رفع الأستار
لإبطال أدلة القائلين بفناء النار
محمد بن إسماعيل الصنعاني
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي ليس سواه واجب الوجود الذي وعد الذين سعدوا بدوام النعيم في جنات الخلود وتوعد الذي شقوا بالأبدية في النار ذات الوقود واخبر أنه مبدلهم قوله جلودا ليذوقوا العذاب كلما نضجت منهم الجلود وأشهد أن لا إله إلا الله وشهادة تدافع عن قائلها إذا كانت الأعضاء هي الشهود واشهد صاحب المقام المحمود في يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود صلى الله عليه وعلى آله الركع السجود .
وبعد فإن السائل أدام الله له التوفيق وسلك لنا وبه مناهج ذوي التحقيق طلب كشف الاستار عن وجه مسألة فناء النار ودخول المشركين من أهلها مداخل الأبرار وهذه المسالة من غرائب المسائل ومما خلت عنها أسفار المقالات الحوافل وأشار إليها السيد الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله في الإيثار وقال وقد أفردت في هذه المسألة مصنفات حافلة منها لابن تيمية ومنها لتلميذه شمس الدين ومنها للذهبي ومنها لي هذا لفظه .
ولم أقف على غير ما في حادي الأرواح ولعل الله سبحانه يعين بالوقوف على مؤلف الذهبي والسيد محمد بمنه وفضله .
وحيث استكشف السائل عن حقيقتها وما عليها من الدلائل تعين علينا أن نكشف عن وجوه أدلتها النقاب ونبرز له المطوي تحت لثامها بعيون أذهان أولي الألباب ونستوفي فيها المقال وان خرجنا عن الإيجاز إلى الإطناب والإسهاب لأنه عز وجود ما ألف فيها فيحال عليه ولا أعرف فيها منازعا لمدعيها فأرشد إليه وليعتذر ذلك السائل عن تأخر الجواب فإنه لم يكن استخفافا بالسائل ولا تحقيرا للمسائل بل لما يتواثب محمد على القلوب من الاشتغال ولم يزل التسويف حتى تقضت ايام وليال فنقول :(1/1)
اعلم أن هذه المسألة اشار إليها الإمام الرازي في مفاتيح الغيب ولم يتكلم عليها بدليل نفي ولا إثبات ولا نسبها إلى قائل معين ولكنه استوفى المقال فيها العلامة ابن القيم في كتابه حادي الأرواح إلى ديار الأفراح نقلا عن شيخه العلامة شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية فإنه حامل لوائها ومشيد بنائها وحاشد خيل الأدلة منها ورجلها ودقها وجلها وكثيرها وقليلها وأقر كلامه تلميذه ابن القيم وقال في آخرها : ( إنها مسألة اكبر من الدنيا وما فيها بأضعاف مضاعفة هذا كلامه في آخر المسألة في حادي الأرواح ) وإن كان في الهدي النبوي أشار إشارة محتملة لخلاف ذلك حيث قال : (ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه بل لو أخرج منها عاد خبيثا وكما كان كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه وقد حرم الله عليه الجنة ) انتهى كلامه .
قلت وحيث كانت بهذه المثابة التي ذكرها من أنها أكبر من الدنيا فلا غنى لنا عن نقل أدلتها التي ارتضاها ابن تيمية وتعقب كل دليل بما يفتح الله به من إقراره أو بيان اختلاله فنقول :
قال ابن القيم بعد نقله لأقوال الناس والمعروفة في كتب المقالات :
(السابع : قول من يقول بل يفنيها أي النار خالقها تبارك وتعالى فإنه جعل لها امدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها)
يريد ويدخل الله من كان فيها من الكفار الجنة كما ستعرفه من الأدلة التي ذكرنا ثم قال :
قال شيخ الإسلام يريد به شيخه ابا العباس ابن تيمية وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم .
ثم ساق بسنده إلى الحسن البصري أنه قال قال عمر لو لبث اهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه وفي رواية عدد رمل عالج قال ابن تيمية والحسن وإن لم يسمع من عمر فلو لم يصح عنده عن عمر لم يجزم به انتهى كلامه .
وأقول فيه شيئان :(1/2)
الأول : من حيث الرواية فإنه منقطع لنص شيخ الإسلام بأنه لم يسمعه الحسن من عمر واعتذاره بأنه لو لم يصح للحسن عن عمر لما جزم به يلزم أن يجري في كل مقطوع يجزم به روايه ولا يقول هذا أئمة الحديث كما عرفت في قواعد اصول الحديث بل الانقطاع عندهم علة والجزم معه تدليس وهو علة أخرى ولا يقوم بمثل ذلك الاستدلال في مسألة فرعية كيف في مسألة قيل أنها أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة وهذا البخاري أمير المؤمنين في علم الحديث واشدهم تحريا في الصحيح لم يقل النقادون بأن تعاليقه المجزومة التي أودعها في كتابه الذي سماه الصحيح صحيحة بل فيها الضعيف كما نص عليه ابن حجر في مقدمة الفتح .
والحسن البصري معروف عند أئمة هذا الشأن بأنه لا يؤخذ بمراسيله قال الدارقطني في السنن وقد روى عاصم الأحول عن ابن سيرين وكان عالما بأبي العالية وبالحسن قال لا تأخذوا بمراسيل الحسن ولا أبي العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا عنه انتهى قلت ثم قال ابن تيمية ولو كان كلام عمر هذا غير صحيح لما تداولته الأئمة ولوجب إنكارهم له لمخالفته الإجماع والكتاب والسنة.
قلت : يقال : كلام عمر كغيره من الأقوال الدالة على خروج الموحدين من النار
وهو قول عليه جماهير الأئمة منهم ابن تيمية وستعرف أنه لا يصح أثر عمر إلا على تقدير انه أراد به الموحدين وأنه يتعين حمله على ذلك عند شيخ الإسلام نفسه وعند غيره
والثاني من حيث الدراية فإنه لو ثبت صحته عن عمر لم يدل على المدعى فإن أصل المدعى هو فناء النار وان لها مدة تنتهي إليها وليس في أثر عمر هذا إلا أنه يخرج أهل النار من النار والخروج لا يكون إلا وهي باقية فإنك لو قلت لو لبث زيد في الدار كذا وكذا ثم خرج منها لم يدل هذا على فناء الدار لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما فإن قيل بل هو يدل على فنائها التزاما لأنه تعالى إنما خلقها ليعذب بها من عصاه فبعد خروجهم لم يبق لها جاجة فالحكمة تقتضي فناءها .(1/3)
قلت هذا دور فإنه لا يثبت أن الحكمة يقتضي فناءها إلا إذا لم يبق فيها أحد ولا يخرج أحد من أهلها إلا بعد فنائها كما تسمع تصريح ابن تيمية بذلك حيث قال :
وأما كون الكفار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يقضي عليهم فيموتوا ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ولا يخرجون منها مع بقائها البتة هذا لفظه .
وإذا عرفت مراده عرفت أن أثر عمر لا يدل على مدعاه بشئ من الدلالات الثابتة فإنه قال إنهم يخرجون منها وهذا واضح في الخروج منها وهي باقية فلا بد من حمل أثره على معنى صحيح إذ لا يصح حمله على خروج الكفار عند أحد لا ابن تيمية كما عرفت ولا غيره فإنه لا يقول أحد بخروج الكفار من النار فإن صح أثر عمر حمل على أنه أراد خروج الموحدين الذين استحقوا دخول النار بذنوبهم كما دلت عليه الأدلة المعروفة الصحيحة الصريحة التي لا مرية في صحتها.
إلا أن ابن تيمية منع من حمل كلام عمر على ذلك وقال : إنما أراد عمر بأهل النار الذين هم أهلها وهم الكفار وأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها ولا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه .(1/4)
فأقول ولا يخفى ضعف هذا الرد لأن كونهم قد علموا ذلك لا يمنع أن يؤدوه لمن لا يعلمه ويخبروا أنه اعتقادهم وقد علم في فن البيان أن الإخبار يكون بفائدة الحكم أو لازمها فعلم السامعين بالحكم لا يمنع عن التكلم به وإلقائه إليهم وأما كون عصاة الموحدين لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه فمسلم ولم يقل عمر أنهم يلبثون قدر رمل عالج بل أتى بقضية شرطية فقال لو لبث أي أنه لو طال لبثهم ذلك القدر لخرجوا ولا دليل في كلامه أنهم يلبثون ذلك القدر فعرفت ايضا غير مانع عن حمل أثر عمر على عصاة الموحدين مع أنه لا يصح حمله على الكفار لأنهم يلبثون أكثر من عدد رمل عالج فقد أخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود مرفوعا لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا الحديث ومما سمعت تعين حمل أثر عمر على عصاة الموحدين عند شيخ الإسلام وعند جميع علماء الأنام .
وإذا عرفت هذا طال تعجبك من نسبة ابن تيمية القول بفناء النار إلى عمر واستدلاله لذلك بهذا الأثر المنقطع رواية الذي هو بمراحل عن الدلالة من حيث الدراية .
تنبيه : وأما مدة لبث عصاة الموحدين فإنها مختلفة فقد اخرج ابن أبي حاتم وابن شاهين في السنة من حديث علي يرفعه إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين وفيه أن منهم من يمكث شهرا ثم يخرج منها ومنهم من يمكث سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ خلقت إلى ان تفنى .
ومثله ما أخرج الحكيم في نوادر الأصول ولفظه وأطولهم فيها مكثا مثل الدنيا منذ خلقت إلى أن فنيت وذلك سبعة آلاف سنة .
ثم قال شيخ الإسلام مستدلا على فناء النار بما رواه على ابن أبي طلحة في تفسيره عن ابن عباس أنه قال لا ينبغي لأحد ان يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا .(1/5)
واقول لا يخفى على ناظر أنه لا دلالة في هذا الأثر ولا رائحة دلالة على المدعى من فناء النار بل غاية ما يفيده الإخبار عن أنه لا يجزم للمؤمن أنه من أهل الجنة ولا العاصي من عصاة المؤمنين انه من أهل النار وهذا المعنى ثابت في الأحاديث النبوية الصحيحة فقد أخرج الترمذي من حديث أنس أنه توفي رجل فقال رجل آخر ورسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يسمع أبشر بالجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك لعله تكلم لما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه بل ورد في الطفل الذي لا تكليف عليه نحو ذلك .
وقد صرح ابن القيم في آخر كتابه حادي الأرواح في الباب السبعون فيما زعم انه عقيدة اهل السنة وعقيدة الصحابة وأهل العلم وأصحاب الأثر بانه لا يشهد لأحد من أهل القبلة انه من أهل النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث وان لا يشهد لأحد أنه في الجنة بصالح عمله إلا ان يكون ذلك في حديث انتهى .
