رسالة في حكم التداوي بالخمر
أو
الأسنة القاطعة المانعة جنوح مَنْ يميل إلى
التداوي بالخمرة
التي هي لجميع الشرور جامعة
تأليف
أحمد الشباسي
المعروف بمنة المنان
تحقيق
الدكتور
جميل عبد الله عويضة
1430هـ / 2009م
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد للهعلى ما أنعم ، والشكر له على ما خصّ منها وعم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد العرب والعجم ، أما بعد ....
فيقول أفقر الورى ،وأحقر البرية ،من غير مِرى ، الخائض في بحور الآثام والعصيان ، أحمدالشباسي المعروف بمنة المنان : قد وقع السؤال بحضرة جمع من الفضلاء ، وجم غفير من النبلاء عن المنافع التي أثبتها الرب في قوله تعالى : [ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ] (1) وعن حكم التداوي بها على مذهب أئمة الدين المؤيدين للسنة بالأدلة والبراهين ، فنقول :
... اعلم أنّ هذا يتوقف على سرد ما هو في كتب الشريعة منصوص ومنقول من ذكر أدلة واضحة ونقول ، وما ذكر يحتاج إلى بسط / وطول ، ولولا خوف الملالة 1 ب والإسهاب لأتينا بما فيه الحجب العجاب ، لكنّ أشهر ما قُبل وأفاد ، خير مما كثر وأبعد عن السداد ، مسميا لتلك العجالة الأسنة القاطعة المانعة جنوح مَنْ يميل إلى التداوي بالخمرة ، التي هي لجميع الشرور جامعة ، ولنشرع في المقصود بعون الملك المعبود ،فنقول : قال الإمام مالك رضي الله عنه : يحرم التداوي بها مطلقا ، صرفة كانت أو مستهلكى في دواء، ولو أبحنا التداوي بالنجس ، لأنها لميل النفوس إليها ، وكثرة تغزل الشعراء فيها ، أوجب الشارع تجنبها بالكليّة ، وإراقتها سدّاً للذريعة الدنية .
__________
(1) البقرة 219(1/1)
... قال العلامة الشبرخيتي في شرح الأربعين النووية ، في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ) ، أي حتى يوجد ما يبيّن كأكل الميتة عند / 2 أ الضرورة ، وشرب الخمر عند الإكراه ، ولإساغة القصة ؛ لأن المكلف ليس منهيا في الحال على الصحيح ، وأمّا التداوي فلا يجوز،ولو طلاء ، يعني في ظاهر الجسد ، لحديث ( إنّ الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حُرِّم عليها ) ، ومثل ذلك في شربه للعطش ، ولا ينقطع به العطش ، انتهى المراد منه (1) .
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : يحرم التداوي بالصرفة مطلقا ، وفي المستهلكة في الدواء مع إمكان غيرها من الطاهر ،كما قال شيخالإسلام في التحرير ، ونصه متنا وشرحا : باب حكم الأشربة ، هي نوعان : مسكر وغيره ، فالمسكر من خمر وغيره حرام تناوله وإن قلّ ، أو شرب لتداوٍ أو عطش لآية [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ] (2) ،ولخبر الصحيحين ( كلّ شراب أسكر فهو حرام ) نعم مَنْ غُصّ بلقمة / ولم يجد غيره حلّ2ب له إساغتها ، بل وجب ، وكذا إذا انتهى الأمر بالعطش إلى الإهلاك، ولم يجد غيره ، وغير الأشربة مما يزيل العقل كالبنج حرام أيضا إنْ كثُر ، انتهى المراد منه .
__________
(1) كتب في الحلشية اليسرى : قالوا ويحرم التداوي بها ، ولو خاف الموت ، وأنها أُبيحت للغصة لخوف الموت لمن يرى التقريب فيها ، كما أفاده العلامة العدوي في حاشيته الحديثية .
