الفهرس التشعبي
1. لو غيرك قالها يا سهيله !
2. كيف تطورت العلاقة بين اليهود والنصارى من عداوة إلى صداقة ... ؟ !
3. انتحار ملحد
4. أخطار (الجامعة الأمريكية) في البلاد الإسلامية
5. أربع عِبرَ.. من : مذكرات أحد رموز جماعة "الإخوان المسلمين"
6. هل خدعهم حسن الصفار ؟!
7. ما هكذا "يا سعدُ" تورد الإبل.. نصيحة أخوية للدكتور سعد الفقيه
8. أحاديث لا تصح
9. بيان
10. توضيح حول فتوى مكذوبة علي
11. العصرانية قنطرة العلمانية
12. غازي القصيبي من القصص الموضوعة... إلى الأحاديث الصحيحة!
13. مسائل الخلاف والاجتهاد
14. أقوال العلماء في الرسالة المنسوبة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في الجهاد
15. نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي
16. كيف احتل الانجليز مصر ؟!(1/1)
لو غيرك قالها يا سهيله !
لحفظ أو فتح الملف بصيغة وورد اضغط على الأيقونة
تابعت –كغيري- الحلقات الخمس التي كتبتها الأستاذة سهيلة زين العابدين عن ما سمته (حقوق المرأة)، وتساءلت مع غيري: هل هذه سهيلة الكاتبة الإسلامية القديرة التي كنا نقرأ لها قديماً أم هو تشابه أسماء ؟! ثم بعد أن علمت بالحقيقة أنشدت:
طوى (المدينة) حتى جاءني خبر *** فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً *** شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي !
وسبب تعجبي –بل ألمي!- أن الأستاذة سهيلة بعد هذا العمر المديد والجهد المشكور في عالم الكتابة لم تجن من ذلك سوى ترديد ما نشره العصرانيون ومن نسميهم فقهاء ضغط الواقع في أبحاثهم ودراساتهم، من أفكار شاذة وأقوال باطلة يتلقفونها من هنا وهناك دون ورع أو خوف من خرق إجماع أو مشاقة نص صريح، إنما هو اتباع الهوى –والعياذ بالله-
وقد عهدنا المرء كلما ازداد سيره في طريق الحق ازداد رسوخاً وثباتاً واعتصاماً وفخراً بما هو عليه. فما الذي أصاب كاتبتنا الكبيرة؟! أهي كبوة فرس، أم تنازلات أملاها ما تمر به حياتنا من ضغوط وتكالب عدو؟ فإن كانت الأولى فلتراجع الكاتبة نفسها ولتصحح خطأها، وإن كانت الأخرى فلتثبت على الحق ولا تتبع أهواء الذي لا يوقنون؛فإن كيدهم ومكرهم عما قريب ينقلب عليهم -إن شاء الله- (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) .
وقد أحببت أن أشير إلى شيء من تجاوزات وأخطاء الأستاذة نصحاً لها وللقارئ الذي قد يفوت عليه بعضها ثقة بكاتبتها . وقد جعلتها على نقاط موجزة. فأقول -مستعيناً بالله-:
1- من قرأ مقالات الأستاذة لن تخفى عليه تلك اللغة القلقة التي صيغت بها المقالات، وكأنها توحي للقارئ بأن الكاتبة غير مقتنعة تماماً بكثير مما ذكرته، وأنها أقحمت نفسها إقحاماً فيه، ولبست ثوباً فصل لغيرها لا لها. ،فلسان الحال يقول لها: ( ليس هذا عشك فادرجي ) ،إنما هو عش أهل التغريب والعصرنة .(2/1)
2- نقلت الأستاذة جل ما في مقالاتها من كتب وأبحاث العصرانيين ومدعي الانتصار للمرأة، ومن سبق له أن اطلع على إنتاجهم علم أنها تردد ما رددوه وتنقل شبهاتهم كما هي. وكنا نربأ بالأستاذة عن هذا الإنتاج العفن الذي يضاد شرع الله في كثير مما أتى به .
3- خلطت الأستاذة في مقالاتها بين الحق والباطل. فذكرت حقوقاً شرعية للمرأة؛ كحقها في الميراث أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في إجارة المحارب، وغيرذلك من الحقوق التي جاءت بها الشريعة. ولكنها أفسدت هذا كله عندما مزجتها بشيء غير قليل من حقوق متوهمة للمرأة قلدت فيها الآخرين وخالفت فيها شرع رب العالمين –كما سيأتي-.
4- أوهمت الأستاذة قارئها أن سبب عدم حصول المرأة لما تدعيه حقوقاً لها هو "تعالي الرجل على المرأة ورغبته بأن تكون التابع له، فهو لا يريدها أن تتقدمه، بل لا يريدها أن تسير معه جنباً إلى جنب، وإنما يريدها دائماً خلفه" !! وتجاهلت أو تغافلت عن السبب الحقيقي وهو مصادمة تلك الحقوق الموهومة لنصوص الشرع. فشابهت في هذا غلاة النساء الداعيات لتحرير المرأة الذين يصورون المسألة على أنها صراع بين الرجل والمرأة وعداوة متأصلة بينهما ! ليهونوا الأمر أمام القارئ، كما تردده نوال السعداوي كثيراً في أبحاثها. وهذه مغالطة كبيرة تقوم على تخيلات ووسوسات مرضية أنتجتها كثرة القراءة في كتب أدعياء التحرير، حيث نقلت القضية من كونها اتباعاً للشرع من عدمه إلى هذا الصراع المتخيل الذي لا يلجأ إليه إلا المرضى النفسيون من أدعياء التحرير الذي نربأ بالدكتورة أن تشابههم فيه. ويكفي الأستاذة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إنما النساء شقائق الرجال" ولكن هذا لا يعني أن نتكلف لهن حقوقاً لا تناسبهن كما فعلت سهيلة.(2/2)
5- أجادت الأستاذة كثيراً في تنبهها إلى أن الغرب يضغط على بلادنا في سبيل إقرار نموذجه الغربي للمرأة، وأنه يستعين في ذلك بطائفة العلمانيات المنافقات الموجودات بيننا –لا كثرهن الله- . ولكنها هولت الأمر، مقترحة أن الحل يكمن في أن نعطي المرأة تلك الحقوق التي اقترحتها ! وفاتها أن الخطأ لا يعالج بخطأ آخر وإنما يعالج بإعطاء المرأة حقوقها (الشرعية) والثبات على دين الله إلى أن نلقاه، دون استكانة أو خضوع لمطالب الغرب أو ضغوطهم، وقد قال تعالى محذراً من هذه الاستجابة (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) وقال سبحانه ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) وقال (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) . هذا هو الحل، أما تقديم التنازلات فهذا هو الذي يريده الأعداء، وهم في النهاية لن يرضوا حتى نتخلى عن ديننا كله ونلحق بأديانهم الباطلة والعياذ بالله، (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم). وفي ظني أن العلمانيات في بلادنا لا يطمحن بربع ما اقترحته الأستاذة للمرأة من حقوق !! فالله الله يا سهيلة أن تكوني عوناً لهن ومعبراً إلى ما يخالف شرع الله .
6- استدلت الأستاذة بقوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) على أن للمرأة أن تتولى منصب الإمامة العظمى (الخلافة) !!، وهذا من أعجب ما رأيت من الاستدلالات؛ لأن هذه الآية تبين أن المؤمنين ذكوراً وإناثاً يتناصرون ويتعاضدون ويتعاونون على الخير،ولا دخل لها بالولاية (بكسر الواو) من قريب ولا من بعيد. ولم يقل بهذا القول الغريب الذي جاءت به الأستاذة أحد من المفسرين. ولهذا فإن الكاتبة عندما لم تجد أحداً منهم يؤيد رأيها هذا، نقلت بعض أقوالهم ! فنقضت قولها بيدها وهي لا تشعر !(2/3)
7- قالت الأستاذة بأن الحديث الصحيح "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" : (لا يلغي حق الولاية للمرأة) وأنه مقصور على الفرس فقط ! ثم استشهدت بأن بعض الدول الإسلامية قد تولت فيها المرأة منصب الإمامة العظمى وبعض المناصب الكبيرة.
قلت: وفي قولها هذا مشاقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفة صريحة لحديثه السابق؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لا سيما وقد أكده صلى الله عليه وسلم (بلن) الدالة على التأبيد المطلق للنفي. وأما استدلالها بتولي النساء في بعض البلاد الإسلامية لبعض المناصب؛ فإن الإسلام حجة على الخلق وليس العكس، وما مثل الأستاذة في استدلالها هذا إلا كمن يرى جواز شرب الخمور أو السماح بذلك؛ لأن لبعض الدول الإسلامية فعلته !
8- ادعت الأستاذة أن الأحناف يقولون بجواز أن تكون المرأة قاضية في غير الحدود والقصاص، وهذا غير صحيح، بل الأحناف موافقون للجمهور القائلين بعدم جواز ذلك، وإنما الذي غرها هو أن الأحناف قالوا بأن المرأة لو وليت القضاء وقضت بما يوافق الكتاب والسنة فإن حكمها ينفذ مع الإثم. (انظر رسالة: ولاية المرأة في الفقه الإسلامي، للباحث حافظ أنور، ص 222 وما بعدها).
9- خالفت الأستاذة إجماع علماء الإسلام في عدم جواز شهادة المرأة في "الجنايات" (انظر الإجماع لابن المنذر، ص 64-65). وفي هذا خطورة على دينها –هداها الله-، قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: "الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص" (الفتاوى 19/270).
10- ذكرت الأستاذة أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ولى "الشفاء بنت عدي" أمر الحسبة ! وهذا الأثر الذي ذكره ابن حزم في المحلى (8/527) دون إسناد ! قال عنه ابن العربي المالكي: "لم يصح، فلا تلتفتوا إليه، فإنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث" (أحكام القرآن 3/1457).(2/4)
11- قالت الأستاذة: "إن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، فلا يجوز أن تتنقب أو تغطي وجهها وتلبس قفازاً وهي محرمة، وإن فعلت فعليها أن تفدي، ولكنا نجد البعض يلزم المرأة بتغطية وجهها وهي محرمة ... ." الخ كلامها، وفيه خلط كثير لابد من توضيحه:
فقولها بأنه لا يجوز للمرأة المحرمة أن تنتقب أو تلبس القفازين صحيح؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكن ليس معنى هذا أنه لا يجوز لها أن تغطي وجهها بغير النقاب كما قد يفهم البعض، ومنهم الأستاذة، إنما المعنى أن لا تغطي وجهها أو كفيها بما يكون مفصلاً على مقدار العضو، وهو ما يسميه الفقهاء "المخيط"، ولكنها تستر وجهها عن الأجانب بسدل جلبابها أو خمارها. وهذا ما فعله زوجاته صلى الله عليه وسلم ونساء الصحابة رضي الله عنهن. قالت عائشة –رضي الله عنها-: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه" رواه أبو داود. وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قالت: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام" رواه الحاكم وقال على شرط الشيخين. وعن فاطمة بنت المنذر قالت: "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها" رواه مالك في الموطأ . وقال ابن المنذر – رحمه الله - : " أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف ، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال " ( فتح الباري 3/475 ) .
فكيف تدعي الأستاذة أن المحرمة لا يجوز لها ستر وجهها بغير النقاب؟! وهذا القول الغريب لم يقل به حتى القائلين بكشف وجه المرأة أمام الأجانب؛ كالألباني مثلاً.
وما حال الأستاذة إلا كحال من يدعي أن الرجل لا يجوز له أن يستر عورته في الإحرام؛ بسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه أن يلبس السراويل وهو محرم ؟!!(2/5)
وهذا من الفهم السقيم –كما سبق- لأن نهي الرجل أو المرأة عن لبس ما يفصل على مقدار العضو ليس معناه أن لا يستره بغير ذلك .
ومقولة الفقهاء التي أساء فهمها كثير من الناس، وهي "إحرام المرأة في وجهها" يعنون بها ما ذكرته سابقاً من أنها لا تغطيه بالنقاب ولكنها تستره بغير ذلك.
12- ادعت الأستاذة أن عائشة رضي الله عنها كانت لها "الولاية" في موقعة الجمل!! وهذا غير صحيح أبداً، لأن عائشة رضي الله عنها لم تخرج محاربة ولا طالبة للخلافة ! وإنما خرجت –بعد أن أقنعها الناس- داعية للإصلاح بين المتخاصمين، وكان هذا اجتهاداً منها رضي الله عنها. ثم ندمت بعد ذلك، وكان من قولها –كما في المستدرك (3/119)-: "وددت أني كنت ثكلت عشرة مثل الحارث بن هشام وأني لم أسر مسيري مع ابن الزبير" وكانت إذا قرأت (وقرن في بيوتكن) بكت حتى تبل خمارها. (انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 2/177).
13- جعلت الأستاذة من حقوق المرأة التي حرمها إياها الرجل: التعلق بأستار الكعبة !! وفاتها أن هذا بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، لا يفعلها إلا الجهلة.
14- أخيراً: أنصح الأستاذة سهيلة - والقراء الكرام - بقراءة رسالتين جامعيتين قيمتين تتعلقان بما طرحته من مواضيع، هما: "ولاية المرأة في الفقه الإسلامي" للباحث حافظ أنور، ورسالة : "المرأة والحقوق السياسية في الإسلام" للباحث مجيد أبو حجير.
وفق الله الأستاذة للحق، وجعلها –كما عهدناها- من الداعيات إليه، الثابتات عليه ؛ كما قال سبحانه (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)،وجنبني الله وإياها حال أهل الريب والشك. والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم(2/6)
كيف تطورت العلاقة بين اليهود والنصارى من عداوة إلى صداقة ... ؟ !
لحفظ أو فتح الملف بصيغة وورد اضغط على الأيقونة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد .. مما تقرر عند أهل الإسلام أن العلاقة بين اليهود والنصارى هي علاقة عداوة وصراع وكيد، يشهد بذلك تاريخ الطائفتين الذي لم تجف منه الدماء بعد. وقد حكى الله عن كلا الطائفتين بأنها تقول عن صاحبتها بأنها ليست على شيء: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء).
إلا أن معظم المسلمين في هذا العصر تفاجأوا عندما رأوا أن تلك العلاقة العدائية قد تبدلت وتغيرت وانقلبت إلى الضد، ليحل محلها التعاون والدعم والتنسيق، ليتوج ذلك كله بقيام دولة لليهود على أرض فلسطين، ليتساءلوا بعدها عن الذي غيَّر الأحوال، ومزج الطائفتين في طائفة واحدة تسعى لأهداف مشتركة.
وفي هذه الرسالة التي بين يديك أيها القارئ إجابة مختصرة عن الأسباب التي غيرت العلاقة بين اليهود والنصارى من عداء إلى محبة ومن كيد إلى تعاون لنعلم كمسلمين شيئاً خفياً عن أعدائنا، وتستبين لنا سبيل المجرمين.
واعلم أن معظم ما جاء في هذه الرسالة هو ملخص من الرسالة القيمة: (حقيقة العلاقة بين اليهود والنصارى) للأستاذ الفاضل: أحمد محمد زايد(1) مع زيادات مهمة من الرسالة القيمة الأخرى: (دراسات في الأديان: اليهودية والنصرانية) للدكتور سعود الخلف(2)، وإضافات أخرى، ثم صياغة ذلك بنفس واحد.
أسأل الله أن ينفع بهذا المختصر، وأن يجعله منبهاً للمسلمين بكيد أعدائهم وحقيقة الصراع معهم. وأن ينصر الإسلام وأهله، ويذل الكفر وأهله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين
تاريخ اليهود :(3/1)
نشأ إبراهيم عليه السلام في أرض بابل وما جاورها في بيئة مشركة تعبد الأصنام وقد قص الله تعالى علينا إنكار إبراهيم عليه السلام على قومه شركهم فلما لم يجد منهم استجابة لدعوته هاجر إلى فلسطين وأقام في مدينة نابلس.
-لما حدث قحط وجدب في فلسطين هاجر إبراهيم إلى مصر مع زوجته سارة، وحصلت لهم أحداث كثيرة، ثم أهداه فرعون مصر جارية اسمها هاجر أنجبت له إسماعيل عليه السلام، فأخذها إبراهيم عليه السلام وابنها ووضعهما في مكة. ثم بنى هو وإسماعيل الكعبة –كما هو معلوم-.
- رزق الله إبراهيم ابنه (اسحق) من زوجته سارة. فلما كبر اسحق تزوج وأنجب ولدين هما (عيصو) و(يعقوب) وهو المسمى إسرائيل، وإليه ينتسب بنو إسرائيل .
-ورزق يعقوب باثني عشر ولداً كان أحبهم إليه (يوسف) عليه السلام الذي تآمر عليه إخوته –كما هو معلوم- وألقوه في الجب ... الخ القصة المذكورة في سورة يوسف.
-استدعى يوسف أهله إلى مصر بعد أن كانوا يعيشون في فلسطين، فعاش بنو إسرائيل من بعده في مصر.
- لما اشتد أذى الفراعنة لبني إسرائيل في مصر بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم بعث الله موسى وأخاه هارون إلى فرعون، وقد قص الله نبأ ما حدث بينهم إلى أن خرج بنو إسرائيل بقيادة موسى عليه السلام من مصر وتبعهم فرعون وجنوده فأهلكهم الله في اليم.
- قدَّر الله على بني إسرائيل أن يتيهوا في الأرض بعد خروجهم من مصر عقاباً لهم لعدم قتالهم الجبابرة المستولين على بيت المقدس، قال سبحانه ( ... قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين)
- في فترة التيه توفي موسى وهارون عليهما السلام فتولى قيادة بني إسرائيل (يوشع بن نون) خليفة موسى عليه السلام. الذي فتح الله على يديه بيت المقدس.
- بعد استقرار بني إسرائيل في فلسطين مر اليهود بثلاثة عهود متتالية:
1- عهد القضاة؛ حيث كانت جميع أسباطهم تحتكم إلى قاضٍ واحد فيما شجر بينهم، واستمر هذا العهد حوالي 400 سنة.(3/2)
2- عهد الملوك : وهو المذكور بعقوله تعالى (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله..) فجعل الله عليهم طالوت ملكاً، ثم ملكهم بعده داود، ثم ابنه سليمان عليهما السلام.
3- عهد الانقسام : وهو العهد التالي لسليمان عليه السلام حيث تنازع الأمر بعده ابنه (رحبعام بن سليمان) و(يربعام بن نباط)، فاستقل (رحبعام) بسبط يهوذا وسبط بنيامين وكون دولة سميت بدولة يهوذا نسبة إلى سبط حكامها وهو سبط يهوذا الذي من نسله داود وسليمان عليهما السلام وكانت عاصمتها بيت المقدس.
واستقل يربعام بن نباط ببقية الأسباط (وهي عشرة) وكون دولة إسرائيل شمال فلسطين وعاصمتها نابلس، وهم من يسمون (السامريين) نسبة إلى جبل هناك يسمى شامر .
-كان بين الدولتين عداء بدون قتال.
- سقطت دولة إسرائيل بيد الآشوريين بقيادة ملكهم (سرجون) عام 722 ق.م، وسقطت دولة يهوذا بيد الفراعنة عام 603 ق.م
- في حدود عام 586 ق.م تقريباً أغار (بختنصر) ملك بابل على فلسطين فطرد الفراعنة، ثم دمر دولة يهوذا التي تمردت عليه وأسر عدداً كبيراً من اليهود وأجلاهم إلى بابل بما عرف بـ (السبي البابلي) .
- في سنة 538 ق.م تغلب (كورش) ملك الفرس على البابليين فأطلق سراح اليهود ورجع كثير منهم إلى فلسطين.
- في سنة 135ق.م أخمد الرومان في عهد الحاكم (أدريان) ثورة قام بها اليهود فدمروا البلاد وأخرجوهم، فأصبح اليهود مشتتين في بقاع الأرض. قال سبحانه (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقطعناهم في الأرض أمما ... ) .(3/3)
- في زمن سيطرة الرومان على فلسطين بعث الله عيسى عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل، قال تعالى (ورسولاً إلى بني إسرائيل) فدعاهم لإصلاح فسادهم، فاستجاب له بعض اليهود، وأما الكهنة فقد ناصبوه العداء لأنه كشف خداعهم ومفاسدهم. فانقسم بنو إسرائيل قسمين كما قال تعالى (فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة) فالقسم الأول هم (النصارى) والقسم الثاني هم (اليهود) .
-سعى كهنة اليهود وأحبارهم إلى الحاكم الروماني وأثاروه على عيسى عليه السلام ورغبوه في قتله. فنفذ طلبهم. ولكن الله رفع عيسى عليه السلام إليه وألقى شبهه على غيره فصلبوا الشبيه، قال تعالى (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ) وقال (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً) .
مصادر دين اليهود :
1-التوراة أو العهد القديم ويتكون من 39 كتاباً هي أربعة أقسام :
القسم الأول: أسفار موسى وهي خمسة: سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللاويين، سفر العدد، سفر التثنية . وهذه الخمسة يطلق عليها (التوراة) .
القسم الثاني: الأسفار التاريخية وهي اثنا عشر : يوشع والقضاة، راعوث، صموئيل، الملاك، أخبار الأيام، عزرا، نحميا، استير . وينقسم كل من صموئيل والملوك وأخبار الأيام إلى قسمين.
القسم الثالث: الأسفار الشعرية، وهي خمسة: أيوب، مزامير داود، أمثال سليمان، الجامعة من أمثال سليمان، نشيد الأنشاد لسليمان .
القسم الرابع: أسفار الأنبياء، وعددها 17: أشعياء ، إرميا، مراثي إرميا، حزقيال، دانيال، هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، ميخا، ناحوم، حبقوق، صفنيا، حجي، زكريا، ملاخي.(3/4)
2-التلمود: ومعناه "كتاب تعليم ديانة وآداب اليهود" وهو روايات شفوية تناقلها الحاخامات من جيل إلى جيل. جمعها الحاخام (يوضاس) في كتاب سماه (المشنا) أي الشريعة المكررة. ولشرح المشنا كتبت (الجمارا) ومنهما يتكون التلمود.
3-البروتوكولات : وهي مقررات تتلخص فصولها في تدبير الوسائل للسيطرة على السياسة العالمية.
تاريخ النصارى :
-وهم من تبع عيسى عليه السلام من بني إسرائيل –كما سبق-. سموا بذلك لأنهم ناصروه أو نسبة لبلدة (الناصرة) وهي قرية المسيح.
-بعد رفع الله تعالى لعيسى عليه السلام لم تمض بضع سنين حتى اختلف النصارى في المسيح عليه السلام، قال سبحانه (وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن).
-في سنة 325م عقد اجتماع بأمر الإمبراطور الروماني قسطنطين الذي اعتنق النصرانية يضم ممثلين لجميع الكنائس المسيحية للفصل في الخلاف في ألوهية المسيح عليه السلام. فخلصوا إلى قرارات من أهمها : إثباتهم ألوهية المسيح! وحرق كل كتاب لا يقول بذلك!
-في سنة 381م عقد المجمع القسطنطيني الأول فقرر ألوهية (روح القدس).
- وبذلك أصبحت العقيدة النصرانية تقوم على هذين العنصرين:
1- التثليث، والإيمان بثلاثة أقانيم(3) .
وقد كفرهم الله بهذا في قوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) .
2- صلب المسيح فداء عن الخليقة . وقيامه من قبره ورفعه
مصادر النصارى :
يعتبر الكتاب المقدس بعهديه القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل) هو مصدر النصرانية .
أما الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام. والذي قال الله تعالى فيه (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين) هذا الإنجيل غير موجود اليوم بيد النصارى! ولعل هذا مصداقاً لقوله تعالى (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكروا به) أما الذي بين يدي النصارى اليوم فإنه أربعة أناجيل !(3/5)
1-إنجيل متى. 2-إنجيل مرقص. 3- إنجيل لوقا. 4-إنجيل يوحنا.
وهذه الأناجيل الأربعة لم ينسب واحد منها إلى المسيح عليه الصلاة والسلام، وإنما هي منسوبة إلى هؤلاء الأشخاص الذي يزعم النصارى أن اثنين منهم (متى ويوحنا) من الحواريين.
وهذه الأناجيل تحتوي على تاريخ لعيسى عليه السلام؛ حيث ذكر فيها ولادته ثم تنقلاته في الدعوة ثم نهايته بصلبه (كما يزعمون) ثم قيامه وصعوده إلى السماء. كما تحتوي على مواعظه وخطبه ومجادلاته مع اليهود، ومعجزاته .
فهذه الأناجيل أشبه ما تكون بكتب السيرة إلا أن بينها اختلافات ليست بقليلة، وبعضها اختلافات جوهرية لا يمكن التوفيق بينها إلا بالتعسف(4).
إضافة إلى أن هذه الأناجيل الأربعة لم تعرف إلا في زمن متأخر بعد رفع المسيح عليه السلام حوالي (166-170م) حيث لم يُشر إليها أحد من المتقدمين من النصارى .
فرق النصارى:
1-الكاثوليك: وهم أتباع البابا في روما وأهم ما يتميزون به هو:
1- قولهم بأن الروح القدس انبثق من الأب والابن معا .
2- يبيحون أكل الدم والمخنوق .
3- أن البابا في الفاتيكان هو الرئيس العام على جميع الكنائس الكاثوليكية.
4- تحريم الطلاق بتاتاً حتى في حالة الزنا.
والكاثوليك هم أكثر الأوربيين الغربيين وشعوب أمريكا الجنوبية وتُسمى كنيستهم الكنيسة الغربية.
2-الأرثوذكس : وهم النصارى الشرقيون الذين تبعوا الكنيسة الشرقية في القسطنطينية(5) وأهم ما يتميزون به هو:
1- أن الروح القدس انبثق عندهم من الأب فقط .
2- تحريم الطلاق إلا في حالة الزنا فإنه يجوز عندهم .
3- لا يجتمعون تحت لواء رئيس واحد بل كل كنيسة مستقلة بنفسها.
وهذا المذهب منتشر في أوربا الشرقية وروسيا والبلاد العربية؛ كمصر .(3/6)
3-البروتستانت: ويسمون: "الإنجيليين"، وهم أتباع مارتن لوثر الذي ظهر في أوائل القرن السادس عشر الميلادي في ألمانيا وكان ينادي بإصلاح الكنيسة وتخليصها من الفساد الذي صار صبغةً لها –كما سيأتي إن شاء الله-.
وأهم ما يتميز به أتباع هذه النحلة هو:
1- أن صكوك الغفران دجل وكذب وأن الخطايا والذنوب لا تغفر إلا بالندم والتوبة.
2- أن لكل أحد الحق في فهم الإنجيل وقراءته وليس وقفاً على الكنيسة.
3- تحريم الصور والتماثيل في الكنائس باعتبارها مظهراً من مظاهر الوثنية.
4- منع الرهبنة.
5- أن العشاء الرباني تذكار لما حل بالمسيح من الصلب في زعمهم، وأنكروا أن يتحول الخبز والخمر إلى لحم ودم المسيح عليه السلام.
6- ليس لكنائسهم رئيس عام يتبعون قوله.
وهذه النحلة تنتشر في ألمانيا وبريطانيا وكثير من بلاد أوربا وأمريكا الشمالية(6).
موقف اليهود من عيسى عليه السلام:
1-الطعن في مولده عليه السلام : لأنه مولود من أم دون أب. وهذا الأمر ليس بغريب على اليهود الذي تطاولوا على الخالق –جل وعلا-.
2-الكفر بدعوته ونبوته، وإنكار معجزاته.
3-التآمر على قتله وصلبه. إلا أن الله رفعه وألقى شبهه على غيره –كما قرر ذلك القرآن الكريم-.
موقف اليهود من أتباع عيسى عليه السلام :
بعد أن رفع الله عيسى عليه السلام استمر اليهود في الكيد لأتباعه وتعقبهم والتآمر عليهم. وقد حفظ التاريخ عدداً من تلك المؤامرات والمكايد، من أشهرها قصة أصحاب الأخدود التي قصها الله علينا في القرآن، وهي تحكي مقتل آلاف النصارى حرقاً على يد اليهودي (ذي نواس) سنة 524م في نجران .
ولقد كان اليهود إلى وقت قريب يقولون: "يجب على اليهود السعي الدائم لغش المسيحيين"(7)، ويقولون: "من يفعل خيراً للمسيحيين فلن يقوم من قبره قط"(8).
موقف النصارى من اليهود :(3/7)
بعد أن دارت الدائرة على اليهود وأصبحوا مشردين في الأرض تسلط النصارى عليهم وانتقموا منهم في حوادث كثيرة سجلها التاريخ، من ذلك أن القدس لما سقطت بأيدي الحملة الصليبية قام النصارى بإحراق اليهود في معابدهم، ومن ذلك طردهم المتكرر من بلاد أوربا، إلى غير ذلك من الحوادث التي من آخرها ما قام به هتلر من حرق اليهود وطردهم لما علم خطرهم ومكرهم. ولقد كان النصارى إلى وقت قريب يقولون : "يعتبر اليهود خطراً على جميع شعوب العالم، وخاصة الشعوب المسيحية"(9). ويقولون: "يتضمن التلمود كل الكفر والإلحاد والخسة"(10).
وقد قال الله تعالى عن الطائفتين (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)
أما عداوة الطائفتين للإسلام وأهله فهي لا تخفى على مسلم منذ أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم .
كيف انقلبت العداوة إلى صداقة وتعاون ؟ !
علمنا –سابقاً- أن العلاقة بين اليهود والنصارى كانت إلى وقت قريب علاقة عداء وصراع وانتقام متبادل. فما الذي تغير حتى أصبحنا نرى كثيراً من النصارى اليوم (وعلى رأسهم أمريكا وبريطانيا) يتعاونون مع اليهود ويمدونهم بألوان المساعدات المتنوعة ويمكنونهم من الاستيلاء على فلسطين كما هو مشاهد؟!
-كانت الكنيسة قبل حركة الإصلاح الديني تمارس تسلطاً على رقاب النصارى وتكبت حرياتهم وتفرض آراءها عليهم ولو كانت مخالفة للعلم، وتنتقم ممن يخالف تعاليمها ولو كان نابغاً بالحرق أو القتل .
-وزاد من تسلطها أنها استأثرت بفهم الكتاب المقدس وتفسيره دون سائر النصارى، وما على الآخرين إلا قبول آرائها وتفسيراتها دون نقاش .
-وبلغ انحرافها مبلغه عندما أصدرت (صكوك الغفران) للمذنبين! يشتريها المذنب من الكنيسة ليضمن بعدها أنه مغفور له من الله! تعالى الله عن قولهم.(3/8)
-لما كان الحال هكذا اشتدت الحاجة إلى حركة إصلاحية تقف في طريق هذه الانحرافات الكنسية . وكانت هذه الحركة بقيادة (مارتن لوثر) المولود في ألمانيا عام 1482م، وكان قسيساً وأستاذاً لعلم اللاهوت .
- قام لوثر بثورته أو احتجاجه لإقرار هذه المبادئ:
1- جعل الكتاب المقدس المصدر الوحيد للمسيحية، ورد كل ما جاء عن البابوات .
2- من حق كل مسيحي أن يقرأ الكتاب المقدس وأن يفسره.
3- عدم اعترافه بنظام (البابوية) .
4- مطالبته بزواج القساوسة .
5- عدم إيمانه بالأسرار الكنسية المزعومة؛ كمسألة الاستحالة .
-هذه أبرز مطالب الحركة الاحتجاجية أو الإصلاحية بقيادة (لوثر) والتي سميت في ما بعد بـ(البروتستانت). ويلاحظ أنها ركزت على تغييرات شكلية لم تكن هي السبب في انحراف الكنيسة، وأبقت على جذور الانحراف والضلال من تحريف الكتاب المقدس، والصلب، والتثليث، وغير ذلك. فكانت ثورة شكلية انتفع منها اليهود –كما سيأتي- ولم ينتفع منها النصارى.
-بعد قيام هذه الحركة الإصلاحية لقيت الاضطهاد والتضييق من الكنيسة (الكاثوليكية) مصداقاً لقوله تعالى (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)
-كان لحركة الإصلاح الديني "البروتستانتية" أثر كبير في إحداث تغيير في طبيعة العلاقة بين اليهود والنصارى، يتبين ذلك مما يلي:
أولاً: كان النصارى –جميعهم- قبل عصر الإصلاح الديني بقيادة البابا يعادون اليهود ويقودون حملات التطهير والإبادة ضدهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ثانياً: "حافظت الكنيسة الكاثوليكية –إلى عهد قريب- على موقف ثابت من المسألة اليهودية يقوم على رفض التصالح مع اليهود إلا إذا اعترفوا بالمسيح واعتنقوا النصرانية"(11) .(3/9)
ثالثاً: "لم يكن في الفكر الكاثوليكي التقليدي قبل عهد الإصلاح الديني أدنى مكان لاحتمال العودة اليهودية إلى فلسطين، أو لأية فكرة عن وجود الأمة اليهودية، وكان القساوسة يرفضون التفسير الحرفي للتوراة ويفضلون تفسيرات لاهوتية أخرى وبخاصة المجازية التي أصبحت الأسلوب الرسمي للتفسير التوراتي"(12).
ومن هنا وعلى ضوء مفاهيم العهد الجديد أخذت كل التنبؤات والوعود المتعلقة باليهودية اتجاهاً تفسيرياً جديداً استبعد أي تدخل بشري أو عمل سياسي يقضي أو يفضي إلى عودة اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة لليهود بها"
يضاف إلى ذلك أن العهد القديم كان "حتى أواخر القرن الرابع عشر حبيس الأديرة والصوامع لا يطلع عليه إلا قلة من رجال الإكليروس الذين يعرفون العبرية واللاتينية"(13) .
-إذاً فاليهود في نظر المسيحيين –على ضوء ما سبق- مارقون كفار يجب اضطهادهم. وفسرت وعودهم على ضوء العهد الجديد بأسلوب يسلبهم كل حق، وكتابهم حبيس ولغتهم مندرسة.
هذا هو وضع اليهود كشعب وكتاب ووعود ولغة قبل حركات الإصلاح. ثم جاء البروتستانتية "حركة الإصلاح" فشكلت مسار التغيير في كل ما سبق فانقلبت الأمور إلى اتجاه معاكس تماماً لما كانت عليه المسيحية قبل عصور الإصلاح الديني.
فحصل اليهود من حركة الإصلاح الديني على ما لم يكونوا يحلمون به حيث "إن رياح التغيير في الموقف المسيحي تجاه اليهود بدأت تهب منذ ظهور الحركة الإصلاحية البروتستانتية في القرن السادس عشر، حين أطاحت هذه الحركة بحق الكنيسة في احتكار تفسير الكتاب المقدس وتحديد الرؤية المسيحية الفكرية، وبذلك تم إحياء النص التوراتي وبدأ التفسير الحرفي للنصوص المتعلقة باليهود يحل محل التأويلات والتفسيرات التي تبنتها الكنيسة الكاثوليكية الأم، وبدأت النظرة إلى اليهود تتغير تدريجياً"(14).(3/10)
اعتمد هذا التغير على المبدأ الذي نادى به لوثر وهو إلغاء احتكار الكنيسة ورجال الدين حق تفسير الكتاب المقدس، ودعوته الشعب أن يتعامل مباشرة مع الكتاب وجعله المصدر الوحيد للمسيحية باعتباره مصدر المسيحية النقية.
وبذلك "جاءت البروتستانتية بفكرة إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون فرض قيود على التفسيرات التوراتية، فكان كل بروتستانتي حراً في دراسة الكتاب المقدس واستنتاج معنى النصوص التوراتية بشكل فردي، وهكذا فتح الباب للبدع في اللاهوت المسيحي وأصبح التأويل الحرفي البسيط هو الأسلوب الجديد في التفسير بعد أن هجر المصلحون البروتستانت الأساليب التقليدية الرمزية والمجازية"(15) ولما اعتمد البروتستانت على الكتاب المقدس (العهد القديم كأصل) وآمنوا بوجوب التعامل الفردي المباشر مع نصوصه تاركين الأساليب المجازية التقليدية في تفسير هذه النصوص كان أول ما يفتحونه العهد القديم فتقع أعينهم على التنبؤات والوعود اليهودية فيفهمونها بحرفيتها دون تأويل ويعتقدون مضمونها .
وقد تولدت عن هذا نظرة جديدة عن اليهود حاضراً وماضياً ومستقبلاً ونتج ما يلي:
1-"أصبح العهد القديم المرجع الأعلى لفهم العقيدة المسيحية وبلورتها"(16).
2-"اعتبرت اللغة العبرية –باعتبارها اللغة التي أوحى بها الله، واللسان المقدس الذي خاطب به شعبه المختار –هي اللغة المعتمدة للدراسة الدينية"(17) .
إن هاتين النتيجتين اللتين أفرزتهما حركة الإصلاح تعدان نقلة ذات أهمية في تاريخ اليهود، كما تعد نقلة ذات أهمية أيضاً في تاريخ العلاقة بين الطائفتين.(3/11)
فالعهد القديم الذي ظل حبيس الأديرة والصوامع لا يطلع عليه أحد إلا القليل أصبح على يد البروتستانت المرجع الأعلى للنصارى فيما يخص اليهود بل في فهم العهد الجديد. واللغة العبرية التي اعتبرت "الأساطير الكاثوليكية التقليدية أن دراستها تسلية الهراطقة وكان تعلمها في نظر الكثيرين بدعة يهودية، واتخذت خطوات عنيفة لاجتثاثها"(18) هذه اللغة أصبحت بعد حركة الإصلاح جزءاً من الثقافة الأوربية "فقد أصبح العالم يتقن اللاتينية واليونانية والعبرية وأصبحت العبرية جزءاً من المنهج الدراسي اللاهوتي، وفي نهاية القرن السادس عشر أخذت الحروف العبرية تستعمل في الطباعة، وانكب المسيحيون العاديون ورجال الدين على دراسة أدب الأحبار، وأعجب المسيحيون أيما إعجاب بالعبرية واقترن في أذهان كثير من المجموعات والفرق البروتستانتية مع إعجابهم بالعبرية إعجابهم بالمبادئ والقيم اليهودية.
وتسربت الروح العبرية اليهودية إلى الفنون والآداب فكان الفنانون يرسمون ويحفرون مناظر من الكتاب المقدس، وحلت قصص وتفسيرات العهد القديم محل المسرحيات التي كانت تمثل حياة القديسين، وأصبحت شخصيات العهد القديم كأبسالوم وإيستر ويوحنا وجوزيفوس وغيرهم تبدو على أنها شخصيات تحتذى في أخلاقها"(19) .
وهكذا تسربت الأدبيات اليهودية إلى صميم العقيدة والفكر المسيحي وكانت هذه الأدبيات تدور حول أمور ثلاثة:
"الأمر الأول: هو أن اليهود هم شعب الله المختار، وأنهم يكونون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم.
الأمر الثاني: هو أن ثمة ميثاقاً إلهياً يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين، وأن هذا الميثاق الذي أعطاه الله لإبراهيم عليه السلام هو ميثاق سرمدي حتى قيام الساعة.
الأمر الثالث: هو ربط الإيمان المسيحي بعودة السيد المسيح بقيام دولة صهيون، أي بإعادة وتجميع اليهود في فلسطين حتى يظهر المسيح فيهم"(20) .(3/12)
وآمن النصارى البروتستانت أن مساعدة اليهود لتحقيق هذه الغاية –وقيام دولة صهيون- أمر يريده الله لأنه يعجل بمجيء المسيح الذي يحمل معه الخلاص والسلام، وساد الاعتقاد أن النصارى المخلصين سوف يعيشون مع المسيح في فلسطين ألف سنة في رغد وسلام قبل يوم القيامة طبقاً لبعض التفسيرات الحرفية لسفر رؤيا يوحنا اللاهوتي.
وهكذا ظهر اتجاه جديد في المسيحية يحيي الهالة التي أضفتها التوراة على بني إسرائيل، ويوجب على المسيحيين التدخل البشري لتحقيق وعود يهودية واردة في التوراة، كما قام هذا الاتجاه الهائل بدعم اليهود والدعوة إلى قيام كيان لهم في فلسطين، كما تزعم هذا الاتجاه حركة الدعوة لانبعاث اليهود وتسفيه التحقير المسيحي لليهودية والمطالبة بضرورة رفع الظلم والاضطهاد عن هذا الشعب المختار وفقاً للإيمان الحرفي بالكتاب المقدس.
-وجد اليهود في هذه الفرصة من يناصرهم ويدعو إلى قضاياهم ويتحالف معهم بعد أن كانوا مضطهدين .(3/13)
-إن الأدبيات التي تسربت إلى العقيدة المسيحية يصح أن نطلق عليها تهويداً للمسيحية أو بعثاً لليهودية والعبرية. وإن المحاور الثلاثة التي تدور حولها هذه الأدبيات والمذكورة قبل قليل: لهي اليوم "قاعدة الصهيونية المسيحية التي تربط الدين بالقومية، والتي تسخر الاعتقاد الديني المسيحي لتحقيق مكاسب يهودية"(21) وهكذا ولدت الصهيونية في أحضان البروتستانتية قبل هرتزل بثلاثة قرون "وكانت أنشودة مسيحية قبل أن تصبح حركة سياسية يهودية كما قال "كينين" أحد أبرز القيادات الصهيونية اليهودية الأمريكية في كتابه (خط الدفاع الإسرائيلي)، وإن أول من رفع شعار "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" هم أصوليون مسيحيون، وإن المسيحية اليهودية هي التي مهدت لظهور الصهيونية اليهودية ودعمتها لتنفيذ المشروع الاستيطاني فوق أرض فلسطين، وهي التي خلقت تياراً شعبياً قوياً ينحاز دائماً إلى الحركة الصهيونية ويضغط دائماً على مؤسساته الرسمية لتمنحها الدعم والمساندة وتحقيقاً لأهدافها العدوانية التوسعية"(22).
-لقد كان هؤلاء المسيحيون الجدد يعتقدون أن هناك ثلاث إشارات يجب أن تسبق عودة المسيح: "الإشارة الأولى هي قيام إسرائيل، وقد قامت إسرائيل في العام 1948م. ولذلك اعتبر الصهيونيون المسيحيون في الولايات المتحدة هذا الحدث أعظم حدث في التاريخ لأنه جاء مصدقاً للنبوءة الدينية.
الإشارة الثانية هي احتلال مدينة القدس، ولقد احتلت إسرائيل القدس في العام 1967 التي ينظر الإنجيليون من الصهيونيين المسيحيين على أنها المدينة التي سيمارس المسيح حكم العالم منها بعد قدومه الثاني المنتظر. ولذلك تضغط الكنائس الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة من أجل الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل. ولقد تجاوب مجلسا الشيوخ والنواب مع هذه الضغوط في إبريل – نيسان 1990.(3/14)
الإشارة الثالثة هي إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى. ولقد وضعت خريطة الهيكل الجديد، فيما تتواصل الحفريات تحت المسجد بحجة البحث عن آثار يهودية مطمورة. وفي الوقت نفسه يتم إعداد وتدريب كهان الهيكل في معهد خاص بالقدس. أما الأموال اللازمة فقد جمع معظمها وأودع في حساب خاص باسم مشروع بناء الهيكل.
ويزعم هؤلاء أنه بعد اكتمال المشروع، ستقع هرمجدون(23) التي يظهر المسيح فوقها مباشرة وسيرفع إليه بالجسد المؤمنين به ليحكم العالم من القدس مدة ألف عام تقوم بعدها القيامة(24).
-مما سبق يتضح لنا كيف كان لحركة الإصلاح الديني الدور الأكبر والأساسي لتحويل مسار العلاقة بين اليهود والنصارى من صراع دموي إلى تحالف استراتيجي آثم اعتُبر المسلمون في نظره –رغم إيمانهم بالمسيح- أعداءً للمسيحية، وانقلبت النظرة بالنسبة لليهود الذين حاربوا المسيح وكذبوه وصلبوه –كما زعموا- فأصبحوا هم الحلفاء والأصدقاء والسادة!! والعجيب أن تنتشر هذه الدعوة في دول عديدة من دول أوربا على رأسها إنجلترا التي أخذت على عاتقها مناصرة اليهود من خلال معتقداتها الإصلاحية الأصولية المسيحية اليهودية.
-ولما كانت حركة الإصلاح تخالف ما عليه الكنيسة الكاثوليكية فقد نالها من التضييق والاضطهاد الكثير والكثير.
فقد دعا "البابا ليو العاشر، مارتن لوثر إلى روما في 7 يوليو سنة 1518م فلم يلب الدعوة وردّ على نائبه رداً شديداً قاسياً ونشر أن البابا ليس معصوماً وأن الكتاب المقدس وحده هو القاعدة الحقيقية للتعليم المسيحي .(3/15)
ثم دعاه البابا ثانية إلى روما فلم يجب فبادر إلى حرمانه فأحرق لوثر قرار الحرمان فكان قرار مجمع ودمن سنة 1521م بطرد لوثر وإهدار دمه وحرم قراءة كتاباته وإحراقها، ثم لما التف الناس حوله قرر المجمع إلغاء ما سبق"(25) وإذا كان لوثر قد نجا بعض الشيء من هجمات الكاثوليك فإن أتباعه لم يسلموا من صراع دموي رهيب(26) اضطرهم في كثير من الأحيان إلى الهجرة خارج أماكن الصراع هرباً بمعتقداتهم من الفتنة. "وإذا كانت محاكم التفتيش في الأندلس قد دفعت باليهود إلى أوربا هرباً بدينهم فإن الصراع الديني في أوربا حمل مطلع القرن السابع عشر المتهودين الجدد إلى العالم الجديد"(27) أمريكا التي اكتشفت سنة 1492م.
وكان لهجرة البروتستانت آثار مباشرة وواضحة في بلورة الشخصية الأمريكية بالصورة التي نراها عليه اليوم .
-وهكذا انتشرت "البروتستانتية" في أوربا وأمريكا وعلى إثر ذلك تشكلت أكبر قوة معادية للإسلام بدت في أشكال تحالفية ضد الدين الحق ساعية إلى تحقيق وعود مفتراة غير عابئة بقيم أو أخلاق أو إنسانية.(3/16)
-إذاً فقد أصبح على رأس سياسات الدول البروتستانتية (وفي مقدمتها أمريكا وبريطانيا) دعم قيام دولة لليهود على أرض فلسطين، فلهذا انهالت المساعدات المتنوعة لأجل ذلك حتى تحقق ذلك بعد وعد بلفور الشهير وزير خارجية بريطانيا، عام 1917م، ولم تقف بريطانيا عند حدود الكلام والوعود، بل شرعت في التنفيذ عملياً، وذلك بمساعدة عصبة الأمم، وما فرضته من انتداب على فلسطين وتسهيل هجرة اليهود إليها ثم تمكينهم من إحكام قبضتهم عليها وتسليمها لهم، وأوربا تعلم ذلك كله وتباركه، ووقفت بريطانيا محتضنة للصهيونية نظرياً حيث تعهدتها منذ بذرتها الأولى، وعملياً حتى تسليمها لليهود أرض فلسطين بعد إنهاء الانتداب في 14 مايو 1948م ليعلن عن قيام دولة إسرائيل في 15 من نفس الشهر(28)، من أجل ذلك فلا عجب "إذا اختار حاييم وايزمان" وهو يهودي ومن بريطانيا وشغل منصب أول رئيس لدولة إسرائيل بعد قيامها في 1948م- لا نعجب إذا اختار وايزمان لندن مقراً للصهيونية العالمية، دون أن تعترض عليه أي دائرة سياسية بريطانية"(29). ولا نعجب أيضاً إذا سمعنا هرتزل يقول: "إنني لأول لحظة انضممت فيها إلى الحركة الصهيونية اتجهت عيناي إلى إنجلترا، لأنني رأيت بسبب الأحوال العامة أن في إنجلترا نقطة الارتكاز التي يمكن أن تتحرك عليها الرافعة"(30) .
-ومع أن إنجلترا كانت أول الدول وأشدها حماسة للصهيونية نظرياً وعملياً إلا أن دولاً أوربية كثيرة لم تكن أقل حماساً من بريطانيا. ففرنسا مثلاً كانت من "أول من طرح بشكل جدي فكرة توطين اليهود في فلسطين. فقد أعدت حكومة الإدارة الفرنسية 1798 خطة سرية لإقامة "كومنولث يهودي في فلسطين" حال نجاح الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي بما فيه فلسطين"(31).(3/17)
أما أمريكا (البروتستانتية) فإنها فاقت بريطانيا ودول أوربا في دعمها لليهود منذ قيام دولتهم، وهذا لم يعد يخفى على أحد، وإليك شيئاً مما قام أو صرح به رؤساؤها لتزداد يقيناً بذلك:
1-الرئيس جيفرسون: الذي بلغ من تأثير الصهيونية المسيحية فيه حداً كبيراً اقترح فيه اتخاذ رمز لأمريكا يمثل أبناء إسرائيل تظلهم غيمة في النهار، وعمود من نور في الليل بدلاً من شعار النسر(32)، وذلك توافقاً مع ما تتضمنه الآية 12 من الإصحاح 13 الواردة في سفر الخروج: كان الرب يسير أمامهم خلال النهار في عمود من السحاب ليهديهم الطريق، ويسير أمامهم خلال الليل في عمود من نار ليضيء لهم".
2- ودور ويلسون: "حاكم أمريكا أثناء الحرب العالمية الأولى من عام 1912م ومروراً بسنوات حكمه كان يقدر اليهود، ويعلي من شأنهم وليس أدل على ذلك من جعله "برنارد باروخ" وهو يهودي مستشاره للشؤون الاقتصادية، وجعله اليهودي "لويس برانديس" مستشاراً قضائياً، بل جعله رئيساً للمحكمة الأمريكية العليا. وفي الوقت نفسه يرفض ويلسون المستر "تافت" رئيس الجمهورية السابق في هذا المنصب الخطير ويرشح هذا اليهودي (33) ولما زار بلفور الولايات المتحدة في 20 إبريل 1917م وعده ويلسون حينذاك بتقديم كل عون لليهود، بل إن بلفور طلب من "برانديس" أن يكون على اتصال دائم مع حاييم وايزمان لتنسيق الخطوات في شأن إقامة إسرائيل- كل ذلك على علم من ويلسون.(3/18)
وبعث ويلسون رسالة رسمية لزعيم الصهيونية الأمريكية الحاخام "ستيفن وايز" مصدقاً بشكل رسمي على وعد بلفور(34) وأعلن لكثير من زعماء اليهود تأييده لوعد بلفور، ولم يكن هذا كله بضغط من اليهود المحيطين بالرئيس، إنه بروتستانتي "ينحدر من أبوين ينتميان للكنيسة المشيخية وقد نشأ على التعاليم البروتستانتية الأمريكية التي كانت تؤمن بالأسطورة الصهيونية"(35) حتى قال عن نفسه: "إنه يجب على ابن راعي الكنيسة أن يكون قادراً على المساعدة لإعادة الأرض المقدسة لشعبها اليهودي"(36) واعتبر ويلسون وحكومته واضعي حجر الأساس للدولة اليهودية نظراً لما قدمه في هذا السبيل.
وخلف ويلسون ثلاثة:
وارن هاردبخ وهو صهيوني مسيحي قال في أحد تصريحاته في يونيو 1921م: "يستحيل على من يدرس خدمات الشعب اليهودي ألا يعتقد أنهم سيعادون يوماً إلى وطنهم القومي التاريخي" كما صرح بتأييده الشديد لصندوق اكتشاف فلسطين(37).
وجاء كالفن كولدج وهربرت هوفر وأكدا تعاطفهما مع الشعب اليهودي وأحقيته في أرض الميعاد كما أكدا إعجابهما الشديد بدور الحركة الصهيونية في تأهيل فلسطين لاستيعاب الهجرات اليهودية(38) .
3- فرانكلين روزفلت: الذي جاء وعبر عن صهيونيته فاتخذت في عهده نجمة داود وسليمان شعاراً رسمياً لدوائر البريد وللخوذ التي يلبسها الجنود في الفرقة السادسة، وعلى أختام البحرية الأمريكية، وعلى طبعة الدولار الجديد، وميدالية رئيس الجمهورية، وخفراء الشرطة في شيكاغو، وشارة الصدر التي يضعها العمدة في كثير من المناطق(39).(3/19)
4-هاري ترومان: الذي فتح أبواب فلسطين لمائة ألف يهودي وطالب بزيادة عدد المهاجرين حتى وصلت الأعداد في عهده إلى 1500 يهودي شهرياً استمرت شهوراً طويلة، وتمت الموافقة الأمريكية بأمر ترومان على تقسيم فلسطين، ومنح اليهود بجهوده 56% منها(40) وكانت أمريكا أول دولة تعترف بإسرائيل في العالم حتى قبل أن تطلب إسرائيل من ترومان الاعتراف بشكل رسمي. ولا نعجب فترومان "كان قد درس التوراة على نفسه وكان يؤمن بالتبرير التاريخي لوطن قومي لليهود، وكان كبروتستانتي يحس بشيء عميق له مغزاه في فكرة البعث اليهودي، وكان معروفاً بحبه للفقرة التوراتية الواردة بالمزمار "137" والتي تبدأ "لقد جلسنا على أنهار بابل وأخذنا نبكي حين تذكرنا صهيون" .
ولقد اعترف ترومان أنه ما من مرة قرأ فيها قصة إنزال الوصايا العشر في سيناء إلا وشعر بوخز خفيف يسري في عروقه. ولقد صرح بأن "موسى تلقى المبدأ الأساسي لقانون هذه الأمة على جبل سيناء"(41) كما صرح مراراً بأن كتابه المفضل هو التلمود(42).
5-الجنرال إيزنهاور: كان عضواً مؤازراً لجمعية "بناي برث" اليهودية وصديقاً لجماعة "شهود يهوه" الإرهابية وشارك في جميع خطط جمع التبرعات لليهود، قال إيزنهاور: إن إسرائيل ولدت بعد الحرب الثانية وإنها قامت لتعيش مع غيرها من الدول التي اقترنت مصالح الولايات المتحدة بقيامها(43).
6- جون كنيدي: من تصريحاته "إن أمريكا التزمت التزامات صريحة بحماية إسرائيل ومن مصلحتنا نحن الأمريكيين تنفيذ ما التزمنا به"(44).
وقال أمام المنظمة الصهيونية الأمريكية بعد أن تكلم عن قيام دولة إسرائيل وأنها لم تولد لتختفي: "كان ترومان أول من اعترف بإسرائيل وسأواصل أنا السير في هذا الطريق"(45) .
كان كنيدي "يؤمن بأن يهوه هو الذي يحمي الولايات المتحدة ويسهر على أمنها"(46) .(3/20)
7- ريتشارد نيكسون: وهو أكثر الرؤساء الأمريكان فكراً وتنظيراً، وهو أصولي إنجيلي كان يقول: "لقد أمرت في حرب 1973م ببدء جسر جوي ضخم للمعدات والمواد التي مكنت إسرائيل من وقف تقدم سوريا ومصر على جبهتين.. إن التزامنا ببقاء إسرائيل التزام عميق فنحن لسنا حلفاء رسميين، وإنما يربطنا معاً شيء أقوى من أي قصاصة ورق، إنه التزام معنوي، إنه التزام لم يخل به أي رئيس في الماضي أبداً وسيفي به كل رئيس في المستقبل بإخلاص، إن أمريكا لن تسمح أبداً لأعداء إسرائيل الذين أقسموا على النيل منها بتحقيق هدفهم في تدميرها"(47) .
8- جيمي كارتر: في معركة انتخابية رئاسية بين كارتر وريجان والثالث أندرسون تبارى الثلاثة في إعلان التأييد المطلق لليهود. فلما اتهم ريجان منافسه كارتر بأنه يرفض وصف منظمة التحرير الفلسطينية بأنها منظمة إرهابية، هرول كارتر ليعلن أمام المؤتمر اليهودي "إن شيئاً لن يؤثر على التزام بلاده نحو إسرائيل، وإن القدس يجب أن تبقى موحدة إلى الأبد" وأخذ يتفاخر بما قدمه من مساعدات لإسرائيل خلال فترة رئاسته استجلاباً لرضا أسياده وتمشياً وإعلاناً لما يؤمن به(48).
وقال أمام الكنيست الإسرائيلي في مارس 1979م وكان يعمل على إقرار معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل: "لقد أقام كلاً من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون روّاد، ثم إننا نتقاسم معكم تراث التوراة"(49).
وكارتر مهندس السلام بين مصر وإسرائيل.
9- ثم جاء ريجان إلى البيت الأبيض "وأكد أكثر من إحدى عشرة مرة أنه يؤمن بنبوءات التوراة ومنها معركة هرمجدون"(50) .
10- وجاء بوش الأب الذي عمل بكل قوة في مسار الصهيونية وقام عملياً بما لم يقم به رئيس قبله:(3/21)
فقد سهل هجرة اليهود السوفيت التي بلغت ذروتها ما بين عام 1989م إلى 1991م وقدم المساعدات المالية لإسرائيل وقال: إن بلاده قدّمت مساعدات مالية وعسكرية بلغت 4.4مليارات دولار، وبذل 10 مليارات دولار لتوطين اليهود السوفيت في فلسطين الذين جاؤوا إليها بضغوط كبيرة من بوش(51). وحرب الخليج وما تم فيها ثم ما ترتب عليها، ما هي إلا نموذج من أعمال بوش الإجرامية، ثم مؤتمر مدريد وفرض ما يسمى بالسلام العربي الإسرائيلي، إن الأدوار التي قام بها بوش نقلت العالم نقلة هائلة، أو نقول غيرت تغييرات هائلة في كثير من الأحداث خاصة على الصعيد العربي الإسرائيلي.
11- وجاء كلينتون وأعلن عن اتجاهه الصهيوني فقرب اليهود، حتى إن مجلس الأمن القومي فيه 7 من اليهود من 11 عضواً بالإضافة إلى مناصب أخرى حشر فيها اليهود وقربهم.
وكلينتون صاحب شعار "لن نخذل إسرائيل أبداً"(52).
12- ثم جاء بوش الابن فأكمل المسيرة في دعم اليهود كما هو مشاهد. واستغل أحداث سبتمبر في شن حملة واسعة النطاق على المسلمين بدعوى محاربة الإرهاب! نسأل الله أن يرد كيده وأعوانه في نحورهم.
-وهكذا فإنه على مستوى القمة لا يأتي رئيس أمريكي إلا ويترجم عن صهيونيته الإنجيلية بمناصرة اليهود والعمل على حماية أمن إسرائيل، وما ذلك إلا تأكيداً على إيمانهم بنبوءات العهد القديم وما فيه من عود يهودية.
