الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن للزواج في الإسلام مكانةً عليا، وبركاتٍ متنوعةً، وأسراراً بديعة، وحكماً متعددة.
وكثير من الناس لا تخطر بباله تلك المعاني، ولا يعنيه شيء من أمر تلك الرابطة العظيمة.
ولهذا فقد الزواج أهميته عندهم، وقلَّت عوائده وفوائده المَرْجُوَّة لديهم.
والحديث في هذه الرسالة سيكون حول بعض مظاهر التقصير والخطأ في مفهوم الزواج.
وسيتناول_ على وجه الخصوص_ ما يكون من تلك المظاهر قبل الزواج، وذلك كالإعراض عن الزواج، وتأخيره بلا مسوغ، وقلة استشعار حكمه وأسراره.
كما سيتناول الحديثُ بعضَ ما يقع من أخطاء في الخطبة، مع تعريجٍ على المغالاة في المهور، والإسراف في الولائم، وتقصير أهالي الزوجين في إحسان التعامل مع الأزواج والزوجات، إلى غير ذلك مما سيرد ذكره في ثنايا هذه الرسالة.
أما الحياة الزوجية، وما يقع فيها من مشكلات، وأخطاء، وتقصير من الزوجين_ فسيكون في الرسائل الأخرى_ إن شاء الله_ تعالى_.
فإلى تلك الأخطاء وعلاجها، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الزلفي 29/8/1418هـ
1_ الإعراض عن الزواج:
الزواج مشروع في دين الإسلام، وأقل درجات المشروعية الإباحة.
بل إن المتأمل في أدلة الشرع يجدها لا تدل على الإباحة فحسب، بل تدل على الاستحباب أو الوجوب.
وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أن النكاح فرض عين يأثم تاركه مع القدرة عليه، قال بذلك أهل الظاهر(1).
والذي نص عليه ابن حزم أنه واجب على الرجال دون النساء(2).
ونقل الكاساني عن بعض الحنفية أنه فرض كفاية كالجهاد وصلاة الجنازة، ونقل عن آخرين أنه واجب.
__________
(1) انظر بدائع الصنائع للكاساني 2/228، وبداية المجتهد لابن رشد 2/3.
(2) المحلى لابن حزم 9/440_444.(1/1)
والقائلون بالوجوب من الحنفية منهم من عَدَّه واجباً كفائياً كرد السلام، ومنهم من جعله واجباً عينياً عملاً لا اعتقاداً على طريق التعيين كصدقة الفطر، والأضحية(1).
والقول بوجوبه رواية عن أحمد، وهو قول بعض الحنابلة(2).
وذهب بعض شافعية العراق إلى القول بأنه فرض كفاية يقاتل أهل البلد الذين يمتنعون منه(3).
وقد استدل القائلون بالفرضية، أو الوجوب العيني أو الكفائي بالنصوص الآمرة بالنكاح كقوله_تعالى_:[فانكحوا ما طاب لكم من النساء](النساء:3).
وقوله: [وأنكحوا الأيامى منكم](النور:32).
وقوله"=يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء+(4).
فالأمر عندهم للوجوب، ولم يأتِ صارف يصرفه عن الوجوب، وقد تأكد الوجوب من إخبار الرسول"أن النكاح من سنته، ومن إنكاره_ عليه الصلاة والسلام_ على من ترك النكاح وعزم على التبتل(5).
وذهب جمهور أهل ا لعلم إلى استحباب النكاح للتائق إليه الذي لا يخشى على نفسه الوقوع في الزنا؛ فإن كان توقانه شديداً بحيث يخشى على نفسه الوقوع في الزنا وجب عليه الزواج متى قدر على تكاليفه(6).
__________
(1) انظر بدائع الصنائع 2/228.
(2) انظر المغني لابن قدامة 9/340_341.
(3) انظر روضة الطالبين للنووي 7/18، ومغني المحتاج للشربيني 3/125.
(4) رواه البخاري (5066).
(5) انظر أحكام الزواج د. عمر الأشقر ص28.
(6) انظر حاشية ابن عابدين 3/7، وبدائع الصنائع 2/228، وكفاية الأخيار للحسيني 5/67 وروضة الطالبين 7/18، وصحيح مسلم بشرح النووي 9/522_523، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي للزركشي تحقيق الشيخ عبدالله بن جبرين 5/5_8 ومغني المحتاج 3/125، ومختصر المزني 3/255، والكافي في فقه أهل المدينة لابن عبدالبر 2/519، وجواهر الإكليل للآبي 1/474، وأحكام الزواج ص32.(1/2)
هذه نبذة يسيرة من أقوال أهل العم في الزواج، ومع ذلك فإن هناك نفوساً لم تسلم فطرتها، أو عميت عن حكمة خالقها؛ حيث أعرضت عن الزواج دونما مسوغ.
ولقد أصبح انحراف الشباب عن الزواج في كثير من بلدان الإسلام في ازدياد، مما ينذر سوء المنقلب، وما بعد هذا المنقلب إلا الانقراض، والقضاء على روح العفاف؛ فغير مقبول أن نقف أمام هذا الخطر الداهم صامتين، وحقيق علينا أن نبحث عن العلل التي أصبحت بها قلة الزواج ظاهرة ظهور المرئي بالعين الباصرة، وعلينا بعد البحث عن هذه العلل أن ننظر في طريق معالجتها؛ لعلنا نقطعها من منبتها، وننقذ فتياننا وفتياتنا، ونحفظ أمتنا، ونطهر أوطاننا من خبائث لا تظهر إلا من الإعراض عن الزواج.
وإذا بحثنا عما يصح أن يكون سبباً لهذه الأزمة الاجتماعية وجدناه يرجع إلى علل مختلفة منها:(1)
أ_ الجهل بأضرار الإعراض عن الزواج: سواء على مستوى الأمة أو الأفراد؛ فالإعراض عن الزواج يضعف الأمة، ويهددها بالقضاء والانقراض، ويُمكِّن لأعدائها من السيطرة عليها.
والإعراض كذلك ينتج فوضى خلقية مدمرة؛ لأن الزواج تصريف للغريزة في حدود الشريعة، والإعراض قد ينتهي بصاحبه إلى الزنا، والزنا من الموبقات التي تهلك الأمة، وتقضي على مقوماتها، وبسببه تضيع الأنساب، وتتزلزل القيم.
والإعراض عن الزواج يجعل صاحبه يعيش ممزقاً مشتتاً، محروماً من نعمة الولد.
وبالزواج يلتئم الشعث، وتسكن النفس، ويطمئن القلب، ويحصل الولد، ويعمر البيت، وتتم به نعمة الله على الزوجين.
والإعراض عن الزواج حرمان من الأجر؛ ذلك أن الزواج سنة جليلة من سنن المرسلين، وبصلاح النية وحسن المقصد من النكاح يضاعف الأجر للناكح الذي يريد العفاف والإعفاف، ويطلب الذرية الصالحة.
__________
(1) انظر رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين 1/173_174، وإصلاح المجتمع للبيحاني ص283، وتأخر سن الزواج د. عبدالرب نواب الدين ص19_34.(1/3)
والإعراض سبب لذلة الشخص، وكونه يعيش معدوداً من سِقْط المتاع، كأنه همل مضاع أو لَقَىً مزدرى.
ب_ تبرج الفتيات: فمن الفتيات من تبرجت تَبَرُّجَ مَنْ استولى عليهن الهوى، ونضب من وجوهن ماء الحياء.
وهذا المظهر الذي ظهر به بعض الفتيات قد جعل بعض الشباب يحجم عن الزواج؛ مخافة أن ينساق إلى قرينة تستخف بجانب الصيانة كما تستخف به هؤلاء السافرات المتهتكات.
وليس هذا الخوف بحق؛ فإن البيوت المحتفظة بالحشمة، الآخذة بأدب الصيانة غير قليلة، يهتدي إليها كل من يبتغي الحياة الطاهرة، ولا سيما فتى لا يعنيه من الفتاة إلا أن يرتاح قلبه إذا نظر إليها، ويأمن على عرضه إذا غاب عنها.
وإذا أردنا معالجة هذا التبرج الذي أوجس من الشباب خيفة_ فإن تبعة ذلك تعود إلى أولياء هؤلاء المتبرجات؛ إذ لم يأخذوا في تربيتهن بالحزم، ولا في الرقابة عليهن باليقظة؛ فمن طرق مكافحة الإعراض عن الزواج مقاومة هذا السفور القاضي على كرامة فتياتنا، وإرشادهن إلى أن الصيانة خير من الابتذال، والحياء أجمل من الصفاقة، وأي صفاقة أكثر من تقلب الفتاة وجهها في وجوه الرجال؟.
جـ _ رقة الدين، وضعف العقيدة:فإن الإيمان بما يناله الفاسق من الخزي والشقاء يُقِرُّ النفس على العفاف، ويقطع تطلعها إلى ما ليس بحلال، فلا يبقى له إلا الاستمتاع بالزواج المباح.
أما رقيق الدين مزلزل العقيدة فلا يجد في نفسه حرجاً من أن يطلق لشهواته العنان، ويتقلب في بيوت الدعارة.
وذلك ما يصرف قصده عن الزواج وهو يستطيعه.
وإذا أردنا أن نعالج هذه العلة فإن أكبر جانب من تبعة ضعف العقيدة يقع على المتولين لتربية النشء؛ حيث لم يعملوا لتلقينهم العقائد الصحيحة تلقيناً يجعلها راسخة رسوخ الشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؛ فعلاج هذه العلة أن نسعى لأن يكون ناشئنا على تربية دينية صحيحة؛ فالدين هو الذي يزكي النفوس، فلا ترى القبيح حسناً، ولا الخبيث طيباً.(1/4)
د_ السفر إلى البلاد التي يشيع فيها الفجور: فهذا مما يزهد الشباب في بنات جنسه، بل وفي الزواج جملة، لأنهم يرونه قيداً لحريتهم البهيمية.
هـ _ الإعلام: بقنواته الفضائية، ومسلسلاته الهابطة التي تهزأ بالقيم، وتزري بالفضيلة؛ فهي مما يزهد بالزواج، ويغري بالرذيلة، خصوصاً في نفوس لا تفهم من الزواج إلا قضاء الوطر، وإشباع الغريزة.
و_ قلة الثقة بالنفس: فبعض الناس مهزوم النفس، محطم الوجدان، لا يثق بنفسه، ولا يرى أن أحداً يثق به أو يقدره، فتراه كلما هم بالإقدام على الزواج تَثَبَّط، وتكاسل؛ خشية أن يُرَدَّ؛ فما هي إلا أن يألف الإعراض ويعتاده.
ز_ تطلع بعض الشباب إلى الاقتران بذات الثروة: وسيأتي الحديث عن ذلك_ إن شاء الله_.
ح_ الفقر وغلاء المهور: فقد يقعد بالمرء عن الزواج، وسيأتي مزيد بيان لذلك فيما بعد.
هذه بعض أسباب الإعراض عن الزواج؛ فمن يبلغ شبابنا هذه الحقائق ليعلموا أن إعراضهم عن الزواج قتل لفضيلة العفاف، وحرمان للأوطان من نسب طيب، وإطفاء لمصابيح الحياة الاجتماعية الراقية.
ولا تراهم بعد أن يعلموا هذه الحقائق_ وهم عشاق الفضيلة، والغيورون على المصالح العامة، والعاملون لحياة الأمة ورقيها_ إلا أن يطهروا نفوسهم من محاكاة الإباحيين في الإعراض عن الزواج، وهم يستطيعونه فيكونوا_ بتوفيق الله_ أياديَ بانية لا هادمة، ومُصلحة لا مُفسدة.
2_ تأخير الزواج بلا سبب:
وهذا قريب من الإعراض عن الزواج؛ إذ يشترك معه في كثير من أضراره وأسبابه.
فمن الناس من يرغب في الزواج، ولكنه يؤخره بلا مسوغ لذلك.
وهذا خطأ له أضراره المتعددة؛ فبسببه تتعطل الشواب عن الزواج إلى سن متأخرة، فيضيع على الجنسين ربيع العمر، ونسماته، وبهجته، وقُوَّته.
ويضيع على الأمة نبات ذلك الربيع، وثمره الخصب، ثم يضيع بسببه أخلاق، وأعراض، وأموال.(1/5)
وإذا زادت هذه الفاشية، واستحكم هذا التقليد فإن الأمة تتلاشى في عشرات السنين(1).
ومما يترتب على تأخير الزواج من مفاسد أن الإنسان ربما أصيب بمرض عضال قد لا يستطيع معه أن يتزوج، فمن يقبل به؟ ومن يقوم على رعايته؟ خصوصاً إذا كان والداه كبيرين، أو يكونان قد فارقا الحياة وليس عنده من يقوم به.
كما أن المنية قد تفاجئ هذا الذي أخَّر الزواج، فيموت دون أن يكون له ذرية تدعو له، وتترحم عليه، وتحيي ذكره بعد موته.
فعلى من تهيأت له أسباب الزواج أن يبادر إليه؛ حتى لا تفوته ثمراته الطيبة.
3_ تأخير زواج البنات بلا مسوغ شرعي:
فمن الأولياء من يؤخر زواج موليته بلا مسوغ شرعي، فتراه يرد الخاطب الكفؤ، ويؤخر زواج موليته؛ إما لكونها وحيدته فلا يرغب في فراقها، أو لرغبته في خدمتها له، أو لأنها موظفة ويرغب في مالها، أو لأنه ينتظر خاطباً غنياً يتقدم لموليته إلى غير ذلك من الأسباب.
وهذا خطأ وتفريط وتقصير؛ فهو حرمان للفتاة من حقها في الزواج، وهو حرمان من زوج تأنس به ويأنس بها، ويحميها من عنت العنوسة، وإرهاق الوحدة ووحشتها، ويريحها من ألم الحسرة ومرارتها.
ثم أن الفتاة أرق شعوراً، وأشد غيرة؛ فكيف تكون حالها إذا هي رأت أترابها من بنات عمها أو بنات خالها أو صديقاتها وهن يحملن الأطفال، ويسعدن بالأزواج؟
إنها تحترق كمداً وغماً وحسرة؛ فتبعة التأخير يتحملها الولي؛ فالأصل أن يزوج موليته متى ما تقدم لها الخاطب الصالح.
أما تأخير الزواج، ورد الخاطب الصالح بلا مسوغ شرعي_ فشذوذ، وخروج عن الأصل الشرعي والعرفي، وهو تمكين الفتاة من الزواج(2).
وكما لا يجوز للولي إجبار موليته على الزواج فكذلك لا يجوز لها عَضْلها.
__________
(1) انظر عيون البصائر للشيخ محمد البشير الإبراهيمي ص324_325.
(2) انظر تأخير سن الزواج ص60_61.(1/6)
والعَضْلُ هو مَنْعُ الوليِّ موليتَّه من الزواج، وفي ذلك يقول رب العزة_ جل جلاله_: [وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن] (البقرة:232).
فغذا ارتضت المرأة رجلاً وكان كفواً فليس لوليها منعها من التزويج به؛ فإنَّ منْعَها من التزويج في هذه الحالة يعد من فعل أهل الجاهلية.
وإذا عضل الولي موليته فإن الولاية تنتقل عنه إلى غيره، وقد ذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه إلى أن الولاية تنتقل في حالة العضل إلى الحاكم.
وذهب أبو حنيفة في المشهور عنه إلى أنها تنتقل إلى الأبعد بشرط أن يكون كفواً.
فإن امتنع الأولياء جميعاً عن تزويجها وعضلوها فإن الولاية تنتقل إلى الحاكم قولاً واحداً(1).
في أيها الولي الناصح لموليته! خف الله، وتذكر وقوفك بين يديه، وارحم موليتك، وتذكر بانك لست بباقٍ ولا مخلد، والأنثى لا تستغني عن رجل يحوطها برعايته أباً كان، أو أخاً، أو عماً، أو خالاً.
فإذا انْتَقَلْتَ عن هذه الدنيا، ولم تكن ابنتك دخلت عش الزوجية السعيد_ فمعنى ذلك أنها ستكون عالةً على أخيها أو أحد أقاربها، وقد تبتلى بزوجة لا تخاف الله سواء كانت زوجة أخيها أو غيره ممن يعولها، فيتحول البيت إلى جحيم لا يطاق، وكم في حنايا البيوت من منكوبات كتب عليهن البقاء عوانس في بيوت آبائهن في أول الأمر، تحوطهن رعاية الأب الرؤوف، وعاطفة الأم الحنون الرؤوم، وعندما فقدن آبائهن وأمهاتن أصبحن يعشن بائسات محرومات(2).
4_ قلة الاستشعار لحِكَم الزواج:
فكثير من الناس لا يستشعر حكم الزواج وثمراته المتعددة؛ فلو سئل الواحد منهم عن الدوافع التي قادته إلى الزواج لأجاب إجابة تنم عن قلة استشعار لتلك الحكم.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 32/32 و37،40، 52.
(2) انظر نظرات في الأسرة المسلمة د. محمد الصباغ ص62.(1/7)
فنهم من يتزوج للمتعة فحسب، ومنهم من يتزوج إرضاء لوالديه اللذين ألحَّا عليه، ومنهم من يتزوج حتى لا يقف حجر عثرة أمام إخوانه اللذين يصغرونه، ومنهم من يتزوج تحيماً للمصلحة المالية، ومنهم من يتزوج لكي يسلم من عيب الناس ولمزهم، ومنهم من يتزوج رغبة باللحاق بركب المتزوجين، ومنهم من يتزوج ليظفر بزوجة تغسل ثيابه، وتعد طعامه فحسب، ومنهم من يتزوج رغبة في حصول الولد دونما اهتمام بتربيته، إلى غير ذلك من الدوافع المبتورة.
لهذا ينبغي استشعار الحكم المترتبة على الزواج سواء من قِبَل الوالدين، أو من قبل من يريد الزواج، أو من قبل الذين يتحدثون في هذا الباب؛ فذلك أدعى للإقبال على الزواج، ومعرفة قدره، والمحافظة على عش الزوجية؛ فحِكَم الزواج كثيرة يحسن استحضارها واستشعارها، فمن تلك الحكم ما يلي:(1)
أ_ أنه إجابة لأمر الله ورسوله": قال_ تعالى:_[وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم](النور:32).
وقال: [فانكحوا ما طاب لكم من النساء](النساء:3).
وقال النبي"=يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج+(2)
ب_ حصول الأجر والثواب: قال النبي_ عليه الصلاة والسلام_: =وفي بضع أحدكم صدقة+(3).
ولقد قرر كثير من أهل العلم أن الاشتغال بالنكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادات؛ لما يشتمل عليه النكاح من المصالح الكثيرة(4).
جـ _ حصول العفاف: فإذا نظرت إلى هناك فضيلة يقال لها العفاف_ فالزواج من أعظم ما يعين على التحلي بها؛ فالزواج وسيلة ون وسائل الفضائل، وكثيراً ما تأخذ الوسائل أحكام المقاصد في نظر الشارع، وعرف الناس.
__________
(1) انظر رسائل الإصلاح ص172_173، وعقبات في طريق الزواج لعبدالله ناصح علوان ص12_17، وتأخير سن الزواج ص36_37.
(2) رواه البخاري (5066).
(3) رواه مسلم (1006).
(4) انظر حاشية ابن عابدين ص33، وأحكام الزواج ص17_19.(1/8)
د_ بقاء النسل، والمحافظة على النوع الإنساني: فإذا نظرت إلى أن حكمة الله قد اقتضت بقاء النسل لإقامة الشرائع، وعمران الكون، وإصلاح الأرض، وان النسل الصالح لا يبقى غلا بالزواج_ رأيت كيف كان الزواج وسيلة إلى تحقيق أمور عظيمة أحب اله أن تكون، وحبب الناس للقيام عليها.
هـ _ كفاية المرأة: فإذا نظرت إلى النساء وما فطرن عليه من الضعف وقلة إطاقة الأعمال الشاقة_ شَهِدْتَ فيهن العجز عن أن يهيئن لأنفسهن مرافق الحياة، ويعشن في شيء من الراحة.
والزواج يصل ضعفهن بقوة، ويسوق إليهن جانباً كبيراً من الهناءة.
ولو قصد الرجل بالزواج كفاية المرأة ما يعنيها من مطالب الحياة_ لَقَصَدَ لِعَمل يكسبه شكوراً، وتزداد به صحيفة حياته نوراً.
و_ حصول السكن والمودة والرحمة: أوليس الزواج يكسب الرجل رفيقة تخلص له ودها، وتشمل منزله برعايتها؟
ومثل هذه الرفيقة التي تحمل حبه الطاهر، وتعمل لتدبير منزله من غير مِنَّةٍ ولا تباطؤ_ لا تتمثل إلا فيمن تربطه بها صلة الزواج.
قال_تعالى_: [ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون] (الروم:21).
ز_ حصول القرابة والمودة بين الناس: فليس الزواج يكسب صلة مقصورة على الزوجين فحسب، بل تمتد هذه الصلة من الزوجين لأسرتيهما، فتكون حلقة واسعة في سلسلة اتحاد الأمة.
وللصلات الخاصة كالقرابة والصهر أثر في التناصر كبير.
ح_ حصول نعمة الولد: فالزواج يكسب الزوج ولداً إن يُحْسِنْ تربيته كان له قرة عين في حياته، وذِكْراً طيباً بعد وفاته.
ومن ذا ينكر أن الولد الصالح المهذب من أجل النعم في هذه الحياة وبعد الممات؟ ففي الحياة تُشبع عاطفة الأبوة والأمومة، ويأنس الوالد لما يرى من صلاح ولده، ولما يناله من نفعه وإعانته، وبعد الممات يسعد بدعاء ولده الصالح، ويناله الأجر لما قام به من حسن التربية.(1/9)
ط_ تكوين الأسر المسلمة: التي تعبد الله، وتقيم أمره_ عز وجل_.
ي_ تكثير سواد الأمة: قال النبي_ "_:=تزوجوا الولود الودود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة+(1).
ك_ سلامة المجتمع من الانحلال الخلقي: فبالزواج يسلم المجتمع من الانحلال الخلقي الناشئ عن قلة الزواج وكثرة العزاب.
ل_ سلامة المجتمع من الأمراض الفتاكة: التي تنشأ عن هتك ستر العفاف، وعن الفوضى الخلقية(2).
م_ حصول الغنى وانتفاء الفقر: فالزواج سبب للغنى ونفي الفقر.
وهذا من لطائف النكاح وأسراره التى تخفى على كثير من الناس، وخصوصاً من يحجمون عن الزواج بحجة الفقر.
ومصداق ذلك قوله_تعالى_: [وأنكحوا الأيامى منكن والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم] (النور:32).
ومصداقه قول النبي": =ثلاثة على الله عونُهم: الناكح يريد العفاف، والمُكاتَب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله+(3).
وبالجملة فللزواج مصالح تكثر بكثرته، وتقل بقلته، وتفقده بفقده، وقد عَرَفْت قيمة هذه المصالح ومكانتها في إعلاء الدين، وبسط أجنحة العمران؟، وتخفيف متاعب الحياة.
__________
(1) رواه أبو داود (2050)، والنسائي 6/65_66 عن معقل بن يسار، وأخرجه أحمد عن أنس بن مالك 3/158و245، وصححه ابن حبان (4028) و (4056) و (4057)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1805).
(2) انظر تفصيل الحديث عن الأمراض الجنسية إلى: الأمراض الجنسية عقوبة إلهية د. عبدالحميد القضاة ص41_50، و 100_103، والأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها د. محمد علي البار ص 305_361، والأمراض الجنسية لسيف الدين شاهين ص63_75، والأمراض الجنسية د. نبيل الطويل ص38_77، ومرض الإيدز الطاعون الجديد د. خالص جلبي ص171_194، والانحرافات الجنسية وأمراضها د. فايز الحاج ص 143_156.
(3) أخرجه أحمد 2/251 و 427 والترمذي (1655) والنسائي 6/61 وابن ماجه (2518) عن أبي هريرة وقال الترمذي: حديث حسن.(1/10)
5_ تزويج البنات بغير الأكفياء:
فمن الأولياء من لا يقصر في المبادرة إلى تزويج موليته، ولكنه يقصر في اختيار الزوج المناسب، فتراه لا يختار لها الكفؤ الذي يُرضى دينُه وخلقه، إما قلة اهتمام بأمر موليته، وإما رغبة من التخلص من تبعتها وبقائها عنده، وغما طمعاً في المال الذي سيأتيه إذا زوَّجها من غني، وإما رغبة في الوجاهة والمنصب والسمعة إذا تقدم لها من هو كذلك، وغما رغبة في زوج ذي شهادة، أو حسن هندام، أو حسب رفيع، أو ترفع واسع، إلى غير ذلك من الاعتبارات.
أما الدين القويم، والخلق الكريم فلا يخطر بباله، ولا يدور بخياله.
ولهذا ربما زوجها بتارك للصلاة، أو بشرس الأخلاق، أو بمدمن مخدرات.
ولا ريب أن السؤال عن المنصب، والمكانة الاجتماعية، والحسب الرفيع ونحوها من الاعتبارات الأخرى، لا ريب أنها مطلوبة، ولا ترفض من حيث هي، ولا تُنَحَّى من مجال البحث والمفاضلة والاختيار؛ فلا حرج على البحث أن يسأل عن هذه الأمور أو جُلِّها.
لكن الحرج كله أن تكون وحدها هي المُحَكَّمَةَ في المفاضلة والموازنة والترجيح دون اعتبار للدين والخلق.
فلا بد من اعتبار الدين والخلق، فإذا توفر هذا الاعتبار عَمَد المرءُ إلى النظر في الاعتبارات الأخرى(1).
جاءت فاطمة بنت قيس إلى رسول الله "وذكرت له أنه خطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم _رضي الله عنهما_.
فقال رسول الله": =أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، أما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد+.
قالت فاطمة: فكرهته، ثم قال": =انكحي أسامة+.
قالت فاطمة: فنكحته، فجعل الله فيه خيراً كثيراً، واغتبطت+(2).
فالحديث واضح في أن رسول الله "ذكر من أسباب المفاضلة ناحية المال، والسلوك والمعاشرة، ولكن ذلك بعد توافر الدين.
__________
(1) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص60_61.
(2) رواه مسلم (1480)، وأبو داود 2/383، والنسائي 6/61، ومالك 2/580، وأحمد 6/412، والترمذي 2/192.(1/11)
فيا أيها الولي، ماذا تستفيد موليتك من المال والعقار، والحسب، والهندام، والمكانة الاجتماعية إذا هي حرمت السعادة والحياة الكريمة؟ وماذا تستفيد من الشهادة العلمية التي يحملها زوجها إذا كان فظَّاً غليظ القلب سيء المعاشرة؟.
وماذا يفيد الوجه الجميل، والهندام الحسن إذا كان لا يكرمها، ولا يَقْدُرُها قدرها.
وهل ينفع الفتيانَ حسنُ وجوههم ... إذا كانت الأخلاق غير حسان
فلا تجعل الحسنَ الدليلَ على الفتى ... فما كلُّ مصقولِ الحديد يماني
…
وكما قيل:
قد يدرك الشرفَ الفتى ورداؤه ... خلق وبعض قميصه مرقوع
وأما أنت أيتها البنت العزيزة الكريمة فاحذري أن تقعي في حبالة التقاليد الفاسدة، أو العادات المنحرفة؛ فأنت الخاسر الأكبر في ذلك؛
فلا تُقدِّمي المال والجاه والمنصب على الدين القوي القويم، والخلق الزكي الكريم.
إن كثيراً مما يتطلع إليه الفتيات في زوج المستقبل عرضة للتغير،والتحول، والضياع، والتبدل، وعندئذ تحق على الفتاة الشقوة والخسار.
أما الدين الحق، والخلق الكريم فإنهما ثابتان ثبوت الرواسي من الجبال.
بل الغالب الأعم أنهما ينموان ويزدادان رسوخاً وقوة، هذا هو الأغلب.
أما النادر في الحالات فهو شاذ، والشاذ يؤيد القاعدة ولا يخرقها.
ولا يعني ذلك_ أيتها الفتيات_ أن العوامل الأخرى مرفوضة، لا، ليس الأمر كذلك، بل المراد للواحدة منكن أن تطلب في شريك حيلتها كل ما تريده من مرغبات.
ولكن بشرط أن يكون ذلك بعد توافر الدين، والخلق الحسن(1).
قيل لأعرابي: =فلانة يخطب، قال: أمُوسر من عقل ودين؟
قالوا: نعم، قال: فزوجوه+(2).
وقال رجل للحسن: =إن لي بنيةً، وإنها تخطب؛ فمن أُزَوِّجها؟
فقال: زَوِّجها ممن يتقي الله؛ فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها+(3).
__________
(1) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص63_64.
(2) عيون الأخبار لابن قتيبة 4/11.
(3) عيون الأخبار 4/17.(1/12)
ولقد ذهب جمع من أهل العلم إلى عدم تزويج الفاسق، وعللوا لمذهبهم بتعليلات متقاربة مأخوذة من فقه الكتاب والسنة.
يقول السبكي×: =الفاسق لا يؤمن أن يحمله فسقه على أن يجني على المرأة+(1).
وقال عبدالقادر بن عمر الشيباني ×: =الفاسق مردود الشهادة والرواية، وذلك نقص في إنسانيته، فلا يكون كفأً للعدل+(2).
وقال ابن قدامة: =الفاسق مرذول مردود الشهادة والرواية، غير مأمون على النفس والمال، مسلوب الولايات، ناقص عند الله _تعالى_ وعند خلقه، قليل الحظ في الدنيا والآخرة، فلا يجوز أن يكون كفأً للعفيفة، ولا مساوياً لها، لكن يكون كفأً لمثله+(3).
وقال الشوكاني: =ما لا يُرْضَى دينه لا يزوج، وذلك هو معنى الكفاءة في الدين، والمُجَاهِرُ بالفسق ليس بمرضي الدين+(4).
6_ قلة العناية باختيار الزوجة الصالحة:
فالزوجة الصالحة هي التجارة الرابحة، وحيث عَلِمْتَ مشروعية الزواج، وأنه مطلوب مُرغَّب فيه _فاعلم أنها لا تتم به السعادة، ولا يحرص الغرض المنشود إلا بنكاح ذات الدين والخلق.
فالزوجة شريكة الحياة، وهي أم الأولاد، وسينشؤون على خلالها وطباعها.
بل إن لها تأثيراً بالغاً على الزوج نفسه، ولذلك قيل: =المرء على دين زوجته؛ لما يستنزله الميل إليها من المتابعة، ويجتذب الحب لها من الموافقة، فلا يجد إلى المخالفة سبيلاً، ولا إلى المبيانة والمشاقة طريقاً+(5).
والعاقل اللبيب لا يُقْدِم في الزواج إلا على ذات الدين والخلق والعفاف.
قال أبو الأسود الدؤلي لبنيه: =قد أحسنت إليكم صغاراً وكباراً وقبل أن تولدوا!
قالوا: وكيف أحسنتَ إلينا قبل أن نولد؟
قال: اخترت لكم من الأمهات من لا تسبون بها+(6).
وأنشد الرياشي:
__________
(1) تكملة المجموع 16/188.
(2) حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/401.
(3) المغني 9/391.
(4) السيل الجرار للشوكاني 2/291_292.
(5) أدب الدنيا والدين للماوردي ص129.
(6) أدب الدنيا والدين ص132.(1/13)
فأول إحساني إليكم تَخَيُّري ... لماجدة الأعراق بادٍ عفافُها(1)
وقال أبو عمرو بن العلاء: =قال رجل: لا أتزوج حتى أنظر إلى ولدي منها.
قيل له: كيف ذاك.
قال: أنظر إلى أبيها وأمها؛ فإنها تَجُرُّ بأحدهما+(2).
وقال أكثم بن صيفي لولده: =يا بني! لا يحملنكم جمالُ النساء عن صراحة النسب؛ فإن المناكح الكريمة مدرجة الشرف+.
ومع عظم شأن الزوجة الصالحة، ومع أهمية العناية باختيارها_ إلا هناك تفريطاً كبيراً في هذا الشأن؛ فكما أن هناك من لا يأبه بذات الدين والخلق إذا أراد الزواج.
فهناك من يُحكِّم المصلحة المالية دون اعتبار لأي شيء آخر؛ فلا يعينه ممن يريد الاقتران بها غلا أن تكون ذات ثروة، أو أن تكون ابنة لثري.
وهناك من يقدم الحسب الرفيع، والشهرة الذائعة؛ فذلك منتهى سؤله، وغاية طموحه.
وهناك _وهو الأكثر_ من لا يريد من شريكة حياته غلا أن تكون بارعة الجمال، ممشوقة القوام، وإذا فاته ذلك قال: على الدنيا العفاء.
والحقيقة أن هذه المعايير والاعتبارات لا تكفي وحدها؛ لأنها نظرة مادية بحتة؛ فلا تحصل معها السعادة الحقة؛ لأنها لا دوام لها؛ فما بني على ما يتغير ويتبدل فهو عرضة للزوال؛ فالثروة تتبدد، والمال عرض حائل؛ فكم من الأغنياء من أصبحوا فقراء بين عشية وضحاها، وكم من الفقراء من أصبحوا أغنياء ما بين طرفة عين وانتباهتها.
فلا يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل
إن المال يتهدده الزوال السريع، والخسارة المتوقعة، ثم ما علاقة السعادة بالمال؟
إن هناك وهماً كبيراً يسيطر على كثير من الناس؛ حيث يحسبون السعادة قائمة على الغنى والمال.
__________
(1) أدب الدنيا والدين ص132.
(2) عيون الأخبار 4/3.(1/14)
والحقيقة الماثلة للعيان تقول: إن المال وحده لا يوجد السعادة، وإن كان يعين على تحققها إن كانت موجودة؛ فإن لم تكن موجودةً نلبعةً من أعماق النفس بسبب الرضا والقناعة وحسن المعاشرة _فإن المال لا يوجدها؛ فالسعادة تعتمد على النفس أكثر مما تعمد على الظروف الخارجية من مال، وصحة، وظروف مواتية، ونحو ذلك.
بل إن من الأغنياء من يشقى في النعيم، ومن الفقراء من ينعم في الشقاء، وذلك كثير مشاهد؛ فماذا يغني المال وحده؟.
وأما الحسب فلا يكفي وحده، كما أنه ليس مقتصراً على الأسماء اللامعة للعائلات، أو الشهرة الذائعة الصيت؛ فمِنْ هؤلاء مَنْ قد يكونون في أوضاع أدبية وأخلاقية لا يحسدون عليها.
وبالمقابل هناك من المغمورين من هم على مستويات رفيعة من الأدب والأخلاق.
وربما اقترن المرء بذات حسب رفيع، وهي خِلْوٌ من الخلق القويم، فلا تنظر إليه إلا من علُ، ولا ترمقه إلا بعين الازدراء.
ثم إن الحسب أمر عرفي؛ فالوجيه في نظر قوم ربما كان وضيعاً في عين آخرين.
كذلك فالحسب الرفيع لا يغني فتيلاً إلا إذا اقترن بالإيمان والعمل الصالح، فهنا يكون خيراً وبركة، ويحصل بسببه نور على نور، وإلا فمن بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه.
كذلك الجمال لا يكفي وحده؛ فمهما كان رائعاً طاغياً فهو موقوت بالصحة والشباب، وسرعان ما يذوي ويذبل مع تقدم السن، وطروء المرض، وتكرار الحمل والولادة.
ثم هب أن تزوجت ملكة جمال الكون وليس بينك وبينها تفاهم ومودة ورحمة، فماذا أنت مستفيد من هذا الجمال؟ إن قبح أخلاقها وسوء تعاملها سيجعلها في عينك كالقرد دمامةً.
إن الجمال ربما يعرض صاحبته للغرور، والفتنة، والتعالي، وشراسة الخلق.
وكم من جميلة جَرَّتْ على نفسها وزوجها وأهلها بسبب الجمال بلاءً كثيراً، وشرَّاً مستطيراً.
وكم جميلة حملها الجمال على التيه والزهو، واحتقار الزوج.(1/15)
وليس الجمال في ذاته عيباً ولا نقيصة، وإذا هو اجتمع مع الخلق والدين كان نوراً على نور، ولكنه وحده لا يكفي لتحقي السعادة الدائمة، ولا المتعة الحقة.
وما أجمل قول القائل:
إذا أخو الشمس أضحى فعله سمجاً ... رأيت صورته من أقبح الصور
وَهَبْكَ كالشمس في حسن ألم ترنا ... نَفِرُّ منها إذا مالت إلى الضرر(1)
ثم إن الجمال لا يقتصر على لون البشرة، وتقاسيم الوجه، وتناسب الأعضاء.
بل للجمال مقاييس أخرى يتدرج تحتها الذوق، والفهم، وكمال العقل، وإشراقة النفس، ورهافة الحس، وطهارة القلب؛ فلهذه المعايير دورها في جمال الشخصية.
تقول نازك الملائكة (2): =الجمال ملك لفتاة ذكية العينين، بسيطة المظهر، يشع وجهها عطفاً وحناناً، وكأنها تريد أن تحتضن الوجود كله، وتغمره بمشاعرها الكريمة.
وهذا الجمال المرهف العذب مبذول زهيد الثمن، تملكه كل فتاة دون أن تضيع وقتها في أسواق الملابس، وعند الخيَّاطة الجاهلة.
إنه جمال ينبع من الروح الكبيرة المستوعبة، والذهن الحر المرن، والقلب النابض الرقيق، وهو جمال الخُلُق الكريم، والعذوبة، والخشوع لله، والنزاهة، وكبر النفس.
وهذا الجمال لا علاقة له بالملابس والحلاق؛ لأنه يتألق على وجه كريم، وعيون حنون معطاء، وهو يلمع على الشعر المسترسل الذي لا يهينه الحلاق بالعبث به.
هذا هو الجمال؛ فتعريفه أنه البساطة الإنسانية، والفطرة كما خلقها اله حَيِيَّة روحية، متفتحة+(3).
__________
(1) البيتان لابن لنكك، انظر أسرار البلاغة لعبدالقادر الجرجاني تحقيق الشيخ محمود شاكر ص118.
(2) نازك الملائكة أديبة عراقية.
(3) مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية لنازك الملائكة، تحقيق الشيخ محمد عيد العباسي ص26_27.(1/16)
ومن هنا يتبن لنا السر في الإسلام قد فضل الدين على غيره من الاعتبارات في الزواج؛ فعن أبي هريرة ÷أن النبي "قال: =تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها،ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك+(1).
فَفَضْل الدين على المال والحسب والجمال من جهة أنه يضمن الأخلاق المهذبة، والآداب الراقية، ويجمع لصاحبته الصيانة من أطرافها.
والمراد من الحديث أن الناشئة في حلية الدين_ وإن لم تكن بارعة الجمال_ تفضل غيرها ممن لم تَتَحَلَّ بالدين وإن كانت موسرة، أو حسبة، أو فائقة الجمال(2).
قال النووي×في معنى هذا الحديث: =ومعناه أن الناس يقصدون في العادة من المرأة هذه الخصال الأربع، فاحرص أنت على ذات الدين، واظفر بها، واحرص على صحبتها+(3).
وقال المنذري ×: =تربت يداك: كلمة مشتركة معناها الحث والتحريض.
وقيل: هي هنا دعاء عليه بالفقر، وقيل: بكثرة المال، واللفظ مشترك بينهما قابل لكل منهما، والآخر أظهر، ومعناه: اظفر بذات الدين، ولا تلتفت إلى المال أكثر الله مالك+(4).
وقال ابن الأثير ×: =ترب الرجل إذا افتقر أي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى.
وهذه الكلمة جارية على السنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر به، كما يقولون: قاتله الله، وقيل: هنا لله درك+(5).
ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإسلام _حين حث على الظفر بذات الدين_ لا ينعى على من التفت بعد ذلك إلى الحسيبة الجميلة ذات المال، ولا يأمر الرجل أن يتزوج بامرأة فقيرة دميمة وضيعة.
ولكنه يريد ذات الدين التي أخذ حظها من الجمال والشرف؛ فذلك أحب إلى البعل، وأعف له، وأغض لبصره، واجمع لشتات قلبه.
__________
(1) رواه البخاري (5090) ومسلم (1466).
(2) انظر الهداية الإسلامية للشيخ محمد الخضر حسين ص56.
(3) رياض الصالحين للنووي ص172.
(4) الترغيب والترهيب للمنذري 4/116.
(5) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/184.(1/17)
ثم إن ذوات التقى والصلاح كثيرات في بيوت المسلمين، ومنهن الجميلات، والحسيبات، والثريات، ولا حرج على الجل أن يطلب ذات الجمال أو المال أو الحسب إذا كانت ذات دين.
إن التوجيه النبوي في الحديث يرشدنا إلى اختيار ذات الدين، وليس بالضرورة أن تكون ذات الدين مجردة من المواصفات الأخرى التي يرغب فيها الرجال، وإنما قدم أمر الدين؛ لأن الدين منبع كل خير؛ فهو لا يتغير ولا يتحول؛ فالمتدينة تحفظ زوجها في فراشه، وماله، وأولاده كما أنها تعينه على كل بر وصلاح، فتعينه على بر والديه، وإكرام ضيفه، وعلى بذل النفقة للمحتاجين والمعوزين.
وإنها لَتُشْرق عليه بحنانه وحبها، وتطيعه بكل ما يأمر به ما لم يأمر بمعصية، وتكون عوناً له على ما يلقى من الشدائد والمتاعب.
وإنها لَتُحِسُّ بان ما يتعرض له زوجها من الضيق أمر يهددها هي بالذات، وتشعره بأنه ليس وحده يعاني مل يعاني.
وكم يخفف من و قع المصيبة أن يرى المصاب من يشاركه شعوره نحها بصدق وأمانة، وان يرى من يقف موقفه تثبيتاً، وتأييداً، ودعاءً، ودعماً، ومشورة.
بل تكاد تختفي في حياة ذلك الزوج المشكلاتُ تماماً؛ لأنه ما من مشكلة إلا ولها في الإسلام حل؛ فإذا كانت الزوجة تقوم بواجبها بصدق وحماسة خيمت على البيت سحائب السرور، وأشرقت عليه شموس السعادة.
والناس يَحْيَون بالمعاني، ويلتذون بالعواطف، ويسعدون بالمشاعر أكثر من الأمور المادية الحسية.
إن هذا كله يدعو العاقل من المسلمين أن لا يُقَدِّمَ على الدين في المرأة عاملاً آخر(1).
7_ إرغام الفتاة على الزواج بمن لا تريده:
__________
(1) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص 52_54 وإصلاح المجتمع للبيحاني ص289، وموجبات اختيار الزوجة للشيخ عثمان الصافي ص22و33، وأحكام الزواج ص47_48.(1/18)
فمن الناس من تُخْطب إليه موليته، فإذا اقتنع بالخاطب_ أياً كانت دوافع الاقتناع_ أعطى الموافقة التامة، دون أن تعلم المولية بشيء؛ فإذا قرب موعد الزفاف همس الولي في أذنها؛ كي تهيئ نفسها لزوجها.
وهذا من الخلل الكبير؛ فقد لا ترضى المرأة بذلك الزوج، فإذا أجبرت على الزواج به حياتهما ضرباً من النكد(1).
ولهذا جاء الشرع الحكيم بمنع الولي من إكراه المولية على الزواج؛ لأن ذلك ليس من حقه.
=وبعض الباحثين يخلط بين اشتراط الولي في النكاح وبين صلاحيات الولي في إجباره المرأة التي يتولى أمرها في النكاح.
والأمران ليسا بمتلازمين؛ فليس كل الذين اشترطوا الولي في النكاح أجازوا للولي إجبار موليته على الزواج ممن يريده بغير رضاها.
بل إن القول الأقوى هو عدم جواز إجبار الولي موليته على الزواج بدون اختيارها+(2).
أما الثيب البالغة فقد اتفق أهل العلم إلا من شذ منهم على منع الولي من إكراهها على الزواج.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =الثيب البالغة لا تنكح إلا بإذنها باتفاق الأئمة+(3).
وقال في موضع آخر: =البالغ الثيب لا يجوز تزويجها بغير إذنها لا للأب ولا لغيره بإجماع المسلمين+(4).
واستدل أهل العلم على عدم صحة إكراه الولي للثيب البالغ من الزواج بما رواه البخاري ومسلم عن خنساء بنت خذام الأنصارية: =أن أباها زوَّجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله "فرد نكاحها+(5)
وبما رواه البخاري عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن النبي "قال: =لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت+(6).
__________
(1) انظر مسؤولية الأسرة تجاه الخاطب للشيخ عبدالعزيز السدحان ص24_25.
(2) أحكام الزواج ص142.
(3) مجموع الفتاوى 32/29.
(4) مجموع الفتاوى 32/39.
(5) البخاري (5138) ومسلم (1419).
(6) البخاري (5136).(1/19)
وبما رواه مسلم من حديث ابن عباس _رضي الله عنهما_: =الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها+(1).
واستدلوا من المعقول بأن الثيب البالغ رشيدة عالمة بالمقصود من النكاح، مختبرة له، فلم يَجُزْ إجبارها عليه.
وإذا زَوَّجَ الوليُّ بغير إذنها ثم أجازت العقد فقد ذهب أكثر العلماء إلى صحة العقد، ولا يحتاج العقد إلى استئناف.
وهذا هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وهو رواية عن الإمام أحمد.
وعند الشافعية أنه لابد من استئناف العقد، ولا يصح العقد السابق على إذنها، وهذه رواية عن أحمد(2).
هذا بالنسبة للثيب، أما البكر فقد اختُلِف في استحباب استئذانها أو وجوبه.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية×الوجوب، قال: =واختلف العلماء في استئذان الولي البكر البالغة، هل هو واجب أو مستحب؟
والصحيح أنه واجب+(3)
واستدل الموجبون لاستئذانها بالنصوص المشترطة استئذان البكر في نكاحها، وبالنصوص المصرحة برد رسول الله "نكاح مَنْ زوَّجها وليها من غير إذنها _كما مرَّ_.
كما أن تزويج الفتاة بغير إذنها مع كراهيتها مخالف للأصول والمعقول، والله _عز وجل_ لم يسوِّغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام، أو شراب، أو لباس لا تريده؛ فكيف يكرهها على معاشرة مَنْ تكرهه؟
ثم إن الله _عز وجل_ قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها منه _فأيُّ مودة ورحمة في ذلك؟
ثم إن الشريعة قد شرعت للمرأة الخلاص من زوْجها في حال كراهتها له؛ فكيف يجوز تزويجها إياه ابتداءً؟!.(4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وأما إجبار الأب لابنته البالغ على النكاح ففيه قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد.
__________
(1) مسلم (1421).
(2) انظر مجموع الفتاوى 32/29 وأحكام الزواج ص43.
(3) مجموع الفتاوى 32/40.
(4) انظر أحكام الزواج ص49_147.(1/20)
أحدها: أنه يجبر البكر البالغ كما هو مذهب مالك والشافعي، وهو اختيار الخرقي والقاضي وأصحابه.
والثاني: لا يجبرها كمذهب أبي حنيفة وغيره، وهو اختيار أبي بكر عبدالعزيز بن جعفر.
وهذا القول هو الصواب.
والناس متنازعون في مناط الإجبار: هل هو البكارة؟ أو الصِّغَر؟ أو مجموعهما، أو كل منهما؟
على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره.
والصحيح أن مناط الإجبار: هو الصِّغَر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح+(1).
وقال: =وأيضاً فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها.
وبِضْعَها أعظم من مالها؛ فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها؟!+(2)
إن مقتضى ما ذُكر: أنه لا يجوز تزويج المولية بغير إذنها، ولا يعني اشتراط إذنها أن الولي غير لازم في نكاحها؛ فالصواب من القول أن تتفق إرادتها وإرادة وليها في التزويج.
نعم لوليها أن يحاول إقناعها بالزواج إذا كانت ترفضه بلا مسوغ، وله إقناعها بالزوج إذا كان صالحاً وهي ترده.
ولكن ليس له إجبارها.
كما لا يعني ذلك أن تتعنت المرأة بحجة أنها لا تجبر.
8_ إجبار الابن على نكاح من لا يريد:
فكما أنه ليس للوالد إجبار ابنته على النكاح إلا بإذنها_ فكذلك ليس له إجبار ابنه على نكاح من لا يريد.
كأن يقول لابنه: تزوج بنت عمك، أو بنت خالك، أو غيرهما؛ فليس للأب إجبار ابنه على الزواج؛ فقد يرى الابن ما لا يرى والده؛ فقد لا يجد ميلاً لمن أشار والده بها، وقد يكون طامحاً لأسرة أخرى.
نعم للوالدين إقناعه، وفتح المجال أمامه وإبداء المسوغات له.
ولكن ليس لهما إجباره؛ فقد يضرانه من حيث أراد نفعه.
رام نفعاً فضر من غير قصد ... ومن البر ما يكون عقوقا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =ليس لأحد من الأبوين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقَّاً.
__________
(1) مجموع الفتاوى 32/22_23، وانظر شرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/78_90.
(2) مجموع الفتاوى 32/23.(1/21)
وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه_ كان النكاح كذلك وأولى؛ فإن أَكْلَ المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول يؤذي صاحبه، ولا يمكن فراقه+(1)
9_ ترك الاستشارة في أمر الزواج:
فتجد من الأولياء من لا يستشير في شأنه موليته إذا خُطِبَتْ، فتراه يوافق على من تقدم لها دون استشارة لأهل بيته، أو من يعرفون الخاطب.
وتجد من المتقدمين للخطبة من لا يستشير في أمر مخطوبته.
وهذا تقصير وتفريط، وقد يترتب عليه قلة التوافق في الحياة الزوجية.
فالذي ينبغي للعاقل ألا يستبد برأيه، وألا يدع الأخذ بالمشورة، فالشورى أمرها عظيم، وشأنها جلل؛ فلقد نوَّه الله_ عز وجل_ بها، وأثنى على المؤمنين لقيامهم بها.
قال_ تعالى_: [وأمرهم شورى بينهم](الشورى:38).
وأمر نبيه"مع وفور عقله، وسداد رأيه أن يأخذ بالشورى.
قال_ عز وجل_: [وشاورهم بالأمر](آل عمران:159).
ويروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب÷أنه قال: =نعم المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد+(2).
10_ استشارة من ليس أهلاً للاستشارة:
فكما أنه من الخطأ ترك الاستشارة في أمر الزواج_ فكذلك من الخطأ استشارة من ليس أهلاً لذلك؛ فمن الناس من يستشير في أمر الزواج، ولكنه لا يتحرى الناصح الأمين من أهل الدراية والخبرة.
بل ربما عمد إلى من لا يوثق بخبره ولا دينه، وربما عمد إلى صديق للخاطب أو قريب له أيَّاً كان، ومن هنا قد تقلب الحقائق، وتقع البلايا والرزايا.
وقد يقول المستشير في أمر موليته: من أستشير إذا لم أستشر أقارب الخاطب وأصدقاءه؟.
ويقال له: اسأل هؤلاء، ولكن لا يغب عن بالك أن عاطفة القرابة والصداقة قد تميل مع صاحبها إلا إذا كان ذا ورع، وعقل، ونصح، ونظر في الأمور بعيد.
وإذا سألت فاسأل عن دين الخاطب، وخلقه، وأمانته، ونحو ذلك.
__________
(1) مجموع الفتاوى 32/30.
(2) أدب الدنيا والدين ص300.(1/22)
ولا بأس أن تسأل إمام مسجده، أو بعض جيرانه، أو من تثق به من زملائه في العمل.
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم(1)
فإذا آنست من الخاطب رشداً، وصلاحاً، وأمانة، وخلقاً_ فاعرضه على موليتك، فإن وافقت، ورضيت فقد قمت بالواجب؛ فإن حصل وئام وألفة فالحمد لله، وإن كانت الأخرى فلا لوم عليك؛ فقد قمت بواجبك.
11_ قلة النصح من المستشار في أمر الزواج:
فتجد من الناس من إذا استشير في قريب أو قريبة له في أمر الزواج_ لا يَصْدُقُ، ولا يمحض المستشير النصح، فربما مدح من ليس أهلاً للمدح، وربما أخفى شيئاً من المساوئ؛ خشية ألا يتم الزواج، فيقعد قريبه أو قريبته بدون زواج.
وما علم هذا أن الله هو الذي يقسم الأرزاق، وأم الصدق منجاة للجميع.
فالواجب على من استشير في أمر الزواج أن يصدق في قوله؛ فالمستشار مؤتمن، والدين النصيحة.
جاء في صحيح مسلم عن تميم الداري أن النبي"قال: =الدين النصيحة ثلاثاً+ قلنا لمن يا رسول الله؟
قال: =لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، ولعامتهم+(2).
وربما ترك بعض الناس النصح في أمر الزواج وعد ذلك من قبيل الورع؛ زعماً منه أن بيان مساوئ الخاطب داخل في الغيبة المحرمة.
وهذا الورع ليس من الدين في شيء؛ بل الورع أن يمحض النصح لمن استنصحه، واستشاره.
ثم إن هذا مما استثناه العلماء من الغيبة.
قال النووي×: =يجوز الصدق في ذكر مساوئ الخاطب؛ ليحذر، وليس هذا من الغيبة+(3).
بل لقد أوجب بعض أهل العلم على من استشير في أمر نفسه في النكاح أن يصدق إذا كان فيه عيب يثبت فيه الخيار، وإن كان فيه ما يقلل الرغبة منه، ولا يثبت الخيار كسوء خلق أو شحٍّ استحب له(4).
12_ تفصيل المستشار في أمر الزواج في ذكر المساوئ بلا مسوغ:
__________
(1) ديوان بشار بن برد ص205_206.
(2) مسلم (55).
(3) روضة الطالبين 7/32.
(4) انظر مغني المحتاج 3/137.(1/23)
فلا يعني وجوب الصدق لمن استشير في أمر الزواج أن يُفَصِّل في ذكر مساوئ الخاطب أو المخطوبة، بحيث يتجاوز الحد بلا مسوغ.
بل ينبغي للمستشار أن يقتصد قدر المستطاع في تبيان المساوئ؛
فإن قَبِلَ المستشيرُ القولَ الخفيف فلا ينبغي أن يلجأ إلى التفصيل؛ فإن قبل منه أن يقول_ على سبيل المثال_: لا أشير عليك بهذا، أولا تفعل، نحو ذلك_ كفاه عن التفصيل.(1)
قال الشربيني×: =محل ذكر المساوىء عند الاحتياج؛ فإن اندفع بدونه لم يحتج ذكرها كقوله: لا تصلح لك معاملته_ وجب الاقتصار عليه، ولم يجز ذكر عيوبه+(2).
كذلك من استشير في أمر نفسه إذا كان فيه مساوىء يكفيه أن يقول:
أنا لا أصلح لكم، ولا يجب عليه أن يكشف عن عيوبه ومساويه؛ ذلك أن عيوب الإنسان سميت مساوىء لأنه يسوؤه ذكرها.(3)
13_ إفشاء سر المستشار:
فمن الناس من إذا استشار أحداً في أمر الزواج أذاع السر، وأخبر بأننا قد رَدَدْنا فلاناً بسبب مشورة فلان؛ حيث أشار علينا بأن فلاناً غير صالح لكم.
وهذا الأمر لا يجوز؛ لأن فيه إفساداً لذات بين المسلمين، ولأنه يوجب الحذر من الصدق في النصيحة.
فالواجب أن تحاط هذه الأمور بسياج من السرية التامة؛ حفاظاً على عرىى المحبة أن تنفصم بين المسلمين، ولئلا يتحرج المستشار في إبداء ما عنده.
14_ تحرج بعض الخاطبين من السؤال عنه:
فهناك من الخاطبين من يأنف حين يعلم أن أهل المخطوبة يسألون عنه؛ ليتأكدوا من صلاحيته.
فتراه ينزعج، ويضيق ذرعاً بهذا السؤال، وربما عده من سوء الظن، وقلة الثقة.
والحقيقة أن هذا التحرج ليس في محله؛ فماذا يضيرك أيها الخاطب إذا سئل عنك؛ فإن كنت على بينة من أمرك، وعلى ثقة من نفسك_ فإن السؤال عنك لا يزيدهم إلا رغبة فيك.
__________
(1) انظر رفع الريبة عما يجوز وما لا يجوز من الغيبة للشوكاني ضمن مجموع الرسائل المنيرية 1/41.
(2) مغني المحتاج 3/137.
(3) انظر مغني المحتاج 3/173.(1/24)
وإن كنت مريباً وعلى وجل من كشف حقيقتك فراجع نفسك، وتجنب ما يصد الناس عنك و[إن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم](الرعد:11).
15_ الاعتماد على صلاح الأسرة في الزواج:
فهناك من إذا أراد الزواج أقدم إلى أسرة معروفة بالصلاح والاستقامة، فيكتفي بذلك عن السؤال عن الفتاة التي سيقدم إليها، فلا يسأل عن دينها، ولا عن خلقها؛ اكتفاء بصلاح أهلها.
وهناك من إذا تقدم إليه خاطب من أسرة معروفة بالخير والصلاح_ لم يسأل عنه؛ بحجة أنه ابن لفلان ابن فلان الكريم العاقل الصالح.
بل إن بعضهم يقول: لقد زوجت الأسرة ولو لم ير الخاطب.
ولا ريب أن صلاح الأسرة واستقامتها أمر حسن مطلوب، بل هو مما يرغب في الزواج.
ولكن ذلك لا يغني، ولا يمنع من السؤال عن صاحب الشأن من خاطب أو مخطوبة؛ فقد تكون الأسرة الكريمة صالحة، ويوجد من بين أولادها من هو بعكس ذلك.
ولا أدل على ذلك من قصة نوح_ عليه السلام_ مع ابنه.
16_ التحجير في الزواج:
وهذه العادة معروفة في بعض المجتمعات؛ حيث يُحَجِّر الوالد على ابنته الفلانية منذ طفولتها الباكرة، فيقول ابنتي فلانة لفلان، إما ابن عمها، أو ابن خالها،أو قريبها، أو ابن صديق لوالدها أو غيرهم.
ومن ثمَّ يُتَعارف عند الأسرة ومن حولها أن فلانة محجوزة لفلان، فلا يطمع أحد في التقدم إليها، ولا يسعها رفضُ من حُجرت عليه، كما لا يسعه خطبةُ غيرها.
وهذه العادة لا أصل لها في الشرع؛ إذ أن فيها تضييقاً وتحجيراً لما وسعه الله كما أن فيه إضراراً بالفتى وبالفتاة؛ فما الداعي لذلك؟.
قد يقال: بأن الداعي مزيد الإكرام والمحبة، ولكن الأمر قد يكون بعكس ذلك؛ فقد ينحرف هذا الفتى، وقد يصاب بعاهة، وقد تسوء العلاقة بين الأسرتين، وقد يصرف الشاب نظره عن تلك الفتاة دون علم أهلها، ومن هنا ينصرف عنها الخطاب؛ لاعتقادهم بأنها لفلان الذي حُجرت عليه.
وقد يكون العكس من جهة الفتاة؛ وذلك بان لا تكون صالحة إذا كبرت، أو نحو ذلك مما ذكر.(1/25)
وقد تَحْكُمُ تلك العادةُ حُكْمها فيقع الزواج دونما اقتناع، فيكون مبنياً على المجاملة؛ فيوشك أن يتصدع بنيانه.
هذا وقد سألت سماحة شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز_ حفظه الله_ عن هذه العادة فقال: لا أصل لها.
ومن التحجير أن يحجر الإنسان على ابنة عمه ليتزوجها هو أو أحد إخوانه.
وقد سُئل مفتي الديار السعودية سابقاً_ سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ× عن مسألة تحجير الرجل بنت عمه عن الأزواج؛ حيث يريد أن يختص بها هو أحد إخوانه أو بني عمه وهي ممتنعة عنه، وغير راغبة فيه: هل يجوز إجبارها عليه أو لا؟
فأجاب× قائلاً: =ونفيد أن هذا التحجير أمر لا يجوز، ولا يجيزه الشرع، والإسلام بريء منه، والسنة النبوية مستفيضة بالنهي عن ذلك، والنكاح على هذا الوجه غير صحيح، ولا يعترف به؛ إذ التحجير من أكبر انواع الظلم والجور.
ومن يصر على تحجير الأنثى الضعيفة، ويريد ان يقهرها ويتزوجها وهي غير راضية به هو بحاجة إلى الرادع السلطاني إذا لم يرتدع بالوازع القرآني+(1).
17_ ترك الاستخارة في أمر الزواج:
فمن الناس من قد تتعارض عنده الأمور، ويصعب عليه الاختيار والبت، ومع ذلك تجده لا يأبه بالاستخارة.
ومن تلك الأمور التي قد تشكل عليه ما نحن بصدده وهو مسألة الزواج.
فمن الخطأ ألا يستخير الإنسان في أمر زواجه، ومن الخطأ ألا يستخير الولي في زواج موليته، ومن الخطأ ألا تستخير الفتاة في أمر زواجها إذا خُطبت.
فحري بكل من أراد الإقدام على أمر يترتب عليه ما يترتب ألا يستهين بأمر الاستخارة؛ فهي تفتح له الأبواب، وتزيل عنه الحيرة والتردد والاضطراب؛ فإذا أقدم على أمر أقدم ونفسه مطمئنة، وإذا أحجم أحجم وقد طابت نفسه.
ولهذا كان النبي"يعلم أصحابه صلاة الاستخارة.
__________
(1) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 10/83.(1/26)
عن جابر÷قال: =كان النبي"يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن: =إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني استخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري_ أو قال: في عاجل أمري وآجله_ فاقدُره لي.
وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري_ أو قال: في عاجل أمري وآجله_ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به، ويسمِّي حاجته+(1).
قال ابن حجر×: =الاستخارة: هي استفعال من الخير أو من الخِيَرة بكسر أوله، وفتح ثانيه بوزن العنبة_ اسم من قولك: خار الله له.
واستخار الله: طلب منه الخيرة، وخار الله له: أعطاه ما هو خير له، والمراد طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما+(2).
قال النووي×: =قال العلماء: تستحب الاستخارة بالصلاة والدعاء المذكور، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب، وبتحية المسجد، وغيرها من النوافل.
ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: [قل يا أيها الكافرون]، وفي الثانية:
[قل هو الله أحد].
ولو تعذرت عليه الصلاة استخار بالدعاء+(3).
قال ابن حجر×: =وأفاد النووي أنه يقرأ في الركعتين: الكافرون، والإخلاص.
قال شيخنا في شرح الترمذي: لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر، والركعتين بعد المغرب.
قال: ولهما مناسبة بالحال؛ لما فيهما من الإخلاص والتوحيد، والمستخير محتاج لذلك+(4).
__________
(1) رواه البخاري (6382).
(2) فتح الباري لابن حجر العسقلاني 11/187.
(3) الأذكار للنووي ص110_111.
(4) فتح الباري 11/189.(1/27)
وقال ابن حجر×: =قال ابن أبي جمرة: الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة؛ لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه مآلاً وحالاً+(1).
قال النووي×: =ثم إن الاستخارة مستحبة في جميع الأمور كما صرح به نص هذا الحديث الصحيح، وإذا استخار مضى بعدها لما ينشرح له صدره والله أعلم+(2).
ومن هنا يتبين لنا عظم شأن الاستخارة بعد الاستشارة؛ فإذا استشار الإنسان ثم استخار كان حرياً أن يصاحبه التوفيق؛ فما ندم من استشار ولا خاب من استخار.
18_ التأخر بالرد على الخاطب بلا مسوغ:
فكثيراً ما يطرق الراغب في الزواج بيتاً من البيوت، متقدماً لخطبة ابنتهم، وبعد أن يتأكد أهل الفتاة من صلاحية الخاطب تجدهم يتأخرون كثيراً في إبداء الموافقة، إما قلة مبالاة، أو لبرود في الطبع، أو للإشعار بأنهم ليسوا بحريصين على تعجيل الزواج، أو غير ذلك.
وهذا خطأ؛ إذ هو مما يزهد الخاطب، ويجلب له سوء الظن، وقد يسبب له صرفَ النظر والبحثَ عن فتاة أخرى؛ فقد يظن أن أهل المخطوبة رافضون ولكنهم يستحيون من مواجهته؛ فأنى لأهل الفتاة بعد ذلك بخاطب مناسب؟
بل إن تكرر ذلك يوجب النفرة منهم، وبالتالي تبقى فتياتهم عوانس في االبيوت.
فالذي ينبغي على من تبين لهم صلاح الخاطب ومناسبته أن يبادروا إلى تزويجه أو الرد عليه؛ فالفرص لا تعوض، وخير البر عاجله.
19_ صرف النظر عن الخطبة أو الزواج لأتفه الأسباب:
فمن الراغبين في الزواج من يتقدم لخطبة فتاة من أهلها، وبعد الموافقة عليه، وفي أثناء الترتيب لإجراءات الزواج مكاناً وزماناً ونحو ذلك_ يحصل أحياناً خلاف يسير حول تلك الإجراءات.
__________
(1) فتح الباري 11/189.
(2) الأذكار ص111.(1/28)
وبدلاً من السيطرة على هذا الخلاف واحتوائه تجد أحد الطرفين أو كليهما يصعد الخلاف إلى درجة قد تقود إلى إلغاء الخطبة، أو تعكير الصفو.
وهذا مما لا ينبغي حصوله، فاللائق بأهل الخاطبين أن تكون قلوبهم كبيرة، وصدورهم متسعة، لا تضيق بمثل هذا الخلاف اليسير.
