دلالة المدينة
في الخطاب الشعري العربي المعاصر
دراسة في إشكالية التلّقي الجمالي للمكان
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org
((
قادة عقاق
دلالة المدينة
في الخطاب الشعري العربي المعاصر
دراسة في إشكالية التلّقي الجمالي للمكان
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2001
بسم الله الرحمن الرحيم
{ ن والقلم وما يسطرون }
صدق الله العظيم
إهداء
( إلى الوالدين الكريمين .. عرفانا بفضلهما
( إلى الاخوة وجميع أفراد العائلة
( إلى فاروق باكورة العمر
( إلى محمد وخدوجة اللَّذَيْن تجشّما عناء الطبع بصبر نادر
( إلى الذين أراهم مقبلين يحملون إشراقة الأمل
أهدي هذا العمل.
مقدمة
لم يعد الخطاب الشعري الجديد يستسلم لتلك القراءة الانطباعية التجزيئية، الشعارتية الشخصانية. بقدر ما عاد يفترض قراءة نقدية واعية، تتعامل مع النّص بوصفه قيمة موضوعية، ومن حيث هو صورة عفوية وبنية صغرى لبنية كبرى هي العالم بكل تجلياته. وهذا لن يتأتّى إلاّ من خلال الاستيعاب الشامل والتأمّل والتحليل العميق لماهية النص، وبنياته وإبدالاتها. ذلك لأنّ القراءة –باعتبارها الوجه الآخر لعملية الإبداع والملازمة له – لا بدّ من أن تكون دينامية متحركة، خالقة ومبتكرة، موازية لصيرورة الابتكار والإبداع الحضاري.(1/1)
ومن هنا كان لزاما على هذه القراءة لكي تكون جادة وفاعلة، أن تكفّ عن كونها حكما معياريا، صارما، أو توصيفا افتراضيا مبسترا. فالخطاب الشعري المعاصر، لم يعد خطابا قائما على الانفعال السّاذج، ولم يعد خاضعا لمقياس الصدق والكذب، بل صار خطاب التّساؤل المعرفي، والتعدد الدلالي السّري، والتنّوع الرؤياوي المكنون، والاحتمال الكشفي المستتر والمُضمَر، إنه خطاب الغموض والالتباس، الزعزعة والتفجير الثورة والتحويل، خطاب التأويل المتعدّد، والتعدّد المحتّمل. خطاب القراءة المفتوحة على آفاق متعددة، والتحليل النصّي المركّز والحكم النسبي، قراءة الانطلاق من المعلوم إلى المجهول، ومن البسيط إلى المركّب ومن المحدود إلى اللامحدود.
إنّه خطاب يفترض قراءة النص من حيث هو إيحاء عميق بالتجربة، وبوصفه إشارة دالة إلى واقع حضاري متهافت، ومرجعية معرفية لا تسلم نفسها بسهولة، وباعتباره ميتافيزياء الكيان الإنساني، ومن حيث هو صورة لعالم متصدّع اجتماعيا، ومضطرب ومعقد معرفيا.
فالخطاب الشعري الجديد بما هو مجموعة علائق ذات مستويات متعددة تنطوي على حمولة فكرية، هي دوما وباستمرار صوت هامس ينكشف له الأثر من خلال التحليل الذي ينشد الأحداث داخل فضاء الخطاب في خصوصيته المعرفية، بوصفها مقولة دلالية لمقاربة المعنى المجازي المستتر وراء المعنى الحقيقي.
إنّ أية قراءة مهما كانت جدّيتها، لا يمكن أن تَنْجُومن المفارقات الإشكالية التي يظلّ النصّ الحداثي يواجهها بها، ويطرحها عليها في كلّ حين، عبر تحوّلات المجتمع الذاتية والموضوعية ضمن توجّهاته الحداثية التجاوزية في الثورة على أنظمة العلائق النمطية، ذات البعد الأحادي، قصد الدخول في حوار مثمر مع إشراقة الغياب المنشود، بإتخّاذ سبل مستويات التأويل في تمعين المعنى وتفجير النص من ركام المفاهيم الجاهزة.(1/2)
من أجل هذا فإنّ القراءة الجادّة، التي تطمح إلى مواكبة روح النص الشعري، دون محاولة اختزاله، وتأمل في تفجير إمكاناته الدلالية، وإثراء عطاءاته، من خلال النفاذ إلى مكنوناته الاستعارية والمجازية، وإماطة اللّثام عن تأثيراته، وفاعليته في التغيير والتأسيس، لا بدّ أن تعمد إلى خرق فضاء النص المفتوح والولوج إلى عالم الاندماج بين الذات والمطلق، لتحديد هو ية النص في قراءته المتعدّدة ضمن مستوياته الدّلالية، وتلك طبيعة كلّ نصّ في تنوّع تضاريسه.
وعلى الرّغم من أنّ الكثير من النّقاد يزعمون أنّ الشّعر لا يحتمل الفكر والثقافة، وأنّه لا يعدوالحالة الحدسية والإبداعية المستمدة من ذاتها، فإنّنا نؤكّد، أنّ تلك النظرية يعتريها الكثير من القصور، لكونها ما تزال مشدودة إلى تلك القراءة اللّغوية التاريخية، ذات النمطية القديمة، المتلقِّفة للمعاني المسطّحة للنص. غير المتوغِّلة في أبعادها الداخلية، ولكونها ما تزال أسيرة النّمط الفيللوجي والتفسير الأخلاقي، أو البلاغي في أحسن الأحوال بوصفها الوجه الظّاهر للنص.
إنّ النص الحداثي هو نصّ الفكر والمعرفة المعقدة، والثقافة المتعددة الروافد، ولذلك نستطيع القول ما من شاعر كبير إلاّ وهومفكّر كبير ومثقّف كبير، شريطة أن تتحدّ ثقافته وتنصهر وتذوب فيه وتغذّي معاناته وتتغذّى منها، وبناء عليه فما من ناقد كبير إلاّ وهومثقّف ومفكر كبير، على أن يكون متسلّحا بالوعي الحضاري، قادرا على الإفادة الواعية من حقول المعرفة الإنسانية المختلفة، مستطيعا خلق المصطلحات الأصيلة المرتبطة ببيئته وحضارته، والمساعدة على بلورة أفكاره وطروحاته.(1/3)
فالعملية الإبداعية الحداثية، بوصفها بنية لغوية قائمة على منطق المفاجآت الغريبة، والتكاثف الدّلالي المعقّد، والإيقاع الدرامي المشحون بعذاب الذات على جميع المستويات الحياتية، تُكَوِنُ لنا عالما كتوماً على أسراره، متأبٍّ على الانفتاح اليسير، متمرّدا على القوالب الجاهزة، والأدوات الإجرائية القديمة العاجزة. إنّها تفترض من الناقد، ممارسة واعية حذرة، ومواجهة متسلّحة بالثقافي والتجريبي، والابتكاري التخييلي. كما تقتضي منه الولوج إلى الداخل، إلى سريرية النصّ، وإضماره، والتفتيش عن الغائب فيه، عن البعد الممتنع عن التكشّف، تقتضي منه أن يمتلك أدوات قرائية كشفية، تتعدّد بتعدّد مستويات النص ودلالته الشاملة، الكائنة والممكنة، الحاضرة والغائبة، الثابتة والمتحوّلة على حدّ سواء. تقتضي منه أن يستند في قراءته إلى رؤية كشفية، قادرة على خلق مصطلحاتها، والعمل على تأصيلها واستقرارها، وقادرة على التحكّم في أدواتها الإجرائية.
ولكن حال واقعنا النقدي الحاضر يبدوأنّه لم يصل بعد إلى هذا المستوى – في كثير من إنتاجه – بعكس الواقع النقدي القديم(1)- فقد تبيّن لنا من خلال قرائتنا المتأنّية لكثير من الخطابات النقدية المتصلة – خصوصا – ببحثنا من قريب أو بعيد، أنّ غياب المنهج النقدي الحصيف يكاد يكون ظاهرة عامة وبارزة فيه.
__________
(1) *- لقد كان الناقد العربي قديما، يمتلك وعيا نقديا نفّاذا، وأدوات إجرائية قادرة على احتواء النص المبدع، كما كانت له مصطلحاته الأصيلة النابعة – أساسا- من واقعه وبيئته وحضارته . راجع على سبيل المثال : عبد القاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز) خاصة، والسكاكي في كتابه (مفتاح العلوم).(1/4)
فكثير من هذه النقود لا تكاد تخرج عن تيارين نقديين يحكمانها، ويوجّهانها، وهما لسوء الحظ- على قدر كبير من البروز والسّيطرة والانتشار. فأمّا الأول، فإنّه لا يكاد يقوم إلاّ على العلاقات الشخصية التأبينية التقديسية، التي كثيرا ما تكون حاسمة في بلورة الخطاب النقدي، الذاتي الانطباعي غير المؤسَّس موضوعيا وفاعلة في توجيه مساره غير المجدي. وأما الثاني فإنّه ينطلق في أحكامه وتأسيسه النقدي من مقولات جاهزة، وأساسيات تكهنية افتراضية، مع بعض الاستثناءات المضيئة التي هي للأسف جدّ قليلة.
ولعلّ هذا الفقر النقدي، يعود بالدرجة الأولى، إلى غياب الذهنية التحليلية التي من شأنها أن تسعى إلى استكشاف فجوات النص، وملء الفراغات النصّية فيه، والتدرّج بجماليات التلقّي إلى خلق إمكانات دلالية قائمة على الحوار المفتوح في افتراضاته وإجراءاته النقدية، ضمن ما تقتضيه طبيعة التعدّد والتحوّل في القراءة.
وهناك اتجاه ثالث غير ذَيْنك الاتجاهين، بدأ في الظهور مؤخَرا، ولكنّه لا يكاد يخرج في مجمله، عن سابقَيه، في عدم الفعالية، وهوأن يعمد الناقد إلى شحن نصوصه النقدية بالمصطلحات الغربية. فكثير من نماذج هذا الاتجاه، كانت غير فاعلة، لكونها غير متسلحة بالوعي الحضاري والمعرفي الشامل، وغير مؤسّسة على الاستيعاب الدقيق. وربما كان ضرر هذا الاتجاه أخطر من ضرر التيارين السابقين، لكونه غريبا عن واقعنا ودخيلا علينا.(1/5)
فالاستعمال غير الواعي للمصطلح الغربي، تنتج عنه اشكالات عدّة، ضررها أكثر من نفعها، لكونها تعمد إلى إشاعة نوع من الغربة النقدية – إن صحّ التعبير- والتشويش والاختلاط، وأحيانا الإبهام. ذلك لأنّه، إذا كانت هذه المصطلحات نفسها غامضة في بيئتها التي أنتجتها، بسبب عمقها وتعقيدها، فإنّها لا يمكن أن تكون عندنا إلا أكثر غموضا وإبهاما، بل وتشويشا. وهذا متأتّ من عدم فهمنا الدقيق لها أو لا، وثانيا لأنها نتاج حضارة غريبة عنّا .فالمصطلح، ليس مجرد لفظة ننقلها، بقدر ما هو واقع نفسي واجتماعي معقّد، بل وحمولة حضارية.
وهذا لا يعني خلوالساحة النقدية العربية تماما من بعض النماذج النقدية البارعة التي استطاعت أن تقارب النص الشعري، مقاربة جيدة، فَأَرْضَت بعض الطموح الذي يسعى إليه النقد الأدبي الجديد في رؤيته الحداثية، لكي يصير والإبداع سواء، أو ليغدوعملية إبداعية تواكب المسيرة الشعرية المتطورة – نسبيا- عندنا.
فلقد استطاعت هذه النقود – بما لأصحابها من وعي نقدي حصيف ورؤية ثاقبة وموسوعية ثقافية – أن تستفيد بقدرة فائقة من مراحل التطور النقدي عبر صيرورته الاكتشافية، وأن تكتسب قيما جمالية وأسسا نظرية، ومفاهيم فنيّة، مكّنتها من الولوج –بجدارة- إلى بواطن النص، واستكناه خفاياه، عبر منهجية متماسكة، تعتمد الكشف والتّجاوز في الأبعاد والمفاهيم والمقاييس، وأن تبلور ضمن ذلك نظرية نقدية مستحدَثة، احتوت العصر وحداثته في جلّ أبعادها. ولكن نؤّكد أن مثل هذه النقود ما زالت في بدايتها. والحق أن هذه النماذج النقدية، فتحت مغالق عدة للبحث، وأزاحت من أمامه الكثير من الصعوبات التي ما كان ليتجاوزها.(1/6)
من هذا التصوّر الأوّلي لإشكالية القراءة، ومن هذا المنطلق النقدي الواعي بالصعوبات التي يمكن أن تعترض سبيله، حاولنا في بحثنا هذا، معالجة تجربة المدينة في شعرنا العربي الحديث والمعاصر، بوصفها تجربة معقدّة، وظاهرة حضارية متداخلة مع كثير من الظواهر الأخرى، الاجتماعية والسياسية والتاريخية والفكرية والاقتصادية، وباعتبارها بنية كلّية تتموقع ضمن مجموعة من البنى الكلّية الأخرى تتداخل معها تارة وتوازيها أو تحتويها تارة أخرى .
والواقع، أنّ الطريق لم يكن ممهّدا لهذه الدراسة أبدا، فلقد كان الهاجس الملتهب للبحث، هو أن يقارب النص الشعري في جل جوانبه المعرفية والجمالية والحضارية، علّه يضيف بالتحليل المعلّل، والدراسة العميقة، بعدا آخر من أبعاد التجربة الحداثية التي لا تزال تفتقر إلى كثير من الموضوعية في خطاباتها .فبدأ بتصوّر غامض، تحفّه مخاطر ومزالق عدة، نظرا لافتقاد الدراسات المتخصصّة في هذا المجال، مجال دراسة شعر المدينة، ونظرا لتشعّب الموضوع- شعرية المدينة- وتداخله والتباسه بمجالات معرفية متعددة فلسفية تاريخية وحضارية...
فعلى الرّغم من أنّ شعرية المدينة تحتلّ مكانة بارزة في جسد القصيدة العربية، فإنّ الاهتمام بها نادر على المستوى النقدي. فهولا يعدوأن يكون محصورا في إشارات متناثرة هنا وهناك، وفي أحسن الأحوال قد يدبّج له مقال في مجلّة، أو يعقد له فصل في كتاب، كما فعل كلّ من إحسان عباس في كتابه (اتجاهات الشعر العربي المعاصر )، وعز الدين إسماعيل في كتابه ( الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية)، وعبد الحميد جيدة في كتابه (الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر ).(1/7)
ولقد كانت هذه الفصول في مجملها، انتقائية، ومقتضبة ومتسرّعة، تتعجل الحكم والنتائج قبل إحكام المداخل، غير متعمّقة في دراسة الظاهرة، ولا رابطة إياها بالظواهر الأخرى التي تتداخل معها أو تندرج بضمنها. ولكن على الرغم من ذلك فإنها – أي هذه الفصول – قد أفادت البحث ببعض الرؤى وحفّزته على تجاوز جملة من النقائص الواردة.
ونعتقد أنّه على الرّغم من غياب الدراسات المتخصّصة في هذا المجال، فإننّا نجد في الخطابات الشعرية المجسِّدة لتجربة المدينة ما يكفي لتغطية المساحة المشتعلة من السؤال – الذي رافق البحث- مع استخدامنا لتقديرنا الخاص في كثير من الرؤى، وبالطريقة التي كنّا نعتقد في جدواها.
ولقد كان من الطبيعي- في اعتقادنا- استنادا إلى ما سبق، في تصوّرنا لإشكالية قراءة الخطاب الشعري المعاصر، وبناء على العنوان الذي كان إطارا عاما للبحث- وباعتبار العناوين إرهاصا للمقاصد- أن تنتظم الدراسة في مدخل وخمسة فصول تعقبها خاتمة.(1/8)
فنظرا لكون المدينة، ليست مفهوما معاصرا، أو فكرة مستحدثة، ولكن النظرة إليها هي التي يمكن أن تتّسم بالحداثة والمعاصرة، أو بالرجعية والقِدم، وكونها ليست مفهوما سكونيا جامدا، بل صيرورة متطوّرة، وكونها قبل أن تكون بناء معماريا وشكلا هندسيا فارغا، هي جملة من العلائق والأعراف والمواضعات المتطورة. نظرا لهذا كلّه، جاء المدخل بمثابة التمهيد الذي أجهد نفسه لوضع القارئ في الجوالعام للبحث، وربط الظاهرة – ظاهرة المدينة- بجذورها التاريخية، اعتقادا منّا بأننّا لا نستطيع تفسير ظاهرة أدبية ما، وإعطاءها حقها من التمحيص والتدقيق، إلا بربطها بجذورها التاريخية والحضارية، وواقعها الذي أنتجها، والظروف التي أو جدتها، ففي هذا وحده فقط تتأكد أصالتها، وتنتفي تبعيتها. ولقد كان هذا الطموح باعثا قويا على إطالة هذا المدخل والتوسّع فيه، وهذا التوسّع له ما يبّرره، إذ أننا حاولنا جاهدين البحث عن معنى المدينة في اللاوعي العربي – الإسلامي، وعن الموقف التقليدي منها عقيديا فلسفيا وشعريا، ولم نرد أن ننساق وراء تلك الطّروحات المتعجّلة أو الكسلى، التي لا ترى في بروز الظاهرة عندنا إلاّ تأثرا محضا بالغرب فحسب، وعلى الأخص بالمدينة الإليوتية.
لقد حاولنا في هذا المدخل أن نعطيَ صورة جامعة عن فكرة المدينة في الأدب والفلسفة والدين، ضمن تدرجها التاريخي، وهذا بعد تعريفها والالماع إلى وجودها. ولم يكن قصدنا في ذلك تقديم مسح شامل ومفصل، أو تقديم بانوراما عنها عبر العصور، فهذا أمر يصعب إن لم نقل يستحيل تحقيقه بجهد فردي، فكل ما كنّا نطمح إليه هو إطلالة خفيفة هدفها الذِكر لا الحصر، تكون بمثابة الأرضية التي يُستطاع من خلالها تحديد الموقف من الظاهرة راهناً وهضمه. ولم ننس في ذلك بيان إرهاصاتها في الشعر والفكر الغربي القديم فتكوّنت لنا ضمن ذلك مباحث تمثّلت فيما يلي:(1/9)
ظاهرة التأسيس في الفكر الغربي القديم وبالأخص عند أفلاطون، ثم عوامل النّشأة في التراث العربي الإسلامي، فلاحظنا غياب المدينة في الشعر الجاهلي، وحضورها في صدر الإسلام في الخطاب القرآني ومصدر الحديث، ثم على المستوى السياسي عند الخوارج، والحنين إلى الموطن عند العذريين، ثم حضارة التمدّن في العصر العباسي من خلال الإبداع الفني والفكر الفلسفي وخصوصا (المدينة الفاضلة) عند الفارابي، كما تناولنا أيضا صورة المدينة في الحضارة الأندلسية، مظاهرها والمواقف منها، وحاولنا البحث عن العلاقة بين التطوّر المعماري في هذه الحضارة وظهور فن التوشيح. وعرّجنا أيضا على هرم المدينة عند ابن خلدون : تكوّنها ونموّها ثم سقوطها.
أما الفصل الأول، فكان أيضا شبه تاريخي، بحيث حاولنا فيه بيان إرهاصات الظاهرة، وإجلاء مدى التطوّر الذي عرفته على أيدي شعراء النهضة من جهة، والنظرة الغربية الحديثة والأجنبية لها من جهة أخرى، فكانت مباحث الفصل تقتضي الوقوف مع المدينة الخاطئة، ثم المدينة البودليرية المرعبة، ثم مدينة التنوريين المحتفَى بها، ثم المدينة الصناعية عند الشعراء الروس والمدينة اليباب عند ت.س.اليوت، ثم الموقف المتأرجح بين تطبيع المدينة والتبرّم منها عند شعراء آخرين.
أما الجزء الثّاني من هذا الفصل فكان مخصّصا لصورتها في الشعر العربي الحديث ضمن الهوّية الحضارية والخلفية السياسية،واستدعاء الفضاء المنشود، والتمرّد عليها وهجائها وأحيانا أخرى الاحتفاء بها.(1/10)
بينما حاول الفصل الثاني في مبحثه الأول أن يحدّد إشكالية التجربة في الثقافة العربية الفكرية والشعرية، ويبين أسباب غيابها على المستوى النظري قديما وحديثا، كما تناولنا أيضا وعي إشكاليات التجربة في العملية الإبداعية من خلال تتبعنا لتصريحات وتنظيرات بعض الشعراء، أمّا المبحث الثاني في الجزء الأول من هذا الفصل فقد كان يطمح إلى بيان الطرح الحداثي لتجربة المدينة، ومصادرها، ثم فرادتها، مع ربطها بملابسات العصر وأبعاده الفلسفية والاجتماعية، الاقتصادية والسياسية والأدبية.
أما الجزء الثاني من هذا الفصل فكان تطبيقيا تعرّضنا فيه إلى علاقة الشاعر بالمدينة وتجربته الحياتية فيها ضمن الرؤية الحداثية، فكانت المباحث التالية: الكيان المادي للمدينة، ثم نسق العلاقات الإنسانية في مجتمع المدينة ضمن سيادة فلسفة القوة والقهر الاجتماعي وهيمنة منطق القمع السياسي.
في حين تناول الفصل الثالث أزمة الإنسان العربي المعاصر من خلال التأسيس الشعري للمدينة ومسار الوعي المغترب فيها، ضمن جدلية القلق الحضاري، الذي هو دليل عافية ومظهر من مظاهر حب الانتصار للحياة الإنسانية السامية، وتأكيد الهوية الحضارية الأصيلة، من خلال ربط الماضي بالمستقبل مرورا بالحاضر، مع استدعاء اللّحظات الحضارية المتوهّجة، والاستعانة باشراقة الرّؤيا الصوفية واستحياء الرموز الانبعاثية.
وجاء الفصل الرابع ليعالج إشكالية التلقي الجمالي للمكان، وخصوصية تشكيله ضمن الصّورة الشعرية الحداثية، المدعِّمة بالرؤيا الحلمية النازعة نحوالتغيير والتجاوز، وهذا ما عزّز فكرة الدخول إلى ظاهرة الزمان المرتبطة بالمكان، فكان الفصل الخامس الذي عالج مظاهر التعامل مع الزمن في مختلف تجلياته الواقعية الموضوعية والنفسية الذاتية والتاريخية الحضارية والأسطورية، مع التركيز على الدّلالات اللّغوية وحمولتها الزمانية.(1/11)
ومع هذا كله يبقى باب الاحتمالات مفتوحا ويبقى الخطاب الشعري قابلا لمستويات أخرى من القراءة. فقراءتنا هذه لا تدعى الإحاطة الشاملة بمستويات الخطاب الشّعري وبلوغ الهدف المنشود- وهوما كانت الخاتمة قد أشارت إليه في الأخير- من ذلك أنّ أيّة محاولة تتعرّض لما تعرّضنا له، لا بدّ وأن يكون نصيبها من الخطأ أكثر من نصيبها من الصواب. وذلك لأّن الدراسات التي تتناول مثل هذه الظواهر ما تزال تشكّل نوعا من الاستشرافات النقدية، أو هي في أحسن الأحوال تقوم على الافتراض أكثر ممّا تقوم على الدراسة الموضوعية، والنتائج الموثّقة. ولذلك وجدنا صعوبة كبيرة في تتبّع الظاهرة، ودراستها، وهوأمر طبيعي – على ما نعتقد- في كلّ دراسة تطمح إلى أن تأتي بجديد في مجال بحثها.
فدقة الموضوع واتّصاله في جزء هام منه بالفلسفة والتاريخ والحضارة، يمكن أن يكون مصدر مزالق كثيرة ليس من السّهل تجنّبها، ثمّ إنّ عدم وضوح "هوية " المدينة العربية وتكامل ميزاتها بسبب الهجرات الريفية المتوالية إليها يعتبر من ضمن الصعوبات الكثيرة التي تواجه دارس شعر المدينة .
وأؤكّد أنّه ليس في استطاعة هذه الدراسة أن تعرِض لكلّ ما ينبغي أن يقال في موضوعها، فهي تُعنى بالخطوط العريضة وتكتفي بإثارة أهمّ القضايا، من زاوية نقدية أساسية هي أن تنتخب عددا من الأعمال الشعرية، لتقف معها وقفة تأملّية على قدر من الآناة يشعر القارئ معها، أنّ في إمكانه تصوّر هذه الأعمال، كبنى فنيّة قائمة بذاتها، متميزّة عن غيرها في سياق الظاهرة الشعرية، محكومة بقدراتها وتراثها، وثقافتها الجديدة. ولعلّ عملنا هذا في مجمله لا يمكن أن ينطبق عليه إلاّ ما قاله العماد الاصفهاني: " إنيّ رأيت أنّه لا يكتب الإنسان كتابا في يومه إلاّ قال في غده، لوغيّر هذا لكان أحسن ولوزيد كذا لكان يُستحسن، ولوقدّم هذا لكان أفضل، ولوترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهودليل على استيلاء النّقْص على البشر".(1/12)
وفي الأخير لا يسعني، وقد استقام البحث على هذه الشاكلة إلى أن أتوجه بالعرفان الخالص، والشكر الجزيل إلى كلّ الاخوة الذين ساعدوا في تهيئة أجواء البحث والإسراع في إنجازه، بفضل تشجيعاتهم وملاحظتهم القيّمة وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور عبد القادر فيدوح.
والله الموفق
(((
مدخل:
التطوّر التاريخي للمدينة
- ظاهرة التأسيس في الفكر الغربي القديم
... - عوامل النشأة في التراث العربي الإسلامي
أ غياب المدينة في الشعر الجاهلي
ب المدينة في صدر الإسلام:
1- في القرآن الكريم
2- مصدر الحديث
3- موقف الخوارج السياسي
4- الحنين إلى الموطن عند العذريين
ج – حضارة التمدن في العصر العباسي :
1- في الإبداع الفني
2- في الفكر الفلسفي (المدينة الفاضلة للرئيس الفاضل)
د- صورة المدينة في حضارة الأندلس:
1 – الموقف الإيجابي : وصف فردوسها – رثاؤها
2- الموقف السلبي من المدينة:
? مظاهر التهتّك والمجون
? الاغتراب في المدينة وهجاء أهلها.
هـ- هرم المدينة عند ابن خلدون.
ظاهرة التأسيس
في الفكر العربي القديم :(1/13)
المدينة هي مسكن الإنسان الطبيعي، وهي المكان الإنساني الأفضل المبني لسعادته، شأنها في ذلك شأن كل تجمع بشري كالقرية أو البادية في أو ل الأمر. ولقد كان تكونها تلقائيا بطيئا في المراحل الأولى، ثم تقنيا حثيثا في مراحل متأخرة، أو جدها الناس لتكون في خدمتهم وعلى مستواهم، أو جدوها لتناسب أذواقهم ومشاربهم، ولتساعدهم على العيش وتطمئنهم وتحميهم من العالم المناوئ ومن أنفسهم .ولذا شكّلوها على مقاسهم وعبؤوها بما يستجيب لحاجات الأجساد والنفوس من(1) مرافق ضرورية لضمان سيرورة حياتهم ،وإقامة مراسيم طقوسهم وحفلاتهم، وكذا مرافق ملهاتية ينفّسون فيها عن مكبوتا تهم . فكان لكل مدينة شخصيتها وروحها المميزّة لها عن غيرها من المدن الأخرى تبعا لتمييز عادات وتقاليد وحاجيات ساكنيها ونشاطاتهم، وحتى موقعها الطبيعي انغلاقا أو انفتاحا، ذلك لأنّ ثمة مدنا " منفتحة على نهر أو على الأفق ... وثمة مدنا قابعة في زوايا الأودية، منغلقة كالمقرور في ظل بواباتها، أو منكمشة في حركة ذعر أو منتشرة في ظل السهل البعيد"(2) وهذا من شأنه أن يحدث تأثيرا في النفوس حاسما ويشكّلها هو الآخر أيضا، كما أن الإنسان يطبع المكان الذي يوجد فيه بطابعه الخاص، ولذا " كثيرا ما يحدث التشابه بين الإنسان والمكان الذي يسكنه "(3) وهكذا تكون المجتمعات على صورة المدن والعكس يصّح، لكون التأثير متبادلا .
__________
(1) -الإنسان والمدينة في العالم المعاصر، مجموعة من المفكرين الفرنسيين، تر / كمال خوري، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1977 ص 5
(2) - م.ن، ص6.
(3) - م.ن.ص ن(1/14)
وتنتقل صورة المدينة هذه عبر الأزمان والأجيال مع بعض التغيّيرات اللازمة، للتكييف مع مستجدات الحياة، إضافة إلى أنها ظاهرة مكانية خاضعة للتطوّر الزمني . وتختلف عبر هذه الصيرورة والحركية والتغيير النسبي نظرة الناس إليها ومواقفهم منها، حبا أو بعضا، تقبلا أو نفورا، اتصالا أو انفصالا.
والمدينة بوصفها ظاهرة مكانية خاضعة للتطور الزمني وذات وظائف حياتية مسطرة قبليا، ركز عليها الأدب المعاصر وشحنها برموز وأبعاد ودلالات مختلفة، لتصبح ذات دلالة فكرية معقدة نسبيا. من خلال هذا الطرح، يمكننا أن نتساءل: هل فكرة المدينة على النحوالذي طرحناه، هي بنت المعاصرة، أم أنها ضاربة بجذورها في أعماق قلب التاريخ البشري، وأغوار الفكر الإنساني ؟
الإجابة على هذا التساؤل يقتضي منا التأكيد على أنّ فكرة المدينة كظاهرة مكانية، وبعد فلسفي فكري، وبوصفها رؤية حضارية، قد يعتقد البعض أنها حديثة التصور إبداعيا وفنيا، ولكن الأمر يختلف كلّية لمن يبحث وينقّب في بطون كتب تاريخ الفكر الإنساني سواء العربي الإسلامي منه أو الغربي.
فالبحث والتنقيب يفصح لنا عن وجود كثير من الشواهد والأمثلة التي تدل على أن المدينة " أو فكرة المدينة "، أخذت أبعادا فكرية وفلسفية واجتماعية كثيرة في التراث الإنساني على مرّ العصور .
وسنحاول فيما يلي تتبع بعض هذه المواقف التي حواها التراث الإنساني على تعدد مشاربه واختلاف اتجاهاته لنتبين موقفه منها ونظرته إليها (أوتطور المدينة من خلاله)، ولنبدأ بالتراث الغربي.
المدينة في التراث الغربي:(1/15)
لقد أسس الإنسان القديم – والإغريقي منه على وجه الخصوص مدينته من أجل تلبية حاجياته الجسدية منها والنفسية، فكانت " رابطة اجتماعية تشدّ ساكنيها إلى ساحتها بغرض التعامل التجاري والجدال الفلسفي"(1) وكان الاتصال فيها سهلا وقضاء الحاجات يسيرا، خاليا من كلّ تعقيد، لأنها كانت تنشأ " متنامية حول ساحة أو شارع رئيسي"(2) في شكل تجمع طبيعي بطيء، يتكدس حولها البناء كيفما اتفق ويسكن فيها الناس على هواهم. ولذا كان التقارب بينهم دائما والتواصل مستديما.
ونظرا لأهمية هذه الرابطة الاجتماعية وحميميتها، فقد حدد أرسطومحيط المدينة بما لا يزيد عن سماع صوت، أو استفائه، حتى لكأن الأمر بالنسبة إليهم يعتبر تجسيدا لفعل التنظيم، وتحقيقا لنظام الجمال الأرضي، وعلاقة ذات نمط حضاري مميز من حيث كونها أساسا للنبع الثقافي، ومركزاً للتعامل الإداري لتسيير شؤون الحكومة وما يتولد عنها، وأكثر من ذلك فإن طبيعة المدينة على هذا النحوهي مسرح محاورات سقراط، كما أتى على صياغتها أفلاطون، يتحكم فيها الوسط التقليدي الملطف(3) الذي تفاعل معه سكانها على اعتبار أنه يجذب إليهم – بسخاء- كل ما يحتاجونه دون عناء. ولذلك أحبّوها وارتبطوا بها ارتباطا روحيا عميقا، فكانت المدينة هي بيت المجتمع، والشارع بهوالجميع، الكلّ يتفانى في خدمتها، ويعمل على حفظ جمالها وإدامة استقرارها، ويبذل أغلى ما لديه للدفاع عن أمنها الداخلي والخارجي.
__________
(1) - محمود شريح، تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر العدد 10، شباط 1981، ص 89.
(2) - الإنسان والمدينة في العالم المعاصر، ص 5.
(3) - ينظر محمود شريح، تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر، ع 10، شباط 1981، ص 89.(1/16)
فالتاريخ القديم يروي الكثير عماّ كانت تتعرض له المدن من غارات وحرائق، وما تدلف إليه من انزلاقات أخلاقية وفساد، الأمر الذي حدا بأفلاطون إلى إقرار وجوب تشديد النظام وتوفير الأمن الداخلي والخارجي وتحقيق العدالة، وتأسيس المدينة المثالية الفاضلة.
1 - أفلاطون والمدينة اليوتوبيا:
يقرر أفلاطون أن الاجتماع ظاهرة طبيعية ناشئة من تعدد حاجات الفرد وعجزه عن قضائها بمفرده، و" لذلك تألف الناس أولاً جماعات صغيرة تعاونت على توفير المأكل والمسكن والملبس، ثم تزايد العدد حتى ألفوا المدينة"(1) وتعقدت الحياة نسبيا وكثرت المطالب "فلم تستطع أن تكفي نفسها بنفسها، فلجأت إلى التجارة والملاحة"2، محاولة توفير الضروري فقط مع المحافظة على قيمها السامية من قناعة وسماحة، وهذه المدينة هي المدينة البشرية الأولى "مدينة الفطرة، مثال البراءة السعيدة، ليس لها من حاجات إلاّ الضروري"3.
ولكن هذه الفطرية في التعامل والتلقائية في الاجتماع لم تدم، فما لبثت أن تعقدت الحياة وابتعدت عن طبيعتها الأولى، واستحدثت أشياء جديدة فتفطن الناس إلى جمال الترف والفن، فنبتت فيهم حاجات جديدة، واستحدثوا صناعات لإرضائها، وضاقت الأرض بمن عليها "(2)وكان بذلك انقضاء العصر الذهبي عصر الفطرة والتلقائية، وفسدت طبائع النفوس وازداد طمعها " فنشبت الحروب وتألفت الجيوش"5 وساد الظلم وإنعدمت العدالة وكانت هذه المدينة هي المدينة الثانية، وهي مدينة متحضرة ذات طابع عسكري عنيف .
__________
(1) -2- 3- أبو نصر الفارابي: كتاب الجمع بين رأيي الحكذيمين، تقديم وتعليق د/ ألبير نصري نادر ط3، دار المشرق، بيروت، ص16.
(2) 4 –5- م.س، ص16.(1/17)
واعتبرت هذه الأخيرة مشكلة إنسانية بالنسبة لأفلاطون، لإنبنائها على الظلم وتهميشها للعدالة. ولذلك نراه يتساءل : "على أي صورة نبني مدينتنا لنحقق فيها العدالة ؟ ". ويجيب – وهوالفيلسوف – في زعمه – هي وحدها المؤهلة لتحقيق حياة أفضل، فيشترط أن يكون تنظيم المدينة غير مناقض لنظام النفس فيقول : "يجب أن نشخص بأبصارنا إلى "المدينة بالذات" فنجد أن بينها وبين النفس شبها قويا : فإن للمدينة ثلاث وظائف: الإدارة والدفاع والإنتاج، تقابل قوى النفس الثلاث: الناطقة والغضبية والشهوانية، فإذن يجب أن تتركب المدينة من طبقات ثلاث : الحكام والجند والشعب "(1)،
وبهذا فالمدينة الحقّه عند أفلاطون من الضروري لها أن تنتظم بنظام يجب ألا يخرج عن نظام النفس، حتى تتحقق حياة أفضل وتسود العدالة المنشودة، وكأننا به يحاول أن يوفق بين نظام النفس كما خلقت، وتنظيم المدينة كما يجب أن يكون، حتى لا يخرج بها عن الفطرة، كل هذا ضمن نظام تراتبي ثلاثي استثنى منه الشعراء والفنانين وأبعدهم، لكونهم -حسب اعتقاده- مصدر فساد ومنبع رذيلة وتسميم للعقول(2).
إن المجتمع الذي أسّسه أو حاول تأسيسه أفلاطون في مدينته الفاضلة، هو مجتمع نخبوي طبقي، قائم على ثلاث طبقات متدرجة في السلم القيمي أو الأهمية الاجتماعية بحسب حاجة المجتمع أو المدينة إليهم، الحكام فالجنود ثم الشعب، والعناية تكون بحسب أهمية كل طبقة، ولذلك فإن اشتراكية أفلاطون أو شيوعيته قاصرة على طبقة الحراس، أما الشعب من زرّاع، وصنّاع وتجّار، فلهم أن يتملكوا مصادر الإنتاج أو الآلة تملكا شخصيا، وأن يستغّلوها ويتاجروا بنتاجها كما يرون "(3).
__________
(1) 6 - م.ن، ص16.
(2) 7 - ينظر: م.ن، ص 17 .
(3) - أبو نصر الفارابي، كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين،، ص18.(1/18)
ولكن ما يمكن ملاحظته هنا، هو أنّ أفلاطون مال عن صواب سداد الرأي في حكمه هذا فهو من جهة يزعم أن الشعب شهواني الطبيعة غير قادر على تسيير شؤونه بنفسه، ومن جهة ثانية يمنحهم الحرية المطلقة في تسيير دواليب اقتصاد البلاد كيفما شاءوا، وهذا الجانب لا تعدم خطورته في كل دولة تنشد الأمن والعدالة والاستقرار، وهوما كان يطمح إليه أفلاطون .
ونستطيع القول بأن مدينة أفلاطون على الرغم من ادعائها الفضيلة والعدالة والحضارة، إلا أنها تبدوغير ذلك تماما، لكون الطبقية أساسها والإعدام ديدنها في سبيل أن يظل "عدد السكان في المستوى الذي يكفل سعادة المدينة وأن يحتفظ بقيمهم المدنية والأدبية"(1). وتبقى المدينة محافظة على سعادتها وسموها ونقاوتها " ما دام الحكام معنيين بتربية الأطفال مستبقين طبقة الحراس في المستوى اللائق، وينزلون إلى الطبقة الثالثة من يلحظون فيه انحطاطا من أو لاد الحراس. ويرفعون إلى الحراسة من يتوسمون فيه الأهمية من أولاد الشعب"(2).
من خلال هذا العرض المبسّط والموجز لفكرة المدينة عند أفلاطون، يتبين لنا أنه لا يفرق بينها وبين الدولة، لأن فيها يكون مركز الحكم، وفي فضائها تتم المبادلات التجارية، بل وكل تعامل إنساني. وما يهمنا من كل هذا هو أن المدينة كانت وستظل على مر الزمن المسرح الأمثل لكل تحول أو ثورة أو تجدد وتغيير كيفما كان نوعه .
وهكذا يصحّ القول بأن المدينة الفاضلة التي كان ينشدها أفلاطون ويريد من خلالها تجسيد مثله العليا، كانت مدينة تبعد عن الواقع إلى حد التوهّم، إنها وليدة الخيال الفني والفكر الفلسفي عند خالقها فحسب.
2- الشعراء الإغريق والمدينة الرمز:
__________
(1) - م.ن، ص.ن.
(2) - م.س، ص.ن.(1/19)
وفي خضم كل هذا الزخم التطوري المليء بالأحداث والتغيّرات، وربما القلاقل، لم يكن الشاعر والفنان الإغريقي بغائب عن الساحة، بل كان أشد حضورا، من خلال قنواته الخاصة، المتمثلة في تلك المسارح والمنتديات والمواسم والحفلات الطقوسية الدينية ذات الطابع الحضاري الفني. فمدن الإغريق لم تكن مدنا مادية وحسب، بل كانت ساحات للمحاورة والمثاقفة واستعراض الفنون أيضا. وأساطير الإغريق تقول إنّ: " أسوار مدينه"طيبة" شيدت من طوب القصائد وموسيقاها"(1)الأمر الذي يؤكد بكل وضوح "شغف الإغريق بالفن وتعليقهم الآمال على ضرورة وجوب حكم العقل والمخيّلة والبناء روحيا كان أم ماديا"(2)، لقد كانت هذه المدن تقدّم للفنانين "ينابيع مدهشة وجديدة للشعر وأسبابا للتفتح الجسدي والروحي"(3) فيضيفون إلى جمالها الأرضي وتجسدها المادي جمالا روحيا حلميا تجريديا شاعريا، لأن "الإنسان لا يستطيع أن يسكن على هذه الأرض إلا شعريّا"(4)، ولذلك يجب نقل مصادر الشعر وينابيعه"(5) الشفافة لتكثيف صفة الإنسانية وإثرائها، ولا يضطلع بهذه المهمة إلا الشعراء ذووالقدرة الخارقة الذين باستطاعتهم رفع" الواقع إلى مرتبة الرمز وكسب ما هو غريب عن الإنسانية إلى الإنسانية(6). فالمدينة في عرف الإغريقيين كانت مدينة ذات وحدة حضارية متكاملة "تسوّرها أصول المنطق والعقلانية"(7)، وتكثّفها وتسموبها الإبداعات الشعرية.
__________
(1) - محمود شريح : تجربة المدينة في شعر خليل حاوي الفكر العربي المعاصر، ع 10،شباط 1981، ص 89.
(2) - م.ن، ص ن
(3) - مجموعة من المؤلفين، لإنسان والمدينة في العالم المعاصر ص13.
(4) - م.ن، ص14.
(5) - م.ن، ص14.
(6) - م.ن، ص211
(7) - 8- محمود شريح، تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، لفكر العربي المعاصر،العدد 10، شباط 1981، ص 89 . (مرجع سابق).(1/20)
لقد كانت موضوعا أثيرا لدى شعرائهم، فـ "الشاعر الإغريقي لم يجد موضوعا أشدّ وقعا في النفس من رؤية احتراق مدينة أو الوقوف على أطلالها"8، لقد تفننوا في التغنّي بها وبكاء أطلالها وتملّي آثارها، وتصوير مآسيها التي كانت تحل بها من جرّاء تلك الغارات التي كانت تشنّ عليها من حين لآخر فترديها خرابا وتحيل جمالها بشاعة، واشتهر في ذلك شعراء كثيرون وعلى رأسهم هوميروس الذي استطاع أن ينقل بأمانة وعمق وأصالة، ما تعرضت له بعض المدن من حرائق وتخريبات، وبرع على الأخص في " تصوير من لا مدينة لها في "الأوديسا""(1).
__________
(1) 9 - م.ن، ص.ن.(1/21)
ولكن ما تجدر الإشارة إليه، هو أن تناول شعراء الإغريق لمدنهم لم يكن من هذا الجانب فقط- جانب الإيجابية فيها- بل تناولوها من زوايا أخرى. فعلى الرغم من أثيرية المدينة لدى الإنسان الإغريقي وارتباطه الروحي بها، والتغني بفضائلها، إلا أنّ هذا لم يخل من مشاكل متصلة اتصالا مباشرا بتطوّرها ونموّها، وزيادة كثافتها السكانية وتكدّس الأحياء فيها، حيث أصبحت "روما وقرطاجة وبعض مدن الشرق والشرق الأقصى عمالقة التجمّع البشري على مساحة محدودة ضيّقة، وبهذا كانت تشكل وسطا حيويا وكانت تضع أمام إمكانية الإيلاف النفسي للأحياء مشاكل تعادل مشاكل الإيلاف المادي"(1)الأمر الذي خلق مصاعب جمّة وسبّب بعض القلق والتوتر لساكنيها، ولكن هذا لم يكن ظاهرا بشكل لافت للنظر في المخطوطات القديمة، بل كل ما في الأمر لا يعدوأن يكون عبارة عن إشارات عابرة كبعض "الشكاوي من الضوضاء اللّيلي الذي تحدثه المركبات التي تجلب الخضار إلى السوق أو بعض الملاحظات الساخرة عن الأخلاق المنحلة للجواري أو عن رائحة العامة المتكدسين في مدرجات المسارح"(2) ،أما ماعدا ذلك – أي عدا التغني بفضائلها أو بكائها، أو إبداء بعض الملاحظات العابرة حول التبرّم بها – فإن وجهة الشاعر في أغلب الأحيان تكون " نحوالحقول حيث يسهل عليه تفسير الوجود الإنساني وعلى الأخص لأن تجربة الحب تتحدد تقليديا مع تجربة المناظر الطبيعية والفصول في حين أن الوسط المدني يصلح أكثر لنشاط العشق والتبذّل"(3) .
__________
(1) 10 - مجموعة من المؤلفين، الإنسان والمدينة في العالم المعاصر، ص 212.
(2) - م.ن، ص.ن
(3) - م.ن.، ص ن(1/22)
يتبدى لنا من خلال هذا وكأن الشاعر الإغريقي كان يعمل وبشتى السبل للحفاظ على جلال مدينته وقدسيتها لديه- لأنها تمثل النظام الإلهي الذي يجب أن يحترم – ويتحاشى الصدام بها، فيتّجه بعيدا عنها إلى المواضيع الطبيعية، حيث يتسنى له تحقيق نوع من التوازن والصفاء الروحي، دون مهاجمتها. فالمدينة في عرفه وقرارة نفسه ما تزال بخير، لأن الآلهة مازالوا أحياء يرعونها ويحرسونها.
3- التراث المسيحي والمدينة الجنّة:
أما العصور المسيحية الوسطى وتراثها، فإن المدينة فيها تكتسب جلالا خاصا وتقديسا معتبرا، لكونها" تمثل النظام والجمال والأمن الإلهي. وهي صورة مميزة عن الخلود السعيد"(1)، إنها مقر للأبرار المختارين "على شكل مدينة محصنّة جيّدا ومغلّفة بغلاف من الذهب والأحجار الكريمة"(2)، إضافة إلى كونها تمثل نمط نشوء الحضارة والتراث المسيحي. فالمستقصي لمنحى تاريخ حضارة العصور المسيحية الوسطى لا يجد مندوحة عن تتبع ودراسة أحوال مدن مثل : روما أو البندقية أو ميلان في تلك الحقبة، بوصفها الشاهد على تلك الحضارة والوعاء الحامل لتراثها، وعندئذ سيجد أن تلك المدن كانت تمثل" نمطا حضاريا مميزّا بما تمثّله من علاقات ثقافية ودينية واجتماعية وحكومية"(3). هكذا كانت المدينة بالنسبة إليهم تمثل الدين بكنائسها والمعرفة بجامعاتها والحضارة بهذه وتلك، وهذا بعدما "تحولت مراكز المعرفة والشريعة من الأَدْيِرَة إلى الجامعات. وفي هذا التحوّل اندمج المنحى السامي للمدينة الغربية، فالتصق الرمز الروحي لها بوجودها المادي، وأصبحت المدينة في عرف القديس أغسطيوس دير الربّ". وهكذا اندمج الروحي بالمادي وتآلفا، واكتسبت المدينة بذلك جلالا وقدسية وأصبحت جنة أرضية...
4-الطلائعيون والمدينة الجحيم:
__________
(1) - م.س، ص: 213 .
(2) - م.ن، ص.ن.
(3) - محمود شريح: تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر،ع 10، شباط 1981، ص 89(1/23)
لكن هذا الجلال والتسامي للمدينة يبدأ بالانحدار والتلاشي بخطى وئيدة مع مرور الزمن، بعد ضعف سيطرة القدسيين، وبروز نخبة من الطلائعيين التحرّريين والمتفرّدين في نظرتهم إلى الحياة، الداعين إلى فصل الدين عن الدولة بسبب النفي والتعذيب والقتل الذي تعرّضوا له من قِبل الكنيسة بدعوى الخروج عن التعاليم المقدسة ونشر الهرطقات، إذن، وبعد انتصار هؤلاء المتحررين واندماجهم في الحياة والتعبير عنها بما يشعرون لا بما يملى عليهم، برزت القيم السلبية للمدينة وفقدت جلالها، وهذا في الوقت الذي بدأ فيه الإنسان يتهيأ "لبناء أو رشليم(1) الجديدة بدءا من الأرض ومن هذا الزمان"(2)، الأمر الذي جعل الإنسان يصاب بالذهول "إذ يرى القيم المرتبطة بصورة المدينة تنعكس : يبدوأنها تصبح رمزا سليبا بصدق وعمق، متحد بصراحة مع الطرف الآخر من التناقض حيث تظهر الأبدية: الجحيم"3، وهذه الرؤية الرائدة يضطلع بها الشاعر بودلير، الذي خلخل البنى الفكرية وتفرّد بإبداعه، واستطاع أن يجعل كلّ ما كان يُعتقد أنه غير شعري، موضوعا شعريا(3).
5-التراث العبري والمدينة/ الفردوس المفقودة:
__________
(1) - أو رشليم : رمز للحياة الآخرة بعد الموت في الإنجيل
(2) - 3- مجموعة من المؤلفين، الإنسان والمدينة في العالم المعاصر، ص 213.
(3) 4 - لنامع بودلير وقفة خلال تتبعنا لفكرة المدينة في الشعر الغربي الحديث.(1/24)
أما المدينة في التراث العبري فإنها "مدينة الله"، وهي تمثّل التضامن والاتحاد والتحابّ، وخروج الإنسان من هذه المدينة يعتبر غضبا إلهيا عليه، وهويعادل تماما سقوطه من عالم الفطرة والبراءة الأولى، لدرجة أنّ "ما من مدينة على وجه الأرض تعوّض على الإنسان قيمة الفردوس المفقود"(1). ولذلك فهودائم البحث عن هذه المدينة الفردوس، ولا يتمكن من إيجادها في جميع الأحوال، فيختار مضطرا السكن في المدينة الأرضية (الجحيم)، ويبقى دوما ينظر إليها بعين مريبة ونفس متململة شاعرا بانفصاله عنها وغربته فيها، فهي في نظره حتى وإن امتلأت بشرا وازدهرت حضارة تبقى تعاني قحطا دينيا وجوعا عاطفيا"(2). وما يصعّد هذه الريبة ويعمق شرخ هذا الانفصال، ويكثّف غربته ويزيد من وطأتها على نفسه، هو ما تعرض له الإنسان العبري على مرّ العصور من تشريد ونفي وتشتيت، ممّا ولّد لديه شعورا متأصّلا باللاّ انتماء، وأصابه بعقدة الخوف التي لا تبرحه، فهودائم القلق، جاهلا لمصيره، متطلعا دوما إلى "أرض الميعاد" حيث الانتماء الحقيقي والهدوء النفسي والاستقرار العاطفي والتشبع بالتعاليم الدينية(3).
II) عوامل النشأة في التراث العربي والإسلامي:
أ- غياب المدينة في الشعر الجاهلي:
__________
(1) 5 - محمود شريح: تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر،ع 10، شباط 1981، ص 89.
(2) 6 – م. ن، ص. ن.
(3) - ولكن هذا لم يمنعه من محاولة الاستيطان والتشبث بمدن الغير، والعمل على التوسّع كلما وجد الفرصة السانحة لذلك، بل ويعمل جاهدا على خلقها وبشتى الوسائل سواء فيها المشروعة أو اللا مشروعة، وهذا كله نتيجة عقدة الخوف الملازمة له، كما ألمعنا، وشعوره العميق بعدم وجود مكان خاص به ينتمي إليه.(1/25)
لم يكن الشاعر الجاهلي يبكي حضور المدينة بقدر ما كان يبكي غيابها، ولم يكن يبكي ثقل عمرانها وكثافة بشرها، بقدر ما كان يبكي أطلالها الدارسة وخلوها من أهلها. يتجلى هذا من خلال البرهة الطللية، التي هي – بحق – تعبير صميمي عن لحظة الوعي بالعُرِيّ الحضاري، أو لنقل لحظة الوعي بغريزة الموت التي تدب في أو صال الحياة بصمت، ففيها تتجلى معاينة التخريب الذي حلّ بالكون والإنسان، فأباد عمرانه وأدرس ما شيّده، وهنا يتحول الوقوف على الأطلال إلى وقوف غريزة الحياة، التي يمثلها الشاعر في وجه غريزة الموت التي يمثلها الجدب والقحط الطبيعي، وغياب العمران وكذا الكبت الجنسي، على اعتبار أن الجنس هو رمز الحياة وازدهار عمرانها،"فشعراء الجاهلية لم يبكوا بَيْن الأحبة بقدر ما بكوا خلوالدّيار من أهلها، وكأن نفس الشاعر البدوي كانت تتوق وتتطلع إلى استقرار حضاريّ، طرفه بن العبد يرمز بخولة إلى المرأة بمنحى شمولي وبديار خولة إلى الأرض. إنّ المقدمة الطللية في معلقة فتى كندة توحي بالسكون الناتج عن نهاية الاستقرار الحضاري، فالأرض يباب وأهلها رحلوا، ولذا بكى الشاعر لخيبته بكاء مراّ ووقف أمام الطلل عينه تذرف وكأنه ناقف حنظل"(1). فالشاعر الجاهلي كان يشعر بفقدانه السيطرة على المكان، ويعاني هروبه الدائم من قبضته، ولا يجد –في هذا- سوى الذاكرة ملجأ وعونا لاستحضاره واستحيائه بتلك الصور المتداعية، والهروب والتمنّع، خاصية من خصائص الأنثى، ولذلك فلا غروفي أن يتربط فقدان المكان – وبخاصة المكان الآهل- عند الشاعر الجاهلي بفقدان المرأة التي هي "عامل التواجد والتواصل الإنساني، وفقدان الأرض، عامل الخصب والاستقرار الحضاري، وفقدان المطر، عامل الخصب والتواجد والتواصل.
__________
(1) - محمود شريح: تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر،ع 10، شباط 1981، ص 89.(1/26)
هذه العوامل الثلاثة تتداخل ديالكتيكيا لتعطي الوجود الإنساني المستقر في أي زمان ومكان"(1) .
فالأرض العامرة مرتبطة بالمرأة، وهذه الأخيرة هي رمز العطاء والعمران والتواصل، ولذلك فرحيلها عن المكان –أومنع الشاعر من التواصل بها – يعني اندراس معالمه وتحوّله إلى أطلال منهدمه خربة. وبناء عليه، فالهدم الذي أصاب الحضارة – من جرّاء قمع المرأة وديمومة ترحيلها –" لابد وأن يفضي إلى تشرّد جماعي، وهذا التشرد هو ما يؤرق الشاعر الجاهلي ويدفعه إلى نزعة نحومعطى متحضر ومستقر"(2) .
ب- فكرة المدينة في صدر الإسلام:
1- القرآن الكريم : (المدينة القرية) :
وإذا نحن حاولنا تتبع تطور منحى "فكرة المدينة" في عصر صدر الإسلام، كان لزاما علينا أن نبدأ بالقرآن الكريم الذي جاء بالإسلام فكان تثويرا لبنى العرب الفكرية، وخلخلة لمعتقداتهم الراسخة، وقلبا للموازين رأسا على عقب، وتغييرا للرؤى، فاستقر الناس بعد اضطراب وترحال، وأمِنوا بعد خوف، فتكونت الحواضر وتأسست المدن وأرسيت مقاليد الحكم.
__________
(1) - م.س.، ص 89 : عن عدنان مكارم: رمزية الناقة في القصيدة الجاهلية، مجلة المعرفة، دمشق،آب، أيلول 1980 –ص173،179
(2) - يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1975 ص 158.(1/27)
ولذلك فإن لفظة المدينة في القرآن الكريم ترد كمرادف للفظة (قرية)، وهي مركز السلطة ومستقر الحكام، وغالبا ما يكون هؤلاء جبابرة ضالين مضلين، قاهرين لكل مؤمن بالله يقول تعالى: " فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضلّ فرعون قومه وما هدى"(1)، "إنها منبت فساد وفسق وهي تشكوعلى الدوام من ملوك أغنياء"(2) لذلك نجد في القرآن تحذيرا واضحا وملحّا من حياة القرى وصفات أهلها "التي غالبا ما تنحدر إلى مزالق التهلكه"(3)، فأخبارهم وصفاتهم تتردد في الكثير من المواضع في القرآن الكريم، كالشح وعدم إكرام الضيف، كما في قصة موسى مع الخضر، يقول عز وجل: فانْطَلقَا حتَّى إذاَ أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أن يُضِيفُوهُمَا"(4) وترد لفظة "القرية" هنا نكرة، مما يدل على أنّ هذه الصّفة تعمّ معظم القرى/ المدن إن لم نقل كلها، تنضاف إليهما صفات أخرى مثل الاختلاف والتنازع { إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم، قال الّذين غلبوا على أمرهم لنتخذنّ عليهم مسجدا } (5) .
__________
(1) - الآيتان 78،79 من سورة طه
(2) - خير منصور –أبواب ومرايا : مقالات في حداثة الشعر، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1987، ص: 55
(3) - محمود شريح : تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر، ع10، شباط 1981، ص 90
(4) - الآية 77 من سورة الكهف.
(5) - الآية 21 من سورة الكهف(1/28)
والمدينة مركز التجارة والبيع، يقول عز وجل: { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه } (1)، ولكن صفات أهلها وسلوكهم الضال يستدعي الحذر ويقتضي التلطف وبخاصة بالنسبة للمؤمنين { وليتلطّف ولا يُشعِرن بكم أحداً إنهم إن يّظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبداً } 7 .كما تتفشى فيهم صفة اغتصاب أموال الضعفاء والاستئثار بممتلكاتهم، وهذا ما ينبئ عنه تأويل الخضر لموسى، لما كان يقوم به في أثناء جولتهما { أمَّا السَّفينة فكانت ِلمَساكِينَ يَعْمَلُون في البَحْرِ فَأَرَدْتُّ أنْ أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ...وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبو هما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } (2).
فهم كافرون فاسدوالأخلاق على الرغم من هداية الأنبياء لهم، ووعد الله لهم بأن يفتح عليهم خيرات السماء والأرض لوأنهم آمنوا :"ولوأن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"(3).
ولعلّ ما تحّمله الأنبياء من عنتهم وفسادهم وجورهم يحتاج إلى أضخم المجلدات لسرده – وهوخارج عن نطاق بحثنا- ولكنهم لم يؤمنوا ولذلك فعقاب الله لهم أكيد وعاقبتهم دوما هي الهلاك. يقول تعالى:"وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا"(4) . وعلى ضوء ذلك تبين لنا من خلال عملية جرد بسيطة أن ثلث الأماكن التي ترد فيها لفظة "القرية" تأتي مقترنة بالفعل أهلك(5)، لأنها أماكن موبوءة يجب استئصالها...
2- مصدر الحديث:(المدينة الفاسدة)
__________
(1) - الآيتان 19 و20، من سورة الكهف
(2) - الآيتان 79و82، من سورة الكهف.
(3) - الآية 96 من سورة الأعراف.
(4) - الآية 58 من سورة الكهف
(5) - أخبار هلاكهم موجود بعضها في سورة ( الذاريات) من الآية 31 إلى 46.(1/29)
وتأتي الأحاديث الشريفة متماشية مع روح التنزيل في النظر إلى القرية (المدينة) والموقف المحذر منها- ولا غرو في ذلك فالسنّة الطاهرة بيان للقرآن الكريم وتفصيل لما أجمل منه – وهناك الكثير من الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يختص بالمدينة، تحذر فيها بوضوح من فساد المدن وما يتولد عنها من المعاصي(1)، ففي غزوة تبوك يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنّه حذّر المسلمين من دخول ثمود الفاسدة، كما ُأثر عنه (ص) أنه صعد يوما إلى أعلى جبل أحد فأشرف على المدينة وقال : "سيتركها أهلها على أحسنها يوم القيامة ".
والمتتبع لموقف المؤرخين العرب والمسلمين – بما في ذلك الفرق الإسلامية على اختلاف اتجاهاتها – سيجد أنها لا تشذّ كثيرا عن موقف القرآن والأحاديث النبوية منها، ولعل هذا ناتج أول الأمر عن تشبّعهم بنظرة الدين إليها وحذرهم المسبّق منها، ينضاف إليه ثانيا خبرتهم بها، وتجاربهم المريرة فيها، وما عانوه من تسلط وتجبر وعزلة وتهميش...
إن المتتبع لتوارد وتواتر فكرة المدينة في هذه المصنفات، يلاحظ أنها لم تناقش من منطلق ضيق، أو من منظور اجتماعي محدود، أو بنظرة أحادية، وإنما نوقشت ضمن أطر واسعة وانبنت على دعائم وأسس عقائدية وأخلاقية وفلسفية وفكرية وسياسية صلبة ومعيشة. هذا ما يؤكد أن موضوع المدينة ضارب بجذوره في عمق التاريخ العربي كأبلغ ما يكون، ولم يكن مجرد موضوع منبتّ الأواصر والأسباب، بل كان موضوع مناقشة جدّية تتأرجح ما بين فكرة محاولة التكيف مع أجوائها وأحوالها، وبين رفضها رفضا يقوم على أسباب وتبريرات مختلفة ومعقولة .
