ومن يكُ رهناً للحوادثِ يَغْلقِ
رؤية تطويرية للصحوة الإسلامية
د. علي بن حمزة العُمري
رئيس جامعة مكة المكرمة المفتوحة
www.alomarey.net
Email: A.mh3@hotmail.com
ص.ب: 35023 جدة 21488
إنْ تَسَلْ أين قبورُ العظما
فعلى الأفواهِ أو في الأنفسِ
الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1429هـ - 2008م
توزيع
مؤسسة الأمة للنشر والتوزيع
الرياض
هاتف: 2481705/01
وجرّبتُ في عمْري أموراً كثيرةً
فأدركتُ أنَّ العقلَ عقلُ التجاربِ
{ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ }
كنت إبّان مكوثي في سوريا في المرحلة الابتدائية أصيح مع أصدقائي بنغمة واحدة في طابور الصباح (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة)!!
وبعد مرور عقود على هذه الشِّعارات أصبحتُ كلما أتذكرها أضحك وأبكي في وقت واحد!
أضحك لأنه كان هناك من يحلم بالأمة العربية ولو بالوكالة، وأبكي لأن هذا الحلم كان من الشيطان!
ولا أدري ما الذي دفعني لأتذكّر في هذه اللحظة تلك الشعارات، وأسقطَها على واقعنا. ربما كانت أنشودة "ياحمام" لـ "فهد الكبيسي" التي دفعها إليّ أحد الأصدقاء الطيبين لسماعها والحكم عليها.
فقلت للصديق: أتسألني عن كلماتها، أم عن لحنها، أم عن مؤثراتها وآلاتها المصاحبة؟! أما إن سألتني عن آلاتها فقد بينتُ رأيي في كتابي الذي تعرفه وأظنك تعرف دقائقه، وأما إن سألتني عن كلماتها فما أظنك جئت إلا وقد استهوتك الكلمات، وأما إن سألتني عن اللحن، فالناس أذواق، ولا يهم اختلفنا أم اتفقنا!
ولكني سأسألك يا صديقي: هل كان لهذه الكلمات التي أعجبتك دور إيجابي في حركتك وسمتك؟
وأود أن أسألك كذلك هل سمعت هذه القصيدة مرةً واحدةً أو مرات؟
فقال: مرات ومرات! وأنا مقتنع بقيمتها وجودة معانيها، ولعلها من أمثلةِ الغناء الإيجابيّ الذي تحدّث عنه بعض المشايخ مثل : شلتوت والطنطاوي والقرضاوي والزرقاء والغزالي..!!(1/1)
فقلت: أنت مطَّلع إذاً بشكل جيد، ويظهر لي أنّك استفدتَ ذلك كله من الإنترنت.
قال: نعم!
- - -
إنّ الحديث عن الصحوة وهمومها، والتغيرات التي طرأت عليها ما بين سدّ للذرائع وفتح لها حديثٌ يطول، وكلما تذكره المرء يفرح ويبكي، تماماً كما كنت أفرح وأبكي كلما تذكرت الشعارات السابقة!!
وما من شك أن الصحوة قدمت الكثير والكثير، وعين المنصف ونفسية المتعافي، وعقل الراشد يدرك إسهام الصحوة في تماسك المجتمع أمام تيارات التغريب الداخلي والعدوان الخارجي، ويدرك أنها فتحت أبواباً شتى في المجال العلمي والتعليمي والتربوي والإنساني والاجتماعي، وواكبت التطورات في عالم الإنترنت، والمشاركة المدنية بقدر ما أوتيت من جهد ومال ووعي. والحديث عن الصحوة إنما هو في أقطار الدنيا كلها.
كما أنها أخفقت وتراجعت في جوانب تختلف نسبتها حسب البيئات، وعقلية القيادات.
واليوم تمرّ الصحوة بعصر لم تتوقعه، ولم تحسب له حساباً، ولم تُقدِّم له خططاً استشرافية أو بعيدة المدى، لأنها لم تعرف هذا العلم وتفكِّر بآلياته إلا في هذا العقد الأخير!!
ومع هذا فقد كان ببركة المخلصين المستنيرين التوفيق، وفتح باب الأمل للناس في محيط الانفجارات العلمية والتفجيرات الإنسانية، والكلام عن صناعة الحياة!(1/2)
لقد وجدتِ الصحوة نفسها في قلب عالم مليء بالمتغيرات والمتناقضات، فبينما كانت مسارات التلقي في الماضي تنحصر ما بين شريط كاسيت مدعوم، وكتيبات موزعة توزيعاً مدروساً وآخر عشوائياً، وفتاوى محصورة بشخصيات علمية وأخرى دعوية، إذْ بالأبواب تفتح، وتُفاجأُ الصحوةُ بمثل ما فوجئتُ به عند حديثي لأحد الأصدقاء عندما رأيت ثوبه طويلاً، فقلت له بهدوء عبارة الفاروق رضي الله عنه: ارفع ثوبك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك، فضغط على زر في جهازه الصغير "اللاب توب"، وفتح لي ملفاً مليئاً بأقوال الفقهاء الأقدمين والمعاصرين عن الخلاف في هذه المسألة، مخرَّجَ الأحاديث، محقَّقَ الأقوال!!
وهنا مربط الفرس كما يقال!
- - -
إننا يجب أن نعترف ابتداء أننا في زمن أصبحت معطياتُه مختلفةً عن المعطياتِ السائدة في مرحلة سابقة، وأنَّ الاعتماد على صورة نمطية من الأوصاف والألقاب، وحشد جملة من الأقوال لمنع شخصيات وآراء لم يعد مجدياً ولا مقنعاً ما لم تكن الحجة واضحة فضلاً، والمصداقية لائحة، والموضوعية ظاهرة.
كما أن القاعدة التي اتكأت عليها بعض مدارس الدعوة ومفادها أن وسائل الدعوة توقيفية قد تجاوزها الخطاب الصحوي المعاصر، بل إنَّ الجيل المعاصر حرَّك القواعد التي لم تتحرك من قبلُ عند أساطين العلماء كقاعدة سدِّ الذرائع التي ذهبَ هذا الجيل إلى أنها قابلة للفتح كما هي عبارة ابن تيمية الحرَّاني رحمه الله.
والصحوة الأولى وإن كانت (ملمومة) على نفسها، إلا أنها لم تتشبع بالعافية الكافية والطمأنينة التي تبلغ بها حدَّ السكينة والورع.
فقد تفشّى في بعضها جوانب من الترهل الفكري، والتراجع الفقهي، والخلل الإداري، والتخبط السياسي.
وأسهم ولم يزل في هذا القصور بعض رموز قادة الدعاة والأتباع الطيبين، وزاد أوارها المتفلسفون على السلف الصالحين والدعاة المصلحين، المتورطون بالحسبة على دعاة الأمة وفضلائها!!
- - -(1/3)
وفي الوقت الذي كانت فيه المساومة على البقاء والمواجهة في مقابل التردد والانحسار، جاء الزمن الذي أصبح فيه اللعب بالنار!
فضائيات واسعة خاصة وعامة، وشبكات إنترنت ومنتديات ضخمة، واستثمارات مالية وفورات كسب عارمة، أجهزة حاسوب صغيرة تحمل (1000 جيجا)، وأسطوانات وأصابع ممغنطة، وشرائح اتصالات، وطرائق تواصل متعددة!!
وهنا ظهرت نغمةٌ مختلفةٌ في الكلام على الصحوة ورجالاتها ، وبدأ الحديث عن (عيوب) للصحوةِ مثل: الانحسار والتراجع، وبُطء النمو الثقافي العلمي، وتراجع الدور التربوي والنشاط التقليدي، وظهرت بوادرُ التمرّد على الطرائق النمطية في الدعوة، أو الانصياع لفتوى مقننة! وراجت فكرةُ إقناع العامة بالمشاركات الخيرية، والتداخل في صفوف الناس، وتوضيح صورة الدعوة عبر الفضائيات، والغزو الفني الهادف، وفي ظل ذلك كله نشأتْ ظاهرة الدعاة الجدد!
وكثرتْ التحليلات والتوصيفات وكذلك (التقويمات) لواقع الصحوةِ الجديد ...
والحق أن كل المحللين على حق! فيمكن القول: إن الصحوة اليوم:
1- تسير نحو خط الاقتناع والتأمل والمراجعة.
2- تميل إلى فقه العافية، والقرب من العامة.
3- تنطلق نحو المشاريع البنائية الطموحة.
كما أنها كذلك:
1- تحتاج إلى القيادات الموجهة والمربية العاملة، ذات الفهم الشرعي، والوعي الواقعي، والنَفَس التربوي.
2- تتعثر في مسارات العمل المفتوح في المجالات المختلفة.
3- تقترب من العفوية والتشتت في المشاريع المركزية.
ومع هذا وذاك فهي لا زالت تحقق نجاحاتها في التأثير التربوي في محيط المجموعات، وتجيد فنّ الحديث مع القيادات السياسية مما أكسبها قوة، وقدرةً على تحييد كثير من الأزمات والسلبيات.
- - -(1/4)
واليوم وفي عصر العولمة والسرعة، لا مجال للتهارش والتخاصم، وإنما هو الجدال بالتي هي أحسن، ورفع قابلية التفاهم والتنافس الشريف، والانطلاق من مبدأ التعاون على البر والتقوى، والسعي للإصلاح والاستخلاف في الأرض، بعقيدة السلفي، وحيوية الحركي، وعقلية الفكري، ومنهجية الخُططي، وروحانية التبليغي، ليكون الجميع على نَفَس واحد، ويعملون تحت شعار واحد "هو سمّاكم المسلمين". ولسنا نريد إلغاء الأسماء والمشروعات، إنما تصحيح الأخطاء، واستدراك الهفوات، وتحريك الراكد، وتوحيد النظرات، والاتحاد في الكليات، والتفاعل لتحقيق كبرى المنجزات، وذلك عبر عشر منظومات تمثِّل رؤية إصلاحية تطويرية للصحوة الإسلامية.
- - -
( إحياء علوم الدين:
وذلك من خلال توزيع جملة من المتمكنين في التخصصات الإسلامية، المطلعين على الفكر المعاصر إلى طائفتين تكمل إحداهما الأخرى، ويعي كل منهما دور الآخر.
? فالأولى تنقسم إلى قسمين، أحدهما: للمطالعة المكثَّفة المركزة لتراث الفقهاء بكافة مدارسهم، والوعي التام بحقيقة أقوالهم، وما يتطلبه ذلك من مُكْنة كافية في علوم الآلة، وكيفية الاستفادة من الأجهزة المتطورة. والأخرى تتجه صوب اختيارات المتأخرين من المعاصرين كالشوكاني وشلتوت وابن باز وابن عثيمين والقرضاوي وعبدالكريم زيدان، إضافة إلى قرارات المجامع والمجالس الفقهية في كافة الأقطار، مع الاستعانة بالوسائل المعاصرة عبر الموسوعات والفتاوى المبرمجة.
ويمكن لهذا الفريق أن يلتقي لقاءات دوريَّة أسبوعية للمناقشة والمقابلة وتحريك الأقوال ضمن منظومة علمية منهجية، بغيةَ الوصول إلى رؤى وتصورات فقهية واجتهادات تجميع بين الأصل والعصر، بأساليب معاصرة وضوابط ومعايير منهجية واضحة ومقنعة ومدلَّلة، ويمكن أحياناً أن يكون للمنتدى الفقهي على الإنترنت دور في ذلك.(1/5)
وتندرج في عمل هذه المجموعة عشرات القضايا التي تبعث بها لجان الدعوة، وما تجيشُ به نفوس جيل الصحوة من تساؤلاتٍ في مجالات مختلفة كالعمل الفني والإعلامي، والتجاري والعمل الحر... وأمثال ذلك.
مع الإجابة عمَّا يمكن أن يكون شبهة أو شكاً، ولو لم يكن في حقيقته كذلك، ولكنه التوضيح، والإعذار لهذه الطائفة ولو قلَّت!
كما يتم - عبر هذه المجموعة - الكشف عن الأخطاء والتجاوزات التي وقع فيها جملةٌ من قيادات جيل الصحوة وأفراده بغير حجة، أو نتيجة الاعتماد على آراء الأشخاص دونما مراجعة أو تمحيص، وما أدى إليه ذلك من مشكلات.