فهذا هو الذي أراده ابن عباس ولو لم يحمل كلام ابن عباس على هذا لكان مقتضاه بأنه لا يحكم بأن أهل الشرك يدخلون النار ولا بأن أهل التوحيد يدخلون الجنة إذ الإنزال هو الدخول وهذا رد لصريح القرآن وإثبات لقول لم يقله أحد من أهل الإيمان لا شيخ الإسلام ولا سائر علماء الأنام .(1/6)
ثم ان حكمنا بإن الفجار في النار والأبرار في جنات تجري من تحتها الأنهار ليس حكما منا بل الله تعالى هو الذي حكم بذلك وأخبرنا به فالعجب كله في الاستدلال على فناء النار بهذا الأثر الذي لا يقول أنه يدل على ذلك أحد من النظار وظهور عدم دلالته عليه كالشمس في رابعة النهار وتبين ان مراده لا يحكم على معين أنه من أهل الجنة ولا إنه من أهل النار وكأنه يريد غير من حكم الله ورسوله عليه بأحد الدارين كإخباره صلى الله عليه وسلم أن العشرة من الصحابة من أهل الجنة وكإخبار الله أنا أبا لهب سيصلى نارا ذات لهب ولو فرض دلالته على مدعاه فإنه معارض لما اخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال هاتان من المخبآت قول الله تعالى فمنهم شقي وسعيد وقوله تعالى يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا المائدة 109 فأما قوله فمنهم شقي وسعيد فهم قوم من اهل الكبائر من أهل القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم ثم يأذن بالشفاعة فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة فسماهم أشقياء حين عذبهم بالنار انتهى .
فهذه الرواية كما تراها صراحة وكثرة تخريج دالة على أنه كغيره من الجماهير القائلين بخروج الموحدين من النار ولا قول له بفناء النار فإنه وجه الاستثناء إلى الموحدين في قوله تعالى إلا ما شاء ربك .
وابن تيمية يقول إنه عائد إلى فناء النار أيضا كما ستسمعه عند التكلم على الآية وظاهر نقل ابن تيمية لأثر ابن عباس أنه قائل بفناء النار !
قال شيخ الإسلام وأما أثر ابن مسعود فإنه ذكر عنه البغوي أنه قال ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد ثم قال وعن أبي هريرة مثله .(1/7)
وأقول هذان الأثران بهما متمسك ابن تيمية في جعل القول بفناء النار قولا لابن مسعود وأبي هريرة كما سيرويهما إلى في صدر الاستدلال وهذان الأثران ذكرهما البغوي في تفسير سورة هود في قوله تعالى إلا ما شاء ربك ثم قال البغوي عقب ذكرهما ما لفظه :
( ومعناه عند أهل السنة إن ثبت أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان وأما مواضع الكفار فممتلئة كان ابدا ) هذا لفظه .
فشكك في الرواية أولا ثم ابان أنها إن ثبتت فهي عند أهل السنة في عصاة من الموحدين ثم نقول بعد ثبوت هذين الأثرين عن هذين الصحابيين لا دلالة فيهما على فناء النار الذي هو محل النزاع بوجه من الوجوه فإن قوله ليس فيها أحد دال على بقائها فإنك إذا قلت ليس في الدار احد فإنه دال على بقاء الدار لا على فنائها ثم عرفت قول البغوي أن أهل السنة حملوه على خروج الموحدين من النار وهذا الحمل متعين عند ابن تيمية بخصوصه وعند جميع من عداه أما عنده فإنه لا يقول بخروج الكفار من النار بل يقول بعد فنائها وذهابها لا يتصور فيها بقاء الكفار وهذان الأثران حاكمان بخروج من فيها وليس إلا عصاة الموحدين أما عند غيره من أهل السنة فالأمر واضح في أن الأثرين ليسا إلا في خروج الموحدين ولفظ اثر ابن مسعود وإن كان عاما فإنه نكرة في سياق النفي إلا أنه معلوم تخصيصه بالأدلة الدالة على أن الكفار ليسوا منها بمخرجين عند ابن تيمية وغيره كما عرفت .
وبهذا تعرف أنه لا يصح نسبة القول بفناء النار وذهابها إلى ابن مسعود وأبي هريرة كما نسب هذا القول الذي نقل عنهما إلى عمر بل هو الدليل على بقاء النار بعد خروج من يخرج منها من أهل التوحيد فكيف يقول شيخ الإسلام في صدر المسألة إن القول بفناء النار نقل عن ابن مسعود وأبي هريرة وإنما مستنده في نسبة ذلك إليهما هذان الأثران اللذان هما بمراحل عن الدلالة على فناء النار وذهابها بعد صحتهما .(1/8)
فعرفت بطلان نسبة هذا القول إلى ابن مسعود وأبي هريرة كما عرفت بطلان نسبته إلى عمر .
واما قول شيخ الإسلام في صدر المسألة إن أبا سعيد الخدري نقل عنه القول بفناء النار فإنه استدل لذلك بأنه قال أبو نضرة عن ابى سعيد أو قال جابر أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اتت هذه الآية على القرآن كله إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد هود 107 .
وأقول :
أولا : هذا الأثر نسبه الحافظ السيوطي في الدر المنثور إلى تخريج عبد الرزاق وابن الشريس أبو وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الأسماء والصفت ولفظه عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد أو رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا مشاء ربك إن ربك فعال لما يريد قال هذه الآية قاضية على القرآن كله يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه انتهى وقد نقل ابن تيمية هذه الرواية أيضا ونسبها إلى تخريج ابن جرير أيضا ولا يخفى
أولا انه شك أبو نضرة في قائل هذا القول وردده بين ثلاثة معلومين ومجهول وهذا الشك وإن كان انتقالا من ثقة إلى ثقة على رأي من يقول كل الصحابة عدول غير ضائر في الرواية إلا أنه لا يصح معه الجزم بنسبة القول بفناء النار إلى ابي سعيد حيث أن مستند القول به هو هذا الأثر لأن هذا أثر لم يتم الجزم به في رواية أنه لأبي سعيد فكيف يجزم بنسبة هذا المدلول أعني القول بفناء النار وذهابها إلى أبي سعيد كما فعله شيخ الإسلام ولم يثبت عنه الدليل ؟!(1/9)
وثانيا : وهو على تقدير ثبوته عنه فإنه لا دلالة فيه على مدعاه وهو فناء النار ولا رائحة دلالة بل غاية ما فيه أن كل وعيد في القرآن ذكر فيه الخلود لأهل النار فإن آية الاستثناء حاكمة عليه وهي عبارة مجملة لا تدل على المدعى بنوع من الدلالات الثلاث بل يحتمل انه أراد أنها فسرت بآيات الخلود التي وردت في القرآن في خلود أهل النار كما أخرجه البيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله تعالى إلا ما شاء ربك هود 107 قال فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة انتهى فنقول من قال من الصحابة هذه الآية اتت على القرآن كله حيث كان في القرآن خالدين فيها تفسير [ 5 في رواية ] ابن عباس هذه ثم هب أن معناه ما قاله ابن تيمية وأن آية إلا ما شاء ربك قيدت كل آية فيها خالدين فيها إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد فغاية ذلك أن تصير كل آية خلود مثل آية هود واية هود لا تدل على مدعاه كما ستعرفه قريبا من تحقيق آية المشيئة وما قيل فيها من الأقوال الصحيحة والسقيمة والمطرحة والقويمة .(1/10)
وإذا عرفت هذا فيا لله العجب كيف ينسب شيخ الإسلام إلى أبي سعيد القول بفناء النار بلفظ لم يتحقق صدوره عنه ولو تحقق صدوره عنه لم يدل عى مدعاه فما هذا إلا مجازفة ولا يليق ممن دون ابن تيمية تحقيقا وورعا في نسبة الأقوال وتحرير الاستدلال هذا وبعد تحقيقك لما أسلفناه وإحاطتك ) علما بما سقناه تعلم أن هؤلاء الأربعة من الصحابة الذين هم عمر وابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الذين عين شيخ الإسلام أسماءهم من الصحابة في صدر المسألة وذكر أنه نقل عنهم القول بفناء النار وذهابها وتلاشيها هم برئيون عبد من هذا القول ومن نسبته فناء النار إليهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب واستدل لهم بما ادعاه منسوبا إليهم بما لا مساس له بالدعوى كما عرفت وحينئذ يعلم انه ليس معه في دعواه فناء النار أحد من الصحابة الذين عينهم وإن كانت عنده أدلة يصح نسبة هذا القول إليهم غير ما ذكره من الآيات فهذا وقتها فإنه قد بذل كل وسعه في هذه المسألة فقال شيخ الإسلام بعد سرده للأربعة المذكورين من الصحابة :
( والقول بفناء النار نقل عن غير هؤلاء الأربعة من الصحابة ويريد بغيرهم عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه نقل ابن تيمية عنه القول بفناء النار مستدلا على اصل مدعاه أنه قال ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيه أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا ).
وأقول هذا الأثر لا دلالة فيه على مدعى ابن تيمية لأنه لا يقول إن جهنم تخلو عن الكفار ما دامت باقية إنما يقول إذا فنيت وذهبت لم يبق فيها كافر وهذا الأثر ينادي بخلودها عليه وهي باقية على حالها والقول بأنه سماها جهنم باعتبار ما كانت عليه رجوع إلى المجاز في مسألة هي أكثر من الدنيا بأضعاف مضاعفة فكلام ابن عمرو هذا محمول على ما حمل عليه كلام عمر بن الخطاب وغيره من الآثار في أن مراده خروج الموحدين وقد قال عبيد الله بن معاذ في أثر ابن عمرو وأبي هريرة كان أصحابنا يقولون يعني من الموحدين .(1/11)
قلت ويدل له ما قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف ان أثر ابن عمرو أخرجه البزار ثم ساقه بسنده إلى ابن عمرو ولفظه في آخره يعني من الموحدين قال الحافظ كذا فيه / صفحة 82 / ورجاله ثقات والتفسير لا أدري لمن هو ؟ ثم قال :
ويؤيده ما رواه ابن عدي عن أنس مرفوعا ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه ابوابها وما فيها من امة محمد أحد وفي الباب عن أبي أمامة رفعه يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم أحد تخفق فيه أبوابها يعني من الموحدين انتهى .
فعرفت أن حديث ابن عمرو في الموحدين وقول الحافظ لا يدري لمن التفسير يريد قوله يعني من الموحدين يقال عليه الأصل أنه من كلام ابن عمرو ثم إنه لا بد من حمل كلامه المطلق على هذا التفسير عند ابن تيمية وغيره ثم هب أنها لم تثبت تلك الزيادة فيه فالحديث المرفوع مقدم عليه وهو حديث أنس .
وبعد هذا تعرف أنه لا دليل له في أثر عمرو على أصل المدعى .