3- موقف الخوارج السياسي (المدينة الزائفة):
__________
(1) - ينظر طريف الخالدي، فكرة المدينة في صدر الإسلام، ص 58 –83 –دراسات في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، ط2، دار الطليعة، بيروت، 1979(1/30)
ولعل أبلغ مثال وأوضحه في هذا الصدد، هو موقف الخوارج(1). أو لئك الذين حبّذوا الإقامة في البوادي القفار، ورفضوا المدن رفضا قاطعا، زاعمين أنها لا توافق طبائعهم ولا تنسجم مع نفوسهم الزاهدة في ملذات الدنيا التي توفرها المدينة، الرافضة لتسلط الحكام وطغيانهم، لقد كان رفضهم مبنيا على اعتبارات أخلاقية دينية، وأسس نفسية ومعطيات سياسية، ولم يقبلوا الضيم فاعتزلوا، ولم يرضوا الفساد فحاربوا، ولم يألفوا التملق والتزلّف فهجوا المجتمع وأهله، ولم يطيقوا تحمل زيف هذه الحياة فطلبوا الموت وتعجّلوه.
__________
(1) - الخوارج : كما هو معروف تاريخيا حركة نشأت في أعقاب موقعه "صفين" بعد قبول علي بن أبي طالب مبدأ التحكيم بينه وبين معاوية، حيث رأت مجموعة من جند علي، أن في هذا خروجا عن الحق الذي من أجله جاهدوا معاوية وجنوده، وأقرّوا بأن هناك شكا في هذا الحق الذي أحرزه معاوية نتيجة تحكيم كتاب الله، واتهموا عليا بالانحراف عن الدين، بل وبالكفر، وطالبوه بان يعترف بخطئه ويتوب إلى الله ويؤوب إلى الحق، ليعودوا إلى صفوفه. وبعد رفضه، خرجوا عليه واتخذوا شعارا لهم، لا حكم إلا لله . لمزيد من التفصيل راجع الإسلام لأحمد أمين.(1/31)
إن ظهور هذه الحركة في صدر الإسلام وبداية الدولة الأموية- وهي فترة تمت فيها أكبر نقلة حضارية في زمن قياسي جدّ وجيز، حيث تغيّرت عقيدة العرب وأفكارهم، وخرجوا من قواقعهم المتناهية: البوادي والقرى، وانفتحوا على عوالم لا متناهية، حاملين دينهم الجديد، متشبّعين بإيمان عميق، فاستقروا ببلدان تختلف عن صحرائهم طبيعةً ونظام معيشةِ، وتقاليد، وتراثاً حضارياً، جعلت من الطبيعي أن تنعكس كل هذه المتغيرات والمجريات في شعر العربي- بخاصة عند شعب جعل من شعره ديوانه الخاص، يسجل فيه كل كبيرة وصغيرة من أمور حياته – فبعد أن كان الفرد (الشاعر) الجاهلي وثيق الارتباط بكيانه الاجتماعي المحدود، المتمثل في قبيلته،وأن مصلحته لا تنفصل عن مصلحتها. كما عبّر عن ذلك شاعرهم – دريد ابن الصمّة بصدق في قوله(1):
وهل أنا إلاًّ من غَزِيَةَ إنْ غَوَتْ
... ... ... ... غَوَيْتُ، وإنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ
وأن ليس هناك من حدود واضحة "تفصل حياته الفردية وتجاربه الخاصة من حياة قبيلته وتجاربها "(2)، بعد هذا تغيرت الأمور ببزوغ فجر الإسلام فتأسست (المدينة - الدولة)، وصار الحاكم خليفة للجميع، لا شيخ قبيلة، وأصبح الفرد في خضم هذا التجمع البشري الكثيف، يحس بنوع من الانفصال والتمييز بين نشاطه الفردي في حياته الخاصة، وبين نشاط الدولة وما تمور به من تجارب ومشكلات وتكتلالت جماعية، وما تقرّه من قوانين، رأى فيها البعض انحرافا عن الشريعة.
__________
(1) - ابن قتيبة : الشعر والشعراء، تقديم الشيخ حسن تميم، مراجعة الشيخ محمد عبد المنعم العريان، دار إحياء العلوم، ط2، 1986، ص 507.
(2) - عبد القادر القط : الشعر الإسلامي الأموي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1979، ص 273(1/32)
وهنا بدأ المفهوم السياسي بأوسع معانيه "يشيع شيئا فشيئا في الشعر، حين استطاعت العقيدة أن تعلوعلى صوت الانتماء القبلي، وأن تجمع طائفة كبيرة من أبناء قبائل ومواطن مختلفة حول مبدأ واحد من إيمان تمتزج فيه العقيدة بنظام الحكم والاقتصاد وبناء المجتمع، وعلاقات المسلمين بغيرهم من المجتمعات"(1)، بحيث كان الإسلام قد وحّد الصفوف ووسّع الولاء، ووضع له مقاييسه المعروفة، وأرسى دعائم (الدولة المدينة)، وجعلها تحت إمرة خليفة مسلم. ولقد اتفقت نظرتهم على الخلافة حادت عن مبدئها بعد حادثة التحكيم، وأن أمور الحكم ونظمه لم تكن تسير وفق مقتضيات شريعة الله التقوى والمساواة والعدالة، بل وأن النظام كله غير شرعي، لأنه اغتصب بالقوة والخديعة، وتطورت فكرتهم وازداد مناصروهم فانتقلوا من الرأي إلى العمل، ومن القول إلى الفعل، فأشعلوها حربا شعواء وجهادا في سبيل المبدأ عازمين في ذلك على تحقيق نظام الحكم الإسلامي "المصفّى" من كل شوائب الرغائب الدنيوية التي يمكن أن تحيد بالحاكم عن طريق الحق والدين"(2) .
ولقد عكس شعرهم مواقفهم هذه، وكل ما كانت تمور به حياتهم من سخط ونقمة وحنق على نظام الحكم، إنهم وقفوا موقف تساؤل وشك إزاء شرعية السلطة ولم يُسلّموا -والتساؤل حركة واضطراب وتحولّ-، ولقد تمثل هذا التحول فنيّا في الخروج عن نمط القصيدة القديمة وعمودها الشعري، وتمثّل اجتماعيا في رفض القيم الزائفة التي تسود المجتمع، وتمثّل مضمونيا في الإعراض عن تلك المواضيع أو الأغراض التي كان يطرقها كبار شعراء عصرهم، كالتزلّف إلى الحكام والأمراء والولاة والقواد ومدحهم، مدينين سلوكهم هذا، ساخرين منه، ولعل أبلغ تعبير عن هذا الموقف قول شاعرهم عمران بن حطاب مخاطبا الفرزدق:(3)
أََيهًَا المَادِح ُ العباد ليعْطَى
__________
(1) - المرجع السابق، ص 275
(2) - المرجع السابق، ص 376
(3) ، إحسان عباس، شعر الخوارج، دار الثقافة، بيروت، ص 20 .(1/33)
إن لله ما بِأَيْدِي العبادِ
ارج فضل المُقَسِّمِ العوّادِ ... فأسأل الله ما طلبتَ إليهِمْو
لا تقلْ في الجَوادِ ما ليْسَ فيهِ
وتُسمِي البَخِيلَ باسْم الجَوَادِ
إنها سخرية، ولكنها مرّة، سخرية "منفى" يشعر فيها الفرد بشكّه في الآخر، إنها تعبير عن مأساة وتراجيديا الحياة في دولة سطا فيها الملوك والأمراء، ومع ذلك وجدوا من الشعراء من يهلل لهم ويكيل لهم المديح تزلّفا، إن هذا الموقف المرفوض من لدنهم جعلهم يتخذون لشعرهم مواضيع أسمى ومبادئ أرقى، فجعلوا من الشهادة جزءاً ضروريا من التجربة السياسية الشعرية، فهي الفداء الذي عنه يبحثون،إنهم يطلبون الموت بإلحاح هربا من حياة دنيئة لا خير فيها :
أقول لنفسي في الخلاء، ألومها
هبلت، دعيني، قد مللت من العمر!
مذممة عند الكرام ذوي الصبر ... ومن عيشة لا خير فيها دنيئة
سأركب حوباء الأمور، لعلني ألاقي
الذي لاقى المحترق في القصر
إلى غير ذلك من المقطوعات التي تدخل في هذا المضمار، وما أو ردناه هنا كان على سبيل المثال لا الحصر.
ومما يجدر ذكره أن الشعراء الخوارج كثرا ما ينتهون من حضّ أنفسهم وغيرهم على القتال وطلب الشهادة، والإستهانة بمغريات الحياة، إلى موقف زهدي خالص، بعيدا عن أجواء الحرب ومعاني الفداء، زهد يكتفي بتأمل حال الدنيا ومصائر الناس فيها، فيخلص إلى إيمان عميق بأن الحياة عرض زائل، وألاّ مناجاة فيها للإنسان إلا بإعداد العدة للحياة الباقية الأخرى، وهكذا يعتزلون المجتمع وينفصلون عنه،بل ويغتربون عنه، نتيجة ذلك التعارض بينهم وبين صفات أهله، لذلك نجد الواحد منه " يجتنب المجتمع وما يشيع فيه من معتقدات، وينفصل عن عامة الناس، باعتبار أنهم من عوامل ضياع ذاته الأصلية، ولذلك فهوينشد دائما التجوال أو السفر (في البوادي والقفار لما في هذا ) من كشف عن حقيقة ذاته والتعرّف عليها بعيدا عن العامة"(1).
__________
(1) - الكمشخانوي، جامع الأصول، القاهرة، طبعة الحلبي، ص 88.(1/34)
إنّهم يرون أنفسهم متميزين عن الآخرين بأفكارهم الفريدة الصادقة، ونظرتهم الدينية الصائبة ومبدئهم السياسي، لذلك فهم غرباء، "لأنهم وإن كانوا في أو طانهم وبين أترابهم وجيرانهم، غرباء في آرائهم فقد سافروا بأفكارهم إلى مراتب أخرى هي لهم كالأوطان"(1)، إن الوطن الذي يسكنونه، ليس لهم بوطن بسبب هذا التعارف والتخارج بينهم وبين صفات أهله، وتجاربهم الأخلاقية وولائهم السياسي، بل إنه ليصدق عليهم القول والحال هذه أن ننعتهم باسم "النوابت" بفضل ما تفردوا به من أفكار وما تميزوا به من نظرة إزاء مجتمعهم، لأن "من وقع على رأي صادق لم يكن في تلك المدينة أو كان فيها نقيضه وهوالمعتقد، فإنهم يسمّون بالنوابت "(2)، وما يزيد في غربتهم تكثيفا ويجعلها أشدّ وقعا على أنفسهم، فقدانهم لبعض زعمائهم كقول عمران بن حطان، يرثى أبا بلال مرداس بن أديّة(3) :
يا عين بكّي لمرداس ومصرعه
يا ربّ مرداس ألحقني بمرداس
في منزل موحش من بعد إيناس ... تركتني هائما أبكي لمرزأة
أنكرت بعدك ممن كنت أعرفه
ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إنه يتعجل الموت، مادام أن الإنسان قد تشيأ وصار يعدّ من سقط المتاع
وما للمرء خير في حياة
إذا ما عدّ من سقط المتاع المتاع(4)
1@وقد مللت دهنه وغسله ... ولذلك فلا بد من التخلص من هذه الغربة والسآمة ولوبالقتل :
أحمل رأسا قد سئمت حمله
ألا فتى يحمل عنّي ثقله(5)
__________
(1) - ابن باجة، رسائل ابن باجة الالهية، تحقيق ماجد فخري، بيروت 1968، ص 43
(2) - م.س، ص 42
(3) - إحسان عباس، شعر الخوارج، ص 18.
(4) - البيت لقطرى بن الفجاءة، شعر الخوارج، م .س، ص 42
(5) - البيتان لأم حكم الفارسة، زوجة قطرى بن الفجاءة. ينظر : م.س، ص.ن.(1/35)
وهناك الكثير من الأبيات التي تؤكد اغترابهم، وتعّبر عن زهدهم في الحياة، والتعجب ممن يتهافتون على اقتناء ملذاتها والسير في ركابها(1) .
لقد جعل الخوارج من شعرهم على الرغم من الزهد الذي يتملكهم أحيانا – جمرة يوقدون بها عزائمهم ويلهبون بها حماس تابعيهم، وهكذا تفاعل شعرهم مع ديناميه مبدئهم، فلا نكاد نلمس في هذا الشعر إلا حنقا على السلطة وغضبا عليها، والحكام في شعرهم دائما كفرة جائرون، عن الشريعة منحرفون، ومجاهدتهم وتطهير المدينة منهم هو المبدأ القويم، لذلك يستمر شعرهم في تحدّيه وصراخه والتهابه وتجريحه. فهم ينفون أنفسهم من مدينة (الظلال) والجور طوعا، ويستعلون، ولكنه استعلاء على الحكام الطغاة، لا على سواد الشعب المقهور، وعلى الرغم من ضراوة موقفهم السياسي، إلا أن فيه "تفاؤل المثالي الذي يؤمن في أن انقضاض الشعب على حكامه نهاية للظلم والفساد، وأن عهد العدالة والخير آت عند ذاك ليبقى"(2)، ويستمر.
ومما يجدر ذكره أن الخوارج لم يكونوا شعراء، بل كانوا مناضلّي سياسة، لذلك لم يكن شعرهم راقيا من الناحية الفنية –إلا نادرا – فلقد كان في خدمة المبدأ، لذلك غلبت عليه النزعة الخطابية بإلهابها الحماسي، كما بلغ بذلك ذروة من ذرى أغراض الشعر السياسي الخطابي يندر أن نجد له مثالا في التاريخ العربي الإسلامي، فكان شعرهم فعلا دافعا إلى فعل التغيير والإصلاح، إصلاح المدينة من الجور والفساد وتخليصها من الضلال... فهم لم يدانهم أحد – في التاريخ القديم على حد ما نعلم – في مهاجمة المدن وهجاء أهلها.
4-الحنين إلى الموطن عند العذريين :
__________
(1) - لمزيد من الاطلاع، أنظر: إحسان عباس، شعر الخوارج، ود/ عبد القادر القط، في الشعر الإسلامي والأموي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت 1979، ص 375 وما بعدها
(2) - جبرا ابراهيم جبرا: النار والجوهر : دراسات في الشعر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط3، 1982، ص 21(1/36)
إ ن الأدب العربي في صدر الإسلام يزخر بالإشارات البليغة إلى طبيعة المدن الزائفة، وليس من شك في "أن المقارنة بين هو اء المدن الفاسد وهواء البراري النقّي هي من أشهر مواضيع الأدب العربي إذ كانت جزءا من ذلك الصراع الشهير بين حياة البداوة وحياة المدن"(1) . وما هروب الأمويين والعباسيين من قصورهم الفخمة في المدن ولجوؤهم إلى الصحاري طلبا للراحة والتأمل والسكون، إلا دليل ساطع على فساد المدن وما أثقلت به كواهلهم، وتأكيد بليغ لذلك الصراع، يضاف إليه حبّ العربي للحرية والانطلاق ورحابة الفضاء، حيث يتسنى له تحقيق ذاته وتأكيدها. فالمدينة بكثافتها السكانية وتطوّرها الاجتماعي، ساعدت على تعميق شعور الذات بضآلتها وهامشيتها، حيث أضحى"المجتمع كتلة كثيفة معتمة تحول بين الشاعر والضوء، فازداد شعوره بأنه منبوذ ومحاصر، مخنوق"(2)، الأمر الذي أدى إلى تصدّع العلاقة بين الأنا والآخر، وفقدانها لتلك الحرارة والحميمية المعهودة بين أبناء القبيلة، وانبنائها على النفعية والمادية وما تمليه الضرورة المتمخضة عن تشابك الحياة الاجتماعية وتعقدها، فكانت في جملتها زائفة وآنية، فأكدت التصدّع وزادت الشعور بالضياع، وعمّقت الهوّة، حتى أصبح الفرد يشعر " أنه وحيد والآخر جدار في وجهه(3) وعقبة كأداء تعيق تحقيق مطامحه. ولعل أصدق مثال على ذلك في العصر الأموي، هم الشعراء العذريون، الذين بلغ بهم الضيق بوطأة المجتمع والشعور بسحقه لذواتهم، إلى حد التمني أماني شاذة وقاسية هروبا من واقع أقسى لا يمكنهم احتماله. من ذلك قول عروة بن حزام:
ويا ليت أنا الدّهر، في غير ريبة،
بعيران نرعى القفر مؤتلفان
__________
(1) - طريف الخالدي: فكرة المدينة في صدر الإسلام، دراسات في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، ط2، دار الطليعة، بيروت، 1979 –ص73
(2) - أدونيس: مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، ط4، 1983، ص 38.
(3) - م : ن، ص: 38.(1/37)
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله
وقالوا : بعيرا عرّة جربان(1)
إن هذه الأماني نتيجة منطقية لضيقهم وتبرّمهم مما يلقونه من وطأة الأهل والرقباء والوشاة، بل والمجتمع ككل، فهم يعانون الحرمان والكبت، ويصطلون بتباريح الشوق، على الرغم من أنهم يتميزون بتجربة عاطفية عفيفة نظيفة هي بالزهد أشبه، ترضى بأقل القليل ممن تحب. ولكنهم لم ينجوا من المحاصرة، ولم يسلموا من المتابعة والعتاب، ولذلك نجد في شعرهم ذكرا كثيرا للتش00000كّي وإشارات عديدة إلى مواقف رفض سلبي لتقاليد المجتمع ومواضعاته، وأعرافه التي ترفض على الشاعر هذا الحرمان وتكبل إحساسه.
__________
(1) - د/عبد القادر القط، في الشعر الإسلامي والأموي –،دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط1979، ص : 94 (عرة : جرب)(1/38)
ولكن هذا التشكي الكثير من الحرمان، قد لا يقف عند تعبيره الظاهري، بل يمكن أن يكون رمزا عاما وموقفا شاملا، من تلك النقلة الحضارية التي أربكت حياة العربي، وحاولت أن ترغمه على الانسلاخ عن عاداته وتقاليده، ونمط سلوكه ومعيشته ذات الطابع البدوي الصحراوي المحدود، لتلقي به في خضّم حياة جديدة، لا قبل له بها، حياة فيها كثير من ضروب المتع الحسيّة، والمظاهر المادية المتناقضة، وأسباب التحضر الزائف(1)، لذلك وجد نفسه مرتبكا حائرا بين حضارتين أو عالمين : قديم مألوف، وجديد مغر ومخيف، فأسقط موقفه الحائر المرتبك هذا على المرأة والحب، محاولا بذلك التماس سبل الخلاص من حيرته وغربته، فلا عالمه الأول قد بقى على حاله – نتيجة ما طرأ عليه من تغيير- ولا العالم الجديد استطاع التواؤم معه والاندماج فيه.
__________
(1) - من أجل هذا آثرنا عدم التطرّق لظاهرة الغزل اللاّهي،كظاهرة جماعية، تمركزت التي تمركزت على الخصوص في مدن الحجاز : مكة والمدينة والطائف، وتزعمها على التوالي كل من : عمر بن أبي ربيعة، والأحوص والعرجي، نتيجة ما أصاب هذه المدن من لهووترف وفراغ بسبب اختلاط الحضارة العربية بالحضارة الأجنبية الوافدة مع الأسرى والسبايا ... آثرنا عدم التطرق لهذا، لأن دأبنا ليس بيان مدى إغراق الشاعر في أتون لذائذ المدينة وانسياقه وراءها، بقدر ما هو بيان مقاومته للتغيرات التي أحدثتها المدينة في حياته، ومحاولته المحافظة على أصالته وتقاليده فيها، وبالتالي معاناته ... وهوما يبينه تمسك الشاعر بما يسمى بالحب البدوي العفيف (العذري). في وجه الطاغية للحب اللاهي(1/39)
فمع قليل من التمعن في نتائج بعض الأصوات الشعرية العذرية، يمكننا القول أنها تمثل بخاصيتها الفريدة هذه، تصورا عاما للحياة وموقفا منها، ومن طبيعة العيش فيه، وهوفي مجمله موقف رفض يائس نتيجة عدم التكيف معها. فإن كنّا قد وجدنا في الشعر الجاهلي بعض الإشارات القليلة لليأس، فإننا نواجه في الشعر العذري، بتجارب مؤلمة وأحاديث كثيرة عنه، توحي بأنه يتجاوز عاطفة الحب، ليتمظهر في رموز ودلالات نفسية أخرى تتشعب شعاب الحياة، غير الحب. فالشاعر متأزّم ممزّق، أزّمته الحيرة ومزقه الشك، وأطبق عليه اليأس، فحمل سوطا وجدانيا – تمثل في الحب المكبوت – وضرب به، يريد من خلاله هدم هذا الواقع المعتم المشكوك في جدواه، والذي يحيل بين الذات وتحقيق مطامحها، ومن ذلك قول المجنون :
وإنْ أكُوعَنْ لَيْلَى سلوتُ فإنَّمَا
تسليّت عن يأس ولم أسل عن صبر
وإنْ يَكُ عَنْ ليْلَى غِنًى وتَجلُدِ
فرُبَّ غِنَى نَفْسٍ قَرِيبُ من الفَقْرِ
وقول كثير عزة:
فإِنْ سَأَلَ الوَاشُونَ فيمَا هَجَرْتَهَا
فقُلْ : نَفْسُ حرٍّ سُلِّيَتْ فَتَسَلَّتِ(1/40)
1@رجاها فلما جاوزته استهلّتِ ... ففي هذه الأبيات لا نرى شيئا قدر رؤيتنا لحالة نفسية طافحة بالألم واليأس، فالذات هنا لا تملك حرية قرارها، ولا تختار طريقها، ولا ترسم إطارها بإرادتها، بل الآخر هو الذي يفرض عليها تعاليمه وقراراته، ويحدد لها مسارها، مصيرها، ولكن ما يأتي به هذا الآخر مناقض لما تعتقده هذه الذات، ومرفوض ولوسلبيا. ومن أجل ذلك نجدهم يعانون من إحباط واقع مؤلم حزين، يدحرهم في كل لحظة وهم يحاولون مقاومته بعنف، ولكم محاولاتهم هذه لا تجدي نفعا، لذلك نجد إلى جانب تلك الإشارات السابقة ذات الدلالة العامة، إشارات أخرى ليأس أكثر خصوصية وصراحة ومأساوية، فقد تكون أشد التصاقا بتجربة الحب ولكنها – مع ذلك ومن أجل ذلك – لا تخلومن دلالات أعمق على موقف عام من الحياة ورؤية غير متقبلة لها، ولعل الشاعر كُثير من أقدر هؤلاء الشعراء على تجسيد هذا اليأس والإحباط الناشئين عن انهزام الذات في مواجهتها، وفشلها في تحقيق أمنياتها ورؤيتها لآمالها تفرّ وتنزلق من بين يديها، وأحلامها
تهرب من أمامها بعد أن كانت منها قاب قوسين أو أدنى، ليفوز بها من هم في غير حاجة إليها(1) :
وكنت وإيّاها سحابة ممحل
تخلّيت عما بيننا وتخلّتِ ... وإني وتهيامي بعزة بعدما
تبوّأ منها للمقيل اضمحلّتِ ... لك لمرتجي في ظل الغمامة، كلما
فإن سأل الواشون: فيم هجرتها؟
فقل: نفس حر سلّيت فتسلّتِ
إنها أبيات تبدوفي تكاملها شديدة الإيحاء بعتمية النظرة، قوية الدلالة على خيبة الأمل المثيرة للحنق والغيظ والأسى، بل إنها تحمل في مجملها شعورا حادا يمكن أن يتجاوز خيبة الأمل في الحب لينبئ عن خيبة أمل في الحياة ككل، كما تتجاوز نطاق التجربة الفردية، إلى حال الناس في ذلك المجتمع القلق بوجه عام.
__________
(1) - ابن قتيبة : الشعر والشعراء، ص 349(1/41)
وعلى الرغم من أن المجتمع الذي كان يحيا فيه العذريون هو في غالبيته مجتمع حضارة واستقرار وكثافة سكانية، فإن الإحساس بالغربة بالنسبة لهم لم يبرز إلا فيه، وهكذا فكلما ازدادت كثافة التجمع البشري،كلما ازداد شعور بالمحاصرة، واتسعت الهوة ما بين الأنا والآخر، وتعمق الشرخ، لأن الفرد حينئذ لا يعود سوى رقم من الأرقام الكثيرة، أو بقعة من البقع الباهتة المتزاحمة، كلٌّ تريد أن تحتوي الأخرى وتزيحها من طريقها، وتجدّ في العمل على تلاشيها، عكس ما يكون عند الإنسان الوحيد، أو الذي يحيا في مجتمع قليل العدد كالقبيلة مثلا، حيث يتميز الفرد وتظهر ملامحه وتتحدد وظيفته بوضوح.(1/42)
وفق هذا المنظور تكون الحركة العذرية قد ربطت نفسها بواقع الحياة ولب المجتمع من أجل تغييره، ولكنها انتهت في الأخير إلى مأساة عميقة، يبدوأنها – كانت حتمية، حينما أصبح الواقع يمثل بالنسبة إليها كابوساً مرعباً ومزعجاً، لكون نظرتها إلى الواقع الذي أرادت تغييره، كانت – منذ البداية- نظرة تشاؤمية يتحكم فيها الشعور بالتعاسة، فيجعلها قاصرة عن تجاوز هذا الواقع الأليم . ومن هنا كان منشأ الصراع عندهم، صراع بين المبدأ والعاطفة، بين الواجب والواقع والحلم، بين الذات والآخر المناوئ لها، وكان نتيجة ذلك أن تضخّمت الذات وقوي الشعور بها، فازدادت محنتها في مواجهة العالم الخارجي، ومجافاتها له، ولم تستطع تحقيق المصالحة معه، وإن هي حققت قدرا منها فلا يكون ذلك إلا على جسر من الألم والمعاناة والتمزق. لقد عبّر هؤلاء الشعراء بواسطة تجربة الحب وحرمانهم وإخفاقهم فيها، عن معاناة الفرد وشعوره الحاد بالقهر في سجن المجتمع، كما جسدوا الانقلاب المفاجئ في القيم وما يتبع ذلك من حيرة وشك وبلبلة، وبخاصة بعد انتقال مركز الخلافة من الحجاز إلى بغداد وما مورس ضدهم من تسلط وظلم من طرف الحكام(1)- فشاعت في شعرهم نغمة أسيانة وحزن كبير، بل ويأس وقنوط، فطبعه
بطابع الغربة والحنين والفقد الدائم. ومن الأمثلة الصريحة على ذلك قول الشاعر(2) :
وحسب الليالي أن طرحنك مطرحا
بدار قلى تمسي وأنت غريبها
ألا كل مهجور هناك غريب ... أظل غريب الدار في أرض عامر
أجارتنا، إنّا غريبان هاهنا
وكل غريب للغريب نسيب
__________
(1) - لمزيد من الاطلاع على ذلك، أنظر : طه حسين : حديث الأربعاء، ج1، ص 188 وما بعدها
(2) - د/ عبد القادر القط : في الشعر الإسلامي والأموي، ص 106(1/43)
بهذا الإحساس القاتم، يكون هؤلاء الشعراء، أصواتا فريدة في أدبنا العربي، بسبب درجة الحس المأساوي الذي يعصف بهم، فيختلط عندهم الحب بالغربة، والأمل بالألم، والشعور الفائر بالطموح والعجز عن تحقيقه، الالتحام بالواقع والتمرد عليه، الارتماء في المجتمع والاغتراب عنه، التخلص من المحاصرة بالحلم، ثم الإفاقة وعدم القدرة على المواجهة.
من هذه المفارقة الأليمة بين ما تريده الذات ولا تستطيعه، وما تطمح إليه ولا تصله، وما يحيط بها ولا تتقبله، تنبع أزمتها وتتفاقم محنتها، ومنها أيضا ينبثق شعورها الحاد بوطأة المكابدة، وليحاصر الشاعر بعدها بغربة أشد وأعمق حتى وهوبين أهله وذويه- ولعل أفدح غربة وأشدها عصفا بالنفس ما كان في الأوطان بين الأهل والخلان، فيقع في نحيب مأساوي:
غريب إذا ما جئت طالب حاجة
وحولي أعداء وأنت مشهّر(1/44)
1@على كبدي، من خشية أن تصدّعا ... ومهما يكن من أمر هذا الاغتراب، فإنه في آخر الأمر يولد للإنسان الشعور بالخوف. الخوف من كل شيء، من المستقبل، بل ومن الحاضر نفسه، لأنه حاضر يطير به على نحومتصل إلى عالم اليأس والحرمان الذي يخلقه، وليس هناك من سبيل إلى الطمأنينة في ظل هذه الحياة المدنية التي فقدت تماسكها، وانهارت، دعائمها وفقدت بالتالي شكلها، فكثّفت وطأة الألم وزادت المعاناة الوجدانية عمقا، إن الاغتراب عن هذا المكان والفرار إلى الماضي والتشوق إلى مواطن الصبا والحب الأول – والماضي يحتل مساحة غير قليلة في وجدانهم- فيتمنون العودة إليها ذات يوم ليجددوا ما انقضى منها، ويعيدوا بها رأب ما تصدع من الذات، فتتميز هذه المواطن بميزات البداوة الطاهرة النقية العفوية، التي طالما رمز بها الشعراء إلى "الحياة البسيطة" في ظل الطبيعة "البدائية الجميلة"، فيتكئون على رموز بدائية مهمة تحتل موقعا بارزا بين رموز الطبيعة الريفية، وتعد من أشد الألفاظ التصاقا وواقعية في ذات العربي ذي الحس الريفي المتأصل، ومن هذه الألفاظ مثلا: (الرمل – الحمى – الخيمة – الربّى- عرار- منهل- وادي الخصيب) وغيرها كثير.
ولعل هذا الارتداد إلى الماضي، يحمل في طياته مغزى عميقا في اللاوعي، ويتمثل في محاولة تخثير لسيولة الزمن، وإيقاف لحركته وإرجاعها إلى نقطة البداية، التي يحنّون إليها ويحاولون التشبث بها، وبهذا نستطيع القول بأن هذا التشبث بالماضي والحنين إليه زمانا ومكانا، يعكس وضعا حضاريا عاما للإنسان العربي الحائر المتذبذب بين ماض وقد ولىّ ولم يبق له وجود إلا في الذاكرة الحلمية، وحاضر معيش لكن لا يُفهم، ومن هذه الأبيات التي تعكس هذا التشبث والحنين قولهم(1) :
وأذكر أيّام الحمى، ثم أنثني
لقد هاج لي مسراك وجدا على وجد ... ألا يا صبا نجد، متى هجت من نجد
__________
(1) - عن د / عبد القادر القط (مرجع سابق).(1/45)
وأرواحها، إن كان نجد على العهد ... ألا حبذا نجد وطيب ترابها
ألا هل إلى شم الخزامى(1)ونظرةِ
إلى قرقرى،(2)قبل الممات، سبيل
بمثل هذه الزفرات وغيرها، عبّر الشاعر العذري عن خيبته في حاضره، وحنينه إلى ماضيه، وتوقعه الشديد إلى منابت طفولته ومرابع صباه، وتشبثه بحياته البدائية الأولى الحرة الطليقة، قبل أن يزحف إليه ذلك المد الحضاري الذي فوجئ به بعد الفتح الإسلامي الذي أرسى دعائم حياة أخرى تختلف كل الاختلاف عما ألفه، فيجد نفسه مشتتا حائرا، موزعا بين الإقبال عليه والازورار عنه، ومن شأن هذا التأرجح ما بين الإقدام والإحجام أن يولّد إحساسا شديدا بالتمزق والمعاناة. ولعل هذا الشعور لم يكن خاصا بالشاعر العذري وحده، بل هو شعور عام أحسّه العربي نتيجة ما طرأ على حياته من تغيير في ذلك المجتمع الانفصالي فأربكها.
__________
(1) - الخزامى : نبات زكي الرائحة.
(2) - قرقرى : اسم مكان.(1/46)
هذا الشعور العام الذي عبر عنه العذري بواسطة التجربة العاطفية نظرا لشموليتها، ونظرا لأن "الحب تجربة تمتزج فيها الغرائز الطبيعية بالتسامي الروحي امتزاجا يجعل منه وسيلة صالحة للتعبير عن أشواق الإنسان وحنينه المبهم وطموحه ومشاعره الباطنية غير الواعية نحوالحياة والكون"(1) هو نفسه الذي نجده عند فئات أخرى كالصعاليك، الذين كثيرا ما طلّقوا حياة المدن وأناسها وعانقوا البراري ووحوشها .وهكذا تكون المدينة حسب هذا الموقف منظورا إليها على أنها رديف للشر والظلم والقهر وهنا أو ل ما يتبادر إلى الذهن، هو موقف البدوي ابن الصحراء الطليق في عالم فسيح هو سيّده من المدينة الطاغية بعمرانها، المحرومة من الآفاق، لا شك أن البدوي (العدّاء ) بحسه الفطري سينفر من المدينة ويهجوها، سيجد فيها مقتل ذاته المفردة"(2) التي لا يني يؤكدها في كل لحظة ومناسبة، ويعمل على إنمائها وإبراز ميزاتها أو بالأحرى تضخيمها...
جـ- حضارة التمدن في العصر العباسي:
أولا: في الإبداع الفني:
__________
(1) - د/ عبد القادر القط: في الشعر الإسلامي والأموي، ص 120.
(2) - خيري منصور: "أبواب ومرايا"، مقالات في حداثة الشعر، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 1987، ص 64 .(1/47)
لنقفز قليلا لنلقي نظرة سريعة على العصر العباسي، محاولين التعرف على واقع المجتمع والمدينة وحال الناس فيها وموقفهم منها والعصر العباسي – كما هو معروف تاريخيا – عصر الازدهار الحضاري والتطور الاجتماعي، وبلوغ المدينة أو ج مراتبها، وما نتج عن ذلك من طغيان عمراني وتكدس للأحياء، وكثافة بشرية واختلاف في المشارب والاتجاهات ووجهات النظر، وفقدان لتماسك الصلات وتصدع العلاقات وتعقدها، وتزعزع القيم، ومن ثمة تيهان الذات وشعورها بالقهر والمحاصرة والانسحاق. الأمر الذي خلق ردة فعل قوية في نفوس الناس أرغمتهم على أن يقفوا موقف الحائر المتسائل عما طرأ على حياته من تغيير، وما أصابها من تبديل، وما دلفت إليه من انزلاق.(1/48)
ولقد تراوحت هذه الردود ما بين الرفض التام لما هو قائم والسخرية منه والتعالي عنه، وأحيانا الانعزال والانفصال، وهذه المواقف كانت بمثابة المنفى بالنسبة لأصحابها، اختاروها أحيانا طائعين مستعلين، وفي أحايين كثيرة مرغمين، تحت وطأة الإحساس بالقهر والتهميش، فهم يحييون في "زمن القرود" كما عبر أبو نواس ويعانون "صدأ العيش" كما يقرر أبو تمام (1)(2).وهذه لاشك سخرية بكل مَنْ وما يحيط بالشاعر، ولكنها سخرية مريرة تحمل دلالة أعمق عن شعور متأصل بفقدان القيم الحقيقية في الحياة، كما تنبئ عن إحساس متضخم بالغربة والانفصال بل والتعالي عن الآخرين(المجتمع)، إنها - بعبارة أخرى- تعبير تراجيدي عن خلل روحي هزّ أركان المجتمع وأصاب كيانه وفتّته، فأضحى مجتمعا ماديا لاهيا قاسيا يسحق الشاعر بلا مبالاته وإنكاره، فيجابهه الشاعر بأن يسحقه هو أيضا "فيسخر منه ويحتقره ويتمرد عليه(3) . إنها السخرية – التبرّؤ من أدران المجتمع والتمرد على قيمه الزائفة، ونشدان الحلم الحامل لشفاء الروح وخلاصها.
__________
(1) - أدونيس : مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، ط4، ص38 –39.
(2) - لقد تجلت الحساسية المدنية وقوة التعبير عنها على أشدّها، في هذا العصر، عند كل من ابي نواس وأبي تمام. وأمثلت في رفضها للقديم . ولكن لكل منهما سلوكه الخاص به في هذا الرفض . فالأول قد نظر إلى العالم كما هو وعاشه كما هو ، ورسم له صورا حية بالكلمات، فطابق بذلك بين الشعر والحياة، بينما نظر الثاني إلى العالم كما هو وعاشه كما هو أيضا، ولكنه تجاوزه بخلقه لعلم فني مغاير لعالم الواقع . ينظر في هذا الصدد : أدونيس: الثابت والمتحول. (2) تأصيل الأصول، دار العودة، بيروت ط 3، 1982، ص: 109.
(3) - أدونيس : مقدمة للشعر العربي، ص 40.(1/49)
هكذا لجأ أبو نواس إلى العبث ذي الطابع التمردي، فأحرق نفسه والمجتمع الذي احتقره وسحقه، واتخذ من الأمور التي تعدّ في نظر المجتمع خطيئة، مبدأ حياّ ومادة خاما لشعره وإطارا لحياته، فأضحت بالنسبة إليه – في إطار الحياة التي رسمها لنفسه – "ضرورة كيانية، لأنها رمز الحرية، رمز التمرد والخلاص"(1)، من إيسار الواقع المرير، إنها البحث عن النشوة الأزلية التي لا تنفذ ولا يعكر صفوها طارئ، ولذلك ذهب يبحث عن مبتغاه في عالم آخر غير عالم الواقع، عالم سفلي، فكان غارقا دوما عند قرارة الكأس التي يشرب خمرها، ويحتفي بها في طقوس احتفالية غريبة، وإن كانت في نظر المجتمع جريمة واستهتارا بالقيم، فإنها بالنسبة للشاعر ممجّدة وضرورية، ممجّدة من ما عداها، وضرورية لاستمرار حياته وتأكيد وجود ذاته في ظل هذا المجتمع الذي لا يعترف به إلا إذا استفزه وأثاره بالسطوعلى قيمه، والاستهتار بمعتقداته. ولذلك فهويمعن في ارتكاب كل ما هو محرم، ولا يقنع إلا بارتكاب أعتى الأخطاء المتعمدة وأفدحها عن عزة نفس وكبرياء، نكاية بالمجتمع وانتقاما لنفسه العزيزة:
أنفت نفسي العزيزة أن تقنع
إلا بكل شيء حرام
ولا عيشا، فعيشهم جديب ... بل إنه لَيعتبر اعابتهم وانتقاداتهم لما يفعل، دعوة جد مغرية إلى التكثيف من تمرده واستهتاره، وعصيانه، وانتهاجه للذّة وتمسكه بها:
... كأنما أثنوا ولم يشعروا عليك عندي بالذي عابوا.
إنها رؤية عبثية جهمة هذه ولا شك وحالة اغتراب قصوى(2)،
__________
(1) - أدونيس : مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، ط4، ص52.
(2) - نعتقد أن احد أسباب احساس الشاعر باغتراب وانفصال، هو نزوعه التجديدي، وانسياقه وراء ما أتت به المدينة، وانفاله بمستحدثاتها . ولذلك نراه يتجاوز التقليد ورموزه القديمة : الطلل، الناقة، الصحراء، بل ويسخر من البداوة والحياة البدوية، فيقول :
0@ لا تأخذن عن الاعراب لهواً
واقفا، ما ضرّ لوكان جليس؟ ... قل لمن يبكي على رسم الدرس
فهويرفض هذا النمط من العيش ويدعوا إلى نمط الحياة " في البلد ". فيقول :
عاج الشقى على رسم يسائله ... وعجت أسأل عن خمارة البلد.
وكما نرى، إن هذا في حد ذاته يفترض نمطا آخرا من التعبير، يختلف عن تعبير البداوة .
ينظر : أدونيس : الثابت والمتحول (2) تأصيل الأصول، ص 109، 245(1/50)
ولكن لا مندوحة للشاعر عنها، لأنها غدت بالنسبة إليه حالة نفسية ملازمة، بل وأضحت إطارا حياتيا – لا يجوز الحياد عنه – وكيانا مفعما بالألق والزهور والحبور والحيوية.
لقد كان أبو نواس دائم النزوع إلى الارتباط بما هو ساحر وحلمي وشفيف، محاولا من خلال ذلك، الانفصال عن ثقل مادية الأشياء وجمودها وكثافتها المعتمة، والانخراط في العالم / الحلم، العالم الساحر، عالم الشوق الحلمي والأرضي، بصورة مباشرة، وهكذا يتفاعل عند الشاعر الواقع والحلم بعدوانية غريبة، ولكنها العدوانية التي تحاول الاندماج ولا تستطيعه، وتحاول الفهم ولا تدركه، نظرا للتناقض الجذري الموجود بينهما (الواقع والحلم)، وهكذا جاء معظم شعره، يحمل طابع الخطيئة(1)ونبرة النواح الممزوجة بالخيبة والانكسار والدهشة والاستنكار.
إن إنسان أبي نواس المتمدن يجري وراء لذة حسية حالمة، تبقى دوما تطير في فضائها أمنياته وهواجسه ورغباته، التي لا يمكن لها أن تتحقق إلا في عالم متجاوز لعالم الواقع، هو عالم أسطوري، طوبه خمر، وسياجه خطيئة، وزخرفته سخرية، فكان بذلك " الإنسان العائش مع ذاته، المتخذ من العالم كله مجالا لتوكيد ذاته، الساخر من القيم العامة النهائية، ومن القائلين بها والقيمين عليها"(2) من سلطة اجتماعية أو سلطة دينية سياسية.
__________
(1) - يرى أدونيس أن النواس حينما يتبنى المجون، الذي هو دخول فيما يمنعه نظام الأخلاق، ويتفتتن بفعل الخطيئة: إنما يفعل ذلك لمواجهة رعب العالم الذي يحيط به، ومقابلته، بمحاولته خلق لطف الحياة، هذا الخلق الذي لا يتمكن منه إلا بالخروج على المر والنهي بارتكاب فعل الخطيئة.
ينظر : أدونيس: الثابت المتحول(2) تأصيل الأصول، ص: 111،112 .
(2) -أدونيس مقدمة للشعر العربي، ص 53(1/51)
لقد أراد أبو نواس من خلال المزاوجة بين الشعر وسحره، والخمرة ونشوتها الآثمة، الهروب من وطأة المجتمع وقيوده، "والسفر إلى أفاضي الكيان البشري، والعيش في حالات روحية نادرة "(1)، حيث يتسنى للإنسان أن يحيا لحظات أبدية، في أمان وحبّ الحّرية. حتى ولو كانت – واقعيا- وهمية، إلا أنها بالنسبة للشاعر من أكثر الحقائق يقينية، وبالتالي راحة. وهكذا ينسحب أبو نواس. من حياة المجتمع وضوضائها الفارغة، ليختلي بشعره وفي شعره، وليلتحم بكأس خمره، فيصبح الواقع عنده اقتراحا قابلا للإلغاء أو التأجيل، وتصبح الحياة الواقعية في عرفه لا شروعا، بل مشروعا مأجلا باستمرار، بل وتحقيقه شبه مستحيل...
أما تمرد المتنبي على المجتمع ومدنيّته فيأخذ بعدا أكثر تألقا وفردانية، بل وذاتية نرجسية عنيفة، تجعل من الأنا محكّا للعالم. المتنبي يأتي لكي يعري الواقع المتمدّن، ويكشف عن تجاعيده(2)من خلال تسليطه الضوء على نسائه(3)فيقول(4):
ما أو جه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرّعابيب
وفي البداوة حسن غير مجلوب ... حسن الحضارة مجلوب بتطرية
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ... أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها
ولا برزن من الحمّام ماثلة
أوراكهن صقيلات العراقيب
__________
(1) -م.ن، ص 54.
(2) - بحسب تعبير ادونيس.
(3) - ويقول (لإمارتين )في هذا الصدد : "إذا أردت أن تعرف رقيّ أمة فانظر إلى نسائها ".
(4) -موجز ديوان المتنبي : شرح اليازجي، اختصره سليمان العيسي، دار طلاس الدراسات. والترجمة والنشر، دمشق، 05.ت، ص 368(1/52)
يلتقط المتنبي أجزاء صورته من الواقع اليومي للمدينة وحركاتها العارمة مكثّفا، عبر لقطة شاعرة وإشارة ذكية، ليفضح هذا الواقع ويكشف زيفه، ويعرّى غضونه المختبئة وراء قناع مساحيق التصنع والتكلف من خلال مقابلة بين قطبين متناقضين، قطب البداوة بطبعها وأصالتها وقطب المدينة بطبّعها وتصنّيعها وتكلّفها، إنها سخرية ولا شك، ولكنها لاذعة، لا تنتهي عند هذا الحدّ، بل تتشعب تشعب مناحي الحياة، وتعدد مجالاتها، لتشمل كلّ ما في المجتمع، من أخلاق وأناس وأشياء.
فالمتنبي ذات مفردة، وحيدة، ضخمة وأبيّة، وهي أبدا في صراع دائم ومستميت مع العالم، محاولة تجاوزه والتعالي عنه، إنه "يفرز ذاته ويعرضها عالما فسيحا من الثّقة والتعالي في وجه الآخرين وضدّهم"(1). فهودوما متعال أنوف، حاضنا لذاته عابدا إياها، مستعظما نفسه إزاء كل البشر، أمرائهم ورعاعهم على السواء. واستعلاءه هذا يعمقّه في نفسه تفاهة وصغار من يلقاهم ويخالطهم من الناس أينما حلّ وحيثما وجد(2) :
ودهر ناسه ناس صغار
وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
تلعب لفظة (جثث) هنا، دورا فعّالا في تعميق الإحساس بالضّجر، وتكثيف الاشمئزاز وتمنح الصورة التي يريد الشاعر إخراجها دلالات أعمق، واحياءات أشف. وهي بطيعة الحال لا تعني الموت ولكن على الرغم من ذلك، فإنها تندّ منها دلالات وإحياءات تذكّر بالعفونة والنتونة والتفسخ، والروائح الكريهة المقرفة.
بهذه الرؤية المتعالية، يتبرأ المتنبي من هذا المجتمع ويتنزّه عنه، ويعلن اغترابه وانفصاله. فهووإن كان يعيش بينهم ماديا، إلا أنه غريب عنهم روحيا وفكريا ... إنه غريب لأنه نفيس ونادر، إنه الذهب في عالم كل ما فيه تراب، إن الغريب حقا في هذه الدنيا هو النفيس فقط حيث ما كان، وماعداه، فلا :
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني
__________
(1) -أدونيس مقدمة للشعر العربي، ص 55.
(2) - موجز ديوان المتنبي (م.س)، ص 108.(1/53)
إنّ النفيس غريب حيثما كانا
لقد جرّد الشاعرّ من كل اتصال بالحياة أو انتماء لها، فلا أهل ولا وطن، ولا صاحب ولا نديم، ولا شيء يخفف عنه عبء نفسه ولا محدودية طموحه، وعبء وحدته وغربته :
بما التعلّل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكن(1)
1@غريب كصالح في ثمود ... المتنبي الشاعر الجموح والوحدة والغربة والألم الكبير، في سبيل المبدأ المتعب والطموح الملحّ لتحقيقه،
ومن أجل هذا كانت غربته أشبه بغربة الأنبياء بين شعوبهم المتردّية والمتهاوية(2) :
أنا في أمة تداركها الله
ما مقامي بأرض نخلة إلاّ
كمقام المسيح بين اليهود(3)
__________
(1) موجز ديوان المتنبي (م.س)، ص 388.
(2) - م.ن، ص 67،69.
(3) - بهذه الرؤية يكون المتنبي –إذن، سباقا إلى اعتبار الشاعر، (الملتزم، الطموح)، نبيا، قبل أن يقول بها النقاد المحدثون، ويتباهى بها شعراء هذا العصر، وهوفي ذلك واع بالتغيير الذي يمكن أن يحدثه الشاعر، والخلاص الذي يأتي به. وخصوصا إذا كان محكوما بشهوة إصلاح العالم، والتي هي القوة الدافعة في حياة كل من النبي والشاعر في محاولتهما الانتصار لإرادة الحياة الكريمة، وفعل الخير.(1/54)
فما فتئت ميوعة الحياة في زمن الشاعر، وافتقادها للقيم الحقيقية، تلفح وجدانه وتهز مكامن الإبداع في نفسه، فتفجّرها رؤى صادقة وشعرا متساميا ناقما على الزمن والوجود، محاولاً في ذلك تغييره، فالشاعر لا يعيش في عالم متهاوفحسب، بل في عالم خانق لكل ما في الحياة بمن فيها، فكان أشبه بمن يروم التغيير ويريد الإنقاذ كالأنبياء أو من يدانيهم في صحة الرؤية وسموّها. إنّ عصره لم يكن أحسن حال من العصور التي بعث فيها الأنبياء، لقد كان في حاجة ماسة وملحّة إلى منقذ يخلّصه من أو ضاعه المتردّية، ويوقف تهاويه ويعيده إلى توازنه، وإن كانت النبوة رؤيا صادقة مدعمة بعون إلهي، فإنّ رؤيا أبي الطيّب إلى مجتمعه وعصره، رؤيا تحمل الكثير من الصواب والصدق والتسامي، ونستطيع القول أنها نبوة فلسفية تدعمها الرؤيا العميقة بالروافد والمرتكزات السليمة.
إذن ومن خلال هذا المنظور يتبدى لنا بأن غربة المتبني كانت فكرية أكثر منها نفسية، لأنها انبنت على المواجهة الشديدة لا الانسحاب، وعلى المصادمة العنيفة لا الانطواء، ولم تشمل ذاته فقط، بل امتدت لتشمل حركة الحياة من حوله بكل تجلّياتها وتناقضاتها " لتتمركز في النهاية حول الإنسان في مواجهة الحرية والإرادة، والتفاهة التي تنسج خيوطها حول ذهنه والسأم الذي ينخر روحه"(1)، فكانت أشدّ وطأة ومعاناة من الغربة النفسية التي رأيناها عند أبي نواس، والتي لا تتعدى حدودها مساحة الذات.
في هذا الموشور الضوئي تتقوض كل الدعائم التي تنتصب فوقها القيم، ويرسوعليها البناء الإجتماعي والحياتي والسياسي. وهذا التهاوي والسقوط لا يمس المظهر فحسب، بل يدلج إلى الجوهر الماسك لهذا البناء المزعزع أصلا، فيعمد إلى هدمه، لأن كل ما يحيط به ويتأسس عليه زيف وتضليل مذمومان :
أذمَّ إليَََّ هذا الزَّمان وأَهْلِيه
__________
(1) - د/ عبد الله احمد المهنا: تجربة الاغتراب عند نازك الملائكة، مجلة الشعر، العدد 42،أبريل 1986،ص32.(1/55)
فأعْلَمُهُم فَدم وأحْزَمُهُمْ وغْدُ
وأَكْرَمُهُمْ كَلْبُ وأَبْصَرُهُمْ عَمِّ
وأَسْهَدُهُمْ فَهْدُ وأَشْجَعُهُمْ قِرْدُ(1)
إنها كبرياء يندر أن يدانيه فيها أحد، وتعال شامخ يصل حد المقت، المستديم للبشرية، فهوينفي العالم كلّه إلا نفسه، ولكن هذا الاستعلاء أو التسامي ليس سوى تعويض وإحلال للحلم والمثال محل الواقع، وليس سوى نتيجة لعدم التوفيق في المواءمة بين الذات المنشطرة بطموحها ومثلها، والخارج المتناقض معها، ولذا فهولا يتوانى عن تحطيم كل ما عداه، والتشكيك في كل ما يناقض رؤاه، ولا يجد حرجا في أن يعلن في قسوة عن عزلته ووحدته الروحية المرعبة، فيكون بأخلاقه هذه في مثل هذا الجوالسياسي المعتّم والتفسخ الاجتماعي الذي يملك زمام الأمور فيه الجبناء " أشبه شيء بقصيدة رائعة في ديوان ركيك من الشعر"(2) :
أيملك الملك والأسياف ظامئة
والطير جائعة، لحم على وضم
من لورآني ماء مات من ظمإ
ولومثلت له في النوم لم ينم (3)
__________
(1) - فدم: عي، الفهد: يعتبر عند العرب مضرب المثل في حب النوم.
(2) - محمد شرارة: المتنبي بين البطولة والاغتراب، تحقيق حياة شرارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط1، 1981 –ص 212.
(3) - موجز ديوان المتنبي (مرجع سابق) ص، 83.(1/56)
وعلى ضوء هذا كان المتنبي من أكثر الشعراء هجوما على الواقع، كما أنه كان" أحد الطرائد في عصره، فقد طارده الكهنوت السياسي، كما طارده الكهنوت الديني، (...) لأنه رفض أن يمدح أميرا كبيرا، أو وزيرا خطيرا فكان الرفض اعتداء على الأعراف المقدسة"(1)، ولأنه كان بطلا في كل مواقفه، بطولة يتآلف فيها الغضب والنرجسية، بطولة تنبع من ذات أبية ضخمة، معادية لعالم الواقع، ذات لا ترى نبعا للحقيقة المثلى فيما عداها، وليس هناك من شيء أحق بالإدراك إلاّ ها، إنها ذات تجسد الشمم البدوي في رفضه وتمجيده للصراع العنيف المحقق لكيانها، في مقابل الخنوع المدني وتسليمه.
ومما يجدر ذكره هو أن التمرّد والأنفة، والحيرة والقلق، لم يكن دأب أبي نواس أو المتنبي دون غيرهما من الشعراء، أو قل المثقفين- بصفة عامة في ذلك العصر – فلقد كان في شعر بشار بن برد شيء غير قليل من العدوان على المجتمع والاستهتار بقيمه وآدابه. كما أنّ شعر ابن الرومي- الذي عاش في العصر العباسي الأول، أي سابق على هؤلاء جميعا- يعكس الكثير من الشكوك إزاء المجتمع، ويحمل قلقا كبيرا، ونظرة تشاؤمية سوداوية، ساعد على تعميقها وملازمتها له ، طبيعة مزاجه العصبي من جهة، وما لاقاه من عنت وقهر في عصره من جهة أخرى . ولم يخرج عن هذا الخط كل من أبي تمام
وأبي العلاء، وأبي العتاهية وابن بابك (2) وديك الجن وغيرهم(3) .
__________
(1) - محمد شرارة : المتنبي بين البطولة والاغتراب، ص 249.
(2) - لم نلتزم بالترتيب الزمني في ذكر الشعراء، لأننا رأينا أنه أمر غير ذي أهمية، فأهم في نظرنا، هو وحدة المعاناة وتجلي الظاهرة.
(3) - لمزيد من الاطلاع انظر: أدونيس: مقدمة للشعر العربي، ص 39،41،46،52،58،61،64.(1/57)
ولم يكن التشكي من الواقع المديني والتمرد عليه حكرا على الشعراء وحدهم، بل تعدى ذلك إلى بعض الفلاسفة المسلمين، وبخاصة "الفارابي"(1) والذي درس المسألة بعمق، طارحا اقتراحات جديرة بالاهتمام والتقدير، في جل كتبه، وبخاصة في كتابه المتميز : أراء أهل المدينة الفاضلة، وهوما سنحاول تبيّنه في ما يلي:
ثانيا : في الفكر الفلسفي: المدينة الفاضلة للرئيس الفاضل:
كان عصر الفارابي عصر مدنية وحضارة، كما كان أيضا عصر اضطرابات وهزات سياسية ولذلك جاءت معظم كتبه ذات منحى سياسي، ومنها كتابه الأساسي في السياسة المدنية (آراء أهل المدينة الفاضلة). ولقد كان هذا الكتاب الذي ألّف في القرن العاشر الميلادي شبيها إلى حد كبير في خططه وأفكاره بكتاب (الجمهورية) لأفلاطون. وعلى الرغم من أن تشريعات أفلاطون في جمهوريته تحمل الكثير مما يتنافى ومبادئ الدين الإسلامي(2)، إلا أن الفيلسوف المسلم لم يفندها أو ينتقدها، وإنما اكتفى بوصفه لمدينته الفاضلة كما كان يريدها، مع مقابلتها بالمدن الجاهلة والمضادة لها .
__________
(1) - هذا الفيلسوف كان معاصرا للمتنبي.
(2) -كمشاعية النساء: ومشاعية الأولاد، وامتناع الحكام والجنود عن الزواج قصد التفرغ لأمور الحكم والحراسة...إلخ(1/58)
ولعله من المرجح أنه لم يؤلف هذا الكتاب من أجل انتقال أفلاطون أو معارضته – وإن كانت الفكرة واحدة- بل ربما من أجل إنقاذ الخلافة وتخليصها مما آلت إليه، هذا فضلا عن أن مدينته كانت تنتمي إلى حقل دلالي مختلف عما كان عليه الأمر عند أفلاطون، إضافة إلى كونها فكرة أملاها واقع سياسي مغاير تماما للواقع السياسي في اليونان عهد أفلاطون، كما أنها نتاج ظروف سياسية عرفتها الأمة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ينضاف إليها اختلاف المنطلق عند الفيلسوفين، فإن كان عند أفلاطون وثنيا تطبيقيا، فإنه عند الفيلسوف المسلم توحيدي تجريدي، نشأ في ظل مناخ حضاري واجتماعي مخالف تماما إن لم يكن متناقضا مع مناخ العهد الأفلاطوني.
والمدينة الفاضلة في رأي الفارابي هي "المدينة التي يقصد بالاجتماع فيها التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة الحقيقية"(1). المدينة الفاضلة، فاضلة بآراء أهلها وحسن نيتهم مهما كانت تجريدية تنضاف إليها بعد ذلك، الأفعال العملية المحققة والمجسدة لتلك الآراء على أرض الواقع، فلا سعادة لأهل المدينة – في رأي الفارابي- إلا بتعاونهم الجاد على بلوغهم سعادتهم بالفكرة الموحّدة أولا وبالعمل ثانيا، لأن الفكرة مهما كانت ميتافيزيقية أو تجريدية و"رغم أنها تقع ضمن الفروع النظرية من الفلسفة، فلها علاقة مباشرة بحياة الإنسان المدنية وسعادته (...) فسعادة الإنسان القصوى وكماليته يوقفان ليس فقط على أفعاله بل وهوالأهم على آرائه أيضا"(2)، ولذلك فليس من قبيل المصادفة أن يسمي الفارابي كتابه هذا، الجامع لشروط تحقيق العدالة والفضيلة والسعادة وبعبارة أخرى سياسة الحكم والحياة، بـ (آراء أهل المدينة الفاضلة).
__________
(1) - الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق ش م م بيروت، ط5، 1986، ص 118.
(2) - د/ فوزي متري نجار : مقدمته : لكتاب السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1964، ص15.(1/59)
فلا تكتمل السعادة لأهل المدينة إلا إذا كان لهم رأي خاص في الله، والعقول، وحقيقة الوجود والوحي(1)، وعليه فلا تكون المدينة فاضلة إلا إذا كانت آراؤها فاضلة "إذ أن هناك قانونا كونيا يمكن معرفته واستخدامه كنموذج لحكم المجتمع البشري. ومعرفة هذا القانون واجتماع الناس حول هذه المعرفة هما ما يشكّلان المجتمع الفاضل"(2)، وبعدها تأتي كتطبيق لهذه الآراء الفاضلة، الأعمال الفاضلة التي يقصدون بإتباعها بلوغ الخير، لأن الاجتماع الفاضل هو ذلك الاجتماع الذي يتعاون فيه الأفراد على نيل السعادة، كتعاون أعضاء البدن التام الصحيح وتكاملها، لتتم الحياة وتُحفظ(3) . فلإنسان محتاج في معاشه وشؤون حياته إلى أشياء كثيرة، غير أنه ليس بقادر على توفيرها بمفرده، لذلك فهوفي حاجة ماسة إلى الآخرين من بني جنسه، ليتسنى لكل واحد منهم القيام بأشياء كثيرة بدءا بالضروري وانتهاء إلى الكمالي.
__________
(1) - ينظر جميل صليبا: من افلاطون على ابن سينا (المرجع المذكور)، ص 62.
(2) - عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة السياسية عند الفارابي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط2، 1981، ص19.