ويكون من الأدوار المهمة لهذه الطائفة نشر ملخَّصات علمية، سهلة الفهم، موثَّقة النصوص والنقول، مع الاستنارة بآراء العلماء المتمكنين الربانيين، وتقديمها لجيل الصحوة.
- - -
? وفي المجال الفكري تنطلق طائفة أخرى للمرور على كتب الأقدمين واستخلاص رؤاهم الفكرية التي تمثّل نظرات دعوية - وهي كثيرةٌ في كتب ابن تيمية وابن القيم والغزالي والشاطبي والعز بن عبدالسلام، وابن حزم، وابن الجوزي، والأصفهاني، وأمثالهم - وتداولها في مجالس متعددة، لتنقيتها وتصفيتها، واستخلاص ما وافق منها الشرع، وما كان منها بحاجة إلى تجلية وتقريب، أو تأصيل وإعادة نظر.
ثم يكون بعد ذلك رسم قواعد منضبطة، وإسقاطات صحيحة، تسهم في الريادة، وبناء الحضارة، والخروج من أزمات في الأمة غاب عنها الوعي المعاصر.
? وإذا كان من نعم الله على جيل الصحوة الاهتمام بالدروس العلمية، وإحياء منهج السلف في التلقي، وخاصة مع وجود المعاهد العلمية، والبرامج الأكاديمية في الفضائيات، فإن هذه اليقظة العلمية بحاجة إلى استثمار يكون له واقع ملموس في الميدان. وحتى يتم ذلك، فلا بد من مراجعة الأمور التالية:
1- هناك عشرات الدورات الشرعية المكرورة، وإعادتها بطريقة عشوائية أو غير ممنهجة لا يحقق الهدف المأمول.(1/6)
واللافت للنظر في هذه الدورات الإلحاح على تكرار شرح بعض المتون الصغيرة، مع أنّها قد سُجّلت صوتياً وتلفزيونياً وخرجت للناس على هيئة كتابٍ وشريط !
والسؤال هنا: ما الداعي لإعادة شرح هذه الكتب مرَّات ومرَّات، وهي لم تأت بجديد، ويمكن الحصول عليها مسموعة ومشاهدة ومكتوبة؟
إن الإضافة الوحيدة التي تنفع في الإعادة هي إمكانية السؤال عما أشكل والأخذ من سمت الشيخ وهديه.
ويمكن في تقديري إحالة الطلاب لهذه الدروس، ومن ثمَّ مناقشتها مع الطلاب، فهذا أجدى من التكرار والإعادة!
والاشتغال من ثمَّ بالكتب التي لم تشرح، وفيها مزايا وفوائد تنفع الدارسين.
والعبرة في الدورات ليست بعدد الحضور، وإنما بعدد المستفيدين ونوعية استفادتهم.
وأرى أن يقسم الطلبة إلى مجوعتين:
أ) مجموعة قد لا يتجاوز عدد الدارسين فيها خمسين طالباً يتناقشون ويتحاورون ويكتبون البحوث الجادة، ويعطون الوقت الكافي للسؤال، والإتقان والضبط وإحكام المسائل.
ب) ومجموعة أخرى تقدم لها دروس أخرى، تناسب مستواها، ولابد من إعطائها وسائل للمراجعة والاستذكار.
- - -
2- في حلقات تحفيظ القرآن الكريم وخاصة (المقارئ) خير عظيم ونافع، ولابد مع الحفظ من التركيز على البرامج المتعلقة بالقرآن، تفسيراً، وتدبراً، وفهماً.
إذ ليس المأمول أن يحفظ الطالب القرآن دون أن يتلذذ بالخطاب الرباني، ويعيش مع أسراره وعجائبه، و يفقه مدلولاته وبعض أحكامه.
إن الحافظ يجب أن يصطبغ بالقرآن العظيم، ومن دور المقارئ على أقل تقدير أن لا تتنازل عن تدريس الطلاب (التفسير الموضوعي) لسور القرآن.
إن تجارب الصحوة في كثير من أقطارها تثبت أنه ليس هناك اهتمام بالعيش مع القرآن.
واختبار يسير لآلاف الحفظة عن معاني الآيات، وكتب المفسرين، وأسرار بعض السور، وأحكام بعض الآيات يظهر الحقيقة.
ولا شكَّ أن هناك اهتماماً من بعض المعاهد والمراكز والمقارئ والحلقات القرآنية، ولكنها لا تعم الشريحة الأكبر.(1/7)
وسرّ قوة الصحوة في تمسكها بكتابها، تمسكاً يجعل القارئ له قرآناً يمشي على الأرض. وهو الإنسان الرباني الذي توقفه حدود الله، ويحركه العمل الصالح. ولا أظن أن واقع الصحوة يدل على التمسك المطلوب!
ولست أعني بكلامي هذا العموم مطلقاً، ولا أنّ أحداً من رجالات الصحوة يتعمّد إقصاء مناهج القرآن وعلومه، ولكنني فقط أشير إلى أهمية وضرورة تعميق الحرص على تأهيل أهل القرآن.
- - -
3- للحديث النبوي بركة ونور، والاشتغال بحفظ الحديث، ودراسة علمه حفظ للدين!
والدورات العلمية في حفظ السنة مشروع عظيم مبارك، وتبسيطه للطلاب في مناهج معاصرة أمر مشكور.
ولكنَّ قطاعاً عريضاً انشغل بالحفظ، وليس له اطلاع على "فتح الباري" أو "معالم السنن"، أو "نيل الأوطار" وأمثال ذلك.
وهذه الغفلة عن التعاطي مع شروح الحديث وكلام الأئمة فيه أفضى إلى إدراك ناقصٍ أو مشوّه لمعاني الأحاديث ودلالاتها مما أفضى إلى أزمةٍ فكريةٍ خطيرةٍ ، إذ النصوص النبوية هي عمادُ المنهج الفكري للمسلم ، فمتى ما فهمت على غير وجهها فعلى هذا المنهج السلام !
فالكثير من الأزمات السياسية، المتمثلة في (التكفير، الحاكمية، ...).
والأزمات الاجتماعية، المتمثلة في (الهجر، الحقوق، ...)
والأزمات الدعوية المتمثلة في (وسائل الدعوة، وأساليب الخطاب، ...)
والعشرات من القضايا التي أدت في مجملها إلى التنازع والتفرق والتخلخل والانكفاء والتعويق والتحذير والتراجع والشطح، كل هذه الأزماتِ مردّها إلى عدم القدرة على القراءة الصحيحة (للنص الديني) المتمثل بشكل خاص في السنة النبوية.
وقد لاحظنا أن كثيراً من العلماء المعاصرين على تنوع فهومهم ومدارسهم، ما كانوا يقللون من شأن بعضهم البعض، أو ينشغلون بالردود، وذلك لما أسهمتْ به المجامع الفقهية واللجان الشرعية من فرص اللقاء، وتبادل الرأي، وبسط الود، وإفشاء السلام!(1/8)
وما انشغل بالردود غير المنهجية، إلا من عزل نفسه بنفسه، أو لم يكن أهلاً لأن يصعد على منصة المجامع الفقهية!
وللأسف فإنّ أجيالاً متعددة من الصحوة غابت عن قيمة هذه اللقاءات، وطبيعة الأدب المتبادل، والحوار العلمي الأصيل، بين علماء ودعاة العصر.
وما طفا على الساحة إلى الزبد !
وأعود فأقول: إن إيضاح أدب التعامل مع الحديث النبوي، والمعالم المهمة في كشف دلالات الحديث النبوي، واجب علماء الشريعة، خاصة في قضايا العصر.
والحمد لله أنه مع عالم الطباعة والإنترنت اليوم انتشرت كثير من الرسائل المعاصرة التي بحثت بحثاً جيداً. إلا أنه من المؤسف أن أجيالاً كثيرة تتخبط في نفس المسائل التي قد بحثت وقتلت بحثاً:
كالعيسِ في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمولُ
وسيكون من دور المتخصصين اللازم في هذه المرحلة المجالسة المستمرة مع المقتدرين على تحويل ما حفظوه في الدورات، وما أداموا الاطلاع عليه من مناهج ومقررات إلى وعي إسلامي، يؤصل للمسائل بعمق، وأمانة، وتحرٍ، مع كامل الأدب والورع.
- - -
4- إن من بلايا بعض المنتسبين للشريعة، المحسوبين على الأنظمة، تقليل دور (الفقه السياسي)، وما ينطوي تحته من فروع، وهي أخطر مسائل العصر!
وما قامت به مجموعات العنف بنوعيه (البدني) و(الفكري) هو نتاج طبيعي لأنها غُيبَّت عن قيمة الفقه السياسي.
وأصبح من النادر أن تحل المجموعات الصحوية قضاياها ببناء الحضارة، والتأسيس من تحت، كما يقول شكيب أرسلان -رحمه الله-.
وأكبر معاناة تمر بها الأمة الإسلامية اليوم معاناة السيطرة العالمية على وجهٍ لم يمر عليها في قرونها المتطاولة،!
وهذه السيطرة (سياسية) وتقتضي فقهاً سياسياً شرعياً يتعاملُ معها.(1/9)
لست أدعو إلى صرف الوقت في الجدل العقيم، والمناوشات البائسة حول نظرية المؤامرة أو عقدة المؤامرة وكلاهما صحيح! وإنما لابدّ من التنظير الشرعي والواقعي لآليات التعامل مع العداء الغربي الذي آل إلى مذابح وحروب لم يكن لها مثيل.
ويبقى السؤال: ما هو الدور الشرعي في المسألة، وما علاقته بالسياسة؟!
والجواب: أننا إذا عدنا للتاريخ فسنرى دور علماء الدين في تصحيح المسيرة الإسلامية. أولئك العلماء الذين جمعوا بين العلم الشرعي والوعي السياسي، فكانت مواقفهم وفتوحاتهم خير عنوان!
ولو أخذنا شاهداً واحداً ماثلاً وقريباً هو دور علماء الأزهر في الحفاظ على هذا الصرح، ومقاومة حملة نابليون اللعينة لرأينا كيف يمزجُ القائد الرباني بين الملكة الفقهية والرؤية السياسية.
إن دور المفكرين والمثقفين الصادقين المتميزين، لا يقل عن دور العلماء الشرعيين، في رسم المواقف المطلوبة لقضايا الأمة.
إنما تكمن في خوضِ المفكر في قضايا الأمة وهو يحمل عباءة الشريعة، أو خوض عالم الشريعة في قضايا الأمة وهو يحمل سلاح الفكر!
فمتى ما دخل أحدهما مساحةَ الآخر بغير تأهيل ضلَّ وأضلَّ.
ومقتضى العصر الجمعُ بين الرؤيتين، والاستفادة من ثمرة الفريقين.
ولذا فإن طرح الموضوعات الهامة في شأن الأمة، والتي تشغل رجالات الصحوة، بحاجة إلى توعية العلماء، ونظرات المفكرين، وحقائق المثقفين، لإرساء قواعد التوازن.
فإذا اقتضى الأمر إقدام الأمة أقدمت، وإذا كان الصواب في الإحجام أحجمت، وإذا رأت جنوحاً عدَّلت، وإن وجدت خلطاً صححت، فالعمل في سبيل الله يكون موتاً كما يكون حياة!
- - -
ويمكن لهذا الفريق بعد أن يتكامل دوره، وتتعمق نظراته، أن يتجه وبدون تأخير إلى تقديم الفقه الإسلامي بصورة مشرقة، وذلك من خلال:
1- الربط بين الحكم الشرعي والبعد التربوي في المسائل المطروحة.
2- التقليل من الحواشي، والانشغال بالحدود وشروحها، والتوجه صوب المسائل المباشرة.(1/10)
3- الإسهام في تطوير تقسيم المسائل وترتيبها. فمسائل الزكاة المعاصرة المتعلقة بالأسهم وعروض التجارة أكثر بكثير من زكاة الأبقار، والقضايا الطبية المعاصرة المتعلقة بصحة الناس أو تحسين حالتهم ينبغي أن تدخل في أبواب الطهارة وغيرها.
وهذا المزج بين المسألة العلمية والبعد التربوي والرصد الواقعي هو منهجُ السلفِ في تناولهم الفقهي، ولذا فإنّ الأوائل من السلف الصالح ما كانت لهم كتب فقهية قيدوها لطلابهم، وإنما كانوا يعتنون بالمدارسة العلمية مع الأخذ من السمت الصالح، وقد كانت الأمهات يقلنَ لمن أراد أن يتعلم من أبنائهنّ عند شيخ من الشيوخ: "خذ من سمته قبل أن تأخذ من علمه"!