20_ اليأس من الزواج إذا تكرر الرد:
فمن الناس من يتقدم للخطبة أكثر من مرة، فإذا تكرر رده أيس من الزواج، وترك المحاولة إلى غير رجعة.
وهذا خطأ؛ فاللائق بالعاقل ألا يتوانى في الزواج، وألا ييأس من روح الله، فيحسن به أن يكرر الطرق، وأن يسأل ربه الإعانة والتوفيق؛ فلربما كان في الرد المتكرر خير وهو لا يعلم، ولربما كان له نصيب ينتظره؛ فَلِمَ يكون متشائماً؟ ولم لا يقول: لعل النصيب لم يأت بعد؟
ولا بعد في خير وفي الله مطمع ولا يأس من روح وفي القلب إيمان
21_ المجاملة في كتابة المهر:
فالمهر اسم للمال الواجب للمرأة على الرجل بالنكاح أو الوطء.
وقد سماه الله في كتابه صداقاً، وأجراً، وفريضة.
ويجب إمضاء المهر الذي اتفق العاقدان على تسميته عند العقد، سواءً كان كثيراً أو قليلاً.
والعلماء يستحبون تسميته؛ اقتداء برسول الله"ودفعاً للخصومة(1).
قال أبو بكر محمد الحسيني×: =المستحب ألا يعقد عقد النكاح إلا بصداق؛ اقتداءً برسول الله"فإنه لم يعقد إلا بمسمى، ولأنه أدفع للخصومة+(2).
وقد نقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم على وجوب المهر، ولما نقل الإجماع بين وجوب تسميته فقال: =أجم علماء المسلمين أنه لا يجوز له وطأ في نكاح بغير صداق مسمى ديناً أو نقداً+(3).
ومع هذا تجد من الناس من لا يسمى المهر حقيقةً، إما حياءً، أو مجاملة، أو نحو ذلك.
فقد يدفع مائة ألف ريال، وإذا سُئل عن المهر عند كتابة العقد قال: قال المهر ألف ريال.
__________
(1) انظر أحكام الزواج ص261.
(2) كفاية الأخيار 2/111، وانظر شرح الزركشي 5/285.
(3) الاستذكار لابن عبدالبر 16/67.(1/29)
وهذا كذب لا مسوغ له، بل هو مما يوقع في الحرج والخصومة؛ فقد تأخذ الزوجة أو أهلها المهر، وقبل دخول الزوج بزوجته قد يطرأ لهم ما يصرفهم عن الزواج، وقد يكونوا أنفقوا المهر ولم يبق منه شيء، وإذا كانوا لئاماً جحدوا ما أخذوه من الزوج، وقالوا: ليس له علينا إلا المبلغ المثبت في أوراق العقد، وقد يكون المثبت في العقد ألفاً، بينما دفع الخاطب مائة ألف.
وربما يكون أهل الزوجة قد بيتوا هذه النية، وربما يطرأ على الزوج ما يصرفه عن الزواج قبل الدخول.
ولو صدق الطرفان لكان خيراً لهم، ولما وقعوا في الخصومات والحرج.
22_ التحرج من عرض المولية على الكفيء:
فمن الناس من عنده مولية أو أكثر، ولا يوفق بمن يطرق بابه للخطبة، وربما أتاه من لا يُرضى دينه وخلقه فيرده.
ومع ذلك تراه يتحرج من عرض مولياته على الأكفياء؛ فتلبث المولية من عمرها سنين، وربما تطاول عليها العهد، وفاتها الركب، ورغب عنها الخاطبون.
ولو عرضها وليها على كفيء أو أكثر لربما انتفى ذلك المحذور.
بل إن من الأولياء من يعد عرض المولية سبة وعاراً، ويخشى أن يُظن العيب والنقص في مولياته.
وهذا من الخطأ والقصور؛ إذ ليس عرضك موليَّيَكَ على الكفيء سبة ولا عاراً، سواء قَبِلَ الكفيء أو لم يقبل؛ فلك في سلفك الصالح أسوة حسنة؛ فهذا الخليفة الراشد المُحَدَّثُ المُلْهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب÷يقوم بهذا العمل من غير تحرج؛ فقد بوب الإمام البخاري في صحيحه باباً قال فيه: =باب عرض الإنسان ابنته أو أختَه على أهل الخير+.
ثم ساق بسنده حديث عمر÷وفيه: =أن عمر ابن الخطاب حين تأيَّمت(1) حفصةُ بنت عمر من خنيس بن حذافة السَّمي_ وكان من أصحاب رسول الله"وتوفي بالمدينة_ فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا.
__________
(1) تأيمت: أي مات زوجها.(1/30)
قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فَصَمَتَ أبو بكر، فلم يرجع إليَّ شيئاً، وكنت أوْجَد(1) عليه من عثمان.
فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله"فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟
قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ إلا أني كنت علمت أن رسول الله"قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله"ولو تركها رسول الله"قبلتُها+(2).
قال الحافظ ابن حجر× في شرح الحديث: =وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه؛ لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك.
وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجاً؛ لأن أبا بكر كان حينئذٍ متزوجاً+(3).
فليس من العيب أن تعرض موليتك_ أيها الولي_ على أهل الخير؛ فلست أعلم من عمر، ولا آنف ولا أروع منه.
ثم هل أتاك نبأ التابعي الجليل سعيد بن المسيب× حينما عرض ابنته على أحد طلابه ثم زوجها إياه، بعد أن رفض سعيد تزويجها من ابن الخليفة.
=قال أبو بكر ابن أبي داود: كانت بنت سعيد بن المسيب قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه، فلم يزل يحتال عبد الملك عليه حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصبَّ عليه جرة ماء، وألبسه جبةَ صوفٍ.
__________
(1) أوجد: أي أشد موجدة، أي غضباً.
(2) البخاري (5122).
(3) فتح الباري 9/83.(1/31)
ثم قال(1): حدثني أحمد ابن أخي عبد الرحمن بن وهب، حدثنا عمر ابن وهب، عن عطاف بن خالد، عن ابن حرملة، عن ابن أبي وداعة_ يعني كثُيِّراً_ قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوِّجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا، قلت: وتفعل؟ قال: نعم، ثم تَحَمَّد، وصلى على النبي"وزوجني على درهمين_ أو قال: ثلاثة_ فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصِِرْتُ إلى منزلي وجعلت أتفكر فيمن أستدين، فصليت المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائماً، فقَدَّمتُ عشائي أُفطِر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بابي يقرع، فقلت: مَنْ هذا؟ فقال سعيد، فأفكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيِّب؛ فإنه لم يُرَ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له(2)، فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ قال: أنت أحق أن تؤتى؛ إنك كنت رجلاً عَزَباً فتزوَّجتَ، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها، فدفعها في الباب وردَّ الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج؛ لكي لا تراه، ثم صَعِدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاؤوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم، ونزلوا إليها، وبلغ أمي، فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله"وأعرفهم بحق زوج، فمكثت شهراً لا آتي سعيد بن المسيب، ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت فرد عليَّ السلام ولم يكلمني حتى تقَوَّض المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خير يا
__________
(1) أي أبو بكر ابن أبي داود.
(2) بداله: أي طرأ له طارئ، أو غيَّر رأيه.(1/32)
أبا محمد، على ما يحب الصديق، ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا، فانصرفت إلى منزلي، فوجَّه إلي بعشرين ألف درهم.
قال أبو بكر ابن أبي داود: ابن أبي وداعة هو كثير بن المطلب ابن أبي وداعة+(1).
وبعدما تبين لك_ أيها الولي_ هدي السلف في عرض المولية_ لا أخالك_ وأنت إن شاء الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه_ تتحرج من عرض موليتك على أهل الخير.
ومن الطرق الممكنة في هذا الصدد لمن يستحيي من عرض المولية بنفسه أن يتحرى الرجل الصالح المناسب، ثم يوصي من يعرفه؛ كي يفاتحه بالأمر، أو يشير عليه بأن فلاناً عنده ابنة أو مولية، وهذه صفاتها، فلو سألت عنها، ثم تقدمت لخطبتها.
ومن الطرق أن يذهب إلى ولد ذلك الصالح أو أحد إخوانه فيخبرهم بالأمر، ويوصيهم بالإشارة على ابنهم أو أخيهم بالتقدم للخطبة.
ومنها ما سبق ذكره أن يأتي الولي لمن يتحرى فيه الخير فيعرض عليه موليته مباشرة.
وهكذا يتبين لنا أن التحرج من عرض المولية على الكفيء تحرج ليس في محله.
بل إن الأمر أكبر من ذلك؛ إذ يسوغ للمرأة أن تَعْرِضَ نفسها على الرجل الصالح؛ فقد بوب الإمام البخاري× باباً في صحيحه قال فيه: =باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح+.
ثم ساق حديثين في هذا الباب.
الحديث الأول: قال:=حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا مرحومٌ، قال: سمعت ثابتاً البنانيَّ قال:=كنت عند أنس وعنده ابنة له، قال أنس: جاءت امرأة إلى رسول الله"تعرض عليه نفسها قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقلَّ حياءها، واسوأتاه، قال: هي خير منك؛ رغبت في النبي"فعرضت عليه نفسها+(2).
__________
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي 4/233_234.
(2) البخاري (5120).(1/33)
الحديث الثاني: قال: حدثنا سعيد ابن أبي مريم، حدثنا أبو غسان: قال: حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد: =أن امرأة عرضت نفسها على النبي"فقال له رجل: يا رسول الله، زوجنيها، فقال: ما عندك؟ قال: ما عندي شيء، قال: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري لها نصفه.
قال سهل: وما له رداء، فقال النبي"=وما تصنع بإزارك؛ إن لَبِسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لَبِسَتْه لم يكن عليك منه شيء؟
فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه النبي"فدعاه_ أو دُعي له_ فقال له: =ماذا معك من القرآن؟+ فقال معي سورة كذا وسورة كذا_ لسور يُعدِّدها_ فقال النبي"=أمْلكْناكها بما معك من القرآن+(1).
قال ابن حجر× في شرح الحديثين السابقين: =وفي الحديثين جواز عرض المرأة نفسها على الرجل، وتعريفه رغبتَها فيه، وأن لا غضاضة عليها في ذلك، وأن الذي تعرض المرأة نفسها عليه بالاختيار، لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد، بل يكفي بالسكوت+(2).
ولا ريب أن أكثر النساء تستحيي من ذلك، ولعل من الطرق المجدية في ذلك أن توصي من يعرضها على الرجل الصالح.
23_ التحرج من قبول المولية إذا عُرضت:
فبعض الناس يتحرج من قبول المولية إذا عرضت عليه؛ لظنه أنها لم تَعْرَضْ إلا لعيب فيها، أو لأنها لم تخطب، ووليها يريد الخلاص منها، أو نحو ذلك.
فهذه الظنون لا يحسن أن تساور من عَرضت عليه؛ بل يحسن به إذا عرضت عليه، وكان راغباً في الزواج، وكانت المعروضة من أسرة كريمة_ ألا يكون عَرْضُها حائلاً دون الزواج منها؛ فقد تكون على درجة كبيرة الملائمة، بل قد تكون خطبت أكثر من مرة، وقد يكون وليها خائفاً من الحرج إذا خطبها من لا يستطيع رده؛ فحرص على المبادرة في تزويجها من الكفيء، وقد يكون محباً لمن عرضها عليه، معجباً به، إلى غير ذلك من الأسباب.
__________
(1) البخاري (5121).
(2) فتح الباري 9/80_81.(1/34)
فإذا عرض عليك أحد موليته وكنت راغباً في الزواج فاستشر، واستخر، وقم بما يلزم من التحري والسؤال، ثم اتخذ قرارك المناسب؛ فلعل الخير فيمن عرضت عليك.
24_ المجاملة في قبول المولية إذا عرضت:
فكما أن من الناس من يتحرج من قبول المولية إذا عرضت عليه فكذلك هناك من يجامل في قبولها دونما رغبة أو قناعة.
وإنما قبلها مجاملة، وحياءً، وإكراماً لمن عرضها عليه.
وهذا خطأ؛ لأن ذلك قد يعرِّض الحياة الزوجية للهدم، فينبغي ترك المجاملة إذا كان لم يقتنع بالزواج.
ثم إن كان راغباً في الزواج فلا يقل المعروضة بإطلاق، ولا يردها بإطلاق، بل يتحرى ويأخذ بالأسباب كما سبق في الفقرة الماضية.
ثم إنه ينبغي لمن عُرضت عليه المولية ولم يَرَ ملائمتها له، أو لم يكن مريداً للزواج أن يتلطف بالرد على وليها، وأن يشكر له صنيعه وإحسان ظنه، وأن يدعو له ولموليته بالخير، كما يحسن به أن يحفظ سر هذا العرض، وألا يشيعه بين الناس، فيكون سبباً في زهدهم بالمعروضة.
25_ الغضب من رد المولية:
فمن الأولياء من يغضب أشد الغضب إذا عرض موليته على أحد ثم أبدى له العذر في عدم قبولها، فتجد هذا الولي يغضب على من رفض العرض، ويصفه باللؤم، وأنه ليس أهلاً للإكرام.
وهذا من الخطأ؛ وغلا فماذا يضيرك إذا عَرَضْتَ موليتك ثم لم تناسب مَنْ عُرِضَتْ عليه؟ أفأنت تكره الناس على الزواج من مولياتك؟
ثم هل تُؤَاخَذُ إذا رَدَدْتَ من لا يناسب إذا تقدم لخطبة موليتك؟
فيا أيها الولي، لا يشتد عليك إذا رُدَّ عَرْضُكَ موليتك، فعسى أن يجازيك الله بحرصك على موليتك، فيوفقها بالزواج الصالح الذي يسعدها.
[وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون] (البقرة: 216).
26_ التحرج من زواج الأخ الصغير قبل الكبير، أو الصغرى قبل الكبرى:
لا ريب أن العادة مُحَكَّمة، وأن كل عرف لا يخالف الشرع فإنه يؤخذ به.(1/35)
ولقد جرت عادة الناس وأعرافهم أن يتزوج الكبير من الإخوان قبل الصغير، وأن تتزوج الكبرى قبل الصغرى؛لما في ذلك من مراعاة الترتيب في السن، ولما يفضي إليه تقديم الصغير على الكبير من التساؤلات؛ فلا يحسن إهمال الترتيب بلا مسوغ 0
ومع ذلك لا ينبغي التحرج والتشدد والتضييق في هذه المسألة؛ فقد يكون الأخ الأكبر ُمعْرضاً عن الزواج، أو راغباً في تأخيره، وقد تكون لديه أسباب تعوقه عن الزواج، وفي الوقت نفسه قد يكون الأصغر محتاجاً إلى الزواج، وتكون أسبابه متوافرة فيه؛ فما المانع من تزويج الأصغر قبل الأكبر؟
وكذلك الحال بالنسبة للفتيات، فقد َترُد الكبرى من يتقدم لخطبتها، فيرغب الخطاب عنها، وقد تكون ُمؤْثرةً لإكمال الدراسة، وقد تكون متعنتة ذات شروط تعجيزية، وقد تكون عنيدة لا تستطيع الإفضاء به؛ فما ذنب الصغرى في هذه الحالة؟ وما المانع من تزويجها قبل الكبرى؟
بل قد يكون تزويجها سبباً لتحرك الكبرى، وحرصها على الزواج.
27_الخطبة على الخطبة :
فمن الأخطاء في باب النكاح خطبة الرجل على خطبة أخيه0 قال النبي":
=لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب بعضكم على خطبة بعض+(1).
وقال : =ولا يخطب المرء على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفي ما في إنائها+(2).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ÷أن النبي "قال : =لا يخطب الرجل على خطبة أخيه+.
زاد البخاري :=حتى ينكح أو يترك+.
وفي رواية عن مسلم : =حتى يذر+(3).
والحكمة من وراء النهي عن الخطبة على الخطبة أن هذا الفعل يورث العداوة و البغضاء، كما يؤدي إلى تزكية المرء نفسه، وذم غيره، كما أن في ذلك عدواناً وظلماً؛ فالخطبة على الخطبة كالبيع على البيع، والشراء على الشراء، وذلك مما يولد الكراهية، ويوهي حبال المودة.
__________
(1) رواه مسلم (1412).
(2) رواه مسلم (1413).
(3) البخاري (5142)، ومسلم (1414).(1/36)
والإقدام على الخطبة سواء علم الخاطب أن المخطوبة أجابت أم لم تجب بعد _ يحدث مفسدة بين المسلمين.
فإذا أذن الخاطب الأول، أو صرف النظر عن الخطبة، أو َردته المخطوبة _فلا إشكال.
أما إذا أجابت الخاطب الأول، أو كانت في مرحلة تردد وتأمل _ فإن ذلك لا يجوز؛ فإن خطبة الثاني قد تجعلها تعدل عن الأول، وتصرف النظر عنه(1).
وقد سئل ابن تيميه ×عن رجل خطب على خطبة رجل آخر،فهل يجوز ذلك؟
فأجاب قائلا ً: =الحمد لله، ثبت في الصحيح عن النبي "أنه قال : =لا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه، ولا يستام سومه+.
ولهذا اتفق الأئمة الأربعة في المنصوص عنهم وغيرهم على تحريم ذلك.
وإنما تنازعوا في صحة نكاح الثاني على قولين : أحدهما : أنه باطل كقول مالك، وأحمد في إحدى الراويتين.
و الآخر: أنه صحيح كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في الرواية الأخرى بناء على أن المحرم هو ما تقدم على العقد وهو الخطبة.
ومن أبطله قال : إن ذلك تحريم للعقد بطريق الأولى.
ولا نزاع بينهم أن فاعل ذلك عاص لله ورسوله، وإن نازع في ذلك بعض أصحابهم.
والإصرار على المعصية مع العلم بها يقدح في دين الرجل وعدالته وولايته للمسلمين(2).
هذا وقد ذهب الحنابلة إلى أن إجابة الخاطب الأول تعريضاً كافيةُ لتحريم تقدم غيره لخطبتها، وإن لم يُجَبْ صراحة(3).
ويرى ابن حزم×أن مجرد التقدم لخطبة امرأة ما _يجعل خطبتها من غيره حراما إذا علم ذلك.
واستثنى حالة واحدة يجوز للثاني التقدم للخطبة، وهي أن يكون الأول غير مرضي في دينه(4).
وقرر الشوكاني ×أنه يحرم التقدم على خطبة المخطوبة إلا إذا علم عدم رضاها(5).
ونقل عن ابن القاسم صاحب مالك أن الخاطب الأول إذا كان فاسقا جاز للعفيف أن يخطب على خطبته(6).
__________
(1) انظر أحكام الزواج ص43_46.
(2) مجموع الفتاوى 32/70.
(3) انظر المغني 7/521.
(4) المحلى 10/33.
(5) انظر السيل الجرار 2/245_246.
(6) انظر فتح الباري 9/108.(1/37)
28_التصريح بخطبة المعتدة :
فمن الأخطاء في الزواج التصريح بخطبة المعتدة من طلاق أو وفاة، فتجد من يخطب المعتدة صراحة من نفسها، أو من وليها، إما لجهله، أو لرقة دينه، أو لخوفه من أن تخطب.
وهذا أمر محرم؛ إذ لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة مطلقاً، فقد شدد أهل العلم في النكير على من خطب امرأة في عدتها.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه×: =لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة ولو كانت في عدة وفاة باتفاق المسلمين؛ فكيف في عدة الطلاق؟
ومن فعل ذلك يستحق العقوبة التي تردعه و أمثاله عن ذلك، فيعاقب الخاطب و المخطوبة جميعا، ويزجر عن التزويج بها معاقبة له بنقيض قصده والله أعلم+(1).
وكما لا يجوز التصريح بخطبة المعتدة مطلقاً لا يجوز التعريض بخطبة المعتدة الرجعية.
أما المعتدة من وفاة فيجوز التعريض بخطبتها، وأما التعريض بخطبة المطلقة ثلاثاً فقد اختلف العلماء فيه؛ فذهب الحنابلة إلى جواز ذلك، وهذا القول هو الأظهر عند الشافعية، أما الحنفية فالأظهر عندهم عدم الجواز(2).
وعمدة من منع التعريض بخطبة المطلقة ثلاثاً أن النص المبيح للتعريض بالخطبة وهو قوله_تعالى_: [ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النكاح] إنما ورد في المعتدة من وفاة؛ فلا يجوز تعديته من المعتدات.
والذين أجازوا التعريض بخطبة المعتدة من طلاق الثلاث حجتهم أن هذه المرأة لا تجوز رجعتها إلى مطلقها كما لا يمكن للمعتدة من وفاة أن تعود إلى زوجها المتوفى؛ فالمعنى موجود في الحالين بخلاف المعتدة من طلاق رجعي.
وقول المانعين أرجح؛ فالمطلق قد يتأذى من التعريض بخطبة زوجته، وقد يترك هذا التعريض عداوة و أحقاداً؛ فالعهد برباط الزوجية قريب، والنفوس تحتاج إلى مدة؛ لتهدأ، وتنسى(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى 7/8.
(2) انظر جواهر الإكليل 1/276، والمغني 9/572_573، ومغني المحتاج 3/173، وأحكام الزواج ص41.
(3) انظر أحكام الزواج ص41.(1/38)
و الحكمة من وراء المنع من التعريض في خطبة المعتدة الرجعية أنها في حكم الزوجة.
يقول الشافعي×: =أما المرأة يملك زوجها رجعتها فلا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة في العدة؛ لأنها في كثير من معاني الأزواج، وقد يُخاف إذا عرض لها من ترغب فيه بالخطبة أن تدعي بأن عدتها حلت وإن لم تحلَّ+(1).
و التصريح بخطبة المعتدة كأن يقول لها : أريد نكاحك، أو إذا انقضت عدتك نكحتك، أو نحو ذلك.
والتعريض كأن يقول كلاماً محتملا ًغير صريح بالخطبة كقوله: رب متطلع إليك، وراغب فيك، وحريص عليك، أو أن يقول : إنك علي لكريمة، وإن الله لسائق إليك خيراً أو رزقاً.
بل ومن العلماء من يرى التعريض أن يقول : أنت جميلة ومرغوب فيك، أو نحو ذلك(2).
29_ نكاح الشغار :
الشغار في اللغة : الخلو، يقال : بلد شاغر إذا خلا من السلطان.
وأصله مأخوذ من شغور الكلب، يقال : قد شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه للبول؛ لخُلُو الأرض منها (3).
قال النووي×: =الشغار بكسر الشين المعجمة، وبالغين المعجمة أصله في اللغة الرفع، يقال : شغر الكلب إذا رفع رجله؛ ليبول، كأنه قال : لا ترفع رجل بنتي حتى أرفع رجل بنتك.
وقيل : هو من شغر البلد إذا خلا؛ لخلوه من الصداق.
ويقال : شغرت المرأة إذا رفعت رجلها عند الجماع+(4).
هذا وقد جاء النهي عن الشغار مفسراً في الحديث الذي رواه البخاري، قال : =حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر _ رضي الله عنهما _ أن رسول الله "نهى عن الشغار.
والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق+(5).
__________
(1) الأم للشافعي 5/40.
(2) انظر المغني 9/573 وأحكام الزواج ص42.
(3) انظر الحاوي الكبير للماوردي 9/323.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 9/545.
(5) البخاري (5112).(1/39)
قال النووي×: =وصورته الواضحة: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك، ويضع كل واحدة صداقاً للأخرى، فيقول : قبلت، والله أعلم+(1).
قال الزركشي× : =سمي هذا النكاح نكاح الشغار، قيل : لقبحه؛ تشبيهاً برفع الكلب رجله؛ ليبول في القبح يقال : شغر الكلب إذا فعل ذلك+(2).
قال ابن حجر× : =قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته؛ فالجمهور على البطلان، وفي رواية عن مالك يفسخ قبل الدخول لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، وذهب الحنفية إلى صحته ووجوب مهر المثل، وهو قول الزهري، ومكحول، والثوري، والليث، ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو قول على مذهب الشافعي لاختلاف الجهة+(3).
قال ابن حجر : =تنبيه : ذكر البنت في تفسير الشغار مثال، وقد تقدم في رواية أخرى ذكر الأخت+(4).
وقال النووي×: =أجمعوا على أن غير البنات من الأخوات وبنات الأخ، والعمات، وبنات الأعمام، والإماء كالبنات في هذا+(5).
30_ نكاح التحليل :
فمن الناس من يطلق زوجته، وبعد أن َتبيْنَ منه يندم على تطليقه لها، فيعاوده الحنين إليها، ويحرص على أن تعود إليه.
ومما يسلكه بعض المحتالين في هذا الشأن أن يعمد إلى رجل آخر، فيتفق معه على أن يتزوج مطلقته، ثم يطلقها، ثم بعد ذلك يتقدم إلى خطبتها بعد أن تبين وتعتد من الزوج الثاني، وربما دفع الأول مبلغا من المال مقابل ذلك التحليل، وربما تكفل بجميع تكاليف الزواج.
وربما كان ذلك من الزوجة؛ حيث تتزوج من آخر كي يحللها لزوجها الأول إذا آنست منه رغبة فيها.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 9/545.
(2) شرح الزركشي على الخرقي 5/122.
(3) فتح الباري 9/68.
(4) المرجع السابق.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي 9/545، وانظر في الكلام على الشغار إلى مجموع الفتاوى لابن تيمية 29/282 و343، و32/157 و 262، و20/377 و34/165، وانظر حسن الأسوة لصديق خان ص187، وأحكام الزواج ص105.(1/40)
وهذا النوع من النكاح حرام، وهو باطل في قول عامة أهل العلم، ومنهم الحسن، والنخعي، وقتادة، ومالك، والليث، والثوري، وابن المبارك، والشافعي.
وحكي عن أبي حنيفة يصحح النكاح، ويبطل الشرط(1).
هذا وقد جاء النهي عن نكاح المحلل في قول النبي "أنه قال : =لعن الله المحلل والمحلل له+.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيميه عن رجل حنث من زوجته، فنكحت غيره؛ ليحلها للأول؛ فهل هذا النكاح صحيح أم لا؟
فأجاب : =قد صح عن النبي"أنه قال : =لعن الله المحلل والمحلل له+(2).
وعنه أنه قال :=ألا أنبئكم بالتيس المستعار؟+
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال : =هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له+.
__________
(1) انظر المغني 10/54، والحاوي 9/332، وأحكام الزواج ص104.
(2) أخرجه أحمد 1/450، وأبو يعلى في مسنده 8/468 (5054)، والبغوي في شرح السنة 9/100،(2293)، من طريق عبيد الله بن عمر الرقي عن عبد الكريم الجزري، عن أبي الواصل عن عبد الله بن مسعود.
وأخرجه أحمد _أيضاً_ 1/448،462، والنسائي 6/149، والدارمي 2/554، والترمذي 3/428 (1120)، ولبن أبي شيبة في المصنف 4/295، والبيهقي في سننه 7/208 من طريق سفيان الثوري، عن أبي قبيس عبدالرحمن بن ثروان الأودي، عن هزيل بن شرحبيل الأودي عن عبد الله به.
قال الترمذي: =حسن صحيح+، وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الهداية 2/73: =رواته ثقات+.
وقال في تلخيص الحبير 3/170: =صححه ابن القطان، وابن دقيق العيد على شرط البخاري+.
وصححه ابن الجوزي في العلل المتناهية 2/159 (1073)، والذهبي في الكبير ص103، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 32/61: +فقد ثبت عن النبي " أنه قال" =لعن الله المحلل والمحلل له+. وقال في موضع آخر من الفتاوى 32/93، 153: =وقد صح عن النبي " أنه قال...+فذكره.(1/41)
و اتفق على تحريم ذلك أصحاب رسول الله"والتابعون لهم بإحسان، مثل عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي ابن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن عمر وغيرهم، حتى قال بعضهم : لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها له.
وقال بعضهم : لا نكاح إلا نكاح رغبة، لانكاح دلسة.
وقال بعضهم : من يخادع الله يخدعه.
وقال بعضهم : كنا نعدها على عهد رسول الله "سفاحا.
وقد اتفق أئمة الفتوى أنه إذا شرط التحليل في العقد كان باطلا.
وبعضهم لم يجعل للشرط المتقدم ولا العرض المطرد تأثيرا، وجعل العقد مع ذلك كالنكاح المعروف نكاح الرغبة.
وأما الصحابة والتابعون وأكثر أئمة الفتيا فلا فرق عندهم بين هذا العرف واللفظ.
وهذا مذهب أهل المدينة، وأهل الحديث، وغيرهما والله أعلم+(1).
31 _ اشتراط المرأة طلاقَ ضرتها :
فمن النساء ومنْ أوليائهن َمنْ إذا تقدم لهم رجل بالخطبة وهو متزوج بامرأة أخرى اشترطوا عليه أن يطلق زوجته السابقة.
ومن الزوجات ومن أوليائهن من إذا تزوج الزوج بثانية ثاروا، وأكثروا عليه القول بأن يطلق الجديدة، وإلا هددوه بأن تتركه زوجته الأولى.
وذلك الشرط، وهذا العمل باطل؛ إذ هو دال على أثرة قبيحة، وضيق بالنفس، وشح بالخير، كما أن فيه ظلماً وعدواناً.
قال ابن قدامه ×: =إن اشترطت عليه أن يطلق ضرتها لم يصح الشرط؛ لما روي عن أبي هريرة ÷قال: =نهى رسول الله"أن تشترط المرأة طلاق أختها+
والنهي يقتضي الفساد المنهي عنه؛ لأنها اشترطت فسخ عقده، وإبطال حقه من حق امرأته+(2).
والحديث الذي أشار إليه ابن قدامه رواه البخاري في صحيحه من رواية أبي هريرة.
وفي رواية أن النبي"قال : =لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها؛ فإنما لها ما قدر لها+(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى 32/154_155، وانظر 32/151_163.
(2) المغني 9/485.
(3) البخاري (5152).(1/42)
هذا وقد بوب البخاري×في صحيحه بابا قال فيه : =باب الشروط التي لاتحل في النكاح، وقال ابن مسعود : لا تشترط المرأة طلاق أختها+(1).
ثم ساق حديث أبي هريرة ÷.
32_ التحرج من رؤية المخطوبة :
فمن الناس من يتحرج كثيراً في مسألة النظر إلى المخطوبة؛ فإذا أراد الزواج، وتقدم لخطبة امرأة تحرج من إبداء رؤية المخطوبة؛ لظنه أن ذلك عيب.
وبعض الأولياء إذا طلب منه الخاطب رؤيةَ المخطوبة غضب أشد الغضب، وربما وصف الخاطب بالصفاقة وقلة الحياء، وربما عد رفضه من جملة المناقب التي يفاخر بها.
فهذا المظهر دليل جهل تعاني منه بعض المجتمعات الإسلامية؛ حيث تتشدد بعض الأسر في رؤية المخطوبة، فلا تجيز ذلك إلا ليلة الزواج، فيقدم الزوج على شبه المجهول، وربما وقع ضحية لمبالغة في وصف المخطوبة، فوضع في ذهنه صورة مغرقة في الخيال، فإذا دخل ورأى ما رأى هاله المنظر، وكذب الخُبْرُ الخََبَرَ.
وكم من خاطب تقدم لخطبة فتاة دون أن يراها، فلما دخل بها فوجئ بما لم يكن في حسبانه، فوقع الطلاق.
وربما كان ذلك في صبيحة ليلة الزواج، وربما وقع الطلاق بعد يومين، وربما جامل مدة من الزمن ثم لم يعد يطيق الصبر.
ولا يلزم من ذلك أن تكون الفتاة دميمة أو غير مقبولة، بل قد تُرفض وهي على درجة من الجمال.
وإنما يروق لفلان مالا يروق لفلان، ولولا اختلاف الأذواق لكسدت السلع في الأسواق، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
ومن هنا يتبين لنا وجه الخطأ من التحرج في رؤية المخطوبة.
بل إن هناك ملمحاً آخر، وحكمة أخرى لا يفطن لها كثير من الناس، وهي أن المرأة قد لا يروقها الخاطب، فلها أن تمانع في قبوله؛ فليست مصلحة النظر مقتصرة على الخاطب، بل هي متعدية للمخطوبة [ولهن مثل الذي عليهن] (البقرة:228)(2).
إن التوافق سبب لنجاح الزواج، ودوام الألفة، والعكس بالعكس.
__________
(1) فتح الباري 9/126.
(2) انظر مسؤولية الأسرة تجاه الخاطب ص41_42.(1/43)
ولهذا جاء الشرع المطهر الحكيم بمشروعية الرؤية، وجاءت العلة لذلك أنها أحرى لدوام العشرة.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة ÷ قال:=كنت عند رسول الله"فأتاه رجل، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله":=هل نَظَرْت إليها؟ قال : فأذهب فأنظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً+(1).
قال قد نظرت إليها+(2).
وعن جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما _ قال : قال =رسول الله": =إذا خطب أحدكم فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل+.
فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها وتزوَُجها، فتزوجتها+(3).
وروى الترمذي في سنته عن الغيرة بن شعبة ÷أنه خطب امرأة فقال له النبي": =انظر إليها، فأنه أحرى أن يؤدم بينكما+.
قال الترمذي : =ومعنى=أحرى أن يؤدم بينكما+: أحرى أن تدوم المودة بينكما+(4).
وهذه الأحاديث تدل على استحباب النظر إلى المخطوبة، فالرسول "أمر في تلك الأحاديث بالنظر إلى من يريد الرجل خطبتها، وعلل ذلك _ صلوات الله وسلامه عليه _ بقوله : =فإنه أحرى أن يؤدم بينكما+.
والمراد أن الذي يقدم على الزواج وقد رأى المخطوبة، واستراحت نفسه إلى الإقدام على الزواج منها _ حري أن تدوم العشرة بينه وبينها.
وهذا أولى من أن يراها بعد أن يعقد عقدة عليها، فيفاجأ بأنها غير مناسبة له، فتجفوها نفسه؛ فترك الخطبة _ والحالة هذه _ أهون عليه وعليها وعلى أهلهما من تطليقها بعد زواجه منها(5).
__________
(1) قيل: المراد صِغَر، وقيل زرقة: انظر صحيح مسلم بشرح النووي 9/553.
(2) مسلم (1424).
(3) رواه أبو داود في سننه(2082)، وقال ابن حجر في بلغوم المرام (916):=رجاله ثقات+.
(4) الترمذي (3087) وقال: =هذا حديث حسن+.
(5) انظر أحكام الزواج ص51.(1/44)
قال ولي الله الدهلوي×: =والسبب في استحباب النظر إلى المخطوبة أن يكون الزوج على روية، وأن يكون أبعد من الندم الذي يلزمه إن يكون الزوج على رَويَّة، وأن يكون أبعد من الندم الذي يلزمه إن اقتحم في النكاح ولم يوافقه فلم يُردْه، وأسهل للتلافي إن رد، وأن يكون تزوجهما على شوق ونشاط إن وافقه.
والرجل الحكيم لا يلج مولجاً حتى يتبين خيره وشره قَبْلَ وُلُوجه+(1).
وعبارات أهل العلم الذين بينوا حكم الرؤية دائرة بين الإباحة والاستحباب.
يقول النووي ×: =وإذا رغب في نكاحها استحب له أن ينظر إليها؛ لئلا يندم، وفي وجه لا يستحب هذا النظر بل هو مباح، والصحيح الأول، للأحاديث+(2).
وقال المرادي الحنبلي ×:=يجوز النظر إلى المخطوبة وهذا هو المذهب، وقيل : يستحب،وهذا هو الصواب+(3).
وان لم ينظر إليها فلا خلاف بين العلماء في صحة الزواج؛ فان النظر مباح أو مسنون،ولم يقل أحد بوجوبه (4).
ومما يحسن التنبيه عليه في مسألة النظر ما يلي :
أ_ نظر المخطوبة إلى الخاطب : نص الفقهاء إلى انه يندب للمرآة أن تنظر إلى من تقدم لخطبتها؛ فانه يعجبها منه ما يعجبه منها(5).
والمصلحة المرادة من النظر _وهي دوام الألفة _ تتحقق بنظر المرآة كما تتحقق بنظر الرجل؛ فان المرآة إذا لم تر الرجل إلا بعد الزواج قد تكرهه بمجرد رؤيته، فيلحقها، ويلحق الزوج عنت ومشقه كان يمكن تلافيها، وذلك برد الخاطب من أول الأمر.
وهذا يوفر الأموال، ويحفظ المشاعر من الآلام، نتيجة الفراق بعد العقد أو الدخول.
ويمكن أن يقال بان الشارع لم يوجه المرآة إلى النظر إلى الرجل لان الرجال ظاهرون بارزون في المجتمع، لا يخفون كما تخفى النساء.
__________
(1) حجة الله البالغة للدهلوي 2/124.
(2) روضة الطالبين 7/20.
(3) الإنصاف للمرداوي 8/16_17.
(4) انظر أحكام الزواج ص53.
(5) انظر كفاية الأخيار 2/84، وروضة الطالبين 7/2، ومغني المحتاج 3/128.(1/45)
وبذلك تستطيع المرآة _ إن شاءت _إن تنظر إلى الرجل بيسر وسهولة إذا تقدم لخطبتها(1).
ب_ هل يلزم استئذان المخطوبة بالنظر إليها؟: الأصل أن يستأذن الخاطب المخطوبة أو أهلها عندما يرغب رؤيتها.
ولكن الفتاة غير ملزمة لمقابلته لينظر إليها.
وقد أجاز أهل العلم للخاطب أن ينظر إليها من غير أن تعلم أو تأذن.
وهذا ما دل عليه حديث جابر ÷.
قال ابن حجر_رحمه الله _ =قال الجمهور : يجوز أن ينظر إليها إذا أراد ذلك بغير أذنها+(2)
بل أن بعض الفقهاء يرى انه يسن النظر إلى المخطوبة، وان لم تأذن هي ولا وليها، وعلل ذلك بأمرين :
الأول : أن الشارع أذن بالنظر من غير إذنها.
والثاني : الخوف من أن تتزين أن علمت انه سوف ينظر إليها، فيفوت غرضه من النظر وهو رؤيتها على طبيعتها(3).
بل وان هناك مصلحه أخرى وهي أن لا تنكسر نفسها إذا لم يقبلها؛ إذ يمكن أن يقال لها : إنه عدل عن الزواج، أو نحو ذلك من الاعتذارات التي لا تجرح شعورها.
قال النووي _ رحمه الله _=ثم مذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد، والجمهور انه لا يشترط في جواز هذا النظر رضاها، بل له ذلك في غفلتها، ومِنْ غير تقدم إعلام، لكن قال مالك : أكره نظرة في غفلتها؛ مخافةً وقوع نظرة على عوره، وعن مالك رواية ضعيفة أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها، وهذا ضعيف؛ لأن النبي"قد أذن في ذلك مطلقاً، ولم يشترط استئذانها، ولأنها تستحي غالبا من الإذن ولأن في ذلك تغريراً فربما رآها فلم تعجبه، فيتركها، فتنكسر وتتأذى+(4)
ومن الطرق التي تجدي في مسالة النظر إذا مانعت المرأة أن يتخبأ لها كما صنع جابر÷.
ومنها أن يأتي وليها بالخاطب، ويكون هو وإياه في مكان ما في البيت إما في سطح المنزل، أو من خلال نافذة إحدى الغرف، فإذا مرت المرأة اطلعه عليها، إلى غير ذلك من الطرق.
__________
(1) انظر أحكام الزواج ص60.
(2) فتح الباري 9/182.
(3) انظر مغني المحتاج 3/128.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 9/553.(1/46)
ج_ ما وقت النظر إلى المخطوبة؟ : والجواب عن ذلك أن أهل العلم قد اختلفوا في الوقت الذي يحل للخاطب فيه النظر إلى المخطوبة، فقيل : حين تأذن المخطوبة في عقد النكاح.
وقيل : عند ركون كل واحد منهما إلى صاحبه، وذلك حين تحرم الخطبة على الخطبة(1).
والصحيح _إن شاء الله _أن وقت النظر يكون قبل الخطبة، وبعد العزم على النكاح، لأنه قبل العزم لا حاجة له على النظر، وبعد الخطبة قد يفضي الحال إلى الترك فيشق عليها.
وهذا ما رجحه النووي، والشربيني، وصاحب كفاية الأخيار(2).
د_ ما حدود النظر؟ أما حدود ما ينظر من المخطوبة فلا يختلف العلماء القائلون بإباحة النظر أو استحبابه أنه يجوز النظر إلى الوجه والكفين.
قال الشربيني : =الحكمة من الاقتصار على الوجه والكفين أن في الوجه ما يستدل به على الجمال، وفي اليدين ما يستدل به على خِصَب البدن+(3).
وهناك من قال : ينظر إلى الرقبة والساقين(4).
وهناك من قال : ينظر إليها كلها(5).
والقول الراجح هو قول قصر النظر على الوجه والكفين.
قال النووي×=وقال داود : ينظر إلى جميع بدنها، وهذا خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع+(6).
يقول الدكتور عمر الأشقر _ حفظه الله _ =والقول الذي نرجحه قول من قصر النظر على الوجه والكفين، فالنظر إلى الوجه هو الذي يعطي الناظر انطباعاَ بالموافقة أو الرفض، ولا يكاد أحد يطيق نقل هذا الانطباع بطريق الوصف.
أما غير ذلك من الأوصاف فيمكن أن يستفسر عنها، وتنقلها له أمه أو أخته.
__________
(1) انظر روضة الطالبين 7/20، وكفاية الأخيار 2/85.
(2) انظر روضة الطالبين 7/20، وصحيح مسلم بشرح النووي 9/553، ومغني المحتاج 3/148، وكفاية الأخيار 2/85، وأحكام الزواج ص58_59.
(3) مغني المحتاج 3/128، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي 9/552_553.
(4) انظر الإنصاف 8/18، والمغني 7/454.
(5) انظر فتح الباري 9/182.
(6) صحيح مسلم بشرح النووي 9/553.(1/47)
ويدلنا على صحة هذا القول أن الناظر وإن كان مأموراً بالنظر _ إلا أنه لم يأت نص يبيح للمرأة المخطوبة أن تخلع لباسها للخاطب+(1).
إلى أن قال : =ومراد الذين قالوا بجواز النظر إلى جميع الجسد أي في حال نظر الخاطب إليها وهي لا تعلم بذلك، فأنه يبعد أن يجيز عالم للمرأة أن تتعرى للخاطب كي ينظر إليها، فأن وجد من يقول بذلك فإن قوله مردود عليه، غير مقبول منه+(2).
أما حدود نظر المخطوبة للخاطب فقد اختلف فيه أهل العلم، والصواب أنه إذا وقع نظرها على أكثر من الوجه والكفين لم يحرم، فعورة الرجل ما بين السرة والركبة(3).
والخلاصة أن النظر مهم، وأدعى لتوافق الزوجين، وليس معنى هذا أن الإخفاق هو مصير الزواج الذي لا يحصل قبله النظر، ولكن ذلك سبب من الأسباب، والإنسان مأمور بفعل السبب، والله وحده هو الموفق.
33_ التحرج من العدول عن الخطبة بعد الرؤية :
فمن الناس من يتحرج شديداً من العدول عن الخطبة بعد الرؤية، فتراه يضيق إذا لم ير ما يناسبه، ويتحرج من العدول عن الخطبة، وربما جامل وقبل على مضض.
والواقع أن هذا أمر يسير، فلا يحسن بالمرء أن يهلك نفسه أسفاً كما ينبغي أن لا يعظم في نفس المخطوبة أن يعدل الخاطب عنها، فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم.
ومثل ذلك يقال للخاطب إن لم تقبل به المخطوبة.
ومما يعين على السلامة من العدول عن الخطبة بعد الرؤية أن يتحرى الخاطب في السؤال، وأن يستخير، وألا يقدم إلا وهو مطمئن من الإقدام.
34_ إخبار الخاطب بوصف المخطوبة وعيوبها إذا لم يكتب زواج :
__________
(1) أحكام الزواج ص54.
(2) أحكام الزواج ص55 وانظر شرح الزركشي على مختصر الخرقي 5/143_146.
(3) انظر كفاية الأخيار 2/84، وروضة الطالبين 7/2، ومغني المحتاج 3/128 وأحكام الزواج ص60.(1/48)
فإذا نظر الخاطب إلى المخطوبة، فلم تقع في نفسه، ولم تنل إعجابه _ فينبغي أن يسكت، ولا يجوز له أن يذيع ما يسوؤها وأهلها، فربما أعجب غيره ما لم يعجبه، فقد لا تروقه بعض الصفات التي قد تروق غيره.
بل قد قرر بعض أهل العلم أنه لا ينبغي له أن يقول : لا أريدها، لأن في ذلك إيذاءً لها(1).
وكما لا ينبغي ذلك للخاطب، فكذلك لا ينبغي للمخطوبة أن تذكر الخاطب بسوء إذا لم تقبل به.
ومن هنا يتبين لنا خطأ بعض الناس سواء الخاطب، أو المخطوبة، أو أهلهما، فإذا لم يحصل موافقة من أحد الطرفين بدأ بذكر مساوئ الآخر، والتحذير والتنفير منه.
35_ المبالغة في مدح المخطوبة إذا تعذرت رؤية الخاطب :
فمن الأخطاء في باب الزواج أن يُبَالَغ في مدح المخطوبة إذا تعذرت رؤية الخاطب؛ فقد مر بنا أن الرؤية مباحة أو مستحبة، وليست واجبة.
فإذا تعذرت الرؤية فللخاطب أن يوكل غيره في النظر إلى المخطوبة، وذلك بان يوصي بعض قريباته في النظر إلى المخطوبة وإعطائه نبذة عن مواصفاتها.
ولكن يحسن به ألا يوكل إلا عاقلة متزنة؛ كي تعطيه الوصف بلا وكس ولا شطط؛ لأن من النساء من تبالغ في وصف المخطوبة مبالغة خارجة عن طورها، فإذا دخل الخاطب بالمخطوبة فوجئ بأن الأمر على خلاف ما ذكر؛ ولهذا ينبغي الحرص على اختيار العاقلة الموثوقة في مسألة الرؤية، أو العاقل المنصف من محارمها.
كما ينبغي لمن وكِّل في مسألة النظر أن يصور الحقيقة كما هي، حتى لا يجني على أحد من الطرفين.
قال النووي×: =وإذا لم يمكنه النظر أستحب له أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليه، وتخبره، ويكون ذلك قبل الخطبة+(2).
36_ الخلوة بالمخطوبة والخروج بها :
__________
(1) انظر مغني المحتاج 2/85، وروضة الطالبين 7/21.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 9/553.(1/49)
فكما أن هناك أسراً تتشدد في مسألة الرؤية، وترى أنها عيب وعار _ فهناك أسر على النقيض من ذلك تماماً، حيث تبيح للخاطب أن يخلو بمخطوبته، وتسمح له بمرافقتها في الأماكن العامة.
ولا ريب أن هذا حرام قد نهى عنه الشرع المطهر.
قال النبي":=لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما+(1).
=ولا يجوز للخاطب الخلوة بالمخطوبة؛ لأنها محرمة، ولم يَرِيد الشرع بغير النظر، فبقيت الخلوة على التحريم، ولأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور+(2).
ثم أن في ذلك إضراراً بالفتاة؛ وذلك لأن فترة الخطبة لا تُرتِّب على الخاطب أي التزام، فيستطيع أن ينسحب في أي وقت دون أن يُطالَب بشيء، وبعد ذلك يترك سمعة الفتاة تلوكها الألسنة، مما يترك أسوأ الأثر في حياتها ومسيرة مستقبلها؛ إذا لا يرغب خاطب آخر أن يتقدم لخطبة فتاة خلت بإنسان، وخرجت معه أمام أعين الناس.
ويزعم الذين انحرف بهم المسار عن دين الله أن خروج الخاطب مع مخطوبته، وخلوته بها أثناء فترة الخطوبة، بل وسفره معها _ أمر لابد من لأنه يؤدي إلى تقارب وجهات النظر، وتَعَرٌّف كل من الطرفين على صاحبه عن كثب.
و لا ريب أن هذا وهم كاذب، وسراب خادع، يؤدي إلى عواقب وخيمة.
ومن نظر في مسيرة الغرب ومن سار في ركابه في هذه المسألة _ يجد أن سبيلهم هذا لم يؤدِّ إلى التعارف والتآلف، بل كثيراً ما يهجر الخاطب مخطوبته بعد أن يفقدها شرفها، وربما أودع في رحمها جنيناً تشقى به وحدها، وقد ترميه من غير رحمة؛ حفاظاً على سمعتها.
__________
(1) أخرجه أحمد 1/18 و 3/446، والترمذي (2165) وقال: =هذا حديث حسن صحيح غريب+.
(2) المغني 9/490.(1/50)
ثم أن الذين توصلهم الخطبة إلى الزواج لا يصلون إلى ما يريدون من معرفة الطباع اللازمة لبعض؛ فكثيراً ما يكتشف كل واحد من الزوجين أن تلك الخطبة الطويلة لم تظهر له الطرف الآخر على حقيقته؛ ذلك أن كُلاً منهما يتكلف غير طباعه أثناء تلك الفترة؛ غذ هي فترة المثيل، والتجمل، والتصنع؛ حيث يحرص كل واحد منهما على الظهور بالمظهر اللائق أمام الآخر، مع حرص شديد على إخفاء كل عيب و نقيصة، سواء في الخَلْق؛ فإذا تم الزواج ظهر كُّل على حقيقته.
ومن يبتدع خُلْقاً سوى خُلْقِ نفسه ... يَدَعْهُ وتُرْجِعْهُ إليه الرواجعُ
وبذلك يصاب كثير من الأزواج بخيبة الأمل؛ حيث يشعر أن الطرف الآخر قد دَلَّسَ عليه(1)
__________
(1) وإليك بعض الأمثلة لما قاله بعض المشاهير من الممثلين والممثلات قبل زواجهم، ثم ما قالوه بعد زواجهم، وهؤلاء من المشاهير في الغرب، وإنما ذكرت هؤلاء؛ لأن نفراً من بني جلدتنا لا يقع الدليل موقعه عندهم إلا إذا كان من شهادات الغرب أنفسهم.
1_ قالت إليزابيث تايلور عن زوجها الأول كونراد هيلتون قبل الزواج: إنه يفهمني كامرأة، ويفهمني _أيضاً_ كممثلة.
وقالت بعد الزواج: بعد أن تزوجت سقطت من سمائي الوردية بشدةٍ، لقد فقدت بعض وزني، ولم آعد آكل إلا طعام الأطفال.
2_ قالت انغريد بيرغمان قبل زواجها من زوجها الثاني روبرتو دسيليني: نحن نحب بعضنل بجنون، إنه رجل حيوي ويجعلني أحب الزواج.
وبعد الزواج قالت: أنا وروبرتو في الواقع مختلفان جداً.
3_ قالت مارلين مونرو قبل زواجها من زوجها الثاني جوديما غيمو: إن عمله كرجل رائع ومثير.
وقالت بعد الزواج: كل ما يفعله هو مشاهدة رعاة البقر في التلفزيون.
4_ قالت بريجيت باردو عن زوجها الثاني جاك شارييه: أحبه كثيراً لدرجة أنني أحس أن ألمه هو ألمي.
وبعد الطلاق قالت: كان مشكلة كبرى في حياتي.
5_ وقالت ريتا هيوراث عن زوجها الرابع ديك هايمز: سوف أتبعه إلى أي مكان في العالم.
وقالت بعد الزواج: لست أدري أين هو، ولست أبالي أين يكون!
انظر جريدة القبس، ملحق العدد 5613، ومن أجل تحرير حقيقي للمرأة للأستاذ محمد رشيد العويد، ص109_112.(1/51)
.
ثم إن الخاطب في تلك الفترة الطويلة قد يمل مخطوبته، وربما تاقت نفسه إلى غيرها قبل أن يعزم عقد النكاح، فيدع مخطوبته بعد تلك الفترة.
ومن هناك لنا وجه الخطأ في خلوة الخاطب بمخطوبته، وخروجه معها ويتبين _ أيضاً _عظمه الإسلام في هذا الشان؛ حيث اتخذ موقفاً حكيماً وسطأً يحقق الخير للطرفين دون أن يلحق ضرراً أو أذىً بأي منهما؛ فأباح للخاطبين أن يرى كل منهما الأخر ضمن ضوابط تصون سمعة الفتاة، وتسمح للخاطب أن يتقدم وهو على بينةٍ من أمره.
ثم إن الكشف عن أخلاق الطرف الأخر يمكن التعرف عليها ممن جاور الفتاة، وأهلها، أو عرفهم عن طريق الصداقة أو القرابة(1).
37_ المغالاة في المهور :
فغلاء المهور من قواصم الظهور، تلك المصيبة التي أكثرت العوانس في البيوت، وأكثرت شباباً عزاباً من المسلمين؛ فغلاء المهور حجر عثرة في طريق الزواج.
وكم من عانس جلست عالة على أهلها تعاني الأمَرَّين، والسبب أن والدها فرض شروطا مالية هي أشبه بالآصار والأغلال؛ حيث جعل ابنته سلعة تجارية، وميدانا للتفاخر والمزايدات.
ولئن سالت كثير من العزاب : لم لا تتزوجون؟ ليقولن : كيف نتزوج من هذه الشروط المرهقة، التي تجلب الإفلاس على الأغنياء، فكيف بالفقراء من أمثالنا؟
وإن كثر من هؤلاء لصادق، وإن عذرهم لَبينِّ، ولا وملامة عليهم بذلك.
وإنما اللوم على هؤلاء الذين حكَّموا العوائد، ونبذوا هداية الدين، وإرشادات العقل، وشهادة الواقع.
ولو أننا وقفنا عند حدود الله، واتبعنا ما كان عليه سلفنا الصالح، ويسرنا ما عسَّرته العوائد في أمور الزواج لما وقعنا في المشكلة.
لكننا عسَّرنا اليسير، وحُكَّمنا العوائد في مسألة مهمة كهذه، فأصبح الزواج الذي جعله الله سكناً وألفة ورحمة _ سبيلاً للقلق، والبلاء والشقاء.
__________
(1) انظر الطلاق والعدة بين التشريع والواقع لمحمود إبراهيم بزال ص16_19، وأحكام الزواج ص58.(1/52)
وأصبح اللقاء الذي جعله الله عمارة بيت، وبناء أسرة سبباً لخراب بيت الزوجية؛ بما فرضته العوائد من مغالاة في المهور، وتفنن في النفقات و المغارم(1).
ولهذا كثر الإعراض عن الزواج، وآثر كثير من الشباب الزواج من الخارج؛ رغبة في يسر المؤونة، وقلة الكلفة، بدلاً من الانتظار الطويل لجمع مال كثير ينفق في ليلة أو بضع ليال(2).
ثم بعد ذلك يتحمل الزوج الديون الثقيلة، التي تكبر همومها مع الأيام، أو يتحمل المنة إذا كان المدين فرداً يصدع قناة عزته، أو يتحمل معاناة التسديد للأقساط لشهور طويلة، أو سنوات عديدة كحال من يشتري سيارة بالتقسيط ثم يبيعها نقداً بسعر أقل، إلى غير ذلك مما يثقل كاهل الزوج و وينعكس على الحياة الزوجية؛ إذ يعيش الزوج في نكد وكدر.
ولو قارنا بين فعل كثير من الناس اليوم، وبين هدي الإسلام وسير السلف الصالح في هذا الأمر _ لوجدن البون شاسعاً، والشقة بعيدة؛ فبينما هدي الإسلام وسير السلف يناديان بالقصر بالمهور _ إذا كثير من المسلمين بخلاف ذلك والله المستعان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =وقد كان السلف الصالح الطيب يرخصون الصداق، فتزوج عبدالرحمن بن عوف في عهد رسول الله "على وزن نواة من ذهب، قالوا : وزنها ثلاث دراهم وثلث، وزوج سعيد بن المسيب ابنته على درهمين وهي من أفضل أيِّم من قريش بعد أن خطبها الخليفة لابنه فأبى أن يزوجها+(3).
وقال الشافعي× : =والقصد في المهر أحب إلينا، وأستحب ألا يُزاد في المهر على ما أصدق رسول الله "به نساءه وبناته وذلك خمسمائة درهم+(4).
__________
(1) انظر عيون البصائر ص324_325.
(2) انظر تأخير سن الزواج ص73_74.
(3) مجموع الفتاوى 32/194_195.
(4) الأم للشافعي 5/163.(1/53)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية×:=والمستحب في الصداق مع القدرة واليسار أن يكون جميع عاجله وآجله لا يزيد على مهر أزواج النبي"ولا بناته، وكان ما بين أربعمائة إلى خمسمائة بالدراهم الخالصة نحواً من تسعة عشر ديناراً؛ فهذه سنة رسول الله "+(1).
وعن أبي سلمة بن عبدالرحمن انه قال : =سألت عائشة _ رضي الله عنها _ : كم كان صداق رسول الله "؟
قالت كان صداقة لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونَشَّاً، قالت أتدري ما النَشُّ؟
قلت : لا، قالت : نصف أوقية؛ فتلك خمسمائة درهم+(2).
وعن أبي عجفاء السلمي قال :=خطبنا عمر يوماً فقال : =ألا لا تغالوا في صَدُُاقات النساء؛ فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا وتقوى عند الله كان أولاكم بها رسول الله "ما أصدق رسول الله "امرأة من نسائه، ولا أُصدِقتْ امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية+(3).
وعن عبدالله بن عباس _رضي الله عنهما _ قال :=لما تزوج على بفاطمة _ رضي الله عنهما_وأراد أن يدخل بها قال له رسول الله": =أعطها شيئاً+.
قال : ما عندي شي، قال =أين دِرْعُك الحُطَمية؟ (4)+ فأعطاها درعه+(5).
ولقد غضب رسول الله "من كثرة المهر، فقد جاء رجل من الصحابة يستعينه، فقال رسول الله": =على كم تزوجتها؟ =قال : على أربع أواق.
__________
(1) مجموع الفتاوى 32/194.
(2) رواه مسلم (1426)، وأبو داود(2105).
(3) رواه أبو داود(2106)، والترمذي(1114) وصححه، والنسائي 6/117_118، وابن ماجه (1887)، والبيهقي 7/234 والحاكم 2/175، وصححه ووافقه الذهبي، وابن حبان (1259) والدارمي 4/141، وصححه الألباني في الإرواء 6/347.
(4) الحطية: درع تكسير السيوف، وقيل: العريضة الثقيلة، وقيل: إنها منسوبة إلى بطن من عبدالقيس يقال له: حُطمة بن محارب، كانوا يعملون الدروع.
(5) رواه أبو داود (2125) و (2127)، والنسائي 6/129_130، واليهقي 7/252، والطبراني في الكبير 11/355، وابن أبي شيبة في المصنف 4/199.(1/54)
فقال له النبي": =على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض الجبل، ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه+(1).
هكذا كانت سيرة السلف الصالح_ رضي الله عنهم _ في شأن المهر، ثم خاف من بعدهم خَاْف سيطر على أفكارهم النظرة التجارية، فتراهم يغالون في المهور، ويتنافسون في ذلك ويتفاخرون(2).
38_ المبالغة في تكاليف الزواج :
وهذه _ في الحقيقة _ مهر آخر، ونفقات ثقيلة، يعجز عن تحملها الخاطب في كثير من الأحيان، وهي من الأعراف الاجتماعية المستحكمة التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وإنما هي إسراف وبطر؛ فمن مظاهر ذلك ما يلى :
أ _ المبالغة في الهدايا : فهناك هدايا الخطبة، وهدايا المواسم، وهدايا صبيحة العرس، وهدايا لإخوان الزوجة، وأم الزوجة، ووالد الزوجة وربما أقاربها، وربما شملت المدعوين إلى غير ذلك من الهدايا التي تثقل كاهل الخاطب.
إن الإسلام لم يشرع في نفقات العقد والزفاف سوى المهر للمرأة، والوليمة للعرس، وإكرام الضيف بما يناسب الحال.
أما ما عداها من هدايا ونفقات وتكاليف فإنها ليست على سبيل الفرض والحتم، وليست من شروط العقد والنكاح في شئ، وأما تعُود إلى حرية الخاطب ويُسْره المالي؛ فإن فعل فلا حرج، وإن ترك فلا تثريب، على ألا يبلغ به الحال حد السرف، والتظاهر بمظهر التفاخر والتباهي(3).
ب_ المباهاة في بطاقات الدعوة : فمن الناس من لا يهدف من ورائها إعلام الناس بإن هناك زواجاً سوف يقام، وأنما أصبحت مجالاً للمباهاة والتفاخر حيث تكلف البطاقة الواحدة عشرة ريالات، أو خمسة عشر ريالاً؛ لما لها من أشكال غريبة، أو زخارف متنوعة، وربما وضع فيها بعض الحلوى؛ فَتَفْتَح بذلك باباً من الشر على الضعفاء والمساكين، حيث تَكْسِرُ قلوبهم، وتورثهم الحسرة.
__________
(1) رواه مسلم (1424).
(2) انظر عودة الحجاب د. محمد بن أحمد بن إسماعيل 2/209.
(3) انظر عقبات في طريق الزواج ص53_57.(1/55)
ج_ إقامة الأفراح في الفنادق والصالات : ولو كان من ذلك أن البيت لا يتسع لهذه الوليمة لربما هان الطب.
ولكن الأمر أصبح مجالاً للتفاخر من حيث غلاء الصالة أو ذلك الفندق، وما يقدم من خدمات راقية، وأصبحنا نسمع أن هناك من يدفع الخمسين ألفاً وربما مائة ألفٍ في الليلة الواحدة.
ولو كان ذلك في المنزل واقْتُصِر على الأقارب أو خاصة الأقارب لكان أرضى لله، اسلم عاقبة.
ثم إن كان هناك من حاجة لصالات الأفراح فليكن في مكان متواضع يفي بالغرض بعيداً عن السرف والبطر.
د_ طرحة العروس : وهي ما تلبسه العروس ليلة الزفاف، حيث تنفق الأموال الطائلة على الطرحة، وما هي إلا لبسة واحدة في ليلة واحدة.
وإذا أشير على بعضهن أن تستعير ملابس أختها شمخت بأنفها، وقالت كيف ألبس ما قد استعمل من قبل؟!
هـ _ ملابس الحاضرات : وهذه إحدى الفواقر، فلا يخفى ما ينفق من أموال طائلة على مثل هذه الملابس ح وذلك أن المرأة تستنكف أن تلبس ما قد لبسته من قبل؛ بحجة أن الناس رأوها بذلك اللباس، فتراها تلبس لكل مناسبة لباساً جديداً هي وبناتها.
ولو قمت بعملية حسابية لِمَا تبلغ تلك التكاليف لهالك الأمر واستهوتك أحزان.
و _ التبذير في الأطعمة والوجبات : فاللحوم، والأرز، والفواكه، والمشروبات والحلوى و والورود وغير ذلك مما يراد به البطر، ومما يكون مصيره صناديق القمامة و فيكون صاحب الوليمة مذمة للعقلاء من الناس.
بل إن الوجبات تتعدد؛ فبدلاً من أن يكتفي بوجبة واحدة إذا هي تكون عدة وجبات وفي أيام متفرقة.
ز _ جلب المغنين والمغنيات : حيث يؤتى بهؤلاء مقابل مبالغ طائلة، فيجتمع إلى الإسراف ارتكاب ما حرَّم الله من الغناء الماجن الذي يغري بالرذيلة، ويزري بالفضيلة.
لا بأس بإظهار الفرح، وضرب الدف للنساء.(1/56)
أما ما يحصل في بعض الأفراح من الغناء المحََّرم، وما يكون من اختلاط بين الرجال والنساء فليس من الإسلام في شيء(1).
كذلك ما يكون من رقص النساء، حيث تقوم الواحدة تختال كبراً وخيلاء، وربما قلدت الكافرات والعاهرات في أساليب الرقص شرقيِّه وغربيِّه؛ فأن كان رقصها رائقاً فقد تصاب بعين، وإن كان خلاف ذلك سلقها الحضور بألسنة حداد داخل الحفل وخارجه؛ فهل هذا مما تمدح بها المرأة؟ وهل هذا مما يرفع من قدرها؟ لا؛ وألف لا؛ وإنما مقدارها وزينتها وجمالها وكمالها بحيائها، ورجاحة عقلها، وسجاحة خلقها.
هذه بعض مظاهر السرف والمبالغة في تكاليف الزواج، وأن تبعهَّ كبيرة تقع على الموسرين والوجهاء؛ فهم من أولى الناس بأن يقتدى بهم في الاقتصاد؛ فما بال بعضهم ينفق في سبيل لذاته ومباهاته ولا يبالي؟ وإذا طلب منه بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه؟!
وإذا كان الموسر الذي يسرف في الزينة والملاذِّ موضع الملامة _فأولى باللوم والموعظة ذلك الذي يتكلف للملابس النفيسة، والمطاعم الفاخرة، والمظاهر البراقة، ويأتيها من طريق الاقتراض؛ فأن الهم والذل الذينِ يجرهما الدَّينُ يقلبان كلَّ صفوٍ إلى كدر و وكل لذة إلى مرارة.
وإنما رجل الدنيا وواحدها من تكون همته وإرادته فوق عواطفه وشهوته؛ فإذا نزعت نفسه إلى زينة أو لذة لا ينالها إلا أن يبذل شيئاً من كرامته _ راضها بالحكمة و وقدها بالقناعة، وأراها أن مثقال ذرَّةٍ من الكرامة يرجع بالقناطير المقنطرة من زينة هذه الحياة الدنيا.