هذا : وأما أصحاب الكشاف فإنه لما كان وعيدي الاعتقاد قائلا بأنه لا يخرج من النار من دخلها من عصاة الموحدين وأهل الإلحاد سلك في اثر ابن عمرو مسلكا آخر فإنه لما ذكره قال وأقول أما كان لابن عمرو في بغيه بيده ولسانه ومقاتلته بها علي بن أبي طالب ما شغله عن تسيير هذا الحديث انتهى .
كأنه يشير إلى القدح في أثر ابن عمرو ببغيه على أمير المؤمنين عليه السلام وقد تعقبه في الكشف فقال لا يلتفت هذا عن المنصف وإيثاره طريقة قدمام أبي المعزلة من نسبته وضع الحديث إليه تلويحا ونسبة مقاتلته أمير المؤمنين عليا بالنص فإن هذا من جلة الصحابة انتهى قلت أما نسبة الوضع إليه فما يظهر من كلام الكشاف نعم البغاة مقبولة روايتهم عند المعتزلة كما عرفت من الأصول .
ثم استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على مدعاه بما أخرجه ابن مردويه في تفسيره من حديث جابر قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فأما الذين شقوا ففي النار) الآية هود 107 ، 108(1/12)
قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن شاء الله أن يخرج أناسا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل .
وأقول : لا دليل فيه على مدعاه وهو فناء النار وذهابها بل فيه دليل على خلافه لأنه لا ينكر الإخراج من النار ولا يقوله ابن تيمية في حق الكفار فتعين أنه في عصاة الموحدين وقد سمعت مما نقلناه عن ابن عباس أن الله سمى عصاة الموحدين أشقياء وقد صرح ابن تيمية بهذا هنا فقال بعد سرده للحديث .
إنما يدل على إخراج بعضهم من النار وهو حق بلا ريب وهو بناء على انقطاعها وفناء عذابها وأكلها لمن فيها وأنهم يعذبون فيها دائما ما دامت كذلك .
والحديث دل على أمرين أحدهما أن بعض الأشقياء إن شاء الله أن يخرجهم من النار وهي نار فعل فيكون معنى الاستثناء إلا ما شاء ربك من الأشقياء فإنهم لا يخلدون فيها ويكون الأشقياء .
نوعين : نوعا يخرجون منها ونوعا يخلدون فيها فيكونون من الذين شقوا أولا ثم يصيرون من الذين سعدوا فيجتمع لهم السعادة والشقاوة في وقتين انتهى .
وهو صحيح وفيه إقرار منه على أنه لا دلالة فيه على فناء النار كما ساقه دليلا لذلك على أنا نقول : الحديث ليس نصا في الإخراج بل إخبار مقيد بقضية شرطية وهو إن شاء الله أن يخرج أخرج وليس فيه أنه تعالى شاء ذلك بل هو مثل ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها السجدة 13
وسيأتي تحقيق ذلك في الكلام على آية المشيئة إن شاء الله.
إذا عرفت هذا كله فهؤلاء الستة من الصحابة الذين زعم أنه نقل عنهم القول بفناء النار أي وبدخول أهلها بعد ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار التحريم 8 وهم الذين اشار إليهم السيد الإمام محمد بن إبراهيم في الإيثار حيث قال :
وطول في الثاني ابن تيمية فقف
على علمه في كتبه والتراجم
واسنده عن ستة نص قولهم
أكابر من صحب النبي الأكارم
وأراد بالثاني حمل الاستثناء في وعيد أهل النار على فنائها وانقطاع عذابها
هذا بيان مراده .(1/13)
ولكنك إذا تحققت ما أسلفناه عرفت أنه لم يتم لابن تيمية ما نسبه إلى الستة المذكورين من القول بفناء النار وانه ليس بنص قولهم كما قال السيد محمد ولعله يريد نص لفظهم وإن لم يدل على مدعى ابن تيمية أو أنه نص عنده فيما ادعاه وإن كان غير صحيح ويرشد إلى أنه أراد ذلك قوله بعد ذلك البيت :
فلا تعتقد إن لم يصح مقالهم وبان ضعيفا ساقطا كفر عالم .
ثم قال ابن تيمية مستدلا لفناء النار وانقطاعها أنه قال الله تعالى لابثين فيها أحقابا إلى قول كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا النبأ 23 - 28 وقال هذا صريح في وعيد الكفار المكذبين بآياته ولا يقدر الأبدي بمدة الأحقاب .
فأفاد مفهوم الأحقاب أنه لا خلود فيها إذ الأبدي لا يقدر بزمان وأما دلالتها على أن المخبر عنهم باللبث أحقابا هم الكفار فلقوله فيهم إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا .
وهذه صفات الكفار
وهذا تقرير مراد شيخ الإسلام .
والعجب من استدلاله بصدر الآية وذهوله عما عقب به من قوله فلن نزيدكم إلا عذابا فإن المراد لن نزيدكم بعد لبثكم أحقابا إلا عذابا ضرورة أنهم معذبون حين لبثهم فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا فزيادة العذاب بعد الأحقاب بل خص تعالى الزيادة على العذاب وأنه تعالى لا يزيدهم بعد لبث الأحقاب إلا عذابا فانتفى مفهوم العذاب الذي أفاده الجمع الذي جعله ابن تيمية دليلا على فناء النار وعدم أبديتها مع أنه استدلال بمفهوم العدد وهو من اضعف المفاهيم على هذه المفاهيم على هذه المسألة المعظمة الذى لا يعتمد عليه محقق وكيف يجعل اقوى من التأييد المصرح به في عدة آيات من آيات وعيد أهل النار فلو عارض مفهوم العدد منطوق التأبيد لكان الحكم للمنطوق اتفاقا .(1/14)
هذا وذكر البغوي أنه قال مقاتل بن حيان هذه الآية منسوخة يريد لابثين فيها أحقابا نسختها فلن نزيدكم إلا عذابا النبأ 30 يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل هذا لفظه .
ومراده بالنسخ أن لا حكم لمفهوم العدد وإلا فإنه لا يجري النسخ المصطلح عليه في الأخبار .
وقال الحسن ليس للأحقاب عدة إلا الخلود وذكره عنه البغوي .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال الأحقاب ما لا انقطاع له كلما مضى حقب جاء بعده حقب .
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن لابثين فيها أحقابا قال ليس فيها أجل كلما مضى حقب دخل في الآخر وبهذا تعرف رواية ودراية ضعف استدلال شيخ الإسلام على فناء النار وانقطاعها بمفهوم الأحقاب .
ثم استدل ابن تيمية على فناء النار وذهابها بقوله تعالى في سورة الأنعام قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم آية 128 .
وبقوله تعالى في سورة هود { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد } آية 107 وقرر كون آية الأنعام في المشركين بقوله تعالى في صدرها { يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس قال فإن أولياء الجن من الإنس } يدخل فيه الكفار قطعا يريد أنه لا يقال الآية في عصاة الموحدين فقط ثم أبان أن الاستثناء عائد إلى الفريقين الكفار وعصاة الموحدين والكفار بفناء النار والعصاة بالخروج منها وقرر هذا التقرير في آية الاستثناء في سورة هود .
وأقول قد اختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم من أئمة الرواية والدارية في هذا الاستثناء ولنذكر ما وقفنا عليه من ذلك وقد ألم به ابن القيم في هذا الكتاب أعني حادي الأرواح وألم به شيخه شيخ الإسلام في كلامه في هذه المسألة وفاتهما بعطى ما قيل في الآية قال ابن القيم في الباب السابع والستين .(1/15)
واختلف السلف في هذا الاستثناء فقال معمر عن الضحاك هو في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة فقوله تعالى { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } إلا مدة مكثهم النار .
قلت يضعف هذا ان الاستثناء من الخلود يقتضي أن يكون بعد الدخول لا قبله سيما بعد قو له ( ففي النار ) وقد اشار إلى تضعيف هذا الوجه بما قلناه ابن تيمية في غضون أبحاثه في هذه المسألة قال ابن القيم وقالت فرقة هو استثناه الله تعالى ولا يفعله كما تقول والله لأضربنك إلا أن ارى غير ذلك وأنت لا تراه بل تجزم بضربه .
قلت هذا الوجه أحد وجهين ذكرهما جار الله في الكشاف في آية الأنعام فقال:
أو يكون يريد الاستثناء من قوله الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب منه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد فيكون قوله إلا إذا شئت من أشد الوعيد مع تهكم بالتوعد في خروجه في صورة الاستثناء الذي فيه أطماع انتهى .
واختار هذا الوجه صاحب الأتحاف والصفوى وهو مروي عن ابن عباس أخرجه البيهقي في البعث والنشور فقال قد شاء ربك أن يجعل هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة قلت إلا أنه يختلف صاحب الكشاف وصاحب الاتحاف في عصاة الموحدين فصاحب الكشاف يجعلهم داخلين في الذين شقوا لأن أصله أنهم لا يخرجون من النار وصاحب الإتحاف والصفوى يجعلانهم ( داخلين في الذين سعدوا لقيام الأدلة عندهم بخروجهم من النار .
هذا وقد تعقب ابن الخطيب الرازي في مفتاح الغيب هذا الوجه فقال :(1/16)
وهذا ضعيف لأن قوله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك معناه لأضربنك إلا إن رأيت أن أترك الضرب وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية حصلت أم لا بخلاف قوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والأرض فإن معناه الحكم بخلودهم فيها المدة التي يشاء ربك فيها فهذا يدل على أن المشيئة قد حصلت جزما فكيف يحسن قياس هذا الكلام وعلى ذلك انتهى .
ولا يخفى أن المشار المفروض واقع على هيأة القطع والجزم كما هو صريح كلام ابن القيم وصاحب الكشاف فقول الرازي وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا خلاف المفروض وقوله فهذا يدل على أن المشيئة إلخ إن أراد مشيئة الخلود فهو مراد صاحب هذا القول كما يشعر به المثال وينطبق ويتعلق عليه وإن أراد مشيئة عدم الخلود كما هو مقتضى كلامه فمحل النزاع ولا يتم تضعيف كلام الخصم بإيراده كما لا يخفى .
ثم قال ابن القيم :
وقالت طائفة أخرى العرب إذا استثنت شيئا كثيرا مع مثله ومع ما هو أكثر منه كان معنى إلا في ذلك ومعنى الواو سواء والمعنى على هذا سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة السموات والأرض وهذا قول الفراء وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن قالوا ونظير ذلك أن تقول لي عليك ألف إلا الألفين اللذين قبلهما أي سوى الألفين قال ابن جرير هذا أحد الوجهين إلى لأن الله لا خلف لوعده وقد وصل الاستثناء بقوله عطاء غير مجذوذ وقالوا نظيره أن تقول أسكنك داري حولا إلا ما شئت أي سوى ما شئت أو لكن ما شئت من الزيادة عليه .(1/17)
وأقول : هذا مبني على أنه أريد بالسموات والأرض سموات الدنيا وأرضها أي مقدار بقاء دار الدنيا فإنه لو أراد سماء الأخرى وأرضها لما تم أن يقال إلا ما شاء الله من الزيادة على مدتهما فإنهما أبديتان ما لا يتصور عليهما زيادة والظاهر انه أريد من السموات والأرض سموات الآخرة وأرضها لأن آيات التأبيد في الفريقين قاضية بأبدية أرضها وسمواتها إذ لا بد لهم من شئ يقلهما وشئ فوقهما وهو المراد من سموات الآخرة وأرضها ولأن قوله (ما دامت السموات والأرض) ظاهر في ذلك إذ أن أرض الدنيا وسمواتها قد ذهبت ولو أريد لقيل ما كانت السموات والأرض .
