ليسأله، أو يسأل أي واحد منهم، مادام أنه صالح للفتيا؟ قال بعض أهل العلم: لا يجب على العامي البحث عن الأعلم مادام الجميع أهلاً للفتوى، وإنما يسأل من يتيسر منهم، خصوصاً أنه عسير على العامة معرفة وتمييز من هو الأعلم، فكيف سوف يعرفون؟ الذي ليس عنده موازين فكيف يميز؟ فهذا يقلد شيخاً يثق به، صالحاً للفتوى، يسأله فيقلده، ولما ضل الناس في مسألة التحري، نفذت عندنا أمور مهلكة، وقضايا مضحكة، وأضرب لكم مثالين مما سمعت في هذه المنطقة: رجل ظاهر من امرأته، قال لها: أنت علي كظهر أمي، ما حكمه في كتاب الله؟ عليه عتق رقبة، ثم صيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكيناً، إذا لم يستطع بالترتيب، هذا الرجل ذهب إلى إمام مسجد، الناس الآن من المآسي والمصائب الموجودة عندنا أن الناس لا يميزون في السؤال، ذهب إلى إمام مسجد، قال له كذا، قال: اجلس! قل ورائي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ هذا الإمام آيات سورة المجادلة، وآية الظهار في سورة المجادلة، والشخص الآخر يقرأ وراءه، بعدما انتهى من القراءة، قال: خلاص انتهى، اذهب ما عليك شيء، انظر كيف حل المسألة؟ مع أن المفروض أن يقول: اسمع حكم الله في المسألة، ثم(22/7)
يقول: سمعت حكم الله اذهب ونفذ، لكن هذا قرأ له الآيات، قال اقرأها ورائي، فلما قرأها قال: اذهب، لا شيء عليك. مثال آخر واقعي: رجل وطئ امرأته في نهار رمضان، ما حكم الله في المسألة؟ عتق رقبة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين، المسألة فيها تغليظ، القضية قضية عقوبة، ليست المسألة مسألة هزل، فإن لم يستطع، يطعم ستين مسكيناً، ذهب إلى واحد، يسأل من هب ودب، أقرب شخص أو إمام مسجد لا يخاف الله، قال: أنا فعلت كذا وكذا، قال: هذه بسيطة، عليك إطعام ستين مسكين، ثلاثين عليك وثلاثين على زوجتك، وحتى الستين ليست عليه، لكن قسمها بالنصف، قال:عليك ثلاثين وعلى زوجتك ثلاثين. وأمثلة هذا كثيرة جداً، هناك أناس يحلون ما حرم الله، وهناك أناس يحلون ما علم حرمته من الدين بالضرورة مثل الربا وغيره، هناك أناس يحلون نكاح المتعة، وهناك أناس يحلون أشياء كثيرة جداً من الحرام الذي أجمعت عليه الأمة، وعلم في الضرورة أنه حرام، لكن من الناس من لا يخاف الله، ويتجرأ، وليس عنده أدنى مانع من أن يعطي الناس الأريح، وأن يفتي بالرخص الضالة الكاذبة، ويجعل دين الله ملعبة، وبعضهم يزعم أن هذا وسيلة للدعوة أن نرخص للناس، ونخفف على الناس، فيكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى علماء الأمة، ويعطي الناس أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان، أو يوجب على الناس أشياء لا تجب عليهم، يأتي واحد في الحج يسأل جاهلاً، يقول له: فعلت كذا، فيقول: هذه فيها دم، وهذه فيها دم، وهذه فيها دم، خمسة دماء، ستة دماء، وربما ولا واحد منها فيه دم، فإذاً قضية إيجاب ما لا يجب على الناس حرم أيضاً، فقضية تحليل الحرام أو تحريم الحلال، وقضية إيجاب ما لا يجب، كله ليس من دين الله ولا من شرعه.
وجوب معرفة نبذة عن أسباب الخلاف: ...(22/8)
خامساً: يجب على العامي أن يعلم نبذةً عن أسباب الاختلاف بين العلماء، لأن العامة الآن يسألون علماء أو مشايخ، ويسمعون فتاوى العلماء، فإذا جاء مثلاًً في قضية قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية خلف الإمام، سمع عالماً يقول: يجب أن يقرأ، ثم سمع عالماً يقول: لا يجب أن يقرأ، بل ربما قال: لا يجوز أن يقرأ وعليه الإنصات، يأتي في زكاة الحلي، ويسمع شيخاً يقول: تجب الزكاة في الحلي، ثم يسمع مفتياً آخر يقول: لا تجب إذا كان مستعملاً، أو يجب في العمر مرة، وهكذا حال كثير من المسائل الخلافية، فالعامي إذا لم يكن يعلم نبذة من أسباب خلاف العلماء يتيه ويضيع، ويقول: ضيعونا العلماء، هذا الدين أصبح صعباً، العلماء لماذا يختلفون؟ لماذا صار الدين هكذا؟ وبالتالي يتصور الدين تصوراً عجيباً، لكنه لو علم أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد اختلفوا، وأن الخلاف من طبيعة البشر، وأن أفهام العلماء تتفاوت، وأن العالم الفلاني قد يصل إليه الدليل، وعالم لا يصل إليه الدليل، عالم يصح عنده الدليل وعالم لا يصح عنده الدليل، عالم يفهم الدليل من جهة والآخر يفهمه من جهة أخرى، عالم يظن أن هذا هو الناسخ والآخر المنسوخ، وعالم ينظر أن العكس هو الصحيح، والخاص هو العام، والعام هو الخاص، فإذاً هذا الاختلاف طبيعي في أفهام البشر، ومادام أنهم كلهم ثقات وعلماء، فإذاً من الطبيعي أن يختلفوا، واختلافهم مقبول، وعلى العامي أن يتحرى الأعلم ليسأله.
عدم الاطمئنان للفتوى يوجب ترك العمل بها:(22/9)
سادساً: لا يعمل بالفتوى حتى يطمئن لها قلب المستفتي، قال ابن القيم رحمه الله: لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه وحاك في صدره من قبوله وتردد فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (استفت نفسك وإن أفتاك المفتون) فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولاً؛ ولا تخلصه فتوى المفتي من الله، إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه. واحد يعلم أن الأمر في الباطن حقيقة خلاف ما أفتى المفتي، لشكه فيه، أو لجهله، فلا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، فلو أن رجلين ذهبا إلى قاض، واحد محق وواحد مبطل، لكن الذي على الباطل، ألحن وأقدر على التعبير والإقناع، فأقنع القاضي، فحكم له القاضي، هل حكم القاضي يجعل المال حلالا له؟!! لا، لا يجعل المال حلالاً له، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار) ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه الحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف في الفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بالفتوى، وسكون النفس إليه. فإذا كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي، فعليه أن يسأل الثاني والثالث حتى تحصل له الطمأنينة، فإذاً المثل العام الذي يقول بعض الناس "ضع بينك وبين النار شيخاً" أو "ضعها في رقبة عالم واخرج منها سالم"، أي: اسأل واحداً، وإذا أفتاك فامش عليها، فإذا كان العامي (الشخص السائل) يعلم أنه ليس بأهل، أو أنه لم يفهم السؤال، أو أنه أخفى عليه أشياء، وأفتى المفتي بناء على الجزء المقدم إليه، فلا يجوز للعامي أن يعمل بهذه الفتوى، لكن لو وضح القضية،(22/10)
وأجاب عنها العالم الثقة، فلا يصح أن يخرج عنها بدون شيء شرعي يجب عليه أن يلتزم مادام سأل وعرف الجواب، يجب أن يلتزم ولا يتهرب، لكن إذا كان يعلم أن الأمر الذي أفتى به المفتي بحلاف الحق، فلا يجوز له أن يقول: والله مادام فلان قد أفتى فيها، إذاً فقد برئت ذمتي وعهدتي، لا يجوز له ذلك.
معرفة حكم النازلة عند عدم وجود العلماء ... :
سابعاً: قال ابن القيم رحمه الله: إذا نزلت بالعامي نازلة وهو في مكان لا يجد فيه من يسأل، ماذا يفعل؟ أنت في سفر أو في مكان ما وجدت عالماً، ماذا تفعل؟ قال: الصواب أنه يجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويتحرى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصب الله على الحق أمارات كثيرة، ولا بد أن تكون الفطر مائلة إلى الحق، ولا بد أن تكون هناك أمارات في المسألة تدل على أن الحق كذا وكذا، إذاً هنا في هذه الحالة إذا ما وجد يتحرى، يتقي الله ما استطاع، ويعمل بما ظهر لديه، ويستغفر الله، ويتوب إلى الله، ويسأل الله أن يلهمه الصواب، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، ويعمل، ثم بعد ذلك يسأل إذا وجد الشيخ أو المفتي، فإذا كان يجب عليه استدراك شيء استدركه. إذا حصلت له حادثة، فسأل فأفتي، ثم حصلت له الحادثة مرة أخرى، هل يلزمه تجديد السؤال؟ لاحتمال أن رأي المفتي قد تغير مثلاً، الصحيح أنه لا يلزمه، والأصل استمرار الفتوى على ما هي عليه. ثامناً: ويجوز للمستفتي، صاحب المسألة أن يستفتي بنفسه، وهذا الأصل، أو أن يقلد ثقة يقبل خبره، فيقول له: اسأل لي العالم، ينتقي واحداً عاقلاً، يحسن النقل، يحسن الإيضاح، يحفظ، يضبط، ويقول اسأل لي العالم، وله أن يأخذ بالجواب الذي جاء عن طريق هذا الشخص. إذا سمع العامي أكثر من فتوى في المسألة، فماذا يفعل؟ الجواب: بعض العلماء قال: ياخذ بالأغلظ وبعضهم قال: يأخذ بالأخف، وبعضهم قال: يسأل ثالثاً يرجح له، لكن الصواب، والله أعلم كما ذكر بعض أهل العلم أنه يتحرى الأعلم والأوثق(22/11)
فيقلده، وهذا في الغالب ليس بمتعين.
عدم جواز التخير بين الأقوال:
عاشراً: لا يجوز للعامي أن يتخير بين الأقوال، فيفتح كتاباً فيه علم الخلاف، ويعرف المسألة يقول: زكاة الحلي، هناك من يقول: تجب كل سنة، وهناك من يقول: تجب مرة في العمر، ومنهم من يقول: تجب إذا لبس، وهناك من يقول: لا يجب أبداً، إذاً أحسن شيء أن أنتقي، مثلاً أنه يجب مرة بالعمر، قال: نأخذ الوسط، لا كذا ولا كذا، هل هذا منهج؟ الجواب: لا يجوز للعامي أن يتخير بين الأقوال، فيفتح كتاب خلاف، وينتقي قولاً، أو يأخذ فتاوى وينتقي منها عشواائياً، يجب عليه أن يقلد الأعلم إغلاقاً لأبواب الأهواء، وباب تتبع الرخص، وهكذا. ولذلك أعطيكم مثالاً في بعض كتب مناسك الحج التي توزع وتباع بين الحجاج، يعطيك مثلاً يقول: محظورات الإحرام: الشيء الفلاني عند أبي حنيفة مثلاً جائز، عند مالك كراهة، عند أحمد مكروه، عند الشافعي مثلاً محرم ونحو ذلك، فعنده جدول للمذاهب الأربعة، يأتي يفتح الكتاب ويقول: نأخذ هذه المرة بأبي حنيفة ، مثلاً المسألة التي بعدها شيء آخر، يقول: هنا والله مذهب الشافعي أسهل نأخذ به، ولهذا الذين يطبعون هذه الكتب ويبيعونها للعامة، ماذا يصلون إليه في الحقيقة؟ ومن من الحجاج الآن متمذهب بمذهب بحيث أنه الآن يقلد صاحب المذهب؟ قليل، ثم ما صحة هذا النقل، وهذه الكتب؟ وننتقل بعد هذه المسائل الأصولية، للمفتي إلى قضية الأدب في سؤال المستفتي أو كيف تسأل أهل العلم من جهة الأدب في طرح بالسؤال؟
آداب سؤال العلماء:(22/12)
أما السؤال أيها الأخوة! فهو وسيلة عظيمة جداً لتحصيل العلم، العلم خزائن والسؤالات مفاتيحها، السؤال منفذ كبير لطلب العلم، السؤال دلو تغرف به من بحور العلم، السؤال يفتح لك آفاقاً، السؤال يزيل الإشكال، السؤال وسيلة للفهم، السؤال إذاً قضية خطيرة يجب ألا نلعب فيها، وأن نعطيها وزنها وحقها، فلننتقل الآن إلى الكلام عن كيفية السؤال، كيف تسأل أهل العلم؟ ما هو الأدب مع المفتي؟ المستفتي كيف يفعل؟ ينبغي على المستفتي أن يتأدب مع المفتي، وينبغي على السائل أن يتأدب مع الشيخ.
تبجيل العلماء في الخطاب: ...(22/13)
ينبغي على العامي أن يتأدب مع العالم، قال أهل العلم في هذه المسألة: فيبجله في الخطاب، لا يقول: يا فلان، إما أن يكنيه يقول: يا أبا فلان، أو يا أيها الشيخ الجليل، مثلاً، أو يناديه بصيغة الجمع: ما قولكم حفظكم الله، أو رحمكم الله في المسألة الفلانية، ولا يومئ بيده في وجهه، ويؤشر له فوق وتحت ويمين ويسار شرحاً، وإنما يتأدب في الخطاب، ولا يقول إذا أجابه الشيخ: هذا رأيي من البداية، أنا هكذا قلت، أو أن يقول: لكن فلاناً أفتاني بخلاف قولك. وكذلك لا يسأله وهو في حالة ضجر، أو هم، وغير ذلك مما يشغل القلب، والعلماء تكلموا في الكتب عن قضية رقعة الاستفتاء، فقالوا: ينبغي أن يكون الخط واضحاً، وأن يضع فيها كل المعلومات وأن يجعل فيها فراغاً للكتابة، بعض الناس يعطي الشيخ ورقة، السؤال يملأ الورقة، وأين يكتب الجواب؟ يأتي بورقة أخرى! فحتى الرقعة التي فيها الفتوى تكلموا في وصفها، وكيف ينبغي أن تكون، المهم الشاهد بلغ الأدب عند بعضهم أنه كان يدفع الرقعة إلى المفتي منشورة مفتوحة، ولا يحوجه إلى فتحها، ويأخذها من يده إذا أفتى مباشرة، مفتوحة حتى لا يحوجه إلى طيها. ولا يصلح أن يستعمل الجفاء بأن يناديه باسمه كما ذكرنا أو يقول: يا أخ، يا هيه، أنت أنت يا فلان، أنت، كما يقع لبعضهم، وإنما يناديه بلقب حسن، ويقرن ذلك بالدعاء، كأن يقول: غفر الله لك، أو أحسن الله أليك، أو أحسن الله عملك، أو رضي الله عنك، أو أثابك الله، أو وفقك الله، أو نفع الله بعلمك، وحتى يأتي بكلمة مواساة، أرجو ألا أشق عليك، عسى ألا أشق عليك، ما حكم كذا؟ بعض الناس يود الشيخ ألا يسأله أبداً من سوء أدبه ولو كان الشيخ مرتاحاً، وبعضهم يود الشيخ أن يسأله زيادة، ولو كان الشيخ متعباً مما يرى من حسن أدبه، بعض الناس من أرباب الشوارع، إذا خطر بباله أن يسأل المسألة ينتقل بقلة أدبه من الشارع إلى خطابه للشيخ، ولا يتخلصون من لكنة الشوارع، فإذا سأل الشيخ(22/14)
وأجابه؛ قال: أنت متأكد، واحد يسأل عالماً كبيراً، يقول: أنت متأكد من هذا الكلام، أكيد.. سبحان الله! يعني حتى الأعراب لما جاء أحدهم قال: يا بن عبد المطلب، قال: لبيك نعم، قال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد عليَّ في نفسك، هذا كان أسلوب الأعرابي، جاء من الصحراء، لكن قال: فلا تجد عليَّ في نفسك، قال: آلله، وهؤلاء يقولون في زماننا كلاماً فيه من الرعونة وقلة الأدب شيئاً عجيباً، أو مثلاً إذا جاء يشرح له القضية، فأجابه الشيخ قال: كذا، قال: لا، لا، ما فهمت سؤالي، ركز يا شيخ، ما فهمت السؤال، انتبه معي يا شيخ، وبعض الناس من طريقته في الشرح، أنه يجعل المخاطب، أي: يتكلم بضمير المخاطب، فمثلاً يقول: افرض يا شيخ أنك فعلت كذا وكذا ماذا يكون الجواب؟ وقد يكون فعلت كذا وكذا، قد يكون طامة من الطامات، فمثلاً قد يقول: مثلاً يا شيخ أنت زنيت والمرأة التي زنيت بها كذا وكذا، كيف؟ أو يقول مثلاً يا شيخ أنت تعمل في شركة، من قبل عشر سنوات مثلاً يدك امتدت إلى الخزينة وسرقت مثلاً، وأنت الآن لا تدري كم سرقت، فكيف تفعل الآن؟ فهذه عبارات فاحشة، وسوء أدب ما بعده سوء، وكما قلت لكم أيها الإخوة: وبعض العبارت تصطك منها المسامع يود لو أنه أغلق الهاتف، وأنه صرفه عن وجهه، من سوء أدبه، والعلماء تكلموا في آداب المفتي، كيف يكون صدره واسعاً، وكيف يستقبل، وكيف يتغاضى ويتجاوز، لكن المستفتي يجب أن يكون مؤدباً في السؤال، إذا أراد أحدهم أن يسأل وجيهاً، أو وزيراً، أو عظيماً، تأدب غاية التأدب، حتى إذا أراد أن يسأل مديراً في دائرة، يقول: لو سمحت لي، ويكون صدرك واسعاً، وإذا جاء يسأل شيخاً أو عالماً، أعطاه من هذه الكلمات العجيبة.
مراعاة فطنة العلماء وفهمهم للمسائل:(22/15)
وكذلك ينبغي على السائل أن ينتبه، فربما فهم الشيخ السؤال وهو يظن أن الشيخ ما فهم السؤال، الآن كثير من الأسئلة متشابهة، الشيخ ربما سمع هذا السؤال خمسين مرة، أو مائة مرة قبل ذلك، وبعض السائلين يظن أنه يسأل هذا السؤال لأول مرة وأنه ما سبق الشيخ سؤال مثل هذا، يظن ذلك، فربما الشيخ يفهم السؤال من الوهلة الأولى، فيجيبه فيظن الشخص يقول: لا، لحظة يا شيخ، دعني أكمل، افهم معي جيداً، فالشيخ يقول له: أنا فهمت سؤالك، يقول: لا، دعني أوضح، فإذا كان الشيخ فهم السؤال فأجابه الحمد لله، فإذا سمع الجواب وظن أن الشيخ لم يفهم، أتى له بالعبارات الزائدة، بلطف. لذلك واحد كان يقول لإياس القاضي ، قال: أنا أكره فيك ثلاثاً: أنك تحكم قبل أن تفهم، مع أن إياس من أذكياء العالم، كيف يحكم؟ هو يتوهم الخصم أنه يحكم قبل أن يفهم، لكنه فهم.
عدم مقاطعة الشيخ أثناء الإجابة: ...(22/16)
ومن الأدب: ألا يقاطع الشيخ أنثاء الإجابة، يتمهل حتى يقضي الشيخ كلامه، ثم يقول مايريد أن يقوله من الاعتراض، أو الاستشكال مثلاً، أو سؤال زائد، أو فرعية في الكلام، أو سؤال عن لفظة غريبة وردت في كلام الشيخ مثلاً، ولا يستعجل فقد تأتي مسألته بعد قليل، وقد يكون الشيخ يريد أن يعلمه شيئاً أهم من الشيء الذي يسأل عنه، أحياناً يأتي واحد يسأل فالشيخ يعطيه مقدمة مهمة جداً أهم من السؤال، فيقول: لا، هذا ليس سؤالاً، انتبه أنت هذا الكلام قد تنتفع به بقية عمرك، سأل رجل ابن عمر رضي الله عنه عن إطالة القراءة في سنة الفجر، فقال ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة، فقاطع، فقال: لست عن هذا أسأل، فقال: إنك لضخم، ألا تدعني أستقرئ لك الحديث، أي: انتظر الجواب في بقية الحديث، أنا آتي لك بالحديث من أوله لتستفيد، وكلمة ضخم إشارة إلى الغباوة وقلة الأدب، وإنما قال له ذلك، لأنه قاطعه وعاجله قبل أن يفرغ من كلامه، وبعض الناس أيضاً يعاملون بعض الشيوخ والمفتين والعلماء، كأنهم موظفون يأخذون أجراً على الاستفتاء، وأنه موظف موجود لكي يجيب وأنه لا بد أن يجيب، وقد يكون الشيخ محتسباً لا يأخذ أجراً على ذلك، على أن يجلس عند الهاتف بين المغرب والعشاء، أو بعد العشاء، أو أنه يجلس في المسجد ليفتي الناس، لم يعطه أحد أجراً على هذا، فبعض الناس يسألون الشيخ كأن الشيخ موظف لا بد أن يجيب، لأنه يأخذ عليه أجر، وكأنه يقول حلل راتبك، انتظر هات الجواب، وخصوصاً الذين يسألون المشايخ في بيتهم، من الذي أعطاه وقال اجلس في بيتك وخذ مرتباً على الإفتاء من الساعة كذا إلى الساعة كذا؟ وكذلك لا بد للمستفتي إذا أراد أن يستفتي في مسألة فيها حرج أن يقدم بين يدي الاستفتاء بعبارات تدل على تحرجه، وأنه لا يريد الفحش بالكلام، فبعض الناس يقول: مثلاً، إن الله لا يستحي من الحق، يا شيخ ما حكم كذا؟ أو لا حياء في(22/17)
الدين ماحكم كذا؟ أو أريد أن أسألك عن مسألة لكني متحرج فيها، ولكن لا بد من السؤال، ويعطيه السؤال، وبعض الناس لا يبالي بذلك ويذكر توصيفات وأشياء تتعلق بالعورات، تتعلق بأمور من هذا القبيل بدون أي تقديم ولا يظهر للشيخ تحرج السائل، بل يظهر له قلة أدبه في السؤال. فإذاً لا بد من شيء من التقديم؛ لا مؤاخذة ما معنى كذا وكذا؟ لكن رأينا في المجالس أناساً يقولون: يا شيخ ما معنى "حتى تذوق عسيلتها؟" طريقتهم واضحة أنهم يريدون الفحش، وقد يكون عارفاً للجواب، لكن هذا موجود في المجتمع، ثم إنه ينبغي على المستفتي إذا أحسَّ أن الشيخ يريد بجوابه إبعاده عن الموضوع وصرفه عنه، وهو يقول: لا، لا إما أنك تقول لي حرام حتى أتركه، أو أنك تقول أنه ليس بحرام، فأحياناً بعض المشايخ يتورع أو تكون المسألة من المشتبهات، أو من المكروهات، هذا كثير جداً فيقول الشيخ مثلاً: لا أنصح بهذا، أرى أن تترك ذلك، أرى أن تترك هذا الشيء، فيقول: لا، لا، حدد حرام أم لا؟ لماذا؟ لأن هذا السائل ما عنده شيء اسمه (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ولا عنده "اتق الشبهات أبداً" ولا عنده شيء اسمه (فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام). الشيخ يريد أن يعلمك ترك الشبهات، يريد أن يعلمك أن هذا خلاف الأولى لا تفعل، فتجد هذا يلزم، وأحياناً يقول: لا يجوز أم حرام؟ أي حتى بعضهم لا يفهم لا يجوز، يأثم لو فعل، فيريد كلمة حرام، يريد كلمة حرام بالنص، فيفوت مقصد من مقاصد الشيخ في الإجابة، وكذلك من آفات المستفتين، أن بعضهم يتبرع بالسؤال عن شخص آخر، فيقول لواحد من الناس أنا أسأل لك، ويذهب بمعلومات غير كافية للشيخ، فيسأل الشيخ، فإذا استفصل منه الشيخ، قال: والله لا أدري، ليس عندي علم، إذاً الفتوى كلها تتوقف على هذا الأمر، كما قال أحد السلف لسائل من هذا النوع: ليتك إذ دريت دريت أنا، لو أنك أعلمتني بالشيء الناقص، لأعلمتك بالجواب.
التطويل في السؤال بدون فائدة:(22/18)
ومن آفات المستفتين، وهذا شيء كثير متكرر: ذكر معلومات لا داعي لها، ولا تؤثر في الفتوى من قريب ولا بعيد، وتجد لذلك الأوراق فيها معلومات كثيرة، أو الدقائق تضيع بالهاتف في معلومات كثيرة لا داعي لها، في أسماء أشخاص، أو أعمار أو أسماء أماكن، أو وقت معين؛ ساعة معينة، ليس لها تعلق، بعض المعلومات لها تعلق بالفتوى، لكن بعض المعلومات ليس لها تعلق، وربما لو فكر قليلاً، لاختصر السؤال، مثل واحد يقول يا شيخ: سافرت إلى أمريكا قبل خمس سنوات للدراسة ومعي أهلي، وذهبنا إلى مكان معين، فيه مسبح، وجلست عند المسبح، وأولادي يسبحون، فجاء واحد بولده سعيد، وقال لي: انتبه لي للولد سعيد وهو يسبح، وأوصاني به، ثم نزل الولد يسبح، والمسبح فيه قسمين قسم عميق وقسم سطحي، وأنا أتكلم مع واحد بجانبي، ثم التهيت عن الولد، فبعد ذلك صاح أحد الناس، قال: هناك غريق، أتينا بالمنقذ الأول، نزل أول مرة وثاني مرة فلم يجده، أتينا بواحد ثانٍ، نزل واستخرج الجثة، واتصلنا بالإسعاف، ووضعوه على جنب، وعملوا له تنفساً صناعياً، واستيقظ بالمرة الأولى، أي: انتفع بها، وأخذوه بسيارة الإسعاف، ثم مات في الطريق، والسؤال: يا شيخ ماذا يجب علي الآن؟ هل علي دية أم لا؟ أنا أقول لكم: هذه أشياء واقعية حصلت، يعني يمكن ببساطة يقول: أوصاني رجل أن أنتبه لولده الذي نزل إلى المسبح، فانشغلت عن الولد فغرق الولد ومات. صفحة طويلة أو ثلاث صفحات يمكن أن تختصرها بسطر أو سطر ونصف، فبعض الناس يعيشون بين وسوسة، أن يقول للشيخ: اسمع قصتي من أولها، وأنه لا بد أن يذكر كل شيء، بعض الناس يقول: الجزئية هذه قد تكون مهمة لا بد أن نقول للشيخ كل شيء بالتفصيل، ولكن هل يوجد فرق عند الشيخ أن اسم الولد سعيد أو عمرو أو زيد؟ هل يوجد فرق في أن حادثة الغرق صارت في أمريكا ، أو في الهند مثلاً؟ هناك فرق أن الولد مات فوراً أو مات بعد ساعات؟ لكن كثيراً من السائلين لا يفكرون في المعلومات(22/19)
المهمة في الفتوى، والمعلومات غير الممهة، ثم يريد بعد ذلك من الشيخ أن يتسع صدره لكل التفاصيل، وأنه لا بد أن يستمع للقصة، وإذا الشيخ لم يستمع لكل القصة، وقال: اختصر وعجل وهات النهاية، قال: لماذا المشايخ لا يعطون فرصة للواحد كي يتكلم؟ لماذا يتكبر هؤلاء المشايخ على الخلق؟ وهكذا، ولا يفكر أن هذا الشيخ وراءه أناس كثيرون يريدون أن يسألوا وأنه ليس هو الذي على حسابه تهدر أوقات الشيخ.
حجب معلومات مهمة وإخفاؤها عن المفتي: ...(22/20)
ومن الأشياء المهمة في المقابل: حجب معلومات مهمة، وتلك خيانة في عرض السؤال، مثل أن يسأل عن طلقتين ولا يسأل عن الطلقة الثالثة، فيقول الشيخ: راجعها، إذا حصلت راجعها، وأمر طلقتين من قبل، هذه إذا حصلت الثالثة انتهت القضية، أو يحذف بعض الورثة يقول: يا شيخ مات أبي أو مات أخي، وترك كذا وكذا، ويحذف بعض أسماء الورثة، هذه تفرق كثيراً، ربما كان بعض المذكورين ما لهم شيء أصلاً، وقد تختلف أنصبة الميراث، الآن أنت حجبت عن الشيخ ذكر بعض الورثة، فبعض الورثة الذين ما ذكرتهم تختلف بهم المسألة تماماً، هذه إساءة أدب أن يطرح نصف القضية، بعضهم يطرح نصف القضية، وينتظر الجواب، وبعد ذلك يقول: لكن لا يا شيخ كذا وكذا، خذ مثالاً: واحد يقول: يا شيخ! أحرمنا من الميقات، وذهبنا إلى جدة أنا وزوجتي، وجلسنا يومين بإحرامنا في جدة ، ثم ذهبنا إلى مكة وأدينا العمرة، ما حكم العمرة؟ صحيح، كونه جلس يومين في جدة بإحرامه لا يؤثر، فقال الشيخ: العمرة صحيحة، قال: لكن يا شيخ أنا جامعت زوجتي في جدة ، انظر الآن المسألة كيف اختلفت، الآن يلزمه إمضاء العمرة الفاسدة ودم، وأن يأتي بعمرة جديدة من الميقات الذي جاء منه، إذاً أنت تعلم أن مركز السؤال هنا في قضية جماع الزوجة، فلماذا أخرته وأهدرت الوقت؟ ولذلك أيها الإخوة، الآن في مسألة المعلومات التي لا داعي لها، وحذف المعلومات المهمة، أقول: إن الحل في كثير من الأحوال في هذه الإشكالات: كتابة السؤال قبل طرحه على الشيخ، كتابة السؤال يعطي السؤال جدية، كتابة السؤال يمكنك من انتقاء التعابير المناسبة، كتابة السؤال يمكنك من مراجعة المعلومات المهمة، وفيه توفير وقت عليك وعلى الشيخ، اقرأ السؤال مرة واحدة قبل أن تقرأه على الشيخ، اقرأه مرة واحدة، بعض الناس يكتب أسئلة ويرفعها للشيخ، لكن ربما لو قرأها مرة أخرى لحذف شيئاً لا داعي له، كلمة غير واضحة مثلاً، اكتب السؤال واقرأ السؤال بعد أن تكتبه، كتابة(22/21)
السؤال توفر أوقاتاً كثيرة، ثم إن السؤال أمانة فكون بعض الناس يحرفون ويغيرون، هذا لايغني من الله شيئاً، كون الشيخ أفتاك على شيء أنت حذفت منه معلومات، تظن أنك الآن قد برئت ذمتك، وخرجت منها، أنت تكذب على نفسك، وتخادع الله، وتخادع نفسك: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]. ولذلك بعض المفتين الحاذقين الأذكياء، يقول للسائل: إذا كان الواقع كما ذكرت فالجواب كذا، إذا كانت المسألة كما صورتها، فالجواب كذا، إن كان ما تقوله حقاً فالجواب كذا، هذا جيد من المفتي أن يفعل ذلك، لينبه السائل، لأنك إذا حذفت معلومات أو غيرت، أو بدلت السؤال، فهذا لا يغنيك شيئاً، الجواب هذا ما ينطبق على المسألة الحقيقية.
الاستعداد النفسي والتهيئة قبل السؤال:(22/22)
ومن الآداب كذلك: الاستعداد النفسي وتهيئة المكان قبل السؤال، أو تهيئة النفس، مثلاً بعض الناس قد يتصل بالهاتف ليسأل الشيخ، ولا يجهز نفسه أو يذهب مثلاً إلى غرفة هادئة، أو يكتب السؤال أمامه، فيتصل فيقال له: مشغول، مشغول، يطلع في المرة العاشرة، يقول له الشيخ: نعم. السلام عليكم. وعليكم السلام. والله يا شيخ نسيت السؤال!! إذاً اكتب السؤال، ثم اطرحه. فوجئت بردك يا شيخ ونسيت كل الأسئلة، كان عندي مائة سؤال، لكن كلما أتصل يقال: مشغول، وفي الأخير لما وجدتك ضاعت كل الأسئلة. أو لحظة يا شيخ واحد يدق الباب، يا شيخ الخط الثاني يشتغل، لحظة يا شيخ الولد يلعب بالتلفون، لحظة يا شيخ الزوجة تتكلم، أنت هيئ مكاناً، ثم لو طرأ طارئ لعله يعذرك، لكن لا بد أن تهيء مكاناً وأن تجهز نفسك، تضع ورقة الأسئلة أمامك، بعض الأحيان واحد يتصل على الشيخ، ثم يقول: لحظة يا شيخ أبحث عن ورقة الأسئلة، ضاعت بين الأوراق، فإذاً لا بد من الإعداد والتجهيز، لأن الآن هذا لعالم، سؤال العالم يجب أن يحترم ويوقر، ويحفظ وقته، وتحفظ أنت ماء وجهك أيضاً، ولا تجلب لنفسك الكلام الذي لا داعي له. كذلك من الأمور القبيحة جداً، وأشرنا إليه ونعيد التأكيد عليها: سعي بعض السائلين من أصحاب النوايا السيئة إلى أن يصادم كلام المفتين بعضهم لبعض، فيقول بعد أن يجيب الشيخ: لكن الشيخ الفلاني قال بخلاف قولك، أو قال غير كذا مثلاً، فهذا قلنا ليس من الأدب، وما تقصد؟ هل تريد أن تحرجه؟ لماذا اتصلت أصلاً؟ ما هو الباعث لك على العمل؟ ومن الأمور التي ينبغي أن يحذر منها كذلك: صياغة السؤال بطريقة تقود الشيخ للإجابة التي يريدها السائل، وعدم التجرد في طرح السؤال، بعض الأحيان تقرأ أسئلة ما بقي إلا أن الشيخ يبصم عليها، أو يضع ختمه فقط، ولذلك لا بد أن يتجرد السائل أثناء الكتابة، ولا يكتب أو لا يتكلم بشيء كأنه يملي على الشيخ الجواب، يقول: يا شيخ ما حكم كذا وكذا وأنت تعلم(22/23)
يا شيخ أن هذا منهي عنه، فما هو الحكم؟ فماذا تقصد إذاً؟ ومن الأمور الحساسة الخطيرة أيضاً: ما يعمد إليه بعض الناس المتخاصمين في مسألة شرعية، فيتخاصمون في المسألة كل واحد يقول هذه حكمها كذا والآخر يقول: حكمها كذا، ثم يتحاكمون إلى شيخ، كل واحد يزين الواقعة حسب ما يوافق القول الذي قال به، يزين الواقعة والحادثة ويكيفها لا بحسب ما حدثت كما هي الأمانة، وإنما بحسب ما قاله هو لصحابه واختلفا عليه، وكثير من الناس يحصل بينهم في مجلس شيء، فيتحدى بضهم بعضاً، ثم يتصلون بالشيخ، فلا بد إذاً من التجرد، ولا يصح أن تجعل كلام الشيخ انتصاراً لنفسك، وإنما تجعل كلام الشيخ لتنتصر للحق، فكثير من الناس يريد من الشيخ أن يوافق قوله، ولو قال الشيخ بخلافه لقال: لكن يا شيخ انظر في المسألة، كأنه يريد أن يوافق الشيخ قوله، حتى لا يرجع إلى الناس بجواب يحرج به، فإذاً ما هو هدفنا؟ البحث عن الحق، وليس إفحام الناس؟ هدفنا أن نبحث عن الحق، لا أن نظهر بمظهر أننا انتصرنا في المعركة والكلام.
إشغال المشايخ بالتوافه والغرائب ... :(22/24)
ومن الأمور التي يحذر منها كذلك في قضية الأسئلة: إشغال المشايخ بالأمور التافهة، مثل أسئلة المسابقات، وهذه كثيرة، وبعد كل رمضان الأسئلة تكثر في المسابقات، أي شيء ينزل في مسابقة المدرسة، مسابقة كلية، مسابقة جامعة، مسابقة هيئة، مسابقة محل تجاري. يا شيخ! من هو أول شهيد في الإسلام؟! يا شيخ من هي أول سرية خرجت؟! يا شيخ! كم مرة ذكر العسل في القرآن؟! ثم افرض أن السؤال شرعي وإسلامي، سؤال المسابقة موضوع للناس لكي يبحثوا بأنفسهم، وليس لكي يتصل ليمليه الأسئلة صح خطأ، وهذا شيء يفعله ضعفاء النفوس، يفعله أناس لا يقيمون وزناً لأوقات أهل العلم، ولا للمشايخ، ولأنفسهم هم أيضاً، ولذلك قال لي بعض العلماء: أي سؤال أحس أنه سؤال مسابقات لا أجيب عليه، أقول: ابحث أنت، مطلوب منك أن تبحث أنت، ممكن أن نعذر طالباً صغيراً، فسأل سؤالاً، دعه يعتاد سؤال العلماء، أو سؤال المشايخ، أو سؤال طلبة العلم، بل نشجعه ولو كان سؤال مسابقة، لكن واحد كبير، إنسان في جامعة، واحد ناضج بلغ من السن مرحلة لا بأس بها، يأتي يسأل الشيخ سؤال مسابقة. ومن الأمور المهمة كذلك: عدم السؤال عن الغرائب، وعما لا ينتفع ولا يعمل به، وعن الفرضيات التي لم تحدث، هذا كلام ذكره أهل العلم في كتبهم، وما لم يكن؛ سؤال الفرضيات، قال المروزي رحمه الله: قال أبو عبد الله - الإمام أحمد - سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقلت له: أأحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟ وقال أحمد بن القطيعي : دخلت على أبي عبد الله ، يعني: الإمام أحمد فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ نورة خالطت الماء أتوضأ به؟ فقال: ما أحب ذلك، فقلت أتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: ما أحب ذلك، قال: ثم قمت فتعلق بثوبي، وقال: ماذا تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت، فقال: ماذا تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت، فقال: اذهب فتعلم هذه، قبل أن تسأل عن الوضوء بماء الباقلاء، تعلم دعاء دخول المسجد والخروج من المسجد، وهؤلاء(22/25)
التلاميذ تعلموا وأصبحوا جهابذة، بفضل هذه التربية. عن ابن عباس قال: (ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله وعليه وسلم، ما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، وماكان يسألون إلا عما ينفعهم) فكر قبل السؤال هل هذا السؤال يفيدك أم لا، ينفعك أم لا، سؤال عملي أم افتراضي لا يحصل إلا نادراً جداً؟
حكم السؤال عما لم يحدث وعن الأغلوطات:
ما حكم السؤال عن الأشياء التي لم تحدث؟ في الحقيقة التوفيق بين النصوص، والمسلك الوسط والله أعلم أن نقول: إن السؤال عن الشيء المتوقع حصوله لك، مثلاً أنت سافرت إلى مكان معين، وفي السفر تتوقع أن تحدث لك أشياء، مثلاً أنت صمت في هذه البلد، ستذهب إلى بلد صاموا بعدنا بيوم أو يومين، ماذا تفعل هناك؟ السؤال عن هذا الموضوع سؤال جيد، لأن هذا الشيء متوقع حصوله، لكن أن تسأل عن شيء نادر جداً ماذا يحدث لو أن واحد في المليون تسأل يمكن أن يحصل لي؟ فتدوخ الشخص وتضيع وقته، وتهدر الكلام والوقت في فرضيات لا تحصل إلا نادر جداً، فإذاً السؤال عما لم يحدث ينقسم إلى قسمين: الأول: إذا كان متوقعاً حصوله، فالسؤال جيد، وإذا كان غير متوقع حصوله، فالسؤال مذموم، ويدخل في حديث النبي صلى الله وعليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ويدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كره لكم القيل والقال وكثرة السؤال) وأنه كره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وهكذا. ومن الأمور كذلك: عدم السؤال عن الأغلوطات، وسوء القصد في الأسئلة، وكذلك السؤال عما لا ينبغي السؤال فيه، خذ مثالاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه ، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، قال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها- صاحبها- فأدها إليه، فقال: يا رسول الله: فضالة(22/26)
الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال: يا رسول الله: فضالة الأبل؟ قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، وفي رواية: أحمر وجهه، ثم قال: مالك ولها؟! معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها). مالك ولها؟ هناك أحد يسأل عن ضالة الإبل التي تستطيع أن تدافع عن نفسها، وتصبر على مر الوقت، وعلى العطش وعلى الجوع حتى يلقاها ربها، فإذاً هذا السؤال لا داعي له، لذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال مالك؟ قال رجل للشعبي: إني خبأت لك مسائل، فقال الشعبي رحمه الله: أخبئها لإبليس، حتى تلقاه فتسأله عنها. وعند البخاري عن يوسف بن ماهر أن رجلاً عراقياً قال لعائشة : أي الكفن خير؟ قالت: ويحك وما يضرك.
عدم إملال الشيخ بكثرة الأسئلة:(22/27)
ومن الآداب المهمة أيضاً: عدم إملال الشيخ بكثرة الأسئلة، عن رواد قال: سألت مالكاً عن أربعة أحاديث، فلما سألته عن الخامس، قال: يا هذا ماهذا بإنصاف؟ وكان إسماعيل بن أبي خالد من أحسن الناس خلقاً، فلم يزالوا به حتى ساء خلقه، أي يكون الشيخ مثلاً هادئ الطبع، حسن الخلق، واسع الصدر، فمن كثرة ما يشغله الناس ويضيقون عليه، ويزيدون ويشددون، ويكثرون في الأسئلة، يتغير خلقه فعلاً من الوقت، يتغير خلقه، كان أبو معاوية -ذكره أهل العلم في كتبهم، ونقوله لتوضيح القضية- كان أبو معاوية يحدثنا يوماً بحديث الأعمش عن زر رضي الله عنه، وكان ثم أهل الباتوجة، وأهل الباتوجة الظاهر أنهم ناس لا يعلقون جيداً، فجعلوا يردون: عن الأعمش عن مَن؟ يقول: عن زر، من هو؟ زر؟ قال: عن إبليس، فلما رآهم لا يفهمون، قال: إن إبليس من الضجر. وجاء رجل إلى يحيى بن سعيد يسأله أحاديث وطول عليه، فقال له يحيى في النهاية: ما أراك إلا خيراً مني ولكنك ثقيل، أنت حريص لكنك ثقيل دم، أنت ثقيل. وحضرت ذات مرة مجلس عالم كبير من العلماء، فسأله رجل فأضجر الشيخ، الشيخ يقول: تعال لي غداً، يقول: أنا مستعجل وأنا مسافر، قال: تعال غداً، فقال: أنا لا أستطيع، قال: تعال بعد شهر، تعال بعد شهرين، فزاد الرجل، فقال الشيخ: تعال بعد يوم القيامة، تعرف يوم القيامة تعال بعد يوم القيامة، فإذاً الناس إذا لم يراعوا العلماء والمشايخ، هذا من هنا وهذا من هنا، وهذا في الهاتف، وهذا الشخص، وهذا جاء، النفس لها حدود، ولها قدرة في التحمل، والواحد منا نحن السائلين يأتي ليسأل بكامل عافية، يأتي شبعان نوم وأكل وراحة، وجاء للشيخ مجهزاً نفسه، والشيخ عنده أسئلة وناس وأوراق، ويأتي ليبرز الآن ماعنده من أشياء، فينبغي أن تراعي أن هذا الشيخ كثر عليه الناس، أن هذا الشيخ حاله يحتاج إلى شفقة، ما وجدت المكان ولا الزمن المناسب، اذهب يا أخي، عد مرة أخرى، اكتف بسؤال واحد، أجل الباقي.(22/28)
بعض آفات السائلين ... :
وكذلك من آفات بعض السائلين: أنهم يحفظون أطرافاً من المسائل، ونتفاً من الأحاديث مثلاً تعلق في أذهانهم، ثم يأتون يسألون العلماء أو المشايخ، يقول: ما معنى حديث كذا؟ يأتي بالحديث غلط، ويأتي بجزء من الحديث، ما حفظ إلا كلمتين، أو مسألة سمعها في مجلس ما عقل منها إلا كلمتين، يأتي للشيخ ويقول: ما كذا، جاء ابن عجلان إلى زيد بن أسلم ، فسأله عن شيء فخلط عليه الكلام، فقال زيد : اذهب فتعلم كيف تسأل، ثم تعال فسل. وقال ابن عيينة : ضمني أبي إلى معمر ، وكان معمر رحمه الله يجيء إلى الزهري يسمع منه، فأمسك له دابته، كان في مقتبل العمر صغيراً، أبوه وضعه مع معمر ، حتى يتعلم من معمر، و معمر يذهب إلى شيخه، وهو الزهري فيسأله؟ إذا ذهب معمر إلى الزهري ، أمسك ابن عيينة بدابة معمر ، كان ابن عيينة صغيراً، قال: فجئت يوماً فدخل معمر على الزهري وأنا ماسك دابة معمر في الخارج، فقلت لإنسان: أمسك الدابة، فدخلت وإذا مشيخة قريش حوله -حول الزهري - فقلت له: يا أبا بكر كيف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس الطعام طعام الأغنياء) قال فصاحوا بي- الناس- فقال هو: تعال، ليس هكذا عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليه الأغنياء ويترك الفقراء، ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله) فإذاً الواحد لا يحفظ كلمتين من حديث، أو طرف مسألة، ويأتي إلى الشيخ يجادله بها. وبعض السائلين عندهم آفة استعراض العضلات عند العلماء، يبحث مسألة ويقرأ فيها ويطلع، ثم يتصل بشيخه، ما استغلق عليه شيء ليسأل عنه، ولا يوجد شيء غريب يسأل عنه، ولا يريد أن يسأل عن الراجح بين قولين، لا، وإنما ليذكر للشيخ تفاصيل البحث الذي عمله، ويقول: يا شيخ ما حكم كذا؟ الشيخ الآن ما يتذكر كل التفاصيل، كمن بحث الآن، الذي قرأ الآن في الكتب ليس مثله مثل الشيخ الذي هو بعيد عهد بالمسألة، فيقول: يا شيخ!(22/29)
ما حكم كذا؟ فيقول الجواب الفلاني، يقول: لكن الكلام الفلاني قال في كتاب الفلاني كذا، ولكن هذه دليلها كذا، ولكن فأنت لماذا تسأل؟ نعود دائماً نكرر على الناس نقول لماذا تسأل؟ استعراض عضلات (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، كبه الله في النار). وبعضهم يأتي بسؤال يلف به على المشايخ، لمجرد أن يقول في المجالس: سألت الشيخ فلان قال كذا، سألت الشيخ فلان فقال كذا، يفتخر بأنه جمع أقوال المشايخ، أين الإخلاص يا أيها السائل؟ أين الإخلاص يا طالب العلم؟ ولذلك المقصود من السؤال حقيقة هو الاسترشاد وطلب الفائدة، وليس استكشاف المسئول، وحب الاستطلاع، وإحراج المشايخ بالأسئلة، وفرد العضلات. وأعطيكم مثالاً للسؤال عن أشياء غير مناسبة، وفيها شيء من الإزراء، هذا يقول سؤال: سمعت أنك أخذت عمرة، فهل أنت حلقت أوقصرت نرجو منك أن تكشف غطاء رأسك لنا، لنراه؟ ما معنى هذا؟ ما هي فائدته؟ أنت تعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أنه دعى للمحلقين ثلاثاً ودعى للمقصرين واحدة، أنت تعلم الحكم الشرعي، فتأتي تسأل وتقول: اكشف لنا شعرك نراه أمام الناس، أو كذلك أن يُسأل الشيخ في قضية ما له علاقة بها أبداً. وهذه أسئلة وردت في محاضرة شرعية، السؤال: ما هو القولون العصبي؟ وما أسبابه؟ وما هو العلاج اللازم له؟ وهل يمكن الشفاء منه؟ سؤال آخر: امرأة أخذت بالغلط دم مصاب بفيروس الكبد الوبائي وهي امرأة متزوجة، هل هذا يؤثر على الأطفال الذين تنجبهم فيما بعد؟ سؤال آخر: لو أخذت المرأة إبرة من الحصبة الألمانية، وبعدها اكتشفت أنها حامل في الشهر الثالث ماذا الذي يتوقع من خطورته؟ سؤال: حدث لي التهاب اللوزتين فوصف لي الطبيب دواء معيناً، وقال عندي بؤرة صديدية، وبلغ ثم داومت يومين على الدواء وبعد ذلك انقطعت عنه، وأحسست بالشفاء مع العلم أن هذا مضاد حيوي، هل يؤثر هذا على القلب أم لا؟ فإذاً كونك تسأل شيخاً(22/30)
عن سؤال طبي، أو هندسي أو فلكي، ليس له فيه اطلاع، هذا أيضاً من إساءة الأدب.