والخلاصة أن الإسلام جرى بالنفوس في الاستمتاع بالزينة والملاذ في طريق وسط، فدل على أنه الدين الذي يهدي إلى السعادة الأخرى، ويرضى لأوليائه أن يعيشوا عيشاً طيباً في الحياة الدنيا(2).
39_ ترك إجابة دعوة الوليمة بلا سبب :
__________
(1) انظر في صالة الأفراح، لصالح بن علي السلطان.
(2) انظر محاضرات إسلامية لمحمد الخضر حسين ص 104_105 و110.(1/57)
الوليمة اسم لطعام العرس خاصة وقيل : تقع على كل طعامٍ لسرور حادث، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر(1).
قال ابن حجر×: =وجزم المازري ثم القرطبي بأنها لا تطلق في غير طعام العرس إلا بقرينة+(2).
قال الزركشي×: =قال السامري : سميت دعوة العرس وليمة؛ لاجتماع الزوجين، ووليمة الشيء كماله وجمعه والله أعلم+(3).
فالوليمة _ إذاً _ هي طعام العرس، والدعوة إليها دعوة إلى طعام العرس، وإجابة دعوة الوليمة سنة مأمور بها كما سيأتي.
إلا أن من الناس من لا يعتد بإجابة دعوة الوليمة؛ فقد يتزوج قريبه، أو جاره، أو صديقه، أو أحد معارفه، فُيدعى إلى الوليمة، فلا يجيب الدعوة مع أنه لا مانع لديه من الإجابة.
وهذا مخالف للسنة؛ إذ فيه كسر لقلب الداعي، وإشعار له بقلة قيمته.
وذلك مما يوهي عرى الأخوة، ويورث العداوة والنفرة.
ولهذا جاءت السنة المطهرة بالأمر في إجابة دعوة الوليمة، ولا خلاف بين العلماء في مشروعية إجابة تلك الدعوة، وإنما اختلفوا ك هل هي واجبة أو مستحبة.
وروى الإمام مسلم×في صحيحه عن نافع عن ابن عمر_ رضي الله عنهما _ أن النبي "قال : =إذا دعي أحدكم إلى وليمة العرس فليجب+(4).
وعن أبي هريرة ÷قال : قال رسول الله"=إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فَََََلْيُصَلِّ(5), وإن كان مفطراً فَلْيَطعم+(6).
قال ابن تيمية رحمه الله : =وأما وليمة العرس فهي سنة، والإجابة إليها مأمور بها+(7).
وقال الخرقي×: =وعلى من دعي أن يجيب+(8).
قال الزركشي في شرحه على الخرقي : =يعني وليمة العرس، وهذا هو المذهب المعروف في الجملة، وهو قول عامة العلماء+(9).
__________
(1) انظر شرح الزركشي على الخرقي 5/327،وفتح الباري 10/149.
(2) فتح الباري 10/149.
(3) شرح الزركشي 5/327.
(4) مسلم (1429).
(5) فليصلِّ: أي يدعو.
(6) رواه مسلم (1431).
(7) مجموع الفتاوى 32/206.
(8) شرح الزركشي على الخرقي 5/528.
(9) المرجع السابق.(1/58)
وقال ابن قدامة×: =قال ابن عبدالبر لا خلاف في وجوب الإجابة إلى وليمة العرس إذا دعي إليها إذا لم يكن فيها لهو، وبه يقول مالك، والثوري، والشافعي, والعنبري، وأبو حنيفة، وأصحابه.
ومن أصحاب الشافعي من قال : هي فروض الكفايات، لأن الإجابة؛ إكرام وموالاة، فهي كرد السلام+(1).
وقال النووي _ رحمه الله : =ولا خلاف في أنه مأمور به، ولكن هل هو أمر إيجابي أو ندب؟ فيه خلاف، الأصح في مذهبنا أنه فرض عين لكل من دعي، ولكن يسقط بأعذار سنذكرها إن شاء الله _.
و الثاني : أنه فرض كفاية.
و الثالث : أنه مندوب. هذا مذهبنا في وليمة العرس+(2).
وعلى قول من قال بالوجوب فإن الإجابة تسقط بأعذار، ولا تجب إلا بشروط ومنها(3) :
1_ أن يُعيَّن المدعوُّ : فلو لم يُعيِّن الداعي المدعوَّ لم تجب الإجابة، بل تستحب؛ لأن الإجابة معللة بما فيها من كسر قلب الداعي، وإذا عمم فلا.
ومثال التعميم أن يقول الداعي : أجيبوا إلى الوليمة، أو أن يقول رسول الداعي : أُمِرْتُ أن أدعو كل من لقيت، أو من شئت فهذه لا تجب الإجابة فيها _كما مرَّ _.
2_ أن تكون الدعوة في اليوم الأول : لأن مطلق الأمر يحصل به.
وعن ابن مسعود ÷قال : قال رسول الله" : =طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمَّع سمع الله به+(4)
__________
(1) المغني 10/193.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 9/571.
(3) انظر المغني 10/198_203، وصحيح مسلم بشرح النووي 9/571_572، وشرح الزركشي 5/528_532، وفتح الباري 9/148_159.
(4) رواه الترمذي 2/220، من طريق زياد بن عبدالله البكائي عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن ابن مسعود. وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث زيادٍ، وزيادٌ كثير الغرائب والمناكير.
ورواه البهقي 7/260، والطبراني في الكبير (10332) من طريق زياد به.
وذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص (1560) وقال: =وزياد مُخْتَلَفٌ في الاحتجاج به، ومع ذلك فسماعه من عطاء بعد الاختلاط+.
وقد روى أبو داود (3745) عن قتادة عن الحسن عن عبدالله عن عثمان الثقفي عن رجل أعور من ثقيف يثني عليه خيراً أن النبي " قال: =الوليمة أول يوم حق، والثاني معروف، والثالث رياء وسمعة+.
وكذا رواه أحمد 5/28، والدارمي 2/104، والطبراني في الكبير (5306).(1/59)
.
قال الإمام أحمد×: =الأول يجب، والثاني إن أحب، والثالث فلا+(1).
وقال النووي×: =لو كانت الدعوة ثلاثة أيام فالأول تجب الإجابة فيه و والثاني تستحب، والثالث تكره+(2).
3_ أن يكون الداعي مسلماً : فلا تجب الإجابة لدعوة الذمي؛لأن الإجابة للمسلم؛ للإكرام، وتأكيد المودة، وذلك منتفٍ في أهل الذمة، وتجوز إجابتهم.
4_ أن يكون المسلم ممن لا يجوز هجره : فإن كان ممن يجوز هجره _ كالمبتدع ونحوه _ لم تجب إجابته؛ لما تقدم في الذمي.
5_ ألا يكون في الدعوة منكر : فإن كان فيها منكر كالزَّمْرِ، والخمر، والعود، واختلاط الرجال بالنساء، ولم يقدر على إزالته _ لم يحضر.
وإن قدر وجب عليه الحضور والإنكار للمنكر؛ للتمكن من الإتيان بالفرض مع التمكن من الإتيان بفرضٍ آخر.
وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر أزاله، فإن لم يقدر انصرف.
هذا ومن الأعذار التي يسقط بها وجوب إجابة الدعوة أو ندبها _أن يكون في الطعام شبهة، أو أن يخص الأغنياء دون الفقراء، أو أن يكون هناك من يتأذى المدعو بحضوره معه، أو لا تليق به مجالسته، أو يدعوه الداعي لخوف شره، أو الطمع في جاهه، أو ليعاونه على باطله.
ومن الأعذار أن يعتذر المدعو إلى الداعي فيقبل منه العذر.
ومما يمكن أن يلحق بالأعذار أن يترتب على ترك الحضور مصلحة أكبر، أو أن يترتب على الحضور تفويت مصلحة أكبر.
وذلك كحال طالب العلم الذي يحرص على اغتنام الأوقات، وكحال من يشتغل بدعوة أو أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر؛ فالحاجة لأمثال هؤلاء ماسة خصوصاً في هذه الأزمان، والمناسبات كثيرة، بل منها ما يكون يومياً خصوصاً في أيام العطل، بل منها ما يكون في الظهر والمساء.
__________
(1) المغني 10/194_195، وانظر الفروع 5/297، والمبدع 7/181، والإنصاف 8/319.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 9/572.(1/60)
وقد يحضر المدعو بعد صلاة الظهر ولا يخرج إلا مع أذان العصر، وقد يأتي بعد صلاة العشاء فلا يستطيع الخروج إلا بعد منتصف الليل؛ فقد لا يستطيع الخروج من مكان الدعوة؛ خشية من أن يكون في نفس الداعي شئ.
ولا يخفى ما في ذلك من ضياع الوقت، وتشتيت للذهن.
أما إذا حاول المدعو ألا يطيل في المكث فليحضر؛ فلعل في حضوره خيراً وبركة، خصوصاً من له تأثير وقبول؛ فالفائدة مأمولة في حضوره.
ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الصدد أن الواجب في دعوة الوليمة الإجابة والحضور، أما الأكل فلا يجب، فعن جابر ÷قال : قال رسول الله": =إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك+(1).
ثم إن المدعوَّ إذا دعي إلى أكثر من مناسبة في وقت واحد فاستطاع أن يجيبها فليفعل.
وإلا فليجب الأول، أو الأقرب، وأن يعتذر ممن لم يستطيع المجئ إليه؛ حتى لا يسئ الظن به.
ثم إنه يجمل بالداعي إذا تخلف أحد عن حضوره دعوته أن يبسط له العذر، وأن يحسن به الظن؛ فذلك دليل السماحة وكرم النفس.
40_ التقصير في تهيئة الزوج ليلة الزواج :
فالزوج رجلاً كان أو امرأة محتاج إلى تهيئة خاصةٍ ليلةَ الزواج، وقليلُ مَنْ يُعنى بالزوج ليله زواجه، فقل أن تجد من أقاربه من يوصيه بما يحتاج إليه خصوصاً كان الزواج للمرة الأولى؛ فكثيراً ما يهمل الزوج من هذه الناحية، بل قد يوصى بوصايا غريبة لا تمت للدين أو المروءة بأدنى صلة، مما قد يكون لها الأثر في تقويض بيت الزوجية.
ومن مظاهر التقصير وقلة العناية بتهيئة الزوج ليلة الزواج ما يلي :
الإهمال التام وترك الزوجين دون أدنى وصية أو إرشاد.
تقصير الزوجين بتركهما السؤال عن أمر الزوج وخصوصاً أول ليلة، فلا يسأل أحد منهما أحداً من معارفه أو أقاربه بحجة الحياء، ولا يقرآن بعض الكتب المأمونة التي تتحدث في هذا الشأن، مما قد يوقعهما في الحرج، فحري بهما ألا يغفلا هذا الجانب.
__________
(1) رواه مسلم (1430).(1/61)
جـ _ تخويف الزوجين ليلة الزواج، فزيادة على ما بهما من ارتباك وخجل وخوف تجد من يخوفهما من تلك الليلة، ومما سيواجهه كل واحد منهما إلى غير ذلك مما يثير الخوف في نفسيهما، فما الداعي للخوف والتخوف طالما أن القناعة موجودة، وأن كَّلاً من الزوجين قد ارتضى صاحبه شريكاً له؟!
د_ توصية الزوج بالشدة والصرامة، حتى تشعر الزوجة منذ أول ليلة بأن زوجها صارم شديد، فتأخذ حسابه في مستقبل أيامها.
بل ربما أُوصى الزوج بأن يحضر معه سوطاً أو عصا.
هـ _ شحن الفتاة بوصايا قد تهدم عش الزوجية من أساسه، فبعض الأمهات توصي ابنتها بأن تخبر زوجها بأنها ستتناول أقراص منع الحمل مدة كذا وكذا، حتى تتأكد من صلاحية الزوج وملاءمته؛ فما أثر تلك الوصية على قلب الزوج؟ وما النتيجة المتوقعة من جراء تلك الوصية؟
و_ توصية الزوج وشحنه بان يتعجل في مسألة الاتصال الجنسي، وجعل ذلك معياراً لرجولته وفحولته.
إلى غير ذلك من تلك الوصايا الغريبة التي لا تصدر إلا من أمزجة مريضة.
إن تلك الوصايا وما شاكلها توقع النفرة بين الزوجين في وقت هما في أشد الحاجة إلى الألفة والمودة والانسجام .
إن بدء الحياة الزوجية في جو يقوم على الإخافة والتهديد وسوء الظن – لكفيل بتقويض بناء الزوجية من أساسه، وحري بأن يذهب بكل إمكانات الوفاق في المستقبل، ويجعل الحياة الزوجية _ إذا استمرت _ قائمة على الحقد، والكراهية، والكيد، والتربص.
ولهذا كان حرياً بالزوجين وبمن له قرابة وتأثير عليهما _ أن يُعْنَوا أشد العناية بأول ليلة من الزواج، وبأيام الزواج الأولى، لان تلك الأيام مرحلة من أدق المراحل في حياة الإنسان، والضرر تلح بأن يُرَوِّضَ كلُّ من الزوجين نفسه وصاحبه على الحياة الجديدة، فينبغي أن يكون الوفاق مغموراً بندى المودة، وشذى المحبة، ونسيم الألفة.(1/62)
أما العصا والسوط والمعاندة فسلاح مفلول، ولئن أجدى مع بعض النفوس المريضة والحالات النادرة فلن يجدي في أكثر الحالات، لأن أكثر النفوس لاتقاد إلا بزمام الرفق، =وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه+(1).
إن الزوج الناجح هو الذي يستطيع أن يمتلك قلب زوجته في الأيام الأولى، وإن الزوجة العاقلة هي التي تستطيع أن تحظى بإعجاب زوجها ومحبته خلال هاتيك الأيام(2).
ومما يوصى به الزوج قبل ليلة الزواج أن يتهيأ بالحرص على هدوء باله، وبالبعد عما يزعجه ويثيره, وأن يكثر من الدعاء وسؤال الله التوفيق، وكذلك ينبغي للزوجة.
ومما يحسن بالزوج إذا دخل على زوجته أن يبدأها بالسلام، ثم يصلي ركعتين(3), ثم يأخذ بناصية زوجته ويقول الدعاء المأثور(4).
وبعد ذلك يبدأ بملاطفتها ومحادثتها بما يُسَكِّن روعها، ويطفئ لوعتها، فهي غريبة قد تركت أهلها، ورضيت به زوجاً لها، وجاءت إلى بيت لم تألفه، وإلى قرين لم تسبق لها به خلطة، فجدير بك أيها الزوج أن تكرمها و وأن تشعرها بأنها قد انقلبت إلى جو مفعم بالحب، والحنان,والمؤانسة, والاحترام.
__________
(1) رواه مسلم (2594).
(2) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص73 و82.
(3) لما جاء عن شقيق قال: =جاء رجل يقال له أبو حريز، فقال: إني تزوجت امرأة شابة بكراً وإني أخاف أن تفركني فقال عبدالله بن مسعود: إن الألف من الله، والفرك من الشيطان، يريد أن يكره إليكم ما أحل الله لكم، فإذا أتتك فأمرها أن تصلي وراءك ركعتين+ أخرجه ابن أبي شيبة 7/50 وعبدالرزاق 6/191 وصححه الألباني في آداب الزفاف ص 96.
(4) لقوله " إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادماً فليأخذ بناصيتها، وليسم الله_ عز وجل_ وليدع بالبركة، وليقل: =اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه+ أخرجه أبو داود (2160) وابن ماجه (1918) وجوده العراقي تخريج إحياء علوم الدين 1/389.(1/63)
وحري بك أن تعلمها بأن بيت الزوجية ليس قفصاً ولا سجناً، وإنما هو دوحة غناء، وروضة خضراء، عامرة بالود والنعيم والسعادة والرخاء.
ومما ينبغي للزوجة ليلة الزواج أن تتجمل لزوجها، وان تظهر أمامه بأبهى منظر، وأطيب ريح، لكي تقع موقعها من قلبه.
ومما يمكن أن يلاطف الزوج به زوجته ليلة الزواج أن يقدم لها هدية، وأن يبدي لها سعادته الغامرة بأن وُفٍّق لاختيارها، وأن يثني عليها بما هي أهله كأن يقول : لقد سمعت عنك خيراً كثيراً، وبعد أن رأيتك رأيت أحسن مما سمعت، وكم أنا سعيد بأن كنت من نصيبي، ونحو ذلك من عبارات الثناء، فهذا مما يفرحها، فالغواني يغرهن الثناء.
ومما يحسن بالزوج أن يتجاذب مع زوجته أطراف الحديث، وإن رأى منها حياءً فليعتمد سؤالها عن بعض الأمور اليسيرة التي لا تحتاج الإجابة عليها إلى تطويل، كأن يستشيرها في بعض الأمور كأن يقول لها : ما رأيك بالذهاب إلى مكة المكرمة؟ ومتى تردين ذلك؟ وكم ترغبين أن نقضي هناك؟ إلى غير ذلك مما يملأ به سكون تلك الليلة.
ومما ينبغي للزوج في تلك الليلة أن يحسن التصرف مع زوجته في مسألة المباشرة، فلا يتعدى حدود اللياقة والكياسة في مسألة الاتصال الجنسي، فيتعجل ذلك الأمر بصورة مفاجئة دونما استئناس أو تدرج.
فيحسن به أن يتدرج شيئاً فشيئاً، فبعد الملاطفة يتقرب منها قليلاً، فيصافحها، أو يمد لها كأس الماء أو نحو ذلك، حتى يتم مراده.
ولا بأس بتأجيل المباشرة إلى ما بعد ليلة الزواج إن لم تواته الفرصة في تلك الليلة.
كما يحسن بالمرأة ألا تفرط في التمنع على زوجها فيما يريده منها، ولا بأس بالتمتع اليسير الذي يهيجه ويقوي حرصه.
41_ إساءة والدي الزوج لزوجة الابن :
لا ريب أن حق الوالدين عظيم، وأن برهما والإحسان إليهما واجب، وأن من عظم حقهما أن الله _ عز وجل _ قرن حقهما بحقه، كما قال _تعالى _ : [وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً](الإسراء:23).(1/64)
ولا ريب أن تحملهما والصبر على ما يصدر منهما داخل في البر، وأن التقصير في حقهما عقوق يغضب الله _ تبارك وتعالى.
وكما أن للوالدين حَقَّاً على الأولاد فكذلك للأولاد حق على الوالدين.
ومما ينبغي للوالدين أن يقوما به _أن يعينا أولادهما على البر، وألا يقفا حجر عثر في طريق سعادتهم.
وأن مما يلاحظ على بعض الوالدين أنهما يسيئان إلى ابنهما بإهانة زوجته؛ فمن الأمهات _ هداها الله _ من تُقع ولدها في الحرج؛ فهي تحبه، وتحرص على إسعاده، وربما سعت جاهدة في الخطبة له.
ولكن سوء تصرفها قد يجلب لها ولابنها الضرر؛ لأن الابن إذا تزوج شعرت أمه بأنه قد خطف منها، وأن قلبه قد مال عنها؛ فتحرص أن يعود لها_ ومن الحب ما قتل _ فما تزال توغر صدر ابنها على زوجته، وتحرك فيه نوازع العزوف عنها، وربما زينت له طلاقها، ووعدته بأن تبحث له عن خير منها.
فإذا كان الابن لا يحسن التصرفَ وَوَضْعَ الأمور في نصابها _ وقع الطلاق، أو ثارت المنازعات بينه وبين زوجته.
والعجيب في الأمر أن النصيب الأوفى من الإهانة لزوجات الأبناء تلقاه تلك الزوجة التي آثرت المكث مع زوجها في منزل والديه؛ فبينما تلقى زوجات الأبناء الآخرين ممن يسكنَّ مع أزواجهن في مساكن خاصة _ بينما يلقين من والدي الزوج كل احترام، وتقدير، وحسن تعامل _ إذا بزوجة الابن التي تقطن معه في منزل والديه قد تلقى كل جحود، وكنود، وقلة تقدير، وكثرة انتقاد من قبل والدي الزوج مع إنها تقوم على رعايتهم وخدمتهم!
إن العدل والإنصاف يقضيان بأن ينزل الناس منازلهم، ويُعْتَرف لهم بفضائلهم؛ فحقِّ على الوالدين _ وخصوصا الأم _ أن يعرفا لتلك الزوجة التي تقوم على خدمتهم حقها، وأن يقدراها قدرها، وأن يذكرها بكل خير، وأن يتغاضيا عن بعض ما يصدر منها؛ فما هي إلا يشر، وما كان لبشر أن يُعْصَم من الخطأ وفرقُ بين من نعاشره على طول المدى، وبين من لا نعاشره إلا لماماً؛ فلما نفضل الأخير على الأول؟(1/65)
فلو عاشرنا الأخير معاشرتنا للأول لربما رجحت كفة الأول.
ولا يعني ذلك أن يسئ الوالدان لزوجات الأبناء الذين انفردوا بمساكن خاصة وإنما المقصود ألا نبخس الناس أشياءهم، وألا ننسى لأهل الفضل فضلهم.
ومن الأمهات من إذا رأت ابنها مسروراً مع زوجته أو رأت منه إكراماً لها – ثارت نيران الغيرة في قلبها، وربما سعت إلى ما لا تحمد عقباه.
ومن الأمهات من هي قاسية في التعامل مع زوجه الابن، فترها تضخم المعايب، وتخفي المحاسن، وقد تَتَقَوَّل على الزوجة، وقد تذهب كل مذهب في تفسير التصرفات البريئة وتأويل الكلمات العابرة.
فيا أيها الأم الكريمة، يا من تحبين ابنك، وترومين السعادة لك وله – لا تكوني معول هدم وتخريب، ولا تجعلي غيرتك ناراً موقدة تحرق جو الأسرة، ولا تستسلمي للأوهام التي ينسجها خيالك؛ فتعكري الصفو، وتثيري القلاقل؛ فلا تجعلي علاقتك بزوجة ابنك علاقة الند بالند، والضرة بالضرة، بل كوني أماً لها تكون ابنة لك.
بل يحسن بك أن تحبيها، وان تتغاضي عن بعض ما يصدر منها؛ حينئذٍ تَسعدين وتُسعدين.
بل ويحسن بك أن تتوددي إليها بالهدية ونحوها، وأن تَسَعِيها بقلبك الكبير، وحنانك الفياض، ودعائك الخالص، وثنائك الصادق.
ويا أيها الزوج العاقل ما أحراك أن تكون حكيماً في معالجة الأمور، وما أجدرك أن تحرص كل الحرص على التوفيق بين زوجتك ووالديك.
وان علمت من والديك _وخصوصاً أمك _ حدة في الطبع، أو قلة مراعاة لشعور الزوجة _فلا تأخذ جميع كلامها عن زوجتك بالتقبل التام.
وليس معنى ذلك أن تواجه والدتك مباشرة، وإنما أحرص على مدراتها وإرضائها، ولا تظهر محبتك وعنايتك بزوجتك أمامها، وأكثر من دعاء الله أن يجمع القلوب، وأن يصلح الشأن.(1/66)
وأنت أيتها الزوجة الكريمة إذا ابتليت بأم زوجٍ لا تحسن التعامل معك فاصبري واحتسبي الأجر عند الله، وقابلي الإساءة بالإحسان، وعليك بحسن المداراة؛ وربما انقلب البغضة محبة، والعداوة وفاقاً ووئاما، ومن يتق الله يجعل له مخرجا.
42_ تحريض أهل الزوجة ابنتَهم على زوجها :
فمن الناس من يفسدون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ فتراهم يحرضون ابنتهم على زوجها، فيوصونها بأن تكون حازمة معه، وان لا تطيعه بكل ما يأمر به، وان لم يأمر بمحرم؛ حتى لا يمتهنها _ بزعمهم _.
وربما أوصوها أن تطالبه بالأموال الطائلة، وربما سألوا عن كل كبيرة وصغيرة من أمر الزواج، وهكذا وكأن الزوجين في حلبت صراع، لا في عش زوجية.
وما ذلك المسلك برشيد ولا سديد؛ فالواجب على أهل الزوجة أن ينصحوا لابنتهم، وأن يوصوها بحسن التبعل للزوج، وبالبعد عن كل ما يضايقة ويؤذية؛ لأن الزوج قد يمل تلك الحالة إذا كان أهلها يحرضونها عليه، وربما صرم حبالها، فتقعد بعد ذلك ملومة محسورة، ومن ثم يشقى بها أهلها، وعلى نفسها جنت براقش.
43 _ مبالغة الأهل بالمقارنة بين أزواج بناتهم :
وهذا يحصل كثيرا، وقد يكون عند شخص ما عدد من البنات المتزوجات، وقد يكون بين أزواجهن تفاوت في التعامل واللباقة سواء مع الزوجة أو مع أهلها، مع أن الأزواج كلهم على خير وخلق ودين إلا أن بعضهم قد يفوق بعضاً في حسن التعامل.
وهذا التفاوت أمر نسبي يقع بين الناس جميعهم؛ فليس في ذلك إشكال.
وإنما الأشكال أن يبالغ أهل الزوجات في المقارنة بين أزواج بناتهن؛ فَيًفْرطوا بالثناء لذلك الزوج الأكثر لباقة، ويشعروا زوجته بسعادة حظها، وطيب مقامها معه.
ويفرطوا في ذم البقية، والزراية بهم، وإشعار زوجاتهم بتعاسة الحظ، ونغص العيش، مع أن أولئك الأزواج لم يأتوا نُكْراً، ولم يعابوا في دينهم أو أخلاقهم.(1/67)
ومن هنا تفتر العلاقة مع الأزواج ، وتبدأ الزوجات بالتسخط من أزواجهن، والتقصير في حقوقهم، بحجه أنهم ليسوا أهل للاقتران بهن.
فَمَسْلَكُ المقارنات لا يجدي نفعاً، بل ربما جرا أضراراً؛ فلماذا تثار مثل هذه الأمور، وما الطائل من ورائها، طالما إن الزوج مَرْضِيُّ الدين والخلق، أو أن تقصير لم يصل إلى حد كبير؟!.
إن التمادي في مثل هذا الأمور يوهي حبال المودة بين الزوجين، وربما وصل الأمر إلى الطلاق فماذا ستجني الزوجة وأهلها من جراء ذلك المسلك؟
ربما بقيت الزوجة بدون زوج عالةً على أهلها، وربما ابتليت بزوج آخر لا يرقب فيها إلاَّ ولا ذمة.
والحاصل على أهل الفتاة ان يحرصوا كل الحرص على اختيار الزوج الكفئ؛ فاذا حصل الزواج فعليهم أن يتغاضوا عن هفواته، وألا يذكروه إلا بخير خصوصاً أمام زوجته؛ حتى تزيد حبَّاً له، وقناعة به.
وإذا أبدت ابنتهم الشكوى من زوجها فعليهم أن يصبِّروها وأن يذكروها بغيرها من النساء مما يعانين الأمرَّين من أزواجهن الشرسين، وأن يذكروها بعاقبة الأمر إن هي استمرت على الشكوى.
ثم إن رابهم شئ من أمر الزوج فليسعوا في العلاج، فإذا أعيتهم الحيلة اتسع لهم العذر لاتخاذ ما يرونه مناسباً.
44 _ مبالغة الأهل في المقارنة بين زوجات الأبناء :
وهذا الأمر عكس الأمر السابق، من جهة، وهو قريب منه من جهة أخرى.
ويكثر ذلك في البيوت التي يجتمع فيها الوالدان وأولادهما المتزوجون وغير المتزوجون.
فترى بعض أهل الأزواج لا همَّ لهم إلا عقد المقارنة بين زوجات أبنائهم وإخوانهم.
فتراهم يثنون على هذه الزوجة بأنها تجيد الطبخ، ويعيبون الأخرى بأنها بخلاف تلك، أو يثنون على هذه باللباقة، ويصفون الأخرى بالكزازة والغلظة، أو يدَّعون بأن هذه تدير زوجها على ما تريد، وأن الأخرى لا ترفع صوتها فوق صوت زوجها.
وربما طال هذا الأمر، وبولغ فيه، وربما علم الأزواج بما يقال في زوجاتهم، وربما علمت الزوجات بذلك.(1/68)
ومن هنا تنشأ النفرة، ويسود سوء الظن، وتتأجج نار الغيرة.
وهذا خطأ كبير؛ فاللائق بأهل الزوج أن يحتفظوا بآرائهم لأنفسهم، وألا يذكروا زوجاتهم إلا بخير خصوصا عند أبنائهم؛ لأن ذلك مما يفرح الأبناء، ويزيد في الألفة.
وإن كان هناك من خطا فليعالج بالحكمة، وإن كان الخطأ يسيراً فالتغاضي حسن مطلوب، إلا إذا كان أمر لا يطاق ولا يحتمل.
45_ إهانة المطلقات :
فمن النساء من تبتلى بالطلاق إما لسوء في زوجها، أو لأن أهلها لم يتحروا في اختيار الزوج، أو لقلة التوفيق، أو أن يكون ذلك ابتلاءً وامتحاناً لها، أو لغير ذلك من أسباب الطلاق.
ولا ريب أن الطلاق ثقيل على قلب المرأة؛ إذ يؤذيها كلام الناس عنها، ويشق عليها تشرذمها وتفكك أسرتها خصوصاً إذا كان لديها أولاد، ويؤذيها مكثها عند أهلها.
وإن مما يزيد لوعتها شدةَ وليها أباً كان أو أخاً أو غيرهما؛ فبعض الأولياء لا يرقب في موليته المطلقة إلا ولا ذمة، فلا تراه يراعي حالها، ولا ما هي فيه من الضنك والشدة، فتراه يزيد الطين بلة، فيؤذي هذه المسكينة بالمن والأذى، ويصمها بأنها خرقاء هوجاء، وأنها ليست أهلاً لحفظ البيت والمحافظة على الزوج مع أنها قد لا تكون السبب في الطلاق.
فهذه التصرفات لا تصدر من ذي خلق كريم أو طبع سليم، فالكرام يرعون الذمام، ويحفظون ماء الوجه ولا يرتضون أن يتسببوا بإهانة أحد، خصوصاً إذا كان مهيض الجناح لا حول ولا قوة، فيا لسعادة من أسعد المطلقة، وجبر كسرها.
46_ التحرج من خروج الابن من منزل أسرته إذا تزوج :
فالحياة تختلف أنماطها من عصر إلى عصر، ومن مصر إلى مصر، ولقد كانت البيوت في السابق صغيرة ضيقة وكذلك هي الآن في بعض الأمصار.
ولهذا كان الوالدان، وأولادهما، وأزوج الأولاد يقطنون في منزل وأحد ولو كان صغيراً ضيقاً، وذلك بسبب قلة ذات أيديهم، واعتيادهم لذلك الأمر.(1/69)
وفي وقتنا الحاضر تغير نمط الحياة في كثير من البلدان، فأصبحت البيوت لا تكفي الأسرة الكبيرة، نظراً لكثرة الناس، ولرغبتهم في التوسع والاستقلال.
ولهذا تجد الرجل إذا تزوج في السابق يمكث بين أهله.
أما في وقتنا الحاضر فكثير من الرجال إذا تزوج فكر وسعى سعيه للسكنى في منزل مستقل، لأن منزل أسرته قد يكون صغيراً، وقد يكون مليئاً بأفراد الأسرة، فلا يريد الزوج مضايقة والديه وأفراد أسرته بعد زواجه.
ثم إن الزوجة امرأة أجنبية، ويضايقها كثيراً أن تكون متحفزة باستمرار، خشية أن يفجأها أحد إخوان الزوج وهي غير متحجبة عنه، فالتحرز عن أقارب الزوج الذين يسكنون معه من الصعوبة بمكان.
ثم إن المشكلات قد تنشأ بعد أن يرزق الزوج بالأولاد، حيث يكثر عبث الأولاد وإزعاجهم لوالدي الزوج.
وبعد أن تكبر بنات الزوج يصعب تحفظهم من أبناء أخيه وهكذا.
كذلك زوجات الأخوان إن كن في منزل وأحد قد ينشأ بينهن التنافس، وقد يكون المنزل ميداناً تعقد فيه المقارنات بين الزوجات من قبل أهل البيت، فتراهم يثنون على زوجة فلان، لقيامها بخدمة المنزل، ويزرون بزوجة فلان، لتقصيرها _كما مر قبل قليل _.
وقد يكون لبعض الزوجات حظوة عندي والدي الزوج، ولا يكون لغيرها حظوة، ومن هنا تنشأ الغيرة، ويَدِبُّ الحسد.
إلى غير ذلك من المشكلات التي قد تحدث من جراء الازدحام في المنزل الواحد.
وكذلك بعض الأبناء قد يمكث في منزل أسرته بعد الزواج على مضض، خشية الوقوع في الحرج.
بل من الوالدين من يتضايق أشد المضايقة من تزاحم أبنائه في المنزل بعد زواجهم وهم _ أو بعضهم_ قادرون على أن يستقلوا في منازل خاصة.
ومع ذلك تجد من يتحرج في مسألة الخرج من المنزل، وبعد خروج الابن من منزل أسرته بعد الزاج ضرباً من العقوق.(1/70)
والحقيقة أن هذا الأمر يسير، فلا ينبغي التشدد فيه بالنكير؛ فربما كان الخير والبر في خروج الابن من المنزل بعد الزواج، حيث يوسع لوالديه وأهل بيته عموماً، ويستطيع بسبب ذلك إكرام الزوجة وإعطاءها حقها، ويسلم بذلك من كثير من المنغصات والمكدرات.
فلا ينبغي _ إذاً_ منع الولد وإيقاعه في الحرج إذا أراد الخروج من المنزل بعد الزواج، خصوصاً إذا لم يكن الوالدان في حاجة له.
ولهذا فإن كثيرا من الآباء العقلاء يشير على أبنه بالسكنى في منزل مستقل، بل ويعينه على ذلك.
كما لا ينبغي النكير على الزوجة وأوليائها إذا اشترطوا أن تكون الزوجة في منزل خاص بها، لا يشاركها غيرها من ضرائرها وأقارب زوجها، ولأن ذلك من حقها.
يقول الكاساني×: =لو أرد الزوج أن يسكنها مع ضرتها أو مع حماتها كأم الزوج أو أخته وبنته من غيرها وأقاربها، فأبت ذلك – عليه أن يسكنها في مسكن منفرد، لأنهن ربما يؤذينها ويضررنها في المساكنة، وإباؤها دليل الأذى والضرر، ولأنه يحتاج أن يجامعها ويعاشرها في أي وقت يتفق، ولا يمكن ذلك إذا كان معهما ثالث+(1).
وإن كانت المصلحة في خروج الابن من المنزل والسكن في بيت جديد إذا تزوج _ فلا يعني أن تنتهي علاقته بأسرته ووالديه على وجه الخصوص؛ يجب عليه أن يستمر في البر والصلة، فذلك لا يقتصر على المكث في المنزل.
وإذا تقرر أنه لا ينبغي التشديد في مسألة خروج الابن – فإنه لا يجوز للابن أن يخرج من المنزل إذا كان والداه عاجزين لا يستطيعان القيام بأمرهما.
47_ التساهل بشأن الحمو :
وهذا حد من حدود الله التي جاوزها وفرط فيها كثير من الناس، ففي كثير من مجتمعات المسلمين يدخل الأحماء على النساء من غير مراعاة لحكم، ولامبالاة بما يترتب على ذلك من مفاسد.
__________
(1) بدائع الصنائع 4/23.(1/71)
بل لقد أصبح ذلك عرفاً سائداً، وعادة متبعة، يُنْكَر على من ينكرها، فأخ الزوج، وابن العم، وابن الخال وغيرهم من الأقارب يدخلون على زوجة قريبهم تحت ستار القرابة والمعرفة والثقة.
بل هناك ما هو أعظم من ذلك؛ فهناك سائق الأسرة يدخل في البيت كيف يشاء، وهناك صديق الأسرة، فمن حقه أن يدخل ويخالط الأسرة في حضرة الزوج ومغيبة!.
وهناك واجب الضيافة، حيث يأتي الضيف فيسأل عن الزوج، فإذا لم يكن موجوداً دخل الضيف _حسب ما يقتضيه العرف _ثم تقدم له الزوجة التحية وتقوم على إكرامه وقِراه.
ولا ريب أن هذا خلل فادح، وتفريط كبير، لما يترتب عليه من عواقب وخيمة، كالخلوة المحرمة، وإظهار المرأة مفاتنها، وتلذذ الزوج بالنظر إليها إلى غير ذلك مما هو من موارد الفتنة.
ولهذا حسم الشرع المطهر هذا الأمر؛ لسد ذرائع الفتنة ومنافذ الشر.
قال النبي _ عليه الصلاة والسلام _ فيما رواه الشيخان وغيرهما : =إياكم والدخول على النساء+.
فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله، أرأيت الحمو؟
قال : =الحمو الموت+(1).
قال الليث _ فيما رواه عنه مسلم بعد روايته للحديث السابق _ : =الحمو أخو الزوج، وما أشبهه من أقارب الزوج : ابن العم ونحوه+.
قال ابن حجر : =قال النووي : اتفق أهل العلم باللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه، وعمه، وأخيه، وابن أخيه، وابن عمه، ونحوهم، وأن الأختان أقارب زوجة الرجل, وأن الأصهار تقع على النوعين أ. هـ.
وقد اقتصر أبو عبيدة، وتبعه ابن فارس، والداودي على أن الحمو أبو الزوجة.
زاد ابن فارس : وأبو الزوج يعني أن والد الزوج حمو المرأة، ووالد الزوجة حمو الرجل، وهذا الذي عليه عرف الناس اليوم.
وقال الأصمعي، وتبعه الطبري والخطابي ما نقله النووي، وكذا نقل عن الخليل.
ويؤيده قول عائشة : =ما كان بيني وبين علي إلا ما كان بين المرأة وأحمائها+.
__________
(1) البخاري (5232)، ومسلم (2127)، وأحمد 4/149_153، والترمذي (1171)، والدارمي (2645).(1/72)
وقد قال النووي : المراد في الحديث أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه؛ لأنهم محارم للزوجة يجوز لهم الخلوة بها، ولا يوصفون بالموت.
قال : وإنما المراد الأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم، وابن الأخت ونحوهم مما يحل لهم تزويجه لو لم تكن متزوجة+(1).
وقال ابن حجر ×: =قوله : =الحمو الموت+ قيل : المراد أن الخلوة بالحمو تؤدي إلى هلاك الدين إن وقعت المعصية، أو إلى الموت إن وقعت المعصية ووجب الرجم، أو إلى هلك المرأة بفراق زوجها إذا حملته الغيرة على تطليقها، وأشار إلى ذلك كله القرطبي.
وقال الطبري : المعنى أن خلوة الرجل بامرأة أخيه أو ابن أخيه تنزل منزلة الموت.
والعرب تصف الشيء المكروه بالموت.
قال ابن الأعرابي : هي كلمة تقولها العرب مثلاً كما تقول : الأسد الموت، أي لقاؤه فيه الموت، والمعنى : احذروه كما تحذرون الموت.
قال صاحب مجمع الغرائب : يحتمل أن يكون المراد أن المرأة إذا خلت فهي محل الآفة، ولا يؤمن عليها أحد؛ فليكن حموها الموت، أي لا يجوز لأحد أن يخلو بها إلا الموت كما قيل : نعم الصهر القبر.
وهذا لائق بكمال الغيرة والحمية+(2).
وقال ابن حجر : =قال النووي : إنما المراد أن الخلوة بقريب الزوج أكثر من الخلوة بغيرة، والشر يتوقع منه أكثر من غيرة، والفتنه به أمكن؛ لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة بها من غير نكير بخلاف الأجنبي.
وقال عياض : معناه أن الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين، فجعله كهلاك الموت، وأورد الكلام مورد التغليظ.
وقال القرطبي في المفهم : المعنى أن دخول قريب الزوج على امرأة الزوج يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة، أي فهو محرم معلوم التحريم.
__________
(1) فتح الباري 9/243.
(2) فتح الباري 9/243.(1/73)
وإنما بالغ في الزجر عنه وشبَّهه بالموت؛ لتسامح الناس به من جهة الزوج والزوجة؛ لإلْفهم بذلك حتى كأنه ليس بأجنبي من المرأة، فخرج هذا مخرج قول العرب : الأسد الموت، والحرب الموت، أي لقاؤه يفضي إلى الموت.
وكذلك دخوله على المرأة قد يفضي إلى موت الدين، أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج، أو إلى الرجم إن وقعت الفاحشة+(1).
إذا تقرر هذا فعلى الناصح لنفسه ألا يتساهل في شأن الحمو، وألا يتجاوز هذا الحد من حدود الله بحكم العرف والعادة، فالشرع مقدم على كل شيء.
كيف والفتنة قائمة على أشدها في هذا العصر، فها ي وسائل الإعلام تغري بالرذيلة، وتزري بالفضيلة، وتؤجج الغرائز بكل وسيلة ممكنة.
ولا يعني ألا يتساهل الإنسان بشأن الحمو أن يبالغ في الغيرة فيسيء الظن بأحمائه.
وإنما المقصود من ذلك أخذ الحيطة والتدابير اللازمة.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد
فهذا ما يسر الله تقييده، وأعان على إتمامه من ذكرٍ لبعض الأخطاء التي تقع في مفهوم الزواج.
ومن خلال ما سبق يتضح للقارئ الكريم أثرُ التقصير في مفهوم الزواج، والتفريط في الأخذ بالأسباب الموصلة إليه، حيث يفقد الزوج كثيراً من ثمراته، ولا يؤتي أكله في ظل وجود تلك الأخطاء.
فعسى أن يكون فيما مضى من صفحات إسهام في معالجة تلك الأخطاء، وإعانة على حل مشكلات الزواج.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) فتح الباري 9/243_244.(1/74)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإن صلاح البيوت صلاح للأمة، وصلاح الأمة هو السبب الأعظم لعزتها وكرامتها.
ولا تصلح الأمة إلا بصلاح البيوت، ولا تصلح البيوت إلا بصلاح الزوجين واستقامتهما على أمر الله؛ فهناك تقل المشكلات أو تتلاشى، وهناك تتنزل السكينة، وتعم المودة والرحمة.
وفي ذلك المنزل يتخرج رجالات الأمة ونساؤها وعظماؤها؛ ذلك أن رابطة الزوجية من أعظم الروابط؛ فمتى سارت هذه الرابطة على أساس من البر والتقوى والمحبة والرحمة عظم شأن الأمة، وهِيب جنابها.
ومتى أهملت هذه الحقوق تفصمت تلك الرابطة، فشقيت البيوت، وحل بالأمة التفكك والدمار.
ومن أجل ذلك جاء الإسلام بمراعاة تلك الرابطة، وتقويمها، وتمكينها، وإحاطتها بما يحفظ وجودها، ويعلي منارها.
والذي يدير النظر ويرجع البصر في حياة الناس يرى خللاً كبيراً، وتفريطاً كثيراً في شأن تلك الرابطة؛ مما يفقد الحياة الزوجية سعادتها، وأنسها، وإيتاءها ثمارها الطيبة، وعواقبها الحميدة.
ولا ريب أن تفريط بعض المنتسبين للإسلام لا تعود تبعته على الدين، وإنما وزرها وتبعتها على المنتسبين إليه، والدين براء مما يلصق به.
والحديث في هذه الحلقة سيدور حول مظاهر التقصير والخطأ التي تقع من بعض الأزواج؛ تنبيهاً وتذكيراً، ومحاولة في العلاج؛ ورغبة في أن تكون بيوتنا محاضن تربية، ومستقر رحمة وسعادة.
أما الحديث عن الزوجات وما يقعن فيه من أخطاء فله مناسبة أخرى عسى الله أن ييسر إتمامها؛ لتكمل الصورة حيال هذا الأمر.
ولا يعني الحديث عن الأخطاء حصرها، والإتيان عليها؛ فذلك متعذر غير ممكن.(2/1)
كما لا يعني ذلك أن جميع الأزواج يقعون في تلك الأخطاء؛ ففي الأزواج من هو على النهج السوي، والخلق الكريم الزكي.
كذلك لا يعني ذكر الأخطاء أن تغرق الزوجة في تطلب الكمال؛ فتريد زوجاً لا عيب فيه البتة، ولا أن يكون ذكر الأخطاء ذريعة لأن تُنَزَّل على جميع الأزواج؛ فما ذلك قصدت، ولا إليه أردت.
وإنما هي دعوة للتحلي بالفضائل، والتخلي من الرذائل؛ فالرغبة في الخير خير، والسعي في طلب الكمال كمال.
فإلى تلك الأخطاء، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
محمد بن إبراهيم الحمد
28/2/1419هـ
الزلفي 11932
ص. ب 460
1_ التقصير في بر الوالدين بعد الزواج:
فمن الناس من إذا تزوج تنكر لوالديه، وقلب لهما ظهر المِجَنِّ، فصار يقصر في حقهما، ولا يقدرهما حق قدرهما.
بل ربما قدم طاعة الزوجة على طاعتهما، وربما أهانهما في سبيل إرضاء زوجته، بل ربما طردهما من المنزل أو تركهما وحيدين فيه وهما بأمسِّ الحاجة إلى رعايته.
ولا ريب أن هذا الصنيع عقوق للوالدين، ويخشى على مرتكبه من العقوبة العاجلة التي تكدر صفوه، وتنغص عليه عيشه.
فماذا يرجى من شخص يتنكر لأقرب الناس إليه، وأولاهم ببره وعطفه؟
إن تنكره لغيرهم سيكون من باب أولى؛ فالذي لا خير فيه لأبويه لا يمكن أن يكون فيه خير لزوجة أو ولد أو أحد من الناس.
ولهذا كان جديراً بالابن الصالح أن يحرص على بر والديه في كل حال، ومما يعينه على الاستمرار في البر بعد الزواج ما يلي:
أ ـ الدعاء: وذلك بأن يلجأ إلى الله ـ عز وجل ـ وأن يحسن صلته به، وأن يسأله الإعانة على البر.
إذا صح عونُ الخالقِ المرءَ لم يجد ... عسيراً من الآمال إلا ميسرا(2/2)
ب ـ الحذر من أي تصرف يشعر الوالدين بأن ابنهما قد تغير: ذلك أن تصرفات الابن تتغير بعد الزواج، وكذلك تصرفات الوالدين؛ فالابن قد يُشْغَل عن والديه، والوالدان قد تشتد عندهما الشكوك، وتُساورهما الظنون بأن ابنهما قد تحول عنهما، ومال إلى غيرهما.
والأم أكثر من الأب في ذلك الشأن؛ فحري بالابن ألا يغفل عن هذا المعنى، وجدير به أن يكون في منتهى الحذر، وأن يعمل ما في وسعه؛ كي لا يصدر منه تصرف يشعر والدته خصوصاً بأنه قد مال عنها، وارتضى بها بدلاً.
كما أن عليه أن يتحمل بعض لومها؛ لأنها كلما كانت أكثر تعلقاً بالابن وحُبَّاً له ـ كان تأثرها ولومها أكثر وأكثر.
جـ ـ زيادة البر للوالدين: سواء كان ذلك مادياً، أو معنوياً، كالهدايا، والزيارات، والاتصال المستمر، وإظهار المودة سواء كان عندهم في المنزل، أو كان في منزل منفرد.
ويحسن بالابن ألا يلزم نفسه بما لا يستطيع أن يستمر عليه فيما بعد، لأنه إذا بدأ بما لا يستطيع أن يستمر عليه ثم قطعه ـ فُسِّرَ تفسيراً ليس في مصلحته، وربما جر عليه أسوأ العواقب.
د ـ السكن في بيت منفرد: إذا لم يترتب على ذلك ترك الوالدين وحيدين، وهما عاجزان عن القيام بأمرهما.
أما إذا كانا قادرين، وكان المنزل مليئاً بالإخوة والأخوات ـ فإنه يحسن بالابن أن ينفرد في سكن خاص به، على أن يستمر في البر ـ كما مر ـ.
هـ ـ إبعاد الوالدين قدر المستطاع عن المشكلات الزوجية: وذلك بأن يحرص الزوج على حل مشكلاته مع زوجته بروح المودة، وألا يَعْلمَ الوالدان بذلك؛ لأنه يؤذيهما.
أما إذا استدعى الأمر ذلك، ورغب الابن في استشارة والديه، وكانا ذَوَيْ رأي ـ فلا بأس.
و ـ الحرص على التوفيق بين الوالدين والزوجة: وهذا ما سيتبين في الفقرة التالية.
2-قلة الحرص على التوفيق بين الزوجة والوالدين:
فمن الخطأ الذي يقع فيه كثير من الأزواج أن يرى زوجته ووالديه على غير وفاق، ومع ذلك لا يسعى في الإصلاح، والتوفيق، وجمع الكلمة.(2/3)
بل ربما قام بما يذكي العداوة، وينفر القلوب؛ فربما بالغ في إظهار المودة للزوجة أمام الوالدين، وأغلظ في الوقت نفسه القول لوالديه، وربما ظلم الزوجة، وصدَّق كل ما يقوله الوالدان في حقها مع أنها قد تكون بريئة، ووالداه على خطأ.
وقد يكون والداه أو أحدهما ذا طبيعة حادة، فلا يرضيهما أحد من الناس، وربما ألحَّا على الابن في طلاق زوجته مع أنها لم تقترف ما يوجب ذلك.
وربما أوغرا صدره، وأشعراه بأن زوجته تتصرف فيه كيفما تشاء، فصدَّق ذلك القول مع أنه لم يعطها أكثر من حقها، أو أنه قد قصّر معها.
فما الحل ـ إذاً ـ في مثل هذه الحال؟ هل يقف المرء مكتوف الأيدي فلا يحرك ساكناً؟ أو يساير والديه في كل ما يقولانه في حق زوجته؟ أو أن يسيء إليهما ويسَفِّهَ رأيهما ويردهما بعنف وقسوة؟
لا، ليس الأمر كذلك، وإنما عليه أن يبذل جهده في سبيل إصلاح ذات البين، وجمع الكلمة.
إن قوة الشخصية في الإنسان تبدو في القدرة على الموازنة بين الحقوق والواجبات التي قد تتعارض أمام بعض الناس، فتُلْبِسُ عليه الأمر، وتوقعه في الحيرة والتردد.
ومن هنا تظهر حكمة الإنسان في القدرة على أداء حق كلٍّ من أصحاب الحقوق دون أن يلحق جوراً بأحد من الآخرين.
ومن عظمة الشريعة أنها جاءت بأحكام توازن بين عوامل متعددة، ودوافع مختلفة، ونوازع متنوعة؛ فللوالدين حقوق، وللزوجة حقوق، ولا تعارض بينها، والعاقل الحازم يستطيع أن يعطي كل ذي حق حقه.
وكثير من المآسي الاجتماعية والمشكلات الأسرية تقع بسبب الإخلال بهذا التوازن.
ومما يعين الزوج على التوفيق بين والديه وزوجته ما يلي:
أ ـ مراعاة الوالدين، وفهم طبيعتهما: وذلك بأن لا يقطع البر بعد الزواج، وألا يبدي لزوجته المحبة أمامهما خصوصاً إذا كان والداه ذوي طبيعة حادة؛ لأن ذلك قد يوغر صدورهما، ويولد لديهما الغيرة وخصوصاً الأم.(2/4)
ب ـ إنصاف الزوجة: وذلك بمعرفة حقها، وبألا يأخذ كل ما يسمع عنها من والديه بالقبول، بل عليه بالتثبت وإحسان الظن.
جـ _ اصطناع التفاهم: فيوصي زوجته ـ مثلاً ـ بأن تهدي لوالديه، أو أن يشتري بعض الهدايا ويعطيها زوجته؛ كي تقدمها هدية للوالدين؛ فذلك مما يرقِّق القلب، ويستل السخائم، ويجلب المودة.
د ـ التفاهم مع الزوجة: فيقول لها ـ مثلاً ـ إن والديَّ جزء لا يتجزأ مني، وإنني مهما تبلد الحس عندي لن أعُقَّهما، ولن أقبل أي إهانة لهما، وإن حبي لك يزيد وينمو بصبرك على والدي، ورعايتك لهما.
كذلك يذكرها بأنها ستكون أمَّاً في يوم من الأيام، وربما مر بها حالة مشابهة لحالتها مع والديه، فماذا يرضيها أن تُعامل به؟(1)
كما يذكرها بأن المشاكسة لن تزيد الأمر إلا شدة وضراوة، وأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وهكذا...
3_ الشك في الزوجة وسوء الظن بها:
فمن الأزواج من هو ذو طبيعة قلقة، ونفس متوترة مستوفزة، فتراه يغلب جانب الشك، ويجنح كثيراً إلى سوء الظن، ويفسر الأمور على أسوأ الاحتمالات؛ فقد يسيء بزوجته الظن في أمانتها المالية، فربما اتهمها بأنها تسرق من ماله، فإذا عدَّ نقوده يوماً ما، ثم وجدها ناقصة بادر إلى اتهام زوجته من غير ما تحقق أو تثبت، فينشب النزاع، ويتعالى الصراخ، ثم ما يلبث الزوج أن يتذكر أنه قد اشترى بتلك النقود المفقودة شيئاً، أو سدد بها دَيْناً، أو أقرض إنساناً، أو أعطاها بعض أولاده، أو وجدها في مكان ما.
وقد يتمادى ببعضهم الأمر، فيسيء الظن بزوجته في عرضها، فيتهمها في حشمتها، أو مشيتها في الطريق، أو من خلال نظرها من النافذة، فيتهمها بما يسيء إلى كرامتها وسمعتها مع أنها بريئة حصان رزان.
وقد يكثر بعضهم الاتصال بالمنزل كلما خرج منه؛ حتى يطمئن على أنها لم تخرج منه.
وإذا كان الهاتف مشغولاً وقع في الشك والريبة.
__________
(1) انظر نظرات في الأسرة المسلمة د. محمد بن لطفي الصباغ ص101.(2/5)
وبعضهم يخرج من عمله بين الفينة والأخرى، وفي أوقات غير متوقعة؛ ليراقب منزله، ويتأكد من أن زوجته لم تسلك سبيلاً محرماً.
وبعضهم يراقب الهاتف مراقبة دقيقة، ويسجل جميع المكالمات؛ خوفاً من أن يكون لزوجته علاقة بغيره.
وربما بالغ بعضهم، فهاتَفَ المنزل، وغيَّر صوته؛ ليرى هل تتمادى زوجته في الحديث معه، بل ربما أوصى من يقوم بذلك.
وبعضهم إذا سمع بوق سيارة فزع مذعوراً؛ لظنه أنها قد اتفقت مع شخص آخر.
وبعضهم يتهمها بأن لها علاقة مع غيره إذا رأى منها تمنعاً أو قلة مبالاة في بعض الأحيان.
وبعضهم قد يهوي في الحضيض، فيشك بأنها قد حملت منه، وربما اتهمها بأن الحمل من غيره.
كل ذلك من غير ما برهان أو بينة، وإنما هو من تسويل الشيطان لبعض النفوس الجاهلة؛ كي تشتد في الغيرة أكثر مما أمر الله؛ فكم وقع من قتل، وطلاق، وأذى، بسبب سوء ظنٍّ لا تثبت له قدم بعد التثبت والتحقيق. (1)
فيا أيها الزوج الكريم لا تسترسل مع الأوهام، ولا تُفْرغْ قلبك لمثل هذه الوساوس، وأحسن ظنك بزوجتك التي أقدمْتَ على الاقتران بها بطوعك واختيارك، واعلم بأنها إذا أرادت الخنا سلكت سبيله؛ فما لم تظهر لك الأماراتُ البيناتُ التي لا تقبل التأويل ـ فلا تلتفت إلى ما يجول في خاطرك من الأوهام والخيالات.
بل يحسن بك إذا سمعت عنها ما يسوؤك ألا تستعجل في الحكم، بل تثبت، وتأنَّ، واصبر؛ فربما كان ذلك صادراً من مغرض يريد هدم بيتك الآمن.
ولا يعني حسن الظن بالزوجة قلة الغيرة، وإلقاء الحبل على الغارب.
وإنما المطلوب ـ كما سيأتي في الفقرة التالية ـ أن يعتدل الزوج في الغيرة؛ فلا يتغافل عما تخشى عواقبه، ولا يبالغ في إساءة الظن، والتعنت، والتجسس(2).
وبالجملة فالتحسس والمبالغة في الغيرة أمر لا يقره دين ولا عقل.
__________
(1) انظر أخلاقنا الاجتماعية للسباعي ص150_151.
(2) انظر جوامع الآداب للقاسمي ص 36.(2/6)
ولهذا عقد الإمام البخاري في صحيحه باباً قال فيه: =باب لا يطرق أهله ليلاً إذا أطال الغيبة؛ مخافة أن يخَوِّنهم، أو يلتمس عثراتهم+.
ثم ساق حديثين في ذلك، قال: =حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا محارب بن دثار، قال سمعت جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ قال: =كان النبي"يكره أن يأتي الرجل أهله طروقاً+(1).
ثم ساق البخاري×الحديث الثاني بسنده فقال: =حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبدالله، أخبرنا عاصم بن سليمان عن الشعبي أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: =قال رسول الله": =إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً+(2).
قال ابن حجر×: =قال أهل اللغة: الطروق بالضم: المجيء بالليل من سفر أو من غيره على غفلة، ويقال لكل آتٍ بالليل طارق، ولا يقال بالنهار إلا مجازاً+(3).
ثم قال×في معرض كلامه عن فوائد الحديثين الماضيين: =وفيه التحريض على ترك التعرض لما يوجب سوء الظن بالمسلم+(4).
4_ قلة الغيرة على الزوجة:
فالغيرة عاطفة سامية من عواطف الحب الحقيقي، تدفع الزوج إلى المحافظة على زوجته، وتدعو الزوجة إلى الاحتفاظ بزوجها.
والغيرة شيمة من شيم الرجال الكريمة، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تضعف عند الرجل ولو كان لا يحب زوجته؛ فهو يغار عليها ما دامت في عصمته.
والغيرة ـ كذلك ـ تشعر الزوجين بالحب، وتحثهما على تجديده، وتنميته، ورعايته.
وإنك لترى إلى اليوم كيف يغار المرء من ذكر اسم زوجته أمام الناس، فيكني عنها بالبيت، أو بالجماعة، فيقول ـ مثلاً ـ في البيت لا يرضون بذلك، أو يقول: الجماعة يقولون كذا وكذا، ويريد بذلك الزوجة. (5)
وفي مثل هذا المعنى يقول البهاء زهير:
وأنَزِّهُ اسمك أن تَمُرَّ حروفُه ... من غيرتي بمسامع الجلاَّسِ
__________
(1) البخاري (5243).
(2) البخاري (5244)، ومسلم (715).
(3) فتح الباري لابن حجر العسقلاني 9/251.
(4) فتح الباري 9/252.
(5) انظر الرجل والمرأة في الإسلام د. محمد وصفي ص208.(2/7)
فأقول: بعض الناس عنك كنايةً ... خوف الوشاة وأنت كلُّ الناسِ(1)
وكما أن هناك من يشك في زوجته، ويبالغ في إساءة الظن بها ـ كما مر في الفقرة الماضية ـ فهناك من تبلد حسه، وماتت غيرته، وفقد أنَفَتَهُ ورجولته وحَمِيَّته؛ فتراه لا يبالي باختلاط زوجته بالأجانب سواء كانوا من أحمائه أو من غيرهم، ولا يأبه بما يجره التهتك ونزع الحياء عليه وعلى زوجته.
بل ربما أمرها بنزع الحجاب، والاختلاط بالأقارب.
بل ربما رآها متهتكة متبرجة تصافح الرجال الأجانب، وتجالسهم، وتضاحكهم، وتبادلهم أطراف الحديث؛ فتعامى، وغض البصر، فلا تحس له وجبةً، ولا تسمع له ركزاً.
ولا ريب أن هذا الصنيع ضرب من الدياثة، وفقدانِ الرجولة، والتقصيرِ في حق المرأة؛ لأن من أيسر حقوق المرأة أن يغار زوجها عليها؛ فلا يعرضها للشبهة، ولا يتساهل معها في كل ما يؤذي شرف الأسرة، أو يعرضها لألسنة السوء.
كما أن قلة الغيرة تقليد للغرب، ومحاكاة له في مستهجن عاداته، باسم الحرية والجمال، ولا جمال إلا مع الفضيلة، ولا حرية إلا لمن يلقى الناس بعرض سليم.
والتساهل في هذا الأمر قبيح، ولا يعد من إكرام المرأة في شيء؛ نظراً لما يجره هذا التسامح من شقاء، وشر، وفساد عريض.
وما زال الناس في مختلف البيئات تتأثر سمعتهم وكرامتهم بسلوك الزوجات السيىء؛ فمن تهاون في شأن الغيرة على نحو ما مضى فقد أخرج نفسه من زمرة الرجال القوامين الذين لهم في النفوس حرمة، وعند الله منزلة.
__________
(1) ديوان البهاء زهير ص181.(2/8)
ولقد عقد الإمام البخاري×في صحيحه باباً قال فيه: =باب الغيرة، وقال ورَّاد: عن المغيرة، قال سعد بن عبادة: =لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصفِح. (1)
فقال رسول الله": =أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني+. (2)
قال ابن حجر×في شرح الباب: =قوله: (باب الغيرة) بفتح المعجمة، وسكون التحتانية بعدها راء، قال عياض وغيره: هي مشتقة من تغير القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون بين الزوجين+.(3)
وبالجملة فلا يجوز للرجل أن يبالغ في الغيرة بلا مسوغ، بحيث يتعدى طوره ويصل به الأمر إلى الشك وسوء الظن.
ولا يجوز له ـ أيضاً ـ أن يَطَّرِح الغيرة، زعماً منه بأنها تقييد لحرية الزوجة.
فالغيرة المحمودة ما كانت في محلها وفي حدود الاعتدال.
أما ما جاوز الحد، وكان ظناً باطلاً لا أساس له إلا وسوسة الشيطان ـ فهو من الغيرة المكروهة المذمومة التي نهانا عنها رسول الله"بقوله: =من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله؛ فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة+. (4)
5_ الاستهانة بالزوجة:
فمن الأزواج من يستهين كثيراً بزوجته، فلا يراها إلا هملاً مضاعاً، أو لقى مزدرى تذروه الرياح.
__________
(1) غير مصفح: روي بكسر الفاء وسكون الصاد المهملة، ويروى بفتح الفاء، وبتشديدها، وهو من صفح السيف أي عرضه وحدّه، وأراد أنه يضربه بحد السيف لا بعرضه، والذي يضرب بالحد يقصد إلى القتل بخلاف الذي بالصفح فإنه يقصد التأديب. انظر فتح الباري 9/232.
(2) صحيح البخاري (4846)، ومسلم (1499).
(3) فتح الباري 9/231.
(4) رواه النسائي في الكبرى (2339)، وفي المجتبى (2558)، وأبو داود (2659)، والدارمي (2226)، وابن حبان في صحيحه (295)، و(4762)، ورواه أحمد 5/445_446، كلهم من حديث جابر بن عتيك _رضي الله عنه_ وصححه الألباني في صحيح الجامع (5905).(2/9)
فلا يعتد بكلامها، ولا يستشيرها في أي شيء من أمره، ولا يأخذ برأيها إن هي أشارت، وربما احتج على سوء فعله بأن القوامة للرجل، وبأن المرأة ناقصة عقل ودين!.
ومن صور الاستهانة بالزوجة أن يحقِّرها بين أبنائها، وأن يصفها بالخَرَق وسوء التدبير، وضعف العقل، والجهل بأساليب التربية.
ومن صور الاستهانة بالزوجة ذمُّ أهلها أمامها سواء كانوا والديها، أو إخوانَها، أو أعمامَها، أو غيرهم من أقاربها؛ فترى بعض الأزواج يزري بهم، ويذمهم لخطأ وقع من بعضهم، وربما ذمهم بما هم منه براء.
إلى غير ذلك من صور الاستهانة مما سيرد ذكره فيما بعد ـ إن شاء الله ـ.
وهذا المسلك خطأ كبير؛ فالمرأة إنسان مكرم، لها عقل، ولها رأي، ولها مكانة.
بل إن كثيراً من عقليات النساء لَتَفُوق بعض الرجال بحصافة رأيها وحسن تدبيرها.
وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال(1)
ولا يغب عن بالنا ما كان من أمر أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ في قصة الحديبية، وذلك عندما قال النبي"لأصحابه: =قوموا فانحروا ثم احلقوا+ فما قام منهم رجل واحد، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله! أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك، فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم، حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه، فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمَّاً(2).
فانظر إلى حصافة رأي أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ وانظر إلى أخذ النبي"برأيها.
__________
(1) البيت لأبي الطيب المتنبي انظر ديوانه بشرح العكبري 3/18.
(2) رواه البخاري من حديث الحديبية الطويل (2731) و (2732)، وأحمد 4/326.(2/10)
فالزوج العاقل الكريم يُعْنَى بزوجته، ويرفع من قدرها، ويستشيرها في بعض الأمور سواء في حياته العامة، أو فيما يخص المنزل من أثاث ونحوه، ولا يلزم من ذلك أن يأخذ بكل ما تبديه.
ثم إن المروءة والدين يقضيان بألا يسيء الزوج إلى أهل زوجته بذم؛ لأن ذلك يؤذيها، وإن من إكرامها إكرامَ أهلها، وإن من أيسر حقوقهم عليك أيها الزوج أن تحفظ الذمام، وألا تنسى المعروف؛ فلقد أحسنوا بك الظن، وأودعوك فلذة أكبادهم؛ فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فذم أهل الزوجة نكران للجميل، وجحود للفضل.