واليوم نحن بحاجة إلى إعادة صياغة للجمع بين الطرح الفقهي والتربوي ورسم التصور الإسلامي، البعيد عن الإقصاء للأقوال المبنية على الأصول، أو الاستسلام لآراء الرجال في رؤاهم ولو خالفت صريح النص.
وسيكون من المهم أن تعتمد هذه المجموعة التي يمكن أن نسميها "فقهاء الدعوة المجددون" على المساندات، من خلال برنامج الحاسوب الجامع، وتفريغ سكرتارية متقنة، وزيارة مراكز البحث، ومعارض الكتاب، ورصد للمواقع والمنتديات والمؤتمرات في ذات التخصّص، والرحلة للمهتمين والمتخصصين.
- - -
( تفعيل حقيقة الإيمان:
لا يختلف أحد أن تعميق الإيمان هو أول أولويات الدعوة، والمؤمنون اليوم يملأون الآفاق، ولكنهم لا يطبقون حقيقة الإيمان!
ففي حديث جبريل الصحيح: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره".
وبشر كثير، لا يعيشون حقيقة الإيمان!
فكثرة التشكي من الأوضاع، والانهماك في الملهيات، والتخفف من الواجبات، ينبئ عن هذا الخلل في فهم الإيمان وثمرته.
فالحقوق بين الحاكم والمحكوم، والمدير والعامل، والزوج والزوجة، والأقرباء، والجيران، والأصدقاء، أساسها الإيمان.
وحقوق العمل، والتعلم، والتوظيف، والشارع العام، أساسها الإيمان.(1/11)
والدور الرئيسي المنوط برجال الصحوة، إحياء مفهوم الإيمان الكامل الشامل، وأن يتم تجاوز الجدل الذي طال في (أسماء الله وصفاته)، للانتقال إلى حقيقة أسماء الله وصفاته على منهج السلف الصالح ومعتقد أهل السنة.
و قد كنت طلبت من صديق أن يمرَّ على مائة مسجد، ليسجل الدروس التي يلقيها أئمة المساجد، وبالأخص ما يتعلق بعلاقة المؤمن بربه.
وبعد السؤال المستمر والإحصاء الدقيق، وجدنا أن تسعة مساجد فقط تقيم دروساً بشكل غير منتظم، ولا يوجد في واحد منها درس عن أسماء الله وصفاته، أو عن حقيقة الإيمان وربطها بواقع الحياة!
وتساءلت حينها ما ضرَّ خطباء وأئمة المساجد، والوعاظ والمربين، أن يقربوا الناس من ربهم على بساط المحبة والشوق، ليرتقوا في مدارج السالكين، وليسهموا معهم بنفوس صافية، وأيادٍ معطاءة، لنصرة المسلمين، وكسب رضا رب العالمين؟
وقلت: أين هذا الدور في المدارس والبيوت والمعاهد؟
إن ثمة حاجة لتأصيل وتحقيق (الإيمان) الذي يؤدي إلى صلاح المعتقد، وصلاح العمل صلاحاً يمتد ليشمل علاقة الإنسان بربه، وزوجه، وأهله، وأقربائه، وعمله، وشارعه، ودراسته، ويعرِّفَه فروض الوقت، وحدود الشرع، ويجعلَ ذكره باللسان مطابقاً لما في الجنان.
وباختصار: إن التخلف الحضاري الذي نشاهده، والبون الشاسع بين واقع المسلمين وواقع الغرب أو الشرق المنتج، هو نتيجة التخلف في فهم الإيمان.
إن نظرة عابرة إلى واقع المسلمين في أوج حضارتهم يثبت رقي معدنهم، وكمال أخلاقهم، وصلاح أحوالهم، وجودة إنتاجهم.
إن ديناً يربط الإيمان بإماطة الأذى عن الطريق، ورفع اللقمة إلى فم الزوجة، وإعطاء الأجير حقه، والسهر على رعاية الضيف، لهو دين الكمال.
ولكننا وللأسف لا نحترم أنفسنا في أعمالنا وإنتاجنا، واكتفينا بالانشغال بمظاهرنا، وما نرجو أن يقبله الله من ظواهر عبادتنا!(1/12)
وتحريك الإيمان لا يكون بالهجر والترهيب، والتذرع ببعض أقوال العلماء دون جمهورهم، وسدِّ الذرائع على كل شيء. بل بتطبيق السنة الصافية قولاً وعملاً، محبة وشوقاً وانقياداً.
وندع الناس بعدئذ يجتمعون على مجالس الذكر، أو زيارة المدينة أو ساكنها عليه الصلاة والسلام، أو صلاة القيام، أو الإكثار من الأذكار المشروعة، أو خدمة الأرامل واليتامى والأيتام، أو سماع الرقائق والابتهالات والمدائح النقية.
لتتهذب هذه النفوس، وتتهيأ للعمل بالصدق مع الله قبل وبعد كل شيء.
- - -
( الخوض المدروس لمحيط الإعلام:
إن الكلمة الأولى له اليوم، وهو المؤثر الأكبر بدءاً من التأثير العقدي إلى التأثير أو الهوس الرياضي!
وتجربة الإعلام الإسلامي يمكن أن نقسمها حسب الواقع إلى:
أ ) الفضائيات:
وهي تجربة لم تبدأ بها الصحوة، وإنما أسهمت في التأثير فيها. والتجربة في هذا المحيط متذبذبة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. فعلى سبيل المثال ووفق إحصائيات "شهر رمضان 1428هـ" لشركة "إبسوس"(1) كانت قناة المجد في المرتبة الخامسة سعودياً، وتعقبها مباشرة قناة "إقرأ" بفارق عشر قنوات، ثم "الرسالة"، وقد تتبادل "إقرأ" مكان "الرسالة"، أما في خارج المحيط السعودي فإن "الرسالة" و"اقرأ" تتقدمانِ "المجد"!.
وهذه القنوات الإسلامية المسجلة ضمن القنوات العربية الـ "25" الأولى، في هذا العام وإلا فهناك غيرها.
__________
(1) ابسوس) شركة تعتمد على جمع استبانات عشوائية من المصلين في المساجد إلى المتحركين داخل الأسواق، وهي من الشركات المعتمدة في المملكة العربية السعودية، ونسبتها عندي في جوانب مقبولة النتائج وليست صحيحة 100%، لأن ما أعرفه ويعرفه غيري من المهتمين في الإعلام الإسلامي أنّ هذه الدراسات اللإحصائية التحليلية تقترب من الحقيقة في جوانب كثيرة، ولكنها لا تكون دقيقةً 100% ولا قاطعة.(1/13)
ولئن كنا نؤمن بالتنوع واحترام الرؤى الفقهية، إلا أننا نتساءل عن حجم المشاهدة لبرامج قنواتنا الإسلامية.
فالإحصاءات تثبت أن نسبة المشاهدة في القنوات الإسلامية كلها لا تزيد عن "5%" في رمضان فضلاً عن غيره من الشهور!!
أي أنه من بين "100" مشاهد يراها "5" فقط!!
وإذا عدنا للأسباب سنجدها محصورة في ثلاثِ نقاط جوهرية:
1- العمل بعقلية الشخص الواحد، وهذا موجود في جُلّ القنوات الآنفة وغيرها. والانطلاق وفق ما يراه القائمون على القنوات الإسلامية لا وفق ما يحتاجه المشاهد، مع الإيمان بالمنهج الصحيح.
2- الانكفاء بشكل مكثف على طرائق محدودة في التأثير الوعظي الإعلامي، ونسيان طرائق التأثير الإعلامي المفتوح المحترم!
3- عدم الإعداد الحقيقي، والتخطيط الاستراتيجي للبرامج.
إن الحاجة ماسّة إلى مبادرات إعلامية جريئة وناضجة ومؤثرة ومركَّزة، فنحن لسنا في خطبة جمعة أو قاعة محاضرة أو ندوة مؤتمر.
وأنا وإن كنت صديقاً وفياً ومشاركاً بحب ورغبة في التطوير لكل القنوات الإسلامية، إلا أنني أقول: لا بد لبعض القنوات أن يتفلسف عندها الإعلامي الإسلامي، وللأخرى أن تتدين عندها الفلسفة!
وتبقى المطالبة ملحّةً بأن يتفرغ مجموعة من المتدينين للعمل الإعلامي وجوباً للدفاع عن قضاياهم، ورسم صورة الإسلام المُضيئة، ثم يختاروا من جميع الشرائح ما يشاؤون بعدئذ للطرح الدعوي أو الفكري أو التربوي بالقوالب الراقية في المجالات التخصصية المختلفة.
وأنا أعجب كيف تنحاز الصحوة ورموزُها لقضايا ترهق كاهلها وتبذل لذلك الغالي والنفيس ثم هي لا تحرك ساكناً نحو التخطيط الإعلامي الاستراتيجي، ولو بالفتيا!(1/14)
إن تأثير الصورة يفوق ألف مرة تأثير أبلغ الخطب وأقواها، وبدل أن يتحرك (العصرانيون) باقتراح تحريك الصور التأثيرية في خطب الجمعة، ومن ثمَّ تكثر النقاشات والردود، والانشغال بالقيل والقال، بدلاً من ذلك فلتكن المبادرة في الموقع الصحيح، وليوضع كلُّ شيءٍ في موضعه، فالإعلام موقع له مواصفات خاصة، وفيه برامج متنوعة، فالحوارية منها غير الوعظية، والدراما غير الخطاب المباشر، والحبكة الإعلامية تلعب لعبتها في الصوت والصورة والشكل.
وعلى المسؤولين إعلامياً والمستفيدين من الإعلام شيوخاً ودعاة أو أياً كانوا أن يسمحوا لأنفسهم وجوباً بالاستفادة من الدورات المكثفة والمتنوعة في العالم لأساليب التطوير والتأثير الإعلامي، دون أن تتغير شخصياتهم!
- - -
ب ) الإنترنت:
وأظن أن الصحوة كان لها قدم سبق في عالم الانترنت، ولعل السبب هو حجم الكبت الذي تعرَّض له جملة من أبنائها سواء من خارج الصف الصحوي أو من داخله!، والمهم أن اختراق هذا العالم، والتأثير فيه، والاستفادة منه يحسب لكثير من رجالات الصحوة وذلك عبر عشرات المواقع العالمية، والمنتديات المتنوعة التي حملت مضامين وأساليب متطورة ومؤثرة.
وربما يكون التوجيه هنا مباشراً للأفراد أكثر من القيادات والجماعات، لأن الواقع يثبت أن الجهود والمبادرات الشخصية حققت كثيراً من النتائج الكبيرة في محيط الناس. وللحق فإن هذا المجال لا يزال ينمو نمواً متميزاً وقوياً، وإن كان بحاجة إلى:
1- فسح المجال للمتعة والتسلية البريئة النظيفة.
2- الإبداع في تحريك المؤثرات الإيمانية والتربوية والسلوكية وتصحيح الأوضاع السلبية بواسطة البرامج المتحركة.
3- السعي نحو التخصص والتركيز فيه، والتقليل من المواقع المفتوحة وغير المميزة أو المطوَّرة بشكل محترف ومحترم.(1/15)
ويجدر هنا أن ننوَّه بأهمية تلقي التجارب والخبرات، والحذر من مشكلة شركات الإنترنت الوهمية، ومن فتح المواقع والمنتديات التي تسعى للبلبلة، وتفكيك الدعاة تحت مسمى حرية الكلام، تحت يد المتملصين من الشباب المتسرع.
- - -
( الاستفادة المنظَّمة من إمكانات العصر:
إن أمام الدعوة اليوم من الإمكانات والطرائق ما يجب أن تستغله في نشر صورة الإسلام المضيئة.
عشرات الآلاف من الكتب التراثية في شتَّى المجالات طُبعت بأفخر الطبعات وحُققت وخُرِّجت، ثم جُمعت في أسطوانات صغيرة.
وآلاف الكتب المتخصصة والمتنوعة في جوانب الحياة الدعوية والتربوية والسلوكية والإدارية والاجتماعية والسياسية والأدبية جُمعت كذلك، وبأسعار زهيدة ما كان منها متاحاً وما كان منها ممنوعاً.
