لرسالة
في
جواز وقوع النسخ
تأليف
إسماعيل بن غنيم الجوهري
تحقيق
الدكتور
جميل عبد الله عويضة
1430هـ / 2009 م
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله الذي شرّف الإسلام على جميع الملل ، ونسخ به جميع الشرائع الأُول ، وكبت به أعداءه أهل الزيغ والزلل ، أوعد الكافرين بالخلود الدائم في النار ، وعذّبهم في الدنيا بالقتل العاجل ، أو إعطاء الجزية على التزام الذلّة والصغار ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، شهادة عبد لربه اوَّاب ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، الذي أفحم بما أتاه مِن الآيات البيِّنات المعاند والمرتاب ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ومَنْ عمل عملهم من أُلي الألباب ، وبعد ....
... فقد احتوت الشريعة المحمدية على محاسن قد قام التواتر على إثباتها ، والدليل العقلي على قبولها ، وقد أعرض عنها كثير من الحمقى، مع أنها ثمرة اشتغالهم بالعلوم ، التي من جملتها علم الأصول ، وربما توهم أنّ علم الأصول لا فائدة فيه الآن ؛ لفقد المجتهدين ، وترك استحضار ما يقوم به أعداء الدين من كلّ تواتر لا يُذكر ، ودليل عقلي لا يُستر/ وكان لتهاونه بالدين عنده 3 ب المِلَل متساوية ، وربما صاحب أهل الكتاب ، وترك كتاب الله بما فيه ـ مما لو أُنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله عز وجل ـ وراء ظهره كأنه لا يعلم ، يسمع آيات الله تُتلى عليه ثم يُصرّ مستكبرا كأنه لم يسمعها ، كأن في أُذنيه وقرا ، فبشره بعذاب أليم .
وكان مما ينبغي استحضاره إقامة الدليل على جواز النسخ ، ووقوعه ؛ لأنه من جملة محاسن الشريعة التي قام التواتر والدليل العقلي على إثباتها وقبولها ، وهذا أوان الشروع في بسط هذا الدليل ، فأقول :(1/1)
النسخ في اصطلاح الأصوليين رفع الحكم الشرعي، بدليل شرعي متأخّر ، فرفع الحكم جنس ، والشرعي مخرج للحكم العقلي ، ومنه المباح الثابت قبل وجود الشَّرع ، وبدليل شرعي يخرج عنه رفع الحكم الشرعي ، بغير دليل شرعي ، كرفعه بالموت والجنون والغفلة والنوم ، فإنه لا يُسمّى نسخا ، ويخرج بمتأخر مثل صلِّ كل يوم إلى آخر الشهر ، فإنه لا يُسمّى نسخا ، لأنه رفع الحكم الشرعي بغير متأخر ؛ لأن إلى التي هي للغاية / أوجبت مخالفة حكم ما بعد 4أ الغاية لِما قبلها ، وهي من جملة النص ، فليست نصا مستقلا متأخراً .
ونعني بالحكم في قولنا : رفع الحكم الشرعي ، ما يحصل على المكلف ، أي ما يتّصف به المكلف بعد أنْ لم يكن ، فإن الوجوب المشروط بالعقل لم يكن الشخص متصفا به عند انتفاء العقل ؛ لأنه الذي يرتفع ، وهو مُحْدَث موجود بعد عدم، فيرتفع ، فإنا نقطع بأنه إذا اتّصف شخص بتحريم شيء عليه بعد وجوبه ، انتفى الوجوب المتّصف به أولاً ، وهو المعني برفع الحكم ، ولا شك بارتفاعه.