ولم يقتصر هذا الاتجاه الديني الصهيوني على رجال القمة بل كان اتجاهاً عاماً يؤمن به رجال السياسة الأمريكيون.
واجب المسلمين .. حكومات وشعوباً:
أما الحكومات الإسلامية فإن الواجب عليها :
1- أن تعلم أن الصراع في قضية فلسطين هو صراع عقدي، وأن الدول النصرانية تدعم اليهود من خلال قناعات دينية لن تتزحزح عنها وما دام عدوك يحاربك بعقيدته ألا تحاربه بعقيدتك ؟! .(3/22)
2- أن تراجع تلك الحكومات دينها، وأن تعلم –علم اليقين- أن لا عزة لها بين الأمم إلا بالتمسك به وتحكيمه، وأما بغير ذلك فما هو إلا الذل والهوان وتسلط الأمم عليها .
3- أن لا تنخدع أو تخضع لضغوط الدول النصرانية فتساعدها في حربها لدعاة الإسلام وأهله تحت شعار محاربة الإرهاب. وأن تعلم بأن تلكم الدول إنما تحارب الإسلام نفسه، وأنها لن ترضى من الحكومات في حال استجابتها للضغوط بغير الكفر –والعياذ بالله- كما قال سبحانه (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) .
فهل تفيق تلك الحكومات لما يخطط لها ولدينها، وتضع يدها في يد أبنائها في مواجهة هذا المكر الصليبي العالمي ؟ ! نسأل الله أن يكون ذلك قريباً.
وأما الشعوب المسلمة فالواجب عليها :
1- أن تعود إلى دينها وتعمل بشريعة ربها ليرفع الله عنه الذل الذي ضربه عليها بسبب شرودها عن شرع الله.
2- أن تقدم ما تستطيع في هذا الصراع مع اليهود والنصارى؛ إما بدعم مالي أو بمقاطعة .. (فاتقوا الله ما استطعتم) .
3- أن تستعد لمعركة قادمة فاصلة بين المسلمين واليهود الذين يتوافدون على الأرض المباركة، قد أخبر عنها صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله"(53) وقد قال سبحانه (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) .
أسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يخذل أعداء الدين وأن يؤلف بين المسلمين وحكوماتهم، ويجمعهم على الحق، ويوحد كلمتهم وصفوفهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
-------
الهوامش
([1]) الطبعة الأولى، 1420، طبعة خاصة بدار التوزيع والتسويق الدولية بالدمام.
([2]) الطبعة الأولى، 1418، مكتبة أضواء السلف.(3/23)
([3]) الأقنوم: كلمة يونانية الأصل تدل على شخصية متميزة. ويوازيها في الإنجليزية كلمة Person أي: شخص. انظر: حقائق أساسية في الإيمان المسيحي، ص 52. (دراسات في الأديان للدكتور سعود الخلف، ص 204).
([4]) انظر شيئاً من هذه التناقضات والاختلافات في كتاب: إظهار الحق، للشيخ رحمت الله الهندي –رحمه الله-. وانظر: دراسات في الأديان للدكتور سعود الخلف، ص 151-171.
([5]) افترقوا عن الكاثوليك سنة 869م ؛ لخلاف الفرقتين حول روح القدس: هل انبثق من الأب والابن كما يقول الكاثوليك. أم من الأب فقط كما قاله الأرثوذكس ؟
([6]) انظر في هذا (محاضرات في النصرانية) ص 161، 164، 180، (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء) ص 257، 262 .
([7]) عن: الأصولية الإنجيلية، لمحمد السماك (ص7) .
([8]) المرجع السابق (ص7).
([9]) المرجع السابق (ص 10).
([10]) المرجع السابق (ص 11) .
([11]) النبوءة والسياسة: الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى الحرب النووية/ غريس هالسل ترجمة/ محمد السماك ص 6 جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ط الأولى ليبيا 1990.
([12]) الصهيونية غير اليهودية/ ريجينا الشريف ص 26 ترجمة أحمد عبد العزيز / عالم المعرفة . الكويت عدد (96) بتصرف.
([13]) الأفعي اليهودية ص 56 .
([14]) النبوءة والسياسة ص 9.
([15]) الصهيونية غير اليهودية ص 31.
([16]) الأصولية الإنجيلية ص45 يعني تفسر على ضوئها قضايا العهد الجديد: المسيحية.
([17]) المصدر السابق ص 46.
([18]) الصهيونية غير اليهودية ص 34 بتصرف.
([19]) المرجع السابق ص 34-37 باختصار .
([20]) الأصولية الإنجيلية ص 44، 45.
([21]) المرجع السابق ص 44، 45.
([22]) النبوءة والسياسة ص 6.
([23]) هرمجدون: معركة فاصلة بين الخير والشر ستقع –كما يزعم هؤلاء- على أرض فلسطين، انظر: حمى سنة 2000 للأستاذ عبد العزيز كامل.
([24]) الأصولية الإنجيلية، محمد السماك (ص 84-85).(3/24)
([25]) المجامع: ص 446-448 بإيجاز.
([26]) انظر: الإسلام والصراعات الدينية ص 141-146.
([27]) الأصولية الإنجيلية ص 69 .
([28]) لمزيد من تفاصيل هذه المؤامرة يراجع/ فلسطين وصراع القوى/ محمد عطا ص16-29 مكتبة الأنجلو 1967 بدون، مطامع بريطانيا في الشرق الأوسط/ وضع معهد البحوث السياسية البريطانية تعريب/ صلاح العزبي ص 7-11 مكتبة الأنجلو بدون، اليهودية/ أحمد شلبي ص111-116، الطريق إلى بيت المقدس جـ2 ص55-86.
([29]) فلسطين والمواقف العربية والدولية/ إبراهيم المسلم ص 65ط الأولى دار الأصالة 1985، الرياض .
([30]) مؤامرة فلسطين/ ب جنسين جـ1 ص65 كتاب رقم (116) سلسلة كتب سياسية، الدار القومية للطباعة بدون.
([31]) مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى د/ أمين عبد الله محمود ص 14 عالم المعرفة رقم (74) 1984 الكويت .
([32]) الأصولية الإنجيلية ص 71.
([33]) انظر: أمريكا والصهيونية/ سامي حكيم ص 7-22ط الأولى – الأنجلو القاهرة 1967، خطر اليهودية العالمية ص 201،202.
([34]) أمريكا الصهيونية ص 13-15 .
([35]) الصهيونية غير اليهودية ص 188، 192.
([36]) القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى، ص 46.
([37]) الصهيونية غير اليهودية ص 194-195.
([38]) يراجع : الصهيونية غير اليهودية 194-196.
([39]) خطر اليهودية العالمية ص 201،202.
([40]) ينظر: أمريكا والصهيونية ص 29، 36-40.
([41]) انظر المرجع السابق ص 36-56، الصهيونية غير اليهودية ص 213-216.
([42]) خطر اليهودية العالمية ص 203.
([43]) انظر: أمريكا والصهيونية ص 83 وخطر اليهودية العالمية ص 206.
([44]) أمريكا والصهيونية ص 109.
([45]) المصدر السابق ص 108.
([46]) الخلفية التوراتية للموقف الأمريكي ص 33 .
([47]) 1999 نصر بلا حرب/ ريتشارد نيكسون ص 291.
([48]) انظر: أمريكا وغطرسة القوة/ قدري قلعجي ص55، 56ط الأولى الرياض 91/1992.(3/25)
([49]) الأصولية الإنجيلية ص 90.
([50]) القدس بين الوعد الحق والوعد المفترى ص 50 .
([51]) تاريخ النفوذ اليهودي في أمريكا، فيصل أبو خضرا ص 30-32 بتصرف وإيجاز ط الرياض-بدون.
([52]) انظر: جريدة الشعب المصرية ص 2 العدد (944) الثلاثاء 9 ذي الحجة 1415، 9مايو 1995.
([53]) أخرجه مسلم (2922) .(3/26)
انتحار ملحد
في مساء الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1940م وجدت جثة "إسماعيل أدهم" طافية على مياه البحر المتوسط، "وقد عثر البوليس في معطفه على كتاب منه إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده في الحياة وكراهيته لها، وأنه يوصي بعدم دفن جثته في مقبرة المسلمين ويطلب إحراقها"(1) !! فمن هو إسماعيل هذا الذي آثر هذه النهاية المروعة ؟ !
يقول عنه صاحب الأعلام : "إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم باشا أدهم: عارف بالرياضيات، له اشتغال بالتاريخ، ولد بالإسكندرية وتعلم بها، ثم أحرز الدكتوراه في العلوم من جامعة موسكو عام 1931، وعين مدرساً للرياضيات في جامعة سان بطرنسبرج، ثم انتقل إلى تركيا فكان مدرساً للرياضيات في معهد أتاتورك ! بأنقرة ، وعاد إلى مصر سنة 1936 فنشر كتاباً وضعه في "الإلحاد" وكتب في مجلاتها، أغرق نفسه بالإسكندرية منتحراً"(2)
قلت: تأثر إسماعيل أدهم بالمد الشيوعي الإلحادي بسبب إدمانه قراءة إنتاج القوم حتى علقت أفكارهم بعقله وتمكنت من قلبه ؛ فألف إثر ذلك –كما سبق- رسالة سماها "لماذا أنا ملحد؟"(3) ! جاء فيها: قوله عن نفسه: "أسست جماعة لنشر الإلحاد بتركيا، وكانت لنا مطبوعات صغيرة أذكر منها: ماهية الدين، وقصة تطور الدين ونشأته ... وبعد هذا فكرنا في الاتصال بجمعية نشر الإلحاد الأمريكية، وكانت نتيجة ذلك تحويل اسم جماعتنا إلى المجمع الشرقي لنشر الإلحاد"(4) .
وقد رد على رسالته هذه: الدكتور أحمد زكي أبو شادي برسالة عنوانها: "لماذا أنا مؤمن؟"(5). ورد عليها: محمد فريد وجدي بمقالة عنوانها "لماذا هو ملحد؟"(6)(4/1)
انتحر إسماعيل مظهر وله من العمر تسعة وعشرون سنة؛ أي في ريعان شبابه، فكانت نهايته نهاية مأساوية لشاب مسلم موهوب، قال عنه الأستاذ أحمد حسن الزيات : "كان شديد الذكاء.. واسع الثقافة"،(7) وقال عنه الأستاذ محمد عبد الغني حسن بأنه صاحب "ذهن متوقد لامع"(8) كان الأول على دفعته في البكالوريا(9)، ثم حاز الدكتوراه وألّف مؤلفات كثيرة، ودرّس، وكان يحسن التحدث بست لغات(10)، كل هذا وهو في هذا العمر الصغير.. إلا أنه بعدها اختار الكفر على الإيمان، وتدرج في مهاوي الضلال إلى أن وصل إلى آخر دركاته وهي الإلحاد –والعياذ بالله- لتكون خاتمته في تكلم الجثة الطافية على مياه البحر آيةً لمن خلفه من شباب الإسلام النابهين أن لا يفتروا بذكائهم ومواهبهم، فيخوضوا –لأجلها- ذات اليمين وذات الشمال واثقين –زعموا!- من أنفسهم، معرضينها للفتن والإنسلاخ من الدين؛ إما بإدمانهم العكوف على كتب أهل الضلال والحيرة والشك كشأن أدهم، أو بمصاحبتهم وألفتهم ومن يشككهم في دينهم ويهون عليهم الطعن فيه أو التحير من بعض شرائعه، مجانبين في ذلك أهل الإيمان ساخرين من نصائحهم، لازمينهم بالتحجر وضيق الأفق!، ومبتعدين رويداً رويداً عن الصراط المستقيم؛ خشية أن يقول قائلهم –ولو بعد حين- : "لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذين نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي.." (11) !
وإسماعيل أدهم مجرد أنموذج سقته للإعتبار بحاله حيث ارتد على دبره بعدما جاءه الهدى واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وإلا فإن الأمثلة من تاريخنا القديم والحديث معلومة مشهورة .(4/2)
فمن القديم مثلاً: ابن الراوندي الملحد الذي انتهى حاله إلى أن ألف كتاباً سماه "الدامغ" يزعم أنه يدمغ به القرآن !! دمغه الله. فهذا الرجل ذكر المؤرخون عنه أنه "كان في أول أمره حسن السيرة، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك"(12) وذكروا –أيضاً- شيئاً من ذكائه وعقله، ولكن كما قال الذهبي في ترجمته "لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة من التقوى"(13)!
والذي يهمنا من ترجمته هو قول الذهبي عنه : "كان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم"(14) !! فكان نهاية هذا التهاون في الجلوس مع المبتدعة والملحدين أن أصبح واحدًا منهم، بل أجرأ على حرمات الله.
ومن الأمثلة المعاصرة : عبد الله القصيمي ، وحاله معلومة للكثيرين.
ومنها: الشاعر الكويتي فهد العسكر. فقد ذكر صاحبه عبد الله الأنصاري عنه أنه: "شب متديناً، يؤدي الصلاة مع والده في المسجد، ويحافظ على أدائها مع والده في كل فرض من الفروض، حتى صلاة الفجر، فقد كان والده يأخذه معه إلى المسجد وهو صغير السن؛ إلى أن تشرب الدين في عروقه ودمه"(15) ثم أصبح مؤذناً بعد ذلك(16). لكنه بعدها –كما يقول صاحبه الأنصاري- "أغرق في القراءة، واستمر في الإطلاع على مختلف الآراء والأفكار الأدبية والإجتماعية والسياسية ... إلى أن تحول تحولاً كليًا في تفكيره، وفي نظرته إلى الحياة، وإلى بعض التقاليد والعادات الموروثة (17) ؛ ثم أخذ يتعاطى الخمرة التي تغزل بها كثيرًا في شعره، وهكذا، إلى أن أصبح منعزلاً في أفكاره وآرائه عن بيئته المتدينة، وعن المجتمع المحافظ" (18) .(4/3)
قلت: فنصحه أهله وأقاربه وزجروه عن هذا المسلك المهلك، ولكنه أبى واستكبر، فهجروه واعتزلوه ونبذوه، فلزم العزلة والإنزواء ومعاقرة الخمر مع من هم على (مشربه) إلى أن أصابه الله بالعمى وهلك غير مأسوف عليه. وبعد وفاته لم يصل عليه أحدٌ من أهله (19)، وقاموا بحرق ما وجدوا من أشعاره التي تنضح بالكفر والاعتراض على شرع الله والاستخفاف بشعائره (20).
وسأورد أبياتًا له تدل على ذلك؛ لتعلم حال الرجل، وتعذر أهله وأقاربه على ما قاموا به . يقول العسكر (21):
ليلة ذكرياتها ملء ذهني ***** وهي في ظلمة الأسى قنديلي
ليلة لا كليلة القدر بل ***** خير وخيرٌ والله من ألف جيل
أنا ديني الهوى ودمعي نبيي ***** حين أصبو ووحيه إنجيلي
هذه كما قلت مجرد أمثلة للناكصين على أعقابهم بعد أن أبصروا الطريق، ممن قال الله فيهم { وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } وقال { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم } .
ومعرفة أسباب هذا الزيغ الذي يصيب قلوب البعض يحتاج إلى دراسة متعمقة تغور في تلك النماذج وما يماثلها لتستخرج أسبابًا مشتركة بينها؛ لكي توجد الحلول المناسبة الواقية من ذلك –بإذن الله-، فلعل الله ييسر من يقوم بذلك؛ لأهميته القصوى، لاسيما في زماننا هذا زمان المتغيرات. ويحضرني من ذلك على عجالةِ: أنني تلمحت في أحوال كثير من الزائغين ممن يمر بي ذكرهم فوجدتهم لا يخطئون واحدة من هذه الصفات:
1- الذكاء غير المنضبط بضوابط الشرع ، مما يجعل صاحبه يقتحم المهالك بدعوى الثقة في النفس !
2- الكِبر والإعجاب بالنفس، فتجد (الأنا) متضخمة عند هذا الصنف من الناس قبل زيغه. ومما يذكر عن القصيمي مثلاً أنه كان إذا ألف كتابًا ابتدأه بقصيدة له يثني فيها على نفسه وقدراته !
3- الشذوذ ومحبة تتبع الغرائب والنوادر قبل زيغه، كل هذا طلبًا (للشهرة) و(التميز).(4/4)
4- التهاون في الجلوس مع المنحرفين فكرياً، بدعوى "الاستفادة" أو "الإطلاع" ! و"الصاحب ساحب" كما قيل. ورحم الله الأوزاعي لما قيل له إن فلاناً يقول: أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدع. قال: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل"(22)
5- عدم إخلاص النية في سلوك طريق الهداية، وإنما كان السلوك مشوباً بالمقاصد الدنيوية أو المجاملات التي سرعان ما تختفي مع طول الطريق الذي لن يصبر عليه إلا المخلصون.
6- عدم اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الإكثار من قول "اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك".
السياج الذي أقامه السلف :
لقد تنبه السلف لخطورة هذا الأمر الذي يُفسد قلوب ناشئة المسلمين، فلهذا جعلوا بينهم وبينه سياجاً واقياً استنبطوه من النصوص الشرعية (23)، يتضمن النهي عن مخالطة أهل البدع والإنحراف والبعد عن شبهاتهم وإنتاجهم (24) ؛ خشية أن يعلق شيء منها بقلب ضعيف فيتأثر به ويتشربه، فأعادوا وأكثروا حول هذا الموضوع في مصنفاتهم ومروياتهم نصحاً لأبناء المسلمين، فلا تكاد تجد مؤلفاً في العقيدة السلفية إلا ويتضمن فصولاً أو أبواباً في التحذير من أهل الزيغ والتنفير منهم ومن مسلكهم وإعراضهم عن الكتاب والسنة إلى زبالات البشر (25).
فمن ذلك: قول ابن عباس –رضي الله عنهما- : "لا تجالس أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلب" (26).
ومن ذلك: قول عمرو بن قيس الملائي: "كان يُقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك"(27)(4/5)
ومن ذلك: قول الإمام أحمد وقد ذُكر عنده أهل البدع: "لا أحب لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم، وكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة؛ لأن الكلام لا يدعو إلى خير، عليكم بالسنن والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال وكلام أهل البدع والمراء"(28) وذكر في مسنده –رحمه الله- حديث الدجال وقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: "من سمع بالدجال فلينأ عنه، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فما يزال به بما معه من الشُبه حتى يتبعه"(29) فقس هذا –رعاك الله- بحال من يجالس أهل البدع والزيغ ويتضلع من كتبهم مدعياً أنه يثق بنفسه !! ساخرًا من تحذيرات أهل الإسلام.
فالسلف – رحمهم الله – نظروا إلى العلوم بهذه القسمة :
1 – العلم الشرعي النافع ؛ وهو علم الكتاب والسنة وما تفرع عنهما . وهو ماوردت النصوص بمدحه ومدح أهله،وذكر أجره العظيم لمن خلصت نيته .
2 – العلم ( الدنيوي ) المباح النافع ؛ كعلوم الزراعة والهندسة والصناعة ونحوها . وهذا العلم كلأ مباح لأهل الأرض كلهم ، هم شركاء فيه ، ومن بذل أسبابه حصله . كما قال تعالى { كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك } .
3 – العلم الضار ؛ وهو الذي لا نفع فيه في الدنيا ولا في الآخرة ، بل سيكون وبالاً على صاحبه ، وإن توهم البعض من المخدوعين خلاف ذلك ؛ كالسحر والتنجيم وعلم الكلام والفلسفة ونحوها . ومثله في زماننا : الكتابات الفكرية المنابذة للنصوص الشرعية .
والموفق لهذا التقسيم من وفقه الله .
نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يثبتنا على الحق إلى أن نلقاه، وأن يهب لمتفوقي المسلمين الزكاء بعد أن من عليهم بالذكاء، فيكونوا قرة عين لأمتهم ، والله الموفق لكل خير .
------------------------------------
الهوامش :
(1) مجلة الرسالة : السنة الثامنة، المجلد الثاني، ص 1241، والأعلام الشرقية (ص 860) .(4/6)
(2) الأعلام للزركلي (1/310 بتصرف) . وله ترجمة في الأعلام الشرقية لزكي مجاهد (ص 858-860)، وفي تراجم عربية، لمحمد عبد الغني حسن .
(3) نشرها الدكتور أحمد الهواري ضمن الأعمال الكاملة لإسماعيل أدهم (3/80) وتراجم عربية، ص 189. وذيل الملل والنحل، لسيد كيلاني، ص 91.
(4) ذيل الملل والنحل، لسيد كيلاني، ص 91.
(5) مجلة الرسالة، 5 أغسطس 1940م، وانظر: الإسلام والغرب، لمحمد الخير عبد القادر، ص 61، وهوامش على دفتر التنوير، لجابر عصفور، ص136. وقد ذكر أن أبا شادي نشرها في مجلة "الإمام" (سبتمبر 1937م).
(6) نشرها الدكتور أحمد الهواري عقب رسالة إسماعيل مظهر، ضمن الأعمال الكاملة له (3/92).
(7) وحي الرسالة (2/218).
(8) تراجم عربية (ص 198) .
(9) الأعلام الشرقية (ص 858) .
(10) السابق (ص 859-860).
(11) القائل هو أبو المعالي الجويني –غفر الله له- وهو من هو ذكاء وتمرساً في علوم الكلام، ثم ختم ذلك بقوله : "وها أنذا أموت على عقيدة أمي" ! فهل من معتبر ؟ ! . (انظر: شرح الطحاوية، ص 245، ط التركي والأرنؤط).
(12) سير أعلام النبلاء (14/61).
(13) السابق (14/62).
(14) السابق (14/59).
(15) فهد العسكر، حياته وشعره، لصاحبه عبد الله الأنصاري، ص 54. مع التنبه إلى أن صاحبه هذا يعتذر له كثيرًا ويتهجم على معارضيه من أهل الإسلام.
(16) السابق، ص 25.
(17) بل أحكام الشريعة ! ولكنها المدافعة بالباطل !
(18) السابق، ص 56.
(19) السابق، ص 84.
(20) السابق، ص 75.
(21) السابق ، ص 148.
(22) الإبانة لابن بطة (2/456).
(23) انظرها في رسالة "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع" للدكتور إبراهيم الرحيلي (2/529-563).
(24) إلا لمن أراد الرد على هذا الإنتاج العفن ، وتحذير الأمة منه ، بعد أن يتزود بالعلم الشرعي النافع .(4/7)
(25) انظر على سبيل المثال: "الشريعة" للآجري (3/574 وما بعدها)، و"أصول اعتقاد أهل السنة" للالكائي (2/114 وما بعدها)، و"الإبانة" لابن بطة (2/429 وما بعدها)، و"السنة" لعبد الله بن أحمد. (1/137 وما بعدها) و"البدع والنهي عنها" لابن وضاح، وغيرها.
(26) الإبانة، لابن بطة (2/438).
(27) السابق، (2/436).
(28) الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/220).
(29) أخرجه أبو داود (4319)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.(4/8)
أخطار (الجامعة الأمريكية) في البلاد الإسلامية
ملف متنوع يبين حقيقة نشأة الجامعة الأمريكية وأهدافها في بلاد الإسلام
خبر عاجل !
أول جامعة أمريكية في المملكة:
يعتزم مستثمر سعودي إنشاء جامعة أمريكية في مدينة جدة بتكلفة تصل إلى 600 مليون ريال في عام 2005 المقبل، وكشف عبد الله عايش القرشي رئيس مجلس إدارة البزوغ العالمية لتعليم اللغات للجاليات الفرانكوفونية إن الجامعة المزمع إقامتها بعدة كليات تم التوقيع على اتفاقية بخصوصها للتعاون مع فرع الجامعة الأمريكية في بيروت. وقال لـ(المدينة) إن الاتفاقية تتضمن أن يقوم فرع الجامعة الأمريكية في بيروت بإجراء دراسات الجدوى الاقتصادية والتعليمية ووضع اللمسات النهائية لهذه الجامعة الجديدة التي سيكون مقرها في مدينة جدة، مشيراً إلى أن فريق العمل الخاص بهذه الدراسات من المتوقع أن يصل إلى جدة قريباً للبدء في الدراسات الأولية للمشروع. ولم يكشف القرشي عن أسلوب تمويل هذا المشروع سواء من خلال دخول شركاء ومستثمرين سعوديين أو أجانب لكنه أكد على أنه سيتم اختيار التخصصات النادرة والتي يتطلبها سوق العمل في المملكة العربية السعودية لتدريسها منذ المراحل الأولى؛ خاصة وأن الدراسات سوف تستند إلى احتياجات سوق العمل السعودي ومدى احتياجاته للتخصصات النادرة والدقيقة. وأوضح إن الهيئة التدريسية والأكاديميين سيتم الاستعانة بهم من خلال الخبرات التي تتمتع بها الجامعة الأمريكية في بيروت(1)، وأشار في الوقت نفسه إلى أن الدراسة ستبدأ في الجامعة الجديدة بعدد محدود من الكليات والأقسام، ويتوقع بدء الدراسة الفعلية في منتصف سبتمبر عام 2005م بطاقة استيعابية تقارب 500 طالب وطالبة، وتبلغ رسول التسجيل ما بين (3-5) آلاف دولار في العام الدراسي، إضافة إلى رسوم الخدمات الأخرى التي تقدم وفق الأسعار المعروفة.(5/1)
الجدير بالذكر أن هناك مؤشرات تؤكد أن قرابة خمسة آلاف طالب سعودي اتجهوا للدراسة في خارج المملكة في الوقت الذي تتفق التوجهات عامة للدولة في فتح المجال أمام الاستثمار في مجال التعليم بشكل عام والتعليم الجامعي بشكل خاص.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وآله وصحبه .
لقد نشأت فكرة إعداد هذه المادة عن الجامعة الأمريكية في ديار المسلمين بعد لقاء مع أحد الشباب في بعض دول الخليج ممن ارتضت أن تمكن لهذه الجامعة من فتح فرع لها على أراضيها؛ حيث كان هذا الشاب الفاضل يحدثني عن خطورة هذا الأمر على أبناء البلد ممن سيدرس في هذه الجامعة اغترارًا بقدراتها التنظيمية الدنيوية ومهاراتها التعليمية، متغافلاً أو متجاهلاً عن ما قد تزرعه في فكره من شبهات وأفكار منحرفة من خلال مناهجها الموجهة لهدف محدد يخدم مصالح من أنشاؤها.
عندها فكرت بجمع مادة متنوعة عن هذه الجامعة(نشأتها-غاياتها)كي تكون وثيقة إدانة لها،وسبباً نافعاً بإذن الله في التحذير منها،ولفت أنظار شباب الإسلام إلى خطورتها(2)،وأنها مجرد وسيلة من وسائل الغزو التغريبي لهذه الأمة.
ولقد تبين لي من خلال تأمل ما كتب عن هذه الجامعة أن لها أهدافاً ثلاثة تروم إلى تحقيقها من خلال انتشارها في بلاد المسلمين:
الهدف الأول: تنصير أبناء المسلمين! من خلال تلقينهم مبادئ الديانة النصرانية التي جعلوها كمادة إلزامية لراغبي الدراسة فيها(3)!
الهدف الثاني: تشكيك أبناء المسلمين في دينهم، من خلال إدخال الشبه عليهم، وزرع بذور الزيغ والإلحاد بينهم. وكذا نشر الانحراف الخلقي من باب أولى(4).
الهدف الثالث: تكوين طليعة أو نخبة من أبناء المسلمين (لا سيما من يسمون أبناء الذوات!) في كل بلد تدخله هذه الجامعة ليكونوا قادة المستقبل وأصحاب القرار فيه فيما بعد، والتمكين لهم من ذلك بعد حقنهم بالفكر العلماني وقطع صلتهم بدينهم.(5/2)
أما الهدف الأول: ففي ظني أنهم قد فشلوا في تحقيقه فشلاً ذريعًا –ولله الحمد-، وهذا أمر أصبح يعرفه كثير من المسلمين.
وأما الهدف الثاني: فقد تحقق لهم فيه نسبة لا يستهان بها –كما سيأتي- حيث تخرج من جامعتهم ثلة منحرفة من أبناء المسلمين كانت أشد حرباً على الإسلام وأهله من عُبّاد الصليب.
وأما الهدف الثالث: فهو –في ظني- أخطرها وأنكاها، وهو –والله أعلم- ما سيركزون عليه جداً في الفترة القادمة؛ لأنهم من خلال صنعهم لهذه الطليعة العلمانية من قادة المستقبل والمتنفذين في مجتمعات المسلمين يضمنون –لأزمان طويلة- تبعية هذه المجتمعات لهم، وخضوعها لأفكارهم، ثم قيادتها وسوقها كيفما شاؤا من خلال طليعة المنافقين.
فهذه الجامعة الخبيثة بفروعها ستكون معامل متنقلة لتفريخ رويبضات المستقبل في بلاد الإسلام ممن سيجثمون على صدره ويتولون نيابة عن أسيادهم محاربة أهله والتضييق عليهم .
وصدق الله تعالى إذ يقول (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) .
وتأمل –رعاك الله كما سيأتي- إهمال هذه الجامعة للعلوم الدنيوية(5) النافعة من طب وهندسة وكيمياء وفيزياء وغيرها، وتركيزها على علوم التربية والنفس والاجتماع وغيرها من العلوم التي يسهل من خلالها غزو العقول المسلمة وتدميرها لتعلم وتتيقن أن نفع بلاد المسلمين لا يأتي في قائمتها، كما يظن المغفلون. وإنما الأهداف ما ذكرت لك مما استخلصه المتابعون لأنشطتها منذ نشأتها إلى اليوم.
فبلاد الإسلام –لا سيما بلادنا- ليست بحاجة إلى مثل هذه الجامعة –ولله الحمد- لأنها لن تفيدنا لا دينياً ولا دنيويًا، ونحن في غنية عنها –إن احتجنا التوسع في التعليم الجامعي الأهلي- بجامعات تنشأ من بيئتنا وتنهج النهج الإسلامي (السلفي) في مناهجها، وتستفيد من العلوم الدنيوية النافعة التي هي مشتركة بين جميع الأمم، والموفق من وفقه الله.(5/3)
وتنبه بعد هذا إلى أنه ليس لي من جهد في هذه المواد المعروضة بين يديك مع هوامشها(6) سوى تنظيمها وجمعها في مكان واحد .
أخيراً: أتمنى ممن لديه أي معلومات عن هذه الجامعة أو ما كتب فيها أن يبعث به إليّ –مشكورًا- لأتمكن من إضافته إلى هذه المواد.
أسأل الله أن ينفع بما جمعت، وأن يكون سببًا في تبصير أبناء المسلمين لما يُكاد لهم، وأن يوفق ولاة أمرهم للتصدي لهذا الغزو الجديد، وأن يعلموا أنه لا عز لهم ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بتحكيم شرع الله، والبعد عن ما يخالفه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
محتويات البحث :
أولاً: مقال بعنوان: "الجامعة الأمريكية ببيروت مركز لنشاط المخابرات والسفارة الأمريكية.."، نشر في مجلة المجتمع الكويتية، العدد (200).
ثانياً: مقال بعنوان: "لماذا الجامعة الأمريكية الآن" نشر في مجلة المجتمع الكويتية .
ثالثاً: مقال بعنوان: "الدور التغريبي للجامعة الأمريكية في بيروت" نشر في مجلة المجتمع الكويتية، العدد (917).
رابعاً: جزء من كتاب: "التبشير والاستعمار في البلاد العربية" للدكتور مصطفى الخالدي والدكتور عمر فروخ، ص 96-110.
خامساً: جزء من بحث بعنوان: "الغزو الثقافي أهم قضايا التعليم المعاصر" للدكتور إبراهيم سليمان عيسى، مقدم إلى مؤتمر تطوير مناهج التربية الدينية الإسلامية في التعليم العام بالوطن العربي، ص 47-49.
سادساً: جزء من كتاب: "الجذور التاريخية لإرسالية التنصير الأجنبية في مصر" للدكتور خالد نعيم، ص 85-92.
سابعاً: بحث بعنوان: "الجامعة الأمريكية والتبعية الثقافية" للدكتور كمال نجيب، نشر في مجلة التربية المعاصرة، العدد: 49، ص 155-190.
ثامناً: مقال بعنوان: "كيف تحارب الجامعة الأمريكية الإسلام في مصر؟" للدكتورة ليلى بيومي، نشر في مجلة المختار الإسلامي، العدد: 62، ص 78-89.(5/4)
تاسعاً: عرض موجز لكتاب "اختراق العقل المصري" للدكتور رفعت سيد أحمد، نشر في مجلة العلوم الاجتماعية، الكويت، المجلد 16، العدد1، 1988.
عاشراً: عرض مطول لكتاب: "أهداف الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 1920-1980" للدكتورة سهير البيلي، نشر في مجلة البيان، العدد (180).
تابع قراءة الرسالة على ملف وورد
-----------------
[1] ستأتيك حقيقة هذه الخبرات! وفاقد الشيء لا يعطيه. (س) .
[2] ثم عزمت الأمر على نشرها بعد أن نُشر خبرٌ يقول بأن هذه الجامعة الموبوءة قد قررت فتح فرع لها في بلاد التوحيد: المملكة العربية السعودية !! –إنا لله وإنا إليه راجعون-.
[3] ثم ألغوا ذلك –كما سيأتي-؛ لأنه كان سبباً في انصراف كثير من أبناء المسلمين عنها. فأصبح هذا الأمر فيما بعد يتم في الخفاء .
[4] وسيأتي خلال البحث –إن شاء الله- نماذج لأفكار ومقالات بعض المسلمين ممن تخرجوا في الجامعة تنبئك عن مدى حقدهم على شرائع الإسلام!، حيث فاقوا في هذا –أخزاهم الله- أساتذتهم النصارى.
[5] أما العلوم الشرعية فهذه الجامعة ليست مؤهلة للخوض فيها أصلاً. إلا أن تكون علوم التوراة والإنجيل!
[6] وما قد أضيفه من هوامش فإني أتبعه بحرف (س) .(5/5)
أربع عِبرَ.. من :
مذكرات أحد رموز جماعة "الإخوان المسلمين"
لحفظ أو فتح الملف بصيغة وورد اضغط على الأيقونة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
يعد الدكتور "توفيق الشاوي" واحدًا من الرعيل الأول لجماعة "الإخوان المسلمين" ممن صحبوا الشيخ حسن البنا –رحمه الله- وأنصتوا لدعوته وآمنوا بها، فبذل جهودًا كبيرة لنشرها في العالم الإسلامي (طوال خمسين عامًا) لاسيما في بلاد المغرب العربي؛ التي اختص بها، وتعرف على همومها وطبيعتها.
كتب الشاوي مذكراته بعد هذا العمر المديد تحت عنوان "مذكرات نصف قرن من العمل الإسلامي"، وصدرت في قريب من 600 صفحة عن دار الشروق بمصر عام 1419هـ، تحدث فيها عن تجربته في العمل الإسلامي وما واجهه من تحديات وعقبات، وانطباعاته من شخصيات وجمعيات وحكومات.
وأثناء قراءتي لهذه المذكرات كانت تعرض لي فيها صفحات وخلاصات وعبارات مهمة قيدها صاحبها من واقع تجربة وتمرس، يحسن بكل عامل للإسلام في هذا الزمان أن يتأملها ويتدبرها ويأخذ العبرة منها ليستفيد اللاحق من السابق.
فأحببت لأجل هذا أن أنتقي هذه المواضع المهمة وأضعها بين يدي إخواني من طلبة العلم ودعاة الإسلام، مكتفياً بعنونتها والتعليق اليسير عليها؛ لعلهم يجدون فيها ما يغنيهم عن الجهود الضائعة، ويصرفهم إلى الجهود النافعة التي تسارع بالأمة إلى تحقيق آمالها.
ويحسن قبل هذا: التعريف الموجز بالدكتور الشاوي وبمؤلفاته كما جاءت في خاتمة مذكراته (ص 568-572):
تعريف بالدكتور توفيق الشاوي:
- ولد في مدينة المنصورة، وحفظ القرآن الكريم مبكراً.
- تخرج في كلية الحقوق.
- انضم إلى جماعة "الإخوان المسلمين" خلال دراسته الجامعية.
- تعين مدرسًا مساعدًا في كلية الحقوق.
- سافر إلى فرنسا لدراسة الدكتوراه، وحصل عليها عام 1949م.
- بعد عودته تعين مدرسًا بالكلية المذكورة.(6/1)
- كلفته جماعة الإخوان بالاتصال بزعماء الحركات الوطنية في بلاد المغرب العربي "الجزائر، المغرب، تونس"فانصبت اهتماماته على قضاياهم.
- سجن مع من سجن من جماعة الإخوان في عهد عبد الناصر.
- بعد خروجه من السجن تعين قاضياً بالمحكمة العليا بالرباط عام 1959م وأستاذًا بجامعة محمد الخامس.
- انتقل إلى السعودية عام 1965م حينما تعاقدت معه وزارة البترول مستشارًا قانونياً لإدارة الثروة المعدنية في جدة.
- عينه الملك فيصل عضوًا بالمجلس الأعلى لجامعة الرياض عام 1965م ثم منحه الجنسية السعودية عام 1966م.
- تعين أستاذًا للقانون والفقه المقارن بكلية الاقتصاد بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة عام 1968م.
- تعاون مع الأمير محمد الفيصل في إنشاء مدارس "المنارات"
- شارك في تأسيس البنك الإسلامي للتنمية، وبنك فيصل الإسلامي بالخرطوم والقاهرة.
أهم مؤلفاته :
1- فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة، 1995م.
2- موسوعة عصرية للفقه الجنائي الإسلامي.
3- عبد الرزاق السنهوري من خلال أوراقه الشخصية، 1988م.
4- كتب عديدة في القانون الوضعي !
تنبيه :
يستغرب المسلم من انكباب الدكتور على التأليف في القانون الوضعي، بل تدريسه!، إضافة إلى تمجيده لمن أقاموا صروحه في بلاد المسلمين؛ كالسنهوري (1). متغافلاً عن خطورة هذا الأمر على دينه حيث فيه الرضا بالحكم بالطاغوت وإقراره في بلاد الإسلام، والله يقول (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، ويقول في المنافقين (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدًا).
ومما يزيد العجب والحيرة أن يصدر هذا من رجل ينتسب إلى جماعة إسلامية قامت –كما يقول أصحابها- لتعيد الحكم بالإسلام إلى ديار المسلمين! فتأمل هذا التناقض.(6/2)
ويحسن هنا أن أذكر فتوى سماحة الشيخ ابن باز –رحمه الله- فيمن يقوم بدراسة القوانين الوضعية أو تدريسها لعلها تكون مبصرة لمن يتهاون في هذا الأمر الخطير.
فتوى الشيخ ابن باز فيمن يدرس القوانين الوضعية :
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ أحمد بن ناصر بن غنيم زاده الله من العلم والإيمان وجعله مباركا أينما كان آمين .
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد : فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 3 / 5 / 1397 هـ وصلكم الله بهداه ولم يقدر الله اطلاعي عليه إلا منذ خمسة أيام أو ستة ، وقد فهمت ما تضمنه من السؤال عن حكم من درس القوانين الوضعية أو تولى تدريسها هل يكفر بذلك أو يفسق؟ وهل تصح الصلاة خلفه؟
والجواب : لا ريب أن الله سبحانه أوجب على عباده الحكم بشريعته والتحاكم إليها ، وحذر من التحاكم إلى غيرها ، وأخبر أنه من صفة المنافقين ، كما أخبر أن كل حكم سوى حكمه سبحانه فهو من حكم الجاهلية ، وبين عز وجل أنه لا أحسن من حكمه ، وأقسم عز وجل أن العباد لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا من حكمه بل يسلموا له تسليما ، كما أخبر سبحانه في سورة المائدة أن الحكم بغير ما أنزل كفر وظلم وفسق ، كل هذه الأمور التي ذكرنا قد أوضح الله أدلتها في كتابه الكريم ، أما الدارسون للقوانين والقائمون بتدريسها فهم أقسام :(6/3)
( القسم الأول ) من درسها أو تولى تدريسها ليعرف حقيقتها أو ليعرف فضل أحكام الشريعة عليها أو ليستفيد منها فيما لا يخالف الشرع المطهر أو ليفيد غيره في ذلك فهذا لا حرج عليه فيما يظهر لي من الشرع ، بل قد يكون مأجورا ومشكورا إذا أراد بيان عيوبها وإظهار فضل أحكام الشريعة عليها ، والصلاة خلف هذا القسم لا شك في صحتها ، وأصحاب هذا القسم حكمهم حكم من درس أحكام الربا وأنواع الخمر وأنواع القمار ونحوها كالعقائد الفاسدة ، أو تولى تدريسها ليعرفها ويعرف حكم الله فيها ويفيد غيره ، مع إيمانه بتحريمها كإيمان القسم السابق بتحريم الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشرع الله عز وجل وليس حكمه حكم من تعلم السحر أو علمه غيره .
لأن السحر محرم لذاته لما فيه من الشرك وعبادة الجن من دون الله فالذي يتعلمه أو يعلمه غيره لا يتوصل إليه إلا بذلك أي بالشرك بخلاف من يتعلم القوانين ويعلمها غيره لا للحكم بها ولا باعتقاد حلها ولكن لغرض مباح أو شرعي كما تقدم .
( القسم الثاني ) من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها ليحكم بها أو ليعين غيره على ذلك مع إيمانه بتحريم الحكم بغير ما أنزل الله ، ولكن حمله الهوى أو حب المال على ذلك فأصحاب هذا القسم لا شك فساق وفيهم كفر وظلم وفسق لكنه كفر أصغر وظلم أصغر وفسق أصغر لا يخرجون به من دائرة الإسلام ، وهذا القول هو المعروف بين أهل العلم وهو قول ابن عباس وطاووس وعطاء ومجاهد وجمع من السلف والخلف كما ذكر الحافظ ابن كثير والبغوي والقرطبي وغيرهم ، وذكر معناه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب ( الصلاة ) وللشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله رسالة جيدة في هذه المسألة مطبوعة في المجلد الثالث من مجموعة ( الرسائل الأولى ) ،(6/4)
ولا شك أن أصحاب هذا القسم على خطر عظيم ويخشى عليهم من الوقوع في الردة ، أما صحة الصلاة خلفهم وأمثالهم من الفساق ففيها خلاف مشهور ، والأظهر من الأدلة الشرعية صحتها خلف جميع الفساق الذين لم يصل فسقهم إلى حد الكفر الأكبر ، وهو قول جم غفير من أهل العلم واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
والمعلمون للنظم الوضعية والمتعلمون لها يشبهون من يتعلمون أنواع الربا وأنواع الخمر والقمار أو يعلمونها غيرهم لشهوة في أنفسهم أو لطمع في المال مع أنهم لا يستحلون ذلك ، بل يعلمون أن المعاملات الربوية كلها حرام ، كما يعلمون أن شرب المسكر حرام والمقامرة حرام ، ولكن لضعف إيمانهم وغلبة الهوى أو الطمع في المال لم يمنعهم اعتقادهم التحريم من مباشرة هذه المنكرات وهم عند أهل السنة . لا يكفرون بتعاطيهم ما ذكر ما داموا لا يستحلون ذلك كما سبق بيان ذلك .
( القسم الثالث ) من يدرس القوانين أو يتولى تدريسها مستحلا للحكم بها سواء اعتقد أن الشريعة أفضل أم لم يعتقد ذلك فهذا القسم كافر بإجماع المسلمين كفرا أكبر . لأنه باستحلاله الحكم بالقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله يكون مستحلا لما علم من الدين بل لضرورة أنه محرم فيكون في حكم من استحل الزنا والخمر ونحوهما ، ولأنه بهذا الاستحلال يكون قد كذب الله ورسوله وعاند الكتاب والسنة ، وقد أجمع علماء الإسلام على كفر من استحل ما حرمه الله أو حرم ما أحله الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة ومن تأمل كلام العلماء في جميع المذاهب الأربعة في باب حكم المرتد اتضح له ما ذكرنا .(6/5)
ولا شك أن الطلبة الذين يدرسون بعض القوانين الوضعية أو المدخل إليها في معهد القضاء أو في معهد الإدارة لا يقصدون بذلك أن يحكموا بما خالف شرع الله منها ، وإنما أرادوا أو أريد منهم أن يعرفوها ويقارنوا بينها وبين أحكام الشريعة الإسلامية ليعرفوا بذلك فضل أحكام الشريعة على أحكام القوانين الوضعية ، وقد يستفيدون من هذه الدراسة فوائد أخرى تعينهم على المزيد من التفقه في الشريعة والاطمئنان إلى عدالتها ،
ولو فرضنا أنه قد يوجد من بينهم من يقصد بتعلمها الحكم بها بدلا من الشريعة الإسلامية ويستبيح ذلك لم يجز أن يحكم على الباقين بحكمه؟ لأن الله سبحانه يقول : (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ) أُخْرَى ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يجني جان إلا على نفسه".
وبما ذكرنا يتضح لفضيلتكم أن القدح في إمامة الطلبة المذكورين والحكم بعدم صحة الصلاة خلفهم أمر لا تقره الشريعة ، ولا يقره أهل العلم ، وليس له أصل يرجع إليه ، وأرجو أن يكون ما ذكرته مزيلا لما وقع في نفس فضيلتكم من الشك في أمر الطلبة المذكورين في القسم الأول ، أو تفسيقهم أو تكفيرهم ، أما القسم الثاني فإنه لا شك في فسقهم ، وأما القسم الثالث فإنه لا شك في كفر أهله وعدم صحة الصلاة خلفهم .
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه ، وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ومن مضلات الفتن إنه سميع قريب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) . انتهى من مجموع فتاوى الشيخ ابن باز ( 2 / 325 – 331 ) باختصار .
العِبرة الأولى : هل يمكن التقارب مع العلمانيين ؟!
يخطئ بعض الدعاة عندما يظن أن باستطاعته أن يقيم حلفًا مشتركًا بين أهل الإسلام والتيار العلماني "المنافق" ضد عدوٍ مشترك! ويقدم لأجل ذلك كثيرًا من التنازلات المتتالية التي تثلم دينه لعله يرضي أحفاد ابن سلول. فيصدق فيه قول الشاعر:(6/6)
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله *** والزاد حتى نعله ألقاها !
ثم يكتشف في نهاية الأمر أن الطابور الخامس قد اتخذه سلمًا ومطية وواجهة شعبية للوصول إلى أغراضه بالتعاون مع دول الكفر "من اليهود والنصارى" حتى إذا وصل المنافق إلى مبتغاه قلب ظهر المجن وتنكر لأهل الإسلام، ورماهم عن قوس واحدة، والتجارب الكثيرة شاهدة لهذا، ولكن أين المعتبر؟!
والحل: أن لا يشغل أهل الإسلام بالهم بأمر إرضاء بني علمان أو التعاون معهم، بل يواصلون فضحهم والنفير منهم، وعدم تقريبهم بعد إذ أبعدهم الله، مع مواصلة نشر الدعوة بين عامة المسلمين، فهذا أنكى بأسًا وأشد وقعًا على الطائفة المنافقة. جاعلين شعارهم قوله تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) وقوله سبحانه (ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم) حذرين من أن يقعوا فيما حذر الله منه بقوله تعالى (لا تلبسوا الحق بالباطل) وقوله (ودوا لو تدهن فيدهنون) وقوله (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا)
والدكتور توفيق الشاوي يعترف بأنه كان ممن انخدعوا بفكرة التقارب من أهل العلمنة رغم نصح الناصحين! إلا أنه استمر في هذا الطريق ولم يكتشف خطأه وخطورته إلا متأخرًا ! فلعل في اعترافه ما يكون عبرة لغيره ممن لا زالوا في أول خطى هذا الطريق المظلم.(6/7)
يقول الشاوي (ص5-6): "خلال هذه التجارب الطويلة لاحظت أخطاء كثيرة وعيوباً لابد من نقدها وأبدأ في الاعتراف بما وقعت فيه من خطأ أو تقصير كانت له نتائجه ... فأعتذر لكثير من إخواني الذي طالما عابوا عليّ التعاون مع من كانوا يعتبرونهم غير جديرين بالثقة التي أوليتهالهم، وأن ولاءهم للإسلام مشكوك فيه، وكانوا يحذرونني من هذه الثقة فيمن يرفعون شعارات غير إسلامية، وكنت أقنع نفسي أن الوطنية تكفي لكي تجمعني بهم في ساحة الكفاح الوطني، لكنهم كانوا يردون بأن وطنيتهم ليست كما كانت شعوبنا تعتبرها مجرد مرحلة من مراحل كفاحها في سبيل التحرر الكامل، و"الوحدة الشاملة" و"الأصالة الإسلامية" التي نعتز بها، وأن كثيرين منهم إنما يعتبر شعارات الوطنية والقومية والاشتراكية والديمقراطية مجرد بديل عن الانتماء الإسلامي أو مبرراً للتنصل من التزامات العقيدة والأصالة الإسلامية، وأنها تمكنهم من معاداة ذلك كله عند الاقتضاء بحجة أن هذا الاتجاه قد فات أوانه، أو أنه لم يعد يصلح لهذا الزمان أو أنه يغضب القوي الأجنبية المسيطرة التي نستجدي منها القروض والمساعدات.
الآن اكتشفت أن هذا النقد الذي وجه إليّ كان صحيحاً، وأن كثيراً من الوطنيين الذين وثقت فيهم أو عاونتهم وتعاونت معهم من أجل الاستقلال لم يكونوا جديرين بهذه الثقة؛ لأنهم قبلوا السير في طريق العداء للفكر الإسلامي والوحدة الشاملة لجميع شعوبنا وتحررها الكامل ولكنني بكل أسف لم أعرف ذلك إلا تدريجياً بعدما كشفت عنه كثير من المواقف والحوادث بعد الاستقلال، وخاصة لدى كثير ممن استولوا على السلطة، وسعوا لاحتكارها بعد كل ما قمنا به من أجل التعاون الشامل وما قدمه المجاهدون الإسلاميون من تضحيات، كما نرى في كثير من بلادنا حيث تبنى كثير من الحكام الوطنيين سياسة خصومة وعداء للإسلام، وفكره، وتاريخه، ومن يعملون له، مما يثير الفتن التي نشكو منها في كثير من بلادنا.(6/8)
لقد بدأت أسترجع الأحداث التي عاصرتها، أو شاركت فيها مع من وثقت في وطنيتهم من أصدقائي، لأكشف الدلائل التي بينت لي أن من وصل إلى الحكم منهم قد انحاز إلى صفوف أعداء الفكر والتيار الإسلامي الأصيل، بل إنهم اختاروا هذا الأسلوب ومارسوه فعلاً دون أن ألحظه إلا بعد فوات الأوان.
لذلك فإني قررت أن أعرض تجاربي خلال هذه الخمسين عاماً من حياتي لأستكشف أسباب هذه النهاية الحزينة التي تقاسيها جماهيرنا المؤمنة بأصالتها، ويواجهها العاملون للإسلام بعد الاستقلال الوطني رغم ما قدمناه من تضحيات في سبيله؛ لأننا اعتبرناه خطوة ضرورية لكي تواصل شعوبنا جهادها للتحرر الكامل والوحدة الشاملة.
إنني آمل ألا يعتبر القراء كتابي تاريخاً أو مجرد تسجيل لأحداث شهدتها، ولا إحصاء للأخطاء التي أدت إلى هذا الفشل الذي نقاسي مرارته، وإنما هو قبل كل شيء دروس وعبر استخلصتها لأقدمها للجيل الناشئ، ومن يأتون بعدنا لعلهم يستفيدون منها في تصحيح مسيرة شعوبنا؛ حتى تستطيع أمتنا العربية الإسلامية العريقة الأصيلة أن تحقق النصر الذي وعد به الله عز وجل عباده الصالحين".
العبرة الثانية: الطواغيت يرددون : "على نفسها جنت براقش" !
أجرم كثير من الطواغيت العرب بحق أهل الإسلام، وعملوا على حربهم والتنكيل بهم والتضييق عليهم، وتشويه دعوتهم، كل هذا قربانًا يقدمونه لدول الكفر التي ساهمت وساعدت في نصبهم حكامًا على رقاب المسلمين؛ إلا أن هؤلاء الحكام المجرمين جهلوا أنهم بفعلهم المشين هذا يُضعفون بلادهم ويجعلونها صيدًا سهلاً لدول الاستكبار لنهب خيراتها ومسخ شخصيتها. ثم سرعان ما تنقلب تلك الدول الكافرة عليهم عندما تحترق أوراقهم أو تتعارض مصالح الفريقين، وقد بدأ هذا الأمر على أرض الواقع فيما نراه اليوم في حرب العراق. عندها يحق لهؤلاء الحكام أن يرددوا: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.(6/9)
ولو أن هؤلاء الحكام نصروا الإسلام وأهله وتواثقوا معهم ضد الأعداء، لما وجد أولئك الأعداء موطئ قدم لهم في ديار الإسلام يمكنهم من تفتيت وحدته أو استغلال خيراته، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد، وعسى أن يتصالح الحكام مع أهل الإسلام ضد أعداء الله ويقوموا جميعًا بنصر دينه وإعلاء كلمته فيكفروا عن سيئاتهم، وما ذلك على الله بعزيز.
يقول الشاوي (ص7-8): "لقد تبين لي أن أخطر هذه المكاسب الوقتية العاجلة التي استخدمتها بعض الدول الكبرى لإغراء بعض الوطنيين أو القوميين هو الاستقلال الذي كنا نهتف له، وننادي به في مظاهرات الطلاب ومسيرات الجماهير، وفي حين كنا شباباً نفهم الاستقلال على أنه شامل لجميع أوطاننا، وأنه تحرر كامل لجميع شعوبنا بلا استثناء، وإيجاد دولة وأمة كبرى تمكننا من الاكتفاء الذاتي في الغذاء والإنتاج المدني والعسكري، وإيجاد اقتصاد كبير يغنينا عن استجداء العون العسكري والمالي ممن يعادوننا. لقد تبين لنا الآن أن طائفة ممن يرفعون شعارات الوطنية لا يهمهم من الاستقلال إلا التربع على مقاعد السلطة في قطر صغير، وبلد فقير ضعيف محدود الإمكانيات لا يستطيع أن يعيش بدون معاونة الدول الأجنبية، وما يستجديه هؤلاء الوطنيون المسيطرون عليه من بعض الدول الكبرى الطامعة التي لا تقدم قروضاً ولا مساعدات إلا لمن يخضع لما تمليه عليه حكوماتها وخططها الإمبريالية.(6/10)
إن هذا الصنف من الوطنيين ما زال يواصل الخضوع لتوجيهات القوى الأجنبية التي لها خطط بعيدة المدى، وهو يعلم أنها تستلزم في نظرها تفريغ استقلال الدول الصغيرة من محتواه الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، بل والعسكري والسياسي وبقائه محصوراً في نطاق قطري ضيق، يعزل كل شعب من شعوبنا عن الشعوب الشقيقة أو المجاورة، بل ويدخله في خصومات أو معارك إقليمية أو داخلية مع أشقائه وجيرانه لا تنتهي، وبذلك يتحول استقلال كل قطر إلى وسيلة لانفصاله عن كيان الأمة الكبرى العربية والإسلامية، وعن وحدتها التي سادت منطقتنا قرونا طويلة، ومكنتها من أن تبني أعظم حضارة في عهود الإسلام الزاهرة.
هذه النظم تقبل السير فيما رسمته القوى الأجنبية من خطط لاستبعاد الإسلام ذاته من كيان الشعب وذاتيته، وثقافته وقيمه الأصيلة، مقابل بعض المساعدات والقروض والأسلحة والنصائح التي يؤدي إلى التبعية التي تربطها بالقوى الكبرى المهيمنة على النظام العالمي، وتتخذه وسيلة لفرض سيطرتها على شعوبنا بحجة العولمة تارة، والشرق الأوسط تارة أخرى.
إن هؤلاء يظنون أنهم يستغلون أموال القوى الأجنبية ونفوذها للبقاء في السلطة، وينسون أنها هي التي تستغلهم وتخدعهم، وقد رأينا كيف استغل زعماء الثورة العربية الكبرى ما قدمه لهم "لورنس" من ذهب بريطانيا، ومن وعود كاذبة بدعم استقلالهم عن تركيا، بل ووحدة العرب بعد انفصالهم عنها، وتبين أن بريطانيا هي التي خدعتهم واستغلتهم؛ لتنتصر هي وحلفاؤها على الدول العثمانية وتستولي على الأقطار العربية وتمزق وحدتها.
والذين يظنون أنهم يستغلون مساعدات الدول الكبرى ينسون أن ما يقومون به لاقتلاع جذور الفكر الإسلامي، والقضاء على التيار الإسلامي؛ هو هدف استراتيجي لأعدائنا؛ لأنه يسهل لهم تنفيذ مخطط استراتيجي طويل المدى يحرمون فيه شعوبنا من الوحدة حتى يستغل الاستعمار الأجنبي ثرواتها، ويفرض سيطرته على دولها أطول فترة ممكنة".(6/11)
ويقول (ص72): "الحقيقة أن الكفاح الوطني بدأ دائماً صورة من صور الجهاد الإسلامي في مرحلة معينة للقضاء على الاحتلال العسكري الأجنبي الذي يمكن أعداء الإسلام من تنفيذ مخططاتهم الاستيطانية لغرس مستوطنين أجانب في أقاليم عربية وإسلامية كما كان الأمر في الجزائر وفلسطين وليبيا، أو تكوين طبقات مستغربة عميلة في مصر وغيرها من الأقطار تتولى تنفيذ مخططات القوى الأجنبية الرامية إلى فرض التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية على أمتنا بواسطة حكومات وطنية لا تستطيع البقاء إلا في ظل هذه التبعية، وتفرض عليها أن تمارس العلمانية التي تسوقها نحو الانفصال عن التيار الشعبي الإسلامي، وتؤدي إلى تورطها في السير في طرق القمع والاضطهاد لرموز هذا التيار وقياداته الفكرية والهيئات والمنظمات التي تعبر عن هذا التيار الشعبي.