ملاحظات حول الاستفتاء بالهاتف:
ونأتي الآن إلى الفقرة قبل الأخيرة. استخدام الهاتف في السؤال، لاشك أن الهاتف أيها الإخوة من نعم الله سبحانه وتعالى، والسؤال بالهاتف أمر قيضه الله سبحانه وتعالى لنا، لكي نستفيد منه، ومن أعظم ما يستخدم به الهاتف، إن لم يكن هو أعظم الأشياء على الإطلاق، لقد كان الناس يرحلون مسافات طويلة، ويسافرون ويتغربون، ويتركون الأوطان والأهل والأولاد من أجل مسألة أو حديث وجمع العلم، وأنت بإمكانك الآن استخدام الهاتف الذي يقرب لك المسافات، والذي يكون لك بمثابة الاستئذان على بيت الشيخ أو العالم لتسأله، وينبغي أن نراعي في قضية استخدام الهاتف أو السؤال أموراً منها: أولاً: عدم الاتصال في الأوقات المزعجة، بعض العلماء أو المشايخ قد يفصل الهاتف، وتنتهي القضية، وإذا جاء وقت الأسئلة وضعه، لكن بعضهم قد لا يفعل ذلك، ليس عنده إلا هاتف واحد، يبقيه للأشياء الطارئة والمستعجلة، فيأتي واحد الساعة واحدة ليلاً أو الثانية ليلاً يتصل ويقول: عندي شيء أقلقني وما عرفت كيف أنام ولا بد أن أسأل، طيب هل من البر بأهل العلم أن تفعل ذلك؟ ثانياً: نوم المشايخ، لماذا لا يردون على الهاتف؟ ولا يفكر السائل في ظروف الشيخ، وأحواله، وأهله، وقراءته، وراحته، وأكله وشربه، وملاعبة أولاده، ولا يفكر فيمن يسأل من الناس بعده، وإنما يقول: كل واحد يفترض نفسه صاحب الحق، وأن الشيخ مخطئ إذا لم يرد عليه. ومن الأمور كذلك التي ننتبه لها في السؤال بالهاتف: الاستغراق بالسؤال عن الأحوال، والحلال والعيال ونحو ذلك، أما السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا بد من السلام، والاستفتاح بشيء حسن قصير من دعاء مثلاً أن تقول بارك الله في علمك، نفع الله بك يا شيخ، ما حكم كذا؟ أحسن الله عملك يا شيخ، ما حكم كذا؟ لا مؤاخذة يا شيخ على هذا الاتصال، ماحكم كذا؟ هذا(22/31)
شيء بسيط لا يأخذ وقتاً، لكن لو أن كل سائل يريد أن يسأل الشيخ عن حاله، وصحته وأولاده وبيته وحلاله، لو أن كل واحد يأخذ ولو نصف دقيقة، فلو كان يتصل على الشيخ مائة رجل في اليوم، فكم يكون ضاع من وقته، وكم من سؤال أهدر لأناس يتصلون من مسافات بعيدة على العلماء ليفتوهم. وأقول لكم: بعض الأشياء التي استفدتها بنفسي سؤال أهل العلم، وعلى رأسهم سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نفع الله بعلمه وزاده أجراً، وأحسن عمله، ورفعه في الدارين آمين، وجدت أن من الأشياء المفيدة: اختيار الوقت المناسب، وهو أول وقت الاتصال بالشيخ، فإذا كان الشيخ مثلاً يجلس بعد المغرب مثلاً بنصف ساعة إلى العشاء، فالحرص على الاتصال في أول الوقت، عندما يكون ذهن الشيخ صافياً ولا يكون قد اتصل به أناس كثيرون، لا بد تراعي أن الناس اتصلو قبلك، فعندما تكون من أوائل المتصلين، يكون الشيخ قد جاء من راحة، فيكون أفرغ لك وأحسن، وهذه مسألة تحتاج إلى دقة وضبط في وقت الاتصال. ومسألة التلطف والاختصار كما قلت لكم في مسألة إلقاء السلام، ودعاء قصير جداً، ثم يتبعه بسؤال واضح، وأنا أحرص أن أكتب عندي الأسئلة في دفتر، كل الأسئلة التي أسأل عنها في المسجد وليس عندي علم بها أكتبها في دفتر أولاً بأول، فإذا جاء وقت الاتصال وضعت الدفتر أمامي ثم بدأت في الأسئلة، وأعرف أن الشيخ مثلاً يعاملني بثلاثة أسئلة كل مرة، فلا أزيد على ذلك، فلا أزيد على هذه الثلاثة، وكذلك لا بد من مراعاة نفسية الشيخ، فأنت تسمع وتنتظر أحياناً يرد عليك، تسمع نقاشاً حاداً في قضية شخص ملح، أناس ما عندهم أدب مثلاً، فلو أنك استعملت كلمة واحدة في التخفيف عن الشيخ قبل سؤاله فيكون أمراً حسناً. ثم أيها الإخوة: الصبر على الشيء، أحياناً الواحد يتصل ربما ثلث ساعة ربما نصف ساعة لكي تلتقط الخط، ثم لا تلقط الخط إلا أذان العشاء عند الشيخ، فقد يقول لك الشيخ مثلاً: وقت الأسئلة انتهى اتصل(22/32)
غداً، طبعاً الإنسان قد يتبرم ويضيق، أنا الآن متصل أنا جالس على الهاتف ثلث ساعة أتصل، وربما تجلس على الخط عشر دقائق وتتكلم من منطقة خارجية، ثم إلى أن يفرغ من مناقشاته، ثم يقول لك: أذن العشاء اتصل غداً، فينبغي الصبر والفسحة في الصدر، وبعض السلف قالوا له: فلان -هذا العالم- صعب، كيف استطعت أن تدخل عليه؟ قال: إني تملقته حتى دخلت عليه، وصار يرحب بي، ويسمع كلامي، وتعلمت كذلك ألا أقول للشيخ يوجد سؤال طويل اسمح لي آخذ من وقتك عشر دقائق، هذه مقدمات قاتلة بالنسبة للشيخ، فاختصر السؤال واعرضه. ثم أيها الإخوة هناك مشايخ مشغولون، تسألهم سؤالاً محدداً، الجواب نعم أو لا، وهناك مشايخ أفرغ، تسألهم عن الدليل، وهناك مشايخ أفرغ تسألهم عن إشكالات الدليل، مثلاً قد يكون الشخص المتفرغ ليس عالماً كبيراً جداً، لكنه طالب علم متمكن، فيفيدك في الأدلة، وخلاف العلماء، وفي الراجح، وأن تراعي أيضاً ولا تكون أنانياً، تراعي أن هناك أناساً ينتظرون دورهم في السؤال، لا تنزل السماعة إلا وهناك أناس كثيرون يتصلون، وقد تكون عندهم قضايا أهم من القضايا التي تعرضها أنت، والقضية أن إحساس بعض الناس بمشكلته أكبر من إحساسه بوقت غيره.
ملاحظات حول أسئلة النساء بالهاتف: ...(22/33)
أنتقل إلى النقطة الأخيرة وهي: أسئلة النساء، المرأة تجد متنفساً لها بالهاتف، ولا تستطيع أن تسافر لتسأل أو تذهب بنفسها إلى المسجد لتسأل الشيخ، فيكون هذا الهاتف رحمة لها أن تستعمله، ولكن نلفت أنظار النساء في اسخدام الهاتف إلى ما يلي: أولاً: السؤال بقدر الحاجة، وربما لو سأل عنها رجل لكان أفضل في بعض الأحيان، وأحياناً تحتاج أن تشرح مشكلتها بنفسها، فلا بأس أن تشرح. ثانياً: لا داعي للمقدمات، هي تسأل الآن رجلاً أجنبياً كيف حالك! وعساك بخير! كيف الأولاد؟ وكيف الصحة؟ هذا ليس مجال أن تسأل امرأة رجلاً أجنبياً. ثالثاً: عدم الإطالة والإعادة التي لا داعي لها، كما يكثر في أسئلة النساء. رابعاً: عدم الخضوع في القول، وعدم التكسر، وعدم الميوعة في الكلام، وقد تكون بعض النساء تعودت على هذا، ما يصلح أن تخاطب شيخاً وما زال رجلاً أجنبياً، وقال الله عز وجل: وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً [الأحزاب:32] ولا يصلح أبداً أن تأتي امرأة وتقول لشيخ أو لطالب علم حتى من الشباب: إني أحبك في الله، هذه من مفاتيح الشيطان ومن أبواب إبليس. وكذلك أخيراً: عدم التبسط وإزالة الكلفة مع الشيخ، يعني: تتكلم وكأنها تكلم زوجها، أو تكلم أخاها، أو تلكم أباها مثلاً، فتتبسط وترفع الكلفة، ويقل الأدب، فهذه بعض النصائح.
بعض الأسئلة الطريفة:(22/34)
وختاماً أقول لكم: بعض الأسئلة الطريفة التي تدل على أشياء مما حصل ووصل، بعض الناس يتصل وهو خائف أن يسمع جواباً معيناً، هذا رجل اتصل، قال: أسألك سؤالاً: أنا -يسأل وهو خائف من الجواب- أتيت زوجتي في نهار رمضان وما أنزلت لكني وطئت، ولكن ما الحكم؟ الجواب: مادام أنك أولجت فعليك صيام شهرين، قال: يا نهار أبيض! وأغلق السماعة، بعض الناس كأنه خائف من الجواب، وربما ظن أنه إذا أغلق السماعة كأنه ما سمع، كأنها ألغيت أو محيت، وامرأة تقول: مثلاً عندي أساور المسألة فيها زكاة؟ الجواب: نعم فيها زكاة، حسب حديث أبي داود في المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قالت: ما عندي نقود. تبيعين واحدة منها، وتخرجين الزكاة. قالت: آسفة كله زينة. وأحياناً يأتيك سؤال لا تعرف كيف وصل عقله إلى هذا الحد، يقول رجل: أنا اعتمرت لنفسي فحلقت شعري، ثم خرجت للتنعيم، ثم أحرمت واعتمرت لأبي، فما وجدت شيئاً أحلقه، فنتفت من لحيتي، فهل هذه فكرة وجيهة؟ اسأل عندك في الحرم قد تجد ناساً من أهل العلم. ويقول آخر: وضعت الساعة لأتسحر ووضعتها خطأ، أخرتها ساعة، وقمت على الساعة مسرعاً في البيت وجهزت طعاماً من الثلاجة، وضعته على الطاولة ووضعت الساعة أمامي وجلست آكل آكل، ولم يؤذن، ثم قلت: لماذا المؤذنون كلهم نائمون اليوم؟ يقول: قمت وفي فمي لقمة، فتحت الستارة وإذا بالنور ظهر لي، نور النهار، فتورطت باللقمة التي في فمي، ماذا أفعل؟ فأخذت كوباً من الماء وبلعتها. لو سامحناه في موضوع اللقمة هذه التي في فيه، إذاً كوب الماء الذي أخذه. أو بعضهم يسأل بأسلوب يقول: توضأت بدون أن أغسل أحد الأعضاء وصليت، ثم وسوس لي الشيطان أن صلاتي غير صحيحة، كيف هذا؟ عدم غسل أحد الأعضاء يعني أن الوضوء باطل، كيف وسوس لك الشيطان أن صلاتك غير صحيحة، لا هذا ليس من الشيطان، هذا من الملك الذي دفعك للتفكير بهذا. ومن أشد ما يؤلم أحياناً أن إنساناً يسألك عن مسألة،(22/35)
وهناك من هو أعلم منك يستطيع أن يسأله، بل خذوا هذه القصة، الآن مثلاً أنا أحاول أن أجيب على الأسئلة، وأحسن أحوالي أن أنقل فتاوى العلماء، لا أملك قدرة على الفتوى، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه، أحسن أحوالي أن أنقل فتوى عالم أعرفه في المسألة إلى شخص، يأتيك أحد يسأل: السلام عليكم، أنا أكلمك من الرياض ، ما حكم كذا وكذا؟ تقول: الحكم كذا، لكن يا أخي لماذا لا تسأل الشيخ عبد العزيز ، يقول: أنا سألته لكن أحببت أن أتأكد. سبحان الله! فعلاً الناس لا يعرفون قدر العلماء، تتأكد من الأدنى على الأعلى! وممن لا يقارن! تتأكد عن فتوى العالم، هذا شيء مذهل أن الناس لا يعرفون قدر علمائهم. وختاماً أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل، وحسن التعلم وحسن السؤال، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.(22/36)
محاضرة " سيرة عطرة عبد الله بن عمر "
14 / 10 / 1426هـ
للشيخ / محمد صالح المنجد
الحمد لله رب العالمين الحمد لله ولي المتقين الحمد لله الرحمن الرحيم أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين صلى الله عليه وعلى ذريته الطيبين وعلى خلفائه الغر الميامين اللهم صل وسلم وبارك على النبي الأمي وعلى آله وصحبه الذين كانوا نجوما يقتدى بهم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وأبتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه وقال من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات أي يقتدي ويتأسى بمن ذهب من الأخيار الأبرار قال فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة الأحياء يتغيرون الأحياء ينتكسون الأحياء ينحرفون لكن من مات على السنة يقتدى به وكذلك من عاش عليها ملتزما بها يقتدى به قال فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا والله أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم أختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم وأتبعوهم في أثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم هؤلاء أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما هؤلاء الذين رباهم محمد صلى الله عليه وسلم على عينه وأختارهم الله لحمل هذا الدين وكل جيل في الإسلام بعدهم عالة عليهم ولهم من الأجر مثل أجور الأمة فمن الذي فتح البلاد ومن الذي نشر هذا الدين في العباد وللنبي عليه الصلاة والسلام مثل أجور أصحابه ومن بعدهم ولذلك لو وزن بالأمة رجح بهم عليه الصلاة والسلام أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله فوقنا في كل علم وفقه ودين(23/1)
هؤلاء رأيهم خير لنا من رأينا لأنفسنا أصبر نفسك مع السنة يا أخي وقف حيث وقف هؤلاء الصحابة وأسلك سبيلهم لأنهم ما قالوا إلا عن علم ولا كفوا إلا عن علم محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم من وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فأزره فأستغلظه فأستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار قال ربنا تعالى من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا هم سادات المؤمنين أوفوا بعهودهم مع الله وصبروا على البأساء والضراء وحين البأس فمنهم من مضى إلى ربه ومات في سبيل الله مقتولا شهيدا أو مات على الصدق والوفاء ومن بقي منهم لم يقتل فهو ينتظر إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة ما غيروا ولا بدلوا أسلموا وتابوا وأنابوا وفي هذا درس لنا في الثبات على الدين وأن نتمنى إحدى هاتين الحسنيين من هؤلاء النسج الأول الذي لم يبدل ولم يتبدل الذي كان همه لله وحاجته إليه سبحانه وتعالى عبد الله بن عمر بن الخطاب شاب نشأ في طاعة الله رجل صالح من ذوي الصحبة المبكرة درج في الحياة في سبيل الله غلاما وشابا وكهلا وشيخا فرأى عزيمة محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر وقوة أبيه عمر وحياء عثمان ورحمته وعلم علي وجهاده وحلم معاوية عاش رضي الله تعالى عنه في كنف الكبار إنه رجل لم يقصر به نسبه ولا عمله أبوه معلوم وأمه زينب رائطة بنت مضعون أجتمع له المجد والشرف من أطرافه عدوي من قريش أمه من المهاجرات كان رجلا صالحا كانت ولادته سنة ثلاث من البعثة لأنه ثبت أنه كان يوم بدر أبن ثلاث عشرة سنة وكانت بدر بعد البعثة بخمسة عشرة سنة وكان عمره يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين عاما أعتنق مع أبيه الإسلام ولم يثبت أنه أسلم قبل أبيه وهاجر مع أبيه ولم يثبت أنه هاجر قبل أبيه(23/2)
وشارك أهله ما أصابهم من أذى المشركين بمكة وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف وفرض لأبن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة فقيل له هو من المهاجرين فلم نقصته إنما هاجر به أبواه يعني أنه ليس كمن هاجر بنفسه والحديث في البخاري وكان إذا قيل له إنه هاجر قبل أبيه يغضب ويقول قدمت أنا وعمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه قائلا فرجعنا إلى المنزل فأرسلني عمر وقال أذهب وأنظر هل أستيقظ فأتيته فدخلت عليه فبايعته ثم انطلقت إلى عمر فأخبرته أنه قد أستيقظ فانطلقنا إليه نهرول هرولة حتى دخل عليه فبايعه ثم بايعته رواه البخاري فإذن البيعة حصلت قبل أبيه مباشرة بادر لتحصيل الخير ثم أخبر أباه أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أستيقظ وأما الإسلام والهجرة فكانت مع أبيه لقد نشأ بمكة وعاش فيها طفولته وأنتقل إلى دار الهجرة وهو على الإسلام فعشر سنوات أمضاها أبن عمر في صحبة النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة كان من أولئك الشباب الذين في أول أمرهم سكنوا المسجد وهو في ربيع شبابه وفتوته ونظارته لازم المسجد حتى قيل كان أبن عمر من أحلاس المسجد يأوي إليه ويسكنه أول ما هاجر ما كان له بيت ولا مسكن وأخته زوجة النبي عليه الصلاة والسلام فسكن ابن عمر المسجد حتى بنى لنفسه حجرة ما أعانه عليها أحد من خلق الله وكانت هذه الزيجة الموفقة لأخته مقربة له من النبي عليه الصلاة والسلام فيأتي بيت أخته يدخل عليها فيتعلم من حال النبي صلى الله عليه وسلم هل كان عبد الله بن عمر بالمبشرين بالجنة الجواب نعم ما هو الدليل جاء في مسند أحمد وهو حديث صحيح عن عبد الله قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر فأستأذن فقال إذن له وبشره بالجنة ثم جاء عمر فأستأذن فقال إذن له وبشره بالجنة ثم جاء عثمان فأستأذن فقال إذن له وبشره بالجنة قلت فأين أنا قال أنت مع أبيك وهذا يدل على أنه مبشر بالجنة رضي الله عنه مرة كان(23/3)
على جمل صعب لعمر فجعل الجمل يتقدم على النبي عليه الصلاة والسلام وأبوه يربيه يا عبد الله لا يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم أحد رباه عمر على الورع كذلك ولما أشترى إبلا وأرسلها إلى حمى المسلمين لما سمنت قدم بها دخل عمر السوق فرأى إبلا سمانا فقال يا عبد الله بخ بخ أبن أمير المؤمنين قال فجئته أسعى قلت ما لك يا أمير المؤمنين قال ما هذه الإبل قلت إبل أمضاء اشتريتها وبعثت بها إلى حمى أبتغي ما يبتغي المسلمون أليست حق عاما لكل المسلمين قال أرعوا إبل أبن أمير المؤمنين أسقوا إبل أبن أمير المؤمنين يا عبد الله بن عمر أغدوا على رأس مالك وأجعل باقيه في بيت مال المسلمين فيقول له لن تخلوا من محاباة ألست أبن أمير المؤمنين بالتأكيد حاباك الناس والحل قال كل ما ولدت إبلك في هذه المدة ... وهي ترعى في حمى المسلمين ترد إلى بيت المال وتأخذ عدد إبلك قبل أن تدخل في الحمى هذا الرجل رضي الله تعالى عنه لما قتل وأستشهد عمه زيد بن الخطاب في معركة اليمامة رجع هو من المعركة سالما مع أنه قاتل وجاهد جعل عمر يؤنبه لماذا لم تستشهد كما أستشهد عمك زيد قال عمر لعبد الله لما رجع ألا هلكت قبل زيد أنظروا ماذا يقول الأب لأبنه ألا هلكت قبل زيد هلك زيد وأنت حي قال حرصت على ذلك أن يكون ولكن نفسي تأخرت فأكرمه الله بالشهادة وفي رواية قال ما جاء بك وقد هلك زيد ألا واريت وجهك عني قال سأل الله الشهادة فأعطيها وجهدت بأن تساق إلي فلم أعطها كان حريصا لكن ما كتب الله له الشهادة كانت التربية في الصغر وفي الكبر لم تتوقف تربية الأب لأبنه على سن معينة .(23/4)
أيها الأخوة الرجل هذا في الحقيقة أبوه غطى على سيرته لأن عظمة عمر يمكن أن تنسي ولده لكن في الحقيقة ولده عظيم وهذا من أسباب سوق هذا الموضوع هذا شاب نشأ في طاعة الله مثال للشباب كيف ينبغي أن ينشأ هذا لما جاء إلى المدينة كان عمره بين ثنتي عشرة وثلاثة عشرة عاما فكيف عاش كيف نشأ كيف تربى لم يكن يقوم الليل لكن لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول عنه لحفصة تبلغ أخاها نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل ما ترك قيام الليل بعدها عرف بالعبادة والورع والخوف من الله والزهد نحن نريد شخصيات إسلامية متكاملة فإذا أردت التكامل تراه في شخصية عبد الله كما ترى في شخصية أبيه عرف بصدقه وبره وعلمه وفقه فإن أردته في الجهاد لقد كان حريصا على الجهاد ورد في أحد أستصغره النبي عليه الصلاة والسلام وقبل في الخندق وشهد المشاهد بعد ذلك والعلم نقل عبد الله من الحديث أكثر مما نقل أبوه من الحديث كان عبد الله رجلا آدم أسمر شديد السمرة كان جسيما ضخما يقول إنما جاءتنا الأدمة من قبل أخوالي والخال أنزع شيء كان أبي أبيض لا يتزوج النساء شهوة إلا لطلب الولد كان عبد الله رضي الله عنه ربعة من الرجال له جمة تضرب إلى منكبه جسيما يخضب بالصفرة ويحفي شاربه شديدا حتى يظن من رآه أنه ينتفه كان إلى الطول أقرب كان أشبه ولد عمر بعمر ولده عبد الله ما ناقة أظلت فصيلتها في فلاة من الأرض بطلب لأفرها من ابن عمر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حسن المظهر وكان يعتني بشعره ويدهن وكان له زوجات وسراري ومن أولاده أبو بكر وواقد وعبد الله وأبو عبيدة وعمر وعبد الرحمن وبه يكنى وسالم وسالم أعظم أولاده على الإطلاق وعبيد الله وحمزة وزيد وأبو سلمة وقلابة وبلال وكان له من الإناث حفصة وسودة وعائشة من هو أفقههم سالم أحد الفقهاء السبعة المشهورين إنه من سادات التابعين وعلمائهم وثقاتهم أصح الأسانيد الزهري عن سالم عن أبيه عبد الله أو نافع عن عبد الله(23/5)
أيضا يلوموني كان أبوه يحبه جدا كان عبد الله يحب سالما لأنه أحرص أبناءه على العلم وعن العمل بالعلم .
يلوموني في سالم وألومهم ... ... وجلدة بين العين والأنف سالم
عبد الله أشبه أولاد عمر بعمر وسالم أشبه أولاد عبد الله بعبد الله كان ابن عمر رضي الله عنه حازما لينا كان يقتدي بسيرة أبيه أحب أن يكون الرجل بين أهله كالصبي فإذا احتيج إليه كان رجلا فإذن هو متواضع لين بين أهله كالصبي فإذا احتيج إليه كان رجلا كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يربي أولاده ويقاوم اللحن الخطأ في اللغة ما كان يرضى أولاده يخطئون في اللغة لدرجة أنه كان يؤدبهم أحيانا بالضرب على الخطأ وكان يسمح لأولاده باللعب المباح فإذا رأى أحدهم خرج عن ذلك نهاه وعاقبه وجد مرة مع بعض أهله الأربع عشرة وهو نوع من الألعاب يشبه النرد والورق فضرب بها رأسه وكان عبد الله رضي الله عنه وصولا للرحم وصولا لأبيه بعد موته وقصة مشهورة لما خرج إلى مكة وهو على حمار يتروح عليه إذا تعب من ركوب البعير ركب الحمار يرتاح وكان له عمامة يشد بها رأسه فبينما هو في الطريق مر به أعرابي من الذي عرف الآخر عبد الله عرف الأعرابي قال ألست فلانا بن فلان قال بلى فأعطاه الحمار ثم قال أركب هذا وأعطاه العمامة وقال أشدد بها رأسك فقال بعض أصحابه غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حمارا كنت تروح عليه وعمامة كنت تشد بها رأسك يعني أنت تحتاجها قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي يعني بعد أن يموت الأب وإن أباه إن أبا هذا الأعرابي كان صديقا لعمر رواه مسلم فهذا إثارة وشدة بره بأبيه ليس الأعرابي صديقا لعمر أبو الأعرابي صديق لعمر ولأن أبا الأعرابي كان صديقا لعمر إذا يكافئ هذا الأعرابي أبنه كان ابن عمر رضي الله عنه حسن الخلق مشاركا للناس في أفراحهم وأحزانهم يسأل عنهم كان يبادر بالسلام وقصته مشهورة إذا ذهب إلى السوق لا(23/6)
يبيع ولا يشتري ولا يماكس ولا يزاول أبدا إلا للسلام لكي يسلم يبتغي أجر السلام إذا صحب أحدا في سفر يشترط عليه أن الأذان له وأن الذبيحة هو الذي يذبحها لهم وأنه هو الذي يخدمهم مجاهد صحب ابن عمر ليخدمه قال فكان يخدمني يشترط إذا جاءه أحد يقول أصحبك يقول الخدمة علي وهذا من تواضعه رضي الله عنه يطأ الناقة ليركب صاحبها وكان يحسن إلى مواليه ابن عمر كان كثير الموالي عنده عبيد كثر فكان ينظر من أتقاهم من أعبدهم يعتقهم فكانوا يحتالون عليه فيطيل بعضهم في المسجد ويبكر إلى المسجد فيري ابن عمر أنه من أصحاب العبادة فيعتقه فيقولون يا أبا عبد الرحمن والله ما بهم إلا أن يخدعوك قال من خدعنا بالله عزوجل انخدعنا له أشهر مواليه على الإطلاق وأعلمهم وهو تلميذه الذي نقل أكثر علمه وكان وفيا له وكان توفيقا من الله لأبن عمر أن يرزق بهذا التلميذ مولى من موالي ابن عمر إنه نافع ، نافع ، نافع من جودة نافع دفع لأبن عمر في نافع عشرة آلاف دينار ليبيعه فرجع إلى صفية إلى امرأته صفية وقال دفعوا لي كذا قالت فماذا تنتظر قال هلا ما هو خير من ذلك هو حر لوجه الله ابن عمر أصاب نافعا في بعض مغازيه وهذه قصة عظيمة جدا كيف ينقل مولى أخذ سبيا في معركة في الجهاد يعني ما كان من المسلمين ثم ينقل ليكون من أعظم رواة الحديث على الإطلاق وأشهر راوي عن ابن عمر نافع ، نافع كيف أستطاع ابن عمر رضي الله عنه أن ينقل شخصا من سبي أخذ في معركة إلى أن يكون من أكبر علماء ذلك الزمان هذه التربية العظيمة التي كانت بالقول والفعل نافع لم يقصره ابن عمر على نفسه وإنما أخذ نافع بن أبي هريرة وأبي لبابه وأبي سعيد ورافع وعائشة وأم سلمة وحمل عنه العلم كثير كعبد الله بن دينار وصالح بن كيسان ويونس بن عبيد وأبو إسحاق السبيعي والزهري وموسى بن عقبة وبن عجلان والحكم بن عتيبة ومالك والأوزاعي أئمة حملوا عن نافع ونافع عن ابن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر من أصح(23/7)
الأسانيد يقول عبد الله بن عمر العمري لقد منا الله تعالى علينا بنافع نعم لأنه نقل لهم علم عائلتهم وأسرتهم من عبد الله بن عمر كان نافع حافظا ثابتا ثبتا له شأن أكبر من عكرمة عند أهل المدينة من أئمة التابعين من الذي أوصله إلى هذه المرحلة هذه أيها الأخوة العظمة أن نصل بالأشخاص إلى درجة الفقه والعلم والقدوة يعني الإمامة وجعلنا للمتقين إماما من أعظم الأشياء أن يصبح الإنسان إماما يقتدى به أتى علينا زمان يقول ابن عمر ما يرى أحدنا أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم نتذكر عبد الله الأيام الخوالي يتذكر سابق العهد كيف كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ما كان الواحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه مع أنه ملكه ويرى أن إخوانه المسلمين لهم حق في ماله لا يقل عن حق في مالي فلا يرى أنه أحق بماله منه ولذلك لو طلب أعطى فيقول عبد الله أتى علينا زمان يتذكر ذلك الزمان وقال ونحن اليوم ما قال أنتم اليوم قال ونحن اليوم الدينار والدرهم أحب إلينا من أخينا المسلم وذلك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ظن الناس بالدينار والدرهم ويتبايع بالعين بيع العينة الحيلة على الربا وأتبع أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أتبعوا أذناب البقر يعني اشتغلوا بالزرع عن الجهاد وليس فقط زرعوا اشتغلوا بالزرع عن الجهاد أنزل الله بهم بلاءا فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم تذكر ما حدث للكبار ونقله إلى الجيل التالي مهم لأن الجيل هذا الجديد ما رأى الأئمة من قبل فالذي حضر يقول لمن لم يحضر والذي شهد يقول للذي لم يشهد والذي عاش يقول للذي ما كان حي في ذلك الوقت يقول لهم كنا في ذلك العهد كذا وكذا وكذا من أمور الخير اتصال الأجيال بالخير مهم جدا في التربية أن ينقل للجيل التالي ما كان الجيل السابق عليه كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعل كذا وكذا هذه كلمة كانت باستمرار تقال الصحابة ينقلون للتابعين الأجواء التي(23/8)
كانوا يعيشون فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن من خلال هذه الروايات نعرف كيف كان حياة الناس المجتمع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه حسن التعليم يتمسك بالسنة جدا لا يجيز تجاوزها عطس رجل جنب أبن عمر فقال الرجل الحمد لله والسلام على رسول الله تكملة الخطبة حول العطسة إلى خطبة الحمد لله والسلام على رسول الله قال أبن عمر وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن نقول الحمد لله على كل حال رواه الترميذي وحسنه الألباني إذن من راويات العطاس الحمد لله على كل حال إذا عطس وأبن عمر ما قال للرجل الكلام هذا غلط الكلام الحمد لله والسلام على رسول الله ليس غلطا لكن في هذا الموضع ليس هو السنة ليس هو السنة أن تقول هكذا الرجل زاد وقد يقول واحد زيادة الخير خيرين لكن السنة لا تقبل هذا الزيادة في الدين كالنقص فيه أبن عمر رضي الله عنه كان حريصا على الصدقة والبر والإحسان ولا يتصدق بأي شيء وإنما لن تنال البر حتى تنفقوا مما تحبون إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به ولذلك كان عبيده يشمرون إلى المسجد لعل ابن عمر يعجب بأحدهم فيعتقه لوجه الله يقول نافع رأيتنا ذات عيشة وراح ابن عمر على نجيب له هذا البعير أو الدابة النجيبة النفيسة قد أخذه بمال عظيم فلما أعجبه سيره أناخه مكانه ثم نزل عنه فقال يا نافع أنزعوا زمامه ورحله وجللوه وأشعروه وأدخله في البدن المهداة في البيت العتيق الإشعار العلامة على الدابة كتعليق النعال في رقبتها أو جرح سنامها فيسيل شيء من الدم على صفحة جلد البعير فيكون علامة على إهدائه إلى البيت العتيق لما أعجبه تصدق به مباشرة وجعله في البدن إلى البيت العتيق أبن عمر رضي الله عنه كان له عدد من السراري كان أحب أمة عنده رميثة فنظر إليها فقال إني سمعت الله عزوجل يقول في كتابه لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وإني(23/9)
والله إن كنت لأحبك في الدنيا أذهبي فأنت حرة لوجه الله أبن عمر مرة كاتب غلاما له أتفق معه على مال معين يدبره الغلام ويعطيه لأبن عمر ويقسطه عليه تقسيطا فإذا أكتمل المبلغ أنعتق فجاءه أحد عبيده بالمال المطلوب قال من أين أصبت هذا قال كنت أعمل وأسأل أعمل وأخذ الأجرة لكن ما كفت فسألت الناس مساعدات فأعطوني قال جئتني بأوساخ الناس تريد أن تطعمنها أنت حر لوجه الله ولك ما جئت به كاتب على غلمانه مرة على أربعين ألفا فأد الرجل الخمسة عشر ثم جاء إنسان إلى هذا العبد المكاتب قال أمجنون أنت ، أنت هاهنا تعذب نفسك وأبن عمر يشتري الرقيق يمينا وشمالا ثم يعتقهم أرجع إليه فقل عجزت فجاء إليه بصحيفة فقال يا أبا عبد الرحمن قد عجزت وهذه صحيفة فأمحها أنا كتبت على نفسي أربعين أمحوها وأرحني فقال لا ولكن أمحوها أنت إن شئت فمحاها ففاضت عينا عبد الله فقال أذهب فأنت حر قال أصلحك الله أحسن إلى أبني أبنا الرجل هذا عند بن عمر قال هما حران قال أحسن إلى أميي ولدي قال هما حرتان جاءه مرة اثنان وعشرون ألف دينار في مجلس ما قام حتى فرقها جميعا باع أرضا له بمائتين ناقة حمل على مائة منها في سبيل الله عزوجل في الجهاد خصصها وهكذا أشتكى مرة ومرض فجاءه عنقود عنب أشتروا له بدرهم فجاء مسكين يطرق بابه قال أعطوه إياه فذهب واحد من أهل أبن عمر إلى المسكين واشتراه بدرهم ورجع لأنهم يريدون أن يأكل عبد الله عنبا وهو مريض لعله يكون له فيه علاج دواء فاشتراه بدرهم وعاد به إلى عبد الله فجاء المسكين وقال مسكين بالباب قال أعطه إياه فخالف إليه إنسان فاشتراه بدرهم ثم جاءه المسكين قال بالباب مسكين قال أعطوه إياه لم يذق أبن عمر هذا حتى توعد أحد أهله ذلك المسكين أن يعود ولو علم أبن عمر ما ذاقه مرض مرة فأشتهى سمكا صنع له وطبخ فلما وضع بين يديه جاء سائل فقال أعطوه إياه قالت امرأته نعطيه درهما أنفع له من هذا وأنت تأكل قال شهوتي ما أريد لأن الآن(23/10)
نفسي تشتهيه لا أريده ما كان عبد الله يقبل ثناءات الناس ويمشيها فأبنه مرة جاء أحد السائلين فأعطاه الأب عبد الله أعطى ولده دينار للسائل فلما أنصرف السائل قال ابن عبد الله تقبل الله منك يا أبتاه قال لو علمت أن الله يقبل مني سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إلي من الموت لتمنيت أن أموت الآن أتدري ممن يتقبل إنما يتقبل الله من المتقين هذا الرجل رضي الله تعالى عنه يتصدق بإفطاره وليس عنده غيره هذا الرجل رضي الله عنه لا يأكل إلا مع المساكين هذا الرجل رضي الله عنه كان لا يأكل إلا وعلى إخوانه يتيم هذا الرجل رضي الله عنه لما وجد مرة راعي غنم فأراد أن يختبره قال أعطني شاة من الغنم قال ليست لي إنها لسيدي قال قل له أكل الذئب قال فأين الله فبكى ابن عمر وأشترى الراعي وكان عبدا فأعتقه وأشترى الغنم فوهبها له وقال كلمتك نفعتك في الدنيا أرجوا أن تنفعك عند الله يوم القيامة عندما يواجه أهل الإحسان بمثل هذا يثبتون عندما يكافئ المحسن يثبت ونحن نحتاج اليوم إلى تثبيت بشتى الوسائل في زمن عز فيه الثبات في زمن كثرت فيه الانحرافات في زمن عمت فيه التغيرات يصبح الإنسان على السنة فيمسي على غيرها يصبح على دليل شرعي فيمسي على غيره وهكذا تقلبات .(23/11)
أيها الأخوة كان من فقههم في دعوتهم أنهم يثبتون من استجاب لله ولرسوله يكافئون من يرونه على إحسان ودين أبن عمر رضي الله عنه كان رجلا زاهدا وليس كل شيء يشتهيه يشتريه أو يأكله ويتناوله قال له أبن مطيع مرة يا أبا عبد الرحمن لو اتخذت طعاما فرجع إليك جسمك أنت الآن نحلت تغيرت قال إنه ليأتي علي ثمان سنين ما أشبع فيها شبعه واحدة أو قال لا أشبع فيها إلا شبعه واحدة فالآن تريد أن أشبع حين لم يبقى من عمري إلا ظمأ حمار والحمار أقل الحيوانات صبرا على الماء يعني يقول لما ما بقي من عمري إلا المدة اليسيرة أنا في آخر عمري الآن تريدني أن أشبع قال رجل لأبن عمر وهو أبو الوازع لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم شف الكلمة الثناء المدح لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم فغضب وقال إني لأحسبك عراقيا وكان بعض من في العراق يأتون بالعجائب من جهلهم وما يدريك على ما يغلق أبن أمك بابه أنت ما تدري أنا أغلق باب على ماذا يمكن عندي من المعاصي أكثر مما تظن بكثير وربما ما ظن أنه عنده معصية واحدة ولما قال له بعضهم يا خير الناس يا أبن خير الناس قال ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس ولكني عبد من عباد الله أرجوا الله تعالى وأخافه والله لن تزال بالرجل حتى تهلكوه يعني كثرة الثناء كثرة المدح تقطع الرجل يتكل على مدح الناس ويظن نفسه فعلا كذلك فيتوقف عن عمل الصالحات يتوقف عن اجتهاد في العبادات ولذلك من الفوائد يا إخوان أننا لو مدحنا لا نسرف وكذلك فإن ابن عمر رضي الله عنه ما كان يأكل ذلك الأكل الذي يحتاج إلى مهضمات كما جاء عن ابن سيرين أن رجلا قال ابن عمر أجعل لك جوارش قال وأي شيء الجوارش قال شيء إذا كظك الطعام فأصبت منه سهل عليك قال ابن عمر ما شبعت من الطعام منذ أربعة أشهر فكيف ما أحتاج إلى هذه الجوارش ابن عمر رضي الله تعالى عنه لما قوم ما في بيته من فراش أو لحاف أو بساط ما وجدوا ما يساوي مائة درهم وربما لبس الخزى(23/12)
وربما لبس أسمالا . أبن عمر رضي الله عنه من تواضعه أنه يروي أحيانا عن من هو أصغر منه بل ربما يروي عن بعض التابعين وربما ترك لباسا خوفا من الكبر أو يدخل في نفسه العجب وربما أمتنع عن رواية أحاديث ورعا خشية أن يكون فيها خطأ على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخطئ في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فهو من أكثر الصحابة حديثا ومع ذلك ما روى كل ما سمع خشية أن يكون إذا شك في شيء تركه كان ابن عمر وابن عباس يجلسان للناس في الحج فكان ابن عباس يجيب ويفتي فيما سئل عنه وكان ابن عمر يرد أكثر مما يفتي لماذا لأنه يخشى من الفتوى بغير علم وانطبعت هذه في أذهان من كان يسأل سئل عن شيء فقال لا علم لي به فلما أدبر الرجل الرجل السائل الذي أنصرف من ابن عمر سمع وهو يقول لنفسه سئل ابن عمر عما لا علم له فقال لا علم لي به يعني أخذ درسا من ابن عمر رضي الله عنه سئل رجل ابن عمر عن مسألة فطأطأ ابن عمر رأسه ولم يجيبه حتى ظن الناس أنه لم يسمع السؤال فقال له المستفتي يرحمك الله أما سمعت مسألتي قال بلى ولكنكم كأنكم ترون أن الله ليس بسائلنا عنه أتركنا يرحمك الله حتى نتفهم في مسألتك فإن كان لها جواب عندنا وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به جعل رجل يسب ابن عمر وابن عمر رضي الله عنه ساكت فلما بلغ باب داره التفت إليه وقال إني وأخي عاصما لا نسب الناس أريد على القضاء فأمتنع وبلغ من منزلته أنه عين للخلافة يوم الحكمين مع وجود عليا رضي الله عنه والكبار وكان لا يقضي بين أثنين خوفا من حديث القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار يقول عقبة بن مسلم صحبة أربعة وثلاثين شهرا فكان كثيرا ما يسأل ويقول لا أدري ثم يلتفت إليه فيقول أتدري ما يريد هؤلاء ، هؤلاء السائلون الكثر يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرا إلى جنهم يعني هم ينجون يقولون أفتانا ابن عمر يعملون بالفتوى وعند الله يقولون سألنا ابن عمر ونحن إذا زللنا ماذا سنكون جسورا(23/13)
يعبرون عليها إلى جنهم يقول زياد بن جبير كنت مع ابن عمر فسأله رجل نذرت أن أصوم كل يوم ثلاثاء أو أربعاء ما عشت فوافقتها هذا اليوم يوم النحر اليوم المنذور يوم وافقت يوم النحر يعني ماذا أفعل قال ابن عمر أمر الله بوفاء النذر ونهينا أن نصوم يوم النحر فأعاد عليه السائل نذرت أن أصوم الثلاثاء والأربعاء طيلة عمري وافق العيد يوم النحر فقال أمر الله بوفاء النذر ونهينا على أن نصوم يوم النحر فأعاد السائل السؤال فأعاد أبن عمر الجواب ما معنى هذا الجواب من يخبرني ما معنى هذا الجواب طبعا هو لا يصوم يوم العيد ولكن هل عليه أن يقضي يوما مكانه لما سئل مالك رحمه الله عن مسألة فيها أمرني أبي بكذا وأمي نهتني عن هذا الشيء الذي أمرني به أبي أطع أباك ولا تعص أمك السائل يسأله أطع أباك ولا تعص أمك كلمة لا أدري والتوقف في المسألة التوقف في المسألة لها صيغ عند العلماء فأحيانا يسكت العالم ما يقول شيئا وأحيانا يقول عبارات من جنس هذه أمرنا بالوفاء بالنذر ونهينا عن صيام يوم العيد هذه عبارة التوقف يعني أنه كان رضي الله تعالى عنه ورعا في الفتوى ورعا في الجواب وقافا عند حدود الله عزوجل يقول سالم عن عفة لسان أبيه ما لا عن ابن عمر قط خادما إلا واحدا فأعتقه يقول من دخل معه الكعبة سمعته يقول وهو ساجد اللهم إنك تعلم لولا مخافتك لزاحمنا قريشا في أمر الدنيا يعني في الخلافة لأن جاء وقت كان أولى الناس بالخلافة عبد الله بن عمر بعد وفاة يزيد بن معاوية كان أولى الناس بالخلافة عبد الله بن عمر ومع ذلك ما نافس فيها ولا طلب بل إنه عزف عنها لله عزوجل كان يلتزم الجد ومن ورعه ما روى نافع عنه قال سمع ابن عمر مزمارا يمشي في الطريق سمع مزمارا فوضع أصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئا يعني بقي ابن عمر يمشي مبتعدا عن المزمار وهو يسأل نافع هل تسمع شيئا حتى قلت له لا فرفع أصبعيه من أذنيه وقال كنت مع النبي صلى الله(23/14)
عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا رواه أبو داوود وأحمد وحسنه الألباني إذن لو قال لك واحد ما هو الدليل أننا إذا سمعنا صوت الموسيقى أغلقنا أذاننا إذا ما نستطيع أن نغلق الموسيقى نغلق أذاننا فهذا هو ولكنه محمول عند عدد من العلماء على الاستحباب يعني أنه ليس على الوجوب لأنه ليس متسبب فيه إلا إذا طرب وصار مستسيغا له أما إذا كان منكرا له بقلبه فلا يضره مع نهيه عن المنكر ما أمكنه وإذا وجد أحدا من أهله يلعب بالنرد كسرها ثم أمر بها فأحرقت بالنار كما في الموطأ ومر ابن عمر برجل ساقط من أهل العراق منهار فقال ما شأنه قالوا إنه إذا قرئ عليه القرآن يصيبه هذا يعني كأنهم يقولون من الخشوع والخشية يغمى عليه يخشى قال إنا لنخشى الله وما نسقط والصحابة رضوان الله عليهم قلوبهم قوية والوارد يأتي عليها قوي قلوبهم قوية تتحمل الوارد القوي الوارد الذي يأتي من تفكر في آية من معنى من خاطرة تأتي من استحضار عظمة الله ونحو ذلك وتلا مرة فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد تلاها عبيد بن عمير فجعل ابن عمر يبكي حتى ابتل لحيته وأستمر في البكاء حتى أراد أحد الحاضرين أن يقول للقارئ أقصر فقد أذية الشيخ أجتمع في الحجر مصعب وعروة وعبد الله بنوا الزبير ثلاثة مع عبد الله بن عمر فقالوا تمنوا فقال عبد الله بن الزبير أما أنا فأتمنى الخلافة وهذا محمول على أنه يرى من نفسه الأهلية والكفاءة في وقت ضاعت فيه بعض واجبات الخلافة فتمنى أن يكون خليفة ليقيم أمر الدين كاملا وقال عروة أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم وقال مصعب أما أنا فأتمنى أمرة العراق أن أكون أميرا على العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين يعني أتزوجهما وقال ابن عمر عبد الله أما أنا فأتمنى المغفرة فنالوا كلهم ما تمنوا ولعل ابن عمر رضي الله تعالى عنه ينال ما تمنى فإنه بشر بالجنة عبد الله بن الزبير بيع بالخلافة وعروة أخذ عنه العلم والحديث والسير ومصعب صار(23/15)
أميرا على العراق وجرى عليهم من الفتن ما جرى كان ابن عمر سمع قارئا يقرأ ولي للمطففين حتى بلغ قول الله يوم يقوم الناس لرب العالمين فبكى حتى خرا وقال نافع ما قرأ ابن عمر هاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكى إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ويقول إن هذا لإحصاء شديد طبعا الآية منسوخة لكن هذا تعظيم الله سبحانه وتعالى حتى هذه بكى منها وكان يقرأ في صلاته فيمروا بالآية فيها ذكر النار فيقف عندها فيدعوا ويستجير بالله تعالى طبعا في صلاة النافلة يشرع إذا مررت بآية رحمة تسأل الله وبآية عذاب تستعيذ بالله وهكذا أما في الفريضة فيجوز ولا يشرع الفريضة يجوز ولا يشرع لأن المنقول عن النبي عليه الصلاة والسلام هذا في قيام الليل في النافلة فإذن لو قال القائل متى يشرع لنا إذا مررنا بآية تسبيح بآية ذكر الجنة ذكر النار نسبح هنا ونستعيذ هنا نسأل هنا ونستعيذ هنا في الصلاة نقول في صلاة النافلة وفي الفريضة نقول جائز غير مشروع كان مرة جيء بماء بارد إليه فشرب فجأة بكى فأشتد بكاءه فقيل له ما يبكيك قال ذكرت آية في كتاب الله وحيل بينهم وبين ما يشتهون فعرفت أنه أهل النار لا يشتهون شيئا شهوتهم الماء وقد قال الله عزوجل عنهم أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله لكن لا يمكنون وحيل بينهم وبين ما يشتهون ابن عمر رضي الله تعالى عنه حضر مجالس العلم منذ وقت مبكر جدا ومعه من الحديث الشيء العظيم وهو من أعلم الناس بمناسك الحج وكان في يوم موته خير من بقي من الناس ومكث ستين سنة يفتي ويعلم بلغ ابن عمر ستا وثمانين سنة وأفتى في الإسلام ستين سنة وكان إمام الناس يقول الذهبي ولأبن عمر في مسند بقي طبعا بقي بن مخلد مسنده من أعظم وأكبر الأسانيد فيه ألفان وستمائة وثلاثون حديثا بالمكرر وأتفق له يعني البخاري ومسلم على مائة وثمانية وستين حديثا وأنفرد له البخاري بأحد وثمانين حديثا ومسلم بأحد وثلاثين قال الذهبي وهو(23/16)