وبعد أن تمهّد التعريف المتقدم ، فنقول :
النسخ جائز عقلا ، وواقع ، والذي يدل على الجواز عقلاً أنا نقطع بجوازه لذاته ببديهة العقل، وعدم امتناعه لذاته وصورته؛ لأن الله فاعل مختار ، يتصرف في خلقه كيف يشاء ، [ لا يُسأل عما يفعل ، وهم يُسألون ] ، لا يتوقف فعله على مصلحة ، ألم يَرَوْا إيلامه الأطفال ؟
وأمَّا جوازه عقلا عند مَن يقول بالمصالح ، فلأنَّا نقطع أيضاً بأن المصلحة قد تختلف باختلاف / الأوقات والأحوال ، فإنّ فعل الشخص قد 4 ب يحسن في وقت، ويقبُح في وقت آخر، كشرب الدواء لشخص واحد في زمانين ، فقد يكون نافعا في وقت وحال ، ومُضراً في وقت وحال آخر ، مع عدم تجدد ظهور حكمة لم تكن ، فالحكمة ظاهرة له أزلا على قدر اختلاف الأوقات والأحوال، فيجوز أن يأمر بشيء في وقت ، ولم يأمر به في وقت آخر ، وأما دليل الوقوع ، فيقال :(1/2)
كان قبل نزول التوراة شرع إبراهيم ، فمن جحَد كذب بنقل التواتر ، وهو العدد الكثير من الناس الذين يؤمن اتّفاقهم على الكذب عادة ، وعقلا أيضا فيما يتعلق بالنبوَّات بأنّ إبراهيم ثبتت نبوّته ورسالته ، وأنّ له شرعا ، وبما يشهد له الجزء الثالث من السِّفر الأول من التوراة ، إذ شُرعَ على إبراهيم عليه السلام ختن المولود ، فإنْ أقرّ بأن قد كان شرع قلنا لهم : ما تقولون في التوراة ، فإن كانت التوراة أتت بزيادة على تلك الشرائع ، فهل في تلك الزيادة تحريم ما كان مباحا أم لا ، وتحليل ما كان حراما أم لا ، وهذا بعينه هو النسخ ، فإن أنكر ذلك أحد بطل قوله من وجهين :
أحدهما : أنه ورد في/ التوراة أنّ آدم عليه السلام زوّج بناته من 5 أ بنيه ، والآن محرّم اتّفاقا ، فيكون النسخ واقعا ضرورة ، ووقت النسخ مختلف ، ولو بلحظة ، وهذا انتقال من حِلٍّ إلى حُرمة .
وثانيهما : ما في التوراة من معنى لا يزول المُلك من بني آل يهود إلى أن يأتي المسيح ، فلا يقدرون على إنكاره وجحده ، فنقول لهم : أما علمتم أنكم كنتم أصحاب دولة ومُلك إلى ظهور المسيح ، ثم انقضى ملككم ، فإن لم يكن لكم اليوم مُلك فقد لزمكم من التوراة أنّ المسيح قد أرسِل ، وقد نَسَخ بعض ما في التوراة من حُرمة إلى حِلٍّ كما حكاه الله في قوله : [ ولأحلّ لكم بعض الذي حُرِّم عليكم ] ، ونقول لهم أيضا : أليس منذ بعث المسيح عيسى عليه السلام استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس ، وانقضت دولتهم ، وتفرّق شملهم ، فلا يقدرون على جحد ذلك إلاّ بالبهتان ، ويلزمهم على ما في التوراة أنّ عيسى ابن مريم هو المسيح ، كانوا ينتظرونه ، ومعلوم أنه قد نسخ بعض التوراة كما حكاه الله بقوله : [ولأحلّ لكم بعض الذي حُرِّم عليكم ] ، وذلك انتقال من تحريم إلى حِلٍّ ، ولا يقدر أحد على دفعه / لأنه قد عُلِم من5 ب نص .(1/3)
قلت : ولأنه فاعل مختار ، قادر على كل شيء ، كما قال الله تعالى في الردّ عليهم : [ ألم تعلم أنّ الله على كلِّ شيء قدير ] .