وعالم الإنترنت وما أدراك ما عالم الإنترنت! كم أتاح من فرص مذهلة لتبادل المعلومات والخبرات، والدراسات، وشراء المتطلبات، مروراً بالتجسس على الأفراد والمؤسسات والجماعات... فأين تفعيله كمشروع تنموي؟
كما تم في عصر السرعة جمع عشرات الآلاف من البرامج المرئية والصوتية القديمة في شتى الفنون.
وبمفهوم آخر، ما عادت العلوم والمعارف والثقافات، بل والدراسات والسياسات محصورة لدى أحد، ولم تعد واجهات المنع للتقدم والتطور والتخصص والمواصلة في التعليم والمشاركة في المنظمات ممكنة.
ولذا فإن هناك دعوة ماسة لمؤسسات الصحوة وقياداتها للتأمل في هذه المفاهيم المستجدة على مسيرتها.
1- الرضا والتعاون مع أي مشروع إيجابي:
ذلك لأن الفجوة التي بين جيل الصحوة وجيل الشباب والعامة في الأمة كبيرة، بل وكبيرة جداً أحياناً. وكثيراً ما نرى القلة ( الملتزمة ) منعزلةً عن الكثرةِ الباقيةِ من المجتمع، وذلك في سائر قطاعات المجتمع .(1/16)
مثلاً ... إذا افترضنا أن في الحي الواحد (ثلاثمائة شاب)، فإننا قد نشاهد حلقة قرآنية واحدة تلم ثلاثين طالباً مثلاً، أي ما نسبته (10%) فقط، وهؤلاء (العشرة في المئة) منعزلون بالكليةِ عن بقيةِ شباب الحيّ.
وتجد مثل ذلك في عالم الفتيات اللواتي قد لا يجد كثيرٌ منهنّ أي برنامج تربوي يواكب اهتمامهن وتطوراتهن وتغيراتهن؛ لأنَّ القلةَ ( الملتزمة ) قد انعزلتْ في نطاقِ نشاطٍ محدودٍ ربما لا يُشبعُ رغباتِ الأخريات.
وقل مثل ذلك في عالم المدرسة. فإنّك قد تلحظ مدرسة بها (خمسمائة طالب)، ولا يتعدى المشاركون في النشاط الهادف خمسين طالباً، أي مانسبته (10%) فقط!! والباقونَ يسرحونَ بعيداً.
ومما زاد الطين بلةً وجعلَ ( الفجوةَ ) التي أشرتُ إليها أعظمَ وأكبر وأخطرَ تلك الطفرةُ الإفساديّةُ الهائلةُ التي ملأتِ الأرض والفضاء بوسائل التدمير الأخلاقي بدءاً بالفضائيات الراقصة، ومروراً بالمنتجعات والأسواق والفنادق اللاهية.
ومن هنا فإنّ الواجب التشجيع والتعاون مع كل المجموعات العاملة في الساحة لانتشال هؤلاء الشباب والشابات الغرقى الذين تغيرت القيم المجتمعية لديهم إلى حدّ أنك تجد طالبات الكليات والجامعات يتناقلن النكت الجنسية بحجة المتعة والظرافة ليس إلا، وهنًّ أصحاب الحياء، فما بالك بالشباب؟!
وعلى المربين والموجهين في ساحات الصحوة فتح آفاق الحوار والتوجيه اللطيف في حالة وجود بعض الخلل، مع الوضوح في النصح والرفق في حالة التجاوز لحدود الله الواضحة المجمع عليها.
وعليهم كذلك تكثيف الدورات، وإعداد البرامج لتهيئة مجموعات قيادية مؤهلة للتعامل مع الشباب التائه وإعادته لربه، وخدمة دينه، بالوسائل المختلفة.
- - -
2- تبني القيادات الشبابية:
اليوم تجددت وسائل الدعوة، وظهر جيل من الشباب لديه القدرة على الحوار، وإبداء الرأي، والتفنن في برامج فنية وإعلامية وأدبية، وهذا شيء إيجابي.
والاهتمام بهذه الشريحة يكون عبر:(1/17)
أ ) دعم وتوجيه المتفوقين المؤهلين في تخصصاتهم.
ب) تدريبهم على يد المتخصصين ذوي الكفاءات والأمانة والأخلاق، وتشجيعهم على السياحة المفيدة ضمن مجموعة وقيادة راشدة.
ج) عقد منتدى يتم فيه تبادل الرأي والمشورة.
د ) إمدادهم بما يذكرهم ويرطب قلوبهم، عبر الإيميلات، ورسائل الجوالات، والتذكير بمواعيد البرامج المؤثرة.
هـ) مناقشتهم فيما قاموا به من عمل، ومتابعتهم وحسن رعايتهم.
و ) مساعدتهم لعرض المشاريع والرؤى في خدمة دينهم وأمتهم ومجتمعهم.
- - -
3- تفريغ البناة المقتدرين الناضجين:
إنَّ حجم الصراع والتأثير تدعمه يد متوغلة في تحريك القرار السياسي والاجتماعي والأخلاقي، يساندها دعم مادي لا محدود.
وقد تفرغ صديق (صحوي) متخصص في الإعلام لمتابعة إحدى القنوات العربية التي تفرعت عنها قنوات عدة، وقارن بين البرامج المقدمة للمشاهد العربي والأخرى المترجمة له من خلال هذه القناة وبين نفس البرامج المعروضة في القنوات الغربية ، وبعد طول تحليلٍ وصل إلى تصوّر عميق عن دور هذه القناةِ وفروعها، وخلص إلى أن من أهم نتائج هذه الكثافة البرامجية هي أن يعيش المشاهد العربي في وسط المجتمع الغربي!!
والصحوة الإسلامية تأخرت كثيراً في أمرين خطيرين:
أولاً: تفرغ البُناة المقتدرين الناضجين للتحليل الحقيقي للواقع.
ثانياً: تفرغ البُناة المقتدرين الناضجين لرسم وإعداد سياسات إصلاح الواقع، بما تتضمنه من بناء منهجي ومعرفي متجدد.
وفي طريق تدارك هذين الخطأين لا بد من العودة إليهما بالبيان والإيضاح.
- - -
? فأمَّا مطلب (تفرغ البناة المقتدرين الناضجين للتحليل الحقيقي للواقع)، فهو أمر مُلحٌّ، ويزداد إدراكنا لأهميته عندما ننظر إلى الغربيين ونرى حجم ( المؤسسات ) و (الأفراد) المتفرغين لديهم لدراسة ظاهرة الصحوة وما تفرع عنها، ودونك هذه الحقائق:(1/18)
- يوجد في مكتبة الكونجرس الأمريكية أبحاث وتقارير سرية عن واقع الجماعات الإسلامية، ورصد للبيوت المتعاونة في جمع المعلومات، وتسيير الخطط التغريبية في بعض المدن العربية.
- وفي مونتريال بكندا يوجد مركز دراسات التشيع، وهو من أكبر المراكز الراصدة لرجالات المذهب، والأتباع.
- وفي الفاتيكان بإيطاليا أكبر إرشيف عن جماعة (الإخوان المسلمين)، فيه جمع لتاريخهم وتحليل لأعمالهم.
- ومثله في الجامعة الأمريكية ببيروت حيث تحوي مكتبتها أضخم ما جمع عن بعض الجماعات الإسلامية.
- وفي جامعة (درم) ببريطانيا تفصيل دقيق وصور إرشيفية عن تاريخ السودان الحديث.
إن هذه الحقائق وغيرها كثير تؤكد على الحاجة إلى دور الدعاة وجيل الصحوة في استيعاب الصورة بالأدوات الصحيحة.
ولا أريد أن أنكأ الجرح القديم هنا، ولكن أنبه لخطأ العودة إلى مصدر الجرح!
فالصحوة سابقاً كانت في معظمها تمنع المشاريع والكتابات والأفكار والرؤى، وتبني قيم الحب في الله والبغض في الله لا على أساس الحقيقة بل على أساس التصورات البشرية التي يعتريها ما يعتريها.
واليوم لا مجال لهذا التراجع أبداً، بل هي الحقيقة ولا شيء غيرها.
الحقيقة التي تنبع من الدراسات المنطقية، والمعطيات الواقعية، والعزم الجاد على بناء مستقبل للأمة.
وهذا الأمر يحتاج إلى تفرغ بعض الدعاة الذين يمتلكون القدرة وأدوات التحليل المتمثلة في الصحة النفسية، والكفاءة العلمية، والمعايير المنهجية، لتكون عطاءاتهم التحليلية منطلقاً لرجالات التخطيط ورسم السياسات المستقبلية.
- - -(1/19)
? وأما مطلب (تفرغ البناة المقتدرين الناضجين لرسم وإعداد سياسات إصلاح الواقع)، فهذا ما يمليه الواقع. فكبرى الشركات والمؤسسات التي تحترم رسالتها وتقدر منتجاتها، تعطي أولوية لترغيب موظفيها في العمل، ليعطوا الوقت الصافي الكافي للإنتاج. ففي دراسة قام بها مركز دراسات (موازنة الحياة مع العمل) الأمريكي تبين أن هناك خمسة أسباب لإبداع الموظف في عمله:
أولها: أن يكون لدى الإنسان تحدٍ في عمله يريد أن يتغلب عليه.
وثانيها: أن يكون عمله مصدر إلهامه وحماسته في الحياة.
وثالثها: أن تكون العوائد المادية من عمله مرضية.
ورابعها: أن يحب الموظف زملاءه حباً جماً لدرجة أنه لا يستطيع أن يفارقهم ساعة.
وخامسها: تحقيق الموظف لذاته.
وكل هذه الأسباب عدا الثالث منها والذي يتكامل مع نية الثواب من الله، لا تبعد عن واقع العمل الدعوي.
وإذا كان قانون شوقي (ولكن تؤخذ الدنيا غلابا)، فإن المغالبة التي عبر عنها شوقي بهذه القاعدة السليمة، تتطلب تفرغاً ووقتاً كافياً للتخطيط والتقويم والبناء.
ولا بد عند اختيار من يمكن أن يكون مؤهلاً للتفرغ من مراعاة التالي:
1- أن تتحقق فيه المعاير الخمسة السابقة.
2- أن يكون من البُناة الذين يسهمون في تحويل الآمال إلى حقائق، والمشكلات إلى حلول.
3- أن يتمتع بدرجة كافية من النضج، لأن الأفكار الكبيرة تحتاج إلى قدرات أكفاء.
4- أن تُراعى الطرائق والوسائل المعاصرة الناجحة في إنجاز الأعمال، حتى لا يقع الخلل في موازنات الأعمال، وأن يُستفاد من تجارب الخبراء والشركات الكبرى لزاماً، كتجربة شركة (آي بي إم) بتخصيص مبلغ (50 مليون دولار) لتطوير نظام العمل بالإنجاز أو بمؤشرات الأداء، بحيث لا يضطر الموظف للحضور إلى مكاتب الشركة، حتى أصبح أكثر من (40%) من موظفي (آي بي إم) يعملون اليوم خارج مكاتب الشركة، سواء في منازلهم أو في مقاهي الإنترنت أو في أي مكان في الدنيا!(1/20)
5- أن يكون المحرك إيمانياً، وأن يكون العمل واضحاً ومرسوماً.
ولذا فإن أي محاولة للتقليل أو التقتير على أرباب هذا المسار سيكون خسارة كبيرة، وتراجعاً فكرياً ضخماً. ولعلنا هنا نستشهد بعقلية ووعي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عندما قال: "إنني لأشتري ليلة من ليالي عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بألفي درهم من بيت مال المسلمين!، فاستنكر هذا عددٌ من فقهاء الصحابة ووجهائهم وكبارهم. كيف تصنع هذا، وأنت أكثرنا ورعاً وشدة على مال المسلمين؟ فقال لهم: وأين يُذهب بكم -أي بعقولكم ووعيكم وتفكيركم- إني أعود برأيه واستشارته بآلاف الدراهم على بيت مال المسلمين.
وبعد، فإنّه من الخطر الكبير أن تكون (الصحوة) خارج إطار الزمن، وأن يكون رجالاتها بعيدين عن ملامسة الناس.
وهذا التفرغ الذي ذكرتُهُ ليس مجرد كسب معارف أو رسم سياسات، بل هو إشعال النور، لإعمار الحياة والأحياء.
