رسالة
في حرمة استماع الملاهي
تأليف
محمد حسين بن علي المصري الطوري
تحقيق
الدكتور جميل عبد الله عويضة
1430هـ /2009م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل فضله على من يشاء من عباده عُبابا زخّارا ، وأنبع من فؤاده عيونا وأنهارا ، بما قذفه فيه من أنواع المعارف ، حتى أَنَسَ من جانب الطور نارا ، أَحمده على نعمه المترادفة على الدوام ، وأشكره على مرّ (1) الدهور والأعوام ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، شهادة تنجي قائلها من أهوال يوم القيام ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث لتبيين الشرائع ، وفصل الخصام ، وعلى آله وصحبه الذين شيّدوا الدين ، وبيّنوا الأحكام ، صلاة وسلاما دائمين على مر (2) الليالي والأيام ، أمَّا بعد ....
فيقول أحقر عباد الملك العلي محمد حسين بن علي المصري الطوري منشأً ونسبا (3) ، القادري الحنفي طريقة ومذهبا ، عامله مولاه ووالديه وجميع المسلمين بلطفه الجلي الخفي ، وغفر له ولهم ما ظهر من الذنوب وما خفي : قد سُئلت عن استماع الملاهي ، هل هو حلال أم حرام ؟
فأجبت بأنّ استماع الملاهي حرام ، قال في الكافي شرح الوافي في شرح قوله : ومَنْ دُعيَ إلى وليمة ، وثَمَّ لعب وغناء ، يقعد ويأكل .
__________
(1) كتبت : ممر .
(2) كتبت : ممر .
(3) كتبت : منسبا .(1/1)
وهذا إذا كان الغناء واللعب في ذلك المنزل ، لا على المائدة ، فإنْ كان على المائدة ، لا ينبغي له أنْ يقعد ، لقوله تعالى : [فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] (1) ، وهذا إذا كان الرجل خامل الذكر ، لا يشين الدين قعوده ، فأمَّا إذا كان مُقتدىً به ، مُشاراً إليه ، فلا ينبغي أن يقعد ، بل يخرج ، ويُعرض عنهم إنْ لم يقدر على النهي والتغيير ؛ لأنّ ذلك يشين الدين ، وربَّما يعتقد / البعض الحِل حين رآه يُصنع ذلك بين يديه، فيكون فيه فتح باب المعصية2 ب على المسلمين ، إلى أنْ قال : ودلَّت المسألة على أنّ الملاهي حرام ، حتى الغناء بضرب القضيب ، وكذا قول أبي حنيفة ابتُليتُ ؛ لأنّ الابتلاء يكون بالمحرم ، وقال ابن مسعود : صوت اللهو والغناء يُنبت النفاق في القلب ، كما ينبت النَّبات بالماء ، وقال مشايخنا : استماع القرآن بالألحان معصية ، والتالي والسامع آثمان ، وروى الصدر الشهيد في كراهية الواقعات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : (استماع الملاهي معصية ، والجلوس عليها فسق ، والتلذذ بها من الكفر ) ، وقال في غاية البيان : وقوله الغناء واللعب دليل على أنّ التحريم لا يختص بالمزامير ، وأنّ الضرب بالقضيب ، والتغني مع ذلك حرام ؛ لأن ذلك لعب ، واللعب كله حرام إلاّ الثلاثة التي استثنيت في الحديث ، وهي تأديب الرجل فرسه ، وملاعبته أهله ، ورميه بقوسه ونبله ، وقول أبي حنيفة : ابتُليتُ دليلٌ على أنّ اللعب والغناء حرام ، فلولا ذلك لما سماه ابتلاء ، يدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( استماع الملاهي معصية ، والجلوس عليها فسق ، والتلذذ بها كفر ) ، وهذا على سبيل التهديد، فيجب أنْ يجتهد كل الجهد حتى لا يسمع، وإنْ سمع بغتة فلا إثم عليه ، ومِنْ مشايخنا مَنْ قال : إنْ كان يُغنِّي ليستفيد به نظم القوافي ، ويكون فصيح اللسان ، فلا بأس به ، ومنهم
__________
(1) الأنعام 68(1/2)
مَنْ قال : إذا كان وحده ، فتغنّى لدفع الوحشة عن نفسه / فلا بأس به ، وإنما المكروه على قول هذا التأويل ما يكون 3 أ على سبيل اللهو ، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي (1) ، وذكر شيخ الإسلام المعروف بجواهر زاده (2) أنّ جميع ذلك مكروه عند علمائنا ، لقوله تعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ] (3) ، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ المراد به الغناء ، وقد روي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) :
__________
(1) الشيخ الإمام أبو حامد أحمد بن محمد السرخسي الشجاعي البلخي الفقيه العالم المشهور. كان إماماً عالماً فاضلاً سمع الحديث الكثير وتفقه وبرع في فنون ، توفي سنة 482هـ . النجوم الزاهرة ، ص 2785 ـ 2786