ومما شاع ، وملأ الأسماع ، ولا يقدر أحد على إنكاره وهو أنّ الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ، فقال أهل الإسلام : إنه إسماعيل ، وهو المتواتر ، وقالت اليهود : إنه إسحاق ، ثم بعد ذلك نُسخ بذبح الكبش ، وذلك انتقال من صعوبة إلى سهولة ، ومعلوم أيضا أنّ مَنْ أحلَّ ما حظره الشرع في طبقة مَنْ حرّم ما أحلّه الشرع ، إذ كلٌّ منهما خالف المشروع أولاً ، ولم يُقرّ الكلمة الأولى على معاهدها ، فإذا جاز أن يأتي شرع التوراة بتحريم ما كان إبراهيم عليه السلام وما تقدّمه على استباحته فجائز أنْ يأتي بشريعة أخرى ، بتحليل ما كان في التوراة محظورا ، ولا تخلو المحظورات أيضا من أن يكون تحريمها مفترضاً في كل الأزمنة ؛ لأن الله يكره ذلك المحظور لعينه ، أو لا يكون تحريمها مفترضا في كل الأزمنة ، بل مفترضا في بعض الأزمنة ، لأن الله لا يكره ذلك المحظور لعينه ، بل ينهى عنه في بعض الأزمنة ، فإنْ كان الله ينهى عن عمل الصناعات في يوم السبت ، لعين السبت ، فينبغي أنّ هذا التحريم على إبراهيم ونوح وآدم أيضا / لأن عين السبت كانت موجودة في زمانهم 6 أ أيضا ، وهي علّة التحريم ،وإذا كان ذلك غير محرَم على إبراهيم ، ومَنْ تقدّمه ، فليس النهي عنه لعينه في جميع أوقات وجوده ، وإذا لزم أن تحريم الأعمال الصناعية في يوم السبت ليس بثابت لعينه ، فليس في جميع وجود أوقات السبت محرّم ، فليس بممتنع أن يُنسخ هذا التحريم في زمان آخر ، وإذا ظهر بمعجزات الرسالة ، وأعلام النبوة في زمن بعد فترة طويلة ، فجائز أن يأتي بنسخ كثير من أحكام ما قبله من الشرائع ، سواء أحظر مباحاتها ، أو أباح محظوراتها ، وكيف يجوز أن يُحاجَّ بالبينة باعتراض فيما ورد به من أمر أو غيِّ ، سواء وافق العقول البشرية أم باينها ، مع أنّ(1/4)
الأوامر الإلهية منزهة عن الوقوف عند مقتضى العقول البشرية ، وإذا كانت التعبدات الشرعية غير عائدة بنفع الله تعالى ، ولا رافعة عنه ضرراً ؛ لتنزهه سبحانه عن الانتفاع ، أو التأذي بشيء منها ، فما الذي يُحيل أو يمنع كونه تعالى يأمر أمّة بشريعة ، ثم ينهى أمّة أخرى عنها ، ويُحرِّم شيئا على قوم / ويُحلّه لأولادهم ، ثم يُحرّمه ثانيا 6ب على مَنْ يجيء من بعدهم ، أو يُحرّم شيئا على قوم ، ثم يُحلّه لهم ، وكيف يجوز للمتعبد أنْ يُعارض الرسول في تحليله ما كان حراما على قوم بعد أنْ جاء بالبيّنة ، فأوجب العقل إتباعه ، أليس هذا تحكما وعدولا عن الحق ، ولله درّ الزركشي (1)
__________
(1) محمد بن بهادر بن عبد الله التركي الأصل المصري الشيخ بدر الدين الزركشي ولد سنة 745 وعني بالاشتغال من صغره فحفظ كتبا وأخذ عن الشيخ جمال الدين الاسنوي والشيخ سراج الدين البلقيني ولازمه ، عني الزركشي بالفقه والأصول والحديث فأكمل شرح المنهاج واستمد فيه من الاذرعي كثيرا وكان رحل إلى دمشق فأخذ عن ابن كثير في الحديث وقرأ عليه ، وجمع في الأصول كتابا سماه البحر في ثلاثة أسفار وشرح علوم الحديث لابن الصلاح وجمع الجوامع للسبكي وشرع في شرح البخاري فتركه مسودة ، ولخص منه التنقيح في مجلد ، وشرح الأربعين للنووي ، وولي مشيخةكريم الدين وكان منقطعا في منزله لا يتردد إلى أحد إلا إلى سوق الكتب وإذا حضره لا يشتري شيئا وإنما يطالع في حانوت الكتبي طول نهاره ومعه ظهور أوراق يعلق فيها ما يعجبه ثم يرجع فينقله إلى تصانيفه وخرج أحاديث الرافعي ومشى فيه على جمع ابن الملقن لكنه سلك طريق الزيلعي في سوق الأحاديث بأسانيد خرجها فطال الكتاب بذلك ومات في ثلث رجب سنة 794 بالقاهرة. الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة ، ص 2542 / الموسوعة الشعرية ..(1/5)
في كتابه الأصول ، المسمى بالبحر ، حيث قال : إنْ زعموا أنّ التعبّد في الشرائع بالعبادات لا يجوز أنْ يتغيّر ، فيقال لهم : أيجوز أنْ يُتعبّد بالصلاة مثلاً في وقت دون وقت ، مع القدرة على الفعل ؟ فإن قالوا نعم ، وهو قولهم ؛ لأنهم لا يقولون باستغراق الزمان بالصلاة والصوم ، فيقال لهم : أيجوز أن يتعبّد بالتوحيد في وقت دون وقت ، مع كمال العقل والقدرة ، فإن قالوا نعم فقد جوّزوا ترك التوحيد ، وإنْ قالوا لا ، وهو قولهم ، فقد فرّقوا بين التوحيد والشرائع ، وحينئذ فلا امتناع في الكيفية والعدد والوقت والزيادة والنقص ، انتهى .