وإن كان هناك من عيب أو نقص في بعض الأهل فالواجب يقضي بالمبادرة إلى النصح والتصحيح بدلاً من الثلب والتجريح.
قال النبي": =استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه؛ إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج؛ استوصوا بالنساء خيراً+(1).
6_ التخلي عن القوامة، وتسليم القيادة للزوجة:
فكما أن هناك من لا يعتد بالمرأة، فيهضمها حقها، ولا ينظر إليها إلا بألحاظ الازدراء ـ فهناك من قد تخلى عن قوامته، وأسلم قياده لزوجته؛ فإرادته تابعة لإرادتها، ورأيه ملغى أمام رأيها؛ فقولها هو القول، ورأيها هو الفصل؛ فتفرض على الزوج سياجاً محكماً لا معدى عنه ولا محيص، وتحيله إلى خادم مشكوك في إخلاصه ونواياه.
والذي قد يدفعها إلى ذلك دافع الغرور بالمال، أو الجمال، أو الجاه، أو المستوى التعليمي.
وإذا اجتمع إلى ذلك ضعف الزوج، واهتزاز شخصيته ـ فقد وافق الشنُّ الطبق.
فلذلك تخرج المرأة متى شاءت، وتلبس ما شاءت ولو كان لباس شهرة، أو تبرج، أو تشبه بالكافرات.
وربما تدخلت في شؤونه الخاصة، وعلاقته مع الآخرين؛ فتكون بذلك هي القوَّامة عليه، والمتصرفة في زمام أمره.
وما عجب أن النساء ترجَّلت ... ولكن تأنيث الرجال عجاب
__________
(1) رواه البخاري (3331)، ومسلم (1468).(2/11)
وهذا خلاف ما تأمر به الشرائع السماوية، والفطر السوية؛ فالرجل الحق لا يمكن أن يدع المرأة تتسلط عليه، وتسلبه مكانته الشرعية المتمثلة في القوامة ورعاية الأسرة؛ فيكون بذلك غرضاً للذم، وعُرْضة لِلَّوم؛ إذ يعد من سقط المتاع، وتنزل درجته في أعين الرجال.
وقلما طاب للرجل عيش مع زوجة تكون كلمتها فوق كلمته.
ولا يعني ذلك أن يكون الرجل مستبداً، فيجعل من زوجته أداة يُسَيِّرها كيفما شاء، ويسلبها حقوقها كإنسانة، وزوجة وأم أولاد؛ فذلك إهدار لكرامتها، وقلما أخلصت المرأة لمن يهضم حقوقها، ويسيء عشرتها.
وإنما المقصود أن يحافظ الرجل على قوامته، وأن تقف المرأة عند حدودها فلا تتعداها إلى ما لا يعنيها.
ثم إن القوامة على المرأة حق لها، ولن تجد للسعادة طعماً طالما أن الزوج مفرط في ذلك الحق.
والإسلام أنقذ المرأة من أيدي الذين يزدرون مكانها، وتأخذهم الجفوة في معاشرتها؛ فقرر لها من الحقوق ما يكفل راحتها، وينبه على رفعة منزلتها، ثم جعل للرجل حق رعايتها، وإقامة سياج بينها وبين ما يخدش كرامتها.
ومن الشاهد على هذا قوله ـ تعالى ـ:[وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ](البقرة: 228).
فجعلت الآية للمرأة من الحقوق مثل ما للرجل؛ وإذا كان أمر الأسرة لا يستقيم إلا برئيس يدبره فأحقهم بالرياسة هو الرجل الذي شأنه الإنفاق عليها، والقدرة على دفاع الأذى عنها.
وهذا ما استحق به الدرجة المشار إليها في قوله ـ تعالى ـ:[وللرجال عليهن درجة] وقوله: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ](النساء: 34)(1).
بل إن الله ـ عز وجل ـ قد اختص الرجل بخصائص عديدة تؤهله للقيام بهذه المهمة الجليلة.
__________
(1) انظر رسائل الإصلاح 2/172.(2/12)
ومن تلك الخصائص(1) ما يلي:
أ_ أنه جُعل أصلها، وجعلت المرأة فرعه، كما قال ـ تعالى ـ:[وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا](النساء: 1).
ب_ أنها خلقت من ضلعه الأعوج، كما جاء في قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: =استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه؛ إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج؛ استوصوا بالنساء خيراً+(2).
ج_ أن المرأة ناقصة عقل ودين، كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: =ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن+.
قالت امرأة: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: =أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان؛ فهذا نقصان الدين+(3).
فلا يمكن ـ والحالة هذه ـ أن تستقل بالتدبير والتصرف.
د_ نقص قوَّتها، فلا تقاتل ولا يُسهَم لها.
هـ _ ما يعتري المرأة من العوارض الطبيعية من حمل وولادة، وحيض ونفاس، فيشغلها عن مهمة القوامة الشاقة.
و ـ أنها على النصف من الرجل في الشهادة ـ كما مر ـ وفي الدية، والميراث، والعقيقة والعتق.
هذه بعض الخصائص التي يتميز بها الرجل عن المرأة.
قال الشيخ محمد رشيد رضا×: =ولا ينازع في تفضيل اللهِ الرجلَ على المرأة في نظام الفطرة إلا جاهل أو مكابر؛ فهو أكبر دماغاً، وأوسع عقلاً، وأعظم استعداداً للعلوم، وأقدر على مختلف الأعمال+(4).
__________
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي 1/253، وزاد المعاد لابن القيم 2/302، وبدائع الفوائد لابن القيم 3/151_152 و4/41 وأضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 3/415_423.
(2) رواه البخاري (3331) ومسلم (1468).
(3) رواه البخاري (304)، ومسلم (79) و(80).
(4) نداء للجنس اللطيف لمحمد رشيد رضا، ص36.(2/13)
وبعد أن استبان لنا عظم شأن القوامة، وأنها أمر يأمر به الشرع، وتقره الفطرة السوية، والعقول السليمة ـ فهذا ذكر لبعض ما قاله بعض الغربيين من الكتاب وغيرهم في شأن القوامة؛ وذلك من باب الاستئناس؛ لأن نفراً من بني جلدتنا لا يقع الدليل موقعه عندهم إلا إذا صدر من مشكاة الغرب(1).
أ_ تقول جليندا جاكسون حاملة الأوسكار التي منحتها ملكة بريطانيا وساماً من أعلى أوسمة الدولة، والتي حصلت على جائزة الأكاديمية البريطانية، وجائزة مهرجان مونتريال العالمي تقول: =إن الفطرة جعلت الرجل هو الأقوى والمسيطر بناءً على ما يتمتع به من أسباب القوة تجعله في المقام الأول بما خصه الله به من قوة في تحريك الحياة، واستخراج خيراتها، إنه مقام الذاتية عند الرجل التي تؤهله تلقائياً لمواجهة أعباء الحياة وإنمائها، واطراد ذلك في المجالات الحياتية+.
ب_ الزعيمة النسائية الأمريكية (فليش شلافي) دعت المرأة إلى وجوب الاهتمام بالزوج والأولاد قبل الاهتمام بالوظيفة، وبوجوب أن يكون الزوج هو رب الأسرة وقائد دفتها.
جـ _ وفي كتاب صدر أخيراً عن حياة الكاتبة الإنجليزية المشهورة (أجاثا كريستي) ورد فيه قولها: =إن المرأة الحديثة مُغَفَّلة؛ لأن مركزها في المجتمع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم؛ فنحن النساء نتصرف تصرفاً أحمق؛ لأننا بذلنا الجهد خلال السنين الماضية؛ للحصول على حق العمل والمساواة في العمل مع الرجل.
والرجال ليسوا أغبياء؛ فقد شجعونا على ذلك معلنين أنه لا مانع مطلقاً من أن تعمل الزوجة وتضاعف دخل الزوج.
ومن المحزن أن نجد بعد أن أثبتنا نحن النساء أننا الجنس اللطيف الضعيف أننا نعود اليوم لنساوى في الجهد والعرق الذي كان من نصيب الرجل وحده+.
د_ وتقول طبيبة نفسية أمريكية: =أيما امرأة قالت: أنا واثقة بنفسي، وخرجت دون رقيب أو حسيب فهي تقتل نفسها وعفتها+.
__________
(1) انظر مجلة الدعوة عدد (1565).(2/14)
هذا ما يقول العقلاء من أولئك القوم، فماذا يقول العلم الحديث في ذلك الشأن؟
لقد أثبت العلم الحديث أخيراً وَهْمَ محاولات المساواة بين الرجل والمرأة، وأن المرأة لا يمكن أن تقوم بالدور الذي يقوم به الرجل؛ فقد أثبت الطبيب (د. روجرز سبراي) الحائز على جائزة نوبل في الطب ـ وجود اختلافات بين مخ الرجل ومخ المرأة، الأمر الذي لا يمكن معه إحداث مساواة في المشاعر وردود الأفعال، والقيام بنفس الأدوار.
وقد أجرى طبيب الأعصاب في جامعة (بيل) الأمريكية بحثاً طريفاً رصد خلاله حركة المخ في الرجال والنساء عند كتابة موضوع معين أو حل مشكلة معينة، فوجد أن الرجال بصفة عامة يستعملون الجانب الأيسر من المخ، أما المرأة فتستعمل الجانبين معاً.
وفي هذا دليل ـ كما يقول استاذ جامعة بيل ـ أن نصْفَ مُخِّ الرجل يقوم بعمل لا يقدر عليه مُخُّ المرأة إلا بشطريه.
وهذا يؤكد أن قدرات الرجل أكبر من قدرات المرأة في التفكير، وحل المشكلات.
وهذا ما اكتشفه البروفيسور ريتشارد لين من القسم السيكيولوجي في جامعة ألستر البريطانية حيث يقول: =إن عدداً من الدراسات أظهرت أن وزن دماغ الرجل يفوق مثيله النسائي بحوالي أربع أوقيات+.
وأضاف لين: =أنه يجب الإقرار بالواقع، وهو أن دماغ الذكور أكبر حجماً من دماغ الإناث، وأن هذا الحجم مرتبط بالذكاء+.
وقال: =إن أفضلية الذكاء عند الذكور تشرح أسباب حصول الرجال في بريطانيا على ضعفي ما تحصل عليه النساء من علامات الدرجة الأولى+.
وسواء صح ما قالوه أم لم يصح فإن الله ـ سبحانه ـ أخبرنا في كتابه بالاختلاف بين الجنسين على وجه العموم فقال _عز وجل_:[وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى](آل عمران:36).
فكل ميسر لما خلق له، وكل يعمل على شاكلته(1).
ولا يفهم من خلال ما مضى أن ضعف المرأة ونقصها الخلْقي يعد من مساوئها بل هو من أعظم محاسنها.
__________
(1) انظر مجلة الدعوة عدد (1565).(2/15)
قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي×: =ألا ترى أن الضعف الخِلْقيَّ والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب.
قال جرير:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يَصْرَعْن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
وقال ابن الدمينة:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
فلم يعتذرْ عُذْرَ البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب
فالأول تشبيب بهن بضعف أركانهن، والثاني بعجزهن عن الإبانة في الخصام كما قال ـ تعالى ـ:[وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ](الزخرف: 18).
ولهذا التباين في الكمال والقوة بين النوعين صح عن النبي"اللعن على من تشبه(1) منهما بالآخر+(2).
وقال×بعد أن ذكر بعض الأدلة على فضيلة الذكر على الأنثى: =فإذا عرفت من هذه أن الأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي ـ فاعلم أن العقل الصحيح الذي يدرك الحكم والأسرار يقضي بأن الناقص الضعيف بخلقته وطبيعته يلزم أن يكون تحت نظر الكامل في خلقته، القوي بطبيعته؛ ليجلب له ما لا يقدر على جلبه من النفع، ويدفع عنه ما لا يقدر على دفعه من الضر+(3).
7_ أكل مال الزوجة بالباطل:
فمن الأزواج من قد رقَّ دينه، وقلَّت مروءته، فتراه يأكل مال زوجته بالباطل، ويسلك في ذلك السبيل سبلاً شتى.
فقد تكون زوجته مُعلِّمةً تقبض مالاً مقابل تدريسها، وقد تكون ورثت مالاً من أبيها أو غيره، وقد يكون لها مصادر أخرى للرزق.
__________
(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري (5885) من حديث ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: =لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم_ المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال+.
(2) أضواء البيان للشنقيطي 3/421.
(3) أضواء البيان 3/420.(2/16)
ومن هنا يجد بعض الأزواج فرصته لأكل مال الزوجة بالباطل، إما بتهديدها بالطلاق إن لم تعطه، وإما بالتملق لها وإظهار الحاجة بين يديها، أو بالاستدانة منها مع تبييت النية بعدم الوفاء، أو بالاشتراك معها في مشروع ما دون كتابة عقد بينهما، ثم يسل يده منها، ويتفرد بالمشروع وحده، إلى غير ذلك من ألوان الأكل لمال الزوجة بالباطل.
وهذا الصنيع تأباه المروءة والدين؛ فقد حمى الإسلام مال الزوجة؛ فلم يجعل ليد الزوج عليه من سبيل؛ فأبقى لها حرية التصرف في مالها على ما ترى إذا كانت عاقلة رشيدة، وليس للزوج حق في أن يتناول منه درهماً واحداً إلا عن طيب نفسها، وليس له حق في منعها من أن تتصرف في مالها على وجه المعاوضة كالبيع، والقرض، والإجارة ونحوها بإجماع العلماء، وليس له الحق في منعها من أن تنفق منه أو تنفقه على وجه التبرع كالصدقة، والهبة عند جمهور أهل العلم.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن للزوج أن يمنعها من التبرع بأكثر من ثلث مالها(1).
فالخلاف ـ إذاً ـ في كونها تنفق، أما أخذ الزوج مالها بالباطل فلا خلاف في عدم جوازه.
وفيما يلي ذكر لبعض الأدلة، والخلاف، وأقوال بعض العلماء في تصرف المرأة في مالها.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي"قال يوم الفتح: =لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها+(2).
وقد ورد الحديث نفسه بلفظ: =لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها+(3).
__________
(1) انظر الهداية الإسلامية ص58.
(2) رواه أحمد 2/184، وأبو داود (3547)، والنسائي 5/65_66، و6/278، والبيهقي 6/60 وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (6727)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7502).
(3) رواه أحمد 2/221، وابن ماجه (2388) وأبو داود (3546) والنسائي في المجتبى 6/278، وهو في الكبرى 4/135 (6590)، والبيهقي 6/60، والحاكم 2/47 وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7501).(2/17)
وعن عبدالله بن يحيى الأنصاري ـ رجل من ولد كعب بن مالك ـ عن أبيه عن جده: أن جَدَّته خيرة امرأة كعب بن مالك أتت رسول الله"بِحُليٍّ لها فقالت: إني تصدقت بهذا، فقال رسول الله": =لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها؛ فهل استأذنتِ كعباً؟+، قالت: نعم، فبعث رسول الله"إلى كعب فقال: =هل أَذِنْتَ لخيرة أن تتصرف بحليها+ فقال: نعم، فقبله رسول الله"+(1).
فهذه أدلة من احتج بأنها لا تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها.
ومن الأدلة التي يُحتج بها على نفوذ تصرفها في مالها دون إذن الزوج ما رواه جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ قال: =شهدت مع رسول الله"يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس، وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن، وذكَّرهن فقال: =تصدقن؛ فإن أكثركن حطب جهنم+.
فتكلمت امرأة من سطة(2) النساء سفعاء الخدين(3) فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: =لأنكن تكثرن الشكاية، وتكفرن العشير+.
قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن+(4).
قال الخطابي×: =وهذه عطية بغير إذن أزواجهن+(5).
__________
(1) رواه ابن ماجه (2389)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/403، وقال: =حديث شاذ لا يثبت+. ورواه الطبراني في الكبير 24/256، وقال عنه البوصيري في مصباح الزجاجة(843): =هذا إسناد ضعيف؛ عبدالله بن يحيى لا يعرف في أولاد كعب بن مالك، وليس لخيرة هذه عند ابن ماجه سوى هذا، وليس له شيء في الخمسة الأصول+.
وقال عنه الحافظ ابن حجر في الإصابة 4/296:=إسناد ضعيف لا تقوم به حجة+.
(2) من سطة النساء: أي جالسة وسطهم.
(3) سفعاء الخدين: فيها تغير وسواد.
(4) رواه البخاري (304)، ومسلم (885).
(5) انظر عون المعبود 9/463.(2/18)
قال الشوكاني×معلقاً على حديث =لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها+ قال: =وقد اسْتُدِل بهذا الحديث على أنه لا يجوز للمرأة أن تعطي عطية من مالها بغير إذن زوجها ولو كانت رشيدة، وقد اختلف في ذلك: فقال الليث: لا يجوز لها ذلك مطلقاً لا في الثلث ولا فيما دونه إلا الشيء التافه.
وقال طاووس ومالك: إنه يجوز لها أن تعطي مالها بغير إذنه في الثلث لا فيما فوقه، فلا يجوز إلا بإذنه.
وذهب الجمهور إلى أنه يجوز لها مطلقاً من غير إذن من الزوج إذا لم تكن سفيهة، فإن كانت سفيهة لم يجز.
قال في الفتح: =وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة+ انتهى.
وقد استدل البخاري في صحيحه على جواز ذلك بأحاديث ذكرها في باب هبة المرأة لغير زوجها من كتاب الهبة.
ومن جملة أدلة الجمهور حديث جابر المذكور قبل هذا، وحملوا حديث الباب على ما إذا كانت سفيهة غير رشيدة، وحمل مالك أدلة الجمهور على الشيء اليسير، وجعل حده الثلث فما دونه+(1).
وبالجملة فالمقصود مما مضى بيان حرمة الأكل لمال الزوجة بالباطل، ولا يعني ذلك أن تقبض المرأة يدها عن إعانة زوجها؛ فهذا شيء، وأكل مالها بالباطل شيء آخر.
كما لا يعني تصرفها في مالها أن تدع استشارة الزوج والاستنارة برأيه.
بل اللائق بها أن تعين زوجها على نوائب الحق، وأن تستشيره في كافة شؤونها؛ فذلك مما ينمي الألفة، ويرسخ دعائم المودة.
8_ قلة الحرص على تعليم الزوجة أمر دينها:
فمن مظاهر التقصير في حق الزوجات قلة الحرص على تعليمهن، وتربيتهن، وتفقيههن بأمر دينهن.
بل قد يكون الرجل ذا صلاح وتقى وعلم ودعوة، ومع ذلك لا يحرص على إيصال ذلك الخير إلى زوجته وأهل بيته.
من الناس من يصل الأبعدين ... ويشقى به الأقرب الأقرب
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 6/418.(2/19)
ولا ريب أن هذا خطأ وخلل؛ فالجهل داء وبيل، ومرتع صاحبه وخيم؛ فإذا كانت الزوجة جاهلة أمرَ دينها لم تعرف حق زوجها، ولم تستطع أن تربي أولادها وترعى منزلها كما ينبغي، ولم تقم بعبادة ربها على الوجه الذي يرضيه ـ عز وجل ـ.
قال السيد محمد رشيد رضا×: =فالواجب على الرجال بمقتضى كفالة الرياسة أن يعلموهن ما يمكنهم من القيام بما يجب عليهن+(1).
وقال: =فكيف يمكن للنساء أن يؤدين تلك الواجبات والحقوق مع الجهل بها إجمالاً وتفصيلاً؟
وكيف تسعد في الدنيا والآخرة أمَّة نصفها كالبهائم لا يؤدي ما يجب عليه لربه، ولا لنفسه، ولا للناس، والنصف الآخر قريب من ذلك؛ لأنه لا يؤدي إلا قليلاً مما يجب عليه من ذلك، ويترك الباقي، ومنه إعانة ذلك النصف الضعيف على القيام بما يجب عليه، أو إلزامه بما له عليه من السلطة والرياسة؟+(2).
ولهذا كان واجباً على الزوج أن يعلم زوجته أمور دينها ـ ولو على سبيل الإجمال ـ فيعلمها أصول الدين من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
ويرسخ في قلبها حب الله، وخوفه، ورجاءه، ومراقبته، والتوكل عليه، والإنابة إليه.
ويعلمها أحكام الطهارة بأنواعها، من الجنابة، والحدث، والحيض، والنفاس.
ويعلمها أحكام العبادات، ويحضها على القيام بها، خاصة الصلاة في وقتها، مع الحرص على إتمامها بأركانها، وواجباتها، وسننها.
ويعلمها نوافل العبادات مما يقربها إلى ربها ـ عز وجل ـ ويعلمها فضائل تلك الأعمال؛ حتى تنبعث إلى فعلها.
ويعلمها حقوق الزوجية، ومكارم الأخلاق من حلم، وصبر، وصدق، وأناة، ووفاء، وبر، وصلة، وطلاقة وجه، وأدب في المحادثة والمجالسة، وما إلى ذلك من محاسن الأخلاق.
ويحذرها من مساوىء الأخلاق من طيش، ونزق، وخرق، وقلة أدب، ورفع صوت، وكذب، وغيبة، ونميمة، وحسد وما إلى ذلك من مساوىء الأخلاق.
__________
(1) نداء للجنس اللطيف، ص32.
(2) نداء للجنس اللطيف، ص33.(2/20)
ومما يحسن به في هذا الصدد أن يتعاهدها بالموعظة والتذكير، وأن يمدها بما يعين على زيادة علمها، وما يناسب حالها من سماع الأشرطة النافعة، وقراءة الكتب القيمة.
كما يبعد عنها كل ما يتسبب في انحرافها، وفسادها، وبعدها عن ربها من مسموع أو مرئي، أو مقروء.
ويعظم هذا الأمر في حق من هم من أهل العلم والدعوة والخير؛ فيجدر بهم أن تكون نساؤهم مثالاً يحتذى في الخير والعلم والدعوة قدر المستطاع.
ولئن كان ذلك حقاً من حقوق الزوجة فإن مصلحته ـ في الحقيقة ـ راجعة إلى الزوج نفسه؛ فإن الزوجة التي نشأت في مهد الدين، وتربت على العلم النافع والعمل الصالح ـ تكون من أبر الزوجات بزوجها، وأحفظهن على البيت، وأحناهن على الأولاد؛ فتكون من عاجل البشرى، ومن النعيم العاجل، ومن أمارات السعادة.
كيف وقد جعل الله وقاية الزوجة من النار أمانة في عنق الزوج؟
قال ـ تعالى ـ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] (التحريم: 26).
قال قتادة×في معنى هذه الآية: =تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم وتساعدهم عليه، فإذا رأيت معصية قَدَعْتَهم عنها، وزجرتهم عنها+(1).
ولذلك أباح الإسلام للمرأة التي يأبى زوجها أن يعلمها ما تحتاج إليه من أحكام الشريعة ـ أن تخرج؛ لتسأل أهل العلم بدين الله عن ذلك؛ فإنها هي وزوجَها أحوج إلى هذا من سعيها وسعيه للطعام والشراب.
ثم إن المرأة شديدة التأثر بسلوك زوجها؛ فإن رأت منه حرصاً على ستر، أو عفة، أو خلق، أو عبادة بادرت إلى ذلك استجابة لأمر ربها، وإرضاءً لزوجها.
وإن رأت منه إعراضاً، وانفلاتاً من أحكام الدين، وآداب الأسرة ـ لم تجد بُدَّاً من الاستجابة له، وفعل ما يرضيه.
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/391.(2/21)
وكم يرى من زوجات خرجن من بيوت آبائهن إلى بيوت الأزواج عفيفات محتشمات عابدات؛ فما لبثن غير قليل حتى نبذن الحشمة والوقار ظهرياً؛ بتأثير الزوج وانحرافه وجهالته(1).
9_ التقتير على الزوجة:
فمن الأزواج من يُقَتِّر على زوجته، ويقصر في الإنفاق عليها مع شدة حاجتها، ومع قدرة الزوج ويساره.
وأعظم من ذلك أن يبخل الزوج على زوجته بالنفقة الواجبة في الوقت الذي يجود بما له ذات اليمين وذات الشمال على رفاق السوء، وفي ولائم الرياء، ورحلات الفساد، فتراه ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذاته وشياطينه، وإذا سأله أهله بذل القليل أعرض ونأى بجانبه.
فهذه الحال أوجع مسَّاً، وألذع ميسماً، وأشد وقعاً، وأحد حدَّاً.
وكم من بيوت يجثم عليها البؤس، وتخيم عليها سحائب الشقاء بسبب تقتير الزوج وتقصيره في النفقة؛ فربما باتت الزوجة وأولادها على الطوى، وربما بَلِيَتْ ثيابهم فلم يجدوا بدلاً عنها، وربما تكففوا الناس؛ فلا غرابة ـ إذاً ـ إذا تشتت الأولاد وبحثوا عمن يمدهم بالمال، ولا عجب إذا انحرفت البيوت إن لم يكن لها رادع من دين أو حياء أو مروءة.
فمن حق الزوجة على زوجها أن ينفق عليها بالمعروف، والمراد بالنفقة ههنا ما يفرض للزوجة على زوجها من مال للسكنى، والطعام، والحضانة، واللباس، وما إلى ذلك مما تصان به حرمة الزوجة من الابتذال، وما تحفظ به صحتها وكرامتها.
كل ذلك في حدود الطاقة والوسع.
قال ابن قدامة×: =نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقول الله ـ تعالى ـ:[لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا] (الطلاق: 7).
ومعنى =قدر عليه+أي ضيِّق عليه.
__________
(1) انظر نداء للجنس اللطيف، ص32_34 وأخلاقنا الاجتماعية ص149_150، والمسؤلية في الإسلام د. عبدالله قادري ص127_128، وعودة الحجاب 2/370.(2/22)
وقال الله ـ تعالى ـ:[قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ] (الرعد: 26).
وأما السنة فما روى جابر أن رسول الله"خطب الناس فقال: =اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوانٍ(1) عندكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف+ رواه مسلم، وأبو داود، ورواه الترمذي بإسناده عن عمرو بن الأحوص.
وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن، ذكره ابن المنذر(2) وغيره.
وفيه ضرب من العبرة وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب، فلا بد من أن ينفق عليها كالعبد مع سيده+(3).
والمعتبر في النفقة الواجبة الكفايةُ المعتبرة بالمعروف، بحيث ينفق على الزوجة ما يعتاده أمثالها من قريبات أو جارات، مع مراعاة أن النساء يتفاوتن في مقدار ما يكفيهن طعاماً وكسوة؛ فالطويلة تحتاج إلى مقدار من القماش أكثر مما تحتاجه القصيرة وهكذا؛ فهذه الحاجة تقدر بالمعروف، والمعروف يقضي بمراعاة أمور كثيرة تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، والأمكنة والأزمنة يقول السرخسي×: =يفرض بمقدار ما تقع به الكفاية، ويعتبر المعروف في ذلك، وهو فوق التقتير ودون الإسراف+(4).
__________
(1) عوان: جمع عانية وهي الأسيرة.
(2) انظر الإجماع لابن المنذر ص84.
(3) المغني بتصرف 11/347_348، وانظر المبسوط للسرخسي 5/180، وبداية المجتهد لابن رشد 2/53، وحاشية ابن عابدين 3/572، وكفاية الأخيار 2/272، والروضة للنووي 9/40.
(4) المبسوط 5/181، وانظر المغني 11/348_349.(2/23)
والنفقة على الزوجة مقدمة على النفقة على غيرها، وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس؛ فعن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله": =دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك+(1).
وجاء في حديث جابر ÷ أن النبي"قال لرجل: =ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فَضُل شيء فلأهلك، فإن فَضُل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا+(2).
وإذا قَصَّر الزوج في النفقة الواجبة على زوجته بما يكفيها ويكفي أولادها، وقَدِرَت الزوجة على أخذ شيء من ماله فلها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي أولادها بدون إذنه.
ففي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن هنداً قالت يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه؛ فهل عليَّ في ذلك من جناح؟
فقال رسول الله": =خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك+(3).
فإن أعسر الزوج إعساراً تتعذر معه النفقة، واختارت الزوجة فراقه؛ لعدم صبرها عليه فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنه يفرق بينهما، وخالف آخرون.
والذي يظهر من أصول الشريعة أن لها الحق في مفارقته؛ دفعاً للضرورة(4).
وأما إذا كانت المرأة عاملة فيرى بعض المعاصرين أنها تستحق النفقة إذا عملت بإذن الزوج، فإن عملت بغير إذنه فلا نفقة لها(5).
__________
(1) رواه مسلم (995).
(2) رواه مسلم (997).
(3) البخاري(2211)، و(5364)، و(5370)، ومسلم(1714).
(4) انظر زاد المعاد لابن القيم 5/511_522، وفتح الباري 9/418_421، ونيل الأوطار للشوكاني 6/762_766، والمسؤلية في الإسلام ص126.
(5) انظر أحكام الزواج ص282.(2/24)
يقول الشيخ د. عمر الأشقر ـ حفظه الله ـ: =والصواب من القول أن التي تعمل لا نفقة لها؛ لأن الزوج يستطيع منعها من العمل والخروجِ من المنزل؛ فذلك حقه، وهو إنما ينفق عليها لأنها متفرغة لزوجها، محبوسة عليه؛ فإذا كانت تعمل وتكسب فإن السبب الذي وجب من أجله الإنفاق يكون قد زال+(1).
وخلاصة القول أن الواجب على الرجل أن ينفق على زوجته بالمعروف بلا إسراف ولا تقتير، ولا منٍّ ولا أذى.
وإن تَكَرَّم وزاد على الحد الواجب، كأنْ يقدم لها ما يشرح صدرها، وتَقَرُّ بِهِ عَيْنُها من نحو الهدية، والبذل والعطية ـ فحسن؛ ولا يعني ذم التقتير أن يطلق الزوج يده فينفق الأموال الطائلة في سبيل الأمور التافهة.
كما لا يجوز للزوجة أن تطلب من النفقة أكثر مما تحتاج إليه، أو أن تحمّل زوجها ما لا يطيق؛ فهذا عنت، وإرهاق يعرض الأسرة للعجز والحرمان، وذلك أسلوب لا تلجأ إليه امرأة عاقلة تحسن التدبير، وتريد أن تعيش بهناء وستر.
ثم إذا بليت الزوجة بزوج يُقَتِّر عليها فصبرت واحتسبت فلها الأجر والثواب من الله ـ عز وجل ـ(2).
10_ مفاجأة الزوجة بعد طول الغياب:
فمن الأزواج من يغيب عن زوجته فترة من الزمن، كأن يسافر لتجارة، أو عمل، أو نحو ذلك.
وإذا عاد من غيبته فاجأ زوجته بالدخول عليها دون إعلام لها أو إشعار بأنه سيأتي.
وذلك ناتج عن قلة مبالاة الزوج، أو لرغبته في مفاجأة الزوجة حتى تفرح بما لم تكن قد توقعته، أو لجهله بعواقب المفاجأة، أو غير ذلك من دواعي المفاجأة وأسبابها.
وهذا العمل مخالف للسنة؛ لما قد يترتب عليه من عواقب وخيمة؛ فالذي ينبغي للزوج أن يتجنب مفاجأة زوجته بعد طول الغياب قدر المستطاع.
__________
(1) أحكام الزواج ص282.
(2) انظر جوامع الآداب للقاسمي ص36، وأخلاقنا الاجتماعية ص148_149.(2/25)
والأصل في ذلك ما جاء عن جابر ÷ قال: كنا مع رسول الله"في غزوة، فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخلها، فقال رسول الله": =أمهلوا، لا تدخلوا ليلاً ـ يعني عشاءً ـ حتى تمتشط الشَّعِثة(1)، وتستحد المغيبة(2)+(3).
والهدف من هذا التشريع إبقاء الرغبة في الزوجة قوية؛ بحيث لا يحدث منها ما يُطْلِعُ الزوج على شيء من عيوبها، أو ما ينافي كمال زينتها من تشعث الشعر، وإهمال الزينة، ونحو ذلك.
بل يجدها دائماً في حال من الجمال والزينة، وما شأنه أن يبقي على سرور النفس، وشدة الرغبة.
وفي رواية للبخاري: =إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً+(4).
قال ابن حجر×: =الطُّروق بالضم المجيء ليلاً من سفر أو من غيره على غفلة.
يقال لكل آتٍ بالليل طارق، ولا يقال بالنهار إلا مجازاً+(5).
ففي هذا الحديث دليل على أنه يستحب التأني للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع فيه التجمل والاستعداد؛ فلربما كانت الزوجة في حال انفرادها على وضع لا يليق، وربما كانت مشغولة ببعض أعمال المنزل، فأهملت بعض زينتها واستعدادها للقاء الزوج.
والزوجُ راغب فيها، فإذا هجم على زوجته وهي على هيئة تقذفها العين، وتنفر منها النفس ـ كان ذلك مدعاة للنفور من الزوجة، وقلة الرغبة فيها.
ومن هنا كان تنبيه الزوجة وإعلامها بقدوم الزوج أولى وأدوم لتعلق القلب بها، وأحفظ من النفور والملل ونبوِّ العين عنها(6).
__________
(1) الشعثة: البعيدة العهد بالغسل، وتسريح الشعر والنظافة.
(2) المغيبة: التي غاب عنها زوجها.
(3) رواه مسلم (715)، وأبو داود (2776)، والترمذي (1172).
(4) البخاري (5244).
(5) فتح الباري 9/251.
(6) انظر اللقاء بين الزوجين للشيخ عبدالقادر عطا ص73، وعودة الحجاب 2/287.(2/26)
قال ابن حجر×في شرح الحديث السابق: =فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلاً نهاراً ويرجع ليلاً لا يتأتَّى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة ـ كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع الذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً ما يكره(1)، إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظف والتزين المطلوب من المرأة، فيكون ذلك سبباً للنفرة بينهما+(2).
والحاصل أن الزوج لا ينبغي له أن يفاجأ زوجته إذا قدم من غيبته؛ اتباعاً للسنة، وتلافياً لما ذكر؛ فعليه أن يرسل من يخبرهم بقدومه، وأن يتريث بعد وصول الخبر لأهله، أو أن يرسل إليهم بأنه سيأتي في اليوم الفلاني إن يسر الله له القدوم.
وفي هذا الوقت تيسرت السبل؛ فبإمكان الزوج أن يتصل عبر الهاتف، ويخبر أهله بأنه قادم في اليوم الفلاني أو الساعة الفلانية.
ثم إن على الزوجة إذا علمت بقدوم زوجها أن تأخذ زينتها، وأن تستعد له أتم الاستعداد.
11-كثرة لوم الزوجة وانتقادها:
فمن الأزواج من يكثر لوم زوجته وانتقادها عند كل صغيرة وكبيرة، فتراه ينتقد الطعام الذي تعده الزوجة، وتراه يعاتبها إذا بكى الصغار أو كثر عبثهم، وتراه يبالغ في تأنيبها إذا نسيت أو قصرت في شأن من شؤونه.
وأقبح ما في ذلك أن يعنفها فيما لا قدرة لها عليه، كأن يلومها إذا كانت لا تنجب، أو إذا كانت لا تنجب إلا بنين فحسب، أو بنات فحسب، أو يلومها إذا أنجبت ولداً مشوهاً، أو فيه بعض العيوب الخِلْقية؛ فيجمع بذلك بين ألمها في نفسها وبين إساءته البالغة بقوارصه التي تقض مضجعها، وتؤرق جفنها.
وما هذا بمسلك العقلاء؛ ذلك أن كثرة اللوم لا تصدر من ذي خلق كريم أو طبع سليم؛ ثم إن ذلك يورث النفرة، ويوجب الرهبة.
فَدَعِ العتابَ فربَّ شرْ ... ر هاج أوله العتاب(3)
فالزوج العاقل الكريم لا يعاتب زوجته عند أدنى هفوة، ولا يؤاخذها بأول زلة.
__________
(1) لعلها: على ما يكره.
(2) فتح الباري 9/252.
(3) عيون الأخبار لابن قتيبة 3/29.(2/27)
بل يلتمس لها المعاذير، ويحملها على أحسن المحامل.
وإن كان هناك ما يستوجب العتاب عاتبها عتاباً ليناً رقيقاً تدرك به خطأها دون أن يهدر كرامتها أو ينسى جميلها.
ثم ما أحسن أن يتغاضى المرء ويتغافل؛ فذلك من دلائل سمو النفس وشفافيتها وأريحيتها، كما أنه مما يعلي المنزلة، ويريح من الغضب وآثاره المدمرة.
وإن أتت المرأة ما يوجب العتاب فلا يحسن بالزوج أن يكرر العتاب، وينكأ الجراح مرة بعد مرة؛ لأن ذلك يفضي إلى البغضة، وقد لا يبقي للمودة عيناً ولا أثراً.
ومما يعين الزوج على سلوك طريق الاعتدال في عتاب الزوجة أن يوطن نفسه على أنه لن يجد من زوجته كل ما يريد كما أنها لن تجد فيه كل ما تريد؛ فلا يحسن به ـ والحالة هذه ـ أن يعاتب في كل الأمور، وأن يتعقب كل صغيرة وكبيرة؛ فأي الرجال المهذب؟ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟.
ثم إن الإنسان لا يستطيع أن يتخلص من كثير من عيوبه؛ فعلامَ نُحمِّل الآخرين فوق ما يطيقون ونحن عن تلافي كثير من عيوبنا عاجزون؟.
ولا يعني ما مضى أن يتساهل الزوج في تقصير الزوجة في الأمور المهمة من نحو القيام بالواجبات الدينية، أو رعاية الأداب المرعية، أو التزام ما تقضي به الصيانة والعفة؛ فهذه أمور يجب أن توضع على رأس الأشياء التي لا يقبل التنازل عنها بحال(1).
قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: =استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضلَع، وأن أعوج ما في الضلع أعلاه+(2).
فالحديث الشريف يعلم الرجل كيف يسلك في سياسة الزوجة طريق الرفق والأناة؛ فلا يشتد ويبالغ في ردها عن بعض آرائها التي بها عوج؛ فإن ذلك قد يفضي إلى الفراق.
كما أنه لا يتركها وشأنها، فإن الإغضاء عن العوج مدعاة لاستمراره أو تزايده.
__________
(1) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص72 و 89.
(2) رواه البخاري (3331)، ومسلم (1468).(2/28)
والعوج المستمر أو المتزايد قد يكون شؤماً على المعاشرة، فتصير إلى عاقبة مكروهة(1).
وبعد ذلك فقد يقع من الزوج شدة في العتاب، أو إسراف في اللوم؛ فيحسن به إذا وقع منه ذلك أن يبادر إلى الاعتذار، أو الهدية، وإظهار الأسف، والاعتراف بالخطأ دون أن تأخذه العزة بالإثم؛ فما هو إلا بشر، وما كان لبشر أن يدعي أنه لم يقل إلا صواباً.
فإذا أخذ الزوج بهذه الطريقة قلَّ عتابه، وأراح نفسه، وسما بخُلِقه.
قال ابن حبان×: =من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه، وترك التوقع لما يأتون من المحبوب كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء+(2).
12-قلة الشكر والتشجيع للزوجة:
فكما أن من الأزواج من يكثر انتقاد الزوجة ولومها إذا هي أخطأت أي خطأ ـ فكذلك تجد من هؤلاء من لا يشكر زوجته إذا هي أحسنت، ولا يشجعها إذا قامت بالعمل كما ينبغي؛ فقد تقوم الزوجة بإعداد الطعام الذي يَلَذُّ للزوج، وقد ترفع رأسه إذا قدم عليه ضيوف، وقد تقوم على رعاية الأولاد خير قيام، وقد تظهر أمامه بأبهى حلة، وأجمل منظر، وقد، وقد، وقد...
ومع ذلك لا تكاد تظفر منه بكلمة شكر، أو ابتسامة رضاً، أو نظرة عطف وحنان، فضلاً عن الهدية والإكرام.
ولا ريب أن ذلك ضرب من ضروب الكزازة والغلظة، ونوع من أنواع اللؤم والبخل.
وقد يلتمس الزوج لنفسه العذر بأنه يخشى من تعالي الزوجة وغرورها إذا هو شكرها أو أثنى عليها.
وهذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه؛ فيا أيها الزوج المفضال، لا تبخل بما فيه سعادتك وسعادة زوجتك، ولا تهمل اللفتات اليسيرة من هذا القبيل؛ فإن لها شأناً جللاً، وتأثيراً بالغاً.
__________
(1) انظر الهداية الإسلامية ص57.
(2) روضة العقلاء لابن حبان ص72.(2/29)
فماذا يضيرك إذا أثنيت على زوجتك بتجملها، وحسن تدبيرها؟ وماذا ستخسر إذا شكرتها على وجبة أعَدَّتها للضيوف؟ أو ذكرت لها امتنانك لرعايتها وخدمتها لبيتك وأولادك ـ وإن كان ذلك من اختصاصها، وإن كانت لا تقدمه إلا على سبيل الواجب ـ؟.
لكن ذلك من قبيل الكلمة الطيبة التي تؤكد أسباب المودة والرحمة.
إن الزوجة إذا وجدت ذلك من زوجها ستسعد، وتشعر بالنشاط، والتدفُّع لخدمته، والمسارعة إلى مراضيه؛ لما تلقاه منه من حنان وعطف وتقدير.
وإذا أصبح قلبها مترعاً بهذه المعاني عاشت معه آمنة مطمئنة، وعاد ذلك على الزوج بالأنس والمسرات(1).
13-كثرة الخصومة مع الزوجة:
وهذه الفقرة قريبة من الفقرة التي قبل الماضية.
فمن الأزواج من هو كثير الخصومة، محبٌّ للَّدد، فتراه مستعداً للملاحاة مع زوجته عند أدنى خلاف.
وكثيراً ما يكون النزاع بسبب أمور تافهة يمكن الإنسان بقليل من سعة العقل وكبر النفس أن ينظر إليها، ويبتسم من حدوثها؛ فالحياة ـ عموماً ـ والحياة الزوجية ـ خصوصاً ـ لا تخلو من أعمال قد تثير النفس، وتكدر الخاطر؛ فإذا أمعن الإنسان في الألم من تلك الأعمال الصغيرة فإن ذلك ناتج عن ضيق نفسه، وخفة عقله، وتعَجُّله الهمَّ والغم.
وإذا أمَّلت أن يسير الناس على وفق ما تشتهي، أو أن تأتي الأمور على نحو ما تريد ـ فخيرٌ لك ألا تنتظر طويلاً؛ لأنك قد رُمْتَ مستحيلاً.
ولكن خير من ذلك أن تأخذ الناس ـ وخصوصاً من لابد من معاشرتهم ـ كما هم، وأن تترفع عن السفاسف والمحقرات، وتكون واسع النفس عميقها، تتقبل الأعمال الصغيرة بصدر رحب، ونفس مطمئنة، وتسعى في حل المشكلات بتؤدة، وسكينة، ونظر في الأمور بعيد، دونما تهوين أو تهويل.
فلا يحسن بالزوج ـ إذاً ـ أن يجعل بيته ميداناً للمهاترات، ولا أن يحمل زوجته على كل رأي يراه، سواء كان حقاً أو باطلاً.
__________
(1) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص118_119.(2/30)
بل عليه أن يحترم رأيها [ولهن مثل الذي عليهن] وأن يكون حواره معها مبللاً بندى العاطفة، وشذى المحبة، والرغبة في الوصول إلى الحق؛ فالنفوس إنما تقاد بصدق اللهجة، وزمام الحجة.
ومن الخير للزوجين ألا يطول النقاش بينهما، وألا يصل إلى حد المراء واللدد، ومن الخير ـ أيضاً ـ أن يتنازل كل واحد منهما عن رأيه إذا بدا له رجاحة الرأي الآخر ما دامت الآراء قابلة للأخذ والرد.
ثم إذا احتدم النقاش فخير وسيلة لكسبه تركه، وصرف النظر إلى حديث آخر؛ إذ ليس من الحكمة تعريض الحياة الزوجية إلى الدمار بسبب الإصرار على أمور لا تقدم ولا تؤخر.
إن الاحترام المتبادل بين الزوجين يجعل الحرص على المودة المشتركة أغلى من مجرد رأي يسير في أمرٍ من الأمور.
إن تغيير الأثاث، أو اختيار لون الفرش لا يستحق أن يكون مادة للخلاف الذي يهدد بنيان الأسرة(1).
14_ طول المقاطعة والهجران للزوجة بلا داع:
فقد مر بنا في الفقرة الماضية أن من الأزواج من يخاصم زوجته عند كل صغيرة وكبيرة، وأن هذا لا يحسن بالزوج العاقل الحريص على سعادة أسرته.
وهناك من الأزواج من قد يتخاصم مع زوجته، ولكنه لا يشتد في الخصومة، فيبقي على حبال المودة، ولا يصرمها البتة.
ولكن هناك من إذا خاصم زوجته فَجر في الخصومة، فظلم، وتعدى طوره؛ فبمجرد أدنى خطأ أو خلاف مع زوجته تجده يهجرها، ويقطع شواجر المحبة والرحمة.
وما هكذا تورد الإبل، ولا هكذا تكون المعاملة بين الزوجين؛ فليس من الحكمة أن يتخاصم الزوجان عند كل صغيرة وكبيرة، وليس من الدين ولا المروءة بعد الخصام أن يهجر الزوج زوجته.
__________
(1) انظر فيض الخاطر لأحمد أمين 5/187، ونظرات في الأسرة ص87.(2/31)
ثم إن كان هناك من داع للخصومة فلتكن خصومة شريفة، دعا إليها سبب معقول، وتُبُودِلَتْ فيها الحجج والبراهين من غير مهاترة أو مسابَّة، وقامت على الوسائل المكشوفة الظاهرة لا الخفية الدنيئة، وخرج كل خصم من الخصومة شريفاً لم تُدَنِّسْه الخصومة؛ فهي كالصراع بين فارس نبيل وآخر مثله، لابد لحربها من سبب قوي؛ فإذا تحاربا خضعا لأدب الحرب، وترفعا عن السفاسف والصغائر، وأساليب الخداع والمراوغة، ثم إذا انتهى الصراع انتهت الخصومة(1).
ثم إن حصل بين الزوجين مقاطعة بسبب الخصام فلا ينبغي أن تطول أكثر من اللازم، هذا إذا كان السبب يسيراً ليس ناتجاً عن نشوز من الزوجة.
إن طول مدة الخصام تسقط هيبة الطرف الثاني، وتجرِّىء على المضي قدماً في طريق الخصومة، وربما تفاقم الأمر إلى ما لا تحمد عقباه(2).
وربما شعر الآخرون بذلك، فعظَّموا الأمر، وربما وجد الوشاة فرصتهم للإيقاع بين الزوجين، وإذكاء نار الخصومة، وربما زين الشيطان للزوج طلاق زوجته.
والحاصل أن الزوج العاقل هو الذي يستطيع السيطرة على الخصومة، فلا يعطيها أكثر مما تستحق، وهو الذي يدرك أن الخلافات لا يخلو منها منزل؛ فالبيت السعيد ليس ذلك الذي يخلو من المشكلات البتة؛ فذلك متعذر، وإنما هو ذاك البيت الذي يعرف كيف يتعامل معها، ويسيطر عليها.
ثم إن كان هناك من داع للهجر كأن تنشز الزوجة عن طاعة زوجها ـ فليكن بحدود وقَدْر، فلا يكون هجراً ظاهراً أمام الأولاد؛ لأن ذلك يترك في نفوسهم أسوأ الأثر.
ولا يكون أمام الغرباء؛ لما في ذلك من إذلال الزوجة، وإهدار كرامتها، فتزداد تمرداً ونشوزاً.
__________
(1) انظر فيض الخاطر 5/385.
(2) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص72.(2/32)
وليس من الهجران الذي أرشدنا إليه ربنا بقوله:[وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ](النساء: 34) ذلك الهجران الظالم المتعنت الذي يلجأ إليه بعض الأزواج الظالمين؛ حيث يهجر أحدهم زوجته أشهراً، وربما سنوات، لا يقربها، ولا يدخل بيتها، فتكون كالمعلقة؛ فلا هي كغيرها من الزوجات تنال حقها كزوجة، ولا هي مطلقة تملك أمر نفسها؛ فربما تقدم لها من تسعد به ويسعد بها.
وهذا الهجر الظالم هو الذي نهانا عنه ربنا ـ جل وعلا ـ :بقوله [فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ](النساء: 129)، وقوله:[فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ](البقرة: 228)(1).
15_ إطالة المكث خارج المنزل، وقلة الجلوس مع الأهل:
فمن الأزواج من يطيل المكث خارج المنزل، فلا يكاد يجد وقتاً يجلس فيه إلى أهله.
فمنهم من يشتغل بكسب المال، فتراه يكدح نهاره، وزلفاً من ليله، فلا يعود إلى منزله إلا وهو مكدود الجسم، مهدود القوى، قد استنفد طاقته، فلم يعد لديه أدنى استعداد لمحادثة أو مؤانسة، فيخلد إلى فراشه، فيسلمه الفراش إلى سبات عميق.
ومنهم من يمكث خارج المنزل مع زملائه وأصدقائه في رحلات، وسهرات، وحضور حفلات، ومناسبات؛ فلا يأتي منزله إلا في ساعة متأخرة من الليل.
وربما أتى وزوجته تغط في سبات عميق بعد أن أعياها السهر، وطال عليها الانتظار.
وربما أتى وزوجته قد استعدت له بكامل زينتها، فتستقبله بوجه مشرق، وجبين وضَّاح، فلا يقابلها إلا بوجه عابس، وجبين مُقَطِّب، ونفس كَزَّة.
وهناك من الأزواج من يخرج لاستراحته أو استراحة غيره، فيلتقي زملاءه هناك، فتستمر الجلسة إلى وقت متأخر من الليل، فلا يعلم ماذا يحل في المنزل، ولا إلى أين يسير الأولاد، ولا يدري ما تعانيه الزوجة من جراء ذلك الإهمال.
__________
(1) انظر الطلاق والعدة بين التشريع والواقع لمحمود بزال ص26_27.(2/33)
وهناك من يستضيف صحبه في منزله كل ليلة، فيثقل كاهل زوجته بما تعده للضيوف من أنواع المآكل والمشارب، وربما طال وقت الجلسة إلى ما بعد منتصف الليل، وربما كانت الجلسة على لهو أو باطل، فإذا خرج الضيوف آوى الزوج إلى فراشه؛ وترك زوجته تغسل الأواني، فلا تكاد تنتهي إلا قرب الفجر دون أن تسمع منه كلمة شكر، أو ترى منه ابتسامة رضاً.
إن هذا الإنسان قد يكسب ودَّ أصدقائه، وقد يكسب سمعة اجتماعية واسعة، ولكنه يُعَرِّض نفسه لخسران السعادة المنزلية، وأي سعادة تفوق سعادة الإنسان في منزله، وأي شقاوة تعدل شقاوة الإنسان مع أهله(1).
كما أن هناك من يشتغل كثيراً عن زوجته بأمور محمودة، فتراه في عبادة وذكر، أو دعوة، أو نصح، أو أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، أو قراءة، أو كتابة، أو تأليف، أو نحو ذلك من الأمور المحمودة.
ولكن بعض أولئك يفتقدون التوازن، حيث يهمل واحدهم زوجته تماماً.
وفقدان القدرة على الموازنة يورث خللاً، واضطراباً في الحياة الداخلية للفرد في حياته، ومع زوجته وأولاده.
إن الحزم وحسن التدبير يبدوان في المقدرة على الموازنة بين الحقوق والواجبات التي قد تتعارض؛ فيستبين الحزم، وحسن التدبير في أداء الحق لكل ذي حق دون إلحاق جور في أحد من أصحاب الحقوق.
إن الاشتغال عن الأهل تفريط عظيم، وظلم بَيِّن؛ إذ كيف يسوغ للإنسان أن يشتغل طيلة وقته خارج منزله، فيترك شريكة عمره نهباً للوساوس والخطرات، والوحشة، والأزمات، أو يتركها للانغماس والدخول في مجامع لا تحمد سيرتها(2).
ولا يفهم من ذلك أن يعيش الزوج حبيس منزله لا يتعداه، فيعيش مؤثراً للعزلة، قابضاً يده عن التعاون مع بني جنسه، قاطعاً علاقاته بالناس، تاركاً الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والسعي في طلب الرزق.
__________
(1) انظر أخلاقنا الاجتماعية ص22.
(2) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص92_93.(2/34)
وإنما هي دعوة للتوازن وإعطاء كل ذي حق حقه قدر الإمكان؛ فحريٌّ بك أيها الزوج العاقل أن توازن بين الحقوق، وأن يكون لك مع أهلك وقت تملؤه بالمؤانسة العذبة، والحديث الجذاب، وتشرق عليهم بعطفك ولطفك وحنانك.
ومما يعينك على أداء حق الزوجة، ويجلب لها السعادة، وينفي عنها مرارة الألم، وحسرة الوحدة مايلي:
أ_ أن تعطي زوجتك فرصة لمشاركتك في بعض أعمالك: حيث تكلفها ببعض الأمور ولو كانت يسيرة؛ فتكسب مساعدتها، وإشغالها بما ينفعها.
ب_ أن تذكرها بفضل الصبر والاحتساب: خصوصاً إذا كنت ذا دعوة، وإصلاح، أو أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، أو كنت طالب علم، أو مشغولاً بكتابة وتأليف، أو نحو ذلك؛ فتذكرها بفضل الصبر، واحتساب ما قد يحصل من تقصير في حقها، وتشعرها بأنها شريكة في الأجر إذا هي أعانت على الخير، وتغاضت عن بعض حقها؛ فذلك مما يعزيها، ويطفىء لوعتها.
ج_ الإشادة بالزوجة: حيث تثني عليها، وعلى صبرها، وحسن تدبيرها.
د_ الاعتذار إليها إذا كثر التقصير في حقها: كأن تتأخر في الليل، أو أن تشتغل طويلاً، أو أن تضطرك الحال إلى البعد عن المنزل كثيراً.
فإذا وقَعْتَ في ذلك فإنه يحسن بك أن تعتذر، وأحسن من ذلك أن تصطحب معك هدية ولو كانت يسيرة؛ فالهدية بمعناها لا بقيمتها، أو أن تعدها بهدية.
وإلا فلا أقل من أن تأتي مبتسماً متهللاً إذا تأخرت عن المجيء إلى المنزل، وأن تتحمل بعض اللوم والعتاب إذا صدر من الزوجة؛ فذلك يُنَفِّس عنها، ويزيل ما قد يكون في قلبها.
هـ _ إعانتها على بعض الأعمال: خصوصاً إذا كان لديها أعمال كثيرة؛ إذ يحسن بالزوج أن يعينها على ذلك، فلقد كان النبي"يكون في مهنة أهله.
قال الإمام البخاري×: =حدثنا محمد بن عرعرة، حدثنا شعبة عن الحكم بن عُتيبة، عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد: =سألت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ما كان النبي"يصنع في البيت؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله؛ فإذا سمع الأذان خرج+(1).
__________
(1) البخاري (5363).(2/35)
و_ تذكيرها بوضعك الاجتماعي: فإذا كنت ذا مكانة اجتماعية أو علمية، والناس ينتجعونك ويفدون إليك كثيراً، ويحتاجون إلى علمك أو جاهك ـ فذكِّر زوجتك بذلك، وأشعرها بفضل خدمة الناس، وتنفيس كرباتهم، ونَفْعِهم بأي وجه من الوجوه، وأشعرها بأنها شريكة في الأجر، وأن ما يحصل لك أيها الزوج من نجاح وسؤدد فهي وراء ذلك، ولها أيادٍ بيضاء فيه؛ فذلك مما يعينها على القيام بأعباء الضيافة، وتحمل التبعات.
على أنه يحسن بالمرأة أن تقدر وضع زوجها الاجتماعي، وأن تعينه على الخير؛ فذلك دليل نبلها وكرم نفسها، وسر عظمتها.
ورحم الله الأديب مصطفى صادق الرافعي إذ يقول: =ولكن المرأة حق المرأة هي تلك التي خلقت لتكون للرجل مادة الفضيلة، والصبر، والإيمان، فتكون له وحياً، وإلهاماً، وعزاءً، وقوة، أي زيادةً في سروره، ونقصاً من آلامه.
ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد، هو صفاتُها التي تجعل رَجُلَها أعظم منها+(1).
16_ سوء العشرة مع الزوجة:
فمن الأزواج من يسيء عشرة زوجته، فلا يراعي مشاعرها، ولا يبالي في إيذائها، ولا يعاملها بما يقتضيه حسن العشرة، وأدب المروءة.
وقد مضى فيما مر من فقرات شيء من مظاهر سوء العشرة، ومن ذلك ـ أيضاً ـ أن من الرجال من يتزين للناس باللباقة، والبشاشة، وحلاوة اللسان، فإذا انقلب إلى أهله بدا فظَّاً غليظاً، عابس الوجه، ثقيل الظل.
ومن الرجال من لا يأبه بمحادثة زوجته، فيقاطعها إذا تحدثت، أو يتشاغل عنها بقراءة كتاب أو جريدة، أو بمكالمة هاتفية، أو بالإشاحة بالوجه عنها، أو إجالة النظر يمنة ويسرة.
ومن ذلك أن يستخف بحديثها، أو يبادر بإكماله إذا بدأت به، أو أن يقوم عنها قبل إكماله، أو أن يسارع إلى تكذيبها إذا طَرقَتْ سمعه بحديث لم يألفه.
__________
(1) وحي القلم للرافعي 2/151.(2/36)
ومن سوء العشرة أن يأنف الزوج من أن تشاركه الزوجة في الطعام، فتراها تعده له، ثم تنتبذ بعد ذلك مكاناً قصياً تأكل فيه دون أن يراها أو تراه.
ومن الرجال من لا يمازح زوجته البتة، وربما عد المزاح منافياً للحشمة والمروءة.
كل ما مضى ينافي أدب الإسلام في العشرة، ويدل على غلظ الطبع، وقسوة القلب، والجهل بالشريعة.
وذلك مما ينغص عيش المرأة، ويوغر صدرها، كيف لا وهي تنتظر من الزوج أن يكون سميرها، وأنيسها الذي تفضي إليه بهمومها، وتجد عنده الحلول المثلى، والعزاء، والمواساة؟.
فمن حق الزوجة على زوجها أن يحسن عشرتها، فيهش عند لقائها، ويمازحها ويداعبها؛ تطييباً لقلبها، وإيناساً لها في وحدتها، وإشعاراً لها بمكانتها من نفسه، وقربها من قلبه.
ومن حسن المعاشرة أن يعتني الزوج بمحادثة زوجته، فيصغي لها إذا تحدثت، ويظهر العناية بحديثها، فلا يتشاغل عنها، ولا يقوم قبل أن تكمل حديثها إلا بعد إذنها؛ فذلك من كمال الأدب مع كل أحد فكيف بالزوجة وهي من أحق الناس بالبر؟.
يروى عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: =لجليسي عليَّ ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأن أوسِّع له في المجلس إذا جلس، وأن أصغي إليه إذا تحدث+(1).
وقال عمرو بن العاص ÷: =ثلاثة لا أمَلُّهم: جليسي ما فهم عني، وثوبي ما سترني، ودابتي ما حملتني+(2).
وقال ابن جريج عن عطاء ـ رحمهما الله ـ: =إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل يولد+(3).
__________
(1) عيون الأخبار 1/306.
(2) عيون الأخبار 1/307.
(3) سير أعلام النبلاء للذهبي 5/86، وتذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص157.(2/37)
وقال ابن عبدالبر×: =ومن سوء الأدب في المجالسة أن تقطع على جليسك حديثه، أو أن تبتدره إلى تمام ما ابتدأ به منه خبراً كان، أو شعراً تتم له البيت الذي بدأ به، تريه أنك أحفظ له منه؛ فهذا غاية في سوء المجالسة، بل يجب أن تصغي إليه كأنك لم تسمعه قط إلا منه+(1).
ومن حسن العشرة أن يلزم الزوج مع زوجته حسن الخلق، وكف الأذى واحتماله، على ألا يصل ذلك إلى الموافقة باتباع هواها إلى حدٍّ يفسد خلقها، وتسقط هيبتُه عندها؛ فلا يدع الانقباض ما رأى منكراً، ولا يفتح باب المساعدة ما رأى محظوراً.
ثم إن رأى من زوجته بعض ما لا يرضيه مما لا يمس الشرف والعرض والدين ـ فعليه أن يَذْكُر إلى جانب ذلك صفاتٍ أخرى تعجبه منها، فيجعل ذلك بمنزلة الماء الذي يطفيء النار.
قال النبي": =لا يفْرَك(2) مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر+(3).
قال النووي×في شرح الحديث: =ينبغي أن لا يبغضها؛ لأنه إن وجد فيها خلقاً يُكْره وجد فيها خلقاً مرضياً بأن تكون شرسة الخلق لكنها ديِّنة، أو جميلة، أو عفيفة، أو رفيقة به، أو نحو ذلك+(4).
ولقد كانت حياة رسول الله"في بيته وبين نسائه القدوة الحسنة في الموادَّة، والموادعة، والمواتاة، وترك الكلفة، وبذل المعونة، وطيب المؤانسة، واجتناب هُجْر القول ومرذوله.
وهو الذي يقول: =أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وخياركم خياركم لنسائهم+(5).
__________
(1) بهجة المجالس لابن عبدالبر 1/46.
(2) يفرك: أي يبغض.
(3) رواه مسلم (1469).
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 10/47.
(5) أخرجه أحمد 2/250 و 472، والترمذي (1162)، وابن حبان (4176)، والبغوي في شرح السنة (234) كلهم عن أبي هريرة.
وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه للمسند (10110)، والألباني في الصحيحة (284).(2/38)
وهو الذي يعرف من سيرته أنه كان يمازح نساءه، ويقص لهن القصص، ويستمع إلى قصصهن، وكان يسابق عائشة(1)، ويريها اللعب في باحة المسجد، ويمد يده وتضع رجلها على كتفه(2).
ويتلخص مما مضى أن يحرص الزوج على حسن العشرة مع زوجته، وأن يستحضر أن طيب الحياة ومتعتها يتحققان في حياة زوجية سعيدة، وسعادةُ الزوجية أن يكون كل من الزوجين على خلق سجيح، وعقل رجيح، وأدب فاضل، ويجمع إلى ذلك صفاء الود والنصح لصاحبه حاضراً كان أو غائباً.
والزوج والزوجة يمثلان في تقارنهما شطري البيت من الشِّعر، والبيت من الشعر لا يحسن وقعه في النفوس، ولا تتهاداه الألسن والأسماع إلا أن يكون شطراه منسجمين يسعد أحدهما الآخر في تأدية المعنى الذي صيغا من أجله.
وكذلك الزوجان لا تَزْدَهي حياتهما إلا إذا انسجما، وقام كل منهما بنصيبه من حقوق الزوجية، وظلا يعيشان في منزل ظهارته المهابة، وبطانته الصيانة(3).
هذا وسيأتي مزيد بيان فيما بعد لنماذج من سوء العشرة مع ذكر لعلاجها ـ إن شاء الله تعالى ـ.
17_ قلة الاعتداد بالتجمل للزوجة:
فقلَّ من الأزواج من يعْتد بالتجمل لزوجته، وكثيراً ما تعاني الزوجات من ذلك الإهمال؛ فمنهن من تصرح بذلك وتبحث لها عن جواب، ومنهن من تكتم أمرها وتنطوي به على نفسها، ومنهن من يقودها قصور علمها إلى التشكيك في عدالة الدين، وفي موقفه من المرأة، وربما يدعم هذا الخاطرَ ما يبثه المغرضون من مُدَّعي نصرة المرأة.
والحقيقة أن الدين براء من تبعات المنتسبين إليه؛ فالعيب ليس في الدين، وإنما هو فيمن يقصر في إدراك حكمته، أو العمل بما جاء به.
__________
(1) انظر مسند الإمام أحمد 6/129 و 182 و 261 و 280، وسنن ابن ماجه (1979)، وسنن النسائي الكبرى 5/303(8942).
(2) انظر صحيح البخاري (454)، ومسلم (892).
(3) انظر الهداية الإسلامية للشيخ محمد بن الخضر حسين ص60.(2/39)
فالنساء يسمعن كثيراً أحاديث الطاعة للزوج، ووجوب التزين له، حتى خيِّل لبعضهن أن الإسلام لا يلزم الزوج بشيء نحو زوجته سوى الإنفاق عليها.
وقليل من الناس من يتطرق لواجبات الزوج المعنوية نحو زوجته، وفي مقدمتها التجمل لها، والظهور أمامها بالمظهر اللائق.
ولهذا تجد من الرجال من لا يعنى بمظهره، ونظافته، وتطيبه إلا إذا أراد الخروج من المنزل، أو حضور المناسبات، فلا يكون نصيب الزوجة من ذلك إلا رؤيته وهو على هذه الحال؛ فهو يظن أنه غير ملزم لزوجته بشيء من هذا؛ فإذا ما قصَّرت هي في التجمل له حاسبها حساباً عسيراً(1).
ولهذا لا يبالي بأن يكون في المنزل على هيئة رثة، أو أن يكون بثياب العمل، أو أن يأتي ورائحته تفوح بالعرق أو الدخان.
ولا ريب أن هذا تقصير في حق الزوجة؛ ذلك أن من حقوقها على زوجها أن يتزين لها كما تتزين له.
قال ـ تعالى ـ:[وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ] (البقرة: 228).
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير هذه الآية: =إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله ـ تعالى يقول: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف+(2).