أحد الستة الذين هم أكثروا الصحابة رواية وأحد العبادلة الأربعة منهم الثلاثة الآخرون من الصحابة العبادلة الأربعة إذا قيل العبادلة الأربعة من الصحابة منهم عبد الله بن عباس عبد الله بن عمرو بن العاص عبد الله بن الزبير أما عبد الله بن مسعود ما يحسب معهم لأنه أكبر منهم جميعا فهؤلاء الأربعة العبادلة في سن متقارب وكان رضي الله تعالى عنه يستمد الأحكام من كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ باجتهادات كبار الصحابة والربيع بنت معوذ أخبرت عبد الله بن عمر أنها أختلعت من زوجها على عهد عثمان فجاء عمها إلى عثمان فقال إن أبنت معيذ أختلعت من زوجها اليوم أفا تنتقل قال عثمان لتنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها إلا أنها لا تنكح حتى تحيض حيضه خشية أن يكون بها حبل قال عبد الله بن عمر فعثمان خيرنا وأعلمنا فهو يقدر الأكبر منه سنا ويحترمه ويجله وكان رضي الله تعالى عنه قد حصلت له قصة ذكرها عبد الرزاق عن عمر بن شعيب أن سارقا نقض خزانة المطلب بن أبي وداعة فوجد فيها المتاع فجمعه ولم يخرج به إذن هو أخرج ما فيها ولكن ما أخرجه خارج البيت طيب فأتي به ابن الزبير ، ابن الزبير الآن جيء له بسارق جمع المسروقات لكن ما أخرجه خارج البيت فجلده وأمر به أن يقطع فمر ابن عمر فسأل فأخبر فأتى ابن الزبير فقال أمرت به أن يقطع قال نعم قال فما شأن الجلد قال ابن الزبير غضبت قال ابن عمر وليس عليه قطع حتى يخرج به من البيت أرأيت لو رأيت رجلا بين رجلي امرأة لم يصبها أكنت حاده تقيم عليه حد الزنى قال لا لعله سوف يتوب قبل أن يواقعها قال وهذا كذلك وما يدريك لعله قد كان نازعا وتائبا وتاركا للمتاع فهذا نموذج من فقه ابن عمر رضي الله عنه وكيف كانت المناقشة العلمية تتم للوصول إلى الراجح وكان يستمد من فقه أبيه الكثير وكان مجتهدا مطلقا رضي الله عنه يخالف أباه ويوافق أباه في كثير ومن ذلك أن عمر كان يرى جواز شرب الإناء المضبب(23/17)
بالفضة لكن يضع فمه على غير موضع الفضة وكان ابن عمر إذا سقي به كسره وكان عمر لا يجيز بيع الأشياء المتنجسة التي يمكن الانتفاع بها وكان ابن عمر يرى جواز ذلك وكان عمر يجيز الزكاة في حلي النساء وكان ابن عمر يقول زكاته إعارته فإذن ليس معنى البلوه هنا أن يتابع أباه في كل شيء فقد كان لابن عمر رضي الله عنه شخصية فقهية أيضا وكان له تعامل مع المستفتين فيه وعظ وتذكير وتنبيه جاء رجل إلى عبد الله يقول يا أبا عبد الرحمن إني جعلت أمر امرأتي في يديها قلت لها أمرك بيدك يعني إذا أردت أن تطلق نفسك طلق نفسك جعلت أمرك بيدك فطلقت نفسها فماذا ترى فقال عبد الله بن عمر أراه كما قالت إنه وقع الطلاق فقال الرجل لا تفعل يا أبا عبد الرحمن فقال ابن عمر أنا أفعل أنت فعلته أنت الذي جعلت أمرها بيدها ثم جئت الآن تقول لا فبعض الناس سبحان الله يحاول في المفتي ويلح عليه يمكن يغير لا يا أبا عبد الرحمن لا تفعل يا أبا عبد الرحمن لا تقول يا شيخ عن مجاهد أنه قال كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال يا أبا عبد الرحمن إني أصوغ الذهب ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه فستفضل من ذلك قدر عمل يدي يعني يبيع مثلا عشرين غراما مصنوعة بخمس وعشرين غرام غير مصنوعة يعني خمس وعشرين بعشرين ويقول للمشتري الخمسة أجرة يدي الصياغة أجرة الصياغة فنهاه عبد الله عن ذلك فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها ثم قال عبد الله الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم نحن بلغناكم كما بلغنا فإذن لا زيادة طيب فكيف الإنسان الآن يريد أن يشتري ذهبا مصنوعا وعنده ذهب خام كيف يا إخوة واحد عنده مثلا خمس وعشرين غرام ذهب خام يريد أن يعطيها للبائع ويأخذ منه عشرين غرام مصنوع صياغ فيه الصياغة فكيف يفعل إذا عرفنا الآن أن التفاوت لا يجوز حتى لو اعتبرنا الزيادة(23/18)
الفرق يعني مقابل أجرة الصياغة أن هذا لا يجوز فكيف يفعل إذن نعم أحسنتم يبيع الذهب الخام الذي عنده ويقبض ثمنه ثم يشتري الذهب المصنوع بمثل ما معه أو أكثر أو أقل مادام الآن صار معه هذه يعني هذا النقد مثلا ريالات مثلا جنيهات دولارات دينارات فيبيع الذهب الذي معه يقبض ثمنه ثم يشتري الذهب الأخر وهكذا في عملية الذهب الجديد والقديم إذا أرادت أن تبيع الذهب القديم وتشتري جديدا إما أن يكون مثلا بمثل فيجوز المبادلة مثلا بمثل بيع عشرين بعشرين أو أن يكون بيعا تقبض الثمن ثم تشتري الذهب الجديد بما يتفقان عليه من الثمن كان ابن عمر رضي الله عنه يحتاط ويتحرى في الفتوى وكان له مسائل يشدد فيها وكان في سفر في ليلة باردة أو مطيرة فنادى بالصلاة وأذن ثم نادى ألا صلوا في رحالكم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك في الليلة الباردة والليلة المطيرة وهذا في رد على من قال إن ابن عمر متشدد وهذه مشكلة الآن نقع فيها أو يقع فيها كثير من الناس يقولون فلان متشدد فإذا جئت تحلل العبارة ما معنى متشدد فترى في الغالب أن الذين يطلقون متشدد على مفتي ثقة طبعا ما تكلم الآن على جاهل أن الذين يطلقون وصف متشدد على مفتي ثقة عالم أنه يقصدون بأنه يخالف هواهم فالمفتي إذا خالف هواهم قالوا عنه متشدد وهذا لا يقبل أبدا كيف يقال عمن وافق الكتاب والسنة وخالف هوى الناس أو هوى السائل يقال عنه متشدد يقولون متشدد عن شخص لا توافق فتواه فتاوى المتساهلين وتخالفها فيقولون عنه متشدد فكلمة متشدد الآن صارت تطلق في كثير من الأحيان إطلاقا باطلا افتراءا وتهمة بغير حق ولذلك لو قال واحد الآن فلان متشدد فقل له ما هو دليل تشدده فإن أتى لك بأمثلة من كلامه على أشياء حرمها وقد ورد في الكتاب والسنة إباحتها هذا متشدد أما أن يوافق الكتاب والسنة ويخالف هوى الناس أو هوى بعض المستفتين أو تساهلات المتساهلين فلا يجوز أن يطلق عليه متشدد بل يقال(23/19)
أولئك مفرطون أولئك متساهلون وليس هذا هو المتشدد وهذا ابن عمر رضي الله عنه ينادي في الليلة الباردة المطيرة ألا صلوا في رحالكم بدل حي على الصلاة يقول ألا صلوا في رحالكم صلوا في رحالكم بدل حي على الصلاة كل واحد يصلي في رحله وكان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة وكان يقدم أهله وصبيانه من المزدلفة إلى منى حتى يصلوا الصبح بمنى ويرموا قبل أن يأتي الناس وهذه رخصة وهذا من الرد على من يقول إن ابن عمر متشدد رضي الله عنه ليس كذلك وابن عمر رضي الله عنه كان يتحرى السنة وبدقة وإذا دخل الكعبة أين صلى النبي عليه الصلاة والسلام فيجاب جعل عمودا عن يمينه وعمودين عن يساره وثلاثة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة طيب أصاب ابن عمر البرد وهو محرم فألقيت عليه برنسا يقول نافع قال أبعده عني أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن البرنس المحرم طبعا هذا البرنس مثل لباس المغاربة الذي له غطاء رأس متصل بالثوب سائل رجل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله قال أرأيت إن زحت أرأيت إن غلبت قال أجعل أرأيت باليمن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله رواه البخاري أجعل أرأيت باليمن وفي رواية أجعل أرأيت عند ذلك الكوكب أجعلها بعيدا أترك أرأيت ركز معي على السنة والحرص على السنة كان أمارا بالمعروف نهاءا عن المنكر رضي الله عنه رأى فسطاطا على قبر فقال أنزعه يا غلام فإنما يظله عمله إنما تجعل خيمة على قبر ماذا تنفع الميت ما ينفع إلا عمله فأمر بنزعه ورأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما حصى حصبهما تأديبا لهما وزجرا ليسكتا وإنكارا باليد طبعا مثل من أبن عمر تقبل ، تقبل لأنه عالم مقدم ناس في وعلمه وسنه وجلالة قدره تقبل لكن أما أن اليوم واحد من الشباب شايف إن ارتفاع الصوت وهذا يحصل وتصير معركة في ..! فالمقصود إذن أن إنكار المنكر لا(23/20)
بد أن يكون بفقه وسمع رجلا يحلف بالكعبة فقال ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من حلف بغير الله فقد أشرك ابن عمر كان متمسكا بالسنة جدا من أعظم ما يميز هذه الشخصية تمسكها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج لا تخالف عبد الله بن عمر في شيء من أمر الحج وجعل الحجاج أميرا على الحج والناس تتبع الأمير في الحج وهو الذي يبدأ فيمشون وراءه وهو الذي يفيض فيفيضون وراءه فلما كان يوم عرفة جاءه عبد الله بن عمر حين زالت الشمس يقول سالم ولد عبد الله وأنا معه مع أبي فصاح به عند سرادقه أين هذا ما قال أين الحجاج هو يعرف ظلم الحجاج أين هذا فخرج عليه الحجاج وعليه محلفة معصفرة قال مالك يا أبا عبد الرحمن قال الرواح إن كنت تريد السنة قال أهذه الساعة قال نعم قال فأنظرني حتى أفيض علي ماءا ثم أخرج ما تركه ومشى لا فنزل عبد الله حتى خرج الحجاج يقول سالم فصار بيني وبين أبي الحجاج سار بيني وبين أبي فقلت له يقول سالم إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم فأقصر الخطبة وعجل الصلاة فجعل الحجاج ينظر إلى عبد الله بن عمر إلى الأب كي ما يسمع ذلك منه فلما رأى ذلك عبد الله أن هذا ينتظر قال صدق سالم فهذا رب ولده على الفقه وعلمه وعلى الجرأة في الحق وعلى الاهتمام بالسنة ولذلك الأب من جهة والابن من جهة في الحجاج وكذلك فإن ابن عمر رضي الله عنه كان مرجعا للناس في المسائل ومن المسائل التي كان يكثر السؤال عنها الطلاق لأنه قد حصلت له هو نفسه رضي الله عنه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قصة تعلم منها دروسا بليغة ومن الاستفتاءات التي سئل عنها أن ثابت أبن الأحنف تزوج أم ولد لعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب كان شديد الغيرة وكان لا يمكن أن يسمح لأحد تزوج امرأة من بعده مادام هو وطئها لو طلقها أو أمة باعها ما يرضى أن أحدا يتزوجها من بعده ويطأها طبعا(23/21)
غيرة ليست في محلها فثابت بن الأحنف تزوج أم ولد لعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال فدعاني عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أبنه فجئته فدخلت عليه يقول ثابت بن الأحنف فإذا سياط موضوعة مجهزة سياط من التي يعذب بها وإذا قيدان من حديد مجهزة في المجلس وعبدان له قد أجلسهما جاهزين للتربيط والجلد فقال طلقها طلق أم ولد أبي الآن هذا عبد الله بن عبد الرحمن يتكلم طلقها وإلا والذي يحلف به فعلت بك كذا وكذا فقلت هي الطلاق ألفا ما هو بس ثلاثة إذا المسألة فيها قيد وسياط وعبيد وليشهي الطلاق ألفا فخرجت من عنده فأدركت عبد الله بن عمر بطريق مكة فأخبرته بالذي كان من شأني فتغير عبد الله وقال ليس ذلك بطلاق وإنها لم تحرم عليك فأرجع إلى أهلك فلم تقررني نفسي حتى أتيت عبد الله بن الزبير وهو يومئذ بمكة أمير عليها فأخبرته بالذي كان من شأني وبالذي قال لي عبد الله بن عمر فقال لي عبد الله بن الزبير لم تحرم عليك فأرجع إلى أهلك يعني وافق عبد الله بن عمر في فتواه وكتب إلى أمير المدينة أن يعاقب عبد الله بن عبد الرحمن الذي فعل معه هذا وهدده وأن يخلي بيني وبين أهلي يعني لا يتعرض لهما وتزوج وعبد الله بن عمر حضر وليمة زفافه على هذه المرأة حضر وليمة زفافه ابن عمر رضي الله عنه كان شديدا على أهل البدعة حاسما في الموضوع ولذلك لما ظهرت فتنة القدر وناس يقولون إن الله ما كتب هذه الحوادث ما كتب في اللوح المحفوظ الأقدار وقامت عندهم قضية لأنه في أشياء من الشر وكيف الله يقدر الشر والله يقدر خير والشر ابتلاء وفتنة للناس ذهب اثنان من المسلمين حاجين أو معتمرين عن يحيي بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري ليسألا واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أحد الصحابة عن هذا هذه البدعة بدعة القدرية فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخل المسجد فكتلفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت(23/22)
أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم ويدعون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف يعني مستأنف الآن يحدث ما كتبها ما قدرها الله عزوجل الواحد يخرق فعله بنفسه قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يقبل بالقدر وحدثه بحديث جبريل وفيه من أركان الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره وأنه من الله تعالى كان واضحا غاية الوضوح كان يبين الحكم الشرعي ويورد الدليل عليه جاءه رجل قال يا أبا عبد الرحمن إني أسلفت رجلا سلفا وأشترط عليه أفضل مما أسلفته مثلا أسلفه بكرا أو جملا صغيرا وأشترط عليه أن يرد عليه جملا كبيرا مثلا فقال عبد الله بن عمر فذلك الربا قال فكيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن قال عبد الله السلف على ثلاثة وجوه سلف تسلفه تريد به وجه الله فلك وجه الله وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك فلك وجه صاحبك يعني واحد ما فكر بالآخرة ولا في الأجر ولا لوجه الله وإنما فقط علاقات محبة أو صداقة لشخص فأسلفه لصداقته لمنزلته لأنه يريد أن يصطنع معروفا عنده قضية شخصية فقط لكن لا يرجوا أجرا ولا ثوابا لو كان يقرضه أنه أخوه في الله وأنه يريد أن ينقذ أخاه في الله من محنة أو يخرجه من ورطة أو أنه يفرج عنه هما لقلنا أن هذا أجر وثواب لله لكن هذا في قضية شخصية ما رجاء بها وجه الله قال سلف تسلفه تريد به وجه الله فلك وجه الله وسلف تسلفه تريد به وجه صاحبك فلك وجه صاحبك تريد أن يمدحك يثني عليك يحفظ لك هذا المعروف يحفظ لك هذا الموقف كما يقولون سجلنا موقف قال وسلف تسلفه لتأخذ خبيثا بطيب فذلك الربا قال فكيف تأمرين يا أبا عبد الرحمن قال أرى أن تشق الصحيفة التي ألزمته فيها بدفع ما هو أزيد وأكثر فإن أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته وإن أعطاك دون الذي أسلفته فأخذته أجرته وإن أعطاك أفضل مما(23/23)
أسلفته طيبة به نفسه يعني بعد ما زال الشرط الآن وانتهى ذلك القيد عليك قال فذلك شكر شكره لك ولك أجر ما أنظرته يعني أخرته وهو القرض لأن الإنسان يؤجر في القرض ولو رد إليه المال مقابل الانتظار فعندما يقول الغربيون الوقت مال فكيف ننظر بلا مقابل فنأخذ الزيادة مقابل التأجيل والتأخير فنقول في الإسلام مقابل التأجيل والتأخير أجر من الله تعالى فهذا الفرق بيننا وبينهم فإذا بطل الشرط الذي ثبت في الصحيفة وسقط فعند ذلك هو في حل مما يفعل لك ما أعطيته فإن زاد طيبة به نفسه فهو مأجور وإن نقص فقبلت أنت فأنت مأجور على قبولك الأقل وعلى الإنظار وإن أعطاك مثله فلك أجر الإنظار وأجر القرض عبد الله بن عمر رضي الله عنه حصلت رؤيا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام يقول كنت غلاما شابا وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهب بي إلى النار فإذا هي مطوية كطي البئر وإذا لها قرنان وإذا فيها أناس قد عرفتهم فجعلت أقول أعوذ بالله من النار فلقينا ملك آخر فقال لي لم ترع فقصصتها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا فسرها له بنجاته من النار لأنه عرض عليها ثم عفي منها وقيل له لا روعة عليك وذلك لصلاحه لكن هذه الرؤية للنار كان فيها تنبيه لعبد الله بن عمر على أشياء يتقي بها النار وهو قيام الليل ولذلك كان ينام في المسجد لأنه ما كان عنده بيت فيتعبد في المسجد حتى بنى بيته وإلا المسجد أصلا ما يجوز أن يتخذ فندقا ومأوى ومطعما إلا عند الحاجة مثل أهل الصفة كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه إذا فاتته صلاة العشاء أحيى بقية الليل كان يصلي من الليل ويقول يا نافع أسحرنا بلغنا وقت السحر فيقول لا فيعاود الصلاة ثم يقول يا نافع أسحرنا فيقول نعم فيقعد يستغفر ويدعوا حتى يطلع الفجر لأن الله قال(23/24)
وبالأسحار هم يستغفرون كان يحيي ما بين الظهر والعصر هذه من أوقات الغفلة مثل بين المغرب والعشاء تحيى بالصلاة من سنة السلف صلي ما شئت بلا عدد معين وكان يتوضأ ثم يصلي فيرجع إلى فراشه فيغفي إغفاءة الطائر ثم يثب ثم يتوضأ ثم يصلي وربما فعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسة وكان ابن عمر كما يقول عنه نافع يفعل شيء لا تطيقونه الوضوء لكل صلاة والمصحف فيما بينهما يقول نافع عن ابن عمر إنه كان يحيي الليل صلاة ثم يقول يا نافع أسحرنا وكان يسرد الصوم فيصوم كثيرا رضي الله عنه وكان يتحرى سنة النبي عليه الصلاة والسلام إلى الغاية لما سمع لو تركنا هذا الباب للنساء ما دخل ابن عمر منه حتى مات ما يوجد أتبع للأثر معروف في الصحابة مثل ابن عمر رضي الله عنه حتى فعل أشياء لا يوافق عليها يعني بعض الأشياء التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعلها مقتضى الخلقة أو الطبيعة أو الجبلة غير مراد منها التأسي للعبادة التعبد كان هو يحرص عليها مثل أن ينيخ ناقته في المكان الذي أناخ فيه النبي صلى الله عليه وسلم ناقته أن يقضي حاجته في المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي فيه حاجته هذه الأشياء ليست محلا للتعبد والاستنان لكن من شدة حرصه أنه كان على السنة فيريد أن يوافق حتى في هذه الأشياء فمثل هذا يؤجر على قصده لا على فعله لأن القصد من شدة الحرص على السنة والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم كما لو أن شخصا اليوم أحب القرعة ووضع العمامة فهذه ليست من السنن التي يتأسى بمعنى أنه فعل عليه الصلاة والسلام لكي يتأسى الناس بها ويؤجر على التشبه به فيها لأن الأشياء توافق الطبيعة والعادة والجبلة عادة قومه الإعتمام فكان يعتم نفسه تحب القرع أكل القرع ليس سنة يؤجر فاعلها لكن أنس بلغ من محبة للنبي عليه الصلاة والسلام أنه ما كان يحب القرع فصار يحب القرع الدباء لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحبها كان ابن عمر يلبس النعال السبتية(23/25)
التي ليس لها شعر لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية يعني إلى هذه الدرجة إلى هذه الدرجة وأبن عمر كان يزاحم في الركنين لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال إن مسحاهما يحطان الخطايا حطا وطبعا هذا مشروط بعدم إيذاء الآخرين لأن المزاحمة بلا أذية هي الضابط وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لأبيه عمر يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فأستلمه وإلا فأستقبله فهلل وكبر قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم وينزل مواضع منزله ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ ويصب فضل ماءه على شجرة صب عليها ونحو ذلك مما أستحبه طائفة من العلماء ولم يستحب ذلك جمهور العلماء ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر ولو رأوه مستحبا لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعة النبي صلى الله عليه وسلم والإقتداء به فإذا فعل فعلا على وجه العبادة لاحظ هذا هو الضابط فعل فعلا على وجه العبادة فعل فعلا بقصد التعبد هذا الذي يشرع لنا الإقتداء به فيه شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة وأن يستلم الحجر الأسود وأن يصلي خلف المقام وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك فإذن هذه فيها قصد التعبد واضح أنه حرص عليها بقصد التعبد أما ما حصل اتفاقا دون القصد يعني هو في طريق السفر حضرته حاجته حاجة الإنسان من بول أو غائط فتنحى جانبا وقضى حاجته هل تعمد المكان هذا بقضاء الحاجة فيه هو مقصود للتعبد فعله عليه الصلاة والسلام خص المكان في هذا الفعل بقصد التعبد الجواب لا إذن هذا ليس مما يشرع الإقتداء به فيه بمعنى يؤجر الإنسان عليه ويكون سنة مستحبة يثاب فاعلها(23/26)
كلا ولذلك فإنه من الأهمية بمكان الانتباه لقضية تتبع آثار الأنبياء فليس كل أثر لنبي أو مكان وطئه النبي أو جلس فيه النبي عليه الصلاة والسلام يستن بذلك فيه والعدم فهم هذه المسألة أدى ببعض الناس اليوم أن يخرج إلى غار حراء ويصعد إلى الغار ويجلس في الغار ولما تسأله لماذا يقول أنا أطبق السنة أنا أتبع السنة طيب أصلا غار حراء كان النبي عليه الصلاة والسلام يتحنث فيه قبل النبوة فما كان يفعله قبل النبوة وأنقطع عنه بعدها ما في مدخل للتعبد فيريد بعض الناس اليوم أن يجعل من الأماكن المختلفة أي أثر مجالا للتعبد وهذه يا إخوان فيها خطورة وعملية قائمة الآن وربما أسست بعض البرامج على هذا ولذلك لا بد من الحذر في مسألة قصد أماكن العبادة عندها هل النبي عليه الصلاة والسلام قصد المكان هذا للعبادة عنده تحديدا أو قصد بقعة لتعظيم الله فيها هذا مقصود هل كان هذا مقصودا فإذن إذا عرفنا أنه مقصود فعلناه وإذا عرفنا أنه غير مقصود لم نفعله ولم نحرص عليه لأن هذا يفتح باب الغلو وتعظيم البقاع والوقوع في أمور من الشرك والبدع فهذه مسألة مهمة من تعظيم ابن عمر للسنة والأوامر النبوية كان يجيب وليمة العرس حتى لو كان صائما ويدعوا لصاحب الدعوة ومعروف أن الإنسان المسلم لو أجاب طبعا كانت ولائمهم بالنهار ما هو مثل الآن بالليل آخر الليل يحطوا العشاء كانت ولائم المسلمين في الأعراس ولائم نهاريه ، نهاريه مثل الغداء الذي نفعله اليوم أو نسميه غداء وعبد الله بن عمر رضي الله عنه كان مجاهدا في سبيل الله تعالى عرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاثة عشرة سنة كان راغبا في الجهاد فرده مع حرصه وعرض عليه في أحد وهو ابن أربعة عشرة سنة فرده وعرض عليه في الخندق وهو ابن خمسة عشرة سنة فأجازه كان حريص على بدر وحريص على أحد وأجيز في الخندق وشهد فتح مكة وله عشرون سنة وغزا في الشام والعراق والبصرة وفارس وشهد فتح مصر وبارز رجلا في قتال أهل(23/27)
العراق فقتله وأخذ سلبه وشهد ابن عمر اليرموك والقادسية وجلولة وما بينهما من وقائع الفرس وأختط دارا بمصر وقدم البصرة وورد المدائن وحضر معركة اليمامة وجهد في الاستشهاد بها فلم يكتب له ذلك .
لله درك ما نسيت رسالة ... قدسية وعداك بالأبواب
أفتديك ما رمشت عيونك رمشه ... في ساعة والموت في الأهداب
فكان حريصا لكن لم يكتب له ذلك لبى ابن عمر دعوة معاوية إلى الغزو لفتح القسطنطينية وعمروه ستون عاما وغزا في هذه الغزوة ابن عمرو وابن عباس وابن الزبير يعني العبادلة الأربعة وأبو أيوب الأنصاري وكان ذلك رغبة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أول جيشا من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم رواه البخاري فلماذا هذا الحماس الشديد لهذه الغزوة إلى القسطنطينية لهذا الحديث أو جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم لما صارت الفتنة تغيرت الأمور حدثت الأهواء تبدلت النفوس أقتتل الناس على الدنيا وعلى الولاية لما قام المنافقون والسبأيون بإحداث الفتنة في المسلمين كان لأبن عمر رضي الله عنه مواقف عظيم لما حاصر البغاة عثمان في داره وطلبوا أن يخلع نفسه وهددوه بالقتل أستشار عثمان ابن عمر دخل ابن عمر على عثمان قال له عثمان أنظر ما يقول هؤلاء يقولون أخلع نفسك أو نقتلك قال له ابن عمر أمخلد أنت في الدنيا قال لا قال هل يزيدون على أن يقتلوك قال لا قال هل يملكون لك جنة أو نارا قال لا قال فلا تخلع قميصا قميص الله عنك فتكون سنة كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه ابن عمر كان له موقف عظيم جدا في وفاة أبيه وهو الذي أتى له بالبشارة أن عائشة وافقت أن يكون القبر الذي خصصته لنفسها قبرا لعمر جعله عمر مع الستة مجلس مشاوره وليس له من الأمر شيء عمر يقال له كيف أنت كيف أنت تأخذ ثوبين قال قم يا عبد الله فيقوم ما الخبر وهبت قميص لأبي جاء رجل من أهل مصر حاجا فرأى قوما جلوسا قال من هؤلاء قالوا قريش قال من الشيخ فيهم قال عبد الله بن عمر قال(23/28)
يا ابن عمر هذا جلف من الأجلاف يا أبن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد هل تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهد قال نعم فقال المصري الله أكبر قال ابن عمر تعال أبين لك أما يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعث مكانه فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال هذه لعثمان ثم قال ابن عمر لهذا السائل أذهب بها الآن معك والحديث في البخاري لما سئل عن علي وعثمان ... قال للسائل قبحك الله تسألني عن رجلين كلاهما خير مني تريد أن أغض من أحدهما وأرفع من الآخر هكذا بدأت الفتن تظهر وصار السؤال الأسئلة عمر أفضل ولا عثمان أفضل ولا علي عثمان أفضل ولا علي حتى وصل السؤال إلى ابن عمر رضي الله عنه وكان مقاوما للفتنة وما أشترك فيها حتى الفتنة التي حدثت بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وكان يرى أن البيعة التي أعطاها ليزيد تمنع من الخروج عليه ولذلك ما أشترك في أي قتال ونصح الحسين بن علي نصيحة عظيمة فلما علم ابن عمر بمسير الحسين بن علي إلى العراق لحقه على مسيرة ثلاث ليال قال ابن عمر أين تريد قال الحسين العراق وإذا معه كتب من أهل العراق يقول هذه كتبهم بيعتهم بايعوني وهم الذين طلبوا مني أن آتيهم لينصروني قال ابن عمر لا تأتيهم فأبى فقال ابن عمر إني محدثك حديثا إن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فأختار الآخرة ولم يرد الدنيا وإنك بضعة أنت قطعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما يليها(23/29)
أحد منكم أبدا وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم فأبى الحسين أن يرجع فأعتنقه ابن عمر وبكى وقال أستودعك الله من قتيل وكان ابن عمر إذا ذكر الحسين بكى وقال غلبنا حسين بالخروج ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة يعني كان يكفيه ما حصل لكن الحسين رضي الله عنه أجتهد وظن أنه سيصل إلى حال أو موقف تكون فيه الأمة قيادة أفضل وتطبيق للشرع أحسن لكن أبن عمر كان يرى أشياء لم يره الحسين رضي الله عنه وأعتزل الفتنة ... في القتال الذي دار ابن الزبير وبني أمية جاءه رجل ويقول لأبن عمر ما يمنعك أن تخرج قال يمنعني أن الله حرم دم أخي قال ألم يقل الله وقاتلهم حتى لا تكون فتنة قال قاتلنا حتى لم تكن فتنة يعني على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله ابن عمر رضي الله عنه مع كونه كان في زمن من الأزمان أحق الناس بالخلافة لكنه لم يقاتل ولم يطلب ولم يسعى إليها ولما قال الخليفة الذي يظن نفسه أولى بالخلافة منا يطلع لنا قرنه قال فكدت أن أقول له أولى الناس منك بالخلافة الذي ضربك وأباك على الإسلام قال فذكرت الجنة وما أعد الله فيها فسكت رضي الله تعالى عنه ولم يتكلم وبالرغم أن ابن عمر لم ينازع في الأمر ولم يدخل في القتال وصان نفسه عن الدخول في هذه الدماء فإنه كان صداعا بالحق وكان من شخصيته أنه يمزح بالحق أيضا ويصدع بالحق فمن ممازحته أنه كان يمازح جارية له فيقول لا خلقني خالق الكرام وخلقك خالق اللئام فتغضب وتبكي وتصيح ويضحك عبد الله لأن خالق الكرام وخالق اللئام واحد كما خالق أحد الشيوخ يداعب أحد الطلاب لما جاءه فقال الشيخ أنا سأذهب من اليمين أنا جعلني الله من أهل اليمين وأنت جعلك الله من أهل اليسار روح يسار قال لا لماذا يا شيخ وزعل قال يعني اليسار يعني الغنى أنا ما قلت جعلك الله من أهل الشمال قلت جعلك الله من أهل اليسار واليسار غير الشمال فمن(23/30)
قوة ابن عمر رضي الله عنه رده على الحجاج ولما قام الحجاج يسب ابن الزبير رضي الله عنه قام ابن عمر يدافع عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه ولما كان له جرأة على الحجاج، الحجاج قام بمآمرة لقتل ابن عمر رضي الله عنه فدس رجلا له حربة مسمومة ليمس رجل ابن عمر كأنه أحتك به عرضا في الطريق أمر الحجاج رجلا أن يأخذ حربة مسمومة وينتظر ابن عمر في الطريق ثم يمشي بجانبه فتمس الحربة جلد ابن عمر المسمومة ففعل ذلك فأصابه بزجه في رجله فمرض ابن عمر من أثر السم والجرح فأتاه الحجاج يعوده المرض قال لو أعلم الذي أصابك لضربت عنقه فقال أنت الذي أصبتني قال كيف يوم أدخلت حرم الله السلاح دخلت السلاح بمكة توفي رضي الله عنه إذن مسموما بفعل من أفعال الحجاج الظالم وأوصى رجلا أن يغسله وأن يدلكه بالمسك والعجيب أن الجرح الذي أصاب ابن عمر دما لما الناس أطمأنوا أنفجر مرة أخرى فأوصى ابن عمر أن لا يدفن في الحرم وأن يدفن خارجه لماذا لكي لا يصلي عليه الحجاج لأن الحجاج هو الأمير فسيكون هو الإمام فغلبهم الحجاج وصلى عليه سبحان الله هو الذي أمر بقتله هو الذي صلى عليه يقول عبد الله لولده سالم قبل أن يموت يا بني إن أنا مت فادفني خارجا من الحرم فإني أكره أن أدفن فيه بعد أن خرجت منه مهاجرا قال يا أبتي إن قدرنا على ذلك فقال تسمعني أقول لك وتقول إن قدرنا على ذلك قال أقول الحجاج يغلبنا فيصلي عليك فسكت أبن عمر أثنى الصحابة عليه وكانت له تلك السيرة العطرة ويقول ابن مسعود إن من أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا عبد الله بن عمر ويقول جابر ما رأيت أحدا إلا ما لت به الدنيا أو مال بها إلا عبد الله بن عمر وقال سعيد بن المسيب مات ابن عمر يوم مات وما في الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله عزوجل بمثل عمله منه وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن مات ابن عمر وهو في الفضل بمثل أبيه يعني لما مات بلغ في العمل والفضل مثل أبيه وكان عمر في زمان له فيه نظراء وإن(23/31)
ابن عمر بقي في زمان ليس له فيه نظير كما يقول أبو سلمة بن عبد الرحمن وقال قتادة كان ابن عمر يوم مات خير من بقي وقالت حفصة أخته ما رأيت أحدا ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر ويقول ابن مسعود لقد رأيتنا ونحن متوافرون وما فينا شاب هو أملك لنفسه من ابن عمر وقال سيد التابعين سعيد لو شهدت لأحد من أهل الجنة لشهدت لابن عمر ومضى ابن عمر رضي الله تعالى عنه إلى ربه ترك لنا علما كثيرا وروايات عديدة وسيرة جميلة فما أحرى شباب الإسلام الإقتداء بهديه والتأسي بسيرته رضي الله عنه في عبادته وتقواه في ورعه وخشيته في علمه وفقه في إتباعه للسنة وحرصه عليها فيه مقاومته للبدع وفي جهاده في سبيل الله في بعده عن الفتن وعدم الدخول مضايق الأمور والورطات وفي الجرأة بالحق والصدع به وفي تقلله من الدنيا وجوده وكرمه رضي الله تعالى عنه حقيقة إن هذه مدرسة نحتاج اليوم إلى قدوات في أشد الحاجة نحن أيها الإخوة والأخوات إلى قدوات وهذا الرجل واحد من القدوات ولا يصلح أن يكون في الأمة مثل هذا الرجل فيبقى ذكره خفيا لا يروى ولذلك لا بد من نبش أخبار هؤلاء العظماء حتى نتأسى بهم .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع درجته وأن يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء وأن يرفعه ووالده وصحابة نبيه الكريم إنه هو السميع العليم.(23/32)
( الطفل الإسلامي والطفل الغربي (2) )
عناصر الموضوع :
بيان اهتمام الشريعة بالطفل
معالم في تربية الطفل المسلم
وجوب الحذر مما يبثه الغرب إلينا
نظرات في واقع الطفل الغربي
الطفل الإسلامي والطفل الغربي (2):
الغرب يدعي أنه المهتم الوحيد بالطفل، وأن الطفل الغربي مكرم وله حقوقه، ومع هذا الإدعاء إلا أنه قد ظهرت الحقيقة جلية لتبين كذب دعواهم بتكذيب الواقع لهم في جملة من أخبار أطفال الغرب ختمت بها هذه المادة، والتي بدئت ببيان اهتمام الشريعة الإسلامية بالطفل، وذكر واقع أطفال السلف، وذكر معالم في تربية الطفل المسلم من كلام ابن القيم الذي أكد عليه علماء الغرب في هذا العصر؛ ولذلك جاءت هذه المادة مكملة لمادة قبلها بينت حقوق الطفل في الإسلام .
بيان اهتمام الشريعة بالطفل:(24/1)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فقد تحدثنا -أيها الإخوة- في الخطبة الماضية عن حق الطفل في الإسلام، وعما جاءت به الشريعة من الحكم والأحكام بشأنه؛ رفعت من قدره، وجعلت له مكانة وحقوقاً، وذكرنا بأن هذه الشريعة الكاملة لا يعدلها نظام ولا قانون، ولا يصل إلى مستواها تدبير؛ لأنها من تدبير العليم الخبير، الذي خلق النفس ويعلم ما تحتاج إليه وما يصلحها. ونريد أن نبين أن الطفل في الإسلام حقوقه أعلى من الطفل في الغرب، للذين يتبجحون بأن عندهم للأطفال حقوقاً ليست عند المسلمين، وأن وضع الطفل الغربي أفضل وضع على الإطلاق، لقد قلنا -أيها الإخوة!- وذكرنا بعض الآيات والأحاديث، ومن السنة المطهرة ذكرنا أموراً كثيرة جداً مما جاءت به الشريعة بشأن الطفل، لا يوجد له مثيل مطلقاً في قوانين الغرب والشرق، وقد حملت الشريعة الأبوين مسئولية تربية الولد قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً(24/2)
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6] قال علي رضي الله عنه: [علموهم وأدبوهم]. الأبوان عندنا يندفعان لتربية الطفل خوفاً من الله عز وجل، وخشية نار وقودها الناس والحجارة، ولذلك يكون الباعث خشية الله تعالى، إذا فرط الوالد أو الوالدة فإن العذاب والعقاب لهما بالمرصاد يوم الدين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) ففي هذا الحديث ثلاثة آداب أمرهم بها: أولاً: أمر الأولاد بالصلاة، وثانياً: ضربهم عليها، وثالثاً: التفريق بينهم في المضاجع، وما نحل والد ولداً أفضل من أدب حسن، ولأن يؤدب الوالد ولده خيرٌ له من الصدقة بكذا وكذا. ذلك أن هذه التربية هي خيرٌ دائم، ونبع مستمر، وعطاء متجدد يكون في نفس الولد، ولذلك يكون من حق الولد على أبيه أن يحسن تسميته ويحسن أدبه، قال سفيان الثوري رحمه الله: ينبغي للرجل أن يُكره ولده على طلب الحديث، فإنه مسئول عنه، أي: يحمله على ذلك، ولذلك اهتم السلف جداً بالأطفال، فنبغ أطفال كثير من المسلمين، حفظوا القرآن منذ سن مبكرة، وحفظوا أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحملت لنا أخبار حلق العلم نبأ طفل يبلغ من العمر أربع سنين يجلس في مجلس الحديث يحفظ، غير أنه إذا جاع يبكي. وحملت الأخبار نبأ النووي رحمه الله وهو ابن عشر سنين، والأطفال يريدونه للعب معهم، وهو يأبى ويبكي ويقرأ القرآن. وحملت الأخبار نبأ طفولة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الذي كان أطول الأولاد لوحاً، فكتب له الشيخ عشرين حديثاً، ثم قرأها مرة واحدة فسردها عن ظهر قلب، فكتب له عشرين أخرى، فقرأها مرة واحدة، وحفظها عن ظهر قلب، ثم سردها على الشيخ. وبذلك تفوق ذلك الجيل والأجيال الذي بعده من هذه الأمة في عصر عزها وازدهار أمرها، ولكن لما ضعفت التربية الدينية، والتعليم الشرعي للأولاد في هذا الزمان؛ لم نعد نسمع عن مثل أولئك(24/3)
العلماء الفطاحل، الذين خرجوا يجددون للأمة أمر دينها، وينشرون العلم في الأرض، وذلك بسبب واضح وهو عدم الاهتمام بتعليم الطفل منذ سن مبكرة، فنحن نتركهم للهو وآلاته، ونتركهم للفساد وأجهزته، ولا نحملهم أو نهتم بهم في طلب العلم والتأديب الشرعي منذ نعومة أظفارهم. عباد الله: أليس من نعيم الدنيا أن يكون للإنسان قرة عين من ذريته، لقد سأل كثير بن زياد الحسن البصري رحمه الله عن قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74] فقال: يا أبا سعيد ! ما هذه القرة أفي الدنيا أم في الآخرة؟ قال: لا. بل والله في الدنيا، قال: وما هي؟ قال: أن يري الله العبد من زوجته أو من أخيه أو من حميمه طاعة الله، لا والله! ما شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولداً أو والداً، أو حميماً أو أخاً مطيعاً لله عز وجل. فهذه قرة عين أن ترى ولدك يمشي على الشريعة بحسب ما جاءت به ملتزماً بآدابها، أن ترى ولدك متفقهاً في الدين، هذه من أعظم قرة العين في الدنيا (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وامرأة الرجل راعية في بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والرجل راع على أهل بيته) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد راعت الشرعية العدل بين الأولاد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم) ولما نحل والد ولده غلاماً -أي: عبداً- وأراد إشهاد النبي صلى الله عليه وسلم بناء على طلب أمه، قال له عليه الصلاة والسلام: (أله أخوة؟ قال: نعم، قال: أكلهم أعطيت ما أعطيته، قال: لا، قال: فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم ، وفي رواية: (لا تشهدني على جور) وفي رواية: (فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). إذاً: العدل بين الأولاد منذ الصغر يكون حاديهم إلى البر بآبائهم، حتى في القبلات كان السلف يعدلون، ولما رئي رجل وقد جاء ولدٌ ذكرٌ له فقبله وأجلسه في حجره، ثم جاءت بنته فأخذها(24/4)
فأجلسها إلى جنبه من غير تقبيل، فقيل له في ذلك المجلس: ما عدلت بينهما. عباد الله: ربما يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، ولذلك ينبغي الاهتمام بهم أشد الاهتمام. عباد الله: لما فشا فينا حب الغرب، وذهب من ذهب إلى بلاد الغرب، وتفتح من تفتح على حضارة الغرب، وصار النظر إلى كتاباتهم وإنتاجاتهم وصناعاتهم؛ غر المغرورين منا ذلك التقدم الظاهري: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7] وقالوا: الطفل في مجتمعات الغرب يحيا أجمل سنوات عمره، وهو أرقى طفل في الكون، مستوى معيشة الطفل الغربي يفوق آلاف المرات مستوى معيشة الطفل في البلاد العربية والإسلامية، الغرب يوفر للطفل كل شيء. هذه العبارات وغيرها إذا جئت بها عند التحقيق، ونظرت إليها تحت المجهر وجدت أن المسألة ليست كذلك، ومن باب الإنصاف والعدل لا بد أن نقول: إنهم قد حققوا تقدماً كبيراً في بعض الجوانب بالنسبة للأطفال، فترى الحرص على الفحص الطبي، وصحة الولد، وبرامج التطعيمات، ومعالجة العيوب الخلقية، وتعهد الأطفال المعاقين، وعلاج الأمراض النفسية من الانطواء والانكماش؛ والخوف والتردد، وعمل برامج لتقوية النبوغ في الأطفال، والاهتمام بمدارس الأطفال أكبر من الاهتمام بالمدارس المتوسطة والثانوية، وحرية إبداء الرأي عند الطفل، والحديث والسؤال، والجلوس مع الكبار، والتشجيع على القراءة، وعلاج عسرها وبطئها، والبرامج التعليمية والتثقيفية، وزيارة المدرسين للأولاد في البيت، لا شك أن ذلك موجود عندهم، وقد تقدموا في ذلك تقدماً عظيماً، والإمكانات متوفرة لديهم بشكل كامل في هذا المجال. ولكن ما هي ميزتهم علينا في الحق والحقيقة؟ من جهة الاستعداد والإمكان يمكن للمسلم أن يأخذ كل تلك الحكم، والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها يمكننا أن نأخذ كل تلك الإيجابيات ونجعلها عندنا، لأن ذلك(24/5)
أمر متوفر إذا صدقت العزيمة. أما نظريات تربية الأطفال فإنها قد كثرت، ولعلنا من خلال عرض بعض الأقوال لبعض علماء الإسلام نخرج وإياكم -أيها الإخوة!- بنتيجة واضحة من أن هذه الشريعة وهذا الدين، وعلماء هذا الدين قد بينوا كل ما يحتاج إليه الطفل بحيث لا نحتاج بعدهم إلى أحد، ولن ننقل كلاماً من عالم مسلم معاصر، أو من رجل مسلم في العصر الحديث، حتى لا يقولوا: إنما أخذوا ما أخذوا من الغربيين.