(3) - ينظر: الفارابي : الآراء : (المرجع المذكور )، ص 118(1/60)
وعلى هذا، فالاجتماع من أجل التعاون ضروري بل فطري؛ فـ"الإنسان مفطور على الاجتماع لأنه لا بقاء للأفراد إلا إذا تعاونوا على نيل ما يحتاجون إليه(1) ؛ إذ انه "لا يمكن أن يكون الإنسان ينال الكمال، الذي أجله جُعلت الفطرة الطبيعية، إلا باجتماع جماعة كثيرة متعاونين، يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحاج إليه في قوامه، فيجتمع، مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد، جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال، ومن أجل ذلك كثرت أشخاص الإنسان، فحصلوا في المعمورة من الأرض فحدث منها الاجتماعات الإنسانية(2) الكثيرة، وتكونت من جراء ذلك المدن والدول وهورأي مأخوذ عن أفلاطون الذي يقول بلسان سقراط: "أرى أن الدولة تنشأ عن عجز الفرد عن سد حاجته بنفسه، وافتقاره إلى معونة الآخرين. ولما كان كل إنسان محتاجا إلى معونة أخيه في سد حاجته، وكان لكل منّا حاجات كثيرة، ،لزم أن يتألب عدد كبير منّا من صحب ومساعدين، في مستقر واحد. فنطلق على ذلك المجتمع اسم مدينة أو دولة، فيتبادل أولئك الأشخاص سائر الحاجات(3)، ومأخوذ أيضا عن أرسطوالذي يقول بأن "الإنسان حيوان اجتماعي"(4).
__________
(1) - جميل صليبا : من أفلاطون إلى ابن سينا (المرجع المذكور، ص63)
(2) - ينظر : الفارابي، الآراء (المرجع المذكور )، ص 117 .
(3) - أفلاطون : الجمهورية 399، ص 44 (م. س). عن جميل صليبا: من أفلاطون إلى ابن سينا، ص 63
(4) - سوف يأخذ ابن خلدون الفكرة نفسها دون أن يضيف إليها شيء.(1/61)
ويضيف الفارابي عوامل أخرى تساعد على تكوين المجتمعات الإنسانية غير عامل التعاون – السابق الذكر – متمثلة في القهر باعتبار القاهر يحتاج إلى مؤازرين يستعبدهم ويسخّرهم، ثم يقهر بهم آخرين فيستعبدهم أيضا، وهكذا في كل مرة حتى يجمع له مؤازرين على الترتيب، فإذا اجتمعوا له صيرهم آلا ت يستعملهم فيما فيه هو اه ومنافعه الشخصية(1) .
__________
(1) - ينظر الفارابي : الآراء (المرجع المذكور )، ص 154.(1/62)
يعرض الفارابي كثيرا من العوامل التي تسهم في الاجتماع وتكوين المدن والدول دون مناقشتها صراحة، وهويعرض آراء أهل المدين الضالة، مم نستشف منه أنه لا يوافق عليها . هذا إضافة إلى عوامل أخرى يعرضها كالتالي أشرنا إليها، مسبوقة بعبارة (وقوم رأوا أن... )، مثل قوله: "وقوم رأوا أن الارتباط هو بالإيمان والتحالف والتعاهد على ما يعطيه كل إنسان من نفسه ولا ينافر الباقيين ولا يخاذلهم"(1)، بالإضافة إلى عوامل أخرى يذكرها أيضا كالتشابه في الأخلاق والشيم الطبيعية، والاشتراك في اللغة واللسان الذي هو شيء وضعي له مدخل في أشياء الطبيعية، كذلك يكون الارتباط بالاشتراك في المنزل، ثم الاشتراك في المساكن ثم المدن، ثم الاشتراك في المدينة، ثم الاشتراك في الصقع الذي فيه المدينة(2) إلى غير ذلك من الروابط الكثيرة التي يعرضها دون انتقاد صريح – كما أسلفنا - ولكن أعلى هذه الروابط جميعا هي رابطة المحبة والعدالة؛ لأن " أجزاء المدينة ومراتب أجزائها يأتلف بعضها مع بعض ويرتبط بالمحبة وتتماسك وتبقى محفوظة بالعدل وأفاعيل العدل"(3) إن المحبة " في هذه المدينة تكون أولا لأجل اشتراك في الفضيلة ويلتئم ذلك بالاشتراك في الآراء والأفعال ... فإذا اتفقت آراء أهل المدينة في هذه الأشياء ثم كمل ذلك بالأفعال التي ينال بها السعادة بعضهم مع بعض يتبع ذلك محبة بعضهم لبعض ضرورة "(4) وعلى هذا فالمدن في" تصور الفارابي هي (الاجتماع المتمدّن)، الاجتماع الذي يربط الناس بروابط اجتماعية وفكرية ودينية معينة.
__________
(1) - ينظر م .ن، ص 155.
(2) - ينظر الفارابي : الآراء(المرجع المذكور)، ص 155، 156.
(3) - الفارابي : فصول منتزعة، تحقيق د / فوز ي متري نجار، دار المشرق بيروت، 1971، ص " 70،71
(4) - م.ن، ص.ن(1/63)
والمهم بالنسبة إليه هو نوع هذه الروابط لا غير"(1)، ولأجل ذلك فعندما يتعرض إلى تقسيم هذه الاجتماعات ويصنفها إلى نوعين هما : الكاملة وغير كاملة، فإنما يقسمها بحسب روابطها لا بحسب تقسيمات جغرافية أو مكانية معينة كان يراها في الواقع أو اطّلع عليها في قراءاته للمعلمين اليونانيين، فهوكان يقصد من وراء سياسته المدنية – في اعتقادنا – إلى البحث عن " أنواع الروابط الفكرية والدينية التي تجعل الناس طوائف وأمما"(2) غير متقيدة في ذلك بواقع اجتماعي أو تاريخي معين – هذا على الرغم من أنه يتحدث عن الحياة الاجتماعية وما يتمخض عنها أو يسايرها من مظاهر سياسية وثقافية واقتصادية- فبحوثه السياسية ليست دراسات سوسيولوجية تعاين الواقع وتحاول معرفته كما هو واقع، بل إنه كان ينزع منزع أفلاطون في جمهوريته؛ من حيث كون موضوع كتابه هو " الطبيعة العامة للدولة كنوع أو نموذج معين للحكم، أما كون الدول الموجودة عندئذ تعيش فعلا على هذا النحو أو لا فكان مسألة ثانوية ...
فالفارابي يقسم الاجتماعات الإنسانية – كما أسلفنا – بحسب روابطها ونوع هذه الروابط، محددا إياها بنوعين : الكاملة وغير الكاملة . "الكاملة ثلاث: عظمى وسطى وصغرى فالعظمى، اجتماعات الجماعة كلها في المعمورة، والوسطى، اجتماع أمة في جزء من المعمورة، والصغرى اجتماع أهل المدينة في جزء من مسكن أمة... وغير الكاملة: اجتماع أهل القرية، واجتماع أهل المحلّة، ثم اجتماع في سكة، ثم اجتماع في منزل "(3).
__________
(1) - محمد عابد الجباري: مشروع قراءة جديدة لفلسفة الفارابي السياسية والدينية، مجلة الأقلام المغربية، ع 1، السنة 2، ص :46، مارس 1976.
(2) - م.ن، ص.ن.
(3) - الفارابي: الآراء: (المرجع المذكور)، ص 117،118.(1/64)
وهويرى بأن "الخير الأفضل والكمال الأقصى إنما ينال أو لا بالمدينة، لا بالاجتماع الذي هو أنقص منها"(1)، ثم بالأمة، ثم بالمعمورة كلها، وعلى هذا تكون المدينة هي أصغر وحدة سياسية يمكن للإنسان بالاجتماع فيها أن يبلغ سعادته المأمولة، في حين أنه يتعذر حصولها في الاجتماع الذي هو أقل منها. أي تكتمل سعادة الناس باكتمال اجتماعهم – الذي تعدّ المدينة كحد أدنى له- وكلما زاد عدد المجتمعين وكثر، ازداد حصول السعادة وكمل تحقيقها، شريط تعاون أفراد هذا الاجتماع على أعمال الخير. وأكمل اجتماع إنساني في رأيه هو ذاك الذي يجمع كل أمم الأرض. لقد كان الفارابي في هذا الأمر أو سع تصورا من اليونانيين، لأن مفكريهم لم يخرجوا في الأمور السياسية من أفق الحياة اليونانية"(2).وهوبهذا يتجاوز دولة – المدينة التي عرفوها أو بالأحرى عملوا على تجسيدها، ولعل هذا التصور كما يقرر جميل صليبا، ناتج عن تأثير الاعتقاد الديني؛ إذ أن "الإسلام لم يعرف دولة- المدينة بمفهومها اليوناني"(3) كما يقرر عبد الرحمن البدوي وكما يظهر أيضا رزونتال القائل"بأن المجتمع الكبير الذي يحتوي على عالم متحضر كله (الأمة المتوسطة الحجم ) أتى به الفارابي من محيطه الإسلامي. وهذا يتكامل مع النزعة الكونية عند الإسلام، تلك النزعة التي ترى أن الإسلام نمط حياة والتي تقول بالإمبراطورية الإسلامية دار الإسلام وبانتصارها عن طريق الجهاد على دار الحرب(4)،
__________
(1) - م.ن،ص 118.
(2) ، جميل صليبا: من أفلاطون إلى ابن سينا (المرجع المذكور)، ص 65.
(3) - BADAWI (A): Histoire de la philosophie en Islam,VRIN 1972,P557.
(4) -presse 1962,P: 125..ROSENTHAL(EIJ): Political Thought in Médièval Islam, Cambridge University(1/65)
و"يحدث من تعاون هذه الاختلافات واختلاطها إمتزاجات مختلفة بها خلق الأمم وشيمهم"(1)، أما عن اللسان الذي هو شيء "وضعي وله مدخل ما في الأشياء الطبيعية"(2) فإن "الذين هم في مسكن واحد وعلى خلق في أعضائهم متقاربة، تكون ألسنتهم مفطورة على أن تكون أنواع حركاتها إلى أجزاء في داخل الفم أنواعا واحدة بإيماءاتها. وتكون تلك أسهل عليها من حركاتها إلى أجزاء أجزاء أخر ويكون أهل مسكن وبلد آخر، إذا كانت أعضاؤهم على خلق وأمزجة مخالفة لخلق أعضاء أولئك، مفطورين على أن تكون حركة ألسنتهم إلى أجزاء من داخل الفم أسهل عليهم من حركتها إلى الأجزاء التي كانت ألسنة أهل المسكن الآخر تتحرك إليها. فتخالف حينئذ التصويتات التي يجعلونها علامات يدل بها بعضهم بعضا على ما في ضميره مما كان يشير إليه وإلى محسوسه أولاً، ويكون ذلك هو السبب الأول في اختلاف ألسنة الأمم"(3)؛ وعلى هذا فالأمة عنده "تتميز عن الأمة بشيئين طبيعين: بالخلق الطبيعية والشيم الطبيعية "(4)،
__________
(1) - الفارابي : السياسة المدنية الملقب بمبادئ الموجودات، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1964،
ص 40.
(2) - الفارابي : م.ن، ص 70.
(3) - الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت 1970، ص: 136،137، ينظر أيضا : الآراء (المرجع المذكور)، ص 155.
(4) -الفارابي : السياسة المدنية، (م.س)، ص70..(1/66)
وبشيء ثالث شبه طبيعي هو اللّسان، هذا إضافة إلى أن الفارابي لم يتحدث عن (آراء أهل الأمة الفاضلة) أو (آراء أهل المعمورة الفاضلة )، بل استعمل لفظة المدينة، هذا على الرغم من كثرة استعماله للفظ الأمة في ثنايا كتبه ذات الطابع السياسي، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال إدراكه للنزعة الشمولية للإسلام ومحاولته تطبيقها، أو المناداة بها كما أراد له أصحاب الآراء السابقة بشيء من التعسف والمغالاة، كما أنه لم يرد مخالفة أفلاطون وغيره من اليونانيين –بدافع ديني- الذين عملوا على تضييق مدنهم وحصرها في مساحات محدودة ...والملاحظ أن الفارابي لا يقتصر في حديثه على الأمم والمدن الفاضلة فقط، بل يمتد الحديث ليطال الأمم الجاهلة والضالة أيضا، أي الصورة السلبية المقابلة للمدينة الفاضلة.
فإذا كانت المدن الفاضلة، فاضلة بآرائها وأعمالها، فان المدن الجاهلة والضالة تكون كذلك، نظرا لجهلها السبل الحقيقية للسعادة وإنبناء آرائها على مجرد أو هام وظنون وسفسطة وجدل إقناعي لا يمت إلى الحقيقة بصلة. ولكن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن توظيفه للفظ (الجاهلية) لا يعني القصد من ورائه الإشارة إلى مجتمع ما قبل الإسلام، ولا يعني وروده في سياق ديني بحت -على الرغم، مما يوحي به السياق الدلالي الاصطلاحي- ولكن يعني عنده أيّ مدينة فسدت آراؤها(1)، وجهلت طريق السعادة، وبذلك يكون الجهل ضد المعرفة، وعليه فالفضيلة مقرونة بالعلم والمعرفة، والفساد مقرون بالجهل، سواء تعلق الأمر بأمم ما قبل الإسلام أو بـ " المدن الجاهلية والضالة الموجودة اليوم في الأمم" كما يقول هو نفسه في عرض كتاب الآراء، وفي هذا لا يخرج كثيرا عن خطى معلمه اليوناني في كون اعتبارهما السياسة علما يكتسب ويتعلّم، وفي كون إقرارهما بضرورة إقامة الدولة الفاضلة على المعرفة الصائبة.
__________
(1) - ينظر: بن عبد السلام بنعبد العالي: الفلسفة السياسية عند الفارابي، ص 63.(1/67)
والملاحظ أن وصف الفارابي للمدن الضالة والجاهلة – يعتقد البعض أنها فصول زائدة – أبلغ من وصفه للمدينة الفاضلة، وذلك أنه يتكلم على القهر، والقوة، وتنازع البقاء، والبغض، والتغالب، وغير ذلك من روابط هذه المدن"(1) بكثير من التفصيل، ولعلّ ذلك راجع إلى شعوره بالتقصير في توضيح صفات أهل المدينة الفاضلة. ويتنبه الفارابي إلى أن هذا التقسيم الذي أتى به لهذه المدن، ليس تقسيما واقعيا، ولا تقريرا وصفيا أو رسما موضوعيا لما هو عليه الواقع، بل لا يعدوأن يكون تقسيما اصطلاحيا تجريديا –بقصد التوضيح- أو بالأحرى تنظيرا للواقع لا يمكنه بلوغ درجة التطبيق، نظرا لأن الواقع مزيج مركب من اختلاط هذه السياسات الجاهلة فيما بينها. وهوفي هذا لا يحيد عن خطى معلمه اليوناني أفلاطون في كون أن ما كتبه من صفحات "في دراسة المدن غير الكاملة" لا تصور "لنا تخطيطا للقانون الدستور المقارن، وإنما تكون فصلا في فلسفة علم الإنسان وتصف لنا النماذج الأساسية – نماذج أخلاقية واجتماعية معا- التي تحقق فيها الحياة الإنسانية في المجتمع"(2) وتبرزها لنا لتبين المدن الفاضلة من المدن الجاهلية.
__________
(1) - جميل صليبا: من أفلاطون إلى ابن سينا، ص 72.
(2) - السكندر كوبيري: مدخل لقراءة أفلاطون، ترجمة : عبد المجيد أبو النجار، مراجعة : د/ أحمد فؤاد الأهواني، الدار المصرية للتأليف والترجمة، مصر، بدون تاريخ، ص164.(1/68)
وخلاصة القول أن الفارابي كان متأثرا في كثير من مسائله السياسية بأفلاطون، وإن حاول أن ينظر إليها بعين إسلامية ولكنه كان يبالغ في التجريد في بعض المفاهيم والاشتراطات، مما جعل مدينته تقترب من اليوتوبيا أو الحلم أكثر من اقترابها من الواقع الموضوعي. ولكن كما سبق وأن ألمحنا، لا وجود لحلم دون واقع ينطلق منه ويحاول تجاوزه والتخلص منه، هذا فضلا عن أن الحلم، لا يكون دائما وبالضرورة خاليا من الحقائق؛ فـ" كثيرا ما يفضّل الخيال على الحقيقة، وتنسج الحقائق من خيوط الأحلام"(1) .
ولما كانت الشروط الحضارية متقاربة، والظروف الواقعية متشابهة، والأطر المعرفية لم تزل بعد، تمتلك خاصية تأثيرها، فإن جميع من أتى بعد الفارابي من فلاسفة مسلمين أو بعبارة أو ضح (فلاسفة فقهاء)(2)، باعتبار رؤاهم دائرة، تخومها أو قطباها الدين والواقع، أو لنقل (فقه الواقع)، فإنهم جميعا، حلموا الحلم نفسه، وتاقوا إلى وسم مدينة الأرض بِسمات مدينة السماء، وتقريب مدينة البشر من مدينة الله وتخفيف وطأة مدينة الدنيا وتليين يبوستها بنفحات من مدينة الدين؛ مشترطين فيها كل ما اشترطه الفارابي حتى وإن اختلفت زاوية النظر، واختلفت المفاهيم، إلا أن القضية تبقى هي هي.
د- صورة المدينة في الحضارة الأندلسية:
__________
(1) - جميل صليبا: من أفلاطون إلى ابن سينا، ص 80.
(2) - هؤلاء الفلاسفة أمثال: ابن سينا، ابن باجة، فلاسفة الفكر الشيعي، والفكر الأشعري(الماوردي) وفي قرطبة ابن رشد. وينتقد ابن خلدون فيما بعد هذه النظرة التجريدية والرؤية الطوباوية، مؤكدا عدم إمكانية وقوعها بقوله : " إنها نادرة أو بعيدة الوقوع" وأنهم يتكلمون عليها (المدن الفاضلة) من جهة الغرض والتقدير" المقدمة، ص : 303 . على الرغم من هذا الانتقاد بل والدعابة، وعلى الرغم من أنه حاول تأسيس نظرته على معرفة طبائع العمران كما هو واقع، إلا أنه سار على نفس نهجهم(1/69)
فإذا كان هذا حال العصر العباسي وموقف شعرائه ومفكريه من الحياة فيه، فكيف يكون موقف الناس من الحياة في الأندلس، ذات البناء المعماري الباذخ، والطبيعة الخلابة، وما صاحب ذلك من ترف ولهو، لم يشهد له العربي مثيلا، في بيئته الأصلية (الشام والحجاز). هل هو موقف إيجابي أم سلبي؟ هذا ما سنحاول التعرّف عليه فيما يلي من الصفحات.
أولا الموقف الإيجابي:
1- وصف فردوسها:
لقد بلغت الأندلس من الحضارة والمدنية، ما لم تبلغه بلدة من البلدان التي سكنها العرب المسلمون، أو استوطنوها فاتحين؛ فلقد أجمعت المصادر القديمة والدراسات الحديثة، على أنّ بهجتها وخصوبة تربتها، وثراء مرابعها، وفتنة عمرانها واتصال مدائنها، تفوق كل وصف، حتى لأنها غدت درّة الزمان وجنة الأرض، وفتنة الدهر، يتشوق إليها كل من حُدِّث عنها، أو بُلِّغ أخبارها، أو قرأ أو صافها في شعر شعرائها أو استمع إلى زائريها من الشعراء الآخرين ويتسابق في التوافد عليها كل من هيّئت لهم أسباب ذلك ."ومما قاله ابن سعيد المغربي واصفا إياها ما يلي : " ميزان وصف الأندلس أنها جزيرة قد أحدقت بها البحار، فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جهة. فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة، ما بين قرى ومياه ومزارع"(1) . وقال ابن اليسع أيضا في وصفها : " لا يتزود أحد ماء حيث سلك، لكثرة أنهارها وعيونها، وربما لقي المسافر فيها اليوم أحد أربع مدائن ومن المعاقل والقرى ما لا تحصى. وهي بطاح خضر وقصور بيض"(2) . هذا فضلا عن إسهاب الشعراء في وصف روعة جمال طبيعتها، وتربتها المغدقة، ومياهها الدافقة، وقصورها الباذخة، مثلما نرى في قول ابن خفاجة:
يا أهل أندلس لله درّكم
ماء وظلّ وانهار وأشجار
__________
(1) - المغرب في حلي المغرب، نقلا عن : ملامح الشعر الأندلسي لعمر الدقاق،ص 8،9.
(2) - تاريخ الأدب العربي: حنا الفاخوري،ص: 797، نقلا عن : ملامح الشعر الأندلسي، عمر الدقاق، ص9.(1/70)
ولوتخيرت، هذي كنت أختار ... ما جنة الخلد إلا في دياركم
لا تخشوا بعدها أن تدخلوا سقرا
فليس تدخل بعد الجنة النار
ويقول أيضا في قصيدة أخرى:
إنَّ للجنَّةِ في الأنْدَلُسِ
مجُْتَلَى حُسْنٍ ورَيا نَفْسٍ
فسنَا صبحتَها من شَنَب
ٍودُجَى ظلمتها من لعس
والأكثر من ذلك، أن الطبيعة غدت عندهم امرأة فاتنة الحسن، بارعة الجمال، ممشوقة القد... كما في بيت ابن خفاجة التالي يصف الأراكة:
فكأنَّها وكأنَّ جدولَ مائِهَا
حسناء شُدَّ بِخَصْرِهَا زنَّار
1@ريحٌ تلفُّ فُرُوعَهَا مِعْطَارُ ... أوهي فتاة كاعب، تتدلل وتنثني زهواً بجمالها وشبابها، فيتضوع منها عطر فواح، ويرى منها أبهى حلي وأجمل زينة:
وصَقِيلة الأنوارِ تَلْوِي عِطَفَها
فالنُّورُ عقدٌ والغُصُونُ سَوَالِفُ
والجذْعُ زندٌ والخليجُ سِوَارُ
فالطبيعة بالنسبة لهم امرأة حسناء، بكل ما تثيره هذه المرأة من فتنة، وزهووشهوة ولذة، كما رأينا عند ابن خفاجة، وكما هو الحال عند ابن صارة يصف نهرا بمائه العذب:
إذن في هذا الجوالمديني المترف، والطبيعة الخلابة، نال العرب الوافدون من الخير والنعم ما غيّر حياتهم كلية وقلبها رأسا على عقب، فانعكس ذلك في نفوسهم رقة، وفي أزيائهم تأنقا، وفي مطعمهم ومشربهم انتقاء، وفي مجالسهم تظرّفاً وتأدبا وليونة، بل وميوعة في بعض الأحيان كما انعكس في شعر شعرائهم عذوبة وسلاسة، وألفوا هذه الحياة الوادعة السهلة، فارتبطوا بتربتها، وتغلغل في نفوسهم جذور حبها، حتى أنهم لم يطيقوا مفارقتها، وبقوا على ذلك زمنا غير قصير.
2- رثاؤها:(1/71)
ولكن الزمان دوار لا يقر له قرار، ولا يثبت له حال، والإنسان في ذلك كله لا يملك من أمره شيئا بل هو أشبه ما يكون بريشة في مهب الرياح. هكذا دارت عجلة الزمن وصار حسن حال الأندلس العربية المسلمة إلى أسوأ حال؛ كانت الدورة: فتح، وتمركز، وقوة، فحضارة، ثم تشتت وتناحر وضعف، وفساد، فسقوط، بهذا أصبحت هذه المدن- التي ارتبط العربي بأرضها من أعماقه وتجذرت في كيانه- نهبا لغربان البربر والصليبيين، فقاومت بكل بسالة، ولكنها سقطت في الأخير فيما ليس منه بد، وصارت بعد هذه الهجمات الشرسة أثرا بعد عين، ووحشة بعد أنس، وخرابا بعد حسن، كما أتى على وصفها ابن حزم بمرارة بالغة وحزن عميق وأسى بليغ في كتابه "طوق الحمامة" فيقول:(1)
"ولقد أخبرني بعض الوارد من قرطبة وقد استخبرته عنها، أنه رأى دُورَنا ببلاط مغيث، في الجانب الغربي منها، وقد امّحت رسومها وطمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيّرها البلى وصارت صحاري مجدبة بعد العمران، فيافي موحشة بعد الأنس وخرائب منقطعة بعد الحسن، وشعابا مفزعة بعد الأمن ومأوى للذئاب، ومعازف للغيلان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش، بعد رجال كالليوث، فصاروا في البلاد أيادي سبا. فكأن تلك المحاريب المنمقة والمقاصير المزينة التي كانت تشرق إشراق الشمس، ويجلوالهم حسن منظرها، حين شملها الخراب وعمها الهدم، كأفواه السباع فاغرة، تأذن بفناء الدنيا وتريك عواقب أهلها. وكان ليلها تبعا لنهارها في انتشار ساكنيها والتقاء عمارها، فعاد نهارها تبعا لليلها في الهدوء والاستيحاش. فأبكى عيني، وأوجع قلبي، وقرع صفاه كبدي..."
__________
(1) - علي ابن حزم، طوق الحمامة، القاهرة 1967، ص 94، (أخذناه من: ملامح الشعر الأندلسي، عمر الدقاق، ص274)(1/72)
ولم يملك الشعراء إزاء هذا الأمر الجلل، والخطب الفادح، إلا أن تفيض نفوسهم بما يدمي الأفئدة ونيكأ الأكباد من أشعار رثائية تتفجر غما وكمدا على ما آلت إليه مدنهم الأثيرة لأنفسهم، ومواطن ذكرياتهم، ومرابع صبابتهم وصباهم. فهاهوابن حزم يرثي مدينته بعد أن كان قد رثاها نثراً، مرتاعا لما حل، آسفا على ما آل إليه حالها(1):
سلامُ على دَارِ رحْلِنَا وغُودِرَتْ
خلاءً من الأهْلِينَ موحشةً قَفَرَا
تراها كأنَّّ لم تَغنَ بالأمسِ بلقعَا ... ولا عَمَرت من أهلِهَا قبلنَا دَهْرَا
فيا دارُ لم يُقْفِركِ منا اختيارُنا ... ولوأنَّنَا نستطيعُ كنتِ لنا قبْرَا
ولكن أقدارا من الله أنفذت ... تدمرنا طوعا لما حل أو قهرا
سقتك الغوادي ما أجل وما أسرى
فيا خير دار قد تركت حميدة
ولم يكن غرض رثاء المدن جديدا، فلقد وصف ابن الرومي محنة البصرة(2) التي تعرضت لها على يد الزنوج وسواهم من العبيد عام 277هـ ولكن الجديد في أمر شعر الأندلس هو الانتشار الكبير لهذا الغرض وطغيانه في فترة ما على سائر الأغراض، نتيجة التهاوي المتتالي للمدن الأندلسية في أيدي أعدائها،والمتناحرين عليها من ملوك الطوائف وغيرهم، كما يكمن الجديد أيضا في ذلك الأسى العميق الذي يطبع قصائدها، وتلك المقابلة بين أمسها الزاهي، وحاضرها الأسود. فهاهوابن شهيد الذي كان في قلب قرطبة، وقدر له أن يشهد مأساتها بكل تفاصيلها، هاهويرثيها بأسى عميق وحزن بالغ:(3)
ما في الطلول من الأحبة مخبر
فمن الذي عن حالها نستخبر
في كل ناحية وباد الأكثر ... جار الزمان عليهم فتفرقوا
يبكي بعين دمعها متفجر ... فلمثل قرطبة يقل بكاء من
__________
(1) - لسان الدين ابن الخطيب، أعمال الأعلام، ص 107، عن عمر الدقاق، ملامح الشعر الأندلسي (م.س) ص 275.
(2) - لسان الدين من الخطيب : أعمال الإعلام، ص107، نقلا عن : ملامح الشعر الأندلسي عمر الدقاق، ص 275
(3) - عمر الدقاق : ملامح الأندلس، ص276(1/73)
وبدورها بقصورها تتخدر ... يا طيبهم بقصورها وجذورها
ريح النوى، فتدمرت وتدمروا ... يا جنة عصفت بها وبأهلها
وظباؤها بفنائها تتبختر ... ...أسفي على دار عهدت ربوعها
وثقاتها وحماتها يتكرر ... ... حزني على سرواتها ورواتها
وبهائها وسنائها تتحسر ... نفسي على آلائها وصفائها
كبدي على علمائها, حلمائها
أدبائها, ظرفائها, تتفطر.
كما رثاها أيضا شعراء كثيرون منهم مثلا ابن فرج السميسر (خلف بن فرج الالبيري المتوفي سنة 480هـ،) بقوله :
وقفت بالزهراء مستعبرا
معتبرا أندب أشتاتا
قالت : وهل يرجع من ماتا ... فقلت : يا زهرا ألا فارجعي
هيهات يغني الدمع هيهاتا ... فلم أزل أبكي وأبكي بها
كأنما أثار من قد مضى
نوادب يندبن أمواتا(1)
فقرطبة كانت من الروعة والخلابة، ما جعل الكثير من الشعراء يرثونها ويندبون عهدها الزاهي الذي ولى، يرفدهم في ذلك فداحة مصيبتها وخرابها التام.
ولم تكن قرطبة المدينة الوحيدة التي عمد إلى رثائها الشعراء وتسابق إلى تأبينها الأدباء، بل كان هذا شأن كل مدينة أندلسية، تتعرض لمحنة أو اغتصاب، كبلنسية مثلا عاصمة الشرق الكبرى التي ذاقت من الظلم أمره على يد القمبيطور (2)في أثناء اجتياحه لها سنة 487هـ. 1094م (3) وتدميرها وحرق بعض أعيان أهلها. وأسر بعضهم الآخر، وفي وصف أبي عبد الرحمن بن طاهر أحد الوجوه البارزين فيها آنذاك، ما يغني عن كل وصف، حيث كتب إلى بعض إخوانه يقول:(4)
__________
(1) - م.ن، ص277.
(2) - عمر الدقاق، (المرجع نفسه)، ص 299،300.
(3) - ولكن استردها العرب من الاسبان سنة 495هـ / 1102هم.
(4) - الذخيرة: القسم الثالث (المخطوط ): 29 / نقلا عن : تاريخ الأدب الأندلسي : عصر الطوائف والمرابطين، د/ إحسان عباس، ص 187، نقلا عن ملامح الشعر الأندلسي، عمر الدقاق،
ص 300.(1/74)
"... فلورأيت قطر بلنسية، نظر الله إليه، وعاد بنوره عليه، وما صنع الزمان به وبأهليه، لكنت تند به وتبكيه. فلقد عبث البلى برسومه، وعدا أقماره ونجومه، فلا تسأل عما في نفسي وعن نكدي ويأسي...".
وهاهوابن خفاجة الذي عانى من وطأة تلك الأحداث المريرة، وشهد من الأهوال الشيء الكثير، يحز في نفسه ما ألم ببلنسية على يد الإسبان فيرثيها بقوله:(1)
عاثت بساحتك العدا يا دار
ومحا محاسنك البلى والنار
طال اعتبار فيك واستعبار ... فإذا تردد في جنابك ناظر
وتمخضت بخرابها الأقدار ... أرض تقاذفت الخطوب بأهلها
كتبت يد الحدثان في عرصاتها
لا أنت أنت ولا الديار ديار
والمدن المرثية كثيرة جدا، ليس هذا مجال ذكرها، حسبنا ما ذكرنا، لنبين مكانة المدينة في نفس الإنسان الأندلسي.
بتلك المقاطع المؤثرة وغيرها من القصائد الطوال بكى الأندلسيون مدنهم الضائعة وفردوسهم المفقود بعد تلك الضربات المتتالية التي توالت عليها من كل حدب وصوب، مرتكزين في رثائهم المرير- لبيان فداحة الخسران ومدى مبلغه من النفوس – على المقابلة بين ثنائيتين ضدّيتين، إحداهما زاهية مشرقة وهي أمسها السعيد ،والأخرى معتمة سوداء هي حاضرها التعيس، معبرين في كل ذلك عن أساهم العميق وحزنهم الشديد، وحنينهم الجارف وتشكّيهم من سطوة الأعاجم وما تعرضت له النساء المسلمات من سبي وخزي، وأطفالهم من تشريد وقتل ... صابّين أحيانا جامّ غضبهم ليس على العدوالمغتصب، بل على بعض الحكام الذين لم يكن لهم من هم سوى الإغراق في أتون اللذّة وما يتبعها من خمر وسمر ... والانشغال عن مستوجبات الحكم وتدابيره. فضعفت بسبب ذلك الدولة، وصارت نهبا للأعداء فكان هذا حالها. ومن خلال هذا يمكننا الآن تتبع الموقف السلبي من المدينة لديهم .
ثانيا: الموقف السلبي من المدينة :
1- مظاهر التهتك والمجون:
__________
(1) - عمر الدقاق، (المرجع نفسه)، ص 300.(1/75)
ولكن على الرغم من هذا التغني الكبير بمفاتن الأندلس، والحنين الجارف إليها- بعد سقوطها – والارتباط العميق بها إلا أن هناك نفوسا لم تكن لترضى عنها، ولا بوضع الحياة فيها، ولا الأخلاق التي تسودها. فحياة القصور والنعيم والترف لم تله الشعراء عن النظر إلى الجانب المعتم من الحياة، ولم تلهمهم الحبور والغبطة وحدها فقط، كما أنها لم تلهمهم عواطف رخوة، وتغافلا عن التفكير في المصير، بل أو حت إليهم بشعر ينمّ عن قلق عميق مما آلت إليه الحياة، ويترجم عن وجدانية حيرى يكاد اليأس يكون طابعها الرئيس.
لقد كانت هذه النفوس ناقمة على حياة لا همّ لأحدهم فيها سوى "كأس يشربها وقينة تسمعه ولهويقطع به أيامه"(1)، كانت تبكي القيم الضائعة وسط هذا الجوالمديني المشحون بالفسق والمجون والتهتك الأخلاقي، والخلاعة والعبث الجريء، الذي جاء كنتيجة لكثافة التمركز البشري وتباين أفراد المجتمع واختلاف اتجاهاتهم وتعدد مشاربهم، وضعف الوازع الديني في نفوسهم، فكان مجتمعا هشّ البناء، قليل الاستقرار، كثير الهزات سريع العطب، فاضطربت النفوس وتخوفت، وشاع في الأفق قلق كبير، أدى بالأندلسي إلى "البحث عن الاستقرار بشتى الوسائل أو على الأقل إلى تسكينه والتخفيف من حدته ولومؤقتا "(2)، فمال إلى اللهووطلب المتعة الآنية بشتّى ألوانها وضروبها، من إغراق في شرب الخمر، ورقص وغناء وطرب وموسيقى وما شابهها، فباتت الحياة عندهم حلقة متصلة من المتع لا تنتهي، وأضحى الشراب وطقوسه بالنسبة لهم "ديدنا حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتا
__________
(1) - محمد رضا الشبيلي: أدب المغاربة والأندلسيين : في أصوله المصرية ونصوصه العربية، دار اقر للنشر والتوزيع والطباعة، ط2، بيروت 1984، ص 74.
(2) - د/ جودت مدلج: الحب في الندلس، دار لسان العرب، بيروت، ط1، 1985، ص 112.(1/76)
ثقيلا "(1)، فكان ذلك علامة على التحضر السلبي ومظهرا من مظاهر التمدن الزائف. فتهتك الشعراء والوزراء، والقضاة والفقهاء، بل وحتى الأمراء والخلفاء، وانتشرت الخلاعة والمجون وعمّت مسرح الحياة، وساءت الأخلاق، وجهر الناس بها، وأصبحوا يمارسونها علنا ويتفاخرون بنوال الحظ الأوفر منها والتفنن في ارتيادها والتمتع بها، بل والتحسر على ضياع يوم بدونها، يقول الرمادي :
اشرب الكأس يا نصير وهات
إن هذا النهار من حسناتي
لومضى الدهر دون راح وقصف
لعددنا هذا من السيئات
انقلبت القيم وتجرأ الناس على شرع الله، فصارت المعصية مأجورة، والطاعة مأثوما عليها. والحديث عن هذا الأمر يطول لونحن تتبعناه، لذلك سنكتفي بوقفة مع الشاعر يحيا الغزال(2) في وصفه للخمرة ومجاهرته بها وتهتكه فيها تهتكا فاق ما كان عليه المشارقة أمثال أبي نواس ومن والاه، لنظفر بصورة هي أنقل للوعي النفسي لدى الأندلسي، وأنقل لحركة الأشياء خارج الشعر، صورة تمارس العلاقة مع الواقع، منه تنطلق ومعه تتوازى، فتكون بذلك أشد بساطة وأكثر اقترابا من الحياة اليومية للإنسان الأندلسي، يقول الغزال(3):
فلما أتيت الحان ناديت ربه
فهب خفيف الروح نحوندائي
على وجل مني ومن نظرائي ... قليل هجوع العين إلا تعلة
طرحت إليه ربطتي وردائي ... فقلت أذقنيها، فلما أذاقني
وقلت أعرني بدلة أستتر بها
بذلت له فيها طلاق نسائي
__________
(1) - م.ن، ص. ن، عن المقري نفح الطيب : ج3، ص 213.
(2) - يحي الغزال 156هـ، 256 هـ ذاعت شهرته أيام الحكم الربضي، ينتسب إلى بكر بن وائل.
(3) - د/ عمر الدقاق: ملامح الشعر الأندلسي، مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية، حلب 1978، ص 64، أخذها عن المطرب لابن دحية، ص 148(1/77)
فضلا عن أن لغة هذه المقطوعة تحمل نكهة الشارع والزمن اليومي، ببساطتها واقترابها من لغة الناس العادية المتداولة، فإنها تتحلل من كل رزانة، وتبتعد عن كل وقار. فالشاعر يواجه موضوعه بجرأة لا تكتم مشاعرها، حتى يبدوالحدث أمامنا كما هو معيشا خارج النص، فهوهنا لا يختبئ تحت عباءة الشعور بالتفوق والتميز أو التحرّج، بل إنه يداهم موضوعه دون حرج من كشفه، فالغزال هنا يميط اللثام عن تجربته ليبدوما حدث واضحا عاريا بعيدا عن أي افتعال يراعي رد الفعل الاجتماعي.
هكذا سيدخل الغزال الحانة ليمارس متعة الغياب، وهكذا تبدوالعلاقة بين الغزال وصاحب الخمر علاقة حميمية؛ يبدوذلك من خلال السرعة الزمنية بين النداء والاستجابة له "فهبّ خفيف الروح" والتعبير هنا يزاوج بين الحركة المادية والحركة النفسية؛ فخفة الروح تشيع علاقة من الألفة بين الحدث وشخوصه، والبيت كله يكسر ما يتحرج المحافظون من كسره ،هكذا يتجاوز الغزال كل تحرج ويكشف كل كتمان. وسوف يمضي الشاعر نحوحركة أخرى لينموالحدث داخل النص "أذقنيها" وإذ يذوقها فإنه لا يصف لنا طعمها أو لونها؛ الحديث عن الطعم واللون نجده عند المحافظين المتحرجين، وكأنهم يهربون إلى الحديث عن الطعم واللون حرجا من الحديث عن الأثر. الغزال يكاشفنا بأثر الشراب دون حرج في تصوير نفسه في لحظة النشوة التي تذهب الحس بالحرج من الآخر، يحدثنا عن حضور الغياب، ليتخلع من داخله الحس بالآخر الاجتماعي المعبر عنه بإلقاء ملابسه للنادل، ثم يستعير ما يستره، الفعل ونقيضه؛ الغياب والحضور، إلقاء الملابس واستعارتها، النشوة والإفاقة منها، غيبة الوعي وعودته، كل ذلك يجسده في النص مسقطا كل رصانة ووقار في لغة بسيطة لا تتحرج من المكاشفة والعري .(1/78)
الخروج عن الرزانة والرصانة والوقار، ليس علامة عبث فردي أو تمرد آني، إنه يعني أن الرقابة الاجتماعية أخذت تفقد نسبة من دورها، تحت وطأة المجتمع الجديد الذي يملك إمكانية تجاوز مذاهب القدماء وتحرجاتهم؛ لأن القديم لم يعد مقدسا، وهذا دليل يعكس في عمقه أن رحلة التجانس بين الطوائف المختلفة قد بدأت طريقها وقطعت شوطا فيه كبيرا، فلم يعد العرب وحدهم الذين يحددون تقاليد الناس ومذاهب حياتهم. امتزجت سلطة الذوق العربي البدوي المحافظ بسلطة الطوائف الأخرى حتى لم يُعْهَد المحدّد للأشياء سلطة واحدة بل سلطات متعددة؛ لا في سياق صراعيّ يمضي إلى اختلاف إنما في سياق تآلفي يمضي باتجاه صياغة ذوق عام هو دليل جدل أذواق، لينشرخ السائد لصالح ما ينبغي أن يسود. فالغزال في انكشاف لغته على موضوعها، يتواءم مع الجديد في الحياة، وهوجديد ليس خارجه بل فيه.
بل وأكثر من ذلك، فقد صار للناس مذاهب عدة، وفنون شتى في معاقرة الخمر واعتبارها مذهبا حياتيا لا يجوز الحياد عنه، فها هو ذا ابن خفاجة، قد سنّ لنفسه مذهبا خاصا وطريقا في العيش جسّده في قوله:
وما الأُنْسُ إلاّ في مجَاجِ زُجَاجَـ
ة ولا العَيْشُ إلاّ في حرير سَرِير(1)
فلا حياة خارج عنق زجاجة الخمر ولا سعادة بعيدا عن سرير الخلاعة والمجون، فذلك أضحى دستور حياة:
لا تُعيَّنْ لنَا مكانًا ولَكِنْ
حيثُما مالتِ اللَّواحظُ مِلْنَا(2)
__________
(1) - ابن خفاجة : الديوان، تحقيق السيد مصطفى غازي، (دار المعارف بالإسكندرية)،1960،
ص 181
(2) - ابن سعيد : المغرب في حلي المغرب، تحقيق شوقي ضيف، (دار المعارف بمصر)، 2/168(1/79)
1@يُنزَه عَنْهَا سمعُ كلِّ مُراقبِ ... تحرر الناس من القيود، وسطواً على القيم جهارا، وتحررت المرأة من عقدة الكبت إزاء الرجل، وتجرأت وأصبحت تبوح بمكنونات قلبها، وتباريح شوقها؛ تردده في شعر كله لظى واحتراق، وشوق إلى الاختلاء بالمحبوب؛ فهاهي أم كرم بنت الملك المعتصم بن صمادح تكشف عن لوعتها دون تحرج:
ألاَ ليْتَ شِعْرِي هل سَبِيلٌ لخَلْوَةٍ
ويا عَجَبًا أشتاقُ خلوةَ مَنْ غَدَا
ومثواهُ ما بَيْنَ الحشَا والترائبِ(1)
وفي مثل هذا الجوالمأفون، ظهر غرض التغزّل بالغلمان والتشبيب بهم واستشرى(2)، واصبح أمرا مألوفا، لا تحرجّ في المجاهرة به، وطال الأمر حتى ذوي المكانة المرموقة منهم بله العامة والغوغاء فهاهوأبومحمد بن السيد بطليوس المشهور بالحافظ صاحب شرح أدب الكاتب،لا يخجل من الهيام بالصبيان والتشبيب بهم، ولا يبالي بتعريض حياته للخطر، فيجهر بولوعه بأبناء صاحب قرطبة ابن الحاج، الذين كانوا على حظ وافر من الجمال، ويتغزل بهم ذاكرا كل واحد باسمه وهم: رحمون وعزون وحسون فيقول(3) :
أخفيت سقمي حتّى كاد يخفي
نيوهمت في حب عزون فعزوني
ثم ارحمون يرحمون وإن ظمئت
نفسي إلى ريق حسّون فحسّوني
ويقطع الشاعر الرمّادي في هذا المجال أشواطا بعيدة، حتى ليغلب هذا اللون على أغراض شعره الأخرى ويشتهر به، ومما يقوله في وصف غلام نصراني:(4)
قبلته قدام قسيسه
شربت كأسات بتقديسه
يقرع قلبي عند ذكري له
من فرط شوقي قرع ناقوسه
__________
(1) - ابن سعيد: المغرب، 2/203.
(2) - ظهر مثل هذا في البيئة العباسية ولكن ليس بمثل هذه الحالة التي عرفتها الأندلس.
(3) - نفح الطيب : للمقري 3/459
(4) - نفح الطيب : 4/40.(1/80)
ويتجاوز عبيد الله بن جعفر الاشبيلي أقصى حدود العبث والمجون والتهتك، ويسطوعلى أدنى حدود الحشمة، فيأتي على وصف إحدى ممارساته الشاذة، وصفا دقيقا لا يمت إلى الفطرة السليمة والذوق الصحيح بأدنى صلة، ولا يفرض عليك إلا أن تربأ بنفسك عن ذكره، ولا يصيبك إلا بالدهشة والاستغراب مما انحدرت إليه القيم وما آل إليه أمر الحياة... ويتبعه على نفس الوتيرة شعراء كثيرون أمثال : المطرف المعروف بابن الدباغ، وابن الخياط الرعيني الأعمى القرطبي، وإسماعيل الكاتب(1)
وابن عمار الذي يقول فيه ابن بسام:" أن تغزّل، ولاسيما في المعذّرين من الغلمان، أسمع سحرا لا يعرفه البيان "(2) .
ويقول أيضا أنه "اجترأ على الأيام، واقتاد من الجماهير العظام، زير قيان وغلمان، وصريح راح وريحان، أمله، زعموا، كان بين شرب كأس وشمِّ آس. وجذله في نصب حباله لغزال أو غزالة..."(3)، ولا أدل على ذلك من قوله في أحد الغلمان، وهوأبوالغرب بن معيشة (أومعوشة) الكناني السبتي كما يروي هو نفسه بعدما شاخ فيقول: رآني بن عمار فاشرأب إلي بعنقه ولكأني بقضيب من نهدي وقال:
"كفّ هذا النهد عنّي
فبقلبي منه جرح
هوفي صدرك نهد
وهوفي صدري رمح"
ويبدي الدكتور جودت مذلج حول هذين البيتين ملاحظتين قيقول:(4)
" الأول، هي أنني لا أعتقد أن امرأة لا ينتفض صدرها غيظا وحسدا من هذا الشيخ على تغزل ابن عمّارة بنهده.
__________
(1) - لمزيد من التفصيل انظر: جودت مدلج: الحب في الأندلس، ص 151،159.
(2) - 4 - د/ جودت مدلج: الحب في الأندلس، ص : 255، 256، ابن بسام: الذخيرة –2/369 و373.
(3) - المقرّي: نفح الطيب، 3/326.
(4) 2 - د/ جودت مدلج: الحب في الأندلس، ص 256.(1/81)
والثانية أنني لا أجد فارقا بين شعور ذلك الشيخ وانفعاله عندما يتذكر ويردد هذا التغزل به، وبين شعور وانفعال أية امرأة تسمع رجلا يدغدغ صدرها ويثير نهدها بمثل هذه الإثارة، مما يدل على أن الأندلسيين بعضهم كانوا يتقبلون التغزّل بالمذكر فينشرحون له صدرا ويطيبون نفسا !"
هكذا يميل الرجال إلى الرجال، وتشذ الطبيعة البشرية وتسقم الفطرة، وتنتهك الرجولة، وتمتهن الأنوثة، وتهدم الأسس التي قام عليها الخلق منذ البدء، فتنهار الأخلاق وتنحط القيم وتسفل وتتقوّض المبادئ الروحية والدينية، وتتلاشى الضوابط الاجتماعية، فينحرف الناس في سلوكاتهم، ويضيعون عن جادة الصواب ويندفعون إلى اللجاج والخوض في أمور عبثية تافهة، متنصلين من مسؤولياتهم، ليفتقد العطاء، وتتعطل عملية البناء .
هذه الأسباب وغيرها، أمور عجلّت بانهيار الأندلس، وضياع فردوسها من يد العرب والمسلمين، إنها ضريبة التحضر والتمدن، ضريبة التحرر والتحلل من كل القيم، في مجتمع ازدادت كثافته، وتباينت أجناسه البشرية، وأبطرته النعم، فعادت عليه وبالا ونقمة.
2- الاغتراب في المدينة وهجاء أهلها:(1/82)
فهذا المجتمع على الرغم من ترف أهله، وتوافره على كل أسباب الرفاهية والأنس، فإن الغربة والمعاناة المؤلمة لم تظهر ولم تتمركز إلا فيه. لأنه مجتمع تفككت فيه كل القيم والمعايير الاجتماعية، وأصبحت غير قادرة على التحكم في السلوك الإنساني وضبط تصرفاته، نظرا لنسبيتها وتناقضها وتغيرها باستمرار؛ حيث لم يعد هناك تفكير طوباوي أو رموز ومبادئ أساسية توجه تصرّف الإنسان وتحكمه، ففقدت الحياة بذلك معناها السامي و"أصبحت أسيرة القصور والحدائق والجواري وما إليهن. أصبحت عالما يضيق بعد اتساع، وينغلق بعد انفتاح، ويتفتت بعد تماسك تحولت إلى دويلات، لكل منها غاية واحدة: أن تستمتع وتلتذ بالحياة"(1). فأصبحت التجربة واحدة إذن، ولم يعد هناك مجال لتفضيل تجربة على أخرى بل أصبحت جميع التجارب متماثلة ومتساوية من حيث القيم والجوهر. وفي ظلّ هذا التساوي القيمي والجوهري للأشياء، فإن كل شيء يفقد معناه ويصبح لعبا وعبثا، وما ينتج عن هذا من قلق ويأس واختلاف؛ فلا شيء يستثير الحماس ويستقطب مكامن التفس ويفجر إمكاناتها؛ وعند ذلك أصبح النص الشعري فارغ المضمون لا يعدوا أن يكون تكرارا شكليا باهتا مملا، نتيجة خلوالحياة من مضامينها. واثر ذلك فُتّت الإرث الشعري "وصيغ من جديد في زخرفيات(2)ونتف صنعية.
__________
(1) - أدونيس : مقدمة للشعر العربي، ص : 70.
(2) - إن اهتمام الأندلسيين بمعمارية المكان ومبالغتهم في تنميقه والتفنن في تشكيله، من خلال ما يسمى بـ (التوريق والتزهير) انعكس جليا على الشعر فظهر فيه هو الآخر ما يسمى بـ "التختيم"، أي تقسيم المكان الذي به الشعر إلى خواتم ومربعات هندسية على غرار ما هو في العمارة، بالإضافة إلى ما يسمى بالتفصيل والتشجير، إلى حد اعتباره ذلك كله داخلا في أبو اب البديع. أنظر : محمد عبد بدوي: الشاعر والمدينة في العصر الحديث، عالم الفكر، مج 19،ع3، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1988، ص:244(1/83)
لم يضف إليه شيء، لكنه امتدّ شكليا بقوة اللعب الصنعيّ وقوة الحاجة التي أخذت تفرضها الحياة في المدينة وحول القصور وأصحابها"(1) .
انعكست فسيفساء المدينة وزخرفها وتصنعها على المضمون الشعري فأفرغته من محتواه، وبالغت في الاهتمام بشكله، فأضحى صناعة وتأنّقا ومجرد مناورات ذهنية بالكلام، وأصبحت الكلمة فيه مادة قابلة للصناعة فهي: "دمية أو حصاة مزوقة ملساء ترتب مع غيرها في نسق كالعقد أو الحلية"(2).
والشعر إنْ هو إلا انعكاس لما يجري على مسرح الحياة ولذلك فـ "كما أن الحياة في المدن أصبحت زيا، كذلك القصيدة لم يعد معناها هو الذي يهم الشاعر أو السامع أو القارئ، بل صار زيها هو ما يهمه ... وكما أن الحياة في المدن نقيض للحياة في البداوة، كذلك كان الشعر المصنوع نقيض للشعر المطبوع"(3)، وكما تسارع إيقاع الحياة في المدينة، واُجتزِئ الزمن، تسارعت إيقاعات الشعر وسادت أوزان خفيفة واٌجتزِئت البحور، لتوافق هذه الحركية المتسارعة والتغيير المستمر، وكما كان الناس ينشدون السهولة واليسر في أسلوب حياتهم، أصبحت اللغة الشعرية البسيطة قريبة تتسم بالمباشرة اللامعة التي لم تشأ أن تقيم فضاء غامضاً بينها وبين موضوعها، كما مال الشعراء أيضا إلى النظرة التفصيلية للأشياء؛ ومثل هذه الظاهرة يقتضيها منطق التطور الحضاري الذي مسّ حياة الناس الفكرية والعملية؛ وهي حياة صارت أَمْيَلْ إلى فهم المركّب بتفكيكه والوقوف على جزئياته وتفاصيله، وعلى المستوى العملي فإنّ ذلك يعني أن الفرد صار يحمل عبأه في مرحلة تضع الفرد أمام اختياره. ففي البيئة البدوية الجماعة تحمل عبء الفرد الذي ينتمي إليها دون أن يتقن الفرد دوره، أما في المدينة فالعكس.
__________
(1) - أدونيس : مقدمة للشعر العربي، ص 70
(2) - أدونيس : مقدمة للشعر العربي، ص 70،71.
(3) أدونيس: مقدمة للشعر العربي،ص: 70،71.(1/84)
التفصيل يرتبط بحركة التطور وكان الفرد إذ يضيق من أعباء عالمه ويضغط عليه محيطه، يمارس اللّجوء إلى عالم يصنعه على هو اه. وفي الاشتغال بهذا العالم ينشد الفرد توسيع عالمه بالإلحاح على التفاصيل وعلى الجزئيات في محاولة لإثارة الحوادث الموضوعية وفق علاقات يمليها العقل الأكثر تطوراً في زمن آخر اكثر تقدماً –في العصر الأندلسي– يمكن أن نلاحظ الإغراق في وصف الطبيعة(1)والإلحاح على تفاصيل في إثارة موضوعها الشعري، فابن زيدون مثلا المتوفى سنة 463 هـ وابن خفاجة المتوفى سنة 450 هـ كل منهما يختار الطبيعة ميدانا لشعره فيغرق في وصفها وصفا يتوقف على أدق ما فيها؛ هروبا من واقع مزيّف ليس فيه ما يغري بالحياة، فما هو إلا واقع فسيفسائيّ مليء بالفوضى والسطحية والتناحر والفراغ القاتل. فبعدما كان الإنسان يرى نفسه في البادية أو القرية عضوا في عائلة أو قبيلة أو جماعة تساعده وتحمل مشاقه، أصبح الآن يرى نفسه مستقلا ومنفصلا عنهم، فهوعلى الرغم من أنه محاط بالآخرين إلا أنه وحيد بينهم، وعلى الرغم من انعدام مسافات جغرافية إلا أن المسافات النفسية والاجتماعية جد متباعدة، فهوقريب من الآخرين وبعيد عنهم في الآن نفسه، صلته بهم هشه وواهية وسطحية ورسمية، وتعامله معهم واحتكاكه بهم تصادمي، لأنّ " الدناءة والخلاعة والخداع والحيلة والمكر تغلب عليهم، فمدار أمرهم على المعاملات السيئة والخلف في الوعد"(2) كما يقول فيهم أبو حيان التوحيدي، وهذا ما يزيد من شعوره بالوحدة، ويعمق إحساسه بالانفصال والعزلة، ويلون رؤيته إلى الحياة بصبغة تشاؤمية.
__________
(1) التجأ الشعراء إلى الإغراق في وصف الطبيعة والتركيز على أدق تفاصيلها هروبا من قسوة الواقع المدييني وفراغه الروحي.
(2) خيري منصور: أبو اب ومرايا –ص: 63.(1/85)
يقول أحمد ابن عبد ربه في وصف الدنيا(1) :
ألا إنما الدنيا نظارة أيك
إذا أحضّر منها جانب جفّ جانب
عليها، ولا اللّذات إلاّ مصائب ... هي الدّار ما الأمان إلا فجائع
وقرّت عيون دمعها اليوم ساكب ... فكم سحت بالأمس عين قريرة
فلا تكتحل عيناك فيها بعبرة
على ذاهب منها فإنّك ذاهب
إنّ الوعي الذي يحكم العلاقات بين الأشياء داخل النص الشعري هو وعي منطقي، مبني على التريث والبرهنة العقلية للعالم، وعي يحيل الواقع المادي المرثي إلى مقولات للتأمل والنظر، والمستند في ذلك إلى منطق التجربة والمشاهدة، منطق يرى المأساة كامنة في الملهاة والحزن قائما في الفرح، وأن الوجد يحمل نقيضه وأن الحياة تحمل نفيها، وأن الناس يحملون أبدا زوالهم في الزمن الدنيوي، فإذا وقفنا في الربيع وخضرته، ينبغي علينا أن ننظر كذلك إلى نقيضه؛ إلى الخريف وتساقط الأوراق وجفاف الأرض.
بهذه الرؤية وبهذا المنطق يغرق الفرد في حالة من اليأس واللامبالاة والبرودة اتجاه كل شيء، ويقع تحت طائلة اغتراب نفسي واجتماعي مؤرق. فها هو ذا عبد الرحمن الداخل ذوالأصول المشرقية يعبّر عن غربته في المجتمع الأندلسي ويعلن عن حنينه الجارف إلى بيئته المشرقية فيقول :
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
وطول التنائي عن بيتي وعن أهلي ... فقلت: شبهي في التغرب والنوى
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي ... نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة
سقتكِ غوادي المرض من صولها الذي
يسحُ ويستمّر السمَاكَيْنِ بالوَيْلِ
__________
(1) جذوة المقتبس للحميدي، ص: 96 وبقيمة الدهر للتعالي 2/7، والمطرب من اشعار أهل المغرب لابن وجيه –ص : 155، نقلا عن ملامح الشعر الأندلسي، عمر الدقاق –ص 75.(1/86)
هذا النص تجربة ذاتية مفعمة بالصدق العاطفي الناتج عن الحس العميق بمأزق الغربة، والموضوع على الرغم من أنه وصفي، فهومشحون بعذاب النفس وأرقها؛ ذلك أنّ الداخل اتكأ على مشهد في الخارج يعّبر بواسطته على ما يحسّه، مما أبعده عن الوصفية الباردة، وليس من شك في أن النص يعّبر عن ذات تعيش غربتها؛ من هنا فإن النص أندلسي الفضاء أندلسي الحسّ والإبداع لكنه مشرقيّ التطلعات.
أما معجمه اللغوي فانه قريب مبسّط، انه معجم مديني، ولعل ذلك يعود إلى كون الشاعر مدينيا وأميرا في آن معا. مما يجعل لغته بعيدة عن الغلظة والخشونة، قريبة إلى البساطة والرقّة دون ضعف أو لين.
هذا في حين أن الصورة اعتمدت على إثارة ما هو نفسي وما هو إنساني دون اللجوء إلى رصف المواد الخارجية لما يُرى، أثار ذلك من خلال تفجير المشابهة في موقف الاغتراب الذي يجمع بينه وبين نخلة موضعها بلاد النخل. وإذ يحدثنا عن بلد النخل فانه يفجر ثنائية: التجمّع/ الانفراد، ثنائية : التواصل/الانقطاع، ليصبح الاغتراب، حزنا ممتدا بين الشاعر وبين ما يرى، هكذا يحيل الطبيعة المرئية إلى الطبيعة التي في الذاكرة، يحيل المشاهدة إلى الغائب مما يجعل العين الذاكرة حين كمن الماضي قويا في الحاضر إلى حد الالتباس، لتصير النخلة علامة على حزن مفتوح. إن الصورة الشعرية اعتمدت على المشابهة؛ فهووالنخلة يلتقيان في منفى الغربة لغة.والصورة بعد ذلك بسيطة غير مركبة، تسهم في إغناء الصورة التي تريد أن تفجر أزمة القلب لا أزمة العقل.(1/87)
وفي ظل هذا الجوالاغترابي، يتكثف الحزن وتتعمق المأساة، ليبرز التشكي طورا، والانعزال والنفي الذاتي أطوارا أخرى. فها هو أبو المخشي(1) يجسد الظلم الذي وقع عليه ويشكومأساته، ويفتحها على العالم . لم؟ لان عينيه سُملتا ولسانه قطع؛ لقد هجا هشام ابن عبد الرحمن الداخل وعرّض به نظرا لاستهتاره وعدم أهليته للخلافة، فدفع الثمن فادحا، وعاش بقية عمره على هامش الحياة يحمل جرحه ويعاني اغترابه المادي واغترابه النفسي. فيقول مجسدا ذلك:
خضعت أم بناتي للعدا
إذ قضى الله بأمر فمضى
ورأت أعمى ضريرا إنما
مشيه في الأرض لمسُ العصى
ويقول :
أبصرت مسيدلا من طرفه
قائدا يسعى حيث سعى
بالعصا إن لم يقده قائد
وسؤال الناس يمشي وإن مشى
ويقول :
أمس بنياتي الضعيف حويلها
تعول امرأ مثلي وكان يعولها
إذا ذكرتْ ما حال بيني وبينها
بكتْ تستقيل الدهر ما لا يقيلها
__________
(1) - هو عاصم بن زياد ذوأصل نصراني عربي وفد أبو ه إلى الأندلس في زمن الولاة وكان سليط اللسان هجّاء، هجا هشام بن عبد الرحمان الداخل وعرض به وكان احولا، فلما ظفر به هذا الأخير سمل عينيه وقطع لسانه، ولما آلت الامارة إلى هشام أكله الندم، فقرب الشاعر منه، وأجزل له العطاء، لكن المأساة كانت قد مضت . ومما قاله في هجاء هشام:
وليس كمثل من سبل ... ... عرفا يقلب مقلة فيها اعورار.