وأوجز من عبارة الزركشي قوله تعالى : [ ألم تعلم أنّ الله على كل شيء قدير ] بعد قوله تعالى : [ ما ننسخ من آية ] الآية ، فهو قادر على الإباحة بعد أن حظَرَ / لأنه كريم ، وفاعل مختار ، [ وربك يخلق ما يشاء ويختار ] . 7 أ
تنبيه : لا تقدر اليهود الآن على إثبات تواتر شيء من التوراة ؛ لأن بختنصَّر (1) وغيره من ملوك الروم ، قتلوا اليهود ، وهدموا بيت المقدس ، وقصة قتلهم متواترة ، ولذلك لم يقدر أحد على إثبات امتناع النسخ بالتواتر ، لأن التوراة صارت بعد بختنصر وغيره من ملوك الروم غير متواترة ، ولأن عيسى عليه السلام نسخ بعض التوراة ، وقد ثبتت نبوّته بما في التوراة كما تقدم ، فلا يقع امتناع النسخ في التوراة ، وإلاّ لوقع التناقض .
__________
(1) يقال في اسمه: بختنصر بتشديد الصاد وإسكانها ويقال فيه: بختناصر. وقد اختلف في أمره، فقال قوم: إنه ملك الدنيا أجمع. وقال آخرون: بل ملك بابل وما افتتحه. وقال قوم: إنما كان مرزباناً للهراسف الفارسي. وقال قوم: كان أصله من أبناء الملوك، وقيل: بل كان من الفقراء ، نهاية الأرب ، ص 7811 / الموسوعة الشعرية(1/6)
وذكر في الفصل السادس عشر من الكتاب الأول من التوراة في بشارة هاجر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يكون من ولدك خير الناس ، وتكون يده فوق الجميع ، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع .
تنبيه : ينبغي لك عند المناظرة أن تعرف الفرق بين الخبر وغيره من الأمر والنهي ، وغير ذلك مما هو مقابل للخبر ، وبعد ذلك نقول : إذا ورد الأمر بشيء مطلقا ، أو مؤبدا كصُمْ رمضان ، أو صُمْ رمضان أبدا ، أي كأنه قال : ولا تتركه فإلزام بالتأبيد ، وليس مخبرا بوقوع التأبيد من المكلف / لأنه 7 ب إذا أمره بصوم رمضان أبدا ، ومن المعلوم أنه يموت ، كان التأبيد الحقيقي
ـ وهو الذي لا نهاية له ـ غير مُراد ، ومثله ما إذا قال صُمْ رمضان فمات قبله ؛ لأنه يلزم من الأمر وقوع المأمور به ، وفائدته وقوع الامتثال والرضا والتسليم، أو عدم الامتثال ، وعدم الرضا ، وعدم التسليم ، بخلاف الإخبار بالتأبيد ، فإنه يخبر بوقوع التأبيد ، فإذا نُسخ الإخبار بالتأبيد كان كذبا ، وهو محال على الله تعالى ، ويؤدي إلى العجز ، لأنه حينئذ لا يقدر أنْ يُخبر عن التأبيد بخبر متيقن الصحة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فلا يجوز أنّ الله ينسخه .