(2) المائدة 90(1/2)
قال محشيه (1) : قوله أو شرب لتداوٍ ، لمَّا صحّ ( إنّ الله لم بجعل شفاء أمتي فيما حرّم عليها ) ويجوز التداوي بعرق النجاسة ، لا بصرف المسكر ، وهل يُحدُّ مَنْ شرب المسكر لتداوٍ ؟ فيه خلاف ، رجح عدمه ، وأمّا لو استهلكت في دواء حتى انعدم وصفها فلا يحرم استعمالها كصرف باقي النجاسات ، هذا إنْ عرف ، أو أخبره طبيب عدل بنفعها ،ولو احتيج إلى قطع عضو متآكل ونحوه إلى إزالة العقل جاز بنحو بنج لا بمائع مسكر ،نعم جوّزوا سقيه لصغير شمّ رائحتها ، وخيف عليه توقع مشقة ، وإنْ لم يخف عليه هلاك ، ولو توقف افتضاض البكر على إزالة عقلها جازبنحو بنج ، لا بمائع /كما تقدم ،انتهى 3أ بتصرف .
وقوله : أو عطش لأنه لا يُسكر ، بل يثيره ، ويهيجه ، انتهى بالمعنى .
قوله لخبر الصحيحين ..الخ ولخبر ( كل مسكر حرام ) وخبر ( اجتنبوا الخمر فإنه مفتاح كل شر ) وقول عمر وعثمان رضي الله عنهما : إنها أم الكبائر ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الخمر أمّ الفواحش ، وأكبر الكبائر ، ومن شرب الخمر ترك الصلاة ، ووقع على أمه وعمّته وخالته ) ، وهو معنى ما صح لخمر جماع ..... (2) إلى غير ذلك مما قال حتى أعجب ،وأغرب ، ونقل عن وهببن منبه ، قال : وجدت في التوراة : مَنْ شرب الخمر ، وذهب عقله ، يأتيه الشيطان في دبره سبعين مرة ، كما يأتي الرجل امرأته ، إلى أن قال : والحاصل أنّ شرب الخمر تارة يقتضي الحرمة والحد ، وتارة يقتضي الحرمة دون الحد ، كما إذا شربه لتداوٍ، أو لعطش لم ينتهي / فيه الأمر للإهلاك ، وتارة لا يقتضي حرمة 3 ب ولا حدا ، كما إذا أزال به الغصة ، أو عطشا أفضى إلى الهلاك.. الخ ما قال وأطال .
__________
(1) اي كاتب الحاشية على الكتاب المذكور .
(2) كلمة لم أتمكن منقراءتها .(1/3)
إذا علمت هذا اتّضح لكأنّ صرفها ليس مساويا لباقي النجاسات ، لعدم جوازها أصلا في غير إزالة غصة ، أو عطش مهلك، كما مرّ ، ولو مع عدم غيرها ، نعم المستهلكة في رتبة باقي النجاسات تجرا واستعمالها عند عدم الطاهر إنْ عرف هو أو أخبره طبيب ، عدل بنفعها ، وكان قوله سلى الله عليه وسلم : ( لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرّم عليها ، ومن تداوى بنجس لا شفاه الله ) محمول على صرف الخمرة ، ولا ناقض وجود النفع في المستهلكة ، وباقي النجاسات عدم الغير الطاهر ، ويكون التأويل في الحديث هذا ، ولا يصح غير هذا التأويل ؛ فإنه صرف اللفظ عن / ظاهره بغير دليل ، وهو غير معقول ، مع أنه4 أ ليس لأحد من المعتبرين منقول ، فليتأمل ، ثم لا يخفى إشكال تعذر العدل في زماننا على مذهب السيد السند الشافعي ، بل ومالك ، وأشكال تعذر الجواد على الإقدام قبل المعرفة حتى بتفرع عليه جواز تناول المستهلكة إن عرف نفعها ،والانتهاك أولا ، ثم جواز الإقدام بعد التوبة بعيد ، وحينئذ فيتعسر ، أو يتعذر جوازالمستهلكة في زماننا وايضا بتعذر العدل ومعرفته هو نفسه النفع ، ولو وكلنا كلاً إلى دينه وأمانته لضاعت فائدة وجوب حد الخمر .
وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه بحرمة التداوي بها مطلقا ، كما يقول الإمام مالك ، وإن كان التحريم متفقا عليه عند مالك ، وعلى المعول عليه عند أبي حنيفة ، وعبارة صاحب الدّر متنا وشرحا في كتاب الأشربة / ولا يجوز التداوي بها ، قال 4ب المحقق الشارح على المعتمد ،قاله المصنف، قالت : ولا باحتقان أو إقطار في دبره، انتهى .
قال محشيه : قوله : ولا يجوزالتداوي ، هو داخل في قول المصنف قبله : ولا يجوز الانتفاع بها ، لكن المصنف أفاد أنه لا يُباح ؛ لضرورة التداويبقرينة قوله : على المعتمد ، إذ لو لم تكن ضرورة لكانت محرمة بالإجماع ، انتهى .(1/4)
وكأنه والله أعلم أراد بقوله : لكن المصنف أفاد أنه لا يُباح لضرورة التداوي عدم إباحة التداوي بها ،ولو تعينت طريقا للدواء بحسب زعم الزاعم ، وإلاّ فقد علمت قول الصادق ( لم يجعل الله شفاء أمتي ... ألخ ) وفي قول الشارح : ولو باحتقان إيماء وتصريح إلى أن الاستعمال المحرك ليس قاصرا على الشرب كما توهمه بعض الأغبياء ، إذا تمهد هذا علمت أنّ التداوي / بالصرفة حرام بالإجماع ، إمَّا اتِّفاقا ، أو على المعول 5أ عليه ، والخلاف إنما هو عند الشافعي في المستهلكة بشرط ، وقد علمت ما فيه (1) ، هذا ما يتعلق بحكم التداوي .
وأما الجواب عن المنافع الثابتة في قوله تعالى : [وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] (2) بعد قوله : [ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ] (3) أوكثير ، كما قُرئ بهما فالمراد إمَّا اللذة والفرح في الخمر ،وإصابة المال بلا كدٍ في الميسر ،كما اقتصر عليه الجلال ، كماأنّ المراد بالأثم فيهما ما ينشأ عنهما من المفلسد من الإتلاف ،والعربدة في الخمر ، وسلب المال والأهل لمن قامر بهما ، ثم صار أسفا بعد ، كما أفاده غيره ، وعلى هذا التفسير فالمنافع باقية ، وأمَّا مَنْ فسّر المنافع بتشجيع الجبان ، وما معه كتقوية الطبيعة فإخبار عما كان قبل التحريم ، وإلاّ فقد سلبت تلك المنافع / بعده كما أخبر به الصادق المصدوق بقوله : ( لم يجعل الله شفاء أمتي ) ، 5ب
__________
(1) وضع بعد فيه لإشارة لما ورد في الحاشيه و هذا نصه : وقول منه قال ..... يوسف من الحنفية : يجوز التداوي بها مقيدا كما علمته بما إذا تعينت طريقا للتداوي بإخبار الطبيب الثقة الماهر ، وقد علمت تعسره أو تعذره الآن ، فما ذكرناه من الإجماع واندفاع أكثر الشعب ، والهرج واللفظ والنزاع . صح
(2) البقرة 219
(3) البقرة 219(1/5)
وعلى فرض وقوع الشفاء لبعض الأجساد الخبيثة الرديئة ، فقد يقع بالسم الشفاء ، وهو قاتل لوقته بالكلية ، ومن بديع التفسير [فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ] ، أي في تناولهما ، [وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] أي في تركها ، وإذا بعده ما بعده ، ثم قال الجلال : ولما نزلت [يَسْأَلُونَكَ ... ] (1) الخ، شربها قوم ، وامتنع آخرون ، إلى أنْ حرّمتها آية المائدة ، وهو صريح في وقوع النسخ ، وأن التحريم به ، لا بترجيح المفسدة على المنفعة ، كما قال به المعتزلة ، وفيه إيماء لردِّ مَن قال كالبيضاوي ، وقيل : التحريم ثابت بأية [يَسْأَلُونَكَ.. ]
__________
(1) البقرة 219(1/6)