وسيكون من لوازم هذا الفريق:
1- فسح المجال للقادرين النابهين أن يمضوا في طريق النجاح بشتى مجالاته ليؤدوا دورهم في مجتمعاتهم، مع مساندتهم بالمال والخبرة، وتوجيههم للتوغل الهادئ الرصين، القريب من الناس، المبدع المفيد.
2- إعداد الأبحاث والتقارير المنهجية، ووضعها في يد المهتمين، والمثقفين، والمستفيدين، بلغة مناسبة.
- - -
( تفعيل الدورات التأهيلية، وتوسيع العملية التربوية في القطاعات المختلفة:
وهذه منظومة متكاملة كبيت الشعر الذي يكسر إذا فقد وزنه!
ومن المؤسف أن نسطر أحزاننا الحرّى على تخلفنا في صناعة أنفسنا، والمحيط حولنا، ونحن نملك مصانع القوة والريادة.
وإذا أردنا أن نضع أيدينا على موضع الجرح كما يقال، فلنراجع هذه الشواهد:(1/21)
1- عند التأمل في واقع أكبر حضور جماهيري (خطبة الجمعة) فإننا نجد ضعفاً كبيراً، وتفاوتاً هائلاً في أوساط الخطباء، والأمر يحتاج إلى استغلال الفرص المتاحة والهائلة في عصر اليوم للتأثير. فإذا كان العيب مستوراً في السابق، فإن العورة بادية اليوم!!
والمأمول أن تتجه مجموعة الخطباء بنفسها في زمن التكتلات لتبني هذا المشروع، فتضم مع مؤهلات الخطابة الدور التربوي المطلوب لإصلاح الناس، وتفعيلهم للإصلاح في الأرض.
2- مع موجات الانفتاح لإنشاء البرلمانات والنقابات، والمجالس الحساسة والشعبية، فإن الحاجة ماسة إلى دورات متنوعة في السياسة ولربما في الإعلام وغير ذلك، تجعلُ الدعاة مؤهلين لخوض هذه المجالات، وينبغي مع هذه الدورات تحريك البرامج التربوية الملائمة؛ لأن تجارب سابقة لدى قيادات من الصحوة تثبت خللين جذريين، هما:
- الدخول في دوامة السياسة، دون معرفة ما تتطلبه من مهارة، ومعرفة، وفذلكة.
- الانخراط في دروب شائكة، وألاعيب مستمرة، تفقد الجانب الروحي حيويته، والقلب صفاءه.
3- قيادات الإدارات الحكومية والقطاعات الخاصة، وما تتطلبه من دورات مهارية في الإدارة، والتخصص الدقيق، وفن إدارة الذات، مع الحفاظ على القيم التربوية من صلاح النفس، واحترام النظم، وإتقان العمل، وتطويره، وعدم الرضا بأقل شهادة (الموظف المثالي).
وصاحب القوة لا يخاف من عطائه التربوي، ولا يغتر بارتقائه أعلى المناصب ما لم يستثمر دوره التربوي الشمولي، كنموذج إسلامي راقي، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
4- بإقامة المراكز و النوادي والمهرجانات والبرامج والمنشآت التربوية، يتكامل الدور، ويتأتى إتقان الصنعة الدعوية، وإظهار جوهر التربية.
وهذا ما ربّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته، فهم القادة والعظماء، العدول الأمناء، الذين أدوا حق الله، وحق الرعية، وحق الرسالة، سواء أكانوا خلفاء أو عامة.(1/22)
ويتحقق الدور المطلوب عندما نقول: المربي المعلم، والمربي الرئيس، والمربي الإعلامي، والمربي السياسي، والمربي التاجر...
فهو في الريادة دوماً دون أن يتخلى عن تربية نفسه وتربية غيره كي لا يستبد الوهم، وينشط داعي الشيطان، ليفصل تلك الأدوار السابقة عن التربية، ليصوِّر أن الشطارة والقيادة تتطلب التخلي عن الدور التربوي!!، ويكفي هذه الإشارة من ألوف الإشارات وللأسف:
سمعت أحد الدعاة يقول: حدثني داعية مخضرم تعب على نفسه وصار خبيراً تقنياً كبيراً وقال لي: أتاني صاحب مؤسسة سمع عني وعن إمكانياتي، فقال: أريد إصلاح بعض الأعطال، ودلوني عليك. وبعض طول حديث عن أسعار الإصلاح، قلتُ له: أنت بحاجة لي وأنا لست بحاجة لك!!
يقول الداعية: بقيتُ سبعة أيام لا أستطيع إصلاح عطل واحد!، واضطررت لأخذ إجازة ليوم واحد، وراجعت نفسي، فتذكرتُ قسوة العبارة السابقة، فاستغفرت الله، وعدتُ لذاتي، واستطعت إصلاح الأعطال المستعصية في اليوم التالي مباشرة!
- - -
( تمتين العلاقة مع الفرد والأسرة والمجتمع والدولة:
إن أكبر مشروع تربوي نجحت فيه الصحوة المعاصرة الاندماج الداخلي مع أفراد المجتمع، وإن أكبر خطأ وقعت فيه كذلك التفكيك والتجزئة لمفهوم الإسلام داخل المجتمع تحت أغطية مختلفة!
واليوم نحن بحاجة إلى تأصيل وتفعيل هذه الرسالة (صناعة القدوات والقيادات) وتحت هذا الشعار (من محراب الحياة إلى محراب الصلاة).
وقد وجدتُ بالتتبع والاستقراء في السيرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بصنع القدوات ثم القيادات، والسيرة العملية تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوضح للصحابة مفهوم العبودية الشاملة في ميدان الحياة، والتي لا تكمل من غير الخلوة بالله.
عبودية تجمع بين الحياة مع الناس، ومشاركتهم في ألوان حياتهم، وقطع بعض العلائق بالناس، وتجديد العلاقة بالله، للانطلاق للناس.(1/23)
وهي عندي أشبه بحركة الشمس طوال اليوم، تبدأ مشرقة مبهجة تساعد الناس في كسبهم ومعاشهم، وتغادرهم لتسجد تحت العرش، ثم تعود من جديد، كما في خبر البخاري.
وهذه المراوحة بين محرابي الحياة والصلاة، تجلّي للمرء الصورة الحقيقية لنفسه، وصحة عبوديته، ودورانه مع رحى الإسلام، مغنياً مع شاعر الإسلام عمر بهاء الأميري رحمه الله:
الكعبة الشمّاء في مذهبي ... قيمتُها ليست بأحجارها
والقربُ من خالقها ليس ... في تشبّث المرء بأستارها
قدسية الكعبة في جمْعها ... أمتنا من كل أقطارها
وأنها محور أمجادها ... وأنها مصدر أنوارها
وكعبة المؤمن في قلبه ... يطوف أنَّى كان في دارها
- - -
إننا بحاجة ماسة إلى مراجعات ومراجعات لتنظيم أحوالنا من الداخل، وتنظيم العلاقات مع ما حولنا.
فأما مع أنفسنا، فإننا بحاجة إلى مزيد من تطهير الذات، وتعريضها لنفحات الله، والحذر من الانفتاح الملهي في البرامج الفضائية والملتقيات، وأن ننظم أوقاتنا بشكل فعَّال ومثمر، وأن نزيل العوائق النفسية والقلبية التي تمنعنا من التطور، ونهتم بالصحة والأجسام لنقوى على الطاعة.
ونحن بحاجة إلى الجلوس مع الصالحين، وأهل الفكر، والتأمل في حياة الناجحين، لترقى أنفسنا، ونستثمر طاقاتنا، ونزيد من وعينا ومعارفنا بالشكل الصحيح.
كما أننا بحاجة إلى سعة في الاطلاع وحسن مجالسة للأكابر، لمعرفة ديننا بشكل صحيح.
وأن نجتهد أكثر للإبداع والتطوير والعمل الجاد لنقدم لأنفسنا وأمتنا ما ينفع.
- - -
والأسرة هي محضننا ومأوانا، وعلى قدر اهتمامنا بأهلينا وإخواننا، والسعي لسعادتهم، وإشراكهم في قضايانا تكون قدرتنا على التهيئة الجيدة للعمل المطلوب.
ينبغي أن نحوِّل البيوت من مقر للسكن إلى مأوى للعيش الكريم والسعادة الطيبة والحياة الجميلة.
لا ينبغي أن تحول الأخطاء وبعض القصور إلى عزلة وهَجْر، فالمطلوب ليس تصحيح الخطأ فقط، بل الإحسان والبر كذلك.(1/24)
إن البيوت صمام أمان، وهي الدافع الأكبر لنجاحات الفرد، فيجب بذل مزيد جهد للرقي بها، وتمتد الخيرية لأولي القربى، فهم بحاجة إلى مشاركة ورعاية؛ { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } وفي الحديث: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". ودوام مطالعة لفنون التربية والتوجيه العائلي. ورسم الملامح العامة للعلاقة الراقية في البيت بالصورة الجميلة سبب لاستقرار الأسرة، ونجاح العاملين من أبنائها.
- - -
والمجتمع والوطن واحة جميلة، وقطعة في القلب قبل أن تكون على الأرض!
فالوطن تاريخ وحاضر ومستقبل.
ومهما كان من خطأ أو قصور في إدارات المجتمع، فالوطن شيء آخر!
إن عمران الوطن، ومساعدة أبنائه، ورفع رايته، واجب إنساني ديني قبل أن يكون واجباً وطنياً.
والحذر واجب في أن تختلط السياسة الخاطئة والتصرفات الشاذة للأفراد أو المؤسسات بأداء الدور الرسالي للمجتمع وأبناء الوطن الواحد.
- - -
( استثمار الخطاب الإسلامي:
ما كتب عن "الخطاب الإسلامي" يعتبر على قلته أمراً جيداً وجاداً، ولكنه للأسف تأخر كثيراً!
والذي يهم هنا أن نضع الملامح الكبرى، أو أن نرسم بريشتنا اللوحة العامة لما ينبغي أن يكون عليه الخطاب الإسلامي المعاصر:
1- ذكرت كلمة "استثمار" لنتجه إلى مضمون الموضوع مباشرة بعيداً عن مدلولات "تجديد الخطاب الإسلامي" الذي قد يفسَّر بعض التفسيرات، لأن غاية "التجديد" هو "الاستثمار الأمثل"!
2- اختلاف وسائل التأثير اليوم يجعلنا نؤكد جازمين على حاجتنا الماسة إلى التجديد أو الاستثمار للخطاب الإسلامي، وأنّ الحديث عن هذه القضية ليس مجرد عرض لوجهةِ نظر!
3- "الخطاب الإسلامي" هو البيان الذي يوجه باسم الدين إلى الناس عموماً.
وهو بهذا يتعلق بأمرين: المضمون، والأسلوب، وغايته هو المنتج الذي تتفاعل معه البشرية.
وسأضطر هنا لذكر شاهد واحد لإيضاح المفهوم وتبسيطه، قبل إتمام الملامح، ولعل هذا من تجديد الخطاب!!(1/25)
في تاريخنا نموذج إسلامي مميّزٌ أبانَ في خطابِه الإسلامي عن فهمه للمنتج الذي يعتقده، وعن إدراكه لدوره كواحدٍ من أبطال المسلمين وعامتهم في الوقت نفسه!
إنَّه (ربعي بن عامر) -رضي الله عنه- الذي حاور قائد الجيش الفارسي (رستم) وقال له في خطابه الإسلامي منذ القرن الأول:
"إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
هذا الخطاب الإسلامي لرجل من عامة المسلمين حوى هذه المضامين:
1- حقيقة التوحيد. إذ قال: "إنَّ الله ابتعثنا"، فكوننا مسلمين فهذا يعني أنّنا مطالبون بالعمل والسعي للإصلاح والنهضة "إن الله ابتعثنا"، وهذه حقيقة التوحيد... العمل بمقتضيات الرسالة.
والحقيقة الثانية : العبودية الخالصة. "لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد" فالله هو الذي يشاء، ودورنا وعملنا وجدنا واجتهادنا محض فضل من الله وحده. وفي الخطاب القرآني لرسوله صلى الله عليه وسلم { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } ، فلولا إذن الله لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم!
2- سعة الدنيا: فالدنيا كلها مسخرة للإنسان { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } ، وكل محاولة لحرمان الإنسان منها بلا برهان هو قطع طريق على منهج الله في بناء الإنسان وعمران الأكوان.