ثم قال ابن القيم :
وقالت فرقة أخرى هذا الاستثناء إنما هو مدة احتباسهم عن الجنة ما بين الموت والبعث وهو البرزخ إلى أن يصيروا إلى الجنة ثم خلود الأبد فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرزخ .
وأقول فيه ما سلف في الوجه الأول وهو أن الاستثناء إنما هو بعد دخولهم الجنة .
ثم قال ابن القيم :
وقالت فرقة أخرى العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود الدائم إلا أن يشاء الله خلاف ذلك اعلام لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئته وهذا كما قال تعالى لنبيه ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك الاسراء 86 ونظائره يخبر عباده أن الأمور كلها بمشيئته ما شاء الله كان وما لم يشا لم يكن .
وأقول إن كان تقيدا حقيقة لزم بقاء الخوف في دار النعيم والله يقول يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الزخرف 68 ويقول أدخلوها بسلام آمنين الحجر 46 والاجماع قائم على أن الجنة لا خوف فيها ثم يلزم أن يبقى لأهل النار طمع في الخروج منها وروح بذلك وليس لهم روح ولا فرج وإن أريد الإخبار بأنه لو شاء تعالى عدم خلود الفريقين لكان له في ذلك حكمة وان المراد من الاستثناء الاعلام للعباد باتساع نطاق حكمه فهذا قد يقال إنه وجه وجيه .(1/18)
ثم ذكر ابن القيم وجها قاله لابن قتيبة كالوجه الذي نقله عن الفراء ولم ينقله لأنه هو وإنما اختلفت العبارة ثم قال :
وقالت طائفة ما بمعنى من من قبل قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء النساء 3 المعنى إلا من شاء ربك ان يدخله النار بذنوبه من السعداء والفرق بين هذا القول وأول الأقوال أن الاستثناء على ذلك من المدة وعلى هذا القول من الأعيان .
وأقول : هذا القول يفتقر إلى تقرير يتضح معه مراد قائله وتقريره أن الاستثناء من الذين سعدوا قبل الحكم عليهم بقوله ففي الجنة فيكون المعنى وأما الذين سعدوا الا من شاء الله ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض لما تقرر في النحو والأصول أن إخراج المستثنى من المستثنى منه قبل الحكم عليه بالخبر إلا أنه يلزم على هذا القول ان تكون الأقسام أربعة .
قوم سعدوا حكم لهم بالكون في الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض وهم الذين استثنى منهم .
وقوم سعدوا ايضا لكن لم يبين من الآية حكمهم وهم الذين افادهم إلا من شاء الله .
وقوم شقوا محكوم عليهم بالكون في النار خالدين ما دامت السموات والأرض .
وقوم شقوا لم يتبين حكمهم كما عرفت .
ومعلوم أن الموجود في الواقع ثلاثة أقسام موحدون وملحدون لا وعصاة الموحدين فيكون المراد من الآية على هذا ان قوما دخلوا في السعداء باعتبار أنهم شاركوهم في التوحيد ولكنهم فارقوهم في الكون في الجنة خالدين فيها ودخلوا في الأشقياء باعتبار انهم قارفوا أن ما أغضب الله عليهم من المعاصي ولكنهم فارقوا بعدم الكون في النار خالدين .(1/19)
فالقسم الثالث تحته قسمان باعتبار دخولهم تحت بالسعادة مع الذين سعدوا وبالشقاوة مع الذين شقوا كما عرفت فكانت الاربعة ثلاثة وتكون الآية قد بين فيها حكم الفريقين من الموحدين والملحدين ولم يبين حكم الفريق الثالث منها وقد بينه الله في قوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء 48 و 116 فمآل المعنى في الآية فأما الذين سعدوا سعادة خالصة ففي الجنة خالدين فيها وأما الذين شقوا شقاوة خالصة ففي النار خالدين فيها وأما الذين اخرجوا من الفريقين فباقون على تحت مشيئة الله تعالى .
وهذا الوجه بعد التقرير لا يخفى حسنه .
ثم ذكر أقوالا راجعة إلى ما سلف ثم قال :
وهذه الأقوال متقاربة قال ويمكن الجمع بينها بأن يقال أخبر الله عن خلودهم في الجنة كل وقت إلا وقتا شاء الله ألا يكونوا فيها وذلك يتناول وقت كونهم في الدنيا وفي البرزخ وفي موقف القيامة على الصراط وكون بعضهم في النار قلت هذه الإطرفة شئ واحد عائد إلى كونه قبل دخولهم الجنة ولكن يبعده ما مر غير مرة قال فإن الاستثناء من خلود الداخلين وحيث كانوا في عين الجنة لا يفيد ذلك الكون بخالدين فيها . ثم قال :
وعلى كل تقدير فهذا الأمر من المتشابه وقوله عطاء غير مجذوذ محكم وقوله أكلها دائم وظلها ولهذا أكد خلود أهل الجنة في غير موضع من كتابه وأخبر أنهم لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وهذا الاستثناء منقطع وإذا ضممته إلى الاستثناء من قوله إلا ما شاء ربك تبين لك المراد من الآيتين واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الاولى من جملة الموت فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية وكذلك مفارقة الجنة تقدم على خلودهم فيها انتهى كلامه .(1/20)
وأقول : قد أفاد أن الاستثناء من خلود أهل الجنة من المتشابه وأن المحكم ان آية الخلود فيجب برد المتشابه إلى المحكم فالمحكم هو الخلود وهذا وهذا حسن وتخصصه بالاستثناء في أهل الجنة بقوله عطاء غير مجذوذ ولما علم يقين من أنه لا يخرج من الجنة أحد ممن دخلها وسيأتي لنا أنه يمكن .
آخر هذا الوجه في الاستثناء في آية العذاب ، وأما ابن القيم فإنه فيه ... ابن تيمية من الاستثناء فيها على حقيقتة وأنه لا خلود في النار لأهلها من الكفار كما عرفته من أدلة دعواه وأما قوله إن الاستثناء في الآية كالاستثناء في قوله لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى الدخان 56 فإنها موته تقدمت على الحياة الأبدية وكذلك مفارقة الجنة تقدم على خلودهم فيها .
فأقول : الفرق بين الآيتين واضح فإن آية الموتة الأولى وقع المستثنى منه فيها من أحوال الدنيا الواقعة فيها المعلوم نقضها ولذا كان أحسن الأقوال في هذه الآية أعني آية إلا الموتة الأولى انه من باب التقييد بالمحال من باب قول شعيب وما يكون لنا ان نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا الأعراف 89 .
إذا الآية سيقت لبيان ان أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت أصلا وأنه أمر محال فعلق بالمحال لتمام التبشير بنعمة الحياة الأبدية وآية الخلود المستثنى منه فيها من أحوال الآخرة والكون في الجنة فكيف يقاس ما لم يمض ولم ينقض بما مضى وانقضى على انه لا يصح لغة تسمية اللبث في الدنيا وفي البرزخ وفي الموقف خلودا حتى يخرج من مدة الخلود .
وبعد هذا رايت فخر الدين الرازي وقد تعقب هذا في مفتاح الغيب فقال بعد نقله لفظه .(1/21)
وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار ومن المعلوم أن الخلود كيفيات من كيفيا الله الحصول في النار فقبل الحصول في النار يمتنع حصول الخلود وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وإذا لم يحصل المستثنى منه امتنع حصول الاستثناء هذا لفظه .
فهذه الوجوه التي ذكرها ابن القيم في الاستثناء على آية الخلود مع ما تراه من الأبحاث التي أوردناها في المقام وقد بقي فيه وجه ذكره جار الله في الكشاف في آية هود فقال إن الاستثناء هو استثناء من الخلود من نعيم الجنة وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار وبما اغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكثر منها وأجل موقعا وهو رضوان الله كما قال الله وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ولهم ما يتفضل الله عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو فهو المراد باستثناء انتهى .
وتعقبه الفخر الرازي في مفاتيح الغيب فقال :
لو كان كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السماوات والأرض والأخبار الصحيحة دالة على أن التنقل من النار وبالعكس يحصل كل يوم مرارا فبطل هذا الوجه انتهى كلامه .
قلت : ولا يخفى ضعف كلامه فإن معنى الآية أن أهل النار في النار خالدين فيها مدة دوام السموات والارض إلى وقت مشيئة ربك عدم خلودهم فيها فهو إخراج بوقت مشيئة عدم الخلود من القيد بدوام السموات والأرض والإخراج من المقيد إخراج منه ومن قيده بمعنى ان خرج منه بعد اتصافه بالقيد فالقيد جزء منه ومعناه أن يخرج من النار إليها إلى غيرها مع بقاء السموات والأرض لا بعد انقضاء مدتها .(1/22)
ثم هذا الذي أورده الرازي لازم لما اختاره في الآية كما ستعرفه .
هذا وقد اعترض كلام الكشاف صاحب الإتحاف فقال :
لا أدري ما حمله على ما لا تقبله العقول في حمل الاستثناءين على الخروج إلى الهموم والغموم في اهل النار وإلى رضوان الله في أهل الجنة ونحو ذلك مما ذكر والغموم لازم أهل النار ورضوان الله ملازم لأهل الجنة ولأجله دخولها وكذلك سخط الله لأهل النار وكيف الخروج من الأمور الحسية وهي الجنة والنار إلى المعنوية وهي السخط والرضى وسائر ما ذكرناه مما اشتمل عليه دار العقاب ودار النعيم . انتهى .
ثم جنح إلى حمل الاستثناء في آية هود على الوجه الذي حمله عليه صاحب الكشاف في آية الأنعام وقد سبق ذكره هذا إن لم يحمل كلام صاحب الكشاف على ما روي عن ابن مسعود وأن حمل عليه لم يتم إيراد صاحب الإتحاف كما أنه لا يرد على صاحب الكشاف ما اورده عليه الرازي وكلام الإتحاف هذا صحيح إلا قوله إن رضوان الله لازم لأهل الجنة ولأجله دخولها فإنه قد يقال أنه أخرج أحمد والشيخان والترمذي والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة يا اهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول إني إعطيكم قال أفضل من ذلك قالوا رب واي شئ افضل من ذلك قال أحل عليكم رضواني فلا اسخط عليكم بعده أبدا .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عبد الملك الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله على اهل الجنة نعيمهم بما في الجنان .(1/23)
وهذا دال على أن رضوان الله تعالى هذا متأخر عن دخول أهل الجنة والآية التي ساقها في الكشاف دالة على ذلك أيضا فإنه جعل رضوانه تعالى الأكبر قسما للجنات ولعله يقال إن هذا الرضوان الذي يبشرهم به الرب ويخاطبهم به الموصوف بأنه لا يسخط بعده أبدا متأخر وهو المراد من الآية والحديثين ومجرد الرضى حاصل لهم من أول الأمر كما يدل له قوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي الفجر 27 - 30 فإنه دال على الرضى من أول الأمر قبل دخول الجنة ويحتمل أنه خاص بصاحب هذه النفس المطمئنة .