الخ ، بترجيح المفسدة على المنفعة ، فإنه مبني على التحسين والتقبيح القطعيين ، ولا يقول بهما إلاّ المعتزلة ، كما أفاده العلامة الشهاب في حاشيته / عليه ، وعبارة العلامة الخطيب 6 أ في التفسير ، روي لمَّا نزل بمكة قوله تعالى : [وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا] (1) ، وكان المسلمون يشربونها ، وهي لهم حلال يومئذ ، ثم إنّ عمر ومعاذاً في نفر من الصحابة قالوا : افتنا في الخمر يا رسول الله ، فإنها مذهبة للعقل ، فنزلت هذه الآية ، فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم إنّ عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما ، ودعا ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتاهم بخمر ، فشربوا ، وسكروا ، فحضرته صلاة المغرب ، فقدّموا بعضهم ليصلي بهم ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، هكذا قرأ السورة بحذف لا ، فأنزل الله [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ] (2) فحرم/6ب السكر في أوقات الصلاة ، فتركها قوم ، وقالوا لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة ، وتركها قوم في أوقات الصلاة ، وشربوها في غير وقتها ، حتى كان الرجل يشرب بعد صلاة العشاء ، فيصبح وقد زال عنه السكر ، ويشرب بعد صلاة الصبح ، فيصحوا وقت الظهر ، ثم إنّ عثمان بن مالك صنع طعاما ، ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وثاص رضي الله تعالى عنه ، وقد كان شقّ لهم رأس بعير فأكلوا منه ، وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ، ثم افتخروا عند ذلك ، وانتسبوا ، وتناشدوا الأشعار ، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار ، وفخر لقومه ، فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير ، فضرب به رأس سعد ، فشجه / فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشكا له الأنصاري ، فقال عمر: 7 أ اللهم بيّن لنا بيانا في الخمر شافيا ، فنزل [إِنَّمَا
__________
(1) النحل 67
(2) النساء 43(1/7)
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ] (1) إلى قوله تعالى [فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ] (2) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : انتهينا يا رب .
قال القفال (3) : الحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم به كثيرا ، فعُلِم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشقّ عليهم ، فاستعمل في التحريم هذا التدريج والرفق .
وبيان معنى الخمر والميسر معلوم ومشهور ، وفي كتب الفقهاء والمفسرين محرر ومسطور ، يخرجنا تتبعه عن أداء هذا الغرض ، الذي أداؤه على كل أحد واجب ومفترض ، وكنا في غنية عن هذا التعب بالكل / لكنْ أحوجنا إليه تبجح بعض الأغبياء في 7 ب المجالس بالوساوس الشيطانية ، قاصدين به الطعن في النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، متحيلين به على المروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، كما أخبر بذلك المخصوص بالوسيلة ، والفضيلة ، والكرامة ، والدرجة العلية ، وما دروا أنّ زمام هذه الشريعة محفوظ لرب البرية ، وأنه جعل لها في كل عصر حُماة يحرسونها وراثة من الحضرة المحمدية .
نسأله سبحانه أنْ يُصلح لنا النية ، وأنْ يُطهِّر منا الطوية بجاه النبي وآله ذوو النفوس الزكية ، وصحبه ذوو السادة المرضية ، آمين .
نجزه جامعه وقت السحر المكرم في ليلة السادس من رمضان المعظم
__________
(1) المائدة 90
(2) المائدة 91
(3) القفال المروزي : أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله الفقيه الشافعي المعروف بالقفال المروزي؛ كان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، وله في مذهب الإمام الشافعي من الآثار ما ليس لغيره من أبناء عصره، وكان ابتداء اشتغاله بالعلم على كبر السن بعدما أفنى شبيبته في عمل الأقفال ولذلك قيل له القفال وكان ماهراً في عملها. وكانت وفاة القفال المذكور في بعض شهور سنة سبع عشرة وأربعمائة، وهو ابن تسعين سنة، ودفن بسجستان، وقبره بها معروف يزار، رحمه الله تعالى. وفيات الأعيان3/46(1/8)
الذي هو من شهور سنة ألف ومائتين وخمسة وخمسين
من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل
الصلاة
والسلام .
تمت .(1/9)