ولا أدلُ على هذا من موقف الحافظ ابن حجر -رحمه الله- مع الرجل اليهودي الذي رآه في أحسن وأغلى حلة، راكباً أجود دابة، فقال لابن حجر: أنتم تقولون: إنَّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، وإن الآخرة جنة المؤمن وسجن الكافر. فكيف تكون لكم الدنيا سجناً، وأنتم تلبسون أغلى الثياب، وتركبون أجود الدواب؟!
فقال الحافظ ابن حجر في خطابه الإسلامي الواعي: الدنيا للمؤمن بالنسبة لما أعده الله له في الآخرة سجن.(1/26)
وهكذا لم تختلط المفاهيم ولا التصورات ولا المعتقدات ولا التطبيقات لأن جمال المنتج، نابع من مضمون فهمه ووعيه وإرادته.
3- العدل: "ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام". وهي النقلة الحضارية التي بنيت على الصدق، والأمانة، والنزاهة،والحماية، والرعاية، والتضحية. وانعكست آثارها رفعةً للعالم الإسلامي، وامتداداً لحضارته في آفاق الدنيا.
ومدُّ اليد على عنوان واحد مما كُتب من المعاصرين فضلاً عن المتقدمين ككتاب: عصر الخلافة الراشدة، للدكتور: أكرم ضياء العمري، يوصل المعنى وزيادة!
- - -
وبعد هذا المشهد، أزعم أننا في درجة الحاجة التي تقترب من الضرورة إلى فتح الأبواب على جميع المستويات لمعرفة واقع الخطاب الإسلامي المعاصر ومآلاته، والذي يشمل الدعائم الخمسة:
(النقل المصدق، والتأويل المحقق، وفقه الزمان والمكان والبيان). ولا يقدر على حبك هذه الدعائم في عقله وقلبه ونفسه إلا صاحب علم ووعي. فالنقل المصدَّق، المعتمد على الآيات وصحيح الروايات، والتأويل المحقق النابش للقواعد والأصول والاجتهادات، وفقه الزمان والمكان الذي يربط السابق باللاحق، ويؤصل ما ينبغي تأصيله من جديد، والبيان الذي يبين ما في النفس من نية خالصة، وإرادة صادقة، وهمة ماضية، وطريقة صائبة.
ومن ثمَّ سندرك خطورة واقعنا الذي نعيشه من أحداث عالمية، ومتغيرات حياتية، وقوانين دولية. والصحوة جزء من هذا العالم يواجه تاريخاً ومستقبلاً جديداً غير تاريخه السابق أمام مؤثرات هائلة تنتقل فيها البسمة واللمسة والهمسة والنسمة بين القارات في لحظة!
والصحوة أمام أزمات جديدة، وصراعات متجددة. فهناك غزاة طامعون، ومتنصلون عن أوطانهم، وساسة ومنتقدون ومخذلون امتدوا حتى وصلوا إلى عقول أجيال وأجيال في الأمة ومشَّوا الدين والتاريخ.
ولذا فإن "الخطاب الإسلامي" يواجه تحدياً، ولا أبالغ إن قلت: إنَّ استثمار هذا الخطاب وتجديده من أوجب مشاريع الإصلاح للصحوة المعاصرة.(1/27)
ولأن الأمر خطير فإن العودة إلى الدعائم الخمسة السابقة أساس في الانطلاق، ومن ثمَّ سنجد أن الأبواب مشرعة (السياسي، التعليمي، التربوي، الاجتماعي، الإعلامي).
إنني مؤمن أن المشروع كبير، وأن الشوط بعيد، ولكني مؤمن كذلك أن رواحل الأمة، وصلاح الإسلام لكل زمان ومكان، سيختصر الزمان، ويحقق كثيراً من الآمال -بإذن الله-، كما أنني مؤمن بأن الصحوة اليوم تحقق ثمراتها، وخاصة إذا أدركنا أن رجالات الصحوة في كل الأقطار جعلت اللاعب الأكبر "أمريكا" يحسب للمتغيرات التي فرضتها الصحوة أكبر حساب على المستوى الظاهر، وأعلى المستوى الباطن.
- - -
ولأنه لا مجال في هذه الرسالة للخطاب الوعظي فإني ألخص الكلام بحقيقة أدركها المتقدمون: إنّ هذا الدين عظيم وقادم لو كان له رجال.
ولنختم هذا المفهوم بعرض المشاريع الملحة، التي لن تخرج عن إطار الدعائم الخمسة السابقة:
1- التركيز على التدين الصحيح، عبر الرسائل، واللقاءات، والممارسات.
2- الاستثمار في حقل الإنسان، في تهذيب سلوكه، وبناء عقله، والترويح عن نفسه عبر الفنون الراقية، والبرامج المسلية، والنزهات الجميلة، وتصحيح مسيرته وزيادة معارفه، وتجويد مكاسبه، وفسح الدنيا الواسعة ليعيش فيها ويستفيد من مدخراتها.
3- سد المنافذ أمام أي مشروع (هدم أو تخذيل). وذلك بتجريم وتحريم الاعتداء على الممتلكات والأنفس البريئة (مسلمين وغير مسلمين من المستأمنين والآمنين).
4- وجوب تقدير منهج فقه الحياة الذي يُطالب به العلماء والدعاة الراشدون في الأمة،وهو يشمل:
أ) فقه الأولويات: في العلم والمعرفة والمصير.
ب) فقه الاتجاه: في المشاريع والخطط والاستراتجيات التي تستوعب الواقع وتستشرف المستقبل.
ج) فقه الحريات: التي تعني (السعة) عند -ربعي بن عامر- من الانطلاق، وسعة الأفق، والحركة، مع ضبط المفاهيم والآليات.(1/28)
د) فقه النهوض: وما يتطلبه من فهم للسنن، ومهام للتطبيق، وتنمية للأفكار، وإدارة للذات، وصلاح للمعيشة، وتصحيح للأوضاع.
5- بسط المشاريع وسهولة ومرونة ووضوح آلياتها:
فالمشاريع الكبرى لها آلياتها، والمشاريع الصغرى لها آلياتها كذلك، والخطاب الإسلامي يجب أن يستثمر في الفعل أكثر من القول، وفي صناعة الفعل قبل ردة الفعل، وفي القدرة على التطبيق أكثر من التنظير، وفي إمكانية إشراك المجتمع فيه وإلا صار قاصراً.
فالمجتمع اليوم يحتاج كل جهد وكل فكرة وكل مشاركة وكل دعم، للنهوض بالواقع.
ودور الصحوة كبير في فتح الأبواب للناس عبر مشاريع كبيرة وصغيرة منها ما هو مدروس، ومنها ما يقرره الواقع، لغرس الفسيلة، أو تطوير الماكينة!
وإذا لم نُحرك الشعوب للإسهام في حل قضاياها فخطابنا سيبقى لأنفسنا إذن!
6- ضرورة إبراز قيمة الفقهاء وعُلوّ قول الحق.
لأنه مع عالم الفضاء، أصبح كل من لديه رغبة في الحديث في العلوم الدينية ما عليه إلا المبادرة والمواجهة!
وإذا استمرَّت زعامة الوعاظ والإعلاميين، وتراجع دور الفقهاء الخبراء في بناء الحضارة والعمران ومعالجة مشكلات الأمة فنحن أمام أزمة كبيرة.
7- لابد أن يكون الخطاب مشتركاً، لا توزيعاً للأدوار، ولا معارضةً للأفكار، بل يتحول جلد الذات إلى نقد الذات، وتجريح الأشخاص إلى تقويم الأعمال.
8- الخروج من عقدة الزعامة والحل بواسطة المفتاح السحري. والتأكيد على منطق الشورى وتفعيله، والعمل به، وإفساح المجال لكل قادر على النهوض، صغر سنه أو كبر!
9- تقدير ظروف الخطاب والمخاطبين، فلن يفيدنا المكوث في غرفة الانتظار حتى يأتينا الناس أطهاراً بريئين من آثامهم، ولن يجدي أن نغيب الخطاب الواقعي العاقل في زمنه، وما سميت الخطبة بذلك إلا لأنها تعالج الخطوب.
10- وختاماً، والختام أخطر وأهم ما في الأمر!(1/29)
إن نجاح مشروع الصحوة في خطابها مرهون -وأايم الله- بأمرين لا ثالث لهما، ولا مجال لأن تتقدم خطوة بغيرهما!!
1- أن يحسن كل امرئ إلى نفسه، بإخلاصه لربه، وتوبته من ذنبه، وأدائه لأمانته، وإتقانه في عمله، وبره بأهله ومجتمعه ووطنه.
2- أن يرفع كل رجالات الصحوة بأطيافهم عن أنفسهم صفة النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي واقعاً "إن فيها رجلاً لا يظلم عنده أحد"، فلا ظلم بينهم، ولا حسد، إنما التعايش والتراحم والتفاعل.
- - -
( رفع قيمة الوقت والإنتاج:
إن منتج الأمة الحضاري هو (الوقت)، الوقت الذي يشعر المرء ببركته ولذته، وما يحمله من فيوض الخير والرحمة والمعيشة الكريمة الرضية الطيبة، والصحوة هنا مطالبة بـ:
1- التركيز على بناء الساجد قبل المساجد، لأنها الأماكن التي تبني رجالات الإصلاح. والتأكيد على عظمة الفرائض ودورها في النهضة.
فلن يتقرب المرء بشيء أحب إلى الله مما افترضه عليه.
وبعد الأركان الأساسية، تتنوع الفرائض في أهميتها، فالفرض في حق الطبيب المسلم غير الفرض في حق رجل الإغاثة. والفرض في حق إمام المسجد غير الفرض في حق رجل الشورى، والفرض في حق المعلم غير الفرض في حق الإعلامي.
ولكن لا فرض قبل فرائض الإسلام ثم تسيل الأودية بقدرها.
2- إدارة الذات أو إدارة الوقت مهمة شاقة، وللقدوات أكبر الأثر في تحريك الضمائر الفاترة، والهمم الضعيفة.
واللوم ليس في محله إذا لم نحسن التدريب والتوجيه والتثقيف كعملية تربوية مستمرة، وإذا لم نبادر بصنع البرامج والمشاريع التي تتوزع فيها أدوار العاملين، فلنلم أنفسنا!
والمشكلة الأكبر ليست في تقاعس العاملين، أو هروب الوقت، بقدر ما هي في عمارة الوقت بالمشاريع الطموحة، وإلا فما عاقل فضلاً عن إنسان صالح يتمنى القعود، ومن لم يلحق بالركب بعدئذ فما على المحسنين من سبيل.
3- الزمن ليس متاحاً اليوم لترقيع الأخطاء، وإعادة (المكسَّحين)، لأن الأيام ستتجاوز هذه القضايا.(1/30)
4- العصر مهما تغير، إلا أن المشاعر الصادقة لا تتغير! ولذا فإن الاهتمام بقضايا الناس وهمومهم، والقرب منهم، سبيل لرضا الله سبحانه، وكف الأشرار وشغلهم بأنفسهم.
وهذا القرب يكون بالإسهام الجاد في (العمل التطوعي) وذلك عبر:
أ- توزيع الرسائل والبروشورات والصور والأخبار بشكل جذاب، وإرسال الإيميلات ذات المضامين النافعة.
ب- المشاركة بما يسر الله من وقت محدد في اللجان الخيرية (المساجد، هيئات البر والإغاثة، ...)، والسعي على أقل تقدير للتواصل معهم.
ج- الإسهام بتحريك القضايا الاجتماعية التي تتطلب فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنشاء مجموعات ضابطة بوسائل راقية ومؤثرة على منهج سوي، لرفع كل مشروع يهدف إلى خلخلة الأخلاق الفاضلة. ولعل مشروع (ركاز) لتعزيز الأخلاق بدولة الكويت خير شاهدٍ على ذلك.
د- تشجيع الجماهير على العمل الخيري عبر الوسائط الحديثة مثل رسائل (sms)، واللوحات الإعلانية والإرشادية في الأسواق والشوارع والمطاعم، وغيرها، عن قضايا المسلمين، والتذكير بالأذكار الشرعية.