إن الوضع قد تغير عندما تم في بعض الأقطار تصالح الأحزاب والحكومات الوطنية مع القوى الأجنبية، ووصل التصالح إلى درجة قيام بعضها بالتعاون مع تلك القوى الأجنبية ومساعدتها في تنفيذ مخططاتها بعد الاستقلال، بل جعل بعض هذه الدول القطرية وحكوماتها عاجزة عن توفير أسباب الاكتفاء الذاتي في النواحي الاقتصادية والدفاعية، وجعلها تستجدي المال والسلاح من القوى الأجنبية مقابل أن تسير في ركابها وتقبل ما فرضته عليها من التنكر لمقومات الأمة وأصالتها وعقيدتها ووحدتها ومقاومة دعاتها، بحجة فصل الدين عن الدولة أو رفع شعارات علمانية لا دينية تزعم أنه لا دين في السياسة.(6/12)
هنا بدأت الحركة الإسلامية في الانفصال عن الحكومات الوطنية الحزبية أو الدكتاتورية التي انحرفت عن الأهداف الإسلامية الشاملة التي تؤمن بها القاعدة الشعبية، وعارضت الحكام الذين ساروا في طريق الدكتاتورية لفرض الشعارات المستوردة والاتجاهات اللادينية أو العلمانية أو القومية العنصرية، كما فعل أتاتورك ومن سار على نهجه وهذه هي المرحلة الثانية، مرحلة الانفصال بين الحكم الوطني الذي يتجه نحو العلمانية القطرية، والتيار الإسلامي الذي يدافع عن الأصالة والوحدة الإسلامية التاريخية الشاملة".
ويقول (ص267) : "في مارس 1956م خرجت من المعتقل في القاهرة بعد سنتين تقريباً، كانت فيها حركة الإخوان المسلمين هدفاً لكل وسائل الاضطهاد من قتل وتعذيب وتشريد، ولم يقتصر الاضطهاد على أعضائها، ولكنه امتد إلى كل من له نشاط إسلامي في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي؛ بحجة أنه مؤيد للإخوان أو أنه سوف يؤيدها في يوم من الأيام.
خلال تلك الليالي المظلمة، والأيام العسيرة، بل وبعد خروجنا من السجن كان السؤال الذي يشغلنا دائماً هو: كيف أن الاضطهاد والتعذيب والسجن والقتل الذي تعرضنا له تم على أيدي ضباط من حركة الجيش المباركة!! التي تحالفت مع الإخوان المسلمين وأقسم قادتها على الولاء للإسلام وشريعته، وأعلنت في بدايتها عام 1952م أن هدفها هو تحرير الشعب من الطغيان والفساد وفرض احترام الدستور والديمقراطية الصحيحة وضمان الحريات الكاملة للشعب والأفراد.
كيف تحول هؤلاء إلى حكام عسكريين مستبدين يضطهدون ويعذبون ويقتلون من يدافعون عن الدستور والحريات، ويطالبون بانتخابات حرة نظيفة؟! ولماذا يستخدمون أحط الأساليب للاستئثار بالسلطة واحتكارها والقضاء على كل من يخشون منه مشاركتهم في الحكم أو محاسبتهم على تصرفاتهم ؟!(6/13)
ليس هنا مجال للرد على هذه التساؤلات، لكن من واجبي أن أؤكد أن هذا الأسلوب كان يحقق للقوى الأجنبية وخاصة الصهيونية وإسرائيل هدفاً أساسياً في خططها التي تهدف إلى استبعاد جميع القيادات والأحزاب التي تصر إلى مواصلة المقاومة الشعبية لنفوذها بل ولوجود إسرائيل ذاته، وهي تعرف أن الشعوب تكره هذا النفوذ وترفضه وتقاوم وجودها ولذلك فإن من أهدافها حرمان شعوبنا من الاستقرار وتعطيل حرية اختيارها وتجفيف منابع العقيدة والأصول والمبادئ التي تستمد منها قدرتها على المقاومة وإرادتها في التحرر، والتي يعتقدون أن مصدرها العقيدي والتاريخي هو الإسلام".
ويقول (ص476): "لاحظت أن هذا المخطط تعمل له الدعاية والخطط الصهيونية التي تعرف أن العقيدة الإسلامية هي المنبع الأول لحركات الجهاد التي تعارض مخططاتها الاستيطانية والتوسعية في العالم العربي والإسلامي، وأنها تستغل نفوذها في الإعلام العالمي وتأثيرها السياسي لتدفع فرنسا وبريطانيا وأمريكا، وبعض الدول الأجنبية الأخرى في هذا الطريق.
أما في العالم العربي، فإن كثيراً من الحكومات المحلية تتورط فيه لأهداف حزبية أو وقتية دون إدراك للأهداف البعيدة لهذه السياسة التي ترمي لها القوى الأجنبية التي تصر على فرضها على دولنا جميعاً، بقصد عزلها عن جماهير شعوبها التي تعلن ولاءها للإسلام وثقتها بدعاته".
العبرة الثالثة: حاجة الحزبيين إلى عقيدة "الولاء والبراء":
لا زالت الحزبية البغيضة حاجزًا ومعوقًا لانتشار الدعوة الإسلامية بين الناس، وصارفة لمن تلبس بها عن التعاون مع إخوانه على البر والتقوى، بل أصبحت سببًا رئيسًا في تفرق أهل الإسلام وعمل بعضهم ضد بعض؛ ولو أدى بهم ذلك إلى التآزر مع أعداء الإسلام ضد إخوانهم ! وهذا ما يؤكد حاجة أبناء الدعوة الإسلامية إلى تشرب العقيدة الإسلامية الصافية التي تربيهم على مبدأ الولاء والبراء، وتنقلهم من ضيق الأحزاب إلى سعة الإسلام.(6/14)
وقد تحدث الدكتور الشاوي عن تجربة مرة له في هذا المجال؛ وهي محاولة التوفيق بين "جماعة الإخوان المسلمين" في الجزائر بقيادة رئيسها محفوظ نحناح -هداه الله- وجبهة الإنقاذ، إلا أن جهوده فشلت بسبب تجذر الحزبيات في النفوس، إضافة إلى إصابة بعض أهل الإسلام بمرض حب الرئاسة والتصدر، وقبل هذا كله –كما سبق- زهد كثير من هذه الشخصيات "الحركية" في العقيدة السلفية التي تضبط حركتهم بضابط الشرع، لا ضابط المصلحة والتنافس.
وإليك شيئًا من أقواله :
-يقول الشاوي (ص469): "أما الشيخ (محفوظ) فقد فهمت منه أنه غير مستعد للمبادرة بالاتصال مع قيادة الجبهة، فقلت له -عندما يئست من إقناعه- لا مانع عندي من أن تنسق مع جبهة التحرير وتتعاون معها إذا كنت لا تستطيع التعاون مع الإنقاذ، فاكتفى بأن قال لي: إن بن بيلا قد أرسل له من يدعوه لمقابلته، وطلب مني رأيي؛ لأنه يعلم علاقتي مع بن بيلا، ولكني قلت له: إنني لا رأي لي في هذا الموضوع؛ لأن ما أريده هو التنسيق مع الإنقاذ أو مع جبهة التحرير.
وغادرت الجزائر يائساً من أي محاولة لإقناعه بهذا التنسيق".
-ويقول (ص491-492) :"حاولت إقناع الشيخ محفوظ بوقف تصرفاته أو تصريحاته التي كانت غير موفقة في كثير من الأحيان لأنها تظهره بمظهر المعادي للجبهة وتثير أنصار الإنقاذ، وتوغر صدورهم عليه وعلى جماعته وكان المتسللون والعناصر المخربة هي التي تتخذ التطرف والنفاق وسيلة للتأثير على المسئولين لإحداث الشقاق بين الجميع.
ومما لا شك فيه أن حب الزعامة والرياسة هو مرض شائع لدى كثير من الوطنيين بل والعرب والإسلاميين أيضاً، والحجج التي يقدمها كل منهم لتبرير خصومته أو العاملين معه تكون في كثير من الأحيان ستاراً يخفي حب الظهور والتطلع للزعامة أو طموحه للانفراد بالزعامة أو الرياسة أو السلطة، سواء داخل الحكومة أو الحزب أو الهيئة.(6/15)
والأصل أن الإسلام والسلوك الإسلامي يوجب معالجة هذا المرض الموروث لدى العرب خصوصاً، ولدى كثير من المسلمين، إلا أنه إلى الآن لم يقض على هذه الظاهرة: ظاهرة الخلاف المتكررة والمتزايدة في صفوف العرب والمسلمين، التي تؤدي إلى الفتن التي تزعزع كيان الدولة والأمة، والتي تصل في بعض الأحيان إلى شغلهم بالخلافات الداخلية عن مواجهة المؤامرات والعداوات الأجنبية التي تهدد بلادهم وشعوبهم ومستقبلهم جميعا".
ويقول (ص494): "كنت معارضاً لقادة الهيئات والأحزاب الأخرى وخاصة من يرفعون شعارات إسلامية مثل الشيخ (محفوظ نحناح) لأنهم يتخلون تدريجياً عن المشاركة في هذه الانتفاضة الشعبية، بل ويعاونون العناصر المسيطرة على الدولة المتآمرة على الإنقاذ التي تقود هذه الثورة الإسلامية".
العبرة الرابعة: خروج الأعداء وبقاء العملاء :
لقد كان "الاستقلال" هدفًا مشتركاً يجمع أهل الإسلام وغيرهم من "الوطنيين" و"العلمانيين" في الدول الإسلامية الواقعة تحت ما يسمى "الاستعمار" فلما أيقنت الدول المستعمرة أن خروجها من بلاد الإسلام قادم لا محالة بسبب عدم قبول أهل البلاد "بمختلف توجهاتهم" لهذا الأمر مكرت المكر الكُبَّار وقررت أن تسلم مقاليد السلطة بعد رحيلها لأصحاب الطموح السياسي من الوطنيين والعلمانيين الذي يسهل انقيادهم لتنفيذ ما تريد، فلم تشد رحلها خارجة من بلاد الإسلام إلا بعد أن أخذت العهود منهم ليقوموا بحرب الإسلام وأهله خير قيام؛ عندها سيجدون التمكين والعيش الرغيد ! فكان لها ذلك وقام الطواغيت بمهمتهم الموكولة لهم؛ ليحق فيهم قوله تعالى (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا).(6/16)
يقول الشاوي (ص194) عن زيارته لأبورقيبة أثناء اعتقاله في فرنسا بسبب محاربته للاستعمار: "وزرت الرئيس بورقيبة فعلاً، وتغديت معه، وجلسنا مدة طويلة نتجاذب أطراف الحديث، ولم يكن معنا إلا زوجته الفرنسية التي لا تعرف العربية! ولذلك لم تشترك معنا في الحديث، بل آثرت ألا تشترك معنا في الغداء لكي نستطيع أن نتحادث بالعربية التي لا تعرف منها شيئاً، ولا زلت أذكر كيف كانت تخدمنا أثناء الطعام وحدها، ولم ألاحظ وجود خادم أو أي شخص آخر، لذلك طال الحديث وتشعب".
ثم يقول الشاوي (ص317-318) -بعد أن وصل أبو رقيبة إلى السلطة بدعم من فرنسا التي ضمنت تنفيذه لجميع مخططاتها تجاه الإسلام وأهله-: "لقد كنت متردداً في الذهاب لتونس؛ لأنني أعرف ما أعلنه بورقيبة من اتجاهات أثارت الإسلاميين في تونس وغيرها، وخاصة إلغاء جامعة الزيتونة وإصدار ما سماه مدونة الأحوال الشخصية البورقيبية، وما يقال عن إنكاره لفريضة الصيام، ودعوته أعضاء حزبه للإفطار كما دعا الجميع لذلك.
ورأينا الرئيس بورقيبة يصعد المنبر ويلقي خطبته المشهورة التي أعلن فيها من منبر "عقبة بن نافع" أنه باعتباره ولي الأمر قد اجتهد وقرر أن تونس في مرحلة جهاد لبناء اقتصاد وطني، وصوم رمضان يضعف قدرة الناس على العمل من أجل البناء "الاقتصادي" ولذلك فإنه رأى عدم وجوب الصوم، رغم ما يقوله بعض العلماء "التقليديين" الذي لا يهتمون بمراعاة مقتضيات وظروف العهد الجديد".
أما عن الزعيم الجزائري أحمد بن بيلا الذي سار على نهج بورقيبة في التعاون مع الفرنسيين ضد أهل الإسلام فيقول الشاوي (ص275): "لقد سعدت بخروج بن بيلا وإخوانه من السجن، كما سعد كثيرون لذلك، واعتبرناه نصراً للجزائر وبداية لمرحلة الاستقلال الوطني، ولم أشغل نفسي بالبحث فيما حصل عليه الفرنسيون مقابل هذا الإفراج ومقابل الاعتراف باستقلال الجزائر وظهر لي فيما بعد أنهم لم يعطوا هذا الاعتراف دون مقابل!(6/17)
والمقابل هو التحول الاشتراكي الذي يهدف إلى إقصاء الاتجاه الإسلامي، لا من ساحة العمل السياسي فقط، بل من مجال الفكر والثقافة، بل والعقيدة ذاتها؛ لأن الماركسية التي تحالف معها الناصريون وأصدقاؤهم لم تكن تخفي أنها لا تستطيع أن تتعايش مع الإسلام في الجزائر ولا في مصر ولا في العالم العربي.
لقد أشرت إلى أن المكان الذي زرت فيه بن بيلا في وسط فرنسا كان قريباً من المكان الذي زرت فيه "مصالي حاج" و"المنصف باي" و"بورقيبة" من قبل، لكن "مصالي والمنصف باي" بقيا في المعتقل حتى الموت، أما بورقيبة وبن بيلا فقد خرجا من المعتقل ليصل كل منهما إلى مقاعد السلطة والحكم بمباركة علنية وضمنية ممن اعتقلوهم ونجحوا في التفاهم معهم.
وأعتقد أن الفرق بين "بيلا" و"بورقيبة" أن هذا الأخير سار في طريق المساومة والتفاهم مع فرنسا تلقائياً ولأهداف شخصية، أما "بين بيلا" فإنني أعتقد أنه تأثر إلى حد كبير بالسلطات الناصرية التي كانت قد اختارت ما تسميه طريق التحول الاشتراكي وأنها قد فرضته على "بن بيلا" وعلى الثورة الجزائرية ليكون مبرراً لإقصاء الإسلاميين جميعاً و"الإخوان المسلمين" من صفوف التحرير الجزائرية، ومن جميع مواقع السلطة والنفوذ".(6/18)
ويقول (ص430): "لقد أشرت من قبل إلى ما لاحظته من اتجاه "بن بيلا" إلى السير في النهج الذي رسمه له مستشاروه وأصدقاؤه الاشتراكيون الجزائريون والفرنسيون الذين اعتبروا اللغة الفرنسية "بل والتعاون مع فرنسا" شرطاً ضرورياً لتعميق المنهج الاشتراكي الذي كان يعني لدى كثير منهم السير نحو الإلحاد الماركسي المتناقض مع عقائد الإسلام ومبادئه، فضلاً عن أنه يعني الانتماء إلى الكتلة الاشتراكية والابتعاد عملاً عن فكرة الوحدة الإسلامية وعن الفكر الإسلامي ومعاداته، حتى وصل بهم الأمر إلى تعمد تشويه عقائد الإسلام والتشهير بقيمه ومبادئه وشريعته مما اضطرني إلى اليأس من فائدة بقائي في الجزائر، وتركت صديقي بن بللا وحكومته تسير في نهجها الاشتراكي الذي كان يرضي الاشتراكيين في فرنسا ومصر في عهد عبد الناصر كذلك".(6/19)
أما ياسر عرفات فيقول عنه الشاوي (ص407): "لقد تصادف أن لقيت ياسر عرفات بعد ذلك في السعودية فعاتبته في ذلك وقلت له ألا تذكر ما قلته لي في المغرب عام 1965م من أنكم كنتم من الإخوان المسلمين وأنكم تعملون باسم الإسلام؟ ألم تذكر أننا التقينا مع الملك فيصل وقال لك إننا نعاونكم لأن الإخوان المسلمين هم الذين قدموكم لنا، وأنك قلت له: إنك من الإخوان المسلمين، قال لي معتذراً: نعم أذكر ذلك ولكن أنت تعرف أننا عندنا فصائل متعددة ومن واجبنا أن نحافظ على التعاون بين جميع هذه الفصائل حتى لا يشذ أحدها، وقال لي إن هذا الوضع يفرض علينا كثيراً من التنازلات وأنت تعرف أننا كنا نصدر بيانات العاصفة، وفي السنة الأولى كنا نبدأها: "بسم الله الرحمن الرحيم" لكن بعد إنشاء منظمة التحرير وجدنا أن بعض الفصائل احتجت على ذلك، واجتمع المجلس التنفيذي للمنظمة ودرس احتجاجات أعضاء المنظمة على ذكر: "بسم الله الرحمن الرحيم" في بيانات العاصفة، ولقد اضطررت أنا أن أجاريهم في ذلك وتعهدنا بحذف "بسم الله الرحمن الرحيم" من بيانات العاصفة منذ ذلك التاريخ! وفرضوا علينا أن يكون خطنا خطاً وطنياً بحتاً ليس له أي طابع إسلامي والتزمنا بذلك.
قلت له : معنى ذلك أنكم وافقتم على أن تكونوا علمانيين ؟!
قال: إذا كان هذا يمكننا من إنشاء دولة فلسطينية علمانية أو غير علمانية فنحن مستعدون لذلك، ونحن نريد أن نقنع العالم بأننا نريد إنشاء دولة تضم اليهود والعرب على حد سواء، ولا يمكن أن تكون هذه الدولة في نظرهم دولة إسلامية؛ ولذلك فنحن لا نريد أن نرفع شعارات إسلامية (!)(6/20)
قلت له: أتذكر أنك طلبت مني أن أدعو (الإخوان المسلمين) للتعاون معكم وأن يأمروا أعضاءهم بالعمل في إطار منظمة فتح، وأنني بذلت جهداً كبيراً لإقناعهم بذلك، ولكنهم كانوا أبعد مني نظراً لأنهم كانوا يؤكدون أنكم لا تلتزمون بمنهج إسلامي وأن العمل الإسلامي يجب أن يكون مستقلاً عن المنظمات التي لا تلتزم بأهدافه".
----------------
[1] انظر شيئًا من انحرافات هذا الرجل في مذكرة "نظرات شرعية في فكرٍ منحرف" –المجموعة الرابعة- لمعد هذا البحث، منشورة في موقع "صيد الفوائد" على شبكة الإنترنت. وانظر أيضًا: رسالة الشيخ عمر الأشقر –حفظه الله-: "الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية". وقد كان الشيخ عبدالرحمن الدوسري –رحمه الله- يلقب السنهوري بـ"الطاغوت" !(6/21)
هل خدعهم حسن الصفار ؟!
تعليقة على الندوة التي ألقاها حسن الصفار في أحدية راشد المبارك بتاريخ 5/صفر/1422هـ،
تحت عنوان : "السِّلم الاجتماعي".
لحفظ أو فتح الملف بصيغة وورد اضغط على الأيقونة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
يأسف المسلم كثيراً عندما يجد بعض المثقفين المنتسبين لأهل السنة لازالوا منخدعين بقضية التقريب مع الشيعة، متوهمين إمكانية تحقيق هذا التقارب، متجاهلين الجهود القديمة الضائعة التي بذلت لتحقيق هذه الغاية من آخرين غيرهم، لكن دون جدوى.
والسبب أن جميع من ولج هذا الباب وتمنى الأماني من خلاله يغفل عن (عقيدة) راسخة في دين الشيعة؛ هي عقيدة التقيه التي ينقلون عن أئمتهم في تعظيمها قولهم: "لا إيمان لمن لا تقية له"(1)! أو قول أحدهم: "التقية من ديني ودين آبائي"(2)
والتقية تعني في اصطلاح القوم موافقة أهل السنة في الظاهر –عندما تكون الغلبة لهم- أي لأهل السنة-، ومخالفتهم في الباطن.
ولا زال الخلوف منهم يمارسون هذه العقيدة كما تلقوها من أسلافهم، ولا زال بعض مثقفينا ينخدع بهم ويجري خلف سراب التقارب(3) رغم افتضاح هذه العقيدة وانكشافها، ورغم المكايد المتتالية منهم لأهل السنة على مر العصور.(7/1)
ومن آخر ما اطلعت عليه في هذا المجال انخداع ثلة من مثقفينا بأحد رموز الشيعة المعاصرين في بلادنا؛ وهو المدعو (حسن الصفار)، حيث قام الصفار -هداه الله- بإلقاء محاضرة عن (السِّلم الاجتماعي) في ندوة راشد المبارك بالرياض في يوم 5/صفر 1422هـ(4). ملخصها: أن الإسلام يدعو إلى السِّلم، وأنه لا استقرار ولا أمن إلا بهذا السلم، لكافة أفراد المجتمع مهما كانت دياناتهم أو مذاهبهم! فالواجب –في نظره- أن يكف كل فريق عن الآخر ولا يفرض عليه مذهبه أو توجهه، إنما يعيش الجميع في وئام وتعاون! (5) ثم يختم محاضرته بقوله: "ولا يصح أبدًا أن تُترك الساحة للجهات الساذجة أو المغرضة لتذكي أوار الفتن والخلافات، وتسمم الأجواء بالكراهية والحقد.." (6)
وكل هذا الذي سبق لا يهمني الآن!؛ لأن الرجل ما دام يظن أنه وطائفته في مرحلة ضعف في هذه البلاد وأن الغلبة والسلطة ليست لهم فإنهم لابد حينئذٍ سيدندنون حول مفاهيم "السلم" و"التسامح" ..الخ ! (7)؛ لأن هذه المفاهيم تمكنهم –في حال انتشارها- من الحفاظ على مكاسبهم دون مخاوف أو مصاعب(8) إنما الذي يهمني ولأجله أنشأت مقالي هذا: هو ما جاء في المداخلات التي تلت المحاضرة؛ حيث سئل الصفار عن مسألة سب الشيعة للصحابة –رضي الله عنهم-، فأجاب: "لو رجعنا إلى ما ورد في مذهب أهل البيت، الإمام علي في خضم معركة صفين يمر على جماعة من أصحابه يسبون معاوية وأهل الشام، فيقف عليهم ويقول: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ... إلى أن يقول الصفار: والعلماء الواعون المخلصون يحاربون هذا الأمر، ولكن كما في الكثير من المجتمعات غالباً ما يكون أمر الشارع، وأزمة الرأي العام ليسا بأيدي الواعين المخلصين، بل بأيدي من يستفيدون من هذا الأمر لتكريس مواقعهم ونفوذهم. ولكن في العصر الراهن هناك العديد من علماء الشيعة، بل أكثر علماء الشيعة، يصرحون بهذا الأمر، ويدعون أبناء الشيعة إلى تجاوز هذه السلبيات الخاطئة والمفرِّقة.(7/2)
والاحتجاج بما في بعض كتب الشيعة، ليس احتجاجاً تاماً، لأننا نعترف بأن في تراثنا أخطاء وثغرات، ونقاط ضعف. الآن كأمر واقع، هناك ثورة، هناك معارضة لمثل هذه التوجهات، وتنقية لمثل هذه التوجهات، نأمل أن نوفَّق جميعاً لتجاوز هذه الأخطاء والثغرات، وأن نستفيد من "أهل البيت" ومن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبالمناسبة، كتاب الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين علي بن الحسين، وهو كتاب معروف ومنتشر بين الشيعة، فيه دعاء من الأدعية حول الصحابة، في الثَّناء على أصحاب الأنبياء ومدحهم، والصلاة عليهم، والاستغفار لهم، والإقرار بفضائلهم. وهذا هو المنهج السليم الصحيح الذي سار عليه أئمة "أهل البيت" ونأمل أن يوفقنا الله جميعاً للسير على هذا المنهج" انتهى(9)
هذا ما قاله الصفار في ندوة راشد المبارك، واستطاع من خلاله أن يخدع الحاضرين من أهل السنة، ويُظهر نفسه أمامهم بأنه متضايق من هذا الأمر، ويوهمهم بأن هذا الفعل الشنيع –وهو سب الصحابة رضي الله عنهم- مخالف لما يسميه مذهب آل البيت الذين يتابعهم فيه !
فهل كان الصفار صادقًا في قوله هذا ؟! أم أنها عقيدة (التقية) التي لا زالوا يخدعون بها سُذج أهل السنة مهما بلغت شهاداتهم؟! للأسف فالجواب هو الثاني، حيث لا يعدو الأمر مجرد "تقية" تشربها الرجل من مذهبه، واتخذها منجاة ومهربًا أمام الإحراجات؛ ليظهر بمظهر المثقف المعاصر الراقي الذي لا يتابع العامة في جهالاتهم وبدعهم.
فإذا كان هذا صنيع واحدٍ من مثقفيهم –كما يقال-، فما ظنك بمتعصبيهم و"أئمتهم" ؟!
والآن : انظر إلى الوجه الآخر الحقيقي للصفار من خلال مقطعين من بعض محاضراته وندواته بين مريديه –هداهم الله- حيث عدم الحاجة إلى عقيدة "التقية" !(7/3)
يقول الصفار –وأنقل كلامه كما هو بلهجته الدارجة- : "إذًا أول سمة من سمات التاريخ الشيعي؛ هي سمة العطاء، هي سمة العمل، هي سمة النشاط. وكان الشيعة في كل العصور، في عصور الخلفاء، حتى في عصر الخليفة أبي بكر وعمر، لم يكن الشيعة جامدين، وإنما كانوا يعملون؛ حتى استطاعوا أن يفجروا الثورة الكبرى في عهد عثمان، وأن يأخذوا الخلافة والحكم إلى الإمام علي. فيه مشكلة: كثير من الناس لا يعرفون أن الثورة التي حدثت على الخليفة عثمان إنما كانت بتخطيط شيعي، وقد شارك فيها عمار بن ياسر، بل كان هو المخطط لها عمار بن ياسر. إنما لأن معاوية جعل مقتل عثمان كقميص ضد الإمام علي وحارب الإمام علي بتهمة قتل عثمان، الإمام علي بشكل طبيعي ما كان إلَهْ يد مباشرة في العمل في قتل عثمان، كذلك الشيعة يتبرؤن من هذه القضية حتى لا يأخذها السنة مستمسك عليهم، وإلا فالشيعة هم الذين قتلوا عثمان جزاهم الله خيرًا"(10) !!!
ويقول الصفار في كلام واضح صريح مبيناً عقيدته تجاه بقية الخلفاء الراشدين –رضي الله عنهم- : "ولذلك إحنا الشيعة إذا تشوفوا: نكره أبو بكر وعمر وعثمان. كثير من الشباب يقولوا: وش بينا فيهم، صحابة الرسول، صاحبوا الرسول وماتوا. في الواقع إحنا نحقد عليهم، ونبغضهم، ونلعنهم؛ لأنهم كانوا يعني بداية انحطاط الأمة"(11) !!(7/4)
قلت: هذا ما فاه به الصفار في حق كبار صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم ممن زكاهم الله واصطفاهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو يذكرنا بقوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) فقد أخرج الله ضغينة هذا الرجل رغم تخفيه خلف شعارات "الوحدة" و"المواطنة" وإنكار بدع قومه.. الخ الأكاذيب. فهل يفيق بعض مثقفينا بعد هذا ويعلمون أن متعصبي الشيعة ومدعي الثقافة بينهم إنما هما وجهان لعملة واحدة، وأنهما يلتقيان جميعاً على العداء لأهل السنة، ولكن الخلاف هو في الوسيلة و"التكتيك" ! وإذا كان ثمة خلافات فهي يسيرة جدًا لا تؤثر في التقاء الفريقين على أهداف واحدة محددة. وأنصح هذه الطائفة المتفائلة بإمكانية التقارب مع الشيعة بقراءة ما كتبه من سلك هذا الطريق قبلهم من أهل السنة ثم عاد بخفي حنين؛ رغم تقديمه كثير من التنازلات، يجدون هذا في كتاب الدكتور القفاري "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة".
وأما شباب الشيعة –هداهم الله- فأنصحهم مخلصاً أن يتبرؤا من البدع والانحراف الذي وقع فيه أسلافهم، فلا يكونوا ممن قال الله فيهم (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (12)، وأن يلحقوا بدعوة الكتاب والسنة قبل أن يفجأهم الموت وهم على هذه العقيدة الباطلة التي نسبوها زورًا إلى آل البيت –رضي الله عنهم- وهم منها برآء. وأنا لست بصدد بيان ما هم عليه من انحراف، ولكني ألفت نظرهم إلى قضية مهمة قد يغفلون عنها وهي تغنيهم عن كثير من الحوارات والمناظرات، وهي: إن كان عليًا –رضي الله عنه- يعتقد كفر الصحابة –رضي الله عنهم- أو وجوب بغضهم وعداوتهم –كما يزعمون- فلماذا لم يُصرح بذلك ويبينه للناس، ويتبعه بالعمل ؟! ولماذا اختار طاعتهم ومبايعتهم والقتال معهم –وهم بحسب زعمكم منافقون؟!
يلزمكم أمران أحلاهما مر:(7/5)
الأمر الأول: أن عليًا –رضي الله عنه- كان جبانًا رعديدًا، وحاشاه من ذلك؛ فسيرته تشهد بخلاف هذا. وأنكم لشجاعتكم أقدمتم على ما لم يُقدم عليه. وهذا ينقض كثيرًا من تراثكم في بيان شجاعة علي –رضي الله عنه- وما نسجتموه عن تلك الشجاعة من أقاصيص وخرافات هو في غنىً عنها.
الأمر الثاني: أنه كان على منهاج واحد هو وإخوانه من صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، يحبهم ويحبونه، ويرى طاعة من ولاه الله أمره منهم، وهذا ما يخالف عقيدتكم الباطلة القائمة على الغل لصحابة نبينا صلى الله عليه وسلم ممن قال الله تعالى في وصفهم: (ليغيظ بهم الكفار). فهل ترضون بأن تكونوا منهم؟!
أسأل الله أن يهدي شباب الشيعة إلى الحق(13)، وأن يوفقهم لنبذ انحرافات قومهم، وأن يسخرهم ويستعملهم في نصرة دعوة الكتاب والسنة بين أهاليهم. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
--------------------------
[1] الكافي للكليني (2/218). نقلاً عن رسالة الدكتور ناصر القفاري: "مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة" (1/331).
[2] السابق (2/219).
[3] وأفكار التقريب مع أهل البدع أو الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم هي من الأمور الخيالية التي لا توجد إلا في الأذهان، وهي تسلخ المسلم من دينه رويدًا رويدًا؛ حتى يكتشف في النهاية أنه كقابض كفيه على الماء. فلا الآخر عاد إلى الحق أو كف عن معاداة أهله، ولا هذا المتنازل سلم له دينه. وانظر رسالة: "الإنسانية في فكر المسلمين المعاصر" للباحث محمد إدريس عبد الصمد، لترى نماذج من الردة المعاصرة عن دين الإسلام التي وقع فيها بعض من يسمون بالمفكرين في سبيل إرضاء اليهود والنصارى والالتقاء معهم على أهداف مشتركة –زعموا!-، ولكنهم في النهاية خابوا وخسروا، ولم يأبه الكفار لهم، بل واصلوا زحفهم على بلاد المسلمين وعقولهم، واتخذوا من أولئك مطية لهم في هذا الغزو والزحف.(7/6)
[4] ثم طبعتها دار الساقي في كتاب، 2002م. وعنه أنقل.
[5] أما الواجب في نظر دعاة الكتاب والسنة فهو أن يرجع أهل البدع إلى دينهم ويتركوا مخالفاتهم ويكونوا صفًا واحدًا مع إخوانهم.
[6] ص 70.
[7] كما في كتبه: "التعددية والحرية في الإسلام" ، "الوطن والمواطنة"، "التنوع والتعايش"، "التطلع للوحدة".
[8] ومن أخطر ما قال: قوله في كتابه "التطلع للوحدة، ص9": "إذا ما شعر كل المواطنين في أي بلد إسلامي متنوع الإنتماءات بالمساواة، وتكافؤ الفرص، وإتاحة المجال للمشاركة السياسية، والتداول السلمي للسلطة؛ فإن ذلك سيكون أفضل حماية للوحدة في ذلك البلد"!
فالرجل يمهد لطائفته لاستلام السلطة في بلاد التوحيد! ولكن من يضمن لنا أنها ستُتداول بعد ذلك؟!
وقارن حاله بحال النصيريين في سوريا حيث انضموا إلى حزب البعث واستغلوه، وتسلقوا من خلاله إلى الحكم في بلاد الشام؛ ثم كشروا عن أنيابهم بعد ذلك، واتضحت طائفيتهم لكل أحد.
انظر شيئاً من خططهم في سبيل تحقيق هدفهم: في كتاب "الصراع على السلطة في سوريا" للدكتور نيقولا وس فان دام، سفير هولندا في مصر.
فاعتبروا يا أولي الأبصار !
[9] السابق ، ص 91 – 92.
[10] استمع إلى كلام الصفار من خلال موقع "البرهان" على شبكة الإنترنت www.albrhan.com ، قسم "مشاهد وصوتيات".
[11] المصدر السابق. وانحطاط الأمة لم يبدأ إلا منذ دخل فيه بقية المجوس وأحدثوا دين الرفض، وجعلوه خنجراً مسمومًا في ظهر الأمة، لو كنت تعقل.(7/7)
[12] وما أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "إن الإنسان ينشأ على دين أبيه أو سيده أو أهل بلده، كما يتبع الطفل في الدين أبويه وسابيه وأهل بلده. ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يقصد طاعة الله ورسوله حيث كانت، ولا يكون ممن (إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا). فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وطاعة الله والرسول إلى عادته وعادة أبيه وقومه؛ فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد" (الفتاوي 20/225).
[13] وقد بدأ كثير منهم –ولله الحمد- في السنوات القريبة يتبرؤن مما كانوا عليه، ويلتزمون بالدعوة السلفية الصحيحة بعد أن انقشعت عنهم غشاوة الجهل. أسأل الله أن يثبتهم على الحق وأن ينفع بهم.(7/8)
ما هكذا "يا سعدُ" تورد الإبل..
نصيحة أخوية للدكتور سعد الفقيه
لحفظ أو فتح الملف بصيغة وورد اضغط على الأيقونة
أخي الفاضل: الدكتور سعد الفقيه: وفقني الله وإياه إلى سبيل الرشد، وجنبنا مضلات الأهواء والفتن :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
سمعت وقرأت –كغيري- عن نبأ دعوتكم إلى مظاهرة سلمية بمدينة الرياض تطالبون فيها بـ"الإصلاح" وحقوق الإنسان. وقد استجاب لكم قلة من الناس، وهي بادرة جديدة في عاصمة بلاد التوحيد.
وكنت حينها أقوم بإعداد بحث مختصر تحت عنوان "كيف احتل الإنجليز مصر؟" أبين فيه الخطوات الشيطانية الماكرة التي قام بها الإنجليز ومن شابههم في القرن الماضي للإيقاع بهذه البلاد المسلمة؛ إلى أن تمكنوا من ذلك، فوقعت البلاد المصرية في قبضتهم سبعين عاماً باحتلال بغيض لا زلنا نعاني من آثاره إلى اليوم، حيث لم يرحل الإنجليز إلا عام 1956م، بعد أن سلموا البلاد إلى من يطمئنون له من العلمانيين الذين واصلوا مسيرة أسيادهم في محاولة القضاء على الإسلام، ومحاربة أهله، وكان من أهم أعمالهم التي طمأنت الراحلين الأجانب: ضرب الشباب المسلم ،وإلغاء المحاكم الشرعية بالكامل عام 1955م! (انظر: الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية، للدكتور عمر الأشقر، ص72).
وقد أحببت –أخي سعد- أن أقتطف لك شيئاً من البحث له علاقة بالمظاهرة الأخيرة التي دعوت لها، وبطريقتك في الإصلاح؛ لعلك تتبصر أمرك، ويستبين لك بعض "المكر الكُبَّار" الذي يتقنه أعداء الإسلام، وعلى رأسهم "إنجلترا". فأقول:
- كانت الدولة المصرية كغيرها من الدول الإسلامية تتبع الخلافة في تركيا. وكانت تحكم بالشريعة الإسلامية ، وترتكز في أمورها على الإسلام بوجود الأزهر ، وهيئة كبار العلماء ، مع قصور وانحراف ، قلما أن يسلم منه أحد .(8/1)
- غزا نابليون مصر بحملته الشهيرة لتحقيق أهداف كثيرة، ولكنه لم يفلح في البقاء فيها سوى 3 سنوات نظرًا لاتحاد أهل الإسلام ضده، ووقوفهم صفًا واحدًا تجاه حملته –حكامًا ومحكومين-.
- خرج نابليون يجر أذيال الخيبة متحسرًا على فشل حملته بسبب عدم دراسته الأوضاع جيدًا في البلاد المصرية.
- بعد خروج الفرنسيين تولى الحكم في مصر "محمد علي باشا" وسط ملابسات عديدة جعلت العلماء ومن ورائهم الشعب يثقون فيه.
- حاول الإنجليز في عهده أن يجربوا حظهم بغزو مصر، لكنهم أيضًا لم يفلحوا للأسباب السابقة. عندها قرروا أن يعاودوا الكرة من جديد ولكن بعد أن يدرسوا الحالة المصرية جيداً، ويعرفوا مصدر قوتها، وهو اتحاد أهلها من المسلمين ضدهم، فيقوضوه من خلال نشر فكرين خطيرين بين شبابها: الفكر "الثوري" "التهييجي" والفكر "العصراني" "المتميع"
- قام الإنجليز بنشر تلك الأفكار "الثورية" بواسطة جمال الدين الأفغاني الرجل المريب الذي سهلوا له مهمة القدوم إلى مصر والاستقرار بها مدة ثمان سنوات، تمكن فيها من تكوين طليعة من الشباب المصري المغفل تردد أفكاره وتنادي بها. متجرئين بذلك على ولاة أمرهم من الولاة والعلماء بهدف "الإصلاح" وإنكار " الظلم " و " الفساد المالي " الذي ارتبط بالديون الكثيرة التي أثقلت كاهل البلاد .
فعلى سبيل المثال: كان الأفغاني يهاجم الخديوي إسماعيل علانية ويقول للمتجمهرين حوله: (أنت أيها الفلاح تشق الأرض لتستنبت ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك ؟! لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟!)(1) وغيرها من الكلمات الثورية التهييجية.(8/2)
-كان أحمد عرابي أحد العسكريين الذين تأثروا بأفكار الأفغاني "الثورية" فتصدى علانية لإنكار أخطاء وانحرافات الحكم والدعوة إلى "الإصلاح" عبر توزيع "المنشورات" وبث الخطب والكلمات الحماسية. والقيام –كما يقول الدكتور عمر عبدالعزيز–(2) ( بمظاهرة سلمية تأييدًا لمطالب الأمة )! ( وكانت هذه المطالب فاتحة الثورة) كما يقول الدكتور عبدالرحمن الرافعي(3).
- كان الإنجليز يشايعهم الفرنسيون يرقبون الأحداث بغبطة وسرور! وكانوا يوعزون من خلف ستار إلى عرابي أن امض في طريق "الإصلاح"، ولا تخش أحدًا! ومن ذلك ما ذكر محمد عبده في مذكراته عن الثورة العرابية –وهو أحد أقطابها- من أن قنصل فرنسا ( أرسل إلى أحمد عرابي وإخوانه يقول لهم: إنه يسره ما يراه من صلابتهم وعزيمتهم، واشتدادهم في المطالبة بالعدل، فعليهم أن يثبتوا في مطالبهم ولا يُضعفهم ما يُهَددون به) (4)! و( أرسل إلى عرابي كتابًا يمدحه فيه على ثباته، ويشجعه على عدم المبالاة بالحكومة ). (5)
أما إنجلترا فكانت تفعل الأمر نفسه بل أشد، من خلال جاسوسها المدعو: "المستر بلنت" الذي كان يجوس بلاد مصر يؤلب الناس على الحكم، ويراسل عرابي ويستحثه على مواصلة الضغط على الحكومة لعلها تستجيب لمطالب "الإصلاح"!
يقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- عن "بلنت" هذا: (كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر.. يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها باسم عرابي، ويقدم له صورًا مضللة عن صفته الرسمية، وقدرته السياسية، وقوة الجيوش الإنجليزية..) (6)(8/3)
ويقول الأستاذ مصطفى غزال –عنه-: ( كان من أشد الناس تفانياً في مصالح الإنجليز، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه للحكومات البريطانية، بل كان أحيانًا يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية، ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عرابي، ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعًا من الدهاء والحنكة الإنجليزية).(7)
(بلنت كان على صلة بزعماء الثورة العرابية التي انتهت باحتلال مصر من قبل قومه ) (بلنت شجع عرابي على الثورة ) ( بلنت أودى بصاحبه عرابي وثورته وبلاده في الهاوية ).(8)
إذن: فقد كان الإنجليز بدهائهم المعهود يقفون خلف أحمد عرابي، ويستغفلونه ومن معه، ويستحثونهم على المضي قدمًا في حركتهم الثورية، وأن لا يقيموا وزنًا لولي أمرهم أو لعواقب ذلك على بلادهم. وفي الوقت نفسه كانوا يغرسون الأفكار "العصرية" في أذهان بعض الشباب المصري من خلال دعوة الأفغاني ومن خلال النصارى العرب النازحين من بلاد الشام.
فبالأفكار "الثورية" "التهييجية" يفتات الناس على ولاة أمرهم، وتختلف كلمتهم، ويتفرق شملهم ووحدتهم، وتذهب ريحهم ؛ كما قال سبحانه (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).. فيحدث بعدها "استباحة الأرض" من قبل عدوهم الذي سوف يستغل مثل هذا التفرق والتمزق في التسلط على ديار الإسلام دون مقاومة. وقد حدث هذا للأسف.
وبالأفكار "العصرية" تذوب الفوارق بين المسلم والكافر، ويضعف الولاء والبراء، وتوهن العقيدة، وتذهب العزة ، وينسى الناس الجهاد ، ويظهر المنكر.. فيحدث بعدها "استباحة العقول". وقد حدث هذا للأسف.
- استغل الإنجليز الفرصة ولم يضيعوها بعد أن مهدوا لها بذينك الفكرين الخبيثين "الفكر الثوري" و"الفكر العصري التغريبي" ليحتلوا بلاد مصر، ويعيثوا فيها فسادًا صوره لنا بعض المؤرخين.(8/4)
يقول الدكتور علي الحديدي عن عبد الله النديم أحد رموز ثورة عرابي وخطيبها المفوه بعد عودته من المنفى: ( وكان مما فوجئ به عقب عودته موجة من الانحلال والفساد الخلقي في البلاد، فإفراط وجهرة في شرب الخمر لم يكن معهودًا من قبل، واستهتار الشاربين بنقد النقاد، وانتشار الخمارات انتشارًا كبيرًا في البلاد والقرى يبتز الأروام عن طريقها أموال الأهالي. وانحلال الأسرة بسبب الشراب، وتقليد النساء المصريات للأجنبيات في شرب الخمر، وانتشار الحشيش والمعاجين والمخدرات، والاحتفاء بمجالسها، ثم إساءة فهم معنى الحرية، واستعمالها وسيلة للإنهماك في الملذات والشهوات، ثم السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليدًا أعمى..) (9)
ويقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- عن حال البلاد المصرية بعد الاحتلال الإنجليزي: (.. وافتتحت الخمارات في كل مكان، حتى تغلغلت إلى الريف وإلى أحياء العمال، وافتتحت دور البغاء المرخصة من الحكومة في كل العواصم. وتجرأ الناس على ارتكاب الموبقات، والجهر باسم الحرية الشخصية التي لم يفهموا منها إلا أن يحل الناس أنفسهم من كل قيد، ولا يُبالون دينًا ولا عرفًا ولا مصلحة) .(10)
أما أحمد عرابي فقد وقع في الأسر بعد أن أدى للإنجليز خدمة عظيمة، وكان سببًا في تسلطهم على بلاده، ولهذا فقد تدخلوا في أمر محاكمته ليعارضوا قتله!(11) ويكتفوا بنفيه عدة سنوات إلى جزيرة "سيلان" ؛ ليعود بعد تلك السنين إلى بلاده ملومًا محسورًا، يتلقى كلمات الازدراء والإهانة من أبناء بلده الذين "تعاطفوا" معه في يومٍ ما، إلا أنهم انقلبوا عليه بعد أن تكشفت لهم نهاية "ثورته" و"تهييجه"، فأصبح الصغار يسيرون خلفه في الطرقات يشتمونه ويقرعونه بوصف "الخائن"!(8/5)
يقول مصطفى كامل أحد الزعماء الوطنيين في مصر عن عرابي بعد عودته من منفاه: (ما عار الاحتلال وعار الجهالة والتأخر وعار الفقر بشيء يذكر إذا قورن بالعار الذي يحمله عرابي، ويُقرأ على وجهه أينما سار وحيثما حل، وأي عار أكبر وأشهر من عار رجل تهور جبانًا، واندفع جاهلاً، وساق أمته إلى مهواة الموت، والاستعباد الثقيل ... )(12)
أخي الدكتور سعد: هذه حال أحمد عرابي قديمًا، تعاطف الإنجليز معه، واستدرجوه من حيث لا يشعر، ليحقق لهم ما يريدون، فهم كما قال الشاعر:
وما من حبه يحنو عليه *** ولكن بغض قومٍ آخرينا !
قام عرابي لينكر " الظلم " الواقع عليه وعلى بعض الجنود، وكان الحل يسيرًا لو لزم الطريق الشرعي في الإنكار، ولكن القوم لحاجة في نفوسهم، استغلوه وأججوا نار الفتنة حتى كبرت وتوقدت واستعصى حلها؛ لتنتهي بالاحتلال الأجنبي.
فهو كما قيل: أراد أن يبني قصرًا فهدم مصرًا
أخي الدكتور سعد: قام عرابي ينادي "بالإصلاح" ولكنه غفل عن أن الله قد أخبرنا في كتابه بأن الإصلاح نوعان: "إصلاح شرعي" مرجعيته التزام أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالفت النفس أو الهوى، قال الله عن أهله (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
و"إصلاح" من نوع آخر هو في ميزان الشرع "إفساد" وإن توهم أهله أنهم مصلحون ، ولهذا قال الله عنهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وأربأ بك أن تكون منهم.
أخي الدكتور سعد: ليتك تعتبر بحال الرجل "عرابي" ومآله، فلا تكون مفتاح شر على بلادك وأهلك، يتخذك الأعداء وسيلة لتفريق كلمتهم وتمزيق وحدتهم ؛ ليتسنى لهم بعد ذلك السيطرة عليهم أو على ثرواتهم، ثم يقلبون لك ظهر المجن ،كما فعلوا بغيرك .(8/6)
أخي الدكتور سعد: -في ظني- أنه لم يعرف المسلمون عدوًا أدهى ولا أنكى من الإنجليز ، فهم أصحاب سياسة عتيدة مكرورة لا يحيدون عنها يمارسونها معنا بين حين وآخر، ولا زالت تؤتي ثمارها ! حيث لم يستفد المسلمون من الماضي.
هذه السياسة لخصها لنا الدكتور محمد حسين بقوله: (وحيلة الاستعمار التي لا تَبْلىَ ولا تتبدل هي التي تتمثل في قول أحد ساسة الإنجليز المشهورين: "فرِّقْ تَسُدْ" التي طبقت في الهند بنجاح، وهي التي أسميها هنا (توازن القوى)، وأعني بها حرص المستعمر على أن يقع بعض الناس في بعض، وعلى أن لا تَطْغَى إحدى هذه الجماعات المتباغية على الأخرى، حتى لا تبتلعها وتستأثر بالسلطان. فالجهد الذي يبذله الإنجليز هو تدبير الفتن وإشاعة العداوة، ثم مراقبةُ المتقاتلين من بعيد)(13).
أخي الدكتور سعد: قد تقول: أنا لم أجد وسيلة "للإصلاح" غير ما أقوم به بعد أن سدت علي الأبواب، فما حيلة المضطر إلا ركوبها. فأضمن بذلك أن يُقضى على ما أراه من " الظلم " إذا وجد من يواجهه " علانية " .
فأقول : أولاً: ينبغي أن تتأمل دوافعك ومطالبك هل هي حقًا تمثل الإصلاح الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم أم أنها مخالفة لذلك ، بما يداخلها من حظوظ نفس أو هوى أو غير ذلك؟
ثانياً: إن كانت غضبتك ومفارقتك لجماعة المسلمين لأجل ما قد تراه من "جور" أو "أثرة" ، فقد بيَّن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلك الشرعي عند حدوث مثل هذا –وهو ليس بغريب في تاريخ المسلمين- يقول صلى الله عليه وسلم: "عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة تكون عليك" أخرجه مسلم
قال النووي: "الأثرة: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم. أي اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا، ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم"(8/7)
وسأل سلمة الجفعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ! أرأيت إن قامت علينا أمراء، يسألونا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمّلوا وعليكم ما حُمّلتم" أخرجه مسلم. أي أنهم يأثمون إذا لم يقوموا بما عليهم من حقوق للرعية . ( وقد خاب من حمل ظلما ) .
وقال صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان في حديث طويل عن أئمة آخر الزمان الذين لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته صلى الله عليه وسلم"تسمع وتطيع للأمير، وإن ضُرب ظهرك وأُخذ مالك، فاسمع وأطع" أخرجه مسلم. فبرغم أن هؤلاء الولاة مخالفون للسنة ولهدي النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بطاعتهم وعدم منازعتهم .
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعة" أخرجه مسلم.
أخي الدكتور سعد: هذه أحاديث نبوية صحيحة صريحة –وغيرها كثير- تبين لك المسلك الشرعي في التعامل مع ولاة الأمور. فليست هي –كما يفتري المفترون- من اختراع أهل السنة الذين يتهمهم خصومهم من أهل البدع؛ كالمعتزلة والخوارج ومن سار في طريقهم، بأنهم أهل خنوع تجاه الحكام! فهؤلاء المبتدعة - وأربأ بك أن تتابعهم –ما فهموا أن أهل السنة إنما مدار أمرهم وعباداتهم قائم على اتباع النصوص الشرعية وإن خالفت في الظاهر ما يعتقدونه من مصالح خادعة. وهم يعدون هذا قربة يتقربون بها إلى الله عز وجل؛ لأنه من تعظيم أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. (من يطع الرسول فقد أطاع الله). ولم يفقه أهل البدع ومن شايعهم المصالح العظيمة التي تعود على الأمة حين تتبع نصيحة نبيها صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر العظيم؛ ومن أهم ذلك اتفاق كلمتها، والتمام شملها، وخذلان عدوها المتربص بها. يقول الحافظ ابن حجر: (الحكمة في الأمر بطاعتهم: المحافظة على اتفاق الكلمة، لما في الافتراق من الفساد).(14)(8/8)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية فيمن خالف هذه النصوص النبوية: (أكثر النفوس تزيل الشر بما هو شرٌ منه، وتزيل العدوان بما هو أعدى منه، فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم).(15)
وأقوال العلماء الناصحين كثيرة في التحذير من هذا الأمر العظيم الذي لا يجلب على هذه الأمة إلا كل شر وفساد.
كما أن أهل البدع الشانئين لأهل السنة فاتهم أن البلاد التي عمل أهلها بأوامره صلى الله عليه وسلم في التعامل مع حكامهم ائتلفت كلمتها ، وانتشر الخير فيها ، وقرب حكامها منه ؛ لما يرون من صدق الناصحين ، وسلوكهم المسلك الرفيق . أما البلاد التي انتهج بعض أهلها مسلك أهل البدع في التشنيع على حكامهم ، أو منازعتهم ، فإنها لم تزدد إلا شرًا وبعدًا عن الخير ، مع تفرق كلمة أهلها وتنافر قلوبهم ، كما هو مشاهد . فأي الفريقين أحق بالأمن ؟!
أخي الدكتور سعد: إن قلتَ: فإن لزمت النصيحة الشرعية ولم يُسمع لي؟ فأقول: قد برئت عهدتك، وأديت ما عليك. كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن يريد مناصحة السلطان: "فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له"(16)
وتذكر قول الله تعالى : ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون . إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار .. الآية ) .
أخي الدكتور سعد: أذكرك بقوله صلى الله عليه وسلم فيمن فارق جماعة المسلمين: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات إلا مات ميتة جاهلية" متفق عليه .هذا الحديث العظيم وأشباهه كثير حريٌ بالمسلم الناصح لنفسه أن ينزله على حاله ، ويخشى ما جاء فيه من عقوبة شنيعة .
أخي الدكتور سعد: لقد بحثت عن المستفيد من أعمالك فما وجدت سوى خمسة أصناف :
الصنف الأول: الكفار وأعداء الإسلام ممن يريدون خلخلة وحدة هذه البلاد لينفذوا من خلال ذلك إلى إخضاع أهلها لما يملونه عليهم.(8/9)
الصنف الثاني: أهل البدع الذين كبتوا في بلاد التوحيد زمناً طويلاً، فأرادوا أن تكون رئة لهم يتنفسون من خلالك.
الصنف الثالث: العلمانيون المنافقون الذين يبشون ويهشون لكل تغيير قد تمر به البلاد؛ ليصلوا من خلاله إلى تنفيذ مخططاتهم بالتعاون مع إخوانهم من اليهود والنصارى.
الصنف الرابع: بعض الشباب ممن ظاهرهم الصلاح ، سهل على العدو "استغفالهم" و "استدراجهم" ليكونوا أداة له، يصل من خلالهم إلى مبتغاه. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا .
الصنف الخامس: غوغاء الناس من أصحاب المطالب الدنيوية، ممن قال الله عن أمثالهم (إن أعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا إذا هم يسخطون).وهؤلاء سرعان ما يلوذون عنك إذا ما نالوا حظهم ، أو مستهم نار الفتنة .
أخي الدكتور سعد: هذه البلاد: بلاد التوحيد :مثل البناء الشاهق الجميل الذي أصابته بعض الصدوع ، فهل يليق بعاقل أن يسعى في هدمه "ليصلح" ما اعتراه ؟! أم أن العقل والحكمة يقتضيان أن يبقى هذا البناء عاليًا شاهقًا كالأرض الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها مع إصلاح ما خالطها من "قصور" أو "انحراف" بالطريقة الشرعية المناسبة؟!
أسأل الله أن تجد كلماتي هذه قبولاً حسنًا عندك ، وأن ينشرح لها صدرك . وأن يؤلف بينك وبين أهل بلدك ، ويجعلك تسخر جهودك لدعوة الكفار إلى دين الله .
أما ولاة الأمور في هذه البلاد : فأسأله تعالى أن يوفقهم إلى ما يحب ويرضى ، وإلى الرفق برعاياهم ، ، وأن يجعلهم يقفون سدًا منيعًا أمام هجمات الأعداء وضغوطهم وابتزازهم ، فلا يتنازلون عن دينهم الذي ارتضاه لهم ، وأبشرهم إن فعلوا ذلك أن الله ناصرهم ومخز عدوهم ؛ لأنه تعالى يقول ( إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) ، فلا زاد لنا في مواجهة العدو الجاثم حولنا إلا بالصبر على ديننا ، وتحقيق التقوى بالتزام الأوامر والبعد عن المخالفات .(8/10)
كما أسأله تعالى أن يأخذ بنواصيهم إلى " الإصلاح " الشرعي الذي أخبر تعالى بنجاة أهله من العقوبات ، وأن يباعدهم عن " إصلاح " أهل النفاق والفساد وإن زينوه وسموه بغير اسمه ، وهو في الحقيقة لا يقود البلاد إلا للفتن والمحن ، وزيادة الطين بلة، ويعرضها للعقوبات ، وفق سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل . ( يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض، فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ) .
والله الهادي والموفق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه أجمعين .
------------------------------
(1) دراسات في تاريخ العرب الحديث، للدكتور عمر عبد العزيز عمر، ص 297.
(2) المرجع السابق، ص 318.
(3) مصر المجاهدة في العصر الحديث، عبد الرحمن الرافعي ص 12.
(4) الأعمال الكاملة لمحمد عبده، 1/528، 531.
(5) مصر المجاهدة في العصر الحديث، عبد الرحمن الرافعي، ص 34.
(6) الإسلام والحضارة الغربية، ص 66
(7) دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، ص 123.
(8) المرجع السابق، ص 124.
(9) عبد الله النديم، لعلي الحديدي، ص 333.
(10) الاتجاهات الوطنية..، 1/264.
(11) اختلف المؤرخون في أمر عرابي : هل كان " مستغفلا "من قبل الإنجليز – وهو الأرجح – أم كان عميلًا لهم ؟
(12) الثورة العرابية، صلاح عيسى ، ص 46.
(13) الاتجاهات الوطنية، 2/390.
(14) فتح الباري (13/120).
(15) عن : " معاملة الحكام .. " ص 161.وانظر : منهاج السنة 3/392-394.
(16) صححه الألباني في ظلال الجنة، (1096).(8/11)
أحاديث لا تصح
لحفظ أو فتح الملف بصيغة وورد اضغط على الأيقونة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد ، وآله وصحبه أجمعين :
أما بعد : فهذه 93 حديثًا لا تصح ، يكثر انتشارها بين الناس ، أحببت أن أنقل كلام العلماء – باختصار - في بيان ضعفها ؛ لكي يتجنبها المسلم ، ويكتفي عنها بالأحاديث الصحيحة .