معالم في تربية الطفل المسلم:(24/6)
فلنطف وإياكم في جولة سريعة في معالم تربية الطفل المسلم مع رجل من أفذاذ هذه الأمة، وقادتها العلميين الفكريين، لنعلم إلى أي مرحلة كان يوجد عند المسلمين اهتمام بالطفل في كل جانب من الجوانب، لنطف مع ابن القيم رحمه الله، وهو يعقد لنا فصلاً عظيماً بعنوان: (فصول نافعة في تربية الأطفال تحمد عواقبها عند الكبر) ولن يكون الأمر مقتصراً على التربية الدينية والعلمية والشرعية، وإنما سيكون كلامه رحمه الله عاماً شاملاً لجميع النواحي في تربية الطفل، لنعلم أنه يوجد عندنا في شرعنا، وفي كلام علمائنا نظريات تربوية عجيبة واهتمام بالغ. قال رحمه الله تعالى: ينبغي أن يكون رضاع المولود من أمه، وأن يحرص على ذلك، وإذا أريد إرضاعه من غير أمه فإنه يؤخر حتى يأخذ ذلك اللبِّأ، وتلك المواد المحصنة الموجودة في لبن الأم، وينبغي أن يمنع من حملهم والتطواف بهم حتى يأتي عليهم ثلاثة أشهر فصاعداً، لقرب عهدهم ببطون الأمهات وضعف أبدانهم، وينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم؛ لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة للطعام، فإذا نبتت أسنانه قويت معدته، وتغذى بالطعام، فإن الله سبحانه أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام لحكمته ولطفه، ورحمة منه بالأم وحلمة ثدييها، فلا يعضها الولد بأسنانه. وينبغي تدريجهم في الغذاء، فأول ما يطعمونه من الغذاء اللبن، ثم يطعمونهم الخبز المنقوع في الماء، واللبن والحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ والأمراق الخالية من اللحم، ثم بعد ذلك ما لطف جداً من اللحم، بعد إحكام مضغه أو رضه رضاً ناعماً، فإذا قربوا من وقت التكلم، وأريد تسهيل الكلام عليهم، فليدلك ألسنتهم بالعسل، فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنه عز وجل فوق عرشه ينظر إليهم، ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا. فإذا حضر وقت نبات الأسنان فينبغي أن تدلك اللثة كل يوم(24/7)
بالزبد والسمن، وأن يحذر عليهم كل الحذر وقت نباتها إلى حين تكاملها وقوتها من الأشياء الصلبة، ويُمنعون منها كل المنع، حتى لا تتعرض الأسنان للفساد والتعويج والخلل. ولا ينبغي أن يشق على الأبوين بكاء الطفل وصراخه، ولاسيما لشربة اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعاً عظيماً، فهو يوسع أمعاءه، ويفسح صدره، ويحمي مزاجه، ويثير حرارته، ويحرك الطبيعة لدفع ما فيه من الفضول. وينبغي ألا يهمل أمر قماطه ورباطه ولو شق عليه، إلى أن يصلب بدنه، وتقوى أعضاؤه، ويجلس على الأرض، فحينئذ يمرن ويدرب على الحركة والقيام قليلاً قليلاً. وينبغي أن يوقى الطفل كل أمر يفزعه من الأصوات الشديدة الشنيعة، والمناظر الفظيعة، والحركات المزعجة، فإن ذلك ربما أدى إلى فساد قوته العاقلة لضعفها، فلا ينتفع بها بعد كبره، فإذا عرض له عارض من أمر مفزع أو مخيف فينبغي المبادرة إلى تلافيه بضده من إيناسه وإنسائه إياه، وأن يلقم الثدي في الحال، ويسارع إلى رضاعه حتى تزول تلك الرهبة وذلك الخوف. وكذلك ينبغي التلطف في تدبير أمره عند نبات أسنانه، وألا يملأ بطنه بالطعام، وإذا انطلق بطنه خير من أن يمسك، وكذلك فإنه يلين بالعسل المطبوخ، ويعمل منه معجون يطعمه الولد. وأما وقت الفطام فقال الله عز وجل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233].. الآية، فبين أن تمام الرضاع الحولين، وأن الفطام لا بد أن يكون عن تراضٍ وتشاور بين الأبوين، وأنه يجوز للأم أن ترضع بعد الحولين لا بأس بذلك، ولكن يكتمل الرضاع في الحولين، وينبغي للمرضع إذا أرادت فطامه أن تفطمه على التدريج، ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة بل تعوده إياه. ومن سوء التدبير للأطفال أن يمكنوا من الامتلاء من الطعام، وكثرة الأكل والشرب، فإن ذلك يؤذيهم، وإن الصبي إذا شبع وامتلأ يكثر نومه ويسترخي، ويعرض له نفخة في بطنه ورياح غليظة. ومما ينبغي أن يحذر: أن يحمل(24/8)
الطفل على المشي قبل وقته؛ لما يعرض في أرجلهم بسبب ذلك من الانتقال والاعوجاج بسبب ضعفها، وعدم استعدادها للمشي منذ هذه السن المبكرة. ويجوز وطء الأم عند الرضاع، فإذا حملت فالأفضل أن تترك الرضاع؛ لأنها في حملها لا يكون لبنها مثل الأول في فائدته، وربما كان فيه شيء من الضرر، فأرشدهم الشارع استحباباً وليس إيجاباً إلى ترك إرضاعه في ذلك الوقت. كل هذه الفوائد الطبية التي ذكرها رحمه الله تعالى مما ينصح به الأطباء في هذا الزمان، قال ذلك قبل مئات السنين مما يدل على أن العناية الطبية كانت موجودة عند علمائنا، وكانت موجودة في المجتمعات الإسلامية، وكانوا يحرصون عليها، ولكن الأهم من ذلك كله الحرص على تأديبه وتربيته. يقول ابن القيم رحمه الله: فينبغي أن يعوده المربي في صغره على حسن الخلق، وتجنب الغضب واللجاج، والعجلة والخفة، والطيش والحدة والجشع؛ لأنه إذا تعود ذلك صار عادة لا يستطيع الخلاص منها إذا كبر. وينبغي أن يجنب الصبي مجالس اللهو الباطل والغناء، وسماع الفحش والبدع، ومنطق السوء؛ لأنه إذا علق بسمعه صعب عليه أن يتخلص منه ويفارقه عند الكبر. وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره -لا يعود ولده على الأخذ من أيدي الناس- غاية التجنب، فإنه متى اعتاد ذلك صار طبيعة، ونشأ على أن يأخذ ولا يعطي، ويعود البذل والعطاء والإعطاء، فإذا أراد أن يعطي شيئاً أعطاه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء، ويجنبه الكذب والخيانة أكثر مما يجنبه السم، ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة، بل يحمله على العمل والشغل والجد والتعب، ويجنبه فضول الطعام والكلام والمنام، ومخالطة الأنام؛ لأن ذلك مما يفسد عليه حياته وخلقه. وكذلك فإنه يجنبه تناول ما يزيل عقله من مسكر وغيره، أو عِشْرة من يخشى فساده أو كلامه له ونحو ذلك من رفقاء السوء، ويجنبه لبس الحرير فإنه مفسد له، ومخالف لطبيعته، كما يخلفه اللواط وشرب الخمر والسرقة والكذب، ولذلك حرم على(24/9)
ذكور هذه الأمة والصبيان داخلون فيهم، فإنه ولو كان غير مكلف فإنه مستعد للتكليف، ولو أنه تعود لبس الذهب والحرير في أول أمره فإن ذلك مما يفسده منذ نعومة أظفاره. قال: ولهذا لا يُمَكَّن من الصلاة بغير وضوء، ولا من الصلاة عرياناً ونجساًً، ولا من شرب الخمر والقمار واللواط، مع أنه غير مكلف، لكنه لا يمكن من ذلك. وعند الغربيين شيء هو: مراعاة ميول الأطفال، فماذا يقول ابن القيم رحمه الله؟ يقول: فإذا صار له حسن فهم صحيح، وإدراك جيد، وحفظ واع، فينبغي تهيئته للعلم لينقشه في لوحة قلبه مادام خالياً، فإنه يستقر ويستمر ويزكو، فإذا رآه -أي: رأى ميول الولد- خلاف القراءة والحفظ والمنهج العلمي، والجلوس في الحِلَق، والإقبال على الحفظ -فماذا يفعل؟-. فإذا رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها؛ من الركوب والرمي واللعب بالرمح، مكَّنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك -لا علم ولا فروسية- وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينه منفتحة إلى صنعة من الصنائع مستعداً لها قابلاً لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس فليمكنه منها. هذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه، فقضية مراعاة الميول والمواهب ليست خاصة بالغربيين، ولا اكتشفوها هم، فهي موجودة عندنا، والكلام في تحفة المودود المكتوب منذ أكثر من ستمائة سنة. فإذاً يوجد عندنا، وفي شرعنا، وكلام علمائنا ما نحتاج إليه، ولو فرضنا أن الغربيين عندهم إيجابيات فنحن أولى بها نأخذها منهم، وتبقى لهم الرذائل، نجنب ذلك أولادنا وصبياننا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القائمين بالمسئوليات، الحريصين على الأمانات، ونسأله تعالى أن يخفف حسابنا، وأن يسدد خطواتنا، وأن يعيننا على تربية أولادنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
وجوب الحذر مما يبثه الغرب إلينا:(24/10)
الحمد لله رب العالمين، العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، هو الواحد الأحد، والفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: لقد قدم لنا الغربيون أشياء عجيبة من أجل الأطفال، فقدموا لنا الألعاب المختلفة، فمنها ما هو حلال نجلبه لأولادنا، ومنها ما هو حرام؛ من الألعاب المشتملة على الصلبان، أو الموسيقى، أو الأفكار القمارية الميسرية، مما يدخل في النرج وغيره، وغير ذلك من الألعاب التي تشتمل على محرمات. وقذفوا إلينا أيضاً بأفلام الكرتون التي تخاطب الأطفال، وتناسب أسنانهم وتجذبهم، وفي بعضها فوائد وتعليم لأشياء نافعة، ولكننا إذا تأملنا -يا عباد الله!- فيما قذفوه إلينا من هذه الأفلام الكرتونية لأولادنا وأطفالنا، وما جلبناه نحن لهم من هذه الأفلام، وعرضناها عليهم، لوجدنا أمراً شنيعاً والله! يندى له الجبين، فترى في بعض الأفلام عملاقين يتصارعان على امرأة، وفي بعض الأفلام تعويد للولد بشكل غير مباشر على الخدع والكمائن والإيقاع بالآخرين، وتجد في بعض هذه الأفلام أيضاً مخالفة في قضايا العقيدة؛ من عرض السحر والساحرة، أو أن يشير إلى شخص ميت بشيء فيقوم حياً، ونحو ذلك، وبعض هذه الأفلام تفسد خيالات أولادنا ولا شك، حتى يتصور الشيء الخيالي موجوداً في الواقع، بل ويطالب به ويبكي إذا لم يُحضر له. فإذاً: ينبغي الانتباه من هذه السلبيات الموجودة في الأفلام التي عملوها، وبعدما عرضت بعضها مدبلجة باللغة العربية تكتشف في بعضها من الحملات التنصيرية، والدعوة لعقد الصداقات مع الجنس الآخر، والخروج في الرحلات المختلطة، وممارسة الرقص والتقبيل، كل ذلك موجود في أفلام الكرتون التي تعرضها أنت، وتشتريها لهم بالفيديو وغيره، ويرونها هم في القنوات(24/11)
المختلفة، يرونها عياناً بياناً، بل أولادنا -يا جماعة!- ينظرون الآن إلى بعض الأفلام المدبلجة العجيبة تبلغ سبعين حلقة أو مائة حلقة، ما سمعنا عنه يندى له الجبين، مما يسمى بفلم (دالس) أو (رهينة الماضي) الذي يعرض فيه الزنا على أنه شيء عادي وربما لا ترى لقطته، لكن يرى ويسمع عنه في ذات الفيلم ما يجعله عادياً، وأولاد الحرام في الفيلم شيء عادي، كثيرون مبثوثون، وأن القضية طبيعية، وإقامة العلاقة المنفتحة مع الجنس الآخر أمر عادي، والخيانة الزوجية أمر عادي. وهذه الأفلام تنص على ذلك، وفيها ذلك، وهذا أمر تيقنا من سماعه من أكثر من شخص أنه موجود، ويجلس عندها الأطفال والكبار يتعلمون إقامة العلاقات، وسهولة قضية أولاد الحرام. يا عباد الله: مما نادى به مؤتمر بكين للمرأة والأسرة: مبدأ الحرية الجنسية للأطفال، فإذاً جَنِّبْ قضية (فرقوا بينهم في المضاجع) وخذ بقضية (الحرية الجنسية للأطفال) هذا ما يريدونه وكل أب والله مسئول عما يرى أولاده في البيت على الشاشة!! وهؤلاء الذين جلبوا الدش ثم أهملوا أمره وفتحوه للكبير والصغير، ولا تصدق أن عليه رقابة في البيت أو إحكاماً من الأبوين، فإن كثيراً من الأولاد يتفرجون وليس الأب والأم موجودين في البيت طيلة الوقت، فكثيراً ما يخرجون في السهرات والمواعيد، وبعد ذلك يرى أطفالنا وأولادنا الصغار والكبار هذه الأشياء. وأقسم بالله العظيم أن الحساب يوم القيامة عسير غير يسير، وهؤلاء يعرض لهم ما يفسد أخلاقهم منذ نعومة أظفارهم. لقد جاءني شخص فسألني سؤالاً في الأحلام، قال: مات عندنا ميت، وكان قد ركب دشاً قبل موته بأسبوعين، فرأته أحد نساء العائلة في قبره وهو يُخنق بحديدة، والله، وقلت له: إنني لا أعرف في تفسير الأحلام، ولا أجيد ذلك، ولكن أعرض لكم هذا المنام من قصة واقعية سمعتها بنفسي، ركب دشاً قبل موته بأسبوعين، ثم رئي بعد ذلك يُخنق بحديدة، ولاحظ التطابق بين الدش والحديدة في قبره،(24/12)
فما معنى ذلك؟ الله أعلم به، ولكن أقول لا شك أن القضية عسيرة وخطيرة، والانفلات الحاصل موجود وكثير، ولذلك تجد انتشار الجرائم ووقوع الفواحش موجوداًً عند الأحداث الصغار، من أي مكان يتعلمونه؟
نظرات في واقع الطفل الغربي:
ثم ماذا يوجد عند الغربيين الذين أعجبنا بهم؟ فتى بريطاني يرفع دعوة على أمه ليتلقى منها وقتاً كافياً، توجه إلى المحكمة، يرفع قضية على أمه؛ لأنها لا تجلس معه وقتاً كافياً، تذهب خارج البيت وتتركه، وأقر القاضي فعلاً أن الحق معه، وألزم الأم بالبقاء مع الطفل، حتى الأساسيات غير موجودة عندهم، فليس هناك حضانة ولا حق في الرضاعة يعطى للطفل، ولا حنان يرتضعه، يترك ويرمى ويهمل. وصبي آخر في أوريلندا وفي فلوريدا رفع قضية على والديه، بأنه يريد أن يغير أبويه، وأن ينتقل إلى أسرة أخرى، وفعلاً أقر القاضي له بذلك، وغير اسمه إلى اسم العائلة الجديدة، واختار الأسرة الأخرى ليبقى عندهم، وحمل الاسم الجديد، وقال إن أمه مدمنة المروانة، ولها علاقات جنسية شاذة، وأنها تأخذ أجرها في آخر الأسبوع لتشتري الخمر، وأخبر أنها تتعاطى الكحول، وأنها تنسى علبة المروانة في المطبخ، ثم أخبر أنها وضعته في دار للأيتام فترة من الزمن، ثم إنها على علاقة بعشيق لها. أيها الإخوة! إن الغرب يقرون قضية انتساب الولد إلى غير أبويه، والله يقول: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5] ونحن المتغربون منا والبعيدون عن الدين لا تظنوا أننا بعيدون عنهم، ولذلك تسمع الآن عن بعض أفراد العوائل يقولون: أبي تزوج على أمي وتركنا وأهملنا بلا نفقة ولا رعاية ولا تفقد، نحن لا نعرفه منذ سنين، كيف تطالبني الآن ببر أبي وأنا لا أريد التعرف عليه؟! أطفال يحملون الأسلحة في المدارس، وإحصائيات عن قتلى، وخوف ورعب نتيجة لذلك، هذا هو المجتمع الغربي، ثم نقلت لنا قصة مدهشة في الصحف والمجلات عن امرأة ادعت لدى البوليس بأن هناك رجلاً(24/13)
أسود خطف ولديها، ثم ألقى بها خارج السيارة ومضى بالصغيرين، وخيم الحزن على البلدة، وعملت الإعلانات، وتحمس السكان للبحث، وبحثوا في كل مكان ولم يجدوا شيئاً، وبعد ذلك عثر على السيارة غارقة في بحيرة وفيها الولدان، طفلان صغيران!! ثم اعترفت الأم أنها هي التي فعلت ذلك؛ لأن عشيقها يريدها من غير أولاد، والأولاد عبء عليها، فماذا تفعل بهم؟ وبينت الإحصائيات ستمائة واثنين وستين طفلاً لم يتجاوزوا الخامسة سقطوا ضحايا جرائم قتل خلال عام (1992م) ارتكب ثلثيها والدا الضحية أو أحدهما، وكذلك يفعل من يمشي على هذه الخطة الوحشية ممن هم عندنا، فتراه يربط يد الولد بأسلاك ربما تؤدي إلى بتر الأعضاء في المستقبل، ويرجع أب قد استشاط غضباً يركل ابنته (اثنتا عشرة سنة) يضربها بالحذاء بكل قوته، فتتكسر عظام الصدر حتى تصل إلى القلب، ويحدث نزيف داخلي ثم تموت، هذا هو عين ما هو موجود عند الغرب. الطفلة ثلاث سنوات هيدي كوسدة ماتت من الجوع بعد أن تركت أياماً في غرفة مظلمة وراء باب موصد دون طعام، وذنبها أنها أخذت قطعة حلوى من غير أن تستأذن من زوج أمها، حتى وجدتها الشرطة البريطانية متحللة، وملقاة على ظهرها في غرفة رطبة. الطفلة تيره هنري عمرها واحد وعشرون شهراً فقط توفيت على يد أبيها الذي أشبعها ضرباً وعضاً في حي دريكستون في لندن . الطفل كريستوفر استوك أربع سنوات توفي بنزيف في المخ من جراء الضرب المبرح الذي كالته له صديقة أبيه. الطفلة هان يومان عمرها ستة أسابيع فقط، واتهم زوج أمها بضربها ضرباً مبرحاً أدى إلى تكسر عظام الجمجمة، وتوفت الطفلة البريئة في المستشفى متأثرة بجراحها. وأم في مقاطعة هام شاير البريطانية عمرها عشرون عاماً تعتدي على طفل رضيع لها من أجل أن تسكته عن البكاء، ولما لم يكن ليسكت كسرت جمجمته؛ لأنه كان يزعج عشيقها. وقام جون الين اثنين وثلاثين سنة بقتل صغيرته آن سبع سنوات، ثم ابنه الأكبر كول عشر سنوات، ثم(24/14)
استدار إلى زوجته فطعنها طعنات كثيرة، ثم أطلق الرصاص على نفسه، وكانت آلة التسجيل تشتغل في المنزل، والصوت ينطلق بعد ذلك عند المحققين على هذه المأساة المروعة، عندما تقدم الوالد مصوباً مسدسه في يده إلى ابنته وهي تتوسل إليه وتقول: أحبك يا بابا! ولكن ذهب التوسل أدراج الرياح. هذه هي الحظيرة الغربية، الآباء يعتدون على أبنائهم جنسياً! من يتخيل أن يعتدي الأب على ابنه جنسياً؟! أثبتت الدراسات في عام (1987م) في بريطانيا أن (90%) من حالة الاعتداء الجنسي على الأطفال تتم في نطاق الأسرة الواحدة، الأطفال في جميع الأعمار معرضون للخطر، ثلث ضحايا الانتهاكات الجنسية دون الخامسة من أعمارهم تتم على أيدي الأب، وزوج الأم والأم. قضت إحدى محاكم لوسن في بريطانيا بالسجن خمسة أعوام على رجل في الخمسين من عمره قام بالزنا بابنته طوال اثني عشر عاماً، وقد اعترف الرجل بالتهمة، وأنجبت ابنته منه ستة أولاد توفي أحدهم والباقون في وضع سيء في المستشفى. كل أسبوع ثلاثمائة مكالمة هاتفية من ضحايا تعرضوا لاعتداء من قبل آبائهم، ولذلك في الغرب الآن رقم هاتف مخصص لشكاوى الأطفال، يعرضونه على شاشات التلفزيون ليحفظه الولد، حتى لو أراد الاستنجاد بالشرطة من أبويه -من أقرب الناس إليه- يتصل. المواليد غير الشرعيين في ازدياد (أولاد الحرام في ازدياد) ومع زيادة الحملة على المخدرات وجد من عمره ثلاثة أعوام يشم الكوكايين. أيها المسلمون: هذه حياة الأطفال في الغرب؛ أم تقتل طفلها في ماء الحمام المغلي، وأب يهشم رأس صغيره الوليد بحذائه. امرأة ولدت فألقت بالطفل في سلة المهملات، ويعثر على الأولاد في المراحيض العامة، هذا هو واقع الطفل الغربي!! ثلث عدد الأطفال المصابين بالإيدز يموتون بعد عامين من الإصابة، أمراض جنسية خطيرة تنتقل إلى الأولاد، وأطفال مشردون، وعصابات لقتل الأولاد، لأنهم يشوهون البلد، ورهنت امرأة طفلها لقاء جرعة كوكايين، ويحصلون(24/15)
الآن على المخدرات بسهولة. الذي نريد أن نقوله: إن هذه الشريعة رحمة ونعمة، وإننا عندما نتمسك بالشريعة يكون أولادنا سادة العالم وقادته، وينشئون أحسن نشأة، ونعطيهم أحسن حنان وأحسن عطف، وعندما نأتي لهم بالألعاب ومن حقهم أن يلعبوا، وقد أشرنا إلى ذلك في الخطبة الماضية، حق الولد في الملاطفة والملاعبة، وأن يكنى ويسلم عليه، ويوجد له شأن في المجتمع ومكان، ويجلس في مجالس الكبار، ويعطى الإناء عن اليمين مع أنه يوجد عن اليسار كبار. شريعة كاملة، فإلى أي شيء نسعى؟ وماذا نريد من وراء التقليد واتباع الغربيين؟ حتى ألعاب الكمبيوتر اكتشفوا فيها الآن أنها أسباب مرض الصرع، وأنها تجلب النوبات العصبية، حتى ألزمت كبار الشركات كشركة (نان تندل للألعاب) وغيرها بكتابة تحذير على الألعاب: (إن هذه الألعاب من أسباب الصرع والنوبات العصبية للأطفال) . فإذاً: ليس كل ما يأتينا منهم مفيد، بل كثير منه ضار، وأولادنا يسيرون على خطى أولادهم، وإذا لم يتق الآباء الله تعالى فسترون نتائج فضيعة في المجتمع. فهل حان الوقت لمزيد من الاهتمام بالأطفال على ضوء الشريعة؟ هل حان الوقت للتربية والاعتناء بها لمقاومة مظاهر انتشار الفاحشة واللواط والجرائم التي تتفشى عند أولادنا؟ اللهم أصلح شأننا وبيوتنا، وأصلح نياتنا وذرياتنا يا رب العالمين. اللهم هب لنا من ذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً. اللهم جنبنا الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن، اجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين بشريعتك وسائر بلاد المسلمين. اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، وارحمنا برحمتك يا عزيز يا غفور. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(24/16)
( جوانب القدوة في شخصية الإمام أحمد )
عناصر الموضوع :
نسب الإمام وعناية العلماء بتدوين حياته
صور من ثناء العلماء على الإمام
طلب العلم في حياة الإمام
صور من تواضع الإمام وعدم تطلعه إلى ما مع الناس
محبة الإمام لخمول ذكره
عفو الإمام عمن ظلموه
شهادة الإمام على الناس بالحق
صمود الإمام في وجه الطغيان
وفاة الإمام وعظمة جنازته
جوانب القدوة في شخصية الإمام أحمد:
دراسة سير العلماء والأئمة مدعاة إلى الاطمئنان، لأن الله سبحانه يقيض لهذا الدين من ينصره، وهي كذلك مهمة نظراً لحاجة النشء والشباب إلى القدوة، التي لا توجد إلا عند أولئك العمالقة، أمثال الإمام أحمد بن حنبل، الذي تميز بصموده وبذل جهده، وصبره وزهده، ونصرته للحق. وهذه المادة محاولة جادة لاستكشاف جوانب القدوة في شخصية هذا الإمام وحياته، في طلبه للعلم ومواجهة الباطل والطغيان، وفي تعامله مع أصناف الناس، وأصناف المغريات والفتن، كما أوردت هذه المادة نبذة عن نسبه وحياته ونشأته ووفاته.
نسب الإمام وعناية العلماء بتدوين حياته:(25/1)
الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المكان؛ في بيت من بيوته عز وجل، نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوما، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوما، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروما، وأن يجعل خروجنا من هذا المجلس بفوائد جمة، وأشياء تذكرنا بالله عز وجل واليوم الآخر. أيها الإخوة: موضوعنا في هذه الليلة يدور حول جوانب من حياة الإمام أحمد رحمه الله عز وجل، الذي كانت حياته بما فيها من أحداث وتفاصيل تصلح أن يجعلها المسلم قدوة يقتدي بها في كثير من جوانبها، ولعلنا نستعرض وإياكم في هذه الليلة بعض الجوانب التي يسمح الوقت بها، والتي سيلمح الأخ المستمع فيها فعلاً أشياء عظيمة من حياة هذا الإمام. وهذا الإمام أيها الإخوة صحيح أن شهرته قد طبقت الآفاق، وأن الكثيرين من الناس يعرفون شخصيته، ولكن كثيراً من الناس لا يعرفون تفاصيل حياته، ولا يعرفون أحداثاً كثيرة جداً من حياة الإمام أحمد لو عرفها الإنسان فعلاً لدهش، يعني: بعض الناس الشهرة العامة موجودة لكن التفاصيل غير موجودة، لعل الإمام أحمد واحد من هؤلاء الناس. وقد اعتنى علماء الإسلام بحياة الإمام أحمد عناية كبيرة، وألفت في حياته مجلدات، فمنها ما كتبه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ، ومنها ما كتبه الذهبي رحمه الله في كتابه السير ، وفي كتابه تأريخ الإسلام ، ومنها ما كتبه ابن الجوزي في مجلد مستقل عن حياة الإمام أحمد رحمه الله، وغيرهم من أهل العلم، دلالة على عظمة مكانة هذا الرجل في قلوب العلماء فضلاً عن قلوب عامة الناس. وقال الذهبي رحمه الله في السير : هو الإمام حقاً وشيخ الإسلام صدقاً أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن إدريس الشيباني ، يرجع نسبه إلى بكر بن وائل قبيلة معروفة من العرب، وقد مات أبوه في سن الشباب، وربي الإمام أحمد يتيماً، وقد ولد الإمام رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة (164هـ) وقد ضبطت(25/2)
سنة وفاة الإمام أحمد وسنة ولادته ولم يختلف فيهما أحد. والإمام أحمد رحمه الله من رجال السنة، وينبغي أن ننبه قبل أن نبدأ إلى كلمة الإمام. كلمة الإمام كلمة عظيمة وكبيرة، ولذلك لا يصلح أن تطلق على أي واحد من الناس، ولو ارتفع كعبه في العلم أو الدعوة إلا إذا وصل إلى مرحلة عظيمة أصبح فيها فعلاً يأتم به العالم من المسلمين، يأتمون به عن صدق وحق؛ لأنه يصلح أن يكون أهلاً للإمامة، ولذلك ما أطلق هذا اللقب على كثيرين من السلف إلا على أنفار معدودين مثل الإمام أحمد رحمه الله، فهذا اللقب لا يُعطى جزافاً، ولا يصلح أن يطلق جزافاً على أي شخصية من الشخصيات النابغة المشهورة. وقد رحل الإمام أحمد رحمه الله إلى البصرة و الكوفة وحج خمس مرات، وكان شيخاً مخضوباً طوالاً أسمر، حسن الوجه معتماً، عامة جلوسه متربعاً خاشعاً.
صور من ثناء العلماء على الإمام:(25/3)
يقول إبراهيم الحربي رحمه الله: يقول الناس أحمد بن حنبل بالتوهم، والله ما أجد لأحد من التابعين عليه مزية، ولا أعرف أحداً يقدر قدره، ولقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً، وحراً وبرداً، وليلاً ونهاراً، فما لقيته لقاة في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس. هذا شيء عظيم، وهذه فعلاً قدوة عظيمة أن الإمام أحمد رحمه الله كان يزيد يومياً على ما هو عليه، والواحد منا الآن قد يزيد في يوم وينقص في أيام، وقد يرتفع في أيام ويتدهور حاله في أيام أخرى، ولكن أن تجد الرجل يزيد يوماً بعد يوم معنى هذا أن الرجل يربي نفسه تربية عظيمة، ولذلك ينبغي أن يضع الواحد منا نفسه تحت المجهر، وأن يضع لنفسه خطة معينة بحيث أنه يرتقي يومياً إذا استطاع وقد لا يستطيع، لكن يحاول أن يكون خط سيره إلى الأعلى، وليس أن يتدهور ويتقلب ويتذبذب كما هو واقع الكثيرين، وهذا شيء فعلاً قدوة أن الإمام أحمد يومياً يزيد عن الأيام السابقة. وقال علي بن المديني رحمه الله: إن الله عز وجل أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: بأبي بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، وقد كان لأبي بكر الصديق أصحاب وأعوان، وأحمد ليس له أعوان ولا أصحاب. لما وقعت المحنة ما وقف إلى النهاية إلا الإمام أحمد رحمه الله فقط، هناك من وقفوا وقتلوا، ومن وقفوا ثم انتكسوا، وهناك من تخاذلوا أصلاً عن الوقوف، وهناك من تراجعوا وغيروا عقيدتهم، والذي ثبت إلى النهاية هو الإمام أحمد فقط في محنة خلق القرآن، قال الشاعر:
أضحى ابن حنبل محنة مر ... ... ضية وبحب أحمد يعرف المتنسك
وإذا رأيت لأحمد متنقصاً ... ... فاعلم بأن ستوره ستهتك(25/4)
وعن الحسين الكرابيسي قال: مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل -يعني بسوء- مثل قوم يجيئون إلى أبي قبيس -وهو جبل في مكة- يريدون أن يهدموه بنعالهم. وكان أحمد رحمه الله عظيم الشأن، رأساً في الحديث وفي الفقه وفي التألف، أثنى عليه خلق من خصومه فما الظن بإخوانه وأقرانه، وكان مهيباً في ذات الله حتى قال أبو عبيد : ما هبت أحداً في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل. حتى إذا جاء يسأله يهاب، يخاف، ألقى الله عليه هيبة الإسلام. وعن علي بن شعيب قال: لولا أن أحمد قام بهذا الشأن لكان عاراً علينا أن قوماً سبكوا فلم يخرج منهم أحد. يعني: حتى موقف الإمام أحمد رحمه الله رفع رأس العلماء كلهم، الحمد لله أنه خرج منا واحد. وقال أبو عبيد عن الإمام أحمد : ذاك رجل من عمال الله، نشر الله رداء عمله، وذخر له عنده الزلفى، أما تراه محبوباً مألوفاً، ما رأت عيني بالعراق رجلاً اجتمعت فيه خصال هي فيه، فبارك الله له فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم. وقال آخر: قام أحمد مقام الأنبياء، وأحمد امتحن بالسراء والضراء، وتداولته أربعة خلفاء، بعضهم بالضراء وبعضهم بالسراء، كلهم بلاء على الإمام أحمد ، ولكن طبعاً المأمون والمعتصم والواثق هم الذين عاملوه بالضراء، أما المتوكل الذي رفع الله به علم أهل السنة ورجع إلى عقيدة أهل السنة، فقد ابتلي الإمام أحمد في عهده بالسراء؛ لما أنعم عليه المتوكل به من الأموال الجزيلة التي رفضها كلها ولم يأخذ منها شيئاً. وقال بعض السلف: أحمد بن حنبل قرة عين الإسلام. وسئل أحد العلماء عن الإمام أحمد فقال: أنا أسأل عن أحمد بن حنبل !! إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر. وقال إسحاق بن راهويه : ما رأى الشافعي مثل أحمد ، ولولا أحمد وبذل نفسه لذهب الإسلام. يريد المحنة. وقال الشافعي : خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل . هذه شهادة الشافعي. وعن المروذي قال: لم أر الفقير في(25/5)
مجلس أعز منه في مجلس أحمد؛ كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وإذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، وكان كثير التواضع حسن الخلق، دائم البشر لين الجانب ليس بفظ، وإذا كان في أمر من الدين وتعرض للدين بحضرة الإمام أحمد كان يغضب في ذات الله عز وجل غضباً شديداً، وكان يحتمل أذى الجيران، وكان يجيب الدعوة في الأعراس والختان ويأكل، وربما استعفى من إجابة الدعوة، وكان إذا رأى إناءً من فضة أو منكراً في الوليمة خرج. ومرة من المرات واحد من الناس كان عنده وليمة ختان، فدعى أهل العلم فدعى منهم الإمام أحمد ، فجاء الإمام أحمد متأخراً مع صاحبٍ له والناس قد اجتمعوا للطعام، ولما يأكلوا بعد، فقيل للإمام أحمد: إن في البيت آنية من فضة، فنظر إليها، فلما رآها خرج من المنزل، فخرج الضيوف كلهم وراءه، ما بقي في البيت أحد، قال الراوي: ونزل بصاحب البيت أمر عظيم، وأرسل وراء الإمام أحمد يحلف له أنه لم يقصد، وأنه لم يكن يعلم، فلم يرد عليه الإمام أحمد بشيء، يعني: كان الإمام أحمد من القدوة بحيث يتابعه عامة الناس، ولذلك سنعلم عند وفاته ماذا حصل، وفاة الإمام أحمد تبين فعلاً مكانته بين الناس. وقال إسحاق بن إبراهيم : ما رأيت أحداً لم يداخل السلطان ولا خالط الملوك مثل أحمد بن حنبل ، ما كان أحد أثبت قلباً منه وما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب. وكانت وفاة الإمام أحمد في (12) ربيع الأول، في يوم الجمعة، (سنة:254هـ) فرحمه الله عز وجل. وبالنسبة لجوانب تهم طالب العلم والداعية إلى الله والمسلم عموماً في حياة الإمام أحمد فنحن نعرض لبعضها الآن.
طلب العلم في حياة الإمام:(25/6)
أما بالنسبة لطلب العلم الذي يدعيه الكثيرون اليوم، ويذهبون إلى المكتبات ومعارض الكتب ويشترون كتباً بالأكوام، ثم يكدسونها في بيوتهم، ويضعونها في رفوف مكتباتهم يعلوها الغبار، أو يخزنوها في كراتين تبقى عندهم لا يفتحونها يزعمون أنهم طلبة علم، إلى هؤلاء نسوق لهم هذه الأحداث: بالمناسبة الإمام أحمد ما كان يتكلم عن نفسه بقليل ولا كثير، لذلك ما رويت لنا أخباره إلا من الناس المقربين إليه جداً مثل أولاده، وخاصة تلاميذه، وبقية الأخبار شائعة عند الناس معروفة من حال الإمام، وما وصل إلى الناس من أخباره في المحنة وعند وفاته وغير ذلك. قال عبد الله : سمعت أبي يقول: ربما أردت البكور في الحديث -يعني أذهب مبكراً في طلب العلم- فتأخذ أمي بثوبي وتقول: حتى يؤذن المؤذن، وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي بكر بن عياش. سبحان الله! كان يخرج قبل صلاة الفجر، تقول له أمه: لا، اجلس حتى يؤذن المؤذن!! ومرة نزل في بيت رجل وأمه موجودة في الدار -أم الرجل- فذهب أحمد يطلب الحديث، فجاء سارق فسرق أمتعة البيت ومن بينها أمتعة الإمام أحمد ، فلما رجع إلى البيت قالت المرأة: دخل عليك السراق فسرقوا قماشك، فقال: ما فعلت الألواح؟ فقالت له: في الطاق، وما سأل عن شيء غيرها، ما سأل إلا عن الألواح التي كتب فيها العلم. وقال أحمد : كتبت عن ابن مهدي نحو عشرة آلاف حديث. وعن عبد الله بن أحمد قال: قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام. يعني: أعطني الإسناد أعطيك الكلام، أو أعطني الكلام أعطيك الإسناد؛ من حفظه للأحاديث التي كان يكتبها. وقال أبو زرعة لعبد الله ( ولد الإمام أحمد ): أبوك يحفظ ألف ألف حديث -يعني: مليون حديث- فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب فعرفت أنه يحفظ هذه الأحاديث. قد يقول قائل مستغرباً: وهل هناك مليون حديث في(25/7)
الدنيا فعلاً؟!! فقال الذهبي رحمه الله معلقاً: فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله ، وكانوا يعدون في ذلك المكرر والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك -هذه داخلة في المليون- وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك، المرفوعة القوية تكاد تبلغ عشرة آلاف حديث. وعن أبي زرعة قال: حزرت كتب أحمد يوم مات فبلغت اثني عشر حملاً وعدلاً ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان، ولا في بطنه حدثنا فلان، كل ذلك كان يحفظه.
المواصلة في طلب العلم:
وأما بالنسبة لمواصلته في طلب العلم، فآفة بعض طلبة العلم الآن أنه ربما يشتغل في الطلب فترة من وقته، وبعد زمن يتكاسل ويقعد عن الطلب ويقول: يكفيني ما حصلت في الأيام أو السنوات الماضية، ولكن الإمام أحمد رحمه الله رآه رجلٌ ومع الإمام أحمد محبرة، فقال له: يا أبا عبد الله ! أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين.. -يعني: أنت تحمل المحبرة، وأنت بلغت هذا المبلغ- فقال الإمام أحمد : مع المحبرة إلى المقبرة. يعني: لا أزال أكتب وأطلب وأدون حتى أموت، فالاشتغال بالعلم إذاً ليس فترة محدودة من الزمن، وإنما هي حياة متواصلة ومستمرة.
تضحية الإمام في طلب العلم:(25/8)
وقال المروذي : قلت لأحمد : أكان أغمي عليك أو غشي عليك عند ابن عيينة ؟ قال: نعم، في دهليزه زحمني الناس فأغمي عليَّ. يعني: تكاثر الناس عند سفيان بن عيينة وأحمد منهم في الزحام وليس المقصود بالمزاحمة أن يضرب بعضهم بعضاً، المزاحمة تعني الإقبال بكثرة، بعض الناس قد يرى حول العالم زحاماً فيقول: كيف نسأله ثم يذهب، ما عنده صبر، بعض الناس يصبرون حتى يصل العالم ليسأل، الإمام أحمد رحمه الله أغمي عليه في الزحام، وهو ينتظر كيف يدخل على سفيان. وقال أحمد الدورقي : لما قدم أحمد بن حنبل من عند عبد الرزاق -الإمام أحمد رحمه الله رحل إلى عبد الرزاق في اليمن - رأيت به شحوباً بمكة ، وقد تبين به النصب والتعب، فكلمته -يعني كأنه قال له: أتعبت نفسك في ذهابك إلى اليمن - فقال أحمد : هين فيما استفدناه من عبد الرزاق. أي: هذا شيء يهون في سبيل الفائدة التي حصلناها من عبد الرزاق .
شمول علم الإمام:(25/9)
قال أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: ومن عجيب ما تسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه لكنه محدث -هذه فرية اتهمه بعض الناس بها، قالوا: هذا أحمد يجمع أحاديث، وليس بفقيه- فيقول أبو الوفاء : وهذا غاية الجهل؛ لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم. يعني: الفقه يأتي من أين؟ أليس من الأحاديث والآيات؟! فقال: عند أحمد اختيارات، وآراء فقهية بناها على أحاديث جمعها ما وصلت إلى كثير من هؤلاء. وخرج عنه اختيارات من دقيق الفقه ما ليس نراه لأحد منهم. وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله طائفة من عمق أو دقائق فقه الإمام أحمد رحمه الله. هل كان الإمام أحمد رجلاً يحفظ العلم ثم يتلوه على الناس تلاوة، أو أنه كان أكبر من ذلك؟ مشكلة طلبة العلم، أو بعض أهل العلم في هذه الأيام، أن وظيفته فقط مقتصرة على الحلق، وعلى التعليم، وسرد الأحاديث أو سرد أقوال العلماء وسرد الآراء فقط، يعني: وظيفته فقط كأنه مسجل يتكلم، وبقية من بقي من أهل العلم ليست مهمته فقط سرد العلم على الناس، لا. عن الحسين بن إسماعيل عن أبيه قال: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت. فإذاً هذا هو التكامل المطلوب في صاحب العلم ليس فقط أن يعلم، وإنما يكون قدوة يأخذ الناس من أخلاقه، ومن سيرته، ومن مواقفه، ومن ورعه، ومن زهده، ومن عبادته، وتقواه، وخشوعه لله عز وجل، وهذه خصلة نفتقدها كثيراً في حلق العلم، أنك تجد الواحد يسرد عليك، لكن شخصيته في بيته مع أهله، أو في العمل الذي يعمل فيه مختلفة تماماً.
صور من تواضع الإمام وعدم تطلعه إلى ما مع الناس:(25/10)
وأما تواضعه فكان شيئاً عجيباً، قال يحيى بن معين : ما رأيت مثل أحمد صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير أبداً. وقال عبد الله : كان أبي إذا خرج يوم الجمعة لا يدع أحداً يتبعه. والمشهور أن العالم إذا ذهب إلى مكان سار الناس وراءه، لكن أحمد رحمه الله من تواضعه كان لا يرضى أن يسير وراءه أحد. وربما وقف حتى ينصرف الذي يتبعه. يعني: لو رأى واحداً يتبعه، أو أحس به، فإنه يقف حتى يمضي ذلك الرجل، ثم يمشي بعده، لأن قضية الاتباع تؤثر في نفس المتبوع، ولذلك يقول ابن مسعود رحمه الله ورضي عنه وأرضاه لطائفة من الناس كانوا يتبعونه: [ارجعوا فإنها ذلة للتابع وفتنة للمتبوع]. وكان أيضاً غنياً عما في أيدي الناس، لما خرج إلى عبد الرزاق انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين؛ يشتغل عند أصحاب الجمال الذين ينقلون حتى يحصل نقوداً، إلى أن وصل صنعاء وعرض عليه أصحابه المواساة فلم يأخذ منهم شيئاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان قال: بلغني أن أحمد بن حنبل رهن نعله عند خباز باليمن. يقول إسحاق بن راهويه زميله في الرحلة: كنت مع أحمد عند عبد الرزاق ، وكانت معي جارية وسكنا في الأعلى، وأحمد أسفل البيت، قال: وكنت أطلع فأراه يعمل التكك -وهي الأشياء التي تربط الأزار أو السراويل حتى لا تقع، يعملها ويبيعها ليتقوى بها- ولما وصل إلى عبد الرزاق اطلع على فقر الإمام أحمد ، فدمعت عيناه، فقال: بلغني أن نفقته نفذت، فأخذت بيده، فأقمته خلف الباب وما معنا أحد، فقلت له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها، وأرجو ألا تنفقها حتى يتهيأ شيء -يعني: لعلك ما تصرفها حتى يأتينا شيء آخر نعوضك إذا صرفتها- فقال لي: يا أبا بكر! لو قبلت من أحدٍ شيئاً قبلت منك -يعني: انظر إلى لطافة الرد، كيف يرد، يقول: لا أريد، لكن قال: لو قبلت من أحد شيئاً قبلت منك.(25/11)
وكان ربما أخذ القدوم وخرج يعمل بيده ويبيع. وقال صالح ولده: ربما رأيت أبي يأخذ الكسر ينفض الغبار عنها ويصيرها في قصعة ويصب عليها الماء، ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رماناً ولا سفرجلاً ولا فاكهة، إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنب وتمر، وقال لي: كانت والدتك في الظلام تغزل غزلاً دقيقاً فتبيع الأستار بدرهمين أو أقل أو أكثر، فكان ذلك قوتنا. وقضية الاستغناء الآن ليست حاصلة عند الكثيرين، بل إن كثيراً من النفوس اليوم تتطلع وتتشوق إلى ما في أيدي الناس، وصحيح أن عصرنا يختلف عن عصر أولئك الناس في متطلبات المعيشة، ولذلك لا بأس أن يحرص الإنسان على الكسب، وأن يحرص على المعاش، وإذا كان به طاقة على الصبر على حالات الشدة قد يكون الأفضل الصبر، لكن قد لا يكون للإنسان صبر وقد تكون تعقيدات الحياة كثيرة، والاهتمام بالكسب الشخصي مهم، ولذلك يقول ابن المبارك رحمه الله وكان يشتغل في التجارة فسئل عن سبب اشتغاله، فقال: حتى لا يتمندل بنا هؤلاء. يقصد لو أن الإنسان احتاج وما عنده ولا يصبر فلا بد أن يلجأ إلى غيره، فقد يستغل حاجته بعض السفهاء، وخصوصاً إذا كان يشتغل في وظيفة من الوظائف فيصبح كأنه عبد ذليل للشخص الذي يعمل عنده، أو أنه عبد ذليل ينتظر ماذا يعطى من الراتب مثلاً، ويخشى أن يقطع عنه الراتب، ولذلك التحرر في كسب العيش أمر مهم، وكلما استطعت أن تتحرر ولا ترتبط بالآخرين في كسب العيش، حتى أن الآخرين يحتاجون إليك لا أنت تحتاج إليهم فهذا أحسن، ولكن هذا الوضع صعب الآن، وليس كل الناس يستطيعون الاشتغال بالتجارة، بل قسم كبير منهم في الوظائف، لكن حاول قدر الإمكان حتى لا يتمندل بك أهل السوء، وإذا تمندل بك أهل السوء فإنهم لا بد أن يفرضوا عليك أشياء فيها تنازل عن دينك، أو مواقف مخزية قد تقفها مضطراً لأنك محتاج إلى المال، وكثير من الناس وقعوا في مواقف مخزية بسبب الحاجة.
عظمة أدب الإمام:(25/12)
وأما أدبه رحمه الله مع الناس فقد كان عظيماً، قال حنبل: رأيت أبا عبد الله إذا أراد القيام قال لجلسائه: إذا شئتم. يعني: مع أنه الآن هو الشيخ وهو العالم، لكن إذا أراد أن يقوم قال لجلسائه من التلاميذ: إذا شئتم تسمحوا لي فأمشي. وقال الميموني : كثيراً ما كنت أسأل أبا عبد الله عن الشيء، فيقول: لبيك لبيك. لبيك يعني: المسارعة في الاستجابة للسؤال، مع أن ذلك السائل هو المحتاج، ولكن الإمام أحمد هو الذي يقول: لبيك لبيك، كأنه خادم مطيع عند ذلك السائل.
الحرص على تربية الأولاد:(25/13)
وكان الإمام أحمد رحمه الله لما كان مستغنياً عما في أيدي الناس حريصاً على أن يربي أولاده على هذا الأمر، وهذا شيء قد لا تجده في عامة المشايخ اليوم فضلاً عن عامة الناس، قد يكون الشخص قدوة لكن أهله لا يتأثرون به، ولم يقتبسوا منه هذه الأشياء.. الإمام أحمد رحمه الله كان حريصاً على أن يلقن أولاده مبادئ الاستغناء عن الناس. الإمام أحمد جاءت له فرصة الأموال، وصارت تأتيه من كل حدب وصوب، وصار الناس يعطونه أشياء، حتى لما كان في وقت الشدة كانت تأتيه هدايا من أناس مخلصين، وكانوا يؤكدون له أنها من مال حلال ويقول أحدهم: هذا من إرث أبي، ويقول آخر: عندي اثنا عشر ألف درهم أعطيتك منها كذا (شيء بسيط) فكان يرفض. ومرة كانوا يضعون له شيئاً في البيت، كصرة مال يضعها زائر خفية، فإذا اكتشفها الإمام أحمد أرجعها إليه، وإذا لم يعرف صاحبها فرقها على الفقراء، ومرة دق الباب، يقول ولد الإمام أحمد : دق الباب فتحت الباب فإذا بقصعة من الطعام مملوءة وضعها الرجل ومشى بسرعة، والإمام أحمد كان يجوع في فترات حتى لا يجد شيئاً، حتى أنه ربما اضطر إلى مواصلة الصيام، ما عنده شيء يأكله، فلما أدخل القصعة فرآها الإمام أحمد وقد امتلأت بأنواع الطعام قال: فمكث ساعة يفكر كيف يصنع؟ ثم قال: اذهبوا بهذا إلى بيت عمي، وأعطوا أولاد صالح ، وكان أولاد صالح قد أتت له ذرية وكان فقيراً، فقال: وأعطوا ولد صالح هذا.. وهذا وزعه وما أكل منه شيئاً. وجاءته بعد ذلك أموال في أيام المتوكل الذي رفع المحنة عن الإمام أحمد فكان يرجعها ولا يقبل منها شيئاً، ولو أدخلت عليه بالقوة فرقها. ومرة جاءه مالٌ فرده، بعد سنة واحد من أولاده الذين عاشوا في الفقر، يقول: يا أبتِ لو أخذنا ذلك المال -يعني: لو كنا أخذنا ذلك المال الذي جاءنا قبل سنة- فقال أحمد: لو كنا أخذناه لكان الآن قد فني. وقال صالح : قلت لأبي: إن أحمد الدورقي أعطي ألف دينار، فقال: يا بني! ورزق ربك خيرٌ(25/14)
وأبقى. إذاً.. الإمام أحمد قدوة في تعليم الأولاد، قدوة في تربية الأهل، بعض الناس قد يكون عفيفاً متعففاً، صابراً على الشدة، لكن أهله بخلافه، وما أكثرهم! هو قد يصبر، وقد يحرم نفسه من أشياء كثيرة من متاع الحياة الدنيا، لكن أهله بخلافه لا يصبرون، فإذاً المسألة ليست أن تصبر أنت وأن تعف نفسك فقط، المسألة أن تربي من حولك وخصوصاً الأهل والأولاد على هذه الخصلة.
لطف الإمام مع الصبيان:
وأما لطفه مع الصبيان ومع أهل بيته واهتمامه بهم فكان كبيراً، قال الخلال : قلت لزهير بن صالح : هل رأيت جدك؟ قال: نعم، مات وأنا في عشر سنين، كنا ندخل إليه كل يوم جمعة أنا وأخواتي وكان بيننا وبينه باب، وكان يكتب لكل واحد منا حبتين حبتين من فضة في رقعة إلى فامي يعامله. كان هناك بائع ثوم، كان الإمام أحمد يتعامل معه، وكان أحمد ربما رهن عنده أشياء حتى يأخذ منه أموالاً يعطيها للصبيان فيفرحوا بها، ثم إذا فتح الله عليه بشيء رد المال إلى بائع الثوم.