والحاصل أن هذا الرضى الذي أراده صاحب الكشاف واستدل عليه بالآية متأخر وهو المراد من الحديثين ولا ينافيه مجرد الرضى اللازم لأهل الجنة فلا يرد اعتراض صاحب الإتحاف عليه وأما قوله والهموم والغموم لازمة لأهل النار فقد أشار إلى جوابه المحقق أبو السعود فقال ولك ان تقول إنهم ليسوا مخلدين في العذاب الذي هو عذاب النار بل لهم من افانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى وهو العقوبات والآلام الروحانية التي لا يقف عليها في الدنيا المنغمسون في أحكام الطبيعة المقصود إدراكهم ما ألفوا به من الأحوال الجسمانية وليس لهم استعداد لتلقي ما وراء ذلك من الأحوال الروحانية وهذه العقوبات وإن كانت تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسون بها عذاب النار ولا يحسونها وهذا كاف في تحقيق معنى الاستثناء . انتهى كلامه .
وهذا وجه حسن محتمل على أنه الذي اراد صاحب الكشاف ويندفع به اعتراض صاحب الإتحاف .
هذا وفي الكشف على الكشاف ما لفظه .(1/24)
هذا في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار الى برد الزمهرين عن والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى هجر الأصل فلا الا ترى إلى قوله نارا تلظى الليل 14 وقوله وقودها الناس والحجارة البقرة 24 والتحريم 6 وكم وكم وأما رضوان الله عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف وقوله خالدين فيها لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن انفرادها بنعيمهم بها ثم قال ولعل الوجه والله أعلم أن يكون من باب حتى يلج الجمل في سم الخياط الأعراف 40 لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى الدخان 56 وأشار إليه سلمه الله يريد الفاضل الطيبي وذكر أنه وقف بعد ذلك على نص من قبل الزجاج . انتهى .
يريد أنه تقيد بالمحال في الآيتين وعصاة الموحدين داخلون في السعادة فإنهم خالدون في الجنة وإن تأخر دخولهم إياها فإنه من المعلوم أن الداخلين إلى الجنة لا يدخلون دفعة واحدة بل يدخلون أرسالا بل فيها من يسبق إليها بمقدار خمسمائة عام كما ثبت ذلك في فقراء المهاجرين والذي رجحه الفخر الرازي بعد سرده للأقوال وتعقبه لها ان عصاة الموحدين داخلون في الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم وقوله إلا ما شاء ربك يوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء ولما ثبت ان الخلود واجب للكفار وجب أن يقال الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة وهذا الكلام قوي في هذا الباب ، انتهى .(1/25)
وأقول يرد عليه في هذا الوجه الذين استقوا إلى ما اورده هو على من قال إن معنى الاستثناء في آية أهل النار أنهم ينقلون من عذابها إلى الزمهرير فإنه أورد عليه ما أسلفناه من أنه يقتفي أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض فيقال عليه هذا عين ما قاله هناك أنه يلزم ان لا يخرج عصاة من الموحدين عن النار إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض ولا دليل عليه بل الأدلة قائمة على خلافه كما قدمناه في التثنية مما سبق فالحق مل قدمناه لك من أن إيراده غير وارد على من أورده ولا لازم له لبطلانه في نفسه .
هذا وكلام الفخر الرازي هذا هو كلام المفسرين من أئمة السنة وذكره سعد الدين في شرحه على التلخيص لأنه جعل الاسثناء في الآيتين معا لإخراج عصاة الموحدين وآن المراد بعدم خلودهم في الجنة فراقهم له ايام عذابهم وأنهم داخلون في السعداء باعتبار الايمان وفي الأشقياء بسبب المعاصي ولكن فيه ما عرفت من أن الاستثناء إنما هو من المحكوم عليهم بدخول الجنة خالدين فيها وعصاة الموحدين قبل دخولهم لا يصح في حقهم الاستثناء كما عرفته وقد نبه على هذا المحقق الشريف في حواشيه على المطول حيث قال :
أقول : الخلود إنما هو بعد دخول الجنة فكيف ينقضي بما سبق على الدخول فالصواب أن يقال الاستثناء الأول محمول على ما تقدم من أن فساق المؤمنين لا يخلدون في النار وأما الثاني فهو محمول على أن أهل الجنة لهم سوى نعيمها ما هو أجل وأكبر وهو رضوان الله عز وجل وبقاؤه لا على أن فيهم بعضا يخرج ، انتهى.(1/26)
ولا يخفى أن كلامه في الاستثناء الثاني هو كلام صاحب الكشاف بعينه وأنه يرد عليه ما أورده صاحب الإتحاف وقد سبق لنا رده كما عرفت وهكذا يرد عليه ما أورده صاحب الكشاف كما سبق قريبا أيضا فالأحسن أن يقال ان الاستثناء في آية الجنة من باب حتى يلج الجمل في سم الخياط تقييد بالمحال وان من دخل الجنة لا يخرج منها أبدا بدليل الاجتماع المعلوم ضرورة من الدين وبدليل قوله تعالى { عطاء غير مجذوذ } وفي آية أهل النار محمول على ما ذكر من خروج الموحدين ولا يقال أن هذا يوجب اختلاف في نظم الكلام حيث عدل بالاستثناء الثاني عما حمل عليه الاستثناء الأول مع أنهما سيقا مساقا واحدا لأنا نقول قد دفع الشريف هذا الإيراد لأنه ورد ما وينهي إليه بقوله الأول محمول على الظاهر وقد عدل بالثاني عنه بقرينة واضحة مما ذكرنا فلا إشكال ولا اختلاف .(1/27)
إذا عرفت حقيقة هذه الأقوال التي حققها الاستدلال وأساطين المفسرين وعيون العيون من المحققين عرفت أن آية الاستثناء كما قال صاحب الكشاف من المعضلات وقد اختلفت فيه كما رأيت أذهان المحققين الأثبات وقد سبق قول ابن القيم في آية الاستثناء في أهل الجنة أنه على كل تقدير أن الاستثناء فيه من المتشابه وأن المحكم قوله تعالى عطاء غير مجذوذ هود 108 وظلها دائم وآيات الخلود التي وردت في الكتاب العزيز فلك أن تقول بغير هذا القول في آية الاستثناء في أهل النار انه من المتشابه وان المحكم خالدين فيها وما هم منها بمخرجين الحجر 48 والآيات المصرحة بخلود أهل النار في القرآن كثيرة جدا وسيأتي عد بعضها فيرد المتشابه وهي آية الاستثناء إلى المحكم وقد حكم الله بخلود اهل النار في النار وتواترت الأحاديث بإخراج عصاة الموحدين وقد ورد الاستثناء فلا ندري ما أراد الله هل بإخراج العصاة من الموحدين كما قال جماهير أهل السنة وهو المروي عن ابن عباس كما أسلفناه عنه أو هو قريب أو هو عين المراد أو أراد به أمرا استأثر الله بعلمه فنقول آمنا بالله كل من عند ربنا آل عمران 76 وقد اخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى إلا ما شاء ربك فإن الله أعلم ثنيته على ما وقعت وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال قد أخبرنا الله بالذي شاء لأهل الجنة فقال عطاء غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذي شاء لأهل النار وأخرج ابن المنذر عن أبي وائل أنه كان إذا سئل عن الشئ في القرآن قال قد اصاب الله به الذي اراده .(1/28)
هذا وإذا عرفت ما القينا عليك عرفت انه لم يتم ما أدعاه ابن تيمية في الآية وأنه أريد بالاستثناء فناء أهل النار فإنه قول في الآية بلا دليل ولا قال به من السلف أحد ولا من الخلف وأنه ليس في يد شيخ الإسلام شئ لا من كتاب ولا من سنة ولا من صحابي كما قررناه فليس في يديه إلا دعوى بغير برهان لا يقول فيها دون دق الشأن ولا يعتمد عليها أهل الاتقان وعرفت أنه ما صفا قول قائل في الاستثناء في آية أهل النار عن كدر الإشكال وأن الأقوال فيه كلها أراء محضة إلا القول بأنه أريد به عصاة الموحدين فإنه قول قويم قد قاله بحر الأئمة وحبرها المدعو له بتعليم التأويل ابن عباس كا أسلفناه ودلت عليه أدلة أثرية وقرئن من قرآنية فالقول به قويم ولا يدخل تحت التفسير بالرأي الذي ورد الوعيد على من قال في القرآن برأيه فلا يقال إنه يتعين في الوقف عن ذلك الخوض والإيمان بما أراده الله ورد علمه إليه .
ثم استدل شيخ الإسلام على سعة رحمة الله تعالى أنها أدركت أقواما ما فعلوا خيرا وساق أحاديث دالة على أن الرحمة أدركت من كان من عصاة الموحدين كما ستعرفه وليس من محل النزاع .
فمن الأدلة التي ساقها على مدعاه قصة الذي امر أهله ان يحرقوه ويذروه في الرياح في البر والبحر خشية أن يعذبه الله قال فقد شك في المعاد فأحياه الله تعالى قال فهذا لم يعمل خيرا قط وأدركته رحمة الله تعالى .
واقول هذا ليس من محل النزاع فهذا مؤمن بالله عالم بأن الله يعذب من عصاه وقد وقع من خوفه وخشية أمره بتحريقه ففي قلبه خير وإن لم يعمل خيرا قط ولذلك الخير أدركته رحمة الله .(1/29)
واستدل أيضا على مدعاه بما أخرجه أحمد في مسنده من حديث الأسود بن سريع مرفوعا يأتي أربعة يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة أما الأصم فيقول رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول رب جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول ربجاء بن الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل عليهم ليدخلوا النار قال فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما .
وأقول ليس الحديث أيضا في محل النزاع إذ هو في فناء النار ودخول اهلها أهلها الجنة وهؤلاء الثلاثة الأولون ليسوا بمشركين فإنهم كانوا في دار الدنيا غير مكلفين فلم يتحقق منهم أنهم كانوا مشركين وليسوا ممن دخل النار ثم فنيت وهم فيها والرابع الذي مات في الفترة مخاطب بشرع من قبله بنص قوله تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير فاطر 24 والحديث لم يذكره شيخ الإسلام بتمامه وهو حديث مشكل ولا حاجة لنا إلى الكلام عليه بعد بيان أنه ليس من محل النزاع .