وهنا نؤكد قيمة تربية الأطفال والناشئة على هذه الأعمال المناسبة لهم، وغرسها في نفوسهم، والتفنن والتشجيع والمكافأة لهم. وكذلك تكون المبادرة من الكبار لأنهم قدوات، وهم بهذه الأعمال يعرضون أنفسهم لرضوان ربهم وصلاح أبنائهم وأحوالهم.
- - -
5- الحاجة الدائمة لآراء الخبراء، مع حسن التوكل وسلامة المقصد كفيل بإذن الله للتوفيق وراحة الحياة. ومن نظر في الواقع الحياتي وجد أن كل الشركات العملاقة الكبرى تبني نجاحاتها على رؤى مراكز بحثية تسويقية يديرها خبراء متخصصون.
6- الفجوة كبيرة وهائلة بين واقعنا وواقع سلف الأمة في استثمار الوقت، إلا أن حجم المؤثرات وموجات الإفساد في زماننا ضخمة، ولا تقارن بعشر معشار ما عليه السلف!
لذا فالحاجة ماسة إلى الاهتداء بهدي الصالحين، ومطالعة أخبارهم، مع العيش في زمن اليوم، وإنه لعيش ثقيل!(1/31)
7- حاجة الشباب الصالح إلى ملاقاة الأخيار أمر ملحّ، لذا أفضّل أن يختار البناة من العلماء والدعاة المؤثرين والقدوات العاملين مجالس أسبوعية أو نصف شهرية أو حتى شهرية للالتقاء المباشر بالأجيال، وعدم الاستهانة بهذا العطاء.
8- عمران الوقت ليس بكثرة الأسفار والترحال، والتنقل بين عقول الرجال، والتجميع لفنون العلوم والمعارف. إنما هو بمنهجية التلقي، ونوعية الاختيار.
فالسفر مفيد ومفيد جداً طالما كان لمقصد، والكتب مفيدة ونافعة طالما أحسن انتقاؤها. ورحم الله ابن تيمية عندما قال: إنما الأجر على قدر المنفعة!
9- خلط الجيل الجديد من الصحوة بين الأولويات، فطال عندهم الترفيه تحت مسمى التطوير، وتوسّعت ثقافتهم ولم تتعمق!
وهنا يأتي دور التربية!!
فالغياب عن صلاة الجماعة، وطول سماع الأناشيد، والملل من حلقات العلم، والانشغال بالموديلات، والتذمر من الاجتماعات، والحرص على النزهات، ليس مؤشراً حسناً. والأمر يعود بلا شك للتربية والبيئة والقدوة.
إن مهمة (إدارة الوقت) وإنضاجه، مهمة صعبة للغاية، وهي من أكبر تحديات الصحوة، وتكمن الصعوبة في قلة من يملكون الاستثمار الأمثل لأوقاتهم.
والسبيل الوحيد هو أن نؤمن أن احترام الوقت جزء من ديننا، وأن يكون هذا المفهوم ضمن أولوياتنا في التوعية والتدريب.
ومن المهم أن يستوعب الجيل أن من إدارة الوقت استثمار لحظات الجمال والمتعة والترفيه، لأنها من الحياة، والوقت هو الحياة!
10- التأبي والتحذير من جلسات الخصومة والمنازعة، وتراشق الاتهامات والردود أمر ملحّ، والتوعية واجبة، والتدريب على الانشغال بالمهمات واجب جماعي.
11- الوقت المبذول للأسرة والأبناء في الاهتمام والملاطفة والرعاية هو استثمار وحيوية للجميع.
فالجلوس معهم ما أمكن في الوجبات والسهرات، والذهاب معهم إلى الصلوات، والخروج معهم إلى المنتزهات، والسفر بهم في بعض الرحلات، هو واجب الوقت ابتداءً، وراحة للبال بعدئذ.(1/32)
12- تغير المجتمعات من ناحية الكثافة السكانية، وتباعد لوازم الاحتياج، يجعلنا نؤكد على عدة أمور:
أ ) الحرص على وضع برامج منوعة في السيارات أو الباصات، وخاصة مع أجهزة التسجيل الصغيرة.
ب) تربية النفس وتعويدها على المطالعة ولو للكتب القصصية أو الأدبية.
ج ) عدم الرضا بالدون في الكتابة البحثية، بحجة ضيق الوقت، وتوفّر من يمكن أن يؤدي العمل بالمال.
د ) أظن أن الحاجة ماسة لحسن التوظيف للعلاقات، لما في ذلك من كسب للوقت، واستثمار للجهد.
فكثير من الأعمال الخيرية تعتمد على سياسة العلاقات، وهذه السياسة تتطلب وعياً وإدراكاً لواقع المرحلة، كما تتطلب هدوءاً نفسياً.
ولا ينبغي التهاون في بناء هذه العلاقات، ولا التحرّج فيها.
13- أهم سؤال يعرضه الإنسان على نفسه قبل نومه ماذا قدمت وماذا أخرت:
ماذا قدمت لنفسي من طاعة يرضاها الله عني.
وماذا قدمت لوطني الذي أعطاني وآواني.
وماذا قدمت لمجتمعي .. من معلمين ومربين، وأصدقاء.
وماذا قدمت للأمة وللإنسانية.
ومن أجاب عن واحدة ولم يجب عن الأخرى فهو صحوي ناقص!!
14- يجب ألا ينفك الشاب عن السؤال عن أهم وأجد ما ينبغي عليه قراءته، والتعمق فيه، فالكتب والدراسات والأبحاث مستمرة، وفي بعضها ما يختصر الزمان.
15- أحببت أن أضع هذه النقطة كآخر شيء لأهميتها، والرغبة في إجلائها، وهي (الموازنة بين المواهب والمطالب):
فالداعية اليوم عنده مواهب متجددة كالرغبة في فتح موقع إلكتروني، أو مؤسسة خاصة، أو المساهمة في رابطة متخصصة، أو المشاركة الإعلامية، وأمثال ذلك.
وهو في ذات الوقت عنده مطالب أسرية من قبل والديه، ومسجديه كتحفيظه، ومدرسية كلجان الأنشطة.
وأهم شيء هنا أن يتعلم المرء كيف يوازن بين المطالب والمواهب لئلا يحدث بينهما تعارض، وليتم الانسجام بينهما، وليتعلم فن (الهدوء) ليرسم لنفسه لوحة مستقبلية!
- - -(1/33)
ويؤسفني أن أفصح عن هذه الحقيقة أو (الورطة) التي أصابت كثيراً من جيل الصحوة وهي فقدان (الهدوء)، وأنت اليوم بأمس الحاجة لمعرفة هذا الفن، ولعلي أجمل كلمة مختصرة فيه فأقول:
إذا كانت هناك موازين للأجسام كالفيتامينات في الطعام، والرياضة للعضلات، وإذا كانت هناك موازين للقلوب كالتقوى، وأداء الفرائض، والحذر من الحسد، فإن هناك موازين للعقول، وأهمها ( الهدوء ) !.
والمتأمل في أسباب اختلال موازين الأجسام والقلوب يجد أن من أهمها: الخلل في ميزان ( الهدوء ).
فعدم الهدوء في أكل الطعام، وعدم الاكتراث لنوعية طبخه، ترهق البدن، وتتعب الأمعاء، وتعرض الإنسان للمخاطر والأمراض الفتاكة.
وعدم الهدوء في الوضوء وأداء الصلاة، يجعل الصلاة لاتنهى صاحبها عن فعل الفحشاء والمنكر ! وعدم الهدوء في التصرفات، يؤدي إلى التخلخل والتفكك والتشتت.
وعدم الهدوء في الحوارات، يعقّد المشكلات، ويزرع العداوات.
و(الهدوء) ليست كالدواء لا يؤخذ إلا عند الحاجة إليه، بل هوكجهاز المناعة لابد منه لمنع المشكلات أوتخفيفها.
ويمكنني القول: إن (الهدوء) مطلب شرعي وشعبي !
فهومطلب للفقهاء في استنباط الأحكام، وللقضاة في فصل النزاعات، وللأزواج في حل المشكلات، وللشباب في تجاوز العقبات، وللشركات في تقويم المشروعات، وللساسة في امتصاص الأزمات، وللإنسان للبقاء في الحياة !
إنَّ واحدة من أكبر مشكلات التأزم الحضاري في الأمة: ( غياب الهدوء ). فكم جرَّت النظرات العاجلة، والمناهج القاصرة من كوارث!
وكم أفضتِ العجلةُ في الحكم على الأحاديث النبوية إلى نشوءِ قوالب فكرية، وفتاوى شرعية من المحيط إلى الخليج ترتبت عليها خصومات ونزاعات، وتقليب للأولويات، وتفريق للجماعات، وإزاحة للمسلَّمات، وتجاهل للمشتبهات.
وكم أدَّت الخطوات العاجلة غير المحسوبة، والنظرات الأحادية غير المدروسة، إلى ورطات وتراجعات إيمانية وفكرية ودعوية وسياسية.
وفن ( الهدوء ) في الحقيقة مدرسة !(1/34)
يتعلم منها المرء الإنصات، والتأني، والتحري، وسعة الأفق، وراحة البال، وسلامة الموقف، ودقة التشخيص، ووضوح الرؤية، وصحة البدن، وتلألؤ الوجه، وصدق الاختيار، وسكينة الروح، وحسن المقصد، وعفة اللسان، وأمارات الكلام، وكسب الحقيقة، وحصاد الإيمان.
و( الهدوء ) انفعال داخلي، وليس كما يظنه البعض عجزاً وخوفاً !
وفي الأدب المفرد للبخاري (إنما العلم بالتعلّم، وإنما الحلم بالتحلّم).
وهو( هدوء ) حاضر، لا تهرب معه، أو تباطؤ، أو خوف، أو قلق.
وأنا شخصياً أمتنُّ لكل من أكتسب منه هذه المهارة الفائقة التي عادت عليّ بمكاسب كبيرة، ونظرات إستراتيجية غالية. وضريبتها أنها تتطلب مقداراً من (الهدوء) لكسب هذا (الهدوء)!
- - -
( تفعيل دور المرأة:
المرأة ابتداءً كائن إنساني!
والنظر إليها على أنها مشكلة، وقضية معقَّدة، لا يحل أزمة، ولا يُحيى أمة!
وقراءة واقع المرأة انتابه أمران: العادات، وأحادية الآراء.
هناك جدال طويل لم يحسم منذ قرون ولن يحسم!
كقضية وجه المرأة، وحدود مشاركتها السياسية، .... .
والمهم هنا هو الواقع في الأهم الأغلب!
فالمرأة المسلمة اليوم تذهب للمساجد، والأسواق، وتشارك في الانتخابات، وتكتب في المواقع والصحافة والمنتديات.
المرأة اليوم شريك أساسي في حركة الحياة...
ويبقى السؤال: ما هو الدور الاستراتيجي لها؟
والجواب الواقعي: هو الإيمان العميق الذي لا يتزحزح بحقوق المرأة الكاملة والمتفق عليها، بعيداً عن بعض العادات، وأحادية الأقوال وكفى!
إن حجم التغيير في الواقع كبير وخطير، ولكننا وللأسف نتحدث خارج الحقيقة!
إننا نطالب أن تكشف على النساء امرأة، وأن تبيعها حاجاتها امرأة، وأن تعلمها امرأة، وتشاركها فرحتها امرأة، وتجمل هيئتها امرأة، وتدربها على أجهزة الحاسوب، وعلى طبخ أنواع الطعام امرأة.
وباختصار: نريد امرأة مع المرأة في أمور الدين والدنيا!
وكل هذا حق. ولكن كيف نوجد هذا؟(1/35)
نوجده بأن يتبنى النساء بأنفسهن ما يحتجنه، بما يوافق عليه الإسلام والسلام!
فهناك مجموعة نسوة يتخصصن في العلوم الحياتية (الطب، التعليم، ...)، وأخرى في التدريب، وأخريات في المشاركات الاجتماعية (كحفلات الزواج)، ومجموعة في شؤون النساء التجميلية، ومجموعة في المشاركات الدعوية، والبرامج الاجتماعية، والترفيهية، وأخرى في الإعلامية، والفنية الهادفة.
إن قضايا النساء مشتركة، وبدل أن تتحرك نساء المسلمين وزوجات وبنات رجالات الصحوة كغيرهن في كل الأماكن السابقة، فيجدن أيادٍ غير أمينة، وتطول الشكوى و تعم البلوى!، فالواجب أن نشجعهن على أداء دورهن الرسالي في محيطهن، مع إعطاء الأولوية لشؤون الأسرة.