حرص الإمام على حسن المظهر:
ومع فقره رحمه الله كان نظيف الهندام، قال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني : ما أعلم أني رأيت أحداً أنظف بدناً ولا أشد تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً بشدة بياض من أحمد بن حنبل رحمه الله. قارن هذا وبين واقع الناس اليوم الذين قد يدعون التدين ولكنهم من ناحية النظافة الشخصية في أسوأ الحالات، وربما نفروا من حولهم بسبب عدم اعتنائهم بأنفسهم، وبثيابهم، وبشخصياتهم، فسبَّب ذلك عند الكثيرين انطباعاً سيئاً عن الدين، ولذلك يجب أن يؤخذ الإسلام جملة بلا تفريط وخصوصاً ما يصد عن سبيل الله، هذا ينبغي أن تحافظ عليه على أن تمنع الأشياء التي تصد عن سبيل الله، خصوصاً إذا كنت أنت السبب لا بد أن تراقب نفسك مراقبة شديدة.
محبة الإمام لخمول ذكره:(25/15)
وكان رحمه الله يحب الخمول جداً. والخمول ليس الكسل، وإنما خمول الذكر، أي: لا يحب أن يشتهر بين الناس، وأن يتناقل الناس ذكره أبداً، وكانت مواقفه شديدة من هذا، مع كثرة الإنجازات التي قدمها لهذا الدين. قال المروذي: رأيت طبيباً خرج من عند أحمد ومعه راهب -راهب نصراني- فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله -انظر بلغت منزلة الإمام أحمد أن النصارى تشوقوا لرؤيته- وقال: وأدخلت نصرانياً على أبي عبد الله فقال له النصراني: إني لأشتهي أن أراك منذ سنين، ليس بقاؤك صلاحاً للمسلمين وحدهم بل للخلق أجمعين، وليس من أصحابنا أحدٌ إلا وقد رضي بك، فقلت لأبي عبد الله : إني لأرجو أن يكون يدعا لك في جميع الأمصار، فقال: يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه فما ينفعه كلام الناس. انظر! سبحان الله العظيم! يقول: إذا كنت أعرف قدر نفسي فماذا ينفعني كلام الناس وأنهم يدعون لي ويذكروني، وأنا أعرف نفسي أني لست بهذه المنزلة؟! وهو أعلى من هذه المنزلة. وقال عباس الدوري : حدثنا علي بن أبي فزارة جارنا قال: كانت أمي مقعدة نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي، فأتيت فدققت عليه وهو في دهليزه، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب، فقال: نحن أحوج أن تدعو الله لنا، فوليت منصرفاً، فخرجت عجوزٌ فقالت: قد تركته يدعو لها -رأته ذهب غاضباً، فقالت: قد تركته يدعو لها- انظر الآن واحد يقول للناس ويعلمهم يقول لهم هذا ولكنه في نفس الوقت يدعو لها (من استطاع أن ينفع أخاه بشيء فلينفعه) بدعاء، برقية، فجئت إلى بيتنا ودققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي!! استقبلته!! وبالمناسبة فإنه يجب أن نكون حذرين في الروايات، فنحن لا نريد أن نرفع الناس فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها، ونبالغ، والمبالغة خطيرة جداً؛ لأنها تفقد واقعية الشيء، خصوصاً من الناس المفكرين، إذا(25/16)
أنت الآن جلست تسرد على الناس أحاديث ضعيفة مقتوك، لذلك الحافظ الذهبي رحمه الله كان ينقد الروايات.. مثلاً في رواية تقول: لما مات الإمام أحمد أسلم يوم موته من اليهود والنصارى عشرون ألفاً. لما تقول هذا الكلام قد يقول الناس: يا الله! إعجاباً، لكن الإمام الذهبي رحمه الله يقول: وهذه الحادثة لا يمكن أن تكون قد وقعت، ولم يروها إلا شخص واحد، ولو كانت وقعت لتوافرت الهمم والدواعي على نقلها، فلما لم ينقلها إلا واحد شككنا في صحتها، مع إعجاب الذهبي الشديد بالإمام أحمد ، فأنا أنبه أثناء العرض هنا أن ليس المقصود أن نأتي بأشياء نهول فيها ونضخم ونكذب، ولكن الأشياء التي أتى بها النقاد فأقروها وسكتوا عليها ولم يتعقبوها تذكر، والإمام أحمد لا يستبعد منه أبداً أن يحصل هذه الكرامة، لا يستبعد أبداً أن يكون مجاب الدعوة وحياته هذه الحياة. وقال المروذي : قلت لأبي عبد الله : ما أكثر الداعي لك، ما أكثر الناس الذين يدعون لك، قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً. وقلت له: قدم رجل من طرسوس فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء، وكنا نمد المنجنيق ونرمي به عن أبي عبد الله -يعني: لا ينسون من محبة الناس للإمام أحمد ، حتى المجاهدين يرمون المنجنيق ثم يقولون: هذه رمية عن الإمام أحمد - ولقد رمي عنه بحجر والعلج على الحصن متترس بدرقة فلما رموا الحجر فذهب برأسه وبالدرقة، قال: فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً. أي: ليت هذا لا يكون استدراجاً حتى أنا أغتر من هذا الكلام وأخرج عن التقوى. وعن عبد الله بن أحمد قال: حدثنا أبي وذكر عنده الشافعي رحمه الله فقال: ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه. أحمد يقول عن الشافعي : ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه، نحن استفدنا منه أكثر، ومع ذلك عبد الله ولد الإمام أحمد يقول: كل شيء في كتاب الشافعي حدثنا الثقة فهو عن أبي. هذه قضية مهمة في كتاب(25/17)
الشافعي . الشافعي له مسند إذا قال: حدثنا الثقة -يعني أحمد بن حنبل - ما استعمل لفظ الثقة بدون اسم إلا للإمام أحمد . وقال المروذي : وذكر لأحمد أن رجلاً يريد لقاءه، فقال: أليس قد ذكره بعضهم أليس اللقاء شيء بغيض يتزين لي وأتزين له؟ وقال: لقد استرحت ما جاءني الفرج إلا منذ حلفت ألا أحدث، وليتنا نترك، فقلت له: إن فلاناً قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها وإنما زهد في الناس أيضاً، قال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ.
هروب الإمام من الشهرة:(25/18)
وقال: أريد أن أكون في شعب بمكة حتى لا أعرف، قد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساء. انظر الإمام أحمد يقول: بليت بالشهرة على أساس، والآن بعض الناس ابتلوا بالشهرة على غير أساس، فعلاً، الآن بعض الناس تسلط عليهم الأضواء، وقد يفتون في الصحف وفي الجرائد وفي المجلات، تطلع أصواتهم أنهم على شيء من الدين، وأنهم من أهل الفتوى، ويتصدرون ولكن على غير أساس، فهذا الإمام أحمد يقول: ابتلينا بالشهرة، ويعتبر أن هذا ابتلاء من الله، وهو الرجل الذي يستحق أن يشتهر، فكيف ببعض الناس اليوم الذين ابتلوا بالشهرة على غير أساس. والشهرة مشكلة؛ لأنها تعدم الإخلاص إعداماً، فإنك: عندما ترى الناس يسيرون بذكر فلان وقصة فلان، وبعضهم يؤلفون القصص لرفعه، فيقولون مثلاً: فلان يحفظ كذا وكذا، فلان تتلمذ على يد فلان وفلان من العلماء، هو إذا سمع بذلك قد يسر ولا ينفي مع أن هذا كذب ويشتهر، ولكن هؤلاء سرعان ما يأفل نجمهم سريعاً، ولكن لا يبقى على مر العصور وعلى مر الأزمان إلا الناس الذين اشتهروا فعلاً على أساس من تقوى الله ورضوانه. الواحد قد يضيق ذرعاً ببعض الأسماء اللامعة في الأفق وهي على غير شيء، ويقول: إنهم يذكرون صباحاً ومساء، ولكن يا أخي تخيل بعد مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة كيف يكون؟ اقرأ التاريخ، بعض الناس في وقت من الأوقات كانوا مشهورين جداً لكن بعد ذلك طوى الدهر صفحاتهم.. بعض الناس تقال لهم عبارات المديح ويسكتون وهم لا يستحقونها، الإمام يقال له عبارات الثناء وهو يستحق أكثر منها وكان لا يسكت، يقتدي به الإنسان، فيعرف إذا أثني عليه ماذا يقول، وكيف يكون موقفه، بل إن الواحد ليستحقر نفسه وهو لم يبلغ مبلغ شيء في الدين ويثنى عليه، ومن هو بجانب الإمام أحمد؟ وهذه فائدة تربوية مهمة، فمن أخطر الأشياء أن تثني على شخص في وجهه، حتى لو كان رجل دين تقياً وورعاً، إذا أثنيت عليه في وجهه فكأنك قطعت عنقه، ولذلك نهى الرسول صلى(25/19)
الله عليه وسلم عن المدح في الوجه، وقد تفسد نيته وإخلاصه بمدحك له، ولذلك يا أخي وفر مدحك قليلاً، وفر الثناء قليلاً، اثن عليه إذا كان من أهل الخير لكن ليس في وجهه، وكثير من الناس وصلوا إلى الغرور ووقعوا في الهاوية، لأنه يثنى عليه في وجهه، فيصيبه الغرور ويدخله الكبر، ويقول: أنا أذكر، وأنا شأني مشهور، وأنا يعرفني فلان وفلان، وأنا كلماتي وصلت إلى تلك الأنحاء، فلذلك احذر من الثناء على واحد في وجهه. وقال الخلال : أخبرنا علي بن عبد الصمد الطيالسي قال: مسحت يدي على أحمد بن حنبل وهو ينظر فغضب وجعل ينفض يده ويقول: عمن أخذتم هذا؟ أي: ممن تعلمتم هذه التصرفات؟ وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله ذكر أخلاق الورعين، فقال: نسأل الله ألا يمقتنا.. أين نحن من هؤلاء؟! والإمام أحمد من أورعهم. وقال المروذي : أدخلت إبراهيم الحصري على أبي عبد الله ، وكان رجلاً صالحاً، فقال: إن أمي رأت لك مناماً وهو كذا وكذا وذكرت الجنة. يقول: أمي رأت لك مناماً يا أحمد في أشياء وذكرت الجنة، فقال: يا أخي إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا فخرج إلى سفك الدماء، كان الناس يخبرونه بمثل هذا فصار أمره إلى أن سفك الدماء. الرؤيا تسر المؤمن ولكن لا تغره.
حرص الإمام على التربية الإيمانية:(25/20)
وقد كان الإمام أحمد رحمه الله بالإضافة إلى ذلك حريصاً على تربية طلبة العلم على الإيمان، وعلى تعويدهم على الطاعات بالإشارة. فأن ترتقي بشخص مثلاً في إيمانه، وكيف تجعله أخشى لله وأتقى وأورع، هذه مسألة صعبة جداً؛ لأن الخشية في القلب بالقدوة لا بالقول، ولذلك الناس لا يصلحون في هذا الجانب إلا بالتربية وبالقدوة، وهذا مثال كيف كان الإمام أحمد رحمه الله يربي الناس على هذا.. عن عاصم بن عصام البيهقي قال: بت ليلة عند أحمد بن حنبل ، فجاء بماء فوضعه، فلما أصبح جاء الإمام أحمد ونظر إلى الماء بحاله فقال: سبحان الله رجل يطلب العلم لا يكون له ورد بالليل!! فهو قد وضع له الأداة التي يقوم بها الليل، فلما رآه لم يقم عاتبه بلطف. وكان الإمام أحمد رحمه الله شديد الاتباع للسنة جداً، حتى أنه مرة احتجم وأعطى الحجام ديناراً، وقال: لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً. وعن إبراهيم بن هانئ النيسابوري قال: كان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان عندي. الإمام أحمد جاءت عليه فترة في زمن الواثق اختبأ فيه من السلطان، فاختبأ عند إبراهيم بن هانئ النيسابوري ، ولما يكون الإنسان له أصدقاء في الخير وله أعوان في الخير فإنه يستفيد منهم في لحظات الشدة، ولذلك اختبأ عنده الإمام أحمد رحمه الله في وقت الشدة، فذكر من اجتهاده في العبادة أشياء، وقال: وكنت لا أقوى معه على العبادة، وأفطر يوماً واحداً واحتجم. وقال عبد الله بن أحمد ذاكراً عبادة أبيه: كان أبي يقرأ كل يوم سُبعاً -يعني: يختم القرآن في سبعة أيام- وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح ويصلي ويذهب، ويقول: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويخفيه، ويصلي بين العشائين، فإذا صلى عشاء الآخرة ركع ركعات صالحة، وكانت قراءته لينة، ولا يترك صوم الإثنين والخميس وأيام البيض. وقال زهير بن صالح: حدثنا أبي(25/21)
قال: سمعت أبي كثيراً يتلو سورة الكهف، وكثيراً ما كنت أسمعه يقول: اللهم سلم سلم. والدعاء باللهم سلم سلم ورد في دعاء الأنبياء عندما يجوز كل نبي بأمته على الصراط المضروب على متن جهنم، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ودعاء الأنبياء يومئذٍ: اللهم سلم سلم) وقد بلغ من عبادته أنه ما تركها وهو في السجن، بل إنه قال: كنت أصلي بأهل السجن وأنا مقيد. وقال المروذي : كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: هان علي كل أمر الدنيا إذا ذكرت الموت إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنما هي أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئاً، ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر.
سبب ترك الهجران والاعتزال:(25/22)
الإمام أحمد رحمه الله كان يمكن أن يخرج حتى لا يكون له ذكر ويختفي عن أعين الناس كما يفعل كثير من المتصوفة ، كما كان ابن القيم رحمه الله في بادئ الأمر، ابن القيم رحمه الله يقول: استأنست عند الذئب إذ عوى، وإذا صاح صائح طرت مع الصيحة فرحاً. يعني: يذكر حاله يقول: أني كنت أستأنس بصياح الذئاب؛ لأنه كان رحمه الله في بادئ أمره متصوفاً من المتصوفة ، وكان يخرج إلى الفلوات والبراري مثل الصوفية ، ويعتزل الناس، والصوفية كانوا يستأنسون بعواء الذئب إذا ذهب واحد منهم في البرية وجلس بعيداً عن الناس وخلا، وإذا صاح الصائح بالذكر في حلق الذكر المبتدعة التي عندهم طار قلبه من الصيحة، ولكن بعد ذلك قيظ الله له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فاهتدى على يديه، فرحمه الله به وهداه إلى الشريعة. لماذا كان الإمام أحمد لم يخرج إلى خارج البلاد ويسكن في الصحراء ويعتزل الناس؟ هو يتمنى هذا الكلام، لماذا لم يفعله؟ لأن الناس يحتاجون إليه، لأن موقعه بين الناس موقع مهم، لأن عزلته عن الناس فيها ضرر على نفسه وعلى الناس، والإنسان المؤمن كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أحسن وأفضل من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم) والاعتقاد الموجود عند البعض بأن على الإنسان أن يخرج عن المجتمع ويعتزل الناس أحسن له في الدين اعتقادٌ خاطئ؛ لأنه سيضعف، لكن الذي يعيش المحنة يقوى عوده ويصمد، إلا في حالة واحدة، إذا كان آخر الزمان، وصارت الفتنة شديدة جداً بحيث أن الرجل لا يحتمل القعود، ولو قعد لفتن في دينه، فعند ذلك لا بد من الخروج، وقد يحصل حالات من هذا في بعض البلدان، فيترتب على المسلم أن يخرج؛ لأنه لو جلس واستقر لفتن في دينه، ونكص وارتد على عقبيه، فتكون السلامة في الخروج. قال أبو داود : كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط. وعن المروذي قال: قلت لأحمد(25/23)
: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربه يطالبه بأداء الفرائض، ونبيه يطالبه بأداء السنة، والملكان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟!!
عفو الإمام عمن ظلموه:
وقال ابن أبي حاتم ، هذا الإمام أحمد رحمه الله كان من الأشياء التي اشتهر بها أن يعفو عمن ظلمه، والذين ظلموا الإمام أحمد كثيرون جداً، وظلمهم ليس بالسهل، وكان ممن ظلمه المعتصم، حتى أنه كان يأتي بالجلاد والإمام أحمد ممدود على الأرض قد علق، ويقول للجلاد: اضرب، ثم يقول: شد قطع الله يدك، يقول للجلاد، فيضربه سوطين بقوة، ثم يأتي الذي بعده.. يقف الجلادون صفاً يضربون الإمام أحمد ، قال أحدهم: لقد ضربت أحمد ثمانين سوطاً لو ضربتها فيلاً لهدته. الإمام أحمد رحمه الله مع كل هذا الظلم، قال ابن أبي حاتم : بلغني أن أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حلٍ يوم فتح عاصمة بابك وظفر به أو في فتح عمورية . لأن من حسنات المعتصم أنه فتح عمورية ، فلما فتح عمورية عفا عنه الإمام أحمد ، ولما أمسك ببابك ، وهذا بابك زعيم الخرمية طائفة من الملاحدة وكان لهم عاصمة وصارت لهم شوكة، لما قاتلهم المعتصم وظفر بهم قال الإمام أحمد : هو في حل من ضربي. مع أنكم ستسمعون بعد قليل كيف ضربه. وقال ابن جماعة : سمعته يقول؛ الإمام أحمد : كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعاً -المبتدع لا أحله- حتى يرجع من البدعة. وقال: وقد جعلت أبا إسحاق المعتصم في حلٍ ورأيت الله يقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم يوم القيامة بسببك؟! والناس اليوم حتى من طلبة العلم وبعض الدعاة قد يظلمون، وقد يساء إليهم جداً، ولكنهم قد يحملون في أنفسهم حقداً وغلاً، يحملون في أنفسهم أقل شيء سخطاً على من ظلمهم، ولكن المقتدي المتأسي بالإمام أحمد رحمه الله يرى(25/24)
العفو عن الظالم إذا رجع عن ظلمه للناس وعن بدعته، والعفو عند المقدرة من الأشياء التي تؤثر في الظالم جداً، وتجعله في صفوف الصلحاء، وكثيرٌ من الناس الذين عفا عنهم الإمام أحمد قد تحسنت أحوالهم جداً. وقد كان الإمام أحمد رحمه الله ورعاً غاية الورع، ما أحوجنا إلى الورع في هذا العصر الذي كثرت فيه الشبهات، في الأموال والرواتب، وكثير من الوظائف، وكثير من المدخولات، كثر فيها الحرام وكثرت فيها الشبه، والمأكولات كثرت فيها كثيراً. قال بعضهم: لقد حضرت من ورعه شيئاً بمكة أنه أرهن سطلاً عند فامي -بائع الثوم- فأخذ منه شيئاً ليقوته -أعطاه السطل رهناً وطلب شيئاً ليأكله - فجاء يوماً من الأيام فأعطاه فكاكه، فأخرج إليه الفامي سطلين فقال: انظر أيهما سطلك؟ فقال الإمام أحمد : لا أدري، ثم إن الإمام أحمد قال: أنت في حل منه -لأنه يخشى لو أخذ واحداً منهما ألا يكون سطله- وما أعطيتك الآن من المال فكاك السطل هو لك، قال الفامي: والله إنه لسطله وإنما أردت أن أمتحنه فيه، ولكن مع ذلك لما أخبره رفض الإمام أحمد أن يأخذه. وقال: قال أحمد بن محمد الدستوري : ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها، فبعث إلى صديق له فاقترض منه دقيقاً فجهزوه بسرعة، لاحظ الإمام أحمد أن الخبز جهز بسرعة فقال: كيف ذا؟ قالوا: تنور صالح مسجر -ولده صالح كان عنده تنور، وكان التنور هذا ساخن أصلاً، ولذلك نضج الخبز بسرعة- فخبزنا فيه، فقال: ارفعوا، وأمر بسد بابٍ بينه وبين صالح ، قال الذهبي: لكون صالح قد أخذ جائزة المتوكل. وكان قد أعطى أحمد وأولاده، فالإمام كان متورعاً عن المال الذي جاء من المتوكل في يد ولده صالح ، حتى أنه ما رضي أن يأكل من الخبز الذي خبز في تنور ولده.
شهادة الإمام على الناس بالحق:(25/25)
ونأتي الآن أيها الإخوة إلى نقطة مهمة من النقاط؛ وهي أن الإمام أحمد على ورعه وعلى خوفه من الظلم كان إذا طلبت منه الشهادة في أشخاص معينين أتى بها، وبعض الناس اليوم قد يسأل عن فلان من الناس، وهذا فلان قد يكون ذائع الصيت وقد يكون مشهوراً، وفلان هذا له أخطاء، وقد يتأثر السائل بأخطائه، يقول: لا، أنا أتحرج أن أتكلم، ولا أستطيع أن أطعن بأناس عظماء، هؤلاء ناس منهم من عذب في ذات الله، ومنهم من ابتلي، أنا لا أستطيع أن أتكلم فيهم، الإمام أحمد رحمه الله كان لا يمنعه ورعه أن يشهد بالحق على الناس، ولما طلب منه تعيين أسماء للقضاء هل تصلح أو لا تكلم عليها بما تستحقه. سئل أحمد بن حنبل عن أحمد بن رباح فقال فيه: جهمي معروف بذلك، وإنه إن قلد شيئاً من أمر المسلمين كان ضرراً على المسلمين؛ لما هو عليه من مذهبه وبدعته، وسئل عن ابن الخلنجي فقال فيه أيضاً مثلما قال في أحمد بن رباح ، وذكر أنه كان من شرهم وأعظمهم ضرراً، وسألته عن شعيب بن سهل ، فقال فيه: جهمي معروف بذلك، وسألته عن المعروف بأبي شعيب فقال فيه: إنه جهمي معروف بذلك، وسألته عن ابن الثلجي فقال: مبتدع صاحب هوى، وابن الثلجي هذا حنفي دافع عنه زاهد الكوثري في بعض كتبه، وزاهد الكوثري من أعيان المبتدعة في هذا العصر، وقد مات، وتأثر به كثيرون، فدافع عن ابن الثلجي وقال: لعل طعن أحمد فيه مشكوك فيه، ولعل الرواية فيه غير صحيحة وهذا ليس بكذا.. لماذا؟ دفاعاً عن المبتدعة، والإمام أحمد يقع فيهم. فإذاً، منهج الورع لا يمنع أن يقول الإنسان بالعدل وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152] والإنسان إذا طَلَبَ رأيك في شخص وأنت تخاف أن يتأثر به هذا السائل فلا بد أن تبين له السلبيات التي هي فيه، وهذه المسألة فيها مزلقٌ خطير، يعني: بعض الناس يُسأل عن شخص، وهذا الشخص فيه عيب لكن لا يتأثر به كأن يكون عيباً خفياً، يعني: واحد عنده أخطاء لكن لا يتأثر الناس بها؛ لأن(25/26)
أخطاءه في بيته أو في شخصه، فيأتي واحد يقول: فلان فيه كذا وكذا وكذا، تقول: يا ابن الحلال اتق الله لماذا تطعن في فلان؟ يقول: الجرح والتعديل، فصار باب الجرح والتعديل مفتوحاً على مصراعيه كل واحد يتكلم كيف يشاء، وأحياناً تجد الناس بين إفراط وتفريط، إما أن تجده يطعن في أناس صالحين، أو يذكر سلبيات لا داعي لذكرها ولا حاجة لذكرها، أو تجد واحداً يسكت على فلان وعلى أخطائه ولا يغير، ولا يعترف بخطئه؛ لأنه يقدس ويعظم هذا الشخص، كلاهما بلية ابتلي بها كثيرٌ من المسلمين، وحتى من الناس الذين يدعون القيام بدين الله وحمل لواء الإسلام. وعن عبد الله بن محمد الوراق قال: كنت في مجلس أحمد بن حنبل فقال: من أين أقبلتم؟ قلنا: من مجلس أبي كريب ، فقال: اكتبوا عنه الحديث فإنه شيخ صالح، فقلنا: إنه يطعن فيك -يعني يتكلم عليك- قال: فأي شيء حيلتي شيخ صالح قد بلي بي، أي: ابتلاه الله عز وجل بأن يطعن علي ماذا أفعل له، لكن اكتبوا حديثه، هل هناك عدل مثل هذا؟ مقارنة بكثير من المسلمين اليوم قد تجد اليوم واحداً من الناس إذا سئل عن فلان وقد يكون عالماً، أو من أهل العلم، أو طالب علم ينفع الناس، فيقول: لا، لا تأخذ عنه حرفاً، ولا تحضر مجالسه، ولا تستمع له! وذلك لأن بينه وبينه خلافات شخصية! نقول: حتى لو كنت محقاً في خلافاتك الشخصية مع هذا الرجل، لكن العدل أن تقول للناس: اسمعوا له، واحضروا له، حتى لو كان بينك وبينه خلاف شخصي، ما دام أنه لا يقول ببدعة، ولا يدعو الناس إلى بدعة، وليس عنده أخطاء في الأصول، أو ليس عنده أشياء يضل الناس بها، أو يفتي بغير علم.
صورة من فقه الدعوة والحركة:(25/27)
وكان من طريقة الإمام أحمد رحمه الله في باب الدعوة إلى الله، ما قاله أبو بكر المروذي قال: كان الإمام أحمد رحمه الله إذا بلغه عن شخص صلاحٌ، أو زهد، أو قيام بحقٍ، أو اتباع للأمر -يعني للسنة والجماعة- سأل عنه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله. وهذا المنهج من الإمام أحمد رحمه الله في الدعوة والحركة مهم جداً، مهم جداً أن الإنسان المسلم إذا سمع بشخص فيه صلاح وتقوى، واتباع للسنة أن يتعرف عليه، وأن يستفيد منه، ونظم هؤلاء في سلك واحد مما يقوي دين الإسلام جداً؛ لأنه يجمع الجهود ويوجهها، ولذلك فإن كثيراً من الناس فيهم من الصلاح أشياء كثيرة، لكنهم متفرقون لا ينظمهم سلكٌ واحد، لو جاء إنسانٌ قدوة، فجمع هؤلاء ووجه طاقاتهم إلى الخير، واستثمر ما لدى هذا ولدى هذا من الأشياء لانتفع الإسلام جداً، الإمام أحمد رحمه الله كان يحاول أن يعرف أصحاب الطاقات في المجتمع الذين فيهم خير وصلاح، وفيهم دين، واتباع للسنة، يجري بينه وبينهم معرفة، فيستفيد الإسلام من هذه الجهود المتكاتفة. وكان رحمه الله يعمق التصورات الإسلامية المهمة في الناس، فمثلاً: يدعو الناس إلى اتباع الكتاب والسنة، والإقبال عليهما، ويبين للناس خطورة رد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه بلغ من أمره في هذا أنه نهى الناس عن كتابة الرأي، يعني: كتابة الآراء، وأمرهم أن يقتصروا على الآثار، لخوف الإمام أحمد رحمه الله أن يترك الناس الكتاب والسنة ويتعلقوا بأقوال الرجال، ولذلك كان كتب أقوال بعض الرجال ثم تخلص من كتبه، وسأله رجل: أكتب كتب الرأي؟ قال: لا، قال: فابن المبارك قد كتبها، قال: ابن المبارك لم ينزل من السماء، إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق. يعني: القرآن والسنة؛ لأنه وحي من عند الله.
تخفي الإمام وفقاً للسنة:(25/28)
وكان من شدة اتباعه للسنة ما قاله إبراهيم بن هانئ : اختفى أبو عبد الله ثلاثاً، ثم قال: اطلب لي موضعاًُ وأتحول إليه، قلت: لا آمن عليك، قال: افعل، فإذا فعلت أفدتك، فطلبت له موضعاً، فلما خرج قال: اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول، فأنا أختبئ عندك ثلاثة أيام ثم أتحول. طبعاً هذا الشيء يعتمد على الظروف والمناسبات؛ لأنه قد لا يجد الإنسان مكاناً آخر، ولكن إذا وجد وهو في جو المحنة فيكون من المناسب أن لا يمكث في مكان واحد فترة طويلة؛ لئلا يكتشف أمره فيتحول، لو جلس الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار مدة طويلة ربما اكتشفوا أمره، فهو جلس المدة التي خف فيها الطلب ثم تحول.
تعامل الإمام مع أهل البدع:(25/29)
وكان الإمام أحمد رحمه الله حريصاً على أن يعرف أهل البدع ويكتشف أمرهم بنفسه، من باب التثبت ليحذر الناس منهم، وهذه القصة دليل على ذلك، وهذه القصة مهمة ينبغي أن تعقلوها جيداً، وأن نفكر فيها يا إخواني جميعاً: سمعت إسماعيل السراج يقول: قال لي أحمد بن حنبل يوماً، أي: قال الإمام أحمد لإسماعيل السراج : بلغني أن الحارث يكثر الكون عندك -يأتيك كثيراً- فلو أحضرته منزلك وأجلستني من حيث لا يراني، فأسمع كلامه فقلت: السمع والطاعة لك يا أبا عبد الله ، وسرني هذا الابتداء من أبي عبد الله -انظر الآن الإمام أحمد هو الذي يبحث، وهو الذي ينقب، هو الذي يتثبت، ما يأتي واحد يقول له: عندي مبتدع فأخبرني رأيك فيه، بل هو الذي يبحث- ففعل الرجل ودعا الحارث المحاسبي وجماعة من المعجبين بالحارث المحاسبي، فحضر الإمام أحمد وصعد في غرفة في الدار، واجتهد في ورده إلى أن فرغ، وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا، ثم قاموا لصلاة العتمة -العشاء- ولم يصلوا بعدها وقعدوا بين يدي الحارث وهم سكوت لا ينطق واحد منهم إلى قريب من نصف الليل، فابتدأ واحد منهم وسأل الحارث المحاسبي ، فأخذ الحارث في الكلام وأصحابه يستمعون كأن على رءوسهم الطير، فمنهم من يبكي، ومنهم من يحن، ومنهم من يزعق في كلامه -وهذا شأن بعض المتصوفة - ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا، فقاموا وتفرقوا، فصعدت إلى أبي عبد الله وهو متغير الحال، فقلت: كيف رأيت هؤلاء يا أبا عبد الله ؟ فقال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل، وعلى ما وصفت من أحوالهم فلا أرى لك صحبتهم، ثم خرج. ناس يجلسون بعد العشاء ما يصلون الليل يزعمون أنهم يذكرون الله، يجلسون صامتين هكذا إلى نصف الليل، وبعد ذلك واحد يذكر ويتكلم وناس يزعقون، والزعق هذا ما كان عند الصحابة ولا عند التابعين، فالإمام أحمد قال: ما أرى لك صحبتهم مع أن ظاهرهم الخير، لذلك كثير من الناس في هذه الأيام(25/30)
يخدعون ببعض المبتدعة من أهل الشر، لأنهم يرونهم يبكون، ويكثرون من ذكر الهل ويزعقون، فيقول: هذا من أولياء الله، وهو في الحقيقة من المبتدعة في دين الله، فإذاً التثبت في أحوال هؤلاء أمر مهم، أمر مطلوب حتى يعرف حالهم فيجتنبوا، وحتى يكون الإنسان على بصيرة. ومن منهج الإمام أحمد رحمه الله اعتزال أهل البدع، وهذه قضية مهمة، تمس الحاجة إليها في هذه الأيام؛ قال المروذي : لما أظهر يعقوب بن شيبة الوقف حذر منه أبو عبد الله وأمر بهجرانه، أمر الناس بتركه، أي: الوقف في قضية خلق القرآن بعض الناس قالوا: القرآن مخلوق، بعض الناس قالوا: لفظي بالقرآن مخلوق، وهؤلاء أيضاً مبتدعة، وبعضهم قالوا: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق؛ هؤلاء الواقفة ، فالإمام أحمد بدع الواقفة ، ونهى عن الصلاة وراءهم، وأمر بهجرهم، ولا عليه فلان كبير صغير، مشهور مغمور؛ ما دام أنه وقع في البدعة وما رجع منها حذروا الناس منه.
تعامل الإمام مع أهله:
ومن الأمور المهمة التي يقتدى فيها بالإمام أحمد رحمه الله علاقته بأهله، فقد كانت علاقته بهم طيبة جداً، فقال المروذي : سمعت أبا عبد الله ذكر أهله فترحم عليها -لأن زوجته ماتت قبله- فقال: مكثنا عشرين سنة ما اختلفنا في كلمة. رجل يجلس مع زوجته لا يختلف معها في كلمة، هذا شيء ليس سهلاً، ولكن هذا الرجل رحمه الله بلغ عدله ورفقه حتى في أهل بيته حتى ما اختلف معهم في كلمة.
صمود الإمام في وجه الطغيان:(25/31)
ومن أشهر الأشياء: صموده في وجه الطغيان، الإمام أحمد رحمه الله الشيء الذي فعله في وجه الطغيان ليس بالأمر السهل. قال صالح: قال أبي: لما جيء بالسياط نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها -هاتوا أشد منها- ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إلي الرجل منهم فيضربني سوطين، فيقول له: شد قطع الله يدك، ثم يتنحى ويتقدم آخر فيضربني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شد قطع الله يدك، فلما ضربت سبعة عشر سوطاً قام إليَّ المعتصم ، فقال: يا أحمد ! علام تقتل نفسك؟ انظروا الآن الفتنة عن الدين كيف تكون بالترهيب والترغيب، أول شيء حملوه فرفض، سجنوه رفض، ضربوه، ثم قال له المعتصم: لماذا تقتل نفسك؟ واحد يقول: شد قطع الله يدك، ثم يأتي ويقول: لماذا تقتل نفسك؟ إني والله عليك لشفيق، وجعل عجيف -وهو رجل من أعوان الظلمة- ينخسني بسيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ في وجود المعتصم وأعوانه وجنوده وعساكره وأحمد بن أبي دؤاد ومن معه من المعتزلة يناظرون الإمام أحمد وهو يرد عليهم، وجعل بعضهم يقول: ويلك! إمامك على رأسك قائم يقصد الخليفة، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين! اقتله ودمه في عنقي، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين! أنت صائم وأنت في الشمس قائم أرح نفسك منه، فقال لي: ويحك يا أحمد ما تقول؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسوله أقول به، فرجع فجلس، ثم قال للجلاد: تقدم وأوجع قطع الله يدك، ثم قام الثانية وجعل يقول: ويحك يا أحمد أجبني، فجعلوا يقبلون عليه ويقولون: يا أحمد إمامك على رأسك قائم، وجعل أحدهم يقول: من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟! حتى يخذلونه، يقولون: من الذي من أصحابك وقف مثل موقفك؟! لا أحد وقف فلماذا أنت تقف؟ والمعتصم يقول: أجبني إلى شيءٍ لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي، ثم رجع وقال للجلاد: تقدم، فجعل يضربني سوطين ويتنحى، وهو في خلال ذلك يقول: شد قطع الله يدك، فذهب عقلي، ثم أفقت بعد ذلك، فإذا(25/32)
الأقياد قد أطلقت عني، فقال لي رجل ممن حضر: كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارية -يعني حصيراً- ودسناك، قال أبي: فما شعرت بذلك -لأنه كان قد أغمي عليه- وكاد أن يموت من هذا الدوس على جسده، ولكن الله أنجاه. فإذاً تعرض الإمام أحمد أيها الإخوة لشتى أنواع الطغيان، ضرب، جلد، حبس، داسوه، سبوه، لعنوه، شتموه، جمعوا عليه الأجناد والحراس، حتى في منظر قال: لما دخلت قصر المعتصم رأيت أجناداً قد أشهروا السلاح ما رأيتهم من قبل، ولكن مع ذلك صمد صموداً ما صمده أحدٌ ولذلك صار إمام أهل السنة، واستحقها بلا منازع.
قوة حجة الإمام في فتنة خلق القرآن:(25/33)
وكانت حجته قوية، وهذا شيء مهم جداً للذي يواجه في خط النار، الذي في خط المواجهة لا بد أن يكون عنده حجة، وهذا يبين أهمية العلم في وقت المحنة، قال صالح بن أحمد: قال أبي: كان يوجه إلي كل يوم برجلين أحدهما يقال له: أحمد بن أحمد بن رباح ، والآخر أبو شعيب الحجام فلا يزالان يناظراني في السجن حتى إذا قاما دعي بقيد فزيد في قيودي، فصار في رجلي أربعة أقياد، فلما كان في اليوم الثالث دخل علي فناظرني فقلت له: ما تقول في علم الله؟ قال: مخلوق، قلت: كفرت بالله، فقال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم الوالي: إن هذا رسول أمير المؤمنين كيف تكفره؟ فقلت: إن هذا قد كفر، فلما كان في الليلة الرابعة وجه المعتصم ببغى الكبير إلى إسحاق فأمره بحمله إليه، فأدخلت على إسحاق ، فقال: يا أحمد ! إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آن إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يقتلك في موضعٍ لا يرى فيه شمس ولا قمر، أليس قد قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً [الزخرف:3] -انظر الآن يحتجون على الإمام أحمد ، يقولون: الله يقول جعلناه قرآناً عربياً، وجعل بمعنى خلق، جعل الأرض وجعل السماوات- فإذا كان مجعولاً أفلا يكون مخلوقاً؟! فقلت: قد قال الله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5] أفخلقهم؟! فجعل ليست دائماً بمعنى خلق، قد تكون بمعنى صير، فكانت حجته قوية، ثم قال له المعتصم: ناظروه وكلموه، يا عبد الرحمن كلمه! فقال: ما تقول في القرآن؟ قلت: وما تقول أنت في علم الله؟ فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قد قال الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] والقرآن أليس شيئاً؟! قلت: قال الله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف:25] أفدمرت كل شيء موجود؟ ما دمرت إلا ما أراد الله، فقال بعضهم: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2] أفيكون محدثاً إلا وهو مخلوق؟ فقلت:(25/34)
قال الله: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1] فالذكر المقصود به القرآن فيه ألف ولام وتلك ليس فيها ألف ولام، والمقصود بمحدث يعني لأنه كان ينزل حديث عهدٍ بربه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الذكر) فقال الإمام أحمد : هذا خطأ حدثنا غير واحد: (إن الله كتب الذكر) انظر حتى يكتشف التحريفات، يحرفون الأحاديث، ولكن يقول: هذا خطأ، الصحيح: (إن الله كتب الذكر) واحتجوا بحديث ابن مسعود : (ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي) وهذا طبعاً حديث موضوع.. فبينه لهم وهكذا.. قال صالح : جعل ابن أبي دؤاد ينظر إلى أبي كالمغضب، قال أبي وكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين! هو والله ضال مضل مبتدع -يعني: لما يفحمهم الإمام أحمد يطلع رئيسهم ويقول: هذا ضال وما عندهم إلا هذه الكلمة، وهذه حال بعض الناس، تناقشه وترد عليه وإذا أفحمته، قال: أنت غلطان.. أنا لا أسمع منك، أنت على باطل أنت كذا، وما عنده حجة، اتهامات فقط حتى يسكت- وكلما ناظروه يقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله حتى أقول به، حتى قال أحمد بن أبي دؤاد : أنت لا تقول إلا ما في الكتاب والسنة؟ -يعني يريد ابن أبي دؤاد أن يقول: ما عندك إلا الكتاب والسنة ما عندك غيرها؟ وكان يبصر الناس بالحق ويثبتهم عليه، سمعت ابن أبي أسامة يقول الراوي: حكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة: يا أبا عبد الله ! أولا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل؟ قال: كلا، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحق -يعني: هذا الظهور لأهل البدعة ظهور ظاهري في قضية السلطة والسلاح، لكن ما زالت القلوب مطمئنة بذكر الله، فإذاً ما ظهر الباطل على الحق-.
موقف الإمام من فتنة السراء:(25/35)
وأما موقفه من فتنة السراء لما أعطوه الأموال في عهد المتوكل، رفع المحنة المتوكل وأغدق على الإمام أحمد الأموال، فبكى الإمام أحمد وقد وجه إليه بمائتي دينار، وقال: سلمت منهم -طول المدة الماضية- حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، عزمت عليك أن تفرقها غداً، فلما أصبح جاءه حسن بن البزار فقال: جئني يا صالح ! بميزان وجهه إلى أبناء المهاجرين والأنصار وإلى فلان حتى فرق كل المال الذي أتاه، يقول ابنه: ونحن في حالة الله بها عليم. وأعطي ثياباً فجعل يبكي ويقول: سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة، حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، وما أحسبني سلمت من دخولي على هذا الغلام فكيف بمن يجب علي نصحه، يا صالح ! وجه هذه الثياب إلى بغداد تباع ويتصرف بثمنها، ولا يشتري أحد منكم منها شيئاً، فباعها وتصدق بثمنها. وكان مع ذلك يخرج ويرابط، ولما صارت المحنة قالوا لأبي عبد الله : التقية، شرع الله التقية.. فقال: ما تقولون في حديث خباب؟ (إن من كان قبلكم كان ينشر بالمنشار لا يصده ذلك عن دينه) وقال: لست أبالي بالحبس ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف إنما أخاف فتنة السوط فأتراجع. فسمعه بعض أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله ، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي. فكأنه سري عنه وانبسط، يعني: ما دام أنه سيغيب عن الوعي بعد السوطين يتحمل السوطين وخلاص. وكان قد استفاد من أحد السراق كان محكوماً عليه عند المعتصم بالسجن وكان يضرب، فقال: يا أحمد! إني أصبر على الضرب وأنا على الباطل، أفلا تصبر عليه وأنت على الحق؟! فقال الإمام أحمد : فثبتني كلامه. الآن تصور كم الناس الذين اهتدوا في السجن على يد الإمام أحمد ؟! جلس في السجن يصلي بالناس ويعلمهم.
وفاة الإمام وعظمة جنازته:(25/36)
وختاماً أيها الإخوة: فإن الإمام أحمد رحمه الله في سنة (241هـ) أصابته الحمى، وصار يتنفس تنفساً شديداً، وكان ولده يمرضه فقال يوماً لولده: خذ بيدي، فأخذ بيده، فلما صار إلى الخلاء ضعف وتوكأ عليَّ، وكان يختلف إليه غير متطبب، ووصفت له وصفات، ثم بعد ذلك صار الناس يأتون إليه فيدخلون عليه أفواجاً حتى يملئوا الدار، فيدعون له ويخرجون، ويدخل أفواجٌ آخرون، وجاء رجل لنا قد خبض -يعني بالحناء- فقال الإمام أحمد وهو يحتضر: إني لأرى الرجل يحيي شيئاً من السنة فأفرح به. واشتدت علته يوم الخميس ووضأته فقال: خلل الأصابع. انظر ما نسي السنة وهو على فراشه، قال: خلل الأصابع، فلما كانت ليلة الجمعة ثقل وقبض صدر النهار، والذي يموت يوم الجمعة من أهل الصلاح ماذا له؟ يؤمن من عذاب القبر كما ورد في الحديث الصحيح، فلما مات صاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع، وصلى عليه الناس، وحزر الذين صلوا على الإمام أحمد ما بين سبعمائة ألف وألف ألف وستمائة ألف، اختلفت الإحصائيات، وهذا غير الناس الذين صلوا على ظهور السفن على شاطئ بغداد ، وحتى بلغ الزحام أن الناس قد فتحوا بيوتهم للذين يريدون أن يتوضئوا لصلاة الجنازة، وتعطلت الأسواق ببغداد ، وأغلقت الدكاكين، واجتمع الناس من كل حدب وصوب، فصلوا عليه، اجتمعوا في فلاة فصلوا عليه فتقدم فجأة واحد من أعوان السلطان أمير البلد ليصلي حتى يظهر أمام الناس، والناس ما دروا من الذي كبر، فلما درى الناس بعد ذلك ذهبوا إلى المقبرة فأعادوا الصلاة أفواجاً، انظر ثقة الناس بالإمام أحمد ونصرتهم لماذا؟ لأن الإمام أحمد هو الذي علمهم بنفسه كيف ينفروا من الظلمة. وقال أحمد قبل أن يموت رحمه الله: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز. وفعلاً صار يوم موت الإمام أحمد آية من آيات الله البينات. يقول عبد الوهاب الوراق : ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا الإسلام(25/37)
شهد الجنازة مثل جنازة أحمد ، حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح فإذا هو نحو من ألف ألف، وأظهر الناس في جنازة الإمام أحمد السنة والطعن على أهل البدع، فسر الناس بذلك والمسلمون على ما عندهم من المصيبة لما رأوا من علو الإسلام. قال الذهبي رحمه الله: وكذا استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبعمائة ببغداد عام على مقبرة أحمد وأن الماء دخل في الدهليز علو ذراع ثم وقف بقدرة الله وبقيت الحصر حول قبر الإمام بغبارها، هذا الإمام الذهبي يقول: وكذا استفاض وثبت، لما جاء الطوفان في بغداد وقف عند مقبرة أحمد حولها الماء وهي ما جاء لها الماء، وبقيت بغبارها، كرامة من الله لهذا الرجل. وختاماً أيها الإخوة! فإن دراسة سير هؤلاء العلماء الأجلاء يطمئنك أن الله يقيظ لهذا الدين من ينصره، وأنه مهما كان ليل الجاهلية فإن الله يظهر أقواماً يقيمون هذا الدين. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم وابعث في المسلمين من يجدد لهم دينهم، ويعيدهم إلى الملة السمحاء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(25/38)
( جوانب التكامل في شخصيات السلف )
عناصر الموضوع :
لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها
أبو بكر الصديق يبذل ماله ونفسه في سبيل الله
عمر بن الخطاب رضي الله عنه المحدث الملهم
عثمان بن عفان رضي الله عنه أصدق الأمة حياءً
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقضى الأمة بعد نبيها
طلحة بن عبيد الله الذي فدى الرسول بيده
الزبير بن العوام الذي تولى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم
سعد بن أبي وقاص صاحب الدعوة المستجابة
أبو عبيدة أمين الأمة
حمزة رضي الله عنه أسد الله ورسوله
بلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
عمار بن ياسر الصابر في الفتنة
ابن مسعود صاحب النعلين والوساد
مصعب بن عمير داعية الإسلام
البراء بن مالك البطل الكرار
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صاحب الجناحين
أبو دجانة آخذ سيف رسول الله بحقه
خبيب بن عدي رضي الله عنه يقتل صبراً
عمرو بن الجموح يطأ بعرجته الجنة
عبد الله بن حرام يكلم ربه كفاحاً
سعد بن معاذ يهتز عرش الرحمن لموته
ثابت بن قيس خطيب الأنصار
معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه وغيرته على رسول الله صلى الله عليه
وسلم
سعد بن الربيع وإيثاره للصحابة
ابن أم مكتوم خليفة النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة
خالد بن الوليد ومواهبه العسكرية
النجاشي وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته
جرير بن عبد الله ومبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم
سلمان الفارسي الباحث عن الحق
أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وتثبيتها للنبي صلى الله عليه وسلم
عائشة بنت الصديق العالمة الكريمة
حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب الصوت الحسن
أبو أيوب الأنصاري وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم
زيد بن ثابت شيخ أهل الفرائض
أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم(26/1)
حسان بن ثابت وكعب بن مالك شاعرا رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو هريرة أحفظ الصحابة للحديث
نماذج من شخصيات التابعين
الأسئلة
جوانب التكامل في شخصيات السلف:
إن الله نظر إلى قلوب الأمة، فوجد الصحابة أطهرها قلوباً فاختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فضرب الصحابة أروع الأمثلة في تبجيل النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، فلذلك كملت شخصياتهم، وكلٌّ شجعه النبي صلى الله عليه وسلم حسب ميله وحبه، ونمى موهبته؛ فصار مجتمعاً متكاملاً في جميع جوانب الدين والحياة.
لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها:(26/2)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فأرحب بكم -أيها الإخوة- في هذه الليلة في هذا اللقاء الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون لقاء خير وبر، وأن يجعلنا وإياكم فيه من المتعظين، وأن يرزقنا الاقتداء بسيرة السلف الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين. أيها الإخوة: إن هذا الدين يحمله من كل خلف عدوله، يحمل هذا الدين رجالٌ صدقوا بالله وآمنوا، وصدقوا المرسلين، هذا الدين لا يمكن أن يتحرك في الواقع ولا يمكن أن يؤثر إلا إذا كان هناك أناس آمنوا به فجعلوه عقيدة تحركهم، وجعلوه حياتهم وهمهم، فصار يحركهم للعمل لأجل رفعة شأنه ونصرة أمره هذا الدين العظيم دين الإسلام، وخيرية هذه الأمة على بقية الأمم من أسبابها ما وجد في هذه الأمة من الرجال الذين حملوا لواء الإسلام، ما وجد فيها من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ(26/3)
مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23]، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:36-37] هؤلاء الرجال هم الذين يحملون هذا الدين، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يوجد في هذه الأمة من هذه النوعية من حملة الدين عدداً كثيراً والحمد لله على فضله وإحسانه. أيها الإخوة: إنا حين ننشد التغيير الذي نحلم به من منطلق إسلامي من قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] عندما ننشد هذا التغيير في الواقع المر الذي نعيش فيه، إننا لنعلم علماً يقينياً أن هذا التغيير لن يحدث إلا إذا وجد هناك النفر المخلصون من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، هم الذين يخلصون الأمة وينقذونها من الشتات وعالم الضياع، إن هذه الفئة -جيل الإنقاذ- التي تريد أن تصل بسفينة المجتمع وسفينة الأمة إلى بر الأمان هم من نوعية مخصوصة اختارها الله سبحانه وتعالى، جعل فيهم من الصفات والميزات ما يستطيعون به حمل هذا الدين، والصبر على تبليغه، وعلى أذى المخالفين في سبيل الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نريد أن نكون بمنأى عن هؤلاء الأشخاص، ولا نريد أن نقف متفرجين، وأن نرقب النصر المنشود من أناس آخرين، نحن نريد أن نكون من هذا الركب، ومن هذه الطائفة، ولكن المسألة تخليص الأمة من الهاوية التي انحدرت إليها أمرٌ في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى تربية عميقة تصقل مواهب الرجال، وتنشئ فيهم حب الله ورسوله، وتجعل منهم قادة يقودون الأمة نحو الصلاح المنشود، وإننا في هذا الطريق نتلفت إلى الوراء لنرى من سلفنا عَبر تاريخنا فننشد من تلكم الشخصيات هذه الصفات التي ينبغي أن يكون فينا بعضها، ودرجات(26/4)
منها على الأقل، ولا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. من أجل هذا سنتحدث في هذه الليلة عن موضوع بعنوان: جوانب التكامل في شخصيات السلف. الشخصيات التي خرجت في صدر الإسلام، والتي كُتبت سيرتهم في تاريخ هذه الأمة، هذه الشخصيات قد تميزت بميزات، من أجل ذلك كانت الأمة منصورة، وكان علم الدين قائماً، وكانت راية الجهاد مرفوعة، وكان المسلم يسير عزيزاً من شرق بلاد المسلمين إلى غربها رافعاً رأسه، كان الكفر في ذلة، وكان أهل الذمة في صغار، وكان أعداء الدين يَرهبون المجتمع الإسلامي، كان المجتمع فيه من الخصائص ما ضاع كثير منه في هذه الأيام، طبقت الشريعة، وأقيمت الحدود، وعقدت حلق العلم، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجردت السيوف للجهاد، وعقدت الألوية، وحورب أهل البدعة، كان مجتمعاً فيه من الأخلاق الإسلامية والآداب الشرعية ما يفوق الوصف. لقد جاء على المسلمين يوم يقدمون فيه المال للزكاة والصدقة فلا يوجد من يقبل منه؛ لأن أمير المؤمنين عمر قد أغنى الناس. ونحن في هذه المحاضرة سنستعرض بعض الجوانب من تلكم الشخصيات التي ظهرت في هذه الأمة، وإن هذه الشخصيات كثيرة وكثيرة جداً لمن استعرض كتب التراجم والسير والتاريخ الإسلامي، ولعلنا سنذكر بعضاً منها من جيل الصحابة وتابعيهم، إذ أن الوقت لن يُسعف في أن نستقصي حتى جيل الصحابة والتابعين، ولن تخلو الأمة من خير أبداً، ولا تزال الشخصيات التي تحمل لواء هذا الدين تظهر بين آونة وأخرى، ولا يزال المجددون الذين تكفل الله بإظهارهم يظهرون بين حين وآخر، والحمد لله على نعمه وآلائه.
أبو بكر الصديق يبذل ماله ونفسه في سبيل الله:(26/5)
أليس منا أبو بكر الصديق الذي كان من أمن الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وماله؟ أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال وأولهم إسلاماً (ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبي بكر) وهو يقول: (وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وهل نفعني الله إلا بك يا رسول الله) أتى بماله كله وقال: (أبقيت لهم -لأهلي- الله ورسوله). دافع عنه لما أرادوا ضربه، ونفض له الضرع وظلل عليه في طريق الهجرة، وجمع من خصال الخير ما لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه، إن جئت إلى الرأفة فهو أرأف الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم: ( أرأف أمتي بأمتي أبو بكر ) وإن جئت إلى القيادة فهو حازم خليفة جمع الله عليه المسلمين، وإن جئت إلى الأعمال الصالحة: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر : أنا، من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر : أنا، من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر : أنا، من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر : أنا). كان حازماً في حرب المرتدين، فأرانا بسيرته البصيرة التي تكشف ظلمة الشبهات حزم العادلين، وكيف يكون موقف الرجل المسلم في موقف الأزمة لما ارتد المرتدون، وإن جئت إلى كونه أباً للزوجة كان موقفه من زوجة النبي صلى الله عليه وسلم -ابنته- موقفاً يدل على عقل وحكمة حتى في الجوانب الاجتماعية.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه المحدث الملهم:(26/6)
أليس منا عمر رضي الله عنه الشهيد العبقري، صاحب القصر في الجنة، المحدث الملهم؟ جعل الله الحق على لسانه وقلبه، ينطق على لسانه ملك، وافق ربه في عدة مواضع، أنزل الله فيها قرآناً يتلى إلى يوم الساعة، ما لقيه الشيطان سالكاً فجاً إلى وسلك فجاً غير فجه، شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر، ما زال المسلمون أعزة منذ أسلم عمر، وهو الباب بين هذه الأمة وبين الفتن؛ فلما كسر الباب جاءت الفتن، كان وقافاً عند كتاب الله، إن جئت على الشدة في أمر الله فعمر رأس المقدم وأشدها في أمر الله، عمر أشد الناس على أهل البدعة، ما تجرأ أحد من المبتدعة أن يخرج لسانه وأن يرفع رأسه في عهد عمر ، إن جئت إلى محاسبة الولاة فعمر المقدم الظاهر، وإلى استشعار المسئولية: [لو أن دابة عثرت بأرض العراق لخشيت أن أسأل عنها يوم القيامة، لِمَ لَمْ تذلل لها الطريق يا عمر]. إن جئت على تفقد الرعية فهو يسير بين البيوت يتفقد أهلها، ويحرس المسلمين بالليل، ويخرج إلى الأرض البعيدة؛ ليرقب خيمة فيها امرأة وحولها أولاد صغار يبكون، ليتأثر عمر فيحمل لهم الطحين على ظهره. شديد في أمر الله، وفي المعارك على الكفار لا يملك نفسه أن يرد على عدو الله في ذلك الوقت رداً تشعر فيه بعزة المسلم.
عثمان بن عفان رضي الله عنه أصدق الأمة حياءً:(26/7)
أليس منا عثمان رضي الله عنه الشهيد الذي بشر بالجنة على بلوى تصيبه؟ أصدق الأمة حياءً تستحيي منه الملائكة، جهز جيش العسرة (ومن جهزه فله الجنة) اتفقت الأمة على البيعة له، مات ودمه على المصحف، إن جئت إلى خلق الحياء فأعظم وأصدق الأمة حياءً عثمان ، وإلى الإنفاق في سبيل الله فقد جهز جيشاً كاملاً من ماله، وإلى قراءة كتاب الله فقد كان له مصحف يقرأ فيه حتى كانت نهايته وهو يقرأ في المصحف، وقيام الليل، هو الذي فدى الأمة بدمه كان بإمكانه أن يقول للصحابة وأبناء الصحابة: دافعوا عن خليفتكم لكنه نهى الناس عن الدفاع عنه لما جاء هؤلاء الثوار الذين حرضهم عبد الله بن سبأ اليهودي وغيره، وصارت الفتنة، وفدى عثمان الأمة بدمه رضي الله عنه.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقضى الأمة بعد نبيها:
أليس منا علي ؟ أول من أسلم من الصبيان، رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، أعطاه الراية يوم خيبر ففتح الله عليه، هو من رسول الله بمنزلة هارون من موسى (لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق)، (أنت مني وأنا منك) كما قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من سب علياً فقد سبني، من آذى علياً فقد آذاني، من كنت مولاه فعلي مولاه) رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، إن جئت إلى القضاء فأقضى الأمة بعد نبيها علي بن أبي طالب ، وإن جئت إلى قتال أهل البدعة و الخوارج والقضاء على الفتن فعلي بن أبي طالب الرأس المقدم في ذلك، إن جئت إلى لحكمة والعلم تجده قاضياً مفتياً رضي الله تعالى عنه.
طلحة بن عبيد الله الذي فدى الرسول بيده:
أليس منا طلحة بن عبيد الله ؟ أحد العشرة المبشرين، وقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شلت، طلحة ممن قضى نحبه، أوجب طلحة، أي: عمل عملاً يوجب له الجنة.
الزبير بن العوام الذي تولى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم:(26/8)
أليس منا الزبير بن العوام ؟ حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح، جمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه فقال: ( فداك أبي وأمي ) تولى الدفاع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وعن القائد، ضَرب هذا الرجل والذي قبله وغيره من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في ذلك.
سعد بن أبي وقاص صاحب الدعوة المستجابة:
واعتزل الفتنة سعد بن أبي وقاص وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله (ارم سعد فداك أبي وأمي) صاحب الدعوة المستجابة، نزلت آيات من كتاب الله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ [العنكبوت:8] فاخر به صلى الله عليه وسلم فقال: (هذا خالي فليرني امرؤٌ خاله) حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتح الله على يديه بلاد فارس . فإن جئت إلى القيادة وإلى الحكم وتخطيط المدن وبعد النظر في مصلحة المسلمين فسعد بن أبي وقاص .
أبو عبيدة أمين الأمة:
أليس منا أبو عبيدة أمين هذه الأمة؟ نعم الرجل أبو عبيدة تولى فأحسن الولاية، وقاد الجيش فأحسن القيادة رضي الله تعالى عنه.
حمزة رضي الله عنه أسد الله ورسوله:
حمزة سيد الشهداء، أسد الله ورسوله، نافح عن الإسلام، وقد عليه الصلاة والسلام مع أفواج من المسلمين الذين استشهدوا في أحد يصلي عليهم في كل مرة، (ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار) أعز الله به الدين كما أعزه بعمر بن الخطاب ، فأعز الله بحمزة وبعمر ما لم يعز بغيرهما من كفار قريش الذين أسلموا.
بلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(26/9)
وهذا بلال سابِق الحبشة إلى الإسلام، الذي سَمع رسول الله صلى الله عليه وسلم دف نعليه في الجنة، وصابر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حصار الشعب ما ارتد عن دينه، ضرب لنا المثل في الصبر في وقت الشدة، وكان مؤذناً محتسباً لله يؤذن بلا أجرة، كان يؤذن فيأتي الناس إلى المسجد لأذانه، ضرب لنا مثلاً في المؤذن المحتسب، هانت عليه نفسه في سبيل الله، ألبسوه الدروع، وصهروه في الشمس، وأعطوه الولدان يطوفون به وهو يقول تحت الصخرة: أحد أحد، فإن أردت مثالاً في الثبات على دين الله تحت التعذيب فخذ بلالاً رضي الله عنه، فعن أسلم مولى عمر قال: قدمنا الشام مع عمر فأذن بلال والناس مجتمعون في الشام في ذلك الوقت عند فتحها، جاء عمر رضي الله عنه يشهد الفتح، وأذن بلال فتذكر الناس النبي صلى الله عليه وسلم وأيامه، فما رئي يوم أكثر باكياً منه في ذلك اليوم.
عمار بن ياسر الصابر في الفتنة:
أليس منا عمار بن ياسر ؟ من آل ياسر موعدهم الجنة، ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه، أجاره الله من الشيطان، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما وأرشدهما، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار (أبشر عمار) فضَرب مع بلال و خباب وغيرهم المثل في الثبات مع وقوع الفتنة.
ابن مسعود صاحب النعلين والوساد:(26/10)
أليس منا عبد الله بن مسعود ؟ ساقاه أثقل في الميزان من جبل أحد ، مِن أقرب الناس عند الله وسيلة يوم القيامة: (من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) أقرب الناس سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، صاحب النعلين والوساد، وكان كاتماً لسره عليه الصلاة والسلام، والمطهرة فكان يصحبها لطهور النبي صلى الله عليه وسلم، أخذ من فم النبي صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، قال فيه: (إنك غلام مُعلَّم كنيِّف ملئ فقهاً) فضرب لنا مثلاً في المقرئ الذي يقرئ الناس ويعلمهم، رجل بأمة يأتي إلى الكوفة فيدرس هناك فيخرج أجيالاً من التابعين من الفقهاء العلماء المفتين عبد الله بن مسعود ، وقل عن عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم من نفس هذا المثال، علماء يخرجون علماء، ما دفنوا علمهم، ولا قبعوا في بيوتهم، وإنما برزوا للناس فتصدروا فأفتوا وعلموا وصاروا كالسحابة تمطر الخير حيثما جاءت، وكالآبار يُستقى منها، وكالعيون العذبة رضي الله تعالى عنهم.
مصعب بن عمير داعية الإسلام:
مصعب بن عمير ألم يضرب لنا مثلاً بشخصيته في صبره على الأذى، وترك النعيم، وحياة الترفه، والشباب اللاهي واللذات؟ كل ذلك في سبيل الله، يضرب لنا مثلاً في الدعوة بالقرآن قبل السنان، أسلم على يديه كثير من أهل المدينة فوطأ المكان لقدوم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك مات بين يديه حاملاً اللواء في غزوة أحد ، فوقع أجره على الله، مضى ولم يأكل من أجره شيئاً، ترك اللذات في حياة الشباب، وهاجر وترك الوطن، وكان داعية ناجحاً وغازياً مجاهداً، ما أدرك وقت الفتوح ولا الغنائم ولا كثرة الأموال، حتى ما وجدوا شيئاً يغطون به جسده عند موته من الكفن، فغطوا رأسه بالثوب ورجليه بشيء من الإذخر، فمضى إلى ربه محتسباً ما نقص من أجره شيء.
البراء بن مالك البطل الكرار:(26/11)
أليس منا البراء بن مالك البطل الكرار الذي ضرب لنا مثلاً بشخصيته في حرب مسيلمة لما أمرهم أن يحتملوه على ترس على أسنة رماحهم ويلقوه في حديقة مسيلمة فاقتحم عليهم وشد وقاتل حتى افتتح باب الحديقة، رجل بأمة، مقدام وجريء. هذه شخصياتهم رضي الله عنهم تتكامل في جميع الجوانب، وتكون ذلك المجتمع الذي لن يمر على الأمة مثله أبدا، فجرح بضعاً وثمانين جرحاً، وقتل في حروبه مائة من الشجعان مبارزة، كان من الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (كم من ضعيف متضعَّف ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فكان المسلمون في الفتوحات يقدمونه فيقولون: ادع يا براء .
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صاحب الجناحين:
وهذا جعفر بن أبي طالب أبو المساكين، هاجر الهجرتين ودعا النجاشي إلى الله، ضرب لنا مثلاً في عدم كتم الحق والمواجهة بالحق، أشبه خَلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وخُلقه، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد في غزوة مؤتة ، له جناحان يطير بهما في الجنة.
أبو دجانة آخذ سيف رسول الله بحقه:
و أبو دجانة سماك بن خرشة الذي أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقه، خرج يتبختر عليه عمامة حمراء في مشية يبغضها الله إلا في ذلك الموطن، ففلق بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم هام المشركين، إنهم أناس يقدرون المسئولية، من يأخذ السيف بحقه؟ أخذه سماك بن خرشة رضي الله عنه بحقه، ففعل به الأفاعيل، رمى بنفسه يوم مسيلمة إلى داخل الحديقة؛ فانكسرت رجله فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
خبيب بن عدي رضي الله عنه يقتل صبراً:(26/12)
وخبيب بن عدي الذي سن لنا الركعتين عند القتل وقال: [والله لولا أن تظنوا أنما طولت جزعاً من القتل؛ لاستكثرت من الصلاة] كان يأكل وهو محبوس قطفاً من عنب ولم يكن في مكة عنب أبداً، كرامة من الله عز وجل لهذا الرجل، فيعلمنا الصبر ومعنى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يرضى أن يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشوكة وأن يكون هو حراً طليقا، فهل جزع لما ربطوه ولما أطلقوا عليه رماحهم وسهامهم؟ كلا، بل دعا الله أن يبارك على أوصال شلوٍ ممزع، وصبر في ذات الله سبحانه وتعالى. حتى شيبان المسلمين وكبار السن ضربوا لنا مثالاً فكانت شخصياتهم مثالاً يحتذى.
عمرو بن الجموح يطأ بعرجته الجنة:
عمرو بن الجموح الذي قاتل في أحد وهو أعرج ليطأ بعرجته في الجنة وهو ابن ثمانين سنة، فقتل فيها شهيداً رحمه الله تعالى.
عبد الله بن حرام يكلم ربه كفاحاً:(26/13)
أليس كذلك من هذه النوعية من كبار السن الذين أبلوا في الإسلام بلاء على تقدم أسنانهم وعلى شيخوختهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أحد النقباء ليلة العقبة الذي استشهد في أحد ؟ قال عليه الصلاة والسلام لولده جابر : (تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظلله بأجنحتها حتى رفعتموه) كفن هو وصاحبه أخوه في الله: عمرو بن الجموح ، الشيخ الكبير الآخر، قتلا سوياً في معركة أحد ، ما توقف العطاء رغم كبر السن، يضربون لنا المثل بكبر سنهم وأفعالهم في سبيل الله، يقول عليه الصلاة والسلام لجابر : (ألا أخبرك أن الله كلم أباك كفاحاً -مباشرة بعد موته- فقال: يا عبد! سلني أعطك؟ قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: يا رب! فأبلغ من ورائي) فأنزل الله عز وجل رسالة تبليغ من عبد الله بن عمرو بن حرام إلى المسلمين من إخوانه الأحياء: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
سعد بن معاذ يهتز عرش الرحمن لموته:(26/14)
أليس منا سعد بن معاذ الذي ترك السيادة لله عز وجل، وكان سيد قومه فتنازل للرسول صلى الله عليه وسلم، أسلم على يد مصعب فقام في قومه وهو سيدهم يضرب لنا مثلاً في الداعية كيف يحمل قومه على الإسلام، قال: [إن كلامكم عليَّ حرام رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله] قال: فوالله ما بقي في دار بني الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلموا، وهو الذي تحدى أبا جهل بمكة ليظهر لنا عزة المسلم في الطواف، فقال: [والله لو منعتني لقطعت عليك متجرك بالشام] جرح يوم الخندق فقال: [اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني في بني قريظة] مع أنهم كانوا حلفاءه في الجاهلية، لكنه نسي الأحلاف والعلاقات كلها التي تقطعت بسبب الإسلام، فحكم فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات، ثم دعا الله أن يقبضه لكي لا يفوته وجه الشهادة، فمات فنزلت الملائكة تحمل جنازته، اهتز العرش فرحاً لموت سعد، فتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألف ملك، إنه يضرب لنا مثلاً. هذه الشخصيات أيها الإخوة! نرى منها العجب والعجاب نتيجة التربية النبوية، ماذا ظهر من الشخصيات؟ وما هي جوانب التكامل التي بناها أولئك الأشخاص في ذلك المجتمع؟
ثابت بن قيس خطيب الأنصار:(26/15)
ثابت بن قيس خطيب الأنصار، لقد كان للمسلمين دور في الخطابة، كانت منبراً إعلامياً، قال عند مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا] إعطاء العهد والوثاق، ولما جاء وفد تميم فافتخر خطيبهم، قال له ثابت بن قيس بخطبة فأسكتته، ولما نزل قول الله: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات:2] يضرب لنا هذا الصحابي مثلاً في حساسية المؤمن وتأثره وتفاعله مع الآيات، وكان امرأً من طبعه أنه صيت جهوري الصوت بطبعه، إذا تكلم كان صوته عالياً فقال: [ويلي هلكت فقعد في بيته] لما نزلت الآية أخشى أن أكون قد هلكت، هذا الذي تحنط يوم اليمامة ولبس ثوبين أبيضين فلما انهزم المسلمون في بداية الأمر قال: [اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - مسيلمة وأصحابه- وأعتذر مما صنع هؤلاء، بئس ما عودتم أقرانكم، خلوا بيننا وبينهم ساعة] فتحمل فقاتل حتى قتل، ولم تنفذ لرجل وصية بعد موته إلا هو فقد حكم بذلك الصديق.
معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه وغيرته على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ومعاذ بن عمرو بن الجموح الفتى الصغير، حتى الشباب الصغار كانت في جوانب شخصياتهم أمور تحمل على العجب، يميل على عمه في الإسلام عبد الرحمن بن عوف يقول: [يا عم! أتعرف أبا جهل؟ فقال له: لماذا؟ ماذا تصنع به؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم] هل سمعه يسب رسول الله؟ لا. لكن أخبرت وأريد أن أنتقم من رجل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحمية لرسول الله في نفوس الفتيان الناشئة في ذلك المجتمع [والذي نفسي بيده لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا] فحمل على عدو الله فضربه فقتله، وأصيبت يده فصارت معلقة بجلده على جنبه فصار يقاتل ويسحبها خلفه، فلما آذته قال: [وضعت قدمي عليها ثم تمطأت عليها حتى طرحتها].
سعد بن الربيع وإيثاره للصحابة:(26/16)
و سعد بن الربيع ، وما أدراك ما سعد بن الربيع ! وجانب الإيثار في شخصية سعد بن الربيع واضحة عندما قال لعبد الرحمن بن عوف : [أشاطرك مالي، واختر أي زوجتيّ أحب إليك أطلقها كي تتزوجها]، وهو أحد النقباء في ليلة العقبة، قُتل في أحد شهيداً، ضرب لنا مثلاً في الثبات والوصية عند الممات بالثبات إلى آخر لحظة على المنهج والبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في آخر رمق: [أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل: إن سعداً يقول: جزاك الله عني خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك السلام، وقل لهم: إن سعداً يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف] فالوصية بالثبات والاستمرار، فإن الرجل إذا مات وانتقل فإنه لا زال يوصي لمن بعده بالثبات على ما مات هو عليه.
ابن أم مكتوم خليفة النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة:
حتى المعوقون في المجتمع الأول كانت لهم أدوار، وقد فعل الإسلام فعله العجيب بنفوس أولئك القوم، فهذا ابن أم مكتوم الأعمى من السابقين المهاجرين، الضرير مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم، والخليفة على المدينة في غيابه عليه الصلاة والسلام يصلي ببقايا الناس، أنزلت فيه سورة عبس، كان حريصاً على طلب العلم وعلى الفائدة، يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [علمني مما علمك الله] وتظهر غيرته على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كانت امرأة تخدمه من اليهود، وكانت تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فينهاها فلا تنتهي، فغفلها يوماً فضربها بحربة في صدرها واتكأ عليها حتى ماتت، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها، هو الذي لما سمع قول الله: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:95] قال: يا رب! أنزل عذري، فنزل قول الله عز وجل: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النساء:95] وكان يغزو وهو ضرير ويقول: [ادفعوا اللواء إلي؛ فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين].(26/17)
خالد بن الوليد ومواهبه العسكرية:
ظهرت المواهب العسكرية والشجاعة الحربية في شخصيات أولئك النفر تكاملاً على تكامل، وزينة على زينة، فهذا خالد بن الوليد سيف الله وفارس الإسلام قائد المجاهدين أبو سليمان هاجر مسلماً سنة ثمان ثم سار غازياً فشهد مؤتة فاستشهد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الراية قال: رأيتني يوم مؤتة اندق في يدي تسعة أسياف فصبرت في يدي صفيحة يمانية -سيف يماني- وقد احتبس أدراعه ولأمته في سبيل الله، وكان مغرماً بالجهاد، فجعل أدراعه ومتاعه وقفاً في سبيل الله، وحارب أهل الردة و مسيلمة وغزا العراق وانتصر، ثم اخترق البرية السماوية وقطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكره، وشهد حروب الشام ، ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء، وكان يقول: [ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب، أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية أصبح فيها العدو].
النجاشي وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته:
حتى الملوك لما دخل فيهم الدين، فهذا النجاشي الملك المعدود في الصحابة من وجه وفي التابعين من وجه آخر، هو الذي بكى لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب صدر سورة مريم، فحمى المسلمين وأكرمهم، وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لمهاجرة الحبشة : [أنتم شيوم بأرضي -آمنون- من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم] آثر الحق ولم يخش ثورة البطارقة لما نخروا حوله فقال: وإن نخرتم والله. زوج النبيَّ صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان التي كانت في أرض الحبشة ودفع الصداق إليها أربعمائة دينار إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهزها، لذلك لما مات قام صلى الله عليه وسلم وقال: (إن أخاً لكم قد مات بأرض الحبشة) فخرج بهم إلى الصحراء فصفهم صفوفاً ثم قام فصلى عليه.
جرير بن عبد الله ومبايعته للنبي صلى الله عليه وسلم:(26/18)
وقريبٌ منه جرير بن عبد الله البجلي ، الذي جاء من اليمن أميراً لكنه ترك الإمارة بيعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
سلمان الفارسي الباحث عن الحق:
و سلمان الفارسي الذي كان في شخصيته مضرب المثل في البحث عن الحق، الذي ظل يبحث عن الحق والتوحيد حتى أوذي وقيد وسجن، وعمل خادماً، واسْتُرِقَّ، وظل يتنقل حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه وآمن به، كان متواضعاً يخدم صاحبه في السفر، حتى قال صاحب له: إن أنا عجنت خبز، وإن خبزت طبخ. وهو الذي أشار بحفر الخندق (سلمان منا آل البيت).
أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(26/19)
إن أغنياء المسلمين قد ضربوا المثل منهم أبو طلحة الأنصاري وكان من أعيان أهل بدر ، وأحد النقباء ليلة العقبة الأولى: (صوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة أو خير من فئة) لما كان يوم أحد جوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجفة، ورمى وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثة وهو ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول صلى الله عليه وسلم: (انثرها لأبي طلحة ، ويقول أبو طلحة : يا نبي الله! بأبي أنت لا تشرف لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك) قتل يوم حنين عشرين رجلاً، وهو صاحب الأموال الكثيرة وقد تصدق بأحب ماله إليه (بيرحاء) بستان عظيم جداً، تفاعل مع الآية لما نزل قول الله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قال: ( يا رسول الله! ضعها حيث أراك الله، إنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ) هذا الرجل العظيم الذي يضرب به المثل في النفقة في سبيل الله والإيثار رغبةً فيما عند الله وقد غزا آخر عمره في غزوة في البحر، وكان قد قرأ أمام بنيه قول الله عز وجل: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] فقال: [استنفرنا الله وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله إنك قد غزوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر ونحن نغزو عنك الآن] قال: فغزا البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير.
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وتثبيتها للنبي صلى الله عليه وسلم:(26/20)
والطائفة الأخرى من المجتمع والنوع الثاني: النساء. أليست منا خديجة بنت خويلد ؟ أم المؤمنين، أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق قبل كل أحد، حمته وآزرته وثبتت من جأشه، مصونة كريمة، كاملة من بين النساء، وأنفقت عليه من مالها، أنفقت على الدعوة من مالها، كانت وزيرة صدق، تحميه، وتدافع عنه رضي الله تعالى عنها: (بشر خديجة ببيت في الجنة، من قصب لا صخب فيه ولا نصب).
عائشة بنت الصديق العالمة الكريمة:(26/21)
و عائشة أم المؤمنين ضربت لنا مثلاً في جمع العلم فروت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، قال أحد أئمة الإسلام: لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقاً في أي امرأة في العالم منذ أن خلق الله آدم إلى وقتها امرأةً أعلم منها، بَرَّأها الله من فوق سبع سموات، ولا يستبعد أن تكون هي أعلم نساء العالمين على الإطلاق، وأنزل الله في شأنها قرآناًَ يتلى إلى يوم القيامة، وأنزل بسببها آية التيمم، هذه الصديقة بنت الصديق تضرب لنا مثلاً لطالب العلم في جمع أنواع العلم، فإن بعض الناس يتخصص في فن ولا يدري عن بقية الفنون، وقد يحسن في بعض أنواع العلم وهو لا يحسن في أنواع أخرى كثيرة، عن أبي الضحى قال: قلنا لمسروق : هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وعن عروة ابن أخت عائشة قال: [لقد صحبت عائشة -خالته- فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيومٍ من أيام العرب، ولا بنسب ولا بكذا .. ولا بكذا .. ولا بقضاء، ولا طب منها، فقلت لها: يا خالة! يعني: ربما بعض العلوم الأخرى نعلم لكن الطب من أين علمتيه؟ قالت: كنت أمرض فينعت لي الشيء ويمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه] وفي بعض الرواية: (إن أهل الخبرة من الطب في البادية، كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينعت الدواء، فتحفظه عائشة). وتضرب مثلاً في الإنفاق فقد بعث إليها معاوية بمائة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين، وبعث لها ابن الزبير بمال في غرارتين يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية! فطوري، فقالت: يا أم المؤمنين! أما استطعت أن تشتري لنا لحماً بدرهم؟ ما عندنا أكل، كل المال هذا الذي وزعتيه أما اشتريت لنا لحماً بدرهم؟ قالت: لا(26/22)
تعنفيني لو ذكرتيني لفعلت.
حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وحذيفة بن اليمان الذي تصدق بدية أبيه على المسلمين؛ فازداد خيراً إلى خير يعلمنا درساً في كتمان السر، حافظ أسماء المنافقين، اهتم برواية أحاديث الفتن الكائنة في الأمة وضبطها [كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني] ومثل في حسن تصرفه وشجاعته يوم الخندق لما انتدبه الرسول صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبر المشركين وسرعة بديهته لما قال أبو سفيان : لينظر كل رجل من بجانبه، فقال لمن بجانبه: من أنت؟ وضبط نفسه في عدم قتل أبي سفيان وكان يستطيع قتله، وَليَ إمرة المدائن فعدل وعلى يده فتحت الدينور ؛ بلد من البلدان.
أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب الصوت الحسن:(26/23)
و أبو موسى الأشعري الإمام الكبير الفقيه المقرئ قدم على أهل البصرة فأقرأهم وفقههم، كانوا سادة يعلمون الناس وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحمل علماً غزيراً، وكان حسن الصوت بالقرآن جداً، حتى إن من الصحابة من كان يخرج بالليل قريباً من دار أبي موسى ليسمع صوته وهو يقرأ القرآن في قيام الليل، أُعطي مزماراً من مزامير آل داود، وكان فارساً مقداماً فلما رمي عمه بسهم من أحد الكفار؛ لحقه أبو موسى قال: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ فكف، وكان في العرب من الكفار نخوة قد زالت اليوم، فالتقيا فاختلفا ضربتين فقتله أبو موسى ، وهو من قواد الصحابة الستة، والمفتين الأربعة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، اجتهد قبل موته اجتهاداً شديداً في العبادة فقيل له: لو أمسكت ورفقت بنفسك، فقال: [إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها] الخيل إذا جاء نهاية السباق أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك فأنا أجتهد بأكثر ما عندي، وقال: [إني لأغتسل في البيت المظلم فأحمي ظهري حياء من ربي] رضي الله تعالى عنه.
أبو أيوب الأنصاري وإكرامه للنبي صلى الله عليه وسلم:(26/24)
و أبو أيوب الأنصاري الذي نزل صلى الله عليه وسلم في بيته وخصه بالنزول من باب إكرام الضيف، فكان أسفل البيت و أبو أيوب أعلاه، فانسكب الماء، فقام مع أم أيوب بالقطيفة ينشف الماء بسرعة؛ خشية أن ينزل منه شيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله! انتقل إلى العلو، لا يمكن أن أمشي فوقك، لا يمكن أن أسكن في الدور العلوي وأمشي فوقك، وهو الذي نزل القرآن بلفظه لما قال في حادثة الإفك: مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16] فنزل القرآن على لفظه، وكان يحب الغزو، وكان ورعاً لا يأتي وليمة فيها منكر، ولما مات في غزو القسطنطينية أوصى بأن يوغل به في أرض العدو، فدعي فدفن عند أسوار القسطنطينية ، حتى قيل: إن الروم كانوا يستسقون به عند القحط.
زيد بن ثابت شيخ أهل الفرائض:
وجوانب التكامل في شخصيات الصحابة كثيرة، ولقد عدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بعضها لما قال: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدها في أمر الله عمر ، وأصدقها حياءً عثمان ، وأقضاهم علي ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت) و زيد بن ثابت شيخ أهل الفرائض، وأحد المفتين في المدينة ، رُبي يتيماً وكان أحد الأذكياء، أسلم وله أحد عشر عاماً، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجابته، والمجتمع الإسلامي يحتاج إلى رجل يتعلم لغة اليهود، لأن اليهود قوم بهت لا يؤمنون على كتاب، فأمره عليه الصلاة والسلام بتعلم السريانية لغة اليهود، فتعلمها زيد بن ثابت في سبعة عشر يوماً، وكان يكتب الوحي، وهو الذي تولى جمع القرآن.
أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:(26/25)
فالطاقات تنبغ في المجتمع المسلم عندما تقام فيه الشريعة ويتولى أمر المجتمع رءوس الناس. و أسامة بن زيد حبه وابن حبه صلى الله عليه وسلم، شديد السواد خفيف الروح، رباه عليه الصلاة والسلام منذ صغره، أمَّره على جيش لغزو الشام وعمره ثمانية عشر عاماً، وفي الجيش عمر وكبار الصحابة.
حسان بن ثابت وكعب بن مالك شاعرا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
و حسان بن ثابت كان منبراً إعلامياً منافحاً عن الدعوة، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد بروح القدس، يهاجي الكفار ومعه جبريل، انتدب لنصرة الإسلام بشعره، وقال: [ والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني هذا، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم سل الشعرة من العجين ] حتى قال عليه الصلاة والسلام: (لقد شفيت واشتفيت). ومثله كعب بن مالك شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، صادق ضرب لنا المثل بصدقه، فما حدث حديثاً إلا صدقاً بعد حادثة تبوك ، قيل: أسلمت دوس فرقاً من بيت قاله كعب ، وهو:
نخيرها ولو نطقت لقالت ... ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا
يعني: السيوف نخيرها ولو نطقت لقالت، لأن البيت الذي قبله:
قضينا من تهامة كل ريب ... ... و خيبر ثم أجمعنا السيوف
نخيرها ولو نطقت لقالت ... ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا
فكانت أبياتهم ترهب العدو فجاءت قبيلة دوس مسلمين.
أبو هريرة أحفظ الصحابة للحديث:(26/26)
و أبو هريرة الذي يعلمنا درساً في الحرص على طلب العلم، وتقديم طلب العلم على طلب الدنيا، الفقيه المجتهد الإمام الحافظ الذي روى عنه أكثر من ثمانمائة نفس، هذا الرجل العظيم الذي دعا أمه للإسلام، واجتهد إلى أن أسلمت، بسط ثوبه لسماع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يشغلهم الصفق بالأسواق وكان مرابطاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ حديثه، وعن أبي الزعيزعة كاتب مروان الخليفة أن مروان أرسل إلى أبي هريرة وجعل يسأله، وأجلسني خلف السرير، وأنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول دعا به -بعد سنة- فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر رضي الله عنه، لقد كان حفظه متيناً، وعن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعاً فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يوقظ هذا، حتى الخادم والمرأة لها تربية من نصيب أبي هريرة من عنايته في قيام الليل، وهو الأمير المتواضع لما ولي الإمارة كان يحمل حزمة الحطب على ظهره، ويقول: طرقوا للأمير طرقوا للأمير. وعن محمد قال: كنا عند أبي هريرة فلما تمخط مسح بثوبه وقال: [ أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر في ما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً علي من الجوع، فيمر الرجل يحسبني مصروعاً فيقعد عليَّ -ليرقيه- فأقول: ليس الذي ترى إنما هو الجوع ] وقال: [ والله إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، وكان مع أهل الصفة ] رضي الله تعالى عنه، وصلى بالناس يوماً فلما سلم رفع صوته مرة فقال: [الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة إماماً بعد أن كان أجيراً لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجليه].
نماذج من شخصيات التابعين:
عامر بن عبد قيس وزهده وعبادته:(26/27)
ولما مضى جيل الصحابة وهم أكثر مما ذكرنا بكثير جداً، ومناقبهم أكثر مما ذكرنا بكثير جداً، فقد رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعهم على عينه، خرج ذلك الجيل الذي فتح الأرض فربى الجيل الذي بعده، فانتقلت تلكم الصفات الكريمة من صفات الصحابة إلى صفات الجيل الذي بعدهم، وكان لهم أتباع وتلاميذ حملوا علمهم واقتبسوا خلقهم، فهذا مجاب الدعوة أبو مسلم الخولاني رضي الله تعالى عنه ورحمه، وهذا عامر بن عبد قيس الولي الزاهد القدوة من عباد التابعين، كان يقول: من أقرئ؟ فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشائين، ثم ينصرف إلى منزله فيأكل رغيفاً وينام نومة خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحر برغيف ويخرج، ولما احتضر بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: [ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الليل].
أويس القرني وبره بأمه:
أويس القرني سيد التابعين له والدة كان بها بر؛ كان به برص أذهبه الله إلا موضع درهم يذكر به نعمة ربه، هذا الذي لما توجه حاجاً وفطن له عمر وطلب أن يدعو له وطلب أن يستوصي به قال: أُحب أن أكون في أغمار الناس، ولما تفطن له الناس يطلبون منه الدعاء هرب منهم فلا يدرى أين ذهب، إخفاء العمل، والتواضع، وخمول الذكر إخلاصاً لله.
علقمة بن قيس مقرئ الكوفة:(26/28)
علقمة بن قيس النخعي فقيه الكوفة وعالمها ومقرئها لازم ابن مسعود حتى صار رأساً في العلم والعمل، وكان أشبه الناس بابن مسعود ، قال علقمة : ما حفظت وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس، أوتي عبد الله بن مسعود بشراب فقال للآتي: أعط علقمة أعط مسروقاً فكلما أعطى واحداً قال: إني صائم، فقال ابن مسعود : (( يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ))[النور:37] وكان علقمة يقرأ القرآن في خمس ويقول: أطيلوا ذكر الحديث لا يدرس، أي: كرروا الحديث حتى لا ينسى.
مسروق بن الأجدع الإمام القدوة:
والتلميذ الآخر مسروق بن الأجدع الإمام القدوة العلم أبو عائشة ، يقال: إنه سرق وهو صغير ثم وجد بعد ذلك فسمي مسروقاً ، حج فلم ينم إلا وهو ساجد، وكانت امرأته تقوم وهو يصلي حتى تتورم قدماه، فربما جلست تبكي مما تراه يصنع بنفسه، وكان لا يأخذ على القضاء أجراً، أرسل إليه أمير الكوفة ثلاثين ألفاً فلم يأخذ منها شيئاً وهو محتاج.
عقبة بن نافع فاتح أفريقيا:
عقبة بن نافع الفهري المجاهد القائد فاتح أفريقيا ، الشجاع الحازم الذي اختط القيروان ، وكان مجاب الدعوة، ولما أراد أن ينزل بجيشه في غابة نادى: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء الله فاضعنوا، ثلاث مرات، فلم يبق شيء من السباع والأفاعي إلا خرجت، حتى الأمهات تحمل صغارها، ثم قال: انزلوا باسم الله.
سعيد بن المسيب عالم أهل المدينة:(26/29)
سعيد بن المسيب عالم أهل المدينة ، الذي ما فاتته الصلاة أربعين سنة، وما أذن المؤذن ثلاثين سنة إلا وهو في المسجد، وحج أربعين حجة، وكان يكثر أن يقول في مجلسه: اللهم سلم سلم، ويسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، وكان جريئاً عزيز النفس، لما قدم عبد الملك بن مروان ، وقف على باب المسجد، وأرسل إلى سعيد رجلاً يدعوه ولا يحركه، قال: لا تحركوه ادعوه لي فقط، فأتاه الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين واقفٌ في الباب يريد أن يكلمك، فقال: ما لأمير المؤمنين إلي حاجة ومالي إليه حاجة، وإن حاجته لي لغير مقضية، فرجع الرسول فأخبره، فقال: ارجع وقل له: إنما أريد أن أكلمك ولا تحركه، فرجع إليه وقال: أجب أمير المؤمنين، فرد عليه مثل ما قال أولاً، فقال: الرسول لولا أنه تقدم إلي فيك ما ذهبت إليه إلا برأسك، يرسل إليك أمير المؤمنين يكلمك تقول مثل هذا، فقال: إن كان يريد أن يصنع بي خيراً فهو لك، وإن كان يريد غير ذلك فلا أحل حبوتي حتى يقضي ما هو قاض. وعن قتادة قال: أتيت سعيد بن المسيب وقد ألبس تبان شعر، وأقيم في الشمس تعذيباً له، فقلت لقائدي -قتادة رجل ضرير لكن يطلب العلم ويأخذ عن سعيد بن المسيب- فقلت لقائدي: أدنني منه، فأدناني فجعلت أسأله -قتادة يسأل سعيداً وهو في الشمس يعذب- فجعلت أسأله خوفاً من أن يفوتني -أخشى أن يفوتني فيموت قبل أن أسأله ما في نفسي- وهو يجيبني حسبة والناس يتعجبون! أما قضيته في تزويج ابنته فهي مشهورة معلومة، فهي تضرب مثلاً للآباء الذين لا يضعون العراقيل أمام زواج بناتهم، ولا يغالون في المهور، ويرأفون بالشاب الصالح، كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد ، فأبى عليه مع أنه ابن الخليفة، فلم يزل يحتال عليه فأبى، حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف، فلم يرضخ، فهو ليس الرجل المناسب، وكان من تلاميذه كثير بن أبي وداعة ، قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني(26/30)
أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت زوجتي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني ولا أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا، قلت: وتفعل؟ قال: نعم. ثم تحمد، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجني على درهمين أو ثلاثة، فقمت وما أدري من شدة ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر ممن أستدين، فصليت المغرب ورجعت إلى منزلي، وكنت صائماً، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟ قال: سعيد ، ففكرت في كل من اسمه: سعيد إلا ابن المسيب ، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت وإذا سعيد ، فظننت أنه قد بدا له -يمكن غير رأيه- فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك، قال: أنت أحق أن تؤتى؛ إنك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت وعقدنا لك، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله من خلف الباب، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراه فأول عيشتها خبز وزيت، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاءوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم ونزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً، ثم دخلت بها فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق الزوج -هذه تربية العلماء لأولادهم وبناتهم، هذه تربية العلماء لبناتهم- فمكثت شهراً لا آتي سعيداً -يأخذ عن بنت سعيد الآن- ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت، فرد عليَّ السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد ، على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم، قال(26/31)
عبد الرحمن بن حرملة : دخلت على سعيد بن المسيب وهو شديد المرض، وهو يصلي الظهر وهو مستلقٍ يومئ إيماءً، فسمعته يقرأ بالشمس وضحاها.
الربيع بن خثيم من عباد التابعين:
و الربيع بن خيثم الإمام القدوة العابد من عقلاء الرجال، قال له ابن مسعود : يا أبا يزيد لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرتُ المخبتين، ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام منذ عشرين سنة إلا بكلمة تصعد، أي: من الكلم الطيب كله، وعن بعضهم قال: صحبت الربيع بن خثيم عشرين عاماً ما سمعت منه كلمة تعاب، إنهم أناس يحفظون كلامهم، وعن الثوري عن أبيه قال: كان الربيع بن خثيم إذا قيل له: كيف أصبحتم؟ قال: ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا.
سعيد بن جبير وثباته أمام الحجاج:(26/32)
و سعيد بن جبير الذي قرأ القرآن على ابن عباس ، قال: ربما أتيت ابن عباس فكتبت في صحيفتي حتى أملؤها، وكتبت في نعلي حتى أملؤها، وكتبت في كفي، وكان لا يدع أحداً يُغتاب عنده، وعن الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج ، فبكى رجل فقال سعيد : ما يبكيك؟ قال: لما أصابك، الآن الحجاج سيقتلك، قال: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] ولما جيء بسعيد بن جبير و طلق بن حبيب وأصحابهما، دَخلتُ عليه السجن، فقلت: جاء بكم شرطي من مكة إلى القتل؟ أفلا كتفتموه وألقيتموه في الطريق -تغلبتم عليه فأنتم اثنان وهو واحد- ألا كتفتموه وألقيتموه في البرية؟ قال سعيد : فمن كان يسقيه الماء إذا عطش؟ وكان قد فر من الحجاج لكنه في النهاية ثبت، وقال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله، ولما علم فضل الشهادة ثبت للقتل ولم يقترف ولم يعامل عدوه بالتقية، وكان لسعيد بن جبير ديك يقوم من الليل على صياحه، فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، ففاتت الصلاة على سعيد ، فشق عليه ذلك، فقال: ماله؟ قطع الله صوته -سعيد بن جبير يقول عن الديك الذي لم يصح تلك الليلة: ماله؟ قطع الله صوته- فما سمع للديك صوت بعد ذلك، فقالت له أمه: يا بني! لا تدع على شيء بعدها.
زين العابدين وصدقته في ظلمة الليل:(26/33)
وهذا زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، كان يدخل المجلس فيشق الناس حتى يجلس في حلقة عبد من العبيد مولىً من الموالي هو زيد بن أسلم وهو من هو؟ زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وكان يقول له نافع بن جبير : غفر الله لك أنت سيد الناس، وتأتي حتى تجلس مع هذا العبد، فقال علي بن الحسين : العلم يبتغى، ويؤتى، ويطلب حيث كان، وكان يقول: يا أهل العراق ! أحبونا حب الإسلام، ولا تحبونا حب الأصنام. وكان يتذلل إلى الله تعالى بفناء الكعبة، وإذا أحرم ولبى ربما غُشي عليه، وإذا صلى أخذته رعدة وهيبة ممن يناجي، وكان يحمل الخبز في الليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، وربما قال: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب. وكان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين يأتي معاشهم، يأتيهم الطعام ولا يدرون المصدر، فلما مات علي بن الحسين فقدوا الطعام، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل، ويضع الطعام على باب بيوتهم، ولما مات وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، ولما مات وجدوه يعول مائة بيت، وهو لما حج هشام بن عبد الملك قبل أن يتولى الخلافة كان إذا أراد أن يستلم الحجر زُوحم عليه، وإذا دنا علي بن الحسين من الحجر تفرقوا عنه إجلالاً له فوجم هشام وقال: من هذا فما أعرفه؟ فأنشأ الفرزدق وكان حاضراً يقول:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
إلى أن قال:
هذا ابن فاطمة إن كنت جا ... ... ... هله بجده أنبياء الله قد ختموا
وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة:(26/34)
وعروة بن الزبير بن العوام عالم المدينة وأحد الفقهاء السبعة، قال: لقد رأيتني قبل موت عائشة بأربع حجج وأنا أقول: لو ماتت في اليوم ما ندمت على حديث عندها لأني وعيت كل الأحاديث، وقد كان يبلغني من الصحابي الحديث فآتيه فأجده قد قال -من القيلولة- فأجلس على بابه حتى يخرج وأسأله عنه، وكان يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف نظراً، ثم يقوم به في الليل، وإذا كانت أيام الرطب سلم حائط البستان الذي له، وأذن للناس أن يدخلوا، فيدخلون فيأكلون ويحملون، وقد ابتلاه الله عز وجل بابتلاء عظيم فصبر، فإنه قد قدم في أحد السنوات على الوليد ومعه ابنه محمد وكان ابنه محمد بن عروة بن الزبير من أحسن الناس وجهاً، فأصابه بالعين بعضهم، فخرج الولد متوسلاً به نعاس، فوقع في اصطبل للدواب فلم تزل الدواب تطؤه بأرجلها حتى مات، وبعدها بقليل حدث أن الآكلة وقعت في رجل عروة فبعث إليه الوليد الأطباء فقالوا: إن لم تقطعها سرت إلى باقي الجسد فتهلك، فعزم على قطعها، فقالوا: لو سقيناك شيئاً كي لا تتوجع، قال: إنما ابتلاني ليرى صبري، فنشروها بالمنشار، فقطعها الطبيب من نصف الساق فما زاد أن يقول: حسبي، فقال الوليد : ما رأيت شيخاً أصبر من هذا. فلما صار المنشار إلى قصبة الساق وضع رأسه على الوسادة ساعة؛ فغشي عليه، ثم أفاق والعرق يتحدر من وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، فأخذ رجله المقطوعة وجعل يقبلها في يده ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه ليعلم -سبحانه وتعالى- أني ما مشيت بك إلى حرام، ولا إلى معصية، ولا إلى ما يسخط الله، ثم أمر بها فغسلت وطيبت ولفت في قطيفة وبعث بها إلى مقابر المسلمين، فلما رجع إلى المدينة وقد أصيب بولده ورجله تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يعزونه، فما زاد أن يقول: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً [الكهف:62] وكان يقول: اللهم إنه كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت(26/35)
طرفاً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت ولئن أخذت لقد أبقيت.