ثم استدل شيخ الإسلام بحديث رواه ابن المبارك من حديث أبي هريرة مرفوعا أن رجلين دخلا النار واشتد صياحهما فقال الرب جل جلاله أخرجوهما فقال لأي شئ اشتد صياحكما فقالا فعلنا ذلك لترحمنا فقال رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما في النار فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها عليه بردا وسلاما ويقوم الآخر فلا يلقي فيقل له الرب ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقى صاحبك فيقول رب إني أرجو أنك لا تعيدني فيها بعد أن أخرجتني منها فيقول لك رجاؤك فيدخلان جميعا الجنة برحمة الله .
وأقول هذا كما تراه في إخراج العصاة من الموحدين فإنه لا يقول ابن تيمية أن يخرج الكفار من النار كما يقول غيره .
ثم ساق حديثا ثالثا مثل هذا الحديث ليس من محل النزاع .(1/30)
ثم تعرض لأدلة القائلين بعدم فناء النار فقال : لهم ست طرق أحدها الإجماع على عدم فنائها قال والإجماع غير معلوم إنما يظنه في هذه المسألة من لم يعرف النزاع فيها وقد عرفت النزاع قديما وحديثا قال ولو كلف هذه مدعي الاجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم أنه قال النار لا تفنى لم يجد إلى ذلك سبيلا ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك .
وأقول قد عرفت أنه نقل عن ستة من الصحابة عبارات لا تدل على مدعاه وهو فناء النار بنوع من الدلالات كما أوضحناه ولا يصح نسبته لتلك الدعوى إلى واحد من أولئك السنة فلم يوجد لأحد مما وجدنا عن واحد من الصحابة أنه يقول بفناء النار كما أنه لا يوجد قائل من الصحابة انه يقول بعدم فناء النار فإن هذه المسألة وهي فناء النار لا تعرف في عصر الصحابة ولا دارت بينهم فليس نفي ولا إثبات بل الذي عرفوه فيها هو ما في الكتاب والسنة من خلود أهل النار ابدا وأن أهلها ليسوا منها بمخرجين وعرفوا ما ثبت من خروج عصاة الموحدين .
إذا عرفت هذا عرفت أن دعوى فناء النار أو عدم فنائها قول للصحابة دعوى باطلة إذ هذه الدعوى لا توجد في عصرهم حتى يجمعوا عليها نفيا أو إثباتا نعم القول الذي دل عليه القرآن من خلود النار أهلها فيها أبدا يتضمن القول عنهم بما تضمنه القرآن ودل عليه الأصل فيما أخبر الله به عن الدارين الأخروين سنة البقاء فلا يحتاج مدعي عدم الفناء إلى الدليل على ذلك الأصل ، ثم قال :(1/31)
الثاني أي من الستة الأدلة للقائلين بعدم الفناء أن القرآن دل على ذلك دلالة قاطعة فإنه تعالى أخبر أنه عذاب مقيم المائدة 37 وأنه لا يفتر عنهم الزخرف 75 وانه لا يزيدهم إلا عذابا وأنهم خالدين فيها أبدا وأنهم وما هم بخارجين من النار البقرة 167 وما هم منها بمخرجين وإن الله حرم الجنة على الكافرين وأنهم لن يدخلوا الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وإن عذابها كان غراما الفرقان 65 قال والجواب ان هل كله مسلم وأنهم لا يخرجون منها وأنه لا يفتر عنهم العذاب ما دامت باقية وليس محل النزاع إنما محل النزاع لا تفنى النار قال وهذه النصوص تقضي بخلودهم في النار ما دامت باقية هذا جوابه .
واقول قد عرفت أنه لا يتم هذا الجواب ما لم يؤخذ بأدلة ناهضة على فناء النار ولم يقم دليل على ذلك قال :
الطريق الثالث من أدلة القائلين بعدم فناء النار أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من في قلبه ادنى ذرة من إيمان دون الكفار فأحاديث الشفاعة كلها صريحة في خروج الموحدين دون الكافرين قال :
الجواب : أن هذا لا شك فيه وهو إنما يدل على ما قلناه من خروج الموحدين فيها وهي باقية ويبقى المشركون ما دامت باقية .
وأقول : الجواب : ما سلف ثم قال :
الطريق الرابعة للقائلين بعدم فناء النار أوقفنا الرسول على ذلك وعلمناه من دينه ضرورة كما علمنا دوام الجنة وأجاب بأنه لا ريب أن الكفار باقون فيها ما دامت باقية هذا هو المعلوم من دينه ضرورة وأما كونها أبدية لا تفنى كالجنة فمن أين في القرآن والسنة دليل واحد على ذلك .
واقول الدليل يتوجه على من ادعى الفناء ولم يأت شيخ الإسلام بشئ واحد والأصل هو خلود النار وأبديتها عمرو كما دل عليه الكتاب والسنة فلا يحتاج مدعي عدم الفناء إلى دليل آخر بعد هذا الأصل .
قال :
والدليل الخامس من أدلة القائلين بفناء النار أن في عقائد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان ابدا والقول بفنائها من أقوال أهل البدع قال :(1/32)
والجواب أنه لا ريب أن القول بفنائها قول أهل البدع وأما القول بفناء النار وحدها فقد اوجدناكم من قال به من الصحابة وتفريقهم بين الجنة والنار فكيف تقولون إنه من قول أهل البدع .
وأقول لأنه يصدق عليه رسم البدع ففي القاموس البدعة بالكسر الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال . انتهى .
والمعلوم انه لم يقع في ذلك العصر قول بفناء النار ودخول الكفار جنات تجري من تحتها الأنهار ولا أوجدنا شيخ الإسلام مع تبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف على قول واحد من الصحابة بفناء النار ودخول الكفار الجنات وإن كان كذلك فالقول به بدعة قطعا .
قال :
والدليل السادس للقائلين بعدم فناء النار أن العقل يقضى بخلود الكفار ثم قرر وجه الاستدلال بما حاصله أنه مبني على أن المعاد وإثابة النفوس المطيعة وعقوبة النفوس العاصية مما يعلم بالعقل كما يعلم بالسمع قال كما دل عليه القرآن في غير موضع كإنكاره تعالى على من زعم أنه يخلق خلقه عبثا وانهم إليه لا يرجعون وأنه يتركهم سدى لا يثيبهم ولا يعاقبهم وأن ذلك يقدح في حكمته وكماله وأنه ينسبه إلى ما لا يليق ثم قرره تقريرا آخر وأجاب عنه بقوله :
واما حكم العقل بتخليد اهل النار فيها فإخبار عن العقل بما ليس عنده فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق ثم إن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالا وأما تفصيلا فلا يعلم إلا بالسمع وقد دل السمع على دوام ثواب المطيعين واما عقاب العصاة فدل دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهو من معترك النزال فمن كان السمع في جانبه فهو أعلم بالصواب .(1/33)
قلت : وهو تحقيق حسن إلا أني لا أدري من الذين قالوا إن العقل حكم بخلود العصاة في النار فإن اشد الناس بهم الوعيدية والمعتزلة إلا القليل وأكثرهم قائلون بأن العقل يقضي بحسن العفو عن الكفار لولا ورود السمع بان الله لا يغفر أن يشرك به .
هذا وقد انتهت المناظرة التي ساقها ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام بين الفريقين ومن له نباهة وهو من أولي الألباب لا يخفى عليه بعدما قررناه وجه الصواب .
ثم ساق شيخ الإسلام من الأدلة على مدعاه فقال مستدلا :
إن الله خلق عباده على الفطرة وخلقهم حنفاء فلو خلوا وفطرهم لما نشأوا إلا على التوحيد قال والأشقياء غيروا الفطرة إلى ضدها واستمروا على ذلك التغيير ولم تغن عنهم الآيات والنذر في هذه الدار فأتاح الله لهم آيات أخر وأقضية وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا يستخرج الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار فإذا زال موجب العقاب وسببه زال العذاب وبقي مقتضى الرحمة لا معارض له وأراد بمقتضى الرحمة الميثاق الذي أخذ عليهم بالإيمان وهم في عالم الذر .(1/34)
وأقول لا شك أنه يدخل النار من كفار الجن والشياطين أمم لا يحصون بل ربما يدعى أنهم أكثر من كفار بني آدم وما ذكره شيخ الإسلام من عود أهل النار بعد زوال خبيث الكفر إلى الفطرة والإقرار الذي كان في عالم الذر إن ساعدناه عليه ثم له في من اقر في عالم الذر بالربوبية من بني آدم لا غير ودعواه فناء النار وأن سكانها وأهلها يدخلون الجنة وهو حكم عام لكل من دخل النار والدليل خاص ببعض بني آدم وإنما قلناه إن ساعدناه لأنه قد ثبت في الأحاديث ان الكفار لم تشملهم الفطرة والإقرار بالربوبية في عالم الذر لم يكن إلا كرها فليس لهم حظ من فطرة الله التي فطر الناس عليها كما أخرجه احمد والبخاري ومسلم من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما في الأرض اكنت مفتديا به فيقول نعم فيقول قد اردت منك أهون من ذلك قد اخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي والتعقيب بالفاء يشعر بأن الإباء كان عند أخذ الميثاق عليه وهو في ظهر أبيه ان لا يشرك في الدنيا ويوضح ذلك ما اخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة في الآية إن الله مسح صفحة ظهر آدم فأخرج فيها ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر فذلك قوله أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين الواقعة 27 واصحاب الشمال ما أصحاب الشمال الواقعة 41 ثم اخذ الميثاق فقال ألست بربكم قالوا بلى الأعراف 172 فأعطاها طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية إلى أن قال وذلك قوله تعالى وله اسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها آل عمران 83 وهذا المعنى كثير في الأحاديث ومنه حديث الغلام الذي قتله الخضر أخرج مسلم وابو داود والترمذي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن مردويه عن أبي بن كعب عنه صلى(1/35)
الله عليه وسلم قال الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو أدرك لأرهق ابويه طغيانا وكفرا وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس مثله نعم أحاديث كل مولود يولد على الفطرة وإنما ابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه أحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما وتفسير الفطرة بالدين منصوص عليه فلا بد من الجمع بين الأحاديث بتخصيص أحاديث الفطرة ونحوها وهي أحاديث كثيرة من الجانبين وهي كلها في بني آدم ثم لك ان تجمع بين أحاديث عموم الفطرة وحديث أنس الذي عند أحمد والشيخين الذي أسلفناه بأن نقول الكل على الفطرة أي فطرة الإقرار بالتوحيد من أقر تقية كرها ومن أقر طوعا حقيقة كذلك فيتم العموم ثم إن المقربين تقية اجتالتهم الشياطين كما في لفظ الحديث وهودهم قبل الآباء ونصروهم ومجسوهم واقتادوهم يحيى وانقادوا لهم وللشياطين لما في طبائعهم الخبيثة من أول وهلة حين أقروا تقية تجتمع الأحاديث والله أعلم .