... لمزيد من الاطلاع انظر : المغرب في حلي المغرب لعلي بن سعيد المغربي 2/123 والأدب الأندلسي، د/ أحمد هيكل، ص 96.(1/88)
ولعل ذلك الإغراق في العبث واللهوالذي سبق ورأيناه عند من ذكر من الشعراء وهذا التشاؤم والانعزال الذي يجسده أبو المخشي ما هو في حقيقته، سوى مظهر من مظاهر الغربة بارز، ودلالة عليه أعمق، ونتيجة حتمية لها؛ باعتباره هروبا من مواجهة واقع مضطرب مرير. واقع ألفى فيه الفرد نفسه عاجزا عن تحقيق ذاته في مجتمع انهار جهازه القيمي وتفككت معاييره وتلاشت مبادئه، فأضحى محكوما باللامعنى يواجه فراغا هائلا، "نتيجة لعدم توفر أهداف سياسية تعطي معنى لحياته، وتحدد اتجاهاته، وتستقطب نشاطاته"(1). فالمواطن العادي لا يملك من أمر نفسه شيئا، ولا يشترك في صياغة القرارات المهمة، بل كثيرا ما يفاجأ بأحداث سياسية تقرر مصيره دون علم مسبق منه، وقرارات ارتجالية مبنية على الفوضى والغوغائية، اتخذها الأمراء في إحدى ساعات سكرهم ولهوهم ومجونهم، وفي ذلك يقول الشاعر(2):
إذا لعب الرجال بكل شيء
رأيت الحب يلعب بالرجال
1@بنوا تلك المقابر بالصخور ... وفي هذه الحالة من العجز السياسي، الذي يتطلب من المواطن أن يكون مهمشا غائبا عن مسرح الحياة، وفي ظل هذه التصرفات الظالمة، يجد الإنسان نفسه مدفوعا رغما عنه إلى غربته السياسية، فضلا عن الغربة الاجتماعية والنفسية نتيجة الانحلال الخلقي –كما أسلفنا- وإنبناء العلاقات على الزيف والتناقض والنفاق والرياء، وبالتالي عدم الانسجام مع المجتمع، ومجانبته والانفصال عنه، ومن ثم اللجوء إلى الانتحار البطيء، والانتقام من الذات- التي لم تستطيع أن تحقق ذاتها، ولم تستطيع أن تجد العزاء والرضا فيما تقوم به من ألوان النشاط – عن طريق الإغراء في أتون اللذة التماسا لنوع من العزاء .
__________
(1) - بسام خليل فرنجية: الاغتراب في أدب حليم بركات، فصول المجلد 4، ع1، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1983، ص 209.
(2) - عمر رضا كحالة: الحب، مؤسسة الرسالة، بيروت 1978، ص 198.(1/89)
ولكن، وبما أن لكل ظاهرة معارضها، ولكل نظرية مفنديها، ظهرت هناك بعض الأصوات، التي وعت غربتها وأدركت زيف المجتمع ولا تجانسه، فاتخذت من الكلمة معاول لهدم هذا الواقع الآسي، وتعرية زيفه وكشف ظلاله، فظهر شعر النقد الاجتماعي. نقد، يعكس وعي الذات لغربتها، وينبئ عن طموح جدي لتجاوزها، عن طريق كشف تناقضات الواقع ورداءته، واقع زائف، غير قادر على تجسيد الحقيقة، ممعن في تشويهها؛ تحكمه الطبقية ويسوده الظلم، ينعم فيه الأغنياء ويُدحر الفقراء. يقول الغزال مجسدا ذلك :
أرى أهل اليسار توفوا
على الفقراء حتى في القبور ... أبوا إلا مباهاة وفخرا
فإن يكن التفاضل في ذراها
فإن العدل فيها في القعور(1/90)
يتناول الغزال في هذه المقطوعة ظاهرة اجتماعية بالنقد، وهي ظاهرة الترف في بناء القبور، فالموضوع الجديد، وهذه الهندسة الشكلية تشير إلى مظاهر الترف الاقتصادي الذي مس حياة بعض الناس، وحُرم منه البعض الآخر. ثم إن ترصيع القبور بمظاهر معمارية ليدل على انجذاب المجتمع نحوما هو دنيوي لا ما هو ديني؛ فالمعمار ولع بالحياة فوق جثة الموت، والمعمار يخطفنا من الزمن البدوي إلى الزمن الحضري، من الزمن الديني إلى الزمن المديني، وبهذا المعنى مؤشر على كون العلاقة بين الإنسان والدين لم تعد علاقة (خارجية) صارمة بالمعنى المذهبي. فهي علاقة انفصال أكثر مما هي علاقة اتصال، علاقة فقد فيها الإنسان اتصاله بالدين ففقد طمأنينته الروحية واستقراره النفسي، وأصبح فريسة سهلة للاغتراب، حيث تلاشت الروح وطغت المادة، فتقزم الإنسان وتشيأ وتأّلهت المادة، ومورست الدنيا في الآخرة لا الآخرة في الدنيا (الزخرفة والترف في القبور/الحياة في الموت) وأصبحت الخمرة معبودة، والإنسان في محرابها ناسكا متعبدا، يحطها بطقوس ويمارسها بخشوع – ربما، يفوق خشوع المصلي المحافظ في صلاته-، ولذلك يغترب الإنسان ويصبح لا يتحدث لغته هو ، ولا يعبر عن أفكاره ومشاعره هو ، ولا يبدي رأيه ومعرفته هو ، بل يعبر عن شيء آخر، شيئ غير نفسه، شيئ هو من صنع أفكار هذا العالم المتشيئ فتضخمت غربته وعظمت مأساته فأنكر دينه:
نكرت الدّنا والأرض منها فليس لي
بها عَقْوةٌ آوى إليها ولا أهلُ(1)
وأفردني صرف الزمان كأنني
ضرير من الهندي أخلصه الصقل
تكاثر الفساد وقلّ أولوالفضل حتى انعدموا أو كادوا، وعمّ الظلم وآذى الناس بعضهم بعضا:
تكاثر نوع الأذى في الورى
__________
(1) - محمد رضا الشبيبي: أدب المغاربة والأندلسيين في أصوله المصرية ونصوصه العربية دار اقرأ للنشر والتوزيع والطباعة، بيروت، ط2، 1984، ص 111.(1/91)
فلست ترى غير سمع أزل(1)
وقلّ أو لوا الفضل إن حُصِلوا
وهل يتحصل نور المقل
لذلك فالحذر والمداراة واجبة، والانعزال مفروض:
فخالط أناسا وزايلهم
وكن فيهم ظلك المنتقل(2)
ويذكي الضلوع ويوهي القلل ... لقاؤهم يستدرّ الدموع
وفيهم مشابه ما في الفلاة
خداع السراب وجور السبل
ولكن قد لا يكتفي الشاعر برصد هذا الواقع الآسن وتصوير غربته بل كثيرا ما يلجأ إلى مهاجمته وهجائه وكشف عيوبه. يقول ابن بقي في ذم أهل المغرب والأندلس:(3)
أقمت فيكم على الإقتار والعدم
لوكنت حرا أبيّ النفس لم أقم
تستقيظون وقد نمتم عن الكرم ... وظللت أبلى بكم غدرا لعلكم
في الأرض إن كانت الأرزاق بالقسم ... لا رزق لي عندكم لكن سأطلبه
جئت العراق فقامت لي على قدم ... أنا امرؤ إن نبت بي أندلس
نهل الرغائب حتى أبت بالندم ... أوغلت في المغرب الأقصى فأعجزني
إليك عني فليس السب من شيمي ... وساقط نال من عرضي فقلت له
أعرضت عنه ولوأني عرضت له
سقيته حمة الأفعى من الكلم
ولعل الأبيات أبلغ من كل تعليق أو تحليل فهي تنضح بكل ما في هذا المجتمع من رذائل وتجرده من كل الفضائل...
وقد لا تتوجه هذه الأشعار الانتقادية الشاكية إلى الناس البسطاء باللوم والتقريع، بل تتركز وتتوجه في أغلب الأحيان إلى الأعيان من ملوك وأمراء وقضاة، بل أو لئك الذين يمتلكون القرار ويستغلون مناصبهم ويتلاعبون بأموال الناس ومصائرهم؛ فهاهوأبوجعفر ابن البتي الذي عاش في أثناء حكم علي ابن يوسف بن تاشفين، لم يجد بدا من كشف رياء أو لئك القضاة الذين يستلبون الأموال ويقتنون الثروات "تحت ستار من تقوى وإقامة حدود الشرع (فيقول):
أهل الرياء لبستم ناموسكم
كالذئب أدلج في الظلام القاتم
__________
(1) - محمد رضا الشبيبي : أدب المغاربة والأندلسيين في أصوله المصرية ونصوصه العربية، دار اقرأ للنشر والتوزيع والطباعة، 27، 1984، ص 112.
(2) - م.ن –ص ن .(أبيات لغلام بكري)
(3) -م. ن،ص 89.(1/92)
وقسمتم الأموال ابن القاسم ... فملكتم الدنيا بمذهب مالك
وركبتم شهب الدواب بأشهب
وبأصبغ صبغت لكم في العالم"(1)
بل وكثيرا ما يهاجم الشعراء الملوك والخلفاء لأنهم سبب كل بلاء، لاستهتارهم وتخاذلهم، وعبثهم، وعدم أهليتهم للحكم فيقول أحدهم :(2)
مما يقبح عندي من ذكر أندلس
أسماء مقتدر فيها ومعتضد
أسماء مملكة في غير موضعها
كالهر يبدي انتفاخا صولة الأسد
ويصور الشاعر أحمد الملقب بالأبيض – وهوشاعر فحل وبطل من أبطال التاريخ في الأندلس- ضلال الزبير أمير قرطبة واستهتاره فيقول:
" عكف الزبير على الضلالة
ووزيره المشهور كلب النار
بين الكؤوس ورنة الأوتار ... مازال يأخذ سجدة من سجدة
فإذا اعتراه السهوسبح خلفه
صوت القيان ورنة المزمار
ولما بلغ الزبير ذلك قال له: ما دعاك إلى هذا؟ فقال : إني لم أر أحق بالهجومنك ولوعلمتَ ما أنت عليه من المخازي لهجوت نفسك أيضا ولم تكلْها إلى أحد فأمر بقتله"(3) ...
وأحيانا أخرى لا ينتقد الملوك والأعيان وحدهم، بل يوجه اللوم والتقريع إلى أهل الأندلس كلهم؛ لأنهم قصروا في تدبير شؤونهم، وتهاونوا في درء الأخطار عن أنفسهم باتباعهم لشهواتهم، وانقيادهم للعابثين وفي هذا يقول أحد الشعراء المجهولين(4):
أضعتم الحزم في تدبير أمركم
ستعلمون معا عقبى البوار غدا
فألبستكم ثيابا للبلى جددا ... لكن سبل العم أعمت في بصائركم
يا أمة هتكت مستور سوءتها
كما كل من ذل أعطى بالصغار يدا
__________
(1) - محمد رضا الشبيبي : أدب المغاربة والأندلسيين في أصوله المصرية ونصوصه العربية، ص 79.
(2) - اختلف في نسبة هذين البيتين : هناك من يقول هما لابن رشيق القيرواني، وهناك من يقول هما لابن عمار، م.ن،ص 56
(3) - م. ن، ص 92.
(4) - وردت الأبيات في " البيان المغرب في أخبار المغرب"، 3/ 110 لابن عذاري المراكشي، عن : عمر الدقاق، ملامح الشعر الأندلسي، ص 289.(1/93)
هكذا وعى هؤلاء الشعراء مرارة واقعهم، فجسدوه بكل تناقضاته وفساده وحللوا أسباب ذلك، وتنبأوا بتهاويه، فضلا عن أنهم حاولوا جادين من أجل تغييره إلى الأصلح. لا يمتلكون في ذلك غير الكلمة، الكلمة العنيفة، الثائرة المتمردة. ولكنها كانت في الأخير كلمة عاجزة؛ لم تفد في مجتمع مختلط الأجناس متنوع المشارب والاتجاهات، أبطرت النعمة بعض أفراده وأفسدت أنفسهم، وأكلت ديدان العبث والمجون لحومهم، ونخر سوس التهاون عظامهم، فسقطت الأندلس في أيدي أعدائهم.
لقد وعى هؤلاء الشعراء (1)، رسالتهم الإنسانية في المجتمع فجاءت أشعارهم ليس تجسيداً لنزعة ذاتية أو تعبيرا عن أسى فردي، بل جاءت تعبيرا عن الهمّ الشعوري للإنسان الأندلسي وإيحاء بكل أطراف الأزمة التي يعانيها الفرد في ظل هذا المجتمع، وعرضا لقضايا تخص عددا كبيرا من الناس، وتصوير لطبائع شتى ومآسي عدة، وبهذا يكونون قد أدركوا الوضع الإنساني العام إدراكا جدليا؛ يقابل ما بين المثل المنشودة والواقع اللا متجانس، ومن أجل ذلك وقف شعرهم كصورة جدلية تشهد حقل التباري بين القيمة الوقائعية السائدة المفروضة والقيمة المنشودة، بين الذات في فطرتها والذات التي أفسدتها الحضارة وأعمتها الشهوات فأصبحت خائرة القوى مستسلمة العزيمة.
__________
(1) - نقصد الجادّين منهم لا العابثين.(1/94)
هكذا صور هؤلاء الشعراء مدنهم، وبينوا مآسي الفرد واغترابه فيها، وثاروا وتمردوا على القيم التي تسودها وهاجموها، ولم يقعوا في الأفخاخ التي نصبها الحكام للناس من اجل اشغالهم عن الخوض في أمور السياسة والحكم؛ عن طريق إطلاق العنان للإباحية والمجون والتهتك، بالإضافة إلى الاغراءات المادية وأحيانا القهر والتعذيب والقتل. لم يسيروا في ذلك الخط لأنهم أدركوا أن أفدح ما يمنى به الإنسان، هو افتقاده لذاته ورهنها لغيره، وأن اخطر ما يقع فيه الشاعر صاحب الرسالة الإنسانية، هو "السقوط في صيغ الطمأنينة ومهادنة الأشياء التي تحيط به، والشاعر الذي لا يعرف قشعريرة الصدام مع العالم يتحول إلى حيوان أليف اُستؤصلت منه غدد الرفض والمعارضة"(1)، وأصبح دون وعي منه مستلبا سياسيا واجتماعيا ونفسيا، مغرّبا عن ذاته وعن الآخرين، لا يتكلم لغته ولا يعبر عن أفكاره، بل هو مجرد بوق أو آلة تتحرك متى أريد لها ذلك.
أما في عصر الضعف فلم تكن هناك أشعار ذات أهمية، فكل ما في الأمر أن الشعراء تركوا المواضيع الجادة والجليلة، وراحوا يصورون ويصفون أشياء تافهة مثل: الدّواة والذبابة والمخدّة وما شابهها ... وهذا نتيجة لليأس الذي أطبق على النفوس، ونتيجة للظلم والقهر الذي سُلط عليها من طرف الحكام الأعاجم الذين حكموا البلاد العربية، وعاثوا فيها فسادا، وجعلوا التركية لغة رسمية بدلا من العربية...
وبعيدا عن الشعر وموقفه من اثر المدنية والحضارة التي مسّت الحياة العربية فغيّرتها جزئيا أو كليا، وفي صميم العقل والفكر الموضوعي الممنطق، وقريبا من الأندلس، لا يجمل بنا إلا أن نقف وقفة قصيرة مع العالم الاجتماعي ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة لنتلمّس من خلالها مفاصل نظرته إلى المدينة: في تكوينها وأخلاقها وتطوّرها وعمرانها، ثم انهيارها.
__________
(1) - د/ عبد العزيز المقالح، الشعر: بين الرؤية والتشكيل، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، ط2، 1985، ص 165.(1/95)
هـ- هرم المدينة عند ابن خلدون:
إن ابن خلدون يناقش الموضوع على أساس حضاري، مفرقا من خلال ذلك بين البدووالحضر، رابطا إياه بفكرة العمران. فهويتناوله تناولا فلسفيا وتاريخيا واقعيا، منطلقا من فكرة أساسية، ما فتئ يرددها ويلح عليها، بانياً عليها كل أحكامه وهي: (ضرورة الاجتماع الإنساني). فالطبيعة في نظره يمكن دراستها دراسة فلسفية من خلال المجتمع الإنساني باعتباره مجتمعا طبيعيا عفوي التكوين والتطور، وهوفي هذا يذهب مذهب أرسطوفي كتابه "السياسة" حول الموازنة بين مفهوم الطبيعة والضرورة؛ من حيث كون الضرورة الطبيعية هي ضرورة إنسانية. فيبدأ حديثه عن تكون المجتمع الإنساني بالبداوة أو لا ثم الحضارة ثانيا؛ باعتبار أن البداوة هي النواة الأساسية والأولى التي يبدأ بها المجتمع الإنساني. فهي الضرورة الأولى التي يتبعها التحوّل من طبيعة البداوة إلى الحضارة، وهي كما نرى نظرة فلسفية أكثر منها اجتماعية.
وبناء على ذلك تكون البداوة أقدم من الحضارة. وهذا التحول من البداوة إلى الحضارة هو تحول طبيعي وضروري اقتضته ازدواجية طبيعة حياة الإنسان المبنية على قطبي التعاون والصراع في الآن نفسه. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده ويحقق كل حاجياته، بل هو يعيش ضمن الآخرين ويتأثر بهم، ويعيش مع الآخرين ويتأثرون به، وكل هذا قائم على التعاون والصراع في آن واحد من أجل البقاء .(1/96)
فالصراع – كما يرى- ضروريّ لنموالمجتمع البشري الذي كانت بدايته الصراع من أجل الأرض أو الإقليم لتكون في الأخير الغلبة والتغلب للأقوى. فالتغلّب هو منشأ الحضارة وأساسها، وهومن المعطيات الطبيعية ومن سمات الإنسان الجوهرية؛ المترجمة للاّ تكافؤ في المجتمع. وهذه الأفكار –كما يتّضح- قريبة من فلسفة أرسطوالقائمة على التدرّج في النموالطبيعي للمجتمعات؛ من حيث كون المقدمات هي التي تمهد لإنشاء المجتمعات البشرية، وباعتبار أن تطور المجتمع يقوم على جدلية التكافؤ واللاّ تكافؤ.
أما العصبية في عرف ابن خلدون ومنطقه التاريخي، فهي عصبية بيولوجية، تقوم أساسا على عصبية الدم، وتكون أكثر وضوحا وبروزا في مرحلة البداوة، ليخفت صيتها في مرحلة الحضارة، وتحلّ محلّها عصبية من نوع آخر ؛ هي عصبية الولاء أو المواطنة أو الدّين. وعلى هذا فالتاريخ يخضع للعنف، وتاريخ الإنسانية يحكمه منطق التحول القسري من البداوة إلى الحضارة، وهذه في حد ذاتها ترجمة للضروري والحتمي في حياة الإنسان عبر تحضره التدريجي.(1/97)
فنشوء المجتمعات ونموّها ثم سقوطها، كنشوء الكائن العضوي، أو بالأحرى كنشوء الإنسان (ولادة فطفولة فشباب فكهولة، فشيخوخة، فموت).ولما كان المجتمع عبارة عن مستغِلّ ومستغَل، ظالم ومظلوم، معتد ومعتدى عليه- لكون النّفوس مجبولة على ذلك(1) – فقد استنتج حقيقة مؤداها أن التفاوت في القدرات واللاّ تكافؤ هو نسيج العلاقات ولحمتها وسداها، سواء أكان ذلك في الطبيعة أو المجتمع، ولا سبيل إلى السيطرة على هذا التفاوت واللا تكافؤ؛ لأنه تجسيد لقانون طبيعي حتمي وضروري للتطور. وبهذا يكون – حسب رأينا- قد عطل الإرادة الإنسانية كلية وحد من حريتها إزاء هذا التفاوت ودورتيه: النشوء والسقوط، وجعلهما ضربة لازب أو قدرا نازلا عليها؛ بحيث لا تمتلك معهما القدرة على تغيير مسارهما أو على الأقل تأخير حدوثهما(2) .
__________
(1) - يعارضه حديث الرسول (ص) القائل : " يولد المولود على الفطرة وأبواه يمجّسانه أو ينصّرانه..." فالحديث الشريف يقر بخيرية الإنسان وسلامة فطرته؛ والفطرة يقصد بها الإسلام. والمجتمع المتمثل في الأبوين هو الذي يفسد نفس هذا الطفل وكذلك يعارض الكاتب الفرنسي روسوهذا الرأي فيقول إنّ الإنسان يولد خيرا ولكن المجتمع هو الذي يفسده.
(2) - ولكن ابن خلدون يعود ويتراجع عن مطلقية هذا القانون ليقر بنسبيته، فيرى بان هناك دول امتدت أعمارها آلاف السنين كملك القبط واليونان والرومان ثم ملك الإسلام وحضارة اليمن منذ عهد العمالقة والتتابعه ودول النمط والفرس وغيرها . أنظر المقدمة ص 310 ؛ يقر بهذا الرأي بعدما يتخلص من كابوس الشمال الإفريقي المرعب وتشتته وانهياره، وينفتح فكره على حضارات أخرى؛ يرى وبأنها وإن كانت محكومة بقانون الضرورة ومبدأ هذه الدورية، إلا أنها قادرة على الانبعاث والحياة والازدهار من جديد بعد سقوطها، أو على الأقل تستطيع تأخير موتها وانهيارها ولو إلى حين.(1/98)
وهوبعد يرى بأن عظمة الدولة وقوة شوكتها، إنما تكون بكثرة العدد ووفوره فيها؛ أي بكمية الأعوان والحلفاء والأقربين دون أن يركز على النوعية والكيفية أو أنه يجعلها أمرا ثانويا وعاملا مساعدا ليس إلا، والدولة الغنية القوية في عرفه هي الدولة الواسعة الأرجاء الممتدة الأقاليم، الكثيرة السكان، وحتى النموالحضاري عنده يكون بكثرة "الفعلة والسكان" كما يعبر.
وبصدد حديثه عن انتقال الزعامة البدوية إلى الملك الحضري لا يصر على عامل العصبية في نموالدولة وتطورها، بل يركز في هذا الأمر على عامل آخر هو العامل الاقتصادي؛ لأن العصبية إنما ينحصر دورها في طور التكوين فقط، فالدولة تقوم في أو ل أمرها وتتكون بالعصبية، ثم تتغير بنيتها الاجتماعية بعد جيل من تكونها لتدلف نحوالحضارة، فينقلب أفرادها من بدوإلى حضر، أي من أناس يقتصرون على الضروري من العيش في أسلوب حياتهم ويكتفون به نظرا لتعودهم عليه أو لعدم معرفتهم بسبل الترف وكثرة الإنفاق، إلى أناس متحضرين، عارفين بهذه السبل مطلعين عليها من خلال الاختلاط والمحاكاة والتطبيق، فأصبحوا لا يقتصرون على الضروري في عيشهم، ولا يكتفون بتلك العادات القديمة، بل واكثر من ذلك، اصبحوا يمجّونها ويزدرونها، وغدت الكماليات مطلوبة مرغوبة، مُتنَافَسا عليها، مبالغا في اقتنائها؛ يقول ابن خلدون: " ثم إذا اتسعت أحوال هؤلاء المنتحلين للمعاش وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة، واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر"(1)، ويكون هذا في الأخير سببا في انهيارها، بعدما كان قبلئذ سبباً في ازدهارها.
__________
(1) - الأستاذ خليل شرف الدين، ابن خلدون، منشورات دار مكتبة الهلال، د.ط، ص 20، عن المقدمة لابن خلدون.(1/99)
وعلى هذا الأساس فهويرى أنّ البداوة اتجاهُُ نحوالقوة، والحضارة تفسّخ واتجاه نحوالضعف؛ لأنها بترفها ودعتها تفضي إلى انهيار الدولة والمجتمع. فأهل البداوة أقرب إلى الشجاعة وأقدر على تحمل المسؤولية، بينما أهل الحضر يعيشون آمنين في دعة وراحة وكسل. اطمأنوا إلى حماية جنودهم وأسوارهم لهم فالقوا السلاح وتنصلوا من كل مسؤولية، وطال أمر هذه الحال وتوالت جيلا بعد جيل حتى غدت فيهم بمثابة الخلق أو الطبيعة المتأصلة في النفوس...
وهو بعدئذ يرى بأن أهل البدو أقرب إلى الخير وفضائل الأخلاق من أهل الحضر، فهم لا يقبلون على ملذات الدنيا وترفها، إلاّ بالمقدار الذي يحفظ عليهم حياتهم، فضلا عن عدم توافر ما يمكن أن ييسّر لهم سبل الترف واللهو والانغماس في الملذات. أما أهل الحضر، فهم لشدة ما يعانون من ضروب الترف والملذات، ولقوة انغماسهم في الشهوات وعكوفهم عليها، وبفضل ما توافر لهم منها، فإنهم أبعد الناس عن الخير، وأبعدهم عن الحشمة والحياء، فنفوسهم ملونة بالشر، يغلب عليها طابع الرياء والزيف والمخاتلة والمخادعة وغيرها... وبالمقابل، فهؤلاء أكثر ذكاء وأكثر فطنة ودهاء من أهل البدو؛ بسبب حاجتهم إلى ذلك، وبسبب الاختلاط والمثافقة والاحتكاك الدائم، وبسبب إجادة الصنائع والآداب التي لم يُقيّض للبدوي أن عرفها أو خبرها، لعدم حاجته الملحة إليها، ولعدم استقراره، الأمر الذي ولّد في نفس الحضري شعورا بالتعالي والتسامي اتجاه البدوي معتقدا أنه ارفع منه عقلا وأسمى إنسانية، وأن البدوي مغفّل قاصر بفطرته. ويفنّد ابن خلدون هذا الشعور مبيّنا أنّ امتياز الحضري عن البدوي هو في حظه من التعليم ليس إلاّ.(1/100)
ثم يتطرق بعد هذا، إلى أنواع وجوه المعاش ومصادره في كل من البادية والمدينة ؛ محتزلا إياها في الفلاحة والاصطياد والصناعة والتجارة، بحسب الترتيب الزمني لظهور كل منها. فيرى بأنّ الفلاحة بشقَيْها: الزراعة وتربية الحيوان، أسبق في الظهور من كل وجوه المعاش الأخرى، وهي لذلك ألصق بحياة البداوة لكونها بسيطة فطرية لا تحتاج إلى علم وفكر ونظر، فيقول : "تنسب الفلاحة في الخليقة إلى آدم أبي البشر(1)وأنه معلمها والقائم عليها"(2) .ثم تليها في مرحلة متقدمة نسبيا نحو التحضر، الصناعة، لصفتها المركبة ولكونها حصيلة علم وفكر ونظر واستقرار. ولهذا فمن "البديهي أن يتأخر المُرَكّب عن البسيط، والعلمي عن الفطري"(3) ؛ ولذلك فالصناعة لا تظهر إلا في الحضر"الذي هو متأخر عن البدوثان له"(4)، لأن "الصنائع إنما تستجاد إذا احتيج إليها وكثر طالبها"(5). وإزدهار الصناعة أو تقهقرها يتناسب طرديا مع ازدهار الحضارة أو انهيارها ؛ فإذا ما " ضعفت أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاص عمرانه وقلة سكانه تناقص فيه الترف ...فتقل الصنائع التي كانت توابع
الترف"5. فقوة الدولة ومتعتها وكثرة ساكنيها متوقفة إذن – بحسب هذا المنظور – على كثرة ثروتها ويسر سبل الترف فيها.
__________
(1) - ربما يستند في هذا على حديث الرسول (ص) القائل فيما معناه: عليكم بالزراعة فإنها حرفة أبيكم آدم.
(2) - أ/ خليل شرف الدين: ابن خلدون، دار ومكتبة الهلال، د ط، ص 70.
(3) - العبارة لابن خلدون، مأخوذة من: أ/خليل شرف الدين، ابن خلدون، ص71.
(4) - م. ن،ص.ن.
(5) -5 - العبارتان لابن خلدون وهما مأخوذتان من ا/ خليل:م:ن،ص71.(1/101)
ثم تليها في الأخير التجارة، ويقصرها ابن خلدون على أهل الحضر فقط، مجرِّدا أهل البدو أوالمدر منها، فـ" التجارة ليست من شأنهم ولا هي من طبيعة حياتهم"(1). وللتجارة عنده وجوه وأساليب عدة منها : المبادلة، والعرض والاحتكار، وهي كلها من نتاج المدينة، وحكرا على أهل الحضر؛ لاحتياجها إلى علم ونظر ودهاء ومهارة في تسييرها وإدارتها، فالتاجر "مدفوع في مزاولة البيع والشراء وجني الأرباح إلى المكايسة والمماحكة والتحذلق واللجاج"(2)وهي صفات من شأنها أن تنحرف بالنفس عن فطرتها السليمة جريا وراء الربح والظمأ إلى المزيد من الترف، فتتعقد الحياة، وتزداد الحاجيات، وتعظم النفقات، ويبرز الاحتكار وترتفع الأسعار، فتذهب تلك المكاسب المحققة من الربح في هذه المبالغة في الإنفاق، فيعم الفقر وتتكدس السلع، وتكسد السواق، ويفسد حال المدينة نتيجة فساد أخلاق أهلها، لاضطرارهم إلى الكذب والنفاق والرياء والتلون بشتى ألوان الشر، تحت دافع الحاجة ومن أجل تحصيل الرزق والمعاش. فينتشر التحايل والفسق والجور، ويستشري الفساد والغش والمقامرة والربا والسرقة والفجور، فتتهاوى الحضارة وتسقط، لتبدأ دورة حياتها من جديد: بداوة فعصبية، وتكوّن فحضارة وازدهار، فسقوط من جديد، وهكذا دواليك، وعلى هذا الأساس تكون الحضارة – في منظور ابن خلدون – قد أفادت العقل وأفسدت الخلق.
ويمكن تصور مراحل نشوء المدينة وتطوّرها، ومن ثمّ سقوطها وانهيارها وعودتها إلى البداية من جديد على الشكل التالي:
... ... ذروة
مراحل تطوراجتماع اقتصاد تمكن سياسي رفاهية
لجاج و تقاتل دكتاتورية تعقد و فساد فقر انهيار
(استبداد)
سقوط و عودة إلى البداية من جديد
__________
(1) 6 - م.ن، الهامش، ص 72(أبوسفيان، النبي قبل البعثة كانا تاجرين لأنهما كانا في الحضر وليس في المدر).
(2) 1 -م:ن،ص74.(1/102)
ويتحدث ابن خلدون أيضا- بصدد مناقشته لفكرة المدينة والعمران – عن البيئة بمناخها وتربتها وظروفها، وأثر كل هذا في تكوين شخصية ومزاج ولون بشرة ساكنيها، وكذا كثافة التمركز السكاني(1).
إذن ومن هذا المنظور واستنتاجا مما سبق، يكون ابن خلدون قد تناول فكرة تكوّن الدولة وبضمنها المدينة، على أساس حضاري عمراني؛ منطلِقا في ذلك، من واقع استقرائي مدعم بعقل تجريبي ماديّ، مبني على الملاحظة والتجريب والمرحلية، فكان بهذا فكره فكرا عقلانيا معرفيا ماديا وواقعيا، وهوبهذا يتميز عمن سبقه من الفلاسفة الذين تناولوا هذه الظاهرة، أمثال: أفلاطون وأرسطووالفارابي وابن سينا؛ لكونهم حاملين لأفكار طوباوية ومُثل وهمية حلمية يصعب تجسيدها وتطبيقها على أرض الواقع ؛ فهم قد انطلقوا في أفكارهم ورؤاهم من سماء الحلم والوهم لا من أرض الواقع ."فلا استقراء ولا تحليل ولا معايشة"(2) .
أما ابن خلدون، فكان في نظرته على النقيض من ذلك تماما؛ لكونه انطلق من الواقع لا من الخيال، ومن الحقيقة لا من الوهم . ومن الأرض لا من السماء، وإن كان هو الآخر يراوده نفس الأمل الذي راودهم، ويلح عليه الهاجس نفسه الذي رأيناه عندهم؛ وهو تحقيق "المدينة" (الإلهية التيوقراطية) ذات (السلطات المجتمعة) حيث يضمحل داخل ذات الفرد تضارب الخاص والعام"(3). ولكن بصيغة أو نظرة مغايرة لهم ؛ فهم كانوا يريدون تحقيق الأمل – المثال، وهوكان يريد تحقيق الواقع – المثال.
__________
(1) 2 - ينظر: أ/ خليل شرف الدين، ابن خلدون، ص 64،65 .
(2) - أ/ خليل شرف الدين، ابن خلدون، ص 131.
(3) - م:س، ص 131.(1/103)
وأخيرا تبقى أفكار ابن خلدون في تكوّن الدولة وطبيعة المدن والعمران، قابلة للمناقشة والردّ، تحتمل الكثير من الانتقاد، لكونها أحكاماً تتسم بالمطلقية والحتمية أحيانا، وأحيانا أخرى يطغى عليها الطابع التشاؤمي، الذي فرضته عليه أحداث عصره المضطربة، والظروف العصيبة التي مرّ بها من جرّائها، ولهذا فهوكثيرا ما ينزع إلى الذاتية ومحدودية الأفق، على الرغم من محاولته المجهِدة في أن يكون موضوعيا شموليا، ولكن حسبه أن يكون رائد علم الاجتماع وواضع أسسه ولبناته الأولية...على الرغم من نكران البعض لذلك.
(((
الفصل الأول:
صورة المدينة في الشعر الحديث
أولا : الشعر الأجنبي:
1- المدينة الخاطئة.
2- بودلير والمدينة المرعبة
3- التنويريون والاحتفاء بصورة باريس.
4- المدينة الصناعية
5- بين تطبيعها والتبرم منها.
ثانيا: الشعر العربي الحديث:
1- الهوية الحضارية.
2- هجاء المدينة والتمرد عليها.
3- الفضاء المنشود.
4- الخلفية السياسية.
5- الاحتفاء بالمدينة المميزة.
أولا: الشعر الأجنبي:(1/104)
إذا ما أردنا تتبع تطور فكرة المدينة حديثا، فانه يمكننا اعتبار هذا العصر، العصر الذي طغى عليه موضوع المدينة، واحتل مساحة كبرى في جسده، بحيث أصبح يلعب دورا رئيسيا في كل المجالات. ومنها الشعر وبصفة خاصة في النصف الثاني من القرن الماضي(التاسع عشر الميلادي) والقرن الذي نعيشه، وخير من يمثل ذلك على مستوى الشعر زمرة من الأدباء أمثال: بودلير، وويتمان وفيرهاردن، وت.س اليوت ... أما على مستوى النقد، فإّن بروزها، أو بالأحرى الاهتمام بها، لم يحدث إلا في العقود المتأخرة من هذا القرن، بحيث أصبح الاهتمام بها الآن من لدن العالم المتقدم جزءا لا يتجزأ من الاهتمام بالمكان الحضري ومحتوياته المعقدة، وما تفرضه هذه الأخيرة من أسئلة وإشكالات متعددة، غير معهودة، ذات صبغة حداثية. تتصل كلها من قريب أو بعيد، بكيفية تطور المجتمع، ومدى ملاءمته للإنسانية، وبالتطوّر المذهل للآلية الصناعية، والخطوات التكنولوجية العملاقة، ومدى ما حققته للإنسان من راحة وأمن وسلم أو تعب وخوف وتهديد...
فسيطرة ظاهرة المدينة على الأدب الغربي كانت جد واضحة، الأمر الذي حدا بجون.هـ .جونسون لأن يخصص كتابا كاملا لرصدها، تحت عنوان (الشاعر والمدينة) (The poet and the city). وعلى الرغم من انه اقتصر في رصده هذا على الأدبين الأمريكي والإنجليزي فقط، إلا انه ألفى نفسه بإزاء مادة جد غزيرة من الشعر، الأمر الذي فرض عليه اتباع منهج تاريخي تحليلي للمدينة(1) مع وعيه التام بأن هذا الأخير، ليس هو بالضرورة المنهج الأوحد والأصلح لدراسة هذه الظاهرة؛ ذلك لأنها متعددة الدلالات، كثيرة الاحتمالات.
__________
(1) - ينظر:Johnson.J.H.: The poet and the city, The university of Georgia press 1948-P:XVI.(1/105)
ولما كان واجدا نفسه – كما أسلفنا- أمام خضم واسع من الأشعار التي تغطي مساحة واسعة من الظاهرة، فإنه حاول – تلافيا للتشعب والتعميم- أن يحصر المفهوم الذي يتوخاه من وراء دراسته كما يلي: "شعر المدينة هو ذلك الشعر الذي يصف مدينة حقيقية وصفا واقعيا مباشرا، أو يصف الناس الذين تنطبع حياتهم انطباعا واضحا بعيشهم في مثل تلك المدينة، ومعنى هذا أن اختياري لن يتطرق إلى تلك الأحلام والرؤى والتهويمات والخيالات التي لها علاقة هشة، أو لا علاقة لها إطلاقا بالمدينة الحقيقية الواقعية"(1).
وبهذا التحديد والحصر في التناول، عمل على استثناء كثير من النصوص الشعرية، التي تتناول مدن اليوتوبيا والمدن التاريخية، وعموما تلك التي لا ارتباط متين لها بالمدينة الواقعية، اعني تلك التي تمر مرورا عابرا بالمدينة كما هي في الواقع، أي تلك التي تقتصر على تقديم ملاحظات تسجيلية أو إشارات عامة.
وبناءا على هذا نستطيع التأكيد على أن الأدب الأوربي –وبخاصة الشعر منه-قد تأثر تأثرا بالغا بتلك الانقلابات العظيمة والجوهرية في ميدان العلوم والتكنولوجيا وما تبعها من تغيرات صميمية في أمور الحياة، فغدا متميزا بانفجار اليأس والإلحاد، وأصبحت القيم الأساسية في الثقافة الأوريبة موضع تساؤل ومماحكة عويصة، فبرزت آلاف من القصائد الشعرية بل الدواوين(2)-ناهيك عن الروايات والمسرحيات- التي تتحدث عن عبث الحياة -نتيجة طغيان النزعة التجارية الصناعية المعقدة في العلاقات- وعن الدمار الأكيد الذي يحيق بها، وعن لا معقولية الوجود الإنساني فيها.
__________
(1) - Johnson .J.H. , Ibid-P: XVII
(2) - الأرض الخراب لـ: ت.س اليوت، أزهار الشر لبودلير، وقصائد كثيرة لـ: بليك الإنجليزي...(1/106)
فالعالم يتراجع نحوالشر وكل ما فيه يؤكد هذا الإحساس ويعمق المأساة "فالحياة التي نحياها في المدن الكبرى المزدحمة قد تجذب الإنسان وتغريه ولكنها مع ذلك تملأ نفسه بالأسى والشجن وتشعره بالوحدة واليأس والضياع"(1) وفقدان الهوية والتميز، فمنذ قفزة الثورة الصناعية النوعية في أو ربا نهضت المدن بكيفية متسارعة ومذهلة، فتحول الفرد في خضمها إلى كائن ضئيل، ضائع مغترب عن ذاته وعن طبيعته الأساسية، نتيجة لما يسود المدن من قيم لا إنسانية وما يتحكم فيها من علاقات متمايزة ومتنافرة وحادة، مقارنة مع ما هو سائد في الريف.
إن أسلوب الحياة في المدينة معقد، وأحداثها متنوعة، وقضاياها متعددة وكثيرة؛ ففيها تظهر إشكاليات مثل الغربة والفقر والسياسة، والعمل والسكن والجنس والإدمان و"كل هذه علاقات متشابكة صارت تظهر مجتمعة تقريبا في القصيدة الحديثة"(2) لتلونها بألوانها، وتطبعها بطابع أحداثها.
__________
(1) - أ/ رابح لطفي جمعة: الحداثة والمدينة في شعر غازي القصيبي، مجلة المنهل، مج46، ع438، س51، أغسطس، سبتمبر 1985، ص 62.
(2) - حنا عبود: مورفولوجيا المدينة في الشعر السوري، الموقف الدبي، دمشق تموز1980، ص 66.(1/107)
وبناء عليه، فإن استجابة الشعر الحديث للمدينة كانت استجابة مزدوجة ذات وجهين؛ فهومن جهة قد عبّر عن جدب الحياة وعذابات الإنسان وافتقاده لحريته في عالم تهدده الحروب، وتتحكم فيه الآلة، وتضغط عليه سيولة الزمن لتحيله في ظل هذا كله إلى مجرد كائن حقير، أو مجرد عدد من بين الأعداد الكثيرة المطموسة... ومن جهة أخرى تمثلت الاستجابة في انطباع القصيدة بطابع العصر –على اعتبار أن الفن بعامة والأدب بخاصة ابن بيئته وحامل لطبائعه وتشكيلاته في معظم الأحوال- محاولة في ذلك المزج بين الأصالة والحداثة، بين الصور الشعرية القديمة الجذور وصور حضارة عالم اليوم المتقدم ماديا(1).
على هذا الأساس اهتم الشعر الأوربي الحديث بالمدينة، وحاول استقصاء جميع جوانبها، والوصول إلى أبعادها المختلفة.
1-المدينة الخاطئة :
__________
(1) - على نحوقام به ت.س اليوت في شعره وبخاصة قصيدة "الأرض الخراب"، وعلى نحوما سوف نرى عند شعرائنا المعاصرين في مزجهم لقيم تراثية منيرة بقيم عصرية حديثة...(1/108)
فباريس –على سبيل المثال- كمدينة كبرى، في أدب القرن الثامن عشر، لم تأت إلا مقترنة بالشعور بالضياع والاغتراب والعزلة والجدب الروحي، ولم تجسَّد إلا على أنها تلك المدينة الخاطئة(1) الغارقة في وحل قاذوراتها وروائحها الكريهة، والتي لا مظهر لإنسانها سوى الشكوى والتذمر من تلك التجمعات السكانية الهائلة، وضجيج وخطورة تلك الوسائل المعتمدة في النقل والتي تهدد حياة الإنسانية. لقد صور أدب ذلك القرن الحياة فيها "على أنه رقص خطير من أجل العجل الذهبي. وفي أثناء هذا الرقص يسقط الكثيرون، ويخسر آخرون سمعتهم وصحتهم، لأن الطمع والجشع من أجل الثروة يسلب البشر شخصياتهم ويجعلهم قساة القلوب"(2). ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى ربط صورتها بمدينتين خاطئتين هما بابل السومرية، ولابيرنث (labyrinth) الإغريقية ؛ حيث تمثّل الأولى الفوضى، وتمثل الثانية الذين لا وطن لهم3.
وجدير بالذكر انه تضافرت عوامل عدة، جعلت من باريس –كمدينة كبرى- مدينة مرفوضة من قبل أدباء هذا القرن، إذ ثمة عوامل اقتصادية –على نحوما رأينا– وثقافية وسياسية ودينية، ولقد كان هذا الأخير – أي العامل الديني – أبرزها لكون ذلك الأدب أو لاه اهتماما كبيرا؛ حيث ساد الاعتقاد آنذاك " أن ازدهار باريس (بابل الجديدة ) وتقدمّها، هو أمر يقتضي بالضرورة تدهورها وتدميرها، يعني الابتعاد المطلق عن الله "(3).
2-بودلير والمدينة المرعبة:
أما صورتها في أدب القرن التاسع عشر، وتحديدا عند بودلير
(
__________
(1) - ينظر : خليل الشيخ: صورة باريس في الأدب العربي الحديث حتى الحرب العالمية الأولى دراسة في تلقي جماليات المكان الأوربي، عالم الفكر مج 19،ع2،1988، ص 187، عن Siegfried Juttner ,Paris Bilderdes 18 Jahrhunderts Eine Skizze. PP:172,202,174.
(2) -3- خليل الشيخ، م.ن، ص.ن.
(3) 4 – م.ن، ص 188.(1/109)
Baudelaire 1767-1821). فإنها لم تكن مرفوضة استنادا على أسس دينية –كما هو الشأن بالنسبة لأدب القرن السابق-بل أن رفضها كان ذا أبعاد متعددة، فهي في نظره "ليست كثافة سكانية أو بيوتا متلاصقة فحسب، إنها تشكيل اجتماعي أشد تعقيدا في معماره من معمارها المادي، إنها بهذا المعنى تتويج لنضج (المؤسسة) حيث يمّحي الفرد من داخله وخارجه على السواء"(1). فالمشكلة التي تؤرّق شاعر "أزهار الشر" (Les fleurs du mal)(2) الصادر في سنة 1857، هي كيف يمكن للروح أن تسود وتسموفي ظل المدينة المكبلة بقيود الصناعة والميكانيكا والتجارة؟ ولماّ لم يجد جوابا شافيا نراه يصرخ –بأعلى صوته- مستغيثا "إننا هَالِكُون من حيث نريد أن نحيا... إننا نعود إلى حالة التوحش ونسير عبر أنقاض مدينتنا... إنّ الميْكنة لن تني عن وسمنا بميسم الأمريكيين حتى يجتث التقدم فينا كل جزء روحي.. إنني أسأل كل إنسان يفكر أن يدلنا على ما بقي من الحياة"(3) .
فمدينة العصر الحديث – في نظر بودلير- وبخاصة في قصائده المعنونة بـ "Tableaux parisiens"
__________
(1) - خيري منصور: أبو اب ومرايا (دراسات في الشعر)، ص 64.
(2) - حول بودلير أنظر: Kristia an Verluys,Three City Poets Rilke, Baudelaire and Verharen -PP :283-306
(3) - رابح لطفي جمعه: الحداثة والمدينة في شعر غازي القصيبي(مرجع سابق) ص 62.(1/110)
في الديوان السابق، ليست سوى عالم ميّت، مقرف. إنها ذات وجه مزعج لا يبعث إلا على القلق والشعور باليأس، والإحساس بالغربة والعزلة، ويدفع بالنفس إلى البحث الملحّ والمضني عن عالم مثالي تتخلص فيه من ربقة وثقل واقع هذه المدينة الكبرى التي تفيض رعبا وقبحا وعقما، وتتردى في مهاوي الرذيلةووحل الخطيئة (المتاهة الموحلة، الماخور)(1)، وتحاصر الروح بمظاهرها الطاغية (الجحيم، المعتقل)5– المتمثلة في الشوارع المسفلتة والأضواء الاصطناعية المبهِرة، والخطابات الفارغة، والإعلانات الاشهارية الآخاذة الزائفة، واللافتات البشعة، التي تعمل -كلها- باتجاه سيادة المادة وطغيانها، وتلاشي الروح وذبولها وضمورها تدريجيا. أما باريس القديمة باريس الروح والإنسانية والحرية، "فقد تلاشت إلى الأبد:
إنّ باريس القديمة لا توجد الآن. لقد تغيرت
إنّ صورة المدن تتغير بسرعة مثل تغير قلب الإنسان"(2)
وباريس الحديثة – على عهد بودلير- لا تعدوأن تكون عبارة عن كتل حجرية (مرمرية أو معدنية)مكعبة أو مربعة ذات قيعان عكرة تبعث على الرعب والقرف:
حيث يمكن تأمل المدينة بكاملها، سعتها
مستشفى، ماخور، مطهر، جحيم، معتقل(3)
__________
(1) -5- ادوارد غاييد: المدينة في شعر زماننا: في (الإنسان والمدينة في العالم المعاصر)، ص 215.
(2) 6 - خليل الشيخ: صورة باريس في الأدب العربي الحديث... مجلة عالم الفكر (مرجع سابق)، ص 188.
(3) - ادوارد غاييد، المدينة في شعر زماننا: في (الإنسان والمدينة في العالم المعاصر)، تر/ كمال خوري، ص 215.(1/111)
المدينة البودليرية هي موطن المتناقضات، والفوضى والقبح والبؤس والضوضاء والبشاعة، إنها الموطن الذي فيه يلاقي اله الحب تحولا قاسيا فيتجرد من خفته التي منحتها إياه آلهة الحب ويتجلى تحت شعار الدعارة والمسمّاة باسمها بفظاظة ويتزين (بسحر جهنمي) فاقدا بذلك خصائصه، متجها نحومسايرة خصمه العنيد إله الموت، فتصبح المدينة ليس فقط المكان بل الرمز لهذه المسايرة المتناقضة، ومن هنا ينشأ ازدواجها العجيب بالنسبة للشعر في جذبه ونبذه"(1)، باعتبارها المكان الأوحد الذي يحتضن الإنسانية بكل تناقضاتها، بحبها ومقتها، حياتها وموتها. فهي موطن الألفة، كما أنها موطن القبح والبؤس، ولكن الشرّ يغلب عليها، لأنه لا يوجد فيها على الأغلب إلا "حثالة من الناس غير مميزة، متحولين إلى لعب كرتونية أو أشباح"(2). ويوسع بودلير من نظرته إلى المدينة فيعطيها حيزا أكثر بعدا وأوسع مجالا من خلال ما يسميه (ملذات الرعب)، ومن خلال استعماله لتلك العبارات ذات الخاصية الغامضة التي لا شكل ولا إطار محدد لها من مثل قوله (المتاهة الموحلة) أو (اختلاط المدن الحية) أو (المحيط الأسود للمدينة النجسة)، ينضاف إليها تلك الأسماء الفضفاضة التي توحي بالاغفال والتغليف واللاتمّييز مثل (جمهور، قطيع، جمع، مباءة). ومكانه المفضل في ذلك هو المدينة، المدينة الكبيرة العصرية، التي تقترن وترتبط دائما في أشعاره بعبارات مثل: جحيم وجهنم وما في معناهما، وبخاصة في (أزهار الشر)-كما أشرنا-. فباريس المعروفة من خلال الأساطير بأنها مدينة النور والأنوار، تصير على يد بودلير مدينة الرعب والظلمات، وسائر ألوان المعاناة، كالأحزان، والأمراض، والجرائم...(3) .
__________
(1) - ينظر م.س، ص 215-216.
(2) - م. ن، ص 214.
(3) - ينظر: Johnson .J.H (The Poet and the city) Ibid, P:125.(1/112)
ولكن على الرغم من هذه النظرة السوداوية إلى المدينة ومهاجمتها وإدانتها، إلا انه يحاول أن يأخذ معه عناصر ومظاهر المدينة الصاخبة المثيرة إلى تلك المنطقة الغامضة من النفس ويلقي عليها غلالة شفافة من رقيق الشعر وسحره، محاولا من خلال ذلك أن يضفي نوعا من الصوفية والروحانية على مادية عناصر المدينة الكبيرة، وأن يوحّد بين أنوارها الاصطناعية وأنوار السماء الطبيعية، وبين شذا الأزهار ورائحة الغاز، ضجيجها وضيقها وسكونية الطبيعة ورحابتها، بين ثقل الواقع وكثافته وخفة الحلم وشفافيته. ففي قصيدته (حلم باريس) يصف الشاعر رؤيا عجائبية عن مدينة صناعية غريبة لا تنتهي إلا بالامتداد إلى أقاصي أطراف العالم، مدينة غير واقعية لا توجد إلا في عقل هندسي مجرد، مدينة حلمية ليس فيها –على عكس مدينة باريس ذات الوحل والضباب- إلاّ:
الرتابة المسكرة
للمعدن والرخام والماء(1)
إنها مدينة قاحلة مقفرة، لكنها متخلصة من الزحمة البشرية المسبّبة للدوار، ومتخلصة من النبات الوحشي الباعث على الرعب.
أما قصيدته(دعوة إلى السفر) فهي تجسيد للتناقض الصارخ والحي بين ما (هنا) وما (هناك)، بين المدينة الواقعية وما فيها من فوضى وقبح وقلق وعذاب ويأس، وبين المدينة الحلمية التي يدعو(طفلته) للرحيل إليها معه، وما فيها من نظام وجمال وترف وهدوء ولذة:
هناك كل شيء ليس إلا نظاما وجمالا
وترفا وهدوءا ولذة(2).
__________
(1) - إدوارد غاييد: المدينة في شعر زماننا في(الإنسان والمدينة في العالم المعاصر) ص 216.
(2) - م.س، ص 214.(1/113)
إذن وهكذا فالمدينة العصرية الكبيرة عند بودلير ليست مرادفا للعجز واليأس وعلامة على الضياع والبؤس والتمزق وحسب، بل هي المنفى الذي يجعله يفكر جدّيا بشواطئ بعيدة حالمة، ولكنه مهما حاول أن يفر بخياله من هذا الجحيم، فإنه في الأخير مضطر للعودة إلى واقعه، فقصيدته(الدعوة إلى السفر) –التي رأينا- ما هي إلا دعوة آنية إلى الاستراحة الحالمة والقصيرة: أمام مشهد مدنيّ مزين بهيبة الأسفار إلى ما وراء جميع الآفاق الأرضية، ليعود بعدها الشاعر ويغرق من جديد في عالم الوقائعية، عالم المدينة المتناقض المتضمن لذروة الأناقة وذروة البؤس...
يتحدث بودلير عن المدينة في كل هذا بأسلوب لا يخلومن نبرة المحادثة اليومية الموحية بطاقات شعرية كبرى، مع التركيز المفرط في التعبير، عن طريق الاقتصاد الشديد في الألفاظ، كما في قوله مثلا:"أولا ضربتان بالمفتاح، يبدولي أن دورة المفتاح هذه ستزيد في وحدتي وتَقوى الحواجز التي تفصلني حاليا عن العالم(1)".
إنها كلمات مركزة بسيطة، تحمل نكهة الشارع والزمن اليومي، لكنها محمّلة بشتى الدلالات، موحية بشتى الانفعالات، غير عامدة إلى تغليف التجربة وتعتيمها بتلك الإبهامات والتفريعات التي لا تضيف شيئا.
غير أن ما يلاحظ على موقف بودلير من المدينة، هو هذا التناقض؛ فهومن جهة يدينها ويجسد فظاعة الحياة فيها:"(حياة فظيعة، مدينة فظيعة)، ويصور فوضاها ووحدة الإنسان فيها وينشد مخرجا منها، فينشئ مدنا حلمية خلاصية، ومن جهة أخرى إقبال عجيب على التردّي في ملذاتها والاحتراق في أتونها، والتطلع إلى القيم الأرستقراطية للّهووالأناقة فيها.
ولكن لا غروفي ذلك، فما هذا التناقض في المواقف إن هو إلا تجسيد أو انعكاس لما هو موجود من تناقض في المدينة، فهولا يري فيها "إلا ذروة الأناقة وذروة البؤس وجميع التناقضات البشرية"(2) التي تعتمل داخلها.
__________
(1) - ينظر: م.ن، ص 217.
(2) - م. س، ص 217.(1/114)
وإذا كانت المدن الكبيرة بعامة، وباريس بصفة خاصة، هي في نظر أدباء القرن الثامن عشر، تلك المدينة الخاطئة، الكافرة نظرا لابتعادها عن الله، والتي يجب الثورة عليها، وهدمها وتقويض أركانها، وهي في نظر-رائد القرن التاسع عشر- بودلير، تلك المدينة الدنسة، المقفرة القاهرة، المتناقضة المميتة والتي يجب هجرانها ... على نحوما رأينا، فإنها في أدب التنويريون(1) (En lightenments)، على العكس من ذلك تماما. إنها عاصمة الحضارة الغربية برمّتها، ومصب مختلف التيارات الفكرية في العالم، ومنتدى عامة المثقفين، وقبلة التجار وجنة السائحين، إنها بعبارة مختصرة: الفردوس الأرضي، أو أثينا الجديدة، كما يعبر كمال الشيخ(2) .
3- التنويريون والاحتفاء بصورة باريس:
إن باريس، في نظر هذه الحركة، ومن خلال الصورة التي أخرجوها فيها، لا تنم إلا عن احتفاء بليغ، بما تتضمنه هذه المدينة من ثراء فكري وفني، وغنى اقتصادي تجلى في مختلف البضائع فيها، ووفرة للكماليات -التي لم تعد فضيحة أو شيئا مكروها بل ضرورة حياتية واقتصادية(3)-، وتواشج اجتماعي وإنساني، جعل أحدهم يصورها تصويرا مثاليا فيقول:" إن الاهتمام في باريس بالإنسان، لا بالعرق أو مكان الولادة، وبقدرات الإنسان لا بمستواه الطبقي"(4)،
__________
(1) - حركة أدبية ظهرت في كل من فرنسا وألمانيا، لمزيد منم الاطلاع انظر:
German Mason :a Concise survey of Frenc Literature Petson Newjersy 1964,PP:119,159.
عن كمال الشيخ (مرجع سابق ص 188).
(2) - كمال الشيخ: صورة باريس، مرجع سابق، ص 188.
(3) - ينظر م. ن، ص ن.
(4) - عن كمال الشيخ : م.ن، ص 189 في:Eric Cham :Revolt,Louservatism and reaction in paris
1905-1925,PP:162-171(1/115)
هذا إضافة إلى ما تتمتع به من انفتاح ليبرالي على الصعيد الثقافي، تمظهر في كثرة منتدياتها، وتعدد مسارحها وتنوعها، وشدة الاعتناء بها، إضافة إلى تعدد المشارب الثقافية فيها، كما سبق وألمعنا.
وما من شك في أن هذه الاستجابة الإيجابية لهذه المدينة، بصفاتها السالفة الذكر، يعني ابتغاء المزيد من التقدم والازدهار المعنوي، والرخاء المادي، الأمر الذي جعلها تحتل مكانة مرموقة بين عواصم العالم، إن لم نقل المكانة الأولى عصرئذ، ولذلك عُدَّتْ مسرحا لكل ما هو جديد وأثير على جميع الأصعدة، ومركزا للصراع الفكري والأدبي والفني بين المحافظين والمحدثين، وبؤرة لكل ما هو طلائعي جرئ في أو ربا كلّها.
ولكن هذه الصورة الحلمية المثالية الصافية، والمبهِجة كلها، لم تترك أثرا واضحا فيما تلاها من تيارات أو مدارس أدبية أو فكرية، الأمر الذي ترك المجال واسعا أمام النزعة البودليرية، المتشائمة كثيرا والمتفائلة قليلا. ونعتقد أن ذلك يرجع إلى سببين رئيسيين، أو لا: لأنّ تصويرها لهذه المدينة كان فيه الكثير من المبالغة، حيث كانت مثالية أكثر من اللازم، لكونها تقوقعت في برجها العاجي الأرستقراطي الأنتلجنسي، وأغفلت الجانب المأساوي فيها، وثانيا: لأن ما صوّره بودلير- على الرغم مما فيه هو الآخر من مبالغة- فيها، كان يتضمن الكثير من الحقيقة. ولذلك كان تأثيره أبلغ في غيره، سواء في مجايليه، أو فيمن لحقه، حتى وإن كان هذا التأثر عكسّي أحيانا.
لقد تأثر الشعراء المُحْدَثون في جل أصقاع أو ربا وأمريكا بنظرة بودلير إلى المدينة وموقفه منها، ولكن هذا التأثر كان يتأرجح ما بين الإيجابية والسلبية؛ أي ما بين موافقته والاختلاف معه، ومهما يكن من أمر هذا الموقف، فلن يكون في الأخير إلا ذا جذور بودليرية.
4- المدينة الصناعية:(1/116)
فمدينة ويتمان – (الشاعر الأمريكي)- التي تبدوفي أو ل وهلة مختلفة عن مدينة سابقه من حيث كونها ليست متاهة البذخ وجهنّم اللّذات –كما يرى بودلير- بل هي مجموع الأنشطة الإنسانية التي يجب أن تُفسَح لها الطريق، وتُرفع من أمامها كل العقبات، ليتسنى لها الانسجام والارتباط، كما في قوله:
انزعوا أقفال الأبواب
وانزعوا الأبواب من أطرها(1)
وكما في قوله:(2)
المغنية الطاهرة تغني عل نغمات الأرغن
والنجار يسوي خشبته، وحديد المقشطة
يزقزق في صفير حاد يرتفع
والأولاد المتزوجون والعازبون في الطريق نحو
البيت الأبوي للاشتراك في عشاء المأتم.