والله الموفق :
1 - " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع "
قال عنه الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في مجموع فتاواه (4/122): "في سنده ضعف" ولم يذكر –رحمه الله- من رواه. وقال الشيخ عبد العزيز السدحان: "فتشت عنه كثيراً، وسألت عنه كثيراً، فلم أظفر بشيء غير ما ذكره سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز"
2- "أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر"
قال السخاوي: "لا وجود له في كتب الحديث المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وجزم العراقي بأنه لا أصل له، وكذا أنكره المزي وغيره "
3- "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العلم"
قال الألباني : "موضوع" وروي من كلام الحسن البصري
4- " خير البر عاجله "
قال العجلوني : "ليس بحديث "
5- " كما تدين تدان "
قال المناوي في تخريج تفسير البيضاوي (1/102): "أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات بسند ضعيف "
6- " روحوا القلوب ساعة وساعة "
أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (672). وقال محققه الشيخ حمدي السلفي: "في إسناده الوليد بن محمد الموقري، وهو متروك، فهو ضعيف"
7- " الإيمان لا يزيد ولا ينقص "
قال ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة: "أخرجه ابن عدي من حديث ابن عمرو، وفيه أحمد بن عبد الله الجويباري"
8- " عليكم بالوجوه الملاح والحدق السود؛ فإن الله يستحيي أن يُعذب وجهاً مليحاً بالنار "(9/1)
قال ابن عراق في (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة) : "أخرجه ابن عدي من حديث أنس، وفيه الحسن بن علي العدوي، قال السيوطي: وتابعه كذاب مثله، وهو لاحق بن الحسين، أخرجه الشيرازي في الألقاب. وقال: وروى الديلمي عن أنس مرفوعاً: إن الله لا يعذب حسان الوجوه سود الحدق، قلت: في سنده جعفر بن أحمد الدقاق، وهو آفته فيما أظن، والله أعلم"
ومثله: حديث :
9- "النظر إلى الوجه الحسن يجلو البصر "
قال العجلوني : "رواه أبو نعيم بسند ضعيف عن جابر"
ومثله: حديث:
10- "النظر إلى الوجه الجميل عبادة ! "
قال العجلوني : "نقل ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه سئل عن حديث "النظر إلى الوجه الجميل عبادة، فأجاب بأنه كذب باطل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يروه أحد بإسناد صحيح، هو من الموضوعات ... "
ومثله: حديث :
11- " من أتاه الله وجهاً حسناً وجعله في موضع غير شائن له فهو من صفوة الله في خلقه"
قال ابن عراق: " أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس ولا يصح؛ فيه سليم بن مسلم وعنه خلف بن خالد، والحمل فيه عليه لا على سليم ... "
ومثله: حديث :
12- " ما حسَّن الله خُلُق أحد وخَلْقه فأطعم لحمه النار "
قال ابن عراق ، (لا يثبت)
ومثله: حديث :
13- " التمسوا الخير عند حسان الوجوه [وفي رواية: اطلبوا ... ]
قال السخاوي : (وطرقه كلها ضعيفة، وبعضها أشد في ذلك من بعض)
14- " لا تقولوا قوس قزح؛ فإن قُزح هو الشيطان ، ولكن قولوا قوس الله، فهو أمان لأهل الأرض من الغرق "
قال ابن عراق : (أخرجه الخطيب من حديث ابن عباس من طريق زكريا بن حكيم الحبطي) قال فيه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: ليس بشيء، وقال ابن المديني : هالك .
15- " من ولد له ثلاثة أولاد ولم يُسمَ أحدهم محمداً فقد جهل "
قال ابن عراق: أخرجه ابن عدي من حديث ابن عباس، وفيه ليث بن أبي سليم، تركه أحمد وغيره .
ومثله : حديث :(9/2)
16- "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: يا محمد ! قم فادخل الجنة بغير حساب، فيقوم كل من كان اسمه محمد، ويتوهم أن النداء له، فلكرامة محمد لا يمنعون"
قال ابن عراق: (أخرجه أبو المحاسن عبد الرزاق بن محمد الطبسي في الأربعين بسند معضل سقط منه عدة رجال، قلت: قال بعض أشياخي : هذا حديث موضوع بلا شك )
ومثله : حديث :
17- " أتاني جبريل فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام، ويقول: وعزتي وجلالي لا أعذب أحداً يُسمى باسمك يا محمد بالنار "
أخرجه أبو نعيم، وذكره ابن عراق في الموضوعات
أحاديث العقل
18- " لما خلق الله العقل قال له: قم ، فقام، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: اقعد، فقعد، فقال : ما خلقت خلقاً هو خير منك، ولا أفضل منك، ولا أحسن منك، ولا أكرم منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف لك الثواب، وعليك العقاب "
ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال: (هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ونقل عن الإمام أحمد قوله في هذا الحديث: (هذا الحديث موضوع ليس له أصل) .
19- " أكرموا عمتكم النخلة ؛ فإنها خلقت من فضلة طينة آدم، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران، فأطعموا نساءكم الوُلّد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر"
قال ابن عراق : (أخرجه أبو نعيم من حديث علي، وابن عدي من حديث ابن عمر بأخصر من هذا ، ولا يصح، تفرد بالأول: مسرور بن سعيد التيمي وهو غير معروف، منكر الحديث ، وفي الثاني : جعفر بن أحمد الغافقي)
20- حديث قس بن ساعد(9/3)
وهو ما يروى من أن وفد عبد القيس وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيكم يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: كلنا نعرفه يا رسول الله، قال: فما فعل؟ قالوا: هلك. قال: ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبراً ، وإن في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أقسم قس قسماً حقاً لئن كان في الأرض رضىً ليكونن سخط، إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا، أم تركوا فناموا، ثم قال صلى الله عليه وسلم : أيكم يُنشد شعره؟ فأنشدوه:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصاير
لما رأيت موارداً للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها تغدو الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إليّ ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر
قال ابن الجوزي : "هذا الحديث من جميع جهاته باطل"
21- " اطلبوا العلم ولو بالصين "
قال ابن عراق : (قال ابن حبان : حديث باطل لا أصل له ) .
وقال ابن الجوزي في الموضوعات: بعد أن رواه بسنده (هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... )
22- " أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، إلا أن يشاء الله! "
قال الشوكاني : (رواه الجوزقاني عن أنس مرفوعاً، والاستثناء موضوع، وضعه أحد الزنادقة) وهو محمد بن سعيد المصلوب
23- " علي خير البشر، من أبى فقد كفر "
قال ابن عراق: (رواه الحاكم من حديث ابن مسعود، من طريق أبي أحمد الجرجاني إمام التشيع في زمانه، وفيه أيضاً محمد بن شجاع الثلجي وحفص بن عمر الكوفي، لكن المتهم به الجرجاني ... .)
24- " رد الشمس لعلي –رضي الله عنه- "(9/4)
وهو حديث أسماء بنت عميس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي، ولم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أصليت ؟! قال : لا. قال رسول الله: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس، قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعدما غربت.
رواه ابن الجوزي في الموضوعات، وقال عنه : (هذا حديث موضوع بلا شك، وقد اضطرب الرواة فيه ... ) وأطال في بيان اضطراب رواته ثم قال: (ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنه نظر إلى صورة فضيلة، ولم يتلمح إلى عدم الفائدة؛ فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاء، فرجوع الشمس لا يُعيدها أداء)
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) في رد هذا الحديث الموضوع
25- " لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص "
يروى أنه صلى الله عليه وسلم قاله لعائشة –رضي الله عنها- لما سخنت له ماء في الشمس.
رواه ابن الجوزي في الموضوعات، ثم قال: (هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال العقيلي: (ليس في الماء المشمس شيء يصح مسنداً) وقال الشوكاني: (له طرق لا تخلو من كذاب أو مجهول) .
26- " إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء "
رواه الترمذي، وفيه ضعف، ولهذا أورده ابن الجوزي في الأحاديث الواهيات .
27- " مسح الرقبة أمانٌ من الِغل "
قال النووي في شرح المهذب : (موضوع)، وقال ابن الصلاح : (لا يُعرف مرفوعاً، وإنما هو من قول بعض السلف) .
28- " من رفع يديه في الصلاة فلا صلاة له "
قال ابن عراق: (رواه الجوزقاني من حديث أبي هريرة، وفيه مأمون بن أحمد ... قلت: قال الذهبي في تلخيص الموضوعات : وضعه مأمون، وسرقه ابن عكاشة)
29- " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد "(9/5)
قال العجلوني : (رواه الدارقطني والحاكم والطبراني فيما أملاه، ومن طريقه الديلمي عن أبي هريرة، والدارقطني عن علي مرفوعاً، وابن حبان في الضعفاء عن عائشة، وأسانيدها ضعيفة، وليس له كما قال الحافظ في تلخيص تخريج الرافعي إسنادٌ ثابت وإن اشتهر بين الناس ... وقال الصغاني: موضوع، وقال ابن حزم: هذا الحديث ضعيف)
30- " من تهاون بصلاته عاقبه الله بخمس عشرة خصلة: ستة منها في الدنيا، وثلاثة منها عند الموت، وثلاثة منها في قبره، وثلاثة منها تصيبه يوم القيامة إذا خرج من قبره.
فأما التي تصيبه في دار الدنيا فأولها يرفع الله البركة من رزقه، والثانية ينزع الله البركة من عمره، والثالثة يرفع الله سيما الصالحين من وجهه، والرابعة لاحظ له في دعاء الصالحين، والخامسة كل عمل يعمله من أعمال البر لا يؤجر عليه، والسادسة لا يرفع الله دعاءه إلى السماء.
وأما التي تصيبه منها في قبره فأولها: يوكل الله به ملكاً يزعجه في قبره إلى يوم القيامة، والثانية تكون ظلمة في قبره فلا يضئ له أبداً، والثالثة يضيق الله عليه قبره إلى يوم القيامة .
وأما التي تصيبه منها إذا خرج من قبره: فأولها يوكل الله به ملكاً يسحبه على حر وجهه في عرصات القيامة، والثانية يحاسب حساباً طويلاً، والثالثة لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب)
قال ابن عراق: (رواه ابن النجار من حديث أبي هريرة، قال في الميزان : حديث باطل، ركَّبه محمد بن علي بن العباس على أبي بكر بن زياد النيسابوري، وقال في اللسان: هو ظاهر البطلان من أحاديث الطرقية)
31- " من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته "(9/6)
أورده ابن الجوزي في الموضوعات، وفيه الهيصم بن شداخ، ثم قال: (قال العقيلي: الهيصم مجهول، والحديث غير محفوظ. قال ابن حبان: الهيصم يروي الطامات لا يجوز الاحتجاج به.. قال العقيلي: الحديث غير محفوظ ولا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مسند ) .
32- " ما أفلح صاحب عيال قط "
قال علي القاري في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة : (رواه الديلمي بسنده عن أبي هريرة به مرفوعاً، وقال ابن عدي : هو عن النبي صلى الله عليه وسلم منكر)
ومثله: حديث :
33- "شراركم عزابكم "
قال ابن عراق: (رواه ابن عدي من حديث أبي هريرة ولا يصح؛ فيه خالد بن إسماعيل، وله طريق ثانٍ فيه يوسف بن السفر، ولا يصح)
وقال ابن الجوزي: (هذا حديث لا يصح، وصالح هو مولى التوأمة مجروح. قال ابن عدي: وخالد بن إسماعيل يضع الحديث) .
34- " إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته فلا ينظر إلى فرجها؛ فإن ذلك يورث العمى "
قال الشوكاني : (رواه ابن عدي عن ابن عباس مرفوعاً. وقال ابن حبان: هذا موضوع. وكذا قال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه. وعده ابن الجوزي في الموضوعات) .
35- " لا يدخل الجنة ولد زنا "
قال ابن عراق: (رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة ... ولا يصح) وقال –أيضاً- : (هو مخالف لقوله تعالى (ولا تزو وازرة وزر أخرى) ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ولد الزنا ليس عليه من إثم أبويه شيء" أخرجه الطبراني من حديث عائشة، قال السخاوي: وسنده جيد)
وقال ابن الجوزي بعد أن أورد هذا الحديث وما شابهه في الموضوعات : (ليس في هذه الأحاديث شيء يصح) .
36- " لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من تعصي "(9/7)
قال ابن عراق: (رواه أبو نعم من حديث عمرو بن العاص، وفيه محمد بن اسحق العكاشي. قلت: أورده ابن الجوزي في الواهيات من الطريق المذكور ومن حديث ابن عمر من طريق غالب بن عبيد الله، ومن حديث أبي هريرة من طريق أبي داود النخعي، ثم قال: هذا إنما يثبت من قول بلال بن سعد، والله تعالى أعلم)
قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية" : (هذا مشهور من كلام بلال بن سعد، وإنما رفعه إلى رسول صلى الله عليه وسلم الكذابوان).
37- " البلاء موكل بالمنطق "
قال ابن الجوزي : (هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذكره الصاغاني في الموضوعات
38- " أوحى الله إلى الدنيا: اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك "
قال ابن عراق: (رواه الخطيب من حديث ابن مسعود ، وابن الجوزي من حديثه أيضاً بلفظ : يقول الله تبارك وتعالى: مري على أوليائي وأحبائي لا تحلولي لهم فتفتنيهم، وأكرمي من خدمني، وأتعبي من خدمك، ومدار الطريقين على الحسين بن داود البلخي) .
وقال الشوكاني: (الحديث موضوع) .
39- " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى "
قال ابن عراق : (رواه أبو نعيم من حديث ابن عمر، وابن عرفة في جزئه من حديث أبي سعيد، والطبراني من حديث أبي أمامة، وابن الجوزي من حديث أبي هريرة، ولا يصح ... ) .
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات .
40- " البدلاء أربعون رجلاً وأربعون امرأة، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة "
قال ابن عراق: (رواه الحسن الخلال في كرامات الأولياء من حديث أنس، ولا يصح منها شيء ... )
وقال ابن القيم معدداً الأحاديث الموضوعة: (ومن ذلك: أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد، كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم)
41- " ثلاثة لا يُعَادون: صاحب الرَمَد، وصاحب الفرس، وصاحب الدّمل"(9/8)
قال العجلوني : (رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في الشعب وضعفه، عن أبي هريرة رفعه. ورواه البيهقي أيضاً عن يحيى بن أبي كثير من قوله، وهو الصحيح)
وقال ابن عراق: (فيه مسلمة بن علي الخشني متروك)
42- " من عشق فكتم فعف فمات مات شهيداً "
قال ابن القيم –رحمه الله- : "هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يكون من كلامه؛ فإن الشهادة درجة عالية عند الله مقرونة بدرجة الصديقية. ولها أعمال وأحوال، هي شرط في حصولها، وهي نوعان: عامة وخاصة؛ فالخاصة: الشهادة في سبيل الله. والعامة : خمس مذكورة في الصحيح ليس العشق واحداً منها ... " الخ ما قال –رحمه الله- في تضعيف هذا الحديث .
43- " لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك "
قال الشوكاني : " قال في الذيل: لا يصح. وقال الصغاني : موضوع. وقال في الوجيز : هو من حديث واثلة بن الأسقع، وفيه عمر بن إسماعيل، كذاب"
44- " دفن البنات من المكرمات "
ذكره ابن الجوزي في الموضوعات ، وقال : "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" وضعف جميع طرقه .
45- " يدعو الله الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً من الله عليهم"
قال ابن عراق: "رواه ابن عدي من حديث أنس، ولا يصح، فيه إسحاق بن إبراهيم الطبري.."
46- " ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا "
قال العجلوني : "رواه ابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص" . وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب (877) .
47- " اتق شر من أحسنت إليه "
قال السخاوي : "لا أعرفه، ويشبه أن يكون من كلام بعض السلف"
48- " أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار "
قال العجلوني : "رواه ابن عدي عن عبد الله بن جعفر مرسلاً"
وقال الألباني : "ضعيف، أخرجه الدرامي"
49- " إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به "(9/9)
قال ابن دحية : " موضوع " وقال ابن الجوزي : "هذا حديث موضوع بلا شك، والذي وضعه قليل الفهم، عديم العلم؛ إذ لو كان له علم لعلم أن من مات كافراً لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة ... "
50- " اختلاف أمتي رحمه "
قال الألباني –رحمه الله- : "لا أصل له، وقد جهد المحدثون في أن يقفوا له على سند فلم يوفقوا"
51- " اقرأوا ياسين على موتاكم "
رواه أبو داود وغيره وضعفه الشيخ الألباني –رحمه الله- في الإرواء (688).
52- " أنفق ما في الجيب يأتك ما في الغيب "
قال العجلوني : " ليس بحديث "
53- " إياكم وخضراء الدِّمَن ... المرأة الحسناء في المنبت السوء "
قال الدارقطني : "لا يصح من وجه "
54- " بشر القاتل بالقتل .. ولو بعد حين "
قال السخاوي : "لا أعرفه "
55- " النظافة تدعو إلى الإيمان "
رواه الطبراني في الأوسط " بسند ضعيف جداً " كما قال القاري
56- " جنبوا مساجدكم صبيانكم "
رواه ابن ماجه ، وقال السخاوي : "سنده ضعيف "
57- " الجنة تحت أقدام الأمهات "
قال الألباني : "موضوع "
58- " حب الوطن من الإيمان "
ذكره الصاغاني في الموضوعات ، وقال السخاوي : "لم أقف عليه"
59- " الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر "
قال القاري : "ليس بثابت" ونسبه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) إلى بعض السلف .
ومثله :
60- " العلم في الصغر كالنقش في الحجر "
قال العجلوني : "رواه البيهقي عن الحسن البصري من قوله "
وقال شيخ الإسلام في منهاج السنة ( 7/526): " هذا مثل سائر ، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم " .
61- " خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء "
قال ابن حجر : "لا أعرف له إسنادا "
وقال ابن القيم : " كل حديث فيه : يا حميراء، أو ذكر: الحميراء؛ فهو كذب مختلق ... ."
62- " خير الأمور أوسطها "
قال السخاوي : "رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد بسند مجهول"(9/10)
63- " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب "
قال ابن حجر : "هو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن أبي عبلة" . وقال العراقي: "رواه البيهقي من حديث جابر وقال: هذا إسناد فيه ضعف"
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : "لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله . وجهاد الكفار من أعظم الأعمال، بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان "
64- " سيد القوم خادمهم "
قال السخاوي : "في سنده ضعف وانقطاع"
وقال الألباني: "ضعيف "
65- " الضرورات تبيح المحظورات "
قال العجلوني : "ليس بحديث "
66- " كما تكونوا يولى عليكم "
رواه البيهقي في شعب الإيمان (7391) بلفظ : "كما تكونوا كذلك يؤمر عليكم "، وقال: "هذا منقطع، وراويه يحيى بن هاشم؛ وهو ضعيف " وقال الشوكاني : "في إسناده وضاع، وفيه انقطاع "
67- " كلمة حق أريد بها باطل "
ليس بحديث، إنما هو من قول علي –رضي الله عنه- قاله للخوارج الذي قالوا: لا حكم إلا لله . رواه مسلم .
68- " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه "
قال شيخ الإسلام ابن تيمية "موضوع "، وقال ابن القيم : "هو من وضع المشركين عباد الأوثان" وقال ابن حجر : "لا أصل له " .
69- " المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء "
قال السخاوي : "لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب "
70- " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً"
قال الألباني : "باطل، وهو مع اشتهاره على الألسنة لا يصح من قبل إسناده ولا من جهة متنه "
71- " الناس على دين ملوكهم "
قال السخاوي : "لا أعرفه حديثاً ... وللبيهقي عن كعب الأحبار قال: إن لكل زمان ملكاً يبعثه الله على نحو قلوب أهله ... "
72- " كان صلى الله عليه وسلم يصافح النساء وعلى يده ثوب "
قال الألباني: "ضعيف، أخرجه ابن عبد البر في التمهيد "(9/11)
73- " الدين المعاملة "
"لا أصل له" قاله الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (5/11). وقال الشيخ عبد العزيز السدحان: "فتشت عنه كثيراً ولم أعثر عليه "
74- " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " أي أهل الذمة .
قال الألباني : "باطل لا أصل له، وقد اشتهر في هذه الأزمنة المتأخرة على ألسنة الخطباء والدعاة والمرشدين مغترين ببعض الكتب الفقهية "
75- " نية المؤمن خير من عمله "
قال الألباني: "ضعيف، رواه الطبراني " وأخرجه البهيقي في شعب الإيمان (5/343) بلفظ: "نية المؤمن أبلغ من عمله " وقال : "هذا إسناد ضعيف".
76- حديث: " تلقين الميت بعد دفنه "
ولفظه : "إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول: يا فلان بن فلانة. فإنه يسمع ولا يجيب. ثم ليقل: يا فلان بن فلانة الثانية فإنه يستوي قاعداً ثم ليقل: يا فلان بن فلانة. يقول: أرشدنا رحمك الله ولكنكم لا تسمعون. فيقول: أذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يتأخر كل واحد منهما ويقول: انطلق بنا، ما يقعدنا عند هذا، وقد لقن حجته ويكون الله ورسوله حجيجه دونهما. فقال رجل: يا رسول الله: فإن لم يعرف أمه؟ قال: ينسبه إلى أمه حواء"
رواه الطبراني ، وقال الصنعاني في سبل السلام (2/161): "يتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف، والعمل به بدعة"
أحاديث زيارة قبره صلى الله عليه وسلم :
77- كحديث : "من حج ولم يزرني فقد جفاني "
78- وحديث : " من زار قبري وجبت له شفاعتي "
79- وحديث : " من زارني وزار إبراهيم في عام واحد دخل الجنة"
80- وحديث: "من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزى غزوة وصلى في بيت المقدس، لم يسأله الله عما افترض عليه "(9/12)
81- وحديث: "من زارني وزار أبي إبراهيم في سنة واحد ضمنت له على الله الجنة " وغيرها من الأحاديث والقصص المشابهة كقصة : أن بلالاً –رضي الله عنه- لما كان بالشام رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما هذه الجفوة يا بلال؟ فذهب بلال إلى المدينة وتمرغ عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ... الخ !
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "ليس في الإحاديث التي رويت بلفظ زيارة قبره –صلى الله عليه وسلم- حديث صحيح عند أهل المعرفة، ولم يخرج أرباب الصحيح شيئاً من ذلك، ولا أرباب السنن المعتمدة، كسنن أبي داود والنسائي والترمذي ونحوهم، ولا أهل المساند التي من هذا الجنس؛ كمسند أحمد وغيره، ولا في موطأ مالك، ولا مسند الشافعي ونحو ذلك شيء من ذلك، ولا احتج إمام من أئمة المسلمين –كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم- بحديث فيه ذكر زيارة قبره" وقال –أيضاً- : "ليس في هذا الباب ما يجوز الاستدلال به، بل كلها ضعيفة، بل موضوعة" وقال ابن عبد الهادي في رده على السبكي: "جميع الأحاديث التي ذكرها المعترض في هذا الباب وزعم أنها بضعة عشر حديثاً ليس فيها حديث صحيح، بل كلها ضعيفة واهية"
82- " لا سلام على طعام "
83- وفي لفظ: "لا سلام على آكل "
قال الملا علي القاري: "لا أصل له "
84- " مصر كنانة الله في أرضه "
قال السخاوي: " لم أره بهذا اللفظ "
85- " ولدت في زمن الملك العادل "
قال السخاوي : "لا أصل له" وقال الزركشي: "كذب باطل"
وقال الحليمي : "لا يصح ... ليس يجوز أن يسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يحكم بغير حكم الله عادلاً"
86- "رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً "
قال الإمام أحمد: " هذا الحديث كذب منكر" ، وقال النسائي: "الحديث موضوع "
87- " من أعان ظالماً سلطه الله عليه "
قال الشوكاني : "في إسناده متهم بالوضع"
88- " كانت خطيئة داود النظر "
قال الشوكاني : "لا أصل له "(9/13)
89- " حسنات الأبرار سيئات المقربين "
ليس بحديث . قال السخاوي : "هو من كلام أبى سعيد الخراز، رواه ابن عساكر في ترجمته "
90- " الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة "
قال الحافظ ابن حجر : "لا أعرفه "
91- " خير الأسماء ما عُبِّد وحُمّد "
92- وفي لفظ: "أحب الأسماء إلى الله ما عُبِّد وحُمِّد "
قال الغزي: "لا يعرف بهذا اللفظ "
وقال الألباني : " لا أصل له "
93- " صوموا تصحوا "
ذكره الصغاني في الموضوعات . وقال الألباني : "ضعيف "
--------------------
* راجع هوامش الموضوع في الملف المرفق(9/14)
بيان
الحمد لله القائل : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينا) :
لقد اطلعت كما اطلع غيري على القصة السمجة المسماة ( تجربتي مع المطاوعة ) ، وتعجبت لما جاء فيها من افتراءات وأكاذيب واضحة علي وعلى غيري، وهذا ليس بغريب ممن قيل في أشباههم ( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) ، وقد صيغت هذه القصة أو الحكاية المملة بنفَس حاقد على أهل الخير والصلاح ، ويكفي لسقوطها أنها جاءت من شخص نكرة ! قد يكون رافضيًا سبابًا ، أو علمانيًا وقحًا ، أو عصرانيًا منتكسًا !
ويكفي لسقوطها أيضًا أن الكاتب قد نسب إلي بأنني عضو نشيط في توجيه المراكز الصيفية !! وكل من يعرفني يعلم أنني لم أشارك في ( أي ) مركز صيفي سواء استفادة أو إفادة ! مع دعائي للقائمين على هذه المراكز وفقهم الله أن يستغلوها في ما ينفع الشباب من حفظ قرآن أو تعلم علم أو أنشطة مفيدة ، تحفظ أوقات الشباب بإذن الله ، وتحميهم بإذنه تعالى من أهل الباطل والإنحراف ، دون تحزبات ، بل بإرتباط وثيق بالعلماء الكبار .
المهم أن هذه القصة فرصة سانحة لكي يتعرف المسلمون من خلالها على ديانة القوم ، وأنهم لا يتورعون عن الكذب والبهتان في سبيل مواجهة دعاة الإسلام وأهله ، ممن أغاظوهم وأثخنوهم :
فيكفيكموا هذا التفاوت بيننا *** وكل إناء بالذي فيه ينضح
بل لقد وصل الفجور بكاتب القصة أن يقذف أحد من ذكرهم ( وهو المسمى بعائض ) بفعل عمل قوم لوط ! متناسيًا قوله تعالى ( إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) فالله حسيبه وحسيب من يتابعه .
ولقد ساءني بعد هذا أن يقوم بعضهم بنسبة بيان لي بأنني أكذب هذه القصة ، وكتب ذلك باسمي !! وهذا أيضًا من الكذب علي ، ولا يشفع لمن فعله حسن نيته ومحبته الدفاع عني .(10/1)
والقصة لا تحتاج في ظني لمثل بيانه هداه الله ، لأنها تحمل عوامل سقوطها في جوفها ، ولا يصدقها إلا أصحابها أو من يتابعهم من الجهلة ، كما أنها فرصة كما قلت لفضح مروجيها ممن يحبون الصد عن سبيل الله .
وأنا لم أكتب ما سبق إلا لتكذيب هذا البيان المفترى لا لتكذيب القصة !! فتأمل .
قد يقال : لماذا تحرص على تكذيب بيان هذا الأخ المحب المجتهد عفا الله عنه ، وهو مما قد ينفع ولا يضر؟
فأقول : ليعلم أعداء دعوة الكتاب والسنة بأننا ولله الحمد نتنزه عن أفعالهم وما يستبيحونه ، وأن لنا شرعًا نقف عند حدوده .
بعد هذا أقول : أتمنى من الإخوة أن لا يصدقوا ما يقرأونه من بيان ينسب إلي ما لم يجدوه في صفحتي بموقع ( صيد الفوائد ) .
أسأل الله أن يعز دينه ، وأن يكبت من فيه شر .
( اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم ، وندرأ بك في نحورهم )
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ( أجمعين ) .(10/2)
توضيح حول فتوى مكذوبة علي
بسم الله الرحمن الرحيم
سألني بعض الإخوة عن فتوى انتشرت في الانترنت منسوبة لي تقول باستباحة دماء وأموال العلمانيين !! فقلت لهم بأنها مكذوبة من بعض المغرضين الذين ساءتهم ردودي على من يعظمونهم من المفكرين المنحرفين الذين هم ضد الدين وضد الدولة السعودية السلفية ، فأرادوا أن يصطادوا في الماء العكر ، ظانين الدولة مغفلة أو ساذجة تُصدق مثل هذه الأكاذيب .
وقد أنشأوا موقعًا ساخرًا باسم ( موقع أم أنس ) ! يحتوي على فتاوى مكذوبة على العلماء وطلبة العلم غيري . وقد أحسنت مدينة الملك عبدالعزيز عندما أغلقته . وبودي لو تتتبعه وزارة الداخلية لتحاسب من يقف خلفه ، وهو على الرابط التالي : umanas.netfirms
وقد ساء هؤلاء المفترين : أن موقفي وكتاباتي تسير وفق منهج علمائنا الكبار ؛ كالشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين – رحمهما الله - ، واللجنة الدائمة ؛ حيث الحرص على جماعة المسلمين والسمع والطاعة لولاة الأمور ، واستنكار الأعمال الإرهابية .
والعجيب : أن أول كتاب لي ألفته عام 1413هـ بعنوان " محمد عمارة في ميزان أهل السنة " فيه مبحث في الرد على الدكتور العصراني عمارة الذي ينتمي بعض المغرضين لمدرسته في مسألة " الخروج على الحكام " و " الثورة " ! حيث أن المذكور بسبب فكره الاعتزالي يدعو لهذا ، فرددت عليه وبينت له منهج أهل السنة في التعامل مع الحكام .
- وكذلك رددت في موقع الكاشف على الدكتور الكويتي حاكم المطيري – هداه الله - الذي يؤصل للفكر الثوري .
- ولخصت كتاب الشيخ فيصل الجاسم في الرد على شبهات أهل التفجير ، على الرابط التالي :
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/mm/4.htm
وأختم بتنبيه أن أي كتابة منسوبة لي في غير هذه الصفحة أو موقع الكاشف فهي مكذوبة .
أسأل الله أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار ، وصدق الله : ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) ، وحسبي الله ونعم الوكيل .(11/1)
التاريخ : 1/5/1426هـ(11/2)
العصرانية قنطرة العلمانية
بحث مختصر يبين خطر انتشار الأفكار العصرانية على المجتمع المسلم
صيحة نذير إلى ولاة الأمور ودعاة الإسلام
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه.. وبعد :
فاعلم –علمني الله وإياك ما ينفعنا- أني تأملت حال المجتمعات الإسلامية خلال القرن الأخير وكيف غزاها الانحراف والتغريب بواسطة أعداء الإسلام، فوجدتها لا تخلو من حالين:
الحال الأولى : حال المجتمعات التي يكون الغزو فيها مباشراً؛ وهي المجتمعات الإسلامية التي لم تكن لها مرجعية علمية، أو هيئة شرعية تذكر، تقف سدًا منيعاً أمام ذلك الغزو. فهذه سهل اقتحامها واستباحتها من العدو وعملائه اللادينيين .
الحال الثانية: حال المجتمعات التي يكون فيها الغزو من خلال (وسيط) أو (ناقل) يلبس لباس الإسلام. وهي المجتمعات الإسلامية التي تأوي إلى مرجعية علمية أو هيئة شرعية في معظم أمورها أو في النوازل التي تحل بها، مع ارتباط (شرعي) بولاة أمرها. فمثل هذه المجتمعات لم يستطع العدو اقتحامها واستباحتها وخلخلة وحدتها القائمة بين الأمراء والعلماء إلا من خلال ذلكم الوسيط؛ نظراً لطبيعتها الدينية الشرعية.
وخير مثال لهذه الحال: مجتمع مصر في القرنين الأخيرين، حيث سلط عليه الأعداء الغزو العسكري(*) والغزو الفكري في سبيل صرفه عن دينه، لكنهم باؤا بالفشل ولم يحققوا نجاحاً يذكر يوازي ما قاموا به من الجهود؛ نظراً لارتباط الشعب المصري بعلمائه الشرعيين الممثلين في الأزهر؛ حيث كانوا حصناً منيعاً أمام جهود الأعداء التغريبية .(12/1)
لكن الأعداء لم ييأسوا أو يملوا وهم يرون ضياع جهودهم وفشلهم، وإنما لجؤا إلى خطة أكثر مكراً، وأشد ضررًا، وهي تكرار محاولة الغزو للمجتمع المصري بواجهة إسلامية (مخدوعة) يتقبل الشعب المسلم اطروحاتها وأفكارها التغريبية دون نفرة أو استيحاش؛ يخلخلون بها وحدة المجتمع المصري المسلم؛ بتهييجه على ولاة أمره، إضافة إلى صرفه عن العلماء الكبار الراسخين الذين يصعب تطويعهم. وقد تم لهم ذلك من خلال ما يسمى (بالعصرانيين) أتباع مدرسة الأفغاني ومحمد عبده الذين ظنوا بجهلهم أنهم يخدمون الإسلام والدعوة بصنيعهم هذا، ويوفقون بين أحكام الشريعة ومتطلبات العصر –زعموا !- ولكنهم أصبحوا فيما بعد كما قال ألبرت حوراني: "قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحداً تلو الآخر" . ثم كان مصير أفراد هذه الطائفة العصرانية الخاسرة مصير أي وسيلة استخدمت فاستنفذت أغراضها، حيث (تمندل) بهم الأعداء قليلاً ثم رموا بهم. فمنهم من مات بحسرته جراء ما جناه على مجتمعه، ومنهم من انحاز إلى الصف العلماني وكشف عن حقيقته، وقلة منهم أحست بخطورة دورها الذي قامت به فأرادت أن تُكَفّر عن سيئاتها بانحيازها رويدًا رويدًا إلى أهل الإسلام. ولكن بقيت تجربتهم جميعاً عبرة للمعتبرين وآية للمتوسمين .
وبلاد الحرمين –حماها الله وصرف كيد الفجار عنها- تتشابه في طبيعتها مع طبيعة المجتمع المصري خلال القرنين السابقين، قبل هبوب رياح التغريب عليه؛ فهي تأوي إلى ركن شديد من علمائها الكبار، وارتباط (شرعي) وثيق بولاة أمرها، وتنهل من معين دعوة سلفية شرعية قامت عليها ولأجلها . فلهذا لم يستطع العدو ولله الحمد اقتحامها أو تغريبها مباشرة أو من خلال أذنابه العلمانيين الأقحاح الذين نبذهم المسلمون وباؤا بفشل ذريع، رغم تكرر محاولاتهم .(12/2)
ومثلما لم ييأس أعداء الإسلام من اقتحام هذا المجتمع المسلم وتغريبه فإنهم –لا شك- سيعاودون الكرة عليه، ولكن بواجهة إسلامية (عصرانية) تضفي الشرعية على أفكارهم ومطالبهم، وتحدث شرخاً في وحدته، وتحاول نزع ثقة الناس بعلمائه الكبار، وهي تُستدرج إلى ذلك بمكر وخفاء.
وقد بدأت بوادر تنذر بشيء من ذلك –للأسف!-؛ فتسللت الأفكار العصرانية إلى عقول بعض الإسلاميين الصالحين عندنا، فأخذوا يرددونها في مقالاتهم وكلماتهم، جهلاً منهم بخطورتها ومآلها على البلاد، وانخداعاً ببهرجها، وظناً منهم بأنها ستُبَلِّغهم أهدافهم. وفاتهم –هداهم الله- أن هذه الأفكار ما هي بجديدة في عالم المسلمين، وأن مجتمعاً إسلامياً آخر غير مجتمعنا هو مجتمع مصر قد خبرها وجُرِّبت عليه؛ فلم تنتج سوى النتاج المر الفاسد الذي لا زال يعاني منه إلى اليوم.
وقد اكتشف النبهاء من أهله –كما سيأتي- ولكن بعد فوات الأوان، أن هذه الأفكار البراقة لم تكن سوى أحبولة صنعتها يد المكر لاستباحة ديار المسلمين وعقولهم واقتصادهم، وأنها لم تحقق للمسلمين إلا مزيداً من الذل والصغار والخضوع للأعداء، فضلاً عن التفريط بمهمات الدين وشرائعه.
وقد كان من حق التجربة (العصرانية) المصرية أن تكون عبرة للمعتبرين، وموعظة للآخرين، وأن لا يُلدغ المؤمنون بعدها من جحر مرتين.
ومن مظاهر تسلل هذه الأفكار بين أهل الإسلام في بلادنا هذه الأمثلة التي وقفت عليها، ولعل غيري قد وقف على مثيلاتها:
1- أحد الدعاة الأفاضل ممن لهم جهود لا تنكر في نشر الخير ينشئ موقعاً على شبكة الأنترنت لا تجد فيه حساً ولا خبرًا لأحدٍ من كبار العلماء لدينا ! فلماذا هذا ؟! ومعلوم خطورة عزل جيل الشباب عن علمائه الكبار، حيث ينصرف بعدها إلى أناس لا علم عندهم ولا ورع، إنما هي المصالح والتحزبات التي تقود البلاد إلى فرقة وضعف.(12/3)
2-أحد الأفاضل من حاملي الدعوة لدينا يقول: بأنه لا مانع من وصف اليهود والنصارى بأنهم (إخوان لنا) !! ويعني بذلك الأخوة الإنسانية !
3- داعية آخر يدعو إلى (المجتمع المدني) ! القائم على الانتخابات والبرلمانات.. الخ. وفاته أن المجتمع المدني في اصطلاح القوم هو المجتمع العلماني الذي لا يرجع إلى شريعة تحكم أفعاله . وأن في دعوته هذه (تهييجاً) لعامة الناس على ولاة أمرهم بطريقة تفسد ولا تصلح. متغافلاً –هداه الله- عن الطرق الشرعية.
4- داعية آخر يكتب مقالاً بعنوان "المرأة إنسان"، يصوغه بلغة حداثية غريبة! يطالب فيه بإعادة النظر في قضايا المرأة!! ويحيل قارئه للفائدة على كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" للعصراني عبدالحليم أبو شقة!
5- كاتب إسلامي آخر يزعم –بجهل لا شك- أن "الحق المطلق لا يملكه أحد" !!وهذا مصطلح (كفري) يؤدي بصاحبه إلى الشك والحيرة والتذبذب .
6- كاتبة إسلامية مرموقة تكتب عدة مقالات عن المرأة، تردد فيها أفكار العصرانيين والعلمانيين. حتى ليخال للقارئ بأنه يقرأ لإحدى داعيات تحرير المرأة في بلادنا ! فكيف حدث هذا ؟!
7- جريدة أسبوعية إسلامية تفتح صفحاتها لكتبة العصرانية من كل مريض وفاشل وطالب شهرة؛ ليلمز ويهمز من خلالها في دعوة الكتاب والسنة ويصفها بأبشع الصفات، ويبث شبهاته وانحرافاته تحت بصر وسمع الفضلاء أصحاب الجريدة ممن لهم تاريخ مشرف في مجال الدعوة والإعلام الإسلامي.
لأجل هذا كله ودرءً للخطر قبل وقوعه؛ فقد أحببت أن أنصح لإخواني دعاة الإسلام وحملته في هذه البلاد ببيان : كيف أصبحت العصرانية في مصر قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى مجتمعهم كما سبق؟ ليأخذوا حذرهم ويتبصروا أمرهم وما يكيده الأعداء لهم، فلا ينساقوا وراء الأفكار العصرانية مهما تزخرفت وتزينت كما انساق غيرهم، فيكون حالهم مع مجتمعهم كحال من :
رام نفعاً فضرَّ من غير قصدٍ *** ومن البر ما يكون عقوقًا(12/4)
وتضيع جهودهم السابقة المشكورة في التصدي لأهل العلمنة بهذه النهاية الموجعة –لا قدر الله- التي يخدمون بها أولئك المفسدين عن غير قصد، فيحق فيهم قول الله تعالى (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً). عندها نقول لهم :
وإخوانٍ تخذتهمو دروعاً *** فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات *** فكانوها، ولكن في فؤادي
وقالوا قد سعينا كل سعي *** فقلت نعم ، ولكن في (فسادي)
أسأل الله أن يوفق دعاة الإسلام لأن (يأخذوا حذرهم) فلا يكونوا مطية لغيرهم، وأن يحسن لنا ولهم الخاتمة، ويستعملنا إلى أن نلقاه في طاعته.
مقدمة:
لقد كتب كثير من العلماء والباحثين عن المدرسة العصرانية الحديثة التي نشأت في ديار المسلمين نتيجة التقائهم بالغرب المتقدم مادياً، وأجادوا في بيان انحرافها عن الإسلام بلا مزيد عليه ، ولهذا فإنني لن آتي بجديد في هذا الموضوع، ولكني أردت من خلال هذا البحث المختصر التركيز على انحرافٍ واحدٍ من انحرافات تلك المدرسة –كما سبق- لعله يكون أخطرها، وتوسعت فيه بعض التوسع، ونقلت كلمات مهمة تتعلق به.
نشأة المدرسة العصرانية الحديثة: الأفغاني ومحمد عبده :
تعود نشأة المدرسة العصرانية الحديثة في البلاد العربية إلى جهود رجلين اجتمعا زمناً بمصر؛ هما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده .
أما الأفغاني فقد كان غامض الأمر محيرًا للباحثين في حياته وبعد مماته، مما جعلهم يضطربون في مكان نشأته ومذهبه وأهدافه . إلا أنه بعد نشر كثير من الوثائق والدراسات حوله لم يعد هناك مجالٌ للشك في كونه شيعياً إيرانياً أخفى ذلك ترويجاً لأفكاره بين أهل السنة الذين لن يجد منهم أي احتفاء لو كشف تلك الحقيقة بينهم .
ولكن الخلاف بعد تقرير أمر شيعيته وإيرانيته سيكون حول حقيقة أفكاره، وماذا كان يريد؟
هناك وجهتا نظر للباحثين كلاهما تمتاز بالقوة :(12/5)
1- الأولى: أن الأفغاني كان يريد إعادة الدولة الشيعية إلى بلاد مصر، ولهذا اختار المقام فيها على غيرها من البلاد الأخرى. وأنه لأجل هذا كان يخفي شيعيته ويدعي الانتساب لآل البيت؛ ليتمكن من تكوين عصبة حوله تعينه على هذا الأمر إذا ما حانت ساعة الصفر –كما يقال-. وأنه كان لا يفضي بهذا الأمر إلا لخاصته؛ كمحمد عبده. وهذه ليست بغريبة على الشيعة الذين لا زالت قلوبهم تهفو إلى هذه البلاد منذ أن طردوا منها، فقد قاموا بعدة تجارب لأجل هذا الأمر؛ من أهمها تجربة السيد ! البدوي الذي أرسله أساطين الرفض في العراق إلى بلاد مصر، فكانت غايته –كما يقول الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف- : "أن يجمع عصبية في الديار المصرية للعلويين ، كتلك العصبيات التي كان يجمعها غيره من الصوفية في أقطار العالم الإسلامي حتى تكون عوناً لهم إذا ما تهيأت الفرصة، ونهضوا لطلب الملك"
ومما يشهد لهذا : الغموض الذي أحاط الأفغاني به نفسه، حيث لم يوضح (بصراحة) حقيقة أفكاره؛ إنما هي أمور عامة يشترك معه فيها غيره.
ومما يشهد لهذا –أيضاً- أن تلميذه محمد عبده كان كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات :
ذرني وأشياء في نفسي مخبأة *** لألبسن لها درعاً وجلبابا
والله لو ظفرت نفسي بطلبتها *** ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبا
حتى أطهرهذاالكون من دنس*** وأوجب الحق للسادات إيجابا
وأملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت*** ظلماً وأفتح للخيرات أبوابا
فما هي هذه "الحاجات المخبأة في نفسه" ؟! ومن هم "السادات" الذين سيوجب لهم الحق، ويضرب لأجلهم أعناق الناس؟!
وجهة النظر الثانية: تقول بأن الأفغاني ما كان يحفل بالمذاهب كلها، سنيها وشيعيها، بل ما كان يحفل بالأديان نفسها! فالجميع –عنده- شيء واحد، فكانت دعوته موجهة نحو إيقاظ (الشرق) المتخلف –دون نظر إلى أديانه- لمواجهة أطماع (الغرب) المتحضر مادياً، والتحرر من سلطانه وضغوطه، والتخلص كذلك من حكم المستبدين .(12/6)
فما كان الإسلام عنده إلا ديناً من ضمن الأديان الكثيرة التي يدين بها أبناء الشرق. ويدلل هؤلاء على وجهة نظرهم بعدة أدلة:
أولها: أنه في كثير من مقالاته يصرح بأن دعوته (شرقية) لا إسلامية. فمن ذلك مثلاً: ما جاء في منهج العروة الوثقى وأهدافها بأنها "ستأتي في خدمة الشرقيين على ما في الإمكان" وقوله عنها : "إنما أنشئت للمدافعة عن حقوق الشرقيين" ويقول أيضاً مبيناً منهاج جريدته : "الغرض تحذير الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً من تطاول الأجانب عليهم، والإفساد في بلادهم. وقد نخص المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجنبيون وأذلوا أهلها أجمعين، واستأثروا بجميع خيراتها" فسبب تركيز الأفغاني على المسلمين كونهم الأغلب في الشرق، ولو كان غيرهم يغلب عليهم لركز عليهم !
أما قضية دعوته إلى الجامعة الإسلامية فيقول عنها الأستاذ عثمان أمين:"إن الجامعة التي كان ينشدها الأفغاني ومحمد عبده في أواخر القرن الماضي ليست هي الجامعة الإسلامية كما توهم بعض الكتاب الغربيين، وإنما هي في صميمها: الجامعة الشرقية"
وقال الدكتور فهد الرومي : "أرى في مقالاته ومقالات تلميذه ما يدل على أنه لا يريد الجامعة الإسلامية بل الجامعة الشرقية التي تجمع دول الشرق: مسلمها وغير مسلمها ضد الاستعمار" .
ويقول محمود أبو رية: "العروة الوثقى كانت تعمل للشرقيين عامة" ويقول الأستاذ: مصطفى غزال: "لو رجعنا إلى كتابات جمال الدين لوجدنا أن دعوته إلى الجامعة الإسلامية في حقيقتها دعوة إلى جامعة شرقية تضم العالم الإسلامي بما فيه من أديان مختلفة وجنسيات متنوعة"
2- ومما يشهد لما سبق –أيضاً- : دخول الأفغاني في الماسونية التي لا تفرق بين الأديان .(12/7)
3- ومما يشهد لذلك –أيضاً-: ما يصدر من الأفغاني بين الحين والآخر من كلمات في حق الإسلام، تدل على أنه لا ينظر إليه كخاتم للأديان أو أنه الحق دون ما عداه من الأديان الباطلة، وإنما تدل كلماته على أنه ينظر للإسلام كنظرته لأي دين آخر ظهر في الشرق، لا مانع من مجاملته إذا اقتضى الحال ذلك! ولا مانع –أيضاً- من نقده!! فمن ذلك مثلاً: أنه في رده على رينان الذين اتهم الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين أيده على هذا! وقال :"في الحقيقة: إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم، وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية" وقال: "إن دين المسلمين يعوق من تطور العلم.. إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً" وقال : "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر، ما هو معروف، نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته. وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن من الخلاص من مخالبه" ! ويقول: "إن هذا الدين –أي الإسلام- حيثما حل حاول خنق العلوم"! .
مثال ذلك أيضاً: قوله للمصريين: "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين ... تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين ، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه" فالمسلمون –عند الأفغاني- لم يكن فتحهم لمصر في سبيل نشر للإسلام ودعوة العباد إليه، إنما هم مجرد عرب ظالمين كغيرهم من الفاتحين.(12/8)
4- ومما يشهد لذلك أيضاً –كما يقول الدكتور فهد الرومي- :"هذا الخليط من اليهود والنصارى الذي يحيط به، سليم نقاش من نصارى الشام وهو ما سوني، ... وأديب إسحاق من أكثر الدعاة إلى الماسونية ... وكان من المحيطين به من النصارى : جورج كوتجي، وطبيبه الخاص هارون يهودي. ولم يحضر وفاته إلا كوتجي النصراني وهارون اليهودي، وعند قدومه إلى مصر يسكن في حارة اليهود"
5- ومما يشهد لذلك أيضاً: إنشاء تلميذه محمد عبده في بيروت "جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية" وقد اشترك معه في ذلك خليط من المسلمين وغير المسلمين.
كل هذه الأدلة تشهد على أن الأفغاني كان من الداعين إلى "الفكرة الشرقية" في مواجهة "الاستعمار الغربي"، وأما أمر الأديان فلم يكن يلقي له بالاً إلا ما يفيده في فكرته هذه .
فملخص دعوته كما يقول أنور الجندي: "الحرية، والدعوة إلى الحكم النيابي والدستور، والتخلص من النفوذ الأجنبي المتمثل في سلطان الدولة الأجنبية المقنع وراء الامتيازات الأجنبية والسيطرة على الاقتصاد والارساليات، والتحرر من الاستبداد السياسي المتمثل في حكم الفرد ونفوذ الخديو وحاشيته" .
أما حكم الإسلام لديار المسلمين والتزامهم بشريعته، فهذا لا يأتي في اهتمامات الرجل، بل إنه كما سبق يرى أن الإسلام من الأديان المستبدة الخانقة للحرية!! ويعني بها حرية الكفر التي يسميها: الفلسفة .
هاتان وجهتا نظر في حقيقة الأفغاني وأهدافه، ولعل الثانية منهما أصوب من الأولى نظراً لقوة أدلتها لمن تأمل .
ماذا فعل الأفغاني بأهل مصر ؟ !(12/9)
عندما قدم الأفغاني مصر زمن الخديو إسماعيل (1871م) كانت البلاد تعيش في انسجام وألفة بين الرعية وولاة أمورهم، ولا يمنع ذلك من وجود الانحراف الذي كان يعالج من خلال النصيحة الشرعية التي يقوم علماء البلاد المتمثلين في شيوخ الأزهر. وكان للبلاد مجلس شورى يتم من خلاله التشاور حول ما يتعلق بالشئون الداخلية والخارجية .
ولكن هذا الوضع (الشرعي) للبلاد لم يُرض الأفغاني (العصراني) (الثوري) الذي رأى فيه ذلاً واستكانةً للحاكم المنحرف، ورأى أن حل مشاكل البلاد لا يكون بما يقوم به شيوخ الأزهر ومناصحاتهم. إنما يكون من خلال الثورة (وتهييج) الناس على ولاة أمرهم. وقد سعى إلى ذلك من خلال دروسه التي كان يلقيها على مريديه ، ومن خلال الصحف والمجلات التي سعى كثيراً إلى إصدارها عبر تلاميذه، وحثهم على نشر أفكاره فيها، وكلها تدور حول الثورة وما يسميه زورًا بالحرية!
أحس ولاة الأمر وعلماء البلاد بخطورة ما يقوم به هذا القادم الغريب، مما لمسوه من انتشار أفكاره الثورية بين بعض الأفراد مما يشكل خطراً على أمن البلاد ووحدتها؛ فقرر الحاكم (الخديو توفيق) بمشورة من العلماء نفي الأفغاني وطرده من البلاد لئلا يزداد شره، وذلك عام (1879م). أي بعد سبع سنوات من قدومه.
يقول تلميذه محمد عبده متحسراً بأن الخديو "أظهر سروره مما فعل، وتحدث به في محضر جماعة من المشايخ على مائدة الإفطار في رمضان"
لقد طُرد الأفغاني ولكن بعد أن بذر بذرة الفساد في أرض مصر، وبعد أن تلقفت عقول بعض السُذج والحمقى أفكاره معتقده أن فيها صلاح البلاد، ولكنها –كما سيأتي- قادتهم إلى الهلاك والخسار بسقوطهم محتلين في يد أعداء الإسلام من الإنجليز الذين كانوا يتحينون الفرصة في شق صف البلد المسلم؛ حتى يسهل عليهم احتلاله .(12/10)
رحل الأفغاني عن مصر ولكن أفكاره المفسدة بقيت تعمل في العقول إلى أن بلغت نهايتها بقيام الثورة العرابية على الحاكم المسلم بقيادة أحد المتأثرين بالأفغاني (وهو أحمد عرابي) ومعاونة من بقية تلاميذ الأفغاني، وعلى رأسهم محمد عبده وعبد الله النديم (خطيب الثورة!) وغيرهم ، فاستغلت بريطانيا الوضع وتدخلت تحت دعوى حماية الأجانب والدفاع عن الحاكم الشرعي!، واحتلت البلاد وقضت على الثورة، ولم تخرج إلا بعد سبعين عاماً تقريباً !!
فانظر –رعاك الله- واعتبر بمآل الأفكار الثورية العاطفية.
يقول محمد عبده : "كان السيد ! جمال الدين كثير التطلع إلى السياسة، شديد الميل إلى الحرية، قوي الرغبة في إنقاذ المصريين من الذل.." !
قلت: بل نقلهم من ذل المسلمين إلى ذل الكافرين !
وقال سليم العنحوري النصراني تلميذ الأفغاني ! في ترجمته لشيخه بعد أن ذكر شيئاً من خطبه الثورية : "وأخذ القوم يشكون من حكومتهم، متململين، ويتطاولون بأعناقهم إلى ما يقول مشرأبين، ومذ ذلك الحين طارت الشرارة الأولى من شرارات الثورة العرابية" .
وقال -أيضاً-: "كان روح الثورة قد امتد في القطر، بحيث لم يكن إجلاء الأفغاني إلا ليزيده سرياناً وانتشارًا" .
ويقول أبو رية عن الثورة العرابية : "إن هذه الثورة قد شبت من تعاليم جمال الدين" .
ويقول الدكتور عثمان أمين: "ليس هناك شك في أن لجمال الدين يدًا في الحركة العرابية"
ويقول الدكتور مجدي عبد الحافظ –وهو معجب بصنيع الأفغاني!-: "إن الثورة العرابية لم تكن إلا غرسًا طيبًا من تعاليم الأفغاني"
محمد عبده :
أما محمد عبده، فهو أبرز تلميذ للأفغاني، تعرف عليه وهو في عمر صغير يبلغ الثانية والعشرين، فصادفت أفكار الأفغاني قلباً خالياً فتمكنت منه. فأصبح عبده يرددها ويبشر بها من حوله .(12/11)
يقول الدكتور فهد الرومي: "لئن كان السيد ! جمال الدين الأفغاني هو المؤسس لهذه المدرسة، فإن محمد عبده هو الذي أقام صروحها ودعا إليها، ونشرها بين الناس، فكان بحق هو صاحبها وهو أستاذها وإمامها الأول، فكان له من الأثر فيها ما لم يكن لأستاذه" .
وقد فاق عبده شيخه في مسألة تطويع الإسلام وتشكيله بما يوافق حضارة الغرب وثقافته، نظراً لخلفية عبده الدينية التي افتقدها الأفغاني .
محمد عبده (الثوري) :
لقد تشرب محمد عبده الأفكار (الثورية) (التهييجية) من شيخه الأفغاني -كما سبق- وآمن بها، ولم يكن يعارضه فيها، وهذا من المآخذ العظيمة عليه، حيث كان يعلم –وهو الشيخ الأزهري- عدم شرعية هذه الطريقة ؛ وهي تأليب الشعب والعامة على ولاة أمورهم، وتجرئتهم عليه بنشر معايبه، وكان الأولى به أن يقف في وجه انتشار هذه الأفكار الثورية، وأن يسلك الطريق الشرعي الذي سنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ وهو مناصحة الحاكم فيما أخطأ فيه وانحرف، وتقديم المقترحات النافعة للبلاد لتتخلص من
مشاكلها، والصبر على جور الحاكم وأثرته، كما قال صلى الله عليه وسلم : "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عملهم ولا تنزعوا يدًا من طاعة" وقال صلى الله عليه وسلم : "عليك السمع والطاعة في عُسرك ويُسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرةٍ عليك" .(12/12)
فكان الواجب على محمد عبده الشيخ الأزهري أن لا تأخذه العاطفة فينساق مع تلكم الأفكار الضارة التي لا تزيد الأمر إلا شدة وسوءً وضررًا. كما هي سنة الله الثابتة في هذه القضية على مدار التاريخ الإسلامي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- : "وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير"
وقال : "إن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد.."
المهم: أن محمد عبده سكت عن هذه الأفكار الثورية ولم يساهم في وأدها، بل غض الطرف عنها، وتعاطف معها، إلى أن نمت وتعاظمت، حتى كانت نهايتها قيام جهلة العسكريين بقيادة أحمد عرابي بثورتهم ثم (خروجهم) على ولي أمرهم ، الأمر الذي دعاه –وهو ضعيف الدين والعقل- أن يستعين بعدوه وعدوهم (إنجلترا النصرانية) في سبيل إخماد هذه الثورة والحفاظ على ملكه وكرسيه، فما كان من (إنجلترا) –المستعدة لمثل هذا الأمر!- إلا أن لبت النداء ونزلت بجيشها إلى أرض مصر، وقضت على (الثوريين) بقيادة عرابي، ثم طاب لها المقام هناك! فلم تخرج من أرض مصر إلا بعد أكثر من سبعين عاماً !!! فانطبق على محمد عبده وعرابي ومن معهم المثل القائل : (أراد أن يبني قصرا فهدم مصرا)!، فهم أرادوا إنكار ظلم وجور الحاكم بطريقتهم الثورية الخرقاء التي ورطهم بها الأفغاني؛ فتسببوا في ضياع بلادهم وتسليمها لقمة سائغة للنصارى، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. نسأل الله العافية، وأن يجعل من هذه الحادثة عبرة لأبناء الإسلام لكي لا يندفعوا خلف الأفكار الثورية التي تدغدغ العواطف في بداية أمرها، ولكنها سرعان ما تسيل الدماء بدل الدموع في نهايته. (إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار) .
نهاية ثورته :(12/13)
قبض على محمد عبده بعد إخماد ثورة عرابي نظراً لتعاطفه معه ومؤازرته له، فكان نصيبه من الأحكام السجن، ثم النفي خارج البلاد المصرية. وقد نال غيره نصيبهم من الأذى والانتقام.
محمد عبده والانقلاب من (الثورية) إلى (العصرانية) :
لقد أصيب محمد عبده بذهول وصدمة شديدة بعد فشل حركة عرابي وقمعها وتمزيقها، مما جعله –وقد توحد وتفرد في السجن- يعيد النظر في هذا المسلك (الثوري) الخاطئ الذي سار فيه فكانت نهايته موجعة عليه وعلى بلاده. ولكن عبده بدلاً من أن ينتقل من (الثورية) إلى الاعتدال والطريق الوسط القائم على العلم الشرعي ونشره بين الناس وتربيتهم عليه، مع الصبر على جور الحاكم ومناصحته إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر، بدلاً من هذا ارتد إلى الطرف الآخر المقابل للفكر (الثوري) وهو الاستسلام للواقع والتبشير بالفكر (العصراني) الذي يُطَوع الإسلام وأحكامه بما يوافق العصر، ويجعل ما يسمى "بالتعايش السلمي" مع الكفار هدفاً له، ورأى أن علاج مشاكل المسلمين وضعفهم سيكون في تبني مثل هذا الفكر، إضافة إلى تضخيمه لدور العقل على حساب النصوص الشرعية ؛ فانتقل من النقيض إلى النقيض، ومن مفسدة إلى أخرى أشد منها –كما سيأتي-.