ابن سيرين وزهده وورعه:
وهذا ابن سيرين العالم إذا سئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى نقول: كأنه ليس بالذي كان، وذلك ورع من الفتيا، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يبر أمه ولم ير رافعاً صوته عليها قط، كان إذا كلمها كهيئة المصغي إليها، وكان إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً، من شدة ما يخفض صوته عند أمه. هذه طائفة من سيرة أولئك النفر الذين قيضهم الله لحمل دينه ونشر دعوة نبيه، ضربوا لنا الأمثال في التقوى والورع والزهد والعبادة والتعليم والشجاعة والجرأة والجهاد والصبر وبر الوالدين والآداب العظيمة، هؤلاء أيها الإخوة حري بنا فعلاً إن كنا نريد أن نكون اليوم نحن حملة الرسالة، وأن نكون نحن من الطائفة التي يكون إنقاذ الأمة على أيديها، أن نبلو أخبارهم وأن نقتدي بهم، وفي التاريخ سطر كثير من العبر من حياة أولئك القوم، وإن تربية لا تأخذ في عين الاعتبار سير أولئك الكرام لهي تربية ناقصة، ونحن اليوم أشد ما نكون إلى معرفة هذه السير للتأسي والعمل، نحن بأشد حاجة إلى تربية متكاملة، ولذلك كنا نقول اليوم: جوانب التكامل في شخصيات السلف تربية متكاملة لا تركز على العبادة فقط، ولا على العلم فقط، ولا على الآداب فقط، ولا على الجهاد فقط، ولا على العقيدة وأمورها النظرية فقط، وإنما تلم كل ذلك وتحويه، وكل نقص في أبناء الإسلام اليوم مرده إلى عدم التكامل في التربية، وضعفت هذه التربية، ولن نستطيع أن نجابه كفار الشرق والغرب بنفوس مهلهلة وضعيفة، ونحن نعلم أن الدنيا ما فتحت لأسلافنا إلا لما كان فيهم أمثال من ذكرنا، في صفات أعظم، وما ذكرنا قطرة من بحر، ولذلك فإننا نرى اليوم ونحن نتطلع إلى فجر إسلامي قادم، أن طلائع الصحوة هذه لا يمكن أن تثبت وأن تؤدي دورها في العالم الآن إلا إذا ربيت التربية على منهاج هؤلاء السلف ، وتخلقت بمثل أخلاق(26/36)
أولئك السلف . وإن الوصية العظيمة في الاقتداء بهم والتأسي بأفعالهم لهي أمر متعب جداً؛ لأن جمع الفضائل لا يطيقه كل أحد، فإن الإنسان قد يجمع فضيلة أو فضيلتين، وقد ينشط في نوع من أنواع العبادة، أو يتجلد في بعض مجالس العلم أو في قراءة كتاب أو كتابين، لكن الجمع والتكامل مع الاستمرار على ذلك هذا هو الذي في غاية الصعوبة، وهو الذي نحتاج إليه اليوم في أشد الحاجة. وإننا أيها الإخوة في هذا العصر الذي ضعف فيه أهل الإسلام لنرى من بصيص الأمل والنور أمراً كبيراً ولله الحمد، في أن الله سبحانه وتعالى لن يخلي هذه الأمة من مجددين ومجاهدين ومصلحين، ونحن نسمع اليوم من أخبارهم في الواقع من جرأتهم وجهادهم وصبرهم ودعوتهم ما هو فعلاً أمل في الله كبير بأن ينصر الإسلام وأهل الإسلام، ولكن نرجو أن نكون نحن من هؤلاء، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن لهم حظ وافر من نصر الدين وأهله، وأن يجعلنا ممن يحملون لواء هذا الدين ويتبعون سنة سيد المرسلين.
الأسئلة:
نصيحة في الاطلاع على سير الصحابة والسلف وكتبهم:(26/37)
السؤال: من الملاحظ أن بين الصالحين والدعاة ضعفاً في العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسير والتاريخ، ونجد كثيراً من الملتزمين لا يعرف بعض الكتب المهمة في السيرة كالبداية والنهاية ، و سير أعلام النبلاء ، ولا يفتح هذه الكتب، فما هو التعليق؟ الجواب: هذا من القصور ومن ضعف الهمة، فإن بعض الشباب إذا رأى كتباً طويلة متعددة المجلدات هاب أن يفتحها، وأنا أقول: افتح ما تيسر منها، واقرأ ما تيسر، ومن الأسباب التي ربما حملت بعض العلماء على اختصار بعض الكتب: معالجة مسألة ضعف الهمة الموجودة عند مثل هؤلاء القوم. فأقول: أيها الإخوة! لابد أن نحرص على القراءة في تاريخ المسلمين وأوصيكم بكتابين: البداية والنهاية لابن كثير و سير أعلام النبلاء للذهبي ، وهو مختصر في ثلاثة مجلدات لمن لا يطيق القراءة في الكتاب الكبير، فإنه يمكن أن يرجع إليه ويستفيد أمراً عظيماً، ووالله الذي لا إله إلا هو لو أنك فتحت هذه الكتب بقلب مفتوح مقبل على الله؛ لربما دمعت عيناك من موقف صحابي، أو خشعت لله من عبادة أحد السلف ، أو حصل في قلبك نوع من الخلق ما كان موجوداً من شدة ما تجد وأنت تقرأ، المهم هو التفاعل مع هذه القصص وتحس وأنت تقرأ فيها أنك انتقلت إلى ذلك الجو العطر، وأنك ابتعدت عن هموم هذا العالم المليء بالترهات، الذي يجلب الصداع للإنسان عندما يفكر، ولكن أقول: هناك شيء مهم كنت بالأمس قد سجلت سؤالاً من فترة ثم تسنى لي أن أسأل عنه الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله سؤالاً فيه إزاحة لجزء كبير من الهم، وفيه باب مهم من الأبواب، قلت له بنص السؤال: هل يؤجر الشخص على تفكيره بمصلحة الإسلام؟ يعني: لو أن شخصاً استلقى على فراشه ثم قعد يفكر في المسلمين ومشاكلهم وأوضاعهم في العالم، والأقليات الإسلامية، وأوضاع الجهاد، وأسباب تفرق المسلمين واختلافهم، وما هي الوسيلة المثالية في جمعهم؟ وكيف تكون الدعوة والتربية وطريق الدعوة ووسائل(26/38)
الدعوة؟ وكيف يبدأ بالدعوة والتربية وما هي الأشياء التي يتربى عليها؟ وموضوع الإخوة في الله، وكيف يلم شعث إخوانه؟ ويفكر بمسائل وأوضاع المسلمين في العالم ما يحصل لهم الآن هل يؤجر الشخص على تفكيره بمصلحة الإسلام مجرد التفكير وهو مستلقٍ على فراشه؟ أو هكذا ساهم وهو يقود السيارة مرة من المرات يفكر في أوضاع المسلمين، فقال الشيخ: لا شك أنه يؤجر، كيف لا يؤجر؟ وقلت: وهو مستلقٍ على فراشه؟ قال: نعم. يؤجر وهو مستلقٍ على فراشه يفكر في مصالح المسلمين، يفكر في مصلحة الإسلام. فالذي يجعل الإسلام همه، ويفكر دائماً بمصلحة الإسلام على الأقل يأخذ من الأجر، يخرج بأجر عظيم وهو يفكر.
المرء مع من أحب:
السؤال: إن بعض الشباب قد يوهم عليه الشيطان أنه لا يستطيع أن يعمل عملاً كأعمال بعض الصحابة فيستصعب ذلك، فما هي النصيحة؟ الجواب: هذا واقعي وصحيح ونحن نعترف أنه لا يمكن ونحن في قصورنا وضعف إيماننا أن نعبد الله كما عبده الصحابة، ولا أن تكون فينا الميزات التي كانت في الصحابة، لكن -أيها الإخوة- إن التشبه بالكرام فلاح، ونحن نعلم أننا لن نصبح مثلهم لكن لا بد أن نجاهد لكي نحصل شيئاً مما حصلوه، وما يدريك ربما تكون أنت داخلاً في حديثه عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب) ربما إذا أنت قرأت في سيرة سعد بن معاذ ، وتفكرت فعلاً في هذا الرجل العظيم الذي ضحى بالملك وقام وقاتل وبذل لله سبحانه وتعالى، وما أُصيب المسلمون في رجل مثل سعد بن معاذ ، فقلت في نفسك: اللهم احشرني مع سعد ، من حبك له قلت: اللهم احشرني مع سعد ، ربما يكون هذا من أسباب نجاتك يوم القيامة فـ(المرء مع من أحب) وقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم) لا صلاة مثلهم، ولا صيام مثلهم، ولا جهاد مثل جهادهم (قال: المرء مع من أحب قال الصحابة: ما فرحنا بشيء فرحنا بتلك المقولة وذلك الحديث).
حكم من يعيش في البيت مع غير محارمه:(26/39)
السؤال: أهل أخي يعيشون معنا في البيت وهي لا تتغطى. فهل يجوز أن أجلس معهم؟ الجواب: أنت تنكر، وتجلس وتغض البصر، وتنكر عليهم فعلهم ذلك، فإذا لم تتمكن من غض البصر فتفارق ذلك المجلس.
ذكر مراجع تتكلم عن آل البيت:
السؤال: لماذا نحن لا نعرف شيئاً عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أني قرأت كتب الأحاديث ففهمت أن حبهم واجب، وقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به .. وأذكركم أهل بيتي) الصالحون من أهل بيته هم الذين يتبعونه؟ الجواب: الحقيقة هذا الموضوع مهم، من مواضيع العقيدة محبة آل بيت رسول الله والاقتداء بالصالحين منهم، وقد ذكرنا منهم زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى، ولعله يتاح هناك مجال معين لتبيين مراجع موثوقة لموضوع العقيدة في آل البيت إن شاء الله.
كيفية تقوية الإيمان في حب الصالحين:
السؤال: إني أحب الشباب الملتزم، وأريدهم أن يكونوا أصدقائي، لكني ضعيف النفس أفعل المخالفات الشرعية، كيف أجعل صدق حبي للملتزمين يترجم على صدق إيماني؟ الجواب: خذ منهم ما تراه موافقاً للإسلام، خالطهم وتشبه بهم، استنصحهم واقتد بهم، رافقهم والزمهم، فلاشك أنك ستتأثر عاجلاً أم آجلاً، سيرتفع إيمانك مثل هؤلاء الأشخاص، وأقول مرة أخرى: (المرء مع من أحب) وربما يكون قصورنا مغفوراً لنا بسبب محبتنا لأشخاص من أولياء الله الصالحين.
ضرورة ضبط النفس عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(26/40)
السؤال: رجل أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فاتهم الشخص الذي أمامه بالكفر؟ الجواب: هذا الأمر خطير، فإذا كان الرجل ما أبدى كفراً بواحاً فلا يجوز لنا أن نرميه بالكفر، ولو كنا في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم ضبط النفس؛ لأن الشخص المجادل الذي أمامك قد يستفزك، وبعض الشباب إذا أراد أن ينهى عن المنكر وهناك شخص يستفزه في المجلس ويجادله بالباطل ربما تَسرع فأطلق عليه كلمة الكفر، فلابد من ضبط النفس عندما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
حكم من فضَّل علياً على أبي بكر:
السؤال: ما رأيك فيمن يفضل علياً رضي الله عنه على أبي بكر الصديق ؟ الجواب: لقد أزرى بالمهاجرين والأنصار بفعله هذا.
ضوابط تتعلق بموضوع المساهمة:(26/41)
السؤال: ما حكم الاشتراك في المساهمات؟ الجواب: ذكرنا في خطبة الجمعة بعض الضوابط التي تتعلق بموضوع المساهمة فذكرنا أنه ينبغي أن يكون مجال عمل الشركة حلالاً كالزراعة والصناعة وغير ذلك. ثانياً: ألا يكون عندهم تعاملات محرمة كالتعامل بالربا، وذكرنا بعض الوسائل التي يعرف منها بعض هذه الأمور إذا كانت موجودة أم لا، لكن لابد أن تتثبت وتسأل وتتأكد، وإذا ما وجدت شيئاً حراماً خذ بالظاهر، وإذا أردت أن تشارك وتساهم لا أحد يمنعك، فإذا اكتشفت حراماً في المستقبل فتتخلص من الأسهم حالاً، وما نتج عنها في وقت جهلك بالمحرم الذي لديهم فهو لك، وما جاء منها وأنت تدري بالمحرم من الذي عندهم يجب أن تتخلص منه ولك رأس مالك، وبعض الناس مع الأسف لا يتأكدون ولا شيء من ذلك، وربما يكون مساهمة في بنك يقوم بها البنك موضع شبهة، فبمجرد ما يكتب له البنك: أنت معرض للربح أو الخسارة قال: هذه مساهمة إسلامية، فهل عرفت أنهم يتاجرون بماذا؟ وهل طريقتهم في شراء وبيع العملات صحيحة؟ وهل طريقتهم في شراء وبيع الذهب صحيحة؟ هل يدخلون أشياء في الربا ويعطونك أرباحاً في الربا؟ فبعض الناس يُضْحَك عليهم بأشياء من هذه الشعارات التي تكتب: معرض للربح والخسارة إذاً حلال، لابد أن تسأل وتتأكد، ثم أي عمل استثماري يقوم به البنك فهي مسألة شبهة ولا شك، بنك ربوي شبهة، وبعض الناس مع الأسف اندفاعاتهم عجيبة فلا يتأكدون المهم الربح يقول: هذا مشروع لابد، حتى اسم الشركة فقد اتصل بي شخص يقول لي: ما هو الحكم في الاشتراك في شركة فاصوليا؟ فاصوليا يا أخي هذه تباع في سوق الخضرة! يعني: حتى اسم الشركة المهم يشترك ويذهب أحدهم مثل المجنون يسأل أين الفاصوليا؟ دون أن يتحرى. فمسألة التحري عند الناس فيها خلل واضح فالمهم عندهم جمع المال أولاً، ويأتي بعد ذلك السؤال هل هي حلال أم حرام.
حكم من ترك صلاة الوتر والضحى:(26/42)
السؤال: ما هو حكم من ترك صلاة الوتر والضحى؟ الجواب: بعض العلماء يفسق تارك السنة، وصلاة الوتر أوكد من صلاة الضحى، ولاشك في المحافظة عليها ولو على الأقل ركعة.
حكم من عمل بدون راتب ابتغاء الأجر:
السؤال: أعمل في دائرة عملاً إضافياً بدون راتب، فأنا أريد أن أعمل ذلك للأجر، ولكن الناس يقولون: لا تعمل إلا براتب؟ الجواب: هذا جيد فإذا أردت أن تعمل لوجه الله عملاً إضافياً وأُعطيت مالاً، فخذه وتصدق بهذا الأجر الإضافي ويكون عملك إن شاء الله لوجه الله وأجرك محفوظ.
حكم لبس الأحمر من الثياب:
السؤال: هل يجوز لبس الفنيلة الحمراء؟ الجواب: لا. لا تلبس أحمر قانياً لما ورد من النهي عن لبس الأحمر، وإنما البس الأحمر إذا كان مخططاً أو فيه خطوط.
حكم استئجار الذهب ليلة العرس:
السؤال: هل يجوز استئجار الذهب في ليلة العرس؟ الجواب: يمكن أن يستأجر الحلي استئجاراً ويرجعه، لكن المهم أنه لا يتشبع بما لم يعط، فتقول المرأة: انظري ماذا أهدي إلي، وهو مستأجر، انظري ماذا أعطاني زوجي، وهو مستأجر، فهذا (من تشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور).
حكم كشف المرأة لخطيب ابنتها:
السؤال: هل يجوز لأمي أن تكشف حجابها لخطيب أختي؟ الجواب: لا. لأنه لازال خطيباً ولم يصبح زوجاً، فإذا تزوج وعقد كشفت له.
حكم كشف والدة زوج البنت أمام أبي البنت:
السؤال: هل يجوز لأبي أن يكشف على والدة زوج أختي؟ الجواب: لا. لأنه ليس هناك علاقة نسب ولا مصاهرة ولا رضاعة. فختاماً: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، والاستقامة والسداد، في القول والعمل، وأن يرزقنا حسن الختام، وأن يتوب علينا أجمعين، ويهدينا الصراط المستقيم، والله تعالى أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(26/43)
القابضون على الجمر
للشيخ/ محمد صالح المنجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الحمد لله ملك يوم الدين الحمد لله الذي خلق الخلق وجعل لهم مما أنزل عليهم نبراسا يهتدون به ونورا الحمد لله الذي أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم للعالمين مبشرا ونذيرا فعلمنا العفة وأمرنا بالعفاف ونهانا عن الفحش وبين لنا ما يغضب الرب عزوجل ونحن في زمن عصيب كثرة فيه الفتن عم فيه الفساد تبرج وسفور اختلاط ومجون غناء ورقص دعارة فضائية ومطبوعة ومنشورة ودعاة على أبواب جهنم هذه الأمور الإباحية الفاضحة أفلام جنسية وأغاني فاجرة دعايات سيئة واتصالات مشبوهة خطوط صداقة فاجرة وغرف عارمة بالمعاصي لا يخافون الله عجت الملائكة إلى ربها من ظلم الخلق وفجورهم واشتكت الأرض والسماوات إلى رب البريات وهذه الملائكة صاعدة بأنواع الفحش والفجور من هؤلاء العباد الذين تمردوا على الله وعلى دينه وشرعه زادت الفتن وعم الخطب
هذه المفاسد عمت كل ناحية ... ... وهكذا الفحش حل السهل والجبل
وقد طم أكناف الديار وعمها ... فسوق وعصيان وهتك المحارم(27/1)
إننا نبرأ إلى الله في هذا الزمن الذي لم يمر مثله على البشرية في انفتاح الشهوات عليهم وشياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا يا أيها المسلمون يا أيتها المسلمات ماذا حل بنا وصار الذي يصبر عن الحرام ويريد الوقوف أمام موجات الفساد كالقابض على دينه يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر وهكذا إن من وراءكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل القبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله لماذا لعظم الصبر في هذه الأيام أيها الإخوة والأخوات لأن الشهوات قد عمت وطمت لأن الفتن بالمحرمات قد غشيت كل ناحية لأن معسكر الشيطان قد اتسع لأن الحرام صار في الجبل والسهل في الأرض والفضاء في البر والبحر لم يترك ناحية وهكذا صار المسلم محاصر بأنواع المحرمات جهر بالفواحش قلب نظرك في كل ناحية لترى الإعلان عنها كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه رواه البخاري هكذا الدعوة إلى المعاصي بأنواعها والكبائر والإعلان والإذاعة والإشاعة صارت القنوات الفضائية تنقل حيا كما يقولون ولكن مما يميت كل قلب ينظر إليها هذه المجاهرة التي صارت تنقل لحظة بلحظة يتحدثون وهكذا يقومون بأنواع المحرمات استخفافا بأمر الله واعتداءا على شرعه وانتهاكا لحرماته والله سبحانه وتعالى يغار، يغار أن يزني عبده أو تزنيه أمته الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في أنحاء العالم اليوم الأمور القبيحة والمستشنعة تظهر وتنتشر هكذا يريدونها ويختارون أن يذيع الزنى كما قال قتادة رحمه الله أن يظهر الزنا وفعل القبيح ومن أعان على نشرها فقد توعده الله بالعذاب وأنظر في الآية إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فإذا توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة فكيف بالذي يعملها كيف بالذي ينشرها(27/2)
ويذيعها كيف بالذي يعلنها ويستعلن بها وهكذا قامت هذه الشبكات العنكبوتية اليوم بضخ أنواع الفواحش عبر العالم تجارة الجنس تقدر بخمسة وسبعين مليارا من الدولارات واثنا عشر في المائة من إجمالي مواقع الشبكة لتجارة الفاحشة وأكثر من ثلاثمائة وأثنين وسبعين مليون صفحة تحمل الخنا والفجور وبليونان ونصف البليون من رسائل البريد الإلكتروني وخمس وعشرين في المائة من إجمالي الطلبات لمستخدمي الشبكة في البحث عن أوكار الفواحش حتى صور الأطفال بل جنس الأطفال كما يسمونه لم تسلم منه هذه الشبكات ملايين الملايين يزورون المواقع صفحة واحدة في موقع واحد استقبلت خلال سنتين أكثر من ثلاثة وأربعين مليونا من هؤلاء الناظرين والناظرات والسامعين والسامعات والناقلين والناقلات تزعم إحدى المواقع أنهم قد وزعوا أكثر من مليار مرة ثلاثمائة ألف صورة خليعة وهكذا عندنا أكثر من ثمانين في المائة من الذين يدخلون الشبكة يدخلونها بالحرام عم الحرام في كل ناحية وصارت البيوت تشتكي الأسر تأن هكذا انفصمت عرى كثير من الأسر هكذا تشتكي الزوجة المسكينة وهكذا يكتشف الزوج المسكين وهذا يفاجئ بابنه وهذا يطعن من الخلف بابنته ماذا حل بنا ما هذه المنديات للفضائح ما هذه المواقع التي تنشر القصص الواقعية كما يسمونها ما هذه المواقع التي تدعوا إلى إقامة العلاقات تقيمها هذه الأشرطة التي تعلن على الشاشات فيها الأرقام والعناوين والاتصالات وصارت ترقيم الإلكتروني شيئا بديلا عن الترقيم الورقي واعجبا هذا يحل بأمة الإسلام وأمة القرآن هل هذه أخلاق المؤمنين من الذي يرضى بهذا إنفاق الملايين على تجارة الجنس والسفر إلى الأماكن المحرمة ورؤية البرامج المختلفة سحقت الفضيلة وعمت الرذيلة تهدمت المفاهيم عند الكثيرين وأصبح اختزان الصور في القلوب والعقول وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا هذه الاتصالات الفضائية بأنواعها قنوات النصف الأسفل العري في كل(27/3)
مكان أيليق هذا بأمة الإسلام التي هي خير أمة أخرجت للناس ما معنى أن تنتشر هذه الفواحش والدعوة إليها والتمايل والرقص وأنواع الحرام والغناء والتغزل وهكذا الوصف الدقيق الذي يثير الغرائز والشهوات بأيدي أبناء أناس من هذه الأمة تعم الرسائل في كل مكان لا أسواقنا نظيفة ولا شوارعنا ولا مدارسنا ولا مكاتبنا إعلان للحرام أتصل أتصلي على الرقم كذا أريد أن أتعرف على كذا وهكذا شرائط الم أس أم والأم أم أس وما يأتي في الزمن القادم مما لا يعلمه إلا الله دعوة للرذيلة والفاحشة سماسرة للفساد ويقودون إلى الفحشاء ووسائط في التعرف ولا يكتفي أن يفعل إلا أن يخبر أصحابه وهكذا تجر صاحباتها والقصص الغرامية المخزية أخبار الممثلين الداعرين والراقصين الفاسقين والدعوة إلى الاختلاط في كل مكان مقالات ملتهبة ووصف لمن يريد العفاف بأنهم من متأخري القرون الماضية والمتخلفين الذين نسيهم الزمن في القرن الحادي والعشرين وأتت كمرات الجوال لتكمل المسلسل الداعر وتنشر النار في الهشيم فتنقل حيا كما يقولون وتذيع وتقنية البلوتوث التي صارت عند الكبار والصغار من مائة وعشرين جوالا في إحدى المدارس ثمانون منها بالكميرة في أحد الجوالات تسعة وأربعين مقطع جنسي وثلاثمائة صورة فاضحة مفهرسة موقع كامل على هاتف أحد الطلاب ماذا نتوقع وهكذا يفاجئ الأب وتفاجئ الأم وهكذا تنقل الرذيلة خلال لحظات ماذا يحدث بأمة الإسلام اليوم ماذا يحدث بهؤلاء الشباب والشابات الذين سيسعون بعد ذلك في حال تأجج هذه المشاعر المحرمة لديهم إلا لتطبيق ما يرون والسعي للوقوع في هذه الفواحش لتلبية هذا العطش الجنسي المسعور الذي أججته هذه الصور وهذه القصص وهذه الأفلام وهذه الأغاني وهذا الفيديو كليب وهذه الأخبار الذي يتناقلونها فيما بينهم وهذا الحجاب اليوم الذي يشكي إلى الله من ظلم الظالمين والظالمات الذي تعرض به هذه المرأة التي استجابت لسبيل الشيطان مفاتنها فماذا نتوقع بعد(27/4)
ذلك عصفت القضية بالبيوت والأسر كثر أولاد الحرام عم السفاح ذهبت العفة قصص هروب البنات وذهاب الزوجات بل الزنا بالمحارم أيها الإخوة والأخوات إننا والله أمام واقع رهيب وأمر عصيب مما يراد بنا ومما ينساق إليهم المجتمع كالأعمى الذي لا يدري إلى أي شيء يقدم عليه وفتنة النساء التي ذكرها لنا الشرع المطهر وحذرنا منها وجاءت الآيات والأحاديث بالأمر من العفة والعفاف وأمر النساء بالحجاب والرجال والنساء بغض البصر وهكذا إذا أردها شيئا أن يسألها من وراء الحجاب وهكذا أن لا تبدي زينتها لهؤلاء الأجانب وأن لا تخضع بالقول توجيهات كثيرة من الخالق سبحانه وتعالى لحفظ الفروج وحفظ الأبصار والأسماع ولكننا اليوم في عصر رقيق الأبيض الذين ينقلونه من مكان إلى مكان وتأتي الأخبار لتبين حجم العلاقات خارج نطاق الزواج في مدرسة ثانوية أكثر من خمسين بالمائة من هؤلاء الشباب قد أقاموا علاقات محرمة على درجات متفاوتة يزعم البعض أنها للتسلية والبعض يصرح بأنه قد وقع في الفاحشة الكبيرة ماذا لدينا اليوم قصص اغتصاب خطف الفتيات خطف النساء في الشوارع خطف النساء في الأسواق التحرش العلني إنها نتيجة طبيعية لما يدور اليوم لما يعج به العالم من أنواع الشهوات لقد جاءت الشريعة الإسلامية وهذه الرسالة المحمدية لمصلحتنا نحن لقد منع اختلاط الرجال بالنساء لا في المساجد ولا في الخروج منها ولا في الطرق حتى في صفوف الصلاة لم يكن هنالك اختلاط وذلك لأن الشارع حكيم يعلم ما يصلح للبشر فإذا تمردوا على الشرع وأراد كسر الحواجز وإحداث الاختلاط في التعليم وأنواع المنشآت والمكاتب والشركات والمدارس والكليات فماذا سيبقى يا عباد الله ألم يأتنا الواعظ من الغرب بأن نسبة التلميذات الحوامل سفاحا في مدرسة ثانوية في ولاية المتحدة قد بلغت ثماني وأربعين في المائة هذا ثمار التعليم المختلط إما أن تحدث الفاحشة بالرضا أو بالإكراه ويتبع ذلك حمل أو إجهاض وقتل(27/5)
للمولود أو ولادة السفاح ليعم أولاد الحرام وأولاد الحرام أين سينشئون ما هو مستقبلهم وعندما تكون الفتنة في الأسواق كما نرى اليوم وفي وسائل المواصلات والمضيفات إنها فتنة عظيمة قد حذرنا منها محمد صلى الله عليه وسلم بقوله ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ما معنى السعي الحثيث والعمل الدوؤب لإيجاد الاختلاط في أماكن العمل ألم يكفنا ما جاء من النذر من الشرق والغرب عما يحدث من حوادث التحرش والاعتداء في أماكن العمل يأتيك الشر اليوم من كل مكان حتى لو لم تكن تسعى إليه وربما يأتيك إلى جوالك مستقبلا عبر قنوات عبر رسائل قد جاءت نذورها وبدأ بثها فأي شيء ننتظر تفاجئ اليوم بأنواع من هذه الصور حتى لو لم تكن تبحث عنها أصرف بصرك يا علي لا تتبع النظرة، النظرة وهكذا تأتي الشواهد القرآنية وهذه الأحاديث النبوية لكي تبين لنا ماذا نتصرف حيال هذه المواقف وأمام هذا الوضع من التفشي والشيوع والأشياء الذي يعلمها الكثيرون .
ولقد رأيت معاشرا جمحت بهم ... تلك الطبيعة نحو كل تيار
تهوى نفوسهم هوى أجسامهم ... شغلا بكل دناءة وصغار
تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى ... منه الهوان بأهله فحذار
فأنظر بعين الحق لا عين الهوى ... فالحق للعين الجلية عار
قاد الهوى الفجار فانقادوا له ... وأبت عليهم مقادة الأبرار
أيها الإخوة والأخوات نحن اليوم أمام واقع يعصف بالأخلاق ويعصف بالأمة كلها إنه واقع أليم مرير إنه شيء قد دنس الفضيلة .
يا وردة عصفت الذبول بعطرها ... ... لا خير في الريحان غير معطر(27/6)
فإذا صار الطيب أصلا ملوثا فماذا سيطيب بعد ذلك ماذا نفعل اليوم أمام هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم ماذا نفعل اليوم أمام هذا الشيوع للفاحشة الذي حصل ذهب الورع وقل الدين وفسدت المروءة أين الغيرة ماذا نفعل اليوم وغضب الرب تعالى نازل على كثير من هؤلاء ذكورا وإناثا وهم ينقادون إلى الحرام ويفعلونه لقد بدلوا بدلا من الطيب أخذوا الخبيث الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والجنة لا يدخلها إلا طيب إنها ثواب الله تعالى وكرامته ماذا يفعل أولئك الذين يصبرون اليوم كالقابضين على الجمر أيها الإخوة لا بد أن يكون لنا وقفات وطرق نتبعها للحذر والتحذير من الحرام أولا اجتناب الخلوة بالمرأة الأجنبية سواء كانت من الأقارب كبنت الخال وبنت الخالة وبنت العم وبنت العمة وأخت الزوجة وأخو الزوج والحمو الموت أو الأباعد كالخادمة والسائق المدرس الخصوصي صديقة الزوجة الجارة المطلقة لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره بعد الذنب العظيم بالشرك وبعد قتل الولد قال أن تزاني حليلة جارك أجاب عن سؤال أي الذنب أعظم وهكذا تقود القيادة نساء للسيارات في البر والأماكن النائية وما سيحصل من الطرق الخالية عندما ينزل لمساعدتها أو تتوقف له وتشير لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال يا رسول الله امرأة خرجت حاجة واكتتبت في غزوة كذا وكذا قال أرجع وحج مع امرأتك لقد ذهبت مع رفقة صالحة من الصحابة والصحابيات إلى فريضة من فرائض الله ومع ذلك أمره بالخروج من الجهاد ليلحق بامرأته ومن أعظم أنواع الخلوة التي تكون مع قريب الزوج كأخيه وابن عمه وابن خالته أو ابن عمها وأبن خالتها وكذلك خلوة الرجل مع قريباته وهكذا من غير المحارم إياكم والدخول على النساء.(27/7)
ثانيا أخذ الاحتياطات الواجبة في حال السفر وعدم ترك الابن الشاب وحده في البيت أو البنت الشابة فتكفي ساعة غفلة من الشيطان لفتح الباب لموعد بالحرام قال تعالى إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وهنالك حالات كثيرة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى ولذلك كان لا بد من تأسيس الإيمان في النفوس ليخشى هؤلاء ربهم بالبيت فإذا غابوا عن أعين الناظرين فلم يغيبوا عن نظر الله تعالى .
ثالثا الحذر عند السفر فلم يغيبوا عن نظر الرب تبارك وتعالى.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة ... ... والنفس داعية إلى الطغيان
فأستحي من نظر الإله وقل لها ... ... إن الذي خلق الظلام يراني
لقي رجل أعرابية فأرادها على نفسها فأبت وقالت ثكلتك أمك أما لك زاجر من كرم أما لك ناه من دين قال والله لا يرانا إلا الكواكب قالت فأين مكوكبها .
رابعا الحذر عند السفر إلى البيئات المتمردة على شرع الله فيحصل التعارف على بنات الأسر هناك أو الوصول إلى الحرام عن طريق سائق سيارة الأجرة أو المستقبلات في المطار من مندوبات السفر والسياحة أو في الفنادق ودور اللهو المحرمة وأماكن البغاء والملاهي الليلة وعصابات الدعارة والقيادة إلى الحرام أين هؤلاء الذين يسمعون عند سفرهم ذلك الدعاء اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى يذهبون وهم يعلمون ماذا سيفعلون وهم يسمعون اللهم أنت الصاحب في السفر نزل السري ابن دينار في درب بمصر بعد أن حل من سفر وكانت فيه امرأة جميلة قد فتنت الناس فقالت لأفتننه فلما دخل من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها تعرضت له فجأة قال مالك قالت هل لك في كذا وكذا فأقبل عليها وهو يقول
وكم ذي معاص نال منها لذة ... ... ومات فخلها وذاق الدواهي
تصرم لذات المعاصي وتنقضي ... ... وتبقى تباعات المعاصي كما هي
فيا سوأتا والله راء وسامع ... ... لعبد بعين الله يغشى المعاصي(27/8)
خامسا اجتناب التحديق والتأمل في محاسن النساء وعلامات الجمال وهذا سيقود إلى التعلق من الطرفين فيقود للحرام وقد نهى الله الرجال والنساء عن إطلاق البصر في الفتنة قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم وقال كذلك للمؤمنات أن يغضضن أبصارهن والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا في الستة التي تدخل الجنة أحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكل الحوادث مبدأها من النظر وهكذا يتطاير الشرر .