... مثال : الإخبار بالتأبيد قوله تعالى : [ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ] ، وقوله عليه السلام ( لا نبي بعدي ) .(1/7)
... فائدة : ينتفع بها كل مَنْ يُغلِّب الحق ، وتلك الفائدة أنه لا يمكن مقارنة أول شيء ثبتت به النبوة بشيء من الأحكام الشرعية ؛ لأن الأحكام الشرعية لا تكون حكما شرعيا إلاّ بعد ثبوت النبوة ، ولا تثبت النبوة إلاّ بأول الخوارق للعادة وهي المعجزة الأولى ، فلا يمكن اجتماعهما ، بل يجب عقلاً تقدم أول خارق للعادة / وهو المعجز ، فإذا جاء بعد ذلك شيء لا يليق أنْ يُنسب للنبي ، 8 أ فهو باطل قطعا ؛ لأن النبوة ثبتت قبله يقينا ، وذلك الشيء يُنافيها ، فإذا ثبتت النبوة قبل دعوى النسخ فلا يمكن إذا إبطال النسخ ، إذ لا يمكن دعوى النسخ إلاّ بعد ثبوت النبوة بالمعجزة ، فدعوى مَن ادّعى إبطال النسخ باطلة بالضرورة ؛ لأنه مُعاند لما جاء عن نبيٍّ ، لأن إخبار النبي بالنسخ يقتضي أنه جائز وواقع ، ويقتضي أنّ جواز النسخ لا يُعارض بدليل ؛ لعدم صحة الدليل حينئذ ، وعدم وجوده لتأخيره عن ثبوت النبوة ؛ لأن ثبوت النبوة قطعي ، فلا يمكن أن يُعارض بعد ثبوت النبوة بقطعي ، كالتواتر والمشاهدة مثلا، لعدم وجوده في نفس الأمر ، فإنه عارض مُعارِض لا تُسمع دعواه للعلم ببطلانها لمعانديه القاطع ، وهو ثبوت النبوة قبل النسخ ، وقبل الأحكام الشرعية ، التي ورد عليها النسخ ، وذلك المُعَارض به محكوم ببطلانه عقلا ، والظني أولى بعدم المعرضة ، وإذا ثبتت نبوة رجل بالمعجزة ، فلا يمكن وقوع مناف فيه بعد ذلك كالكذب ، وعبادة الأصنام ، وبهذا ترد الأحاديث الموهمة / التي نسبت لسيدنا موسى ، 8 ب وسيدنا عيسى، وسيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام مما جاء به أهل الزيغ ، إلاّ إنْ أمكن تأويله على وجه مرضٍ ، لا زيغ فيه ، كبعض الأحاديث التي وردت في الصحاح .(1/8)
... خاتمة : في إفحام النصارى واليهود بالحجة العقلية ، وإلزامهم الإسلام ، وذلك أن تقول : لا يسع عاقلا أن يصدق نبيا ، ويُكذب نبيا غيره ذا دعوة سائغة متواترة قائمة بما ظهر على يديه مما يدلُّ على نبوّته ، خصوصا ما ثبت لسيدنا محمد من كثرة المعجزات ، فإذا خصص أحدهما بالتصديق ، والآخر بالتكذيب ، فقد تعيّن عليه الملام والازدراء عقلا ، فلذلك نبّه عليه القرآن العظيم حيث قال : [ لا نفرّق بين أحد من رسله ] ، ولنضرب لذلك مثالا ، وهو أنَّا إذا سألنا نصرانيا عن عيسى ، أو يهوديا عن موسى ، هل رأه كلٌّ منهما ، وعاين معجزاته ؟ فهو بالضرورة يقرّ أنه لم يشاهد شيئا من ذلك عيانا ، فنقول له : بماذا عرفت نبوة عيسى عليه السلام ، أو نبوة موسى عليه السلام ، فإذا قال النصراني : إنّ الإنجيل قد حقق ذلك ، مع أنّ الإنجيل لا يُستدل / به إلاّ بعد 9 أ ثبوت نبوة عيسى لما فيه من الدور ، ومثله يقال لليهودي فيما يأتي ، وشهادة النصارى بصحة ذلك، وقال اليهودي : إنّ التوراة حققت ذلك ، ويشهد اليهود بصحتها ، قلنا هذا القدر ثابت لمحمد ، ويزيد محمد أنّ كتابه معجز ، ومتواتر إلى الآن ، فلم يقع فيه