18_ قلة الاهتمام بقول الدعاء الوارد حال إتيان الزوجة:
فمن الأزواج من إذا أراد إتيان أهله أتاهم دون أن يقول الدعاء الوارد في ذلك، إما جهلاً بالدعاء، أو نسياناً له، أو قلة مبالاة به.
وهذا من التقصير والقصور؛ إذ أن تركه مخالفة للسنة، ومدعاة لتسلط الشيطان على الولد في دينه وبدنه إن قُدِّر ولد.
وقد يكون ترك هذا الدعاء من أسباب شقاء الأولاد وتسلطهم.
ولهذا يجدر بالزوج ألا ينسى هذا الدعاء.
__________
(1) انظر مقال الدكتور محمد أبو بكر حميد في جريدة المدينة في 25/12/1417هـ.
(2) تفسير ابن كثير 1/238.(2/40)
قال النبي": =لو أن أحدُهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فإنه إن يقدر بينهما ولدٌ في ذلك لم يضرَّهُ شيطان أبداً+(1).
قال ابن حجر×في شرح هذا الحديث: =وقوله: =لم يضره شيطان أبداً+أي لم يضر الولد المذكور بحيث يتمكن من إضراره في دينه وبدنه، وليس المراد رفع الوسوسة من أصلها+(2).
وقال النووي×في شرح الحديث: =قال القاضي: قيل: المراد بأنه لا يضره أنه لا يصرعه شيطان، وقيل: لا يطعن فيه الشيطان عند ولادته بخلاف غيره.
قال: ولم يحمله أحد على العموم في جميع الضرر والوسوسة والإغواء+(3).
19_ قلة المراعاة لآداب الجماع وحكمه وأحكامه:
فمع عِظَم شأن الجماع، وأنه من أعظم مقاصد النكاح إلا أن من الأزواج من تقل مراعاته لآداب الجماع، وحِكَمِه، وأحكامه ولو على سبيل الإجمال.
وذلك ناتج عن جهل، أو قلة مبالاة، وينتج عن هذا فقدان الزوجين لكمال الراحة والأنس.
فمن الأزواج من لا يراعي أدب الجماع، فربما كانت عادته أن يهجم على أهله مباشرة دونما استئناس أو تدرج.
ومنهم من يجهل أوقات الجماع المناسبة، ومنهم من يسرف فيه إسرافاً يخرجه عن طوره، ومنهم من يدعه مدة طويلة.
ومنهم من لا يفهم من الجماع إلا مجرد قضاء الوطر فحسب.
ومنهم من يجهل أحكام الجماع من غسل، ووضوء، ونحوه.
ولا ريب أن ذلك وما جرى مجراه ـ تقصير يلام عليه الزوج؛ فينبغي له أن يراعي آداب الجماع، وأن يقف على شيء من حكمه وأسراره، وأحكامه ولو على سبيل الإجمال؛ حتى يكمل به سروره، وتتم به لذته.
__________
(1) رواه البخاري (6388)، ومسلم (1434).
(2) فتح الباري لابن حجر 11/195.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 10/7.(2/41)
فمما يحسن بالزوج مراعاته في هذا السياق ما يلي(1):
أ_ الوقوف على شيء من حِكَم الجماع ومنافعه: قال ابن القيم× متحدثاً عن هدي النبي"في الجماع: =وأما الجماع والباه فكان هديه فيه أكمل هدي، يحفظ به الصحة، وتتم به اللذة، وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها؛ فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية:
أحدها: حفظ النسل، ودوام النوع إلى أن تتكامل العُدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.
الثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة.
وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة؛ إذ لا تناسل هناك، ولا احتقان يستفرغه الإنزال+(2).
وقال×: =وفضلاء الأطباء يرون أن الجماع من أحد أسباب حفظ الصحة+(3).
وقال: =ومن منافعه غضُّ البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة؛ فهو ينفع نفسه في دنياه وأخراه، وينفع المرأة+(4).
ب_ الاعتدال في الجماع: فلا يعني أن له فوائد ومنافع أن يسرف الإنسان فيه، أو يكثر منه؛ لأن الإسراف فيه والإكثار منه ضار بالإنسان؛ =فإنه يسقط القوة ويضر بالعصب، ويحدث الرعشة، والفالج، والتشنج، ويضعف البصر وسائر القوى، ويطفىء الحرارة الغريزية+(5).
__________
(1) قد يظن بعض الناس أن الحديث عن الجماع وآدابه وحكمه مناف للوقار والورع، والحقيقةُ أن ذلك ظن في غير محله؛ ذلك أن الدين لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحاط بها إما تفصيلاً أو إجمالاً؛ فالحديث عنه ليس بدعاً من القول، بل لقد نطقت أدلة الشرع به، وتكلم عليه علماء السلف بما يشفي ويلم.
والذي ينافي المروءة والوقار والورع إنما هو الإسفاف، وكثرة الكلام فيه بلا داع، كما هو دأب بعض الناس، وكما هو ديدن الكتب الداعرة والمجلات الهابطة.
(2) زاد المعاد 4/228.
(3) زاد المعاد 4/228.
(4) زاد المعاد 4/229.
(5) زاد المعاد 4/243_244.(2/42)
جـ _الوقوف على بعض آدابه: من نحو الملاعبة قبل المواقَعة، ومن نحو معرفة أنفعه، وأحسن أشكاله وأوقاته(1).
د_ الوقوف على كيفية الغسل من الجنابة: فإذا أجنب الإنسان وجب عليه الاغتسال من الجنابة، ويكره له أن ينام دون أن يغتسل أو يتوضأ(2).
قال ابن القيم×: =وفي الغسل والوضوء بعد الوطء من النشاط، وطيب النفس، وإخلاف بعض ما تحلل بالجماع وكمال الطهر والنظافة، واجتماع الحار الغريزي إلى داخل البدن بعد انتشاره بالجماع، وحصول النظافة التي يحبها الله، ويبغض خلافها ـ ما هو من أحسن التدبير في الجماع، وحفظ الصحة والقوى+(3).
ولهذا شرع للمجامع إذا أراد العود قبل الغسل الوضوء بين الجماعين كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري ÷ قال: قال رسول الله": =إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ+.
أما صفة الغسل والجنابة فهي أن ينوي الغسل من أول شروعه، ثم يبدأ المغتسل بغسل فرجه، وسائر بدنه من الأذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض الماء على شعره، ثم على سائر بدنه.
ولو اقتصر على الاغتسال من غير وضوء أجزأه ذلك في المشهور من مذهب الأئمة الأربعة.
وإن كان يغتسل من نهر أو بركة كفاه أن ينغمس في الماء، ويوصل الماء إلى سائر بدنه.
والمستحب في الغسل أن يبدأ المغتسل بميامنه وأعالي بدنه.
هذه صفة الغسل على سبيل الإجمال.
20_ إفشاء سر الفراش:
فمن الأزواج من نضب ماء الحياء في وجهه، فانسدل عليه من السماجة قناع كثيف؛ فتراه يتحدث بأمر الفراش، وما يدور بينه وبين زوجته من معاشرة، وربما فاخر بذلك، وعده من مكملات رجولته وفحولته.
__________
(1) انظر تفاصيل ذلك في زاد المعاد 4/228_244.
(2) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 21/343.
(3) ومن أراد التفصيل فليرجع إلى صحيح مسلم بشرح النووي 3/554، ومجموع الفتاوى 21/96_297، وإلى باب الغسل في كتب الفقه وشروح الحديث.(2/43)
وما ذلك ـ والله ـ بفخر ولا رجولة؛ إن هو إلا سقوط في الهمة، وتمادٍ في القِحَة.
فأي فخر يكون بكشف السوءات وقد قيل: إنما سميت السوءة سوءة لأنه يسوء الإنسانَ كشفُها؟
فالعاقل يأبى كشف سوءته فطرة وعقلاً، مع ما جاء في الشرع من تأكيد ذلك؛ فكيف يسوغ إبداؤها بالحديث عنها حتى لكأن السامع يراها رأي العين؟
إن ذلك الصنيع هتك لستر الله، ونزع لجلباب الحياء، وفتح لباب من الشر عظيم.
إن الله ـ عز وجل ـ حييٌّ ستِّير يحب الستر والحياء، وإن للفراش أسراراً يجب أن تحاط بسياج من الكتمان؛ فلذا كان من حق الزوجين على بعض ألا يتحدث أحدهما أو كلاهما بما يكون بينهما من أسرار الفراش؛ فإن هما فعلا ذلك كان مثلهما مثل شيطان وشيطانة تلاقيا في طريق ما، فجامعها بمرأى من الناس.
ولقد جاء هذا المثل في حديث النبي"فعن أسماء بنت يزيد ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت عند رسول الله، والرجال والنساء قعود عنده، فقال: =لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها+.
فأرمَّ القوم ـ يعني سكتوا ولم يجيبوا ـ
فقلت: أي والله، يا رسول الله؛ إنهن لَيقُلْن، وإنهم ليفعلون.
قال: =فلا تفعلوا؛ فإنما مثل ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون+(1).
فهذا الحديث نهي صريح عن كشف أسرار الفراش؛ فكأن هذا الكشف والإفشاء صورة جنسية معروضة في الطريق.
والفتنة الشيطانية المعروضة في الطريق العام تتوق إليها النفوس الآثمة، وتنفق في سبيل الحصول عليها الأموال الطائلة.
كما أنها نوع من المجاهرة، وسبب لتجريء السفهاء، وإماطة اللثام عن الحياء.
__________
(1) رواه أحمد 6/456، والطبراني في الكبير 24/162، وقال الألباني في آداب الزفاف ص144 بعد أن ذكر شواهده: =فالحديث بهذه الشواهد صحيح أو حسن على الأقل+.(2/44)
ثم إن هناك خطورة أخرى خاصة بالزوجة؛ فهي أشد حياء من الزوج، وإفشاء الزوج أسرارَها يدفعها إلى كبت مشاعرها عند معاشرتها لزوجها؛ كي لا يبدو منها ما يدفع الزوج إلى الحديث عنه؛ فالمشروع ـ إذاً ـ أن يكون الرجل لباساً وستراً لزوجته، وأن تكون كذلك له، فينطلق كل منهما على سجيته دونما خوف أو خجل، فيحصل بذلك السكن والرحمة، بخلاف ما إذا خاف أحدهما من إفشاء سر الفراش(1).
بل لقد جاء الوعيد الشديد في حق من أفشى سر امرأته، حيث عده النبي"من أشر الناس.
جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ÷ يقول: =إن من أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة ـ الرجلَ يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها+(2).
قال النووي×في شرح الحديث: =وفي هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة من قول أو فعل ونحوه.
فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه؛ لأنه خلاف المروءة.
وقد قال": =من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت+(3).
وإن كان إليه حاجة، أو ترتب عليه فائدة بأن تنكر عليه إعراضه عنها، أو تدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره+(4).
ومما يترخص فيه في إفشاء سر الفراش ـ أيضاً ـ إذا احتاج الإنسان للفتيا أو العلاج؛ فله أن يتحدث عن أمر الفراش بما تدعو إليه الحاجة.
21_ الجهل بعوارض المرأة الطبيعية:
فمن الأزواج من يجهل ما يعتري المرأة من العوارض الطبيعية، سواء في حال حملها، أو حيضها، أو نفاسها، أو غير ذلك.
فالمرأة تعاني من تلك العوارض، وربما أصابها الضيق، والتكدر، خصوصاً في حال حملها إذا أصابها الوحم.
__________
(1) انظر صفحة الزوجة الصالحة للشيخ عبدالله الجديع ص51_53، واللقاء بين الزوجين، ص75.
(2) مسلم (1437).
(3) رواه البخاري (6018)، ومسلم (47).
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 10/9_10.(2/45)
ووحم المرأة وتوحُّمها هو أن تشتهي أشياء في حال حملها(1).
وربما صحب ذلك أن تكره بعض الأشياء، فلا تكاد تطيق رؤيتها، أو شمها، فقد تكره منزلها، وقد تكره زوجها، وقد تكره غير ذلك.
فإذا كان الزوج جاهلاً بتلك الحال فسَّرها ببغضها له، ومللها منه.
وربما أخذته العزة والأنفة، فبادر إلى تطليقها، وما علم أن ذلك خارج عن إرادتها.
فجدير بالزوج أن يتفطن لهذه الأشياء؛ حتى لا يقع في الخطأ ثم يندم حين لا ينفع الندم.
ثم إن كان جاهلاً بمثل هذه الأحوال فليسأل؛ فشفاء العِيِّ السؤال.
22_ إتيان الزوجة في حال حيضها(2):
فمن الأزواج من يجهل حرمة إتيان الزوجة في حال حيضها، ويجهل الأضرار المترتبة على ذلك، فربما أتى زوجته في حال حيضها في موضع الحرث، وهو الفرج.
وهذا أمر محرم بنص القرآن، قال ـ تعالى ـ:[وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] (البقرة: 222).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =وطء الحائض لا يجوز باتفاق الأئمة+(3).
قال ابن القيم×: =وجماع الحائض حرام طبعاً وشرعاً؛ فإنه مضر جداً، والأطباء قاطبة تحذر منه+(4).
وجاء في تفسير المراغي×: =وقد أثبت ذلك الطب الحديث؛ فقالوا: إن الوقاع في زمن الحيض يحدث الأضرار الآتية:
__________
(1) انظر مادة وحم في لسان العرب لابن منظور 12/630.
(2) الحيض أصله في اللغة: السيلان، وفي العرف: جريان دم المرأة في أوقات معلومة يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها. انظر صحيح مسلم بشرح النووي 3/563.
(3) مجموع الفتاوى 21/624.
(4) زاد المعاد لابن القيم 4/234.(2/46)
1_آلام أعضاء التناسل في الأنثى، وربما أحدث التهابات في الرحم، وفي المبيضين، أو في الحوض تضر صحتها ضرراً بليغاً، وربما أدى ذلك إلى تلف المبيضين، وأحدث العقم.
2_ أن دخول مواد الحيض في عضو التناسل عند الرجل قد تحدث التهاباً صديدياً يشبه السيلان، وربما امتد ذلك إلى الخصيتين فآذاهما، ونشأ عن ذلك عقم الرجل، وقد يصاب الرجل بالزهري إذا كانت جراثيمه في دم المرأة.
وعلى الجملة فقربانها في هذه المدة قد يحدث العقم في الذكر أو في الأنثى، ويؤدي إلى التهاب أعضاء التناسل، فتضعف صحتها، وكفى بهذا ضرراً.
ومن ثم أجمع الأطباء المحدثون في بقاع المعمورة على وجوب الابتعاد عن المرأة في هذه المدة كما نطق بذلك القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم خبير+(1).
ولا يعني حرمة إتيان الحائض ألا تؤاكل، ولا تساكن كما كان صنيع اليهود، وإنما يعني حرمة إتيانها في فرجها.
أما ما عدا ذلك فيحل، كمباشرتها في ما دون الفرج، وكمضاجعتها، ومواكلتها.
روى مسلم في صحيحه عن أنس ÷ أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت.
فسأل أصحابُ النبيِّ"النبيَّ"فأنزل الله ـ تعالى ـ:[ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض] إلى آخر الآية.
فقال رسول الله": =اصنعوا كل شيء إلا النكاح+(2).
قال ابن كثير×: =قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبدالوهاب، حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة أن مسروقاً ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهله.
فقالت عائشة: مرحباً مرحباً، فأذنوا له، فدخل، فقال: إني أريد أن أسألكِ عن شيء، وأنا أستحي، فقالت: إنما أنا أمك، وأنت ابني.
فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟
فقالت له: كل شيء إلا فرجها+(3).
__________
(1) تفسير المراغي 2/157، وانظر إلى: كتاب ماذا عن المرأة د. نور الدين عتر، ص79_80.
(2) رواه مسلم (302).
(3) تفسير القرآن العظيم 1/246.(2/47)
وقال ابن كثير×: =ويحل مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف+(1).
والأحاديث في هذا السياق كثيرة منها ما رواه الشيخان عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: =كانت إحدانا إذا كانت حائضاً فأراد رسول الله "أن يباشرها أمرها أن تتَّزر في فور حيضتها ثم يباشرها+(2).
قال ابن حجر×: =والمراد بالمباشرة هنا التقاء البشرتين لا الجماع+(3).
وقال×في معنى قولها: =فأتزر+: والمراد أنها تشد إزارها على وسطها+(4).
وقال×: =قوله: في فور حيضتها: قال الخطابي: فور الحيض أوله ومعظمه.
وقال القرطبي: فور الحيضة معظم صبها، من فوران القدر وغليانها+(5).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: =وكان يأمرني فأتزر ويباشرني وأنا حائض+(6).
وقالت: =وكان يخرج رأسه إليَّ وهو معتكف فأغسله وأنا حائض+(7).
وقالت ـرضي الله عنهاـ: =كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي"فيضع فاه على موضع فيَّ، فيشرب، وأتعَرَّق العَرْق(8)وأنا حائض ثم أناوله النبي"فيضع فاه على موضع فيَّ+(9).
وقالت: =كان رسول الله"يتَّكىء في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن+(10).
ومن خلال ما مضى يتبين لنا جواز مباشرة الحائض فيما دون الفرج وجواز مواكلتها، ومضاجعتها(11).
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 1/246.
(2) البخاري (302) ومسلم (293).
(3) فتح الباري 1/481.
(4) فتح الباري 1/481.
(5) فتح الباري 1/482.
(6) رواه البخاري (300).
(7) رواه البخاري (301) ومسلم (297).
(8) العَرْق: بفتح العين، وإسكان الراء هو العظم الذي عليه بقية من لحم وهذا هو الأشهر، وقيل: هو القدر من اللحم، وقيل: العظم بلا لحم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي 3/541.
(9) رواه مسلم (300).
(10) رواه مسلم (301).
(11) انظر تفاصيل أحكام المباشرة للحائض فيما دون الفرج في صحيح مسلم بشرح النووي 3/536_537.(2/48)
ولا يعني جواز مباشرتها فيما دون الفرج جواز إتيانها في دبرها؛ فذلك محرم سواء كانت حائضاً أو طاهراً، وهذا ما سيتبين في الفقرة التالية ـ إن شاء الله ـ.
23_ إتيان الزوجة في دبرها:
وهذا العمل جرم شنيع، وقد يقع فيه بعض الأزواج إما لجهلهم، أو لانتكاس فطرهم، أو لقلة وقار الله في قلوبهم، أو لجهلهم بأضراره وعواقبه الوخيمة.
ولقد تظاهرت نصوص الشرع على تحريمه، وأجمع العلماء الذين يعتد بهم على ذلك.
قال النووي×: =قال العلماء: وقوله ـ تعالى ـ: [فأتوا حرثكم أنى شئتم] أي موضع الزرع من المرأة، وهو قُبُلُها الذي يزرع فيه المني؛ لابتغاء الولد؛ ففيه إباحة وطئها في قُبُلها، إن شاء بين يديها، وإن شاء من ورائها، وإن شاء مكبوبة.
وأما الدبر فليس هو بحرث، ولا موضع زرع+(1).
إلى أن قال: =واتفق العلماء الذين يعتد بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها حائضاً كانت أو طاهراً؛ لأحاديث كثيرة مشهورة+(2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية×: =وطء المرأة في دبرها حرام بالكتاب والسنة، وهو قول جماهير السلف والخلف، بل هو اللوطية الصغرى+(3).
وقال: =ومتى وطئها في الدبر وطاوعته عُزِّرا جميعاً، فإن لم ينتهيا وإلا فرق بينهما كما يفرق بين الرجل الفاجر ومن يفجر به+(4).
وقال: =ومن وطىء امرأته في دبرها وجب أن يعاقبا على ذلك عقوبة تزجرهما؛ فإن علم أنهما لا ينزجران فإنه يجب التفريق بينهما+(5).
وقال ابن القيم×: =وأما الدبر فلم يُبَح قط على لسان نبي من الأنبياء، ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها فقد غلط عليه+(6).
والأدلة التي اسْتُدل بها على تحريم إتيان المرأة في دبرها كثيرة.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 10/8.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي: 1.
(3) مجموع الفتاوى 32/216.
(4) مجموع الفتاوى 32/267.
(5) مجموع الفتاوى 32/268.
(6) زاد المعاد 4/235.(2/49)
قال ـ تعالى ـ:[وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] (البقرة: 222).
قال ابن كثير×: =قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني الفرج+.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: =فائتوهن حيث أمركم الله+يقول: الفرج، ولا تعدوه إلى غيره؛ فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى.
وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: =من حيث أمركم الله+أي أن تعتزلوهن، وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر+(1).
وعن أبي هريرة ÷قال: قال رسول": =ملعون من أتى المرأة في دبرها+(2).
وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: =لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها+(3).
وقال": =من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد"+(4).
وعن علي بن طلق قال: قال رسول الله": =لا تأتوا النساء في أعجازهن؛ فإن الله لا يستحي من الحق+(5).
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 1/247.
(2) أخرجه أحمد 2/444 و 479، وأبو داود (2162)، والنسائي في الكبرى (9015)، وأبو يعلى في مسنده (6462)، وصحح البوصيري إسناده في مصباح الزجاجة (684).
(3) رواه أحمد 2/272 و 344، وابن ماجه (1923)، والنسائي في الكبرى (9011) و (9013)، و(9014)،وصححه ابن حبان (1302).
(4) أخرجه الترمذي (135)، وأحمد 2/408 و 476، وابن ماجه (639)، وأبو داود (3904)، والدارمي (1136).
(5) أخرجه الترمذي (1164)، والدارمي 1/260، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (4198)، و(4199)،و (4201)، ورواه النسائي في الكبرى (9023)، ورواه أحمد 5/213_215.(2/50)
وعن ابن عباس مرفوعاً: =لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر+(1).
وقال الشافعي ×: أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع، قال: أخبرني عبدالله بن علي بن السائب عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح عن خزيمة بن ثابت أن رجلاً سأل النبي"عن إتيان النساء في أدبارهن فقال: =حلال+.
فلما ولى دعاه فقال: =كيف قلت؟ في أي الخُرْبتين، أو في أي الخرزتين، أو في أي الخَصْفَتين؟ أمِن دبرها في قُبلها؟ فنعم، أمْ من دُبرها في دبرها؟ فلا؛ إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن+(2).
هذا وإن لإتيان النساء في أدبارهن مفاسدَ كثيرة متنوعة، وقد أشار القدماء إلى شيء من ذلك، وأثبت الطب الحديث أضراراً ومفاسد لهذا العمل الشائن.
قال ابن القيم×: =وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل، والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
وأيضاً: فللمرأة حق على الزوج في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوِّت حقها، ولا يقضي وطرها، ولا يحصِّل مقصودها.
وأيضاً: فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم يخلق له، وإنما الذي هيىء له الفرج؛ فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً.
وأيضاً: فإن ذلك مضرٌّ بالرجل؛ ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم؛ لأن للفرج خاصيةً في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه.
__________
(1) أخرجه الترمذي (1165)، وصححه ابن حبان (1302)، رواه النسائي في الكبرى (9001)، وأبو يعلى في مسنده (2378)، وابن الجارود في منتقاه (729).
(2) أخرجه الشافعي 2/260، وعنه البيهقي 7/196، وصححه ابن حزم في المحلى 10/270، وجوده المنذري 3/200، ورواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني 4/116، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/43،والطبراني في الكبير (3744)، وأصله في سنن النسائي الكبرى (8992 و 8993).(2/51)
والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب الماء، ولا يخرج كل المحتقن؛ لمخالفته للأمر الطبيعي.
وأيضاً: يضر من وجه آخر، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدَّاً؛ لمخالفته للطبيعة.
وأيضاً: فإنه محل القذر والنجو، فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه.
وأيضاً: فإنه يضر بالمرأة جدَّاً؛ لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع، منافر لها غاية المنافرة.
وأيضاً: فإنه يحدث الهم، والغم، والنفرة عن الفاعل والمفعول.
وأيضاً: فإنه يسوِّد الوجه، ويظلم الصدر، ويطمس نور القلب، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء يعرفها من له أدنى فراسة.
وأيضاً: فإنه يوجب النفرة، والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل، والمفعول ولا بد.
وأيضاً: فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول به فساداً لا يكاد يرجى بعده صلاح إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.
وأيضاً: فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضِدَّها، كما يذهب بالمودة بينهما، ويبدلهما بها تباغضاً وتلاعناً.
وأيضاً: فإنه من أكبر أسباب زوال النعم، وحلول النقم؛ فإنه يوجب اللعنة، والمقت من الله، وإعراضَه عن فاعله، وعدم نظره إليه؛ فأي خير يرجوه بعد هذا؟ وأي شر يأمنه؟ وكيف حياة عبد قد حَلَّت عليه لعنة الله، ومقته، وأعرض عنه بوجهه، ولم ينظر إليه؟
وأيضاً: فإنه يذهب بالحياء جملة، والحياء هو حياة القلوب؛ فإذا فقدها القلب استحسن القبيح، واستقبح الحسن، وحينئذ فقد استحكم فساده.
وأيضاً: فإنه يحيل الطباع عما ركَّبها الله، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يُرَكِّب الله عليه شيئاً من الحيوان، بل هوطبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب، والعمل، والهدى، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله، وعمله، وكلامه بغير اختياره.
وأيضاً: فإنه يورث من الوقاحة والجرأة ما لا يورثه سواه.
وأيضاً: فإنه يورث من المهانة والسِّفال والحقارة ما لا يورثه غيره.(2/52)
وأيضاً: فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء، وازدراء الناس، واحتقارهم إياه، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس؛ فصلاة الله وسلامه على من سعادةُ الدنيا والآخرة في هديه، واتباع ما جاء به، وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به+(1).
ولقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن لهذه الفعلة القبيحة أضراراً كثيرة على نفس مرتكبيها وعقولهم، وأبدانهم، فمما تسببه تلك الفعلة القبيحة كثرة الوساوس والأوهام؛ فهذا الداء إذا تمكن من القلب، واستحكم وقوي سلطانه أفسد الذهن، وأحدث الوساوس.
وربما أصيب صاحبه بمرض الهوس الجنسي الذي يجعل صاحبه الشهواني مشغولاً بتخيلات شهوانية غريزية.
ومن أضرارها التأثير على الأعصاب والمخ، وأعضاء التناسل، وربما أدى إلى العقم.
ومن أضرارها احتمال الإصابة بمرض التيفوئيد، والدوسنتاريا، والتهاب الشرج والمستقيم، والتهاب الكبد الفيروسي.
بل ربما أدى إلى أمراض الشذوذ الخطيرة كالزهري، والسيلان، والهربس، والإيدز(2).
24_ ضرب الزوجة بلا مسوغ:
فمن الأزواج من قسا قلبه، وغلظ طبعه، وتعدى طوره، وساء للدين فهمُه؛ حيث يضرب زوجته ضرب غرائب الإبل، ويسومها سوء العذاب عند أتفه الأسباب، وربما تستر بعض أولئك العتاة العساة القساة بالإذن القرآني بالضرب، ففهموه على غير وجهه.
__________
(1) زاد المعاد 4/240_242.
(2) انظر تفاصيل هذه الأمراض في فقه السنة لسيد سابق 2/383_386، والأمراض الجنسية عقوبة إلهية د. عبدالحميد القضاة ص100_103، والأمراض الجنسية أسبابها وعلاجها د. محمد علي البار ص361_387، والثقافة الجنسية د. هاني عرموش ص 125_130، ولا تقربوا الزنى لمحمد عبدالعزيز الهلاوي ص74_75، ولماذا حرم الله هذه الأشياء د. محمد عبدالعزيز كمال ص20_21، والانحرافات الجنسية د. فايز الحاج ص143_156.(2/53)
وبعضهم يرى أن ذلك من الرجولةِ؛ فالرجولةُ في نظرهم تعني الظلم، والقهر، والتسلط، والاستعلاء، والاستبداد، والقوامةُ عندهم طوق في عنق المرأة لإذلالها وتسخيرها.
والعجيب أن ترى بعض هؤلاء يتذلل ويتمسكن لأهل الزوجة قبل الزواج، فإذا ما ظفر بإربه تنكَّر وقلب ظهر المجن، فانقلبت ذلته طغياناً، وتبدلت مسكنته تسلطاً وجبروتاً.
فتراه بعد ذلك يرفع يده أو عصاه على زوجته عند أدنى سبب، وربما بلا سبب، وربما ضربها هي وأولادها، وربما جمع إلى الضرب الشتمَ، والسبَّ، والقذف.
إن المرأة ليست هملاً مضاعاً، ولا لقىً مزدرى، وليست بهيمة تباع وتشترى، فيصنع بها ربُّها كيف يشاء.
إن للمرأة في هذه الحال الحقَّ الكامل في أن تشكو حالها إلى أوليائها، أو أن ترفع إلى الحاكم أمرها؛ لأنها إنسان مكرم داخل في قوله ـ تعالى ـ:[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] (الإسراء: 70).
وليس حسن المعاشرة أمراً اختيارياً متروكاً للزوج إن شاء فعله وإن شاء تركه، بل هو تكليف واجب.
وليس الرفق بالمرأة من باب الرفق بالحيوان الأعجم، ولكنه حق لها، وواجب على زوجها؛ فهي مُكَرَّمة مثله بالخلْق السوي، والصورة الحسنة، والتقويم الحسن، وهي مكرمة ـ كذلك ـ بالبيان والعقل، وحمل الأمانة؛ فهذه المزايا مشاعة بين الرجل والمرأة؛ فمن أراد أن يعامل الزوجة معاملة الدابة والسلعة فقد كفر نعمة الله، وعرض نفسه للعقوبة(1).
فأين أولئك القساة العصاة من قوله ـ تعالى ـ: [إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] (الفجر: 12).
__________
(1) انظر عودة الحجاب 2/465_466.(2/54)
وأين هم من قول النبي": =إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة+(1).
وقوله": =النساء شقائق الرجال+(2).
وقوله": =لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها+(3).
فهذا الحديث من أبلغ ما يمكن أن يقال في تشنيع ضرب النساء؛ إذ كيف يليق بالإنسان أن يجعل امرأته ـ وهي كنفسه ـ مهينة كمهانة عبده؛ بحيث يضربها بسوطه أو بيده، مع أنه يعلم أنه لابد له من الاجتماع والاتصال الخاص بها(4).
قال السيد محمد رشيد رضا×في هذا الحديث: =وأذكر أنني هُديت إلى معناه العالي قبل أن أطلع على لفظه الشريف؛ أقول: يالله العجب! كيف يستطيع الإنسان أن يعيش عيشة الأزواج مع امرأة تُضرب؟ تارة يسطو عليها بالضرب، فتكون منه كالشاة مع الذئب، وتارة يذل لها كالعبد طالباً منتهى القرب+(5).
ولا يفهم مما مضى الاعتراض على مشروعية ضرب الزوجة بضوابطه، ولا يعني أن الضرب مذموم بكل حال.
لا، ليس الأمر كذلك؛ فلا يطعن في مشروعية الضرب إلا من جهل هداية الدين، وحكمة تشريعاته من أعداء الإسلام ومطاياهم ممن نبتوا من حقل الغرب، ورضعوا من لبانه، ونشأوا في ظله.
هؤلاء الذين يتظاهرون بتقديس النساء والدفاع عن حقوقهن؛ فهم يطعنون في هذا الحكم، ويتأففون منه، ويعدونه إهانة للمرأة.
وما ندري من الذي أهان المرأة؟ أهو ربّها الرحيم الكريم الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟
__________
(1) أخرجه أحمد 2/439، وابن ماجه (2678)، وابن حبان (1266)، والنسائي في الكبرى (9149)، والحاكم 1/63 و 4/128 وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في الصحيحة (1015).
(2) أخرجه أحمد 6/256، وأبو داود (436) والترمذي(113)، والدارمي في سننه 1/195_196، وابن ماجه (1108)، وصححه أحمد شاكر في تحقيق الترمذي 1/190_192.
(3) أخرجه البخاري (5204)، ومسلم (2855).
(4) انظر نداء للجنس اللطيف ص46.
(5) نداء للجنس اللطيف ص46.(2/55)
أم هؤلاء الذين يريدونها سلعة تمتهن وتهان، فإذا انتهت مدة صلاحيتها ضربوا بها وجه الثرى؟
إن هؤلاء القوم يستنكفون من مشروعية تأديب المرأة الناشز(1)، ولا يستنكفون أن تنشز المرأة، وتترفع على زوجها، فتجعله ـ وهو رأس البيت ـ مرؤوساً، وتصر على نشوزها، وتمشي في غلوائها، فلا تلين لوعظه، ولا تستجيب لنصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره.
تُرى كيف يعالجون هذا النشوز؟ وبم يشيرون على الأزواج أن يعاملوا به الزوجات إذا تمَرَّدْنَ ؟
لعل الجواب تضمنه قول الشنفرى الشاعر الجاهلي حين قال مخاطباً زوجته:
إذا ما جئت ما أنهاك عنه ... فلم أنكر عليك فطلقيني
فأنت البعل يومئذٍ فقومي ... بسوطك _ لا أبالك _ فاضربيني(2)
نعم لقد وجد من النساء ـ وفي الغرب خاصة ـ من تضرب زوجها مرة إثر مرة، والزوج يكتم أمره، فلما لم يعد يطيق ذلك طلَّقها، حينئذٍ ندمت المرأة، وقالت: أنا السبب؛ فلقد كنت أضربه، وكان يستحيي من الإخبار بذلك، ولما نفد صبره طلَّقني!
وقالت تلك المرأة القوامة: أنا نادمة على ما فعلت، وأوجه النصيحة بألا تضرب الزوجات أزواجهن!
لقد أذن الإسلام بضرب الزوجة كما في قوله ـ تعالى ـ: [وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ] (النساء: 34).
وكما في قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في حجة الوداع: =ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّح+(3).
ولكن الإسلام حين أذن بضرب الزوجة لم يأذن بالضرب المبرح الذي يقصد به التشفي، والانتقام، والتعذيب، وإهانة المرأة وإرغامها على معيشة لا ترضى بها.
__________
(1) الناشز: التي ارتفعت عن طاعة زوجة من النشوز وهو الارتفاع.
(2) ديوان الشنفرى ص79.
(3) رواه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجه (3072)، والدارمي (1857).(2/56)
وإنما هو ضرب للحاجة وللتأديب، تصحبه عاطفة المربي والمؤدب؛ فليس للزوج أن يضرب زوجته بهواه، وليس له إن ضربها أن يقسو عليها؛ فالإسلام أذن بالضرب بشروط منها:
أ _ أن تصر الزوجة على العصيان حتى بعد التدرج معها.
ب_ أن يتناسب العقاب مع نوع التقصير؛ فلا يبادر إلى الهجر في المضجع في أمر لا يستحق إلا الوعظ والإرشاد، ولا يبادر إلى الضرب وهو لم يجرب الهجر؛ ذلك أن العقاب بأكثر من حجم الذنب ظلم.
جـ _ أن يستحضر أن المقصود من الضرب العلاجُ والتأديب والزجر لا غير؛ فيراعي التخفيف فيه على أحسن الوجوه؛ فالضرب يتحقق باللكزة، أو بالمسواك ونحوه.
د_ أن يتجنب الأماكن المخوفة كالرأس والبطن والوجه.
هـ _ ألا يكسر عظماً، ولا يشين عضواً، وألا يدميها، ولا يكرر الضربة في الموضع الواحد.
و_ ألا يتمادى في العقوبة قولاً أو فعلاً إذا هي ارتدعت وتركت النشوز.
فالضرب ـ إذاً ـ للمصلحة لا للإهانة، ولو ماتت الزوجة بسبب ضرب الزوج لوجبت الدية والكفارة، إذا كان الضرب لغير التأديب المأذون فيه.
أما إذا كان التلف مع التأديب المشروع فلا ضمان عليه، هذا مذهب أحمد ومالك.
أما الشافعي وأبو حنيفة فيرون الضمان في ذلك، ووافقهم القرطبي ـ وهو مالكي(1).
وقال النووي×في شرح حديث حجة الوداع السابق: =وفي هذا الحديث إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب، فإن ضربها الضرب المأذون فيه فماتت وجبت ديتها على عاقلة الضارب، ووجبت الكفارة في ماله+(2).
ومن هنا يتبين لنا أن الضرب دواء ينبغي مراعاة وقته، ونوعه، وكيفيته، ومقداره، وقابلية المحل، لكن أعداء الله يقلبون الأمر، ويلبسون الحق بالباطل.
__________
(1) انظر المغني 12/528، وتفسير القرطبي 5/165.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 8/340.(2/57)
ثم إن التأديب بالضرب ليس كل ما شرعه الإسلام من العلاج، بل هو آخر العلاجات مع ما فيه من الكراهة؛ فإذا وجدت امرأة ناشز أساءت عشرة زوجها، وركبت رأسها، واتبعت خطوات الشيطان، ولم ينجع معها وعظ ولا هجران ـ فماذا يصنع الرجل في مثل هذه الحال؟
هل من كرامته أن يهرع إلى مطالبة زوجته كل ما نشزت؟ وهل تقبل المرأة ذلك، فينتشر خبرها، فتكون غرضاً للذم، وعرضة للَّوم؟
إن الضرب بالمسواك، وما أشبهه أقلُّ ضرراً على المرأة نفسها من تطليقها الذي هو نتيجة غالبة لاسترسالها في نشوزها، فإذا طُلِّقت تصدع بنيان الأسرة، وتفرق شملها، وتناثرت أجزاؤها.
وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم كان ارتكاب الأخف حسناً جميلاً، كما قيل: وعند ذكر العمى يستحسن العورُ.
فالضرب طريق من طرق العلاج يجدي مع بعض النفوس الشاردة التي لا تفهم بالحسنى، ولا ينفع معها الجميل، ولا تفقه الحجة، ولا تقاد بزمام الإقناع(1).
ثم إذا أخطأ أحد من المسلمين سبيل الحكمة، فضرب زوجته وهي لا تستحق، أو ضربها ضرباً مبرحاً ـ فالدين براء من تبعة هذه النقائض، وإنما تبعتها على أصحابها (2)
__________
(1) انظر الطلاق والعدة بين الشرع والواقع ص28_29، وعودة الحجاب 2/459_460.
(2) هذا وقد أثبتت دراسات علم النفس أن بعض النساء لا ترتاح أنفسهن إلا إذا تعرضن إلى قسوة وضرب شديد مبرح، بل قد يعجبها من الرجل قسوته، وشدته، وعنفه؛ فإذا كانت امرأة من هذا النوع فإنه لا يستقيم أمرها إلا بالضرب.
وشواهد الواقع والملاحظات النفسية على بعض أنواع الانحراف تقول: إن هذه الوسيلة قد تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين، وإصلاح سلوك صاحبه، وإرضائه في الوقت ذاته؛ فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل الذي تحب أن يكون قواماً عليها إلا حين يقهرها عضلياً.
وليست هذه طبيعة كل امرأة، ولكن هذه الصنف من النساء موجود، وهو الذي يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة؛ ليستقيم على الطريقة. انظر الطلاق والعدة ص29، ومن أجل تحرير حقيقي للمرأة للعويد ص14.
والذين يولعون بالغرب، ويولون وجوههم شطره يوحون إلينا أن نساء الغرب ينعمن بالسعادة العظمى مع أزواجهن
ولكن الحقيقة الماثلة للعيان تقول غير ذلك؛ فتعالوا نطالع الإحصاءات التي تدل على وحشية الآخرين الذين يرمون المسلمين بالوحشية. =
= أ-نشرت مجلة التايم الأمريكية أن ستة ملايين زوجة في أمريكا يتعرضن لحوادث من جانب الزوج كل عام، وأنه من ألفين إلى أربعة آلاف امرأة يتعرضن لضرب يؤدي إلى الموت، وأن رجال الشرطة يقضون ثلث وقتهم للرد على مكالمات حوادث العنف المنزلي.انظر دور المرأة المسلمة في المجتمع إعداد لجنة المؤتمر النسائي الأول ص45.
ب-ونشر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عام 1979م أن 40% من حوادث قتل النساء تحدث بسبب المشكلات الأسرية، وأن 25% من محاولات الانتحار التي تُقْدم عليها الزوجات يسبقها نزاع عائلي.انظر دور المرأة المسلمة في المجتمع ص46.
ج-دراسة أمريكية جرت في عام 1407هـ _1987م أشارت إلى 79% يقومون بضرب النساء وبخاصة إذا كانوا متزوجين بهن.
وكانت الدراسة قد اعتمدت على استفتاء أجراه د. جون بيرير الأستاذ المساعد لعلم النفس في جامعة كارولينا الجنوبية بين عدد من طلبته.
وقد أشارت الدراسة إلى أن استعداد الرجال لضرب زوجاتهم عالٍ جداً، فإذا كان هذا بين طلبة الجامعة فكيف بمن هو دونهم تعليماً؟
د-وفي دراسة أعدها المكتب الوطني الأمريكي للصحة النفسية جاء أن 17% من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف ضحايا ضر ب الأزواج أو الأصدقاء، وأن 83% دخلن المستشفيات سابقاً مرة على الأقل للعلاج من جروح وكدمات أصيبن بها كان دخولهن نتيجة الضرب.
وقال إفان ستارك معد هذه الدراسة التي فحصت (1360) سجلاً للنساء: إن ضرب النساء في أمريكا ربما كان أكثر الأسباب شيوعاً للجروح التي تصاب بها النساء، وأنها تفوق ما يلحق بهن من أذى نتيجة حوادث السيارات، والسرقة، والاغتصاب مجتمعة.
وقالت جانيس مور_وهي منسقة في منظمة الائتلاف الوطني ضد العنف المنزلي ومقرها واشنطن_: إن هذه المأساة المرعبة وصلت إلى حد هائل؛ فالأزواج يضربون نسائهم في سائر أنحاء الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى دخول عشرات منهن إلى المستشفيات للعلاج.
وأضافت بأن نوعية الإصابات تتراوح ما بين كدمات سوداء حول العينين، وكسور في العظام، وحروق وجروح، وطعن بالسكين، وجروح الطلقات النارية، وما بين ضربات أخرى بالكراسي، والسكاكين، والقضبان المحماة.
وأشارت إلى أن الأمر المرعب هو أن هناك نساء أكثر يُصبن بجروح وأذى على أيدي أزواجهن ولكنهن لا يذهبن إلى المستشفى طلباً للعلاج، بل يُضمِّدن جراحهن في المنزل.
وقالت جانيس مور: إننا نقدر بأن عدد النساء اللواتي يُضربن في بيوتهن كل عام يصل إلى ستة ملايين امرأة، وقد جمعنا معلومات من ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالية، ومن مئات الملاجئ التي توفر المأوى للنساء الهاربات من عنف وضرب أزواجهن. انظر من أجل تحرير حقيقي ص16_21 وانظر المجتمع العاري بالوثائق والأرقام ص56_57.
هـ -وجاء في كتاب ماذا يريدون من المرأة لعبدالسلام البسيوني ص36_66 ما يلي:
_ ضرب الزوجان في اليابان هو السبب الثاني من أسباب الطلاق.
_ 772 امرأة قتلهن أزواجهن في مدينة ساوباولو البرازيلية وحدها عام1980م.
_ يتعرض ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين من الأمريكيات للإهانة المختلفة من أزواجهن وعشاقهن سنوياً.
_ أشارت دراسة كندية اجتماعية إلى أن ربع النساء هناك_أي أكثر من ثمانية ملايين امرأة_يتعرضن لسوء المعاملة كل عام.
_ في بريطانيا تستقبل شرطة لندن وحدها مائة ألف مكالمة سنوياً من نساء يضربهن أزواجهن على مدار السنين الخمس عشرة الماضية.
_ تتعرض امرأة لسوء المعاملة في أمريكا كل ثمان ثوان.
_ مائة ألف ألمانية يضربهن أزواجهن سنوياً، ومليونا فرنسية.
_ 60% من الدعوات الهاتفية التي تتلقاها شرطة النجدة في باريس أثناء الليل_هي نداءات استغاثة من نساء تُساء معاملتهن.
وبعد فإننا في غنى عن ذكر تلك الإحصاءات؛ لعلمنا بأنه ليس بعد الكفر ذنب.
ولكن نفراً من بني جلدتنا غير قليل لا يقع منهم الدليل موقعه إلا إذا نسب إلى الغرب وما جرى مجراه؛ فها هو الغرب تتعالى صيحاته من ظلم المرأة؛ فهل من مدكر؟
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة
فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر(2/58)
.
25_ فساد المقصد من التعدد:
لا مرية في مشروعية التعدد،ولا شك في إن له حكماً عظيمة، وفوائد متنوعة، يدركها كل من له أدنى تأمل في أسرار الشريعة الإسلامية.
ولكن هناك من يغفل عن حكم التعدد،أو يجهل الأسباب الداعية إليه، أو لا يخطر بباله النظر في عواقبه.
فمن الناس من يعدد لأجل المفاخرة والتباهي، ومنهم من يعدد كسباً للتحدي؛ فقد يبادر إلى التعدد لأجل أن زملاءه اتهموه بالجبن، وأنه لا يستطيع أن يعدد، وربما وعَدَه أحد زملائه بدفع تكاليف الزواج إن هو أقدم على التعدد؛ فلا يزالون به حتى يعدد؛ رغبة في كسب التحدي دون أن يكون له دافع غير ذلك.
ومنهم من يعدد لأجل أن يقهر الأولى ويؤدبها؛ فإذا عادت إلى رشدها طلق الأخيرة دون أن تقترف ما يدعو إلى الطلاق.
إلى غير ذلك من المقاصد القاصرة أو الفاسدة، التي توقع الزوجة في الحرج، وتَحمل الزوج على الظلم والإساءة.
فينبغي لمن أراد التعدد أن يستشعر حكمه، وأن ينظر في حاله وحاجته، ومدى ملائمة التعدد؛ فالتعدد_ وإن كان مشروعاً في الأصل_ فإن له أسباباً تدعو إليه، ومنها(1):
أ_ سلوك الزوجة السيء: فقد تسلك الزوجة في معاملة الزوج مسلكاً سيئاً يرغم الزوج على التعدد، بدلاً من أن يطلقها.
ب_ الرغبة في الذرية: فقد لا يكون لدى الزوجة قدرة على الإنجاب؛ لمرض أو عقم؛ فيضطر الزوج إلى التعدد؛ رغبة في الذرية.
وقد يكون ذلك في مصلحة الزوجة؛ فقد يرزق الزوج بالذرية، ويبقى على زوجته الأولى، بل ربما شفيت فيما بعد فرزقت بالذرية فيكون التعدد في مصلحتها؛ إذ أبقى عليها الزوج.
جـ _ الحرص على العفاف: فقد يجد الزوج أن زوجته لا تكفيه؛ فيضطر إلى الزواج؛ حرصاً على العفاف.
د_ التماس الأجر: فقد يتزوج بامرأة؛ ليرعاها، ويعفها، ويكفلها، ويحفظها من أيد قد تنالها بسوء.
__________
(1) انظر تعدد الزوجات د. عبدالناصر العطار ص23_36.(2/59)
هـ _ مرض الزوجة: فقد تصاب الزوجة بداء عضال كالشلل أو غيره، والزواج يحتاج إلى من يرعاه، فبدلاً من طلاق الأولى يبقى عليها، ويتزوج بثانية.
و_ شعور الرجل بكراهيته لزوجته : فقد يجد هذا الشعور من نفسه، فلا يطلق الزوجة؛ حماية لحق الوفاء، ورعاية للتذمم، وحفاظاً على الأولاد؛ فيتزوج بثانية، ويبقى على الأولى.
هذه بعض الأسباب الداعية للتعدد، أما إذا لم يكن ثمة داع للتعدد، أو كان التعدد مبنياً على أغراض لا تنبغي فالأولى للمسلم ألا يعدد.
26_ ترك العدل بين الزوجات:
فمن الناس من يحتاج إلى التعدد، فيتزوج باثنتين أو ثلاث أو أربع.
والتعدد مشروع _ كما مر_ وله حكمه المتنوعة، وفوائده المتعددة، ولكن المصيبة والخلل أن يحيف الزوج في معاملته لزوجاته، فلا يلزم العدل، ولا يقوم بما أوجب الله عليه.
فالرجل راع في أسرته وبين زوجاته، وهو مسؤول عن رعيت، وسياسة الراعي، وعدله في رعيته هو الحد الفاصل بين فطنته وقوة دينة، وبين حماقته وتفريطه.
وإذا ترك الرجل العدل بين زوجاته ثارت المشكلات، وقامت الخلافات.
فمن الظلم الواقع على الزوجات في التعدد ما يلي:
أ_ هجر الرجل إحدى زوجاته لخلاف يسير: دون أن يسبق هذا الهجر موعظة أو تحذير.
وقد لا يقتصر في هجره على مجرد التأديب والتأنيب، بل يتجه في هجره إلى الإضرار بالزوجة.
ثم لو وقامت زوجة أخرى من زوجاته بمثل ما قامت به تلك التي هجرها لغض الطرف عنها، ولم يفعل معها ما فعل مع الأولى، فتراه يقسو على واحدة، ويضعف أمام الأخرى.
ب_ الميل في الهبة والحنو: فمن الظلم الواقع في التعدد أن يهب الرجل لإحدى زوجاته الكثير من أمواله، ويحنو كثيراً على أولاده منها، بينما يهمل الأخرى، ويحرمها مما يعطيه لغيرها، ويقد يقسو على أولادها منها(1).
جـ _ترك العدل في المبيت: فقد يبيت بعض الأزواج عند بعض زوجاته أكثر مما يبيت عند الأخرى.
__________
(1) انظر تعدد الزوجات ص54_55.(2/60)
وقد يمكث الوقت الطويل عند إحداهن ولا يأتي الأخرى إلا لماماً، بل قد يدعها شهوراً وربما أعواماً،بل قد ربما علقها دون أن يطلقها أو يعاشرها بالمعروف.
د_ ترك العدل في السفر: فقد يصطحب إحدى زوجاته في أسفاره، دون أن يكون لغيرها نصيب في صحبته.
هـ _ المبالغة في إظهار الفرح إذا عدد: فقد يعدد بعض الأزواج، ويظهر عظيم فرحه بزوجته الجديدة، وربما كان ذلك بمسمع من الأولى، مما يزيد في إغاظتها واشتداد غيرتها، وذلك من الخطأ والجهل، بل إن ذلك مما ينافي المروءة؛فالمروءة تقضي بأن يكون الرجل معتدلاً في سرائه وضرائه؛ فلا تطيش به السراء في زهو، ولا تنزل به الضراء في حسرة، قال الحكيم العربي :
ولست بمراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب(1)
هذه بعض مظاهر الظلم، وترك العدل في التعدد؛ فلا غرو _ إذاً _ أن تتشتت الأسر، وتثور بينها المشكلات.
فالواجب على الزوج أن يعدل بين زوجاته؛ فإن الله _ عز وجل _ عندما أباح للرجل الزيادة على واحدة قيد ذلك بالعدل، قال _ تعالى _ [فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع خفتم ألا تعدلوا فواحدة أوما ملكت أيمانكم] (النساء: 3).
والعدل يكون بأمور كثيرة هي في مقدور الإنسان، ومن ذلك ما يلي(2):
أ_ العدل في المبيت : فيجب على الزوج أن يساوي بين زوجاته في مبيته، فإذا بات عند إحداهن ليلة بات عند غيرها مثلها، وإن بات أكثر فكذلك؛ فقد كان رسول الله _ صلي الله علية وسلم _ يقسم بين زوجاته مع أن القسم غير واجب في حقه عند بعض العلماء.
__________
(1) البيت ينسب للبعيث، ولتأبط شراً. انظر عيون الأخبار 1/276 و 281.
(2) انظر المغني 10/235_259، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 32/269_271، وفتح الباري 9/221_226، ونيل الأوطار 6/371_373، والمسؤلية في الإسلام ص126_127.(2/61)
ففي الصحيحين عن عائشة _ رضي الله عنها_ =أن رسول الله"كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها.
قالت عائشة : فمات في اليوم الذي كان يدور عليَّ فيه في بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحْري، وخالط ريقه ريقي+(1).
قال ابن حجر×في شرح الحديث : =والغرض منه هنا أن القسم لهن يسقط بإذنهن في ذلك؛ فكأنهن وهبن أيامهن تلك التي هو في بيتها+(2).
ب_ العدل في السفر : فإذا أراد السفر، ورغب أن تصحبه إحدى زوجاته فلا بد من أن يرضين، وإلا أقرع بينهن.
جاء في الصحيحين عن عائشة _ رضي الله عنها _: =أن النبي"كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه+(3).
جـ _ العدل في النفقة والكسوة والعطية وغيرها: فيعدل بينهن من كل جهة، وبكل ما يستطيع، وبكل ما يليق منهن دون تفضيل لإحداهن على الأخرى.
فإذا وفَّى لكل واحدة منهن كسوتها، ونفقتها، والإيواء إليها _ لم يضره ما زاد على ذلك.
أما العدل الذي هو ميل القلب فإنه غير مستطاع، ولكن على المرء أن يجاهد نفسه على ألا يميل كل الميل في محبته، وألا يظهر ذلك قدر المستطاع.
وفي ذلك يقول الله _ عزوجل _ : [ولن تستطيعو أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة](النساء: 129).
قال ابن حجر×: =وقد أخرج البيهقي من طريق علي بن أبي طلحة عن أبن عباس في قوله [ولن تستطيعوا]الآية، قال : في الحب والجماع+(4).
__________
(1) البخاري (5217)، ومسلم (2443).
(2) فتح الباري 9/228.
(3) البخاري (5211)، ومسلم (2770).
(4) فتح الباري 9/224.(2/62)
وقال النبي"مرهباً من ترك العدل بين الزوجات: =من كانت له امرأتان فمال إلي إحداهما جاء يوم القيامة وشقة مائل+(1).
ولقد كان _ علية الصلاة والسلام _ يعدل بين نسائه في القسم والنفقة ويقول: =اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك+!(2).
وبالجملة فالتعدد في الإسلام يكون لحاجة، وتسد به مفسدة؛ فإذا احتاج الإنسان للتعدد واتقي الله في العدل بين زوجاته سدت حاجه المجتمع، وامتلأت البيوت بالسعادة، وخلت من المشكلات.
27_الاستعجال في شأن الطلاق:
فكثير من الناس يتهاون بشأن الطلاق ,فتراه يرسل لسانه بكلمة الطلاق دونما نظر في عواقبه.
وكثيراً ما يقع الطلاق لأسباب تافهة,فيقوض سعادة قائمة ,ويبدد شمل أسرة متماسكة.
__________
(1) رواه أحمد 2/295 و 347 و471، والترمذي (1141) وأبو داود (2133) والنسائي 7/63، وابن ماجه (1969) عن أبي هريرة، وصححه ابن حبان (4207)، والحاكم 2/203، والحاكم 2/203، وقال الذهبي في تلخيصه: على شرط البخاري ومسلم. ا_هـ، وصحح الألباني إسناده في مشكاة المصابيح (3626).
(2) رواه الترمذي (1140)، وأبو داود (2134)، والنسائي 7/64، وابن ماجه (1971)، وصحح إسناده الألباني في مشكاة المصابيح (3235)، وقد أعلَّ هذا الحديث أبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي، والترمذي، والدار قطني وغيرهم بالإرسال؛ فقد رواه حماد بن زيد، وإسماعيل بن عُلَيَّة عن أيوب، عن أبي قلابة قال: كان رسول الله " الحديث مرسلاً.
وخالفهم حماد بن سلمة، فرواه موصولاً عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبدالله بن يزيد، عن عائشة به.
وهم أحفظ وأوثق منه، وقال أبو زرعة: لا أعلم أحداً تابع حماد بن سلمة على وصله ا.هـ.
انظر التلخيص الحبير لابن حجر 3/290، والعلل لابن أبي حاتم 1/425، والإرواء للألباني 7/82..(2/63)
ومن هذه الأسباب نزوة غضب رعناءُ, تستبد بالمرء, فتعمي بصره ,وتشل تفكيره,وتطيش بعقله ,وتقوده إلى الطلاق. ومنها توجيه أصدقاء السوء الذين يشيرون بالرأي الفطير(1) المعوج ,وربما حملهم على ذلك الحقدُ ,والمكر، والحسد، والغيرة.
وقد يخرج الرجل إلى السوق، أو يجلس في المقهى، فيختلف مع آخر في شأن جليل أو حقير، فيحلف أحدهما أو كلاهما بالطلاق حانثاً، فتكون النتيجة خراب بيت، وتمزيق أسرة، وتشريد أولاد.
وقد يتناقش أحد مع صهره في زيارة أو استزاره، فيحلف أحدهما أو كلاهما بالطلاق، فتكون العاقبة تقطيع أرحام، وإذكاء فتنة، وانفصام عرى.
ويتنازع اثنان في السياسة، أو في التفضيل بين شخصين، أو في حال الجو من غيم أو صحو، فتجري ألفاظ الطلاق متناثرة متعددة كأنها لا زمة للحديث.
ويستضيف أحدهم صاحبه، فإذا تمنَّع صاحبه حلف عليه بالطلاق إلا حضر، وهلم جَرَّاً.
وكأن الكثير من هؤلاء لم يتزوج إلا ليجعل الزوجة أداة يمين ليصدقه الناس حين يحلف.
وكثيراً ما تَطْلُق الزوجة بتلك الأيمان العابثة وهي لا تعلم من ذلك شيئاً.
وكثيراً ما تكون آمنة في بيتها، سعيدة بزوجيتها، فتفجأ بالطلاق من زوج أحمق؛ بسبب خلاف شجر بينه وبين جار أو زميل، أو بائع أو مشتر على أتفه الأسباب؛ فتكون الغضبة المُضريَّة من نصيب تلك الزوجة المسكينة.
وقد يستعجل الزوج في طلاق زوجته بعد أن يدخل بها مباشرة، إما لطولها المفرط، أو لقصرها، أو لنحولها، أو لامتلائها، أو لغير ذلك مما تختلف فيه الأذواق، فيبادر إلى تطليقا دونما تأنٍّ أو تريث.
وقد يطلقها بسبب زيادة أو نقصان في ملح الطعام، أو بسبب بعض التقصير اليسير.
وبمثل هذه الأسباب يحدث كثير من حالات الطلاق.
وكثيراً ما يندم الزوج إذا طلق، فبعد أن كان آمناً في سربه، ترفرف عليه السعادة والطمأنينة _ إذا به يقلب كفيه، ويقرع سنه، ويعض على يديه بسبب تفريطه وحمقه وعجلته.
__________
(1) الرأي الفطير: هو الذي لم ينضج.(2/64)
وقد يبحث فيما بعد عمن يفتيه في إمكانية الرجعة، أو أن الطلاق لم يقع لملابسات ما.
ومن هنا تتنغص حياته، ويتكدر عيشه؛ فالطلاق حلُّ عقدة، وبتُّ حبال، وتمزيق شمل، وزيال خليط، وانفضاض سامر؛ ففيه كل ما في هذه المركبات الإضافية التي استعملها العرب، وجرت في آدابهم مجرى الأمثال _ من التياع، وحرارة، وحسرة، ومرارة مع يصاحبه من الحقد، والبغض، والتألم، والتظلم.
فلهذه الملابسات التي هي من مقتضيات الفطر السليمة، والطباع الرقيقة ـ شرع الإسلام الطلاق مقيدا بقيود فطرية، وقيود شرعية، فاعتمد في تنفيذ الطلاق بعد فهم المراد منه على إيمان المؤمن، وشرع له من المخفضات ما يهون وقعه، كالتمتيع، ومدِّ الأمل بالمراجعة، وتوسيع العصمة إلى الثلاث، حتى تُمْكنَ الفيئة إلى العشرة.
وما وصْفُ الطلاق في القرآن بالسراح الجميل، والتسريح بالإحسان إلا تلطيف إلهي من غلط الإحساس، حتى يصير الطلاق خفيف الوقع على النفوس قدر الإمكان، فلقد قضت حكمة الشارع بأن تكون العصمة بيد الزوج، ولكنه كره الطلاق، ووضع أمامه أحكاما ومواعظ شأنها أن تكف الأزواج عن الاستعجال به، وتجعل حوادثه قليلة جدا.
ولهذا أمر الشارعُ الزوجَ بأن يعاشر زوجته بالمعروف، ودعاه إلى التأني إذا وجد في نفسه كراهة لها، فلا يبادر إلى كلمة الطلاق فقد تكون الكراهة عارضة ثم تزول.
ومن شدة تحذير الشارع من المبادرة إلى الطلاق أن جعل احتمال أن يكون في الزوجة خير كثير ـ كافيا في الاحتفاظ بعصمتها، والاستمرار على حسن معاشرتها.
ثم إن كان في الزوجة بعض ما يكره فليصبر، وليتحر الخيرة، فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، وعامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها، فكثيراً ما يأتي المكروه بالمحبوب، وكثيراً ما يأتي المحبوب بالمكروه، كيف وقد قال _عزوجل_: [وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيراً] (النساء:19).(2/65)
قال ابن الجوزي×في تفسير تلك الآية : =وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها ونبَّهت على معنيين :
أحدهما: أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح، فرب مكروه عاد محبوباً، ومحمود عاد مذموماً.
والثاني: أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره ، فليصبر على ما يكره، لما يحب+(1).
ولهذا كم من رجل كره امرأة، فأمسك عليها، فأنجبت له أولاداً أبراراً قاموا بنفعه، ونشر فخره وذكره.
وكم من رجل فُتن بامرأة غَدَتْ بلبِّه، وأفسدت عليه دينه ودنياه وأهله.
إضافة إلى ذلك فالمؤمنة ـ كما مر ـ لا تُكره من جميع الوجوه، فإن وجد فيها الزوج خلقاً يُكره وجد فيها خلقاً مرضياً.
قال النبي":=لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنة؛ إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر+(2).
ثم أن الحياة تقوم على أسس متعددة، وربما كان الحب ـ في نظر الكثير من الناس ـ أهمها أو أنه وحده الذي تقوم عليه الحياة.
والحقيقة أن الحب له أثر ودوره، ولكن الحياة لا تقوم عليه وحده؛ فهناك التَّذَمُّم، والرعاية، والتودد، والتحمل، والخُلُق، والاحتساب، والوفاء، وغيرها من المعاني الجميلة.
ولهذا كان الكرام يقضون هذه الحقوق، ويرعونها حق رعايتها.
قال ابن الجوزي×: =قيل لأ بي عثمان النيسابوري: ما أرجى عملك عندك ؟ قال : كنت في صبوتي يجتهد أهلي في تزويجي فآبى، فجاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان! إني قد هَوِيتُك، وأنا أسألك بالله أن تتزوجني.
فأحضرت أباها _ وكان فقيراً _ فزوَّجني وفرح بذلك.
فلما دَخَلَتْ إليَّ رأيتها عوراءَ، عرجاءَ، مشوهةً، وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج؛ فأقعد حفظاً لقلبها، ولا أظهر لها من البغض شيئاً وكأني على جمر الغضا من بغضها.
فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت؛ فما منْ عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي قَلْبَها+(3).
__________
(1) زاد المسير لابن الجوزي 2/42.
(2) رواه مسلم (1469).
(3) صيد الخاطر ص635_636.(2/66)
وقال ابن القيم×: =وقيل: تزوج رجل بامرأة، فلما دخلت عليه رأى بها الجدري، فقال: اشتكيتُ عيني، ثم قال: عميت، فبعد عشرين سنة ماتت ولم تعلم أنه بصير، فقيل له في ذلك، فقال: كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها! فقيل له: سبقت الفتيان+(1).
وقال الشيخ د. محمد بن لطفي الصباغ _ حفظه الله _: =حدثني صديق أن شيخه أسرَّ له بحقيقة تقوم في حياته، قال: إن زوجتي هذه مضى على زواجي منها أربعون سنة، وما رأيت يوماً سارَّاً، وإنني من اليوم الأول من دخولي بها عرفت أنها لا تصلح لي بحال، ولكنها كانت ابنة عمي، وأيقنت أن أحداً لا يمكن أن يحتملها، فصبرت، واحتسبت، وأكرمني الله منها بأولاد بررة صالحين، وساعدني نفوري منها على الاشتغال بالعلم، فكان من ذلك مؤلفات كثيرة أرجو أن تكون من العلم الذي ينتفع به، ومن الصدقة الجارية، وأتاحت لي علاقتي السيئة بها أن أقيم مع الناس حياة اجتماعية نامية، وربما لو تزوجت غيرها لم يتحقق لي شيء من ذلك+(2).
وقال الشيخ الصباغ _حفظه الله _=وحدثني صديق آخر قال: إنني من الأيام الأولى لزواجنا لم أجد في قلبي مَيْلاً لهذه المرأة ولا حُبَّاً لها، ولكنني عاهدت الله على أن أصبر عليها، ولا أظلمها، ورضيت قسمة الله لي، ووجدت الخير الكثير من المال، والولد، والأمن، والتوفيق+(3).
ثم قال الشيخ الصباغ معلقاً على تلك القصتين: لكن ذلك كان من هذين الرجلين برضى داخلي، وإيثار لمصلحة رأياها، ولم يسلكا هذا المسلك لأنه فرض عليهما لازم؛ فحقق الله لهما الخير العظيم، ومن هذا الخير الثواب العظيم الذي أعده الله للصابرين، والحور العين التي ستكون لهم في الجنة.
__________
(1) مدارج السالكين 2/326.
(2) نظرات في الأسرة المسلمة ص196.