(2) الإمام جٌواهر زاده، العالم العلاّمة بدر الدين محمد بن محمود بن عبد الكريم الكّرديّ المعروف بجواهر زاده، ابن أخت الشيخ شمس الدين الكرَدرى شمس الأئمة. تفقه على خاله شمس الأئمة الكردى، وتوفى سلخ ذي القعدة من سنة إحدى وخمسين وستمائة . عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان ، ص 98
(3) لقمان 6
(4) كنز العمال 4/39 ، وراوية الحديث فيه : (لا يحل بيع المغنيات ، ولا شراؤهن ، ولا تجارة فيهن ، وثمنهن حرام إنما أنزلت هذه الاية في ذلك : * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) * والذي بعثني بالحق ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا بعث الله تعالى عند ذلك شيطانين يرتقيان على عاتقيه ، ثم لا يزالان يضربان بارجلهما على صدره حتى يكون هو الذي يسكت ) .(1/3)
( لا يحِلّ تعليم المغنيات ، ولا بيعهن ، وأثمانهن حرام ، وفي مثل هذا نزلت الآية ، وهي قوله تعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] (1) الآية ، وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلاّ بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت ) .
وفي السنن قال أبو وائل : سمعت عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (2) ( إِنَّ الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ)، وفي السنن أيضاً مُسند إلى نافع قال (3) : ( سمع ابن عمر مزمارا ، فوضع أُصبعيه في أُذنيه ، ونأى عن الطريق ، وقال لي : نافع هل تسمع شيئا ؟ قال : قلت لا ، فرفع أصبعيه من أذنيه، قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمع مثل هذا ، فصنع مثل هذا) .
__________
(1) لقمان 6
(2) المسند الجامع 28/105/ المكتبة الشاملة
(3) جاء في التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير 6/35 ، ونصه (يُذْكَرُ فِيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ { نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ مِزْمَارًا فَوَضَعَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَنَأَى عَنْ الطَّرِيقِ ، وَقَالَ لِي : يَا نَافِعُ ؛ هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا ؟ قُلْت : لَا ، قَالَ : فَرَفَعَ إصْبَعَيْهِ عَنْ أُذُنَيْهِ ، وَقَالَ : كُنْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا )(1/4)
وقال الشيخ أبو العباس الناطفي في الأجناس، قال في كتاب الكراهية إملاءً : سألت أبا يوسف عن الدّف أتكرهه في غير العرس مثل المرأة والصبي ؟ قال : فلا أكرهه ، وأمَّا الذي يجيء منه اللعب الفاحش ، والغناء / فإني أكرهه ، وفي المأخوذ به للحسن بن زياد ، لو بنى الرجل بامرأة3 ب ينبغي له أنْ يُولِم ، والوليمة حسنة ، ويدعو الجيران ، والأصدقاء ، ويصنع لهم الطعام ، ويذبح لهم ، ولا بأس أنْ يكون ليلة العرس دُفّ ، يُضرب به ؛ ليشتهر ذلك ، ويُعلن به النكاح ، وينبغي للرجل أن يُجيب ، فإن لم يفعل فهو آثم ، فإنْ كان صائماً أجاب ودعا، وإنْ كان غير صائم أكل، ولا بأس أنْ يدعو يومئذ من الغد ، ومن بعد الغد ، ثم انقطع العرس ، ونقل في الأجناس أيضا في كتاب الكراهية إملاءً : يُكره للرجل أنْ يَدَع دعوة جاره وقرابته إذا كان عندهم المزامير والعيدان ، قال : أحبّ إليّ أنْ لا يجيبهم ، وليس لهؤلاء حُرمة .(1/5)
قلت : فإنْ كان ذلك في جانب المنزل ، وأنت في جانب ، قال : أحبّ إليّ أنْ لا أُجيبهم ، وقال في جامع الفتاوى بعد أنْ نقل ما تقدم ذكره : والصحيح أنّ الملاهي حرام في المذاهب كلها ، حتى يكفَّر مستحلّها ، وما روي عن الشافعي رحمه الله تعالى فقد رجع عنه ، وأنت خبيرٌ بأنّ ما نُسب إلى الحنفية مِن إباحة الملاهي ليلة عرس النكاح قول مردود على قائله ، وهو زور وبهتان على الحنفية ؛ لأنّ المنقول في كتبهم أنّه يُباح ضرب الدّفّ ليلة عرس النكاح فقط ، قال في غاية البيان : ولا بأس أن يكون ليلة العرس دُفّ يضرب ، يُشهر ذلك ، ويُعلن به النكاح ، وقال في تحفة الملوك : ويحلّ ضرب الدفّ في العرس ؛ لإعلان النكاح ، ولم يُنقل عنهم أنهم أحلّوا الجِنك (1) ، والعُود ، والمِزمار ، والغناء ليلة العرس وإنْ / استحَلَّ أحدٌ هذا الفعل فإنه يصير مرتداً ؛ فيحبَطَ 4 عملُه ، وتُطلَّق زوجتُه ، فإنْ أسلَمَ أُمِر بتجديد النِّكاح ، وإعادة الحج ، وإلاّ قُتِل ، ولا يُغسَّل ، ولا يُكفَّن ، ولا يُصلَّى عليه ، ولا يُدفن في مقابر المسلمين .