ولهذا: فقد أصبحت مهمة محمد عبده بعد أن عاد من المنفى –كما يقول الدكتور محمد محمد حسين- : "التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، واتخذ اتجاهه هذا أشكالاً مختلفة؛ فظهر أحياناً في صورة مقالات أو مشاريع أو برامج تدعو إلى إدخال العلوم العصرية في الجامع الأزهر. وظهر تارة أخرى في صورة تفسير لنصوص الدين من قرآن أو حديث يخالف ما جرى عليه السلف في تفسيرها، ليقرب بها أقصى ما تحتمله، بل إلى أكثر مما تحتمله في بعض الأحيان من قُرب لقيم الغرب وتفكيره؛ لكي يصل آخر الأمر إلى أن الإسلام يساير حضارة الغرب، ويتفق مع أساليب تفكيره ومذاهبه"
جهود الكفار في نشأة العصرانية وصناعتها :(12/14)
لقد أذن الإنجليز بعودة محمد عبده من منفاه إلى مصر بعد أن تأكدوا من هجره لأفكاره الثورية السابقة، وتبنيه (الفكر العصراني) المتعاون مع الإنجليز والمهادن لهم. يقول الأستاذ غازي التوبة: "كان الاحتلال الإنجليزي عاملاً أساسياً من عوامل عودة محمد عبده إلى مصر، وقد صرح اللورد كرومر بذلك في كتابه (مصر الحديثة) فقال: "إن العفو صدر عن محمد عبده بسبب الضغط البريطاني.."
لقد كان الإنجليز رغم احتلالهم لمصر يعلمون أن المجتمع المصري لن يقبل بهم وبأفكارهم بسهولة، بل سيظل يجاهدهم ويعمل على الخلاص منهم؛ لأنهم في نظره (كفار) نصارى محتلون لبلاده. فقد كانت الصفوف وقت احتلال الإنجليز لمصر متمايزة: الشعب المصري المسلم ومن خلفه شيوخ الأزهر من جهة، والمحتل الكافر من جهة أخرى.
وهذا التمايز كان يضيق به الإنجليز، ويعلمون أنه يحول بينهم وبين تنفيذ خططهم في (تغريب) البلاد و(علمنتها) وجعلها تتقبل فكرة أن تكون مجرد ولاية تابعة للإمبراطورية البريطانية .
والإنجليز –أيضاً- يعلمون أن الشعب المصري المسلم لم يكن ليتقبل الأفكار العلمانية الصريحة التي ينادي بها المحتل وأعوانه من أقباط مصر أو النصارى العرب القادمين من الشام.
إذاً فالحل هو صنع طائفة جديدة ترتدي المسوح الإسلامية وتقوم بمهمة (تمرير) الأفكار التغريبية العلمانية بين أفراد المجتمع، وخير من سيقوم بهذه المهمة: الشيخ! محمد عبده الذي كان محبطاً من جدوى العمل (الثوري) –كما سبق-، ومن معه من النبهاء أصحاب الطموح السياسي أو أصحاب الشذوذ الفكري . يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله بأن المستعمر الإنجليزي قام لأجل ذلك بـ"تربية جيل من المصريين العصريين الذين يُنَشؤن تنشئة خاصة تقربهم من الأوربيين ومن الإنجليز على وجه الخصوص، في طرائق السلوك والتفكير ... "(12/15)
وقال الدكتور مبيناً خطورة المهمة التي قام بها محمد عبده ومدرسته العصرانية: "وخطر التطوير على الإسلام وعلى المجتمع الإسلامي يأتي من وجهين: فهو إفساد للإسلام يُشوّش قيمه ومفاهيمه الأصيلة بإدخال الزيف على الصحيح، ويثبت الغريب الدخيل ويؤكده. فبعد أن كان الناس يشاركون في تصاريف الحياة، وهم يعرفون أن هذا الذي غُلبوا على أمرهم فيه ليس من الإسلام، والأمل قائم في أن تجيئ من بعدُ نهضة صحيحة ترد الأمور إلى نصابها عند الإمكان، يصبح الناس وهم يعتقدون أن ما يفعلونه هو الإسلام. فإذا جاءهم من بعدُ من يريد أن يردهم إلى الإسلام الصحيح أنكروا عليه ما يقول، واتهموه بالجمود والتمسك بظاهر النصوص دون روحها" .
-كانت عملية صناعة الطائفة (العصرانية) تتم من خلال الصالونات التي انتشرت بعد الاحتلال الإنجليزي، لا سيما صالون الأميرة (نازلي فاضل) التي كانت –كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- المرأة "الوحيدة التي تختلط بالرجال وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته آنذاك ليكون مركزاً تُبث منه الدعوة إلى التغريب.." فكان صالونها شبكة صيد لكل طامح نابه مؤهل لتأدية الدور "العصراني" الذي سيقوم به ! وكانت هذه الصناعة تتم تحت نظر المندوب الإنجليزي في مصر (اللورد كرومر) الذي كان من خلال هذا الصالون كما يقول الدكتور رفعت السعيد "يعايش الصفوة المختارة من المصريين ويتحسس طريقه نحو اختيار أكثرهم صلاحية" ، وقد وجد بغيته وصيده في الشيخ! محمد عبده وتلاميذه المتأثرين به.(12/16)
يقول الدكتور فهمي الشناوي عن الثعلب كرومر: "ابتداء من 1905م بدأ أخطر وأخبث حيلة؛ حيث ابتدأ في اصطياده نبهاء الأمة الإسلامية في شبابهم، ليلتقطهم ويسند إليهم مناصب كبيرة تخدم خط تكوين قومي على حساب الأمة: التقط سعد زغلول وأسند إليه وزارة المعارف 1906م أهم الوزارات. والتقط الشيخ محمد عبده وجعله مفتي للديار، وبذلك ضمن أولاً تفريغ صفوف الأمة الإسلامية من رجالها ونقلهم إلى صف التفاهم مع الغرب، والتفاوض مع الغرب، واتخاذ الغرب نموذجاً ولو جزئياً ولو ثقافياً.
وأنشأ لنفسه مكاتب وصالونات تروج لفكرة اصطياد نبهاء الأمة –مثل صالون الأميرة ناظلي فاضل، وتم اصطياد لطفي السيد الذي اندفع اندفاعا أعمى ضد الأمة بمقولة "مصر للمصريين" أي ليست للإسلاميين حتى لو صارت للقبط ما داموا مصريين! وأسموه فيلسوفاً دون أن تكون له أدنى علاقة بالفلسفة.
واصطاد عبد العزيز فهمي حتى أصبح قاضي قضاة مصر، ولكن بالقانون النابليوني لا بالشريعة !
واصطاد قاسم أمين الذي روج بدعوى مساواة المرأة إلى خلخلة تقاليد وأعراف المجتمع الإسلامي .
واصطاد عبد الرحيم باشا الدمرداش ليجعل للصوفية على الوعي السياسي الإسلامي قدحا معلى.
واصطاد خلفاؤه من بعد نبهاء؛ أمثال عبد الخالق ثروت وطه حسين، وعناصر قبطية؛ مثل البروتستانتي مكرم عبيد سكرتير المستشار القضائي، الذي وصل لقمة الحركة الوطنية، واليهودي رينيه قطاوي الذي وصلوا به إلى وزير مالية لسعد زغلول وزوجته وصيفة للسراي، ومئات غير هؤلاء. وهذا كله لصياغة مجتمع جديد من عجينة جديد" .
ويقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز" لعلمه بأن المجتمع المسلم قد يتقبل من هذه الطائفة المتدثرة باللباس الإسلامي ما لا يتقبله من الاحتلال أو من العلمانية.(12/17)
أما عن الأفكار التي كان الاحتلال يريد ترويجها بين المسلمين عن طريق الطائفة (العصرانية) بقيادة الشيخ ! محمد عبده فهي:
1-التقريب بين المسلمين والكفار، وقد ابتدأت جهود محمد عبده في هذا الأمر عندما كان منفياً في بيروت حيث أسس جمعية للتقريب بين الأديان –كما سبق- ومن أقواله: "نستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما على الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد، وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين" !
ويقول لتلميذه رشيد رضا: "إن التقريب بين الأديان مما جاء به الدين الإسلامي" .
2-إماتة روح الجهاد في الأمة الإسلامية، وهو أمر مترتب على السابق، يقول الدكتور فهد الرومي: "لعل أول ثمرة يجنيها أولئك القوم في سعيهم إلى التقريب بين الأديان: القضاء على فكرة الجهاد في الإسلام. فما دامت الأديان الثلاثة كلها حق، وليس بينها من فرق، فليس هناك من داعٍ لحمل السيف وإعلان الجهاد ضد النصارى مثلاً" .
قلت: ولهذا كان محمد عبده يرى بأن الجهاد في الإسلام هو للدفاع فقط! ويقول: "القتال فيه –أي الإسلام- لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله" . وهكذا كان رأي تلاميذه من بعده .
بل لم تقتصر محاولة إماتة الجهاد عند محمد عبده على بلاد مصر فقط بل كان يرسل النصائح بذلك إلى علماء الجزائر المحتلة حينذاك من فرنسا!
ومن ذلك قوله للشيخ الجزائري عبد الحميد سمايا سنة 1903م بعد أن نصحه: "الناس محتاجون إلى نور العلم، والصدق في العمل، والجد في السعي؛ حتى يعيشوا في سلام وراحة مع من يجاورهم من أهل الأمم الأخرى" !! فالمهم عند عبده ومن سيتبعه من العصرانيين! "أن يعيش في سلام وراحة" وإن كانت بلاده محتلة مستعبدة من عبّاد الصليب !(12/18)
والعجب لا ينقضي من حال محمد عبده، الذي انعكست الأمور عنده، فجعل جهده وجهاده –كما سبق- في تهييج المسلمين على ولي أمرهم، والمساهمة في الخروج عليه. وهو أمر لا يقره الشرع. ثم تجده هنا عندما احتاج المسلمون إلى جهاد الكافر المحتل، وهو أمر شرعي، يثبط عن ذلك ويرضى بالمسالمة ! فحُق أن يقال له ما قاله أبو الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى*** مضر كوضع السيف في موضع الندى!
3-الدعوة إلى الوطنية الإقليمية، وعزل مصر عن العالم الإسلامي. ولمحمد عبده في هذا المقام أقوال كثيرة تؤسس لمثل هذه الفكرة الجاهلية التي تطورت من بعد على يد تلاميذه؛ لاسيما أحمد لطفي السيد صاحب شعار "مصر للمصريين"!
ومن ذلك: قول محمد عبده: "يا أبناء الوطن: لئن فرق بينكم اختلاف الآراء، وتنوع المشارب، وتلون التصورات، فقد وجدتم في الجامعة الوطنية ما تأتلفون به وتجتمعون عليه.."
ثم تبنت الثورة العرابية التي هي ثمرة أفكار العصرانيين هذه الوطنية الجاهلية. يقول الدكتور فهمي الشناوي: "الثورة العرابية هي مأساة إجهاض الأمة الإسلامية؛ حيث انتهت بانفصال مصر عن الخلافة، وبدأت تتكون مصر كوطن.."
4-الدعوة إلى "تطوير الإسلام لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية" من خلال: فتح باب الاجتهاد على مصراعيه؛ حتى دخل منه القادر وغير القادر، وصاحب الورع وأصحاب الهوى؛ فظهرت الفتاوى الشاذة من جراء ذلك .(12/19)
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "إن الاجتهاد في حال افتتاننا بالحضارة الغربية خطر غير مأمون العواقب؛ يخشى معه أن يتحول –من حيث لا يدري المجتهد إن وجد ومن حيث لا يدري- إلى تسويغ للقيم الأجنبية التي هو معجب بها. فإذا لم يكن معجباً بها فالمجتمع الذي هو معجب بها لا يقبل اجتهاده، بل لا تزال تتناوله ألسن السفهاء من جُهاله الذي يتصدون لإبداء الرأي فيما يعرفون وفيما يجهلون حتى يفقد ثقته في نفسه، ويعتبر به غيره، فيفتي حين يُستفتى وعينه على الذين يفتيهم يريد أن يرضيهم، وأن يظفر بتقديرهم وتقريظهم، فيجور على الحق إرضاء للخلق، ويذهل عما عند الله تعجلاً لما عند الناس" .
قلت: وللشيخ! محمد عبده نصيب كبير من هذه الفتاوى (العصرية) التي طوعت أحكام الإسلام لما يريده المحتل الأجنبي أو ما يريده أهل العصر؛ كفتواه بإباحة ربا صناديق التوفير، وإباحة ذبائح النصارى التي يضربونها بالبُلط ولا يذكرون عليها اسم الله! ولدى العصرانيين في كل زمان ومكان مزيد ! .
يقول الدكتور محمد محمد حسين معلقاً على فتاوى عبده : "مثل هذه الآراء قد تبدو في ظاهرها لا بأس بها، ولا غبار عليها، بينما هي في حقيقة الأمر تدعو إلى مذهب التحرر (Liberalism) الذي يذهب في التسامح الديني إلى درجة تكاد تنمحي معها الحدود الفاصلة بين المذاهب والنحل" . وهذا كلام نفيس يغيب عن السذج الذين ينظرون إلى مثل هذه الآراء على أنها مسائل فقهية مجردة.
5-الدعوة إلى تحرير المرأة المسلمة، وهو هدف أساس لدى الكفار في كل حين وآن، وقد قام الشيخ ! محمد عبده ومدرسته بتحقيقه أيما تحقيق.(12/20)
أما الشيخ! فقد صدرت مجلة (السفور) بإشارة منه . وقد شارك مشاركة فعالة في تأليف كتاب (تحرير المرأة) لتلميذه قاسم أمين كما أثبت ذلك بعض الباحثين . وأما تلاميذه فقد اشتطوا أكثر منه في هذه القضية؛ فتلميذه قاسم بعد ست سنوات من تأليفه (لتحرير المرأة) كشر عن أنيابه وأبان عن حقيقة فكرته التغريبية في كتابه الآخر (المرأة الجديدة) "الذي بدأ فيه أثر الحضارة
الغربية واضحاً" "وبينما كنت تراه هادئا في كتابه الأول، يحوم حول النصوص الإسلامية، ويمتص رحيقها لتعضيد مواقفه في المطالبة بحقوق المرأة، انقلب في الكتاب الثاني يسلط حمم غضبه ويستعمل عبارات قاسية في التعبير عن رأيه، عبارات لا تقرها المرأة ذاتها. فهو لا يقبل بزعمه: حق ملكية الرجال للنساء!"
وتلميذه الآخر سعد زغلول كان من المؤيدين بشدة لهذه الفكرة وكان –كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- : "المنفذ الفعلي لأفكار قاسم أمين" وذلك بواسطة زوجته صفية التي كانت من أوائل المتحررات.
وأما لطفي السيد، فقد قال الدكتور حسين النجار: "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر" .
وقال –أيضا- : "ويقيم لطفي السيد من دار "الجريدة" منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة" .
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: "قاسم أمين القدوة الحسنة" !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: "ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حسن تفكيره" .(12/21)
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة، وتطبيقاً من لطفي السيد لهذه الحركة التحريرية للمرأة المسلمة قام (عندما كان مديراً للجامعة المصرية) هو وأصحابه -وعلى رأسهم طه حسين!- بخطة ماكرة أقروا فيها دخول (البنات) لأول مرة في الجامعة المصرية واختلاطهن في الدراسة بالبنين! فكانوا أول من فعل ودعا إلى هذه الضلالة التي لا زالت تعيشها الجامعة المصرية إلى اليوم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها. قال الزركلي في ترجمته: "هو أول من سهَّل للفتيات دخول الجامعة في بدء إنشائها".
وانظر تفاصيل هذه الخطة الخبيثة في كتاب: "أحمد لطفي السيد" للدكتور حسين النجار، ص 317 وما بعدها.
والخلاصة كما يقول الشيخ ناصر العقل –حفظه الله-: "تركيز الاتجاهات العقلية الحديثة على إفساد المرأة من الأمور التي أصبح يدركها ويدرك آثارها وخطرها جميع الناس على مختلف مستوياتهم، وقد فعلت وقطعت في ذلك خطوات واسعة، ولا أظنني مبالغاً حين أرى أن نجاح الاتجاهات العقلية في إفساد الأمة والعقيدة والناشئة الإسلامية عن طريق إفساد المرأة أكثر منه عن طريق غيره من الوسائل الأخرى الفكرية والعملية"
كيف صُنعت العصرانية ؟ !
لقد استخدم الإنجليز في مصر بقيادة الثعلب كرومر خطة ماكرة في سبيل صناعة الطائفة العصرانية وتقديمها لأبناء المجتمع المصري المسلم كممثل للصوت الإسلامي، وهي في حقيقتها مجرد وسيط ناقل للأفكار العلمانية التغريبية التي ترسخ الوجود الأجنبي والثقافة الغربية. ومن المهم جدًا معرفة نقاط هذه الخطة الماكرة؛ لأنها مما كرره ويكرره الغرب وأذنابه في مختلف بلاد المسلمين ؛ليحذرها أهل الإسلام – لا سيما الدعاة - . فإليك ما تبين لي منها:(12/22)
1-الثناء والمديح من الغرب على الطائفة العصرانية: وأنها تمثل (وسطية) الإسلام! واعتداله! فمن ذلك: قول اللورد كرومر عن محمد عبده ومدرسته: "لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883م كان الشيخ محمد عبده من المغضوب عليهم لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له الخديوي السابق صفح عنه طبقاً لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق فعين الشيخ بعد ذلك قاضياً في المحاكم الأهلية حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق والاستقامة. وفي سنة 1899م رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة لتضلعه من علوم الشرع الإسلامي مع مابه من سعة العقل واستنارة الذهن. وأذكر مثالاً على نفع عمله: الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق التوفير، فقد وجد لهم باباً به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع الإسلامي في شيء .
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر ومنها قام الشيخ الجليل السيد أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عاماً . والغاية العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس ديني. فعملهم شاق وقضاؤه عسير: لأنهم يُسْتهدفون دائماً لسهام نقد الناقدين وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد ويقصد آخرون قضاء أغراضهم وحك حزازات في صدورهم فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة الدين.(12/23)
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ولكنهم قليلون، وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة الفرنسوية، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلالة والخروج عن الصراط المستقيم، فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم. والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم بهوة عظيمة. فهم وسط بين طرفين، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين، كما هي حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين، غير أن معارضة المحافظين لهم أشد وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين إذ هؤلاء لا يكاد يسمع لهم صوت.
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها وكبيرها، فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية المصرية أولا، وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام، إذ لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه. فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين" .
وقال أيضاً: "إن حزب الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر"
وقال عنه أيضاً: "وكان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية، ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها في جعل مشورته والتعاون معه عظيم الجدوى"
ويقول الأستاذ سيد يوسف في كتابه (الإمام محمد عبده رائد الاجتهاد..، ص67): "أدرك كرومر منذ البداية دور التهدئة الذي يمكن أن يقوم به محمد عبده؛ فأثنى عليه، وتظاهر له بتشجيع مشاريعه وطموحاته..".
ويقول أحد المستشرقين عن محمد عبده : "يعد من أشهر الشخصيات المحترمة في تاريخ الإسلام الحديث ... .. إن كتابات الشيخ محمد عبده تمتاز بشيء من الجدة في روحها ... إلخ المديح"(12/24)
ويقول الدكتور الإنجليزي ادوارد براون عنه : "ما رأيت في الشرق ولا في الغرب مثله" !!
يقول الدكتور محمد محمد حسين عن محمد عبده: "كثرة من النصوص في كتب ساسة الغرب ودارسيه تصور رأيهم فيه وفي مدرسته وتلاميذه ومكانه من الفكر الحديث، وهي جميعاً تتفق على تمجيده والإشادة به وبما أداه للاستعمار الغربي من خدمات؛ بإعانته على تخفيف حدة العداء بينه وبين المسلمين.."
2- تسليط الأضواء عليهم وتلميعهم عبر وسائل الإعلام!
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله في كلام خطير ينبغي تأمله: "والواقع أن كثيراً من هؤلاء الرجال –أي العصرانيين- قد أحيطوا بالأسباب التي تبني لهم مجداً وذكراً بين الناس، ولم يكن الغرض من ذلك هو خدمتهم، ولكن الغرض منه كان ولا يزال هو خدمة المذاهب والآراء التي نادوا بها، والتي وافقت أهداف الاستعمار ومصالحه. فقد أصبح يكفي في ترويج أي مذهب فاسد في تأويل الإسلام –كما لاحظ جب في كتابه (Modern Trends in Islam) أن يقال: إنه يوافق رأي فلان أو فلان من هؤلاء الأعلام. ويكفي في التشهير بأي رأي سليم أن يُنسب إلى ضيق الأفق، الذي لا يلائم ما اتصف به هذا أو ذلك من سعة الأفق والسماحة وصحة الفهم لروح الإسلام، على ما تزعمه الدعايات. وليس مهماً أن يكون ذلك عن حسن قصد منهم أو عن سو قصد، وليس مهماً أن يكون الاستعمار هو الذي استخدمهم لذلك، ووضع على ألسنتهم وأقلامهم هذه المذاهب والآراء، أو أن تكون هذه الآراء قد نشأت بعيدة عن حضانته ورعايته، ثم رآها نافعةً له، فاستغلها وعمل على ترويجها. المهم في الأمر هو أن المجد الذي ينسب لهؤلاء الأفراد ليس من صنعهم ولا هو من صنع الشعوب التي عاشوا فيها، ولكنه من صنع القوى التي استخدمتهم أو التي تريد أن تستغلهم، سواء كانت هذه القوى هي الاستعمار أو هي الصهيونية العالمية بمختلف وسائلها وأجهزتها.(12/25)
وخطة الاستعمار والصهيونية العالمية في ذلك كانت تقوم –ولا تزال- على السيطرة على أجهزة النشر التي نسيمها الآن (الإعلام)، وإلقاء الأضواء من طريقها على كتاب ومفكرين من نوع خاص، يُبْنَون ويُنَشَّؤن بالطريقة التي يُبْنى بها نجوم التمثيل والرقص والغناء، بالمداومة على الإعلان عنهم، والإشادة بهم، وإسباغ الألقاب عليهم، ونشر أخبارهم وصورهم. وذلك في الوقت الذي يُهمل فيه الكتاب والمفكرين الذين يصورون وجهات النظر المعارضة، أو تشوَّه آراؤهم وتُسفَّه، ويُشهَّر بهم. ثم هي تقوم على تكرار آرائهم آناً بعد آن لا يملون من التكرار؛ لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً، أو هم يخاطبون الجيل نفسه، فيتعهدون بالسقي البذور التي ألقوها من قبل"
قلت: وهذا كلامٌ نفيس من رجل خبر القوم، يحق لأهل الإسلام أن يتأملوه ؛ فيتثبتوا من خطواتهم .
ويقول رحمه الله متحدثاً عن رأسي العصرانية في هذا الزمان: الأفغاني وعبده، وهو حديث ينطبق على مدرستهما : "كان من وراء الأفغاني ومحمد عبده كليهما قوتان كبيرتان تعملان على ترويج آرائهما، وإعلاء ذكرهما، وهما: الماسونية –قمة الأجهزة الصهيونية السرية- والاستعمار. وقد نجحت هاتان القوتان في تدعيم زعامتهما الفكرية والدينية في المجتمع الإسلامي كله، وفي إضعاف أثر أعدائهما الكثيري العدد من علماء الإسلام المعاصرين، وحجب ما كتبوه عن جمهور القراء، فلم يمض على موت محمد عبده أكثر من ربع قرن حتى أصبح الأزهر –موطن المعارضة الأصيل لمحمد عبده وللأفغاني- عامراً بأنصارهما الذين يحملون لواء الدعوة إلى (التجديد) وإلى (العصرية)"
3- تشجيعهم ودعمهم في تولي المناصب المهمة:
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "وقد ظل أصدقاء محمد عبده وأنصار دعوته يكثرون بما يلقون من تشجيع الإنكليز، الذين كانوا يمكنون لهم في إدارات الحكومة وفي مناصب الدولة الكبرى"(12/26)
ويقول اللورد كرومر: "إنني قدمت لمحمد عبده كل تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة، ولكنه عمل شاق، فضلاً عن العداء الشديد الذي كان يلاقيه من المسلمين المحافظين، كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو، ولم يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء، لولا أن الإنكليز أيدوه بقوة"
وأما سعد زغلول فقد اختاره اللورد كرومر –كما سبق- وزيراً للمعارف . وكان سعد يقول عن اللورد كرومر –كما في مذكراته- : "كان يجلس معي الساعة والساعتين، ويحدثني في مسائل شتى كي أتنور منها في حياتي السياسية"!
وبعد وفاة محمد عبده استمر الدعم لتلاميذه وتياره الذي تمثل في حزب "الأمة". يقول أحد الباحثين الأجانب: "لقد تلقى حزب الأمة عونًا حقيقياً وأكيدًا من اللورد كرومر"
العصرانية والعلمانية وجهان لعملة واحدة !
من تأمل جيدًا أهداف وأفكار (العصرانيين) وجدها نفسها أهداف وأفكار (العلمانيين)، وإنما الفارق شكلي: وهو أن (العصرانيين) قدموا أفكارهم بعد أن غلفوها وألبسوها اللباس (الشرعي)، وأما (العلمانيون) فلم يفعلوا هذا.
فالطائفتان تلتقيان في نهاية الأمر حول أهداف واحدة: كالتقارب بين الأديان، والدعوة للديمقراطية الغربية، والتهوين من شأن الحكم بما أنزل الله، والتحايل على إسقاط أحكام الشريعة؛ لاسيما الحدود، والدعوة إلى تحرير المرأة.. الخ.(12/27)
لهذا: فإن عقلاء الباحثين ممن ينظرون إلى مآل الأفكار لا حاضرها؛ سواء كانوا من الإسلاميين أم من غيرهم لم يخفَهم هذا الالتقاء بين الطائفتين، ورأوا أن الطائفة العصرانية إنما هي بوابة وقنطرة للعلمانية، وأنه لا مكان في جميع الأفكار التي طرحوها للون الرمادي الذي يزعمون أنهم يتبنونه، وأنه وسط بين الأبيض والأسود، فهذا اللون –في الحقيقة- لا يوجد إلا في الأذهان، أما في أرض الواقع فلا مجال إلا بالتزام أحكام الإسلام وهو اللون الأبيض، أو اللحاق بركب العلمانيين، وهو اللون الأسود. ومن ادعى أنه سيسير بينهما فهو واهم، وعن قريب هو صائر إلى أحدهما كما حدث لتلاميذ المدرسة العصرانية؛ حيث انضم أكثرهم إلى العلمانية (الخالصة)، وتراجع قلة منهم عندما عرفوا مصير السير وراء الأفكار التوفيقية الرمادية؛ كرشيد رضا .
1- يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري واصفاً وضع المدرسة العصرانية: "فالحاصل إن إدخال الأفكار الوافدة –بعد تشذيبها- ضمن المركب التوفيقي لا يضمن أنها ستبقى دون تأثير خطير، وأنها ستظل منضبطة بالحدود الاعتقادية الدينية. فهي نظراً لكونها جزيئات من حضارة أخرى ذات محتوى اعتقادي مغاير، فإنها تحتفظ في باطنها بطبيعتها الأصلية الخاصة المعدية، والمباينة للطبيعة الإسلامية، وتتحرك –بوعي أو دون وعي من التوفيقيين (أي العصرانيين) الذين قبلوها بشروطهم وضوابطهم- تتحرك حسب منطقها الذاتي وقوانينها الحركية الوافدة معها من كيانها الحضاري الأول، إلى أن تخلق دينامية مستقلة تؤثر على المركب الفكري التوفيقي كله وتوجهه وجهة جديدة لم تكن في حسبان التوفيقيين في البداية، أو تخل بالمعادلة كلها لتشق طريقها في تيار متميز خارج مجرى التوفيق. هذا إذا لم تنشطر التوفيقية إلى نقيضيها نتيجة لذلك.
وهذا ما يفسر خروج أشهر العلمانيين في الفكر العربي مثل لطفي السيد وطه حسين من تحت العباءة التوفيقية للشيخ محمد عبده"(12/28)
2- ويقول ألبرت حوراني عن محمد عبده: "كان يريد أن يقيم سدًا في وجه الاتجاه العلماني يحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد قد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى العلمانية"
3- ويقول الدكتور محمد كامل ضاهر: "أعطى الشيخ محمد عبده تشجيعاً كبيراً للعلمانيين ومنطلقاتهم الفكرية، بل إنهم اعتمدوا على الكثير من آرائه لدعم اتجاهاتهم وحركتهم في مجتمع مشبع بالقيم والتقاليد الدينية الراسخة. فماذا يطلب العلمانيون أكثر من رأيه في السلطتين الزمنية والدينية؟! ونظرته إلى العقل، ودوره في تنظيم شؤون الحياة والمجتمع؟ ورأيه في المرأة وفي كثير من المسائل المالية والاجتماعية التي اجتهد فيها لمصلحة الأمة والوطن والفقراء من الناس، وليس للمصالح الفردية؟. وإذا صح أن معظم ما كتبه قاسم أمين عن المرأة هو من بنات أفكار عبده فذلك يعني أن الرجل أصبح في أخريات عمره مشبعاً بالأفكار العلمانية الغربية ومتحمساً لها، حتى أنه كان في طليعة الدعاة لإنشاء الجامعة الأهلية المصرية التي افتتحت عام 1908. لقد تركزت استراتيجيته الحقيقية على إحياء حقائق الإسلام على ضوء الفكر الحديث، وعلى جعل الأخلاق قاعدة الحياة الاجتماعية والفكرية الجديدة في مصر، دون أن يحاول استئصال الماضي أو إحيائه كلياً، بل اعتمد هذا الماضي كأساس لبناء مجتمع متطور توفره ثقافة الغرب العقلية وعلومه الحديثة.(12/29)
وإذا كان عبده قد حاول أن يكون سدًا منيعاً أمام العلمانية المادية التي حملها المهاجرون الشوام المسيحيون إلى مصر، فإن ما طرحه من أفكار تنويرية جعل معظم العلمانيين المسلمين يتخذون من أفكاره سلاحاً يدافعون به عن معتقداتهم الهادفة إلى علمنة كاملة للمجتمع الإسلامي العربي، وفي طليعتهم قاسم أمين وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وزملاؤه في حزب الأمة"
4- ويقول النصراني (جب) عن محمد عبده: "إن ما أثر على نفوس قرائه العلمانيين: تلك الروح التي عالج بها مسائل العقيدة والتطبيق؛ لاسيما القوة التي حارب بها التعليم التقليدي"
5- ويقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى في كتابه (تاريخ مصر السياسي) عن محمد عبده وتلاميذه بأنهم: "كانوا أكثر فعالية من كل العلمانيين الصرف" !
6- ويقول الأستاذ نعيم عطيه : "ولا شك في أن محمد عبده لعب دوراً رئيسياً في محاولة التوفيق بين المبدأ الديني والعلم، وبذلك أعطى العقل سندًا قوياً منتصراً له على التقليد. وفتح في الخط الديني الملتزم ثغرة كبرى أتيح بفضلها للتيار العلمي أن يدخل حلبة الصراع الفكري ويثبت أقدامه قوة قائمة بذاتها. وكان طبيعياً بالتالي أن يتحول التيار العلمي على صعيد العمل السياسي البحت إلى دعوة للعلمانية وفصل الدين عن الدولة" .
7- ويقول الشيخ سفر الحوالي : "لم يكن محمد عبده علمانياً، ولكن أفكاره تمثل بلا شك حلقة وصل بين العلمانية الأوربية والعالم الإسلامي، ومن ثم فقد باركها المخطط اليهودي الصليبي، واتخذها جسرًا عبر عليه إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي، وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، واستيراد النظريات الاجتماعية الغربية. وهو قائم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً. أما الجماهير الإسلامية فقد اتخذت أفكار (الشيخ) الإصلاحية مبررًا نفسيًا لتقبلها للتغيير العلماني"(12/30)
8- ويقول الشيخ ناصر العقل عن محمد عبده وتلاميذه: "لهم آراء ومناهج ليست علمانية (صريحة) لكنها في سبيل العلمنة"
9- ويقول الدكتور سعيد الزهراني: "لقد تركت أفكار محمد عبده أثرها على تلاميذه، ومن جاء بعده، بل لقد عظمت حتى وصلت إلى الصراحة بموافقة الفكر الغربي العلماني"
10- ويقول الشيخ محمد بن إسماعيل : "لقد كان محمد عبده يريد أن يقيم سدًا في وجه التيار العلماني اللاديني ليحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإسلامي لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية اللادينية:
رام نفعاً فضر من غير قصد ** ومن البر ما يكون عقوقا"
11- ويقول الأستاذ محمد حامد الناصر بعد دراسته لأفكار العصرانيين : "حقيقة العصرانية: دعوة إلى العلمانية" ثم ذكر أقوالاً لبعض العصرانيين الأحياء؛ كحسن حنفي ومحمد عمارة يصرحون فيها بتبني العلمانية.
12- ويقول الدكتور عبد الرحمن الزنيدي: "لقد كان من آثار خبو وهج العلمانية في البيئات الإسلامية أن تقمص بعض أتباعها رداء الإسلام؛ ليتحركوا تحت رايته بعلمانيتهم بأسماء مختلفة؛ كالإسلام التقدمي، وفكر الإستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي ... "
العلمانيون يدعمون العصرانيين!!(12/31)
لقد عرف العلمانيون حقيقة أفكار العصرانيين، وأنها نفس أفكارهم، ولكنها تجد القبول من سُذج المسلمين نظراً لواجهتها الإسلامية، وكونها تستتر خلف الشيخ!! فلان، والداعية!! علان، بخلاف أفكارهم العلمانية الصرفة، ولهذا فقد تترسوا بهم، ووجدوا فيهم خير مطية يمتطونها لاختراق المجتمعات الإسلامية التي لم تجد العلمانية فيها موطئ قدم، وجعلوهم طليعة لهم في غزو تلك المجتمعات وخلخلتها بطرح الأفكار المتنوعة المناسبة لهم، التي ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وكسر هيبة كبار العلماء، وشق وحدة الصف فيها؛ ليسهل عليهم بعد ذلك التمكن منها.
ولهذا كله: فلا تعجب إن سمعت أو قرأت بأن فلاناً (العصراني) يُكال له المديح من جماعة العلمانيين، ويُصدر مجالسهم وندواتهم، وتُفتح له وسائلهم، ويكتب في صحفهم؛ لأن الجميع قد التقوا على أهداف واحدة؛ فانطبق عليهم قوله تعالى (ربنا استمتع بعضنا ببعض ... الآية) .
ودعم العلمانيين للعصرانيين يكون بالآتي:
1-إفساح المجال لهم ليبثوا أفكارهم عبر الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في مقابل تهميشهم لأهل الإسلام من دعاة الكتاب والسنة، الثابتين على الحق، غير المتلونين أو المتذبذبين.
2-المبالغة في مدحهم ووصفهم بصفات الاعتدال والوسطية وسعة الصدر للآخرين ... .الخ. مع لمز أهل الإسلام ودعاة الكتاب والسنة بضيق الأفق، والتحجر!، وعدم قبول الآخر!!..الخ(12/32)
فعلى سبيل المثال: هذا (العلماني) الشهير الدكتور جابر عصفور في كتابه "هوامش على دفتر التنوير" يهاجم علماء ودعاة الكتاب والسنة من أمثال الشيخ ابن باز –رحمه الله- والدكتور عوض القرني وغيرهم. ثم في المقابل يكيل المديح لمحمد عبده وتلاميذه ويختم مديحه قائلاً: "إن كرامة هذه الأمة في التاريخ قد أخذت في الضياع حين ضاعت الحرية العقلية والحرية السياسية والحرية الاجتماعية، وحين لم نبدأ من حيث انتهى إليه أمثال طه حسين وأحمد زكي أبو شادي، وحين قمعنا العقل بالتقليد، والشك بالتصديق، وحين استبدلنا بأمثال الشيخ محمد عبده ومحمد فريد وجدي قوماً آخرين" قلت: وهذا من قبيل "ليس حباً في علي وإنما بغضاً لمعاوية"!
ويقول في مقدمته لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق: "وبقي الكتاب نفسه وثيقة رائعة من وثائق التنوير، وثيقة تعلمنا أننا ننتمي إلى تراث عظيم، وأن لنا من المشايخ ما نفخر به: رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وأمثالهم، هؤلاء هم الذين ننتهي إليهم، وهؤلاء هم الذين أسهموا في صنع وعينا الحديث وإيماننا الراسخ بالدولة المدنية وبالمجتمع المدني، وهؤلاء هم الذين علمونا أن لا تناقض ولا تعارض بين الدين والدولة المدنية التي تسعى إلى التقدم، أو بين رجل الدين والمجتمع المدني الذي يتسلح بالعلم، ويبني مستقبله بهذا العلم، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المشايخ العظام أقرانهم من الأفندية دعاة التنوير، أدركنا أن ما تقوم عليه نهضتنا وثقافتنا أقوى وأعظم من أن يتأثر بأية هبة من هبات الإظلام"!!
3-عدم السماح لأحد بنقدهم أو النيل منهم، بل إحاطتهم بهالة من القداسة المصطنعة .(12/33)
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "ومن شاء أن يعرف المكان الصحيح والقيمة الحقيقية لمحمد عبده وللأفغاني أن ينظر في الصحف اليومية والمجلات الدورية وفي كتب الكتاب اللبراليين الذين لا يسمحون بأن يُمس أي منهما، والذين يهاجمون بفظاظة وشراسة كل من يمسهما من قريب أو بعيد، مع أن هذه الصحف والمجلات والكتاب لا يُعرفُ عنهم غيرة على الإسلام في غير هذا الموضع، بل إنهم لا يثورون حين يُمس رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويرون أن ذلك مما تسعه حرية الفكر واختلاف الرأي، بل إنهم يلتزمون التزاماً دقيقاً أن لا يُذكر اسم محمد عبده إلا مقروناً بلقب (الإمام)، ويذكرون اسم الرسول صلى الله عليه وسلم مجرداً، ويستكثرون إذا ذُكر الرجل من أصحابه أن يقولوا "سيدنا فلان" أو يُتبعوه، كما تعود المسلمين أن يقولوا في الدعاء له: رضي الله عنه"
4-التحسر عليهم وتكريمهم حتى بعد مماتهم !
وقد سبق تحسر العلماني جابر عصفور على أئمة العصرانية.
ويشهد لهذا ما قام به العلمانيون في مصر من تأبين لمحمد عبده بعد وفاته، وعمل حفلة خاصة به في الجامعة المصرية؛ لتعداد مآثره!
نهاية العصرانية :
لقد قام العصرانيون بمهمتهم خير قيام، ثم اختفوا بعد أن عبَّدوا الطريق لطلائع العلمانيين الذين تولوا قيادة المجتمع المسلم بعد أن تمت خلخلته من قِبَل أفراد التيار العصراني؛ فقطفت الجماعة العلمانية بقيادة (جمال عبد الناصر وإخوانه) الثمرة بعد حين، عند سقوط الملكية في مصر ، فقاموا –أخزاهم الله- بتنفيذ مخططات الغرب في علمنة وتغريب المجتمع المسلم علانية ودون خفاء.
أما العصرانيون بعد ذلك فلا تُحس منهم أحدًا أو تسمع لهم ركزا ؟! لقد اختفوا من الساحة يندبون حظهم ويجرون أذيال الخيبة والذل الذي أورثوه قومهم عندما جعلوا منهم لقمة هنيئة لبني علمان، فهل من معتبر ؟
نتائج مهمة :(12/34)
أولاً: أن العداوة بين المسلمين والغرب (اليهودي النصراني) مستمرة إلى يوم القيامة؛ بنصوص الكتاب والسنة. قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وقال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً).. إلى غير ذلك من الآيات.
ثانياً: أن الغرب الكافر استغل تأخر المسلمين واصطدامهم بحضارته المادية في صنع العصرانية ليتخذها وسيلة لمسخ بلاد المسلمين.
ثالثاً: أن لجوء بعض الإسلاميين للثورة والتهييج قادهم بعد فشل مشروعهم المخالف للكتاب والسنة إلى الارتداد للفكر العصراني؛ لأن لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة ومخالفة له في الوجهة. ولو لزم هؤلاء المسلك الشرعي منذ البداية لما تورطوا في تبني طرفي النقيض: التهييج ثم العصرنة .
رابعاً: قام بعض الإسلاميين –وقد يكون ذلك عن حسن نية منهم وبسبب تقصير بعض العلماء - بكسر هيبة كبار العلماء، وتنفير الشباب منهم؛ مما أدى بالشباب إلى الإنصراف عن علمائه ولجوئه –تعويضاً للمرجعية- إلى غيرهم من أهل الطموح السياسي، قليلي العلم والورع، ممن قد لا يرتضيهم ذلك البعض من الإسلاميين الذين يحق فيهم المثل العربي: (يداك أوكتا وفوك نفخ).
يقول الشيخ مصطفى صبري عن الشيخ العصراني محمد عبده: "لما أراد النهوض بالأزهر حارب علماءه القدماء، وفض المسلمين وخصيصًا الشباب المتعلمين من حولهم، حاربهم حتى أماتهم، أو على الأقل أنساهم نسيان الموتى، فأصبح بفضل النهضة التي نادى بها الشيخ محمد عبده يقول رجل مثل الدكتور زكي مبارك "الرسالة" عدد 572: "نزعنا راية الإسلام من أيدي الجهلة (يريد بهم علماء الدين) وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول الدين" .(12/35)
خامساً: أن تقصير كبار العلماء –إما في مكافحة الانحراف أو التصدي لقضايا المسلمين أو للظلم ونحو ذلك- ليس مسوغًا لصرف الشباب المسلم عنهم؛ لأنهم –أي الشباب- كما سبق سيلجئون إلى غيرهم من أهل الزيغ الذين يفوق زيغهم وانحرافهم تقصير أولئك العلماء الكبار . إنما كان الواجب على دعاة الإسلام أن يوثقوا العلاقة بعلمائهم ويربطوا الشباب بهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويشدوا من أزرهم في الوقوف صفًا واحدًا أمام أعداء الإسلام ممن يريد خلخلة المجتمع المسلم ويستغل بخبث هذا الفصام بين الفئتين المؤمنتين. قال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
سادساً: أن الطائفة العصرانية لابد لها من (شيخ) متزود بالعلم الشرعي -الذي يحجزه عن كثير من انحرافاتهم- تقف وتتترس وراءه! أما بدون هذا (الشيخ) فإنها لن تفلح في مسعاها؛ لعدم قبول المسلمين لها؛ نظرًا لضحالتها الشرعية وزيغها الواضح.
وقد كان هذا (الشيخ) يتمثل في محمد عبده.
يقول الأستاذ بسطامي سعيد: "نلمح عند محمد عبده بعض ملامح المنهج العصراني؛ من صرف القرآن عن غير معانيه الظاهرة أحياناً؛ بحجة أنها تمثيل وتصوير، ورد للسنة الصحيحة أحياناً لمعارضتها ما يظن أنه علوم العصر، واستخدام المنهج التاريخي لمعالجة قضايا وأحكام الشريعة وربطها بظروف وملابسات مؤقتة. وإذا كانت هذه النزعات عند محمد عبده نزعات ضعيفة ومصغرة، ربما بحكم ثقافته الأزهرية، إلا أنها قد تركت آثارها في تلامذته من بعده، فتضخمت في مجموعة منهم، وصارت مضاعفة مكبرة"(12/36)
سابعاً: أن هذه الفئة المتترسة خلف (الشيخ) العصراني، لن تكتفي باجتهادات (شيخها)، أو تقف عند الحدود التي حدها لهم ويرى أن في تجاوزها خطرًا على دينهم؛ نظرًا لمعرفته بالنصوص الشرعية! بل ستتجاوزها وتتخطاها باجتهادات كثيرة لا خطام لها ولا زمام؛ لأنه لا ضابط لهم حينها؛ نظرًا لضحالتهم الشرعية. لاسيما وقد استفادوا من (شيخهم) العصراني روح التجديد! والاجتهاد! وتجاوز الأعراف والتقاليد! ... الخ زخارف القوم.
ولقد تنبه أحد الأذكياء (وهو المنفلوطي) إلى خطورة هذا الأمر في دعوة شيخه العصراني محمد عبده فخص هذا بمقالة جميلة تخيل فيها أنه استمع إلى حوار بين شيخه محمد عبده وقاسم أمين في عرصات يوم القيامة ! فتأمل ماذا دار بينهما.
يقول المنفلوطي: "وبينما أنا أحدث نفسي بهذا الحديث، وأقلّب النظر في وجوه تلك المواعظ والعبر، إذ قال لي صاحبي: أتعرف هذين؟ وأشار إلى رجلين واقفين ناحية يتناجيان: أحدهما شيخ جليل أبيض اللحية، وثانيهما كهل نحيف قد اختلط مبيضه بمسودّه، فما هي إلا النظرة الأولى حتى عرفت الرجلين العظيمين(!!) رجل الإسلام "محمد عبده" ورجل المرأة "قاسم أمين" فقلت لصاحبي: هل لك في أن ندنو منهما ونسترق نجواهما من حيث لا يشعران؟ ففعلنا، فسمعنا الأول يقول للثاني: ليتك يا قاسم أخذت برأيي وأحللت نصحي لك محلاً من نفسك، فقد كنت أنهاك أن تفاجئ المرأة المصرية برأيك في الحجاب قبل أن تأخذ له عدّته من الأدب والدين، فجنى كتابك عليها ما جناه من هتك حرمتها وفسادها وتبذُّلها وإراقة تلك البقية الصالحة التي كانت في وجهها من ماء الحياء، فقال له صاحبه: إني أشرت عليها أن تتعلم قبل أن تسفر، وأن لا ترفع بُرقُعها قبل أن تنسج لها برقعاً من الأدب والحياء، قال له: ولكن فاتك ما كنت تنبّأت به من أنها جاهلة لا تفهم هذه التفاصيل، وضعيفة لا تعبأ بهذا الاستثناء، فكنت كمن أعطى الجاهل سيفاً ليقتل به غيره، فقتل نفسه.(12/37)
فقال: أتأذن لي يا مولاي أن أقول لك: إنك قد وقعت في مثل ما وقعت فيه من الخطأ، وإنك نصحتني بما لم تنتصح به، أنا أردت أن أنصح المرأة فأفسدتها كما تقول. وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته، إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة والمقاصد العالية الشريفة، فأرادوا غير ما أردت: وفهموا غير ما فهمت. فأصبحوا ملحدين، بعد أن كانوا مخرفين، وأنت تعلم أن ديناً خرافياً خير من لا دين . أوَّلت لهم بعض آيات الكتاب فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشيطان والجنة والنار! وبيّنت لهم حكم العبادات وأسرارها وسفّهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها
جملة واحدة! وقلت لهم: إن الولي إله باطل، والله إله حق؛ فأنكروا الألوهية حقها وباطلها، فتهلل وجه الشيخ وقال له: ما زلت يا قاسم في أخراك، مثلك في دنياك، لا تضطرب في حجة، ولا تنام عن ثأر"
ثامنًا : أن المستفيد من نشوء العصرانية هو الغرب وإذنابه من العلمانيين المنافقين ، وأهل البدع . والخاسر هو المجتمع المسلم، ودعاة الإسلام وولاة الأمور. وهذا واضح.
شبهة وجوابها :
قد يقول قائل : نحن معك في أن الفكر العصراني خطرٌ على الإسلام وأهله، وأن المستفيد الوحيد منه هم الأعداء (كفارًا وأهل بدع ومنافقين) كما رأينا في الحالة المصرية، ولكن: ألا ترى بأن انتشار هذا الفكر المتميع والمتمسح بالإسلام يخدم ولاة الأمور ؛ حيث يحققون من خلاله بعض ما يريدون من المشاريع والأفكار الاجتماعية (لا سيما المتعلقة بالمرأة!) التي لن يتقبلها المجتمع المسلم؛ لأنه يرى تعارضها مع أحكام الإسلام، ولكنه يقبلها إذا ما تحلت بالزي الشرعي الذي سيُلبسه إياها أولئك العصرانيون، فيستفيد ولاة الأمور تمرير هذه المشاريع والأفكار التي يرون في قبول المجتمع المسلم لها تخفيفًا من ضغوط أعداء الإسلام عليهم ؟! .(12/38)
ولهذا كله سيقوم ولاة الأمور بدعم هذه الفئة العصرانية والتمكين لها، وتصديرها، وتهميش من يعارضها !
فأقول : الجواب عن هذه الشبهة يكون بفهم هذه الأمور:
أولاً: أن صاحب الشبهة جزم بأن ولاة الأمور يريدون تحقيق بعض المشاريع والأفكار الإجتماعية التي تخالف أحكام الشرع. وهذا سينازعه فيه آخرون يرون خلاف ذلك ومعهم من الأدلة أضعاف مامعه ، والأصل إحسان الظن .
ثانياً : أن صاحب هذه الشبهة لم يفهم العصرانية حق الفهم ! وظن أن طموح أصحابها هو مجرد تحقيق بعض المشاريع والأفكار في المجال (الاجتماعي) فقط، ناسيًا أو متغافلاً أن هذا الفكر لا يقتصر على هذا المجال وحده؛ بل يزامله أو يفوقه المجال السياسي والاقتصادي ، وما تجربه عصرانيي مصر عنا ببعيد. حيث كانت معظم جهودهم منصبة على المجال السياسي، أما غيره فيأتي تبعاً له؛ مع ملاحظة أن تلك المجالات تأتي متكاملة في منظومة هذا الفكر الذي خلاصته "تطويع الإسلام في جميع المجالات بما يناسب العصر" .
ولهذا : فمن يريد قبول أفكار ومشاريع العصرانيين في المجال (الاجتماعي) دون غيره من المجالات فهو واهم؛ لأن هذا أمر لن يتحقق؛ لأن الفكر العصراني لا يمكن تحقيق بعضه دون بعض .
وولاة الأمور لدينا ليسوا سُذجًا أو غافلين عن حقيقة هذا الفكر ومنتهاه.
ثالثا : أن في تجربة العصرانية في مصر عبرة للمعتبرين؛ وعلى رأسهم ولاة الأمور في بلاد المسلمين، حيث تسبب انتشار هذا الفكر في المجتمع إلى تقويضه. وسقوط دولته بعد تنازع أهله واختلافهم، وجرأتهم على حكامهم وعلمائهم، ثم وقوعه تحت سيطرة الأعداء وتهاويه إلى أقصى درجات الذل والمهانة .
فهل يرضى عاقل بمثل هذه النهاية الموجعة لبلاده ؟! (وما ربك بظلام للعبيد).
رابعًا: أن (الفكر العصراني) و(فكر التهييج) وجهان لعملة واحدة ! حيث خرج الفكران عن دعوة الكتاب والسنة ، وجرا على المجتمع المسلم الإنقسامات والتحزبات ، وأضعفا قوته واجتماعه .(12/39)
فكيف يظن أحد أن ولاة الأمور قد يثقون في أصحاب هذا الفكر (بشقيه ) ، وهذا تاريخهم، وتلك مواقفهم تشهد عليهم بأنهم أصحاب (تقلب) و(تلون) ؟! .
وقارن هؤلاء بالعلماء الكبار من أتباع الكتاب والسنة، من الذين يصدرون في مواقفهم وأفكارهم عن عقيدة سلفية واضحة ثابتة تجاه ولاة أمور المسلمين، حيث يرون ولايتهم ولاية شرعية، ويطيعونهم في غير معصية الله ديانة واتباعًا للنصوص، بخلاف غيرهم من أهل (التهييج) أو (العصرنة) أصحاب (التقلب) و(التلون)، ممن يصدرون في مواقفهم تجاه ولاة الأمر من خلال (المصالح) وما يسمى (التكتيك المرحلي)!
فأي الفريقين أحق بثقة ولاة الأمور وتصديرهم والتمكين لهم ؟! .
يضاف إلى هذا أن كبار العلماء كانوا نعم النصير لولاة الأمور وقت الفتن والملمات، بخلاف غيرهم. فـ(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ؟
خامسًا : أن ولاة الأمور –ولله الحمد- في غنية عن أفكار العصرانيين وطموحاتهم التي لا يخفى ضررها على عاقل، وذلك بما فضلهم الله به من قيام دولتهم على الكتاب والسنة، وبما أعانهم به من وجود علماء أجلاء ينيرون لهم الطريق وينبهونهم على ما يعترضهم من عقبات تخالف شرع الله. وما كان من تقصير فإنه يعالج بالنصيحة الشرعية المستمرة، دون (تهييج) أو (عصرنة).
سادساً: أن العاقل يعلم أن العبرة بالمسميات لا بالأسماء وتبديلها، فالأمور المحرمة والمخالفة لشرع الله لا يمكن أن تنقلب حلالاً وتصير موافقة للشريعة بمجرد تبني العصرانيين لها وادعائهم شرعيتها. فهذا كله ليس مسوغًا لأحد –وعلى رأسهم ولاة الأمور- أن يرتكب تلك الأمور المحرمة ويقرها. وهو ليس معذورًا عند الله تعالى بصنيعه هذا؛ لأن البينة قد جاءته، والحق قد ظهر له(12/40)
بنصوص الكتاب والسنة وبفتاوى كبار العلماء الموثوق بعلمهم . فهل تظن -مثلاً- أن الربا سيكون حلالاً بمجرد التحايل عليه وتسميته (فائدة) ؟! وقل مثل ذلك في المحرمات الأخرى. لا شك بأن هذا أعظم جرمًا عند الله ممن يقع في هذه المحرمات دون تحايل أو مخادعة لله ولعباده المؤمنين، إنما عن تقصير وتساهل.
سابعاً : أن مواجهة الضغوط المتنوعة على بلاد التوحيد من قبل (اليهود والنصارى) لا تكون بالتساهل والتفريط في أحكام الشريعة؛ لأن عاقبة ذلك ستكون وبالاً على هذه البلاد؛ بسبب أن هذه الضغوط لن تنتهي بمجرد التساهل والتهاون في عدة أمور، بل ستزداد ضراوة وشدة؛ لأن العدو سيطمع في غيرها عندما يرى ذاك الانصياع لمطالبه. "ومن يهن يسهل الهوان عليه" .
فتلك المطالب ستكون نهايتها –والعياذ بالله- قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
أما الحل الشرعي لهذه الضغوط فيكون بالتالي:
1-أن يعلم ولاة الأمور –وفقهم الله-: أن الله قد أخبرنا عن عداوة اليهود والنصارى لكل من يرفع راية الإسلام، منذ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأنهم يتمنون أن يطاوعهم في كفرهم لكي لا يتميز عنهم. قال سبحانه (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم) وقال (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)
2-أن يعلم ولاة الأمور –وفقهم الله-: بأن الله قد أخبر بأن كل مسلم محكم لشرع الله سيسمع الأذى ويلقى الضغوط من الكفار. قال تعالى (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرًا). ولكن هذا الأمر –ما لم يستجب له المسلم- سيبقى في دائرة الأذى الذي يصيب كل مسلم مستقيم على شرع الله يحتسب الأجر من الله في سماعه والتعرض له. قال تعالى (لن يضروكم إلا أذى).(12/41)
3-أن يعلم ولاة الأمور –وفقهم الله-: أن عاقبة الثبات على الحق أمام مثل هذه الضغوط ستكون سعادة وتمكينًا وعزًا نصرًا، وزوالاً لهذه الشدة، وفرجًا لهذا العُسْر. قال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) فالمطلوب هو: الصبر على الأذى، والتقوى بلزوم أمر الله، والانتهاء عن معاصيه.
وقال تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا)، وقال (سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا). وهذا الأمر شامل للأفراد وللدول.
4-أن يعلم ولاة الأمور –وفقهم الله-: أن الاستجابة لضغوط الأعداء ومداهنتهم –ولو في أمر يسير- هو مما يسبب سخط الله وتسليطه العذاب والذل على من يسارع في رضا عدوه على رضاه سبحانه وتعالى.
قال سبحانه محذرًا من هذا الأمر الشنيع: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)
قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدًا . فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله".
وقال سبحانه: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين). وقال: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق).
وقال صلى الله عليه وسلم : "من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" .
5-أن يتأمل ولاة الأمور –وفقهم الله-: حال من تابع الأعداء من الدول الإسلامية طالبًا رضاهم، وخائفاً من سخطهم، كيف تسلطوا عليه، وأذلوه واستباحوا حرمته، وأفقدوه حريته.
فخسر آخرته بمسارعته في رضا الكفار على حساب دينه. وخسر العيش السعيد العزيز بتحكم العدو في بلاده وتسلطهم عليه وإن كان يتخيل له خلاف ذلك!! فهو كما قال تعالى (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين).(12/42)
أما من حكم شرع الله واستقام وثبت عليه، ولم يأبه بضغوط العدو وتخويفه فإن عاقبته حميدة في الدنيا والآخرة، على هذا جرت سنن الله تعالى "ومن يتصبر يصبره الله".
أسأل الله أن يثبت ولاة أمورنا على الحق، وأن يوفقهم للبطانة الصالحة، ويجنبهم البطانة الفاسدة.
نصيحة أخيرة لكلٍ من :
1-علماء الإسلام ودعاته: بأن يحذروا تسلل الأفكار العصرانية إلى عقولهم ولو لم يكن ذلك عن تقصد منهم، وأن يثبتوا على الحق دون تنازلات أو مداهنة لأحد، وأن يكونوا ممن قال الله فيهم (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) قال ابن كثير: "استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه، كفعل المنافقين".
وأن تكون مواقفهم مشرفة وقت الملمات التي تمر بالأمة، مبرئة لذمتهم أمام الله؛ لكي لا يلجأ الشباب إلى غيرهم –كما سبق-.
وأن يحذر بعض الدعاة بتستره على أهل العصرنة، ومجاملته لهم، والشد من أزرهم، أن يكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من آوى محدثًا" قال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-: "والإحداث يشمل الإحداث في الدين؛ كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة وغيرهم.. فمن آوى محدثًا فهو ملعون، وكذا من ناصرهم"
2- شباب الإسلام: بأن يلزموا الراسخين في العلم ويلتفوا حولهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويَحْذروا ويُحَذّروا من المتلبسين بالفكر العصراني المفسد، مهما حاولوا التضليل عليهم أو مخادعتهم بترويجه بينهم.
3- ولاة الأمور: بأن يقضوا على هذا الفكر المتسلل إلى بلاد التوحيد قبل أن يستفحل، فيكون وبالاً على بلادهم؛ وذلك بالتمكين لأهل العلم ودعاة الكتاب والسنة، وتصديرهم، وتمكينهم من توجيه الشباب، والاستماع إلى نصحهم.