(3) نظرات في الأسرة المسلمة ص196.(2/67)
قال :أما إذا أراد الإنسان العافية من هذا الصبر، والبحث عن المتعة والهناءة والسعادة والصفاء، ووجد امرأة صالحة تحقق له في توقعه ذلك كله- فليس هناك مانع شرعي أن يتزوج منها، ويعدل بين الزوجتين بما يستطيع من وسائل+(1).
وبعد: فإن ما مضى حثٌّ على التريث في شأن الطلاق إن كره الرجل من زوجته شيئاً.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إذا نشزت الزوجة، فارتفعت على زوجها، وخالفت أمره، وخرجت عن طاعته، ولم ترض بالمنزلة التي وضعها الله لها _ فلا ينبغي المبادرة الى تطليقها؛ ذلك أن الشرع لم يترك الحبل على الغارب في هذه المسألة، وإنما شرع ما يقوِّم اعوجاج المرأة، ويصلح عيبها.
قال _ تعالى _: [واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن] (النساء:34).
قال ابن العربي× =ومن أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير؛ فقد قال :يَعظها، فإن هي قبلت وإلا هجرها، فإن هي قبلت وإلا ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها، فينظران ممن الضرر، عند ذلك يكون الخلع+(2).
=مراحل علاج الناشز+
فمراحل علاج الناشز تكون _ إذاً _ أربعاً:
الأولى_ الوعظ: فبمجرد ظهور علامات النشوز من الزوجة يُذَكِّرها الزوج بتقوى الله وخشيته، وبما أوجب عليها من حقه، مبيناً ثواب قيامها بطاعته، وإثم معصيتها له.
فإن كانت الزوجة ذات صلاح ودين وخشية لله نفعتها الموعظة، كما قال _تعالى_:[سيذكر من يخشى](الأعلى: 10).
ومن الوعظ _ أيضاً _ أن يحذرها سوء العاقبة في الدنيا، كشماتة الأعداء، وتشتت الأسرة، والمنع من بعض الرغائب كالثياب الحسنة، والحلي.
والرجل العاقل لا يخفى عليه الوعظ الذي يؤثر في قلب امرأته.
أما إذا أصرت على معصيته، ولم تنفع معها الموعظة فإنه يتحول إلى المرحلة الثانية.
__________
(1) نظرات في الأسرة المسلمة ص196.
(2) أحكام القرآن لابن العربي 1/420.(2/68)
الثانية _ الهجران في الفراش: وهو هجران الجماع، وفيه يقول النبي": =ولا تهجر إلا في بيت+(1).
وذهب بعض الأئمة من السلف إلى أنه لا يكلمها مع هجران الجماع حتى ترجع.
هذا وقد مر الحديث عن الهجران قريباً، فإن أبت أن ترجع عن غيها مع الهجران انتقل الزوج إلى المرحلة التي تليها.
الثالثة_ الضرب غير المبرِّح: ويؤكده قول النبي"في حجة الوداع: =ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح+(2).
وقوله: =غير مبرح+أي غير شاق , بحيث يؤلم ولا يكسر ولا يجرح.
وهذا وقد مر الحديث عن الضرب قريباً, فإن لم يجد تحول إلى المرحلة الأخيرة.
الرابعة _ التحكيم: فقد تصل الأمور بين الزوجين إلى مرحلة يصعب فيها التفاهم بينهما, مما يوسع الفجوة, ويجعل الوفاق بعيد المنال, ولذلك شرع الله أن يتولى مهمة التوفيق بين الزوجين في هذه الحالة حكمان:
أحدهما يختاره الزوج من أهله, والآخر تختاره الزوجة من أهلها.
وعندما أشترط الشارع أن يكون الحكمان من الأهل إنما أراد الإصلاح اعتماداً على الأمور التالية:
أ _ أن الحكمين عندما يبحثان في الخلاف يكونان بعيدين عن انفعالات الغضب , والحالات النفسية التي تسيطر على الزوجين بسبب الخلاف , وتؤثر على التفكير السليم , وتحول دون الرأي السديد, فيكون رأي الحكمين متحررا من مثل هذه الانفعالات.
ب _ كون الحكمين من الأهل يجعلها حريصين على إزالة أسباب النزاع, وإعادة المياه إلى مجاريها.
ج _ أنه لابد للحكمين أثناء بحث الخلاف من أن يطلعا على بعض أسرار الأسرة
__________
(1) أخرجه أحمد 5/3و5، وأبو داود (1142) وابن ماجه (1850)، والحاكم 2/187_188 من طريق حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه مرفوعاً. قال الحاكم صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في الإرواء 7/98: =وهو كما قالا+.
(2) رواه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجه (3074)، والدارمي (1857).(2/69)
فعندما يكونان من الأهل تبقى هذه الأسرار في طي الكتمان، ولا يتحرج كل من الزوجين
من إبدائها للحكمين.
فهذه مراحل تأديب الزوجة الناشز؛ فإذا نجح الحكمان في الإصلاح فبها ونعمت.
أما إذا أخفقا فإن ذلك دليل على أن الأمر قد وصل إلى حال لا ينفع معها إلا الانفصال؛ تخلصاً من واقع لا يعود على الزوجين وأولادهما _ إن كان لهما أولاد _ إلا بالضرر والفساد.
فلا علاج _ إذاً _ إلا بالفراق؛ خُلعاً كان أو طلاقاً؛ فالخلع يقع من الزوجة عن عوض تسلمه للزوج مع إثمها إن كانت ظالمة.
وأما الطلاق فيقع من الزوج وهو غير آثم فيه إلا إن كان واقعاً عن ظلم(1).
ومن هنا يتبين لنا عظم الشريعة الإسلامية؛ حيث ضيقت الخناق على الطلاق؛ ويتبين لنا مدى استعجال كثير من الناس وجهلهم في شأن الطلاق.
ولو أنهم فقهوا الطلاق والحكمة منه لطويت عن المحاكم قضايا لا تحصى كثرة.
28_ ترك الطلاق بعد استحالة الإصلاح والوفاق:
مر في الفقرة الماضية عظم شأن الطلاق، وذمُّ الاستعجال في شأنه.
وكما أن هناك من يُفَرِّط فيستعجل في شأن الطلاق فهناك من يفرط من جهة أخرى، فيمنع الطلاق، ولا يُقْدم عليه مهما كان الوضع، ومهما توافرت دواعيه.
والحق قوام بين ذلك؛ فلا الاستعجال في شأن الطلاق المحمود، ولا تركه إذا توافرت أسبابه ودعت الحاجة إليه بالأمر المحمود كذلك.
إن الطلاق لم يشرع في الإسلام ليكون يميناً تؤكد به الأخبار، ولا أليَّةً(2)يكرم بها الضيوف، ولا وسيلة يحمل بها المخاطب على فعل شيء أو الامتناع عنه؛ فذلك انحراف في مفهوم الطلاق.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى 32/274_281، ونداء للجنس اللطيف ص44_50، والهداية الإسلامية ص58، وعيون البصائر للشيخ محمد البشير الإبراهيمي ص328_331، وصفة الزوجة الصالحة ص33_34، والطلاق بين التشريع والواقع 29_31.
(2) الألية: القسم واليمين.(2/70)
إن الطلاق في الإسلام لَمِنْ أعظم الأدلة على أن هذا الدين من لدن حكيم عليم؛ فالله _عز وجل_ إنما شرع الطلاق لحكمة بالغة، ومصلحة راجحة ظاهرة؛ فلماذا نمنعه إذا تحققت دواعيه وتوافرت أسبابه؛ فيكون ذلك المنع سبباً في عذاب شخصين وشقائهما؟.
فلماذا هذا العذاب؟ ولمصلحة مَنْ ذلك الشقاء؟ وإلى متى يظل البيت جحيماً ملهباً كلما خبت ناره زادها الخلاف سعيراً؟.
إن الزواج نعمة عظمى، وقد امتن الله به على عباده في غير ما موضع من كتابه؛ فالزواج عقد بين قلبين، ومزج بين روحين، وفي الأخير تقريب بين جسمين؛ فإذا تراخت عراه بين القلبين ذهب السكون والمودة والرحمة.
ومممن هنا يُسعى في محاولة الجمع، والإصلاح، ورأب الصدع.
فإذا زاغت الفطرة من أحد الزوجين عن محورها، أو طغت الغرائز الحيوانية على الفضائل الإنسانية في أحدهما أو كليهما، وباءت محاولات الإصلاح بالإخفاق _فالله أرحم من أن يكلف عباده تحمل هذا النوع من العذاب النفسي، وهذا الجمع بين قلبين لم يأتلفا، وطبعين لم يتَّحدا، وروحين تناكرا، ولم يتعارفا.
لذلك شرع لهما الطلاق؛ ليستريح من ضاق ذرعاً بصاحبه ضيقاً معقولاً بدواعيه وأسبابه.
قال الأصمعي× : =كنت أختلف إلى أعرابي أقتبس منه الغريب، فكنت إذا استأذنت عليه يقول: يا أمامة إيذني له، فتقول: أدخل.
فاستأذنت عليه مراراً فلم أسمعه يذكر أمامة، فقلت: يرحمك الله ما أسمعك تذكر أمامة؟
قال: فوجم وجمة(1) ندمتُ على ما كان مني، ثم أنشأ يقول:
ظعنت أمامة بالطلاقِ ... ونجوت من غُلِّ الوَثاقِ
بانت فلم يألم لها ... قلبي ولم تبكِ المآقي
ودواء ما لا تشتهيـ ... ـه النفس تعجيل الفراقِ
والعيش ليس يطيب من ... إلْفَينِ من غير اتفاقِ(2)
__________
(1) وجمة وجوماً: اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام.
(2) العقد الفريد لابن عبدربه 6/120_121.(2/71)
إن الزواج نعمة كبرى _كما مر_ ولكنه يكون كارثة إذا لم يُقم الزوجان حدود الله، ويقفا عندها، ولم يجيبا داعي الصلح ومنادي الحكمة؛ فهب أن زوجاً شرِّيراً، غليظ الكبد، قاسي القلب، سيء العشرة، لا يكف من إيذاء زوجته وإهانتها، ولا يقوم بواجب الإنفاق عليها، لسانه بذيء، ويده لا تكف عن الضرب.
إن البقاء مع شخص كهذا كارثة على الزوجة وأهلها.
وتصور أن هناك زوجةً, فاسقةً, شريرةً، كاذبة, مبذرة, سيئة العشرة،لا تكف عن إيذاء زوجها, وإهانته, وتشويه سمعته, ولا ترعوي لنصحه, ولا تقوم بواجب خدمته, لسانها سليط, ويدها متلاف, ومكرها كبار, وإصلاحها متعذر.
أليس البقاء مع مثل هذه كارثة على الرجل؟ أليس الطلاق في مثل هذه الحال نعمة عظمى؟.
بلى, وإن نصوص الشرع وقواعده الكلية لتؤيد ذلك.
قال_تعالى_[لا يكلف الله نفساً إلا وسعها] وقال في آخر الآية :[ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به] (البقرة:286).
وقال النبي": =لا ضرر ولا ضرار+(1).
والقاعدة الشرعية تقول إذا ضاق الأمر اتسع(2).
وتقول القاعدة الأخرى : الضرر يزال(3).
فكل شيء يحسن إذا حان أوانه, وضع في مكانه.
ووضع الندى في موضع السيف في العلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى(4)
إن الهدم ليس سواء كله؛ فقد يكون إفساداً مذموماً أحياناً, وقد يكون إصلاحاً محموداً في أحايين أخر.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، كتاب القضاء في المرفق (31)، وأحمد 1/313، وابن ماجه (2340)، والحاكم 2/57_58، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء 3/408.
(2) انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص84، والأشباه والنظائر للسيوطي ص172.
(3) انظر الأشباه والنظائر لابن نجيم ص84، والأشباه والنظائر للسيوطي ص173.
(4) البيت للمتنبي انظر ديوانه 1/288.(2/72)
بل قد يكون الهدم عينَ المصلحة, كما لو كان البناء مُتَصَدِّعاً آيلاً للسقوط يهدم السكان والمارة.
إن ترك المرأة الشرسة، التي تسوم زوجها سوء العذاب, ولا تقوم بحقه, ولا ترعى حرمته, ولا ترعوي لنصحه _قد يكون خيراً لها ولزوجها, فزوجها يرتاح, وهي تتأدب, فلربما كان ذلك سبباً لتأدبها مع زوج آخر, ولربما اقترنت بزوج مناسب لها, ملائم لطبعها, فقد يسعد بالشراسة, فيكون بينهما من الائتلاف والوئام ما يحقق السعادة لكل منهما؛ فالأرواح جنود مجندة.
ولكل شيء آفة من جنسه ... حتى الحديد سطا عليه المبردُ
ثم إن الاستمرار في بيت يقوم على الشجار والخلاف لن يكون محضناً لأولاد صالحين أسوياء.
إن معظم المنحرفين ينشؤون في مثل هذه البيوت المنكودة، وإن الخلاف الذي يحطم الأعصاب يذهب بكل إمكانات العبقرية والألمعية، ويقضي على المواهب التي يمكن أن تنتج خيراً وبركة للناس.
فيا أيها الرجال أحسنوا اختيار الزوجات، ثم اصبروا على الترويض والتربية، وعاملوا زوجاتكم بالحسنى، وأصلحوا ما بينكم وبين الله يصلح لكم أعمالكم وأزواجكم وجميع من تعاشرون.
وإذا ثبت لديكم استحالة استمرار الحياة الزوجية_ فلا تؤذوا زوجاتكم، ولا تهلكوا أنفسكم؛ إن الله كان بكم رحيماً.
إن الطلاق _كما سبق_ لا يجوز أن يكون الخطوة الأولى في حسم الخلاف، بل هناك خطوات أخرى يُلجأ إليها وقد مر ذكرها.
فإذا استمر الحال على ما هو عليه من استحالة الحياة كان الطلاق هو الخيار الأخير، ولعل الخير يكون للزوجين معاً بعد الطلاق.
كيف وقد قال _عز وجل_:[وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما](النساء: 130).
قال ابن كثير× في تفسير هذه الآية: =وقد أخبر الله _تعالى_ أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه بأن يعوضه الله من هو خير له منها، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه.(2/73)
[وكان الله واسعاً حكيماً]أي واسع الفضل، عظيم المن، حكيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه+(1).
وبالجملة فموضوع الطلاق كغيره من الموضوعات التي تقوم في حياتنا بين إفراط وتفريط؛ فإما أن يكون الطلاق عند كثير من الناس ممنوعاً مهما كان الوضع، وإما أن يكون ألعوبة يُصار إليها عند أدنى سبب وأيسر نزوة(2).
وهكذا يكون الطلاق رحمة، وهكذا يتبين لنا عظمة دين الإسلام، وسخف العقول التي تنال منه لإباحته الطلاق، ثم هم يبيحونه بعد أن تبين لهم جدواه(3)
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/534.
(2) انظر عيون البصائر ص 328_329، ونظرات في الأسرة المسلمة ص185_188 و 190_191.
(3) فها هي أوروبا التي لا تستحي من الله _تعالى_ ولا من عباده ظلت _ولا تزال_ تسب الله _تعالى_ ودينه؛ لأن الإسلام يبيح الطلاق المضبوط بضوابطه الشرعية، ويعده كالكي آخر الدواء.
ثم بدا لأوروبا بعد مراجعة للنفس طالت أن تستبيح ما حرَّمته على نفسها قروناً طويلة، فغالت في فتح الأبواب على مصاريعها لهجر النساء وتطليقهن بطريقة شائنة مجحفة، وصار هذا الطلاق يتم بمباركة وقبول كنسي، أو بموافقة قانونية خارج سلطان الكنيسة، والأرقام في ذلك مدهشة، والحقائق أشبه بالخيال. =
= وقد كتب الفيلسوف برتراند راسل في كتاب له عن الزواج والأخلاق ينادي باستباحة الطلاق أيام كان محظوراً، فقال: =لقد وَجَدت أمريكا الحل لمشكلة النفور والبغضاء بين الزوجين، وإني أرى أن تحذوا إنجلترا حذو أمريكا وتبيح الطلاق على نطاق أوسع مما هو عليه الوضع حالياً+ انظر ماذا يريدون من المرأة ص101.
والمطلقات في أوروبا يندمجن في الأعمال الجنسية بعد أسابيع يسيرة من وقوع الطلاق، وربما قبله، فهم لا يعرفون العدَّة، ولا براءة الرحم، ولا يهمهم ذلك في شيء، فثلث المُطلِّقين، و 95% من المطلقات يقعون في الجنس البعيد عن الزوجية بصورة سافرة.
=وإذا كانت نسبة الطلاق في مصر والشام لا تزيد عن 1.5% فإنها في أوروبا وأمريكا عالية تماماً كحالات الاغتصاب، والشذوذ، والخيانة الزوجية.
فها هي اليهودية ليندا سونتاج خبيرة الشؤون الاجتماعية تجري استبانة أظهرت أن 40% من الزيجات التي تمت في السنين العشر الأخيرة في بريطانيا انتهت بالانفصال. =
= والإحصاءات الفرنسية تشير إلى أن ثلث حالات الزواج بين الفرنسيين تنتهي بالطلاق، وأن عمر الزواج لم يعد يتعدى ست سنين.
وكتبت وول ستريت جورنال في 26/9/1986م أن واحداً من كل أمريكيَّيْن طلق قرينته، وأن الرجال يوقعون الطلاق بسهولة، فهو بين المتزوجين لأول مرة يصل إلى 30%، وللمرة الثانية 50%.
وتصل نسبة الطلاق لإي بعض دول أوروبا إلى 70%.
انظر ماذا يريدون من المرأة ص102.(2/74)
.
29_ ذم الزوجة بعد فراقها:
فمن الأزواج من لا يكتفي بالتسريح الجميل إذا لم يتوافق مع زوجته، فتراه إذا فارقها بطلاق أو خلع يُسفُّ في ذمها، ويسرف في ذكر مساوئها،
وربما رماها بما هي براء منه، وربما نفَّر منها من أراد الزواج بها.
وربما ذمها عند أولادها منه وحثهم على عقوقها وهجرانها.
وهذا من الظلم المبين، والعدوان العظيم؛ ذلك أن الشارع أمر الزوج إذا فارق زوجته أن يُسَرِّحها سراحاً جميلاً، وأن يسرحها بإحسان، فيستر ما وقف عليه من عيوب زوجته، ويمسك عما لا يجوز له ذكره.
ثم إن ملك الله واسع، وفضله عظيم؛ فله عنها متسع، ولها عنه متسع.
ثم إن رغبات الناس تتباين؛ فما لا يناسب الزوج الأول قد يناسب غيره، وما يعده عيباً ربما كان في نظر الآخرين مزية(1).
كذلك من الخطأ العظيم ذم الزوجة أمام أولادها، وحثهم على عقوقها وهجرانها؛ فهذا أمر بالمنكر، ونهي عن المعروف؛ فماذا يُرجى من الأولاد إذا هم عقوا أمهم وهي أولى الناس ببرهم؟.
إن العقوق سينالك أيها الوالد من باب أولى، وحينئذ.
فلا تَجْزَعنْ من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ سنةً من يسيرها(2)
فالواجب على الزوج إذا فارق زوجته أن يمسك لسانه عن الوقيعة بها، وأن يحث أولادها _إن كان لها أولاد منه _ على برها وصلتها؛ فذلك حق يقضيه الدين، والمروءة، والتذمم، وحسن الوفاء.
30_ إضاعة الأولاد بعد طلاق الزوجة:
فمن الأزواج من إذا طلق زوجته، وكان له أولاد منها _ تسبب في ضياعهم، وفساد أخلاقهم.
إما بإهمالهم، أو بقلة الإنفاق عليهم، أو برفضه أن يعيشوا معه، أو بأخذهم من أمهم بالقوة مع أنهم قد يتربون عندها أحسن من تربيتهم عند أبيهم.
__________
(1) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص197.
(2) لسان العرب لابن منظور 13/225.(2/75)
فاللائق بالزوج أن لا يتسبب في ضياع أولاده بعد طلاق أمهم، بل يحرص كل الحرص على ما فيه صلاحهم ومصلحتهم، وأن يبقي الأولاد إذا كانوا أطفالاً عند أمهم ما لم تتزوج أو ترفض بقاءهم عندها.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن ابني هذا بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثدي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني.
فقال: =أنت أحق به ما لم تنكحي+(1).
أما إذا كان الطفل مميزاً بين مصلحته ومضرّته فإن الحاكم يخيره بين أبيه وأمه؛ لما جاء عن أبي هريرة ÷ أن النبي"خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه(2).
وإذا كان الطفل مميزاً وعنده استعداد للتربية والتعليم، وخشي عليه أبوه أن تهمله أمه إن هو بقي عندها _ فالمصلحة تقتضي أن يأخذه أبوه إذا كان سيقوم بواجبه.
أما إذا استويا فأمه أولى به(3).
وبالجملة فينبغي للزوجين ألا يجعلا أولادهما ضحية للعناد، والتعنت، والمهاترات.
بل ينبغي أن يكون الأولاد بمعزل عن المشكلات، وأن يؤثر الوالدان مصلحة الأولاد سواء في بقائهم عند الأب أو الأم.
ولهذا اختار بعض أهل العلم في موضوع الحضانة النظر في مصلحة الأولاد سواء كان صغيراً، أو كبيراً مميزاً، واستدلوا على ذلك باختلاف الأحاديث في هذا الباب، وتنوع إجابات النبي".
31_ قلة الوفاء للزوجة:
__________
(1) رواه أحمد 2/182، وأبو داود (2276)، والحاكم 2/207، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) رواه أحمد وأبو داود (2277) والترمذي (1357) وقال حسن صحيح، واخرجه النسائي 6/185، وابن ماجه (2351)، وصححه أحمد شاكر كما في تحقيق المسند 13/73.
(3) انظر مجموع الفتاوى 34/111_132، ومختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص631_638، وزاد المعاد 5/387_437، ونيل الأوطار 6/768_769، والمسؤولية في الإسلام ص 130_131.(2/76)
فمن الأزواج من قلَّ حظُّه من الوفاء؛ فلا همَّ له من زوجته سوى نصيبه منها؛ فلا يحفظ حقها إلا ما دام راغباً فيها، وما دامت في شرخ شبابها، وغضارة نضارتها، وكامل صحتها، ووفرة ما لها.
فإذا ما كبرت، أو مرضت، أو افتقرت _أعرض عنها، ونسي ما كان من سالف الود بينه وبينها، ولم يقدِّر لها صبرها عليه، وقيامها بحقه.
ومن قلة الوفاء أن يطلِّق الرجلُ زوجته إذا مرض مرضاً يخشى منه الموت؛ كي يحرمها من الميراث.
ومن ذلك أن يسافر عنها كثيراً دونما حاجة للسفر.
إلى غير ذلك من صور قلة الوفاء التي تدل على لؤم الطبع، وقلة الرعاية لحفظ الذمام.
أما كرام الناس، وأهل الوفاء منهم _فإنهم يحفظون الود، ولا ينسون الإحسان مهما تقادم عليه الزمان.
ومن أولى ما يُعْنَون بحفظه حق الزوجات اللواتي وهبنهم البر، والإخلاص، وحسن المعاشرة؛ فترى أولئك الكرام يحفظون عهود الود، فيذكرون زوجاتهم بالخير، ويدعون لهن، ويقفون إلى جانبهن بالمواساة إذا مرضن، أو كبرن، أو أصبن ببلية، بل ويحفظون حقهن بعد مماتهن.
فهذا سيد الخلق أجمعين نبينا محمد _ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم _ كان حافظاً ودَّ زوجته أم المؤمنين خديجة _ رضي الله عنها -.
فبعد أن ماتت، وتزوج بعائشة وغيرها من ذوات الجمال والشرف _رضي الله عنهن_ لم ينس خديجة، وما لها من سابقة في الإسلام، ونفقة في سبيل الله؛ فلقد كان كثراً ما يلهج بذكرها، والثناء عليها.
بل لقد كان _ عليه الصلاة والسلام _يتعاهد صديقاتها بعد موتها، وربما ذبح الشاة، فقطعها، ثم يبعثها إليهن، وكان يُذَكِّرهن بالهدية والصدقة برَّ خديجة، وإحسانها الذي ألفوه منها، وعرفوه عنها، فيترحمون عليها، وينقلون الحديث عن كرمها وجودها(1).
حتى لقد بلغ من كثرة ذكره لخديجة _ رضي الله عنها _ أن غارت منها عائشة _ رضي الله عنها_ مع أن خديجة ماتت قبل أن يتزوج النبي"عائشة بثلاث سنين.
__________
(1) انظر إصلاح المجتمع للبيحاني ص307.(2/77)
جاء في صحيح البخاري عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: =ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة؛ من كثرة ذكر رسول الله"إياها.
قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه _ عز وجل _ أو جبريل _عليه السلام _ أن يبشرها ببيت في الحنة من قصب+(1).
وجاء في البخاري _أيضاً_ عن عائشة _رضي الله عنها_ قالت: =ما غرت على أحد من نساء النبي"ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي"يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءَ، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول:=إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد+(2).
وجاء في البخاري ومسلم عن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: =استأذنَتْ هالة بنت خويلد _ أخت خديجة _ على رسول الله"فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة، قالت: فغرت: الحديث(3).
وهذا وقد تلقينا عن التاريخ ورأينا بأعيننا أزواجاً عرفوا حقوق الزوجية، واحتفظوا بآدابها التي أمر الإسلام بها، فعاشوا في ارتياح وهناءة، موصولين بتعاطف واحترام.
وربما ظهر هذا فيما يصدر من الزوجين من عبارات الأسف والتحسر عند الوداع.
قال ابن زريق البغدادي لما ودع زوجته خارجاً لطلب الرزق في قصيدته العينية الطويلة المسماة باليتيمة:
أستودع الله في بغدادَ لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعُهُ
ودعته وبودي لو يودعني ... طيبُ الحياة وأني لا أودعه
كم قد تشفع بي ألا أفارقه ... وللضرورات حالٌ لا تُشَفِّعُه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلاتٌ وأدمعه
لا أكذب اللهَ ثوبُ العذر منحرقٌ ... عني بفُرقته لكن أُرَقِّعُه
إني أوسِّع عذري في جنايته ... بالبين عنه وقلبي لا يوسِّعه
أُعطيت ملكاً فلم أحسن سياسته ... كذاك من لا يسوس الملك يخلعُه
__________
(1) البخاري (3817)، وبنحوه مسلم (2435).
(2) البخاري (3818)، وبنحوه مسلم (2435).
(3) البخاري (3821)، ومسلم (2437).(2/78)
ومن غدا لا بساً ثوب النعيم بلا ... شكر عليه فإن الله ينزعه
اعْتَضْتُ من بعد خلي بعد فرقته ... كأساً أُجرَّع منه ما أُجَرَّعه
كم قائل ليَ ذنب البين قلت له: ... الذنب والله ذنبي لست أدفعه
ألا أقمت فكان الرشد أجمعه ... لو أنني يوم بان الرشد أتبعه
إني لأقطع أيامي وأنفذها ... بحسرة منه في قلبي تُقَطِّعه
بمن إذا هجع النُّوَّام بتُّ له ... بلوعة منه ليلي لست أهجَعُهُ
لا يطمئن لجنبي مضجعُ وكذا ... لا يطمئن له مذ بِنْت(1) مضجعُه
إلى أن قال:
بالله يا منزل الأنس الذي درست ... آثارُه وعفت مُذْ بنت أرْبُعُه
هَل الزمانُ مُعيدٌ فيك لَذَّتَنا ... أم الليالي التي أمْضَت تُرجِّعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيثٌ على مغناك يمرعه
من عنده ليَ عهدٌ لا يضيع كما ... عندي له عهدُ ودٍ لا أضيِّعه
ومن يُصَدِّع قلبي ذكره وإذا ... جرى على قلبه ذكري يُصَدِّعُه
لأصبرن لدهر لا يمتعني ... به ولا بيَ في حال يُمتِّعه
علماً بأن اصطباري معقبٌ فرجاٌ ... فأضيقُ الأمر إن فكَّرت أوسعُه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا ... جسمي ستجمعني يوماً وتجمعه
وإن تَنَلْ واحداً منا منيَّتُه ... فما الذي بقضاء الله يمنعه(2)
وهذا ابن دراج القسطلي يقول عند وداع زوجته:
ولما تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنَّةٌ وزفير
تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد مبغومُ النداء صغيرُ
إلى أن قال:
وطار جناحُ الشوق بي وهفت به ... جوانح من ذعر الفراق تطير(3)
وقد تظهر هذه العواطف الرقيقة عند حضور الموت، كما قال يحيى الهندي الأندلسي يوصي بأن يدفن حذاء زوجته التي توفيت قبله، وحزن عليها حزناً شديداً:
إذا متُّ فادفني حذاء خليلتي ... يخالط عظمي في التراب عظامها
__________
(1) بنت: من البينونة وهي الفراق.
(2) ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ص476_478.
(3) مختارات من الشعر الأندلسي د. محمد رضوان الداية ص48_49.(2/79)
ورتِّبْ ضريحي كيفما شاءه الهوى ... تكون أمامي أو أكون أمامها
لعل إله العرش يجبر صرعتي ... فيعلي مقامي عنده ومقامها(1)
وقد تظهر هذه العواطف في تشوق في حال غيبة كما قال المحدث ابن حجر×متشوقاً إلى زوجته ليلى الحلبية:
رحلت وخلَّفتُ الحبيب بداره ... برغمي ولم أجنح إلى غيره ميلا
أشاغل نفسي بالحديث تَعَلُّلاً ... نهاري وفي ليلي أحنُّ إلى ليلى(2)
ولا تقف تلك العواطف في الحياة فحسب, بل تتجلى أعظم ما تتجلى حين يفجع الزوج بوفاة زوجته, حينئذ تستثار كوامنه, ويظهر مدى حرقته.
قال البارودي× في رثاء زوجته(3) حيث ورد إليه نعيها وهو بسرنديب :
أيد المنون قدحت أيَّ زنادِ ... وأطَرْت أيَّة شعلة بفؤادي
أوهنت عزمي وهو حملة فيلق ... وحَطمت عودي وهو رُمْحُ طرادي
لم أدر هل خطبُ ألمَّ بساحتي ... فأناخ أم سهمُ أصاب فؤادي
أقذى العيون فأسلبت بمدامع ... تجري على الخدين كالفرصاد(4)
ما كنت أحسبني أراعُ لحادث ... حتى مُنيتُ به فأوهن آدي(5)
أبلتني الحسراتُ حتى لم يَكَدْ ... جسمي يلوح لأعين العواد(6)
أستنجد الزفرات وهي لوافحُ ... وأسُفَّه العبرات وهي بوادي
لا لوعتي تَدَعُ الفؤاد ولا يدي ... تقوى على ردَّ الحبيب الغادي
إلى أن يقول:
أسليلة القمرين أيُّ فجيعة ... حلت لفقدك بين هذا النادي
__________
(1) انظر الهداية الإسلامية ص59_60، والرجل والمرأو في الإسلام د.محمد وصفي 201_202.
(2) انظر الهداية الإسلامية ص59_60، والرجل والمرأة في الإسلام د.محمد وصفي ص201_202.
(3) زوجته هي عديلة يكن بنت المشير أحمد يكن باشا، تزوجها سنة 1867م، وأنجب منها ابناً وأربع بنات، وتوفيت بالقاهرة سنة 1883م وهي في السابعة والثلاثين من عمرها، ونعيت إليه وهو منفي بسرنديب، فرثاها بهذه القصيدة الدالية التي تعد من عيون الشعر، وتبلغ 67 بيتاً.
(4) الفرصاد: صبغ أحمر، ويطلق على التوت.
(5) أدي: قوتي.
(6) العُوَّاد: الزوار.(2/80)
أعزز عليَّ بأن أراك رهينةً ... في جوف أغبر أقتم الأسداد(1)
أو أن تبيني عن قرارة منزل ... كنت الضياءَ له بكل سوادي
لو كان هذا الدهرُ يقبل فديةً ... بالنفس عنك لكنت أولَ فادي
أو كان يرهب سطوة من فاتك ... لفعلت فعل الحارث بن عباد(2)
لكنها الأقدارُ ليس بناجع ... فيها سوى التسليم الإخلاد
أفاستعين الصبر وهو قساوةُ ... أم أصحب السلوان وهو تعادي
ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعي التجلد وهو غير جماد
هيهات بعدك أن تقر جوانحي ... أسفاً لبُعْدك أو يلين مهادي
ولهي عليك ملازمُ لمسيرتي ... والدمع فيك ملازم لوسادي
فإذا انتبهت فأنت أول ذكرتي ... وإذا أويت فأنت آخر زادي
أمسيت بعدك عبرةً لذوي الأسى ... في يوم كل مصيبة وحداد
متخشعاً أمشي الضَّراء(3) كأنني ... أخشى الفجاءة من صيال أعادي
ما بين حزن باطن أكل الحشا ... بلهيب سورته وسقم بادي
وردَ البريدُ بغير ما أمَّلْته ... تعس البريدُ وشاه وجه الحادي
فسقطت مغشياً عليَّ كأنما ... نَهَشَتْ صميمَ القلب حَيَّةُ وادي
وَيْلمَّهُ رزءاً أطار نَعيُّه ... بالقلب شعلة مارج وقَّاد(4)
قد أظلمت منه العيون كأنما ... كحل البكاءُ عيونها بقتاد(5)
إلى أن قال:
سر يا نسيمُ فبلَّغ القبرَ الذي ... بحمى الإمام تحيتي وودادي
إلى أن قال مصبراً نفسه , سائلاً المغفرة لزوجته:
فاستهد يا محمودُ ربَّك والتمس ... منه المعونةَ فهو نعم الهادي
واسأله مغفرة لمن حلَّ الثرى ... بالأمس فهو مجيبُ كلَّ منادي
هي مهجةُ ودَّعْتُ يوم زيالها(6) ... نفسي وعشت بحسرة وبعاد
تالله ما جفت دموعي بعدما ... ذهب الردى بك يابنة الأمجاد
__________
(1) يعني به القبر.
(2) من سادات العرب وشعرائهم في الجاهلية.
(3) الضرَّاء: الاستخفاء.
(4) ويْلُمِّه: أي ويل لأمه، والرزء: المصيبة، ونعيُّه: أي ناعيه والمخبر به، المارج: النار لا دخان لها.
(5) القتاد: الشوك.
(6) زيالها: يعني فراقها.(2/81)
لا تحسبيني ملْتُ عنك مع الهوى ... تالله ما ترك الوفاء بعاد(1)
قد كدتُ أقضي حسرةً لو لم أكن ... متوقعا لقياك يوم معادي
فعليك من قلبي التحية كلما ... ناحت مُطَوَّقَةُ(2) على الأعواد(3)
وهذه مرثية قالها العلامة الأديب الشيخ محمد الخضر حسين× في رثاء زوجته السيدة زينب التي توفيت في القاهرة 1372هـ، وكانت بارة صالحة, فقال فيها قصيدة بيَّن فيها لوعته على فراقها , وذكر ما كان لها من ود في قلبه , وما كانت عليه من خلق ودين ووفاء , قال× وكان عمره آنذاك تسعاً وسبعين سنة:
أعاذل غُضَّ الطرفَ عن جفني الباكي ... فخطبُ رمى الأكبادَ مني بأشواك
ولي جارة(4) أودى بها سقمُ إلى ... نوى دون منآها المحيط بأفلاك
أيا جارتا عهدا للقاء قد انقضى ... وصمتكُك إذ أدعوك آخر ملقاك
أجارة هذا طائر الموت حائمٌ ... ليَذْهبَ من زهر الحياة بمجناك
وكيف يروم الصحب مني تصَبُّراً ... ومركبةٌ حدباءُ(5) أرْسَتْ بميناك
وكنت ألاقي كلما جئتُ مُئنساً ... فمالي ألاقي اليوم صيحةَ مَنْعاك
حنانيك هل ساءتك مني خليقةٌ ... فأنكرتِ دنيانا وآثرت أخراك
وكنت أعَزِّي النفسَ من قبلُ إنني ... أفوت قرير المقتلين بمَحياك
ولم أدر ما طعمُ المنون فَذُقْتُهُ ... مساءَ لفظتِ الروحَ والعينُ ترعاك
هوى بك بينٌ لستُ أرجو وراءه ... زماناً يجود الدهر فيه بمرآك
فهيهات أن أنساك ما عشت والأسى ... يموج بقلبي ما جَرَتْ فيه ذكراك
وهيهات لا أنسى مواطنَ كنت لي ... مُسَلِّيةً لا أُنْس إلا بمغناك
ولولاك لم أقض اليراعةَ حقَّها ... كأن نسيجَ الفكر حِيْكَ بيُمناك
__________
(1) بعاد: يعني بعادتي.
(2) المطوقة: الحمامة ذات الطوق وهي التي في عنقها ريش يخالف لونه باقي جسمها يشبه الطوق.
(3) ديوان محمد سامي باشا البارودي ص145_152.
(4) الجارة يعني بها زوجته، والعرب تسمي الزوجة جارة.
(5) المركبة الحدباء: النعش.(2/82)
لقد صُنتِ في الحالين عهداً فلا أرى ... لدى عسرةٍ إلا انطلاق مُحيَّاك
وأنت التي حبَّبْت لي العيشَ بعدما ... سئمتُ فَطيْبُ العيش بعض مزاياك
وإن سامني يومٌ شكاةً تدفَّقت ... دموعك من جفن يُخال هو الشاكي
يجافى الكرى عيني إذا مسَّك الضنى ... ويرتاح ما بين الحنايا(1) لمنجاك
تمرُّ بنا الأيام موصولة المنى ... فما ضرَّنا ألا نكونَ كأملاك
لياليك أيامٌ بمنزلة اللِّوى ... ومطلع أقمار السماء بمأواك
أجارةٌ لو شاهدت كيف وقفت في ... مزارك لكنْ ما ظفرت بنجواك
إذاً لرأيت الحزنَ يَصْلى بناره ... حشاً وكأن الحزنَ شُدَّ بأسلاك
وعُدْتُ إلى البيت الكئيب كأنني ... خلقت فريداً لست أعرف إلاك
أغَصُّ بشجو كلما مرَّ موضعٌ ... حللت به والنفسُ مرآةُ سيماك
ويبعث أشجاني هديرُ(2) حمامةٍ ... تنوح كأن الطيرَ في الجوِّ تنعاك
أجول بفكري أبتغي لي قربةً ... أمُتُّ بها عندي الدعاء برُحماك
تَجَرَّعْتُ مرَّ الصبر علِّيْ أراه في ... حسابي وعقباي السليمةُ عقباك
فطوبى لك القربى لدى الله منةٌ ... ونزلٌ كريمٌ في منازل نُسَّاك(3)
32_ قلة القناعة والتطلع إلى غير الزوجة:
فمن الأزواج من هو قليل القناعة بما لديه، كثير التطلع إلى محاسن غيره، فلا يقنع بما وهبه الله ولو كان كثيراً عظيماً، ولا يريح قلبه من عناء التطلع إلى ما عند الآخرين ولو كان قليلاً حقيراً.
ولهذا تراه يحسد إخوانه وأقاربه وزملاءه بزوجاتهم، وتراه يكثر من عقد الموازنات والمقارنات بين حاله وحالهم، فيظن أن أولئك ينعمون بعيشة أفضل منه، وأن لدى زوجاتهم ما ليس عند زوجته مع أن الأمر قد يكون بعكس ذلك تماماً.
ومن هذا القبيل تطلع الزوج إلى غير زوجته؛ فإذا رأى امرأة أتبعها بصره، وربما مال إليها بقلبه.
__________
(1) يعني القلب.
(2) هكذا في الديوان، ولعلها: هديل.
(3) خواطر الحياة لمحمد الخضر حسين ص192_194.(2/83)
وأقبح ما في ذلك أن يمد بصبره إلى المذيعات والممثلات والراقصات ممن يضعن المساحيق، وموادِّ التجميل ما لو وضع على أدمِّ النساء لربما أصبحت كالقمر.
فترى هذا الرجل ينظر إليهن بعين الإعجاب، ثم يُرجع بصره إلى زوجته فيرمقها بألحاظ الازدراء.
ولربما قاده ذلك إلى الزهد بزوجته، ولربما انجرَّ به الأمر إلى الخيانة، والخيانةُ تنغص الحياة الزوجية، وتفقد ثقة المرأة بزوجها؛ فالمرأة جبلت على كراهية خيانة الزوج لها أكثر من أي أمر آخر؛ كيف وقد بذلت له صحتها، وحبها، وشبابها؟
هذا وإن من أكثر أسباب التطلع إلى النساء الأخريات _ هو كثرةَ الاختلاط والتبرج؛ ولهذا تكثر الخيانة في البلدان والمجتمعات التي تشيع فيها الإباحية والفجور، وتقل في الدول، والمجتمعات التي ترعى الحشمة والحياء(1)
__________
(1) ولهذا جاء في بعض الدراسات أن 70% من الأمريكيين يخونون زوجاتهم؛ فقد دلت الدراسات على أن في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 35 مليون متزوج يقيمون علاقات خارج عش الزوجية، وبعبارة أخرى فإن 70% من الزوجات هناك مأسورات بقيد الخيانة.
وقد دفعت المعاناة الزوجات اللواتي يخونهن أزواجهن إلى تشكيل تجمع نسائي جديد في أمريكا يضم أولئك النسوة، وقد أطلق عليه (واتش) وهي اختصار لكلمة إنجليزية ترجمتها =النساء وأزواجهن الخائنون+ وتجتمع أولئك الزوجات مرتين في الشهر، حيث يعرضن مشكلاتهن مع أزواجهن غير المخلصين، فتحكي الواحدة منهن تجربتها للأخرى؛ بحثاً عن الحل الملائم.
وقد انتشرت هذه اللقاءات في أكثر من ولاية أمريكية،ويقطع بعض النساء مئات الأميال؛ ليصلن إلى مكان الاجتماع.
ولا توجد في هذه الحالة حماية للزوجة الأمريكية، وإذا أخبرت أهلها بالأمر فهم _في الأغلب_ لا يستطيعون القيام بشيء سوى النظر بكراهية إلى صهرهم، وإذا أخبرت أهل الزوج فإنهم كثيراً ما يقفون معه.
أما إذا أخبرت صديقاتها فإنهن ينصحن بدافع الشفقة بطلب الطلاق العاجل.
انظر من أجل تحرير حقيقي للمرأة ص48_49.
ولا ريب أن تلك المجتمعات مجتمعات كفر، وليس بعد الكفر ذنب، وإنما الخطر الداهم أن تصل تلك الخيانات بيوت المسلمين.(2/84)
.
فظاهرة التطلع إلى غير الزوجات، وقلة القناعة والرضا بهن _ من أعظم ما يهدم بنيان الحياة الزوجية، وإذا بحثتَ عما يمكن أن يكون علاجاً لهذه الظاهرة _ وجدتَها ترجع إلى أمور عديدة من شأنها أن تعين على القضاء عليها، أو التخفيف من وقعها وأثرها؛ خصوصاً أولئك الذين لديهم بقية من دين وعقل ومروءة.
فمما يعين على علاج تلك الظاهرة ما يلي:
أ_ تقوى الله _عز وجل_ واستشعار اطلاعه: فذلك يُقِرَّ النفس على العفاف، ويحفظ العبد من مد النظر؛ فالله _عز وجل_ لا تخفى عليه خافية؛ فالغيب عنده شهادة، والسر علانية.
ب_ غض البصر: فمن غض بصره أطاع ربه، وأراح قلبه، وحفظ دينه، وسلم من تبعات إطلاق البصر.
وقد قيل: =إن حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات+(1).
ثم إن غض البصر يورث أُنساً بالله، وقوةً في القلب وفرحاً، كما أن إطلاقه يضعف القلب، ويحزنه.
وغض البصر _أيضاً_ يكسب القلب قوة وشجاعة، ويورث صاحبه فراسة صادقة، كما أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب.
جـ _ لزوم القناعة: فإذا لزم العبد القناعة أشرقت عليه شموس السعادة.
قال _تعالى_[ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى] (طه:131).
قال أبي بن كعب ÷: =من لم يتعز بعزة الله تَقَطَّعتْ نفسه، ومن يتبع بصره فيما في أيدي الناس يَطُل حزنه، ومن ظن أن نعمة الله في مطمعه ومشربه وملبسه فقد قل علمه، وحضر عذابه_(2).
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي× في تفسير الآية السابقة:
__________
(1) الجواب الكافي لابن القيم ص218.
(2) تفسير البغوي 5/303_304.(2/85)
=أي ولا تمد عينيك معجباً، ولا تكرر النظر مستحسناً إلى أحوال الدنيا والممتعين بها من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة؛ فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجاباً بأبصار المعرضين، ويتمتع بها _بقطع النظر عن الآخرة_ القوم الظالمون، ثم تذهب سريعاً، وتمضي جميعاً، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه يوم القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختباراً؛ ليعلم من يقف عندها، ويغتر بها، ومن هو أحسن عملاً+(1).
وما أحسن قول أبي فراس الحمداني:
إن الغنيَّ هو الغنيُّ بنفسه ... ولو آنه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... فإذا قنعتَ فكل شيء كافي(2)
د_ النظر إلى من هو أدنى في أمور الدنيا، وإلى من هو أعلى في أمور الدين وسائر الفضائل: فهذا هو المعيار الحقيقي، وتلك هي الموازنة المجدية؛ فهي تُبصِّر الإنسان بنعمة الله، وتقوده إلى شكره وإيثار محابِّه.
فإذا نظر الإنسان إلى من هو فوقه في التقوى، والعلم، وسائر الفضائل _حمله على ذلك على العمل والمسارعة إلى الخيرات.
وإذا نظر إلى من هم دونه في أمور الدنيا في الصحة والمال ونحو ذلك_ قاده ذلك إلى مزيد الشكر.
وإلى هذا المعنى العظيم يشير قول النبي"قال: =إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فُضِّل عليه+.
وزاد مسلم: =فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم+(3).
__________
(1) تفسير ابن سعدي 3/260.
(2) ديوان أبي فراس ص223.
(3) البخاري (6490)، ومسلم (2963).(2/86)
قال ابن بطال× في شرح هذا الحديث: =هذا الحديث جامع لمعاني الخير؛ لأن المرء لا يكون بحال تتعلق بالدين من عبادة ربه مجتهداً فيها_إلا وجد من هو فوقه؛ فمتى طلبت نفسه اللحاق به استقصر حاله؛ فيكون أبداً في زيادة تقربه من ربه، ولا يكون على حال خسيسة من الدنيا إلا وجد من أهلها من هو أخسُّ حالاً منه.
فإذا تفكر في ذلك علم أن نعمة الله وصلت إليه دون كثير ممن فضَّل عليه بذلك من غير أمر أوجبه، فيلزم نفسه الشكر، فيعظم اغتباطه بذلك في معاده+(1).
ثم إن الإنسان الذي يتطلع إلى غير زوجته من سائر النساء، وخصوصاً ممن يراهن في وسائل الإعلام، فيعجب بهن، ويزهد بزوجته بسببهن_ إنسان لا ينظر إلى الأمور بتبصر وتعقل؛ إذ لو فكر بعقله، ووضع مقارنة حقيقية بينهن وبين زوجته لما بلغ أولئك المتبرجات السافرات قلامة ظفر عند زوجته الصابرة،التقية، العابدة،النقية، الطاهرة، الزكية، التي ترعاه في غيبته وحضوره، وتشرق عليه بحنانها،وتربي أولاده على الطهر والعفاف والفضيلة.
فأنى لأولئكِ المتبرجات السافرات ذلك الطهرُ والعفاف والزكاء؟ وهل ترضى أيها المتطلع أن تكون إحدى أولئك زوجة لك، وأمَّاً لأولادك؟
هـ _ الفهم الصحيح لمعنى الجمال: فالجمال _أولاً_ لا يحقق السعادة وحده؛ فهب أنك تزوجت ملكة جمال الكون، وليس بينك وبينها تفاهم ومودة ورحمة؛ فماذا أنت مستفيد من هذا الجمال؟
إن قبح أخلاقها، وسوء طرائقها سيجعلها في ناظريك كالقرد دمامة، وسوء خلْقَة، وما أجمل قول القائل:
إذا أخو الشمس أضحى فعله سمجاً ... رأيت صورته من أقبح الصور
وهبك كالشمس في حُسْنٍ ألم ترنا ... نَفِرُّ منها إذا مالت إلى الضرر(2)
ثم إن الجمال لا يقتصر على لون البشرة، وحسن تقاسيم الوجه، وتناسب الأعضاء.
__________
(1) فتح الباري 11/330.
(2) البيتان لابن لنكك، انظر أسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني، تحقيق الشيخ محمود شاكر ص118.(2/87)
بل للجمال مقاييس أخرى يندرج تحتها الذوق، والفهم، وكمال العقل، وإشراقة النفس، ورهافة الحس، وطهارة القلب، وحسن الخلق، وصدق التدين؛ فلهذه المعايير دورها في جمال الشخصية.
تقول الأديبة العراقية نازك الملائكة: =الجمال ملك لفتاة ذكية العينين، بسيطة المظهر، يشع وجهها عطفاً وحناناً، وكأنها تريد أن تحتضن الوجود،وتغمره بمشاعرها الكريمة.
وهذا الجمال المرهف العذب مبذول زهيد الثمن، تملكه كل فتاة، دون أن تُضيِّع وقتها في أسواق الملابس، وعند الخيَّاطة الجاهلة.
إنه جمال ينبع من الروح الكبيرة المستوعبة، والذهن الحر المرن، والقلب النابض الرقيق، وهو جمال الخلق الكريم، والعذوبة، والخشوع لله، والنزاهة، وكِبَر النفس.
وهذا الجمال لا علاقة له بالملابس والحلاق؛ لأنه يتألق على وجه كريم، وعيون حنون معطاء، وهو يلمع على الشعر المسترسل الذي لا يهينه الحلاق بالعبث به.
هذا هو الجمال؛ فتعريفه أنه البساطة الإنسانية، والفطرة كما خلقها حَيِيَّةً متفتحة+(1).
ومن هنا يتبين لنا السر في أن الإسلام قد فضَّل الدين على غيره من الاعتبارات في الزواج؛ فعن أبي هريرة ÷أن النبي"قال: =تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها،ولجمالها،ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك+(2).
فَفَضَّل الدين على المال والحسب والجمال من جهة أنه يضمن الأخلاق المهذبة، والآداب الراقية، ويجمع لصاحبته الصيانة من أطرافها.
بل إن جمال الباطن_ بسبب حسن المعتقد، وصلاح العمل، وحسن الخلق_ يسري إلى الظاهر، فيجتمع نور إلى نور، والعكس بالعكس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وهذا الحسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة في القلب _ يسري إلى الوجه.
والقبح والشين الذي يكون عن الأعمال الفاسدة في القلب _ يسري إلى الوجه كما تقدم.
__________
(1) مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية لنازك الملائكة، تحقيق الشيخ محمد عيد العباسي ص26_27.
(2) رواه البخاري (5090)، ومسلم (1466).(2/88)
ثم إن ذلك يقوى بقوة الأعمال الصالحة، والأعمال الفاسدة؛ فكلما كثر البر والتقوى قوي الحسن والجمال، وكلما قوي الإثم والعدوان قوي القبح والشين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح؛ فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه حتى ظهر ذلك على صورته.
ولهذا يظهر ذلك ظهوراً بيِّناً عند الإصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت، فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره.
ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية كلما كبروا عَظُم قُبْحُها وشينها، حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهراً بها في حال الصغر؛ لجمال صورتها+(1).
و_ النظر في العواقب: فالتطلع إلى ما حرم الله من النساء يفسد على المرء دينه، ويذهب مروءته، ويورثه الهم والغم؛ فلا يكون من وراء اتباع الشهوة إلا إذلال النفس، وموت الشرف، والضعةُ والتسفل؛ إذ المرء بين عاطفة تخدعه، وشهوة تتغلب عليه؛ فمتى لم يجد من عقله سائساً، ومن دينه وازعاً رادعاً يقاومان الضعف، ويصارعان الميول والأهواء_ وقع في الخطايا، وانغمس في الشرور والرذائل.
وإن قوي على عصيان الهوى، والشيطان، والنفس، والشهوة، وثبت في مواقف هذا الصراع الهائل _ كان مجاهداً، وترتب على انتصاره وفوزه جميع المكارم والفضائل التي تنتهي به إلى خيري الدنيا والآخرة(2).
قال ابن المقفع: =اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، واقتلها للعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار_ الغرامَ بالنساء.
ومن البلاء على المغرم بهن أنه لا ينفك يأجم(3) ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن.
__________
(1) الاستقامة لابن تيمية 1/365.
(2) انظر في سبيل الإصلاح للشيخ علي الطنطاوي ص102، ومواقف الإسلام للشيخ محمد الحبيب بن الخوجة ص20.
(3) يأجم: يكره ويمل.(2/89)
وإنما النساء أشباه، وما يتزين في العيون والقلوب من فضل مجهولات على معروفات _ باطل وخدعة، بل كثير مما يرغب عنه الراغب مما عنده أفضل مما تتوق إليه نفسه منهن.
وإنما المرتغب(1) عما في رحله منهن إلى ما في رحال الناس كالمرتغب عن طعام بيته إلى ما في بيوت الناس.
بل النساء بالنساء أشبه من الطعام بالطعام، وما في رحال الناس من الأطعمة أشد تفاضلاً وتفاوتاً مما في رحالهم من النساء+(2).
وقال: =ومن العجب أن الرجل الذي الذي لا بأس بلبه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصور لها في قلبه الحسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية، ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أدمِّ الدمامة، فلا يَعِظُه ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يَذْق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق، والشقاء، والسفه+(3).
وقال ابن الجوزي×: =قد يرى الإنسان امرأة في ثيابها فيتخايل له أنه أحسن من زوجته، أو يتصور بفكره المستحسنات، وفكره لا ينظر إلا الحسن من المرأة، فيسعى في التزوج والتسري، فإذا حصل له مراده لم يزل ينظر في الحاصل التي ما كان يتفكر فيها، فيمل ويطلب شيئاً آخر، ولا يدري أن حصول أغراضه في الظاهر ربما اشتمل على محن منها:
أن تكون الثانية لا دين لها ولا عقل، أو لا محبة لها ولا تدبير،فيفوت أكثر مما حصل.
وهذا الذي أوقع الزناة في الفواحش؛ لأنهم يجالسون المرأة حال استتار عيوبها عنهم، وظهور محاسنها، فتلذهم تلك الساعة، ثم ينتقلون إلى أخرى+(4).
إلى أن قال: =فليقنع بما باطنه الدين، وظاهره الستر والقناعة؛ فإنه يعيش مُرَفَّهَ السرِّ، طيب القلب+(5).
__________
(1) المرتغب: الراغب.
(2) الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع ص149_150.
(3) الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع ص149_150.
(4) صيد الخاطر لابن الجوزي ص492_493.
(5) صيد الخاطر ص493.(2/90)
وبالجملة فالتسامي، والعفة والإخلاص لها أبلغ الأثر في سعادة الزوج وسعادة أسرته.
وإذا رزق الرجل زوجة صالحة فليفرح بها، وليعضَّ عليها بالنواجذ؛ فهي التجارة الرابحة، وهي من عاجل البشرى.
ولقد أحسن من قال في وصف المرأة المسلمة في عفافها، وسترها، وسعادة من تكون من نصيبه، حيث قال:
دُرَّةٌ في صدف مكنونة ... حرةٌ تعلو على كل الدررْ
قد تناهت في سناء وسنى ... وزها رَوْنَقُها حين استتر
نورها الوضَّاء صافٍ مشرقٌ ... شفَّ عن قلب مضيء كالقمر
كَسَفَتْ كلَّ بريقٍ زائف ... لا مع السطح تسدَّى بالكدر
كاد أن يظهرَها لألاؤها ... باهراً لولا ستورٌ وخَفَر
فمضت كالنجم لم يَسْمُ لها ... كلُّ ممدود الذراع والبصر
صانها اللهُ لموعودٍ بها ... أمَّل الخيرَ وأبلى وصبر
شكرَ الله على آلائه ... وحبا اللهُ بفضل من شكر
فهداه لحَصَانٍ بَرَّةٍ ... وإلى الخيرات يُهدى كلُّ بر
قدَّمَ الله بها البشرى له ... بنعيم في جنان مُدَّخرْ
زاده نُعْمى وإيناساً بها ... فهو في عيش سلام وظفر
ورعى الله الذي بينهما ... من صحيح الود دنيا وأخر(1)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد:
ففي نهاية هذا البحث أحمد الله على تيسيره وإعانته، وأسأله_ عز وجل_ أن ينفع بهذا العمل، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم.
وآمل من القارئ أن يمد كاتب هذه السطور بملحوظاته واستدراكاته إن كان هناك شيء من ذلك.
وأسأل الله _ بمنه وكرمه _ أن يتقبل الأزواج هذه الصفحات بقبول حسن،وألا تكون ثقيلة على نفوسهم، وإن كان هناك من إثقال أو إملال أو قسوة فلهم العتبى حتى يرضوا؛ فما الكاتب إلا واحد من قبيلهم، له ما لهم وعليه ما عليهم.
كما أشكر كل من أعان على إخراج هذا الكتاب تصحيحاً، ومشورة، وغير ذلك، فأسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم يوم يلقونه.
__________
(1) الأبيات ليوسف الهمذاني. انظر مجلة الجامعة الإسلامية، العددان 47،48، السنة 12 عام 1400هـ ص276.(2/91)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(2/92)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
…فإن طيب الحياة ومتعتها يتحققان في زوجية سعيدة، وسعادةُ الزوجية أن يكون الزوجان على دين صحيح، وعقل رجيح، وخلق سجيح.
وأن يجمعا إلى ذلك صفاء الود، والقيام بالحقوق، ونصح كل واحد لصاحبه.
وإذا قام كلٌّ من الزوجين بواجبه تماماً على الذي أحسن _ حلت الأفراح والمسرات، وزالت أو قلت المشكلات، وكان لذلك أبلغ الأثر في صلاح الأسرة، وقوة الأمة.
ولا ريب أن الزوجة الصالحة هي التجارة الرابحة، وأنها من عاجل البشرى، ومن أمارات السعادة.
وإن مما يعين على صلاح الزوجات، وقيامهن بالحقوق المناطة بهن أن تلقى الأضواء على بعض ما يصدر منهن من أخطاء؛ فذلك أدعى لتشخيص الداء ومعرفة الدواء.
ولقد سبق في حلقة ماضية ذكر لأخطاء الأزواج، وفيما يلي من صفحات ذكر لما تيسر جمعه من أخطاء الزوجات؛ لأجل أن تتضح الصورة، ويكتمل الطرح.
ولا يعني ذكر تلك الأخطاء أنها تعم جميع الزوجات؛ ففيهن من خيرها كثير، وتقصيرها يسير.
كما لا يعني ذلك أن يتخذ الأزواج تلك الأخطاء ذريعة لتعداد معايب زوجاتهم؛ فيقودهم ذلك إلى الزهد بهن؛ أو الميل عنهن، أو تنزل تلك الأخطاء عليهن؛ فما ذلك أردت، ولا إليه قصدت.
وإنما هي دعوة للتحلي بالفضائل، والتخلي من الأخطاء والرذائل؛ فالرغبة في الكمال مطلوبة، والسعي في تحصيل الكمال كمال، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوقَّ الشر يوقَه.
فإلى تلك الأخطاء، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
28/2/1419هـ
الزلفي 11932
ص. ب 460
1_ المبالغة في تطلُّب الكمال:(3/1)
فهناك من الزوجات من تغرق في الخيال، وتبالغ في تطلُّب الكمال؛ فتظن بأن الزواج جنة الفردوس التي لا صخب فيها، ولا عناء، ولا مشقة.
فهي تتصور أن الزواج لابد أن يكون هكذا دون صعوبات، أو عقبات، أو مشكلات.
فإذا هي ارتطمت بالواقع وما فيه من مسؤوليات، واتخاذ قرارات، وإنجاب أولاد، ومواجهة مشكلات _ لم تستطع مواجهة ذلك، وظنت بأنها أخطأت في اختيار شريك الحياة، وربما جنحت للفراق تخلصاً من هذه القيود _ بزعمها _.
وهذا الأمر قد يوجد، ومن أسبابه ضعف التربية، والإفراط في ترفيه الفتاة، والجهل بواقع الحياة الزوجية.
ومن أعظم أسبابه ما توحي به بعض القصص الخيالية، أو المسلسلات التلفازية، أو الأفلام السينمائية، حيث تصور الحياة الزوجية على أنها خالية من أي مشكلة(1).
فإذا دخلت الزوجة عشَّ الزوجية كذَّب الخُبْرُ الخَبَر، وفوجئت بما لم يخطر لها ببال.
فعلى الزوجة العاقلة أن تعتدل في نظرتها؛ فلا تسترسل مع الأحلام، ولا تهيم في أودية الخيال، ولا تبالغ في تطلب الكمال؛ فالحياة الزوجية ليست مشهداً يمثل ساعة من الزمان، ولا قصة يسافر كاتبها مع الخيال.
وإنما هي واقع محسوس، فيه الآلام والآمال، وفيه الأفراح والأتراح، شأنه شأن الحياة كلها؛ فلا يجدي في ذلك إلا مواجهتها، وإحسان التعامل معها.
فيوم علينا ويومٌ لنا ... ويوم نُساء ويوم نسر
ولا يعني ذلك أن الحياة الزوجية قفص مظلم، أو جحيم لا يطاق.
وإنما هي تعاون، وتراحم، وتذمم.
وما يعتريها من المشكلات، والمنغصات _ لا تذهب ببهجتها، بل قد تكون مِلْحَها، وسرَّ سعادتها.
فَتَحَمُّل المسؤولية، والتضلع بالأعباء والتبعات من أعظم أسباب السعادة؛ فأروح الناس أتعب الناس، وأتعب الناس أروح الناس.
__________
(1) وبعضها بالعكس من ذلك بحيث تصور الحياة الزوجية على أنها جحيم لا يطاق، بحيث توحي بالنفرة منها، وبهذا تُفقد النظرة الواقعية المعتدلة للحياة الزوجية.(3/2)
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها ... تنال إلا على جسر من التعب
بل إن كثرة الفراغ والبطالة من أعظم ما يقعد بالهمة، ويورث الغم والقلق.
2_ قلة مراعاة الزوجة لوالدي الزوج:
لا ريب أن للزوجة على الزوج حق إكرامها، ومن إكرامها إسكانها في مسكن منفرد.
يقول الكاساني ×: =لو أراد الزوج أن يسكنها مع ضرتها أو مع حماتها كأم الزوج أو أخته وبنته من غيرها وأقاربها فأبت _ عليه أن يسكنها في مسكن منفرد؛ لأنهن ربما يؤذينها ويضررنها في المساكنة، وإباؤها دليل الضرر+(1).
ولكن قد تقتضي الحال بأن يسكن الزوج مع والديه، أو أن يحتاج والداه إلى السكنى معه في منزله.
والزوج مطالب ببر والديه، والإحسان إلى زوجته.
ولكن بعض الزوجات لا تعين زوجها على ذلك، فتريد أن تستأثر به، فلا يكون لأحد سواها نصيب منه.
بل ربما تعدى الأمر ذلك، فقامت بإيذاء والديّ زوجها، والإيذاء يأخذ صوراً كثيرة؛ فمن ذلك رفع الصوت عليهما، والتأفف من أوامرهما، وقلةُ التودد لهما، وقلة المراعاة لمشاعرهما.
ومن ذلك إذلالهما واحتقارهما، وكثرة ذمهما، وتمني الخلاص من العيش معهما، وإغراء الزوج بعقوقهما.
ومن ذلك تصيُّدُ الزلات عليهما، وتضحيم الأخطاء، بل والافتراء والكذب عليهما.
ومن ذلك الغيرة من الأم، ومعاملتها على أنها منافسة لها، وشريكة معها في زوجها، إلى غير ذلك من أنواع الأذية.
وإذا أرجعنا البصر في أسباب ذلك وجدناها ناتجة عن قلة التقوى، وسوء التربية، وضعف العقل.
كذلك تنتج هذه المعاملة عن ضيق العطن، وصغر النفس؛ فالنفوس تختلف سعة وضيقاً، كما تختلف الحجر والمنازل والأماكن؛ فمن الناس من تضيق نفسه حتى تكون كَسَمّ الخِيَاط، ومنهم من تتسع نفسه حتى تشمل العالم وما فيه.
فما ثمرة تلك المعاملة من الزوجة؟ إنها تَنَغّصُ عيشتها وعيشة من تعاشره؛ فلا الزوجة تسعد، ولا زوجها ولا والداه.
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 2/23.(3/3)
ولهذا كان لزاماً على الزوجة العاقلة ذات الدين القويم، والخلق الكريم، التي تريد سعادتها، وسعادة زوجها _ أن تؤثر زوجها على نفسها، وأن تكرم قرابته، وأن تزيد في إكرام والديه، وخصوصاً أمه؛ فذلك كله إكرام للزوج، وإحسان إليه، كما أن في ذلك إيناساً له، وتقوية لرابطة الزوجية، وآصرة الرحمة.
وإذا كان الزوج أعظمَ حقاً على المرأة من والديها، وإذا كان مأموراً شرعاً بحفظ قرابته وأهل ودّ أبيه؛ تقوية للرابطة الاجتماعية في الأمة _ فإن الزوجة مأمورة شرعاً بأن تحفظ أهل ودّ زوجها من باب أولى؛ لتقوية الرابطة الزوجية.
ثم إن إكرام الزوجة لوالدي زوجها _ وهما في سن والديها _ خلق إسلامي أصيل، يدل على نبل النفس، وكرم المَحْتِد.