ثم قال شيخ الإسلام :
فإذا أخذت النار مأخذها منهم وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم فإن العذاب لم يكن سدا وإنما كان لحكمة مطلوبة فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يطلب .
وأقول لم يقم شيخ الإسلام دليلا على أن الحكمة المطلوبة لله في تعذيب الكفار هي زوال النجاسة الكفرية وخبثه الذي لا يزول إلا بعذاب النار وإنما قال ذلك تظننا منه وتحسبا الرحمن تفرع عن اعتقاده فناء النار وقد أورد على نفسه سؤالا فقال :(1/36)
إن قيل سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان عارضا كمعاصي وكان الموحدين أما ما كان لازما كالكفر والشرك فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب وقد اشار الله تعالى إلى ذلك فقال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه الأنعام 28 إخبارا بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقبل غير الشرك وإنها غير قابلة للإيمان أصلا قال تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا الإسراء 72 فأخبر أن ضلالهم عن الهدى دائم لا يزول مع معاينتهم الحقائق التي أخبرت بها الرسل وقال لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون الأنفال 23 فهذا يدلك على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة ولو كان فيهم خير لما ضيع عليهم أثر وهو يدل على أنه لا خير فيهم هنالك أيضا .
وأجاب بقوله لعمر الله إن هذا أقوى ما يتمسك به في هذه المسألة ولكن هل هذا الكفر والخبث والتكذيب امر ذاي روى لهم زواله مستحيل ام هو أمر عارض طارئ على الفطرة قابل للزوال وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله وأنه أمر ذاتي قد اخبر الله أنه فطر عباده على الحنفية وان الشياطين اجتالتهم عنها فلم يفطرهم على الكفر والتكذيب وانما فطرهم على الإقرار بخالقهم ومحبته وتوحيده وإذا كان هذا الحق الذي فطروا عليه قد امكن زواله بالكفر والشرك كان زوال الكفر والشرك بضده أولى وأحرى ولا ريب أنهم لو ردوا على تلك الحال لعادوا لما نهوا عنه لكن من أين لكم أن تلك الحال لا تزول ولا تبدل بنشأة أخرى ينشؤهم عليها تبارك وتعالى .
أقول قد دار جواب هذا الإيراد والذي أقر أنه من أقوى ما يتمسك به المخالف على أن الكفار مخلوقون على الفطرة أي فطرة الذين الحنيف وهو التوحيد وقد سمعت من حديث ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنها لم تشملهم الفطرة ولا وقع منهم الإقرار بالوحدانية في عالم الذر إلا تقية .(1/37)
ثم هب أن الفطرة شاملة لبني آدم كما قال تعالى لأملأن جهنم من الجنة والناس اجمعين هود 119 والفطرة إنما هي للناس كما في الآية والحديث إنهم خلقوا حنفاء فاجتالتهم الشياطين فإن ساعدناه على أن الناس مفطورون على التوحيد فيما يصنع بالجن والشياطين وهم من جملة من تفنى عنهم النار ويدخلون الجنة أيزعم أنهم مفطورون على التوحيد مخلوقون حنفاء فمن اجتالهم ولم فإنهم هم الذين اجتالوا بين العباد فهذا وارد على عمومهم الفطرة مع التسليم والمماشاة وأما قوله فمن اين لكم أنه لا يزول .
قلنا من إخبار الله في الآيات التي ساقها في صدر السؤال ولعدم الدليل على زوال ما كانوا عليه وكفى دليلا على عدم زوال نجاسة الكفر وخبث الشرك ودرن التكذيب بالنار قوله تعالى {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } إلا أنه قال شيخ الإسلام :
إن هذا الإخبار منه تعالى عنهم قبل دخولهم النار فإنه تعالى قال ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب إلى قوله ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه أي لو ردوا من شفير جهنم قبل دخولها لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب والكفر وذلك لازم لهم لم يزل عنهم خبث الشرك فإنه لا يزول إلا بدخول النار .
قلت قد حكى الله عنهم أنهم يقولون وهم بين أطباقها يصلونها ربنا اخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون المؤمنون 107 وانه يقول في جوابهم اخسئوا فيها ولا تكلمون المؤمنون 108 فلم يجبهم تعالى وقد ذاقوا العذاب واعترفوا بالظلم إلا بقوله اخسئوا فيها لا تكلمون ولم يقل ابقوا حتى تطهروا من خبث الكفر ولعل شيخ الإسلام يقول لم يكن عند هذا الاعتراف قد طهرت تلك النفوس من خبث الشرك .
وجوابه إن هذه الدعوى من العنت وتقريره أن زوال خبث الشرك والكفر بالنار من عيب تفرع عن دعوى الفناء للنار والأصل بقاؤه ما لم يقم عليه دليل كما عرفت .(1/38)
ثم استدل على ذلك المدعى بأحاديث الشفاعة الثابتة في الصحيحين وغيرها وفيها أن الله يقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قال :
فهذا يدل على إخراج قوم لم يكن في قلوبهم خير قط كما يدل له السياق فإن لفظ الحديث هكذا أخرجوا من في قلبه مثقال ذرة من خير فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا فيقول الله شفعت الملائكة وشفعت النبيون وشفعت المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة الحديث قال :
فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير ومع هذا فأخرجتهم الرحمة .
أقول الحديث ليس من محل النزاع فإنه في إخراج أقوام من النار وهي باقية وقد قرر شيخ الإسلام فيما سلف أنه لا يخرج منها الكفار وهي باقية وإن كان إنما استدل به عليه بعموم الرحمة .
ثم يقال : الحديث دل على أن الملائكة أخرجت من علمت في قلبه مثقال ذرة من خير ولا دليل أنهم يعلمون كل من في قلبه مثقال ذرة من خير فإنهم لا يعلمون من أحوال القلوب إلا ما أعلمهم الله كما قال تعالى يعلمون ما تفعلون الانفطار 12 فهم يعلمون أفعالنا لا ما انطوت عليه قلوبنا ولهذا وردت الأحاديث انهم يصعدوون أهل بالعمل يرونه حسنا ويرد فيقول الله إن فاعله أراد به كذا وكذا أي من الرياء ونحوه فأخرج البزار والطبراني في الأوسط والدارقطني والأصبهاني في الترغيب والترهيب من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى يوم القيامة بصحف مختمة فتنتصب بين يدي الله فيقول ألقوا هذه واقبلوا هذه فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل فيقول الله إن هذا كان لغير وجهي وأنا لا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي .(1/39)
وهذا الحديث فيه الإخبار بان الملائكة قالت لم نذر فيها خيرا أي أحدا فيه خير والمراد ما علموه بإعلام الله ويجوز أن يقال لم يعلمهم بكل من في قلبه خير وأنه بقي من أخرجهم بقبضته ويدل له أن لفظ الحديث أنه أخرج بالقبضة من لم يعملوا خيرا قط فنفى العمل ولم ينف الاعتقاد وفي حديث الشفاعة تصريح بإخراج قوم لم يعملوا خيرا قط ويفيد مفهومه أن في قلوبهم خيرا ثم سياق الحديث يدل على أنه أريد بهم أهل التوحيد لأنه تعالى ذكر الشفاعة للملائكة والأنبياء والمؤمنين ومعلوم أن هؤلاء يشفعون بعصاة أهل التوحيد فإنه لا يقول ابن تيمية ولا غيره أنه يشفع للكفار بقرائن القبض التي قبضها الرب في عصاة الموحدين والأليق بالسياق أنها أيضا فيهم وقد اخرج البيهقي في الشفاعة من حديث جابر مرفوعا فيه اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فاخرجوا إلى ان قال ثم يقول الله تعالى الآن أخرجوا بعلمي وحلمي فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه فقوله تعالى بعلمي يدل على أنه علم قوما في قلوبهم الخير لم تعلمهم الملائكة وهب أنا ساعدناه وأن تعالى أخرج قوما من الكفار من النار أين هذا من محل النزاع وهو فناء النار وإدخال من كان فيها من الكفار الجنة .
ثم قال شيخ الإسلام مستدلا أيضا :(1/40)
إن العبد إذا اعترف بذنوبه حقيقة الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم إليه والحمد والرحمة والكمال المطلق لربه وفي كل وقت يستعطف ربه ويستدعي رحمته وإذا أراد الله أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه لا سيما إذا اقترن بذلك عزم العبد على ترك المعاودة وعلم الله ذلك من داخل قلبه وسويدائه فإنه لا يختلف عن الرحمة فإذا علمت تلك النفوس الخبيثة أن العذاب أولى لها وأنه لا يليق بها سواه ولا تصلح إلا له فقد ذابت تلك الخبائث وتلاشت وتبدلت وبذل وانكسار وثناء على رب العالمين تبارك وتعالى لم يكن في حكمته أن يستمر العذاب بعد ذلك إذ قد تبدل شرها بخيرها وشركها بتوحيدها حديث وكبرها بخضوعها عند وذلها .
وأقول : قال الله تعالى مخبرا عن المشركين واعترافهم المذكور وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير الملك 10 و 11 فهذا نص في اعترافهم الإعتراف الحقيقي فإنه لا يطلق تعالى على ما ليس باعتراف أنه اعتراف ثم قال فسحقا لأصحاب السعير أي بعدا لهم عن الرحمة والإغاثة والغفران فهذا نص في وجه هذا القول الذي قاله تظننا وقال تعالى لما قالوا وهم في دركات النار أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون المؤمنون 107 فاعترفوا بظلمهم وأخبروا عن عزيمتهم أنهم لا يعودون أي إن عدنا إلى ما كنا فيه من الكفر والتكذيب كما يفيده لفظ العود ولم يجب عليهم تعالى إلا بقوله اخسئوا فيها ولا تكلمون المؤمنون 108 .
وأخرج الترمذي والبيهقي من حديث أبي الدرداء مرفوعا وفيه إن أهل النار ينادون خزنة جهنم ثم يدعون مالكا ثم يقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون المؤمنون 106 - 107 فيجيب عليهم الرب اخسئوا فيها ولا تكلمون المؤمنون 108 فعند ذلك يئسوا من كل خير وعند ذلك أخذوا في الزفير والشهيق والويل .(1/41)
ثم يقال وقد قال الله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء في آيتين من سورة النساء 48 و 116 وهو غير مقيد بزمان ولا حال فيجب الوقوف والتسليم في هذا المقام والاعتراف بالعجز عن إدراك حكمة الحكيم العلام فكيف يقول شيخ الإسلام لم يكن في حكمته أن يستمر بها العذاب وأين للعقول الاطلاع على أسرار حكمته وكيف لها الوصول إلى معرفة عجائب ملكوته وجبروته .