فعلى الرغم من هذا التناقض الذي ما بين مدينة بودلير(باريس) وصورة مدينة ويتمان (نيويورك)، وعلى الرغم من تنصيب ويتمان نفسه رسولا للإنسانية المتوسطة ومناداته بشعار (تجمهروا)(3)، ومحاولاته الاتحاد مع أناس المدينة المسحوقين، وتفاؤله، إلا أننا نجده في الأخير لا يخفي تبرمه من الاضطهاد والمحاصرة التي يعانيها هو وأمثاله في المدينة. فلقد كان هو أيضا ربما بسبب رومانسيته "شخصا نافرا كبيرا، وليس بوسعنا أن نتجاهل، في ذكره للمدينة، اللهجة الخاصة التي يتكلم بها عما تشعر به أو تطرحه أو تضطهده"(4) ولا أدلّ على ذلك من قوله عن المسحوقين في المجتمع:
كل هؤلاء أنا أشعر معهم،
أنا هم...
ليس من ثائر يساق إلى السجن
والقيد في يديه إلا وأكون أنا مقيّدا
بالطرف الآخر من قيده وسائرا إلى جانبه(5).
__________
(1) - ينظر إدوارد غايير: المدينة في شعر زماننا قي (الإنسان المدينة في العالم المعاصر)، ص217.
(2) - م . ن، ص 218.
(3) - ينظر: م.ن، ص 217.
(4) - م. س، ص 218.
(5) - م.ن، ص 218.(1/117)
فلقد كان هذا التعاطف هو أيضا شأن بودلير، على الرغم من تعاليه واحتقاره الظاهر، لكل تقارب، وتسميته(بالبغاء الأخوي)؛ يتبدى هذا في حديثه "عن حمّام الجماعة كتجربة صوفية للمناولة"(1) وكرغبة حادة للاتحاد بالآخرين والتساوي معهم، ومشاركتهم بؤسهم وشقاءهم.
وويتمان في كل هذا يطمح إلى الابتعاد –قدر الإمكان- عن كل تقليد شعري سابق، محاولا ألا يتناول الوجود الإنساني في شكله الفردي، بل يريد تصوير التجربة الإنسانية بشموليتها وجميع تجلياتها، عن طريق تجسيده للقواسم المشتركة، ونقاط التقاطع لكل وجود إنساني في المدينة، وبذلك فهو"يقدم لمعاصريه(قصيدة المدينة) وهي المدينة التي تلتحم في حركتها الفوضوية ظاهريا بالحركة ذاتها بالحركة العالمية الخاصة بغرضها"(2) ولكنه لم يفلح في هذا الخروج عن التقاليد الشعرية السابقة، لأن هذا الخط، هو نفسه الذي كان بودلير قد ألزم به نفسه واتبعه، من حيث كونه يرى بأن الشعر ذوغرض إنساني سام، شامل، يهدف إلى معالجة الوجود الإنساني في جميع طبائعه.
وهناك شاعر آخر يعدّ امتدادا أمينا لبودلير وويتمان، وهو"فيرهاردن" حيث نلاحظ تطابقا غريبا بينه وبين سابقيْه في موقفه اتجاه المدينة العصرية، ولكن دون الذوبان الكلّي أو فقدان خصوصية التجربة الذاتية. فهويتبنى وجهات نظرهما لكن مع تصحيحها حسب ما يقتضيه منطق التطوّر، وحسب ما يمليه السياق التقدمي الذي يسير باتجاهه التاريخ.
__________
(1) - م. ن، ص 218.
(2) - م. س، ص 219.(1/118)
ففي الأربعين سنة التي تفصل بين كتابة (أزهار الشر) و(نتف العشب في المدن ذات الأذرع المميتة)، حدث تطور هائل، سواء في ناحية الانتظام العمراني وكثافته، أو في القيّم والمواقف والرؤى، فإذا كانت مدينة شعراء منتصف القرن، مدينة خاصة معلومة ومميزة، لها اسمها وصفاتها وتقاليدها المتجذّرة في الماضي، الممتدة في الحاضر، الملتحمة بالواقع، - بفضل طابعها المهني ووظيفتها الرمزية المكنونة، وما تمثله من نموذج أسمى يعد أفضل مكان للتعايش الإنساني وتحقيق الرغبات – فإن الأمر قد تغير كلية في نهاية القرن، حسبما يظهره، فيرهاردن بجلاء في(المدن ذات الأذرع المميتة)، فالمدينة أصبحت غُفْلا من الاسم، مبهمة الملامح، متحللة من القيم، معتدية على العالم مفترسة إياه، تشع منها عناصر الغربة، ومظاهر الوحدة والهيبة والغم، ذات طابع نيروني، لا تقتصر عدائيتها على ذاتها فحسب، بل تمتد على البراري المحيطة بها والقرى المجاورة لها، لتحيلها إلى (براري موسومة) و(قرى وهمية). إنها مدينة تلتفع بأقتم الألوان، وتقتل كل مظاهر البهجة، بل وكل ما يعطي للحياة الإنسانية حيويتها وقيمتها، فلا شيء أشد وطأة على النفس وأبعث على حزنها وغمّها، من رؤيتها لتلك المناظر الطبيعية الزاهية، تدلف نحوالذبول والانحسار والزوال، بسبب طغيان مادية المدينة، وبسبب الانتشار السريع لماكيناتها على حساب كل ما هو روحي ووجداني:
لأن هذه نهاية الحقول ونهاية الأمسيات
يدير الحداد في عمق السماوات كأحجار الرحى
شموسه السوداء
ويرقات تفقس لوحدها
في الأجناب المتفسخة للنساء الميتّات(1)
وكقوله أيضا:
هائلة ومجرمة
أذرع الماكينات الهائلة
وهي تحصد الأقماح الإنجيلية
قد أخافت الزارع الحزين
الذي كأن حركته تتفق مع السماء(2)
__________
(1) - إدوارد غاييد : المدينة في شعر زماننا في (الإنسان والمدينة في العالم المعاصر) ص 224.
(2) - م. ن، ص 225.(1/119)
هكذا اغتصَبت المدينة عذرية الطبيعة، وجعلتها مبتذلة مميته. واستعبدت الإنسان واستبدت به، فنزعت ماديتُها منه إنسانيتَه، وأشاعت في نفسه الرعب والغربة والارتباك، ولأن أدواتها ليست طيّعة، وليست امتدادا طبيعيا مألوفا للجسم البشري مثل الأدوات التقليدية المعهودة، لذلك فهي اصطناعية هائلة غريبة عنه، تقف منه موقف المهدِّد المرعب، المشوِّه لإنسانيته، الباعث على حنقه وغضبه:
إن أصابعهم المطواعة التي تتعقد
بألف أصبع معدني دقيق
تهترئ كثيرا في جهودهم
على المادة الآكلة للحم
حتى انهم يتركون عليها في كل لحظة
آثارا من الغيظ ونقطا من الدم(1)
ولكون فيرهاردن لا يخرج عن خط بودلير وويتمان، فانه يقابل بين المناظر الطبيعية وبين المدينة، ليبرز التناقض الحادث، وليجسّد ذلك الإيقاع العصبي، المتسارع الذي يميّز المدينة، وليصور منظرها الجحيمي، ويبين مدى البؤس والغصة التي تعاني منها الجماهير هناك، وهي تجري لاهثة محاولة التكيّف مع هذا السير المتسارع، وهذا النبض القلق:
آه هذه الجماهير هذه الجماهير
والبؤس والغصة اللذين يدوسانهما(2)
يتردد هذان البيتان عشر مرات في القصيدة، المر الذي يوحي بمدى حساسية الشاعر تجاههما، ومدى الدوار الذي يحل به "تجاه هذه الكومة غير المميزة من الأحياء"(3) الذين لا تربط بعضهم ببعض أية صلة، لذلك فالحب –الذي هو أسمى مظاهر الترابط الإنساني- يغدوعندهم مجردا من كل مضامينه، مفرَغا من كل محتوياته، فاقدا للميز الشخصي؛ يبدوهذا "من خلال لقاءٍ مجنون حيث يتضاجع لا كائنات حية بل كتل اللحم عديمة الشكل"(4) غير مميزة الملامح(5).
والاصطدام الأسود للغصص المجسدة
ترقص وتقفز حتى الموت في الأزقة الصغيرة
وشيئا فشيئا يتزايد الهياج الجنسي
ويصبح الهيجان صاعقة
يسحق الناس بعضهم دون أن يروهم، باحثين
__________
(1) - م.س، ص 224.
(2) - م.ن، ص 225.
(3) - م. ن، ص. ن.
(4) - م . ن، ص. ن.
(5) - م. ن، ص 225-226.(1/120)
عن لذة الذهب والفسفور
وتتقدم نساء، معبودات صفراء
في رؤوسهن الرموز الجنسية
بل وحتى الموت يفقد هو الآخر –في هذه المدينة العملاقة- تلك الهالة القدسية الراعبة والغامضة، التي أضفتها عليه الأجيال الماضية، ليصير تجربة مبتذلة ومكشوفة، ذات مشترك سوقي ومنفر(1) :
دابق القدمين، مجنون الحركات
يكنس الموت إلى ثقب كبير
المدينة كلها إلى المقبرة.
هكذا يستحيل وجودهم على نوع من الأكذوبة الوجودية، أو من نسيان الوجود، فهم موجودون ولكن لا يدرون أنهم موجودون، لقد فقدوا طعم الحياة ولذة العيش، لأنهم فقدوا معنى الموت، وحُرِموا مذاق طعمه وقدسيته، فتبدت المدينة من جرّاء ذلك، وبشكل متناقض و"كأنها مقر للموت نفسه ولكنه موت فاسد وحقير، كما يرى (ريكلي)(2) :
هناك الموت، لا الموت الذي نداءاته
لا مستهم بصورة سرية في طفولتهم
الموت الصغير كما يفهمونه
أما موتهم فهوأخضر عديم المذاق
يبقى معلقا فيهم كثمرة لم تنضج بعد
__________
(1) - ينظر : إدوارد غاييد : المدينة في شعر زماننا في (الإنسان والمدينة في العالم المعاصر)، ص 225-226.
(2) - م. ن، ص 226.(1/121)
ولكن مما يجدر ذكره، ويؤكد تبعية فيرهاردن لبودلير ومن بعده ويتمان هو أن هذا الموقف الهاجي للمدينة، والمناوئ لماديتها الطاغية، والرافض لحقيقتها الشيطانية المزيّفة، وتشوُهُ وجه الإنسانية فيها، يرافقه موقف آخر أكثر تألقا وحماسة وأملا، وهذا حين تغدوالمدينة كمركبة للخلاص وكهدف له "بسبب النسبة العالية من الإنسانية المكثفة فيها"(1) لتعود بذلك مطرحا لألوهية مبهمة، ذات أثر ساحر، وحسّ أو قياني تثيره تلك الأعمال العظيمة والعجيبة –العصية على الطبيعة – التي تتشكل في رحمها؛ بوصفها حلما إنسانيا باحثا عن اسم له، عامدا إلى تأسيس إنسانية مستقبل أفضل، محاولا تلمس اتجاهه الواضح، في ظل شرط وجودي، متعدد الاتجاهات، دائم التغيّر، ولذلك فأشعار فيرهاردن "جاءت لتعبر عن حاجة أساسية من حاجات عصره"(2). المنشِد لاستقرار جدّي، الباحث –بلا كلل- عن أنظمة جديدة ومثيرة، وعن إنتعاشات مجدية لآمالها، التي لا يمكن أن تحققها تلك الدعوات السياسية والنظريات العلمية – مهما كانت جاهدة ومعقولة- التي كانت تُرفع هنا وهناك في وقته، ما لم يتدخل الشعر لتطعيمها برقّته، وإثارتها لسحره وألقه، وحلميته المتجاوزة للواقع، المؤسطرة له. تتدخل الأسطورة –شعريا- فتمتزج بالواقع لتحاوره، ومن ثم لتتجاوزه باتجاه تأسيس وجود إنساني أشمل وأفضل:
آه هذه بابل تحققت أخيرا
ومائة شعب انصهروا في المدينة المشتركة
وانصهرت اللغات في لغة واحدة
والمدينة كَيَدٍ مبسوطة الأصابع
تنقبض على الكون(3)
ولكنها أيضا في جانب آخر:
تبدو كالدابة المتفجرة من الضجيج
التي تصعد لترعب سكون النجوم
هكذا إذن تظل المدينة عند فيرهاردن تتأرجح في المابين، ما بين الارتفاع بها إلى درجة (التَأِلِيهْ) وبين الانحدار إلى حضيض الحيوانية، وهونفس الموقف المتناقض الذي رأيناه عند سابقيه (بودلير وويتمان) .
__________
(1) - م. ن، ص 227.
(2) - م. ن، ص. ن
(3) - م. س، ص 227.(1/122)
ويستمر هذا التأثير نفسه عند شعراء آخرين، ليتمخض في الأخير عن موقفين مستقلين متقابلين متناقضين، ليظهر"هناك من جهة الذين يتبنون وجهة نظر العصرنة فينشدون أناشيد التمجيد للمدينة، ومن جهة أخرى الخائبون والثائرون الذين يفضحون شرورها الشيطانية ويصورونها بصورة جهنمية"(1)تنمّ عن القهر الذي يحاصرهم فيها.
ومن أمثال هؤلاء، تلك الثلة من الأدباء الأمريكان الذين ارتفعت أصواتهم بشعار "اترك نيويورك قبل أن تخنقك"، ومنهم أيضا (جون وين) القائل"أنا غاضب على هذا المجتمع.." لأنه يستعبد الإنسان ويعبد الآلة"(2)،(3)ومنهم كذلك (رومان)، الذي تسير المدينة في أشعاره دوما نحونوع معين من الحيوانية الفجّة، وتشهد على يديه نوعا من التعرية الممقوتة للحقيقة الاجتماعية الزائفة التي تدور فيها، وأيضا "رامبو" الكارِه للحداثة الماقت لها أشد المقت، لأنها صنوللتقدم المادي والتطور العلمي الحامل لكل الشرور، القاتل لإنسانية الإنسان وروحياته، ولا أدل على ذلك من قصيدته (مدينة ومدن) –التي يتضمنها ديوانه النثري إشرا قات- بفضل ما حوته، من صور مختلطة مشوشة، تصيب بالدوار، وتوحي بمدى الفزع والرعب الذي يحاصر الإنسان، وبمدى الضياع الذي يعانيه فيها.
__________
(1) 1 – م. ن، ص 228.
(2) 2 - رابح لطفي جمعية: المدينة والحداثة في شعر غازي القصيبي، المنهل (مرجع سابق)، ص 64.
(3) - ويقول أيضا جون أسبورن في هذا الصدد عنها: إنه"الغول الذي اخترعناه وربيناه ألا وهوالحداثة ..." م: ن، ص. ن.(1/123)
ويسير في نفس هذا الاتجاه أيضا، التعبيريون الألمان، الذين يرون أن المدينة ليست "فقط مكب القمامة لكل شرور العالم الجوع، الفساد، التفسخ، بل مستودعا احتياطيا لكل شيء في الإنسان ينكر الحياة واتحاد الأحياء وجميع القوى المعتدية والمخربة"(1)لتتسم المدينة من خلال ذلك بنوع من العظمة القاتمة، المنبئة بمصيبة فادحة، وخراب شامل قد يحل بالعالم. يتبدى هذا على سبيل المثال في قصيدة(المقتل) للشاعر كلتنيكر، المذكرة "بالأثر المنوّم لهذا الاعتداء المنتشر في المدينة، الذي يدعوالإنسان أو يلزمه بالقتل، ما دام الإنسان قد علق في شراك قواه الشريرة"(2)، ويتبدى أيضا عند شعراء آخرين أمثال: تراكل وبريخت، من خلال رثاء الأول للمظاهر الإنسانية المفقودة وسيادة الرعب كما في قوله(3):
صحراء شائكة تحيط بالمدينة
القمر يطرد عن الدرجات الدامية
النساء الخائفات
وذئابٌ مخيفة اقتحمت الأبواب
وعند الثاني من خلال أشعار التهكم المؤلم، والسخرية المرّة، ومهاجمة "(مدينة الإسفلت حيث كلّ إنسان مزوّد بكل الزاد اللازم: صحف، تبغ وخمر) مدينة (لن يبقى منها إلا الريح التي تخترقها)"(4) وتحيل عمرانها الطاغي على كهوف موحشة مرعبة، لا أثر لمظاهر الحياة الإنسانية فيها.
__________
(1) 3 - إدوارد غاييد : المدينة في شعر زماننا (مرجع سابق)، ص 233.
(2) 4 - م. ن، ص.ن
(3) - م : ن – ص: 234
(4) - م. ن، ص 233(1/124)
وربما يبلغ الهجاء المرّ والتهكم اللاذع ذروته. عند الشاعر الإنجليزي الكبير ت.س اليوت، صاحب الثقافة الواسعة، والرؤية النافذة، الواعية بتطور موقف الشعراء من المدينة عبر سيرورة التاريخ. فالتيمة الأساسية التي تتردد في شعره، هي ضياع الإنسان في صحراء المدينة الهائلة، المشعة للإحساس بالزوال والفناء، المضخمة للشعور بالوحدة والغربة. ترفد هذه الرؤية بوضوح قصيدته (الأرض الخراب)، التي يلفظ من خلالها الشاعر و"بمرارة دعاء مدمرا على المدينة العصرية"(1)، التي لا يوجد فيها سوى قطع الأثاث المهترئة، وأنابيب الغاز الصلدة، والفئران القارضة، وضجيج السيارات بدخانها المغبر للجو، والناس – لأشباح يطأون أرضها وينوؤون بحملهم الثقيل، وينفثون حسراتهم:.
...مدينة الوهم
تحت الضباب الأسمر من فجر شتائي
انساب جمهور على (جسر لندن)، غفير
ما كنت احسب أن الموت، قد طوى مثل هذا الجمع
حسرات، قصيرة متقطعة، كانوا ينفثون،
وكل امرئ قد ثبت ناظريه أمام قدميه
انطلقوا صعدا ثم انحدروا في شارع (الملك وليم)
إلى حيث كنيسة القديسة (ماري وولنوث) تعدّ الساعات
بصوت قتيل آخر الدقة التاسعة.
هناك رأيت واحدا عرفته، فاستوقفته صائحا: (ستتسن!)
..." يا من كنت معي على السفائن في (ما يلي!)
"تلك الجثة التي زرعتها السنة الماضية في حديقتك،
"هل بدأت تورق؟ هل ستزهر هذه السنة؟
" أم أن الصقيع المباغت قد أقضّ مضجعها؟.."
ونجد قبل المقطع السابق:
(مدام سوسوستريس، البصارة الشهيرة،
أصابها زكام شديد، ومع ذلك
... فهي معروفة كأحكم امرأة في أو ربا
لديها رزمة ورق خبيثة، إليكَ، قالت،
هذه ورقتك، الملاح الفينيقي الغريق،
(لؤلؤتين كانتا عيناه، انظر!)
هذه(بيلادونا) سيدة الصخور
... سيدة المواقف(2)
__________
(1) - م. س، ص 234.
(2) - ت.س. اليوت: الأرض الخراب الشاعر والقصيدة، د/عبد الواحد لؤلؤة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980، ص 36-37(1/125)
مدينة الوهم، أو مدينة الشبح هذه، هي (لندن) التي يتهاوى جسرها ويتقوض ويتعلّب إنسانها ويتجمّد، وهي نفسها (باريس وروما ونيورك) بل كل مدينة كبرى في العالم المعاصر "ورثت حضارات العصور،
وورثت ويلات الحروب منذ (ما يلي) وحروب قرطاجة إلى حروب القرن العشرين"(1) وربما من أجل هذا السبب "يجعل الشاعر شخوصا في القصيدة يثبون من زمان إلى آخر، ويتحاورون – ولهذا السبب أيضا تلد القصيدة تاجرا فينيقيا له بعد معاصر يتجلى في أحد المارة تحت فجر ضبابي في لندن"(2)، ومن أجل هذا أيضا يتحاور فيها الموتى الغابرون مع الأحياء المعاصرين، بكيفية تُذكِّر بذلك المشهد الذي يجسّده دانتي هناك في(جحيمه) وهويستعرض الموتى في أثناء عبورهم المطهر أو الأعراف إلى الفردوس، أو إلى الجحيم وكلّ منهم قد نكّس رأسه وثبت ناظريه أمام قدميه، ومن هذا الحشد الهائل من العمال، أو هذه الأشباح البشرية التي تعبر جسر لندن المتهاوي، على وظائفها، منكسة رؤوسها إلى الأرض، مثبّتة أنظارها عند أقدمها، متجهة نحوالكنيسة التي "تدق أجراسها تسع دقات يموت على آخرها الصوت كما مات الصوت والصدى عند الساعة التاسعة يوم صلب المسيح"(3)، كما يزعمون.
__________
(1) - م.ن، ص 26.
(2) - خير منصور : أبو اب ومرايا، ص 61
(3) - د/ عبد الواحد لؤلؤة : الشاعر والقصيدة (مرجع سابق)، ص 26(1/126)
وخلاصة القول أن القصيدة هي رحلة بحث شيق ومضن-في الآن نفسه- في المدينة المعاصرة عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتجسيد لما تمخّض عنها من تغيرات في مجريات التاريخ، وبخاصة تغير معالم الخريطة السياسية للعالم، وانحسار الإمبراطورية الكبرى، التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وما ترتب عن هذه الحرب أيضا من مشاكل اقتصادية انتهت بذلك الكساد المشهور الذي عرفته سنة 1929، وما حل بالمدينة المعاصرة من انتشار مريع لعلم النفس الفرويدي الذي أسّس نظريته على الجنس وحده فقط، وأخذ يفسر كل تصرفات الإنسان وكل مظاهر وجوده وردة أفعاله عن طريقه، فلم يبق-نتيجة ذلك- (للحب الأسمى) من مجال يذكر فيه، أو مكان يحتويه سوى ذاكرات الكتب وبطونها.
إنها القصيدة التي تعبر بامتياز عن خراب العالم المعاصر وتعقيدات الحياة فيه، بل وغيابها، وتصور بعمق خيبة الأمل التي حلت بنفوس جيل العشرينات في عالم ما بعد الحرب، فوصمتها "بالإرهاق العصبي والتفتت الذهني، والوعي المفرط بالذات، والضجر، والتلمس البائس في إثر نثارة عقيدة هُمشت"(1)، وجوع استبد بالنّاس، ومرض استشرى، وبطالة عمت كل مكان ورعب حاصر العالم، وأحاله جحيما كالحا ومعتمّا.
__________
(1) - م. س، ص 184(1/127)
ولعل ذلك الاضطراب الذي يسود القصيدة، وذلك الغموض الذي تتسم به، وتلك الفوضى التي تتصف بها، وذلك الميل الواضح إلى التعقيد ومحاولة الخروج عن المألوف في الشكل الشعري، ما هو انعكاس لذلك الاضطراب والتعقيد، ة لتلك الفوضى التي يعج بها العالم المعاصر. إذن وعلى هذا الأساس تكون "الحقيقة العصرية للمدينة تحدد ليس فقط موضوع الشعر بل شكله أيضا"(1) واصمة إياه بالفوضى والقلق، جاعلة منه لا طبيعة منبسطة وواحة ظليلة –كما كان الحال في الشكل الشعري القديم- بل نتوءات حادة، ودبابيس بارزة، واخزة، لا اثر فيها للشعور بالارتياح النفسي والجسدي، تماما كما هو الحال في العالم الواقعي للمدينة المعاصرة. هكذا إذن تأتي القصيدة –في شكلها ومضمونها- تعبيرا صارخا "عن أحاسيس (الجيل الضائع) وبؤس العالم المعاصر الذي طحنته الحرب وكان يسير حثيثا نحوالكارثة الاقتصادية"(2) – التي لا محالة واقعة- المدمرة للعالم، والمتسببة في خرابه الشامل.
__________
(1) - نظر : إدوارد غاييد : المدينة في شعر زماننا في (الإنسان والمدينة في العالم المعاصر)، ص 219
(2) - د/ عبد الواحد لؤلؤة : مرجع سابق، ص 179.(1/128)
ويسير في هذا الاتجاه الناقم على المدينة العصرية، كثير من الشعراء، أمثال: (جيان) الشاعر الإسباني، وفريديركوغارسيا لوركا، حين إقامته المؤقتة في نيويورك واكتشافه لجحيمها وعالمها المعادي للإنسانية "(عالم الأشياء اليابسة، والشوكة في العين، والهر الممطوط، وصدأ الحديد على الجسور الكثيرة)"(1) وكذلك هو الشأن بالنسبة للشعراء السود في الولايات المتحدة، فهم يبغضون المدينة ويعبرون عن عدائيتهم تجاهها، لأنها ليست مدينتهم، بل هي مدينة الآخرين الذين يستعبدونهم فلا حق لهم في امتلاكها أو التغني بها، إنها "الرمز الحي لصلفهم وظلمهم، (ولذلك) فتدميرها يحمل لهم وعدا بالخلاص الفوري"(2)، من الاستعباد الذي يعانونه، والعنصرية التي يلاقونها.
إذن وعلى هذا الأساس، وفي سيادة هذه النغمة المتشائمة والنبرة المناوئة لها، وفي ظل هذه الأصوات المرتفعة بهجائها والمنبئة بالخراب التام الذي سيحل بها. فإن الموقف الثاني، أي الموقف الممجد لها يبدوصعب التحقيق، وعديم التأثير. ولكنه مع ذلك وجد عن طريق محاولة بعثها وتطبيعها-كما رأينا عند حركة التنويريين وكما فعل ويتمان من قبل- ومزج معطياتها المادية الجامدة بمعطيات طبيعية سحرية متحركة، يمكن أن تضفي عليها نوعا من القبول، وتشيع فيها قدرا من ألق الحياة ونبضها، كما هو الحال عند الشاعر (ليوبولد سنغور)، المؤمن بالانبعاث العجيب للعالم الذي يعيش في هارلم:(3)
هارلم هارلم، هاك ما رأيت، هارلم هارلم
نسيم اخضر من القمح ينبت من بين البلاط المحروث
بأقدام الراقصين العارية
أرداف كأمواج الحرير وأثداء من حديد الرماح
تمثيليات راقصة من الأزهار البيضاء ومن الأقنعة الأسطورية
__________
(1) - ينظر : إدوارد غاييد : المدينة في شعر زماننا (مرجع سابق)، ص 235.
(2) - م. ن، ص 236.
(3) - م . س، ص 237.(1/129)
فهووإن كان قد عبّر في قصائد ومقاطع سابقة عن غصص الحياة في نيويورك، إلا انه يختم في الأخير باتجاه الاتحاد الممكن والأمل المتفائل ليقول:(1)
يا نيويورك، أقول يا نيويورك دعي الدم الأسود يتدفق في دمك
ليزيل صدأ مفاصلك الفولاذية كزيت الحياة
ليعطي جسورك انحناء الأرداف وليونة النباتات المتسلقة.
ويمكن ملاحظة هذا التطبيع أيضا فيما أضفي على (برج ايفيل) من سحر وحركية وحياة، فبعد أن كان يجسد بوضوح طغيان المدينة وامتدادها الهائل، وبعد أن كان قد"تمثل في الأذهان كرمز لكل ما هو جامد وغير شعري في العصر الصناعي"(2)، وبعد أن قوبل في بدء بنائه برفض صارخ، ومعارضة شديدة، واحتقار بالغ، فقالوا عنه انه (هيكل عظمي بشع)، وكان "مالا رميه" يقول عنه بتهكم عميق: إنّه يفوقني"(3)، بعد كل هذا اصبح موضوعا شعريا أثيرا ومحببا، فاتدحت به النفوس وأحاطته بهالة من القدسية والطبيعية الأسطورية كبيرة، ليتصل "بوحدات أسطورية أخرى تزين كالنجوم حياتنا الداخلية"(4) وتكسبها قدرا من البهجة لم تكن لتتحقق لولا وجوده، يحدث ذلك عندما يكتسي هذا "الهيكل العظمي لحما طريا، لحما واعدا بالحنان والسعادة"(5) وعندما يتقمص جميع مظاهر الألوان والأشكال الإنسانية والحيوانية، بل والإلهية، ويصبح كل شيء: (6)
أنت كل شيء
برج
اله قديم
حيوان عصري
طيف شمسيّ.
__________
(1) - م.س، ص. ن.
(2) - م. ن، ص 238
(3) - م. س، ص.ن
(4) - م. ن، ص. ن
(5) - م. ن، ص. ن
(6) - م. ن، ص : 239.(1/130)
وهناك فريق آخر من الشعراء لم يحددوا أي موقف من المدينة في أشعارهم؛ فلا هم يمجدونها ويسيرون بها اتجاه الخير، ولا هم يبغضونها ويسيرون بها في اتجاه الشرّ، بل كل ما في الأمر أنهم "يرونها وجها حيا ويغنونها في نوع من البراءة الأخلاقية"(1) فتصبح محاطة بالبرية، تطير فيها عصافير وافدة من الجنّة، فمدينة مثل جنة عدن، تتفتح شوارعها بطاقات الأزهار، وتنتشر منها روائح حضور النساء، طفلية، ووالدية، رشيقة، لدرجة أن الشاعر يستطيع أن (يمسك الشارع مثل كأس مترع بالنور السحري)، أو أنها (المدينة المؤنثة على حدود الجسم البشري) كما يقول ايلوار، بل وأكثر من ذلك، أنها مدينة صغيرة على شكل بيضة طازجة (باريس الصافية كبيضة طازجة)، نوافذ ميادينها كأقراص شرائح الليمون (إن نوافذ الميدان تشبه شرائح الليمون المدوّر سواء كان بشكلها المستدير المسمى فوهة المدفع أو بالأبخرة التي تفوح منها على الدوام والصادرة عن نساء نصف عاريات)(2). كما يرى اندري بريتون بشهوة عارمة، ورقّة عالية، وبساطة مبدعة.
هكذا تصبح المدينة شيئا طازجا ولذيذا، قابلا للأكل، تفوح منه روائح أجساد نساء نصف عاريات، وتصبح أيضا مكانا جاهزا لتحقيق كل الرغبات والشهوات الممتعة؛ يظهر هذا عند الشعراء السورياليين، الذين يصلون بالتطبيع إلى أقصى درجاته.
5- بين تطبيعها والتبرّم منها:
__________
(1) - م. ن، ص.ن
(2) - ينظر : إدوارد غاييد : المدينة في شعر زماننا (مرجع سابق)، ص 243(1/131)
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن مدينة المعسكر الشرقي، ممثلة في مدن الاتحاد السوفياتي -سابقا- والصين واليابان ويوغسلافيا وما والاها، عرفت هي الأخرى أيضا ألوانا من المواقف، تأرجحت، ما بين رفضها المطلق، ومن ثم انتقادها وهجائها وتعرية زيفها، وما بين تمجيدها ومصادقتها والانبهار بعظمة منجزاتها. يرفد هذا الموقف الأخير في روسيا –على سبيل المثال- الشاعر (فلادميرما ياكوفسكي)، الذي يتغنى بمظاهر الحياة اليومية فيها، متطرقا في ذلك إلى أدق تفاصيلها، بما فيها حتى تلك العامية والسوقية منها. وفي وصفه أيضا لجسر (بروكلين) الذي يبدأه بالوصف متهكما لينقلب بعدها إلى موقف حماسي ممجّد للرغبات، المقدسة، القادرة على إعادة بناء عصرنا إلى ما هو أفضل...
أما الموقف المعادي لها فيتزعمه في الصين –"حيث تشكل الثقافة الأدبية تقليديا جزءا من مقومات رجل الدولة"(1) – الشاعر(وووانغ)، حين وصفه لإحدى ناطحات السحاب، فيقول عنها3 :
غول هائل مخيف
ينتصب متعجرفا في وسط المدينة
هيكله العظمي من الفولاذ ولحمه من الإسمنت
أسنانه الغرانيتية باردة وقاسية
تستطيع أن تسحق شمس الغروب الذهبية
هل تكون عيونه الشفافة والمصفوفة صفا حسنا
عيون (أرغوس(2) المنبعث من الموت
حينما يأتي الليل
هذه العيون البراقة تراقب المدينة بغيرة
أهي تخاف أن تؤوي المدينة كثيرا من المؤامرات
والأسرار؟
فكما نرى على الرغم من ميله الواضح إلى ذلك النوع من التطبيع الذي رأيناه عند فيرهاردن وعند جول رومان، وميله إلى ذلك التأليه الحركي، إلا أنه لا يخفي تبرمه الشديد من طغيان ماديتها الساحقة؟، المشوهة لمعالم جمال الطبيعة؛ حيث أنها (تستطيع أن تسحق شمس الغروب الذهبية)، كما لا يُخفي الرعب المفزع الذي تثيره في نفسه.
__________
(1) - 3- م . س، ص .231
(2) - أمير من أمراء اليونان القديمة تزعم الأساطير أن له مائة عين تبقى خمسون منها مفتحة دائما . م. ن- ص. ن(1/132)
والنتيجة التي يمكننا أن نستخلصها في الأخير من هذه الأمثلة ومن كثير غيرها، هي أن الأصوات السائرة باتجاه المؤثر الإيجابي الممجد للمدينة والمادح لها، تبدوأقل تأثيرا وانتشارا وأعصى إقناعا، وأصعب تحقيقا بالنسبة للإنسان العصري، في ظل واقع يسير تياره حثيثا باتجاه معاداة كل ما هو روحي، وفي ظل استحالة تحقيق عملية تملّك الواقع لصالح الإنسان، ولذلك يبقى المجال مفتوحا وبقوة أمام المؤثر السلبي الباث لأشعار الشكوى والتبرم، بل والتمرد والرفض الخانق ليغدوشعراء هذا الموقف بذلك هم الأكثر تأثيرا في الناس، والأكثر انتشارا وإقناعا، وأيضا الأكثر تنويعا؛ فـ"كم هي مختلفة وشديدة الأصوات التي ترفع بجلد المدينة وهجائها، والتي تتنبأ لها أحيانا بخراب دام"(1)؛ تؤكده لديها تلك الرؤية المأساوية -المتبناة- للوجود البشري، وذلك الشعور الحاد بالتشاؤم تجاه الوضع المتجهم الذي آل إليه أمر الإنسان في هذا العالم المعاصر، حتى غدت حياته عبارة عن حلقة متصلة من الفزع والرعب، وعبارة عن آلية روتينية مكروهة مملّة لا أثر للتجدد والانتعاش فيها.
وساعدها أيضا –أي هذه الأصوات الهاجية – على الانتشار، عمق رؤاها وشهاداتها الأمينة والصادقة عن الواقع، فكانت لذلك بمثابة الواحة الوارفة الظلال التي يهرع إليها الإنسان المعاصر، هربا من لفح هجير مدينته. وكانت بمثابة السند المساعد على التخفيف من وطأة الحياة وزرع أمل ضرورة المقاومة والاستمرار في العيش؛ لأن "كل شهادة صادقة مهما كانت يائسة، تحمل أيضا بوارد الأمل بمجرد أنها قيلت وسمعت، وبذلك تساعدنا على العيش"(2)، في عالم مواز للواقع هو أفضل حتى ولوكان حلمياً أو وهميا. وتساعدنا على التسامي والتطهّر من أدران هذا العالم المتسخ، الغارق في أو حال قاذوراته.
__________
(1) - م. س، ص 232.
(2) - م.ن، ص 232.(1/133)
كانت هذه هي صورة الشاعر الأجنبي –سواء في الغرب الرأسمالي أو الشرق وقت مجد الشيوعية- وموقفه من مدينة بلغت من التطور التكنولوجي والتقدم المادي الصناعي – على حساب ما هو طبيعي وروحي- ومن تعقد في الحياة الاجتماعية، ما جعل الناس يضيقون بها ذرعا، وينشدون الخلاص منها بشتى الطرق كما رأينا.
فكيف إذن كان موقف شاعرنا الحديث-أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي- من مدينته التي لم تبلغ-بعد- من ذلك التطور والتعقيد ما بلغته نظيرتها في الغرب والشرق؟ مدينة لم تزل بعد لم تتخلص من طابعها الريفي سلوكيا، ولم تزل بعد في طور الحُبُو، بل التكوين، تجر أذيال التبعية، وتجتر أعباء وتبعات التخلّف؟
ثانيا: المدينة في الشعر العربي الحديث:
1- الهوية الحضارية:(1/134)
لقد كانت معظم الأوطان العربية في ذلك الزمن، إما تحت الحكم العثماني، أو تحت نير الاستعمار الأوروبي، ولم تكن هناك مدن يشعر الناس بامتلاكها حق الامتلاك حتى يتغنون بها أو يهاجمونها، هذا بالإضافة إلى عصور الظلام التي كانت تسربل حياتهم الثقافية والفكرية، وما تبع ذلك من فقدان للهوية تمظهر في انقطاع الصلة بالماضي التراثي وانعدام الهوية الحضارية التي تؤكدها، والحيرة بين أشلاء ثقافة ممزقة موروثة عن عصور الظلام، وثقافة جديدة وافدة من الغرب غريبة عنهم كل الغربة. ولذلك انصّب جل اهتمام عامة المثقفين آنذاك وبخاصة الشعراء على محاولة إخراج الأمة من مطب عصور الظلام وبعثها من جديد، وتأكيد هو يتها الحضارية وربط صلتها بماضيها العريق. وليس من سبيل إلى ذلك سوى الرجوع إلى الماضي المضيء، حيث العصور الذهبية، أيام كان الشعر في أو جه والحضارة الفنية في ذروتها -قياسا إلى عصر الانحطاط-، لذلك ظهر ما يسمى اصطلاحا بمدرسة "الإحياء" أو "البعث"، التي تزعمها محمود سامي البارودي (1) ومن بعده شوقي وحافظ ومن تبعهم.
__________
(1) - كل الدراسات تزعم أن محمود سامي البارودي زعم مدرسة الحياء، بينما تتغافل هذه الدراسات شخصية مهمة في تاريخ الأدب الجزائري تتمثل في شخص الأمير عبد القادر الذي نعتبره أحق بهذه الريادة من غيره مثل سامي البارودي أو شوقي أو حافظ وغيرهم وذلك بفضل نشاطه العلمي والمدعم لحركة البعث الفكري كما سيتضح تباعا في أثناء حديثنا عن موقفه من المدينة، طالع ص 171-174.(1/135)
وباتت هذه المدرسة تنسج على منوال القدماء وتعارضهم، ولا تكاد تخرج عن إطارهم قيد أنملة؛ لا من حيث التشكيل اللغوي، ولا من حيث معمارية القصيدة وأوزانها الخليلية، ولا من حيث الأغراض-اللّهم إلا بعض القصائد التي كانت تحمل إرهاصات الشعر الوطني، والتي حاول فيها هؤلاء اصطناع الواقعية – فها هو ذا البارودي يريد أن يصف الطبيعة المصرية وحدائق مدنها، فلا يجد سوى أشعار القدماء نموذجا به يحتذي، دون إبداع أو تجديد. فالأرض قد لبست حلتها القشيبة، وأصبحت في زي يجلّ عن الوصف، أزهارها أقباس من نور كالمجرّة، ومياه جداولها في صفائها لجين، وهلمّ جرّا، ويريد أن يتطرق إلى مجالس الأنس ووصف الخمرة، فلا يخرج عن وصفه لمذاقها، وصفاء لونها، وتلألئها، والأدوات التي تُصبّ فيها، والطقوس التي تصاحبها، والساقي الجميل والنديم الخفيف الروح. ولذلك فهولا"يصف خمرة مصرية في القرن التاسع عشر، بل خمرة عباسية، ذلك أنها خمرة عتقت في دير كما كان الحال زمن التشدد في الرقابة على بيع الخمرة وشربها، وتسميته دهقان ينتمي إلى عصر غير عصر البارودي"(1)، فخمرته صافية كالبلور، معتقة حتى لكأنها في قدم العالم، مصنوعة في دير، تخزن في الدنان، وتنقل خلسة في الزقاق، يبيعها دهقان ويتجالس حولها الندمان.
__________
(1) - د/ خالدة سعيد : حركية الابداع : دراسات في الدب العربي الحديث، دار العودة، بيروت، ط1، 1979، ص 23.(1/136)
ويصف المعارك التي تستخدم فيها المدافع، فلا يأتي لهذه الأخيرة بذكر بل أنه ليشير إلى السيوف والرماح، وما حققه أصحابها من طعان، فكان بذلك"كأنما يأخذ برأي أنصار القديم في العصر العباسي الذين كانوا يعيبون على الشاعر ذكر أشياء تنتمي إلى الحضارة، ويفترضون الاقتصار على ما تغنى به شعراء الجاهلية"(1). أما من حيث الغزل، فمحبوبته عيونها كعيون المها أو بقر الوحش، وقدها كالخيزران، وثغرها لؤلؤ أو مرجان، ووجهها وشعرها كأنهما صبح وليل في عطف وتناسق يتجاوران، وفي المديح، الممدوحون أبطال صناديد، شجعان كالأسود، كرماء كالغيث، صبورون على المكاره، مدافعون عن الحياض بكل ما يملكون. وفي الفخر لا يخرج أيضا عن نهج القدماء، على الرغم من الفارق الزمني الشاسع، وعلى الرغم من التطوّر الحادث في آليات الحرب وخطط الظفر، والتغيّر النسبي في القيم. فنراه يفخر بالسيوف الصارمة، والخيول المطهّمة الأصيلة، والأعلام الحمراء المصطبغة بدماء الأعداء، والدالة على كثرة خوض المعارك والتتويج الدائم بالنصر، كما يفخر بعلوأعمدة الخيام كتكنية عن الوجاهة والسيادة بالرغم من أنه نشأ في قصر آل بارودي. فهوكما نرى يفتخر بالقيم العربية الأصيلة التي ترددت كثيرا في أشعار أسلافه، فهذه القيم وإن كانت لم تزل ذات أهمية لحد الآن، فإن البارودي لم يعمد إلى استلهامها وحسب، بل انه ليأخذها كما هي فـ"يتبنى إطارها وصيغة التعبير عنها. ولا يفخر بها كما تجلت في إطار عصره، بل في الإطار البدوي بكل عناصره"(2) مستعيرا -في مطلع القرن العشرين- أجواء وفضاءات وصيغ البيئة الجاهلية والعباسية دون إضافة أو تنويع، فهوينظر إلى كل ما حوله، سواء في ذلك الطبيعة أو غيرها، بعين تاريخية، وذاكرة تاريخية.
__________
(1) - م. س، ص 23.
(2) - م. ن، ص 26(1/137)
وهكذا يظل أسير الزمن والمناخ التاريخي بكل تجلّياته وفي كل مناحيه، فكلماته القاموسية، المعروفة حمولتها الإبستمولوجية ودلالتها مسبقا، بسبب ذلك الكم التراكمي الذي عرفته عبر سيرورتها التاريخية-الشعرية-، هي التي كانت تفكر له، وتفخر وتتغزل وتصف بدلا منه، وهكذا لم يعد الشاعر سوى صدى للقديم، لا يغرد بصوته هو بل بأصوات مستعارة، ولا يعيش تجربته، بل تجربة محنّطة منذ زمن مضى، ولا يعبر عنها كما أحسّها في واقع أو اخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بل أنه "كان يقرأها في الأشعار، لم يمنحها معنى خاصا به، لم يكتشف علاقة جديدة لها"(1)، ولذلك جاءت تجاربه وأفكاره تكرارا آليا، ونسخا كليا لتجارب أسلافه، منقولة من هنا وهناك، ملتصقة التصاقا مصطنعا بالواقع، أو محاولة تصنع الواقعية عن طريق ذكر أسماء محلية لبعض الأماكن، ولكن هذا لم يفد لأن "الانتماء المكاني التاريخي الذي ميز عصر النهضة (كان) قد طغى على الانتماء المكاني"(2) المحلي وشكل غلالة صفيقة على العيون اتجاهه، وصرف الأنباه والعقول عن الاهتمام الجدي بالواقع الحقيقي، وأقام مسافة شاسعة بين حساسية الشاعر وقضايا عصره.
ولا يكاد شوقي وحافظ يخرجان عن هذا الخط المرسوم مسبّقا، وعن هذه القوالب الجاهزة سلفا، أو الكليشهات بحسب تعبير العقاد، إلا في مسرحيات الأول الشعرية في مرحلة متأخرة نسبيا، وفي وطنيات الثاني التي حاول فيها معالجة الواقع .
__________
(1) - م. س، ص 31
(2) - م. ن، ص. ن(1/138)
ولعل أو ضح موقف من المدينة – قبيل هذه الفترة- هو ذلك الموقف الذي نجده عند" الأمير عبد القادر الجزائري"- الفارس الشاعر- في قصيدته التي يفاضل فيها بين الريف والمدينة، بعدما خَبِرَ حياتها ابان نفيه وحبسه بقصر في " أمبواز" لمدة خمس سنوات، وردّا على سؤال كان قد وجهّه إليه بعضهم مفاده: أهل البدوأفضل أم أهل الحضر؟ فرد بقصيدته هذه محاولا فيها تفنيد مقولة أفضلية المدينة على الريف متلّمسا في ذلك مزايا هذا الأخير، متصيدا مساوئ المدينة صارخا في وجه من يفضّلونها على نقاوة الريف وأصالته فيقول:(1)
يا عاذرا لامرئ قد هام في الحضر
وعاذلا لمحب البدو والقفر
وتمدحن بيوت الطين والحجر ... لا تذممن بيوتا خف محملها
ولكن جهلت. وكم في الجهل من ضرر ... لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني
بساط رمل، به الحصباء كالدرر ... أوكنت أصبحت في الصحراء مرتقيا
بكل لون جميل شيق عطر ... أوجلت في روضة، قد راق منظرها
يزيد في الروح لم يمرر على قدر ... تستنشقن نسيما، طاب منتشقا
علوت في مرقب، أو جلت بالنظر ... أوكنت في صبح ليل هاج هاتنه
سربا من الوحش يرعى أطيب الشجر ... رأيت في كل وجه من بسائطها
فيا لها وقفة لم تبق من حزن
في قلب مضنى، ولا كدا لدى ضجر
__________
(1) - القصيدة مأخوذة من : تاريخ الأدب الجزائري، محمد الطمار – الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الاجزائر، ط 1981، ص 333-335 .(1/139)
فالذين يهاجمون الريف ويعذلون أهله، إنما صدر موقفهم هذا عن جهلهم بمزايا الريف وحسناته، ولذلك فها هو الشاعر يعرفهم به، ويدعوهم إلى زيارته لمعاينة نفائسه، فإضافة إلى رماله الذهبية، ومناظر رياضه الرائقة بشذاها العطر،وطيب نسيمها ونقائه، وجمال صبحه وليله، وتوشية سهوله وهضابه بأسراب الوحش والطير، الراعية لأطيب الشجر، والتي تشكل منظرا، لا يبقي حزنا في قلب رائيه ولا ضجرا ولا سآمة في نفسه. إضافة إلى هذا كله فبيوت البادية "ما بها لطخ من الوضير" و"ترابها المسك بل أنقي وجاد بها/ صوت الغنائم بالآصال والبكر" والخيام فيها تلقى " وقد صفت بها، فغدت / مثل السماء زهت بالأنجم الزهر". وهوفي هذا لا يتوانى عن تدعيم آرائه بما قاله الأقدمون من أقوال يصدقها –بحسب زعمه- النقل والعقل، متيقنا من سلامة آرائهم، وسداد أحكامهم:
قال الأولى قد قضوا قولا نصدقه
نقل وعقل، وما للحق من عير:
" الحسن يظهر في بيتين رونقه
بيت من الشِعر أو بيت من الشَعر"
ووسائل النقل في الريف طبيعية، تضمن السلامة والأمن لراكبيها، وتحفظ لهم حياتهم ؛ فهي سفن برية، وهذا عكس سفن البحر الرامزة للمدينة ومخترعاتها، والتي هي خطر على ركابها:
سفائن البر، بل أنجى لراكبها
سفائن البحر كم فيها من الخطر.
والريفيون كرماء، وبيوتهم مفتوحة دوما للضيوف حتى وإن كانوا بالليل طارقين، والدليل على ذلك إيقادهم النيران ليلا ليهتدي إليهم الجائع والمسافر :
بيت نار القرى تبدولطارقنافيها المداواة من جوع ومن خصر
كما أنهم أباة النفوس شجعان، لا يتحملون الضيم ولا يظلمون، وإن ظلموا فعدوهم "ما له ملجأ ولا وزر" لأن لهم "عاديات السبق والظفر" والتي شرابها من حليب ما يخالطه/ماء وليس حليب النوق كالبقر أي كحليب البقر الذي يضاف إليه الماء لقبض أضعاف ثمنه الحقيقي، بالزيادة في حجمه كما هو الحال في المدن. وخلاصة القول أنه :
ما في البداوة من عيب تذم به(1/140)
إلا المروءة والإحسان بالبدر
1@فوق نهر مثل اللجين المذاب ... هذا فضلا عن أن "صحة الجسم فيها غير خافية" أما العيب والداء كله فهو"مقصور على الحضر" ولذلك ترى أهل الريف أطول خلق الله أعمارا، وأصحهم أجساما، وأبعدهم عن الأمراض، لبعدهم عن اصطناعيات المدينة وغشها وضوضائها، واتساخ دروبها وتلوث هو ائها، وما شابه ذلك.
لقد نشأ الأمير عبد القادر في الريف وترعرع في ربوعه، فتغلغل حبه في وجدانه، وعلق بنفسه، وخاض تجربة قاسية في المدينة، يعاني النفي والإقامة الجبرية والبعد عن الوطن والأهل، ويعيش الغربة بكل معانيها، ولذلك فموقفه هذا على الرغم من تعميمه على جميع المدن وعلى كل أهل الحضر لا يكون نابعا إلا من موقف سياسي، ولا يكون صادرا إلا عن قناعة سياسية، على اعتبار أنه عانى تجارب مريرة في المدينة الفرنسية حيث النفي والحبس والتغريب كما أشرنا، وعلى اعتبار أن المدن الجزائرية – إن أخذنا بالتعميم – كانت آنذاك حكرا على المستعمرين ومن والاهم من العملاء، فهي مدينة الآخرين ولومؤقتا حتى يتسنى تحريرها، أو على الأقل إنها المكان الذي فقد عذريته بسبب اغتصاب المستعمرين له وتدنيسهم إياه، فبات لذلك مكانا ممقوتا كريها، مقترنا في ذهنية الريفي بسبب السلبية حينا، وبالعدائية أحيانا، لأنه يحوي كل ما هو مبتذل ووضيع كالاستسلام والخيانة والغدر والتقتيل وغيرها. فهي وكر الغزاة المغتصبين ومن والاهم من العملاء الخائنين، بعكس الريف الذي يمثل مهد الأصالة والكرم، بل مهد الشهم والإباء العربي، ومنطلق الثورات المظفرة.
إذن، فباستثناء هذا الموقف الواضح من المدينة – الذي لم نجد له مثيلا في عهده – فإن بقية المواقف، هذا إن نحن سلمنا بأنها مواقف – لا تعدوأن تكون ضربا من الشعر السياسي الساذج الخائض في الخلافات الحزبية، ولا تعدوأن تكون ضربا من الانبهار والاندهاش أمام عظمة مخترعات المدينة كالغواصات والطائرات.(1/141)
يصف شوقي الطائرة بقصيدة عام1932(1)، ويصفها حافظ(2) في نفس السنة ويصفها مطران أيضا، وهم حتى في وصفهم لهذه المخترعات العجيبة، لا يستطيعون التخلص من صدفة الماضي، ولا يستطيعون اختراق الفضاءات التراثية أو تجاوز بلاغتها. فنرى شوقي مثلا يشبهها بالشيء المدهش العجيب الذي نِصْفه طير ونِصْفه بشر، يخيف الشجعان قبل الجبناء، مسرّج ملجم على أهبة الاستعداد في كل حين، جميل المنظر كالطاووس، ريشه فولاذ، وجناحه مصقول كجناح النحل، يظهر ويختفي كحوت ترامت به الأمواج، دخانه من بعيد كوكبا، وإذا ما انطلق فهوسهم ذومضاء، تعجبت منه الغربان والحداء. ويشبهها حافظ في نزولها بأنثى العقاب التي تهوى على الهزار، ويشبهها مطران بالفرس المجنح الذي يسموشوامخ الجبال، ويطأ السحب مزمجرا كالرعد، أو كأزيز الجان، يتلاشى كل شيء من أمام ناظريك حين صعودك فيها إلى الفضاء، فلا العمران ولا المناجم ولا الحيوانات بقت كما عهدناها في أثناء وجودنا على الأرض، الكل أصبح عبارة عن مزيج من الأشعة والدخان.
وإذا ما نحن حاولنا الإصرار على تلمس موقف جدي ووجيه من المدينة لدى شعراء حركة البعث هذه، فإننا لا نجد سوى إشارات عابرة، أو ملاحظات تسجيلية عامة. فالبارودي لم يشغله من القاهرة كمدينة كبرى –والتي قضى فيها جل حياته– سوى الأماكن المترفة فيها، ورياضها المترعة "روضة المقياس" و"حلوان " و"الجيزة"، وغيرها من الضواحي التي غناها بلغة رصينة ذات منظور جمالي عباسي، لا أثر لروح العصر فيه، نلاحظ هذا بجلاء في وصفه "لروضة المقياس" حين يقول :(3)
حيث تجري السفين مستبقات
__________
(1) - راجع القصيدة في ص 1-4، ج2 (الشوقيات، ص 514)
(2) - القصيدة غير منشورة في الديوان، راجع : محمد عبد المنعم : دراسات في الدب المعاصر، مكتبة الكليات الزهرية، القاهرة، د ت- ص 130.
(3) - ديوان البارودي، ضبط وشرح على الجارم، محمد شفيق معروف، ج1، ص 40(1/142)
مشرقات يلحن مثل القباب ... قد أحاطت بشاطئيه قصورا
ملعب تصرح النواظر فيه
بين أفنان جنة وشعاب
وحتى نفيه إلى جزيرة ( سرنديب )، لم يفد في الأمر شيئا، حيث يبقى على نفس المنوال الوصفي عبر تداعي صور الرياض المصرية، والتغني بجمالها، والتشوق إلى أفنانها، وبروح عباسية أيضا :
خليلي هذا الشوق لا شك قاتلي
فميلا إلى "المقياس" إن خفتما فقدي
بأفنائه بين الأراكة والرند ... فيا منزلا رقرقت ماء شبيبتي
سرت سحرا فاستقبلتك يد الصبا
بأنفاسها، وانشق فجرك بالحمد(1)
وإزاء هذا الموقف غير الواضح، لا نملك إلا القول، بأن نظرته إلى المدينة كانت جد متأثرة بنظرته إلى الريف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أن نزعته التقليدية، أعشت بصره عما كان يدور ويستجد في المدينة.
والموقف ذاته يتجلى عند شوقي، إذ لم يشغل نفسه بما كان يدور في القاهرة –أوغيرها من المدن الكبرى– إلا من زاوية الأحداث السياسية التي كانت تعج فيها(2) وبخاصة في أثناء تلك الفترة التي كان قد أخلص فيها نفسه للتيار الوطني، أما ما عدا ذلك فلا يعدوكونه تغنيا بالحدائق والرياض والمنتزهات، أو تشوقا وحنينا في أثناء فترة المنفى. ولا يكاد يخرج حافظ إبراهيم عن هذا الاتجاه، أعني الوصف والتغني، وإن كان قد عني بمظاهر البؤس والفقر فيها، وكذا مدح بعض الجمعيات الخيرية.
ويتفرد خليل مطران عن هؤلاء جميعا، من حيث إعلانه، معاداته الصريحة للمدينة، في قصيدته:
العزلة في الصحراء خير من العيش في المدينة، والتي مطلعها :
ولوا المدينة وجهكم ودعوني
أنا في هو اي وعزلتي وجنوني
__________
(1) - م. ن، ج1، ص 147-148.
(2) - الشوقيات، ط المكتبة التجارية الكبرى، ج1- ص 113، 132، 184، ج2، ص 54 –64-79.(1/143)
1@سلختكم عن قلبها المدن ... ولكن بعد البارودي وشوقي وحافظ ومن شايعهم، ممن يعدون طلائع المدرسة الكلاسيكية الإحيائية ودعائمها في أدبنا العربي الحديث، ومع مطلع القرن العشرين وبروز معطيات التكنولوجيا الغربية، واحتلالها مساحة غير قليلة في جسد المجتمعات العربية وتمركزها –بصفة خاصة– في مدنها، وأحداث الحربين العالميين اللتين عرفتها الساحة العالمية، وما حبلت الساحة العربية من حروب محلية، حدث تطور كبير في الموقف والرؤية، َتمثل في الانتقال "إزاء الطبيعة من السلفية والمكان التاريخي مع شعراء النهضة، إلى الطبيعة المثالية مع شعراء المهجر، والطبيعة الذاتية مع شعراء ما بين الحربين اللذين سموا بالرومانطقيين"(1)، وتزامنت هذه المرحلة مع بروز الشعر السياسي المطالب بالحرية والداعي إلى مناهضة الاستعمار وعملاءه، والشعر الوطني النابع من نزعات وطنية، والشعر الاجتماعي المتناول بالوصف والتحليل لقضايا المجتمع ومشكلاته؛ تلك القضايا والمشاكل التي برزت نتيجة شيوع المظاهر المدنية وتعقد الحياة نسبيا وظهور الطبقية وما شاكلها، بالإضافة إلى تلك الخيبات المتتالية التي عرفتها عشرينات هذا القرن، حيث انتهت جل الثورات العربية إلى الفشل الذريع، وفقد مناخ الاعتداد بالأمجاد العربية –الذي كان مرتكز شعراء الانبعاث– معناه، وكبلت الحيرات الشخصية والعامة. كل هذا ساعد على إحداث قفزة نوعية شكلت" مفصلا انتقاليا مهما بين الانتماء التاريخي والانتماء إلى المكان بأبعاده الحاضرة"(2)، كما ساعد أيضا على إحداث ثورة أساسية في عقل الكاتب العربي ونفسه. تمخضت هذه الثورة عن بروز عدة اتجاهات أو مدارس أدبية متزامنة أو متلاحقة.
__________
(1) - خالدة سعيد : حركية الإبداع، ص 29.
(2) - م.س، ص 29(1/144)
لكنها تصب كلها في مجرى واحد، وتهدف إلى غاية واحدة، وهي مهاجمة الواقع بقصد إصلاحه، وشيوع نغمه الضيق بضغط المدينة والتبرم من واقعها، والحنين الجارف إلى بساطة الريف وهدوئه، ونشدان عوالم خيالية بعيدة عن ضجيج المدينة وضوضائها.
2- هجاء المدينة والتمرّد عليها :
على الرغم من أن "الأمر لم يتطور عندنا إلى وضع مطابق لما يحصل في أو ربا، لعدة أسباب منها أن الفاصل بين الريف والمدينة في بلادنا ما زال أقل جدية عما هو عليه في أو ربا وأمريكا، ومنها أننا لم نتحول إلى مجتمعات صناعية بمعني الكلمة"(1)، إلا أن التمرد على المدينة يصبح حاصلا، وتبرز عدة أصوات منها تلك التي طحنتها المآسي، وعانت مرارة الواقع المديني و"طفقت تنشد المراثي للعالم، وترتل أنغام الحزن ونشأ عندها مركب نقص فحواه أنّ العالم فاسد وأن الواقع مرير لا يمكن إصلاحه"(2) وأن الحياة مهزلة أو مأساة، فراحت تندب العالم، وتدوي الأرض عويلا وأنينا، وتنفث من نفوسها على العالم سخطا رهيبا، وهؤلاء هم الواقعيون، وظهرت جماعة أخرى أكسبتها المآسي حنكة وخبرة، وزادتها حبا للحياة وتمسكا بها، فغدت نظرتها إلى المستقبل – على الرغم من مأساوية الواقع – متفائلة، ومضت تحاول إصلاح ما تحطم من هذا الواقع، وتخفف من حدة مرارته، وتجدد ما أصاب أجزاءه من البلى، فاستطاع الشعر العربي أن يخرج على يدها و"لأول مرة في تاريخه الطويل ينشق عبير الحرية، ويحطم أغلال الوحدة على مسرح الحياة ليصور آلامها ومآسيها وليعبر عن مشاعر الجموع المتلهفة إلى حياة سعيدة، ومجتمع تظله الحرية والعدل"(3) والمساواة.
__________
(1) - إلياس سحاب: المدينة الملوثة والمدينة المشوهة، ص 14-15، المصباح- العدد 4، 12/09/1980، بيروت.
(2) - د/ محمد عبد المنعم خفاجي (مرجع سابق)، ص 342
(3) - م. ن، ص، 343.(1/145)
كما برزت جماعة أخرى أيضا، جانبت الواقع وتمردت على قيمه ومعاييره محلقة في أجواء الخيال والحلم، متخذة شعارا لها هو العودة إلى الطبيعة، حيث الطهر والنقاء وحيث الطفولة والبراءة، أو العودة إلى الغاب كما يعبر المهجريون(1)، حيث الحرية والثورة، والاحتجاج والتصوف، والسموعن كثافة مادية العالم ومفارقاته، والاحتماء بالليل، ففي الليل تنعدم وتتلاشى الملامح المميزة، وتزول الفروق وتتوحد الأشياء، وتنام بين أحضان سرمدية الكون هادئة.