والعبد مادام ذا عين يقلبها في ... ... أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ... ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
نحتاج إلى غض البصر حتى في الحرم نحتاج إلى غض البصر حتى عند الكعبة نحتاج إلى غض البصر في كل مكان اليوم لأن هنالك إهمالا عجيبا في أمر الحجاب هذا الضيق والشفاف والملون ولافت النظر بفتنته وما فيه لقد صارت العباءة فستانا أسود مطرزا مزينا يلفت النظر ويوقع في الحرام .(27/9)
وسادسا اجتناب إقامة الصادقات والعلاقات العاطفية وبث المشاعر وكلمات الإطراء والإعجاب التي تؤدي إلى الإنفراد والوقوع في الحرام في النهاية اتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء قال عليه الصلاة والسلام ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء رواه البخاري ومسلم قال سعيد بن المسيب ما خفت على نفسي شيئا مخافة النساء قال يا أبا محمد إن مثلك لا يريد النساء ولا تريده النساء قال هو ما أقوله لكم وكان شيخا كبيرا أعمش هو الذي يقول لو ءاتمنوني على بيت المال لأديت ولا أؤتمن نفسي على امرأة سوداء لو ءاتمنوني على أئمة سوداء لخشية على نفسي وهكذا أولياء الله عزوجل يخافون على أنفسهم ولا يقول أنا واثق من نفسي ولا تقول أنا واثقت من نفسي وإنما يحدث اليوم من التساهل في إقامة العلاقات الذي يؤدي في النهاية إلى الوقوع في الحرام هذه العلاقات الكلامية لا تعدم أن تجد فتاة مضطهدة من أبيها أو إخوانها أو مطلقة أو ذات زوج يسيء معاملتها أو تأخر زواجها بحبس أوليائها تعاني من فراغ عاطفي للسبب أو لآخر فتلتقي الحاجة النفسية مع الكلام المعسول لتتطور القضية إلى علاقة وردية في الظاهر ذات عذاب في الباطن ليحدث بعد ذلك الحرام على يد فارس الأحلام الذي يرميها وردة ذابلة مدعوسة بالأقدام بعد هتك العرض وذهاب الشرف أو الحمل المحرم يقول في افتتانه إجازة زائد نيل زائد هدوء زائد فراغ زائد شبكة الإنترنت منتدى فرايفت حوار مزاح مناوشة سوالف تعارف ثم الماسنجر سماع الصوت ويمكن رؤية الصورة ثم الكلام عن التجارب في العلاقات ثم موعد ولقاء ووقوع في هذه الكبيرة من السبع الكبائر العظيمة.(27/10)
سابعا اجتناب لبس الملابس الباعثة على إثارة الغرائز من الضيق والقصير والشفاف لأن عاقبة هذا أن يأتيها من يوقعها في الحرام طوعا أو كرها خمسين ألف امرأة تتعرض للاغتصاب في بريطانيا سنويا ممن وصل خبرهن أما التي لم تبلغ خشية الفضيحة فكثير أظهر استطلاع أجرته منظمة العفو الدولية في لندن وشمل ألف امرأة ورجل أن السبب الأساسي والخبر قريب قد نشر في مواقع الأخبار لجرائم الاغتصاب أن السبب الأساسي لجرائم الاغتصاب التي يشهدها الشارع البريطاني تعود لعبث المرأة ولباسها الفاضح لتتحمل بذلك المسئولية إبتداءا في افتتان هذا الرجل ليكون سويا بعد ذلك في الهاوية قال عليه الصلاة والسلام صنفان من أهل النار لم أرهما قال ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسرية كذا وكذا .(27/11)
ثامنا اجتناب العمل في أماكن الاختلاط لأن تقارب الأشخاص والأنفاس يؤدي إلى الوقوع في الأرجاس وما يسمى بزميلة العمل اليوم لا تكف عن الأناقة في الملبس ولا وضع الروائح الفواحة قال عليه الصلاة والسلام إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية قال سعيد بن المسيب ما أييس الشطيان من شيء إلا أتاه من قبل النساء هو الذي يقول لتلاميذه وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشوا بالأخرى ما شيء أخوف عندي من النساء يحدث الاختلاط اليوم في المستشفيات بين الأطباء والطبيبات بين الأطباء والممرضات بين الطلاب والطالبات وهكذا وهكذا يحدث مع طبيبة الأسنان التي تعالج الرجال فماذا يتوقع وهكذا يحدث من هذا الذي قد أتخذ سكرتيرة فماذا يتوقع وعندما تقوم الدعوة إلى الاختلاط علنا وعندما يقاد الناس إلى ذلك عندما يخالط البائعات الباعة في دكان واحد وعندما يكون هو وهي في الصيدلية في ساعة متأخرة من الليل إن أماكن الاستقبال الموجود اليوم في الفنادق والمستشفيات والشقق المفروشة وغير ذلك مما سيكون فيه أو حصل فيه اختلاط الرجال بالنساء ما هو الوضع المتوقع في مثل هذه الحالة وعندما تكون الاجتماعات مختلطة وعندما تكون اللقاءات مشتركة بين الجنسين ماذا سيكون إننا أمام وضع خطير جدا اليوم في الدعوة إلى الاختلاط وتقنينه وتشجيعه وفتح المجالات كافة بدخول المرأة في معتركات الرجال ما هو المتوقع أليس في النهاية القيادة إلى الحرام وكذلك فإن من الإجراءات المهمة إحاطة الشباب والفتيات الذين لا يعيشون مع أسرهم في أوضاع مستقرة بمزيد من العناية كالأيتام واللقطاء إذا كبروا والمطلقات والعمال والموظفين والطلاب في بلاد الغربة لأن هؤلاء الذين حرموا من جو الأسرة الذي يحفظ العرض والدين إذا كانت صالحة إن هؤلاء بفقدهم لهذه الحماية محتاجون جدا إلى مساندة ومساعدة وحماية من أناس أخيار من بيئة طيبة ممن يعينهم على الصمود في(27/12)
وجه الفتن جاءت امرأة شابة إلى عهد السلف تسأله مالا تنفق به على أيتامها فأعطاها مالا كثيرا فلما ولت المرأة سأله أصحابه لماذا أعطيتها كل هذا المال كان يكفيها أقل من هذا قال رأيتها شابة ليست ذات بعل لقد فقدت الأسرة ركنا وهو المنفق المعين المشرف رأيتها شابة فخفت عليها أن تقع في الحرام من أجل المال فأعطيتها أكثر مما تحتاج ومن الإجراءات المهمة تفقد الأبناء والبنات في البيوت في علاقاتهم ومراقبة ذلك عن بعد مع السخائب النصح والتوجيه وقصص الاعتبار واستعمال شيء من الحزم والمحاسبة عند التأخر عن الرجوع من البيت أو كثرة الخروج يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته مسؤول يعني يوم القيامة سيسأله الله عزوجل يقول هؤلاء في قصتهم إنهم قد سرقوا جوازات سفرهم من أهليهم لأن أسرهم محافظة تمنعهم من السفر ثم أخبروا أهاليهم بأنهم سيذهبون إلى عمرة وبعد ذلك انطلقوا إلى الحرام فماذا كانت النتيجة ومن الأسباب المهمة أيضا للوقاية الحذر الشديد من ترك البنات في الأسواق أو أماكن الألعاب والترفيه والشواطئ بل متابعة سجل الحضور والغياب في المدرسة والكلية والتعاون مع القائمين عليها إدارة ومراقبة ثم أيضا رفض جميع أشكال الزنا مغلف بغطاء وهمي مما يسمونه شرعيا وهو زائف كزواج المتعة ووهبتك نفسي والزواج العرفي من غير ولي وكذلك نكاح الدم يجرح أصبعه لتجرح أصبعها فيضعان الدم على الدم ويقولون هذا عقد فأنظر إلى هذه السخافات والمحرمات والاعتداء على الميثاق الغليظ الذي غلظه الله عزوجل هذا العقد وهو عقد النكاح كيف صارت الأمور بهذه العبثية إنه جهل يضاف إلى الهوى والشهوة لتنتج أنواعا من هذه العلاقات المحرمة ومن الإجراءات أن على أصحاب الفنادق وشقق المفروشة والاستراحات وإدارييها وعمالها والقائمين على المنتزهات(27/13)
ومدن الألعاب والترفيه القيام لله بالواجب ومعرفة حقه والغيرة مما يغار سبحانه ويترتب على ذلك منع المنكر وسد أبواب الشر وطريق الحرام وعدم التمكين منه ولا الإعانة عليه وأن لا تكون المنشأة التي تملكها أو تشرف عليها أو تعمل فيها يا عبد الله مكانا للفجور ونزول سخط الرب ولعنته لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعله لبأس ما كانوا يفعلون وأيضا فإن خرق السفينة لا يأتي من جهتك يا أيها المسلم ويا أيتها المسلمة ثم الحذر من الأفلام الساقطة وقنوات الفاحشة ومجلات الفجور ومواقع الخنا واستباحت ما حرم الله إن الدلالة عليها وبيع هذه المنتجات وشرائها وتأجيرها وبيع البطاقات وفك التشفير وإرسال مقاطع البلوتوث العفنة وتبادل الصور وإرسالها وقراءة قصص الزنا وشعر الخنا وكل هذا مما يسمونه ثقافة جنسية هو في الحقيقة بداية التطبيق العملي للحرام بأنواعه ودرجاته وهي راية الشيطان والقائد للوقوع في الموبقات والعيش مع خيالات الحرام ومحاولة التشبه والوقوع في مستنقع الرذائل وفقدان العفة والالتحاق بالبهيمية والتمرد على شرع الله كل أمتي معافى إلا المجاهرين وهؤلاء يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وأيضا إذا تعرض المسلم أو المسلمة في دعوة للفحشاء وهذه قد تقع فجأة في مدخل عمارة في سلم في مصعد قد تقع فجأة باتصال عبثي قد تقع بطريقة غير محسوبة يدعى إنسان فجأة إلى الحرام الآن ما بين الاتصال والوقوع في الزنا أحيانا لا يتعدى الأمر ساعتين كم عرفنا ذلك من خلال اعترافاتهم من خلال هذه القصص المؤلمة التي أخبر بها عدد من هؤلاء التائبين إذن حرام يتوالى إركاب في السوق بمجرد أن يوقف السيارة في مكان معين وإذا بها تصعد إن القضية اليوم من الإدهاش بحيث أن الإنسان يتعجب كيف يقع الحرام سريعا من دون تعارف مسبق من دون علاقة مسبقة فجأة تركب ليقع الحرام إنه شيء(27/14)
عجيب إنه شيء مخيف مروع ومذهل ولذلك حديث السبعة الذين يظلهم الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله تلك الجملة العظيمة الجميلة التي قالها يوسف عليه السلام معاذ الله وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إن الموقف العظيم الذي قام بسبب خوف الله والتذكير بحق الله ذلك الرجل من مقام الفاحشة ولم يبقى بينه وبينها شيء يا عبد الله اتقي الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه قال فقمت عنها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج لنا منها فرجة ففرج لهم ذكرته بالله فتذكر وأن الله مطلع عليه وناظر ثم الحذر البالغ عند الكلام مع المرأة الأجنبية ألم يقل الله وإذا سألتموهن متاعا فسألونهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ألم يقل للنساء فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا فكيف بمن يتبادلون الأرقام ويمضون الساعات بالكلام فيما حرم العزيز العلام وعبارات الإطراء وتبادل الثناء التي تقود إلى الفحشاء وأيضا الحرص على أن تكون زيارات الأبناء والبنات إلى بيوت معروفة إن عدد من حالات مشاهدات الأفلام الخلاعية والعلاقات الشاذة قد تمت بحجة المذاكرة إن الخلوة بالإنترنت اليوم صارت مجالا للعلاقات المحرمة وتبادل الصور المرء على دين خليله وأيضا لا بد من الحذر من إدخال العمال إلى البيت لقد حصل الافتتان ببعض حراس الأبراج السكنية وعمال المطاعم الذين يدخلون الطلبيات إلى البيوت وكذلك هذه التي سافر زوجها أو غاب مع عمال النظافة ونحوهم ماذا سيكون حال السينما التي تفتح ليتجاور فيها الرجال والنساء بعد مدة فتطفأ الأنوار وتعرض الأفلام ما حال الشاب الذي تفتح له الشغالة في ساعة متأخرة من الليل وأهله نائمون تكون بحال هي أيضا ربما تريد الحرام أو يغيبون في إجازة وعنده دراسة أو عمل فيتركونها من أجله بزعمهم ماذا يحدث في الفنادق والأندية الصحية التي تقدم خدمة(27/15)
التدليك لماذا نتعامى عن الوقائع لماذا نغمض أبصارنا ولماذا نغطي أسماعنا ولماذا ندفن رؤوسنا في الرمال ونحن نرى من هاهنا بابا للحرام أو نافذة تفتح وإن الالتزام بالآداب الشرعية أمر مهم جدا ولذلك فإن الله تعالى قد ندب الأبوين إلى الحرص على أن يكون الأمر في حال خلوتهما بمعزل عن رؤية حتى الأطفال لأن تلك المشاهد لا تمح من الذاكرة وربما قادت إلى تطبيق أو تقليد وربما انتهت إلى زنا المحارم والعياذ بالله وكثرة غياب راعي البيت أبي لا يرجع إلى متأخرا من عمله وأمي في زيارة نسائية طويلة وهكذا تترك لتذهب ثم إن الإبتعاث للدراسة في الخارج إذا لم يرافقه تقوى من الله في أناس يفتحون أعينهم فجأة كانوا في أوساط نظيفة وبيئات محافظة يفتحونها على ماذا عري فاضح فماذا تتوقع عندئذ تحدث الصدمة وهكذا رجع إمام البعثة مفتونا العمل في الأماكن المشبوهة التي يغشاها النساء في الأسواق والمجمعات التجارية لقد جاءت إحصاءات الهيئات والمحتسبين بان أكثر حالات الحرام التي تحدث في الأسواق من هؤلاء الباعة مع النساء ثم ما يحدث من علاقات الصداقة في الجامعات المختلطة وقد أخبر الشبان الذين يدرسون فيها وكذلك بعض اللاتي كتبن عن التجارب مما يحدث من علاقة تبدأ بكتاب وبحث واختبار ومذاكرة كنا نرى بعضنا يوميا ونتحدث في شتى المواضيع والنهاية الوقوع في الحرام.(27/16)
أيها الأخوة والأخوات إن هذه الإجراءات وغيرها مما ينبغي على المسلم أن يتذكره جيدا وعلى المسلمة كذلك يوجب علينا أيضا مقاومة تقنين الفساد والدعوة إليه مقاومة إشاعة الاختلاط الأمة لا زال فيها عرق ينبض الأمة لم تمت يوجد بحمد الله أناس كثيرون على العفاف يوجد بحمد الله أناس نظيفون كثر يوجد من لا يريد المنكر ومن يأبى الوقوع في الفاحشة لا زالت هناك فطر سليمة وعقول مستقيمة نريد أن ينهض هؤلاء الأخيار وأهل الصلاح والإصلاح للوقوف أمام هؤلاء الذين يريدونها معوجة منحرفة عن سيبل الله تعالى نريد من هؤلاء الذين نعلم أنهم سيقابلون تيارا وينازلون معتركا وعدوا هائجا الذين يريدون اليوم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا عبر فتح الأبواب المختلفة في الاختلاط ولقد تبين أمرهم وأنكشف حال هؤلاء المنافقين الذين زعموا في البداية أن القضية مهنية وأن القضية اختلاف فقهي في مسألة الوجه فإذا بهم يشهرون الصور لنساء بلا غطاء لا للوجه ولا للشعر كشفن القبائح وكانت متسترة لا يعرف قبحها فأسفرت عن قبح والتي فيها جمال شكل أسفرت عن قبح أخلاقها أسفرت على تمردها على شرع ربها إننا اليوم نواجه تيار الفساد بأشكاله وصوره إنهم يتعاقبون علينا ويريدون منا أن نفقد هذه العفة التي أمرنا الله بها ولكن لا زال في المجتمع بحمد الله صخور تتحطم عليها موجات الفساد لا زال يوجد بحمد الله أهل دين وأهل علم وأهل دعوة وأهل تقي إن الأمة لم يتودع منها بل لا زال في شبابها وفتياتها من يعبد الله ويخشاه بالغيب لا زال فيها بحمد الله من هو على درجة كبيرة من الوعي إنه الوعي بما يريدوه المنافقون والفجار والأعداء الكفار الذين لا يزالون يشجعون على خطوات الفساد ويظهرون الإعجاب بالحال ولكن ليس لهم منا إلا المنابذة ولا يمكن أن يرضى المسلمون بالدنية في دينهم الله أعلى وأجل الله مولانا ولا مولى لهم شرع لنا من الحق والهدى ما يحفظ العرض يحفظ الأخلاق ما يحفظ(27/17)
النفوس ويحفظ هذه الأعراض ولذلك فإننا لا بد أن نقوم لله بالحجة لا بد أن نبين لا بد أن ننصح لا بد أن نقوم بالواجب الشرعي إن قضية البيان تجب علينا في هذا المقام أكثر من أي وقت مضى ولا يوجد في البشرية فضلا عن بلاد المسلمين وقت قد انتشرت فيه الرذيلة والدعوة إليها وأنواع الفساد ووسائله مثل هذا الوقت فلا بد أن يقابل منا بالعمل لا بد أن يقابل منا بالاحتساب لا بد أن يقابل منا بالسعي والحركة وفيها البركة بمشيئة الله علم شرعي ينشر وفتاوى لأهل العلم تعمم تنبيه وتعليم للجاهلين ونصيحة للغافلين وهكذا يوقظ السادرون في غيهم ويقال لهم ألا ترون إلى أن يسير المجتمع ألا ترون إلى أي هاوية ننحدر نحن أين وقفتكم أين اجتماعكم لصد العدوان لا بد أن نحاسب أنفسنا هل عملنا لله بما طلب منا وأمر أم أننا مقصرون وكذلك لا بد أن يقوم المربون بواجبهم من أنواع التربية الإيمانية التي تؤسس في الطلاب والطالبات في الفتيان والفتيات في الكبار والصغار الذكور والإناث تقوى الله واعظ الله في القلوب ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخى وعلى باب الصراط داع يقول أيها الناس أدخلوا الصراط جميعا ولا تتعوجوا وداع يدعوا من جوف الصراط فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ويحك لا تفتحه قناة تلفزيونية ويحك لا تفتحه موقع إنترنت ويحك لا تفتحه البلوتوث ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه قال مفسرا المثل والصراط الإسلام والسوران حدود الله تعالى والأبواب المفتحة محارم الله تعالى ولذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عزوجل والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم لا بد اليوم من تربية إيمانية أكثر من أي وقت مضى تعلم الناشئ والناشئة أن الله معك أنه يراك أنه يسمعك وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون لا بد من تربية على(27/18)
قوله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهكذا تتذكر أن الله يسمع كلامك وأنه ينظر إليك وأنه مطلع عليك وأن الملائكة الكرام يكتبون أقوالك وأفعالك وأن جوارحك معدود محسوب ما تفعله إن السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسئولا هناك في الدين أخلاق هناك عفة هناك في الدين نظام للأخلاق عظيم لا بد من إقامته لا بد أن نعلم الناس هذه العفة ونعلم أنفسنا قبل أن نعلم غيرنا نظام العفة في الإسلام لما قال الله ولا تقرب الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا لما قال الله والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ، ضعيفا لا يصمد أمام الإغراءات لا يصمد أمام الشهوات تعليم العفة من خلال الذين عفوا ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء كان همه خاطرة وكان همها فعلا ودعوة كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين هذا الخلق المبني على قوله تعالى وليستعفف الذين لا يجيدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله هذا الخلق المبني على قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون هذا الخلق المبني على قوله تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى هذا الخلق المبني على الأدعية اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى هذا المبني على قوله عليه الصلاة والسلام ورجل دعته امرأته ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله هذا الخلق المبني على قوله عليه الصلاة والسلام استحيوا من الله حق الحياء قلنا يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله قال ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى والتذكر الموت والبلى وهكذا يحفظ عينه ويحفظ فرجه ويحفظ خواطره لأن الأفكار الرديئة يمكن أن تؤدي إلى أفعال رديئة وإلى نتائج سيئة وأيضا فلا بد أن نربي أنفسنا على الابتعاد عن أماكن الفتن الابتعاد عن(27/19)
كل ما يثير الغرائز عدم الثقة بالنفس وإنما الثقة بالله لا تقول إرادتي قوية وعزيمتي شديدة وأنا لا أنجر وأنا لا أتأثر وأنا لا يمكن أن أقع ومهما حصل فإنني سأقاوم كلا إن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا مبدأ ترجم البخاري له فقال باب من الدين الفرار من الفتن قال عليه الصلاة والسلام يمدح الرجل يفر دينه من الفتن في شعف الجبال في رؤوس الجبال صيانة لدينه عندما ينزل الفساد في المكان فلا يرى لنفسه موقعا خارج بيته فصار بيته صومعة له فإن غلب صار الجبل هو المأوى وتحل العزلة حينئذ ومن الأدلة على هذا المبدأ الفرار من الفتن من أماكن الفتن من الأسواق الفاسدة ولذلك الصحابي قال إن استطعت أن لا تكون أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج من السوق فأفعل ذلك وإن استطعت أن لا تدخله أبدا فأفعل وإن استطعت أن لا تدخل السوق الأفسد فأفعل وإن استطعت أن لا تدخل في الوقت الأفسد الذي فيه الأفعال الأفسد فأفعل فادخل عصرا ولا تدخل عشاءا عندما قال عليه الصلاة والسلام من سمع بالدجال فلينئ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه لماذا مما يبعث به من الشبهات وهكذا اليوم يقول بضعهم أنا أثق بنفسي أنني لن أنجر ولن أسحب أكثر من هذا ولكنه في النهاية يقع سعيد بن مسيب ما أمن على نفسه فتنة النساء وهو ابن أربع وثمانين سنة عين ذهبت وأخرى يعشوا بها لا يرى بها إلا شيئا يسيرا لا تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا يقولون لك اليوم أين نذهب بأنفسنا الشر في كل مكان الفساد في كل مكان لا نريد أن نأتيه لكن هو يأتينا أنا لا أريد الشر لكن هو يأتيني أنا لا أتعرض للشر والله لكن هو الذي يتعرض لي أنا في سلام في أمان في حال فإذا الرسالة تأتي إلى جوالي والاتصال على جوالي والصور على جوالي أنا ما طلبتها لكنها أرسلت إلي أنا لم أذهب برجلي إلى مكان الشر لكن هؤلاء لا يتركوني في شأني يصرون علي ماذا أفعل نحن اليوم نعيش وقاعا عجيبا ناس لا(27/20)
تريد الحرام ، الحرام يأتيها كيف تعيش في بيئة وفيها فساد إنه تحدي أنت أيها المسلم وأنت أيتها المسلمة وبعض الناس لا يستطيع أن يخرج من البيت وداخل البيت الفساد المعشعش والاختلاط موجود وأنواع الأفلام موجودة وتفتح القنوات صباح مساء أين يذهب بنفسه هذه الصالة إذا دخل وهذا الجهاز قد أشتغل كيف يصون نفسه الآن أيسجن نفسه في غرفته أم أنه يهرب خارج البيت وإلى أين يأوي ومن الذي سيدفع له نفقة غرفة يعيش فيها وهل من الحكمة أن يفعل ذلك وما هو واجبه تجاه أهله هؤلاء الذين يعيشون اليوم داخل أوساط مضطرون للعمل في شركات وفيها اختلاط مضطرون للعمل في مكاتب وفيها سكرتيرات مضطرون للعمل لكسب الرزق لا يجدوا ربما مكانا آخر بعيدا عن فتنة النساء الآن القضية عمت وطمت وانتشرت ودخلت ولم تترك مكانا إلا شيئا رحم الله وعصم الله أهله من ذلك ولذلك يتذكر الإنسان الحديث القابض على دينه كالقابض على الجمر يتذكر الحديث طوبى للغرباء أناس صالحون قليل في أهل سوء كثير إنه يتذكر إن السعيد لمن جنب الفتن إن السعيد لمن جنب الفتن إن السعيد لمن جنب الفتن ولمن ابتلي فصبر فواها حديث صحيح تلهف وحسرة واها لمن باشر في الفتنة وسعى فيها وإعجاب لمن عصم نفسه بها ما أحسن وأطيب الذي صبر يتذكر المسلم اليوم حديث لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل يقول يا ليتني مكانه يتذكر زمنا يطبق فيه الشر ولكن هل يمكن أن يعيش مع الله في بيئة فساد هل يمكن أن يعيش مع الله والمغريات من حوله هل يمكن أن يغض البصر وأن يستعمل هذه الإجراءات الشرعية في تخفيف الضغوط ضغوط الشهوات عليه الجواب نعم بإمكان الإنسان أن يدرأ عن نفسه بإمكان الإنسان أن يحمي نفسه بإمكان المسلم اليوم أن يفر من مكان الفتنة بإمكانه حتى لو فرضت عليه ولو قيد ولو أنه أسر فكبل فجاءه الحرام إليه بفاتنات وقد حدث ذلك في بعض أسرى المسلمين في سجون الصليبين في هذا الوقت فماذا يفعل ومن يعتصم بالله(27/21)
فقد هدي يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد إنه الركن إذا خانتك أركان فيا أيها المسلم لن تعجز أن تجد ركنا تأوي إليه ثم تجد صاحب خير يحميك الله به وتجد بيئة طيبة تقوي إيمانك وتجد دروسا وحلقا تكون فيها يزيد الله يقينك بالعلم الذي تتعلمه فيها هناك مقويات هناك محفزات هناك إذن وسائل لتقليل الشر ولو فرض عليك الشر فإن عيشك مع الله بحديث لا يزال لسانك رطبا بذكر الله قائم وأعلم بأن من السلف من ذهب لصلاة العيد على كثرة النساء فرجع وقال لم أرى امرأة واحدة لقد غضوا أبصارهم وإن السعي في النكاح والصبر قبله بالصيام والبعد عن رفقة السوء المزينة للمنكر واستعمال الدعاء إنه شيء عظيم قال ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه لما يصبح كره الحرام شديدا لما تصبح النفرة من الحرام شديدة لما يصبح استقباح الحرام في نفسك قويا ترى السجن أحب من الوقوع في الحرام السجن بما فيه من تضييق وتكبيل وأسر وقيد ومنع للحركة أحب إليك مما يدعونك إليه لقد لجأ يوسف بالدعاء وإلا تصرف عني كيدهن اصبوا إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم وهكذا المسلم يقاوم ليقوا وإن مقاومة الشر اليوم من هؤلاء المحتسبين وممن يعينهم ومن المسلمين عموما من أعظم الوسائل في التغلب على الشر لأن المقاوم للمرض مقاومته ومحاربته للمرض نوع من الوقاية إنه تطعيم في الحقيقة ويقال في عدد من البلدان والمجتمعات والأماكن إننا لا نستطيع أن نهرب من فتنة النساء فالقضية حولنا من كل مكان وكذلك النساء ربما يقولن لا نستطيع أن نهرب من فتنة الرجال إن دعواتهم لنا بالشر في كل مكان فتأمل واقعا عجيبا لا يستطيع فيه الإنسان أن يخرج من البيئة ولكنه يقاوم إنه واقع يوسف عليه السلام لقد دعته للفاحشة واستعانت بكيد النسوة لقد تزينت وتجملت وقالت هيت لك لقد غلقت الأبواب لقد كان زوجها قليل غيرة لقد علم بالمنكر ومع ذلك أبقى يوسف في القصر(27/22)
أبقاه مع امرأته وهو يعلم حال امرأته وكانت لملمة القضية خشية الفضيحة الاجتماعية فقط يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك ولكن القصة فشت وكيد المرأة عظيم فاستعانت بكيد نساء أخريات اجتمعن على يوسف كيف عاش يوسف في ذلك المكان مقاوما للمنكر حتى دخل السجن سبحان الذي ثبته ولقد راودته عن نفسه فأستعصم اعترفت هي بمقاومته ولقد راودته عن نفسه فأستعصم اعترفت بصلابة موقفه لقد هددته ولأن لم يفعل ما أمره ليسجنن وتوعدته بالصغار والذل لكنه مع ذلك لم يتزحزح لم يتنازل لم يضعف لم يستجب لها لم يغير موقفه بقي ثابتا على الحق إنه شاب جميل إنه غريب في البلد إنه أعزب إنها جميلة إنها سيدته لقد أزالت الحاجز النفسي بدعوتها له وكان البدء منها ومع ذلك كان من المخلصين قال معاذ الله دعا الله لقد كان الحرام عنده قبيحا جدا ولذلك وفقه الله ثبته الله صرف عنه السوء والفحشاء فيحتاج اليوم كثير من الشباب والشابات في البيئات المختلفة في الأوساط المختلفة قد يكون الوضع في بيت عفن وقد يكون في بيئة تعليمية فيها فساد أو بيئة عمل مختلطة فيها شر كاسح ولكن إذا ثبت الإنسان وجاهد الله يثبته كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين والإنسان المسلم والمرأة المسلمة مهما كان الشر مستطيرا هنالك مجال أحيانا للهرب منه للخروج تبديل المكان هناك مجالات لتخفيف الشر أسباب لتقليل الشر فهو لا يزال يعمل بها هنالك عفة في قلب المؤمن الحقيقي وهذه المؤمنة لو فرض شيء من الخلوة هذا صفوان بن معطل السلمي صار في وضع لا يمكن أن يركب عائشة بعيره ويقود البعير ليلحقها بزوجها لقد كانت خلوة اضطرارية فماذا كانت واقع المرأة المسلمة المؤمنة التقية النقية العفيفة الشريفة وماذا كان الواقع ذلك المؤمن الذي تنحنح وأسترجع إنا لله وإنا إليه راجعون فاستيقظت باسترجاعه فسألها عما أبقاها هنا فأخبرته فنزل من بعيره أركبي وأناخ لها البعير وقاده هو يمشي وهي فوقه(27/23)
وهكذا في حال الاضطرار الذي صارت فيه تلك الخلوة لما كانت عظمة الله والخوف منه في النفوس ما حصل حرام وشهد الله ببراءة عائشة وبراءة صفوان وإن المسلم والمسلمة عندما يتأمل في غيرة الله عندما يتأملا في غيرته سبحانه لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر وما بطن رواه البخاري وقال عليه الصلاة والسلام إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله رواه البخاري هذه الغيرة تولد عندك تولد عندكِ الغيرة أيضا لأن المؤمن إذا علم أن ربه يغار صار هو يغار الله يغار والأنبياء يغارون والمؤمنون يغارون وهكذا حتى البهائم ترى فيها غيرة ولكن اليوم مع الأسف نماذج مشينة يقول له الناصح المحتسب يا أخي أتقي الله في زوجتك ألا ترى حجابها ألا ترى مشيتها ألا ترى الشباب يتقافزون حولها كالقرود يطمعون فيها إنها لك وليس للناس يقول أسكت أمشي مالك دخل يا إرهابي عندما تكون القضية أيها الأخوة الدياثة أن تبلغ هذا المبلغ يجب أن تكون عندنا قيام لله بالإنكار يجب أن يكون عندنا غيرة جيب أن يكون عندنا قيام لله بالحجة والنصيحة وعندما تفعل ما عليك فالله يأجرك وعندما تؤدي عندما تؤديه ولو غلبت فأنت معذور ثم لا بد أن نحافظ على الحياء هذا الحياء الذي جبلن عليه كان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها هذا الحياء الذي يمنع من الوقوع في الأفعال المشينة.
إذا لم تخشى عاقبة الليالي ... ولم تستحي فأصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
الحياء خير كله ثم أشغل نفسك يا أخي ما يفيد الفراغ مصيبة إذا أتيت فراغا وصحة فأستعملها في طاعة الله العمر يمضي الوقت يفوت.
مرت سنين بالوصال والهناء ... فكأنها من قصرها أيام
ثم انثنت أيام هجر بعدها ... فكأنها من طولها أعوام
ثم أنقضت تلك السنون ... وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام(27/24)
عمرنا يفوت ماذا فعلنا فيه ملأت فراغك بأي شيء نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
إذا كملت للمرء ستون حجة ... فلم يحضا بالستين إلا سدسها
ألم ترى أن النوم بالنصف حاصل ... وتذهب أوقات المقيل بخمسها
فتذهب أوقات الهموم بحصة ... وأوقات أوجاعا تميت بمسها
فحاصل ما يبقاه سدس عمره ... إذا بقته النفس علم حدسها
نحن نحتاج إلى ملئ الفراغ بالطاعات وتيسير سبل الحلال وإزالة العوائق إتمام المشروع اجتماع الكبير ببناء المجتمع بالأسر الصالحة والزواج الذي يعف الله به عباده لا بد أن يكون هناك لين وسهولة وتيسير لا بد أن تأخذ الأمور مجراها ولا بد من تشجيع وإعانة وتكافل لا بد أن يكون هناك دعوة صادقة إلى تكثيره وإشاعته والحث عليه والعمل به ونقول حجاب النساء حجاب النساء يدنين عليهن من جلابيبهن ولا يبدين زينتهن وليضربن بخمرهن على جيوبهن طاعة لله طاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم حياء ستر من أعين الفساق حماية من الفجار محافظة على الأمانة صيانة للعرض الحجاب كما أمر الله .
عزوا الحجاب إلى الكتـ ... ... ـاب فليتهم قرءوا الكتاب
إن التعصب مانع أن ... ... تبصر العين الصواب(27/25)
ولذلك بعضهم يصر على أن الحجاب لا قيمة له وبعضهم يريده فتنة لا حجابا وقد صار بعض الحجاب اليوم بدونه الواضع أقل سوءا من الفتنة الموجودة فيه من شكله من تصميمه ولذلك فإن التجار الذين يجلبون الألبسة والذين يبيعونها لا شك أنهم يتحملون وزرا عظيما اليوم وكل من يشتري ويرضى لزوجته أو أبنته أو أهله من هذا الذي يثير الغرائز والذي يؤجج الشهوات إن هذا النزول بهذا اللباس الفاتن إلى الأماكن العامة ما الذي يتوقع أن يحصل بسببه عفة حياء غض بصر سيحدث التشجيع والدعوة والجذب للحرام ثم لا بد من إشاعة التوبة فالإنسان يزل المعصية تقع العين تزيغ وتطغى والواجب أن تتأدب فما زاغ البصر وما طغى يحدث ما يحدث باب التوبة مفتوح الله سبحانه وتعالى يحب التوبة ويحب التوابين وهكذا الإنسان يحذر الآخرين من الوقوع في هذا الحرام ويدعوهم من التوبة منه هناك أناس ربى تمنوا اليوم أن ينتشلوا من الفحشاء لقد سئموا العيش في الرذيلة هنالك من ندم ويحتاج إلى من ينتشله ويمسك بيده هناك من أدرك سواء أصابه مرض جنسي أو أصابته فضيحة أو حملت سفاحا سواء خشية فضيحة اجتماعية أو لم تخشى سواء صارت نكبة في أسر وعوائل سمعتها نظيفة وطيبة لكن لا زال هناك اليوم من يريد أن يأتي المنقذ الذي ينقذه ولذلك هي دعوة للدعاة ولكل من يمكن أن يقوم بالدور في إنقاذ هؤلاء أن يقوم به مدرسات في المدارس داعيات في الكليات دعاة في المكاتب والشركات محتسبون في الأسواق والطرقات نحتاج اليوم لمن يذكر الناس عبر الفضائيات التي يأتي منها الشر نحتاج إلى مزاحمة وأن نقول يا أيها الناس أسمعوا وعوا أفيقوا يا أيها الناس إنكم اليوم في هذه المؤامرة الكبيرة على الدين التي تريد الإطاحة بالعفة والأخلاق تهدم الأسر إنك تدعوهم إلى ترويض أنفسهم بالخير.
ومن البلاء وللبلاء علامة ... ... ألا ترى لك عن هواك نزوع
تقول يا أخي أنزع عن الهوى كفى يكفي.(27/26)
العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع مرة ويجوع
لو الإنسان صابر نفسه على هذا الجوع سيصبر سيصمد لكن كل ما جاعت للحرام أوردها موارده لن تشبع.
العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع مرة ويجوع
يا عبد الله يا أيها الشاب يا أيها الشابة الشهوة تضطرم في النفوس وتعتلج فيها ويقول لا أدري ماذا أفعل بنفسي انتحر ألقي بنفسي من شاهق ماذا أفعل بهذه الشهوة إنها تضطرم.
صبرت على الأيام حتى تولتي ... ... وألزمت نفسي صبرها فأستمرتي
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... ... فإن طمعت تاقت وإلا تسلتي
فإذا قلت أنفس لها بالحرام فإن طمعت تاقت وطلبت المزيد النفس ما تشبع من الحرام هذا الغرب بالسعار الجنسي المحموم وإطلاق الغرائز ما تركوا رذيلة ولا فاحشة ولا أنواع من هذه الوسائل التي تنشرها وتذيعها إلا فعلوه ومقنن حتى زوجوا الذكور بالذكور في الكنائس هل انتهت المشكلة عندهم هل القضية قضية كبدت فإذا فتح المكبوت أنحلت المشكلة لا.
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... ... فإن طمعت تاقت وإلا تسلتي
المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى يا أخي قاوم الهوى إذا ما حصلت مقاومة ومجاهدة لن يحصل الحل.
فمن هجر اللذات نال المنى ... ومن ... ... أكبى على اللذات عض على اليدي
وفي قمع أهواء النفوس أعتزازها ... ... وفي نيلها ما تشتهي ذل سرمدي
لذة ساعة شر إلى قيام الساعة.
ولا تشتغل إلا بما يكسب العلا ... ... ولا ترضى النفس النفيسة بالردي
وفي خلوة الإنسان بالعلم أنسه ... ... ويسلم دين المرء عند التوحد
الوحدة خير من جليس السوء .
فكن حلس بيت فهو ستر لعورة ... ... وحرز الفتى عن كل غاو ومفسد(27/27)
نحتاج اليوم فعلا أن نكون لله عبادا فطنا أن نطلق هذه المحرمات تماما أن نستعين بالله عزوجل الأرض تشتكي صنيع المجرمين يا إخوان البلى عم والشر قد طم بيوت تهدمت حمل بالحرام مخازي فضائح حصلت مصائب مهولة عفة زالت وطهارة تولت ولكن نحن عندنا خطوات كثيرة نقوم بها ولا زال هناك مجال عظيم للعمل ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم ولذلك نحن لا نقول هلك الناس نقول يوجد ولله الحمد أخيار وأبرار وأتقياء وأنقياء وعفيفات وشريفات وتقيات يوجد في المجتمع لا زال قوة مقاومة يوجد وللحمد لله إلى الآن يوجد من يأبى ويرفض الحرام يوجد من يدعوا للطهارة والعفة يوجد من يرفض رفضا تاما هذه البلايا والمنكرات ولذلك فالأبواب مشرعة للعمل كلنا دعاة وكلنا مسؤولون وكلنا مخاطبون والله تعالى لا يهمل والله عزوجل يأخذ وإذا كثر الخبث راح الجميع ألم تأتيكم النذر من الهزات الأرضية في منطقة الخليج غير المعروفة بالهزات سابقا فماذا ننتظر وقد جاءنا النذير وقد جاءت الأمراض المختلفة وقد جاءت هذه الفضائح الاجتماعية بما شق صف المجتمع ولذا فلا بد من أن تقدم شيئا يا أخي المجال أمامك أن تقدم في هذا المضمار لنفسك ولغيرك ذكر نفسك وذكر غيرك .
يا نفس توبي فإن الموت قد حان ... واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا ... لقطا فتلحق أخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه ... نرى بمصرعه أثار موتانا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ... ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
يا راكضا في ميادين الهوى مرحا ... ورافلا في ثياب الغي نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب ... يكفيك ما قد مضى قد كان ما كان
توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم وتوبوا إلى الله قبل أن تقول نفس يا حسرتنا على ما فرطت في جنب الله واسعوا في إيراد النفوس حياض المباح الذي جاءت به الشريعة ونحن لنا من فرج الله وشرع الله البدائل الطيبة والحمد لله.(27/28)
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى اللهم أحفظنا من الشرور والآثام وباعد بيننا وبين الحرام اللهم أجعلنا من جندك الذين يذبون عن شرعك ويدعون إلى سبيلك اللهم أحفظ مجتمعنا ومجتمعات المسلمين من الخنا والفجور والعصيان ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(27/29)
( كيف تتعامل مع والديك؟ )
عناصر الموضوع :
أدلة وجوب بر الوالدين .. وفضل برهما
بر الوالدين عند السلف
فوائد بر الوالدين
صور البر
أنواع البر التي تصل الأبوين بعد الموت
العقوق .. وخطره
صور واقعية من عقوق الوالدين
تعريف العقوق وضابطه
من أحكام بر الوالدين
حق الوالدين في المال
حكم استئذان الوالدين في السفر
حكم طاعة الوالدين في مخالفة الأحكام التكليفية
إذا تعارض بر الأب مع بر الأم فما الحل؟
كيف تتعامل مع والديك؟:
إن موضوع بر الوالدين موضوع عظيم جداً، فينبغي على المسلم أن يعيره الاهتمام الكبير، وقد حكم الله عز وجل بالبر ونهى عن العقوق؛ فكان لزاماً علينا طاعته سبحانه. التعامل مع الوالدين أدباً وفقهاً هو ما تحتويه هذه المادة، فإن هناك آداباً للتعامل مع الوالدين، وهناك أحكاماً فقهية تتعلق بهذا الأمر.
أدلة وجوب بر الوالدين .. وفضل برهما:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه الذين ساروا على هديه. أما بعد: فإن موضوع بر الوالدين موضوعٌ عظيمٌ جداً ينبغي على المسلم أن يهتم به وأن يعيره الاهتمام الكبير، والله عز وجل قد حكم بالبر ونهى عن العقوق، فكان لزاماً علينا طاعته سبحانه وتعالى. والتعامل مع الوالدين أدباً وفقهاً هذا هو موضوعنا، فهناك آدابٌ للتعامل مع الوالدين، وهناك أحكامٌ فقهية تتعلق بهذا الأمر.
الأدلة من القرآن الكريم:(28/1)
جاء في القرآن الكريم آياتٍ في وجوب بر الوالدين وعظيم فضل البر، فقال عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23]. كما قال في الآية الأخرى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36]. وقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [الإسراء:23]. فأمر بالقول الحسن، والفعل الحسن، بعدما نهى عن القول السيئ، والفعل السيئ. فقال: (لا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وهي أدنى كلمة تدل على التضجر والاستثقال، أو تقال للاستقذار لما شمه الإنسان، ولو توجد كلمة أدنى منها لذكرها الله محذراً منها، فلا يؤذى الوالدان ولا بأقل القليل، ولا يسمعهما كلاماً سيئاً. (وَلا تَنْهَرْهُمَا) لا تزجرهما بالكلام، ولا تنفض يدك في وجهيهما تبرماً. (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) لا تسميهما باسميهما ولا تكنيهما، وإنما تقول: يا أبي! أو يا أبت! ويا أمي! وكذلك تقول لهما قولاً كريما، وهو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. وقد بين الله عز وجل الباعث على البر تهييجاً للنفوس، فقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]. قال ابن كثير رحمه الله: وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً؛ ليذكر الولد بإحسانهما، المتقدم إليه كما قال تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24]، ولهذا قال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14] أي: فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء. ولقد امتدح عبده يحيى عليه السلام بأنه كان تقياً وباراً(28/2)
بوالديه ولم يكن جباراً عصياً، فكان مسارعاً لطاعتهما عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مستكبراً لا عن طاعة ربه، ولا عن طاعة والديه، وحدثنا عن عيسى عليه السلام كذلك بقوله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً [مريم:31-32]. وحدثنا عن بر إسماعيل عليه السلام بأبيه، وأن الله لما أوحى لإبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده إسماعيل استجاب الولد، وأذعن لأمر الله، وتواضع للأب، وقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:102-105]. هذا الولد الصالح البار قام يساعد أباه في بناء البيت العتيق، وقاما ببناء الكعبة معاً، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] وكذلك تحلق أولاد يعقوب عليه السلام حوله عند موته وهو يوصيهم: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]. وحتى في القرآن ضرب الله لنا المثل بالبنتين الصالحتين اللتين خرجتا تسعيان على أبيهما الكبير العاجز عن العمل، وهما تذودان الغنم عن الرعاة الأجانب، حتى لا تختلط بغنم أولئك القوم، وتقفان حتى يفرغ الناس من السُقيا؛ ليسقيا، فيسر الله لهما موسى. هاتان البارتان يسر الله لهما نبياً كريماً يسقي لهما، ويتزوج إحداهما، ويكفيهما مئونة العمل،(28/3)
ويقوم هو بالسُقيا عشر سنين، فإن نبي الله إذا قال فعل، هل سقى ثمانية أو عشرة؟ عشر سنين، فقضى أتم الأجلين وأوفاهما أو أكملهما.
الأدلة من السنة النبوية:
ومن السنة النبوية قال عليه الصلاة والسلام لما سأله عبد الله بن مسعود : (أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) رواه البخاري و مسلم . معنى ذلك: أن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله، بل الخروج سعياً على الوالدين، والعمل لأجل الإنفاق على الوالدين، وتحصيل ما ينفق عليهما، ويسد حاجتهما هو نوعٌ من الجهاد، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبويه شيخين كبيرين فهو في سبيل الله) والحديث صحيح. ولا يمكن لشخص أن يجزي أباه حقه إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه، كما قال عليه الصلاة والسلام. وهناك نموذج من البشر دعا جبريل عليه السلام عليه وأمن النبي عليه الصلاة والسلام: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه -من هو هذا؟- قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة) رواه مسلم. (رغم أنفه) ذل، وحل به الخزي، والتصق أنفه بالتراب رغماً عنه، وهذا دليلٌ على حقارة هذا الإنسان. إن بر الوالد والوالدة باب عظيم من أبواب الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة) يعني: خير الأبواب وأعلاها، وهناك أبواب للجنة. وجعل الله رضاه في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين، ما لم يأمره بمعصية. وقال عليه الصلاة والسلام يوصي معاوية بن جاهمة بوالدته: (الزمها فإن الجنة تحت رجليها) .. (الزم رجلها فثم الجنة) وهما حديثان كلاهما حسن، وقوله: الزم رجليها ورجلها يعني تواضع، فهو لم يقل: رأسها، بل قال: (رجلها) يعني: تواضع للوالدة، وأن الجنة عند رجلها، وأن الجنة لا تنال إلا برضاها. ولذلك -أيها الإخوة!- يجب أن تكون(28/4)
معاملتنا لوالدينا أعظم من معاملتنا لأصحابنا، لماذا؟ لأن الله قال عن الوالدين: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] وقال عن الأصحاب: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]. انتبهوا معي! أيهما أعظم؟ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215] أم وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]؟ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24] معناها: لا بد أن تعامل والديك أعظم من معاملتك لأصحابك المتدينين؛ لأن الله قال: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215] وقال عن الوالدين: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24]. وكذلك قال عليه الصلاة والسلام، لما قال الرجل: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، فكررها الرجل ثلاثاً والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبه الإجابة نفسها، ثم قال: ثم أبوك). إذاً المعاملة الحسنة تكون للوالدين مقدمة على الإخوان والأصحاب.
بر الوالدين عند السلف: ... ...(28/5)
كيف كان بر الوالدين عند الصحابة؟ كيف كان عند السلف؟ كان شيئاً عظيماً، كان عروة بن الزبير يقول في سجوده: [اللهم اغفر للزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر ] فهو في سجوده يدعو لوالديه. كان هناك رجل من التابعين هو خير التابعين أويس القرني، وقد أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام أنه خير التابعين، وذكر من أسباب ذلك أنه: (له والدةٌ هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره) والحديث في صحيح مسلم. ويقول محمد بن المنكدر: "بت أغمز رجل أمي، وبات أخي يصلي ليلته، فما تسرني ليلته بليلتي". أي: لو قال: بادلني لا أبادله، ولا يسرني أن أقوم الليل وأمي تحتاج إلى أن أغمز رجلها لأجل الألم. وكان زين العابدين -من سادات التابعين- كثير البر بأمه، حتى قيل له: [إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ قال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها]. عبد الله بن عون نادته أمه فأجابها، فارتفع صوته فوق صوتها فأعتق رقبتين. أبو يوسف الفقيه الذي تتلمذ على يد أبي حنيفة، وانتفع بأبي حنيفة جداً، كان يقول: "اللهم اغفر لأبوي ولأبي حنيفة ". طلق بن حبيب كان يقبل رأس أمه، وكان لا يمشي فوق ظهر بيتٍ هي تحته إجلالاً لها. مسعر بن كدام له أمٌ عابدة، كان يحمل لها اللبد إلى المسجد، فيدخله، ويبسطه، ويصلي عليه، ثم يتقدم هو لمقدمة المسجد يصلي، ثم يقعد ويجتمع الناس فيحدثهم، وهو شيخ عالم معروف، ثم بعد ذلك ينتهي مجلس الحديث، فيقوم فيطوي لبدة أمه ويرافقها إلى البيت. حيوة بن شريح من كبار العلماء، كان يقعد في حلقة الدرس يعلم الناس، وعند مضي بعض الوقت تأتي أمه وتقول: يا حيوة ! قم ألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويقطع الدرس! الشيخ العالم الكبير حيوة يقطع الدرس وهو يدرس الطلاب؛ ليضع الشعير للدجاج، ثم يرجع يكمل الدرس، وهكذا.. فالوالدة حقها عظيم، وبأي شيء يجزيها الإنسان؟ هؤلاء الذين يحملون أمهاتهم، ويأتون بهم من أماكن(28/6)
بعيدة، هذا الحمل هل يجزيها عن حملها الذي حملته لما كان في بطنها؟ يقول ابن أبي بردة : [سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل ... إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا بن عمر! أتراني جزيتها؟ قال: لا. ولا بزفرةٍ واحدة] إسناده صحيح. وفي رواية يقول: [الله أكبر! الله أكبر! ذو الجلال الأكبر! هل ترى جازيتها يا بن عمر؟! قال: لا. ولا بطلقة واحدة] فالأم عند الولادة لها طلقاتٌ، قال: [ولا بطلقة واحدة، ولكن أحسنت، والله يثيبك عن القليل كثيراً]. هناك رجلان صالحان كانا في الطواف، فإذا أعرابيٌ معه أمه يحملها على ظهره، وهو يرتجز ويقول:
أنا لا أزال مطيتها لا أنفر ... ... وإذا الركائب ذعرت لا أذعر
وما حملتني ووضعتني ... ... أكثر لبيك اللهم لبيك
فقال أحدهم للآخر: تعال بنا ندخل في الطواف، لعلَّ الرحمة تنزل فتعمنا؛ لأجل هذا المشهد الذي رأياه. قالوا في تعريف بر الوالدة: حملها عند ضعفها، والإنسان قد يرى أحياناً أبواباً من الخير فيأتيها، ويغفل عن بر الوالدين، وربما يعاني الوالد والوالدة نفسياً من غياب هذا الولد -ولو كان صالحاً- عنهما. وقد كان أمية رجل أدرك الجاهلية والإسلام، وله ابن اسمه كلاب، فاستعمل عمر كلاباً على الأيلة، وأرسله إلى هناك أميراً عليها -كان رجلاً أميناً صاحب دين، فاستعمله عمر- وهذا الرجل أمية اشتاق إلى الولد، فمن الحنين أنشد يقول:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً ... ... كتاب الله لو عقل الكتابا
أناديه فيعرض في إباءٍ فلا ... ... وأبي كلابٍ ما أصابا
إذا سجعت حمامة بطين ... ... وادٍ إلى بيضاتها أدعو كلابا
تركت أباك مرعشةً يداه ... ... وأمك ما تصيغ لها شرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي ... ... كباغي الماء يلتمس السرابا(28/7)
أنشدها عمر فرق له، وأرسل خلف كلاب ليأتي من الأيلة، فقدم وسأله عمر: ماذا كان يفعل بأبيه؟ ولماذا يقول هذه الأبيات؟ فقال: إنه كان يحلب له، فقال عمر لكلاب: احلب لبناً، فحلب واختفى -أخفاه- ثم استدعى الأب فجاء أمية، فقدم له عمر الإناء، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدي كلاب، فبكى عمر وقال: هذا كلاب، فخرج فضمه إليه، وقال: جاهد في أبويك وأعفاه. يقول ابن عبد البر عن الخبر: إنه صحيح. لماذا كان الصحابة يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: فداك أبي وأمي؟ لو كان عندهم شيء أغلى من أمور الدنيا لقالوه، لكن ما عندهم، لقد ضربوا لنا أمثلة رائعة، ابن عمر مع عمر .. ابن عمرو مع عمرو بن العاص .. عائشة مع أبيها .. جابر مع أبيه .. سعد بن عبادة ولده قيس .. علي وأبناؤه الحسن والحسين .. والزبير وابنه عبد الله .. العباس وعبد الله بن عباس، وهناك أمثلة كثيرة جداً تترى من واقع الصحابة رضوان الله عليهم.
فوائد بر الوالدين: ... ...(28/8)
إن سأل سائلٌ فقال: ما هي فوائد بر الوالدين؟ وما هي النتائج الطيبة التي تترتب على بر الوالدين؟ نريد أن نتحمس لأجل أن نعمل بهذا الأدب العظيم، وهو بر الوالدين؛ لأن الإنسان إذا عرف أن الفائدة طيبة تشجع للقضية. أولاً: هو من أسباب إجابة الدعاء، وأنتم تذكرون قصة أصحاب الغار، وكيف أن أحدهم كان له أبوان شيخان كبيران يسعى عليهما، وقدمهما على أولاده، وهم يتضاغون عند قدميه طيلة الليل، حتى استيقظ والداه فشربا قبل أولاده، ففرج الله شيئاً من الصخرة بسبب هذا. ثانياً: ثم بر الوالدين يكفر الكبائر، والدليل على ذلك: أن رجلاً أتى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا. قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها) حديثٌ صحيح رواه الترمذي . وهذا الرجل لما أذنب الذنب العظيم والكبيرة ماذا رأى له عليه الصلاة والسلام لتكفيرها؟ بر الوالدة. وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: [إني خطبت امرأة فأبت أن تنكحني، وخطبها غيري فأحبت أن تنكحه، فغرت عليها فقتلتها، فهل لي من توبة؟ قال: أمك حية؟ قال: لا. قال: تب إلى الله عز وجل، وتقرب إليه ما استطعت] فذهب، قال الراوي: فسألت ابن عباس : لم سألته عن حياة أمه؟ فقال: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة] رواه البخاري في الأدب المفرد، وإسناده على شرط الشيخين. وروت عائشة أيضاً أن امرأةً كانت تعمل السحر بدومة الجندل ، قدمت المدينة تسأل عن توبتها، قالت: فرأيتها تبكي، لما لم تجد النبي عليه الصلاة والسلام فيشفيها، حتى قالت: إني لأرحمها، فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يومئذٍ متوافرون -هذه المرأة جاءت تسأل عن التوبة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد مات، فحزنت أنها لم تدركه، فجاءت تسأل الصحابة-: إني كنت أعمل السحر، فكيف أتوب؟ فما دروا ماذا يقولون، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلم،(28/9)
إلا أنهم قالوا: لو كان أبواكِ حيين أو أحدهما لكانا يكفيانكِ. جود إسناده ابن كثير رحمه الله تعالى. ثالثاً: بر الوالدين سبب البركة وزيادة الرزق، أوليس هو من صلة الرحم؟! (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه). رابعاً: من بر أباه وأمه؛ بره أبناؤه، ومن عقهما؛ عقه أولاده، وهكذا.. قال ثابت البناني : رأيت رجلاً يضرب أباه في موضعٍ، فقيل له: ما هذا؟ فقال الأب: خلوا عنه، فإني كنت أضرب أبي في هذا الموضع، فابتليت بابني يضربني في هذا الموضع، بروا آباءكم تبركم أبناؤكم. خامساً: ثم رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين.
صور البر:(28/10)
فإذا قال قائل: عرفنا الأمر وأدلته وفوائده، فنريد أن نعمل ببر الوالدين، فما هي صور البر؟ أو كيف نبرهما فعلاً؟ فنقول: البر قولي وبدني ومالي، فيه رفقٌ ومحبة، وتجنب غليظ القول، وعدم رفع الصوت، فضلاً عن السب والشتم واللعن .. المناداة بأحب الألفاظ وليس بالاسم المجرد .. تقبيل اليد والرأس .. الإنفاق عليهما .. تعليمهما ما يحتاجان إليه في أمور دينهما ودنياهما .. طاعتهما فيما أمرا في غير معصية الله .. إدخال السرور عليهما. لو أغضبت والدك أو والدتك وما أكثر ما يقع، فكيف تكفر؟ تكفر بإضحاكهما لحديث: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) هذه هي الكفارة، فتضحكهما كما أنك أبكيتهما، وتجعل السرور يدخل عليهما كما جعلت الحزن يدخل عليهما أولاً. لا تتقدم عليه في المشي إلا لضرورة، كظلامٍ وخوفٍ ونحوه. لما مات عمر بن ذر قال أبوه: اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من واجب حقي، فاغفر له ما قصر فيه من واجب حقك، قيل له: كيف كانت عشرته معك؟ قال: ما مشى معي قط بليلٍ إلا كان أمامي، وما مشى معي في نهارٍ إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفاً كنت تحته. على الابن ألا يستنكف عن عسل البول والنجاسة التي تخرج من الوالدين عند كبر السن والإصابة بمرض السلس وعدم القدرة على التحكم في البول ثم عليه أن يساعدهما في الوضوء، كل ذلك أخذاً من قوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23]. لا يحد النظر إليهما، قال بعضهم: ما بر أباه من سدد النظر إليه. ثم يدعو لهما أحياءً وأمواتاً، فالله عز وجل قال في كتابه مرشداً إلى هذا: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24] وقال نوح: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]. إذا احتاج للطعام تطعمه، والكسوة تكسوه، كله من قوله تعالى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15]، إذا احتاجا(28/11)
إلى الخدمة تخدمهما، إذا دعواك فأجبهما فوراً، إذا أمراك بأمرٍ فأطعمهما ما لم يكن معصية .. خطابك لهما بلين بدون عنف .. ترضى لهما ما ترضى لنفسك .. تنفذ عهدهما .. تكرم صديقهما .. تستغفر لهما. بر الوالدين مراتب: أنت الآن لو حضرك طعامٌ لذيذ فأرسلت أحداً يدعو أباك لحضور الطعام فأنت بار، وأعظم منه أن تذهب أنت بنفسك لتدعو أباك، فأنت ممكن تقول للخادم أو العامل: اسكب الماء على يد أبي للتنظيف، لكن لو سكبت أنت بنفسك بدلاً من الخادم فهذا أبلغ في البر.
أنواع البر التي تصل الأبوين بعد الموت ... : ...
هل بر الوالدين مقتصر على حياتهما؟ نحن نعلم هؤلاء الذين عندهم عقوق, ومات الأب وماتت الأم، هل يمكن أن يتدارك ما فات؟ وما هي أنواع البر التي تصل الأبوين بعد الموت؟
الدعاء لهما:
أعظمها على الإطلاق الدعاء، وأعظم الدعاء للوالدين الدعاء بالمغفرة والرحمة؛ لأن الله أوصى به في القرآن: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28] وأيضاً: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24]. إذاً: أعظم شيء الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة، (إن الله عز وجل يرفع درجة العبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب! أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك) حديث صحيح.
الصدقة عنهما:
والصدقة عن الوالدين تصل، فقد قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمي توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإن لي مخرافاً -يعني: بستاناً يخرف الثمر فيه، أي: يجنى- فأشهدك أني قد تصدقت به عنها) وقال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أمي سلبت نفسها ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجرٌ إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم. فتصدق عنها).
صلة أصدقاء الوالدين والإحسان إليهم:(28/12)
صلة أصدقاء الوالدين والإحسان إليهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب) رواه مسلم، ولذلك حدث أن كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما راكباً على حماره في الطريق، فرأى رجلاً من الأعراب في الطريق، فسلم عليه عبد الله بن عمر ، وحمله على حماره وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار : أصلحك الله، إنهم الأعراب، وأنهم يرضون باليسير -ما يحتاج كل هذا- قال عبد الله: (إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه) ومعنى: "إن أبا هذا كان وداً لعمر" أي: صديقاً من أهل مودة عمر ، ولذلك فعل لأجله هذه الأشياء. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يصل أباه في قبره، فليصل إخوان أبيه من بعده).
إنفاذ وصيتهما:
وطبعاً لو كان له وصية يجب إنفاذها، ويجب تطبيقها.
العقوق .. وخطره: ... ...(28/13)