ولو لم يأتها من ذلك إلا رضا زوجها، وكسب محبة أقاربه، والسلامة من الشقاق والمنازعات، زيادة على ما سينالها من دعوات مباركات.
كما أن على الزوجة الفاضلة ألا تنسى منذ البداية أن هذه المرأة التي تشعر أنها منافسة لها في زوجها _ هي أم ذلك الزوج، وأنه لا يستطيع مهما تَبَلَّد فيه الإحساس أن يقبل أي إهانة توجه إليها؛ فإنها أمه التي حملته في بطنها تسعة أشهر، وأمَدَّته بالغذاء من لبنها، وأشرقت عليه بعطفها وحنانها، ووقفت على الاهتمام به حياتها حتى صار رجلاً سوياً.
كما أن هذه المرأة أم لأولادك أيتها الزوجة؛ فهي جدَّتهم، فارتباطهم بها وثيق؛ فلا يحسن بك أيتها الزوجة أن تعامليها كضرة؛ لأنها قد تعاملك كضرة، ولكن عامليها كأم، تعاملْك كابنة، وقد يصدر من الأم بعض الجفاء، وما على الابنة إلا التحمل والصبر؛ ابتغاء المثوبة والأجر.
فإذا شاع في المنزل والأسرة أدب الإسلام، وعرف كل فرد ماله وما عليه _ سارت الأسرة سيرة رضية، وعاشت عيشة هنية في أغلب الأحيان.(3/4)
واعلمي أيتها الزوجة أن زوجك يحب أهله أكثر من أهلك، ولا تلوميه في ذلك؛ فأنت تحبين أهلك أكثر من أهله؛ فاحذري أن تطعنيه بازدراء أهله أو انتقاصهم، أو أذيته فيهم؛ فإن ذلك يدعوه إلى النفرة منك، والميل عنك.
إن تفريط الزوجة في احترام أهل زوجها تفريط في احترام الزوج نفسه، وإذا لم يقابل ذلك بادي الأمر بشيء فلن يسلم حبه للزوجة من الخدش والتكدير.
ثم إن الرجل الذي يحب أهله، ويبر والديه إنسان فاضل كريم صالح جدير بأن تحترمه زوجته، وتجله، وتؤمل فيه الخير؛ لأن الرجل الذي لا خير فيه لوالديه لا يكون فيه _ غالباً _ خير لزوجة، أو ولد، أو أحد من الناس.
إضافة إلى ذلك فالزوج مرتبط بأهله، فلا بد له منهم، ولا فكاك له عنهم، والعرب تقول: أنفُك منك وإن ذنَّ(1)، وعِيْصُك منك وإن كان أشباً(2).
وإذا كنت أيتها الزوجة راضية في عقوق الزوج لوالديه، وفي معاملتك السيئة لهما _ فهل ترضين أن تُعَامَلَ أمُّكِ بمثل هذه المعاملة من قِبَل زوجات إخوانك؟
بل هل ترضين أن تعاملي أنت بذلك من أزواج أولادك إذا وهن منك العظم، واشتعل الرأس شيباً؟(3).
لا إخالك ترضين بذلك؛ فالجزاء _ إذاً _ من جنس العمل.
ولا تجزعن من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ سيرةً من يسيرها(4)
__________
(1) ذن: سال مخاطه.
(2) عيصك: العيص الجماعة من السدر يجتمع في مكان واحد، والأشب: شدة التفاف الشجر. انظر عيون الأخبار لابن قتيبة 3/89.
(3) انظر نظرات في الأسرة المسلمة د. محمد بن لطفي الصباغ ص87_88، والمرأة المسلمة وهبي غاوجي ص153، وفيض الخاطر لأحمد أمين 5/21_22.
(4) البيت لخالد بن زهير، انظر الأغاني لأبي الفرج 6/291 ولسان العرب لابن منظور 13/225.(3/5)
وأخيراً فإن موقف الزوجة الصالحة في إعانة زوجها على البر _ كفيل في كثير من الأحيان في حلّ المشكلات، وتسوية الأزمات، وجمع الشمل، ورأب الصدع؛ لأن الوالدين عندما يشهدان الحبَّ الصادق، والحنان الفياض من زوجة ابنهما _ فإنهما يحفظان ذلك.
هذا وقد أرانا العيان أن كثيراً من الوالدين يحبون زوجات بنيهم كحبهم لبناتهم أو أشد حباً.
وما ذلك إلا بتوفيق الله، ثم بحكمة أولئك الزوجات، وحرصهن على حسن المعاملة لوالدي الأزواج.
ومما يعين الزوجة على التسلل إلى قلوب والدي الزوج _ زيادة على ما مضى _ أن تصبر الزوجة على الجفاء، وأن تستحضر الأجر، وأن تنظر في العواقب.
ومن ذلك أن تبادرهما بالهدية، وأن تحرص على حسن المحادثة، وحسن الاستماع والإنصات لحديثهما، وأن تتلطف بالكلام، وإلقاء السلام، وحسن التعاهد.
ومن ذلك أن توصي زوجها بمراعاة والديه، وبألا يشعرهما بأن قلبه قد مال عنهما كل الميل إلى زوجته.
ومن ذلك أن ترفع الزوجةُ أكفَّ الضراعة إلى الله كي يعطّف قلوب الوالدين إليها، وأن يعينها على حسن التعامل معهما.
فيا أيتها الزوجة الكريمة استحضري هذه المعاني، ولك ثناء جميل وذكر حسن في العاجل، وأجر جزيل وعطاء غير مجذوذ في الآجل.
3_ تبذل الزوجة، وقلة تجملها لزوجها:
فالزوج يحتاج إلى الكلمة الطيبة، واللمسة الحانية، والعاطفة الرقيقة، ويسر بما يروق عينه، ويبهج نفسه، ويفرح قلبه.
وكثير من الزوجات لا تُعنى بمظهرها أمام زوجها؛ فلا تلبس اللبس الجميل، ولا تتعاهد بدنها بالنظافة، ولا تتطيب لزوجها، ولا تراعي ما يروقه من الروائح الطيبة.
وإذا أقبلت عليه أقبلت بملابس رثة، ورأس ثائر أشعث، وروائح تنبعث منها آثار الطبخ.
وإذا تكلمت تكلمت بصوتٍ أجشَّ كجرس الرحى، أما الابتسامة فلا يكاد ثَغْرُها يَفتَرُّ عنها.(3/6)
ثم إذا هي أرادت الخروج لزيارة أقاربها أو صويحباتها تبدَّلت حالها السابقة رأساً على عقب؛ فلا تخرج إليهم إلا بأبهى حلة، وأطيب ريح؛ حتى إنه ليخيل إلى من رآها أنها في ليلة عرسها؛ فهذه حلى مطرزة، وتلك حواجب مُزَجَّجَ_ة، وهذه عيون مكحولة؛ فلا يكون نصيب الزوج من ذلك إلا رؤيتها إذا أرادت الخروج للزيارة.
إن هذا الصنيع لَمِنْ أشنع الخصال، وإن امرأة تقوم به لجديرة بأن تعيش حياة نكدة، وأن تجلب على نفسها وعلى زوجها البلاء والشقاء إذا ما صبر عليها، وأبقاها زوجة له.
والغالب أن مثلها لا تبقى مع الزوج إلا إذا كان مضطراً إليها اضطراراً يلجئه إلى الإبقاء عليها.
وإذا كانت مع ذلك ثرثارة، سليطة اللسان، سبابة لزوجها فقد جمعت عليه ظلمات بعضها فوق بعض.
فهل يصدر هذا الفعل من عاقلة رشيدة تخاف ربها، وتسعى لسعادة زوجها وأسرتها؟ لا؛ إن العاقلة الرشيدة ذات الدين والخلق لتسعى إلى مرضاة زوجها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً؛ فلا تخرج بكامل زينتها إلا إليه، ولا تعنى بنفسها عناية تامة إلا له.
فإذا كان حاضراً أخذت زينتها فلبست حليها، وأحسن ثيابها، وتطيبت وتبخرت، وادَّهنت، وتعاهدت شعرها، ونظافة بدنها(1).
ثم لا يراها بعد ذلك إلا باسمة متهللة، ولا يسمعها إلا حامدة شاكرة.
قال الفرزدق يصف نساءً:
يأنسن عند بعولهن إذا خلوا ... وإذا هُمُ خرجوا فهن خفار(2)
4_ كثرة التسخط وقلة الحمد:
فمن الزوجات من هي كثيرة التسخط، قليلة الحمد والشكر، فاقدة لخلق القناعة، غير راضية بما آتاها الله من خير.
فإذا سُئلت عن حالها مع زوجها أبدت السخط، وأظهرت الأسى واللوعة، وبدأت بعقد المقارنات بين حالها وحال غيرها من الزوجات اللائي يحسن إليهن أزواجهن.
__________
(1) انظر إصلاح المجتمع للبيحاني ص308، واللقاء بين الزوجين لعبدالقادر عطا ص52 و 57.
(2) عيون الأخبار 4/4.(3/7)
وإذا قدم لها زوجها مالاً سارعت إلى إظهار السخط، وندب الحظ؛ لأنها تراه قليلاً مقارنة بما يقدم لنظيراتها.
وإذا جاءها بهدية احتقرت الهدية، وقابلتها بالكآبة، فتدخل على نفسها وعلى زوجها الهم والغم بدل الفرح والسرور؛ بحجة أن فلانة من الناس يأتيها زوجها بهدايا أنفس مما جاء به زوجها.
وإذا أتى بمتاع أو أثاث يتمنى كثير من الناس أن يكون لهم مثله _ قابلته بفظاظة وشراسة منكرة، وبدأت تظهر ما فيه من العيوب.
وبعضهن يحسن إليها الزوج غاية الإحسان، فإذا حصلت منه زلة، أو هفوة، أو غضبت عليه غضبة _ نسيت كل ما قدم لها من إحسان، وتنكرت لما سلف له من جميل.
وهكذا تعيش في نكد وضيق، ولو رزقت حظَّ_اً من القناعة لأشرقت عليها شموس السعادة.
ومثل هذه المرأة يوشك أن تسلب منها النعم، فتقرع بعد ذلك سن الندم، وتعض أناملها، وتقلب كفيها على ما ذهب من نعمها.
إن السعادة الحقة إنما هي بالرضا والقناعة، وإن كثرة الأموال والتمتع بالأمور المحسوسة الظاهرة _ لا يدل على السعادة؛ فماذا ينفع الزوجة أن تتلقى من زوجها الحلي والنفائس والأموال الطائلة إذا هي لم تجد المحبة، والحنان، والرحمة، والمعاملة الحسنة؟.
وماذا ستجني من جراء تسخطها إلا إسخاط ربها، وخراب بيتها، وتكدير عيشة زوجها؟(1).
فواجب على المرأة العاقلة أن تتجنب التسخط، وجدير بها أن تكون كثيرة الشكر؛ فإذا سُئلت عن بيتها وزوجها وحالها أثنت على ربها، وتذكرت نعمه، ورضيت قسمته؛ فالقناعة كنز الغنى، والشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة؛ فإذا لزم الإنسان الشكر درت نعمه وقَرَّت؛ فمتى لم ترَ حالك في مزيد فاستقبل الشكر.
كيف وقد قال ربنا _ عز وجل _: [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ](إبراهيم: 27).
__________
(1) انظر إصلاح المجتمع ص308، ونظرات في الأسرة المسلمة ص111.(3/8)
بل يحسن بالزوجة أن تشكر ربها إذا نزل بها ما تكرهه؛ شكراً لله على ما قدره، وكظماً للغيظ، وستراً للشكوى، ورعاية للأدب(1).
ثم إن الشكوى للناس لا تجدي نفعاً، ولا تطفىء لوعة _ في الغالب _.
ولهذا رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فقال:
=يا هذا، والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك+(2).
وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم(3)
وإن كان هناك من حاجة لبث الشكوى لمن يعنيهم الأمر؛ طلباً للنصيحة، أو نحو ذلك _ فلا بأس، وإلا فلماذا نثير انتباه الذين لا يعنيهم أمرنا، ولا ننتظر منهم أي فائدة لنا، فنفضح أنفسنا، ونهتك أستارنا، ونُبين عن ضعفنا وخورنا في سبيل الحصول على شفقة أو عطف ليس له من نتيجة سوى ازدياد الحسرة وتفاقم المصيبة(4).
ثم إن من حق الزوج على زوجته أن تعترف له بنعمته، وأن تشكر له ما يأتي به من طعام، ولباس، وهدية ونحو ذلك مما هو في حدود قدرته، وأن تدعو له بالعوض والإخلاف، وأن تظهر الفرح بما يأتي به؛ فإن ذلك يفرحه، ويبعثه إلى المزيد من الإحسان.
كما يحسن بالزوجة أن تستحضر أن الزوج سبب الولد، والولدُ من أجل النعم، ولو لم يكن من فضل الزوج إلا هذه النعمة لكفاه؛ =فمهما تكن الزوجة شقية بزوجها فإن زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزية ونعمة+(5).
أما كفر النعمة، وجحود الفضل، ونسيان أفضال الزوج _ فليس من صفات الزوجة العاقلة المؤمنة؛ فهي بعيدة عن ما لا يرضي الله _ عز وجل _ فجحودُ فضل الزوج سماه الشارع كفراً، ورتب عليه الوعيد الشديد، وجعله سبباً لدخول النار.
__________
(1) انظر مدارج السالكين لابن القيم 2/199 و 243.
(2) الفوائد لابن القيم ص131.
(3) مدارج السالكين 2/160.
(4) انظر طريق النجاح د. بول جاغو، تلخيص بهيج شعبان ص87.
(5) وحي القلم للرافعي 1/292.(3/9)
قال _ عليه الصلاة والسلام _: =رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء+.
قالوا: لم يا رسول الله؟
قال: =يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط+(1).
وعن عبدالله بن عمر _ رضي الله عنهما _ قال: قال رسول الله": =لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه+(2).
وعن أسماء ابنة يزيد الأنصارية قالت: =مرَّ بيَ النبي"وأنا وجوارٍ أتراب لي فسلم علينا، وقال: =إياكنَّ وكفرَ المُنْعمِين+، وكنت من أجرئهن على مسألته، فقلت: يا رسول الله: وما كفرُ المنعمين؟.
قال: =لعل إحداكنَّ تطول أيْمَتُها من أبويها، ثم يرزقها الله زوجاً، ويرزقها ولداً، فتغضب الغضبة، فتكفر، فتقول: ما رأيت منك خيراً قط+(3).
5_ المنة على الزوج:
فمن الزوجات من تخدم زوجها، وتقوم على رعايته، ورعاية والديه.
ولكنها أنَّانة مَنَّانة، فلا تكاد تمضي مدة إلا وتُذَكّر زوجها بأفضالها، وأياديها السالفة عليه؛ فتؤذيه بالمن، والأذى، والإدلال.
والمنة خلق ساقط يجدر بالزوجة أن تتجافى عنه، ولئن كانت المنة قبيحة من كل أحد فلهي أقبح وأقبح إذا صدرت من الزوجة تجاه زوجها؛ فالمنة تهدم الصنيعة، وتصدع قناة العزة.
ولقد نهى الله _ عز وجل _ عن المنة بقوله:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] (البقرة: 264).
__________
(1) رواه البخاري (29)، ومسلم(907).
(2) رواه النسائي في الكبرى (9135_9136)، والبهقي 7/294، والحاكم 3/78، وقال: صحيح الإسناد، وقال الهيثمي 2/309: رواه البزار بإسنادين والطبراني، وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في الصحيحة (289).
(3) رواه أحمد 6/457، والبخاري في الأدب المفرد (148)، والترمذي (2697) وحسنه، والطبراني في الكبير 24/177، والحميدي في مسنده 1/179، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (800).(3/10)
وعن أبي ذر÷عن النبي"قال: =ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم+.
قال: فقرأها رسول الله"ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟
قال: =المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب+(1).
ويروى عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أنه قال: =لا يتم المعروف إلا بثلاث: بتعجيله، وتصغيره، وستره؛ فإذا عجَّله هنَّأه، وإذا صغَّره عظَّمه، وإذا ستره تمَّمه+(2).
وقال رجل لبنيه: =إذا اتخذتم عند رجل يداً فانسوها+(3).
وقال الشاعر:
أفسدتَ بالمنِّ ما أسديتَ من حسن ... ليس الكريم إذا أسدى بمنان(4)
وقال الشافعي ×:
مننُ الرجال على القلو ... ب أشد من وقع الأسنة(5)
وقال البارودي ×:
تحمَّلتُ خوف المنّ كل رزيئة ... وحمل رزايا الدهر أحلى من المن(6)
ومع أن المنة وتعداد الأيادي ليس من صفات الكرام إلا أنه يسوغ في حال المعاتبة والاعتذار.
قال ابن حزم ×: =حالان يحسن فيهما ما يقبح في غيرهما، وهما المعاتبة والاعتذار؛ فإنه يحسن فيهما تعديد الأيادي، وذكر الإحسان، وذلك غاية القبح في ما عدا هاتين الحالتين+(7).
وعلى هذا يسوغ للزوجة إذا احتاجت إلى عتاب زوجها أو الاعتذار إليه أن تذكره بشيء من أياديها، لا على سبيل المنة والإدلال، وإنما لتذكره بما له عندها من المنزلة، والتقدير.
6_ إخبار الآخرين بمشكلات المنزل:
فمن النساء من هي قليلة الصبر؛ فإذا حصل أدنى خلاف أو مشكلة مع زوجها بادرت إلى إخبار والديها، وإخوانها وأخواتها، وربما صديقاتها، مع أن الخلاف لا يستحق أكثر من أن يطوى ولا يُروى.
__________
(1) رواه مسلم(106).
(2) عيون الأخبار 4/177.
(3) عيون الأخبار 4/177.
(4) عيون الأخبار 4/177.
(5) ديوان الشافعي تحقيق د.محمد عبدالمنعم خفاجي ص135.
(6) ديوان البارودي ص549.
(7) الأخلاق والسير لابن حزم ص78.(3/11)
فهذا الصنيع من قلة الوفاء، ومن العجلة المذمومة، كما أنه دليل الجهل والحمق؛ إذ قد يكون سبباً لتقويض صرح الزوجية؛ فليس من شرط البيت السعيد أن يخلو من المشكلات تماماً، وإنما الشأن كل الشأن في احتواء المشكلات، والسيطرة عليها.
ولهذا كان حرياً بالزوجة أن تحرص كل الحرص على أن لا يدخل بينها وبين زوجها أحد مهما كان ذلك الإنسان؛ لأنه إن كان مُحِبَّاً تَنَغَّصَ وضاق صدره، وإن كان شانئاً أو حاسداً فرح بالمصيبة، وربما أظهر الشماتة، وربما أشار برأي مُعْوَجّ فَطِيْرٍ، فكان سبباً للفراق، وهدم الأسرة.
ولهذا فإن الزوجة العاقلة تكتم ما يكون بينها وبين زوجها حتى عن والديها فضلاً عن غيرهم إلا حين يتفاقم الخلاف، ويتعسر الحل، فتبحث عن رأي مناسب للحل، أو حين يصبح التحكيم بين الزوجين وسيلة من وسائل العلاج المحتوم(1).
7_ قلة المراعاة لمكانة الزوج ووضعه الاجتماعي:
فقد يكون الزوج ذا مكانة علمية أو اجتماعية؛ فيحتاج الناس إليه، فيقوم باستقبالهم، والسعي في حل مشكلاتهم، فتضيق الزوجة ذرعاً بكثرة ارتباطاته.
وقد يكون الزوج مُكِبَّاً على القراءة، والكتابة؛ لإعداد دروسه، أو مقالاته، أو بحوثه؛ فيصعب ذلك على الزوجة، وتتبرم منه ومن كتبه، ويأكل بعضها بعضاً حين تراه داخلاً وفي يده كتاب.
وقد يقوم الزوج بالرد على الناس عبر الهاتف؛ للإجابة عن أسئلتهم، أو الإشارة عليهم بما يراه مناسباً، أو نحو ذلك مما تقتضيه منزلته؛ فيشق ذلك على الزوجة.
ولئن كان من حق الزوجة أن يخصص لها الزوج وقتاً ليؤنسها ويأنس بها _ فليس من حقها أن تنكر عليه قيامه بواجبه الاجتماعي أو العلمي، أو أن تُظهر السخط، وتصب جام الغضب عليه إذا قام بعمل يرتاح إليه، وتطمئن به نفسه، ويدعو إليه الواجب المتحتم في حقه لأمته.
فهذا الوصف وصف من لا خلاق لها؛ ذلك أن المرأة الصالحة هي العؤود على زوجها بالنفع.
__________
(1) انظر نظرات في الأسرة المسلمة ص73.(3/12)
فمن حق الزوج _إذاً_ أن تَدَعَ له زوجته وقتاً يفرغ فيه لنفسه، ولفكره، ولأمته، وأن تحتسب بُعْدَهُ عنها، وتقصيره في بعض حقها؛ فإن كان عالماً أو طالب علم تركت له وقتاً يقرأ فيه، أو يكتب، أو يؤلف.
وإن كان ذا مكانة تحتم عليه أن يقابل الناس، ويسعى في بذل رأيه، وجاهه، ووقته لهم _ أعانته على ذلك، وتغاضت عن بعض حقوقها.
وإن كان عابداً مقبلاً على ربه تركت له وقتاً يؤدي فيه العبادة بخشوع وحضور قلب.
إن اللذة التي يجدها العابد في خلوته، والعالم في قراءته، والمتأمل في هدأته، والكريم في بذله وخدمته للناس _ لا تَعْدِلُها في الحياة لذة، وقد لا تشعر الزوجة بهذه اللذة؛ فلا تفهم لها معنى، بل قد تؤول ذلك على معنى الكره لها، أو البعد عنها، وهي في ذلك متجنية عليه وعلى نفسها.
فإن أبَتْ إلا أن تُكَدّر عليه صفوه، وهدوءه، ولذته الروحية _ فقد تسببت في كراهيته جوَّ المنزل، وألجأته إلى أن يفر إلى مكان يسلم فيه من مضايقتها وإزعاجها.
وقد تمتد النفرة من البيت إلى النفرة من الزوجة، فلا يكاد يطيق رؤيتها.
ومن ثَمَّ تكون الكارثة على الزوجة وزوجها والبيت أجمعه(1).
ولا يعني ذلك أن يتمادى الزوج في التقصير في حق الزوجة، بل عليه أن يقوم بحقها، وأن يعتذر لها إذا قصر، وأن يذكرها بالأجر المترتب على صبرها(2).
8_ قلة إعانة الزوج على البر والتقوى:
وهذه الفقرة قريب شأنها من الفقرة الماضية، وإكمال لها؛ فمن الزوجات من تكون فتنة لزوجها؛ حيث تصده عن طلب العلم، وتعوقه عن السعي للمعالي؛ فإذا همَّ بنفقة خذَّلته، وإذا أراد الذهاب إلى دعوة وقفت في سبيله؛ فلا هم لها من زوجها إلا إشباع رغباتها، وتلبية طلباتها، ولو كان ذلك على حساب تضييع شيء من واجبات الزوج.
__________
(1) انظر أخلاقنا الاجتماعية د. مصطفى السباعي ص145.
(2) انظر إلى كتاب: من أخطاء الأزواج للكاتب ص45_49 ففيه حديث حول تقصير الزوج على زوجته من هذه الناحية وعلاج ذلك.(3/13)
وصدق الله إذ يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ](التغابن: 14).
والشكوى من تخذيل الزوجات قديمة؛ فكثيراً ما تَثْني الزوجةُ ذا الهمة عن مراده، وكم عانى الكرام والشجعان من ذلك؛ فهذا أحدهم يقول مبيناً عاقبته عندما أطاع زوجته في الشهوات:
أطعت العرس(1) في الشهوات حتى ... أعادتني عسيفاً عَبْد عبدِ
إذا ما جئتها قد بعت عذقاً ... تعانق أو تُقبّل أو تُفَدّي(2)
ولهذا لا ينبغي للمرأة المسلمة أن تكون عقبة في طريق زوجها، فتصده عن القيام بطاعة ربه، والدعوة إلى سبيل الله، والمسارعة في الخيرات، والتنافس في أبواب المكرمات.
بل عليها أن تعينه على ذلك؛ استجابة لأمر الله _ عز وجل _ : [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 22).
فتتحمل عنه مسؤولية المنزل، وتُعْنَى بتربية أولادها، وتضحي بشيء من راحتها؛ فذلك دليل نبلها، وقوة دينها، وكرم أخلاقها.
بل إن نجاح الزوج _ في الحقيقة _ نجاح للزوجة نفسها؛ ولهذا يقال: وراء كل عظيم امرأة، ورحم اللهُ الرافعيَّ إذ يقول: =ومهما تبلغ المرأة من العلم فالرجل أعظم منها بأنه رجل، ولكن المرأة حق المرأة هي تلك التي خلقت لتكون للرجل مادة الفضيلة والصبر والإيمان؛ فتكون له وحياً، وإلهاماً، وعزاءً، وقوة، أي زيادة في سروره، ونقصاً من آلامه.
ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد هو صفاتها التي تجعل رَجُلَها أعظم منها+(3).
__________
(1) العرس: الزوجة.
(2) عيون الأخبار 1/243.
(3) وحي القلم 2/151.(3/14)
ويقول: =فأكبر الشأن هو للمرأة التي تجعل الإنسان كبيراً في إنسانيته، لا التي تجعله كبيراً في حيوانيته؛ فلو كانت هذه الثانية التي يصطلح الناس على وصفها بالجمال _ فهي القبيحة لا الجميلة؛ إذ يجب على المؤمن الصحيح الإيمان أن يعيش فيما يَصْلُح به الناس، لا فيما يصطلح عليه الناس+(1).
فيا أيتها الزوجة العاقلة تذكري ما آل إليه المسلمون من تفرقهم، وتشتت كلمتهم، وانصباب الفتن والمصائب عليهم، وتذكري شيوع الجهل والفقر في صفوفهم، وركون أكثرهم إلى دنياهم وأهوائهم غير مبالين بسوء العاقبة التي تنتج عن هذه الحال المتردية.
فهل تستشعرين مسؤوليتك؟ وهل تستحضرين عظم الأمانة الملقاة على عاتقك؟
وهل يكون موقفك في مثل هذا الحال تثبيت الزوج، وحثَّه على طاعة ربه، والقيام بأنواع القربات، والتضلع بأعباء الدعوة إلى الله _ عز وجل _؟
أم يكون موقفك تثبيطه، وإخلاده إلى الأرض من أجل أن يرضي شهواتك، ويلبي رغباتك؟
إن اخترت الأولى فطوبى لك، وإن كانت الثانية فما أخسر صفقتك، وأسوأ عاقبتك.
ولكن ذات الدين تأبى الخسارة حين توضع الموازين بين يدي رب العالمين؛ فلا ترضى لنفسها ولا لزوجها بالدون؛ فلا ترضى إلا بالثبات على الدين، والتواصي مع الزوج على ذلك؛ فلها أسوة وسلف صالح في ذلك.
فهذه أمنا هاجر أم إسماعيل _ عليه السلام _ لما تركها أبونا إبراهيم ووليدها في أرض قفراء لا طعام فيها ولا ماء، ولا أنيس ولا سمير، وانطلق مجيباً أمرَ ربِّه _ اتبعته هاجر وقالت له: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي لا أنيس فيه ولا شيء، فقالت ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: أالله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا(2).
__________
(1) وحي القلم 1/155.
(2) انظر صحيح البخاري (3364) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به مطولاً.(3/15)
وهذه أم المؤمنين خديجة بنت خويلد تلك المرأة الصالحة الناصحة الصادقة العاقلة _ رضي الله عنها _ حين أتاها رسول الله"يرجف فؤاده راجعاً من غار حراء في ساعة هو في أشد الحاجة إلى من يسليه، ويهدىء من روعه وذلك حين نزل عليه جبريل بالحق من ربه، أتاها _ عليه الصلاة والسلام _ وقال لها: =لقد خشيت على نفسي+.
فقالت _ رضي الله عنها _ مسلية له: =كلا، والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل(1)، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق+(2).
فمضى يَخِفُّ إلى خديجةَ زوجِهِ ... مترقباً في حيرة الوجلان
فإذا به يجد السعادة والرضا ... وتَقَرُّ من تطمينها العينان
تالله لا يخزيك يا علمَ التقى ... يا واصل الأرحام والجيران
يا مسعف الفقراء في آلامها ... يا مكرم الأيتام والضيفان
يا ماسح العبرات من آماقها ... ومخفف الآلام والأشجان
فكأنما كلماتها في لينها ... شَهْدٌ وفي التأثير سحر بيان(3)
وأخيراً لا يعزب عن بالك أيتها الزوجة أن لتعاون الزوجين على البر والتقوى آثاراً عظيمة، وثمراتٍ جليلةً، تعود عليهما وعلى ذويهما في الحاضر وفي المستقبل.
أما في الحاضر فإن شيوع هذه الروح في المنزل سبب لنزول الرحمة، وغشيان السكينة، ودوام الألفة والمحبة.
كما أن ذلك يؤدي إلى صلاح الأولاد، وحبهم لله، وتعظيمهم لشعائره، وسهولة انقيادهم لأوامره، واجتنابهم لنواهيه.
__________
(1) الكَلُّ: هو من لا يستقل بأمره، ومنه قوله _تعالى_: [وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ].
(2) جزء من حديث رواه البخاري (3)، ومسلم (160) وغيرهما عن عائشة في قصة بدء الوحي الطويلة.
(3) الأبيات للشيخ ضياء الصابوني. انظر مجلة الجامعة الإسلامية ص250_ عدد 53 عام 1402هـ.(3/16)
أما في المستقبل فإن صلاح الآباء يدرك الأولاد؛ فهذا الخضر _ عليه السلام _ لما بنى الجدار متبرعاً قال: [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً](الكهف: 82).
ثم إن الزوجين إذا فارقا الدنيا على الإيمان والتقوى جمعهما الله في جنته، ونفعهما بدعاء أولادهم الصالحين(1).
9_ إرهاق الزوج بكثرة الطلبات:
فمن الزوجات من ترهق زوجها بكثرة الطلبات، دونما مراعاة لأوضاعه المالية؛ فهي تريد أن تلبس كما تلبس صديقتها فلانة، أو قريبتها فلانة، وتريد أن تستكثر من الزينة والأثاث كما استكثر آل فلان، وآل فلان.
ثم إن المناسبات كثيرة جداً؛ فكلُّ مناسبةِ زواجٍ لها لبوسها الخاص الجديد، وكلما تغيرت الأزياء وجب ملاحقة الجديد منها، وكلما رزقت قريبة أو صديقة بمولود بادرت إلى الهدية الباهظة الثمن، وكلما تزوج قريب لها سارعت إلى الإهداء إلى زوجته.
ثم إنها تنظر إلى الطبقات الثرية من الناس، فتجتهد في محاكاتها في الترف ومظاهر الأبَّهَة.
وإذا سارت على هذه الطريقة فلا بد لها من إحدى حالين:
الحالة الأولى: أن تجد من الزوج غفلة أو ضعف إرادة، فترهقه بما تقترحه من النفقات إرهاقاً، وتُذْهِب ماء وجهه بذُلّ الدَّين؛ فمن ينفق من غير سعة فمصيره الفاقة والإفلاس، وذهاب ماء الوجه.
والحالة الثانية: أن يحزم الزوج أمره، فيتحمل الخصام معها؛ ليحافظ على كرامته بين الناس، فتبقى الزوجة مع زوجها الحازم في حالة ترى أنها مبتلاة به؛ لأنه لم يسر معها في تحقيق رغائبها.
وماذا ترى في عيشة صاحبين يعتقد أحدهما أن صحبته للآخر جَرَّتْ عليه شقاءً، وكدراً؟ فهل يقطعان مسافة الحياة في شيء من الراحة والصفاء؟.
__________
(1) انظر عودة الحجاب د. محمد بن إسماعيل 2/264_265.(3/17)
إن هذا المرض المتفشي في بعض النساء قد يكون أحد الأسباب التي صرفت بعض الشبان عن الزواج؛ لأن الشاب يخشى أن يبتلى بزوجة تتعدى بمطالبها وما تشتهيه نفسها حدود المعروف؛ فإما أن ترهقه عسراً، وإما أن تسل ثوبها من ثوبه جانحة للفراق، وإما أن تبقى معه على غير مودة خالصة.
ولا يُنْكَر في هذا السياق أن بعض الأزواج يبخلون بالإنفاق على زوجاتهم مع القدرة واليسار؛ فليس الحديث ههنا في مثل هؤلاء.
والإسلام قد أعطى الحق للمرأة التي يمتنع زوجها عن الإنفاق عليها بما تحتاج إليه من ثياب وطعام يليق بها وهو قادر _ أن تأخذ من ماله بغير إذنه؛ لأن نفقتها واجبة.
قال ابن قدامة ×: =نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع+(1).
وقال السرخسي ×: =يفرض بمقدار ما تقع به الكفاية، ويعتبر المعروف في ذلك، وهو فوق التقتير ودون الإسراف+(2).
وجاء في الصحيحين عن عائشة _ رضي الله عنها _ أن هنداً قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه؛ فهل علي في ذلك من جناح؟
فقال رسول الله": =خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك+(3).
أما إذا كان امتناع الزوج عن الإنفاق فيما يكون سرفاً وتبذيراً، أو فيما هو إرهاق له بما لا يحتمله فليس من حق الزوجة أن تعرّضه وتعرض بيتها للفقر والذلة(4).
__________
(1) المغني 11/347، وانظر المبسوط للسرخسي 5/180، وبداية المجتهد لابن رشد 2/53، وحاشية ابن عابدين 3/572، والروضة للنووي 9/40.
(2) المبسوط للسرخسي 5/181.
(3) البخاري (2211)، ومسلم (1714).
(4) انظر تفصيل الحديث عن النفقة في كتاب: من أخطاء الأزواج ص31_35.(3/18)
وخلاصة القول أن على الزوجة أن تقدِّر طاقة زوجها؛ فلا ترهقه من أمره عسراً، ولا تهدر ماله أشراً وبطراً، ولا تثقل كاهله بكثرة متطلباتها خصوصاً ما ليس بضرورة؛ لأن ذلك يشق عليه ويؤلمه؛ فلا يستطيع تحقيق هذه المطالب، ويعز عليه أن يظهر أمامها بمظهر العاجز الذي لا يستطيع تنفيذ ما تطلب.
فما أجمل الزوجة أن تصحب زوجها بالقناعة؛ فلا تتطلع إلى غيرها، ولا تمد عينها إلى محاكاة أترابها في اقتناء الكماليات.
بل عليها أن تحفظ على زوجها كرامته، وأن تتأسى بأمهات المؤمنين _ رضي الله عنهن _ فقد كانت حالتهن كفافاً، وربما خلت بيوتهن من الطعام(1).
وإذا لم تسعدها الحال في مجاملة الأقارب والمعارف في نحو الهدية، وغيرها _ فليسعدها النطق بالكلمة الطيبة، والرسالة المعبرة، والتهنئة الرقيقة؛ فربما كان ذلك أوقع أثراً من هدية يصحبها الفخر، والزهو، وربما المن، والأذى، والإدلال.
وكما أن عند غيرها ما ليس عندها _ فقد يكون عندها ما ليس عند غيرها؛ فحري بها أن توسع نظرتها، وألا تقتصر على مجرد الأمور الظاهرة فحسب.
10_إقلاق الزوج بكثرة الارتباطات:
فمن الزوجات من هي كثيرة الارتباطات، فلا تكاد تمر مناسبة لأقاربها أو صديقاتها إلا وتبادر إلى المشاركة فيها؛ فهذا زواج لقريب أو قريبة، وهذه زيارة لصديقة أو أقارب، وهذه عيادة لمريضة، وهذه فرصة لاجتماع الجيران والصديقات، وهذه حفلة بمناسبة نجاح فلان أو فلانة، وهذه تهنئة بالمولود الجديد، وهذه زورة لآل فلان بمناسبة سكناهم في البيت الجديد، وهذه استزارة لآل فلان وفلان، وهكذا.
ثم إذا لم تذهب إليهم أشغلت الهاتف بمكالماتها التي قد تستمر مدة طويلة؛ فيترتب على ذلك إهمال المنزل، وإضاعة الأولاد، والتقصير في حق الزوج.
__________
(1) انظر رسائل الإصلاح 1/176، وأخلاقنا الاجتماعية ص125، وعودة الحجاب 2/493.(3/19)
إن الزوج ليس بحاجة إلى زوجة ذات علاقات اجتماعية بقدر ما هو بحاجة إلى زوجة تأنس به، ويأنس بها، وتقوم على بيته، وترعى أولاده.
ولا يعني ذلك أن تنقطع الزوجة عن الناس البتة؛ فلا تصل أرحامها، ولا تواسل أخواتها أو صديقاتها.
وإنما المقصود من ذلك لزوم الاعتدال في علاقاتها، وإذا تعارض شيء من ذلك مع مصلحة الزوج يرمى به عرض الحائط.
11_ النشوز والتمرد على الزوج:
النشوز هو الارتفاع، والمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها، المخالفة لأمره، الخارجة عن طاعته، التي لم ترض بالمنزلة التي وضعها الله فيها، فلم تُسلّم لقوامة الرجل عليها.
وللنشوز صور كثيرة يجمعها معصية الزوج، والخروج عن طاعته.
وأنواع النشوز كثيرة لا تدخل تحت الحصر، لكن بعضها مما تعم به البلوى، ويعظم به الخطر؛ فمن ذلك ما يلي:
أ _ الامتناع على الزوج إذا دعا إلى الفراش، وهذا من أعظم النشوز، وسيأتي الحديث عنه فيما بعد.
ب _ خيانتها للزوج في نفسها، وذلك من خلال إقامة علاقات محرمة مع شخص أجنبي.
جـ _ إدخال من لا يرضى الزوج إدخاله إلى بيته سواء بحضوره أو غيبته.
د_ تقصيرها في خدمته.
هـ _ تلاعبها في أمواله، وصرفها في غير المعروف.
و_ إيذاؤه بسيىء القول، وسبه، وشتمه.
ز_ خروجها من بيته بغير إذنه.
ح _ إفشاؤها لسره، وهتكها لستره.
هذه بعض صور النشوز وأنواعه، وسيأتي في الفقرات التالية _ إن شاء الله _ مزيد بسط لها.(3/20)
قال ابن قدامة ×: =معنى النشوز معصية الزوج فيما فرض الله عليها من طاعته، مأخوذ من النشز وهو الارتفاع، فكأنها ارتفعت وتعالت عما فرض الله عليها من طاعته، فمتى ظهرت منها أمارات النشوز، مثل أن تتثاقل وتُدافع إذا دعاها، ولا تصير إليه إلا بتَكَرُّه ودمدمة _ فإنه يعظها، فيخوفها الله _ سبحانه _ ويذكُر ما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة والمعصية، وما يسقط بذلك من حقوقها من النفقة والكسوة، وما يباح له من ضربها وهجرها+(1).
فيا أيتها المسلمة حذار حذار من معصية الزوج والنشوز عليه؛ فإن ذلك إثم كبير، ويعظم الخطب إذا كان زوجك صالحاً تقياً غير مقصر في حقك، ولا ظالم لك.
ثم إذا كان مقصراً فخذي حقك منه بالمعروف لا بالنشوز والمعصية والاستكبار عليه.
ثم اعلمي أن لله حدوداً من تعداها فقد ظلم نفسه، وعرَّضها لسخط الله وعقوبته.
وقيام المرأة بحق زوجها يعد من إقامة حدود الله، والزوجة الصالحة حافظة لحدود الله.
وهذه هي التي ترجى لها النجاة يوم العرض الأكبر على الله.
أما المرأة الناشز فهي متعدية لحدود الله، ظالمة لنفسها، مستحقة للعقوبة من ربها(2).
ولقد جاءت الأخبار الدالة على عظم خطيئتها، وسوء عاقبتها.
فمن ذلك حديث معاذ بن جبل÷عن النبي"قال: =لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله؛ فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا+(3).
__________
(1) المغني لابن قدامة 10/259، وانظر: من أخطاء الأزواج ص 94_96 ففيه تفصيل لعلاج النشوز.
(2) انظر صفة الزوجة الصالحة للشيخ عبدالله الجديع ص34_37.
(3) رواه أحمد 5/242، والترمذي (1174)، وابن ماجه (2014)، والطبراني في الكبير 20/113، وأبو نعيم في الحلية 5/220، وصحح الألباني إسناده في الصحيحة (173).(3/21)
وحديث عبدالله بن عمرو بن العاص _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله": =اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما: عبد آبق من مواليه حتى يرجع إليهم، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع+(1).
12_ الامتناع على الزوج إذا دعاها للفراش:
فمن النساء من تَتَأبَّى على زوجها إذا دعاها للفراش؛ إما بحجة أنها مرهقة، أو أنها تريد مشاكسته وإغضابه، أو لجهلها وقلة اكتراثها.
ومنهن من إذا آنست من زوجها رغبة في جماعها وهي لا ترغب في ذلك _ أظهرت التأوه، والإعياء، والتشاغل؛ حتى يصرف الزوج نظره عنها.
وما علمت أنها قد حرمت زوجها من أعظم حقوقه، وعَرَّضت نفسها للوعيد الشديد؛ لأن من أعظم غايات النكاح أن يعف الرجل نفسه، ويقيها مهالك الشهوة ومعاطبها.
فإذا دعا امرأته لقضاء وطره، فامتنعت عليه كان امتناعها متنافياً مع هذه الغاية، معرضاً الزوج للوقوع في الحرام؛ فلذلك كان فرضاً عليها أن تأتيه إذا دعاها للفراش في أي ساعة من ليل أو نهار؛ فطاعته في ذلك من أوجب الواجبات، ومعصيته من أكبر المعاصي.
فعن أبي هريرة÷قال: قال النبي": =إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، لعنتها الملائكة حتى تصبح+(2).
قال الشوكاني ×: =وظاهر الحديث اختصاص اللعن بما إذا وقع منها ذلك ليلاً؛ لقوله: =حتى تصبح+.
وكأن السر فيه تأكيد ذلك، لا أنه يجوز لها الامتناع في النهار، وإنما خص الليل بالذكر لأنه المظنة لذلك+(3).
__________
(1) أخرجه الطبراني في الصغير (478)، والحاكم 4/173، وسكت عنه هو والذهبي، وحسن الألباني إسناده في الصحيحة (288).
والحديث أصله في الترمذي (360)، وابن ماجه (971) بروايات قريبة من حديث الباب، وصححه ابن حبان (1757) و (5355)، وابن خزيمة (1518).
(2) رواه البخاري (5193)، ومسلم (1436).
(3) نيل الأوطار للشوكاني 6/630.(3/22)
وعن أبي هريرة×قال: قال رسول الله": =والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها+(1).
وعن طلق بن علي÷قال: قال رسول الله": =إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتجبه وإن كانت على التنور+(2).
فإذا كان لا يسعها مخالفة زوجها، والامتناع عنه وهي على هذه الحال _ فكيف يسعها مخالفته فيما سوى ذلك من الأحوال؟(3).
على أنه يحسن بالزوج أن يقدر أحوال زوجته؛ فقد تكون مريضة، وقد تكون مجهدة أكثر من اللازم، إلى غير ذلك مما يعتريها؛ فذلك من حسن المعاشرة، ومن جميل المروءات.
13_ التقصير في خدمة الزوج:
فمن الزوجات من تُقَصّر في خدمة زوجها؛ فلا تقوم بقضاء حاجاته من نحو صناعة المأكل والمشرب، وغسيل الثياب ونحو ذلك، ولا تقوم برعاية المنزل والعناية بنظافته، ولا تقوم بإعداد ما يلزم لضيوف الزوج، أو أنها تقوم بتلك الأعمال بتثاقل وبرود وقلة اهتمام، مما يضطر الزوج إلى أن يتناول طعامه خارج المنزل، وإلى إرسال ثيابه إلى من يقوم بغلسها، أو إلى إكرام ضيوفه خارج المنزل، أو الإتيان بما يلزم الضيوف من خارج المنزل، أو أن يقوم هو بتلك الأعمال.
والسبب في ذلك تقصير الزوجة، وتكاسلها، لا غير.
ولو كان السبب كثرة مشاغل الزوجة في منزلها، أو إرهاقَها بكثرة الولائم، أو كان السبب عنايتَها بالأولاد، أو كان ذلك التقصير عارضاً _ لهان الخطب.
أما أن يكون هذا هو دأبها وديدنها دون سبب معقول _ فتلك هي المصيبة.
وهذا الصنيع من الزوجة خطأ وتقصير؛ ذلك أن خدمة الزوج من نحو صناعة الطعام، وغسيل الثياب، وتنظيف المنزل ونحو ذلك حق على الزوجة.
__________
(1) رواه مسلم (1436).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة 4/306، والترمذي (1160)، والطبراني في الكبير 8/330، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ورواه النسائي في الكبرى (8971)، وصححه ابن حبان (4165).
(3) انظر نيل الأوطار 6/629_631، وصفة الزوجة ص43_44.(3/23)
وهذا من الحق الواجب على القول الصحيح.
والحجة في ذلك ما جاء في حديث عمة حصين بن محصن حين سألها النبي": =أذات بعل أنت؟+ قالت: نعم، قال: =فأين أنت منه؟+ قالت: ما آلوا إلا ما عجزت عنه، قال: =فانظري أين أنت منه؛ إنما هو جنتك ونارك+(1).
ومما يبين عظم حق الزوج قوله": =حق الزوج على زوجته أن لو كانت به قرحة فلحستها، أو انتثر منخراه صديداً أو دماً ثم ابتلعته ما أدت حقه+(2).
وعن أبي هريرة÷أن النبي"قال: =لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها+(3).
ومما يدل _ أيضاً _ على وجوب خدمة الزوج قول النبي": =والمرأة راعية على بيت بعلها وولده ومسؤولة عنهم+(4).
__________
(1) أخرجه أحمد 4/341 و 6/419، وابن أبي شيبة 4/304، والحميدي (355)، والنسائي في الكبرى (8962)، والبيهقي 7/291، والطبراني في الكبير 25/183، والحاكم 2/189، وقال: صحيح، وأقره الذهبي، وجود إسناده المنذري في الترغيب 3/53.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة 4/303، والبزار _ كشف الأستار (1465) ، والنسائي في الكبرى (5386)، وابن حبان (4164)، والحاكم 2/188_189، والبيهقي 7/291، وجود إسناده المنذري في الترغيب 3/54، وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: =منكر؛ قال أبو حاتم: ربيعة منكر الحديث+. أي ربيعة بن عثمان، أحد رجال الإسناد.
(3) أخرجه الترمذي (1159) وقال: حديث حسن غريب والحاكم (2768) و (7324) وصححه، وضعفه الذهبي من حديث أبي هريرة، وابن حبان (4162) كلهم عن أبي هريرة، وللحديث طرق وروايات في السنن وغيرها عن قيس بن سعد، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك وعائشة وغيرهم.
(4) أخرجه أحمد 2/5 و 54_55، والبخاري (5188)، ومسلم (1829).(3/24)
وهذه الرعاية عامة للزوج في جميع أحواله من غير استثناء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =تنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب، والخبز، والطحن، والطعام لمماليكه وبهائمه، ومثل علف دابته ونحو ذلك؟
فمنهم من قال: لا تجب الخدمة، وهذا القول ضعيف كضعف من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء؛ فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف.
وقيل _ وهو الصواب _: وجوب الخدمة؛ فإن الزوج سيدها في كتاب الله، وهي عانية(1) عنده بسنة رسول الله"وعلى العاني والعبد الخدمة، ولأن ذلك هو المعروف.
ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب+(2).
وقال ابن القيم ×: =واحتج من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله _ سبحانه _ بكلامه.
وأما ترفيهُ المرأة، وخدمةُ الزوج، وكنسه، وطحنه، وعجنه، وغسيله، وفرشه، وقيامه بخدمة البيت _ فمن المنكر، والله _ تعالى _ يقول: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ](البقرة: 288).
وقال: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ] (النساء: 34).
وإذا لم تخدمه المرأة، بل يكون هو الخادم لها _ فهي القوامة عليه.
وأيضاً فإن المهر في مقابلة البُضع، وكل من الزوجين يقضي وطره من صاحبه؛ فإنما أوجب الله _ سبحانه _ نفقتها وكسوتها ومسكنها في مقابل استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادة الأزواج.
وأيضاً فإن العقود المُطلقة إنما تنزل على العرف، والعرف خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة.
وقولهم إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحساناً يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة فلم يقل لعليّ: لا خدمة عليها، وإنما هي عليك(3).
وهو"لا يحابي في الحكم أحداً.
__________
(1) عانية: أسيرة.
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 34/90.
(3) انظر قصة علي مع فاطمة في صحيح البخاري (6318)، ومسلم (2727).(3/25)
ولما رأى أسماء والعلف على رأسها والزبير معه لم يقل له: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها، بل أقره على استخدامها(1)، وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهةَ والراضية، هذا أمر لا ريب فيه+(2).
وقال ×: =ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة، وفقيرة وغنية؛ فهذه أشرف نساء(3) العالمين كانت تخدم زوجها، وجاءته"تشكو إليه الخدمة فلم يُشْكها+(4).
إذا كان الأمر كذلك فإنه يجدر بالزوجة العاقلة أن تقوم على خدمة زوجها بنفس راضية، فتقوم على رعاية منزله، والعناية بأولاده، وتوفير كافة سبل الراحة له، وإعداد ما يناسبه من المطاعم، وغسل ثيابه وكيها؛ حتى تكسب رضا ربها، وحب زوجها.
ولتعلم أنها معانة ومسددة من الله إذا هي أخلصت النية، وأحسنت العمل.
ومع ما تقرر من وجوب قيام المرأة بخدمة زوجها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً _ فإنه ليس للزوج أن يكلفها ما لا تطيق، بل عليه أن يرفق بها، ويعينها على شؤون بيتها، كما كان رسول الله"يفعل.
تقول أم المؤمنين عائشة _ رضي الله عنها _ حين سُئلت: ما كان النبي"يصنع في بيته؟ قالت: يكون في مهنة أهله _ تعني خدمتهم _ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة+(5).
وفي رواية أخرى أنها سُئلت: ما كان رسول الله"يعمل في بيته؟ قالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته+(6).
__________
(1) انظر خبر أسماء بنت أبي بكر وخدمتها لزوجها الزبير في مسند الإمام أحمد 6/347 و352.
(2) زاد المعاد لابن القيم 5/188.
(3) يعني فاطمة _رضي الله عنها_.
(4) زاد المعاد 5/188_189، وانظر فتح الباري 9/417.
(5) أخرجه أحمد 6/49، 136، 206، والبخاري (6039)، والترمذي (2489).
(6) أخرجه أحمد 6/256، والبخاري في الأدب المفرد (541)، وابن حبان (5646)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (420).(3/26)
وإذا لم يقم الزوج بذلك فلا أقل من أن يسمع زوجته كلمة ثناء وأن يريها ابتسامة رضاً(1).
14_ إدخال من لا يأذن الزوج بدخوله في البيت:
فللزوج الحق في ألا يدخل بيته إلا من أحب، وفرض على الزوجة أن تطيعه في ذلك؛ فليس لها أن تدخل بيته من يكره دخوله، سواء كان ذلك المكروه دخوله من محارمها كأبيها أو أخيها، أو كان امرأة أجنبية أو قريبة حتى ولو كانت أمها، فضلاً عن غير أولئك؛ فلا تأذن لهم بالدخول إلا بإذن الزوج.
وبعض النساء تتهاون في هذا الحق، فتدخل في بيت زوجها من لا يأذن بدخوله، وذلك أمر لا يجوز؛ لما جاء في حديث جابر÷في خطبة النبي"في حجة الوداع، حيث قال: =ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح+(2).
قال النووي×في شرح الحديث: =والمختار أن معناه أن لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم، سواء كان المأذون له رجلاً أجنبياً، أو امرأة أو أحداً من محارم الزوجة؛ فالنهي يتناول جميع ذلك.
وهذا حكم المسألة عند الفقهاء، وأنها لا يحل لها أن تأذن لرجل أو امرأة، ولا محرم ولا غيره في دخول منزل الزوج إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه؛ لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممن أذن له في الإذن في ذلك، أو عرف رضاه باطراد العرف بذلك ونحوه.
ومتى حصل الشك في الرضا، ولم يترجح شيء، ولا وجد قرينة _ لا يحل الدخول، ولا الإذن والله أعلم+(3).
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة÷أن رسول الله"قال: =لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه+(4).
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في كتاب: من أخطاء الأزواج ص 40_41.
(2) رواه مسلم (1218)، وأبو داود (1905)، وابن ماجه (3074) والدارمي (1857).
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 8/340.
(4) البخاري (5195).(3/27)
قال ابن حجر×في شرح الحديث: =قال النووي: في هذا الحديث إشارة إلى أن لا يُفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه+.
وهو محمول على ما لا تعلم رضا الزوج به، وأما لو علمت رضا الزوج بذلك فلا حرج عليها، كمن جرت عادته بإدخال الضيفان موضعاً معداً لأحدهم، سواء كان حاضراً أو غائباً؛ فلا يفتقر إدخالهم إلى إذن خاص لذلك.
وحاصله أنه لا بد من اعتبار إذنه تفصيلاً وإجمالاً+(1).
15_ الخروج من المنزل دون إذن الزوج:
فبعض النساء لا تبالي بإذن زوجها من عدمه؛ حيث تخرج من المنزل غير عابئة بزوجها؛ فتخرج بصورة معتادة إلى جيرانها وأقاربها، وتخرج إلى مناسبات الأفراح، أو إلى الأسواق، أو إلى الصديقات دون إذن الزوج.
وربما احتالت عليه في ذلك؛ فإذا أرادت الذهاب إلى مكان لا يأذن به الزوج طلبت منه زيارة أهلها، ومن هناك تذهب إلى حيث تريد.
وهذا الصنيع داخل في النشوز؛ ذلك أن للزوج منعها من الخروج.
قال ابن قدامة ×: =وللزوج منعها من الخروج من منزله إلى ما لها منه بُدٌّ، سواء أرادت زيارة والديها، أو عيادتهما، أو حضور جنازتهما.
قال أحمد في امرأة لها زوج وأم مريضة: طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها+(2).
وقال ابن قدامة ×: =ولا يجوز لها الخروج إلا بإذنه، ولكن لا ينبغي منعها من عيادة والديها وزيارتهما؛ لأن في ذلك قطيعة لهما، وحملاً لزوجته على مخالفته، وقد أمر _ تعالى _ بالمعاشرة بالمعروف، وليس هذا من المعاشرة بالمعروف+(3).
وقال: =فإن أظهرت النشوز، وهو أن تعصيه، وتمتنع عن فراشه، أو تخرج من منزله بغير إذنه _ فله أن يهجرها في المضجع؛ لقول الله _ تعالى _: [وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ](النساء: 34).
قال ابن عباس: لا تضاجعها في فراشك+(4).
__________
(1) فتح الباري 9/207.
(2) المغني10/224.
(3) المغني 10/224.
(4) المغني 10/259.(3/28)
وقال ابن الجوزي ×: =ينبغي للمرأة أن تحذر من الخروج مهما أمكنها؛ إن سلمت من الفتنة في نفسها لم يسلم الناس منها.
فإذا اضطرت إلى الخروج خرجت بإذن زوجها في هيئة رثة، وجعلت طريقها في المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، واحترزت من سماع صوتها، ومشت في جانب الطريق لا في وسطه+(1).
والحاصل أن خروج المرأة من منزلها بغير إذن زوجها ذنب عظيم يجب على المرأة أن تحذر منه، وأن تتوب إلى الله إن كانت واقعةً فيه.
ثم إن الخروج سبب لتسلط الشيطان على المرأة، كما أنه حرمان لها من نعمة القرار في البيت وما فيها من الراحة والأنس والسكون.
قال": =المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان+(2).
قال _ تعالى _ مخاطباً المؤمنات: [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى](الأحزاب: 33).
ولو أدركت المرأة المسلمة ما في مكثها وقرارها في بيتها من السعادة والأنس، والراحة، والنعيم _ لآثرت البقاء على الخروج، ولو علمت مدى ما تعانيه الخراجات الولاَّجات من إضاعة المنزل، وتشتت القلب، وضيق الصدر _ لما فرطت في سعادتها في بيتها، وبين أولادها، ومع زوجها(3)
__________
(1) أحكام النساء لابن الجوزي ص68.
(2) أخرجه الترمذي (1173) وقال: حديث حسن غريب، وصححه ابن خزيمة (1685) و (1686)، وابن حبان (5598)، و(5599).
(3) لقد عبر عن مدى ما تعانيه المرأة من جراء خروجها من منزلها وحرمانها من نعمة القرار في البيت مع الأولاد عدد من المشهورات في عالم الفن.
فهذه (مارلين مونرو) تلك المرأة التي تعد أشهر ممثلة في الإغراء في وقتها، ماتت منتحرة، واكتشف المحقق الذي يدرس قضية انتحارها رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في مانهاتن بانك في نيويورك، ووجد على غلافها كلمة تطلب عدم فتح الرسالة قبل وفاتها.
ولما فتح المحقق الرسالة وجدها مكتوبة بخط مارلين مونرو بالذات، وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق إلى التمثيل.
قالت مارلين في رسالتها إلى الفتاة، وإلى كل من ترغب بالعمل في السينما:
احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء؛ إني أتعس امرأة على هذه الأرض، لم أستطع أن أكون أمَّاً، إني أفَضِّل البيت، الحياة العائلية الشريفة على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقة في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة العائلية هي رمز سعادة المرأة، بل الإنسانية. انظر: حضارة الإسلام العدد الثالث للمجلد الثالث ص331، وانظر المرأة بين الفقه والقانون للسباعي ص315_316.
هذا وسيأتي مزيد بيان لمثل هذه الأقوال فيما سيأتي من صفحات.(3/29)
.
16_ طاعة الزوج في معصية الله:
لا ريب أن طاعة الزوج واجبة على الزوجة، وهذه الطاعة داخلة في معنى القوامة التي بينها الله _ عز وجل _ في قوله: [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ](النساء: 233).
فلهذه الطاعة أثرها في استقامة الحياة الزوجية، وسعادتها، وحسن التربية للأولاد.
ومن تقوم بذلك ابتغاء مرضات الله فلها الثواب الجزيل.
ولكن ذلك لا يعني أن تطيع الزوجة زوجها طاعة مطلقة، فتطيعه بكل ما أمر به ولو كان معصية لله؛ فالطاعة إنما هي بالمعروف، وفي غير المعصية؛ فلا يجوز لها أن تطيعه إذا أمرها بمعصية الله، كأن يأمرها بشرب المسكرات، أو إعدادها، أو التشبه بالكافرات، أو نزع الحجاب، أو ترك الصلاة، أو أن توافقه بأن يجامعها في نهار رمضان، أو أن يجامعها وهي حائض، أو أن يجامعها في دبرها عياذاً بالله؛ فليس له طاعة في هذه الأحوال وما شاكلها، بل تحرم عليها طاعته.
والقاعدة العامة في ذلك قول الرسول":=لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق+(1).
وقد عقد الإمام البخاري×في صحيحه باباً قال فيه: =لا تطيع المرأة زوجها في معصية الله+.
ثم قال: =حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن _ هو ابن مسلم _ عن صفية عن عائشة: أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها، فتمعط(2) شعر رأسها، فجاءت إلى النبي"فذكرت ذلك له، فقالت: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها، فقال: =لا؛ إنه قد لُعِنَ المستوصلات+(3).
قال الحافظ ابن حجر×في شرح الحديث: =فلو دعاها الزوج إلى معصية فعليها أن تمتنع؛ فإن أدَّبها على ذلك كان الإثم عليه+(4).
__________
(1) رواه أحمد 1/129 و 131 و 409 و5/66، والطبراني في الكبير 18/170_171، والحاكم 2/443، وصححه، ووافقه الذهبي.
(2) تمعط: أي تمرط وسقط من داء يعرض له. انظر لسان العرب 7/405.
(3) البخاري (5205).
(4) فتح الباري 9/215.(3/30)
ولا يعني عدم طاعة الزوج في معصية الله أن تشتد عليه بالنكير في بداية الأمر، وإنما تبدأ بملاطفته، ووعظه، وتذكيره بالله، فتأخذَ بالتي هي أحسن في معاملته.
فإن أبى وأصر على غيه أنكرت عليه، وأخذت بالتي هي أرضى لله، وتركت طاعته التي تكون بمعصية الله(1).
17_ المبالغة في الغيرة على الزوج:
فالغيرة طبع في النساء، ومنها ما هو مذموم، ومنها ما هو محمود.
فالمذموم منها تلك الغيرة التي تتأجج في صدر صاحبتها ناراً موقدة تشعل جيوش الظنون والشكوك، فتحيل حياة الأسرة جحيماً لا يطاق.
والغيرة المعتدلة هي التي لا تتسلط على صاحبتها؛ فلا تثير عندها شكوكاً ولا أوهاماً؛ فهذه غيرة مقبولة، وقد تستملح أحياناً.
قال ابن حجر ×: =الغيرة بفتح المعجمة، وسكون التحتانية بعدها راء.
قال عياض وغيره: وهي مشتقة من تغير القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون بين الزوجين+(2).
وعقد الإمام البخاري×في صحيحه باباً قال فيه: =باب غيرة النساء وَوَجْدهن+.
وذكر تحت هذه الترجمة حديث عائشة _ رضي الله عنها _ أنها قالت: =ما غرْتُ على امرأة لرسول الله"كما غرت على خديجة؛ لكثرة ذكر رسول الله"إياها، وثنائه عليها+(3).
قال ابن حجر×في شرح هذه الترجمة: =قوله: باب غيرة النساء ووجدهن+.
هذه الترجمة أخص من التي قبلها، ولم يَبُتَّ المصنف حكم الترجمة؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.
وأصل الغيرة غير مكتسب للنساء، لكن إذا أفرطت في ذلك بقدر زائد تلام.
__________
(1) انظر أحكام الزواج لابن الجوزي ص151.
(2) فتح الباري 9/231.
(3) البخاري (5229).(3/31)
وضابط ذلك ما ورد في الحديث الآخر عن جابر بن عتيك الأنصاري _ رفعه =أن من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله؛ فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض فالغيرة في غير ريبة+(1).
وهذا التفصيل يتمحض في حق الرجل؛ لضرورة امتناع اجتماع زوجين للمرأة بطريق الحلّ.
وأما المرأة فحيث غارت من زوجها في ارتكاب محرم، إما بالزنا مثلاً، وإما بنقص حقها، وجوره عليها لضرتها، وإيثارها، فإذا تحققت ذلك أو ظهرت القرائن _ فهي غيرة مشروعة؛ فلو وقع ذلك بمجرد التوهم من غير دليل فهي الغيرة في غير ريبة.
وأما إذا كان الزوج مقسطاً عادلاً، وأدى لكل من الضرتين حقها فالغيرة منهما إن كانت لما في الطباع البشرية التي لم يسلم منها أحد من النساء _ فتُعذر فيها، ما لم تتجاوز إلى ما يحرم عليها من قول أو فعل.
وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف الصالح من النساء في ذلك+(2).
فالغيرة _ إذاً _ ليست شرَّاً دائماً، وإنما الشر فيما كان مبالغاً فيه من الغيرة؛ فغيرة المرأة على الرجل هي _ في الحقيقة _ إحساس صادق لمدى حبها له، وهي في الوقت نفسه صورة معبرة عن حرصها على الاستئثار به، وهي كذلك حالة نفسية تعبر عن خوف المرأة على مستقبلها في الحياة؛ فهذا المزيج من الحب الخالص، والأثرة المفرطة، والخوف الزائد _ يصنع في المرأة عاطفة الغيرة.
إن شعور المرأة بحبها لزوجها قد يدفعها إلى إسعاده، وتهيئة الجو المناسب لتحقيق آماله.
غير أن إحساسها بحبها لنفسها، وخوفها على مستقبلها في الحياة قد يقودها إلى فرض القيود على زوجها الذي أحبته؛ مؤملة بذلك أن يكون خيره كله لها، ولأولادها.
__________
(1) رواه النسائي في الكبرى (2339)، وفي المجتبى (2558)، وأبو داود (2659)، والدارمي (2226)، وابن حبان في صحيحه (295) و (4762)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5905).
(2) فتح الباري 9/237.(3/32)
وقد تزيد الغيرة عن هذا الحد، فتودي بالمرأة إلى تصرفات غريبة شائنة بدايتُها الشكُّ في الزوج؛ وتفسير تصرفاته على غير وجهها؛ فتشك فيه إذا التفت فرأى امرأة تسير، وتشك فيه إذا رفع سماعة الهاتف فخفض صوته، وتشك فيه إذا غاب لسفر أو نحوه، وتشك فيه إذا تشاغل عنها في بعض الأحيان.
كل ذلك مع أن الزوج لم تظهر عليه علائم الفساد، ولا الجناح إلى الشر.
وقد تزيد في مطالبها لزوجها، فتستنزف ماله قدر المستطاع؛ كيلا يذهب شيء منه إلى أمه، أو أخواته، أو لأجل أن لا يبقى عنده فضل مال يتزوج به زوجة أخرى.
ثم بعد ذلك تبدأ آلامها؛ لانتفاع غيرها بزوجها، ثم تنتقل إلى اتهام أهل زوجها، وإلى إثارة المنازعات، وتدبير المكائد، وربما تلجأ إلى السحر عياذاً بالله إلى غير ذلك من التصرفات الطائشة الشائنة.