وهنا يبرز جبران خليل جبران، الذي عاش محن الحرب العالمية، وعاش زمن التحولات، وخبر بوادر اليقظة العربية، وأحس بالخطى المتسارعة التي يسير بها عصره، "وكان شاهدا عل عالم يبتعد بلا رجعة عن الحضارة الزراعية وأوثانها القديمة، نحوالقيم الحضارة الصناعية وآلهة "الجوع الغريب "واجتياحها الضاري للطبيعة"(2)، فأطلق صرخة مدوية احتجاجا على تغيير معالم الطبيعة وتآكلها، وتجاسرت هذه الصيحة متعالية بحسّ امتداديّ حلمي لا نهائي، من أجل حمايتها من براثن المدينة.هذه المدينة التي يجب أن تهدم ويعاد بناؤها من جديد، لتلائم النفس البشرية الخيرّة ولتوفر لها حريتها، حرية الفكر والعقيدة والسياسة وغيرها. فكان "حس الامتداد هذا " (عند جبران كما عند الرومنطقيين والصوفيين) من عوامل نقد المدينة وإيثار الطبيعة حيث لا يناقض الليل النهار، حيث لا جدران ولا توقيت ولا تقنين، حيث تتساكن الأطراف في بيت واحد"(3) في هدوء ووئام ودون مزاحمة أو مناكبة، ودون رسميات أو تعقيدات.
__________
(1) - تجدر الإشارة هنا إلى أن "جماعة الديوان" لم تشغل بالهم المدينة أو الحياة فيها، بقدر ما كانت تشغلهم عوالمهم النفسية ودواخلهم الوجدانية
(2) - د/ خالدة سعيد، (مرجع سابق)، ص 37.
(3) - م. ن، ص، 38.(1/146)
اندفع جبران إلى الثورة على العالم، والمناداة بهدم هياكل الفساد-كما في كتابه(العواصف) الذي يمثل ذروة العنف عنده- فيه، نتيجة الكآبة والخيبة والظلم الاجتماعي الذي ميز مدينة عصره، فعدلُ الناس (ثلج إن رأته الشمس ذاب)، ورجال الدين (استغلوا الشيطان وبه اتجّروا)وباعدوا بين الصليب والهلال أمام عين الله. ثار على السياسة وعلى التقليد وعلى كل مالا تتقبله نفسه الحرة الثائرة، هدَم كلّ ما كان يراه غير صالح، ليعاود البناء في كتابه (النبي)، بناء مجتمع مؤسس كله على المحبة والعطاء والأمل، دون القبول بالوسطية في الأمور، لأنه كان راديكاليا متطرّفا في مواقفه غريبا ومجدّدا في رؤاه، فكان بذلك إنسان الأحلام الكبيرة، لكنه أيضا إنسان الأحزان الكبيرة، لقد كان طوفانا صغيرا" غسل أمام الذين جاءوا بعده عفن الدروب والتواريخ والأشياء والكلمات"(1)، وفتح في الشعر مجالا آخر لغير الضحك واللّهو والبكاء، ولغير التصنع، مجالا أتاح بدوره للشاعر أن يشده بشوق إلى معرفة الأسرار، وأن يبدع شكلا جديدا لما يحيط به، في بهاء الحرية وسلطانها الكامل"(2) مدفوعا في ذلك بشوق عارم وحلم بعيد، وتعطش كبير إلى الانعتاق من عالم المادة، والتحرر وتغيير الحياة إلى الأفضل، وإشاعة النَفَس النبوي والجمالي في كل ما يحيط بها من قيم، ومدفوعا أيضا بالطموح المتعالي المنشد لتجاوز الذات، المنجذب نحوالارتباط بالكل عبر الاندماج بالطبيعة، فكانت بذلك طبيعته مكانية ونفسية في آن معا.
__________
(1) - أدونيس (علي أحمد سعيد): مقدمة للشعر العربي، ص 83.
(2) - م. ن، ص 84.(1/147)
والاتجاه نفسه يظهر عند شعراء لبنان الآخرين من ذوي النزعة الرومنطيقية، حيث تشكل الطبيعة لديهم الحيز الكبير الذي يرتاحون إليه، ويرتعون في أحضانه الحرة الطليقة بعيدا عن قيود الناس ودجلهم وحسدهم ونفاقهم، وذلك لأن الطبيعة صنوالطهارة والبراءة والصدق. فلقد "كان الكلاسيكي يألف المدن ويحب المجتمعات، فكان مثال المدني، إذا حزّ به أمر أو اعترته نازلة رأيناه في دأبه مع صحبه وأهله وأتباعه يعزونه أو يعاونونه أو يشيرون عليه. وهذا مألوف في القصص والمسرحيات الكلاسيكية، وقلّ من كان يصف منهم الريف أو يضيق بالمدينة، وحتى هؤلاء سرعان ما كانوا يعودون إلى المدن إذا ضاقوا بها بعض الوقت وهذا فارق جوهري بينهم وبين الرومنتيكيين؛ فقد كان هؤلاء منطوين على ذات أنفسهم ضائقين ذرعا بما تضطرب به المجتمعات من حولهم فولعوا بترك المدن إلى الطبيعة، وكانت تروقهم الوحدة بين أحضانها ليخلوا إلى ذات أنفسهم"(1). ولذلك برزت الدعوة صريحة إلى ترك المدن والعودة إلى القرية، على نحوما نرى عند الأخطل الصغير:
عودوا إلى تلك القرى فلقد
الذكريات على مفاسدها
الأم والأخوات والسكن
فالقرية ببساطتها وخلوها من التعقد كانت ملهما ومصدر وحي لجموع الشعراء، فانبروا لتصويرها، ووصف محتوياتها، وألفة ناسها، ولطافة أجوائها، ونقاء هو ائها؛ فحقولها وكرومها كانت المسرح الأثير لدى الشاعر الرومنطقي، حيث الانطلاق والحرية والحبور الدائم، المضمخ بالعطر والأنوار والأنغام، كما يتجلى في قول يوسف غضوب:
وللطيب والنور في كرمنا
عجائب في كرمنا نبتكر
إذا النور مر بأعنابه
توطن ياقوتها واستقر(2)
__________
(1) - محمد غنيمي هلال: "الرومانيكية"، ص 133-134
(2) - يوسف غضوب: "الأبواب المغلقة "لا.ط، مكتبة البستاني، بيروت 1947،ص 108.(1/148)
فلفظة "الطيب" هنا تعني السعادة الحقّة، في حين أن لفظة "النور" تحمل معاني النقاء والإيمان اليقيني والبراءة التامة، و"توطّن النور في حبات العنب يرمز إلى استقرار الروح الطاهرة في قلب الشاعر وأن العنب يرمز إلى النشوة السماوية، فالخمر تستقطر من العنب، وكما أن الخمرة الحقيقية تسكر الإنسان وتنسيه الوجود فإنها هنا عند غضوب رمز للروح الإلهية التي يسكر بها المتجهد(1)المؤمن"(2)، ولذلك نراه يتابع"، مبينا القدرة الاستشفائية التي تمتلكها القرية، فيقول:
فكل عليل إذا مسّها
تعافى وكل صحيح سَكَر(3)
1@ومرآك في عيني أبهى وأبهر ... وتجدر الإشارة هنا إلى أن لفظة "عليل" ترمز إلى الخاطئ أو المدنس الذي أصابه فساد الحياة ولفظة "صحيح" ترمز إلى النقي العاشق الإلهي. فروح الخمر تنقل البشر إلى مستوى رباني يرتفع معه الإنسان فوق أدران الأرض"(4) ليحلق في أجواء سماوية صوفية، ذات وحدة كونية تندمج فيها الأشياء وتتحاور فيها الكائنات بصدق وحب، حتى لتغدوهذه الأخيرة عندهم إنسانا طاهرا هو تعويض عن ذلك الإنسان الذي افتقدوه في المجتمع المديني الصاخب.
وإذا كان جبران ومن ولاه يحاولون التخلص من مادية واقعهم ومأزق غربتهم عن طريق اللجوء إلى الطبيعة وأنستها، ونشدان الإنعتاق فيها، فثمة اتجاه آخر ينشد الخلاص من حياة المدينة العفنة عبر الهروب إلى الصحراء، تجلّى هذا بصفة خاصة، عند الشعراء الجزائريين ذوي النزعة الدينية الإصلاحية.
3- الفضاء المنشود :
__________
(1) - الصواب: المتهجّد.
(2) - د/ مونيف موسى : الشعر العربي الحديث في لبنان، دار العودة، بيروت، ط1، 1980،
ص 175.
(3) - يوسف غضوب : الأبواب المغلقة، ص 108.
(4) - ينظر : محمد غنيمي هلال، الرومانتيكية، ص 137-138(1/149)
فالصحراء وحياتها –كما هو معروف تاريخيا – موضوع غير جديد في شعرنا العربي، فقد عالجه شاعرنا العربي منذ القدم. والشاعر الجزائري العربي الذي نشأ في الصحراء وترعرع في ربوعها، وتمتع بنسائمها، ثم تركها مضطرا لسبب من الأسباب ليلحق بحياة المدن، ظلّ وفيا لحياة الصحراء، يبثها شوقه وحنينه، ويتمنى العودة إليها والارتماء في أحضانها من جديد، مبينا في ذلك ضجره من حياة المدن، مبرزا مساوئها، منافحا عن الصحراء، واقفا في وجه من يعيبها ويرميها بالجدب من سكان الحضر، لأن فيها من الجمال ما يبهر العين ويخلب اللب، ولكن من يحس به ويتذوقه قليل، هذا فضلا عن القيمة الدينية التي تشرفت بها، فهي مهد النبوة، والأرض التي شب بها الرسول(ص) وانطلق منها نور الهدى يتفجر. هذا ما نراه عند أحمد سحنون في قصيدته "الصحراء" ومنها الأبيات التالية:(1)
أصحراء أنت الكون بل أنت أكبر
وصفوا على الأيام لا يتكدر ... بل أنت دنيا من هناء وغبطة
وحر غدت نيرانه تستعر ... وإن قيل: في الصحراء جدب ووحشة
ولكن قليل من بمعناه يشعر ... ففيها جلال يبهر العين شخصه
ومن أُفقها انبث الهدى ينفجر ... وفي أرضها شب الرسول محمد
وحقك من سكنى المدائن أضجر ... أصحراء ضمّيني إليك فإنني
أنا ابنك قد لُقِنت حبك ناشئا
وإن على ذا الحب لا أتغير
ويتقابل هذا الحنين الجارف إلى ربوع الصحراء والعيش فيها مع الضجر والتبرم من حياة المدن –كما أسلفنا- لأنها لا تتضمن سوى كل ما هو مذموم منكر، ومخالف لما نشأ عليه الشاعر من خلالٍ وقيمٍ سامية:
وإنْ سَكَنَ الناسُ المدائن إنني
لجأت إلى سكني بحضنيك يؤثر
رأيت بها ما يستذم وينكر ... وكيف أرى سكن المدائن بعدما
وبُغضٌ على كل الجباه مسطر ... نفاق على كل الوجوه مخيم
وفوضى على رغم ادعاء حضارة
بها لم تدع شيئا يُحَبُ ويقدر(2)
__________
(1) - أنظر القصيدة في الديوان، ص 30-31 (ديوان أحمد سحنون، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980).
(2) - م. س، ص: ن.(1/150)
ومن هذه المذمومات والمنكرات التي جعلت الشاعر يفضل الحياة في أحضان الصحراء، ويهجر المدن: فضلا عن النفاق والبغض والفوضى المتفشية تلك المناظر المزعجة والمشمئزة التي كانت تحدث في شطآنها، وذلك السيل من الفضائح التي كانت تقع عليه عينه في كل حين، فيغدوالقلب من جراء ذلك أسيانا والعين دامعة، هذا ما نراه عند محمد العيد آل خليفة في قوله يخاطب البحر قائلا:(1)
على الشواطئ سيل
من الفضائح أزرى
كلاهما فيك مُعرى ... تلقى الفتاة فتاها
ويسمعانك هجرا ... يكاشفانك فحشا
فالقلب من ذاك آس
والعين من ذاك عبرى
هذا ويقف محمد الأخضر السائحي مشدوها أمام عالم الصحراء الساحر الرحب، ذي الجمال الطبيعي الفتان، والطهر والصفاء الرائق فيقول:(2)
كُثب أنت؟ أم سنا وضياء
ورمال؟ أم فتنة ورواء
أم عناء مرجع وحداء ... وسكون مخيم ووجوم
أم هضاب على الثرى شماء ... بساط ممهد من حرير
الله أم أنت يا رمال سماء ... لست أدري أ أنت أرض دحاك
هاهنا كلها بدت في رمال
وهضاب ماجت بها البيداء
يتغنى الشاعر بالطبيعة الساحرة في الصحراء، ويقف متسائلا حيرانا أمام جمالها الخلاب بل أنه ليتصورها إنسانا أو بالأحرى امرأة يحاورها ويتغزل بجلاء حسنها الطبيعي الخالي من التصنع والتنميق والتنسيق، ويود بأشواق عارمة الارتماء في أحضانها اللامتناهية :(3)
وأنا الشاعر الذي يعشق الحسن
ولا تستخفه الأسماء
لم تنمقه صنعة وطلاء ... ويراه لدى الطبيعة صرفا
لا غموض، لا دقة، لا خفاء ... كل معنى للحسن فيها جلى
وكأن السكون فيها عناء... ... فكأن السكون فيها حراك
لا تود النفوس لوتحتويها
وهي أفق –لا ينتهي- وفضاء.
__________
(1) - محمد العيد آل خليفة : الديوان، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، مطبعة البعث، قسنطينة 1967- ص 64
(2) - همسات وصرخات، ط: دار الطليعة بيروت 1965، ص 89.
(3) - م. ن، ص . ن.(1/151)
وهكذا يحاول الشاعر أن يقول لنا في قصيدته أن الطبيعة هي المكان الأمثل للحياة وأن الارتماء في أحضانها هو الاتحاد الكلي بالأشياء وهوعمق الحياة، فهناك الانعتاق والحرية، وهناك السرمدية واللانهائية، وهناك التحليق برشاقة في شفافية أفاقها الرحبة، حيث الأشياء طبيعية بكر، ميزتها الوضوح والمكاشفة، فلا الصنعة تزيفها ولا الطلاء يخفيها كما هو الحال في دنيا الناس وواقع العالم ونهاره.
ولعل الشاعر على يقين تام ووعي أكيد بما أصاب النفوس من جدب وقحط وما حلّ بها من بؤس وشر وعداء، ولذلك نراه يناشد الربيع الخلاص، ويطلب منه أن يزرع المحبة والرخاء ويسكب السلام والخير والإخاء في الحنايا وفي الأنفس لا في الثرى والكثبان، فالأنفس أكثر حاجة وأشد تعطشا إليها :(1)
فامش في الكون بالرخا وبالخير
وسر بالسلام في أركانه
وآسر بالخصب في الحنايا، وفي الأنفس
لا في الثرى وفي كثبانه
ويصف أحمد سحنون الربيع لا ليتغنى بروعة بهائه وجمال محياه، بل ليجسد ذلك البؤس الاجتماعي وذلك الشقاء الذي كانت تعانيه النفوس في فصل الشتاء، وذلك الموت الذي كان يداهم الفقراء والأيتام وهم طريحوالثرى لا يجدون من يأويهم أو يسد رمقهم، فيكون حلول الربيع بالنسبة لهم بشرى ومنجاة ومخلصا بنشره الرخاء والهناء :(2)
قد تجلى لنا محيا الربيع
رافلا في ثياب حسن بديع
مسرع الخطى في الرجوع ... وتولى الشتاء يعثر في أذياله
وأداة للفتك والترويع ... كان للبائسين سوط عذاب
ويتيم على الطريق صريع ... كم طريح على الثرى مات جوعا
لم يذوقوا في الليل طعم الهجوع ... لم يذوقوا طعم الهناء نهارا
وثلوج تأتي بأثر صقيع ... زمهرير يفري الجلود مذيب
مذ أطلت عليه شمس الربيع ... ذاك جيش الشتاء ولّى كسيرا
لمغُزى في كل سحر ولوع... ... وتجلت في كون دنيا من السحر
__________
(1) - انظر القصيدة في المرجع نفسه، ص 43-44
(2) - أحمد سحنون : الديوان، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1980، ص 48-49(1/152)
والسحر في جميع الربوع ... وفشا البشر والطلاقة والنشوة
وجلاء القلوب من صدى الهم
وسلوى الحزين والمفجوع
هكذا يصبح الربيع معجزة إذا ما حلت بالكون أزالت أحزانه ومسحت العبرات من على وجنات المكلومين والبؤساء وغسلت أدران العالم وأشاعت فيه الحب والحياة بعد موات، ولذلك نرى محمد الأخضر السائحي يدعوالناس إلى تأمل وتملي أسراره ومعانيه لتتشرب نفوسهم بالحب والحياة وليعرفوا معنى وقيمة الوجود(1) :
أيها الناس في الربيع معان
فاطلبوها كالنحل في أحضانه
هوفصل الحياة والحب لو
لاه لظل الوجود في أكفانه
فالربيع يعد فرصة ثمينة للتخلص من عفن الحياة في المدينة ومواتها، والغرق بين أزقتها ودروبها، ولذلك يجب ألا تضيع هذه الفرصة، بل المفروض استغلالها والتمتع بخلابة حسنها. ولكن لا يأتي هذا التمتع أو الانتشاء إلا بالابتعاد عن المدينة-التي التهمت آلياتها كل منظر طبيعي جميل- والاختلاء في الروابي والرياض فثمة الهدوء والسكون المريح، وثمة تتجلى بوضوح قيمة الحياة الحرة النقية.
هكذا يفر الشاعر إلى الطبيعة فيوثق صلته بها ويعمق ارتباطه ويستطيع أن يمارس بارتياح حياة الإشراق والانعتاق، بعيدا عن الأسى والإحباط. إنه ينفصل عن الواقع ويغترب عنه ليتصل بالطبيعة ويلتحم بها.
__________
(1) - أنظر القصيدة في الديوان (همسات وصرخات)، ص 43-44(1/153)
ولعل هذا الموقف –أي الهروب إلى الطبيعة للتخلص من ثقل الواقع المديني- يتضح بصورة أكبر عند جماعة "أبولو". تلك الجماعة التي وجد شعراؤها أنفسهم محاطين بأجواء خانقة، محكومين بضغوطات سياسية رهيبة، وأشكال بيروقراطية متنوعة، ومساومات وقمع يحد من حرية الشاعر ويكبل رغبته،ويجبره على أن يغفر صوته وينزوي في الظل(1). إذا وفي ظل هذه الأجواء الخانقة"كان الشاعر يعاين الواقع الحالك ويجد نفسه مدفوعا إلى موقع هامشي، هذا العزل القسري قد دفع به إلى الطبيعة. الطبيعة هنا مرآة للذات، إنها طبيعية نفسية أكثر مما هي طبيعة مكانية. مشاهدها أقرب إلى صور الأحلام"(2). لكنها أيضا ألصق بالواقع لكونها دائمة الاقتران بالبحث الدائب عن الحرية، ونشدانها الحس العفوي وسيادة نغمة البراءة؛ فـ"العودة إلى الطبيعة عودة إلى الفطرة والذات، وهي إذا، إعادة الاعتبار إلى العفوية والحرية، وهي تجاوز للتقاليد بصيغتها الاجتماعية"(3)
__________
(1) - لقد انحسر دور المثقف ولم يعد يحتل ذلك الموقع الريادي الذي كان لمثقفي عصر النهضة، نتيجة ظهور الحركات السياسية وبروز الأحزاب وانتزاعها دور المثقف في مخاطبة الجماهير الواسعة، ثم استفحال الاستعمار واحتلاله ما تبقى من دول المغرب وبسط نفوذه على المشرق، وفشل الثورات العربية وسحقها كثورة مصر عام 1919، وموت سعد زغلول عام 1927 ومدى الصدمة التي أصابت الناس آنذاك والإحباط الذي حلّ بهم...
(2) - د/ خالدة سعيد : حركية الإبداع – (مرجع السابق )- ص 92.
(3) - م. س، ص 32..(1/154)
السائدة ومحاولة تخطي الواقع واقتلاع جذوره الفاسدة، ولوخيالياً عن طريق الفرار إلى الطبيعة والاحتماء بمظاهرها كالليل مثلا، كما فعل علي محمود طه في قصيدته "الطريد أو الحرية المضطهدة" المكتوبة عام 1929 مصورا محنة جيله وخيبته لاجئا إلى الطبيعة والليل، أو السفر إلى شطآن خيالية غير واقعية متشوفة بنظرة ميتافيزيقية كما في مطولة الهمشري المكتوبة في نفس السنة أي 1929 "شاطئ الأعراف" وهي عبارة عن "رحلة خيالية يقوم بها الشاعر على سفينة الذكريات إلى شاطئ الأعراف، وهوشاطئ خيالي وراء الحياة تلوذ به الأرواح بعد طواف، وهي قصيدة تصور الخيبة والغربة والعجز الذي حل بهذه الأجيال، ومدى التفسخ الذي أصاب نسيجها.
واستعراض سريع لعناوين بعض المجموعات الشعرية التي كتبها هؤلاء في تلك الفترة مثل:"ما وراء الغمام" لإبراهيم ناجي "الملاح التائه" لعلي محمود طه، "أين المفر" لمحمود حسن إسماعيل، "الشفق الباكي" لأحمد زكي أبو شادي، "شاطئ الأعراف" ثم "إلى جيتا الفاتنة في مدينة الأحلام" للهمشري(1) يبين لنا عمق المأساة وشدة القلق الذي اتسمت به الحياة. كما يوحي لنا بمدى المعاناة والآلام التي كان يصدر عنها هذا الشعر، إضافة إلى ذلك الصراع المرير والطاحن بين الواقع الموضوعي والواقع الباطني، واقع الحياة وعالمها المأساوي وعالم الذات بفطرتها وأحلامها ومعانيها السامية المتمثلة في الحب والوئام والسلام والآمال العراض، والتي لا يمكننا أن نجدها إلا في الطبيعة.
__________
(1) - م.ن، ص 42.(1/155)
تظل هذه الأشعار تعزف على وتر الطبيعة تبثها الشكوى والنجوى، وتحاول الاحتماء بشطآنها الحانية من هجير المدينة ومتناقضاتها، كما تريد تأكيد ذاتها المستلبة وتحديد هو يتها عن طريق الاندماج بهذا العالم السامي المتميز والاتحاد معه، الطبيعة تفتح لهم ديكورا مسرحيا فيه من الخيال غير المشوش والحلم السعيد واللاحقيقة الشيء الكثير، ولا يخفى ما في هذا الاغتراب عن الواقع المادي والانفصال عنه وتعميق الاتصال بالطبيعة وتأكيد الانتماء إليها"من شعور ضمني بالاقتلاع وانقطاع الأواصر بالمكان. وليس هذا الشعور غريبا عن الإحساس بالعجز عن ملامسة الواقع والسيطرة عليه"(1) بسبب القلق والتناقض والغموض الذي يكتنفه، والتشويه الذي لحقه، حتى لم يعد محدد الملامح عصيا على الفهم.
وإذا كان جبران ومحمد العيد وأحمد سحنون وجماعة أبو لوكأبناء قرى ذات طابع ريفي أو بالأحرى أبناء ريف تأثروا بالمدرسة الرومانسية، وهم يفدون إلى المدينة فصدمهم واقعها المعقد وطابعها المادي فحاولوا التخلص من مأزق واقعها عن طريق اللجوء إلى الطبيعة وأنسنتها ونشدان الإنعتاق فيها. فثمة اتجاه آخر يفضّل المواجهة، ويعمد إلى تعرية الواقع وفضحه كما هو ، ويصور بطريقة، تجعلنا نستشعر الحضور المكثّف للألم والشرّ والخطيئة في مقابل اللذة والخير والبراءة والطهر، ولعل الياس أبو شبكة خير من يمثل هذا الاتجاه بوقوفه في مسافة واقعة بين طرفي نقيض؛ الطرف الأول متمثلا في البراءة حيث الطفولة والحلم والبساطة والنقاوة، والطرف الثاني متمثلا في العالم أو الواقع المتضمن لكل الشرور ولكل الأثام. إنه يراه عالما موحش الأفاق، مُسخ أناسه، فاستحالوا إلى أفاع وثعابين مخيفة غادرة تنشر السم الزعّاف في الشراب الواقي أو كما يعبر الشاعر:(2)
__________
(1) - خالدة سعيد: حركية الإبداع، ص 44.
(2) - انظر القصيدة في : لحظات جمالية، جورج غريب، دار الثقافة، بيروت لبنان، ط2 1983- ص 22-24.(1/156)
عشت في مقلتي ساعة هو ل
حجّرت غصتي على إشفاقي
وأرتني، كأنني في جثام
عالما فيك موحش الآفاق
فرأيت المسخ المخيف على اكمل
حسن، والقزم في العملاق
ولسان الثعبان في قبلة الصّديق
والسم في الشراب الواقي
وسمعت الفحيح في النغم العذب
وصوت العدوفي الميثاق
عالم مشوّش متناقض، اختلطت فيه الأشياء وتلاشت من بينها الحدود، وضاعت الملامح المميزة؛ الغدر في الصداقة، السم في الدواء، والفحيح المخيف في الأنغام العذبة، والخيانة والخديعة في العهود والمواثيق، عالم فيه كل شيء في حين أنه يفتقر إلى كل شيء. إنه فردوس لكنه محاط ومليء بالأفاعي القاتلة:(1)
ورأيت الفردوس لفّت أفاعيه
غصوني وكمّشت أو راقي
بل إنه لـ"مستنقع يتنهّد" و"صباغ فاسد" و"مقاذر" و"سقوط" و"بحر شبهات"(2) كما يعبر الشاعر في مواضع أخرى.
4-الخلفية السياسية:
وهناك اتجاه آخر متميّز كل التمايز عما سبق، لكونه يهاجم المدينة بضراوة ودون مهادنة. مرتكزا على الخلفية السياسية دون غيرها. معتبرا إياها (المدينة) بؤرة الفساد السياسي والقهر واللا عدل. ولعل الشاعر محمد مهدي الجواهري أبرز صوت يمثل هذا الاتجاه بوضوح كبير، وبجرأة لا متناهية. الجواهري ذلك الشاعر العراقي ذوالنفس الغضوبة الثائرة، المتخذة من الكلمة الوجيهة جسرا للعبور إلى الحرية، ومن القلم سيفا مشهورا في وجه الحكام الفاسدين، وسوطا يؤدبهم به من حين لآخر وينبئهم بأوخم العواقب، إنهم يحملون الشعب على الرقص ببلاهة كالقرود. ولذلك فهوغاضب على هذا الشعب المستسلم لعبث الحكام، الراضخ لتجبرهم، لقد هجر هذا الشعب غاضبا غير حاقد(3) :
__________
(1) - م. س، ص 24.
(2) - راجع "أفاعي الفردوس "، ط3، دار الحضارة، بيروت 1962، ص. 37-44.
(3) - من المقدمة للجزء الأول من ديوانه،1949، ينظر: جبرا ابراهيم جبرا:النار والجوهر: دراسات في الشعر –المؤسسة العربية للدراسات والنشر لبنان، ط3، 1982، ص 7.(1/157)
" قال: ومتى عهدك بالمدينة وأهلها؟
" قلت: منذ تركتها.. أما عهدي بأهلها
فمنذ أن تشاجرت مع حاكمها لكثرة ما يحملهم
على الرقص كالقرود...وقد استمروا يرقصون
حتى بعد أن طردني الحاكم شر طرد من أجلهم...
طردني أنا ومن معي.
" قال : أ فأنت حاقد عليهم من أجل ذلك؟
" قلت : لا، أبدّا.. بل غاضب.
قال: أو لا تريد أن تراهم؟
قلت: إن بريق الغضب في عينّي ليصدّني عن رؤيتهم".
لقد طرده الحاكم من المدينة شر طردة، لأنه كان ينافح من اجل هذا الشعب المظلوم، ولان كلماته كانت مقلقة للحكام، فهي بمثابة الآلة التي :(1)
تستل من أظفارهم وتحطّ من
أقدارهم، وتثل مجدا كاذبا
1@أغري الوليد بشتمهم والحاجبا ... ولأنه كان غاضبا ورافضا، ومهددا ولاعنا ومحرضا، ولأنه كان حتفهم :(2)
أنا حتفهم ألج البيوت عليهم
أطأ الطغاة بشسع فعلي عازبا ... أنا ذا أمامك ماثلا متجبرا
وأمط من شفتيّ هزءا أن أرى
عفر الجباه على الحياة تكالبا
ولكن وإن هو هجر المدينة، وكان غاضبا على أهلها -في غير حقد- لأنهم استمروا في رضوخهم للحكام أو –كما يدعوهم أحيانا- المتحكمين، ولم يناصروه على الرغم مما لاقاه من أجلهم، فإنه غير يائس من ثورانهم يوما ما، ولذلك نراه يخاطب الحكام قائلا في سخرية موجعة، وغضب متوعد ما حق:(3)
ما تشاؤون فاصنعوا
فرصة لا تضيع
وتحطّوا وترفعوا ... فرصة أن تحكّموا
وتعطوا وتمنعوا ... وتدلوا على الرقاب
لكم الأرض أجمع ... ما تشاؤون فاصنعوا
من ذويهم وأبصع ... لكم الناس أكتع
الجماهير هطّع ... ما تشاؤون فاصنعوا
مستضامون جوّع ... ما الذي يستطيعه
كلّ عاص يطوّع ... ما تشاؤون فاصنعوا
للمطامر يدفع... ... فشباب يخيفكم
بالكراسي يزعزع ... وضمير يهزكم
بالدنانير يقطع ... ولسان ينوشكم
جوعوهم لتشبعوا ... ما تشاءون فاصنعوا
ما نهبتهم فوزعوا
للحواشي واقطعوا
__________
(1) - محمد مهدي الجواهري: الديوان، ج3، مطبعة الأديب البغدادية 1974- ص 401.
(2) - م. ن، ص ن.
(3) - عن جبرا ابراهيم جبرا: النار والجوهر، ص 19-20.(1/158)
وهويكتفي بتصوير ما يسود المدينة من ظلم وتسلط وتزوير في القوانين والتشريعات الحامية للحكام، بل كثيرا ما يعمد إلى الدعوة للثورة والتمرد عليهم والتضحية جاعلا "من الشهادة جزءا ضروريا من التجربة السياسية- الشعرية"(1). إنه رغبته المتأججة في حنايا نفسه، وضالته المنشودة، وعشقه الأول والأخير. فبالثائر الذي يسير "على لا حب من دم" وبيوم الشهيد "يبعث الجيل المحتم بعثه/وبك القيامة للطغاة تقام"(2)، إنه يفضل المواجهة الصدامية مع الطغاة، ويحيّ أو لئك الثائرين الذين يجعلون "الحتوف جسرا" للناس إلى الغد:(3)
سلام على حاقد ثائر
على لا حب من دم سائر
لا بد مفض إلى آخر ... يخب ويعلم أن الطريق
ماض يمهد للحاضر ... كأن بقايا دم السابقين
سلام على جاعلين الحتوف
جسرا إلى الموكب العابر
يجعل الجواهري من الشهادة جزءا أساسيا وسندا ضروريا للتجربة السياسية الشعرية والحياتية، شأنه في ذلك شأن الخوارج، إضافة إلى تشبهه الكبير بأبي الطيب المتنبي، في تلك النرجسية المتعالية أحيانا، وفي ذلك
التبرم من الحياة، ومن لا أهمية الحكام وعجزهم(4)...
وقد يلجأ الجواهري أحيانا وحينما يستبد به اليأس وتعصف به الأحداث السياسية في المدينة إلى الطبيعة يشكوها همومه، ويبثها يأسه وأحزانه، وما يلقاه من لؤم وتهم في المدينة، فيقول:(5)
إنّا أتيناك من أرض ملائكها
بالعهر ترجم أو ترضي الشياطينا
إن لم يلح شبح للخوف يفزعنا
فيها يلح شبح للذل يصمينا
وقريب من هذا الموقف المناوئ، ذاك الذي نلحظه عند"عبد الغني الجميل" الذي يقول عن بغداد(6) :
علام الإقامة في بلدة
نعدّ بها مثل حمر النعم
وقوله أيضا :
__________
(1) - م. س، ص 22.
(2) - م. ن، ص. ن.
(3) - م. ن، ص. ن
(4) - لمزيد من الإطلاع أنظر المرجع نفسه، ص 25- 31.
(5) - م . س، ص 17.
(6) - مأخوذة من : محمد عبده بدوي : الشاعر والمدينة في العصر الحديث، عالم الفكر، مج 19، ع3، 1988، ص 161.(1/159)
لهفي على بغداد من بلدة
قد عشش الحب بها ثم طار
1@بهائم في بغداد أعوزها النبت ... ويتضاعف هذا الموقف عند معروف الرصافي، ويشتد أكثر في قسوته على (بغداد)، إذ يصوّرها على أنها سجن، ومكان للذل والجور والتسلط وقهر الحكام فيقول حانقا:
أيا سائلا عنا ببغداد إننا
بأفواهها من ما لنا مأكل سحت ... خضعنا لحكام تجور، وقد حلا
ولَلموت خير من حياة تشوبها
شوائب منها الظلم والذلّ والمقت(1)
ويقول في قصيدة "السجن في بغداد":
"لخولة أطلال ببرقة ثهمد"
عفا رسم مغنى العزّ منها كما عفت
زر السجن في بغداد زورة راحم
لتشهد للأنكاد أفجع مشهد(2)
5- الاحتفاء بالمدينة المميزة:
__________
(1) 1 - ديوان الرصافي : 1/المكتبة التنجارية، القاهرة – ص: 161 .
(2) 2 – م.ن، 1/42.(1/160)
ولا نود اختتام هذا الفصل، دون التعريج على المدن السودانية وبخاصة الخرطوم، تلك المدينة المعشوقة من لدن شعرائها، والمميزة عن غيرها من كبريات مدن العالم العربي. فهي وإن كانت تشترك معها في الطابع العربي والإسلامي، فإنه تتميز عنه بطابعها الإفريقي العريق الضارب بجذوره في أعماق السودان. ولعل هذه الميزة، هي التي جعلت الشعراء السودانيين يهتمون بالمكان اهتماما يكاد يقترب من اهتمام الشاعر الجاهلي به، وبخاصة في الافتتاح والتحديد الدقيق له ولمعالمه، وربما ذلك ناتج عن شدة ارتباطهم به، وعشقهم له، إذ يمكن القول –دون مبالغة-"بأن أحدا من الشعراء العرب المحدثين لم يعشق مدينته، كما عشق الشعراء السودانيون مدينة الخرطوم فهي عند الكلاسيكيين راية ومجد، وعند الرومانسيين أغنية وحلم . أما الواقعيون فرأوا أن لها شخصية متميزة على الرغم من فقرها، واختلاف الأجناس فيها، ورغم الحزن الذي يغشى-كالغبار- بعض ملامحها التي لا تبتسم إلا بقدر"(1). ولعل "محمد المكي إبراهيم" أشد الشعراء تفجرا في عشق الخرطوم، حيث يخرجها في صورة غزلية جد رهيفة فيقول:
شد ما أنت حسناء
كم أنت مغرية بالتهور والاغتلام
عارية وزنجية
وبعض عربية
وبعض ... أقوالي أمام الله(2)
__________
(1) 3 - محمد عبده بدوي: الشاعر والمدينة في العصر الحديث : عالم الفكر مج، ع3، 1988- ص: 196.
(2) - مستّلة من : م. ن، ص 197، عن: بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت، دار التأليف والترجمة والنشر، 1976، ص7.(1/161)
أما عند "التجاني يوسف بشر" فهي زهرة، وأغنية وقصيدة، وشمس تفرع كأس الضوء في بدرها، وهي مدينة السحر التي تنام فيها حجرات الذهب وتضاء بالفجر وبالنفوس(1)... ويعدّ محمد المهدي المجذوب هو الآخر من اكثر الشعراء حبّا لمدينته، ومن أكثرهم وصفا لها وتجسيدا لتفاصيلها الداخلية والخارجية؛ إذ انه لوّنها بمختلف مشاعره الخاصة فرحا وحزنا(2)، توحدا واغترابا، رضا وسخطا.
ولا نريد أن نستطرد اكثر من هذا، فحسبنا الإشارة إلى بعض إرهاصات الظاهرة وتلمّس مفاصل تجربتها، والإلمام البسيط ببعض التفريعات التي دلفت إليها، والمظاهر التي اتخذتها في شعرنا الحديث في مطلع القرن العشرين.
__________
(1) - ينظر : محمد عبده بدوي: الشاعر والمدينة، ص 197.
(2) - ينظر: م. ن، ص.ن و، ديوان نار المجاذيب، طبع وزارة الإعلام الخرطوم 1969، و، الشرافة والهجرة – دار التأليف والترجمة والنشر، جامعة الخرطوم 1973.(1/162)
والنتيجة التي يمكننا الانتهاء إليها من خلال هذا العرض هي أن المدينة العربية ومنذ مطلع القرن، ومع تزايد معطيات التكنولوجيا الحديثة فيها وما صاحبها من تطور حضاري متسارع الخطى، لم يترك للمرء فيها فرصة التأمل الهادئ، ومراجعة الذات المتأنية، ومع ابتعادها عن البراءة ونزوعها نحوالتعقيد في أسلوب الحياة، وسقوط القيم فيها، وانتشار أشكال البيروقرطية والتسلّط، وسيادة البؤس والحرمان، إضافة إلى تلك الضجات المتلاحقة، وتلك الثورات المتتالية، وذلك الوعي المتصاعد، بهذا وبغيره، عملت على مناوأة الشاعر وحمله على الثورة عليها، والتمرد على قيمها ومعاييرها، كما رأينا مع جبران خليل جبران والياس أبو شبكة المطالِب بتطهير مجتمع المدينة بالكبريت، أو الفرار من جحيمه إلى عوالم خيالية طوباوية كـ(صلاح لبكي) المتغني بروعة الطبيعة وهدوئها، المندمج بذاتيته الرومانسية الحالمة معها، أو التشكي من سقوط القيم فيها والابتذال الذي يسودها (محمد العيد) و(أحمد سحنون) الفارّ من ضيق دروبها وفساد هو ائها، إلى سعة أفق الصحراء ونقاء نسماتها... أو مهاجمتها بعنف نظرا لفسادها السياسي كما رأينا مع الجواهري.
إذن وهكذا "وإذا كانت الصحراء امتحانا لقدرة العربي على تحقيق ذاته فلقد كانت الحياة المدينية الجديدة في مرحلة ثانية اختبارا آخر لقدرة الروح العربية على التكيّف في حضارة تستند إلى الأشياء المادية، لقد تعددت صورة الصراع بين الريف والمدينة وكأنه صراع بين الله والإنسان"(1) أو بين الروح والمادة،
__________
(1) - مناف منصور : "الأدب العربي قضايا ونصوص"، دار غندور للطباعة والنشر والتوزيع، ش. م.ل، الفيري، بيروت 1975، المدخل، ص 18.(1/163)
ولذلك تمرّد الشاعر المعاصر على المدينة لأنها فقدت اتصالها بالصفاء الروحي، ووثقت علاقتها بدنس، المادة، فحنّ إلى نقاوة الريف ومثلت له الطبيعة المكان الأمثل والرحم الأنقى، ومن هنا كان إجماع الشعراء العرب المحدثين على العودة إلى المكان- الأم كما هي الحال مع بدر شاكر السياب، أو إلى الزمان- الأم كما هي الحال مع خليل حاوي، حيث البكارة والطفولة والبراءة الأولى(1)، طارحين في ذلك الحداثة بكل ثقلها، رابطين بينها وبين تجربتهم في المدينة، فكيف كانت هذه التجربة إذن؟
(((
الفصل الثاني:
الرؤية الحداثية لإشكالية تجربة المدينة
- إشكالية التجربة وحداثة الرؤيا
... 1- إشكالية التجربة
أ-المفهوم اللغوي لمصطلح (تجربة)
ب- مفهوم التجربة في التنظير العربي المعاصر
- مفهوم التجربة عند بدر شاكر السياب– مفهوم التجربة عند أدونيس
- أحمد عبد المعطي حجازي- يوسف الخال- عبد الوهاب البياتي - صلاح عبد الصبور.
... 2-حداثة الرؤيا:
أ الطرح الحداثي لتجربة المدينة
ب نشوء المدينة العصرية المعقدة
3- مرفولوجية المدينة ومعمارية الشكل الشعري الحديث 4- غموض التجربة الحديثة (الغموض الدلالي وتناقض المواقف):
أ- فوضى الحداثة صورة لواقع مجتمعي مضطرب
ب- شعرية المدينة كتجربة إبداعية عربية أصيلة
ج- المدينة كتجربة حياتية
د- الكيان المادي للمدينة
4- نسق العلاقات الإنسانية في مجتمع المدينة :
- فلسفة القوة والقهر الاجتماعي والسياسي
أ-فلسفة القهر الاجتماعي
ب-فلسفة القمع السياسي
أ-إشكالية التجربة وحداثة الرؤيا:
1- إشكالية التجربة:
أ- مفهوم المصطلح (تجربة) لغويا
__________
(1) - أنظر : م . س، ص 18-19.(1/164)
يشكل غياب الحديث عن مفهوم التجربة – في الثقافة العربية بمختلف عصورها – على مستوى التنظير فراغا رهيبا، كما أنه ينبئ في الوقت ذاته عن تقصير غير مبرر، يحتاج إلى دراسة موسّعة ليس هذا مجالها. فرجوعا إلى البدايات، إلى العصور العربية الموغلة في القدم . وتحديدا العصر الجاهلي – الذي هو عصر البداية الفعلية في ثقافتنا العربية أو على الأقل ما وصلنا منها – لا يكشف لنا عن أدنى حديث عن التجربة.
وعودة إلى معجم عربي جامع هو (لسان العرب) يبين لنا مدى محدودية ومحصورية لفظ التجربة وضيق حوضها الدلالي(1): فما جاء في هذا المعجم : "وجرّب الرجل تجربة: اختبره، والتجربة من المصادر المجموعة (...) ورجل مجرّب قد بلي ما عنده، ومجرّب قد عرف الأمور وجرّبها، فهوبالفتح، ومضرّس وقد ضرّسته الأمور وأحكمته، والمجرّب مثل المجرّس والمضرّس والذي جرّسته الأمور وعُرِف ما عنده".
فالحوض الدلالي كما نرى محصور وضيق، ذلك لأن التجربة كاختيار ومخاطرة لا تشع في ثناياه؛ فالاقتصار كان على المعاناة والمعرفة (2)لا غير.
__________
(1) ينظر : محمد بنيس : الشعر العربي الحديث بنايته وابدالاتها، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1990، ص 235-236.
(2) وهما من خصيصات التجربة لا كلها.(1/165)
ولا شك أن غياب الحديث عن "التجربة" في حقل الثقافة العربية القديمة، يعد في حد ذاته إشكالية مطروحة على العقل العربي المعاصر، واجب عليه خوض غمارها. وإذا كانت الإشكالية في أحد معانيها رديفا للأزمة "بوصفها نقطة الانعطاف الحاسمة التي تنطوي على نبوءة مضمرة، ترهص باستقطاب نحوالأفضل أو الأسوأ "(1)فهل يعني هذا أنه يصدق علينا قول بعض الباحثين "إن أمة لا تقدر أن تسهم في إغناء الفكر العالمي المعاصر، لن يتاح لها أن ترقى إلى المعاصرة الحضارية، والإغناء لا يتم بالنقل والتمثل، بل بالمشاركة في الإكتشاف، والجهد في العمل المتقصي...والمبادرة الفردية على مستوى الفكر والتحليل"(2)؟
إن الواقع العربي على مختلف مستوياته – التكنولوجية والعلمية وحتى الفنية- يؤكد هذا تماما، إذ أن التبعية هي السمة البارزة في معظم توجهاتنا وغياب التجربة الأصيلة أصبح أمرا واقعا لا مواربة فيه . ولكن لندع هذا جانبا ونتساءل ما الأسباب الداعية إلى الإحجام عن الحديث عن التجربة في ثقافتنا؟ .
نعتقد أن أسباب ذلك تعود –بإيجاز- إلى ما يلي:
- اعتبارها مسلمة من المسلمات
- الخوف من المغامرة والتجريب والخروج عن المألوف
- الكسل الذهني
- غياب ديمقراطية الفكر، والتشجيع والاهتمام والرعاية اللازمة، وحضور الإرهاب الفكري، والتوجيه السلطوي؛ بحيث تغدوكل تجربة جديدة مخالفة لما هو سائد ومكرس من قبل السلطة، أمر غير مرغوب فيه، بل تجب تصفيته ودحره وتغييبه.
__________
(1) 2 – خلدون الشمعة : الشمس والعنقاء، دمشق 1974، ص 51.
(2) 3 – د/ كمال أبو ديب: جدلية الخفاء والتجلي، دار العلم للملايين، بيروت ط1، 1979، ص 21.(1/166)
ولكن يبدوأن هذه الأسباب – ومع بروز فئة طلائعية ونخبة نهضوية هدفها تحرير المجتمع وتخليصه من قيوده: التراث، والقمع السلطوي- لم يعد لها من مبرر في البقاء أو الفاعلية. لذلك وعلى الرغم من هذا الغموض والشح في عرض مفهوم التجربة في تراثنا القديم عربية وإسلامية- على عكس سعة مفهومها ووضوحه في الأدب الأوربي-(1)، وحتى لا تتعمق الأزمة وتتراكم مطباتها في ظل هذا الغياب التنظيري، وحتى لا يصدق علينا قول الباحثين السابق(2)، بادر بعض شعرائنا إلى الإفصاح عن سمات تجاربهم وخلفياتها، وبيان مدى أهميتها في النص الإبداعي واغنائه .
ب- مفهوم التجربة في التنظير العربي المعاصر:
إنّ الغياب المحبط للحديث عن هذا المفهوم،-الذي أسلفنا الإشارة إليه- ومحاولة استجلاء مكنوناته على مستوى النقد الجديد، يتجلى بصفة خاصة في كون" أن الكتابات النظرية والنقاشات النقدية في العالم العربي الحديث، خلطت أحيانا بين التجربة والتجريب، وأحيانا أخرى تغافلت عن تأمل مفهوم التجربة"(3). فعلى الرغم من أن الخوض في مفهوم التجربة كان حاضرا على المستوى الشعري، إلا أن غيابه على المستوى النقدي التنظيري كان شبه كلي، وإن حضر فلا يُعدم من تشويه يلحقه، واختلاط يكتنفه، يتساوى في هذا الأمر نقود الخمسينات والستينات وحتى الثمانينات، على حد علمنا.
ولعل هذا الغياب هو الذي يجعل تساؤلنا حول مفهوم التجربة وحقيقتها أمرا مشروعا، كما يحفزّنا على محاولة اكتناه مكنوناتها، وعلى المغامرة في استقصاء حيثياتها –على الرغم من علمنا بخطورة المغامرة وكثرة مزالقها نتيجة انعدام الأطر المرجعية، والبحوث التأسيسية – كما سبقت الإشارة.
__________
(1) 1 – ينظر : محمد بنيس: م. س، ص 237-238.
(2) 2 – ينظر : الهامش رقم 3 من الصفحة السابقة.
(3) 3 – محمد بنيس، م. س، ص 234..(1/167)
وفي ظل هذا الوضع، لا نملك إلا التركيز – في حدود ما بين أيدينا- على نماذج من الخمسينات والستينات على بعض التصريحات التي تفضل بها بعض الشعراء، وردت فيها كلمة " التجربة والتجارب"، ربما عفوا ودون ما تمييز واع أحيانا، حسبما تبدى لنا . وأحيانا أخرى يكون التصريح بها نابعا عن وعي كبير بأهميتها وقيمتها...
1- مفهوم التجربة عند بدر شاكر السياب
ولنبدأ ببدر شاكر السياب، فالسياب الذي اُبتلِي بما لم يبتل به غيره من شعراء العربية في العصر الحديث من مرض مزمن قيّد حريّته، وحدد مجال حركته. أدرك أن التجربة ضرورة ملحة ومهمة في عملية الإبداع الشعري وتصاعد نموه وتجدده الإبداعي، يتجلى هذا بصفة خاصة في تلك الرسائل الحارقة، الشاكية، التي كان يتبادلها مع أصدقائه، نقتصر على ثلاث منها، وفي حدود المتوافر:
أ- ... ففي رسالة إلى سيمون جارجي يقول: "إنتاجي الشعري، في هذه الأيام، قليل جدا وذلك لانعدام تجربة شعرية جديدة، إنني نادرا ما أغادر الدار إلا إلى مقر عملي، كما أني سئمت من الضرب على وتر "أنا مريض" فما أُكثِر من شعر"(1).
ب- ... وفي رسالة إلى الشاعرين آمال الزهاوي ونعوس الراوي:"أكثر ما يضايقني في مرضي إنه صيّر ني رهين محبس البيت لا أغادره بعد عودتي إليه من الدائرة القريبة كل القرب من داري والمجهزة بسيارات تنقل موظفيها، وإذا كان الأمر كذلك فمن (أين) تأتي التجارب لكتابة قصيدة جديدة"(2).
__________
(1) 1 – ماجد السمارائي: رسائل السياب، ص 179 نقلا عن محمد بنيس : الشعر العربي الحديث: بنياته وابدالاتها، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط1 1990، ص 235.
(2) 2 – م. ن، ص . ن.(1/168)
جـ- ... وفي رسالة إلى جبرا إبراهيم جبرا: "لا أنقطع عن كتابة الشعر، إنه العزاء الوحيد الذي بقي لي ... المشكلة مشكلة تجارب. من أين تأتى التجارب الجديدة وأنا أعيش على هامش الحياة؟ "(1).
نفهم من قول السياب – المُلحّ على حاجته الشديدة إلى التجربة – إن الشعر الأصيل يحتاج إلى تجارب متعددة، تلزمها تحركات ومعاملات مع الناس عديدة، لأنه بمقدار ما يخوض الفنان تجارب جديدة، وبمقدار ما يتعامل مع الناس، بمقدار ما يتفّهم واقعه، وبمقدار ما يتقن لغة الحياة ويتفهمها، ويكتنه أسرارها ويحيط بها،تغتني جمالية اللفظ عنده وبالتالي الزّخم الإبداعي لديه، عبر هذه المعايشة والمعاناة، بقدر ما تتأصل تجربته وتزداد اغتناءً وعمقاً، وتتسع آفاق مداركها وأبعادها الفنية. وتفجر طاقاتها الإبداعية؛ فهو إذ يشكو قلة التجارب، إنما يقصد قلة إنتاجه، فلا شعر متميز بدون تجربة ذاتية تندغم في التجربة الكلية، إذا أنه لا يمكن إضافة الجديد إلى الإنسانية، ولا يمكن إنقاذها من الفوضى واللا معنى المتفشية في شعر اللا تجارب، ولا يمكن إعطاؤها شكلا من أشكال الوجود، إلا بالتجربة الأصيلة الناتجة عن المعاناة الحقيقة والمعايشة الفعلية...
2- أما يوسف الخال فإنه يتناول مفهوم القصيدة الجديدة والخصائص الملازمة لها، في دراسة له، بعنوان(علامات في مسيرة الشعر) فيأتي على ذكر التجربة في الخصيصتين الثانية والثالثة فيقول:
"ثانيا-استخدام الإيحاء التاريخي أو الأسطوري أو الفلكلوري، فمن شأن هذا الإيحاء أن يعمق الفكرة ويساعد على إبراز البعد الثالث في القصيدة، وأن يعين الشاعر على التعبير حيث تعجز الكلمات وحدها عن ذلك وأن يظهر التجربة الإنسانية وتراكمها عبر التاريخ.
__________
(1) 3 – م.ن، ص.ن، وأنظر ايضا : جبرا ابراهيم جبرا: النار والجوهر، دراسات في الشعر (مرجع سابق)، ص 69.(1/169)
ثالثا- التعبير بالصورة الحية المجسّدة لتقريب التجربة الشعرية من الواقع وتحريك مشاعر القارئ كلها، لا عقله فقط، وهويُكسب القصيدة حركة وغنى ويؤنس الفكرة، أي يجعلها كيانا مستقلا "(1).
وعلى هذا نستطيع القول مع محمد بنيس إن "سعي يوسف الخال للتعبير عن "التجربة الإنسانية" وبلورة "التجربة الشعرية" أو حاجة بدر شاكر السياب إلى "التجارب" الخارجية واهتمامه بالاستمرار في إنجاز"تجربة" شعرية جديدة، تفيد كلها أن مفهوم التجربة يتحول إلى مفهوم نظري في الشعر المعاصر"(2)، ومن ثم فإنّ الغوص في غياهب مفهومها، والحفر في جدران الصمت المحيطة بها، يصبح ضرورة لازمة.
فالتجربة هي روح القصيدة، وبدونها ليست القصيدة – إن هي استحقت هذا الاسم- سوى جسد مسجّى على فراش الموت، فارغا من الروح. والتجربة في شموليتها تفترض بإلحاح نظرة شمولية لها أيضا، لأن التجزيء يفقدها رونقها ويفرغها من محتواها، ويشتت طاقتها، كما أنه يضعف شحنتها التعبيرية وفاعليتها الخلاقة، التي أكدها الشاعران فيما سبق. هذا إضافة إلى أنها اختمار مفعم بالمعاناة، يتضمنه جوهر عملية الإبداع، ويكشف عنه، وليست كما يعتقد البعض، هذيانا أو بناء متراصا من الألفاظ العدمية، أو عالما من الدوال العديمة المعنى.
__________
(1) 1 – يوسف الخال: الحداثة في الشعر، نقلا عن: مجلة الآداب، الصادرة سنة 1966، نقلا عن محمد بنيس: الشعر العربي الحديث: بنياته وابدالاتها، ص235.
(2) 2 – محمد بنيس، الشعر العربي الحديث ص 235.(1/170)
ونعتقد جازمين ألا شعر أصيل بدون تجربة، وأن لا تفرّد بدونها، فالتفرّد في التجربة يخلق التفرّد في اللغة والتركيب وحتى الإيقاع، فتجربة متفردة لابد من أن تخلق لغة متفرّدة وإيقاعا متفرّدا(1)، ولعل النجاح الذي حققه الشاعر أدونيس (علي احمد سعيد) –وسنأتي على ذكر رأيه حول مفهوم التجربة- في كثير من أشعاره وبخاصة المتأخرة منها يُعزَى في كثير من ملامحه إلى هذا السبب، أي إلى إدراكه ضرورة توافر التجربة في العمل الشعري، وضرورة فرادتها. وربما -أيضا- يرجع نجاح السياب في رائعته "أنشودة المطر" إلى أنها "تجربة شعرية عاش مضمونها الشاعر، وحمل طيّاتها عالمه الخاص بتعقده، وعالم جيكور بواقعيته، فأتت القصيدة صورا ناطقة بمخزون حياة معذبة"(2). فالتجربة -كما هو واضح – صِنو الهمّ التشكيلي أو حامل خبرات الشاعر التشكيلية المحوَّرة في الحياة، وهي لا تتكشف إلا "من خلال عملية جدل الإبداع بين الشاعر وتجربته التي تتخلّق عبر التفاعل"(3)، وأصالة هذه الأخيرة لا يمكن لها أن تتحقق إلا عندما تتلاءم مع التجربة الحياتية، لتتلاءم عند ذاك "الكلمة والفعل والحياة والقصيدة"(4)، كما حدث مع السياب .
__________
(1) 3 إنها صوت خاص غير مكتشف، كلماته غير مستهلكة، إنها الاكتشاف أو السبق إليهما.
(2) جمال زعيتر : "أنشودة المطر"، واقع وثورة، العرب والفكر العالمي، ع3، صيف 1988، ص 134.
(3) محمد بدوي: الجحيم الأرضي : قراءة في شعر صلاح عبد الصبور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص 137.
(4) إيليا حاوي : قراءة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر، ع26، ص 35 .(1/171)
ومن المؤكد أن التجربة الشعرية لا تُستنفد قط، ذلك أن الشاعر ينالها "أقساطا وبلّغا"(1)، عبر أشعاره، بل ودواوينه إن وجدت، حتى وإن كان الاعتقاد السائد هو أن "التجربة الشعرية قالت نفسها مرة واحدة لا تقبل التكرار في قصيدة محدودة(2)". فالأصح –في اعتقادنا- هو أن التجربة شمول، أو احتواء لمسيرة شعب ووطن، بل كون وإنسانية، ففيها ينمحي ما يسمى في بلاغة النقد القديم بالغرض لـ"تصبح الحياة بجميع مفارقها موضوعها الرئيسي"(3)، ولذلك كانت أنشودة المطر، بمضامينها وتجربتها الشعرية لدى السياب "هي أكبر من مجرد التطهر الذاتي، بل هي تكابد اخفاقات التجربة العاطفية والذهنية والسياسية لجيله كإخفاق ذاتي. والواقع أن عُقد هذه التجربة برمتها نجدها في شعره على نحوصارخ ومتمرد ومستفزّ بحس المأساة في كل شيء"(4).
__________
(1) م. ن، ص.ن.
(2) د / محمد الزايد: فلسفة تقرأ شعرا، الفكر العربي المعاصر، ع 10، شباط 1981، ص 37.
(3) محمد لطفي اليوسفي: في بنية الشعر العربي المعاصر سراس للنشر تونس 1985، ص 40.
(4) محمد جمال باروت : مقاربة للبنيات الجمالية – الشعرية في الخطاب الشعري الحديث في سورية، الموقف الأدبي، ع193/194، أيار، حزيران 1987، س17، ص 92.(1/172)
ونعتقد أن سر شمولية هذه القصيدة وتفرّدها، وتألقها، يكمن في غنى صورها وكثافة رموزها، وغموض تشابيهها واستعاراتها، وتفريعاتها وتراكماتها وتعدد توقيعاتها، وما كان ذلك إلا لأن الشاعر نزع فيها بجرأة نحوالتجريبي الذي هو ضد المثالي، مواز له أو مناقض له، وهوالمغامرة وعدم الاكتفاء الحاصل والمتعيّن، والمضاء قدما نحو( الما يمكن )أو(الما يجب) أن يكون، إذ أنه لم يكتف بالوصف أو التسجيل السطحي، الذي كان أمرا واقعا في التراكم الشعري المسبق، بل وحتى في شعره هو ذاته قبل انبثاق إبداع هذه القصيدة. لقد أدرك، بأنه ليس المطلوب هو الوصف بحد ذاته وإنما تجاوزه، سواء على صعيد التعبير أو الإيقاع أو الرمز ...، وهوما فعله بذكاء نادر وصدق بيّن، إضافة إلى انه أدرك أن الجِدة واجب إبداعي وحياتي، وأن كل جديد إنما يقوم في الأساس –كما يعبر (أبولينير )- على "الحس السليم والتجربة اللذين يدفعان بنا إلى عدم قبول الأمور والمشاعر، إلا حسب الحقيقة، ومن هذه الحقيقة تنبع المفاجأة، لأنها تأتي بعكس ما هو شائع، عادة... ويكفي أن نكشف عن هذه الأمور حتى نسبّب المفاجأة "(1) .
ومحاولة منا مفهمة التجربة، واستقطاب رؤية شعرائنا لها اكثر، لا يجمل بنا في هذا الصدد إلا التعريج على ما قاله أدونيس .
3- مفهوم التجربة عند ادونيس:
__________
(1) بدون ذكر المؤلف: منظري الرأي في الشعر عبر التاريخ، الفكر العربي المعاصر، ع10، شباط 1981- ص: 104.(1/173)
يعزوأدونيس سبب غياب الحديث عن "التجربة" في حقل الثقافة العربي، وبروز ما يشبه التواطؤ حول تناسيها، إلى طبيعة المناخ الثقافي العربي المتسلط، القامع، لكل ما هو تجريبي، حيث يقول إن "هناك شبه إجماع في الذوق الشعري عندنا، على تجاهل التجربة، بمعناها الحقيقي الفذ. فأنت شاعر ليس لأنك تعبر بصدق عن تجربتك، بل لأنك تعبر عن مجموعة التجارب المشتركة والمتوارثة، ويقل حظك من الشعر بقدر ما تعمق تجربتك وتتفرد .ربما سمّاك، وقتئذ، أصحاب هذا الذوق مجنونا، أو شاذا إذا أرادوا أن يتلطفوا، وما أكثر ما يعبر عنهم قول أندريه جيد "... ينهون حياتهم دون أن يعانوا شعورا صادقا حيا، يتخيلون أنهم يحبون ويتألمون. إن موتهم ذاته تقليدي. "هذا المناخ الثقافي هو ، بعامة مناخ العرب كلهم، فهناك مقاييس مشتركة تفرض ذاتها بقوة كأنها قوة التمائم والتعاويذ، وحين يحاول شاعر التجربة أن يتغلب عليها، أن يرفضها، يُرمى بالضلال والسقوط. والحق أن شعراء التجربة في العالم العربي "ضالون"، "ساقطون"، لأنهم مغايرون وأفذاذا من هنا يجد شاعر التجربة نفسه مجزأ نفسه بين إرثه وطبيعته، بين اعتبار الشعر شبيها بالحذاء والقميص، يُفصّل بطريقة نموذجية واحدة تقريبا، واعتباره شبيها بموجة أو غيمة أو أي شيء آخر لا يخضع لغير قوانينه الداخلية، الخاصة.