وقال الفضل رحمه الله تعالى : الزم طريق الهدى ، ولا يضرك قلة السالكين فيها ، وإياك وطريق الضلالة ، ولا تغترّ بكثرة سالكيها .
قال أهل اللغة (2) :
الوليمة ... : طعام العرس
والوَكيرة ... : طعام البناء .
__________
(1) يُطْلَق على الدّفِّ الذي يُضْرَبُ به، عُرِّبَ بالجيمِ والكاف العَرَبيَّتَيْنِ، ويُقال للذي يَضْرِبُه: جَنْكِيٌ. التاج ( جنك )
(2) قال ابن قتيبة في أدب الكاتب ، ص 196 : باب معرفة في الطعام والشراب
طعام العرس "الوليمة"، وطعام البناء "الوَكِيرة"، وطعام الولادة "الخُرْس" وما تطعمه النُّفساءة نفسها "خُرْسَة"، وطعام الختان "إعْذار"، وطعام القادم من سفره "نَقيعة"، وكل طعام صنع لدعوة "مأدُبَة، ومأدَبَةٌ" جميعاً، ويقال: "فلانٌ يدعُو النَّقَرَى" إذا خصَّ، و"فلان يدعُو الجَفَلَى"،ويقال "الأجْفَلَى" إذا عمَّ.(1/6)
والخُرْس ... : طعام الولادة ، وما تطعمه النفساء نفسها خُرْسة ، والإعْذار : طعام الختان .
والعقيقة ... : طعام القادم من سفره .
وكلّ طعام صُنِع لدعوة مأْدُبة ومأْدَبة جميعا (1) .
والدعوة الخاصة النَّقَرَى ، والعامة الجَفل والأجْفل .
والغِنى بالكسر والقصر ضد الفقر ، يُكتب بالياء ، وبالمد ، السماع يُكتب بالألف من قول ابن دريد في المقصور والممدود :
... ... وَأَرى الغِنى يَدعو الغَنِي يَ إِلى المَلاهي وَالغِناءِ (2)
...
تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه .
__________
(1) المشهور في المَأْدُبة ضم الدال، وأَجاز بعضهم الفتح، وقال: هي بالفتح مَفْعَلةٌ مِن الأَدَبِ. قال سيبويه: قالوا المَأْدَبةُ كما قالوا المَدْعاةُ. وقيل: المَأْدَبةُ من الأَدَبِ. وفي الحديث عن ابن مسعود: إنَّ هذا القرآنَ مَأْدَبةُ اللّه في الأَرض فتَعَلَّموا من مَأْدَبَتِه، يعني مَدْعاتَه. قال أَبو عبيد: يقال مَأْدُبةٌ ومَأْدَبةٌ، فمن قال مَأْدُبةٌ أَراد به الصَّنِيع يَصْنَعه الرجل، فيَدْعُو إليه الناسَ؛ يقال منه: أَدَبْتُ على القوم آدِبُ أَدْباً، ورجل آدِبٌ. قال أَبو عبيد: وتأْويل الحديث أَنه شَبَّه القرآن بصَنِيعٍ صَنَعَه اللّه للناس لهم فيه خيرٌ ومنافِعُ ثم دعاهم إليه؛ ومن قال مَأْدَبة: جعَله مَفْعَلةً من الأَدَبِ. وكان الأَحمر يجعلهما لغتين مَأْدُبةً ومَأْدَبةً بمعنى واحد. قال أَبو عبيد: ولم أَسمع أحداً يقول هذا غيره . لسان العرب ( ادب )
(2) من مجزوء الكامل ، ديوانه / الموسوعة الشعرية .(1/7)