إن نيران الغيرة تلتهب بوقود خاص، وهذا الوقود قد يكون نقياً نظيفاً، فتمنحنا نيرانه النور، والدفء، والأمل.
وقد يكون قذراً لا ينبعث من نيرانه غير دخان يزكم الأنوف، ويعمي الأبصار.
ومن أسباب ذلك الوقود القذر ضعفُ التربية الدينية والخلقية، وهذا ما يثير أطماعها، ويحيي أحقادها(1).
ومن أسباب ذلك جهلها بالعواقب.
ومن أسباب ذلك _ أيضاً _ حماقة الرجل، وسوء تصرفاته.
ولهذا يجب على الزوجة التي تروم السعادة لنفسها ولزوجها أن تعتدل في غيرتها، ومما يعينها على ذلك مايلي:
أ _ أن ترضى بقضاء الله وقدره: فما أصابها لم يكن ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها، وما كتب عليها لا بد أن يأتيها.
ب _ ترك الاسترسال مع الأوهام: التي تنسجها الأذهان الحائرة المبلبلة.
ج _الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: قال _ تعالى _: [وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ] (الأعراف: 200).
د _ تحكيم العقل: وترك الانسياق وراء العاطفة.
__________
(1) انظر تعدد الزوجات د. عبدالناصر العطار ص51_54، وعودة الحجاب 2/550_551.(3/33)
هـ _ المجاهدة: فتجاهد نفسها على التخلص من هذه الأوهام؛[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ](العنكبوت: 69).
و _ الدعاء: فتسأل ربها أن يعينها على نفسها، وأن يجنبها كل ما يزري بها.
ز _ النظر في العواقب: فما عاقبة سوء الظن، والمبالغة في الغيرة إلا خراب البيت، وزوال النعمة؛ فهل ترضى العاقلة بهذا المنقلب؟
ح _الاشتغال بما ينفع: من نحو الإقبال على الله، والقيام بشأن المنزل؛ لأن الفراغ يولد كثيراً من المشكلات.
ط _ تغليب جانب التفاؤل: فالمتفائل واسع النظرة، فسيح الصدر، عالي الهمة، موفور النشاط.
بخلاف المتشائم؛ فهو فاتر الهمة، ثقيل الظل، متبلد كسول، لا تحدوه غاية حميدة، ولا يدفعه هدفٌ سامٍ.
بل تراه يعيش في عالم الأحلام، والأوهام والخيال، ويشعر دائماً بالخيبة والخذلان، ويسيء ظنه بالآخرين، ولا ينظر إليهم إلا بعين الريبة؛ فهو مغلق النفس، ضيق الصدر(1).
ألا إنما بشر الحياة تفاؤل ... تفائل تعش في زمرة السعداء
ي _ ترك التوقع للشر: فمن الحكمة أن لا يجمع الإنسان على نفسه بين الألم بتوقع الشر والألم بحصول الشر؛ فليسعد ما دامت أسباب الحزن بعيدة، فإذا حدثت فليقابلها بشجاعة واعتدال.
قال أبو علي الشبل:
ودع التوقع للحوادث إنها ... للحي من قبل الممات ممات(2)
18_ سوء تصرف المرأة إذا عدد زوجها:
فمن النساء من إذا تزوج عليها زوجها بالغت في الغيرة، وتصرفت بجهل، وحمق، ونزق، وسفه.
فقد تعترض على حكمة التعدد، وقد تدعو بالويل والثبور، وقد تخمش وجهها، وتشق جيبها، وقد تهجر منزل زوجها، وتذهب إلى بيت أهلها.
ومنهن من تشرع بذم زوجها، وتعداد معايبه، بل واختلاق ما هو براء منه.
ومنهن من تغري أولادها بأبيهم، فتوصيهم بعقوقه، وإغلاظ الجانب له.
__________
(1) انظر تكوين الشخصية د. نوري الحافظ ص114_116.
(2) صيد الخاطر 2/339.(3/34)
بل ومنهن _ عياذاً بالله _ من يبلغ بها الجهل والسفه مبلغه، فتبيع دينها بالذهاب إلى السحرة والمشعوذين؛ رغبة في عطف قلب الزوج إليها، وصرفه عن زوجته الجديدة.
إلى غير ذلك من التصرفات التي تنم عن جهل، وسفه، ورقة دين.
فما النتيجة من هذه التصرفات الرعناء؟ إنها لن تجدي نفعاً، ولن تطفىء لوعة، بل قد تكون سبباً في خسران الدنيا والآخرة.
فيا أيتها الزوجة الكريمة، أحسني معاملة زوجك، واملأي عليه المنزل سعادة وسروراً.
وإذا ابتليت بأن يعدد زوجك فاعملي بما تقتضيه الحكمة والدين، وما يدعو إليه داعي العقل والمروءة.
نعم لا يراد منك ما ليس في وسعك؛ فيقال لك افرحي، أو لا تغاري البتة؛ فذلك ليس بمقدورك.
ولكن _ كما تقول العرب في أمثالها _ إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون(1).
ومما توصى به الزوجة _ إذا عدد زوجها، ومما يعينها على تحمل المصيبة مايلي:
أ _ الصبر عند الصدمة الأولى: وذلك بالاسترجاع، وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا صبرت في بداية الأمر هانت عليها المصيبة، وأعانها الله على السلوان.
ب _ توطين النفس على الوضع الجديد، والحذر من تضخيم الأمر.
ج _ التسليم لله: فتسلم الزوجة لله، وترضى بقضائه وقدره؛ فهذا الذي يجدي في العاجل والآجل.
د _ الحذر من الاعتراض على حكمة التعدد: لأن الاعتراض على حكمة التعدد إنما هو اعتراض على حكم الله وتشريعه [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ](الأحزاب: 6).
هـ _التماس الخيرة: فما من محنة إلا وتحمل في طيها منحة؛ فمن الخير للزوجة أن تلتمس الخيرة إذا عدد زوجها؛ حتى تعزي نفسها، وتنظر فيما هو أنفع لها، فتقول _ على سبيل المثال _: إن الزوجة الجديدة ستتحمل عني بعض المسؤولية، مما يزيد في راحتي وفراغي، فأزداد إقبالاً على ربي، وتفرغاً لتربية أولادي.
__________
(1) الأمثال لأبي عبيد ص237.(3/35)
وتلتمس الخيرة _ أيضاً _ باحتساب الأجر، وتذكر ما أعده الله للصابرين.
وتلتمس الخيرة بأن بقاءها مع زوجها إذا عدد خير لها من طلاقها.
وتلتمس الخيرة بأن تشفق على بنات جنسها؛ فلو اقتصر كل رجل على امرأة واحدة لعم الفساد، ولعاشت بقية النساء بنكد وشقاء.
و _ الحذر من إيذاء الزوجة الجديدة: سواء بالقول أو بالفعل، أو بالكيد لها، أو إغراء الزوج بها؛ فما هي إلا مبتلاة، وقد تكون مطلقة، وهاهي الآن تعيش مع ذي زوجة.
ثم ما ذنبها حتى تُؤذى؟ وما الثمرة منْ إيذائها إلا غضب الرب، واحتمال البهتان، والتعرض للعقوبة[وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ](الأحزاب: 58).
ولهذا فإن الزوجة العاقلة لا تفكر في أذية ضرتها، بل قد تسمو بها الحال فتحسن إليها، وتحب لها ما تحبه لنفسها، بل وتقابل إساءتها بالإحسان.
وكم يُرى من الضرات العاقلات من هن كالأخوات في التوادد والتراحم، والتعاون على البر والتقوى.
وما ذلك إلا لقوة إيمانهن، وكمال عقولهن، وكبر نفوسهن.
ز_ تذكر نعم الله: فذلك يقود إلى شكره، وبالشكر تدوم النعم؛ فتذكري أيتها الزوجة ما أنت فيه من نعمة الإسلام، ونعمة الصحة، ونعمة الزوج؛ فغيرك ليس عندها زوج، وقد تكون مريضة لا تفكر بزوج ولا ولد، بل قصاراها ومنتهى أملها نيل الصحة والعافية.
وتذكري مصائب الآخرين، وما ينزل بهم من بلايا ورزايا، وتذكري أنك لست الأولى التي عدد زوجها ولا الأخيرة، واستحضري بأن الزواج ليس استئثاراً بالزوج فحسب، ولا مجرد قضاء الوطر؛ فهناك نعمة الأولاد، ونعمة الستر، ونعمة الرضا بقسم الله.
وتذكري بأن التعدد ليس نهاية المطاف، ولا يعني أن الزوج قد مال عنك، وزهد بك، أو أن زواجه بالثانية دليل على نقص بك.
بل قد يكون الحامل له على ذلك أسباب أخرى.
وتذكري بأن غيرك قد تكون وحيدة زوجها، ومع ذلك تعيش تعيسة شقية.(3/36)
وتذكري بأن السعادة ليست مقصورة على الزوجة التي انفردت بزوجها، وأن التعاسة ليست من نصيب من عدَّد زوجها.
وإنما السعادة تنبع من داخل النفس، وأعظم مادة لها رضا العبد بقسمة الله له.
ح _ اطراح المبالاة بكلام الناس: فذلك هو باب العقل والراحة كلها كما قال ابن حزم ×(1).
فمن أثقل الأمور على الزوجة إذا عدد زوجها كلام الناس عن ذلك التعدد، وسؤالهم عن أسبابه، فذلك يشق على الزوجة.
ومما يعينها على قلة الاهتمام بكلام الناس أن تستحضر أنه لا يضرها أبداً إلا إذا اشتغلت به، فإذا أعرضت عنه، وجعلته دبر أذنها لم يؤثر فيها أبداً.
ومن ذلك أن تعلم علم اليقين أن الناس لا يشغلهم أمرها كثيراً؛ فهم مشغولون في أنفسهم في غالب أمرهم؛ فأدنى شيء يحدث لهم ينسيهم أمرها.
ط _ طرد الهم ومحاربة الكآبة: فلا يحسن بالمرأة إذا عدد زوجها أن تغرق في همومها، وأن تسترسل مع أحزانها.
بل يحسن بها أن تحارب الكآبة، وأن تدرأ الهم عن النفس ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً؛ بحيث تتجلد، ولا يرى الناس منها الجميل؛ فذلك أعلى لقدرها، وأسلم لها من شماتة الناس بها.
ومن أحكم ما قالته العرب:
ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حَرّه يتأوه
ي _ استحضار أن الراحة التامة الكاملة ليست في الدنيا: فالدنيا دار نَصُب، وكبد، وعناء.
والراحة التامة والسعادة الكاملة إنما تكون في الآخرة لمن آمن وعمل صالحاً.
فإذا هي استحضرت هذه المعاني، وأخذت بتلك الأسباب كان حرياً أن تسلو، وترضى.
19_ التقصير في تربية الأولاد:
فالأم هي المدرسة الأولى للأولاد، والبيت هو اللبنة التي يتكون من أمثالها بناء المجتمع، وفي الأسر الكريمة التي تقوم على حفظ حدود الله، وعلى دعائم المحبة والمودة والإيثار والتعاون على البر والتقوى _ ينشأ رجال الأمة، ونساؤها، وقادتها، وعظماؤها.
__________
(1) انظر الأخلاق والسير لابن حزم ص17.(3/37)
والولد قبل أن تربيه المدرسة، والمجتمع يربيه البيت والأسرة، وهو مدين لأبويه في سلوكه المستقيم، كما أن أبويه مسؤولان إلى حد كبير عن انحرافه.
ومع عظم هذه المسؤولية إلا أن كثيراً من الناس قد فرط فيها، واستهان بأمرها، ولم يرعها حق رعايتها؛ فأضاعوا أولادهم، وأهملوا تربيتهم.
ثم إذا رأوا منهم تمرداً أو انحرافاً بدأوا يتذمرون، وما علموا أنهم السبب الأول في ذلك.
فمن التقصير في تربية الأولاد تربيتهم على الجبن، والخور، والفزع من كل شيء.
ومن ذلك تربيتهم على سلاطة اللسان، والتطاول على الآخرين.
ومن ذلك تربيتهم على الفوضى والميوعة، والترف، والبذخ.
ومن ذلك تربيتهم على القسوة المتعدية لطورها، ومن ذلك الحرمانُ والتقتير الشديد.
ومما يتسبب في انحرافهم أن يكون الوالدان قدوة سيئة للأولاد؛ فما ظنك ببنت ترى أمها تتهاون بالصلاة، وتجلب المنكرات للمنزل، وتتبرج إذا أرادت الخروج من المنزل.
ومن ذلك كثرة المشكلات بين الوالدين، والعهد للخادمات بتربية الأولاد.
ومن التقصير _ أيضاً _ أن تعمل المرأة خارج المنزل، وتقضي جزءاً كبيراً من الوقت بعيداً عن أولادها وزوجها دون أن توفق بين عملها ورعاية منزلها(1).
وهذا من الخلل، خصوصاً إذا لم تكن محتاجة للعمل، أو كان أولادها وزوجها سيهملون إهمالاً تاماً.
وإنما تعمل كي يزيد مصروفها، فتزداد من الإسراف في الكماليات.
وما أكثر الدعاوى التي تنادي بعمل المرأة ومساواتها بالرجل _ كما زعموا _ ونسوا أو تناسوا أن المرأة إذا عملت، وزاحمت الرجل أن سيتضاعف تعبها، وسيكون ذلك على حساب بيتها.
__________
(1) انظر التقصير في تربية الأولاد للكاتب.(3/38)
ولهذا جعل الإسلام القوامة للرجل، وعهد بالزوجة رعاية المنزل؛ فهذا هو مقتضى الفطرة(1)
__________
(1) ولقد فطن إلى هذه الحقيقة كثير من العقلاء والباحثين حتى من غير المسلمين، تقول المحامية الفرنسية كريستين بعد أن زارت بعض بلاد الشرق المسلم: =سبعة أسابيع قضيتها في زيارة كل من بيروت، ودمشق، وعمان، وبغداد وهاأنذا أعود إلى باريس، فماذا وجدتُ؟ وجدتُ رجلاً يذهب إلى عمله في الصباح، يتعب يشقى، يعمل حتى إذا كان المساء عاد إلى زوجته ومعه خبز، ومع الخبز حُبٌّ، وعطف، ورعاية لها ولصغارها.
الأنثى في تلك البلاد لا عمل لها إلا تربية جيل، والعناية بالرجل الذي تحب، أو على الأقل بالرجل الذي كان على قَدَرَها.
في الشرق تنام المرأة، وتحلم، وتحقق ما تريد؛ فالرجل قد وفر لها خبزاً، وحبَّاً، وراحة، ورفاهية.
وفي بلادنا حيث ناضلت المرأة من أجل المساواة، فماذا حققت؟
انظر إلى المرأة في غرب أوربا، فلا ترى أمامك إلا سلعة؛ فالرجل يقول لها: انهضي لكسب خبزك؛ فأنت قد طلبت المساواة، وطالما أنا أعمل فلا بد أن تشاركيني في العمل؛ لنكسب خبزاً معاً.
ومع الكد والعمل؛ لكسب الخبز تنسى المرأة أنوثتها، وينسى الرجل شريكته في الحياة، وتبقى الحياة بلا معنى ولا هدف+. انظر من أجل تحرير حقيقي للمرأة للأستاذ محمد رشيد العويد ص94_95.
وتقول الكاتبة الفرنسية مايا جانينا عن وضع النساء في روسيا: =إن النساء لا يزلن في روسيا يفتقرن إلى تكافؤ الفرص؛ حيث أنهن يعملن أكثر من الرجال، فيقمن بأعمال التنظيف والطهي والعناية بالصغار بعد أن يؤدين أعمالهن اليومية في المصانع والمزارع+. من أجل تحرير حقيقي ص95.
وجاء في كتاب (فتاة الشرق في حضارة الغرب) للأستاذ محمد جميل بيهم:
=وجدير بالذكر الإشارة إلى أنه حتى النساء اللواتي قضي عليهن بمغادرة المنزل وراء الكسب غلب عليهن الأسى والندامة لهذا المصير، وأكبر دليل على ذلك الاستفتاء الذي قام به معهد غالوب في أمريكا من مدة قريبة_وهو معهد مُهمته الاستفتاءات العامة لتحديد اتجاهات الرأي العام_قام باستفتاء عام في جميع= =الأوساط في الولايات المتحدة بصدد تعيين رأي النساء الكاسبات في صدد العمل، وإذا هو ينشر الخلاصة الآتية:
إن المرأة متعبة الآن، ويفضل 65% من نساء أمريكا العودة إلى منازلهن.
كانت المرأة تتوهم أنها بلغت أمنية العمل، أما اليوم وقد أدمت الطريق قدمها، واستنزفت الجهود قواها_ فإنها تود الرجوع إلى عشها، والتفرغ لاحتضان فراخها+. انظر: المرأة بين الفقه والقانون ص259.(3/39)
.
والمرأة في الإسلام راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها، وهذه الرعاية تشمل تربية الأولاد، والعناية بهم؛ فعليها تربيتهم على الفضيلة، ومكارم الأخلاق، مع تجنيبهم كل ما ينافي ذلك.
20_ قلة المراعاة لأحوال الزوج ومشاعره:
فمن الزوجات من تغفل عن مراعاة أحوال زوجها ومشاعره؛ فقد تزعجه بالأخبار السيئة، وتكثر الطلبات منه إذا عاد إلى المنزل منهكاً مكدوداً قد بلغ به الإعياء مبلغه.
وقد تكثر من ترداده إلى السوق؛ ليأتي بما يحتاجه المنزل، فإذا رجع إلى المنزل ذكرت حاجة أخرى، فعاد إلى السوق مرة أخرى، وقد يرجع أكثر من ذلك، وقد يتكرر هذا منها مرات عديدة.
وقد يكون الزوج حاد المزاج، شديد التأثر لأقل الأشياء المخالفة لذوقه؛ فلا تراعي الزوجة فيه هذه الخصلة، فربما تضحك وهو في حالة غضب أو حزن، وقد يوجه لها الخطاب فتعرض وتشيح بوجهها عنه، وقد يتكلم بكلمة غضب فتجيبه بعشر كلمات.
وقد تتعمد إغضابه، وإثارته، فما هي إلا أن تتحرك العاصفة، وينفجر البركان، ويحصل ما لا تحمد عقباه.
ومن قلة المراعاة لأحواله ومشاعره _ قلة المراعاة لوقت نومه، وأكله، وقراءته، ونحو ذلك.
ومن ذلك قلة العناية بمخاطبته ومحادثته، فلا تناديه بأحب الأسماء إليه، ولا تخفض صوتها إذا خاطبته إلى غير ذلك مما ينافي أدب المخاطبة والمحادثة.
ومن ذلك أن تبدأ بتنظيف البيت، أو مكافحة الحشرات بالمبيدات إذا دخل الزوج المنزل، أو هم بالنوم، أو الأكل، فتزعجه بالجلبة، وتزكم أنفه بالروائح التي لا تروقه.
فمثل هذه الأعمال تقصير في حق الزوج، ودليل على حمق المرأة، وخفة عقلها، وقلة ذوقها.
فالذي تقتضيه الحكمة أن تراعي الزوجة أحوال زوجها، ومشاعره، وأن تعمل ما في وسعها لإدخال السرور عليه، وإزالة الهم والغم عن قلبه، فتفرح لفرحه، وتحزن لحزنه، حتى يشعر بأنها تتعاون معه، حيث يسرها ما يسره، ويحزنها ما يحزنه.(3/40)
ولا ينبغي لها أن تظهر بمظهر السرور إذا كان محزوناً، كما ينبغي أن تكظم حزنها إذا رأته مسروراً؛ فإن ذلك أدعى لدوام الألفة، وأدل على كرم نفس الزوجة.
ومما ينبغي لها أن تجمع ما يحتاجه المنزل، وتخصص وقتاً في الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك، فتكتب ما تحتاجه في ورقة؛ كي يأتي به مرة واحدة بدلاً من كثرة ترداده في حاجات يسيرة.
ولا يعني ذلك أن تكون هذه قاعدة مطردة، فقد تقتضي الحال إرساله أكثر من مرة في اليوم، ولكن تحاول قدر المستطاع أن تختصر ذلك.
ومما ينبغي لها في هذا الصدد أن ترعاه في طعامه، فتصنع له ما يشتهيه، وتنوع له الطعام كيلا يسأم، وتلاحظ الوقت الذي تقدم له الطعام؛ فلا تؤخره ولا تقدمه إلا بإذنه.
كما يحسن بها أن تراعي أوقات نومه، فتحرص على تهدئة الأطفال؛ ليأخذ راحته الكافية؛ فإذا أخذ قسطه من الراحة انشرح صدره، وهدأت أعصابه، وإلا بقي قلقاً مستوفزاً.
ومما يدخل السرور عليه أن تحرص الزوجة على نظافة المنزل، وأن تعنى بثياب الزوج؛ كي يظهر بالمظهر اللائق.
وإن كان طالب علم، أو صاحب قراءة وبحث فلتحرص على العناية بمكتبته، وكتبه ترتيباً، وتنظيماً، وتنظيفاً.
وإذا مرت به أزمة، أو مشكلة فلتقف معه بالدعاء، والرأي، والتثبيت، ونحو ذلك.
وإذا أرادت مخاطبته خاطبته بأسلوب لبق جذاب، يشعر من خلاله باحترامها وتوقيرها له.
قال ابن الجوزي ×: =وعن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: قالت ابنة سعيد ابن المسيب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم.
وعنه _ أيضاً _ قال: قالت امرأة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم: أصلحك الله، عافاك الله+(1).
وبالجملة فلتحرص على كل ما يسره، وأن تتجنب كل ما يسوؤه وينوؤه.
وإن حصل منها تقصير في حقه فلتبادر إلى الاعتذار، ولتتلطف في ذلك.
وإليك أيتها الزوجة الكريمة هذه الوصية الرائعة الماتعة.
__________
(1) أحكام النساء ص139.(3/41)
قال ابن الجوزي ×: =وعن عبدالملك بن عمير قال: زوّجَ عوف بن ملحم(1) الشيباني ابنته من إياس بن الحارث بن عمرو الكندي، فلما جُهّزَت وحضرت؛ لتحمل إليه دخلت عليها أمُّها أمامةُ؛ لتوصيها فقالت: يا بنية! إن الوصية لو تركت لفضل في الأدب،أو مكرمة في الحسب _ لتركتُ ذلك، ولزويتُها عنك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعرفة للعاقل.
أي بنيَّة! لو استغنت المرأة عن زوجها بغنى أبيها، وشدة حاجتها إليه _ لكنت أغنى الناس عنه، إلا أنهن خُلِقْنَ للرجال كما لهن خُلِقَ الرجال.
أي بنيَّة! إنك قد فارقت الجوَّ الذي منه خرجتِ، والعشَّ الذي فيه دَرَجْتِ، إلى وكرٍ لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، أصبح بمُلكه عليك مليكاً؛ فكوني له أمَةً يكن لك عبداً، احفظي منه خصالاً عشراً تكن لك دركاً وذكراً.
أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة له بحسن السمع والطاعة؛ فإن في القناعة راحة القلب، وفي حسن السمع والطاعة رضى الرب.
وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لموضع أنفه، والتعاهد لموضع عينيه؛ فلا تقع عينه منك على شيء قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، وإن الكحل أحسن الموجود، والماءَ أطيبُ الطيب المفقود.
أما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لموضع طعامه، والتفقد له حين منامه؛ فإن حرارة الجوع مَلْهبة، وإن تنغيص النوم مَغْضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالإرعاء على حَشَمِه وعياله، والاحتفاظ بماله؛ فإن أصل الاحتفاظ بالمال حُسْن التقدير، والرعاء على الحشم والعيال حُسْن التدبير.
أما التاسعة والعاشرة: فلا تُفشي له سرَّاً، ولا تعصي في حال له أمراً؛ فإنك إن أفشيتِ سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره.
ثم اتقي يا بنية الفرحَ لديه إذا كان ترِحاً، والاكتئاب إذا كان فرحاً؛ فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير.
__________
(1) مُلْحم، ويقال: مُحَلّم كما في رواية العقد الفريد 6/83.(3/42)
وكوني أشدَّ ما تكونين له إكراماً أشد ما تكونين له إعظاماً، وأشد ما تكونين له، وأطول ما تكونين له مرافقة.
واعلمي يا بنية أنك لن تَصِلي إلى ما تحبين منه حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك فيما أحببتِ وكرهت، والله يَخيْرُ لك ويحفظك.
فحُملت إليه، فعظم موقفه منه، فولدت له الملوك الذين ملكوا بعده+(1).
قال ابن الجوزي ×: =وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجاً صالحاً يلائمها أن تجتهد في مرضاته، وتَجتنب كلَّ ما يوذيه؛ فإنها متى آذته أو تعرضت لما يكرهه أوجب ذلك ملالته، وبقي ذلك في نفسه؛ فربما وجد فرصته فتركها، أو آثر غيرها؛ فإنه قد يجد، وقد لا تجد هي.
ومعلوم أن الملل للمستحسن قد يقع؛ فكيف للمكروه+(2).
وما أجمل قول أسماء بن خارجة مخاطباً زوجته:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب
فإني رأيت الحبَّ في القلب والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبثِ الحبُّ يذهب(3)
وما أجمل _ أيضاً _ ما روي من قول أبي الدرداء÷لزوجته: =إذا رأيتني غضبت تَرضَّيْني، وإذا رأيتك غضبتِ ترضيتك، وإلا لم نصطحب+(4).
هذا وإن من أعظم ما يعين المرأة على القيام بحق الزوج أن تستشعر عظم حق الزوج عليها، وأن تستحضر الأجر المترتب على قيامها بحقه.
عن أبي هريرة÷عن النبي"قال: =لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها+(5).
وعن أم سلمة _ رضي الله عنها _ قالت: قال رسول الله": =أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة+(6).
__________
(1) أحكام النساء ص142_143، وانظر العقد الفريد لابن عبدربه 6/83_85.
(2) أحكام النساء ص145.
(3) أحكام النساء ص141.
(4) العقد الفريد 6/120.
(5) الحديث مضى تخريجه.
(6) أخرجه الترمذي (1161) وقال: حديث حسن غريب، ورواه ابن ماجه (1854)، والحاكم (7328)، وأبو يعلى (6903).(3/43)
وقال _ عليه الصلاة والسلام _: =إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها _ قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت+(1).
21_ إفشاء سر الفراش:
فكما أن الرجال يقعون في هذا الأمر فكذلك النساء؛ فمنهن من تجلس إلى صويحباتها، فتفضي إليهن بما يجري لها مع زوجها في الفراش، وربما فاخرت في ذلك، وبالغت في التفصيل، ونافست صويحباتها بذلك.
وأي فخر بكشف السوءات؟ وأي منافسة تكون في التمادي بالقحة، وسقوط الهمة؟
ولئن كان هذا الأمر مرفوضاً من الرجال _ فإنه أشد رفضاً إذا صدر من المرأة؛ ذلك أنها أولى بالستر والحياء؛ فإذا هي كشفت عن ذلك دل هذا على جهلها، وخفة عقلها، ونقص تربيتها.
فالعاقلة تأبى هذا الصنيع عقلاً، وفطرة، وديانة؛ فكيف يسوغ إفشاء سر الفراش حتى لكأن السامع يرى ما يسمعه رأي العين؟!.
إن للفراش أسراراً يجب أن تحفظ، وتحاط بسياج من الكتمان؛ فلذا كان حقَّ_اً على الزوجين ألا يبوحا بذلك السر؛ فإن هما فعلا ذلك فمثلهما كمثل شيطان وشيطانة تلاقيا في طريق فجامعها بمرأى من الناس.
ولقد جاء هذا المثل في حديث النبي"فعن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله"والرجال والنساء قعود عنده، فقال: =لعل رجلاً يقول ما يفعله بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها+.
فأرم القوم _ أي سكتوا ولم يجيبوا _
فقلت: أي والله يا رسول الله، إنهن ليقلن، وإنهم ليفعلون.
قال: =فلا تفعلوا؛ فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة، فغشيها، والناس ينظرون+(2).
فلتحذر المرأة هذا الصنيع؛ فلا تفشيَ سر الفراش لأحد كائناً من كان.
__________
(1) أخرجه أحمد 1/191 من حديث عبدالرحمن بن عوف، وابن حبان في صحيحه (4163) عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (660).
(2) أخرجه أحمد 6/456، والطبراني في الكبير 24/162، وقال الألباني في أدب الزفاف ص143: الحديث بشواهده صحيح، أو حسن على الأقل.(3/44)
ويستثنى من ذلك حالات الضرورة والحاجة، كالعلاج، أو الاستفتاء عن أمر شرعي، أو أن تنكر المرأة نكاح الزوج لها، وتدعي عليه العجز في الجماع، أو نحو ذلك(1).
وبالجملة فحفظ سر الزوج عموماً، وسر الفراش خصوصاً دليل على صلاح الزوجة وكمال عقلها.
قال _ تعالى _ في وصف النساء الصالحات: [فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ](النساء: 34).
قال الشيخ محمد رشيد رضا×في شرح هذه الآية: =ويدخل في قوله هذا وجوب كتمان كل ما يكون بينهن وبين أزواجهن في الخلوة، ولا سيما حديث الرفث؛ فما بالك بحفظ العرض؟.
وعندي أن هذه العبارة أبلغ ما في القرآن من دقائق كنايات النزاهة، تقرؤها خرائد العذارى جهراً، ويفهمن ما تومىء إليه مما يكون سرَّاً، وهن على بعد من خطرات الخجل أن تمسَّ وجدانهن الرقيق بأطراف أناملها؛ فلقلوبهن الأمان من تلك الخلجات التي تدفع الدم إلى الوجنات، ناهيك بوصل حفظ الغيب ( بما حفظ الله ) فالانتقال السريع من ذلك الغيب الخفي إلى ذكر الله الجلي يصرف النفس عن التمادي في التفكر فيما يكون وراء تلك الأستار من تلك الخفايا والأسرار، وتشغلها بمراقبة الله _ عز وجل _+.
إلى أن قال: =الباء في قوله [بما حفظ الله] هي صنوُ باء =لا حول ولا قوة إلا بالله+.
وأن المعنى حافظات للغيب بحفظ الله، أي بالحفظ الذي يؤتيه الله إياهن بصلاحهن؛ فإن الصالحة يكون لها من مراقبة الله _ تعالى _ وتقواه ما يجعلها محفوظة من الخيانة، قوية على حفظ الأمانة.
أو حافظات له بسبب أمر الله بحفظه؛ فهن يطعنه، ويعصين الهوى؛ فعسى أن يصل معنى هذه الآية إلى نساء عصرنا اللواتي يتفكهن بإفشاء أسرار الزوجية، ولا يحفظن الغيب فيها+(2).
22_ وصفُ المرأة النساءَ لزوجها:
__________
(1) انظر نيل الاوطار 6/619_620.
(2) نداء للجنس اللطيف ص43_44.(3/45)
فمن الأخطاء أن تجد بعض النساء تحدث زوجها عن وصف صاحباتها؛ فتقول: فلانة جميلة، وفلانة طويلة، وفلانة رقيقة البشرة، وفلانة معتدلة القوام، وهذه عيونها كذا وكذا، وتلك شعرها مسترسل، أو نحو ذلك وما جرى مجراه.
وربما كانت الزوجة جاهلة أو ساذجة، والزوج ذا لؤم وفساد طوية، فيستجرها بالحديث، فتشرع في وصف النساء، حتى كأنه يراهن ماثلات أمامه.
وهذا العمل لا يجوز؛ لما فيه من الفتنة بالموصوفة، والزهد بالواصفة؛ والشيطان يمثل للسامع الموصوفة، ويزينها في عينه، ولا يخفى فضل المغيب على المشهد.
ولهذا جاء الشرع المطهر في سد هذه الذريعة؛ فعن ابن مسعود÷قال: قال النبي": =لا تباشر المرأةُ المرأةَ فَتَنْعَتَها لزوجها كأنه ينظر إليها+(1).
قال ابن حجر×في شرح الحديث: =قوله: =فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها+.
قال القابسي: هذا أصل لمالك في سد الذرائع؛ فإن الحكمة في هذا النهي خشية أن يُعْجبَ الزوجَ الوصفُ المذكورُ؛ فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة+(2).
وقال ابن الجوزي ×: =واعلم أنه إنما نهي عن هذا لأن الرجل إذا سمع وصف المرأة تحركت همته، واشتغل قلبه.
والنفس مولعةٌ بطلب الموصوف بالحسن؛ فربما كانت الصفة داعية إلى تَطَلُّب الموصوف بالحسن، وربما وقع اللهج بالطلب ما يقارب العشق+(3).
23_ التبرم من قوامة الرجل:
فمن النساء من تتبرم من قوامة الرجل عليها، فتريد أن تساويه في جميع تصرفاته، بل قد يعجبها أن يسلم الرجل قياده لها، وتكون إرادته تابعة لإرادتها، فيكون قولها هو القول، ورأيها هو الفصل، فتفرض عليه سياجاً محكماً لا معدى عنه ولا محيص.
__________
(1) رواه البخاري (5240).
(2) فتح الباري 9/250.
(3) أحكام النساء ص121.(3/46)
والذي قد يدفعها إلى ذلك دافع الغرور بالمال، أو الجاه، أو الجمال، أو الحسب، أو المستوى التعليمي وقد يدفعها إلى ذلك تأثرها بالدعايات التي تنادي بمساواة المرأة بالرجل، وتحريرها من سلطته، وأن يكون موقفها منه موقف الند للند!
وإذا اجتمع إلى ذلك كله ضعفُ الرجل، واهتزاز شخصيته _ فقد وافق الشن الطبق.
فلذلك فهي تحب ألا يكون عليها رقيب من البشر، فتريد أن تخرج متى شاءت، وتلبس ما شاءت، وتصاحب من شاءت.
وربما تدخلت في شؤون الرجل الخاصة، وعلاقته بالآخرين؛ فكانت هي القوامة عليه، المتصرفة في زمام أمره.
وما عجبٌ أن النساء ترجلت ... ولكن تأنيث الرجال عجاب
ولا ريب أن هذا الصنيع خلاف ما تأمر به الشرائع السماوية، وما تدعو إليه الفطر السوية، بل والتجارب الإنسانية.
فالمرأة العاقلة _ إذاً _ هي التي تعرف قدرها، وتقف عند حدودها؛ فالقوامة حق للرجل، وتشريف للمرأة؛ فالإسلام أنقذ المرأة من أيد الذين يزدرون مكانتها، وتأخذهم الجفوة في معاشرتها؛ فقرر لها من الحقوق ما يكفل راحتها، وينبه على رفعة منزلتها، ثم جعل للرجل حق رعايتها، وإقامة السياج بينها وبين ما يخدش كرامتها.
ومن الشاهد على هذا قوله _ تعالى _: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ](البقرة: 228).
فقررت الآية للمرأة من الحقوق مثل ما للرجل، وإذا كان أمر الأسرة لا يستقيم إلا برئيس يدبّره _ فأحقهم بالرياسة هو الرجل الذي شأنه الإنفاق عليها، والقدرة على دفاع الأذى عنها.
وهذا ما استحق به الدرجة المشار إليها في قوله _ تعالى _: [وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ](البقرة: 228)، وقوله: [الرجال قوامون على النساء](النساء:34)(1).
__________
(1) انظر رسائل الإصلاح 2/172.(3/47)
ومما يؤيد أن القوامة حق للرجل، وخصيصة من خصائصه ما يلي(1):
أ _ أنه جعل أصلها، وجعلت المرأة فرعه: قال _ تعالى _: [وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا](النساء: 1).
ب _أنها خلقت من ضلعه العوجاء: كما جاء في قوله _ عليه الصلاة والسلام _: =استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خُلقَتْ من ضِلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه؛ إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج؛ استوصوا بالنساء خيراً+(2).
جـ _ أن المرأة ناقصة عقل ودين: كما قال النبي": =ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم منكن+.
قالت امرأة: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟.
قال: =أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان؛ فهذا نقصان الدين+(3).
فلا يمكن _ والحالة هذه _ أن تستقل بالتصرف والتدبير.
د _ نقص قوتها: فلا تقاتل، ولا يسهم لها.
هـ _ ما يعتريها من العوارض الطبيعية: من حمل، وولادة، وحيض، ونفاس، فيشغلها عن مهمة القوامة الشاقة.
فالقوامة _إذاً_ حق للرجل، ولكن لا يفهم من القوامة أنها تعني التسلط، والقهر، والعسف، والجبروت.
وإنما هي تكليف، وتذمم، ورعاية، ورحمة.
كما لا يفهم من نقصان عقل المرأة أنها لا تستشار، ولا تعقل.
وإنما المقصود ألا تترفع على الرجل، وإلا فقد يكون من النساء من هي أعقل من بعض الرجال، ولكن تبقى القاعدة والأصل ألا وهي أن القوامة بيد الرجل.
بل إن المرأة العاقلة لا تفضل من الرجال إلا من كان قائماً بالقوامة عليها.
__________
(1) انظر أحكام القرآن لابن العربي 1/253، وأضواء البيان للشنقيطي 3/415_423.
(2) رواه البخاري (3331)، ومسلم (1468).
(3) رواه مسلم (79).(3/48)
قال الشيخ محمد رشيد رضا ×: =ومن استقرأ طباع النساء السليمات الفطرة من جنايات سوء التربية، وفساد النظام _ يرى أن الثابت في غرائزهن أن خير الأزواج، وأولاهم بالاختيار من كان قادراً على الكسب وحماية النسل وصيانته، وما يتوقف عليه تربيته إلى أن يبلغ أشده.
وقد ألقت غير واحدة من الصحف الإفرنجية ولا سيما الإنجليزية أسئلة على النساء فيمن يفَضّلن من الأزواج، وصفات الرجال؟ فجاءت أكثر أجوبتهن على ما ذكرنا+(1).
ثم إن ضعف المرأة الخِلْقيَّ لا يعد من مساوئها بل هو من أعظم محاسنها.
قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ×: =ألا ترى أن الضعف الخِلْقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب.
قال جرير:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يَصْرَعْنَ ذا اللبّ حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
وقال ابن الدمينة:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
فلم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به سكتة حتى يقال مريب
فالأول تشبيب بهن بضعف أركانهن، والثاني بعجزهن عن الإبانة في الخصام كما قال _ تعالى _: [وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ](الزخرف: 18).
ولهذا التباين في الكمال والقوة بين النوعين صح عن النبي"اللعن على من تشبه منهما بالآخر+(2).
وقال×بعد أن ذكر الأدلة على فضيلة الذكر على الأنثى: =فإذا عرفت من هذه أن الأنوثة نقص خِلْقي، وضعف طبيعي _ فاعلم أن العقل الصحيح الذي يدرك الحكم والأسرار يقضي بأن الناقص الضعيف بخلقته وطبيعته يلزم أن يكون تحت نظر الكامل في خلقته، القوي بطبيعته؛ ليجلب له ما لا يقدر على جلبه من النفع، ويدفع عنه ما لا يقدر على دفعه من الضر+(3).
__________
(1) نداء للجنس اللطيف ص36.
(2) أضواء البيان 3/421.
(3) أضواء البيان 3/420.(3/49)
وخلاصة القول أن القوامة حق للرجل، وتكريم للمرأة، ولا يجوز لها بحال أن ترفض قوامة الرجل عليها، ولا أن تتضجر منها طالما أنه لم يحد عن أمر الله.
ولن يطيب للمرأة عيش إلا إذا كانت تحت كنف رجل يحوطها، ويقوم على رعايتها(1)
__________
(1) وهذا ما أدركه كثير من الغربيين والأمريكان من الكتاب والمفكرين والأطباء، والباحثين، وإليك بعض أقوالهم في ذلك:
-يقول جول سيمون: =يجب أن تبقى المرأة امرأة؛ فإنها بهذه الصفة تستطيع أن تجد سعادتها، وأن تهبها لسواها؛ فلنصلح حال النساء، ولنحذر من قلبهن رجالاً؛ لأنهن بذلك يفقدن خيراً كثيراً، ونحن نفقد كل شيء+. المرأة بين الفقه والقانون ص178.
-وتقول كاتبة إنجليزية بكل جرأة وصراحة: =من السخافة وقلة العقل أن تحاول الزوجة سلب قوامية الزوج، وسلطته الطبيعية؛ لأن المرأة منذ أن جاءت إلى هذه الدنيا أصبحت بطبيعتها تطيع زوجها، وتخضع لديه+.
إلى أن قالت: =ومع أن هناك بعض الرجال الأنذال يريدون أن يستعملوا القوامية للإساءة بالمرأة، وشقائها فإن هناك ملايين من الرجال يحافظون على حقوق النساء، واحترامهن مع المحافظة على قواميتهم وسلطتهم الطبيعية، ويحلونهن في قلوبهن، ويعترفون بأن المرأة نعمة من عند الله الخالق+. المرأة وحقوقها في الإسلام للشيخ مبشر الطرازي الحسيني ص40.
-وكتبت كاتبة أمريكية تقول: =لو كان لي ابنة لأوصيتها بأنه لا ينبغي لها أن تَعُدَّ نفسها مساوية لزوجها في المقام والمنزلة ولو أحبها زوجها حباً جماً+. المرأة وحقوقها في الإسلام ص40.
=
= -وتقول جليندا جاكسون حاملة الأوسكار التي منحتها ملكة بريطانيا وساماً من أعلى أوسمة الدولة، والتي حصلت على جائزة الأكاديمية البريطانية، وجائزة مهرجان مونتريال العالمي، تقول: =إن الفطرة جعلت الرجل هو الأقوى والمسيطر، بناءً على ما يتمتع به من أسباب القوة تجعله في المقام الأول بما خصه الله به من قوة في تحريك الحياة، واستخراج خيراتها، إنه مقام الذاتية عند الرجل، التي تؤهله تلقائياً لمواجهة أعباء الحياة وإنمائها، واطراد ذلك في المجالات الحياتية+. مجلة الدعوة عدد 1565.
-وتقول طبيبة نفسية أمريكية: =أيما إمرأة قالت: أنا واثقة من نفسي وخرجت دون رقيب أو حسيب فهي تقتل نفسها وعفتها+ مجلة الدعوة عدد 1565.
-ولقد أثبت العلم الحديث أخيراً وَهْمَ محاولات المساواة بين الرجل والمرأة، وأن المرأة لا يمكن أن تقوم بالدور الذي يقوم به الرجل؛ فقد أثبت الطبيب (د. روجز سبراي) الحائز على جائزة نوبل في الطب _ وجود اختلافات بين مخ الرجل ومخ المرأة، الأمر الذي لا يمكن معه إحداث مساواة في المشاعر، وردود الأفعال، والقيام بنفس الأدوار.
-وقد أجرى طبيب الأعصاب في جامعة (بيل) الأمريكية بحثاً طريفاً رصد خلاله حركة المخ في الرجال والنساء عند كتابة موضوع معين، أو حل مشكلة معينة، فوجد أن الرجال بصفة عامة يستعملون الجانب الأيسر من المخ، أما المرأة فتستعمل الجانبين معاً.
وفي هذا دليل _كما يقول أستاذ جامعة بيل_ أن نِصْفَ مخّ الرجل يقوم بعمل لا يقدر عليه مخ المرأة إلا بشطريه.
-وهذا ما اكتشفه البروفيسور ريتشارد لين من القسم السيكلوجي في جامعة ألستر البريطانية حيث يقول: =إن عدداً من الدراسات أظهرت أن وزن دماغ الرجل يفوق مثيله النسائي بحوالي أربع أوقيات+.
وأضاف لين: =إنه يجب الإقرار بالواقع، وهو أن دماغ الذكور أكبر حجماً من دماغ الإناث، وأن هذا الحجم مرتبط بالذكاء+.
وقال: =إن أفضلية الذكاء عند الذكور تشرح أسباب حصول الرجال في بريطانيا على ضعفي ما تحصل عليه النساء من علامات الدرجة الأولى+. =
= وسواء صح ما قالوه أم لم يصح فإن الله _سبحانه_ أخبرنا في كتابه بالاختلاف بين الجنسين على وجه العموم فقال _عز وجل_: [وليس الذكر كالأنثى] (آل عمران: 36).
فكل ميسر لما خلق له، وكل يعمل على شاكلته. انظر مجلة الدعوة 1565.(3/50)
.
فإنْ هي أبت إلا التمرد، ورفضَ القوامة وأصاخت السمع لدعاة الحرية، ومن يدَّعون تحرير المرأة، وإن شئت فقل: دعاة تجرير المرأة _ فسوف تشقى وتشقي.
قال الرافعي×في وصيته للمرأة المسلمة: =احذري تهوَّس الأوربية في طلب المساواة بالرجل؛ لقد ساوته في الذهاب إلى الحلاق، ولكن الحلاق لم يجد اللحية في وجهها+(1).
وقال: =احذري أن تخسري الطباع التي هي الأليق بأم أنجبت الأنبياء في الشرق، أم عليها طابع النفس الجميلة، تنشر في كل موضع جوَّ نفسِها العالية؛ فلو صارت الحياة غيماً، ورعداً، وبرقاً _ لكانت الشمس الطالعة.
ولو صارت الحياة قيظاً، وحروراً، واختناقاً لكانت هي النسيم يتخطر.
أم لا تبالي إلا أخلاق البطولة، وعزائمها؛ لأن جداتها ولدن الأبطال+(2).
وقال: =حرية المرأة في هذه المدنية أوّلها ما شئت من أوصاف وأسماء، ولكن آخرها دائماً: إما ضياع المرأة، وإما فساد المرأة+(3).
24_ اختلاط الزوجة بالرجال، وتبرجها أمامهم:
فمن النساء من تختلط بالرجال من أقارب زوجها، وأحمائه دونما تحرج، إما بحكم العادة، وإما بسبب التساهل بشأن الحمو، وإما بسبب الجهل ورقة الدين، أو بسبب الغفلة عن العواقب، أو لإرغام الزوج لها بالاختلاط، أو لغير ذلك من الأسباب.
ولقد أصبح ذلك في بعض المجتمعات عرفاً سائداً، وعادة متبعة يُنْكَر على من ينكرها.
وفي بعض المجتمعات لا تقتصر الزوجة على الاختلاط بأقارب الزوج، بل يتعدى الأمر ذلك إلى أصدقائه ومعارفه، وضيوفه، كل ذلك تحت ستار القرابة، والمعرفة، والثقة.
فإذا كان هناك حفل، أو مناسبة، أو وليمة كانت جماعية مختلطة.
وهذا الاختلاط لم يكن معروفاً عند المسلمين، وإنما أتاهم من الغرب؛ فهم يحاولون تقليدهم واللحاق بركبهم؛ حتى لا يقال: متخلفون رجعيون!
__________
(1) وحي القلم 1/264.
(2) وحي القلم 1/264_265.
(3) وحي القلم 1/295.(3/51)
فهل تقليد الغرب في مستهجن عاداته إلا التخلف بعينه؟ أوليس هذا التقليد مما يزيد الشعوب المقلدة وهناً على وهن؟
فلا ريب أن المرأة آثمة في هذا الصنيع، وطاعة زوجها في مثل هذه الحال حرام عليها؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولا يخفى ما في الاختلاط من الفساد العريض كالخلوة المحرمة وإظهار المرأة مفاتنها، وتلذذ الرجال بالنظر إليها؛ فإذا كان وصف المرأة النساء لزوجها محرماً _ كما مر في فقرة ماضية _ فكيف بهم وهم يرون النساء بأم أعينهم؟
ولهذا حسم الشرع المطهر هذا الأمر؛ سداً لذرائع الفتنة.
قال _ عليه الصلاة والسلام _: =إياكم والدخول على النساء+.
فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟
قال: =الحمو الموت+(1).
قال الليث فيما رواه مسلم عنه بعد روايته الحديث السابق: =الحمو أخو الزوج، وما أشبهه من أقارب الزوج: ابن العم ونحوه+(2).
وإذا أنكر منكر على بعض أولئك الذين يدعون للاختلاط والتبذل وصموه بالتخلف، وما علموا أن صنيعهم هو التخلف بعينه، وإذا أردت الدليل على ذلك فانظر إلى انحطاط خصائص الجنس البشري في الهمج من العراة الذين لا يزالون يعيشون في المتاهات والأدغال على حال تقرب من البهيمية؛ فإنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا.
ويستطيع المراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادت نسبة المساحة الكاسية من أجسادهم.
كما يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها تعود في هذا الطريق القهقرى درجة درجة حتى ينتهي إلى العري الكامل في مدن العراة التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة.
__________
(1) رواه البخاري (5242)، ومسلم (2172)، وأحمد 4/49_153، والترمذي (1171)، والدارمي (2645).
(2) مسلم (2172) وانظر تفصيل الحديث عن الحمو في كتاب: أخطاء في مفهوم الزواج للكاتب ص94_97.(3/52)
ونحن إذا احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب وتفوقه في الصناعات الآلية التي كانت سبباً في مجده وسيادته _ فمن المؤكد أننا لسنا في حاجة إلى استيراد قواعد في السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الأمارات، والبوادر أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته، والقضاء عليها قضاء تاماً في القريب العاجل.
إننا نحتاج إلى مواد البناء؛ لأن لدينا من عوامل الضعف والهدم ما يكفي، ومن مصائبنا نحن الشرقيين أننا لا نأخذ المصائب كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة.
ومع ذلك تجد من أبناء جلدتنا من لا يصيخون السمع إلى هداية الدين.
بل هم يلحدون في آيات الله، فيميلون بها عن وجهها حيناً، ويجادلون فيها أشد المجادلة حيناً آخر.
في الوقت الذي يخضعون لهذه المزاعم الداعرة، ويرونها فوق النقاش والمراء.
هؤلاء قوم لا تقوم عندهم الحجة بالقرآن والسنة، ولكنها تقوم بهذه الظنون والأوهام؛ فإذا عارضتهم بالثابت من قول الله ورسوله _ وهم يزعمون أنهم مسلمون _ لوَّوا رؤوسهم، وقالوا: نحدثك في العلم، فتحدثنا في الدين؛ وكأن هذه الأوهام عندهم أثبت من الشرع المطهر.
أترى فرقاً بين هؤلاء، وبين أمم خلت من قبلهم من الضالين كانوا يقولون إذا ذكروا بآيات الله: [قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ](الأنفال: 31)؛ [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ](النحل: 25)(1).
وبالجملة فإن الحقيقة الماثلة للعيان تقول بأن الاختلاط والتبرج أقرب الوسائل إلى تلويث الأعراض، ونكد العيش، وأنهما إلى ابتذال المرأة أقرب منهما إلى كرامتها، وإلى عنائها أقرب منهما إلى راحة بالها.
__________
(1) انظر حصوننا مهددة من داخلها د. محمد محمد حسين ص69_80.(3/53)
كما تقول الحقيقة _ أيضاً _ بأن الحشمة والحياء والوقار والستر _ هي من أعظم أسباب سعادتها، وعزها، وراحة بالها، ووفور كرامتها(1).
هذا وللأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي×كلام جميل حول هذا المعنى، وهو مبثوث في أماكن متفرقة من كتبه، وخصوصاً كتابه وحي القلم، فمما قاله ×:
=يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة واحدة من حرية المرأة وعلْمها.
أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا في العقبات النسائية عقبة بعد عقبة+(2).
وقال: =فما هي المرأة بدون التقاليد؟ إنها البلاد الجميلة بغير جيش، إنها الكنز المخبوء مُعَرَّضاً لأعين اللصوص تحوطه الغفلة لا المراقبة.
هب الناس كلهم شرفاء، متعففين متصاونين؛ فإن معنى كلمة (كنز) متى تركت لها الحرية، وأُغْفِل من تقاليد الحراسة أوجدت حريته هذه بنفسها كلمة (لص)+(3).
وقال: =إن نفس الأنثى لرجل واحد؛ لزوجها وحده+(4).
وقال: =وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في الاجتماع، وصونها من التبذل الممقوت؛ لضبطها في حدود كحدود الربح من هذا القانون الصارم: قانون العرض والطلب، والارتفاع بها أن تكون سلعة بائرة ينادى عليها في مدارج الطرق والأسواق+(5).
وقال: =ولقد جاءت إلى مصر كاتبة إنجليزية، وأقامت أشهراً تخالط النساء المتحجبات، وتدرس معاني الحجاب، فلما رجعت إلى بلادها كتبت مقالاً عنوانه: =سؤال أحمله من الشرق إلى المرأة الغربية+.
__________
(1) انظر حصوننا مهددة من داخلها ص69_80، ووحي القلم 1/204، ورسائل الإصلاح 2/223.
(2) وحي القلم 1/162.
(3) وحي القلم 1/163_164.
(4) وحي القلم 1/131.
(5) وحي القلم 1/195.(3/54)
قالت في آخره: =إذا كانت هذه الحرية التي كسبناها أخيراً، وهذا التنافس الجنسي، وتجريد الجنسين من الحجب المشوّقة الباعثة التي أقامتها الطبيعة بينهما _ إذا كان هذا سيصبح كل أثره أن يتولى الرجال عن النساء، وأن يزول من القلوب كل ما يحرك فيها أوتار الحب الزواجي؛ فما الذي نكون قد ربحناه؟
لقد _ والله _ تضطرنا هذه الحال إلى تغيير خططنا، بل تستقر طوعاً وراء الحجاب الشرقي؛ لنتعلم من جديد فن الحب الحقيقي+(1).
وقال: =ليس لامرأةٍ فاضلة إلا رجُلها الواحد؛ فالرجال جميعاً مصائبها إلا واحداً+(2).
وقال: =احذري أن تخدعي عن نفسك؛ إن المرأة أشد افتقاراً إلى الشرف منها إلى الحياة+(3).
وقال: =احذري السقوط؛ إن سقوط المرأة؛ لهوله وشدَّته ثلاث مصائب في مصيبة: سقوطها هي، وسقوط من أوجدها، وسقوط من توجدهم+(4).
وقال: =والمرأة التي لا يحميها الشرف لا يحميها شيء، وكل شريفة تعرف أن لها حياتين: إحداهما العفة.
وكما تدافع عن حياتها الهلاك تدافع السقوط عن عفتها؛ إذ هو هلاك حقيقتها الاجتماعية.
وكل عاقلة تعلم أن لها عقلين، تحتمي بأحدهما من نزوات الآخر، وما عقلها الثاني إلا شرف عرضها+(5).
وقال: =وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها، وتهجَّمت؛ أي توقَّحت، أي تبذلت _ استوى عندها أن تذهب يميناً أو تذهب شمالاً، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق.
وصاحبات اليمين في كنف الزوج، وظل الأسرة، وشرف الحياة وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال... ؟+(6).
وقال: =فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق _ فلا تَعُدَّنَّهُ من فرط الجمال، بل من قلة الحياء+(7).
25_ قلة الوفاء للزوج:
__________
(1) وحي القلم 1/205.
(2) وحي القلم 1/265.
(3) وحي القلم 1/266.
(4) وحي القلم 1/266_267.
(5) وحي القلم 1/293.
(6) وحي القلم 1/302.
(7) وحي القلم 1/302.(3/55)
فبعض النساء تقوم بواجب زوجها طالما أنه في حال صحته، وشبابه، وغناه، ومكانته المرموقة.
فإذا زلت به القدم؛ فمرض بعد صحة، أو افتقر بعد غنى، أو نزل بعد رفعة، أو هرم بعد شباب _ تنكرت له، وقلبت له ظهرت المجن، فلم تعد تصافيه، أو تُعنى بشأنه، أو تمحض له صفو الوداد.
وما ذلك بطبع الكريمات وعُقْليات النساء؛ ذلك أن الثبات على صدق الوفاء من أفضل ما تتحلى به النساء.
ولهذا درجت المرأة المسلمة على مواتاة زوجها، ومصافاته، واستخلاص نفسها له، واحتمال نبوة الطبع منه.
وأكثر ما كان صفاء نفسها وسماح خلقها، وعذوبة طبعها _ إذا تبدلت حال الزوج من أعلى إلى أدنى، كأن يُرزأ في ماله، أو ينكب في قوته، أو أن يصاب بجاهه ومنصبه، أو أن يبتلى بصحته وعافيته.
بل لقد كان وفاؤها له بعد عفاء أثره، وامّحاء خبره _ عديلَ وفائها له وهي بين أفياء نعمته، وأكناف داره.
وكان إيثارُ الإسلام له بمدّ حدادها عليه أربعة أشهر وعشرة أيام، لا تتجمل في أثنائها، ولا تفارق دارها إلى دار أبيها _ سنةً من سنن هذا الوفاء، وآية من آياته.
لذلك كانت المرأة المسلمة الوفية ترى الوفاء لزوجها بعد موته آثر مما تراه لأبيها وأمها وذوي قرابتها؛ فكانت تؤثر فضائله، وتذكر شمائله في كل موطن ومقام(1).
تقول الذلفاء ترثي زوجها نجدة بن الأسود:
سئمت حياتي حين فارقت قبره ... ورحت وماء العين ينهل هامله
وقالت نساءُ الحيّ قد مات قبله ... شريف فلم تهلك عليه حلائله
صدقن لقد مات الرجال ولم يمت ... كنجدة من إخوانه من يماثله(2)
ويكفي في هذا المقام مثالاً على صدق الوفاء الذي ينبغي للمرأة المسلمة أن تجعله نصب عينها _ ما كان من فاطمة بنت عبدالملك مع زوجها عمر بن عبدالعزيز، وإليك ذلك الخبر:
__________
(1) انظر عودة الحجاب 2/531.
(2) الهداية الإسلامية للشيخ محمد الخضر حسين ص60.(3/56)
إن فاطمة هذه هي ابنة أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان، وكان لأبيها _ يوم تزوجت _ السلطان الأعظم على الشام، والعراق، والحجاز، واليمن، وإيران، والسند، وقفقازيا، والقريم، وما وراء النهر إلى بخارى وجنوة شرقاً، وعلى مصر، والسودان، وليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، وأسبانيا غرباً.
ولم تكن فاطمة بنت الخليفة الأعظم وحسب، بل كانت كذلك أخت أربعة من فحول خلفاء الإسلام، وهم الوليد بن عبدالملك، وسليمان ابن عبدالملك، ويزيد بن عبدالملك، وهشام بن عبدالملك.
وكانت فيما بين ذلك زوجة أعظم خليفة عرفه الإسلام بعد خلفاء الصدر الأول، وهو عمر بن عبدالعزيز ولهذا قيل في فاطمة:
بنت الخليفة والخليفة جدها ... أخت الخلائف والخليفة زوجها
وهذه السيدة السَّرِيَّة خرجت من بيتها إلى بيت زوجها يوم زفت إليه وهي مثقلة بأثمن ما تملكه امرأة على وجه الأرض من الحلي والمجوهرات.
ومن فضول القول أن عروس عمر بن عبدالعزيز كانت تعيش في بيت أبيها في نعمة لا تعلو عليها عيشة امرأة أخرى في الدنيا لذلك العهد.
إلا أن الخليفة الأعظم عمر بن عبدالعزيز اختار _ في الوقت الذي كان فيه أعظم الملوك _ أن تكون نفقة بيته بضعة دراهم في اليوم، ورضيت بذلك زوجته التي كانت بنت خليفة، وأخت أربعة خلفاء؛ فكانت مغتبطة بذلك؛ لأنها قد تذوقت لذة القناعة، وتمتعت بحلاوة الاعتدال، فصارت هذه اللذة، وتلك الحلاوة أطيب لها وأرضى لنفسها من كل ما كانت تعرفه قبل ذلك من صنوف البذخ، وألوان الترف.
بل اقترح عليها زوجها أن تترفع عن عقلية الطفولة، فتخرج هذه الألاعيب والسفاسف التي كانت تبهرج بها أذنيها، وعنقها، وشعرها، ومعصميها مما لا يسمن، ولا يغني من جوع، ولو بيع لأشبع ثمنه بطون شعب برجاله، ونسائه، وأطفاله.
فاستجابت له، واستراحت من أثقال الحلي، والمجوهرات، واللآلىء، والدرر التي حملتها من بيت أبيها، فبعثت بذلك كله إلى بيت مال المسلمين.(3/57)
وتوفي عقب ذلك أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز×ولم يخلف لزوجته وأولاده شيئاً؛ وبعد زمن طويل من وفاته وولاية أخيها الثالث يزيد بن عبدالملك قال لها أخوها الخليفة: =إن حُليّك التي وضعت في بيت المال هي من مالك الحلال، ولا تزال محفوظة بعينها كما كانت، فهل تحبين أن أردها عليك؟+.
فأجابته: =إن أمير المؤمنين عمر قد استحسن أن تكون هذه الأشياء حيث هي الآن، وأنا قد وافقته على ما استحسن، وما كنت لأطيعه حيَّاً، وأعصيه ميتاً+.
قالت هذا وهي وأولادها أحوج الناس إلى دريهمات تكفيها وأولادها، فأبت أن تسترد مالها الحلال الموروث الذي يساوي الملايين الكثيرة.
وبذلك كتب الله لها الخلود، فها نحن نتحدث عن شرف معدنها، ورفيع منزلتها بعد عصور وعصور، رحمها الله وأعلى مقامها في جنات النعيم(1).
26_ قلة تقوى الله بعد فراق الزوج:
فمن الزوجات من إذا فارقها زوجها بخلع أو طلاق _ أسرفت في ذمه، وتنفير الناس منه، وربما افترت عليه العيوب من تلقاء نفسها.
ومن قلة التقوى بعد الفراق ذم الزوج عند أولادها منه، وتحريضهم عليه، وأمرهم بعقوقه وهجرانه.
وهذا العمل لا يصدر من ذات الدين والخلق؛ فاللائق بالزوجة أن تتقي الله _ عز وجل _ بعد فراق زوجها، فلا تذكره بسوء، بل تستر عليه عيوبه، وتفارقه بإحسان.
كما عليها أن تحث أولادها منه _ إن كان لها أولاد _ على بر والدهم، والإحسان إليه، وأن تحذرهم عقوقه، والإساءة إليه.
وإلا فستكتوي بنار العقوق؛ فالجزاء من جنس العمل، وعلى نفسها جنت براقش.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبعد:
ففي خاتمة التطواف في هذا البحث يتضح لنا عظم حق الزوج، ومدى الخلل الذي يحصل من جراء تقصير الزوجة فيه.
__________
(1) انظر: مع الرعيل الأول للشيخ محب الدين الخطيب ص227_228، ومقدمة الشيخ محب الدين الخطيب ص227_228، ومقدمة الشيخ محب الدين الخطيب لآداب الزفاف في السنة المطهرة للشيخ الألباني ص84_88.(3/58)
ويتضح لنا مدى الحاجة إلى تعاون الزوجين، وقيام كل واحد منهما بواجبه؛ فهما يمثلان في تقارنهما شطري البيت من الشعر، والبيت من الشعر لا يحسن أن يكون أحد شطريه محكماً والآخر متخاذلاً.
وإنما يحسن وقعه، وتتهاداه الألسن والأسماع إذا كان شطراه منسجمين يسعد أحدهما الآخر في تأدية المعنى الذي صيغا من أجله.
وكذلك الزوجان لا تزدهي حياتهما إلا إذا انسجما، وقام كل منهما بنصيبه من حق الزوجية، وظلا يعيشان في منزل ظهارتُه المهابة، وبطانته الصيانة(1).
وأخيراً أحمد الله على تيسيره وإعانته، وأسأله القبول والإخلاص في القول والعمل، وأن يجزي خير الجزاء كلَّ من أعان برأي، أو تصحيح، أو أي جهد في سبيل إخراج هذا الكتاب.
كما ألتمس العذر من الزوجات الكريمات إن كان هناك من قسوة، أو شدة.
[إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] (هود: 88).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المحتويات
_ المقدمة. ……
_ من أخطاء الزوجات:
1 _ المبالغة في تطلب الكمال. …
2 _ قلة مراعاة الزوجة لوالدي الزوج. …
3 _ تبذل الزوجة وقلة تجملها لزوجها. …
4 _ كثرة السخط وقلة الحمد.
5 _ المنة على الزوج. …
6 _ إخبار الآخرين بمشكلات المنزل. …
7 _ قلة المراعاة لمكانة الزوج ووضعه الاجتماعي. …
8 _ قلة إعانة الزوج على البر والتقوى. …
9 _ إرهاق الزوج بكثرة الطلبات. …
10_ إقلاق الزوج بكثرة الارتباطات. …
11_ النشوز والتمرد على الزوج. …
12_ الامتناع على الزوج إذا دعاها للفراش. …
13_ التقصير في خدمة الزوج. …
14_ إدخال من لا يأذن الزوج بدخوله في البيت. …
15_ الخروج من المنزل دون إذن الزوج. …
16_ طاعة الزوج في معصية الله. …
17_ المبالغة في الغيرة على الزوج. …
__________
(1) انظر الهداية الإسلامية ص60.(3/59)
18_ سوء تصرف المرأة إذا عدَّدَ زوجها. …
* وصايا للزوجة إذا عدد زوجها تعينها على تحمل المصيبة. …
19_ التقصير في تربية الأولاد. …
20_ قلة المراعاة لأحوال الزوج ومشاعره. …
21 _ إفشاء سر الفراش. …
22_ وصف المرأة النساءَ لزوجها. …
23_ التبرم من قوامة الرجل. …
24_ اختلاط الزوجة بالرجال، وتبرجها أمامهم. …
25_ قلة الوفاء للزوج. …
26_ قلة تقوى الله بعد فراق الزوج. …
_ الخاتمة.
_ المحتويات.(3/60)