وأن يعلموا أنه لا عز لهم ولا تمكين، ولا أمن، إلا بالثبات على دعوة الكتاب والسنة، دون تفريط أو تتبع لأهواء العصرانيين وانحرافاتهم .(12/43)
أسأل الله أن يحمي بلادنا من الفتن، وأن يرد الكيد عنها، ويثبتها على الحق، ويباعد بينها وبين معاصيه. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
----------
(*) التعليقات والتخريجات في الملف المرفق .(12/44)
غازي القصيبي
من القصص الموضوعة... إلى الأحاديث الصحيحة!
(وقفات مع كتابه الأخير "ثورة في السنة النبوية")
قال الله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة) (1) .
قالت عائشة –رضي الله عنها-: "تلا رسول الله هذه الآية –ثم قال صلى الله عليه وسلم-: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم"(2).
قال ابن كثير –رحمه الله-: "قال الله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل (فيتبعون ما تشابه منه) أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه"(3).
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد :
فقد صدر للدكتور غازي القصيبي هذه الأيام كتيب صغير تحت عنوان مثير؛ هو " ثورة في السنة النبوية" !، ولا أدري سبب اختياره هذا العنوان الغريب رغم أنه لا يناسب مضمون كتيبه؛ الذي هو مجرد أحاديث قليلة يعرفها صغار الطلبة عندنا، انتقاها الدكتور غازي من كتاب (جامع الأصول) لابن الأثير، ثم علق على كل واحد منها تعليقاً موجزًا ربما لم يستغرق منه يوماً أو بعض يوم!(13/1)
ولعل سبب هذا ما عودنا عليه الدكتور من حبٍ للإثارة والمخالفة في كثير من كتاباته؛ لا سيما ما يتعلق منها بالأمور الشرعية، التي لا زال الدكتور مصرًا على الخوض فيها رغم أن ثقافته وتخصصه لا يؤهلانه لهذا الخوض، الذي كان الأجمل بالدكتور أن يدعه لغيره من علماء الشريعة؛ لاسيما وهو ما فتئ يردد بين حين وآخر وجوب احترام التخصص، ويوجه نصيحته الشهيرة للعلماء لدينا بأن يلتزموا بذلك ! قائلاً لهم : "نتمنى على علمائنا الكرام أن يبقوا في مجالات تخصصهم، وأن لا يزجوا بأنفسهم في بحار السياسة وهم لا يحسنون السباحة فيها.. حتى لا يغرقوا ويُغرقوا شبابنا الحائر معهم"(4) فالدكتور إذاً أولى من عمل بنصيحته هذه.
وكتيب الدكتور هذا حمده البعض عليه لكونه يصدر فيه عن أقواله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يؤكد التطور الملحوظ لكتاباته والاتجاه بها نحو الخضوع لنصوص الكتاب والسنة بعد أن جال يمينًا ويسارًا. وهو أمر لا شك يستحق الحمد والثناء والدعاء لصاحبه بالتوفيق، والحث على الاستزادة من ذلك؛ ليتحقق فيه قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان) ، لكني أرى أن هذا المسلك الجديد للدكتور وإن كان محمودًا إلا أنه يستحق التقويم والمناصحة أكثر من كتاباته الأخرى، لكونه أصبح يتكئ على نصوصٍ من الكتاب أو السنة يفهمها بغير فهم العلماء –كما سيأتي- ثم ينشرها في كتيباته التي لها صداها بين قرائه؛ فيزلوا عن الحق، وهنا مكمن الخطر.
وهذا ما حدث في كتيبه (ثورة في السنة النبوية)، حيث أورد –هداه الله- بعض الأحاديث النبوية الصحيحة ثم (جيرها) لصالح أفكاره وآرائه المخالفة التي لم يتخلص منها بعد، لاسيما ما يتعلق منها بموضوع (المرأة) –كما سيأتي- .
وقد كانت لي معه هذه الوقفات التي يحسن بقارئ كتابه أن يطلع عليها، لكي يسلم من زلاته:
تلخيص لمحتويات كتيب الدكتور:(13/2)
احتوى كتيب الدكتور على سبعة أحاديث مع التعليق عليها؛ هي باختصار كالتالي:
1- الحديث الأول (ص 11-16): حديث "ابن اللتبية" في النهي عن الرشوة، وقد أجاد الدكتور في التحذير منها.
2- الحديث الثاني (17-23) حديث غزو أم حرام مع زوجها عبادة بن الصامت –رضي الله عنهما- وفهم منه الدكتور أن الإسلام يجيز دخول المرأة العسكرية !! وستأتي مناقشته في هذا –إن شاء الله-.
3- الحديث الثالث (ص 25-30): حديث الإشهاد على الزنا بأربعة. وعلق عليه بأن المتهم بريئ حتى تثبت إدانته.
4- الحديث الرابع (ص 31-38): حديث الرجل الذي اطلع على بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يفقأ عينه. علق عليه الدكتور بوجوب احترام خصوصيات البيوت وعدم التجسس عليها(5).
5- الحديث الخامس (ص 39-46): حديث الرجل الذي سقى كلبًا فغفر الله له -وأحاديث أخرى مشابهة له- علق عليها الدكتور ببيان وجوب الرفق بالحيوانات.
6- الحديث السادس (ص 47-53): حديث عدم النهي عن العزل. وقد أجاد الدكتور في نقده للدعوة إلى منع النسل التي تصادم الفطرة، ثم بين أن هناك حالات يجوز فيها (تنظيم النسل) ناقدًا من يزعمون أن الإسلام يمنعه(6) .
7- الحديث السابع (ص 55-62): حديث "إن الله يعذب الذين يُعَذِّبون في الدنيا" وقد وفق الدكتور في تعليقه عليه بحملة عنيفة على من يمارسون تعذيب البشر.
الوقفات
الوقفة الأولى: أن الدكتور أشار في مقدمة كتيبه أن مرجعه في الأحاديث التي انتقاها كتاب (جامع الأصول) لابن الأثير، وهو –كما يقول- (ص8) "من نشر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية" !
فهل معنى هذا: أن الدكتور يريد أن يُلزم العلماء لدينا بما جاء في كتاب ارتضوه وأشرفوا على طبعه ؟! أو أن يحرجهم أمام القراء بأنهم يشرفون على أحاديث صحيحة لا يفتون بها ويتحاشونها ؟! الله أعلم.(13/3)
مع أن هذا لا يلزمهم –إن كان هذا ظن الدكتور-؛ لأنهم يفهمون أقواله صلى الله عليه وسلم فهم العلماء الراسخين الذين يضعونها موضعها ولا يضربون بعضها ببعض، كحال أصحاب القلوب الزائغة –كما سيأتي إن شاء الله تعالى-.
الوقفة الثانية: أن الدكتور –كما سبق- قد أجاد في بعض تعليقاته على الأحاديث التي انتقاها، إلا أنه شان كتيبه بسوء فهمه لحديث غزو أم حرام وزوجها –رضي الله عنهما-، وحَمَّله ما لا يحتمل، ووجهه الوجهة التي يريد، عندما استنبط منه جواز دخول المرأة المسلمة للعسكرية!، مؤيدًا هذا الجواز بلغة ساخرة تلمز دعاة الفضيلة بأنهم "جماعة الجنابة"(7) ! كما يقول مدعيًا عليهم بأن النساء عندهم "مخلوقات دون الرجال، ليس لهن من دور سوى الإنجاب، لا يجب أن يتحركن من دار الأب أو الزوج إلا إلى القبر.." !! (ص 21-22) وأنهم يريدون "أن يحرموا عقل المرأة من كل علم، وفكرها من كل ثقافة، وأن يشلوا كل ما منحها الله سبحانه وتعالى من طاقات وإمكانيات ومواهب، لتبقى تمارس دورًا يتيماً يبدأ بالجنس وينتهي بالجنس" ! (ص 22).
أما هو ومن معه من أنصار المرأة –كما يزعم- فإنهم "يذهبون إلى أنه من حق المرأة أن تتعلم إلى أقصى درجات التعليم، وأن تمارس وجوه الإبداع الفكري والعلمي كافة، وأن تكون عضوًا فعالاً في حياة المجتمع الثقافية والسياسية" (ص22).
قلت: يقع الدكتور ومن يوافقه ممن يدعون أنهم أنصار المرأة في مشكلات ثلاث عند بحثهم لقضايا المرأة:
الأولى: أنهم اتخذوا من النموذج الغربي للمرأة مقياساً لهم عند النظر إلى نساء المسلمين، فما تقوم به تلك النسوة الغربيات ينبغي على نسائنا أن يحاكينه، وعلى ولاة أمورهن أن يسهلوا ويشجعوا هذه المحاكاة، وإلا فإن الدكتور ومن معه سيلمزونهم بأنهم من "جماعة الجنابة" !(13/4)
أما جواز هذه الأعمال التي تقوم بها نسوة الغرب من عدمه أو وضع الضوابط الشرعية له فهذا لا مكان له عند الدكتور وجماعته. وكتاباتهم شاهد على هذا(8).
الثانية: أنهم عندما تبنوا النموذج الغربي وتشبعوا به، لم يقابلوا ذلك بفهم صحيح للنموذج الشرعي في قضايا المرأة، إنما دمغوه بالتخلف والظلم، ولم يكلفوا أنفسهم عناء النظر في أقوال أهله وأدلتهم وأحوالهم، ولهذا تجدهم يتقولون عليهم ما لم يقولوه، ويبهتونهم بما ليس فيهم، كما فعل الدكتور –هداه الله- في كلامه السابق عندما كذب عدة كذبات كل واحدة أكبر من أختها على دعاة الفضيلة ورماهم بما هم بريئون منه. فتأمل ما ذكره وقارنه بحال أهل الإسلام ودعاة الفضيلة، هل تراه صدق في شئ منه ؟!
- فهل صحيح بأنهم –أي دعاة الفضيلة- يرون بأن النساء "ليس لهن من دور سوى الإنجاب"؟ (وأين أعمالهن الأخرى التي يعلمها الجميع؟! أم أنها لا ترضيك؟)
- أو أنهن –أي النساء- لا يجب أن يتحركن من دار الأب أو الزوج إلا إلى القبر" ؟! (وكل هذا الخروج شبه اليومي هل هو إلى المقبرة؟!)
- أو أنهم –أي دعاة الفضيلة- "ينزعون إلى أن يحرموا عقل المرأة من كل علم، وفكرها من كل ثقافة" ؟!
ولاحظ تعميم الدكتور: (كل علم) و(كل ثقافة) ! أي حتى العلم الشرعي والثقافة الشرعية !
- أو أنهم يرون أن دور المرأة "يبدأ بالجنس وينتهي بالجنس" ؟! (وأظن هذا من باب إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه!)(9) ثم تأمل ما أضفاه الدكتور من فضائل على (مدعي نصرة المرأة) مستخدماً في ذلك الألفاظ المطاطة العامة التي هي في حقيقتها من زخرف القول الذي يجيده كل أحد. ولو تفكر الدكتور لعلم أنها بهذا العموم تنطبق على خصومه أيضاً! ولكن بضوابطهم الشرعية .(13/5)
فهو يقول عن (الأنصار!) : بأنهم "يذهبون إلى أنه من حق المرأة أن تتعلم إلى أقصى درجات التعلم". وهذا ما يذهب إليه دعاة الفضيلة ! ولكن بشرط أن تكون العلوم التي تتلقاها مفيدة (دينياً أو دنيوياً)، وأن لا يكون هناك اختلاط.
ويقول: "وأن تمارس وجوه الإبداع الفكري والعلمي كافة" وهم كذلك يقولون بهذا مالم يكن فيه مخالفة شرعية، كأن يكون الإبداع أن تتعلم الرقص أو التمثيل!، مثلاً.
ويقول: "أن تكون عضواً فعالاً في حياة المجتمع الثقافية والسياسية" وهم كذلك يقولون بهذا ما دام بضوابطه الشرعية التي تتبين عند الدخول في تفاصيل هذه الحياة التي يطمح إليها الدكتور ولا تفيدها لغته العمومية .
المشكلة الثالثة التي يقع فيها أدعياء نصرة المرأة عندما يتعرضون لقضاياها أننا نشاهد (تهويلاتهم) و(دعاواهم) الكثيرة لا تتوافق كثيرًا مع سلوكهم الشخصي تجاه نسائهم ومن هن تحت ولايتهم، والله يقول (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم).
إنما تجد دعواتهم منصبة على الآخرين لكي يقتنعوا بأفكارهم ويبدؤا بتنفيذها على أرض الواقع قبل أن يقوم بذلك هذا الداعي أو المبشر.
وهذه صفة قد خبرناها فيمن سبقهم من دعاة التغريب، فهذا قاسم أمين مثلاً يذكر عنه الصحفي مصطفى أمين بأن زوجته كانت تغطي وجهها إلى أن توفي ! (10)
الوقفة الثالثة: أن الدكتور غازي –هداه الله- صاحب سابقة ومهارة في التقاط وتصيد ما يراه يؤيد هواه، سواء كان حديثاً صحيحاً أم موضوعاً ! لا فرق، المهم أنه يوصله إلى مبتغاه، ويتمكن من خلاله من إحراج خصومه الذي لا يخضعون لشيء سوى للنص الشرعي.(13/6)
فإن كان الدكتور –في رسالته هذه- قد اقتنص حديثاً صحيحاً فهمه فهماً خاطئاً متوهماً أنه يشهد لما يريد الوصول إليه، فإنه قبل عشرين عاماً تقريباً قد التقط قصة مكذوبة على عمر –رضي الله عنه-؛ لأنه وجد فيها دليلاً على مشروعية الاختلاط! –كما يزعم- وقد ردّ عليه العلماء والباحثون حينها وبينوا له أن القصة مكذوبة على أمير المؤمنين –رضي الله عنه- فإليك قصة الدكتور القديمة مع التعليق عليها .
قال الدكتور في مقالٍ له بعنوان "ورقة عائلية من تاريخ الطبري"(11) : (( في كتابه الشهير "تاريخ الرسل والملوك" يروي الطبري قصة مؤثرة عن سيدنا عمر بن الخطاب تصوره في جانب آخر من جوانب شخصيته المتقدة بالعظمة. كانت الجيوش الإسلامية تكتسح الإمبراطوريات وكان سيدنا عمر رضي الله عنه وقتها رئيساً لأعظم دولة على وجه الأرض. والقصة تتحدث عن قائد من قواد عمر اسمه سلمة بن قيس أرسل رجلاً من قومه برسالة إلى أمير المؤمنين .
ولندع هذا الرجل يروي لنا القصة: " ... فاتبعته فدخل داراً ثم دخل حجرة فاستأذنت وسلمت. فأذن لي، فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح (بساط) متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفاً فنبذ إليّ بإحداهما، فجلست عليها، وإذا بهو في صُفّة فيها بيت عليه ستير فقال: يا أم كلثوم غداءنا! فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال: يا أم كلثوم، ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا ؟
قالت: إني أسمع عندك حس رجال؟ قال: نعم ولا أراه من أهل البلد.. قالت : لو أردتَ أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته، وكما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته! قال: أو ما يكفيك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر! فقال: كل، فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا..".
ما الذي نستخلصه من هذا النص، كما تقول الكتب المقررة والامتحانات المدرسية ؟
نستخلص منه ما يأتي :(13/7)
-أن سيدنا عمر لم يشعر بأي حرج وهو يدعو زوجته لتشاركه الغداء مع ضيف لا يعرفه ... إلى أن يقول: "ماذا يقول السادة الكرام الذين يتصورون أن المرأة مخلوقة من الدرجة الثانية، وربما الدرجة العاشرة)).
قلت: هذا ما ذكره الدكتور صاحب الدرجة الأولى في التعامل مع المرأة! لأن هذه الدرجة عنده –كما هو مفهوم كلامه- لا يحوزها إلا من تخالط زوجته الرجال وتشاركهم على مائدة الطعام. والدليل هذه القصة المكذوبة.
والغريب أنها قد كذبت على عمر –رضي الله عنه- الذي كانت غيرته سبباً في نزول آية الحجاب! فتأمل .
وهذا مما يزيد القصة وهناً.
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز –رحمه الله- رادًا على استدلال الدكتور بهذه القصة الموضوعة : "الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فقد اطلعت على القصة المنقولة من تاريخ ابن جرير الطبري –رحمه الله- عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال ما نصه:
(فاتبعته فدخل داراً ثم دخل حجرة فاستأذنت وسلمت فأذن لي فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح (بساط) متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفاً، فنبذ إلي بإحداهما فجلست عليها وإذا بهوٌ في صفة فيها بيت عليه ستير فقال: يا أم كلثوم غداءنا، فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يدق، فقال: يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا. قالت: إني أسمع عندك حس رجل قال: نعم ولا أراه من أهل البلد، قالت: لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته، وكما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته، قال: أو ما يكفيك أن يقال: أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر ؟! فقال: كل فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا) اهـ.
وهذه القصة باطلة رواية ودراية:(13/8)
أما الرواية: فلأن مدارها على جماعة من الضعفاء، وبعضهم متهم بالكذب، وتنتهي القصة إلى مبهم لا يعرف من هو ولا تعرف حاله وهو الذي رواها عن عمر؛ وبذلك يعلم بطلانها من حيث الرواية .
وأما من حيث الدراية فمن وجوه:
1- شذوذها ومخالفتها لما هو معلوم من سيرة عمر رضي الله عنه وشدته في الحجاب وغيرته العظيمة وحرصه على أن يحجب النبي صلى الله عليه وسلم نساءه حتى أنزل الله آية الحجاب.
2- مخالفتها لأحكام الإسلام التي لا تخفى على عمر ولا غيره من أهل العلم، وقد دل القرآن والسنة النبوية على وجوب الاحتجاب وتحريم الاختلاط بين الرجال والنساء على وجه يسبب الفتنة ودواعيها.
3- ما في متنها من النكارة الشديدة التي تتضح لكل من تأملها، وبكل حال فالقصة موضوعة على عمر بلا شك للتشويه من سمعته أو للدعوة إلى الفساد بسفور النساء للرجال الأجانب واختلاطهن بهم، أو لمقاصد أخرى سيئة. نسأل الله العافية.
ولقد أحسن الشيخ أبو تراب الظاهري، والشيخ محمد أحمد حساني، والدكتور هاشم بكر حبشي فيما كتبوه في رد هذه القصة وبيان بطلانها وأنه لا يصح مثلها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جزاهم الله خيراً وضاعف مثوبتهم وزادنا وإياهم علماً وتوفيقاً وجعلنا وإياهم وسائر إخواننا من أنصار الحق"(12).
قلت: هذا ما كان من الدكتور قديماً. فهل تغير مسلكه بعد كل هذه السنين؟! أقولها للأسف: لا ! فالمسلك هو هو لم يتغير حيث (الإيمان) و(الاعتقاد) بقضايا جاءت أدلة الشرع بتحريمها، ثم الاجتهاد في البحث عن ما يسوغها أمام المسلمين لكي يقبلوها و(تمرر) في مجتمعاتهم.
الأمر الذي تغير فقط هو أن الدكتور بعد أن كان يلجأ إلى القصص المكذوبة (لدعم) أفكاره أصبح يلجأ إلى أحاديث صحيحة بعد أن يلوي أعناقها ويُحملها ما لا تحتمل.(13/9)
والسبب أن الدكتور علم أن القصص المكذوبة لا تروج على عامة المسلمين فضلاً عن علمائهم في هذا الزمان، وسيقف لها العارفون بالمرصاد تكذيباً وتوهيناً .
ولهذا فقد أصبح السلاح الجديد الذي لن يجرؤ أحد على تكذيبه هو اللجوء إلى الأحاديث الصحيحة بعد أن يصرف معانيها لصالح أهدافه وأفكاره.
الوقفة الرابعة: أن الدكتور –في تعليقه على حديث أم حرام- وقع فيما حذر منه الله تعالى من النهي عن اتباع المتشابه وترك المحكم، ومن ذلك إقامة الحالات الجزئية مقام الأصول الكلية لينتج عن هذا الإيمان ببعض نصوص السنة دون بعض. ولو فهم الأحاديث النبوية بفهم علماء الأمة لما وقع في هذا الخلل والزيغ.
يقول الشاطبي –رحمه الله-: "إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة، فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال، والدليل على ذلك أمور ... -ثم ذكرها- إلى أن قال: وهذا الموضع كثير الفائدة، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان؛ فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة. فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي؛ فثبت في حقه المعارضة، ورمت به أيدي الاشكالات في مهاوٍ بعيدة، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين؛ لأنه اتباع للمتشابهات، وتشكك في القواطع المحكمات"(13) .
قلت: وهذا ما وقع فيه الدكتور؛ حيث فهم من قصة خروج أم حرام بنت ملحان للغزو مع زوجها عبادة بن الصامت –رضي الله عنهما(14)- أن الإسلام يجيز دخول المرأة المسلمة للعسكرية !!
متغافلاً –هداه الله- عن عشرات النصوص الشرعية التي يعلمها آحاد المسلمين وتبين أن الجهاد غير واجب على المرأة المسلمة.
ومنها : حديث عائشة رضي الله عنها –في صحيح البخاري- استأذنتُ النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد. فقال: "جهادكن الحج"(15). وفي رواية عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: سأله نساؤه عن الجهاد فقال: "نِعْم الجهاد الحج"(16)(13/10)
فدل الحديثان على أن الجهاد غير واجب على النساء.
وورد في الحديث الصحيح أن أم سلمة –رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث؟ فأنزل الله (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) (17). فدل الحديث على أن عدم وجوب الجهاد على النساء هو مما تقرر عند الرعيل الأول استجابة وامتثالاً لأقواله صلى الله عليه وسلم التي سبق شيء منها.
وعلى هذا استقرت كلمة علماء المسلمين –رحمهم الله-(18) قال ابن قدامة -رحمه الله-: "ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية،والسلامة من الضرر، ووجود النفقة"(19) .
ولاحظ أن المرأة لو خرجت للجهاد الشرعي فإنها ستخرج مع محرمها مستترة ملتزمة بالحجاب ومع هذا قيل ما سبق في حقها؛ وهو عدم وجوب الجهاد عليها.
فما ظنك بعد هذا بحالها في العسكرية؟! حيث ستتراكم عليها المحرمات؛ من تبرج، ولباس فاضح، واختلاط، وخلوات محرمة، وسفر بلا محرم ... إلخ المحرمات والمفاسد التي يدركها كل عاقل تأمل متطلبات العسكرية في بلاد العالم. مما يجعل حرمة هذا الأمر مما لا يشك فيها مسلم يعرف أحكام دينه؛ إلا أن يكون من أهل الشهوات ومحبي نشر الفساد بدعوى الإصلاح.
ورحم الله الشيخ أحمد شاكر الذي قال بعد أن صحح حديث أم سلمة السابق "يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو" :"وهذا الحديث يرد على الكذابين المفترين –في عصرنا- الذين يحرصون على أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، فيخرجون المرأة عن خدرها وعن صونها وسترها الذي أمر الله به؛ فيدخلونها في نظام الجند"(20).
الخلاصة: أن الجهاد غير واجب على المرأة المسلمة، ولكن إن تطوعت للخروج مع زوجها أو محرمها وهي بكامل حجابها فإنها لا تمنع من ذلك، وعلى هذا تحمل الوقائع التي ورد فيها أن فلانة خرجت للغزو أو قاتلت.(13/11)
قال الدكتور عبد الرب نواب الدين في كتابه "عمل المرأة وموقف الإسلام منه" (ص 250): "كثيراً ما يتخذ بعض أدعياء العلم من بعض الأحداث دليلاً على وجوب الجهاد على النساء كوجوبه على الرجال.."
فتوى اللجنة الدائمة في جهاد المرأة :
قالت اللجنة في فتواها رقم (9533):
"س: هل جهاد المرأة غير واجب؛ أكان جهاد الدعوة أو جهاد الكفار؟
ج: ليس جهاد الكفار بالقتال واجباً على المرأة، ولكن عليها جهاد بالدعوة إلى الحق، وبيان التشريع، في حدود لا تنتهك فيها حرمتها، مع لبس ما يستر عورتها، وعدم الاختلاط بالرجال غير المحارم، وعدم الخضوع بالقول والخلوة بالأجانب، قال الله تعالى في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واذكرن ما يُتلى في بيوتكنَّ من آيات الله والحكمة) (21)، وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال: "نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة"، رواه أحمد وابن ماجه، وثبت عنها أيضاً أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور"، رواه أحمد والبخاري.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو/ عبد الله بن غديان نائب رئيس اللجنة/ عبد الرزاق عفيفي الرئيس/عبد العزيز بن عبدالله بن باز
وقال الأستاذ حافظ محمد أنور: "أما تجنيد النساء في العصر الحاضر حسب التنظيم العسكري فلا يجيزه الإسلام، فلا تجند الفتيات ضمن الفتيات ليقمن بنفس الأعمال التي يقوم بها الرجال في الجيش ؛ لأنه مخالف لتعاليم الإسلام، حيث يكون هناك اختلاط بين الرجال والنساء، وقد يكون المدربون من الرجال، ثم يكون المبيت بعيدًا عن الأهل، وهذا محادة لله ولرسوله، وكذلك الأمر في الشرطة وفي الجهات الأمنية الأخرى"(22) .
الشيخ علي الطنطاوي وإدخال المرأة المسلمة للعسكرية:(13/12)
وقال الشيخ علي الطنطاوي –رحمه الله- مبيناً خطوات دعاة (تغريب) المرأة المسلمة في بلاد الشام: "ثم اخترعوا نظام المرشدات وهو مثل نظام الكشفية للأولاد، وصرن يذهبن في رحلات قصيرة في قرى دمشق، ثم جاءت المصيبة التي أنست ما قبلها من المصائب، وهي نظام الفتوة، أي إلباس الطالبات لباس الجند، وتدريبهن على حمل السلاح، لماذا؟ وهل انقرض الرجال حتى نقاتل بربات الحجال؟ ولمن تترك إدارة البيوت وتربية الأطفال؟
لماذا والشباب يتسكعون في الطرقات ويزدحمون على أبواب السينمات، فندع الشباب لهذا ونقاتل أعداءنا بالبنات ؟!"(23)
وأظن الدكتور غازي –الذي يدعو إلى دخول المرأة للعسكرية- يعلم الأعداد الهائلة من الشباب الأشداء الذين يرجعون بخفي حنين عند طلبهم الالتحاق بالكليات العسكرية لدينا نظرًا لعدم وجود أماكن لهم.
فكيف يغض الدكتور طرفه عن هؤلاء الألوف من الشباب العاطلين وبدلاً من أن يقترح التوسع في قبولهم لدى العسكرية يدعو إلى الاستعانة بدلهم بفتيات؟! .
أم أنه في سبيل إخراج هذه المرأة من خدرها، والعبث بكرامتها تهون كل الأمور .
مفاسد دخول المرأة الغربية للعسكرية
يقول الدكتور محمد علي البار –وفقه الله-: "وحتى في أقسام البوليس تتعرض المرأة للاعتداءات الجنسية.. وقد قامت شرطة واشنطون بتعيين مائتي امرأة في أوائل السبعينات .. واستخدمت المرأة كشرطية تعمل ليل نهار وصاحب دلك حملة دعائية ضخمة لإثبات مساواة المرأة بالرجل تحت برنامج مارشال.(13/13)
وبعد ثلاث سنوات بدأت فضائح هذا البرنامج، ففي أكتوبر 1975م نشرت الوشنطن بوست مجموعة مقالات تفضح فيها استغلال ضباط البوليس للمرأة العاملة في الشرطة جنسياً وبدأت تذكر أمثلة كثيرة؛ منها ما قاله الضابط بيجي جاكسون لمرؤوسته "يجب أن تسمحي لي بمضاجعتك في مقابل إجازة يوم واحد" وذكرت المجلة أن اثنتي عشرة شرطية قلن إنهن تعرضن للابتزاز الجنسي ... ولكنهن طلبن أن لا تنشر أسماءهن.. واعترف ضابطان بأنهما قد سمعا شرطيتين تشتكيان من الابتزاز الجنسي الذي يواجهنه من رؤسائهن ولكنهما لا يستطيعان أن يفعلا أي شيء طالما أن المشتكيات يرفضن التوقيع على الشكاوى وهن يرفضن ذلك خوفاً من انتقام رؤسائهن.
وذكرت الضابطة بيني لولدن أن زميلها الضابط أوقف السيارة بجانب حديقة واشنطن وطلب منها أن تسافده ولكنها رفضت، فطلب منها أن تكتم الأمر وإلا انتقم منها.
وفي استفتاء لـ 333 شرطية قالت نصفهن بأنهن تعرضن للاعتداء الجنسي من رؤسائهن وأن اللاتي لا يستجبن ولا يرضخن لهذه الرغبات يلاقين عقوبات مختلفة من رؤسائهن، بينما أولئك اللائي يستجبن ويرضخن يعاملن معاملة طيبة وتخفف عنهن الواجبات الثقيلة.
ويقول أحد كبار الضباط في (وكالة التحقيقات الفيدرالية) F . B . I . بعد أن أدخلوا النساء في تدريبات الضباط:
"إذا وضعت ضابطتين تحت التدريب في سيارة واحدة تعاركتا وإذا وضعت ضابطاً وضابطة تسافدا"!
ويقول ضابط كبير آخر "إن أكثر شيء محطم في قوة البوليس هو مزاملة ضابط لضابطة وكذلك تؤدي تلك الزمالة إلى تحطيم أسرتيهما" (لأن الضابط أو الضابطة في الغالب متزوجان فإذا ما تخاللا وخانا العلاقة الزوجية أدى ذلك إلى فصم عرى الزواج).
وتقول لين فارلي: أن المتدربة في أقسام البوليس والمخابرات تتحول بسرعة من زميل في العمل إلى فرج تدور حوله النكت البذيئة والتعليقات الجارحة.. بل والاعتداءات الجسمانية".(13/14)
وتقول الضابطة السابقة في بوليس واشنطن J.J. والبالغة من العمر 21 عاماً إنها قد طردت من البوليس عام 1976م لأنها قدمت شكوى باغتصابها من قِبل أحد الضباط، وقد قيل إن تلك الدعوى لا دليل لها وكاذبة وتسيء إلى سمعة البوليس.. هذا بالرغم من أنها قد حصلت من قبل على ثلاث ميداليات لإخلاصها وتفانيها في العمل ... -إلى أن قال الدكتور-:
"إن هذه الوقائع غيض من فيض.. وابتزاز العاملة جنسياً وخضوعها للقسر والإكراه والإجبار أمر شائع في جميع أنواع العمل ابتداء من الجامعات وانتهاء بالموتيلات والمطاعم، ولا يكاد يوجد اليوم أي عمل من الأعمال لا تتعرض فيه المرأة العاملة إلى الابتزاز جنسياً.." (24)
قلت: وبعد هذا البيان، فإن الذي يدعو إلى اشتراك المرأة المسلمة في العسكرية متتبعاً المتشابه فإنما هو من متبعي الهوى وأهل الزيغ الذين قال الله فيهم –كما سبق-(فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة)، قال الشاطبي –رحمه الله- عن هؤلاء بأنهم: "يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة، فهم يطلبون به أهواءهم لحصول الفتنة، فليس نظرهم إذاً في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه، بل نظر من حكم بالهوى ثم أتى بالدليل كالشاهد له"(25)
الوقفة الخامسة: ذكر الدكتور (ص21) قضية حجاب المرأة المسلمة، وأن هناك من العلماء من يرى جواز كشف وجهها ويديها أمام الأجانب، وآخرين منهم لا يرون ذلك، مدعيًا أن النصوص ترجح مذهب الأولين!(13/15)
والذي ينبغي أن يعلمه الدكتور ومن يرى رأيه –قبل الدخول في حكم الحجاب- أنه لم يكثر الخوض في هذه المسألة سوى في العصر الحاضر، وذلك بعد أن وقعت كثير من بلاد المسلمين في أيدي المستعمرين الذين كانت مصلحتهم في إفساد المسلمين تقتضي إثارة هذه المسألة وتوجيه متابعيهم من أبناء المسلمين إلى بحثها والتأليف فيها؛ لأنهم يعلمون أنها مقدمة لما بعدها(26). وإلا فإن الأمة الإسلامية كانت مجمعة (عمليًا) على تغطية وجه المرأة عن الأجانب. يقول الحافظ ابن حجر: "لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب"(27) ونقل ابن رسلان "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه"(28) .
ومما يؤكد هذا أنك لا تجد مسألة كشف الوجه من عدمه قد أخذت حيزًا كبيرًا في مصنفات الأئمة، ولم تستغرق جهدهم ووقتهم، بل لا تكاد تجد –فيما أعلم- مصنفًا خاصًا بهذه المسألة، ولو على شكل رسالة صغيرة، مما يدل دلالة واضحة أن هذه القضية من الوضوح بمكان، وأن عمل المسلمين كما هو قائم، يتوارثه الخلف عن السلف. وهذا التواتر العملي يدلنا أيضاً على طبيعة تلقي العلماء لهذه المسألة وأنهم يرشدون أمتهم لما فيه العفة والطهر والاستقامة على أرشد الأمور، وأفضل السبل.
أما أدلة وجوب تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب فقد بينها كثير من العلماء المعاصرين في مصنفات خاصة بعد أن كثر الحديث في هذه القضية.
فمن هذه المصنفات :
1- "عودة الحجاب" بأجزائه الثلاثة، للشيخ (المصري) محمد بن إسماعيل.
2- رسالة "الحجاب" للشيخ أبي بكر (الجزائري).
3- "الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المرأة من التلبيس" للشيخ (المصري) محمد أحمد البولاقي.
4- "إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب" للشيخ (الهندي) صفي الرحمن المباركفوري.
5- "رسالة الحجاب في الكتاب والسنة" للشيخ عبد القادر (السندي).(13/16)
6- "معركة الحجاب والنقاب ... " رد على محمد الغزالي، للشيخ (المصري) أحمد محمود الديب.
7- "مهلاً يا صاحبة القوارير" للكاتبة (المصرية) يسرية محمد أنور.
وغير ذلك من المصنفات المتعلقة بهذه المسألة، وقد اقتصرت منها على بعض ما ألفه العلماء أو الكتاب الذين هم من غير بلاد الحرمين الشريفين(29)؛ لكي يعلم الدكتور ومن يتابعه أن القول بوجوب تغطية المرأة لوجهها أمام الرجال الأجانب ليس خاصًا بعلماء هذه البلاد فقط كما قد يظنه البعض تلبيسًا أو مغالطة.
فليحذر المسلم ولتحذر المسلمة اللذان أقيمت عليهما الحجة بوجوب تغطية المرأة لوجهها أن تشملهما هذه الآية –إن هما خالفا أو عارضا هذا الحكم- : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا)
وليعلم الدكتور بعد هذا أنه حتى من زل من العلماء المعاصرين وقال بجواز كشف الوجه؛ كالشيخ الألباني –رحمه الله- فإنه يرى أن تغطية المرأة لوجهها هو الأفضل.
يقول الشيخ الألباني: " نلفت نظر النساء المؤمنات إلى أن كشف الوجه وإن كان جائزًا فستره أفضل"(30)
ويقول: "فمن حجبهما –أي الوجه والكفين- أيضاً منهن؛ فذلك ما نستحبه وندعو إليه"(31)
فتأمل قوله: "وندعو إليه" !
فهل يليق بمسلم بعد هذا أن يدعو نساء المؤمنين اللواتي سترن وجوههن إلى كشفها؟! وإن كان يرى جواز ذلك؛ لأنه بهذا ينقلهن من الفاضل إلى المفضول.
فكيف: وتغطية الوجه واجب لا مستحب –كما سبق- ؟!
لهذا كان الأولى بالدكتور –إن كان يرى جواز كشف الوجه- أن يعمل به في خاصة أهله ولا يدعو إليه، وأن يسخر جهوده لدعوة المتبرجات إلى ستر ما أبدينه من أجسادهن وشعورهن باتفاق الطرفين!
أسأل الله أن يجعلني والدكتور من الهداة المهتدين، غير الضالين ولا المضلين، وأن نكون مفاتيح خير مغاليق شر.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
---------------------(13/17)
[1] سورة آل عمران، الآية : 7
[2] أخرجه البخاري (4547).
[3] تفسير ابن كثير (1/353).
[4] جريدة صوت الكويت بتاريخ 20/5/1411هـ، وانظر: "القصيبي والمشروع العلماني" لمجموعة من الدعاة، ص 21.
[5] إلا أنه بالغ –كعادته- في قوله: "يعج العالم الإسلامي بجماعات تحطم الأبواب (!) وتدخل المنازل عنوة بحجة منع الرذيلة والدفاع عن الفضيلة، من دون أن تجد من يعاتبها، فضلاً عمن يفقأ عيونها!" (ص37). وهذا من التشنيع على رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين كان من حقهم على الدكتور أن ينافح عنهم ويشكر جهودهم في إقامة هذا الركن العظيم من الدين الذي هو سبب –بإذن الله- للفلاح ولحفظ الأمن واستقرار المجتمع. وما يحصل من بعضهم من أخطاء فإنها تعالج بالنصيحة وهذا ما يقوم به كبار العلماء لدينا –ولله الحمد-، انظر إن شئت شيئاً من نصائحهم لرجال الهيئة في كتاب "الستر على أهل المعاصي" للشيخ خالد الشايع –وفقه الله- (ص 185-195)، حيث أورد عدة توجيهات للشيخ ابن باز –رحمه الله- في هذا الموضوع.
[6] ولهيئة كبار العلماء فتوى في هذا الموضوع أجازت فيها تنظيم النسل إذا كان ذلك لضرورة محققة. وكذا مثلها للمجمع الفقهي الإسلامي. انظر ذلك في كتاب: "تنظيم النسل وموقف الشريعة الإسلامية منه" للدكتور عبد الله الطريقي (ص 572-574).
[7] لو تروى الدكتور لعلم أن كل رجل ذو عيال هو من "جماعة الجنابة" !، والدكتور لا شك منهم!
فإن عبت قومًا بالذي فيك *** فكيف يعيب الناس من هو أعور؟
فليت الدكتور تنزه عن هذا التنابز.
[8] إلا أن توافق الأدلة الشرعية نموذجهم فإنهم يوردونها تأييداً لموقفهم وإحراجاً لغيرهم، وإلا فإن الأصل هو نموذجهم. وصدق الله القائل عن مرضى القلوب (وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض، أم ارتابوا، أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله).(13/18)
[9] والمتابع للساحة يعلم بأن كثيرًا ممن يدعي نصرة المرأة هو في حياته الخاصة متلبس بهذه الأمور التي يلمز بها الآخرين، فهذا تركي الحمد –تلميذ الدكتور غازي!- مثلاً: يدبج المقالات الكثيرة في مناصرة المرأة –كما يزعم- ثم تجد دور المرأة في رواياته –التي تصور واقع حياته!- يبدأ بالجنس وينتهي بالجنس!
وللدكتور غازي نصيب من هذا أيضاً في روايته "شقة الحرية" أو في حديثه عن أميرة القلوب "ديانا"! أو في أشعاره الكثيرة (كما في: القصيبي والمشروع العلماني، ص 14،15،62،63،64).
والله يقول: (ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً).
[10] انظر: "من واحد لعشرة" لمصطفى أمين، ص 119 وما بعدها.
[11] نشره في مجلة اليمامة، العدد 684.
[12] مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (4/204-205). وانظر:"القصيبي والمشروع العلماني"، ص 77-78.
[13] الموافقات (4/8-12).
[14] كما في الرواية الأخرى للبخاري : "فتزوج بها عبادة بن الصامت، فخرج بها إلى الغزو". (فتح الباري 6/103، حديث 2894-2895).
[15] حديث رقم 2875 .
[16] حديث رقم 2876.
[17] أخرجه أحمد والحاكم بسند صحيح. (حراسة الفضيلة، للشيخ بكر أبو زيد، ص 77).
[18] انظر النقول عنهم في رسالة: "الأحكام التي تخالف فيها المرأة الرجل" للشيخ سعد الحربي (ص 299-300).
[19] المغني (9/163).
[20] عمدة التفسير (3/157).
[21] سورة الأحزاب، الآية 34.
[22] ولاية المرأة في الفقه الإسلامي (ص 475-476)، وانظر: "المرأة بين الجاهلية والإسلام" لمحمد الناصر وخولة درويش.
[23] ذكريات الشيخ علي الطنطاوي (5/ 272-273).
[24] عمل المرأة في الميزان ( ص 193 – 197).
[25] الاعتصام (2/7)، وانظر: "دراسات في الأهواء والفرق والبدع" للشيخ ناصر العقل (ص 322-328).(13/19)
[26] يقول الشيخ محمد بن إسماعيل في كتابه "عودة الحجاب" (1/80): "لقد بدأت حركة تحرير المرأة على أيدي المتفرنجين، فقلدهم بعض الخطباء الجهلة والكتاب الفسقة، ونشبت المعركة أول ما نشبت حول (كشف وجه المرأة) أي السفور، وأقام العلماء الناصحون الدنيا وأقعدوها ليحبطوا تلك الدعوة إلى السفور، لا لأنه الحكم الراجح في المسألة فحسب، ولكن لأنهم فطنوا لحقيقة الخطة المدمرة التي تستهدف القضاء على المرأة المسلمة..".
[27] فتح الباري (9/325-326).
[28] نيل الأوطار للشوكاني (6/114).
[29] أما ما ألفه علماء هذه البلاد فهو كثير ولله الحمد، ومن ذلك: "الصارم المشهور" للشيخ حمود التويجري - رحمه الله- ، "المجلد السابع عشر من فتاوى اللجنة"، "رسالة الحجاب" للشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-، "تنبيهات على أحكام تختص بالمؤمنات" للشيخ صالح الفوزان، "حراسة الفضيلة" للشيخ بكر أبو زيد –وهو من أهمها-، "زينة المرأة المسلمة" للشيخ عبد الله الفوزان، وغير ذلك من الكتب والرسائل.
[30] جلباب المرأة .. ، ص 28.
[31] السابق، ص 32.(13/20)
مسائل الخلاف والاجتهاد
الخطأ : "لا إنكار في مسائل الخلاف"
الصواب : "لا إنكار في مسائل الاجتهاد"
لحفظ أو فتح الملف بصيغة وورد اضغط على الأيقونة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
كثيرًا ما نسمع أو نقرأ عند الاختلاف في المسائل الشرعية قول بعضهم: "لا إنكار في مسائل الخلاف"؛ يريد بذلك أن كل مسألة وُجد فيها خلاف بين العلماء فإنه لا يحق لأحد أن ينكر على من خالفه فيها أو يحمله على رأيه.
وقد بين العلماء المحققون أن هذه المقولة: "لا إنكار في مسائل الخلاف" غير سليمة، وأن مسائل الخلاف تنقسم قسمين:
1- المسائل الخلافية التي ثبت فيها نص أو نصوص من الكتاب والسنة تدل على صحة أحد الأقوال، فالواجب حينئذٍ اتباع النص والإنكار على المخالف. مع عذر من أخطأ فيها من المجتهدين .
2- المسائل الخلافية التي لم يثبت فيها نص، فهذه تسمى "المسائل الاجتهادية"؛ لأن كل واحد من العلماء المختلفين قد عمل أو أفتى بما أداه إليه اجتهاده، وهذه المسائل لا إنكار فيها، ولا ينبغي لواحد من المختلفين أن يحمل الآخر على قوله؛ لأن كل واحد منهم لم يخالف نصًا، بل خالف اجتهاد مجتهد.
أقوال العلماء المحققين:
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:
"وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل. أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً. وإن لم يكن كذلك فإنه يُنكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار.
أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.(14/1)
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس. والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ إذا عدم ذلك فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أو لخفاء الأدلة فيها"(1).
2- وقال ابن القيم –رحمه الله-:
"وقولهم "إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مَسَاغ لم تنكر على مَنْ عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.(14/2)
والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها –إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به- الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم "إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا يسوغ فيها الاجتهاد" طَعْنٌ على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير، مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يُقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفرا، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقف صحيح لازم، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من حديد يجوز أن يكون صَدَاقاً، وأن التيمم إلى الكوعين بضربة واحدة جائز، وأن صيام الولي عن الميت يجزئ عنه، وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، وأن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأن المصَرْاة يرد معها عوض اللبن صاعاً من تمر، وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد وبمين، إلى أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرح الأئمة بنقض حكم مَنْ حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها.
وعلى كل حال فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نَبَذَها وراء ظهره"(2)(14/3)
3-وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "فإن أراد القائل مسائل الخلاف فهذا باطل يخالف إجماع الأمة، فما زال الصحابة ومن بعدهم ينكرون على من خالف وأخطأ كائناً من كان ولو كان أعلم الناس وأتقاهم، وإذا كان الله بعث محمداً بالهدى ودين الحق، وأمرنا باتباعه، وترك ما خالفه؛ فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه وينكر عليه، وإن أريد بمسائل الاجتهاد: مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب فهذا كلام صحيح، ولا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه أو لعادة الناس، فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم لا يجوز أن ينكر إلا بعلم وهذا كله داخل في قوله (ولا تقف ما ليس لك به علم) (3).
4-وقال الشوكاني:
"هذه المقالة –أي لا إنكار في مسائل الخلاف- قد صارت أعظم ذريعة إلى سدّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرفناك، والمنزلة التي بيّناها لك، وقد وجب بإيجاب الله عز وجل، وبإيجاب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع، والنهي عما هو منكر من منكراته: ومعيار ذلك الكتاب والسنة، فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفاً، وينهى عما هو فيهما أو في أحدهما منكراً.
وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك، فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاً، ثم على العامل به ثانياً.
وهذه الشريعة الشريفة التي أُمِرْنا بالأمر بمعروفها، والنهي عن منكرها، هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة"(4).(14/4)
5-وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- ردًا على من قال: "المسائل الخلافية لا إنكار فيها"؟: "لو أننا قلنا المسائل الخلافية لا ينكر فيها على الإطلاق، ذهب الدين كله حين تتبع الرخص؛ لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف بين الناس. نضرب مثلاً: هذا رجلٌ مسَّ امرأة لشهوة، وأكل لحم إبل، ثم قام ليصلي، فقال: أنا أتبع الإمام أحمد في أن مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء، وأتبع الشافعي في أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وسأصلي على هذه الحال، فهل صلاته الآن صحيحة على المذهبين؟ هي غير صحيحة؛ لأنها إن لم تبطل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بطلت على مذهب الشافعي، وإن لم تبطل على مذهب الإمام الشافعي، بطلت على مذهب الإمام أحمد، فيضيع دين الإنسان.
المسائل الخلافية تنقسم إلى قسمين؛ قسم: مسائل اجتهادية يسوغ فيها الخلاف؛ بمعنى أن الخلاف ثابت حقاً وله حكم النظر، فهذا لا إنكار فيه على المجتهد، أما عامة الناس، فإنهم يلزمون بما عليه علماء بلدهم، لئلا ينفلت العامة؛ لأننا لو قلنا للعامي: أي قول يمرُّ عليك لك أن تأخذ به، لم تكن الأمة أمة واحدة، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله-: "العوام على مذهب علمائهم".
القسم الثاني من قسمي الخلاف: لا مساغ له ولا محل للاجتهاد فيه فينكر على المخالف فيه لأنه لا عذر له"(5).
مسائل "خلافية" يُنكر فيها على المخالف؛ لثبوت النص:
هذه بعض المسائل التي ذكرها العلماء المحققون أنموذجاً للمسائل الخلافية التي يُنكر فيها على المخالف؛ لثبوت النص(6) :
1- تحريم نكاح التحليل. ومن ذهب إلى جواز هذا النكاح فإنه ينكر عليه؛ لثبوت الأحاديث الصحيحة القاضية بتحريم هذا النكاح (7)، ولا يحل للمخالف أن يقول بأن هذه مسألة خلافية بين العلماء فيجوز لي أن اختار أحد القولين. أما من خالف من العلماء فإنه معذور ولا يُظن به أنه تعمد مخالفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم(8).(14/5)
2- مشروعية رفع اليدين عن الركوع وعند الرفع منه؛ لثبوت الأحاديث الصحيحة بذلك، ولا يجوز لأحد مخالفتها بدعوى أنها مسألة خلافية(9).
3- تعيين التكبير للدخول في الصلاة(10).
4- تعيين التسليم للتحلل من الصلاة(11).
5- إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة(12).
كشف وجه المرأة : هل هو من المسائل "الخلافية" أم "الاجتهادية" ؟!
هذه المسألة هي أكثر المسائل المطروقة في هذا الباب: وهي تقريباً أول مسألة تعرض للقارئ.
فالبعض قد يعدها من قبيل "المسائل الخلافية" التي ينكر فيها على المخالف لثبوت النص بوجوب تغطية المرأة لوجهها أمام الأجانب (13)، وأيضاً فقد ثبت فيها الإجماع العلمي لدى المسلمين. قال الحافظ ابن حجر: "لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب"(14) . ونقل ابن رسلان: "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه"(15)، ولهذا فإنه ينكر على من خالف هذا القول. مع الاعتذار للعلماء المتأخرين الذين اختاروا القول الآخر.
والبعض الآخر قد يعدها من قبيل "المسائل الاجتهادية" التي يسوغ فيها الخلاف.
وعلى كلا القولين : فإنه يُنكر على من كشفت وجهها في البلاد التي يعمل أهلها بالقول الأول؛ وهو وجوب تغطية المرأة لوجهها؛ لأنه على القول بأنها من المسائل "الخلافية" التي ثبت فيها النص؛ فإنه ينكر على من خالف النص، وعلى القول بأنها من المسائل "الاجتهادية" فإنه ينكر على المخالف بسبب أن اختياره للقول الآخر وهو جواز كشف الوجه يسبب فتنة لأهل هذه البلاد ولنسائهم.
فتوى الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في هذه المسألة:
سئل –رحمه الله-:(14/6)
"فضيلة الشيخ، لا شك أن من شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالماً بشروطه. هل هو منكر أو غير منكر؟ وبعض الناس إذا رأى أحد رجال الهيئة يعترض على امرأة كاشفة الوجه. يقول: لا يجب عليك أن تنكر؛ لأنها لا تخلو من حالتين: إما أن تكون مسلمة ترى عدم وجوب ستر الوجه، وإلا كافرة فلا يجب في الأصل أن تتحجب. هل ما يقول هذا صحيح، أو غير صحيح؟
والجواب: لا، هذا غير صحيح، لأن المعاصي قسمان: قسم لا تضر إلا صاحبها فهذا ندعه ورأيه إذا كان أهلاً للاجتهاد. وقسم تضر غير صاحبها، ولا شك أن كشف المرأة وجهها لا يختص ضرره بها هي، بل يضر غيرها؛ لأن الناس يفتتنون بها، وعلى هذا يجب أن تنهاها سواء كانت كافرة أو مسلمة، وسواء كانت ترى هذا القول أولا تراه، انهها وأنت إذا فعلت ما فيه ردع الشر سلمت منه.
أما ما كان لا يضر إلا صاحبه؛ مثل رجل يشرب الدخان، وقال: أنا أرى حلّه ولا أرى أنه حرام، وعلمائي يقولون إنه حلال، فهذا ندعه إذا كان عاميًّا، لأن العاميّ قوله قول علمائه، فإذا قال: أنا أرى أنه ليس بحرام نتركه لأن هذا لا يضر إلا نفسه. إلا إذا ثبت صحيًّا أنه يضر الناس بخنقهم أو كان يؤذيهم برائحته، قد نمنعه من هذه الناحية.
فاعرف هذه القاعدة: إن المعاصي قسمان: قسم لا تضر إلا صاحبها فهذه إذا خالفنا أحد في اجتهادنا ندعه، وقسم تضر الغير فهذا نمنعه من أجل الضرر المتعدي. لكن إذا خيف من ذلك فتنة تزيد على كشف هذا الوجه، فإنه يُدرأ أعظم الشرين بأخفهما. ولكن إذا رأيت امرأة كاشفة مع ولي أمرها تمسك ولي الأمر وتقول: يا أخي هذا لا يجوز هذا حرام هذا يضر أهلك ويضر غيرهم. تكلمه بالتي هي أحسن؛ باللين. لا تتكلم مع المرأة نفسها؛ قد يكون في هذا ضرر أكبر عليك أنت"(16) .
وسئل –رحمه الله-: "فضيلة الشيخ: هل ينكر على المرأة التي تكشف الوجه، أم أن المسألة خلافية، والمسائل الخلافية لا إنكار فيها ؟(14/7)
الجواب: لو أننا قلنا: المسائل الخلافية لا ينكر فيها على الإطلاق، ذهب الدين كلّه حين تتبع الرخص لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف بين الناس. نضرب مثلاً: هذا رجلٌ مسَّ امرأة لشهوة، وأكل لحم إبل، ثم قام ليصلي، فقال: أنا أتبع الإمام أحمد في أن مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء، وأتبع الشافعي في أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وسأصلي على هذه الحال، فهل صلاته الآن صحيحة على المذهبين ؟ هي غير صحيحة؛ لأنها إن لم تبطل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بطلت على مذهب الإمام الشافعي، وإن لم تبطل على مذهب الإمام الشافعي بطلت على مذهب الإمام أحمد، فيضيع دين الإنسان. المسائل الخلافية تنقسم إلى قسمين؛ قسم: مسائل اجتهادية يسوغ فيها الخلاف؛ بمعنى أن الخلاف ثابت حقاً وله حكم النظر، فهذا لا إنكار فيه على المجتهد، أما عامة الناس، فإنهم يلزمون بما عليه علماء بلدهم، لئلا ينفلت العامة؛ لأننا لو قلنا للعامي: أي قول يمرُّ عليك لك أن تأخذ به، لم تكن الأمة أمة واحدة، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله-: "العوام على مذهب علمائهم". فمثلاً عندنا هنا في المملكة العربية السعودية أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، فنحن نلزم نساءنا بذلك، حتى لو قالت لنا امرأة: أنا سأتبع المذهب الفلاني وكشف الوجه فيه جائز، قلنا: ليس لك ذلك؛ لأنك عامية ما وصلت إلى درجة الاجتهاد، وإنما تريدين اتباع هذا المذهب لأنه رخصة، وتتبع الرخص حرام.(14/8)
أما لو ذهب عالم من العلماء الذي أداه اجتهاده إلى أن المرأة لا حرج عليها في كشف الوجه، ويقول: إنها امرأتي سوف أجعلها تكشف الوجه، قلنا: لا بأس، لكن لا يجعلها تكشف الوجه في بلاد يسترون الوجوه، يمنع من هذا؛ لأنه يفسد غيره، ولأن المسألة فيها اتفاق على أن ستر الوجه أولى، فإذا كان ستر الوجه أولى فنحن إذا ألزمناه بذلك لم نكن ألزمناه بما هو حرام على مذهبه، إنما ألزمناه بالأولى على مذهبه، ولأمر آخر هو ألا يقلده غيره من أهل هذه البلاد المحافظة، فيحصل من ذلك تفرق وتفتيت للكلمة. أما إذا ذهب إلى بلاده، فلا نلزمه برأينا، ما دامت المسألة اجتهادية وتخضع لشيء من النظر في الأدلة والترجيح بينها.
القسم الثاني من قسمي الخلاف: لا مساغ له ولا محل للاجتهاد فيه، فينكر على المخالف فيه لأنه لا عذر له"(17).
قلت: ومن أراد الزيادة في هذه المسألة فعليه بكتاب: "حكم الإنكار في مسائل الخلاف" للدكتور فضل إلهي ظهير –وفقه الله-. ورسالة: "حجج الأسلاف في بيان الفرق بين مسائل الإجتهاد ومسائل الخلاف" للشيخ فوزي الأثري –وفقه الله-. ومنهما استفدت كثيرًا مما جاء في هذه الرسالة، مع زيادات مفيدة.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
---------------------------
(1) بيان الدليل على بطلان التحليل (ص 210-211) باختصار .
(2) إعلام الموقعين (3/ 300-301)
(3) الدرر السنية (4/8).
(4) السيل الجرّار المتدفق على حدائق الأزهار (4/588).
(5) لقاء الباب المفتوح (49/192-193). بإختصار، وسيأتي بتمامه –إن شاء الله-.
(6) وقد سبق كثير منها في كلام ابن القيم –رحمه الله-.
(7) انظر الأدلة في كتاب "حكم الإنكار في مسائل الخلاف" للدكتور فضل إلهي ظهير، ص 76-79.
(8) انظر رسالة: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-.
(9) حكم الإنكار في مسائل الخلاف، ص 81.
(10) السابق، ص 84.
(11) السابق، ص 86.(14/9)
(12) السابق، ص 89.
(13) انظر أدلة هذا القول في رسالة: "عودة الحجاب" للشيخ محمد بن إسماعيل –وفقه الله-.
(14) فتح الباري (9/235-236).
(15) نيل الأوطار للشوكاني (6/114).
(16) لقاء الباب المفتوح (33-34/66-68).
(17) لقاء الباب المفتوح (49/192-193).(14/10)
أقوال العلماء في الرسالة المنسوبة إلى
شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في الجهاد
بحث مختصر يبين سوء فهم دعاة العصرانية
ومروجي قصر الجهاد الشرعي على "الدفاع" فقط لكلام ابن تيمية في الرسالة السابقة
لحفظ أو فتح الملف بصيغة وورد اضغط على الأيقونة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فقد نُشر لقاء مع أحد الباحثين الفضلاء في إحدى الصحف أثبت فيه رسالة "قاعدة في قتال الكفار.." لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بدليل أن البعض قد نسخها ولم يُنكر نسبتها للشيخ، ثم استنبط منها –كما يقول-: "أن شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- خلص بما تقدم في هذه الرسالة المهمة ووضحه فيها: أن قتال الكفار وجهادهم لا لأجل الكفر ذاته، وإنما هو الدفاع عن الدين. أي أن الإسلام في أصله دفاعي وليس هجومياً"!
ونحن لا ننازعه في صحة نسبة هذه الرسالة من عدمها لشيخ الإسلام؛ لأن هذا أمر يخضع للأدلة، مما تختلف فيه أنظار الباحثين. إنما ننازعه في هذا الفهم "الخاطئ" لكلام شيخ الإسلام بأنه لا يرى "جهاد الطلب" !! وهو في ظني ما حدا ببعض العلماء أن ينكروا نسبة تلك الرسالة إليه –بشدة- دفعاً لمثل هذا الفهم الذي روج له دعاة العصرانية في هذا الزمان، وألصقوه زورًا بشيخ الإسلام.