بسبب التواتر تبديل ، ولا تغيير ، وأما الإنجيل فقد أجمعت الناس من النصارى وغيرهم أنّ نقلته عن الحواريين أربعة فقط ، ووقع فيه التغيير والتبديل ، كما هو مشهور بين جميع الناس ، وأما التوراة فقد أجمع الناس من سائر الطوائف أنّ بختنصّر وغيره من الملوك قطعوا تواترها بقتلهم اليهود إلاّ صغارهم ، الذين لا يعرفون شيئا ، وأنَّ ذلك أمر متواتر وقطعي الثبوت ، ووقع فيها أيضا التغيير والتبديل ، فإن قال النصراني أو اليهودي : إنّ شهادة أبي عندي بنبوة عيسى وموسى هي سبب تصديقي بنبوته ، قلنا له : ولِم كان أبوك عندك صادقا في ذلك معصوما من الكذب ، وأنت ترى الكفار أيضا يعلمهم آباؤهم على / ما هو كفر ، إمَّا تعصبا من أحدهم لدينه ، أو 9 ب كراهية لمباينة طائفته ،(1/9)
ومفارقة قومه وعشيرته ، وإمَّا لأن أباه وأشياخه نقلوه إليه فتلقفه عنهم معتقدا فيه الهداية والنجاة ، فإن كنت يا هذا قد ترى جميع المذاهب التي تكفّرها قد أخذها آباؤها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك ، وكنت عالما أنّ ما هم عليه ضلال وجهل ، فيلومك أن تبحث عما أخذته عن أبيك خوفا من أن تكون هذه حالتك ، فإن قال إنّ الذي أخذته عن أبي أصح مما أخذه الناس عن آبائهم ، لزمه أنْ يُقيم البرهان على نبوة عيسى إن كان نصرانيا ، وعلى نبوة موسى إن كان يهوديا ، من غير تقليد لأبيه ، لأنّه قد ادّعى صحة ذلك بغير تقليد ، وإنْ زعم أن علّة صحة ما نقله عن أبيه أنّ أباه ترجّح على آباء الناس بالصدق والمعرفة ، لزمه أن يأتي بدليل على أنّ أباه كان أعقل من سائر آباء الناس ، فإنْ ادّعى ذلك فقد كذب فيه ؛ لأنّ مَنْ ادّعى مثل هذا يجب عليه أنْ يستدلَّ على فضائله بآثاره ، وقول / النصراني أو اليهودي بأن لهم10أ من الآثار في العالم ما ليس لغيرهم مثله باطل ، بل على الحقيقة لا ذكرى لهم بين الأمم الذين استخرجوا العلوم الدقيقة ، ودوَّنوها لمن يأتي بعدهم ، وجميع ما نُسب إلى النصارى ، ونسب لليهود من العلوم مع ما استفادوه من علوم غيرهم لا يضاهي بعض الفنون الحكمية التي استخرجها علماء اليونان ، وأمَّا تصانيف المسلمين فيستحيل لكثرتها أن يقف أحد من الناس على جميع ما صنّفوه في أحد الفنون العلمية ؛ لسعته وكثرته ، وإذا كان هذا موقعهم من الأمم ، فقد بطل قولهم أنّ آباءهم أعقل الناس ، ولهم أُسوة بسائر آباء الناس من ولد آدم ، فإذا أقرّوا بتساوي آبائهم بآباء غيرهم ، وقد علموا أنّ آباء غيرهم قد لقّنوهم الكفر ، لزمهم أنّ شهادة الآباء لا تجوز ، ولا يصح أن تكون حجة في صحة الدين ، فلا يبقى لهم حجة بنبوة عيسى ، أو بنبوة موسى إلاّ شهادة التواتر بالمعجزات ، وهذا موجود لسيدنا محمد، وسيدنا عيسى، وسيدنا موسى ، وسيدنا إبراهيم ، ويزيد سيدنا محمد عليهم(1/10)
بأن معجزاته/ لا تنحصر في 10ب ألف أو أكثر ، وبإخبار الأنبياء قبل موسى بنبوته ، وتواتر كتابه ، وهو القرآن العظيم إلى الآن ، وإعجازه للخلق أجمعين ، دون التوراة والإنجيل ، ولسلامته من التغيير والتبديل [ إنا نحن نزلنا الذكر ] وهو القرآن [ وإنا له لحافظون ] .