والزمن اليوم لا يحتاج إلى تدليل على سوء الواقع في مجالات مختلفة في واقع النساء، مع الإيمان بالخير في كثير مقابل.
وأرى أن تقتصر العلاقة بين الرجال والنساء في العمل الدعوي على نقل الخبرة ليس إلاّ!
وتبادل الخبرة له طرائق مشروعة، وأساليب متعددة، لا تخفى على الداعية الحصيف.
علينا أن نبادر بالمساهمة الثلاثية: الفعالة، المقننة، المتقنة، لنجاح العمل النسوي. وأن نفرح بأي مشروع صغر أو كبر، قلت أعماله أو كثرت.
وليس خفياً أن هذا المجال (العمل النسائي) تكتنفه مشكلات عدة، تعود إلى طبيعة الاحتكاك في مجال النساء أكثر منه في الرجال.
إلاَّ أن قيادات العمل النسائي من المربيات الفاضلات كثيرات والحمد لله، وهذا يجعلنا نبادر لإنجاح وإنضاج هذه المشاريع، بحسن التوجيه، والتطوير، والسعي الحثيث لإيجاد موارد مالية، ومحاضن مناسبة.
والفتاة اليوم هي الزوج والأم في الغد، ورصيد اليوم رصيد الغد، وإهمال اليوم إهمال الغد!
- - -
( إفصاح الدراهم:(1/36)
لئن كان الطالب يدرس القاعدة الرياضية وهو على مقاعد الدراسة، ويحاول فهمها عن طريق التطبيق العملي، فإن الإمام سفيان الثوري سيد الأساتذة يعلم طلابه هذه القاعدة بقوله: (المال في هذا الزمان سلاح). ولكنه عندما أراد أن يطبقها عملياً لم يجعل تطبيقها في محيط المدرسة، بل انطلق ليطبقها في الميدان، وذلك حينما مرّ على بعض طلابه وهم جلوس في المسجد الحرام، فيقول ما يجلسكم؟ فنقول: وما نصنع؟ قال: اطلبوا فضل الله، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.
لقد أخجل سفيان بموقفه هذا بعض العاملين في الدعوة، ممن ينتظرون إخوانهم أن يفتحوا لهم أبواب السماء! ويلحّون بالطلب راغبين بأفضل المناصب، وأجود المكاسب. ولئن استطاع إخوانهم مساعدة الآحاد، فليسوا قادرين على مساعدة كل فرد يود مكسباً سريعاً.
وزمن اليوم تغيّر أيها الإخوة، فكم من أبناء الدعوة تخرجوا من جامعاتهم ومعاهدهم، وهم ينتظرون مكاناً ليجدوا ويعملوا؟ وكم من أهل الدعوة ممن لم توافق شهادته طبيعة العمل الذي يؤديه؟ أو ممن يجد مضايقة من مرؤوسيه؟
إنَّ قعود الداعية هكذا بلا عمل يؤديه، يشينه بين أفراد قومه، وأهله وعشيرته، ويجعل الناس يسلقونه بألسنةٍ حدادٍ، وهذا ما حدا بأبي يوسف الغسولي أن يعمل ليكف ألسنة الناس عنه، كما يروي أبو بكر المروذي عن بعض المشيخة يقول: سمعت أبا بكرٍ الغسولي يقول: إنه ليكفيني في السنة اثنا عشر درهماً، في كل شهر درهم، وما يحملني على العمل إلا ألسنة هؤلاء القرّاء، يقولون : أبو يوسف من أين يأكل؟
وفي مثل ظروف اليوم فإن على المؤسسات الدعوية أن تحرص على فتح أبواب العمل لأبنائها، بأن ترشدهم للقوة والنجاح في أعمالهم، وأن تحثهم على التطور في وظائفهم، وأن تكرّم الناجح منهم، وذلك لكي يرتقي في عمله، فلعله أن يتمكن من الإسهامِ في توظيف إخوانه، وترقية من يستحق منهم.(1/37)
كذلك فإن هذا المنحنى الخطير يجب أن يأخذ حيزاً مهماً من التفكير، ولا بد من السعي لتأصيل مفهوم القوة كلٌ في ميدانه، فالمحترم يقدر، والقوي لا يهزّه الرويبضة. إنما الضعيف في عمله، المتأخر عن مهنته، ليست له كلمة، ولا يستحق المشاركة في صراع الوظائف، وقوانين الواسطات.
ولا يعني هذا اتكال الداعية على مؤسسته، فهي ليست ملزمة بتهيئة كل الظروف المناسبة، والأجواء العملية الملائمة له. بل عليه أن يتعلم، ويقوى في دراسته، ويحمل أفضل الشهادات، ولا مانع أن تساعده مؤسسته ليتطور، ويحضر دورات تدريبية متخصصة ليبدع ويقوى، ولكنَّ الطريق بعد ذلك بيده، ليبتغي من فضل الله، وأرض الله واسعة، وفي عالمنا الفسيح متسع للكسب والاستثمار، لكنَّما القاعد يحسن اللوم!
- - -
( نعم المال الصالح للداعية الصالح:
خزائن الله أيها الإخوة ملئ، والتاريخ يشهد بمنفعة المال لأهله، وأثره في مسك زمام الحياة. أوليست قوافل المسلمين التي تاجرت في نواحٍ متعددة من الأرض، كانت سبباً في إسلام الكثير من الناس؟
أوليست كثير من المؤسسات والمعاهد والمساجد التي بناها تجار المسلمين، كنت سبباً في نشر الخير بن العالمين؟
أوليس كثير من روّاد الأمة، وشباب الصحوة، انضموا لقافلة الدعوة، عندما حضنتهم المجالس، والرحلات، وساحات الملاعب، وما تم كثير من ذلك إلا بالمال المدعوم من تجار الدعوة؟
إننا يجب أن نعترف أن التجار المسلمين هم من صناع الحياة، ونعم الصناع هم، بل هم من صناع الصناع، وعلى خطة الدعوة أن تتوب توبة من إسرافها القديم في تعليم الدعاة كراهة المال، وحب الوظائف الحكومية، وأن ترجع إلى وصية أستاذ الدعوة في تفضيل أبواب الرزق الحر، كما هو خبر الراشد.
وما كان تفضيل أبواب الرزق الحرة إلا شهادة من نبينا - صلى الله عليه وسلم - في حديثه لعمرو بن العاص قائلاً له:(1/38)
يا عمرو، اشدد عليك ثيابك وسلاحك، وائتني، قال: فشددت عليَّ ثيابي وسلاحي، ثم أتيته فوجدته يتوضأ، فصعَّد فيّ البصر وصوّبه، وقال: يا عمرو، إني أريد أن أبعثك وجهاً، فيسلمك الله عز وجل ويغنمك، وأرغب لك في المال رغبة صالحة. قال: قلت: يا رسول الله، إني لم أسلم رغبة في المال، إنما أسلمت رغبة في الجهاد والكينونة معك، فقال: يا عمرو، نعم المال الصالح للمرء الصالح.
وكأنما الزهد استبَّد في ناظر عمرو بن العاص، وظنَّ أن المال لا يرغب فيه. لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه حيازة المال الصالح، ونعمّا المال الصالح لنا، فوالله لو حزناه، لغيَّرنا حركة المجتمع بإذن الله.
وآن لنا أن نثق بأنفسنا، وأن ننزل إلى الميدان، وأن نقول لإخواننا دلّونا على السوق، وقاعدة سدّ الذرائع يجب أن لا نُلبسها كل الدَّعاة. فتربيتنا العميقة، ومتابعتنا لحياتنا تؤذن لنا بالخير، ونحن على مذهب الإمام أحمد.
فالمجتمع اليوم يحتاج إلى من يشاركه همومه وآلامه وطموحاته، وهذا يعني تهيئة مرشدين ومفتين ومستشارين في شئون متخصصة. وإعداد أمثال هؤلاء يحتاج إلى المال.
وذرية بني آدم من الشباب والشابات الذين أصبحوا كلاً كبيراً وعبئاً عريضاً على بيوت المسلمين، يحتاجون إلى رعاية وحماية وتوجيه، في ظل المنتديات والنوادي، وإعداد المخيمات، والأمسيات، ... ولا يتم هذا كله بدون المال.
وتوجيه فكر المرأة في الصحافة والإذاعة والكتابة، يحتاج إلى دعم مالي لإنشاء الدور، وتسجيلات الأشرطة، ومطابع المجلات، واستثمار الطاقات والكتاب.
وإمام مسجد الحي وخطيبُهُ يحتاج إلى مكتب خاص، ومكتبة يراجع فيها درسه، وسكرتارية وطابعة وفاكس، تتابع له أعماله، وتساعده في الدخول للناس، وكسبهم، ومشاركتهم في أفراحهم، ومواساتهم في آلامهم، ومن ثم كسبُّ ودهم، وتبرعاتهم، ووسطائهم، ومشاركة أبنائهم، ودعم زوجاتهم المعنوي والمادي، وهذا كله لا بد له من المال.(1/39)
والارتقاء بجيل الدعوة، وتطويره، وإكسابه المعاني التربوية والإيمانية، وتزويده بالكتب والأشرطة والصحف، وتدريبه في المخيمات والرحلات الخلوية، كل ذلك بحاجة إلى مال.
وتفعيل أساتذة الدعوة، وتعليمهم مهارات النجاح، وإكسابهم خبرات الحياة، يحتاج إلى تدريب، وسياحة في أرض الله، وقراءة لجملة من الكتب، إضافة إلى تكاليف التنقل، والطباعة، والطعام، وكل هذا بحاجة إلى مال.
وأمنيتنا في تذوق أطياف الجمال، ومتع الحياة، من السفر والتأمل في صفحات الكون، وطبائع الناس، والرحلة لملاقاة روّاد الدعوة، وتجارب الدعاة في كسب من لا يجمعنا معهم إلا المكان الراقي، ليتم إقناعهم والتأثير عليهم، كل هذا لا يتم بدون المال.
وبناء المؤسسات، والمجلات، والمعاهد، التي يتم فيها توظيف طاقات العاملين في الدعوة، وتُدرُّ بالأرباح، هو في أمس الحاجة للدعم المالي.
ولا يكفي أن نكون صالحين في هذا العصر دون حيازة للمال الصالح. لأن كلمة نِعْمَ متعلقة بطرفين هما: (نعم المال الصالح للرجل الصالح).
فمنذ نشأتنا ونحن نهتم بتكوين الرجل الصالح، ولكن من سيهتم بتجميع المال الصالح؟!.
وشروط التجارة: الأمانة وفهم الصنعة.
وإن (الورطات) التي أصابت جملة من المتدينين، وأساءت إلى صورتهم هي نتيجة إما لعدم الوضوح والمكاشفة وإظهار الحقائق في الأعمال التجارية، واتخاذ الوسائل المشروعة وهي (الأمانة)، وإما للفوضى والارتجالية والرغبة الخاطئة في حيازة المال تهوراً دون اتباع السنن الكونية في التدرج وحسن التخطيط والإعداد.
لذا يجب الكف عن هذا الخلط باسم الدين، ومنع الموغلين في حقوق إخوانهم المسلمين، واستثمار العقول فيما شرع الله. ومن أدام التقوى، وحرّك العقل، ودرس السوق، واتسم بالصدق والمصداقية، وأراد الله له الكسب، فإن الدراهم ستنطق، وستكسبه المهابة والجلال!
- - -
ختاماً
التاريخ أمامنا..!(1/40)
وهذه الرؤية لن يتكامل فهمها إلا إذا أعيدت قراءتها، أو ربما إذا عُلِّقت مضامينها كما تُعلِّق كبرى الشركات رؤياها في الممرات، أو البطاقات.
وحسبي أنني عشت عصري، وقدمت رؤياي، لم ألزم بها فرداً أو مؤسسة، بقدر ما أشركت فيها قلبي وعقلي وحبي لأمتي ووطني.
ولئن كان راعي نهضة ماليزيا المسلمة د. محمد مهاتير، قد قدّم قبل مغادرته منصبه خطة لعشرين سنة على ثماني مراحل لتطوير بلاده المسلمة.
فها أنذا أغادر عمراً يزحف إلى سن الرشد، استودعته هذه الرسالة لتطوير الصحوة الإسلامية.
والله يتولانا والمؤمنين.
- - -(1/41)