أن نرفض التقليد الموروث ونتجاوزه لنصل إلى طبيعتنا ونفسنا، أن نمزق الغطاء الكثيف الذي يغلق عيوننا، أن نطرح المعمم والسائد، كما نطرح لباسا مهترئا – ذلك جزء عظيم من رسالة الشاعر الجديد، رسالة الشاعر التجربة"(1)، هذا هو رأي أدونيس في التجربة وفي أهميتها وفي مدى ما تضيفه إلى العمل الشعري الأصيل والمتفرد، عرضناه كاملا قصد الإلمام برأي أحد الشعراء الأفذاذ المكثرين تنظيرا وإبداعا، ونؤثر ألا نعلق عليه لأنه أو ضح من أن يحتاج إلى ذلك.
__________
(1) أدونيس (علي احمد سعيد): زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط2، ص: 150-151.(1/174)
4- أحمد عبد المعطي حجازي:
أما أحمد عبد المعطي حجازي، في حديث له في ملحق لصحيفة الجمهورية العراقية، فإنه يقول حول إشكالية التجربة : "هذا التاريخ الشعري طرح عليّ جملة إشكالات ... بعلاقتي باللغة والتراث الشعري، وواقع الشعر والقصيدة "(1) .
5- عبد الوهاب البياتي:
أما عبد الوهاب البياتي فإنه يتحدث بخصوص تجربته الشعرية عن محاولته التوفيق بين ما يموت ومالا يموت، بين المتناهي واللامتناهي، بين الحاضر وتجاوز الحاضر(2).
6- صلاح عبد الصبور:
ويتحدث عبد الصبور عن محاولته "إعطاء القصيدة عمقا اكثر من عمقها الظاهر، ونقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري"(3).
هذه هي آراء بعض شعرائنا في مفهوم التجربة وإشكاليتها، وكما هو واضح، فإن الحديث عن التجربة الشعرية نثرا أمر ممكن كما رأينا... ولا شك أن هذا التوضيح الذي أتوا به، يبدوكافيا مبدئيا، لأنه استطاع أن يملأ بعض الفراغات، وأن يجلو– ولونسبيا – بعضا من ملامحها ويزيح عنها ذلك الضباب الذي يكتنفها، كما استطاع أن يوضح بعض معالمها وفاعليتها في القصيدة المعاصرة.
__________
(1) الجمهورية العراقية، ع/8/1979، نقلا عن : محمد اسعد : إشكالية التجربة الشعرية، الفكر العربي المعاصر، ع10، 1981، ص 30 (الهامش).
(2) انظر عبد الوهاب البياتي : تجربتي الشعرية، الأعمال الكاملة، بيروت 1979، 2/ 46.
(3) صلاح عبد الصبور، حياتي في الشعر، الأعمال الكاملة، بيروت 1977، ص 183.(1/175)
ولكننا – مع هذا كله ومن خلاله- نعتقد أن الاقتصار على ثلة من الشعراء أمر غير كاف، وكذلك التظير والتعليل وحده لا يكفي، ولذلك فليس لنا من بد سوى محاولة تبين ملامحها، والكشف عن أسرارها وماهيتها في الأصل، أعني في العملية الإبداعية نفسها، عبر تقصي النصوص الشعرية المعاصرة - وهذا من خلال تجربة الشاعر مع المدينة-، ونحن إذ نقرر هذا، فإننا نشعر بصعوبة العملية وقلة مردوديتها، ذلك لأن كل حديث عن التجربة الشعرية خارج إطارها الإبداعي الشعري، لا يعدوأن يكون "مقاربة تستعرض مؤثرات بيئية تربوية مجتمعية تاريخية ثقافية منحت الرؤية الشعرية بنيتها المضمونية، التي تحولت إلى مضمونية جديدة، أي واقعية الواقع تحولت إلى واقعية شعرية، بتوسط الفعل المبدع للشاعر، المعطى أصبح شعرا"(1). ذلك لان الإبداع هو حركة من الداخل على الخارج بينما الحديث عن التجربة الشعرية الإبداعية هو حركة من الخارج باتجاه الداخل للكشف عن أسراره ومكنوناته. وهنا تكمن الصعوبة في كل حديث عن التجربة خارج إطارها، أو بعبارة أو ضح من غير صاحبها؛ فإذا كان حديث الشاعر عن تجربته يعد أمرا سهلا، أو أقل صعوبة . فإنه بالنسبة إلى غير الشاعر- أي بالنسبة إلى الباحث الموضوعي- أمر بالغ الصعوبة، ولكن هذا لا يمنع من الاجتهاد والبحث، ومحاولة الكشف عن بعض ملامحها وتحديد أطرها.
ولكن حتى وإن كان من السهولة بمكان أن يتحدث الشاعر عن تجربته، إلا أن هذا لا يمنع من إعطاء بعض الآراء حول هذه الأحاديث، وتوجيه بعض النقود لها، في حدود الممكن.
__________
(1) د / محمد الزايد : فلسفة تقرأ شعرا، الفكر العربي المعاصر، ع10، شباط 1981، ص 73.(1/176)
فبعض تلك الأحاديث-كما تبدى لنا- عجلى، لا يمكنها أن تصل إلى لبّ التجربة وأن تبلغ عمقها، فهي في أحسن الأحوال لا تعدوأن تكون –هي الأخرى- مجرد مقاربة سطحية، أو جزئية، لا تتمكن من القبض على مفاصل التجربة وحقيقتها الصميمية، ذلك لأن التجربة أشمل وأعمق من أن تُتَناول في أحاديث جزئية أو من خلال نظرة أحادية الجانب.
فأدونيس -مثلا- في الفقرة السابقة، وفي غيرها من آرائه المتناثرة في ثنايا كتبه التنظيرية، تُقصر التجربة على جانب واحد، يركّز عليه ولا يبغي غيره- هو الحرية، "فتجربة الإبداع لديه هي نفسها حرية الصوفي في أحواله ومقاماته، أي الإنفلات من كل شرط تاريخي"(1)، هذا في حين أن مفهومها لدى حجازي ينحصر في علاقة الشاعر مع التراث والشعر وواقع القصيدة. أما يوسف الخال فإنه يُقصرها-كما رأينا- على إشكاليات سطحية تنحصر فيما أسماه باللغة الفصحى واللغة المحكية (العامية) مرجحا هذه الأخيرة، معلّقا عليها -بسذاجة- آمالا كبرى في تطور المنحى الشعري العربي المعاصر... أما عبد الصبور والبياتي فيبدوأن في رأييهما كثيرا من الصواب-على ما نعتقد- لأنهما أشمل .
__________
(1) محمد الأسعد : إشكالية التجربة الشعرية – الفكر العربي المعاصر (مرجع سابق)، ص 30. من الهامش، وانظر أيضا كتاب أدونيس: (صدمة الحداثة)ج3، من الثابت والمتحول.(1/177)
فالتنظير المختزل، والفهم الأحادي، يفقد الفعالية الشعرية كثيرا من طاقتها الخلاقة، ويحدّ من دفقتها الحيوية؛ التجربة الشعرية هي نسيج متشابك من العلاقات؛ وإشكالية معقدة كونها تنبثق"من منظومة علاقات يحتل الشاعر مركزها باتجاه التراث والتشكيلة الاجتماعية والبيئة الطبيعية وتصبح هذه العلاقات مشكلة تتزايد أحداثها في الزمان كلما تراكمت التجارب الشعرية، وتنوعت إستقصاءات الشعراء بالتجاوز مع تطور التشكيلة الاجتماعية والمستوى المادي والمعرفي الذي بلغته"(1)، كما هو الحال في عصرنا هذا، وبذلك يصبح كل حديث آخر-مجتزئ- معتمد على جانب واحد مما سبق ذكره هو مجرد استعراض لمؤثرات عرضية لا تهم التجربة إلا من بعيد، كالبيئة والمجتمع والواقع وغيرها، لأنه "إذا كانت واقعية الواقع هي الكائن، فإن الواقعية المبدعة في الشعر وغير الشعر هي الممكن الحرفي الكائن"(2)، وعلى هذا فلا يمكننا تبين ملامح إشكالية التجربة، ومعرفة الطاقة الشعرية الخلاقة فيها إلا بإدراجها ضمن مخطط أو سع"هومخطط أساسيات الثقافة العامة، أي الوعي الكلي بالتجربة الإنسانية بوصفه تصورا لواقع تاريخي مؤسس على وجهة فكرية، بحيث يشمل هذا المخطط بالضرورة الأجهزة والمؤسسات التي تتوسط بين الشاعر والتجربة، وبين الشاعر والمتلقي والإطار الذي تتم به صياغة القيم الثقافية"(3). ولكن هذا المخطط لا يعلن عن نفسه بصفة مباشرة ويسيرة، ذلك أنه متداخل مع عدة فعاليات سياسية واجتماعية وثقافية، وشخصية تفعل جميعها في بلورة التجربة الشعرية وإنتاجها. ويمكن صياغة هذا المخطط على النحوالتالي(4) :
امحاء قمع
تمرد تشكيل
مشاركة عزلة غموض
قمع مشاركة
__________
(1) محمد الأسعد: م. س، ص 27.
(2) د/ محمد الزايد، فلسفة تقرأ شعرا، الفكر العربي المعاصر (مرجع سابق) ص 73.
(3) محمد الأسعد : إشكالية التجربة الشعرية (مرجع سابق )، ص 28.
(4) محمد الأسعد: إشكالية التجربة (م. ن)، ص 37.(1/178)
أساسيات خروج
هيمنة تقبل
سيطرة سلطة
تجميد و نفوذتمرد - رفض قمع
إعادة تكوين مصادرة
وهذا المخطط -كما هو واضح- شامل لكل الحقائق والأساسيات التي أتى على ذكرها الشعراء السابقون في الحديث عن تجربتهم، كالعلاقة بالتراث ووجوب التمرد عليه، والعلاقة بالقمع السلطوي وضرورة الثورة ضده، وتجاوز تدجينه، والمتلقي وضرورة مشاركته، وغيرها من الأمور الأخرى التي لا تنتج التجربة إلا في ظلها، متجاوزة إياها أو منكفئة تحت لوائها وخاضعة لتأثيراتها ...
ولن يتأتى الفهم الصحيح للتجربة الشعرية، ولن تدرك فعاليتها، إلا بالفهم المعمق لخصوصيتها "أي لعلاقاتها بتراثها الخاص، وبالإطار الثقافي وأساسياته، وطرق تأثيره في الوعي"(1) .
فالتجربة تتميز بخاصية الشمولية، لكونها لا تقول غرضا واحدا، وإنما تستوعب مرحلة كاملة، وعصرا كاملا، تندرج في خط تصاعدي تطوري متنام، ذي أبعاد جمالية ذات مرتكز حركي داخلي يكون بمثابة السند القوي للنص الشعري(الحداثي بصفة خاصة)، كما أنها تتميز بالثراء،والتألق والعطاء الثري، ولذلك فهي لا تكتفي بقصيدة واحدة، أو شاعر واحد، وإنما تنزع دوما إلى القبض على مكامن مرحلة شعرية كاملة –بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى- ومن خلال عدد غير قليل من النصوص الشعرية لشعراء متجايلين أو متلاحقين. ولذلك فلا يمكن أن تكتمل التجربة الشعرية، لظاهرة ما إلا عبر قصائد عدة، أو دواوين، بل ومرحلة بأكملها- وإن كان التقسيم الزمني تعسفيا.
__________
(1) - م. س، ص 28.(1/179)
إنها تشبه الدائرة التي لا تسمّى كذلك إلا باكتمال أبعادها وتحقق اكتمال دورتها، وإلا فهي ناقصة...إن التجربة هي النظر إلى الواقع من زوايا متعددة، وتعريته وفضحه بطرائق مختلفة . أما قصرها على جانب واحد ووحيد كالحرية أو اللغة، أو العلاقة بالتراث، فهي نظرات في مجملها قاصرة. ولعل أعدى أعداء فعالية حداثة التجربة الشعرية هو خضوعها التام للتراث، أو تمردها المطلق عليه، أو التعامل اللا واعي معه. ذلك لأنها –إن كانت على هذه الشاكلة- ما تلبث أن تغدوتنميطا جاهزا يحد من مفعول الطاقة الخلاقة، لأن "التنميط دائما يميل إلى إلغاء حوافز ودوافع أي ممكنات لرؤية مرتبطة بوجودنا في الآن المعاصر"(1) .
وإنه ليصدق القول بأنها نتاج لحظة وعي نابض بالحقيقة الإنسانية بكل تجلياتها وفي شمولية وجودها، ولذلك أو سع من أن تحصر في جانب واحد من جوانب الوجود الإنساني، أو العلاقة بالتراث، أو العلاقة بالدولة، أو العلاقة بالأفكار، دون تفهم جميع المعطيات وعلاقة أجزاء بعضها ببعض، مندرجة في الإطار الكلي للوجود الإنساني ضمن السياق التاريخي، والتاريخي الثقافي –الاجتماعي، فبدون الإحاطة الشاملة بأساسيات المخطط، ستفرغ التجربة من محتواها الخلاق وطابعها الثوري الطموح، وتغرق في الشكلية والزيف والتصنع والابتسار.
وبعد، فكيف إذن كانت تجربة شعرائنا المعاصرين، عموما، ومع المدينة خصوصا؟ وكيف كان طرحهم لها في إطار الحداثة؟
2- حداثة الرؤيا:
أ- الطرح الحداثي لتجربة المدينة:
نؤكد –بدءا- أن تجربة المدينة لا تنفصل عن غيرها من التجارب الأخرى التي تسهم في صنع توليفتها وبناء تركيبتها، كالحزن والاغتراب والقلق وغيرها من ملامح العصر، وإن نحن حاولنا إبرازها هنا منفصلة، فإنما لغرض منهجي بحت لا غير.
__________
(1) - م. س، ص 29..(1/180)
انطلاقا من الموقف العربي الأصيل- الذي رأينا بعض جزئياته في مواقف شعرائنا من المدينة في التراث القديم والنهضة- الموقف الواثق من نفسه الذي لا يتضخم من الذات، ولا يتقزم أمام الآخر، نحاول رصد ملامح حداثة التجربة كما استطعنا فهمها من خلال قراءتنا المتأملة لكثير من القصائد المعاصرة، ومن خلال البيانات التنظيرية الراصدة لها.
فإذا كانت التجربة في الشعر القديم وحتى عهد الأحياء –الإطار السلفي- لا تكاد تتخلص من ضيق الأفق، ولا تكاد تتجاوز مساحة الصورة البسيطة المبنية على تقنيات البلاغة القديمة، فإن التجربة الجديدة(الحداثية) تختلف عن ذلك تماما، نتيجة عوامل عدة سنتبين بعض معطياتها من خلال العرض اللاحق.
تكاد التجربة الحداثية-في مجملها- تقوم على أساس الصراع ضد التحضر والتمدن. لكن، لا في جوانبه الإيجابية، بل في جانبه السلبي الحامل لرموز التفسخ، وتقطع وشائج العلاقات الإنسانية وتشيئها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعمل على التخلص من هيمنة النظرة التراثية للأمور .
ولما كانت تجربة معينة تصدر نمطا من التعبير معينا، ونهجا من الرؤية متميزا، فإن طبيعة طرح تجربة المدينة في القصيدة المعاصرة، أتت مختلفة عن نظيرتها في التراث العربي القديم، وإن كانت تمتح منها في أحايين كثيرة. لكن بإضافات جديدة، وبلورة مختلفة؛ أي أنها تمتح من التراث، في الوقت الذي لا تنقطع فيه عن الواقع المحيط بها، أو بالأحرى الذي تعيشه، بما فيه من ثقافات وافدة ؛ على اعتبار أن الإبداع"مشروع حرية شمولية، وإلا أصبح اغترابا جديدا مضاعفا إذا بقي ناقصا جزئيا"(1)، فهوليس محايدا...
__________
(1) - د/ محمد الزايد: فلسفة تقرأ شعرا، الفكر العربي المعاصر، ع 10، شباط 1981 ص 73.(1/181)
لاشك أن مفهوم التجربة الحديثة يطرح إشكالية جد مستعصية، ولكنها صميمية في الآن نفسه، وذلك ليس لأنها ذات كمّ تراكمي فحسب –تنهل من ينبوعين ثريين : التراث، والوافد من الغرب- بل لأنها حلمية شفيفة، وأيضا صوفية، تنبئية، متجددة دوما، وذات سيرورة حركية مشرئبة نحوالمستقبل، لأنه "ليس هناك شيء اسمه تجربة شعرية في وضع الانحدار الاجتماعي، وإنما هنالك الماضي الشعري المستعاد مع كل شاعر جديد "(1).
__________
(1) - محمد الأسعد : إشكالية التجربة الشعرية (مرجع سابق)، ص 30.(1/182)
ونحن نؤمن بأن الموضوعات وحدها لا تصنع "الحداثة الشعرية" لأنه قد "تكون الموضوعات حديثة ولكن أسلوب تناولها يتم عبر الأنساق التقليدية"(1) ولذلك نعتقد أن الحداثة الحقة "إنما تلتمس في الأدوات المعززة بالرؤى والمواقف التي تكتشف أستار الواقع وحجبه، فتعري زيفه ومتناقضاته، وتغوص في أعماق النفس فتعرى الإنسان وموقفه وقضاياه وإشكالاته مع العالم "(2). ولقد أدركت القصيدة العربية المعاصرة-التي هي قصيدة الرؤيا قبل أي شيء آخر – هذا الموقف وتمثلته، وذلك حينما أدركت أنها في عصر من سماته التغّير المستمر، والتجدد الدائم. فأخذت على عاتقها هذا العمل العظيم- التجريب والتجديد- والخطير في الآن نفسه، أخذته في شكل مرن يتلاءم مع مضامين رؤيتها، ويستطيع إحتواء إشكالات عصرها المعقد وتجاربه الشائكة والجديدة. ذلك لأن الشكل هو "الإطار الذي يضم هذه التجربة الجديدة في الرؤيا للحياة التي تستلزم تجاوزا للشروط الشكلية، ومزيدا من الحرية لأشكال تفرضها الممارسات الشعرية باعتبارها تتجه نحواكتشاف ما لم تسبق معرفته"(3) . محاولة في ذلك بلورة تجارب شعرية أكثر جدة وأكثر ثورية، وذات بعد عالمي، من حيث الصفة، بل وعالمي من حيث المستوى أيضا (4) .
__________
(1) - عبد الله احمد المهنا : الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، ص 30.
(2) - م.ن، ص.ن.
(3) - م. س، ص 26، وينظر ايضا : ادونيس : زمن الشعر ص 17.
(4) - ينظر: يوسف الخال: الحداثة في الشعر، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1978 ص 14.(1/183)
وبناء على ذلك أصبح ينظر إلى المدينة – وعلى الأخص في التجارب الناضجة – لا على أساس المقارنة بينها وبين الريف كما هو الشأن في النموذج الرومنسي، بل كإطار حضاري، يصب فيه الشاعر رؤاه، ويعبر فيه عن موقفه من الحياة في عالم يتغير باستمرار ... ويعبر فيه عن رؤيته للوجود في كون مأزوم، يُستقطب بالرؤيا والحلم، ويتداخل فيه الرمز بالأسطورة، والواقع بالمثال. ويلهج فيه بلغة الحياة اليومية، ذات الطبيعة الساخرة حينا، والتحذيرية أحيانا أخرى. ذلك لأن الشاعر هو راءٍ - يرى أكثر من غيره – ونبي يصدع بالحق ويبتغي انتشار العدل، ولا يتوانى في تحذير قومه مما قد يهلكهم :
قلت : فليكن العدل في الأرض، عين بعين وسن بسن.
قلت : هل يأكل الذئب ذئبا أو الشاة شاة ؟
ولا تضع السيف في عنق اثنين: طفل ... وشيخ مسن
ورأيت ابن آدم يردي ابن آدم يشعل
في المدن النار يغرس خنجره في بطون الحوامل
يلقي أصابع أطفاله علفا للخيول، يقص الشفاه
ورودا تزين مائدة النصر ... وهي تئن
أصبح العدل موتا، وميزاته البندقية، أبناؤه
صُلبوا في الميادين أو شُنقوا في زوايا المدن
قلت : فليكن العدل في الأرض لكنه لم يكن.
أصبح العدل ملْكا لمن جلسوا فوق عرش الجماجم بالطيلسان –
.......... الكفن
ورأى الرب ذلك غير حسن(1)
__________
(1) - أمل دنقل: الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت 1985، ص 269.(1/184)
تمتح القصيدة رؤاها من مصدرين مختلفين بل ومتناقضين؛ العدل في المفهوم الديني، والعدل كما هو في الواقع المعيش، فإذا كان العدل في المفهوم الديني الوارد في النص بصيغة الماضي ( قلت ) الواقع في دائرتي الأمر والنهي اللتين هما من خصيصات التبليغ النبوي، المرتبط دلاليا مع الحاضر القمعي الذي يجب أن يغير، والمشرئب نحو المستقبل الذي يجب أن يكون كالماضي عدله حقيقي حيث (العين بالعين، والسن بالسن )، وحيث التجسيد الحقيقي لجوهر العدالة الإنسانية في الأرض، وانبناء علاقة الإنسان بأخيه الإنسان – بالرغم من تشابك العلاقات الشخصية – على مبدأ التآخي والرحمة والإيثار، إذا كان هذا هو مفهوم العدل في الموروث الديني كما جسده الخطاب الشعري، فإن مفهوم العدل في الواقع المعيش، لا ينطوي إلا على مفارقات حادة وتناقضات جلية، نتيجتها الحتمية هي غياب العدل، وانتشار الظلم وسيادة مبدأ الغاب، بل وأكثر من ذلك، فإذا كان الذئب لا يأكل ذئبا والشاة لا تأكل شاة، فإن الإنسان على النقيض من ذلك تماما، إنه يردي أخاه الإنسان، ويضرم النار في المدن، يبقر البطون، ويقصّ الشفاه، ... إلخ، والقصيدة تقابل بين زمنين: الزمن الماضي –زمن الذاكرة- والزمن الحاضر –زمن الواقع- محاولة من خلال ذلك تجسيد المفارقة العجيبة بين الزمنين، وهكذا ينشط "فعل الذاكرة فتلتقط التفاصيل البشعة التي يزخر بها الواقع الذي تحاوره، فتعريه تماما من خلال تلك الرؤى المتلاحقة التي تتغلغل في كل أجزاء القصيدة، لتكون في النهاية الدلالة المركزية التي تنطوي عليها دوال "العدل" في المفهوم الإنساني، لتتعارض فيما بعد على نحوحاد مع الدلالة الدينية للعدل"(1)، التي تصدرت مطلع النص.
__________
(1) - عبد الله احمد المهنا : الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، عالم الفكر (م س)، 1988، ص 39 .(1/185)
ولعل المساحة البيضاء المثبتة قبل نهاية النص –والتي أصبحت من أدوات التعبير كاللغة تماما، ومن جماليات التشكيل المكاني في النص المعاصر- تشير "إلى أن تناقضات الواقع الإنساني وصلت إلى أبعد من الحد الأقصى، وأن الطاقة التعبيرية تتوقف لعدم قدرة اللغة على رصد هذا العري الفاحش للإنسان. و"الكفن" هو المفتاح الذي يفسر أبعاد الدلالة الغائبة في المساحة البيضاء، التي تُرك أمرها لخيال متلقي النص "(1) .
وزيادة على هذه الأنماط التعبيرية الجديدة، وهذه الرؤى الثاقبة والثورية، التي تحاول تغيير الواقع، وتأسيس ما هو أفضل، فإن هذا الشعر –أعني الشعر المعاصر- أصبح يعبر عن قضايا إنسانية مصيرية، وفي الآن نفسه يعبر عن حيرة الإنسان الحديث وقلقه وتبرمه إزاء قضايا أزلية لا تزال تؤرقه، كما أنه "لا تزال تهمه حتى درجة الجزع ماهية العرب ومستقبل الحضارة العربية في عصر له صفات المأساة "(2) ؛ يتمظهر هذا الاهتمام في شكل حلم، حينما تعجز الذات عن تخطي الواقع المؤلم، وحينما لا تقدر على تحمل صدمة الفجيعة، متوسلة برمزية المدن القديمة محاولة بعثها من جديد، للتغلب على فجيعة سقوط المدن الحديثة :
أحلم أن في يدي جمرة
آتية على جناح طائر
من أفق مغامر
أشم فيها لهب هياكليّا
ربما لصور فيها سمة لامرأة
يقال صار شعرها سفينة
أحلم أن شفتي جمرة
قرطاجة العصور : كل حجر شرارة
والطفل فيها حطب – ذبيحة العصر
أحلم أن رئتي جمرة
يخطفني بخورها يطير بي لموطن
أعرفه أجهله
لبعلبك – مذبح
يقال فيه طائر موله بموته
وقيل باسم غده الجديد، باسم بعثه
يحترق
والشمس من رماد الأفق(3) .
__________
(1) - م.ن، ص.ن
(2) - محمد مصطفى بدوي: الشعر العربي الحديث بين التقاليد والثورة، عالم الفكر، مج19، ع 13، 1988، ص 98.
(3) - أدونيس: الآثار الكاملة، دار العودة؟، بيروت، 1971، ج1/251- 252.(1/186)
تزدحم القصيدة برموز الخصب (المرأة) والنجاة (السفينة) والرموز الأسطورية الدينية (النار : رمز التطهير الديني والتخلص من قيود المادة) ورموز البعث (الطائر الذي يحمل بشارة) – طائر الفينق الذي يحترق لينبعث من الرماد ثانية حاملا معه الحياة من جديد- والأطفال المُضحّى بهم كطلب لحياة أفضل. تتداخل هذه الرموز كلها وتتواءم وتتناسق في نسيج متشابك، لتعبر عن شيء واحد، ألا وهو حتمية البعث، وضرورة الاستيقاظ، ورفض الواقع الميت، ومحاولة تجاوزه، أو على الأقل بعث الروح فيه من جديد ...
فإلى أي مدى استطاع الشاعر العربي المعاصر أن يجعل من "تجربة المدينة" – بوصفها مضمونا شعريا عريقا في الذات الإنسانية- مظهرا حضاريا جديدا، ومتحررا من أغلال وقيود النظرة التراثية، وأصيلا، بمعنى متحررا من النظرة الغربية لها؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل الإشكالي، الذي نقصد من ورائه ربط موضوع المدينة شعريا، بالطرح الحداثي لها، تقتضي منا أساسا تحديد أبعاد الحداثة العربية مرتبطة بتجربة المدينة العربية-لا غير- وأشكال تطورها وأنواع تجلياتها في الخطاب الشعري المعاصر، ودواعي الاهتمام بذلك .(1/187)
فمن الملاحظ أنه "في العالم أجمع، تصطدم المجتمعات البشرية، في أيامنا هذه، بالمشاكل التي يفترضها التطور السريع للمعارف العلمية والتقنيات الناتجة عنها، ولنتائج أنماط التفكير والعمل التي تؤثر حتما ]في[ عيش الأفراد. ويبدوأن الناس، في كل مكان، يبحثون في المدن عن ظروف حياتية لا يجدونها في الحياة الريفية، حيث تفقد ذراع المزارع أهميتها أمام الآلات التي أصبحت ضرورية كأحد أشكال استثمار الأرض. غير أن هذا التطور يطرح"(1) على الإنسان عموما، والشاعر خصوصا، جملة من التساؤلات، تزداد حدة يوما بعد يوم، تبعا لشدة التطور وتسارعه المذهل. مما فرض أنماطا فكرية وإحساسية جديدة، وبالتالي أشكالا شعرية غير تلك التي كانت سائدة . وهوما نصطلح على تسميته بالتحديث، أو الحداثة.
وهي أنماط جاءت استجابة لظروف حياتية مختلفة، فرضها انهيار الريف، وتراجعه عن صنع الأحداث، ونشوء المدينة وبروزها كأهم مركز مُستقطِب.
ب- نشوء المدينة العصرية المعقدة :
ففي ظل التطور المذهل، وتسارع وتيرة إيقاع الحياة، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الريف عاجزا عن تلبية حاجيات الأفراد، ولذا فقد مهّد لإنهياره، وفقد أهميته؛ بسبب تقادم عهده، وتوقف تطوره، وعجزه عن مواكبة الأحداث نتيجة انقطاعه عن مركزها، فنشأت المدينة-كبديل– وغدت بذلك هي المركز الأنسب لها .
__________
(1) - د/ نور الدين طوالبي:في إشكالية المقدس، ت ر/ وجيه البعيني، منشورات عويدات، بيروت (باريس،ديوان المطبوعات الجامعية/ الجزائر)ط1، 1988-ص 5(1/188)
ولقد كان انهيار الريف، وتكون المدينة(العصرية)(1)، وهجرة أبنائه إليها، إجابة عن اختيار مفروض، اقتضته الظروف الطبيعية والتاريخية والمد الاديولوجي الذي دخل العالم العربي إبان أو بُعيد الحرب العالمية الثانية، وعندها وجد أبناء الريف أنفسهم أنهم "مجرد أنقاض لمجتمع تليد، أنقاض مهيأة لأن تدخل في بناء جسد اجتماعي جديد"(2) هو المدينة بكل أبعادها وتحدياتها الموجهة لضمير الفرد والجماعة على حد سواء.
وبناء على هذا فميلاد المدينة العربية الحديثة، لم يكن حدثا عفويا، بل حدثا تاريخيا تشكل عبر حقب من الزمن طويلة ومتداخلة، ذلك"لأن كل تغيير يطرأ على الخصائص التشكيلية أو يحدث في التوجيه الثقافي لجماعة إنسانية معينة هو نتيجة مباشرة بوظيفتها التاريخية"(3) على اعتبار أن "كل جماعة لا تتطور ولا يعتريها تغيير في حدود الزمن، تخرج بذلك من التحديد الجدلي لكلمة"(4) "مدينة".
ولكن هذه "المدينة" بتحدياتها، وافتراضها لعادات وقيم مختلفة عما كان سائدا في الريف، فرضت على الشاعر العربي مواجهة محتدمة وأنماط من الرؤى والتشكيلات، حديثة، أو بمعنى آخر، فرضت عليه رؤية تتناسب مع طبيعة المحيط الذي يعيش فيه، وما يدور حوله. لأن المنطق يقتضي أن كل تغيير يطرأ على البنية الاجتماعية أو السكانية، إلا ويفترض أشكالا جديدة، ورؤى حديثة، وتلك هي الحداثة في أبسط مفاهيمها .
__________
(1) * - المدينة العصرية : نقصد بها المدينة المعقدة، المتناقضة القيم كما تتجلى في الخطابات الشعرية وحتى في الواقع اليومي، أما المدينة كتجمع بشري، فموجودة منذ القدم كما رأينا ...
(2) - مالك بن نبي: ميلاد مجتمع : شبكة العلاقات الاجتماعية، ج1، ت ر/ عبد الصبور شاهين باشراف ندوة مالك بن نبي، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، بدمشق، 1974، ص 11.
(3) - م. ن، ص 14.
(4) - م. س، ص .ن.(1/189)
والحداثة قد تعني في بعض جوانبها، تغير في النظرة، بناءا على معطيات مستجدة . وعلى الرغم من كثرة الكلام حول الحداثة، والتجربة الحداثية، وطغيانها على الساحات والنوادي الأدبية والفكرية، الأمر الذي يوحي بفهمها والنفاذ إلى جوهرها وعمق دواخلها، إلا أن عودة سريعة إلى الواقع تُنبىء عن مفارقات جد غريبة، ذلك أنه كثيرا ما تُجمع قصائد متعاصرة، ولكنها في حقيقة أمرها، غير متماثلة جوهرا، وإن كان ذلك متوافر شكليا، على أنها متماثلة كليا. ولكن مناقشة كهذه خارجة عن نطاق البحث... ولذلك نعود إلى الموضوع المتوخى، وهوما مدى موافقة القصيدة الحديثة كوعاء لفكرة المدينة كمضمون؟
3- مرفولوجية المدينة ومعمارية الشكل الشعري الحديث:
إن الشعر الحديث –بمختلف أنواعه- يتوافق كثيرا مع تجربة المدينة، ذلك لأن هذا الشعر بمرونته، وقدرته على السرعة الإيقاعية وخفتها ... يتوافق تماما مع تجربة المدينة، ذلك لأن هذا الشعر بمرونته وطابعه الإيقاعي السريع،يوافق بشكل أو بآخر ذلك الإيقاع المتسارع للحياة في المدينة، كما أن فوضاها هي نفس فوضاه.
ولذلك فتجربة المدينة – بإيقاعها المتسارع هذا -، هي التي اقتضت هذا الشكل من الشعر، إضافة إلى النزوع المطلق نحوالحرية في كل شيء في هذا العصر، وطغيان النزعة التجريبية أو بمعنى آخر، النزوع إلى التحرر في الحياة وفي الشعر .(1/190)
ومما لا شك فيه أن "بين التجربة الشعرية والشكل الشعري علاقة عضوية، وبما أن التجربة إشراقة متحركة متغيرة ومفاجئة يأتي شكل التعبير عنها داخليا ومركبا ومتغيرا مفاجئا بالضرورة، وبكلمات أخرى، إن الطريقة الحديثة في كتابة الشعر تبحث عن الطريقة"(1) المثلى في استيعاب ظروف العصر وأحداثه، والتكيف مع متطلبات الحياة فيه، وهكذا جاءت تجربة طبيعة علاقة الريف –المدينة منسجمة مع الطرح الشعري الحديث - إذ ركّز الشعراء المعاصرون أو التموزيون منهم بشكل خاص (...) على استعمال صيغة الصراع ما بين الريف والمدينة، فهم اعتمدوا في شعرهم على مبادئ متشابهة أهمها استعمال الرموز من ميثولوجيا وغيرها، وبناء القصيدة على معارضة بين ضدين، الموت والحياة، الظلم والنور الماضي والحاضر والمستقبل(2) .
ولعل ما يبدوفي القصيدة الحداثية من مفارقات وفوضى وتمزق، إن هو إلا انعكاس لأزمة الذات العربية التي وجدت نفسها في مركز جذب بين قطبين متناقضين كل التناقض أو لنقل متعارضين كل التعارض، الماضي العربي الإسلامي بموروثه الحضاري الضخم الذي هو أشبه بالمغناطيس الذي يصعب التخلص منه، ولذلك فهي تنظر – إن هي خضعت له كلية – للآتي بعين الماضي الممعن في الغياب، والقطب الثاني هو الانبهار بما أنتجه الغرب على جميع الأصعدة، وما يمارسه من جذب وضغط يكاد يجعلها (أي الذات العربية ) تنسلخ عن جلدها لتذوب في منجزاته، وتتبنى جميع طروحاته.
__________
(1) - نعيم اليافي : مصطلحات النقد التطبيقي في الشعر الحديث، الموقف الأدبي ع 181، 182، 183، حزيران، تموز 1986، س 16، ص 48.
(2) - ينظر : روز غريب : "الشعراء التموزيون: السياب"، الأديب، أيار- حزيران، بيروت 1980 – ص: 19، نقلا عن محود شريح، تجرية المدينة في شعر خليل خاوي، الفكر العربي امعاصر، ع 10، شباط 1981، ص 91.(1/191)
وعليه فإن القلق والتحفز الملاحظ على القصيدة الحديثة، ما هو إلا انعكاس لما يعتمل في الذات العربية من رجات وإنجراحات في عالم متغير باستمرار ؛ فيما هي تجر أذيال التخلف والتبعية. إنه قلق البحث عن الهوية. ولكن نعتقد أن الشاعر المعاصر استطاع – إلى حد ما –أن يجد بذكاء، المخرج الملائم من هذا الوضع المأزقي حين أدرك أن "في التراث عناصر كثيرة يمكن تطويرها وإنماؤها لتتلاءم مع معطياتنا إذ نحن أحسنا فهمه"(1) كما أدرك من جهة أخرى، ألا جدوى من الوقوع المنبهر تحت الحداثات الغربية ؛ "لأنها تصدر عن خصوصيات قد لا تكون بالضرورة ملائمة لإسهاماتنا الحضارية عبر تاريخ طويل"(2) .
وربما بسبب من هذا الإدراك استطاعت هذه القصيدة الحديثة أن تتجاوز ضغط القديم والإفلات من مغنطته، بإسقاطها للقافية والوزن –في بعض الأحيان-، وتجاوزها لتقنيات البلاغة العربية القديمة من جهة، لكنها استثمرت أحداثه ووقائعه على شكل تداعيات وإسقاطات وأقنعة ورموز من جهة أخرى. كما استطاعت أن تتخلص من عقدة النقص –في كثير من نماذجها- اتجاه النموذج الغربي، وتخرج من دائرة الانبهار به، لتؤسس بذلك هو يتها وانتمائها الحضاري، من خلال عدة قنوات، كإستيحاء اللغة الصوفية ذات المرجعية الإسلامية باعتبارها لغة الكشف لا الوصف، لغة البحث المضني، لغة الوقوف على عتبات الكون ومحاورته بغية تجاوز تلك الحدود الوهمية القائمة بين الأنا والمطلق، وكذلك وسم القصيدة الحديثة بنوع من الرؤيا البنيوية والحدسية التي تتعالى على الواقع من أجل كشفه، وبالتالي منحه توهجا جديدا ودلالات جديدة.
4- غموض التجربة الحديثة (الغموض الدلالي وتناقض المواقف):
__________
(1) - عبد الله أحمد المهنى: الحداثة وبعض، العناصر المحدثة في القصيدة المعاصرة، عالم الفكر، مج 13، ع3 أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1988، ص 30.
(2) - م. ن،ص. ن.(1/192)
ولعل ذلك الغموض الذي أتت التجربة الحديثة متسربلة به، مما جعل النفاذ إلى جوهرها أمرا صعبا- إذ لا يتم إلا بجهد وتعمق واستقصاء كبير- راجع إلى عدة عوامل منها:
1- ... إن التجربة الحديثة شمولية في رؤيتها، إذ أنها صارت ترى في الكتابة الشعرية "شكلا إبداعيا يحمل في صلبه رؤية كاملة للعالم وموقفا محددا من مفارقاته"(1)، لا غرضا منفصلا عن غيره من الأغراض، كما كان سائدا في التجربة القديمة، بما فيها الرومانطيقية، لأن ذلك يفتت الرؤية ويسم التجربة بعدم الاكتمال.
__________
(1) - محمد لطفي اليوسفي: في بنايات الشعر العربي المعاصر، ص 147.(1/193)
2- ... اعتماد الرمز كحامل للرؤية ومؤسس لها في الآن نفسه، إدراكا منها بأن "الرمز يساعد التجربة على كسر مباشرتها، ويمكنها من تجاوز الهارب والعرضي، ويساعدها على التقاط الجوهري والصميمي في حياة الإنسان ووجوده. فالشاعر يرى العالم بعينين مغسولتين"(1)، إنه يقف على عتبات الجنون، ويسافر إلى أقاصي التيه، ليحافظ على صفاء رؤيته ونفاذها عبر الأشياء الواقعية، واكتشاف ما هو مدهش فيها، وما هو باهر وما هو خيالي. فالتأكيد على الصور المختلفة للترميز (Symbolisation) أضحى من الركائز الأساسية للاتجاهات الحديثة (Modernisme) في الفن بشكل عام(2)، وفي الشعر بشكل خاص، لتوفير نوع من الإبهام، ولتجسيد ذلك التعقّد الذي طغى على الواقع، ومهما يقال أن"الرموز الأدبية عاجزة عجز الواقعية الأدبية البسيطة عن تفسير الوضع البشري وخلوه من المعنى"(3)، إلا أننا نقول أنّ الرمز يوفر للتجربة كثيرا من غناها، ويكسبها كثيرا من السحر والجمال الشعريين- واللذين هما ضرورة لا محيد عنها- ويخلصها من السقوط في أو حال السطحية والمباشرة، كما يوفر للمبدع حلا أمثل لمعالجة أو ضاع واقعه بعيدا عن كل رقابة أو حساسية، ويخلّصه من عقال الآنية، ليقذف به في زمن الخلود والديمومة والاستمرارية...
3- ... النزعة الصوفية والتوجه الباطني كردة فعل على تمزق إنسان هذا العصر وإفلاسه الفكري، وغرقه في قشور السطحية وأدران المادية، وكآبته العميقة. فلقد وجد الشعراء المعاصرون أن التصوف يوفر فرصة ثمينة لتأمل الذات، واكتشاف مكامن القوة فيها، كما يوفر أطرا مرجعية رحبة، ومن ثم الانطلاق من جديد نحوآفاق أكثر روحانية ورحابة...
__________
(1) - ينظر: م. ن، ص 148.
(2) - ابراهيم محمود: حول الاغتراب الكافكاوي، عالم الفكر (مرجع سابق)، ص 109.
(3) - البيرس.ر.م:تاريخ الرواية الحديثة:ت ر/ جورج سالم، منشورات عويدات، بيروت، ط1، ك1، 1907، ص:244، نقلا عن محمود إبراهيم (م: س)، 109.(1/194)
ولكن ما ينبغي التنبيه إليه، والذي وقع فيه كثير من الشعراء، غير المدركين لهذا التوجه، هو أن التصوف ليس "هووحده الذي يقدم لعالم اليوم وجها إنسانيا، ومزيدا من الروح، وفرحا بشريا بالوجود، ورفضا للآلي الميكانيكي والشيئية في إنسان عصر الآلة، وليس التصوف وحده الداعي، في بعض شرائحه، إلى السيطرة على الذات بدلا من تسليمها للمجتمع، أو للغرائز، أو للحاجات اليومية، وللعادات العمومية وللشائعية والنمطية والاندماج الذي ينسي الإنسان ذاته... قد نستطيع، لكن على صعيد ضيق فقط(1)؛ فلإنسان العربي وبخاصة في مثل هذه الظروف، محتاج-أكثر من أي وقت مضى- إلى عقلنة حياته وتجربته أكثر، وإلى توجيه رؤيته نحوالخارج، خارجه هو ، لا التقوقع على ذاته والانكفاء عليها، واجترار مآسيه، ذلك لأن التصوف ليس هو كل الحياة، ولأن "الاهتمام بالباطني والصميمي بالإنسان، وبالخاص المتفرّد، وبالسعي على بلوغ المطلق وتحقيق الذات الفردية، هو اهتمام نافع . لكن هناك الأنفع والأهم، وحتى الأسرع بتحقيق"(2) اهتماماتنا وطموحاتنا نحوالتفرّد والتمييز"فهناك العقل والحرية، لا الصوفية والعبودية الصوفية"(3).
فالشعر يجب أن يكون واضحا -من حيث هو إيحائي وشفيف- حتى يسهم في التأثير في الحياة العامة، وينقلنا من التخلف (الاركيتولوجيا) إلى قمة الحضارة، لا أن يكون غامضا ترميزيا تعتيميا، صوفيا في مجمله –إلا بقدر ما تتطلبه كل عملية فنية إبداعية – لأن هذا يغرقنا في التخلف الذي نرزح تحت أثقاله.
__________
(1) - د/ علي زيعور: العقلية الصوفية (مرجع سابق) – ص 8.
(2) - م . ن، ص. 8.
(3) - م. س، ص. ن.(1/195)
بالإضافة إلى الأسباب السالفة الذكر فهناك الكثير من التوجهات والمرتكزات، والأساسيات الأخرى التي طغت على الخطاب الشعري المعاصر- وجاءت كصنوللحداثة وكميزة لها- كالتمرد على اللغة وكسره لطابعها النمطي، المعجمي، وحتى النحوي -أحيانا- وتأسيسه للغة شعرية جديدة استطاعت أن تفجّر "الطاقات التعبيرية للألفاظ، من خلال البنى العميقة التي تشد أو صال الخطاب الشعري إلى البؤرة المحورية في النص، والتي تنفجر عنها تلك العلاقات مانحة الألفاظ دلالات وإيحاءات جديدة "(1) وأطرا إبستمولوجية واسعة؛ إذ أن الشاعر بقوله، لا بتفكيره وإحساسه، إنه خالق كلمات، وليس خالق أفكار. وترجع عبقريته كلها إلى الإبداع اللغوي(2)(3)، ولكن هذه الجرأة والجسارة اللغوية، كثيرا ما طمست العملية الشعرية، وأدخلتها في متاهات نستطيع تسميتها بالعدمية اللغوية(4)، إذ اعتقد بعض الشعراء -جهلا- أنّ الحداثة هي التعتيم والإبهام والغموض المقصود، وأن الشعر الذي يُدرَك بسهولة، شعر فاقد لصبغة الحداثة فيه.
__________
(1) - عبد الله المهنا: الحداثة وبعض العناصر المحدثة (مرجع سابق)، ص 41.
(2) - جان كوهن: "بنية اللغة الشعرية"، تر/ محمد الولي ومحمد العمري، الدار البيضاء، 1986، ص:40، نقلا عن عبد الله أحمد المهنى، م.ن، ص41.
(3) * - وهوقريب من قول الجاحظ الذي يرى أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق يستطيع أن ينالها العربي والأعجمي ... وإنما العبرة باللفظ الذي يحمل المعنى. أنظر كتابه الحيوان ج3، تحقيق عبد السلام هارون، ص. 132.
(4) - أنظر في هذا المجال: د/ عدنان حسين قاسم : لغة الشعر المعاصر (لغة الأدلة (التفجير))، ص 36 وما بعدها. وينظر أيضا: ماجد السمرائي : رؤية العصر الغاضب، فصل: "شعرنا والعدمية اللغوية"، ص 123 وما بعدها.(1/196)
ومهما يكن من أمر فإنّ هذا الاتجاه يجد كثيرا من مؤيديه ومفسّريه، الذين يعمدون إلى إيجاد مبررات مجتمعية وحياتية له؛ إذ أنه "يحلولبعض الدارسين أن يفسروا الغموض تفسيرا سوسيولوجيا بسبب التناقض لدى الفنان المتمثل بالالتحام بمجتمعه ومواجهته في الوقت ذاته، أي بسبب عملية الهدم والبناء بحيث لا يحاول أن يخترق البنية اللغوية والأسلوبية للهيئة الاجتماعية فحسب بل ونظام التعميمات الفنية والمثل الجمالية"(1)، كما أن هناك فئة أخرى تفسّره على أنه "توق همومي يرمي إلى أن يقوض من الأساس بنية اللغة والثقافة السائدتين، أو ما يسمى بالتراث الرسمي، تراث القواعد واللغة والصرف وأنظمته القائمة على الوضوح والتشابه والتناسب المنطقي ما بين الصفة والموصوف، ما بين الدال والمدلول، حتى تكون القطيعة معه تامة وكاملة "(2) .
أ- فوضى الحداثة صورة لواقع مجتمعي مضطرب:
__________
(1) - نعيم اليافي: مصطلحات النقد التطبيقي في الشعر الحديث، الموقف الأدبي دمشق (مرجع سابق) –
ص 47.
(2) - م. ن، ص. ن.(1/197)
وكيفما كانت التفسيرات، فنية، سوسيولوجية، نفسية، أو كلها، فإننا لا نملك إلا أن نجازف بفرضية مفادها أن "فوضى الشعر الحديث في أساليبه وغموضه والتباس معانيه وإغراقه في دخول المتاهات، صورة حقيقة لسمات الحياة العربية المعاصرة، حتى لتكاد ترى البصمات نفسها مرسومة على هذا وذاك في آن"(1)، فممّا لا شك فيه أن حياتنا الحديثة، التي نحياها- والتي تقترب في كثير من جوانبها من الحياة الغربية وبخاصة في الجانب المادي البحت(2)- هي التي أنتجت صور الشعر والفن الحديث، على اعتبار أن "الصورة الخاصة لكل حياة هي البنية التحتية الضرورية، للصور الفنية المختلفة التي تعاصرها في النمو"(3) كما أنه "لابد من الاعتراف بوجود وشائج من نوع ما، تصل بين صورة معينة من الحياة والصورة الفنية المعاصرة لها، وإلا فلماذا لم ينشأ الفن الحديث في العصور السابقة للعصر الصناعي؟"(4).
__________
(1) - حافظ الجمالي: الحداثة والشعر وتجديد الحياة العربية، الموقف الأدبي دمشق، ع 193، 194، أيار وحزيران 1987، س 17، ص 25.
(2) * - وهذا يفند مقولة التأثر الكلي بالغرب والتشبه التام بهم في الموقف من قضايا العصر وطرائق التعبير عنه. فنحن نعتقد أن الإحساس إزاء هذه القضايا – على الرغم من بعض الاختلافات- أصبح هما مشتركا، ولذلك فلا بد من أن يتشابه رد الفعل وطريقه التعبير، فالإنسان إنسان أينما كان.
(3) - حافظ الجمالي: (المرجع السابق) – ص 25.
(4) - م. ن، ص. ن.(1/198)
فلا يمكننا أن نزعم -البتة- بأن يكون شعر الحداثة – أي كتابته على هذه الطريقة، وبهذا التوجّه، ونبذ غيره من الطرق والتوجهات- نزوة عابرة، أو وافدة، بل التفسير الأسلم لذلك، هو أنه استجابة حتمية لشروط حياتية جديدة غير تلك التي كانت قائمة بالأمس، والمتمثلة في تغير أدوات العيش، ووسائل العمل وطرق الاتصال، والعلاقات الإنسانية، وغيرها من العوامل التي تشعرنا بأننا نعيش في عصر غير العصر الذي كان يعيش في أجدادنا القريبين، وبعبارة أخرى إنه عصر التقنية (الإذاعة والتلفزيون والفيديو– الطائرة والصاروخ والحاسوب والاتصالات الآلية السريعة والأتمتة )، والمدينة بكل زخمها، شرورها وفوائدها. فكيف تبدّت صورة هذه الأخيرة في الطرح الشعري المعاصر؟
ب- شعرية المدينة كتجربة إبداعية عربية أصيلة:
تمثّل قيمة المدينة في شعرنا المعاصر ظاهرة بارزة، لا يمكن تجاهلها، فما من شاعر معاصر إلا وقد أدلى بدلوه فيها، واتخذ موقفا منها سواء بالسلب، أو الإيجاب، وسواء أكان الموقف واضحا أم غامضا، صريحا أم مبطنّا؛ كل بحسب تجربته. ومهمتنا الآن هي تتبع هذه المواقف ومحاولة استجلاء خلفياتها ومعرفة كنه حقيقتها وأوجه تمظهرها.
ولا ضير أن يعزى سبب اهتمام شعائرنا بالمدينة إلى تأثرهم بالغرب وبخاصة الشاعر ت.س. اليوت - فالتأثر واقع وباعتراف الشعراء بأنفسهم(1)- ما دام صدق التجربة متوافرا، وغنى اللغة وخصوصياتها ثابتا، وأصالة الطرح موجودة، وعمق التعبير عن الواقع العربي وتفاعلاته كائنا.
__________
(1) * - يراجع في هذا المجال: محمد رضا كحال: دراسات في النقد الأدبي، فصل: المؤثرات الأجنبية على شعرنا الحديث – ص: 130 – 143، الفكر العربي المعاصر، ع 10 شباط 1981 : السياب بين مؤثرات إيليوت وستويل – د/ نذير العظمة – ص: 79 – 88. – وينظر أيضا: محمد مصطفى بدوي الشعر العربي الحديث بين التقاليد والثورة، عالم الفكر، مج 19، ع 3، 1988.(1/199)
فالشعر العربي المعاصر، مهما تأثر بغيره، وهوأمر مشروع، لم يكن إلا ابن بيئته؛ فلقد كانت له تجربته الخاصة، تلك التجربة التي تنطلق أساسا من الواقع المعيش، برتابته المضجرة، وتكراره المضني، وأحداثه المعادة بصفة ثقيلة تبلّد الحواس وتجمّدها لتصير عاجزة عن النفاذ إلى لب الأشياء، ودواخل الأمور، وتكتفي بالسطحي العارض المانح لنفسه بسهولة. ويكمن تفردها وأصالتها أيضا في محافظتها على خصوصيتها، وخلقها لعالم متفرد. فهذه التجربة قد وعت عالمها وأدركت مأساويته التي تختلف في كثير من مناحيها عن مأساوية الحضارة الغربية. فإذا كانت الحضارة الغربية وبالأخص مدينتها قد قدمت لشاعرها أشياء وسلبته أشياء، منحته الرفاه المادي وسلبته السكن الروحي، فإن المدينة العربية، أخذت ولم تعط، أخذت الاطمئنان الروحي، ولم تعط إلا الانكسارات والهزائم المتوالية –كما أشرنا سابقا-، إضافة إلى أن العلاقات الاجتماعية فيه أقل تعقيدا وتركيبا من نظيرتها الأوربية، كما أن سرعة الزمن فيها أقل إيقاع، وبالتالي فإن إيقاع الحياة بطيء هو الآخر، وذلك لأن المنجزات المادية أقل تطورا وتعقيدا، وبالتالي فإن الصورة الشعرية لابد وأن تكون أيضا أقل تعقيدا.(1/200)
وبسبب من ذلك الإدراك، تكون تجربة شعرنا المعاصر مع عالم المدينة، قد تمكنت من تأسيس فرادتها وخصوصيتها حين استطاعت استيعاب واقعها، وتعرية خباياه، وفضح أدرانه، وتجلية زيفه، وكشفه لنا بكل تجلياته راسمة لنا مع ذلك ومن خلاله عالما حلميا، لا يمكنه أن يتحقق إلا عن طريق تلك التعرية الراصدة لجزئياته الصغرى، والتفصيلية، ومفارقاته، بدهشة طفلية، توحي لنا بجدّة الاكتشاف وفرادة الرؤية، وأصالة التشخيص، موفرة من خلال ذلك انسجاما رائعا ما بين الواقع والحم والسرد والمباغتة؛ الواقع العربي بكل مظاهره، والحلم المستقبلي بكل صبواته، والسرد الشعري والمباغتة الرؤياوية بكل طموحاتها. يقول –على سبيل المثال- عبد الصبور في قصيدة الخروج(1) طارحا من خلالها انخلاعه عن مدينته، مبيّنا أسباب ذلك الانخلاع فاراّ إلى الصحراء وحيدا، عازما العيش في مدينة منيرة، مدينة صحووأضواء، يقول ما يلي:
أخرج من مدينتي، من موطني القديم
مطرّحا أثقال عيشي الأليم
فيها، وتحت الثوب قد حملت سرّى
دفنته ببابها، ثم اشتملت بالسماء والنجوم
انسل تحت بابها بليل
لا آمن الدليل، حتى ولوتشابهت عليّ طلعة الصحراء
وظهرها الكتوم
..........................
إن عذاب رحلتي طهارتي
والموت في الصحراء بعثي المقيم
لومتّ عشت ما أشاء في المدينة المنيرة
مدينة الصحوالذي يزخر بالأضواء
والشمس لا تفارق الظهيرة
أواه يا مدينتي المنيرة
مدينة الرؤى التي تشرب ضوءا
مدينة الرؤى التي تمج ضوءا
هل أنت وهم واهم تقطعت به السبل
أم أنت حق؟
أم أنت حق؟
__________
(1) - صلاح عبد الصبور: الأعمال الكاملة (ديوان أحلام الفارس القديم)، دار العودة، بيروت 1972، ص 235 وما بعدها.(1/201)
والتجربة كما تتبدى لنا في هذا المقطع- الذي آثرنا الاقتصار عليه هنا كنموذج، ليس هو بالضرورة الأكثر تمثيلا لما نريد إثباته، فغيره كثير- تختلف اختلافا كبيرا عن مثيلتها عند الشاعر الغربي الحديث، سواء من حيث مستوى الطرح وأبعاده، أو من حيث طبيعة التجربة ونوعها، أو من حيث المضامين المركّز عليها بكيفية أكثر من غيرها. بل وحتى من حيث الرموز المبثوثة في ثنايا القصيدة، والتي تؤلف-في مجملها-عبر تواشجها، رمز الخلاص والبعث لدى الشاعر العربي، والتي تتلاءم مع واقعه -اللامنطقي- الذي يختلف في كثير من مناحيه وأولوياته عن واقع الشاعر الأوروبي ذي الرفاه المادي –بالرغم من مبالغات شعرائهم في تصوير الفقر وتضخيم المآسي الاجتماعية- هذا بغض النظر عن الانهيار الروحي. فالمدينة العربية-كما سبق وألمعنا- ليست كالمدينة الغربية التي أعطت شاعرها شيئا، وسلبته أشياء، بل إنها لدائمة السلب له، بل والانسلاب معه، فهي قد أخذت منه كل شيء ولم تعطه شيئا. ولذلك فمعاناة الشاعر العربي- ومعه الإنسان العربي عموما -متعددة الأوجه والأطراف، فهويعاني على مختلف الأصعدة والمستويات، فعلى المستوى الداخلي(الفقر والقمع...) وعلى المستوى الخارجي (التبعية والتخلّف...)(1/202)
ولقد أدرك شعراؤنا المعاصرون –بوعي كبير- هذه المفارقة بين واقعنا وواقع الغرب، كما تلمّسوا ذلك البون الشاسع بين حياتنا وحياتهم، طموحاتنا وطموحاتهم(1)... ولذلك استنكفوا بأنفسهم عن أن يقعوا في دائرة المحاكاة الفاضحة والتقليد الأعمى، أو النسخ الباهت لتجارب الغير، فالشاعر العربي أدرك واقعه بعمق، وعاش خيباته المتلاحقة واكتوى بنارها، فراح يسعى لتغيير هذا الواقع –متأرجحا بين الأمل الكبير حينا واليأس القانط حينا آخر- عبر محاولة العودة إلى عالم البراءة الأولى حينا، وإلى زمن الخلق والبعث والتضحية أحيانا أخرى، متوسلا الشعر طريقة لهذا التغيير-الشعر الثوري المشبع بأساطير الخلق والخصب والتجدد والبعث والنماء- والمدينة إطارا لهذه الأحداث؛ أحداث واقعه ...
كان هذا مستوى تجربة المدينة-باختصار شديد- في بعدها الحضاري، فكيف كانت تجربتها على المستوى الحياتي والواقع اليومي المعيش؟.
ج- ظاهرة المدينة كتجربة حياتية:
__________
(1) * - وهذا لا ينفي بطبيعة الحال أن يتلقى م\شعرائنا مع أو لئك في بعض القضايا الإنسانسة التي تفرضها طبيعة العصر وظروفه ...(1/203)
تتآلف وتتماوج الإبداعات الشعرية العربية المعاصرة، في فضاء المدينة بكيفية ملفتة للنظر،إلى حد يمكن لنا –معه – الزعم بأنها تؤلف ما يحتمل أن نسميه بـ"الظاهرة"؛ هذه الظاهرة التي استطاعت أن تعطي للموضوع(المدينة) –بفضل الأبعاد المختلفة والمتجاوبة في آن واحد- "خصيصة التجربة، لها الملموس والرمزي والخيالي، حتى أصبحت التجربة ذات كثافة تقف الشعرية الوصفية(من بنيوية وغير بنيوية) كنظرية للبنيات النصية المطردة والطارئة، دون بلوغ عتبة مساءلتها، لأن التجربة تتطلب شعرية مفتوحة تبتهج لاختيار أمكنة معرفية متباينة، بدل الرؤية إلى غير مكانها كتعويض لحدودها المعتادة، دونما رضوخ لوهم المعنى وحقيقة المكان غير الشعري من ناحية، وإدامة التعارض بين البنية وصيرورة الدلالية من ناحية ثانية"(1) . وهذه التجربة الخاصة أو المتميزة ذات الشعرية المفتوحة تتطلب بُعدها العربي(2) الأصيل والمتفرّد في آن، والذي يبدأ من البنايات الأولى (العصر الجاهلي) وانتهاء إلى العصر الحديث مرورا بعصور الحضارة الإسلامية، سواء في بداياتها أو في أو ج تألقها، عبر تراكمات إبداعية وفكرية شتى، متكاملة متجاوبة؛ ومتفردة ومتجاوزة، وهوما كنا قد تطرقنا لبعض مظاهره ومواقفه من المدينة كتجربة وكفضاء فيما سبق(3).