وقد استند من نفى هذه الرسالة إلى عدة أمور –تستحق التأمل-:(15/1)
الأول: ما يلاحظه الباحثون من كثرة الكذب والتزوير على شيخ الإسلام –رحمه الله-، سواء في رسائله أو فتاواه، إما من خصومه –وما أكثرهم!-، أو ممن يريد الترويج لأفكاره مستغلاً اسم الشيخ العَلَم. فقد نُسب إليه على سبيل المثال: ديوان شعري، ودعاء لختم القرآن، وفتوى بحياة الخضر، وفتوى القول بالتجسيم التي افتراها ابن بطوطة.. وغير ذلك. مما يجعل المنصف لا يتعجل بنسبة شيء للشيخ –رحمه الله- ما لم يتوثق من ذلك، لا سيما وقد أنكر هذه الرسالة كبار العلماء في هذا الزمان؛ وعلى رأسهم الشيخ سليمان بن سحمان، ومفتيا الديار السعودية: الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز –رحمهم الله جميعاً- كما سيأتي إن شاء الله.
فلابد لمن يريد إثبات الرسالة بعد هذا أن يتحقق من: وجود سند لها إلى شيخ الإسلام، أو وجودها مكتوبة بخطه، أو إثبات تلاميذه والمهتمين بكتبه لها. وهي أمور لم تتحقق –حسب علمي- إلى الآن.
الثاني : أن المتأمل في الرسالة يلمح فيها نوع تصرف أو اختصار، لما يجده من مثل هذه العبارات التي تتكرر بين صفحاتها، "ثم ذكر" "ثم تكلم" "إلى أن قال" (انظر: ص119، 125، 127، 128، 136، 137 من نسخة الفقي)
ولهذا علق الشيخ محمد بن مانع –رحمه الله- في هامش نسخته عند مروره بأحد هذه المواضع: "يستفاد منه أن في الكلام اختصاراً"(1)
الثالث: أن لشيخ الإسلام –رحمه الله- كلاماً آخر في رسائله الثابتة عنه يخالف ما فهمه البعض من هذه الرسالة؛ وهو أنه ينكر جهاد "الطلب"، -سيأتي بعضه إن شاء الله-.
إذن: فبعض الذين أثبتوها وفرحوا بها! زعموا أن شيخ الإسلام لا يرى جهاد "الطلب" في هذه الرسالة.
والذين أنكروها أرادوا دفع هذا الزعم المغلوط الذي يعارض النصوص الشرعية، ويعارض كلام شيخ الإسلام الآخر.(15/2)
والصواب –في ظني- أن يقال: بأنه حتى لو قيل بثبوت هذه الرسالة(2) فإنه ليس فيها ما ينفي جهاد "الطلب" كما تصور البعض ممن لم يفهموا مقصد شيخ الإسلام منها، فخلطوا بين أمرين.
فشيخ الإسلام قد أنشأ هذه الرسالة للرد على قول فقهي ضعيف يقول أصحابه بأن قتال الكفار هو لأجل "كفرهم"، ولهذا فهؤلاء يرون قتل "كل كافر" سواء كان قادرًا على القتال أو عاجزاً عنه، وسواء كان مسالماً أو محارباً، وسواء كان من الرهبان أو لم يكن، وسواء كان شيخاً كبيراً أو شاباً فتياً.
ولا يستثني هؤلاء من القتل إلا الصبيان لعدم بلوغهم، وكذا النساء؛ لأنهن يصبحن سبياً بنفس الاستيلاء عليهن؛ فهن كالمال.
ولهذا قال –رحمه الله- في أول هذه الرسالة مبيناً سبب كتابتها:
"فصل في قتال الكفار :
هل هو سبب المقاتلة أو مجرد الكفر؟
وفي ذلك قولان مشهوران للعلماء :
الأول : قول الجمهور، كمالك، وأحمد بن حنبل، وأبي حنيفة وغيرهم.
الثاني: قول الشافعي وربما علل به بعض أصحاب أحمد.
فمن قال بالثاني قال: مقتضى الدليل قتل كل كافر، سواء كان رجلاً أو امرأة، وسواء كان قادراً على القتال أو عاجزاً عنه، وسواء سالمنا أو حاربنا. لكن شرط العقوبة بالقتل أن يكون بالغاً، فالصبيان لا يقتلون لذلك. وأما النساء فمقتضى الدليل قتلهن، لكن لم يقتلن لأنهن يصرن سبياً بنفس الاستيلاء عليهن، فلم يقتلن لكونهن مالاً للمسلمين كما لا تهدم المساكن إذا ملكت.
وعلى هذا القول: يقتل الرهبان وغير الرهبان لوجود الكفر. وذلك أن الله علق القتل لكونه مشركاً بقوله (فاقتلوا المشركين) فيجب قتل كل مشرك، كما تحرم ذبيحته ومناكحته لمجرد الشرك. وكما يجب قتل كل من بَدَّلَ دينه لكونه بدله، وإن لم يكن من أهل القتال، كالرهبان. وهذا لا نزاع فيه. وإنما النزاع في المرأة المرتدة خاصة.
وقول الجمهور: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار" انتهى كلام شيخ الإسلام، (ص 116، من طبعة الفقي) .(15/3)
وقد رد –رحمه الله- على هذا القول الضعيف في رسائله الأخرى بما يوافق ما في هذه الرسالة لمن تأمله. فلا جديد فيها !
ومن أصرح ذلك وأوضحه ما ذكره في "السياسة الشرعية". يقول –رحمه الله-: "إذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة؛ كالنساء والصبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَمِن(3)، ونحوهم، فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلا أن يُقَاتِل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والصبيان لكونهم مالاً للمسلمين. والأول هو الصواب؛ لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله ... "(4) –إلى أن قال متعرضاً للرد على ذاك القول الضعيف- : "ولهذا أوجبت الشريعة قتل الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، بل إذا أُسر الرجل منهم في القتال، أو غير القتال؛ مثل أن تلقيه السفينة إلينا، أو يضل الطريق، أو يؤخذ بحيلة؛ فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح؛ من قتله أو استعباده، أو المن عليه، أو مفاداته بمال أو نفس، عند أكثر الفقهاء، كما دل عليه الكتاب والسنة"(5).
قلت: ففي هذا النص المهم ما يجلي حقيقة تلك الرسالة، ويبين أنها أنشئت للرد على هذا القول الفقهي الضعيف الذي يرى قتل الكفار لمجرد كفرهم دون استثناء إلا للنساء والصبيان فقط –كما سبق-، وهو ما رده شيخ الإسلام وبين مخالفته للكتاب والسنة سواء في تلك الرسالة أو في هذا الموضع من "السياسة الشرعية" أو في مواضع أخرى من "الفتاوى" -كما سيأتي إن شاء الله-.(15/4)
ويبين هذا النص أيضاً أن شيخ الإسلام مع رده على ذاك القول الضعيف فإنه لا ينكر –كما يزعم البعض- شرعية جهاد "الطلب" ! وحاشاه من ذلك، وهو أمر مقرر بالنصوص ومجمع عليه بين العلماء(6)، ولهذا قال –كما سبق- "فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين". وهذا الجهاد إنما يكون "لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله".
ومن المواضع التي رد فيها الشيخ –رحمه الله- على هذا القول الفقهي الضعيف بما يوافق الرسالة المنسوبة إليه ما جاء في الفتاوى (28/659-661) عندما سئل عن الرهبان فأجاب بقوله: ".. إنما نهي عن قتل هؤلاء؛ لأنهم قوم منقطعون عن الناس، محبوسون في الصوامع، يسمى أحدهم حبيسًا، لا يعاونون أهل دينهم على أمر فيه ضرر على المسلمين أصلاً، ولا يخالطونهم في دنياهم، ولكن يكتفي أحدهم بقدر ما يتبلغ به. فتنازع العلماء في قتلهم؛ كتنازعهم في قتل من لا يضر المسلمين لا بيده ولا لسانه؛ كالأعمى والزَمِن، والشيخ الكبير ونحوه؛ كالنساء والصبيان. فالجمهور يقولون: لا يُقتل إلا من كان من المعاونين لهم على القتال في الجملة، وإلا كان كالنساء والصبيان، ومنهم من يقول: بل مجرد الكفر هو المبيح للقتل، وإنما استثنى النساء والصبيان؛ لأنهم أموال .."
وانظر أيضاً: "الفتاوى" (20/101-103).
فلا جديد في الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام! فقد تعرض له كثيرًا في رسائله الأخرى بتوضيح لو تأمله من طار فرحاً برسالته لعلم أنه في وادٍ والشيخ في وادٍ آخر.(15/5)
يقول الدكتور عبد الله القادري: "إذا كان الجهاد في سبيل الله شرع لرفع كلمة الله وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ورفع الظلم عنهم، فإنه لا داعي للخلاف فيه: هل شرع لقتال من قاتل من الكفار أو شرع لمجرد الكفر؟ لأن رفع كلمة الله يقتضي قتال كل من صدّ عنه والقضاء عليه، سواء كان صده بالقتال أو بالرأي، أو بأي نوع من الأنواع . وأما من لم يصدّ عنه بأن دخل في دين الله أو خضع لحكمه فأدى الجزية وهو صاغر فإنه لا يقاتَل ولا يُكره على الدخول في هذا الدين كما مضى. ولعل هذه الإشارة كافية إلى ما كتبه سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان –رحمه الله- في الرد على رسالة نسبت لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- بعنوان (قاعدة في قتال الكفار هل هو لأجل كفرهم أو دفاعاً عن الإسلام؟) وقد أنكر المؤلف نسبة هذه الرسالة لابن تيمية. والذي يظهر من أسلوب الرسالة أنها له؛ لأن أسلوبه –رحمه الله- واضح فيها، ولكنه أنكر أن يكون القتال لمجرد الكفر وإنما لرفع كلمة الله وذلك بأن يكون الحكم الغالب هو حكم الله لا سلطان الكفار، وإذا كان الكفار مغلوبين وسلطانهم منتفياً، وهم يؤدون الجزية صاغرين، فإنهم حينئذ لا يقاتَلون لكفرهم؛ إذ قتالهم لكفرهم يقتضي إكراههم على الدخول في الإسلام، وهذا من الاعتداء الذي نهى الله عنه.(15/6)
ومعنى قتال المقاتلين عنده –رحمه الله- هو أن يقاتل من أعد نفسه لقتال المسلمين سواء باشروا القتال فعلاً أو لم يباشروا، والذين لا يقاتلون هم الذين لم يعدوا أنفسهم للقتال؛ كالرهبان والشيوخ، فأي غبار على هذه المعاني جعل المؤلف سليمان بن حمدان يرهق نفسه لإنكار نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية؟ وإذا كانت بعض الجمل في الرسالة منكرة وقد نقلها –رحمه الله- عن بعض العلماء ولم يقرها لأنه قد بين رأيه في أول الرسالة وفي أثنائها، فإنه لا يسوغ نفي نسبة الرسالة إليه، وقد بين –رحمه الله- خلاصة رأيه في رسالته السياسة الشرعية"(7).
ويقول الدكتور علي بن نفيع العلياني: "يعمد أهل الدفاع إلى تعليل بعض علماء الإسلام قتل الكفار بأنه لأجل المحاربة ويحورونه بشكل مثير للعجب حتى يخيل للقارئ بأن هناك من علماء الإسلام من يقول إن الكفار لا يجاهَدون حتى يعتدوا على المسلمين!.
والحق أن المسلمين قبل أن يدخل الاستعمار بلادهم ويتخذ له صنائع منهم ما كانوا يعرفون هذا القول المنكر، بل الإجماع منعقد على وجوب تطلب الكفار في عقر دارهم وتخييرهم بين خصال ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال –على خلاف في قبول الجزية من غير أهل الكتاب والمجوس-.(15/7)
ولم يفهم أهل الدفاع تعليل بعض علماء الإسلام قتل الكفار بالمحاربة والمقاتلة أو تعمدوا كتمان ما فهموه. وذلك لأن العلماء الذين عللوا قتل الكفار بالمحاربة والمقاتلة نصوا على مرادهم، وهو تلمس الحكمة الشرعية في أمر الله سبحانه بقتال كل كافر باستثناء النساء والأطفال والرهبان والشيوخ العجزة، فقالوا: لو كان علة القتال الكفر لوجب قتل كل كافر، فإذًا العلة هي القدرة على المحاربة والمقاتلة، فإن من عنده الإطاقة على القتال فهو مصدر خطر على المسلمين، ولم يقل هؤلاء العلماء إن الكافر لا يقاتَل إلا إذا حارب بالفعل واعتدى، كما هو قول أهل الدفاع الذين يحرفون نصوص العلماء لكي يظهروا للناس بأنهم لم يخرقوا الإجماع، وأن هناك طائفة من العلماء تقول بقولهم"!! (8).
ويقول الأستاذ عبد الملك البراك رادًا على أحد من يتبنى الجهاد "الدفاعي"!: "إن الاختلاف الذي قد حصل بين الجمهور من جهة، والشافعي والظاهرية من جهة أخرى لم يكن أبداً في أصل تشريع الجهاد وحكمته وسببه أو علته.. وإنما كان الاختلاف في العلة الموجبة لاستباحة دماء الأعداء؛ فالجمهور على أنه لا يقتل إلا من كان قادراً على القتال، وأما من لم يكن كذلك كالنساء والأطفال والشيوخ وأصحاب الصوامع ونحوهم فلا يُقتلون؛ إلا في حالة واحدة وهي ثبوت حرابة هذه الأصناف، وحرابتهم تتخذ أشكالاً عدة؛ كالمساهمة الفعلية في القتال ضد المسلمين، والرأي والمشورة وإعداد الخطة لحرب الإسلام وأهله.. ونحوها.(15/8)
أما الشافعي وابن حزم الظاهري –رحمة الله عليهم- فقد خالفوا الجمهور في هذه المسألة؛ فأجازوا قتل كل من عدا النساء والصبيان من أهل الحرب، ولو لم يشتركوا في القتال؛ سواء كانوا رجالاً بالغين أو شيوخاً مسنين.. ولهذا فإن كتب الفقه الأمهات لما تعرض لهذا الاختلاف لا تذكر إطلاقاً أن الأمة قد اختلفت فيما بينها في الجهاد: هل يقام أو لا يقام، أو أن هناك شروطاً لابد منها حتى يؤدي المسلمون فريضة الجهاد !! بل إن هذه الكتب في مبحث الجهاد تذكر اتفاق الأمة على هذه الفريضة وفضلها المتقدم.. وأنها فريضة دائمة قائمة إلى قيام الساعة.. ثم عندما يأتي الحديث عن أصناف الكفار الذين يُقتلون يقرر العلماء وجود أصناف قد نصّ الشرع على عدم قتلهم.. وأن هذه مسألة مختلف فيها.. كما مرّ آنفاً.. وهذا الاختلاف إنما كان تبعاً لاختلاف العلماء في العلة الموجبة لاستباحة دماء هؤلاء الأعداء.." (9).
- قلت: ومما يؤكد تناقض من يدعي أن شيخ الإسلام ينفي جهاد "الطلب" أنه –رحمه الله- في هذه الرسالة المنسوبة إليه قد أشار إلى كتابه "الصارم المسلول" (كما في ص144) وأنت عندما تعود إلى "الصارم المسلول" تجد الشيخ يذكر جهاد "الطلب" ولا ينفيه! فقد قال –رحمه الله-: "لما نزلت سورة براءة أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال ... "(10) .
الخلاصة: أن شيخ الإسلام سواء ثبتت له هذه الرسالة أم لم تثبت، فإنه لا ينفي جهاد "الطلب" لقتال من منع نشر الإسلام كما توهم البعض؛ إنما يُنكر على من يرى قتال جميع الكفار لمجرد "كفرهم"، فلا يستثني سوى النساء والصبيان وهذا ما قرره في هذه الرسالة وفي رسائله الأخرى كما سبق.
أقوال العلماء في الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام(15/9)
لما رأيت أن عددًا من الإخوة الفضلاء لم يطلع على ما قاله العلماء في هذه الرسالة فقد أحببت أن أجمع ما تيسر لي من أقوالهم؛ لكي يحيط القارئ علماً بالرأي الآخر الذي يرى عدم صحة نسبة هذه الرسالة لشيخ الإسلام.
وقد سبق أن سبب نشاطهم لهذا الرأي هو ما فهمه الفريق الآخر من أن شيخ الإسلام يقرر فيها نفي "جهاد الطلب".
والصواب في ظني –كما أوضحت- أن شيخ الإسلام لا يقول بهذا القول المزعوم. إنما يرد على قول ضعيف –كما سبق-، يلتقي الجميع على رده والإنكار على أصحابه.
1-الشيخ سليمان بن سحمان –رحمه الله-:
لما أُشيعت هذه الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام كان أول من تصدى لنفي نسبتها: الشيخ سليمان بن سحمان –رحمه الله-، في رسالة مفقودة –كما سيأتي-(11)
2-الشيخ سليمان بن حمدان –رحمه الله-:
ألف الشيخ سليمان بن حمدان –رحمه الله- رسالته الشهيرة "دلالة النصوص والإجماع على فرض القتال للكفر والدفاع" لبيان تزوير هذه الرسالة على شيخ الإسلام –رحمه الله-، ومناقضة ما فهمه البعض منها لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولإجماع المسلمين، بل ولنصوص شيخ الإسلام نفسه في كتبه الأخرى.(15/10)
يقول الشيخ ابن حمدان في مقدمة رسالته: "أما بعد فقد وقفت على رسالة منسوبة لشيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه، مضمونها أن قتال الكفار سببه المقاتلة لا مجرد الكفر، وأنهم إذا لم يقاتلونا لم يجز لنا قتالهم وجهادهم على الكفر، وأن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار، واستدل لما زعمه ببعض آيات شبه بها ولبس، وأولها على غير معناها المراد بها، مثل قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) الآية، وقوله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه)، وقوله (لا إكراه في الدين) وحديثين حرفهما لفظاً ومعنى، وضرب صفحاً عن الآيات المحكمة الصريحة التي لا تحتمل التأويل، والأحاديث الصحيحة التي تكاد تبلغ حد التواتر في الأمر بقتال الكفار والمشركين حتى يتوبوا من كفرهم ويقلعوا عن شركهم، وهذه طريقة أهل الزيغ والضلال يدعون المحكم ويتبعون المتشابه؛ كما أخبر الله عنهم في قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) ولما رآها بعض من ينتسب إلى العلم وليس من أهل الدراية والفهم صادفت هوىً في نفسه فطار بها فرحاً ظاناً أنها الضالة المنشودة، وراجت لديه بمجرد نسبتها لشيخ الإسلام، فسعى في طبعها ونشرها، على كذبها وفشرها، وما علم المسكين أنه قد استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، وأنها محض افتراء وتزوير على الشيخ، وقد نزه الله شيخ الإسلام عن هذا الخطل الواضح والجهل الفاضح، والخوض في شرع الله بغير علم ولا دراية ولا فهم، ولكن الأمر كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- للحارث بن الأحوص لما قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: يا حارثة إنه لملبوس عليك، إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله، فهذا الذي طبعها(15/11)
ونشرها ممن لا يعرف الحق إلا بالرجال، فهو ملبوس عليه كما قال أمير المؤمنين، لأنه لو عرف الحق في هذا الباب لما راجت عنده هذه الرسالة ولقابلها بالإنكار والرد، ونبذها نبذ النواة؛ لأنها تضمن إبطال فريضة دينية هي ذروة سنام الإسلام، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله"، وقد جاء في حديث مرسل "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند حلول الشهوات"، فبالبصر النافذ تندفع الشبهة، وبالعقل الكامل تندفع الشهوة، وحيث إن ما جاء في هذه الرسالة مخالف لنصوص الكتاب والسنة ولما أجمعت عليه الأمة في الصدر الأول، ومخالف أيضاً لما نص عليه شيخ الإسلام نفسه في كتبه المشهورة المتداولة المعروفة لدى الخاص والعام؛ كالجواب الصحيح، والصارم المسلول، ومنهاج السنة، والسياسة الشرعية، وغيرها من كتبه التي سنذكر نصه فيها بالحرف، ونحيل على الكتاب ليسهل الوقوف عليه لمن أحب ذلك، وليعلم أن هذه الرسالة مزورة عليه ولا تصح نسبتها إليه بوجه من الوجوه، وأن من نسبها إليه فقد شارك المفتري في عمله وما يترتب عليه من إثم"(12).(15/12)
قال الدكتور علي بن نفيع العلياني في رسالته "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" (ص346) بعد أن نقل إبطال ابن حمدان للرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام: "وقد اطلعت على الرسالة المذكورة فاتضح لي ما اتضح للشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله من أن الرسالة منحولة على الشيخ وفيها عبارات كثيرة مأخوذة من كتبه، ولقد حرص واضعها على عدم ذكر جهاد الابتداء والطلب، بينما الناظر في مؤلفات ابن تيمية المشهورة يجد أن قوله في الجهاد لا يخالف إجماع المسلمين بل يوافقهم، وقد نقل بنفسه الإجماع كما تقدم قريباً، ونص على وجوب جهاد الابتداء والطلب في مواضع من كتبه. فقال في كتابه القيم "الجواب الصحيح": ( ... فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعاً فلأن يجب علينا بيان الإسلام وأعلامه ابتداء ودفعاً لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى..)(13). وقال في كتابه "الصارم المسلول": ( ... لما نزلت براءة أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كفوا أم لم يكفوا) (14).
وبهذا تظهر براءة ابن تيمية من تلك الرسالة المخالفة للإجماع ولأقواله هو بنفسه". قلت: الرسالة كما سبق منشأة للرد على قول فقهي ضعيف، ولا علاقة لها بجهاد الطلب.
3-الشيخ عبدالرحمن بن قاسم – رحمه الله- :
لم يدخل الرسالة في مجموع الفتاوى قائلاً : " وقد أعرضت عن نزر قليل نُسب إليه ؛ كمنظومة في عقائد ، ونقل محرف لترك البداءة بقتال الكفار "(8/5) .
4-سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله- :
جاء في مجموع فتاواه (6/ 198-201): "س: الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام: في "قتال الكفار" لأجل دفع شرهم.
ج: هذه جرى فيها بحث في مصر، وبيَّنا لهم بياناً تاماً في الموضوع، وأنها عرضت على مشايخ الرياض وأنكروها.
وهذه الرسالة حقيقتها أن بعضها من كلامه، ومحذوف منها شيء، ومدخل فيها شيء آخر.(15/13)
وكلامه في "الصارم المسلول" و"الجواب الصحيح" وغيرهما يخالف هذا، وهو أنهم يقاتلون لأجل كفرهم، مع أن حاصلها يرجع إلى القول الأول بالنسبة إلى الواقع؛ فإن الكفار في هذه الأزمان الضرر حاصل منهم، أو متوقع. فهم يسعون في ضرر الإسلام وأهله: الدول، والطوائف".
5- سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- :
لما نمى إلى علم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- تبني بعض معاصريه للقول بقصر الجهاد على الدفاع اعتمادًا على ما فهمه من هذه الرسالة. ألقى –رحمه الله- محاضرة نافعة بعنوان "ليس الجهاد للدفاع فقط" ثم نُشرت في مجموع فتاواه (3/171-201) بيَّن فيها بالتفصيل: حكم الجهاد في الإسلام وحالاته، مع التعرض لأحكام الجزية، ثم نبَّه على بطلان القول السابق ورد على شبهات أصحابه، وأوضح بطلان نسبته لشيخ الإسلام –رحمه الله-. وأكتفي بنقل ما يهم هذا المبحث.
يقول الشيخ عبد العزيز : " أما قول من قال بأن القتال للدفاع فقط، فهذا القول ما علمته لأحد من العلماء القدامى ، أن الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدفاع فقط، وأن الكفار لا يُبدؤن بالقتال وإنما يشرع للدفاع فقط.
وقد كتب بعض إخواننا رسالة في الرد على هذا القول وفي الرد على رسالة افتراها بعض الناس على شيخ الإسلام ابن تيمية ، زعم فيها أنه يرى أن الجهاد للدفاع فقط . وهذا الكاتب هو فضيلة العلامة : الشيخ سليمان بن حمدان رسالة ذكر فيها أن هذا القول منقول عن بعض أهل الكوفة ، وإنما اشتهر بين الكتاب مؤخرا .. وأما العلماء فلم يشتهر بينهم ، وإنما المعروف بين العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر أذن له في القتال مطلقا ، ثم فرض عليه الجهاد وأمر بأن يقاتل من قاتل ، ويكف عمن كف ، ثم بعد ذلك أنزل الله عليه الآيات الآمرة بالجهاد مطلقا ، وعدم الكف عن أحد حتى يدخل في دين الله ، أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها كما تقدم ..."(15/14)
"وقد تعلق القائلون بأن الجهاد للدفاع فقط بآيات ثلاث :
الأولى: قوله جل وعلا : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا والجواب عن ذلك كما تقدم أن هذه الآية ليس معناها القتال للدفاع ، وإنما معناها القتال لمن كان شأنه القتال : كالرجل المكلف القوي ، وترك من ليس شأنه القتال : كالمرأة والصبي ونحو ذلك ، ولهذا قال بعدها : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ
فاتضح بطلان هذا القول ، ثم لو صح ما قالوا ، فقد نسخت بآية السيف وانتهى الأمر بحمد الله .
والآية الثانية التي احتج بها من قال بأن الجهاد للدفاع: هي قوله تعالى : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ وهذه لا حجة فيها؛ لأنها على الأصح مخصوصة بأهل الكتاب والمجوس وأشباههم ، فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام إذا بذلوا الجزية ، هذا هو أحد القولين في معناها .
والقول الثاني أنها منسوخة بآية السيف ولا حاجة للنسخ بل هي مخصوصة بأهل الكتاب كما جاء في التفسير عن عدة من الصحابة والسلف فهي مخصوصة بأهل الكتاب ونحوهم فلا يكرهون إذا أدوا الجزية، وهكذا من ألحق بهم من المجوس وغيرهم إذا أدوا الجزية فلا إكراه ، ولأن الراجح لدى أئمة الحديث والأصول أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع ، وقد عرفت أن الجمع ممكن بما ذكرنا . فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا كما دلت عليه الآيات الكريمات الأخرى .(15/15)
والآية الثالثة التي تعلق بها من قال أن الجهاد للدفاع فقط: قوله تعالى في سورة النساء : فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً قالوا : من اعتزلنا وكف عنا لم نقاتله . وقد عرفت أن هذا كان في حال ضعف المسلمين أول ما هاجروا إلى المدينة ثم نسخت بآية السيف وانتهى أمرها ، أو أنها محمولة على أن هذا كان في حالة ضعف المسلمين فإذا قووا أمروا بالقتال كما هو القول الآخر كما عرفت وهو عدم النسخ .
وبهذا يعلم بطلان هذا القول وأنه لا أساس له ولا وجه له من الصحة ، وقد ألف بعض الناس رسالة افتراها على شيخ الإسلام ابن تيمية وزعم أنه لا يرى القتال إلا لمن قاتل فقط ، وهذه الرسالة لا شك أنها مفتراة وأنها كذب بلا ريب ، وقد انتدب لها الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمة الله عليه ورد عليها منذ أكثر من خمسين سنة وقد أخبرني بذلك بعض مشايخنا ، ورد عليها أيضا أخونا العلامة الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله القاضي سابقا في المدينة المنورة كما ذكرنا آنفا ورده موجود بحمد الله وهو رد حسن واف بالمقصود . فجزاه الله خيرا . وممن كتب في هذا أيضا أخونا الشيخ صالح بن أحمد المصوعي رحمه الله فقد كتب فيها رسالة صغيرة ، فند فيها هذه المزاعم وأبطل ما قاله هؤلاء الكتبة بأن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط .
وصنف أيضا أخونا العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله رسالة في الجهاد وبين فيها بطلان هذا القول وأنه قول لا أساس له من الصحة " اهـ كلام الشيخ ابن باز – رحمه الله - .
إضافات وفوائد :
1- اضطراب كلام الصنعاني بسبب رسالة شيخ الإسلام !(15/16)
لقد اطلع الصنعاني على الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام –رحمه الله-، وقام بتلخيصها في بحث له طبع حديثًا ضمن رسائل "ذخائر علماء اليمن" جمع القاضي عبد الله الجرافي، تحت عنوان "بحث في قتال الكفار"، عرض فيه لحجج الفريقين في المسألة الفقهية السابقة؛ إلا أنه توهم أن شيخ الإسلام في رسالته السابقة يميل إلى أن الجهاد شُرع للدفاع فقط! وأنه أول من اشتُهر عنه هذا القول! وهو ما مال إلى ترجيحه الصنعاني في تلخيصه لمن تأمل.
ثم قال: "وقد أشار العلامة الحسن بن أحمد الجلال رحمه الله في موضعين من شرحه ضوء النهار إلى اختيار أن هذا الأرجح من القولين؛ وهو أن سبب القتال ليس مجرد الكفر، بل الكفر مع الإضرار، ولم نعرف له سلفاً في ذلك حتى وقفنا على رسالة للعلامة المحقق أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله فيها تحرير القولين وذكر أدلة الفريقين .." (15)
إلا أن الصنعاني –بعد هذا- أعاد النظر في هذه المسألة في حاشيته على "ضوء النهار" وعرض لأدلة الفريقين من جديد، ثم مال إلى القول الآخر! خشية أن يُنكر جهاد "الطلب"، وهو أمر مجمع عليه بين العلماء –كما سبق-، ولو فهم رسالة شيخ الإسلام –رحمه الله- لعلم أنه ليس فيها تعرض لمسألة حكم الجهاد "سواء طلبيًا أو دفاعيًا" كما أوضحت سابقاً.
ومما يبين أنه فهم من رسالة شيخ الإسلام أنه يرى أن الجهاد للدفاع فقط، قوله رادًا على هذا: "لأنه لو كان غزوه صلى الله عليه وسلم إلا لدفع شر الكفار لا لأجل الكفر؛ لم يخرج من المدينة في غزاة، ولا بعث سرية، بل يبقى في المدينة، فمن قصده دافعه فيها.." (16)
فالصنعاني توهم أن شيخ الإسلام ينصر القول بأن الجهاد للدفاع فقط فلهذا مال إليه أولاً، ثم تراجع عن ذلك خوفاً من مصادمة نصوص الشريعة والتفرد بقول يخرق إجماع المسلمين. ولو تأمل كلام شيخ الإسلام وقرنه بما يشابهه في فتاواه ورسائله الأخرى لعلم أنه قد أبعد النجعة في فهم كلامه –رحمه الله-.(15/17)
2-الشوكاني يفهم الرسالة كفهم الصنعاني !
حيث تعرض لها في كتابه "نيل الأوطار" (5/250) عند حديثه عن "علامات البلوغ"، حيث قال محتجاً لمن قال بأن جهاد الكفار هو لأجل كفرهم: "ويؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو إلى البلاد البعيدة؛ كتبوك، ويأمر بغزو أهل الأقطار النائية مع كون الضرر ممن كان كذلك مأموناً".
ثم قال: "وذهبت طائفة أخرى إلى أن قتالهم لدفع الضرر.. ومن القائلين بهذا شيخ الإسلام ابن تيمية حفيد المصنف، وله في ذلك رسالة".
وفي ظني أن الشوكاني قد تابع الصنعاني في فهمه لرسالة شيخ الإسلام؛ لأنه كثيرًا ما يقتفي أثره. والله أعلم.
3-نقل مختصر مفيد عن الشيخ الألباني –رحمه الله- في بيان نوعي الجهاد:
قال –رحمه الله- في تعليقه على العقيدة الطحاوية (ص71-72): "اعلم أن الجهاد على قسمين: الأول فرض عين، وهو صد العدو المهاجم لبعض بلاد المسلمين، كاليهود الآن الذين احتلوا فلسطين: فالمسلمون جميعاً آثمون حتى يخرجوهم منها.
والآخر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وهو الجهاد في سبيل نقل الدعوة الإسلامية إلى سائر البلاد حتى يحكمها الإسلام، فمن استسلم من أهلها فبها، ومن وقف في طريقها قوتل حتى تكون كلمة الله هي العليا، فهذا الجهاد ماض إلى يوم القيامة فضلاً عن الأول.
ومن المؤسف أن بعض الكتاب اليوم ينكره، وليس هذا فقط بل إنه يجعل ذلك من مزايا الإسلام! وما ذلك إلا أثر من آثار ضعفهم وعجزهم عن القيام بالجهاد العيني، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم" "الصحيحة" (11)".
4-المدرسة العصرانية تنكر جهاد الطلب !(15/18)
قصر الجهاد في الإسلام على جهاد "الدفع" فقط هو مما أثارته المدرسة العصرانية الحديثة منذ الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما؛ نتيجة صدمتهم وانهزامهم أمام الحضارة الغربية التي ألجأتهم إلى تبني بعض الأقوال الشاذة تحرجًا من أحكام الله التي لا يرضاها أعداء الإسلام؛ ومن ضمنها أحكام الجهاد.
ثم تعاقب تلاميذ هذه المدرسة والمتأثرون بها على نشر هذا القول الشاذ وإشاعته بين المسلمين .
انظر على سبيل المثال: "رسالة التوحيد" لمحمد عبده (ص 235)، و"فتاوى رشيد رضا" (ص 892، 1155)، و"القرآن والقتال" لمحمود شلتوت (ص126)، و"الدولة الإسلامية.." لمحمد عمارة (ص 136)، و"آثار الحرب في الفقه الإسلامي" لوهبة الزحيلي (ص110) و"الجهاد في الإسلام – كيف نفهمه؟" للبوطي (ص 94 وما بعدها)، ... وغيرها من كتب العصرانيين.
وبعضهم قد اتكأ على الرسالة المنسوبة لشيخ الإسلام وفرح بها؛ كالشيخ عبد الله المحمود في رسالته "الجهاد المشروع في الإسلام"، ومحمد أبو زهرة في كتابه عن "ابن تيمية"، وصاحب رسالة "الفريضة المفترى عليها" (ص 364-369).
وانظر للرد عليهم بالتفصيل: رسالة الشيخ علي العلياني "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" (ص 318-349). و"ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد" لعبد الملك البراك، (ص 33-163). و"الجهاد والقتال في السياسة الشرعية" للدكتور محمد خير هيكل (1/748 وما بعدها).
5-الخطأ لا يعالج بمثله :
إذا كنا نواجه سوء فهم لحقيقة "الجهاد" الشرعي في الإسلام من قبل فئات من الشباب "المتحمس" الذي يريد أن يقحم الأمة في معركة غير متكافئة لم تأخذ العدة اللازمة لها إلى الآن فيعرضها لتسلط الأعداء عليها وغزوها في عقر دارها.(15/19)
إن مواجهة مثل هذا الفهم الخاطئ لا تكون من خلال إنكار ثوابت وضروريات دينية؛ كإنكار جهاد "الطلب" مثلاً، فنحن بهذه الطريقة لا نعالج الخطأ إنما نزيده تعقيدًا، ونلجئ الطرف الآخر إلى أن يتشبث بخطئه ويتعصب له؛ لما يرى من تلاعبنا بالأحكام الشرعية أو تميعنا تجاهها.
إنما العلاج الشرعي لهذا الفكر يكون من خلال إبراز وتوضيح مسائل "الجهاد" الشرعي، وتبيين مخالفة أصحاب ذاك الفكر لها. ويكون هذا بواسطة علماء ثقات لهم قبولهم بين شباب الأمة. فمن المسائل التي ينبغي إبرازها وإيصالها للشباب في هذه الفترة:
1- أن جهاد "الطلب" لا يكون إلا بإذن الإمام. يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-: "لا يجوز غزو الجيش إلا بإذن الإمام مهما كان الأمر.. فلا يجوز لأحد أن يغزو دون إذن الإمام إلا على سبيل الدفاع .. وإنما لم يجز ذلك؛ لأن الأمر منوط بالإمام، فالغزو بلا إذنه افتئات وتعد على حدوده، ولأنه لو جاز للناس أن يغزوا بدون إذن الإمام لأصبحت المسألة فوضى"(17).
2- أنه يجوز عقد "المعاهدات" مع الكفار في حال ضعف المسلمين.
3- أنه في حال ضعف المسلمين يُشرع الأخذ بالآيات المكية التي فيها الكف عن القتال، والتركيز على الدعوة. يقول الشيخ ابن باز –رحمه الله- متحدثاً عن واجب الإمام: "إن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية؛ لما في الآيات المكية من الدعوة، والبيان، والإرشاد، والكف عن القتال عند الضعف"(18).
4- مراعاة المصالح والمفاسد في مسائل "الجهاد" .
5- تحريم قتل المعاهدين، وما فيه من عقوبة شديدة جاءت بها النصوص الشرعية.
فهذه المسائل وغيرها –مما يعرفها من هم أقدر مني- لو تم إبرازها من خلال النشرات والمحاضرات والندوات لتم القضاء على كثير من أفكار "الغلو" –بإذن الله-.
مع التنبيه على أمور مهمة تُيسر هذا العلاج:
أ- أن يكون جهد الأمة منصباً –في هذه الفترة- على جهاد "الدفع" وإخراج الكفار من ديار المسلمين التي استباحوها.(15/20)
ب- إعداد العدة، وأخذ الأسباب المقوية للأمة –بإذن الله-؛ كالتزود من الأسلحة الكافية، وتدريب الشباب على الحياة الجادة، وإبعادهم عن الملهيات والمنكرات، وعدم الركون إلى الحياة الدنيا.
ج- التصدي للفكر المنهزم المقابل لفكر الغلو الذي يروج له دعاة "العلمنة" و"العصرنة" و"أصحاب العقائد المنحرفة" ممن يمثلون "الطابور الخامس" بوارثة أسلافهم المنافقين. وذلك بإبعادهم عن وسائل التأثير، ومناصحتهم، والحزم معهم؛ لأن هذا الفكر المنهزم في حال انتشاره –لا قدر الله- فإنه ينخر في جسد الأمة ويُضعفها، ويجعلها لقمة سائغة للأعداء، كما تبين ذلك في تجارب سابقة(19).
فلنكن صفاً واحدًا في هذه البلاد خلف ولاة أمرنا وعلمائنا في التصدي لهذين الفكرين الخبيثين: فكر "الغلو"، وفكر "الانهزام"، فإنهما وجهان لعملة واحدة؛ هي تسلط الأعداء علينا.
أسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء، وأن يكفينا شر الأشرار، ويقينا من الفتن الظاهرة والباطنة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
-----------------------
(1) ونسخة ابن مانع –رحمه الله- محفوظة بمكتبته المودعة بمكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض.
(2) ولعله الراجح؛ لتوافقها مع رسائله الأخرى –كما سيأتي- ووضوح نَفَس شيخ الإسلام فيها. لكن مع ملاحظة ما اعتراها من تصرف واختصار جعل بعض عباراتها مضطربة. وهذا يميل إليه بعض العلماء والباحثين –كما سيأتي-.
(3) الزَمِن هو ذو العاهة الذي لا يستطيع المشي.
(4) السياسة الشرعية (ص 106).
(5) السابق (ص 107).
(6) بل كما قال الشوكاني إنه أمر "معلوم من الضرورة الدينية" (السيل الجرار: 4/518).
(7) الجهاد في سبيل الله: حقيقته وغايته، ص 615 – 616.
(8) أهمية الجهاد ..، ص 336 – 337.
(9) ردود على أباطيل وشبهات حول الجهاد، ص 35.
(10) "الصارم المسلول"، ص 112، عن "أهمية الجهاد.." للعدِني، ص 346.(15/21)
(11) لعلها رسالة "الرد على المزور على شيخ الإسلام ابن تيمية". انظر : "الشيخ سليمان بن سحمان وطريقته في تقرير العقيدة" للشيخ محمد الفوزان (ص 141).
(12) دلالة النصوص والإجماع ..، ص 1-3.
(13) الجواب الصحيح 1/75.
(14) الصارم المسلول ص 112.
(15) ذخائر علماء اليمن ، ص 163.
(16) حاشية ضوء النهار (4/2506).
(17) الشرح الممتع (8/25).
(18) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (3/193).
(19) بينت في رسالتي "العصرانية قنطرة العلمانية" أن المستفيد الوحيد من انتشار هذا الفكر بوجهيه "العلماني" و"العصراني" في بلاد المسلمين هم الأعداء من "كفار" و"أهل بدع"؛ لأنه يتسنى لهم من خلاله إضعاف هيبة الدولة الإسلامية وتنازع أهلها وتفرقهم أحزاباً شتى، مما يسهل استباحتهم –والعياذ بالله-. فهل من مدكر؟!(15/22)
نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي
من عبد العزيز بن باز إلى حضرة الأخ الكريم الدكتور حسن الترابي وفقه الله لما فيه رضاه آمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..... أما بعد :
فأشفع لمعاليكم بهذا نسخة من الرسالة الواردة إلي ممن سمى نفسه (عبد البديع صقر ) صاحب مؤسسة الإيمان، المؤرخة في 24/11/1400هـ راجيًا من معاليكم بعد الاطلاع عليها التكرم بالإفادة عن صحة ما نسب إليكم فيها من الآراء ؛ لنعرف الحقيقة والشبهة التي أوجبت لكم هذه الأقوال إن صحت نسبتها إليكم ؛لمناقشتكم فيها على ضوء الأدلة .
ونسأل الله لنا ولكم وللمسلمين الهداية والتوفيق وصلاح النية والعمل
إنه خير مسؤول . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. وبعد :
فهذه نظرات شرعية في فكر الدكتور حسن الترابي - هداه الله - ، الذي أثر على كثيرين من محبي الإسلام في هذا الزمان ، سواء في بلده ( السودان ) ، أو في بلاد أخرى ، فاغتروا بفكره الحركي وتناسوا لأجله جميع انحرافاته الخطيرة - كما سيأتي - ، فلم يعرجوا عليها أو يناصحوه في شأنها إلا قليل منهم لم يرضوا لأنفسهم أن يغشوا الأمة أو يغرروا بشبابها ، مجاملة له أو خشية على انقسام الحركة الإسلامية - كما يقال - .
وقد آثرت جعل هذه النظرات تعريفا للقارئ بأهم الردود التي صدرت في التنبيه على أخطاء الترابي وانحرافاته ، من خلال تهذيب المهم منها ؛ ليكون شباب الإسلام على علم بها ؛ فيتجنبوها ويرشدوا من وقع فيها ؛ ولعلها تكون موقظة لبعض الدعاة عندنا الذين سبق لهم ثناء وتزكية للترابي ! أن يراجعوا موقفهم . وهذا العمل مساهمة مني في ( تصفية ) الساحة الإسلامية في هذا الجانب ؛ تمهيدًا لعودتها - إن شاء الله - أمة متحدة ذات عقيدة واحدة .. وما ذلك على الله بعزيز . فأقول مستعينًا بالله :
تعريف بالدكتور الترابي :(16/1)
وُلد د. حسن عبد الله الترابي سنة 1932 من عائلة دينية من الطبقة المتوسطة، وتتلمذ على يد والده، شيخ طريقة صوفية أقلية، فحفظ القرآن الكريم صغيرا بعدة قراءات، وتعلم علوم اللغة العربية والشريعة في سن مبكرة على يد والده، وجمع في مقتبل حياته أطرافا من العلوم والمعارف لم تكن ميسرة لأبناء جيله خاصة في السودان.
تزوج الترابي من وصال الصديق المهدي شقيقة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي زعيم حزب الأمة.
تدرج في سلك التعليم حتى حصل على إجازة الحقوق من جامعة الخرطوم، ثم على الماجستير من جامعة بريطانية في 1957، ثم الدكتوراة من السوربون الباريسية في 1964، وأجاد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وحصَّل صنوفا شتى من المعارف والثقافات الغربية مما أثر في فكره - كما سيأتي - .
وبعد عودته إلى وطنه تولى الترابي عمادة كلية الحقوق بجامعة الخرطوم .
أصبح الترابي الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامية لدى تشكيلها. وعن هذه الجبهة انبثقت جماعة الإخوان المسلمين في السودان، واعتُقل ثلاث مرات خلال السبعينيات، في ظل نظام الرئيس جعفر نميري، ومع ذلك شغل في 1979 منصب النائب العام، وأيد الترابي قرار نميري إقرار الشريعة الإسلامية في 1983، وبعد سقوط نظام نميري في 1986، شكّل الجبهة القومية الإسلامية .
انفصل الترابي عن جماعة الإخوان ، وتصاعدت الخلافات بينهم نظرًا لخروجه عن نهج الجماعة وطريقتها في الدعوة والتربية ، وانحرافاته التجديدية ! التي خرج بها عن إجماع المسلمين ؛ مما أدى بهم إلى التشهير به والرد عليه .(16/2)
في يونيو 1989، تحالف الترابي مع الفريق عمر البشير، لقلب الحكومة المنبثقة عن انتخابات ديموقراطية بقيادة صهره زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، وطبع اتجاه الترابي السياسة الخارجية للسودان على خلفية دعم المدّ القومي الإسلامي؛ بهدف التحرر من الهيمنة الأميركية الصهيونية. وفي أبريل 1991، أسس المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي نُصِّب أمينًا عامًا له، ليشكل منبرًا للقضايا الإسلامية، وعقد المؤتمر الذي يضم حركات وتنظيمات إسلامية من العالم أجمع دورتين في ديسمبر 1993، وفي أبريل 1995 في الخرطوم .وفي فبراير 2000، أغلقت السلطات مقر المؤتمر.
انتُخب الترابي رئيسًا للمجلس الوطني (البرلمان) في 1996 و1998، لكن علاقاته توترت مع البشير، الذي عارض هيمنته على المؤتمر الوطني، الذي حلّ محل الجبهة القومية الإسلامية التي تم حلها في 1989، وتحول في ما بعد إلى حزب سياسي بموجب قانون التوالي السياسي، الذي أتاح تشكيل أحزاب سياسية، وبدأ العمل به مطلع 1999.
ووجه البشير الذي تتلمذ على يد الترابي ضربة قاصمة لأستاذه مع إقصائه عن رئاسة المجلس الوطني وحله في 12 ديسمبر 1999، وإعلان حال الطوارئ وتعليق بعض مواد الدستور. وجاء القرار بعد 48 ساعة من تصويت النواب على تعديلات هدفها الحد من صلاحيات رئيس الدولة.
وفجّر القرار الصراع على السلطة بين الرجلين، وداخل المؤتمر الوطني. وبدأ العد العكسي للتحالف بين قطبي السلطة في السودان. ووافق الترابي في 23 يناير 2000 على مقترحات المصالحة والتعايش مع البشير، مكتفيًا بمهام تنظيمية داخل الحزب، بعيدًا عن مقاليد الحكم، مع اتجاه البشير للتقارب مع جيرانه العرب والأفارقة، وأبعد أنصار الترابي عن المناصب الحكومية مع تشكيل الحكومة، وتعيين حكام جدد للولايات في 24 يناير 2000.
من تآليفه :
1 - الصلاة عماد الدين .
2 ـ المشكلة الدستورية.
3 ـ الإيمان
4- المصطلحات السياسية في الإسلام.(16/3)
5- ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية.
6- الصحوة الإسلامية والدولة القطرية في الوطن العربي.
7 - خصائص الحركة الإسلامية المعاصرة.
8 - تجديد أصول الفقه الإسلامي.
9- المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع .
( المرجع : مجلة المجتمع ، العدد 136 - موقع اسلام اون لاين - موقع قناة الجزيرة - مع إضافات يسيرة ) .
ملخص ردود العلماء والدعاة على الترابي :
تابع الردود على الترابي(16/4)
كيف احتل الانجليز مصر ؟!
اقرؤا التاريخ إذ فيه العِبَر *** ضلَّ قومٌ ليس يدرون الخَبَر
من قرأ تاريخ الاحتلال الإنجليزي للبلاد المصرية المسلمة في القرن الماضي وتابع خطواته، متأملاً ما تبين من سبيل المجرمين للوصول إلى هذا الأمر الجلل؛ وجد في ذلك الكثير من العِبَر التي تستحق التدوين، ويمكن الاستفادة منها لمنع تكرار ما حدث في دولٍ أخرى –لا قدّر الله-. لأن طرائق مكر الأعداء –على اختلاف دولهم- متشابهة؛ يبني اللاحق منهم على خطط السابق، وينسج على منواله، كما هو واضحٌ جداً الآن في العراق؛ حيث استفاد الأمريكيون كثيراً من الملف الإنجليزي القديم للإيقاع من جديد بهذا البلد المسلم.
وتاريخ الإنجليز مع الدول العربية والإسلامية - عامة - في هذا العصر مليئ بالخبث والحقد والمؤامرات المتنوعة في أماكن شتى من بلاد الإسلام . فمامن مصيبة تحل بهم إلا وتجد من ورائها كيد الإنجليز وتدبيرهم ، والشواهد على هذا كثيرة لاأظنها تخفى على متابع . حتى وصفهم شاعر العراق الرصافي زمن احتلالهم لبلاده بقوله في ديوانه ( 3/240-243) :
دع اللوم واسمع ما أقول فإنني *** قتلتُ طباع " التيمسيين " بالبحث
كأنهم والناس عُث وصوفة *** وهل يستقيم الصوف في عثة العُث
فكم حرثوا في أرض مستعمراتهم *** مظالم سودًا كن من أسوأ الحرث
وكم أيقظوا والناس في الليل نُوّم *** بها فتنًا كالدجن يهمي على الوعث
وهم يأكلون الزبد من منتجاتها *** ويُلقون للأهلين منهن للفرث
يقولون إنا عاملون لسعدكم *** ولم يعملوا غير الكوارث والكرث
إذا مارأيت القوم في فخ مكرهم *** رققت لهم تبكي على القوم أو ترثي
فلا ترجُ في الدنيا وفاء لعهدهم *** فلا بد في الأيام للعهد من نكث(17/1)
لذا فقد أحببت أن ألقي الضوء –باختصار- على خطوات ذاك الاحتلال البغيض وما قاله المؤرخون عنه، وما يستفيده المسلمون والدول الإسلامية منه - لا سيما بلاد التوحيد - من عبر ومواعظ؛ كي يغلقوا الفرجات التي لا زال ينفذ منها شياطين الإنس.
مبتدئاً ذلك بموجز تسلسلي لما حدث، ثم بذكر أقوال المؤرخين، ثم أذكر العِبَر التي يُمكن الاستفادة منها .
سائلاً الله أن ينفع بما كتبت، وأن يهيئ له آذاناً صاغية، وعقولاً واعية، والله الموفق.
موجز تاريخي للأحداث :
- كانت مصر كغيرها من بلاد العالم الإسلامي تحكمها الدولة العثمانية . وكانت تُحكم بالشريعة الإسلامية ، وترتكز في أمورها على الإسلام بوجود الأزهر ، وهيئة كبار العلماء ، مع قصور وانحراف ، قلما يسلم منه أحد .
- قام الفرنسيون بقيادة نابليون بونابرت بحملتهم على مصر عام 1798م ، بعد أن مهدوا لذلك بإرسال الجواسيس الذين يدرسون وضع البلاد ومدى قابليته للاحتلال .
ولكنهم لم يفلحوا في البقاء فيها سوى 3 سنوات نظرًا لاتحاد أهل البلاد ضدهم، ووقوفهم صفًا واحدًا تجاه حملتهم –حكامًا ومحكومين- ؛ رغم تطمينات نابليون الكثيرة لهم بأنه لا يريد الإسلام بسوء !
- كرر الإنجليز ما قام به إخوانهم الفرنسيون؛ فأرسلوا حملة عسكرية بقيادة "فريزر" لاحتلال مصر؛ لكنها باءت بالفشل –أيضاً-؛ للأسباب نفسها.
- استمر العثمانيون يحكمون مصر من خلال الولاة الذين يعينونهم واحداً تلو الآخر، ولكن الشعب المصري لا يرتضيهم لظلمهم وتعسفهم.
- إلى أن تم تعيين (محمد علي باشا) والياً على مصر بعد أن اختاره الشعب والعلماء والوجهاء - بإذن مسبق من الدولة العثمانية- مشترطين عليه أن يحكم بالعدل!
- استغل (محمد علي باشا) الفرصة ولم يفوتها ، فحكم البلاد ، مفتتحًا حكمه بمذبحة شنيعة لبقايا "المماليك" ، الذين كانوا ينافسونه .(17/2)
- انشغل (محمد علي باشا) بالأمور العسكرية التي كان من أهمها: حملته الظالمة على أهل الدعوة السلفية في الجزيرة العربية، وحملته على السودان، وغيرها من الحملات العسكرية.
- هلك محمد علي باشا عام (1849م ).
- تولى الحكم بعده حفيدة: عباس بن طوسون بن محمد علي ( من عام 1848م إلى 1854م ).
- ثم جاء بعده سعيد بن محمد علي ( من1854 إلى 1864). وفي عهده: تم منح امتياز شق قناة السويس لصديقه المهندس الفرنسي " دي ليسابس " بشروط مجحفة جرَّت على بلاد مصر الويلات فيما بعد.
وفي عهده أيضاً بدأت مشكلة الديون حيث بدأ يستدين من الغرب بفوائد ربوية لينجز قناة السويس وغيرها من الأعمال المرهقة لميزانية البلاد دون فائدة كبيرة تجنى منها .
- جاء بعده: الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي(من1863 إلى 1879م).
وفي عهده افتتحت قناة السويس، وتضخمت الديون التي كان يستدينها لينفقها بإسراف على أمور شكلية أولافائدة منها للبلاد ؛ مما اضطره لبيع نصيب مصر من القناة على الإنجليز !!
وفي عهده بدأ تدخل الدول الأوربية في البلاد بشكل سافر بدعوى حماية حقوقها المالية ؛ إلى أن وصل الحال إلى فرض وزيرين أوروبيين ضمن تشكيلة الوزراء ! إضافة إلى تدفق الأجانب في عهده على مصر ، وإقامة محاكم خاصة بهم .
- كان رئيس الوزراء في عهد إسماعيل : القبطي النصراني ! نوبار باشا الذي كانت ميوله وعواطفه إلىجانب بريطانيا.
- في عهد إسماعيل: قدم الرجل الغامض "جمال الدين الأفغاني" إلى مصر بدعوة من الوزير رياض باشا .( كان رياض من أصل يهودي، ادعت عائلته الإسلام).
- أخذ الأفغاني يبث أفكاره "الثورية" و"العصرية" بين أصناف المصريين الطامحين من مسلمين وغيرهم؛فتشكلت من حوله مجموعة من المتأثرين بأفكاره.(17/3)
تركزت فكرة الأفغاني ومن معه على تكوين الصحف المتنوعة والمشاركة فيها، وتشويه صورة الحاكم والعلماء في أذهان الناس ، واستغلال أوضاع البلاد لتهييجهم ، إضافة إلى الإلحاح على المطالبة بالحكم النيابي، وتأسيس الأحزاب، والمشاركة الشعبية .. الخ. فعلى سبيل المثال: كان الأفغاني يهاجم الخديو إسماعيل علانية ويقول للمتجمهرين حوله: (أنت أيها الفلاح تشق الأرض لتستنبت ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك ؟! لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟!) (دراسات في تاريخ العرب الحديث، للدكتور عمر عبد العزيز عمر، ص 297) ، وغيرها من الكلمات الثورية التهييجية.
- تم عزل الخديو إسماعيل من قبل الدولة العثمانية بعد ضغوط إنجليزية لأنه بدأ يعارض بعض قراراتها .
- تولى الحكم بعده ابنه الخديو توفيق (1879-1892م) الذي أحس بخطورة الأفغاني وما يبثه من أفكار، فنفاه خارج البلاد؛ لكن بعد أن بذر بذرته الخبيثة في البلاد.
- كان وزير الحربية في عهد توفيق : (عثمان رفقي)، وهو شركسي متعصب قام بعدة أعمال ظالمة ضد الجنود والضباط المصريين؛ كمنعهم من الترقيات وغيرها.
- مما دفع بأحمد عرابي (وهو أحد المتأثرين بدعوة الأفغاني ومحمد عبده) أن يثور ضد هذا الظلم ويطالب بإقالة عثمان رفقي . فاستجيبت مطالبه بعد عدة أحداث ومنازعات.
- لم يكتف عرابي بما تحقق ؛ إنما اغتر بمن حوله وظن أنه ممثل الشعب، مما أداه إلى الاستطالة على ولي أمره، والخروج بمظاهرة ضده.(17/4)
- كان الإنجليز يشايعهم الفرنسيون يرقبون الأحداث بغبطة وسرور! وكانوا يوعزون من خلف ستار إلى عرابي أن امض في طريق "الإصلاح"، ولا تخش أحدًا! ومن ذلك ما ذكر محمد عبده في مذكراته عن الثورة العرابية –وهو أحد أقطابها- من أن قنصل فرنسا ( أرسل إلى أحمد عرابي وإخوانه يقول لهم: إنه يسره ما يراه من صلابتهم وعزيمتهم، واشتدادهم في المطالبة بالعدل، فعليهم أن يثبتوا في مطالبهم ولا يُضعفهم ما يُهَددون به) ! (الأعمال الكاملة لمحمد عبده، 1/528، 531) .
و( أرسل إلى عرابي كتابًا يمدحه فيه على ثباته، ويشجعه على عدم المبالاة بالحكومة ). (مصر المجاهدة في العصر الحديث، عبد الرحمن الرافعي، ص 34) .
أما إنجلترا فكانت تفعل الأمر نفسه بل أشد، من خلال جاسوسها المدعو: " بلنت" الذي كان يجوس بلاد مصر يؤلب الناس على الحكم، ويراسل عرابي ويستحثه على مواصلة الضغط على الحكومة لعلها تستجيب لمطالب "الإصلاح"! ، وهدفه الحقيقي فصل مصر عن الدولة العثمانية تمهيدًا لاحتلالها .
يقول الدكتور محمد محمد حسين –رحمه الله- عن "بلنت" هذا: (كان لا يفتر عن التنقل بين مضارب الأعراب في مصر.. يدعو المصريين إلى الثورة، ويتكلم بعد وقوعها باسم عرابي، ويقدم له صورًا مضللة عن صفته الرسمية، وقدرته السياسية، وقوة الجيوش الإنجليزية..). (الإسلام والحضارة الغربية، ص 66).
ويقول الأستاذ مصطفى غزال عنه : ( كان من أشد الناس تفانياً في مصالح الإنجليز، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه للحكومات البريطانية، بل كان أحيانًا يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية، ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عرابي، ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعًا من الدهاء والحنكة الإنجليزية).( دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام، ص 123).(17/5)
- أحس الخديو توفيق بالخطر فلجأ إلى الإسكندرية طالباً من الإنجليز المتربصين بسفنهم في البحر حماية عرشه ! مع ضغطه هو والإنجليز على السلطان العثماني لإصدار منشور في عصيان عرابي ؛ لكي ينفض الناس عنه .