... ولنذكر بعضا من معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فنقول :
من معجزاته هذا القرآن العظيم ، الباقي إلى يوم القيامة ، الشاهد بنفسه لنفسه إنه كلام ربّ العالمين ، نزل على أفضل العالمين ، سيدنا محمد ، عبد الله ورسوله .
... ومن معجزاته انشقاق القمر ، ونبع الماء من أصابعه الشريفة مرارا ، وتفل في عيني علي ، وهو أرمد فعوفي ، كأن لم يكن به رمد في الحال ، ولم يرمد بعد ذلك ، وردّ عين قتادة بن النعمان بعد أن سالت على خدّ ، فكانت أحسن عينيه (1) ،
__________
(1) ولذلك قال ابنه :
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها فيا حسن ما عينٍ ويا حسن ما رد
نهاية الأرب ، ص 10954/ الموسوعة الشعرية .(1/11)
ودعا لأنس بطول العمر ، وكثرة المال والولد ، فحصلوا ، واستسقى عليه السلام ، فمُطِروا أُسبوعا ، ثم استصحى لهم فذهب السحاب ، ودعا على عُتبة ابن أبي لهب فأكله السبع بالزرقاء (1) من بلاد الشام ، وشهدت له الشجرة بالرسالة / في خبر الأعرابي الذي دُعي للإسلام ، فقال : هل من شاهد على11أ ما تقول ؟ فقال : نعم هذه الشجرة ، ثم دعاها فأقبلت ، فاستشهدها ، فشهدت أنه كما قال ثلاثاً ، ثم رجعت إلى منبتها ، وحنّ إليه الجذع ، وسبّح الحصى في كفّه، وأعلمته الشاة بسمها ، وبكى إليه البعير ، وأخبر عن مصارع المشركين يوم بدر ، فلم يَعْدُ أحدٌ منهم مصرعه ، وأخبر أنّ طائفة من أمّته يغزون في البحر ، وأنّ أمّ حرام بنت مِلحان منهم ، فكان كذلك ، وأخبر بقتل العَنْسي الكذاب ، وهو بصنعاء ليلة قتله ، وبمن قتله ، ودخل مكة ، والأصنام حول الكعبة معلّقة وبيده قضيب ، فجعل يشير به إليها ، ويقول : جاء الحق وزهق الباطا إنّ الباطل كان زهوقا ، وهي تتساقط ، وشهد الضَّب بنبوته ، وأطعم أهل الخندق من صاع شعير ، وكانوا كثيرين جدا ، فشبعوا والطعام أكثر مما كان ، وجمع الأزواد القليلة ، وكانت لا تكفيهم فدعا لها بالبركة، ثم قسمها في العسكر ، فقامت بهم ، وورد على ماء بتبوك ، وكان لا يروي واحدا ، والقوم عِطاش، فشكوا/ 11 ب إليه ، فأخذ سهما من كنانته فغرسه فيه ، ففار الماء ، وارتوى القوم ، وكانوا ثلاثين ألفا ، وأتته امرأة بصبي لها أقرع ، فمسح على رأسه فاستوى شعره ، وذهب داؤه ، فسمع أهل اليمامة بذلك ، فأتت امرأة إلى مسيلمة الكذاب بصبي ، فمسح رأسه فتصلّع ، وأعطى عكاشة جَذلا من حطب ، فصار سيفا ، ولم يزل بعد ذلك عنده ، وعَزَّت قطعة حجر يابس جدا في الخندق أن يأخذها المعول ، وكانت طرف جبل ، فضربها فصارت كثيبا أُهيل ، ومسح على رِجْل رَجُل من الصحابة وقد انكسرت ، فكأنه لم يشكها قط ، وشكا إليه قوم ملوحة في مائهم ،
__________
(1) مدينة في الأردن الآن .(1/12)
فجاء في نفر من اصحابة حتى وقف على بئرهم ، فتفل فيه ، فتفجّر بالماء العذب . والله أعلم .
تمت الرسالة على يد خليل بن أحمد
في شهر جمادى الآخرة
سنة 1206(1/13)