ثم أخذ شيخ الإسلام يستدل بأحاديث آخر الناس خروجا من النار وأحاديث أدنى الناس منزلة في الجنة وهي أحاديث واضحة في عصاة الموحدين ولا حاجة إلى سردها فهي معروفة في محالها .
ثم قال مستدلا على مدعاه أنه تعالى يخبر عن العذاب أنه عذاب يوم عقيم ووعذاب يوم عظيم وعذاب يوم أليم الزخرف 65 ولا يخبر عن النعيم أنه نعيم يوم ولا في موضع واحد .(1/42)
وأقول ورد عذاب يوم عظيم في قصة صالح في قوله لقومه ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم الشعراء 156 والمراد به اليوم الذي أخذهم فيه العذاب بالدنيا وهو العقاب القريب الذي أوعدهم به في قوله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب هود 64 قال تعالى فلما جاء امرنا نجينا صالحا إلى قوله ومن خزي يومئذ هود 66 أي يوم أخذهم العذاب العظيم القريب فهو يوم من أيام الدنيا وورد عذاب يوم عظيم في قصة شعيب فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم الشعراء 189 وورد عذاب يوم عقيم في قوله تعالى ولا يزال الذين كفروا في مرية منه الآية إلى قوله أو يأتيهم عذاب يوم عقيم الحج 55 وفسر بيوم بدر كما أخرجه ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس وأخرجه أيضا ابن مردويه عن أبي بن كعب وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابي حاتم عن سعيد بن جبير واخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة فهذه كلها من أيام الدنيا وهب أنه ورد ذلك في صفة عذاب الآخرة فإنه قد ثبت بنص القرآن أنهم لابثون فيها أحقابا والحقب كما ذكره ابن تيمية في هذه المسألة خمسون ألف سنة قال أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا والأحقاب جمع وأقله ثلاثة يعني مائة ألف سنة وخمسين ألف سنة .
هذا وقد رد في أهل الجنة { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } يس 55 وهذا تقييد لنعيمهم لأنه وكونهم فاكهين والفاكهة المتنعم المتلذذ ومعلوم أنهم في شغل فاكهون أبدا الآباد وقال تعالى { يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } الزخرف 68 فإن قيل اراد به مبدء زوال الخوف والحزن .(1/43)
قلنا كذلك { عذاب يوم } أريد به مبدأه وحينئذ فلا دليل بالتقييد مطلق الزمان فمن ايام الآخرة ليس لها قيد به من نعيم ولا عذاب بل أريد به مطلق الزمان فإن أيام الآخرة ليس لها مقدار فمتى أطلق اليوم أطلقه على مطلق المدة هذا { يوم لا ينطقون } المرسلات 35 هذا يوم الفصل الصافات 21 { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } الأنبياء 103 {اليوم نختم على أفواههم } يس 65 { إني جزيتهم اليوم بما صبروا } المؤمنون 111 {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } الحج 47 في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة المعراج 4 فليس المراد من الجميع اليوم المعروف للمقدار المذكور قطعا ومن اطلاقه على مطلق المدة قوله في قصة عاد انى اخاف عليكم عذاب يوم عظيم ( الشعراء 135 أخبرنا ) ثم يبينه في ( الحاقة ) بقوله واما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية الى قوله ثمانية ايام حسوما ( 6 و 7 ) فهذا تفسير لليوم العظيم بأيام وليالي وبهذا يعلم ضرورة أنه إذا أطلق اليوم في تقييد الأمور الأخروية علم يقينا انه مطلق الزمان ولا تحديد له ولا تعيين ولا نهاية إلا بدليل وقد كان أعجبني استدلاله بما ذكر من تقييد عذاب الآخرة باليوم في آيات وعدم تقييد نعيم الجنة ولا في آية فلما حققته وجدته لا شئ نفيا وإثباتا ،
أما إثباتا فإنه ما ثم دليل على مدعاه وأما نفيا فإنك قد سمعت ما سقناه من تقييد نعيم أهل الجنة فاليوم كما قال الله في الجنة ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ق 34 انتهى .
وقد انتهى إلى هنا ما اجلب إليه شيخ الإسلام من خيل الأدلة ورجلها وكثيرها وقلها ودقها وجلها وأجرى فيها قلمه ونشر فيها علمه وأتى بكل ما قدر عليه من قال وقيل واستنفر كل قبيل وجيل وسردها تلميذه ابن قيم الجوزية وقال في آخرها .
هذه نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة ولعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب .(1/44)
قلت : وقد سقنا أدلته النظرية والأثرية يا ولم نترك منها إلا ما كان مكررا وتكلمنا على تفصيلها وتجميلها لو بما هدانا الله إليه وله الحمد من غير عصبية مذهبية ولا متابعة أشعرية ولا معتزلية بل بما أشهدتنا أنوار الأدلة .
واعلم أن هذه المسألة التي أتى بها شيخ الإسلام هي فرع عن مسألة خلق الأشقياء التي حار فيها أرباب النوى وتحير فيها فرسان الأذكياء وترددت حولها أذهان الفطانا يكون وتفرع عنها أقوال اقشعرت منها جلود الأمة الفضلاء .
فطائفة أوهم الجهل بذلك إلى الإقدام على نفي حكمة الله في أقواله وهم غلاة الأشعرية وأخطأوا في ذلك ورد عليهم الأئمة الأعلام من أهل مذهبهم وغيرهم من علماء الأنام وآخر من بين ما في كلامهم من الاختلال وما في نفيهم الحكمة من الداء العضال المحقق العلامة نزيل حرم الله صالح بن مهدي المقبلي في كتابه العلم الشامخ ولواحقه وفي أبحاثه المسددة ونقلت كلامه ورددت عليه في إيقاظ الفكرة وطائفة أقدموا على أن الله ليس بقادر على هداية الكافر لأنه خلق على هيئة لا يقبل اللطف معهما وهم غلاة المعتزلة .
وقد رد عليهم الأئمة من أهل التحقيق وأبانوا أنه قول بالقبول غير حقيق وأن فيه من الشناعة والبشاعة ما لا يليق وأما ابن تيمية ومن تابعه فأثبتوا الحكمة وعموم قدرة الله على كل شئ وقال بما سمعت من فناء النار وأنه تعالى خلق الأشقياء ليتفضل عليهم بعفوه ورحمته ولقد أصاب بإثبات الأمرين الذين نفاهما غيره ولكنه غير وجه الحكم وحكم بفناء النار ولم ينهض له دليل على ذلك كما عرفته .
وقد أشار السيد العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير إلى هذه الثلاثة الأقوال وإلى ما تفرع عليها من الدعاوي في إثبات الإجادة في الإرادة حيث قال :
ولما أتى ذكر الخلود بناره على جوده في ذكره والجوازم
تعاظم شأن الخلد في النار كل من تفكر في أسماء رب العوالم
يشير إلى ما قاله ابن تيمية من :(1/45)
أن صفاته تعالى من الرضا والرحمة صفتان ذاتيتان فلا منتهى لرضاه وأن سخطه وعذابه ليسا من صفات ذاته التي يستحيل انعكافه مع عنها كعلمه وحياته والعفو أحب إليه من الانتقام والرحمة أحب إليه من العقوبة والرضى أحب إليه من الغضب والفضل احب إليه من العدل ثم إن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبره وكرمه ولذلك يضيف ما ذكر إلى نفسه وأما العذاب والعقاب فإنهما من مخلوقاته ولذلك لا يسمى بالمعذب والمعاقب بل يفرق بينهما فيجعل هذا من أوصافه وهذا من مفعولاته من الآية الواحدة كقوله تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وان عذابي هو العذاب الأليم الحجر 49 ، 50 وقال إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم الأعراف 167 ومثلها في آخر الأنعام فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته فإنه يدوم بدوامها ولا سيما إذا كان محبوبا له في أسمائه وصفاته وأما الشر وهو العذاب فلا يدخل في أسمائه وصفاته وإن دخل في مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وفني بخلاف الخير فإنه سبحانه دائم المعروف ولا ينقطع معروفه أبدا على الدوام وليس من موجب أسمائه وصفاته أنه لم يزل معاقبا على الدوام غضبان على الدوام فتأمل هذا تأمل فقيه في اسماء الله فإنه يتضح لك باب من أبواب معرفته ومحبته .
ثم اشار السيد محمد إلى ما تفرع من معارضته ما يفيده صفات جوده وفضله وما صرح به من خلود الكفار فأشار إلى الوعيد بقوله :
فمن قائل بالخلد من أجل كثرة الـ وعيد به في المنزلات القواصم
وذلك لأنهم حكموا بعموم الخلود لمن دخل النار من عصاة الموحدين والكفار .
والمسألة مبسوطة في علم الكلام وما لها وعليها مما اثاره المحققون الأعلام وأشار إلى من قال بالتخصيص لآيات الخلود بقوله :(1/46)
ومن قائل أن الخصوص مقدم وساعده أسماء أحكم حاكم فإنه أشار إلى من قال إن الأحاديث الواردة في سعة رحمة الله وصفاته تعالى من أنه أرحم الراحمين وورود آية الاستثناء تخصص آيات الوعيد وأراد بهذا البيت ما تشتمل عليه مقالة ابن تيمية إذ هي عائدة إلى القول بتخصيص آيات الوعيد بالخلود ويبعد فناء النار كما دل عليه قوله :
وثالثها المنصور يرجى لمسلم ومن عاند الإسلام ليس بسالم
فإنه أراد أن ثالث الأقوال في المسألة التفصيل وهو أن التخصيص من الوعيد يرجى للمسلم ومن عاند الإسلام وهم الكفار فلا يشمله التخصيص من الوعيد وإن قصرت عبارته عن هذا الحكم لعدم مساعدة النظم فهو مراده فجعل الأقوال ثلاثة بقاء الوعيد على عمومه من غير تخصيص عصاة الموحدين والكفار .
تخصيص الموحدين لا غير . وهذا هو الذي سبق عن ابن عباس في تفسير آية هود ثم قال مشيرا إلى منشأ مقالة كل من القائلين وان الحاصل له المحافظة على قاعدة تعود إلى تعظيم الله جل وعلا قوله :
فمن قاصد تعظيمه لو رعى له من الجبروت الحق عز التعاظم ، فهذه إشارة إلى الوعيدية وأنهم قصدوا بالقول بالتخليد في النار لكل من دخلها تنزيه الله عن خلف الوعد الذي أفاده قوله { ما يبدل القول لدي } ( ق : 29 ) ونحوه . وأشار إلى منشأ ما ذهب إليه غلاة نفاة الحكمة بقوله :
ومن قاصد تعظيمه لو رعى له محامد ممدوح بأحكم حاكم
انتهى والله سبحانه أعلم
وصلى الله على خير خلقه وآله وصحبه وسلم .
??
??
??
??
16(1/47)