- افتعل الإنجليز مذبحة للنصارى في الإسكندرية ليتخذوها ذريعة لاحتلالها عام (1882م) بدعوى حماية رعاياهم !
قبل أن تتم المصالحة بين عرابي والدولة العثمانية .
- تعاون المنافقون الخونة من أبناء مصر مع الإنجليز ، ومكنوا لهم من احتلال البلاد بعرض من الدنيا قليل !
- لم يستجب عرابي للناصحين الذين حثوه على سد قناة السويس لكي لا يتسلل منها الإنجليز إلى عمق الأراضي المصرية ؛ منخدعاً –كما سيأتي- بتطمينات المهندس الفرنسي صاحب امتياز القناة .
- قضي على الثورة العرابية بعد أن أوقعت البلاد بيد الاحتلال الإنجليزي ، الذي استمر أكثر من 70 عاماً !! (1882 – 1956م). رغم ادعاءاتهم وتصريحاتهم المتكررة بأنهم سيخرجون حالما يعود الهدوء والأمن للبلاد !!
- بعد أن تمكن الإنجليز من البلاد المصرية عاثوا فيها فساداً في جميع المجالات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، مستعينين في ذلك كله بالمتعاونين معهم من أفراد الطابور (الخامس) ؛ وعلى رأسهم العصرانيون بقيادة شيخهم محمد عبده الذي كان له ولتلاميذه من بعده الدور الأول في تغريب البلاد وترويضها لقبول مطالب الاحتلال .
- استمر الخديو توفيق في الحكم ، ثم جاء بعده ابنه عباس حلمي (1892 – 1914) ثم حسين كامل ابن إسماعيل (1914م – 1917م) ثم فؤاد بن إسماعيل (1917م – 1936م)، ثم الملك فاروق ابن فؤاد (1936-1952م) . وجميع هؤلاء الحكام لم يكن لهم عقد ولا حل، إنما كانوا واجهة شكلية أمام الناس، وأما السلطة الحقيقية فكانت بيد الإنجليز.(17/6)
- قام جمال عبد الناصر ومن معه بثورتهم العسكرية على الحكم الملكي عام (1952م) معلنين قيام الجمهورية العلمانية بتواطؤ وتمكين من الغرب ، ( لاسيما أمريكا التي رعت ثورتهم منذ البداية ) ( انظر : " ثورة يوليو الأمريكية " لمحمد جلال كشك - رحمه الله - ) .
- رحل الإنجليز عن مصر عام (1956م) بعد أن سلموا السلطة لمن يحققون أهدافهم في مسخ البلاد وتغريبها، والقضاء على مظاهر الإسلام فيها ؛ وعلى رأس ذلك إلغاء الحكم بالشريعة . وبعد أن تحقق أهم هدف لهم ؛ وهو التكين ليهود من إقامة دولة لهم في أرض فلسطين .
أقوال المؤرخين :
أ - حال البلاد قبل الخديو إسماعيل :
( كانت فكرة احتلال مصر قد راودت الأوساط الفرنسية مراراً في القرن الثامن عشر ) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 327).
( في عهد لويس السادس عشر كتب سفير فرنسا بالأستانة سنة 1871 يحث حكومته على فتح مصر ، وكان مما جاء في رسالته " إن جيش مصر ضئيل ، والجنود لم يقفوا في ميدان حرب منظمة ، وليس لديهم مدفع واحد " ) . ( موسوعة التاريخ الإسلامي ، د أحمد شلبي ، 5 / 313 ) .(17/7)
(لم تكن حملة نابليون على مصر واحتلالها (1798-1801) مغامرة طارئة مدفوعة بظروف آنية يأتي على رأسها الصراع الفرنسي البريطاني، وفي محاولة فقط لضرب عدوته اللدود –بريطانيا- بقطع شريان مواصلاتها ومن ثم تهديد أعز مستعمراتها –الهند- وإنما كانت –وإضافة إلى ذلك- حركة بارعة ذات هدف استراتيجي مدروس بعناية فائقة، فلا شك أن نابليون يدرك جيداً –وفي ذهنه صورة الحروب الصليبية وما انتهت إليه- أن مصر هي مفتاح الشرق، وإنها هي الحاجز المنيع الذي يحمي هذا الشرق بإمكاناتها البشرية ومكانتها الثقافية والحضارية كقلعة من أهم إن لم تكن أهم قلاع الذود عن العالم الإسلامي، وموقعها الجغرافي المتميز، ولكنه يدرك أيضاً وبكل وضوح أنه وإن استطاع اختراق هذا الحاجز بحراب جيشه لن تلبث هذه الحراب أن ترتد وتنكسر إن لم ينسف هذا الحاجز من أساسه، هذا الحاجز هو الحاجز الديني بإيديولوجيته الثقافية ومضمونه الحضاري ، ومن ثم يستطيع أن يحول مصر إلى قاعدة أوربية يستطيع بواسطة إمكانياتها البشرية وموقعها الاستراتيجي المتميز أن يبسط سيطرته على كل هذا الشرق ويحقق أهداف أسلافه رواد الحركة الصليبية متجنياً المواجهة السافرة بين الإسلام والمسيحية باستخدام قوة إسلامية لتحقيق أهداف صليبية ).
( قراءة جديدة لسياسة محمد علي باشا التوسعية ، د سليمان الغنام ، ص 12-13).
( إن الباحث المنصف يجد الحملة الفرنسية فتحت على مصر باب المتاعب والاستعمار ، فقد لفتت أنظار الإنجليز إلى أهمية مصر .. ) . (موسوعة التاريخ الإسلامي ، د أحمد شلبي ، 5 / 333 ) .
( وفي عهد الحملة الفرنسية فكر نابليون .. في وصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، وعهد بدرس هذا المشروع إلى المسيو (لوبير) كبير مهندسي الري والطرق والجسور ، فقضى عامين في درسه وفحصه ، وعاونه فيه بعض مهندسي الحملة، وقدم تقريرًا إلى نابليون بعد مغادرته مصر ). ( عصر إسماعيل ، الرافعي ، ص 53 ) .(17/8)
كان التفكير في شق قناة السويس من أيام محمد علي باشا ؛ لكنه لذكائه رفض ذلك ( خوفاً من أن تجر قناة السويس على مصر ويلات التدخل الأجنبي ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص17).
( توفي محمد علي عام 1849، وكانت مصر قد دخلت مرحلة تاريخية جديدة في حياتها السياسية والثقافية، وقد حاول خلفاؤه الاستمرار في النهضة، على أن سياسة الإسراف والتبذير التي اتبعها هؤلاء، ثم القروض المالية التي استدانوها من الأجانب فتحت الباب أمام التدخل الأجنبي في شون البلاد الداخلية). ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 353).
( في عهد سلطة سعيد باشا كانت مصر بلا جدال أكثر بلاد الشرق رخاء ) . ( تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده ، تيودور روذستين ، ص 44). بسبب أن الحرب توقفت
( من أغلاط سعيد أنه .. هو الذي منح امتياز شق قناة السويس بشروط مجحفة لمصر . وقناة السويس سلاح ذو حدين ؛ فإذا استطاعت مصر حمايتها واستغلالها كانت لمصر خيرًا وبركة ، أما إذا كانت بابًا نفتحه للأجانب ، ونجلب بسببه استعمار مصر والسيطرة عليها لصالح الدول القوية التي تستعمل القناة ، فلا كانت القناة ) .(موسوعة التاريخ الإسلامي ، د أحمد شلبي ، 5 / 411 ) .(17/9)
( قدم فردينان دي لسبس (1805 – 1894) الفرنسي الجنسية Ferdinand De Lesseps إلى مصر سنة 1832، وشغل منصب نائب قنصل فرنسا بالإسكندرية ، وعثر - بمحض المصادفة - في أثناء قضائه فترة الحجر الصحي على مذكرة كتبها المهندس لوبير عن قناة البحرين، فاهتم بالمشروع أيما اهتمام، وناقش تفاصيله مع ذوي الشأن، وتمكن خلال إقامته بمصر من توثيق صداقته بالأمير محمد سعيد، أصغر أبناء محمد علي، وغادر دي لسبس مصر سنة 1836 وظل على علاقته بالأمير، وتقلب في عدة مناصب دبلوماسية إلى أن اعتزل الحياة السياسية سنة 1849، إثر أزمة تسبب في إحداثها، وتبنى عقب هذا مشروع حفر قناة تصل البحرين: المتوسط والأحمر ، وعكف على دراسة كل ما كتب عنه، ولما تولى الأمير سعيد حكم مصر سنة 1854، خلفاً لعباس، كتب إليه دي لسبس مهنئاً، فرد سعيد يدعوه لزيارته، فلبى الدعوة في نوفمبر.وسرعان ما استحوذ على إعجاب الوالي وحاشيته بشخصيته الجذابة وبراعته في الفروسية ومهارته في الصيد.. وانتهز دي لسبس فرصة تواجده مع الوالي في إحدى الرحلات فعرض عليه بلباقة وقوة حجة، مشروع حفر القناة، فاقتنع برأيه ووافق عليه ومنحه في 30 نوفمبر 1854 فرمان الامتياز الأول بشق القناة ). ( قناة السويس ، جورج كيرلس ، ص 91 ) .
ب - الخديو إسماعيل وإسرافه وديونه :
(وافى إسماعيل أمته وهي في مفترق الطرق، تتنازعها حضارتان: حضارتها الإسلامية القديمة تنزع إليها بتقاليدها، والحضارة الغربية الحديثة، تندفع نحوها بحكم التجديد، فلم يتردد إسماعيل، ومال إلى الحضارة الغربية..) . ( الخديو اسماعيل باشا ، إصدار وزارة المعارف المصرية ، ص : د ) .
( كان إسماعيل باشا أول خديو على مصر، وهو الذي نقل مصر من حضارة الشرق إلى حضارة الغرب، وجعل الأهالي يلبسون الملابس الأوربية، ونظم الإدارة على المبادئ الحديثة، وأدخل قانون نابليون في المحاكم ). ( مجلة الهلال ، عدد ابريل 1928 ) .(17/10)
(تربى تربيته الأولى في النمسا، ثم بعد ذلك في باريس، وهناك تعلم وأتقن اللغة الفرنسية، وبهرته باريس وما فيها من جمال وفتنة، ومن هناك نشأت ميوله الباريسية التي لازمته طوال حياته، وجعلته بعد أن تولى الحكم يسعى في أن يجعل القاهرة باريساً ثانية ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص16).
( وضع مجهوده في إعطاء مصر قشور الحضارة ومظاهرها) . ( مذكرات الزعيم أحمد عرابي ، ص 5-6).
( أخذ إسماعيل يعمل في ما في وسعه الجهد من أجل صبغ البلاد بالصبغة الأوربية، فشجع الاستثمارات الأجنبية وأخذ يرعاها ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص16).
( كان إسماعيل في مصر قد أعلن أن مصر قطعة من أوربا، وأقام المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية بديلاً للقضاء الإسلامي، وكان القضاء في عهد إسماعيل موحى به من الاستعمار الفرنسي نقلاً من نظامهم في الجزائر... ) . ( اليقظة الإسلامية ..، أنور الجندي ، ص 163) .
( كان إسماعيل .. قد تلقى دراساته الأولى في باريس ؛ فأعجب بالحضارة الأوربية أيما إعجاب ، وحين تولى الحكم أراد أن يجعل مصر قطعة من أوربا . والمعروف عنه أنه كان مولعًا بالإسراف والبذخ ؛ حتى أغرق مصر بالديون ) . ( لمحات اجتماعية .. ، علي الوردي ، 2/51) .
( في عهده – أي إسماعيل – ازدهرت الماسونية ، ودخلها الكثير من علماء مصر وأعيانها ) . ( لمحات اجتماعية .. ، علي الوردي ، 3/364) .
( استطاع النفوذ الاستعماري استغلال إسماعيل في مرحلة ضعفه وديونه، والضغط عليه لفتح الطريق أمام التغريب، وقد كان إسماعيل باشا هو أول من حمل لواء التغريب، حين أعلى كلمته التي ما تزال لها دلالتها "إن مصر قطعة من أوربا ) . ( اليقظة الإسلامية ..، أنور الجندي ، ص 193) .(17/11)
عهد إسماعيل ( كان بدء النكبات التي توالت على هذه البلاد بعد ذلك، حتى رمت بها بين براثن الاحتلال). ( التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر ، الفرد بلنت ، ص 11 ) .
وديونه ( كانت الباب الذي تسرب منه النفوذ الأجنبي إلى سلطة الحكومة المصرية، ودخلت منه انجلترا حتى وضعت يدها على مصر ) . (التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر ، الفرد بلنت ، ص 21 ) .
وكان ينفقها ( على ملاذه الشخصية وحماقته في بناء القصور، وطيشه مع النساء الأوربيات، وخَرَقه في إقامة الحفلات الملوكية..) . (التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر ، الفرد بلنت ، ص 18 ) .
( هذه الديون لم يكن لها إلا سبب واحد؛ هو إسراف الخديو إسماعيل وتبذيره وفساد حكمه ). ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 9 ) .
( معظم هذه القروض عقدها إسماعيل للإنفاق والبذخ على حياته الخاصة) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 252).
( دفع مبلغ 6958 جنيهاً ثمناً لأطقم قهوة من الذهب المرصع بالماس ومشبك مرصع بالماس ) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 252).
( مد يده إلى المرابين الأجانب يستدين منهم بغير تدبير ولا حساب؛ حتى قاربت تلك الديون مائة مليون جنيه؛ فأتاح بذلك للمستعمرين أن ينشروا ظلهم الأسود على مصر). ( ثلاثة من أعلام الحرية ، قدري قلعجي ، ص 40 ) .
كان ( فاسد التدبير، سيئ التقدير) . ( 50 عامًا على ثورة 1919، هيكل ، ص 16 ) .
( كان يتوهم حسن نية الدول الأوربية نحوه، ونحو مصر، وظل هذا الوهم مسيطراً عليه حتى أدرك خطأه في نهاية عهده ) . ( تاريخ العرب الحديث ، د عمر عبدالعزيز ، ص 253 ) .
( إنها - أي مصر في عهد إسماعيل - تشكو من كثرة النفقات التي سببتها محاولة إدخال مدنية الغرب، والتي تترتب على مشروعات لا تجدي نفعاً ) . ( أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه ، محمود الخفيف ، ص 21-22، تقرير لإنجلترا من مندوبها ) .(17/12)
( ترك إسماعيل مصر مثقلة بالديون وترك موارد البلاد ومرافقها في قبضة الشركات الأجنبية تستغلها لحسابها. ).( كشف الستار ، أحمد عرابي ، ص ح ).
صندوق الدين ( أول هيئة رسمية أوربية أنشئت لفرض التدخل الأجنبي في شئون مصر ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص33).
( أنشئ صندوق الدين مايو 1876 وكان بمثابة حكومة أجنبية مطلقة التصرف في مصر ) . ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 72) .
( بدأ هذا التدخل مالياً، ولكنه يطوي في ثناياه عوامل التدخل السياسي ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص31).
( وجدت كل من إنجلترا وفرنسا في الديون الكبيرة التي تورط فيها الخديو إسماعيل فرصة ذهبية للتدخل في شئون مصر الداخلية، والسيطرة على اقتصادها) . ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 50 )
( إن قروض إسماعيل من فرنسا عندما زادت تدخلت بريطانيا لكي تلفت نظر الباب العالي إلى ممارسة سلطته في منعه من الاقتراض، وكانت تهدف بذلك إلى إحباط خطة فرنسا للتسلط على مصر ). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 91 ) .
( هذا البذخ نتجت عنه القروض التي عقدها إسماعيل والتي كانت فرصة حقيقية للتدخل الأجنبي في شئون مصر الداخلية ) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 253).
( إن مشروع قناة السويس كان من العوامل الرئيسة التي أثقلت الخزينة المصرية، وجعلتها ترزح تحت أعباء مالية قاسية ) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 354).(17/13)
( وقد أثقلت مصر من جراء المشاريع التي ذكرناها، بالديون، وكان الدائنون من الأجانب، من مرابين ومن مصارف، وقد استنزف المرابون ثروة الأمة بالربا الفاحش، وبذلك فتح المجال لتدخل الأجانب في الأمور السياسية، وكان هذا التدخل سافراً عندما فرضت إنكلترا وفرنسا وزيرين في الوزارة المصرية، واحد بريطاني، وآخر فرنسي، وأعطيا مركزاً ممتازاً فيها، فأوجد ذلك مراقبة ثنائية إنجليزية أفرنسية، كما فرض بوغوص نوبار رئيساً للوزارة، وبوغوص هذا أرمني تمصر، عرف بولائه للأجانب، وكان متهماً في أنه أثرى عن طريق السمسرة لأصحاب الأموال والمرابين على حساب الشعب، كما كان أيضاً أول من أنشأ المحاكم التي عززت الأجانب ). ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 358-359) .
( عندما تولى إسماعيل وجد أن النظام القضائي الذي يخضع له الأجانب في حالة فوضى ، وكان الواجب انهاء هذه الفوضى بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مكانها ، وجعلها هي المهيمنة على الحكم ، وإلغاء الامتيازات الأجنبية التي تخالف ذلك ، والجهاد في سبيل تحقيق ذلك مهما كلف الأمر . ولكن بطانة السوء لا تأمر إلا بالشر ، ولاتدعو إلى خير أبدا ؛ لقد رأى نوبار باشا وزير الخارجية المصري ( الأرمني ) في ذلك الوقت أن سبيل الإصلاح هو إيجاد المحاكم المختلطة ) . ( الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية ، د عمر الأشقر ، ص 68 - 69 ) .
ج - إسماعيل يبيع نصيب مصر في قناة السويس ! والإنجليز لم يفوتوا الفرصة !!(17/14)
( انتهزت الحكومة البريطانية هذه الفرصة الذهبية وسارعت لا إلى رهن الأسهم المصرية في شركة قناة السويس لديها، وإنما إلى شراء حصة مصر بأكملها من الخديو إسماعيل، وتمت هذه الصفقة ، التي خسرت مصر فيها أسهمها في القناة في السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني، نوفمبر من عام 1875، ولقد كان لبعض الصهاينة دور معروف في إتمام هذه الصفقة وأشهر هؤلاء الذين لعبوا أدوارهم بدقة هما: دزرائيلي رئيس الوزارة البريطانية آنذاك، وروتشلد الثري البريطاني المعروف، فوقعت اتفاقية حفظت لمصر بعض الحقوق، إلا أن احتلال الإنكليز لمصر عام 1882 وأحداث الحرب العالمية الأولى التي أعقبت ذلك، ووقوف الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا، جعلت بريطانيا تستولي على القناة وتقيم عليها التحصينات، ضاربة عرض الحائط بما كان من اتفاق بينها وبين الحكومة المصرية، ولما قامت الحرب العالمية الثانية، مكنت بريطانيا قبضتها على القناة، خوف استيلاء الألمان عليها ؛ فحصنتها واستولت على منشآتها العسكرية ) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 357) .
( وتصاعدت الأزمة المالية عام 1875م، وتفاقمت أحداثها، إلى أن سارع "ديزرائيللي" رئيس وزراء بريطانيا آنذاك –دون انتظار لموافقة مجلس الوزراء- لشراء كل أسهم مصر في قناة السويس، مقابل أربعة ملايين من الجنيهات!.. دفعها "روتشيلد" أحد ذئاب الرأسمالية اليهودية العالمية، ليحقق دزرائيللي أعجب صفقة مالية في التاريخ!.. كانت سبباً مباشراً في تدخل انجلترا لإدارة الشئون المالية لمصر، حتى انتهى الأمر في عام 1882م باحتلالها العسكري للبلاد ). ( القاهرة في عصر إسماعيل ، عرفه عبده علي ، ص 89) .
د - خلع إسماعيل :(17/15)
( ثم إن إسماعيل باشا رأى منهم أنهم صاروا يتدخلون في أكثر الأمور، ويريدون أن لا يفعل شيئاً إلا بإطلاعهم ومعرفتهم، فخاف من اتساع الأمر وسلب الملك منه، فأراد أن يجعل له عصبية من أهالي مصر، وأن يشكل منهم مجالس، ويكون أعضاؤها من العلماء ووجوه الأهالي والعمد من مشايخ البلدان، فشرع في ذلك ليكون الأمر بيدهم صورة، وأنه لا يفعل شيئاً إلا بمشورتهم؛ ليدفع بذلك تغلب الإنكليز والفرنسيين وتسلطهم، ففطنوا لذلك، فسعوا في خلعه..) ( خلاصة الكلام .. ، دحلان ، ص 65) .
هـ - هجرة الأجانب إلى مصر :
( كان من الطبيعي أن يكون لسياسة إسماعيل المذكورة أثر كبير في زيادة مجيء الأجانب إلى مصر للاستفادة من هذه الفرص، وللمشاركة في المشاريع الجديدة، وأعمال التعمير ) . ( 100 عام على الثورة العرابية ، مركز الأهرام للدراسات ، ص17).
(من محاولاتهم لتحقيق الاستعمار الشامل: تشجيع هجرة الأوربيين إلى مصر؛ ومنهم كثير من الإنجليز والفرنسيين، حتى يكونوا عوناً لهم في احتلال البلاد ). ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 51-52 )
( كان من الطبيعي مع زيادة أعداد الأجانب في مصر وتزايد جالياتهم، ووضوح نفوذهم السياسي أن يفرضوا أنفسهم على خريطة السلطة في مصر، وأن يكون لهم دولاً تحمي مصالحهم وتدافع عنهم، بل وتدافع عن استلابهم للبلاد..) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 159).
( من أخطر الأمور التي أسفر عنها إنشاء هذه المحاكم – فضلاً عن اختصاصاتها- أن أغلبية القضاة كانوا من الأجانب، وأنهم كانوا يرأسون الدوائر.. ) . ( تاريخ مصر الحديث ، فرغلي تسن ، ص 161).
و - حركة أحمد عرابي :
( أدركت الطبقة الممتازة من الأمة ! أن إصلاح هذا النظام إنما يكون بقيام الدستور، وإنشاء مجلس نيابي يوطد مبادئ العدل والحرية، ويتحقق فيه معنى الرقابة على الحكام، ويحول دون ارتكاب المظالم... ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 15).(17/16)
عرابي( هو الذي بث في نفوس الضباط روح التضامن والاتحاد للمطالبة بحقوقهم المهضومة، وتقدم الصفوف لعرض مطالبهم جهاراً على ولاة الأمور، وكانت هذه المطالب فاتحة الثورة.. فهذه الجرأة كان لها أثر كبير في ظهور الثورة ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 13).
و( كان للباقته وفصاحته في الكلام، واستشهاده ببضع الأحاديث الشريفة النبوية، والحكم المأثورة تأثير كبير في نفوس الضباط، اجتذبهم إليه، ومال بهم إلى تلبية ندائه، والاستماع لنصائحه، والاقتناع بآرائه ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 123).
( إن بداية الثورة العرابية كانت عسكرية تهدف إلى فتح المجال العام أمام المصريين للترقي في رتب الجيش، لكنها تطورت إلى ثورة سياسية تشريعية تنادي بالديمقراطية وبالدستور..) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 366).
كتب عرابي منشورًا (يبين فيه أخطاء الحكومة واستبدادها، ويدعو الناس إلى معاونته لانتشال البلاد مما هي فيه). ( أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه ، محمود الخفيف ، ص 21-22)
وكان يقول قبل الإحتلال : ( دعهم يأتون! فكل رجل وطفل في مصر سيقاتلهم ) . ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 170).
ولكن :( كانت عاقبة الثورة الوقوع في قبضة الاحتلال) !! ( الشيخ محمد عبده في أخباره وآثاره ، د رحاب عكاوي ، ص 49 ) .
( لا يخفى أن موقف هذا الرجل لا يزال محوطاً بأسرار كثيرة، فإن التاريخ لم يكشف لنا حقيقة الدافع له على ما فعل، ولم يبين لنا المؤثرات التي كان خاضعاً لها ) .( ثورة 1919 ..، عبدالرحمن الرافعي ، 129).
أما هو - أي عرابي - فيقول في مذكراته : ( والله الذي لا إله إلا هو فالق الحب وبارئ النسمة أني ما خدمت بذلك دولة إنكلترا ولا فرنسا ولا كنت آلة لدولة ما). فالله أعلم .( مذكرات الزعيم أحمد عرابي ، ص 61).
ز - حركة عرابي إحدى ثمار فكر الأفغاني :(17/17)
سبق معنا أن الأفغاني قدم مصر بدعوة من الوزير رياض باشا ، الذي كان ( من أصل يهودي، وكان ميالاً إلى الإنجليز والأجانب، رغم أنه دخل في الإسلام، والله أعلم بإسلامه، يقول الصحافي والكاتب المشهور أديب اسحق –وهو أحد تلاميذ جمال الدين الأفغاني- تحت عنوان رياض باشا ما يأتي: هو من بيت الوزان، من يهود مصر الأذكياء، أقيم جده على وزانة النقود، فأظهر الإسلام، وتبعه بنوه من بعده ) . ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 157).
يقول أبو رية: ( اتخذ السيد! جمال الدين طوال حياته لتحقيق غاياته: وسائل الثورة السياسية ). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 370).
ويقول أنور الجندي: ( آمن جمال الدين بأن الثورة السياسية هي الوسيلة المثلى لتحقيق دعوته ). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 371).
( كانت ثورة عرابي من تحريضه ). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 371).
( اتفق المؤرخون على أن بذور الثورة في مصر قد وضعها جمال الدين ( الأفغاني ) قبل أن يُطرد من البلاد ) . ( التحفة الندية في الفتنة العرابية ، أحمد سعيد نونو ، ص 66 ) .
( أوعز جمال الدين إلى تلاميذه إنشاء الصحف ) . ( المرجع السابق ، ص 67 ) .
( لم تكن فكرة تدخل الشعب في السياسة واعتراضهم على الحكام موجودة في مصر حتى دخول الأفغاني مصر . وفي هذه الفكرة مفاسد كثيرة ، بل هي أصل من أصول إفساد الشعوب والبلاد .. وإثارة الشعوب على حكامها تؤدي إلى ثورات وإراقة دماء وفتن جاء الإسلام بالقضاء عليها ووأدها ) . ( المرجع السابق ، 132 ) .
( تحول الفكر المصري في آخر عهد إسماعيل ، وكثر الحديث عن الظلم والظالمين ، والحقوق ، والحد من سلطة الحاكم ، والدستور ، وبدأت الصحف في نشر معايب الحكومة ؛ فظهرت أفكار لم تكن موجودة من قبل ذلك في مصر ) . ( المرجع السابق ، ص 133 ) .(17/18)
ح - دور الإنجليزي بلنت في تحريض عرابي ! :
( كان من أشد الناس تفانياً في مصالح الإنجليز، رغم أنه يتظاهر بصداقته للشرق المتمثل بالشعوب التابعة لتركيا، وبعدائه للحكومات البريطانية، بل كان أحياناً يتظاهر بالدفاع عن قضايا الشعوب الشرقية، ويقف بجانبهم، كما وقف بجانب عرابي ودافع عنه بعد أسره، كان هذا نوعاً من الدهاء والحنكة الإنجليزية) . ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 123).
وهو (واضع كتاب (مستقبل الإسلام) الذي يدعو فيه إلى هدم الخلافة الإسلامية، بنقلها من السلاطين العثمانيين إلى العرب الضعفاء، ويدعو إلى الاعتماد على الإنجليز في إقامة خلافة إسلامية قوية)! ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 124).
(كان على صلة بزعماء الثورة العرابية التي انتهت باحتلال مصر من قبل قومه). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 124).
( بلنت شجع عرابي على الثورة، وهو يعلم أنه ضعيف لا يستطيع الوقوف أمام جيوش الاحتلال، وهو الذي زين لعرابي الحكم الجمهوري) . ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 124).
(بلنت أودى بصاحبه عرابي وثورته وبلاده إلى الهاوية، ومع ذلك لم يفطن عرابي لخطره، بل بقي على صداقته له بعد ذلك). ( دعوة الأفغاني في ميزان الاسلام ، مصطفى غزال ، ص 124).
ط - دور القنصل الفرنسي في تحريض عرابي على الثورة ! :
( أرسل إلى عرابي كتاباً يمدحه فيه على ثباته، ويشجعه على عدم المبالاة بالحكومة )!!( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 34).
ي - الذرائع التي تعلق بها الإنجليز والفرنسيون للضغط على مصر :(17/19)
(بدأت الدولتان التحرش بالحكومة بافتعال سلسلة من الأزمات التي تضع العراقيل في طريق تقدم سير الأمور، فلم يكد مجلس شورى النواب يجتمع في 26 ديسمبر 1881 حتى طلب المراقبان الإنجليزيان عدم تعرضه للميزانية؛ لأنها من اختصاصهما) ! ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 169).
( سوغت الدولتان هذا العمل العدواني بأن الغرض منه حماية رعاياها من الأخطار التي يستهدفون لها) .( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 81).
(كانت الأسباب الظاهرية التي تذرعت إنجلترا بها لإرسال سفنها الحربية هي حماية الأجانب في مصر). ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 54 )
(ولم يكن ثمة خطر ولا خوف من هذه الناحية، وإنما هي حجة مصطنعة ووسيلة باطلة تستر الغرض الحقيقي، وهو خلق الذرائع للتدخل المسلح في شئون مصر ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 81).
( كان من أهم أسباب الاحتلال إذ ذاك عسر المالية وتدخل الأجانب في أمور البلاد، واستئثارهم بها على عهد الوزارة المختلطة في آخر مدة إسماعيل باشا، واشتداد وطأتهم وطموح أبصارهم إلى ما أوجب استحكام الضغائن في صدور الجهادية واستيائهم من الأجانب بسبب قطع مرتباتهم ).( كشف الستار ، أحمد عرابي ، ص 125 )
(ظهر استعانة الإنجليز بالأجانب على ذلك النحو في تدبير مذبحة الإسكندرية ). ( الثورة العرابية وأثرها .. ، محمد المرشدي ، ص 52 ).
( وقد وجدت كل من إنجلترا وفرنسا في الديون الكبيرة التي تورط فيها الخديو إسماعيل فرصة ذهبية للتدخل في شئون مصر الداخلية والسيطرة على اقتصادها). ( الثورة العرابية ، محمد المرشدي ، ص 50 ).
ك - تواطؤ الفرنسيين مع الإنجليز :(17/20)
( انسحبت فرنسا من الميدان، وأمرت أميرال أسطولها بمغادرة الإسكندرية قبل الضرب ، فبارحها مساء 10 يوليه سنة 1882، ومعنى ذلك أن الحكومة الفرنسية تركت إنجلترا تفعل ما تشاء وتعتدي ذلك الاعتداء الغشوم على المدينة فتدك حصونها وتهدم مبانيها وتحصد أرواح أهلها دون أن تبدي حراكاً، قابلت فرنسا هذا الاعتداء الوحشي بالجمود ). ( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، ص 123 ) .
(لم يكد الجيش الإنجليزي ينتصر على العرابيين في واقعة التل الكبير حتى بادر المسيو تيسو سفير فرنسا بلندن إلى مقابلة اللورد جرانفيل وزير خارجية انجلترا وهنأه باسم الحكومة الفرنسية على هذا الانتصار . وكان جواب جرانفيل على تهنئته : " إن واقعة التل الكبير هي انتصار أوربي ، ولو انهزم الجيش الانجليزي لكان ذلك كارثة على كل الدول التي تحسب حسابًا للتعصب الإسلامي" ! ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، 124).
ل - الخيانة من أسباب هزيمة عرابي :
(إن العامل الجوهري في الهزيمة كان الخيانة). ( أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه ، محمود الخفيف ، ص 21-22) .
( كان للخيانة أثر كبير في إحداث هذه الهزيمة ) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 365).
( هدى شعراوي هي ابنة محمد باشا سلطان الذي كان يرافق جيش الاحتلال في زحفه على العاصمة، ويدعو الأمة إلى استقباله وعدم مقاومته، ويهيب بها إلى تقديم كافة المساعدات المطلوبة له ). ( الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار ، ص 82 ) .
محمد سلطان ( لعب دوراً هاماً في تدعيم موقف العناصر الخائنة ). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 424 ) .
و ( كان من أهم العوامل في إخفاقها وخذلانها) . ( الأعلام الشرقية ، زكي مجاهد ، 1/161) .
(كان – أي سلطان باشا - أكبر مساعد للإنكليز على قومه بالرشوة مع أنه من أكبر الأغنياء ). ( تاريخ الأستاذ الإمام ، رشيد رضا ، 1/233) .(17/21)
( إن سلطان باشا قد لعب دوراً هاماً في تدعيم موقف العناصر الخائنة ). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 424) .
( الرشوة اللعينة كانت تنساب في الظلام فتقتل بسمومها بعض الضباط ؛ أمثال الخائن علي يوسف الذي أخلى الطريق للإنجليز عند التل الكبير ) . ( موسوعة التاريخ الإسلامي ، د أحمد شلبي ، 5 / 474 ) .
( وقد لعبت الخيانة أقذر أدوارها في هذه الفترة من الحرب: فإن الأميرالاي علي يوسف خنفس أثرت الرشاوي الإنجليزية في نفسه الضعيفة، فجعل من نفسه جاسوساً للإنجليز داخل صفوف الجيش المصري الباسل ). ( الثورة العرابية ، محمد المرشدي ،ص 83) .
( ويذكر بلنت أن وزارتي الحرب والبحرية في إنجلترا قد عقدتا النية منذ أوائل السنة أن يكون الهجوم على مصر من ناحية قناة السويس، وأنه تقرر في أواسط يوليو أن تمهد السبل لذلك بالرشوة بين بدو الشرق ). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 427) .
م - انخداع عرابي بالفرنسي ( دي ليسابس ) من أهم أسباب الهزيمة :
(إن مجلساً عسكرياً عقد في كفر الدوار أجمع فيه المجتمعون باستثناء عرابي وحده على عدم اعتبار رسالة دلسبس، ووجوب سد القناة). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 457 ) .
( كان عرابي قد فكر ردم القناة كإجراء دفاعي، لكن (دي ليسابس) أكد له أن القناة لن تُستخدم في الهجوم على مصر، وأنه يضمن له ذلك، وقد أرسل له كتاباً في هذا الصدد "لا تحاول أية محاولة في سد قناتي، فإني هنا، فلا تخش شيئاً من هذه الناحية، فإنهم لن يستطيعوا إنزال جندي إنجليزي..) . ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 364).
( انتقلت البوارج البريطانية تحت جنح الظلام إلى بور سيعد، ثم دخلت القناة، ومن منطقة القناة بدأت أعمالاً حربية انتهت بهزيمة عرابي). ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 364).(17/22)
( ولو سُدت قناة السويس في بداية القتال لامتنع الاتصال بين القوات الإنجليزية الآتية من البحر المتوسط والقوات الآتية من الهند، واستحال عليها الوصول إلى الإسماعيلية من طريق القناة، وفي هذه الحالة يضطر الجنرال ولسلي إلى المغامرة بجيشه في الصحراء الشرقية حيث لا ماء ولا كلأ، أو يهاجم مصر من طريق الدلتا فتعوق الترع والجسور زحفه وخاصة في أيام الفيضان (أغسطس-سبتمبر)، ولكن عرابي لم يستمع لنصيحة محمود فهمي وخشي عواقبها، وظن أن الإنجليز يحترمون حياد القناة فلا يتخذونها قاعدة للزحف، فكان هذا الخطأ أكبر عامل في إخفاق خطة الدفاع التي وضعها محمود فهمي، واكتفى عرابي بإقامة معسكر في التل الكبير على بعد نحو خمسين كيلو متراً من الإسماعيلية، و110 كيلو مترات من القاهرة حشد فيه جانباً من الجيش، ولكنه وزع معظم قواته في كفر الدوار وعلى سواحل البحر المتوسط، فكان الجنود السودانيون وهم من خيرة الجنود مرابطين في دمياط بقيادة عبد العال حلمي، ورابط في رشيد فيلق كبير، واستقر معظم الجيش بقيادة طلبة عصمت في كفر الدوار، ومع أن الإنجليز استعجلوا الحركات الفدائية في قناة السويس وكانت هذه الحركات نذيراً كافياً لعرابي بما اعتزموه من خرق حياد القناة، فإن عرابي أحجم عن العمل بنصيحة محمود فهمي في سدها ).( مصر المجاهدة ..، عبدالرحمن الرافعي ، ص 131 ) .
وقد قال القائد البريطاني (ولسلي) فيما بعد: ( لو أن عرابي سد القناة كما كان ينوي أن يفعل، لكنا للآن لا نزال في البحر نحاصر مصر ). ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 364).
( وكان من أكبر أخطاء عرابي تردده في سد القناة، وانخداعه بالمؤامرة القذرة التي دبرها الإنجليز مع ديلسبس ). ( الثورة العرابية ، محمد المرشدي ، ص 80 ) .(17/23)
( لقد خدع فرناند عرابي وخانه ، وفُتحت القناة أمام الأساطيل لتحتل بورسعيد والإسماعيلية ، ثم بدأت القوات بعد ذلك تتجه إلى القاهرة ) . ( الأصول الفكرية لحركة المهدي السوداني ، د عبدالودود شلبي ، ص 129 ) .
ن - من أسباب الهزيمة انفضاض الناس عن عرابي بسبب منشور السلطان :
( ظلت إنجلترا تضغط سياسياً على السلطان حتى أصدر منشوراً بعصيان عرابي لسلطان المسلمين، وبشرعية اشتراك الجيش الإنجليزي في إخماد الثورة المصرية). ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 236).
(وأدت منشورات الخديو المرفقة بمنشور السلطان إلى ذهاب الحمية الدينية من النفوس، وجعلت الجنود يعتقدون أن من يموت في هذه الحرب ليس شهيداً كما كانوا يظنون، بل يكون مأواه جنهم لأنه عاصٍ للسلطان خليفة الله في الأرض). ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 237).
يقول عرابي : ( نصحناهم بأن هذا المنشور مخالف لأحكام الدين الإسلامي؛ لأننا إنما نقاتل أعداء المسلمين الذين يريدون أن يستولوا على بلادنا الإسلامية). ( الثورة العرابية ، صلاح عيسى ، ص 466 ) .
ص - أيمان الإنجليز الكاذبة بعد الاحتلال ! :
( في مجلس العموم البريطاني، وفي 24 يوليو 1882، وفي أعقاب ضرب الإسكندرية: صرح جلادستون رئيس الوزراء البريطاني بأنه: ليس لبريطانيا العظمى مطامع في مصر، ولم ترسل الجنود لها إلا لإعادة الأمن فيها). ( تاريخ العرب المعاصر ، د عبدالعزيز نوار ، ص161) .
( وأقسم جلادستون غير مرة بشرف بريطانيا! أنها لن تستمر في احتلال مصر، أقسم بذلك في مجلس العموم في 9 أغسطس 1882 قائلاً: إن الحكومة البريطانية لم تفكر في ضم مصر.. ) . ( تاريخ العرب المعاصر ، د عبدالعزيز نوار ، ص162) .
( منذ أن دخلت بريطانيا مصر محتلة لم تكن تفكر أبداً في الانسحاب منها).( مجلة العربي ، العدد 80) .
ع - مفاسد الإنجليز في مصر بعد الاحتلال :(17/24)
( منذ أن احتل الإنجليز مصر وهم يعملون على إضعافها بشتى الوسائل؛ تارة بمحاربة اللغة العربية، وأخرى بنشر الحركات الاجتماعية الهدامة، وثالثة بخلق الأحزاب السياسية التي تفرق الأمة..) . ( الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار ، ص 71 ) .
( وأخذ الاحتلال .. يثبت أقدامه ، ويدعم كيانه ، فتسلط على الجيش بعد أن حله وأعاد تكوينه ضئيلا هزيلا أعزل ، لا يتجاوز عدده ستة آلاف في قبضة سردار إنجليزي يعاونه نفر من كبار الضباط من بني جنسه . وأغلقت جميع مصانع الأسلحة .. الخ ) . ( الاتجاهات الوطنية ، محمد محمد حسين ، 1 /160 ) .
(.. وافتتحت الخمارات في كل مكان، حتى تغلغلت إلى الريف وإلى أحياء العمال، وافتتحت دور البغاء المرخصة من الحكومة في كل العواصم، وتجرأ الناس على ارتكاب الموبقات، والجهر باسم الحرية الشخصية التي لم يفهموا منها إلا أن يحل الناس أنفسهم من كل قيد، ولا يُبالون ديناً ولا عرفاً ولا مصلحة ). ( الاتجاهات الوطنية ..، محمد محمد حسين ، 1 / 264) .
( فرض الاحتلال للتعليم المدني هدفاً ضيقاً لا يتجاوزه، وهو إعداد طبقة من الموظفين الحكوميين، على أن يكون ذلك في أضيق نطاق ممكن، وعلى أن تسيطر الثقافة الإنجليزية على مناهجه ) . ( الاتجاهات السياسية والفكرية والاجتماعية في الأدب المعاصر ، سالم قنيبر ، ص 89) .
( شرع كبار رجال القانون الإنجليز يدرسون القوانين الجديدة التي يجب أن تطبق في مصر، وصبغ مصر بالصبغة الإنجليزية، ورفع شأن العامية للقضاء على العربية الفصحى، ورفع شأن الفرعونية التي غادرتها مصر منذ أكثر من ألف عام، وملؤا الوظائف بالموظفين الإنجليز، وجعلوا الوظائف الكتابية الصغرى في يد المصريين، وفرضوا على مصر اقتصاديات ارتبطت مالياً وتجارياً بالصناعات الإنجليزية، والبيوت التجارية البريطانية ) . ( تاريخ العرب المعاصر ، د عبدالعزيز نوار ، ص 189) .(17/25)
(وكان مما فوجئ به - أي عبدالله النديم - عقب عودته موجة من الانحلال والفساد الخلقي في البلاد، فإفراط وجهرة في شرب الخمر لم يكن معهوداً من قبل، واستهتار الشاربين بنقد النقاد، وانتشار الخمارات انتشاراً كبيراً في البلاد والقرى يبتز الأروام عن طريقها أموال الأهالي. وانحلال الأسرة بسبب الشراب، وتقليد النساء المصريات للأجنبيات في شرب الخمر، وانتشار الحشيش والمعاجين والمخدرات، والاحتفاء بمجالسها، ثم إساءة فهم معنى الحرية واستعمالها وسيلة للانهماك في الملذات والشهوات ، ثم السقوط في تقليد المصري للأوربي تقليداً أعمى ..) . ( عبدالله النديم ..، د علي الحديدي ، 333).
( وقد وصل التغيير إلى نساء المسلمين في عاداتهن وحياتهن الاجتماعية ؛ حتى في زيهن ، فكنّ قبل الاحتلال لا يعرفن إلا التستر والحجاب وعدم مخالطة الرجال وعدم الجلوس في مجالسهم ، وتغطية المرأة لوجهها ، وما تطور من ذلك إلى البرقع المعروف في الأجيال السابقة القريبة ؛ فأصبحن يتزين بزينة الكافرات الفاسقات الأوربيات .. ) . ( التحفة الندية في الفتنة العرابية ، أحمد سعيد نونو ، ص 231 ) .
ف - تعاون الاحتلال مع الطائفة العصرانية التي تُضعف روح مقاومته وتروج أفكاره :
(لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها، ووعدها بأن تتعلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز، ووفى لها) . ( عقبات في طريق النهظة ، أنور الجندي ، ص 59 ) .
كرومر : (كان يعايش الصفوة المختارة من المصريين ويتحسس طريقه نحو اختيار أكثرهم صلاحية للمشاركة في الحكم).( سعد زغلول بين اليمين واليسار ، ص 23).
من جهود العصرانيين ! : ( نذكر أصحاب الفضل على التمثيل من غير المحتلين، في مقدمتهم حكومة سعد زغلول التي عنيت بالتمثيل، وأجازت للممثلين فترة يمثلون فيها على مسرح الأوبرا ) .( روز اليوسف سيرة وصحيفة ، د ابراهيم عبده ، ص 31-32).(17/26)
أرسل محمد عبده رسالة إلى شيخه الأفغاني يلخص فيه مهمتهم :
( نحن الآن على سنتك القويمة: لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين ) !! ( الأعمال المجهولة / محمد عبده ، تحقيق : د علي شلش ، ص 53) .
دروس وعبر .. من احتلال الإنجليز لبلاد مصر :
العبرة الأولى: أن أعداء الأمة الإسلامية من اليهود والنصارى وغيرهم لم ولن يفتروا عن محاربتها والكيد لها، ومحاولة تفريق شملها، وبث التنازع داخل صفوفها ، وإيجاد الثغرات التي يتمكنون من الولوج من خلالها ، واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها. قال تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم).
العبرة الثانية: أن لا تأمن الدولة المسلمة كيد عدوها لها، ومكره بها، بل تقدر أسوأ الاحتمالات نتيجة لهذا الكيد والمكر، ولو كان احتلال أرضها ، ولتكن كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) وكما قال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). فتُعد القوة اللازمة الرادعة للعدو من أسلحة متنوعة متعددة المصادر لردعه إذا ما فكر في الأمر السابق.
العبرة الثالثة: أن تحذر الدولة المسلمة من جواسيس أعدائها الذين يقدمون إليها على هيئات مختلفة –إما خبراء أو سياح أو باحثين..- وهم إنما يرصدون أحوالها تمهيداً لما ينوون التخطيط له تجاهها؛ إما غزواً ثقافياً أو عسكرياً.
العبرة الرابعة: أن الأفكار العنصرية الجاهلية التي يقع فيها بعض المسلمين؛ من تعصب لجنس أو أرض، تؤدي إلى تفريق الدولة المسلمة وإضعافها؛ مما يسهل المهمة أمام العدو المتربص بها.
فلو لم تكن هناك فجوة عنصرية جاهلية بين الترك والعرب –مثلاً- لما استطاع الغرب تفتيت العالم الإسلامي، مستغلاً هذا الأمر في إذكاء نار الفرقة بين الطائفتين . فلتأخذ الدولة المسلمة على يد كل من يثير مثل هذه النعرات الجاهلية بين أبنائها؛ ولو كان على سبيل المزاح.(17/27)
العبرة الخامسة : أن مخالفة أوامر الله بالركون إلى أعدائه من اليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع ، وتوليتهم المناصب، وتقريبهم ؛ يؤدي حتماً بالبلد المسلم إلى الهاوية، وتسليمه للعدو –سياسياً أو فكرياً- بأبخس الأثمان – كما حدث في مصر بجهود اليهود والنصارى الأرمن والمنافقين وغيرهم - . والله يقول (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً..) وكم في التاريخ من نماذج وأمثلة للخيانات التي قام بها الكفار والمنافقون لأمة الإسلام . فلتحرص الدولة المسلمة على عدم تقريب هؤلاء من السلطات المؤثرة ، واتخاذهم بطانة ؛ فإنهم سرعان ما ينقلبون عليها ساعة العسرة. ولا يبقى لها إلا أهل الإيمان، وأصحاب العقيدة السليمة.
العبرة السادسة: أن تبتعد الدولة المسلمة عن الإسراف وتبذير الأموال فيما لا ينفع العباد والبلاد؛ مما يؤدي بها إلى الاستدانة من أعدائها بفوائد ربوية تتراكم عليها، تكون نهايتها وقوع البلد في قبضتهم رويداً رويداً، ثم يبدأ الابتزاز والضغط عليها لتنصاع لأهوائهم في شتى المجالات.
فخير للبلد المسلم أن يبتعد عن الترف والإسراف والتعامل بالربا الذي عاقبته المحق والهلاك وتسلط الأعداء. قال تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تُسرفوا إنه لا يُحب المسرفين ) وقال :( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) .
العبرة السابعة: إذا اضُطرت الدولة المسلمة إلى المال فليكن ذلك عن طريق التعاون مع أبنائها أو الدول المسلمة الأخرى عبر صناديق تعاونية مشتركة تحميها من الربا والاستدانة من أعدائها.
العبرة الثامنة: أن تنظر الدولة المسلمة في عاقبة أي مشروع ضخم يُقْترح عليها أو تقوم به، ومدى مصلحته للبلاد، وتوازن بين مصالحه ومفاسده، وتستشير الخبراء من أهل الأمانة.(17/28)
العبرة التاسعة: أن تحد الدولة المسلمة من هجرة الأجانب (غير المسلمين) إليها؛ ممن يُكونون أرضية ممهدة لتدخل الأعداء ، وفرض الامتيازات لهم .. الخ . ولتتخذ الاحتياطات اللازمة حال الحاجة لبعضهم لتجنب شرورهم؛ كالتفريق بينهم ومراقبتهم.
العبرة العاشرة: أن تحذر الدولة المسلمة من الشخصيات المشبوهة التي تحل أرضها –سواءً ممن يدعون الإسلام أم من غيرهم- ويكون لها نشاط مريب في بث الأفكار المنحرفة بين شباب البلاد؛ مما يكون عاقبته شراً ؛ فإن معظم النار من مستصغر الشرر.
وتأمل ماذا فعل الأفغاني المشبوه وهو فرد واحد بأهل مصر حتى أرداهم في الهاوية بأفكاره السامة.
ولا تحتقر كيد الضعيف فربما *** تموت الأفاعي من سموم العقارب
فقد هدّ قُدمًا عرش بلقيس هدهدٌ *** وخرّب فأرٌ قبل ذا سدَ مأرب
العبرة الحادية عشرة: أن تعلم الدولة المسلمة أن ما يسمى بـ"الحرية الإعلامية" –سواء في الصحافة أم في غيرها- التي تجعل مسائل الشرع كلأ مباحاً لكل أحد، وتسمح بالجرأة على العلماء ورجال الدولة هي فكرة مخادعة ضارة بالبلاد؛ لأنها تؤدي إلى بث الاختلافات المتنوعة بين الناس وتغذية النزاعات والخصومات، وشحن النفوس، وتهييجها وتحزيبها، وتمهد بتمزق البلاد فكرياً قبل تمزقه سياسياً.
فلتحد الدولة المسلمة من هذه الحرية المزعومة التي يروج لها الأعداء بخُبث ؛ لأنهم يعلمون ما يجنونه منها، ولتوجه وسائل إعلامها إلى ما ينفع الناس ويجمعهم على الحق الظاهر.
وخير ما تفعله الدولة في وسائل إعلامها: تقليل برامج ومقالات الرأي التي تؤدي إلى ما سبق بيانه، والاستغناء عنها بالمقالات العلمية النافعة (سواء في الطب أو الحاسب أو الهندسة أو الفيزياء... الخ). وبعث ذوي العقول والنوابغ الموجودين لديها بدلا من عبث أهل الرأي وخوضهم بالباطل .(17/29)
العبرة الثانية عشرة: أن تتيقن الدولة المسلمة أن أعداء الإسلام (يهودًا ونصارى ومنافقين وغيرهم) سيقفون صفاً واحداً أمامها وقت الفتن والأزمات –مهما اختلفوا فيما بينهم- كما قال تعالى: (تحسبهم جميعاً ). وقد رأينا كيف غضت فرنسا الطرف عن احتلال الإنجليز لمصر رغم عداوتهما الظاهرة –ولكن الكفر ملة واحدة-. وكما فعل " ديلسبس " الفرنسي عندما غدر بعرابي في حادثة سد القناة .
العبرة الثالثة عشرة: أن أعداء الإسلام يفتعلون الأحداث، ويستغلون الذرائع –مهما كانت صغيرة- ليتدخلوا في شؤون الدولة المسلمة، ولو أدى ذلك إلى احتلالها، ومن هذه الذرائع: حماية الرعايا الأجانب، أو ضمان حقوق الأقليات!، أو ضمان حقوق المرأة!، وهكذا ..
العبرة الرابعة عشرة: أن الأعداء يحرصون جداً تجاه الدولة المسلمة التي يريدون الضغط عليها أو التحرش بها أن ينشروا بين أبنائها –بواسطة عملائهم- فكرين خبيثين هما: فكر التهييج والثورة، وفكر العصرنة والتميع.
فبالفكر الأول تُتاح لهم فرصة التدخل في شؤون الدولة المسلمة.
وبالفكر الثاني: يضمنوا مسخ عقول أبناء المسلمين وترويضهم نفسياً لقبول التغريب .
فعلى سبيل المثال: من يشكك في مبدأ الولاء والبراء ، كيف يرجى منه أن لا يتعاون مع الكافر أو يتخذه أخاً يحقق له مصالحه ولو على حساب دينه وبلده ، وهو قد أزال الحاجز الإيماني الذي يصونه عن ذلك ؟!
فلتحرص الدولة المسلمة على اجتثاث هذين الفكرين الخبيثين قبل أن يتغلغلا في عقول بعض أبنائها ممن يكونون سلاحاً بيد عدوها ضدها.
ويكون ذلك بالحزم مع من يحمل أياً منهما، وعدم تصديرهم في وسائل الإعلام والتأثير، فإن التهاون في مثل هذه الأمر – تحت أي مسوغ - قد يُكلف الكثير لاحقاً.
أرى خلل الرماد وميض نار *** ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يُطفها عقلاء قوم *** يكون وقودها جثث وهام
فإن النار بالعودين تذكى *** وإن الحرب أولها كلام(17/30)
العبرة الخامسة عشرة: أن الأعداء يفرحون كثيراً بتلقي أبناء المسلمين العلوم عندهم، لاسيما أبناء الذوات ممن هم مهيؤون لتولي المناصب المهمة إذا ما عادوا إلى بلادهم ؛ لأنها تعلم أنهم سيتأثرون –عرضاً أو قصداً- بثقافتها ، وسيكونون خير ناقل لها إلى بلاد المسلمين؛ كما رأينا ذلك واضحاً في حياة سعيد باشا والخديو إسماعيل اللذين تربيا في بلاد الغرب ، ثم أرادا محاكاتها لما توليا الحكم . فلتحرص الدولة المسلمة على أن يكون تلقي أبنائها للعلوم داخل أرضها؛ دون حاجة إلى البعثات الدراسية الخارجية إلا في حالة اضطرارية محدودة ؛كما في التخصصات الدنيوية النادرة مثلاً، مع تحصين المبتعث ضد الأفكار الغربية الضارة.
العبرة السادسة عشرة: أن الأعداء لن يعدموا أن يجدوا من المسلمين أفراداً مغفلين أو طامحين يخدمونهم من حيث لا يشعرون، ممن يصدق فيهم قول الشاعر :
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ *** نصيب ولاحظٌ تمنى زوالها
ولو كان ذلك على حساب دينهم وبلدهم -كما فعل عرابي في مصر- وسيلجأ الأعداء للاتصال بهم، والاهتمام بقضيتهم، وتشجيعهم على المضي في معارضة الدولة المسلمة تحت مسمى "الإصلاح!". وهدفهم من هذا كله ليس حباً في هؤلاء الإصلاحيين –زعموا- إنما ضربهم بالدولة المسلمة، لتفريق أهلها، وزرع الفتن والشقاق بين الراعي والرعية؛ حتى يلجأ كلٌ منهم –خاضعاً مطيعاً- إلى العدو لحمايته من الآخر!! وقد تقع البلاد بعدها –لا قدر الله- في احتلال أجنبي بغيض بعد أن استغل هذا النزاع والتفرق –كما حدث في مصر- حيث لجأ الخديو توفيق للإنجليز في الوقت الذي كانوا فيه يُهيجون عرابي ومن معه عليه !(17/31)
فلتأخذ الدولة المسلمة على أيدي هؤلاء المعارضين الطامحين أو المغفلين من مدعي الإصلاح قبل أن يتعاظم شرهم فيوقعوا بلاد الإسلام فيما لا تُحمد عقباه؛ كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار). وقال : ( وكان في المدينة تسعة رهط يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون ) .
وجرمٌ جره سفهاء قوم *** فحل بغير صاحبه العقاب
العبرة السابعة عشرة: أن تبادر الدولة المسلمة بالإصلاح الحقيقي النافع القائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجد غيرها قد سبقها إلى طرح إصلاح مزعوم لا يرضي الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. بل يرضي أعداء الإسلام الذين ينفخون فيه وفي أهله لمآربهم - كما سبق - .
والإصلاح الحقيقي هو الذي يكون غايته وهدفه الأول تعبيد الناس لرب العالمين وتحقيق التوحيد؛ عن طريق كل ما يساهم في ذلك من وسائل ؛ كالاهتمام بأمر العقيدة والدعوة إليها ، وإزالة ما يُخالفها .
وهو الإصلاح الذي ينشر الفضيلة بين المسلمين ، ويدعم أسبابها ومنافذها . ويُحارب الرذيلة ويُضيق على أهلها .
وهو الإصلاح الذي ينشر العدل بين الناس ، ويباعد بين الدولة المسلمة وبين ظلم الرعية، فيؤمن احتياجات المسلمين ، ويوفر لهم أسباب العيش الكريم دون أن يحوجهم إلى الآخرين . عن طريق إقامة المشاريع النافعة التي تتبناها الدولة ؛ كإقامة المجمعات السكنية لذوي الدخل المحدود ، وتشغيل العاطلين ، وإعطاء العاملين والموظفين الرواتب المجزية التي تتناسب مع حال المعيشة ... الخ
وهو الإصلاح الذي يحقق للمرأة المسلمة بيئة العلم النافع ، والعمل الكريم – إذا احتاجت إليه - بعيدًا عن كل ما يخالف شرع الله .(17/32)
وهو الإصلاح الذي ينهض بالبلاد – دنيويًا - في مجالات التقنية والصناعة والزراعة .. وغيرها ؛ عن طريق تشجيع العقول والنوابغ ، وتسهيل أمورهم ، وإعطائهم الثقة ، ووضعهم في المكان المناسب ، وتنفيذ مخترعاتهم وأفكارهم .. الخ.
العبرة الثامنة عشرة ( الأخيرة ) : أن تعلم الدولة المسلمة أن خير منجى لها من مكر الأعداء وفتنهم هو الاعتصام بالكتاب والسنة ، والثبات على دين الله ، وعدم المساومة أو التنازل عنه ولو بالقليل . قال تعالى : (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ) . وقال محذرًا من مداهنة الأعداء : ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ) .
أسأل الله العظيم أن ينفع بما كتبتُ ، وأن يوفق بلاد المسلمين عامة وبلادنا خاصة للتنبه لكيد أعدائها ، ويثبتها على الحق ، ويصرف عنها الشر وأسبابه . والله أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .(17/33)