__________
(1) - محمد بنيس : الشعر العربي الحديث: بناياته وإبدلاتها، ص 233.
(2) - أنظر: م . ن، ص.ن
(3) * - أنظر المدخل الخاص ب:التطور التاريخي للمدينة.(1/204)
فتجربة المدينة –شعريا – تعود بنا حتما إلى البدايات الأولى، ذلك لأن موقف شعرائنا المعاصرين ورؤيتهم لها، تنهل -بالضرورة- إن قليلا أو كثيرا من رؤية أسلافهم لها، وتسبح في فضائها، مع محاولة التجاوز –بطبيعة الحال- والتي نجحت فيها إلى حد كبير حتى لأنها غدت من أبرز الظواهر التي يمكن أن نلمسها بيسر، في الخطابات الشعرية المعاصرة، وهذا لا يعني –كما سبق القول- أنها بنت المعاصرة، أو صنوالحداثة . بل أن الاهتمام بها – كفكرة وكتجربة - ،- قديم قدم التاريخ الإنساني- كما رأينا سابقا. ولكن ما يستقطب الاهتمام في الشعر العربي المعاصر، هو حّدة الطرح، ومنهجية التناول وخصوصية التعبير وفرادة الرؤيا وحداثتها، بالإضافة إلى حرارة المعايشة وصدق المعاناة وعمق الإدراك ليصبح توظيف المدينة في الشعر العربي المعاصر"قيمة فنية" أو ما يمكن أن نطلق عليه "التجربة القيمية" من حيث كونها تعبر عن تجارب إنسانية ناضجة في علاقتها الاجتماعية. وعلى هذا النحوقد لا نغالي إذا تصورنا أن تجربة المدينة في قيمتها الفنية ترسم مشاعر موضوعات القصيدة لتصبح في شكل "دلالة"؛ دلالة الانسجام بين المعطيات الموضوعية والحدود المرسومة لاستبطان الإدراكات التي تجري في مستويات حالات التجارب اليومية، فيقرها الشاعر في باطن هو ية القصيدة من خلال تعدد وثبات الصور المتطلعة إلى الحدود الموضوعية للتجربة في صورتها الكلية.(1/205)
فالمتتبع لدواوين الشعر العربي المعاصر، يتبين، بكل جلاء، مدى سيطرة هذه الظاهرة واحتلالها لحيز أكبر في جسد قصائده إذ "أن كثيرا من الشعراء قد واجهوا في قصيدة أو أكثر موضوع المدينة، منذ الديوان الأول "مدينة بلا قلب" لأحمد عبد المعطي حجازي إلى ديوان"قلبي وغازلة الثوب الأزرق" لمحمد إبراهيم أبو سنة، وعنوان الديوان الأول يغنينا ... عن الحديث عنه، فهوأول ما يكون على موضوعه، أما الديوان الأخير فقد تضمن خمس قصائد هي "حين فقدتك-السر - في الطريق- نرجس والمدينة – ريفية في مدينة الغرباء"، وكلها تتصل من قريب بموضوع المدينة"(1)، هذا إضافة إلى كثير من القصائد التي سنأتي على ذكرها في حينها. ويجب التنبيه إلى أنّ عدم ذكر لفظة (المدينة) في القصيدة، لا يعني أن هذه القصيدة بعيدة عن موضوع المدينة وتجربة الحياة فيها – فهذا الفهم ساذج وسطحي، بل ربما يكون هذا التغييب للفظة، هو أحد الأدلة الأقوى تعبيرا عن حضورها المكثف، وقد يتبدى هذا الحضور – على سبيل المثال- في إبراز المعاناة الذاتية، وظاهرة الاغتراب، وتمزق العلاقات الإنسانية، وانهيار القيم المثلى...
__________
(1) - عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر: قضايا وظواهره الفنية والمعنوية، ص 325، 326.(1/206)
وبعيدا عن الدخول في متاهات التعريفات الاجتماعية والفلسفية للمدينة العصرية، وعلاقات المجتمع المدني، وأنماط معيشته، كتلك التي يوردها "هيغل" والتي ينتقدها "ماركس"(1)، بعيدا عن هذا كله، نؤكد بدءا أن المدينة – كتجربة وكمكان حضاري يحمل قيمة معينة يُعَدُ نقطة ضوء فعالة، لدراسة الذات الإنسانية وحساسيتها الحياتية؛ إذ بها، وفيها، تنكشف الصراعات الاجتماعية، والسياسية، والحضارية، وبالتالي صيرورة المجتمع وحركيته، وفيها يمهد للمستقبل، ويتأسس كيان الأمة وفردانيتها وثوابتها وكذا تطورها الذي تعكسه أحداثها الموّارة، وعلى ضوئها تنكشف "الأنسنة وبدايات الوعي المتحضر والمتجاوز للمرحلة (البدائية) من مراحل التطور البشري بأشواط مديدة"(2). فكيف تبدّت صورتها الخارجية للشاعر، هذا الوافد الجديد من الريف من أو ل لقاء له معها، وبخاصة إذا كنا نعلم أن عددا غير قليل من الشعراء المعاصرين هم ريفيي النشأة، ثم هاجروا إلى المدن(3)، هذه المدن التي كانت في خيال الشاعر جنة موعودة، يأمل أن يحقق فيها كل أحلامه وصبواته؟ فكيف كان الانطباع الأولي لهذا اللقاء، وبخاصة مظهرها الخارجي الذي يختلف في كثير من أشكاله عن الريف، وعلى اعتبار أن أو ل ما يتحفز في الإنسان ويتنبه هو الجانب البصري، وبالأخص في مكان كالمدينة بكل مظاهرها المادية والعمرانية ؟
د- الكيان المادي للمدينة :
__________
(1) - ينظر الموسوعة الفلسفية، ص 457 – 458.
(2) - يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي ص 17.
(3) - ينظر إحسان عباس: إتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 112.(1/207)
لعل أو ل ما يلفت أي وافد جديد إلى المدينة، هو طبيعة عمرانها، أي الوجه الخارجي والمادي لها – قبل الانخراط في وتيرة حياتها – والذي تلتقطه العين، قبل أن تكتوي به النفس. ولما كان أهم ما يميز المدينة، أو كل مدينة عصرية، هو علوجدرانها، والارتفاع الشاهق لأبنيتها، والتنظيم الآلي (الأتوماتيكي) للحياة فيها، وتخصّص أمكنتها، وضيق أزقتها –أحيانا– وكثرة المتسكعين والبطالين فيها، وبراقة منظرها وكثرة أضوائها وغلبة الازدحام والضوضاء على محيطها. فإن هذا كله لابد أن يترك أثرا ما في انطباع الشاعر وبالتالي إحساسه وتوجه حياته فيها لاحقا.
ولقد التقط الشعراء هذه المظاهر الحسية –الغربية بالنسبة لهم– مشحونة بكثير من الأسى والشجن، كشأن كل غريب جاهل بمعالم المكان وطبيعته. فكان أو ل ما رآه الحجازي هو (شوارع المدينة الكبيرة) التي يتوه فيها الإنسان، كما أنه لم ير (غير البناء والسياج) و(غير المربعات والمثلثات والزجاج)، لقد أدرك بأنه رسى (في مدينة من الزجاج والحجر) بحث (فيها عن طريق فلم يجد له أثر). كما أن يوسف الخال لم ير في أو ل لقاء له بها غير (شوارع المدينة الناطحة السحاب، العالية القباب، المغلقة النوافذ)، المدينة/الزجاج (... المقفرة الموحشة)، (الخالية الروح، التي يسكنها أناس)، وكونهم أناس، نكرة، غفل من الأسماء، أمر يكثف من غربة الشاعر، ويوحي باستبداد الخوف به، ومدى التوجس الذي يكتنفه لحظة اللقاء الأول.
أما محمد إبراهيم أبو سنة، فإن أو ل ما استقطب نظره فيها، هو آلية سلوك أهلها، أو بعبارة أخرى، تحكم الآلة في سلوك الإنسان وتوجيهه:
إشارة حمراء قف
إشارة خضراء من هنا انصرف(1)
__________
(1) - من قصيدة (نرجس والمدينة) عن عز الدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر. ص 332.(1/208)
ولا نعتقد بأن هذا التنظيم الآلي –لا التلقائي– هو مجرد مظهر خارجي، بل هذه "الآلية التي تنظم المرور هي نفسها الآلية التي يصدر عنها الناس أنفسهم في كل أعالهم"(1).
في حين أنّ البياتي لم ير فيها – على الرغم من خبرته بها أو بسبب ذلك نتيجة رحلاته السندبادية وكثرة تطوافه– غير (بيوت منفوخة البطون)، وغير (أحياء فقيرة سوداء)، وغير (أرصفة غبر سخينة) و(مقاهي وحارات سوداء لعينة) و(أشجارا صفرًا دميمة)، وغير (المزابل والمحارق والسجون والكبريت ... )(2).
أما فاروق شوشة، فإنه هو الآخر، لم ير فيها غير الجدران العازلة الموحشة التي(3) :
تلوح للعابرين الحياري
أن انغمسوا في رحابي
ولوذوا ببابي
وأسيحوا، دروبي ممتدة مدهشة
ولا يرى فيها (فولاذ الأنور) نفسه، إلا أنه :
ضائع في هياكلها
ميّت خرب القلب
مخترق في الضلوع(4)
لا يستطيع منها فكاكا، حيث تحجزه صفحات جرائدها، وطباعتها الجديدة كل يوم بروتينية مملّة.
أما (حامد طاهر) فإن ما يلفت انتباهه فيها هو : شوارعها الواسعة، وميادينها الفاخرة ومقاهيها، ونسوتها الفاتنات، اللواتي يضيِّقن خطواتهن، ويفهق منهن أغلى العطور، وهويدعي أنه يحب كل هذه الأشياء فيها، لكن رأسه يدور !(5).
ويصف لنا أمل دنقل أو ل لقاء له مع المدينة –وكان هذا اللقاء ليليا– فيرى بأنها (مدينة دخانية)، زارها : (مقهى فمقهى، شارعا فشارعا)، ويستمر في تجواله فيها واصفا ما رأى فيقول:
رأيت فيها (اليشمك) الأسود والبراقعا
__________
(1) - عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر – ص 332.
(2) - ينظر قصيدة (الليل والمدينة والسل)، الديوان، 1/240 – 241.
(3) - قصيدة (الدائرة المحكمة)، الديوان، ص 17 – 22.
(4) - قصيدة (إلى أبي من عواصم الموت)، ديوان : إشارات المجد المنطفئة، البيئة المصرية العامة للكتاب 1987، ص 11 – 16.
(5) - أنظر قصيدة (السابعة دائما)، ديوان نافذة في جدار الصمت.(1/209)
وزرت أو كار البغاء واللصوصية !
على مقاعد المحطة الحديدية
نمت على حقائبي في الليلة الأولى
حين وجدت الفندق الليلي مأهولا(1)
كان هذا الانطباع في الليل، أما حين جاء الصباح :
وانقشع الضباب في الفجر فكشف البيوت والمصانعا
والسفن التي تسير في القناة كالإوز
والصائدين العائدين في الزوارق البخارية(2)
ولعل هذه الغرائب التي شاهدها، وذلك التشرد الذي عاشه في أو ل ليلة له في المدينة، هو الذي جعله يتخيل نفسه –بعدما أدرك ورطته– يسقط (من طوابق القاهرة الشواهق) فيبصر (في الشارع أو جه المهاجرين) ويعانق (المحنة والثبات)(3).
أما الشاعر صلاح عبد الصبور الذي ترك قريته (الزقازيق) والتحق بالقاهرة لأسباب يوضحها في المقطع الموالي:
نزلتها منذ سنين طالبا للأنس والمؤون
منحدرا مع الطريق المترب النحيل
والترعة اللابسة الحداد
مآزرًا من نبتها الذاوي، وطرحة النخيل
متنقلا من قرية حزينة(4)
لقرية حزينة
فإنه يقول عنها حين وصلها:
وصلتها في وسط الصيف، بيُوتها التلال
موصدةٌ، لتتقي الأغراب والسخونهْ
صوتها تحت سياط الشمس والرمال
يئن
... ... يئن
... ... ... ... يئن
تخطئه مسامع الأرصاد والرجال
تسمعه كلابها الضالة ومحتضروها
بعض المجانين بها
والشاعر الذي رست به سفينة الحديد والصدأ
على تخوم رملها في ساعة الزوال(5)
__________
(1) - قصيدة (السويس)، الأعمال الكامنة، نشر مدبولي، ص 93 وما بعدها .
(2) - م.ن، ص. ن.
(3) - م.س، ص. ن.
(4) - صلاح عبد الصبور: الإبحار في الذاكرة، ص 37.
(5) - م. س، ص 38 – 39.(1/210)
إنها مدينة لا تشعر الوافد إليها إلا بالاستبعاد، ولا يلتقط من مناظرها إلا القبيحة والمؤلمة، فبيوتها العالية كالتلال موصدة في وجه الأغراب والذين يعد الشاعر واحد منهم، وصوتها يئن، كلابها متشردة، بعض أناسها يحتضرون، كما أن بها بعض المجانين، فهؤلاء وحدهم مع الشاعر يسمعون صوت المدينة أو أنينها، أما الآخرون وحتى رجال الأرصاد فيها، فإنهم لا يعبؤون ولا يأبهون به، ربما لانشغالهم في غمرة المدينة وزحمتها، وربما لأنهم أو صدوا بيوتهم بل وآذانهم عن سماع أصوات الضعف والألم والاستغاثة التي تنبعث من المدينة، بل ومن المقهورين في المدينة، والشاعر باتباعه لهذا الأسلوب الجامع للتناقضات، والمؤلِّف بين المعقول (الشاعر) واللامعقول (المجانين) أو بعبارة أخرى بين العاقل واللاعاقل وكذا الحيوانات المشردة، إنما "يريد أن يعطينا حقائق عدة دفعة واحدة. وتشويه العوالم التي ينقلها من واقعه، ووضع التناقض فيها، ينبع من حقيقة واحدة هي: الواقع المعاش الذي خالفت الأشياء فيه حقيقتها"(1) وابتعدت فيه عن جوهر أصلها.
أما إذا ما تتبعنا قصائد سعدي يوسف وبالأخص في ديوانيه، (تحت جداريه فائق حسن(2) وديوان الأخضرين يوسف ومشاغله(3))، فإننا واجدون العالم المزيف والعالم المرعب نفسه، إنه عالم مظلم "مدنه تتسول النور" وعلى شرفاتها "يئن الجيرانيوم"، هذا إضافة إلى أن أبو ابها تكف عن كونها أشياء صنعها الإنسان لتستحيل إلى أشباح مرعبة ومخيفة :
فجأة يفتح الباب وحده
الممر يدور على نفسه في الظلام
الرطوبة تلصق بالخوف وجه المسافر (4)(
__________
(1) - محمود إبراهيم: حول الاغتراب الكافكاوي، عالم الفكر (مرجع سابق)، ص 118.
(2) - صدر الديوان عن دار الفرابي – بيروت 1974.
(3) - طبع هذا الديوان بمطبعة الأديب البغدادية 1972.
(4) - سعدي يوسف، ديوان "الأخضر بن يوسف ومشاغله"، ص 15(1/211)
إنه الواقع المديني في أشد لحظات عريه وتردية، منظور إليه بعين محايدة هي عين الشاعر الوافد مجددا إليه بغرض الانتماء لا الانفصال الذي اصطدم به.
ولا يرى فيها الشاعر الجزائري (محمد زتيلي) نفسه فيها إلا ضائعا، جائعا بين هذه الجموع الغفيرة التي تحترف النفاق والتدليس:(1)
أنا ضائع بين من هاجروا ... بين من ناصروا ... بين
من نافقوا، ضائع بينهم، أيها الناس ضعنا جميعا ...
تشتت شمل المهاجر
أقصد شمل المناصر
بل قد تجمع شمل المنافق ... أقصد ضعنا
فبالرغم من هذه النزعة الخطابية التي يشي بها هذا المقطع من القصيدة إلا أنها تعكس مدى الضياع الذي يعانيه كل نازح جديد إلى المدينة، التي تصدمه بواقعها المختلف تماما عما آلفه في ريفه البسيط؛ سواء من حيث الأشكال المعمارية، أو من حيث العلاقات الإنسانية الاجتماعية.
5- نسق العلاقات الإنسانية في مجتمع المدينة :
بعد صدمة ذلك الاندهاش، وبغتة تلك المفاجأة التي استشعرها الشاعر وهويطأ المدينة لأول مرة، بعد هذا، وبعد زوال آثار ذلك الاندهاش، تسنى له أن ينغمس في حياتها، وينصهر في أتونها، ويعرف كثيرا من خباياها. ولعل الانطباع أو الشعور الأكثر بروزا، الذي تأكد لدى الشاعر – بعد أن خبر الحياة فيها وعرف ما تتخبط فيه من تدهور فظيع غشي هذا المكان البراجماتي النفعي، فانتزع من نفوس أبنائه المروءة والأنفة، وأستأصل من قلوبهم الشفقة والرحمة – هو إدراكه لمدى تورطه. مما جعله يتخذ منها موقفا عدائيا، كشف من خلاله الزيغ الذي تعانيه هذه الحضارة المادية، والمخازي التي تكتنفها، والوحشية التي تحكم فعل العلاقات فيها. ولقد كانت هذه الحقيقة المهولة التي اكتشفها، هي التي جعلته يذم المدينة ويهاجمها مهاجمة عنيفة وعلى مختلف الأصعدة.
__________
(1) -. محمد زتيلي: "فصول الحب والتحول"، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط82، ص 80 .(1/212)
ويمكن القول، إن هذا الموقف العدائي الهجومي، ضروري ومنطقي جدا، وبالأخص بالنسبة لإنسان، عاش فيما مضى – في الريف – تجارب تتخارج تمام التخارج مع ما وعاه في المدينة مؤخرا، ذلك لأن الإنسان عموما، والشاعر خصوصا هو "كائن اجتماعي، يحيا في منظومة إنتاج معينة، ويعكس وعيه بها صورة عن العالم"(1)،
__________
(1) - محمد بدوي : الجحيم الأرضي (قراءة في شعر صلاح عبد الصبور)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص: 31.(1/213)
ولذلك فإن إبداعه سيكون بالضرورة موقفا مما هو كائن وموجود، وتوقا لما يجب أن يكون، هذا مع التنبيه إلى أن الشعر لا يؤمن بحرفية المعطى الخارجي للواقع، ولا يؤمن بالرسم الموضوع قبلا، أو – على الأقل – ليس هذا من أهدافه وإن تضمنه . وإنما كل ما في الأمر هو رؤية الذات الشاعرة، وكيفية بنائها لعالمها، أو موقفها من العالم المحيط بها غير متمسكة بمعطياته الخارجية، أو قشوره السطحية، بل إنها تلج إلى أعماقه، محاوِلة التنقيب عن جوهره، والتأسيس لِلْمَايُمْكِنْ، ذلك لأن "الفن لا ينمووفقا لمنطق اجتماعي، وإنما ينمووفقا لمنطق داخلي كامن فيه، متميّز، بطريقة ما، من المؤثرات الخارجية"(1)، هذا إضافة إلى أن"العمل الأدبي ليس وثيقة اجتماعية أو تاريخية، وليس موعظة بلاغية وليس كشفا دينيا، وليس تأملا فلسفيا حتى ولوأمكن أن ينظر إليه على هذا النحومن أجل أغراض معينة، إن الفن "وهم" و"خيال" والعالم فيه يتغيّر من خلال اللّغة واللّون والصوت"(2) . ومن اجل هذا كلّه، وبسببه، فإنّ صورة المدينة، كما سوف نجدها في الخطابات الشعرية ليست بالضرورة، هي المدينة الواقعية، أو كما هي في الواقع، لأن الشعر –كما ألمعنا- هو رؤية خاصة للحياة، "فكل شاعر يصنع مدينته ومدينته تعيش داخله، وعلى ذلك قد تتولد المدينة الموحشة شعريا من مدينة حافلة في الواقع وعلى العكس من ذلك فقد تتولد المدينة الشعرية المتلألئة بالأضواء من مدينة أُطْفأت أضوَؤها في واقع الحال، وحديث الشعراء عن مدن نعرفها ينبغي ألا يغرينا بتلمس المعالم المادية التي نعرفها في "الرؤية الشعرية" التي يقدمها الشعراء لتلك المدن"(3)
__________
(1) - مصطفى ناصف: دراسة الأدب العربي، ص 118.
(2) - د/ محمود الربيعي: حاضر النقد الدبي : مقالات في طبيعة الأدب، دار المعارف، مصر، القاهرة ط1، 1975، ص 51.
(3) - محمود الربيعي: الشاعر والمدينة، عالم الفكر، مج 19، ع3، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1988، ص 123..(1/214)
ويكون هذا التصوير تبعا للنهج الذي ينتهجه كل شاعر في بلورة خطابه الشعري، وصنع مادته، إضافة إلى مناخ التجربة الشعرية لكل شاعر، ومدرسته وثقافته، ولتجسيد موقف الشاعر من مدينته وكيفية رؤيته إليها، وبنائه لها، وشعوره فيها، ارتأينا بحث العلاقات التي تسودها كما صورها الخطاب الشعري، وبحث الأسباب الصانعة لموقف الشاعر منها. لقد كان أو ل ما استشعره الشاعر بعد خبرته -النسبية- بالمدينة هو تلك القوة القهرية التي تحكمها، وذلك العنف الذي يسودها.
- فلسفة القوة والقهر الاجتماعي والقمع السياسي:
أ- فلسفة القهر الاجتماعي:
لقد أدرك الشاعر بمرارة أنّ المنطق الذي يحكم العلاقات الإنسانية والاجتماعية في المدينة هو منطق القوة الغابية، والقهر الاجتماعي المبني على التنافس الحاد والمنطق التجاري، والقمع والاستبعاد السياسي، ففي ديوان أحلام الفارس القديم يقدم عبد الصبور في قصيدة تبلغ ذروة من ذرى الرمزية، عالما مقهورا، يحكمه القمع ويشيع فيه الغدر، يتمثل هذا العالم في "السوق"، رمز النفاق والزور... على لسان الحلاج، حين تجواله مع شيخه بسام الدين
فيقول :(1)
ونزلنا نحوالسوق أنا والشيخ
كان الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان الكركي
فمشى من بينهما الإنسان الثعلب
عجبا...
زور الإنسان الكركي في فك الإنسان الثعلب
نزل السوق الإنسان الكلب
كي يفقأ عين الإنسان الثعلب
ويدوس دماغ الإنسان الأفعى
واهتز السوق بالإنسان الفهد
قد جاء ليبقر الإنسان الكلب
ويمص نخاع الإنسان الثعلب
__________
(1) - الأعمال الكاملة، 1/267-268.(1/215)
يقدم لنا الكون الشعري في هذا المقطع عالما ممسوخا، وكما هو معروف -واقعيا- فإن السوق(1)، معلم من معالم المدينة، التجارية، وهومكان ملعون أو مكروه دينيا، لما يكتنفه من زور وبهتان، وتلفيق وغش ولكن لنتساءل ودون أن نتجاوز حدود المقطع أو نحمِّله أكثر مما يحتمل: لماذا أصبح هؤلاء الناس حيوانات ضارية مفترسة، ماكرة، كل منها يبحث للآخر عن الهلاك ؟ إننا نعرف في الأساطير والحكايات الشعبية والخرافية، كيف أن السحرة يحاولون تحويل ضحاياهم إلى حيوانات -نكاية- ومسخ إنسانيتهم وتشويهها، وهذه الحيوانات التي حشرها الشاعر هنا، تعد من أحقر الحيوانات وأمكرها وأدهاها زد إلى ذلك أن هناك علاقة بين هذه الحيوانات كما هي معروفة في الواقع وبين سلوك وأخلاقيات إنسان المدينة، ولذا نستطيع القول أن الشاعر هنا، يصور لنا باختصار وبوضوح، وعن طريق التكثيف الرمزي: المدينة- الغابة، أو غابية المدينة؛ حيث القوي يأكل الضعيف والواحد يبحث للآخر عن الهلاك بشتى الطرق وبكل ما أو تي من قوة وقهر، وجدير بالذكر إن الواقع الذي يصوره الشاعر أو الوجود الذي يجسده، سائر حتما إلى الزوال، وصائر إلى الاضمحلال، لأنه يفتقر إلى الإنسان الإنسان:
قل لي : "أين الإنسان... الإنسان؟"
يا شيخي الطيب
....
__________
(1) - "ومن المعروف ان نظام التبادل عن طريق السوق وبخاصة في المجتمعات المتحضرة الحديثة يقوم على أساس العلاقات اللا شخصية بل اللا إنسانية لان هذا النظام يفتقد كلية المشاعر الشخصية بين الأفراد حيث يحرص كل واحد منهم كل الحرص على ان يتم التبادل على النحوالذي يحقق له اكبر قدر ممكن من الفائدة والربح، فالمنفعة الإقتصادية البحتة هي احد موجهات قدر ممكن من الفائدة والربح، فالمنفعة الاقتصادية البحتة هي أحد موجهات عملية التبادل عن طريق السوق": السيد احمد حامد: الأسواق التقليدية كوسيلة للاتصال، عالم الفكر، مج18، ع1، أبريل، ماي، يونيو1987، ص 135.(1/216)
الإنسان الإنسان قد عبر
إنها حتمية الزوال يعبر عنها الشاعر في هذا المقطع، ذلك لأن المسخ الذي تعرض له الإنسان في هذا المكان (السوق) ذي الدلالات المتعددة(1)، وهذا العرض التسلسلي للحيوانات من الخطير إلى الأخطر يحمل ضمنيا حتمية الزوال والانقراض لأن هذه الحيوانات تنعدم فيها الملامح الحضارية، بالمعنى الإيجابي-فهي (أفعى، وكركي، ثعلب، كلب، وفهد )- ويتجسد فيه التوحش، وما هذا إلا دليل على الغياب الحضاري الذي يعيشه الإنسان المعاصر، على الرغم من تواجده في مكان يقال أنه متحضر ومتمدن. والشاعر بحشره لهذه الزمرة من الحيوانات المتميزة بالمخادعة والشراسة، واحتلالها للمكان المصنوع أصلا للإنسان المتحضر، وهذا المسخ الذي صُيِرَ إليه البشر، ما هو إلا دليل أكيد على الإنهزام الإنساني، في ظل غياب الحقيقة وبروز الوهم، الذي لا تملك الذات الشاعرة إزائه إلا الصراخ بالسؤال الحائر:
هل أنت وهم واهم تقطعت به السبل
أم أنت حق؟(2)
ولكن لم تمت الحقيقة، وتُقتل العلاقات الإنسانية وتستحيل إلى أسلحة فتك ودمار يرفعها كل واحد في وجه الآخر إلاّ :
حين فقدنا القلب
حين تعلمنا أن نتقن أدوار عدة
في فصل واحد
حين أقمنا أنفسنا آلهة أخرى
وعبدنا آلهة شوهاء
حين أحببنا الغرق بالضحكات
حين جلسنا نصخب في أعراس الجن
حين أجاب الواحد منا:
ما دمتُ بخير فليغرِق هذا العالم طوفان
كنا نحن الأعداء
كنا نحن غزاة مدينتنا(3)
__________
(1) *- دلالة دينية، تجارية اقتصادية، سياسية وحضارية.
(2) - صلاح عبد الصبور : الأعمال الكاملة-1/237.
(3) -محمد ابراهيم أبو سنة: قصيدة (غزاة مدينتنا)، مجلة حوار، ع مارس- أبريل 1966، عن : عز الدين اسماعيل : الشعر العربي المعاصر (م س)، ص 345-346.(1/217)
فإذا كان عبد الصبور قد قدم لنا عالما ممسوخا، فإنّ محمد إبراهيم أبو سنة، يقدم لنا هو الآخر، في هذا المقطع عالما ممسوخا؛ فهووإن لم يكن صريحا ومباشرا كما هو الشأن عند الصبور، فإن المسخ كامن فيه ضمنا، وبإيحاء شديد، ذلك أنّ الفرد فقد جوهره الإنساني، وضيّع مبادئه، وغدا يتلون كالحرباء، ويلعب مختلف المشاهد، توجهه في ذلك المصلحة الآنية والطموحات الشخصية الزائفة، دون مبالاة بالآخر، بل إنه ليعمل على تدميره دون هوادة، إنها الأثرة تستبد بالنفوس فتقتل فيها كل تعايش آمن بين الناس، وتحيله إلى جوقهري خانق، لتستبد الفجيعة بالشاعر، ويعلن على إثرها أنه فجع في أهل المدينة، حين عرفهم عن كثب. هذا ما يعلن عنه عبد المعطي حجازي صراحة في رسالة يوجهها إلى أبيه الموارى تحت التراب:
فجعت فيهم يا أبي، كرهتهم في أو ل النهار (1)
هكذا "تصطدم براءة الحلم" التي يأتي بها الشاعر إلى المدينة -دائما- بجهامة الواقع"(2)، وهناك يصرّح دون مواربة أو تردد قد:
عرفت اختلاط المسالك
بلبلة المدلجين
وطعم المرارة في طعنات الجبان(3)
لقد انكسرت أماني الشاعر على صخرة الواقع الذي فتح عليه عينيه، ولذا فهولا يملك إلا الاعتراف بهذا الفشل الذي صادفه، ولا يملك بعدها إلا اجترار الصدمة النفسية والاجتماعية التي خبرها. فالواقع الذي يعيشه غير الحلم الذي جاء محمّل به قبل وفوده إلى المدينة، لقد افتقد الشاعر حميمية العلاقات وحرارة الاتصال ،فهنا:
الناس يمضون سراعا،
لا يحفلون،
أشباحهم تمضي تباعا
لا ينظرون(4)
__________
(1) - احمد عبد المعطي حجازي: الديوان، ص 224.
(2) - محمود الربيعي: الشاعر والمدينة، عالم الفكر، ص 163.
(3) - فاروق شوشة، ديوان الدائرة المحكمة، قصيدة (الدائرة المحكمة)، ص 21.
(4) - احمد عبد المعطي حجازي: الديوان، ص 115.(1/218)
إنها القطيعة الإنسانية، والانفصال الاجتماعي مكثّفا، يعيشه كل واحد إزاء الآخر، كل يعيش في زمنه الخاص، وفي عالمه الخاص. ولعل السمة الوحيدة التي تجمع بينهم، وتؤكد في الآن نفسه الانفصال فيما بينهم، هي "السهوم"و"الكآبة" :
والناس حولي ساهمون
لا يعرفون بعضهم... هذا الكئيب
لعله مثلي غريب
أليس يعرف الكلام؟
يقول لي... حتى ... سلام !
يا للصديق
يكاد يلعن الطريق
ما وجهته؟
ما قصّته(1)
__________
(1) - م. ن، ص 117.(1/219)
إن الواقع المجسّد هنا، هو واقع متعيّن لا متخيّل، يعكس لنا مدى القطع الوجداني الذي يستشعره النازح عادة، ويصطدم بعوائقه، إذ" أنّ "القفزة" التي يحب القيام بها للانتقال من وسط ريفي تكون فيه العلاقات بين الأفراد محددة وواضحة تماما، كما يسيطر فيه الكفاف المعيشي، إلى وسط صناعي يتميز بوجود علاقات تقنية شديدة الاختلاف...، كل ذلك لا يتم بدون عوائق"(1) وحواجز ترسي مبدأ التنافر والتصادم بين الواحد والآخر، بين الأنا والمجموع. ففي المدينة الكلّ منشغل بنفسه، غارق في بحر همومه، لا يهمّه الآخر. وهوسلوك-ربما- يبدوعاديا لسكان المدينة، ولكنه غريب ومحيّر بالنسبة لهذا الريفي. ينبئ عن ذلك تلك التساؤلات الحائرة الذي تتكرر في المقطع، ونعتقد أنه ليس لذلك من تفسير سوى القول بأنها حيرة و"غربة من يبحث عن حرارة المشاعر في القلوب -كما كان يحسها في الريف- فلا يجدها، ليس في المدينة صاحب، وإنما الوجوه والمودات فيها بلون الطريق "طريق مقفر شاحب"، ويستجدى الريفي"خيال صديق، تراب صديق" فلا يجد، كان كل من في المدينة، لشدة الاغتراب والعزلة بين الواحد والآخر؛ غريب، صامت يضن بالتحية على من يمرّ به من الناس"(2)، ولكن تفاعلات الغربة في ذات الشاعر إزاء ما استشعره لدى الآخرين لم تقف عند هذا الحد، بل تعدّتها إلى حد ممارسة التعسّف عليه وطرده من غرفته التي تأويه:
لقد طُرِدت اليوم
من غرفتي(3).
__________
(1) - BLANDER (G):Sens et Puissance, PUF,Paris1971-P:256. عن نور الدين طوالبي في إشكالية المقدس – ص: 111 (الهامش).
(2) - إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 122.
(3) - أحمد عبد المعطي حجازي، الديوان، ص 189.(1/220)
لقد كانت استجابة أهل المدينة، معاكسة ومتخارجة تماما مع ما كان يأمله الشاعر، إنها"مدن بلا قلب"، ولذلك فقهرها وتعسّفها، ومنطق الاستبعاد الذي يحكم العلاقات بها، لم يشمل الأحياء فحسب، بل إنه ليطال حتى مملكة الأموات:
وجدّفت ساق الوليد فوق جثة الفقيد
كأن من مات قضى ولم يلدْ
ومن أتى، أتى بغير أب(1)
فالقهر والقمع، واللا احترام، لم يستثن حتى الأموات، لقد بلغ التمزّق في العلاقات الإنسانية بين الناس حدا رهيبا، حتى أصبح "لا يعرف للفقيد حرمة، ولا يرعى له حق، كأّن الفقيد نفسه لم يكن هو سبب مجيئه إلى الحياة، وكأنه إنما جاء إلى الحياة لقيطا لا يعرف له أبا ... "(2). وربما يرجع سبب تحكم هذا السلوك بنفوس المدنيين، ننيجة كثرة الموت وطبيعة التعود عليه، وأيضا نتيجة الأعداد الغفيرة وسيادة منطق الأرقام(فالناس في المدائن الكبرى عدد)(3)، إضافة إلى انعدام قيمة الإنسان، أو فقدان الإنسان الإنسان:
الإنسان الإنسان عبر
من أعوام
ومضى لم يعرفه بشر
حفر الحصباء ونام
وتغطى بالآلام(4)
إنه اليأس المطبق يعلن من خلاله الشاعر –بجرأة قاسية لا مواربة فيها– عن إفلاس هذا العالم، الذي فُقِد فيه الإنسان الإنسان، وأضحى القبح والخوف والجريمة هي أبرز خصائصه، هذا ما يعكسه البياتي في قصيدته (في الليل والمدينة والسل):(5)
في ليالي المدينة والخلق، وفي الأعماق
أعماق المدينة
لم تزل كالهرّة السوداء
كالأم الحزينة
تلد الأحياء
في صمت، وأعماق المدينة
تبصق الموتى على الأرصفة السخينة
في ذراع الليل
ليل السل، كالأم الحزينة
لم تزل تبصق آلاف المساكين: المدينة.
في مقاهيها، وفي حاراتها السود اللعينة
__________
(1) - م. ن، ص 224.
(2) - عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ص 339.
(3) - صلاح عبد الصبور الأعمال الكاملة، 1/269.
(4) - صلاح عبد الصبور: الأعمال الكاملة، 1/269.
(5) - البياتي: الديوان، مج1، ص 120.(1/221)
وعلى أشجارها الصّفر الدميمة
يولد الخوف، كما تولد في أعماقها السفلى: الجريمة.
إنها الصدمة العنيفة يكشف عنها الشاعر في لقائه بالمدينة والرفض الصريح لها، يقول البياتي في هذا الصدد: "وكانت الصدمة الأولى حينما اكتشفتُ حقيقة المدينة، كانت مدينة مزيّفة، قامت بالصدف وفُرضت علينا، لم تكن تملك من حقيقة المدينة أكثر من تشبّهها ببهلوان أو مهرّج يلصق في ملابسه كل لون أو أية قطعة يصادفها أما أعماق المدينة الحقيقية التي عاشت قرونا على ضفاف "دجلة" وولدت وعاصرت حضارات عظيمة فقد شعرتُ بأنها ماتت واختفت إلى الأبد ولم أكن أرجولها العودة وإنما رجوت لها امتدادا كامتداد النهر الذي ينبع ويجري إلى البحر الكبير يعانقه ويذوب فيه، ومن هنا كانت الثورة على المدينة رفضا لشكلها القائم، ولم يكن رفضا عاطفيا، وإنما كان بذرة لتمرد هو الذي يولِّد الثورة"(1)
وليس أناس المدينة هم وحدهم المتّسمين بالقهر والقمع والاستبعاد، فحسب، بل أن المدينة نفسها تتصف بذلك، فها هي ذي القاهرة لا تبالي بأختها (السويس) المحارِبة الصامدة التي تأكلها الحرائق:
هل تأكل الحرائق
بيوتها البيضاء والحدائق
بينا تظل هذه القاهرة الكبيرة
آمنة قريرة
تضيء فيها الواجهات في الحوانيت وترقص النساء
على عظام الشهداء(2)
إن القاهرة هنا تتنكر لأختها ولا تواسيها في عذاباتها، كما تنكر الإنسان لأخيه الإنسان تماما وما الجمع بين تلك الثنائيات الضدية: بين ما هي عليه القاهرة وبين ما تعانيه (السويس) سوى تكثيف وتركيز لمبدأ اللا تضامن بين مدينة ومدينة، وبين أناس هذه وأناس تلك:
والآن وهي في ثياب الموت والفداء
تحصرها النيران وهي لا تلين
أذكر مجلس الملاهي على مقاهي "الأربعين"
بين رجالها الذين
يقتسمون صمتها الدامي وخبزها الحزين
__________
(1) - عبد الوهاب البياتي: تجربتي الشعرية؟، الديوان، 2/8.
(2) - أمل دنقل: قصيدة (السويس)، الأعمال الكاملة، ص 93 وما بعدها.(1/222)
ويفتح الرصاص-في صدورهم- طريقا إلى البقاء
ويسقط الأطفال في حاراتها
فتقبض الأيدي على خيوط "طائرتها"
وترتخي هامدة في بركة الدماء
وتأكل الحرائق
بيوتها البيضاء والحرائق (1)
والمتتبع لهذه القصيدة إلى نهايتها، يجد أنه تجتهد في المقابلة بين المتناقضات، فهنا(في السويس) ثبات، وهناك (في القاهرة) جمود، وهنا يموت الأطفال الأبرياء وتحرق الحدائق والبيوت، وهناك حياة، ولكنها حياة زائفة فارغة لاهية، أقصى ما فيها هو تجزية الأوقات في المقاهي وهذه الواجهات والحوانيت المضاءة، دلالة على منطق الربح والاستهلاك الذي يستحكم النفوس، ونعتقد أن هذا الكم التراكمي الجامع لأجزاء صور متناقضة يسهم إلى حد بعيد في تأطير صورة المدينة في حياتها اليومية وفي علاقتها بغيرها وعلاقة أناسها فيما بينهم، ولذلك فإن أجزاء صور هذه القصيدة لا تتراكم وتلتئم بشكل مجاني، بل إنها لصور منتقاة، قصد الشاعر من خلالها إلى الإيحاء بما يتضمنه واقع المدينة من متناقضات ومفارقات فالمدينة كأهلها، وربما بسبب منهم قامعة قاهرة:
رفضتنا في الدجى تلك المدينة(2)
وليس من سماتها الرفض فحسب، بل إنها أيضا:
... تمر على جثث الفقراء(3)
هذا، إضافة إلى التدليس والتزوير اللذين هما من أهم خصائصها الكثيرة :
لأن مدينتنا تعشق الله في ثوب سارق
وتغتال عاشق(4)
بل إنها مدينة:
لا أحد يملك فروة رأسه فيها (5)
لأنها :
مدينة تحترف التمويه والطهارة(6)
أوهي المدينة المظلمة، التي تنعدم فيه الأضواء والأنوار الهادئة، والتي لا ينفع معها تضرع الشاعر لتخليصها مما هي فيه:
__________
(1) - م.س، ص.ن.
(2) - أحلام مستغانمي: على مرفأ الأيام، ش.و.ن.ت، الجزائر، ط1، 1972، ص 48.
(3) - أحمد حمدي: الحب في درجة الصفر، مجلة المجاهد، ع107، س1977، ص126(دراسة).
(4) - حمدي بحري: ما ذنب المسمار ياخشبة، ص 92.
(5) - ربيعة جلطي : ديوان: شجر الكلام.
(6) - خليل حاوي: الديوان – ص 235.(1/223)
أجثولكم
مُدّوا لهذه المدينة
شعاع نور وهدى(1)
إنها مدينة مغضوب عليها ؛ ذلك لأنها "مدينة الصفيح"(2)، تفقد إلى أدنى شروط الحياة الإنسانية، فالشاعر لم يجد فيها إلا "الإسمنت والحديد والصفيح وعلب السردين وكل شيء يشي به ويتآمر ضده"(3)، وبالأخص ساستها وملوكها السكارى المستهترين:
يتعبني زمن الملوك السكارى على شرفات القصور-
الظليلة، والطرقات التي سئمت صمت أهل المدينة –
يا زمن أهل هذه المدينة قد سكن العهر كل بيوتهم-
ثم لا يحزنون... (4)
هكذا يجسد الشاعر التردي الذي يدلف إليه حتى وجهاء المدينة، كما أنه يعكس مدى القهر والاستلاب الذي يعانيه المحكوم بازاء الحاكم المستهتر .
ب- فلسفة القمع السياسي:
يتموقع البعد السياسي في قصيدة (المدينة) تموقعا حادا، وذلك لأن المدينة هي مركز السلطة كيفما كان نوعها من جهة، وهي بؤرة التفاعلات والاختمارات والأحداث السياسية بشتى أنواعها من جهة أخرى، لذلك فهي أظهر ما تكون فيه علاقة الحاكم بالمحكومين، والسلطة بالشعب باعتبارها المركز أو لقربها منه.
ولعله من الأهمية بمكان التأكيد على بروز الجانب السياسي في الخطاب الشعري، لا يعني بأية حال من الأحوال، إنه يتسم بالخطابية، أو أنه عبارة عن بيانات سياسية فارغة من الشعر. بل الأصح أن البعد السياسي، هو أحد مكونات التجربة الشعرية في المدينة عموما،وهوأحد الأقدار اليومية التي لا يمكن لساكن المدينة أن ينفصل عنها أو يتحلّل منها.
__________
(1) - مليكة العاصمي: ديوان كتابات خارج أسوار العالم، عيون المقالات، الدار البيضاء، دار قرطبة للطباعة والنشر الدار البيضاء، ط2، ص38.
(2) - م. ن،ص 19.
(3) - البياتي : تجربتي الشعرية، 2/111.
(4) - محمد زتيلي: ديوان فصول الحب والتحول، ص 80.(1/224)
وواجب التنويه إلى أن الحركة الاجتماعية لا تنفصل عن "نظيرتها السياسية، إن لحمة واحدة تجمع بينهما وهي المجتمع نفسه الذي تسري وتتمظهر فيه الحركة"(1)، ولذلك فإن الأدب المعبّر عن هذا الواقع وحركيته المجتمعية، لا بد وأن يكون إلا مُسيّسا، لأن تجريد الأدب –الذي هو موقف ورؤية– من انتمائيته السياسية وفكرانيته (Intellectualisme) يفرغ التجربة من محتواها، ويحد من أبعادها، ويسمها بالضحالة ويميّعها.
وحتى ولوافترضنا أن الشعراء المعاصرين، لم يكونوا متعاطين السياسة، بمعناها الخاص، أو ممارسين لها بصفة مباشرة –وهوأمر فيه نظر- إلا أن هذا لا يعني البتة، أنهم كانوا دون وعي سياسي، وبالتالي لا يعني هذا أن خطاباتهم الشعرية لم تكن متصلة بمسائل السياسة ولومن زاوية التفاعل . فالشاعر – والإنسان عموما- لا يمكنه أن يكون كسموبوليتيا منفصلا عن واقعه وتفاعلاته، أو مغمضة عيناه دونه إلا في حالات شاذة.
ونعتقد أن تناول البعد السياسي في قصيدة المدينة، يمتلك قدرة كبيرة على عكس جانب مهمّ من الحياة في المدينة، حيث تصبح للقصيدة إمكانات تعبيرية وحركية هائلة، هي أقدر ما تكون على عكس مناخات العصر وأمزجته، وما يضطرم فيه من أحداث، عكسا حادا ومباشرا حينا، وصارخا ومعقدًا أحيانا أخرى.
__________
(1) - د/ احمد المديني: أسئلة الإبداع في الأدب العربي المعاصر، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1985، ص 21.(1/225)
ولماّ كانت الذات الشاعرة قد عجزت عن تحقيق ما تصبوإليه من علاقات اجتماعية كانت تأملها، نتيجة الاستبعاد الممارس ضدها، من قبل المدينة وأهلها-كما سبق ورأينا - ونتيجة تقطع وشائج العلاقات الإنسانية فيها، وبعد أن عجزت هذه الذات عن بلورة ذاتها وموضعة طموحها في أنساق مجتمعية تليق بها، وبعد أن أدركت بأن هذا المجتمع الذي نزحت إليه، قد شاخ وتغضّن، وأن "ما يظهر عليه من بعض الحيوية ليس إلا مكافحة للهرم بعد أن تبددت المنعة"(1) وانهارت ركائزه، وأصبح الشر من أبرز خصائصه، بعد هذا، راحت تبحث أسباب هذا الهرم، خارج النطاق الاجتماعي، فوجدت أن طغيان فلسفة القمع والعنف السياسي والانغماس في الملذات لدى الحكام، وسيادة عقلية الرضوخ والاستسلام لدى الشعوب هي أحد مسببات هذا الوضع الشائخ المتردي ،وبالتالي عذاب الإنسان وضياعه فيه:
يضاجعني زمن الجوع والاغتراب
يتبعني زمن الملوك السكارى على شرفات القصور-
الظليلة، والطرقات التي سئمت صمت أهل المدينة -
يا زمني أهل المدينة هذي المدينة قد سكن العهر كل بيوتهم-
ثم لا يحزنون ...
يلاحقني زمن الخصي والانفتاح على العهر-
أيضا يساومني خبزتي المتخمون من السكر والحوريات.
أنا ضائع بين من هاجروا... بين من ناصروا... بين
من نافقوا، ضائع بينهم، أيها الناس ضعنا جميعا...
تشتت شمل المهاجر
أقصد شمل المناصر
بل قد تجمع شمل المنافق ... أقصد ضعنا
... ... ... ***
يلاحقني زمن الملوك السكارى على شرفات
القصور الظليلة، لكنّي ضائع بين هذي الوجوه
أفتش عن مدخل للمدينة لا أو د الهروب
فمن أين يدخل هذه المدينة يا وطني الفقراء ؟(2)
__________
(1) - م. س، ص. ن.
(2) - محمد زتيلي: فصول الحب والتحول، ص 80-81.(1/226)
لا يحتاج هذا الخطاب الشعري إلى توضيح، فهوأبين ما يكون على الوضع السياسي والاجتماعي المتردي في زمن المدينة، ولا يحتاج إلى تحوير لخطاب إيديولوجي. فهوفي أبسط معانيه، خلاصة مريرة لواقع الإنسان السياسي المتشبع بالمعاناة المريرة، والقهر السلطوي السياسي، المفتقد لخيوط الأمل . وما ملاحقة فعل (الخصي) للشاعر-الخالق- إلا دلالة صريحة على داء العقم، وافتقاد الرجولة،وأداة الافتضاض المخصبة، المولدة لنسغ الحياة وإمكانية التوالد والاستمرارية، وما ملاحقة (العهر) إلا دلالة على افتقاد الكرامة الإنسانية وامتهانها.
وعلى الرغم مما يبدوفي هذا المقطع من احتجاج سلبي، وعلى الرغم من أنه لا يحمل –في ظاهره- من الثورية التي ذهبت إليها ثورات هذا العصر الدامية شيئا كثيرا، إلا أنه، ذوطابع تغييري تثويري، مبطن برفض احتجاجي، ضد كلّ ما من شأنه استعباد الإنسان، والنيل من كرامته وكبريائه الإنساني.
ومهما يكن، فإن الشعر العربي المعاصر –في مجمله- كان شعر مراهنة على التحرر الإنساني، وكان شعر ثورة من أجل الكرامة الإنسانية المجترحة. ولماّ كان لابد لهذه المراهنة من أطر مرجعية تستند عليها، ومرجعية ثقافية تنهل منها، فإنّ الشاعر وجد نفسه معنيا وبإلحاح بمعرفة خبايا وخفايا المدينة، وما يمور فيها من تدليس وتزوير. فجابه-بجرأة نادرة وبوعي شعري مكين وصريح- رموز هذا التدليس والتزوير ،وفضح مباذلهم وشناعة أفعالهم :
وعندما تعرت المدينة
رأيت في عيونها الحزينة:
مباذل الساسة واللصوص والبيادق
رأيت في عيونها : المشانق
تُنصب السجون والمحارق
والحزن والضياع والدخان
رأيت في عيونها: الإنسان
يُلصق مثل طابع البريد
في أيما شيء
رأيت: الدم والجريمة
وعلب الكبريت والقديد
رأيت في عيونها: الطفولة واليتيمة
ضائعة تبحث في المزابل
عن عظمة
عن قمر يموت
فوق جثث المنازل
رأيت : إنسان الغد المعروض في واجهة المخازن
وقطع النقود والمداخن
مجللا بالحزن والسواد(1/227)
مكبلا يَبصِق في عيونه : الشرطي
واللوطي
والقواد
رأيت في عيونها الحزينة :
حدائق الرماد
غارقة في الظل والسكينة(1)
لقد استطاعت دفقة الفاعلية الشعرية، ونبوءتها بالرعب المتعين، والآتي على حد سواء، أن تعري واقع المدينة وتفضح المعاناة السيزيفية للإنسان فيه، وأن تبين مدى الاستلاب الذي يطاله، فلقد تبدت " المدينة في هذه القصيدة " عارية " أي أنها عجزت عن أن تستمر حتى في تغطية سوءتها بقشرة من قشور الزيف، وهي إذ تتعرى تظهر على حقيقتها بؤرة لكل ألوان البؤس والقهر، ومظاهر هذا القهر كثيرة، فثمة القهر المادي الذي يعادله في القصيدة ( السجون والمحارق، والدم والجريمة، والطفولة الباحثة في المزابل عن عظمة )، وثمة القهر المعنوي الذي يعادله " الإنسان يلصق مثل طابع البريد، وإنسان الغد المعروض في واجهة المخازن وقطع النقود ". لقد هُزمت المدينة حين هزم فيها الإنسان وهزيمته عميقة، وعمقها كائن في معنيي " الطفولة " و" اليتم "، وكائن في ( الإنسان يلصق مثل طابع البريد في أيما شيء ). لقد أصبح هشا ضعيفا ( ليس أكثر من ورقة ( طابع بريد )، وتجمد وانعدمت فيه الحياة ( يلصق )، وفقد القيمة إذ فقد التفاوت ( طابع بريد-في أيما شيء ). ونحن نجد كذلك: ( في إنسان الغد المعروض في واجهة المخازن وقطع النقود والمداخن ) ونجده على نحوأكثر مأساوية لأنه أكثر آلية. وأخيرا تبرز هزيمة الإنسان على نحوغليظ قبيح، وذلك حين يصور : مكبلا، يبصق في عيونه الشرطي واللوطي والقواد )(2).
__________
(1) - عبد الوهاب البياتي: قصيدة (المدينة)، ديوان يوميات سياسي محترف، الأعمال الكاملة، مج2، ص 281- 282.
(2) - محمود الربيعي : الشاعر والمدينة، عالم الفكر، مج 19، ع3، ص 157.(1/228)
وهذا العرض الجارف والعنيف، وهذا التجسيد الصريح غير الموارب لنفايات المدينة والتعسف الممارس في واقعها، ليس فعلا مجانيا أو توجها تشاؤميا، بل أن ظروفا سياسية جمة افترضته، وأن تحولات جذرية وقضايا عامة كان يمور بها الوطن العربي اقتضته؛ ممثلة في الانتصارات والهزائم المتوالية، وتخلفه على مستوى الساحة العالمية، وزوال العزة والمنعة، اللتين أصبحتا غير مجديتين في ظل توالي هذه الهزائم. وسيادة منطق التعانف والتصادم، نتيجة غياب الديمقراطية وطغيان "القانون العرفي" الوحيد الذي استطاع أن يصمد ويستتب وقد تهافتت تحته وانسحقت القوانين السماوية والوضعية التي تقر العدل والمساواة "(1) :
أصبح العدل موتا، وميزانه البندقية، أبناؤه
صلبوا في الميادين، وأشنقوا في زوايا المدن
قلت : فليكن العدل في الأرض لكنه لم يكن
أصبح العدل ملكا لمن جلسوا فوق عرض الجماجم
بالطيلسان –
.... الكفن
ورأى الله هذا غير حسن(2)
من هذا الوضع؛ الذي يمثل فيه العدل غيابا كليا، وينحرف عن مفهومه السماوي، ومن وضع آخر سببه خيبة الأمل السياسية، ينبثق الشعري الثوري الاحتجاجي، شعر الأسى والغضب المتفجر، الذي لا حاجة للشاعر فيه لاصطناع الإيماءات المبهمة، أو الإشارات الخفية. فالواقع الراعب المرعب لا يحتاج إلى إيماء وإيحاء :
مدينتي الحزينة الصماء
تخاف من حاكمها الشرير
الميت الضمير(3)
إن هذه المدينة مبغوضة، لكن ليس لأسباب ذاتية محضة، بل من أجل أسباب سياسية واضحة، أو بعبارة أخرى ليست مرفوضة لذاتها، بل نفورا من
(حاكمها الشرير، الميت الضمير )، ومن أجل تغييبها للإنسان كقيمة عليا وحرة، وأيضا نتيجة ما يشيع فيها من ظلم وإقطاع واضطهاد وتخلف كيفما كان نوعه وسببه :
مدينتي استباحها الغجر
مدينتي أهلكها الضجر
__________
(1) - د/ أحمد المديني : أسئلة الابداع ص 20
(2) - أمل دنقل: الأعمال الشعرية الكاملة، ص 269.
(3) - اليباتي – الديوان، مج1، ص 297، 298.(1/229)
مدينتي، القمر
يخاف من بيوتها، المنفوخة البطون
يخاف من عيون،
حاكمها الشرير
الميت الضمير(1)
فالاحتجاج قائم على المدينة وضدها من حيث هي " ظلم وحرمان وعوز من جهة وترف وإسفاف من جهة أخرى"(2)، فخوف القمر رمز الأمل والخلاص والتفاؤل والسمومن الحاكم الشرير، الميت الضمير – رمز الاستبعاد والصلافة – حاكم المدينة، هو المعادل الشعري المشروط لجهالة الواقع، وجوه المرعب، بل وصمته المتآمر المريب :
بغداد درب صامت، وقبة على ضريح
ذبابة في الصيف لا يهزها تيار ريح
نهر مضت عليه أعوام طوال لم يفض
وأغنية محزنة
الحزن فيها راكد، لا ينتفض !
وميت، هيكل إنسان قديم(3)
__________
(1) - م.ن، ص. ن.
(2) - د- مناف منصور : تجربة المدينة عند البياتي، قضايا عربية، ع2، س1975، ص 91 .
(3) - عبد المعطي حجازي، قصيدة : (بغداد والموت)، الديوان، ص 181.(1/230)
وبغداد هنا ليست إلا جزء من كل، فقتامة صورتها، وركود حزنها، وجوها الكابي، ينسحب بكليته على جملة الظروف السياسية التي يعانيها المجتمع العربي ككل، من أقصاه إلى أدناه، " وهنا تصبح المدينة مرآة ورمزا للأوضاع السياسية التي تعم"(1) الأمة العربية ككل، وليست كآبة بغداد المدينة، عندئذ إلا انعكاسا لكآبة الحياة العامة(2) وضراوتها. وعلى هذا فإن الشاعر العربي المعاصر – بسبب من نزعة الثورية – لا يقبل بالمجتمع المديني "كعالم إلا من أجل أن يدخل فيه الإرهاب والتحدي والانحراف"(3) الذي تلتقطه حاستها الشعرية الرهيفة الرائية التنبوئية، ولذلك فإن الموقف المسالم مع المدينة في جانبها السياسي، والذي جعل منه عز الدين إسماعيل، موقفا حتميا، أو نتيجة نهائية للصراع الذي كان دائرا بينها وبين الشاعر(4)، هو رأي فيه نظر، ذلك لان هذا القبول، ما هو إلا قبول مشروط، أو قبول غائي ذي هدف تجسيدي لما سبق (أي التحدي والإرهاب)، ولذلك فإن الخطاب الشعري المعاصر ذي الأبعاد السياسية "لا يمكن فهمه إلا كتحريض وتحدّ ... فهويكون شيئا آخر واكثر بكثير مما يبدوأنه يقوله"(5) .
ولم يكن الشاعر- دائما – يفضل أسلوب المواجهة المريحة، والمكاشفة العنيفة، بل أنه كثيرا ما كان يلجأ إلى تغليف وتقنيع موقفه، وتكثيفه عن طريق الرمز، وبالأخص عندما تحتدم المواجهة، ويزداد القمع ضراوة، وهذا ما نراه عند السياب في عهد طغيان الملكية الإقطاعية في العراق:
أهذه مدينتي ؟ جريحة القباب
فيها يهوذا أحمر الثياب
يسلط الكلاب
على مهود إخوتي الصغار... والبيوت،
__________
(1) - عز الدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ص 348 .
(2) - ينظر: م: ن، ص. ن .
(3) - هنري لوفيفر: ما الحداثة، تر/ كاضم جهاد، دار ابن رشد للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1983- ص 22.
(4) - عز الدين اسماعيل الشعر العربي المعاصر، ص 342.
(5) - هنري لوفيفر: م.س، ص 22.(1/231)
تأكل لحومهم، وفي القرى تموت
عشتار عطشى، ليس في جبينها زهر(1).
فإذا ما شذت الجماعة وخضعت للواقع المفروض، وانقادت لرغبات أو نزوات فرد متحكم، حتى ليخال أن هذا الشذوذ أصبح أمرا شرعيا ومألوفا، تكرس الجماهير تعاليمه، فإن الشاعر والثائر وحده –بفضل حسه المتألق- هو الذي يثور ضد هذا الظلم، ويصحح هذا الشذوذ المكرس، وينفي شرعيته، لأنه لا ينقاد إلا لبراءته الذاتية، ولا يصدر – في أحكامه ومواقفه - إلا عن أصالة مكينة وعمق في المعاناة؛ مع إيمانه القوي بكرامة الإنسان وقابلية للارتفاع والسمو.
يعمد الشاعر إلى تقنيع تجربته السياسية بقناع أسطوري رمزي، قاصدا من خلال هذه التهويمات الأسطورية الرامزة (يهوذا، عشتار ) إلى تكثيف الموقف، وتجسيد تأزمه، مؤكدا من خلال ذلك قمعية الواقع السياسي وسيادة عنصر الشر، بحيث (يهوذا) رمز القمع والاضطهاد يقتل البراءة والمستقبل (الأطفال)، وحيث (عشتار) رمز (الحياة) تموت من جراء الجفاف والعطش وفي هذا تأكيدا لفقدان عنصر الخصب والنماء، وتغليبا لعنصر الموت والقحط.
وميزة هذا الإرماز الحامل للمفارقات، أنه يوفر مساحة أو سع، ويمكِّن من احتواء التجربة السياسية، وإعطائها بعدا حضاريا وإنسانيا أكثر شمولية، كما أنه يجنبها التناطع المباشر مع السلطة. وبهذا نستطيع القول، إنه تقنية شعرية جديدة، جابه بها الشاعر السلطة القامعة في أحلك فترات الحياة العراقية، واستطاع أن يضفي على موقفه الرافد غلالة غائمة جنبته شر إجراءاتها.
__________
(1) - الديوان، 1/472-473.(1/232)
ولكن يجب التأكيد على أن موت (عشتار) ليس أبديا ؛ فهي ما تلبث أن تحقق يقظتها، وتجدد حياتها بتجدد الفصول، وفي هذا تأكيد على أن الواقع القمعي ليس مستمرا، فهومهما كان حالكا إلا أن الفجر سينبلج، وهذا من خلال الثورة المنتظرة، والانتفاضة المأمولة، حينما تحقق عشتار يقظتها، ولذلك فالقناع الأسطوري، زيادة على كونه يثري التجربة ويجنبها المواجهة الصريحة، فإنه يبطنها بموقف ثوري نضالي كامن، موقوت الانفجار بين اللحظة والأخرى(1)، وبهذا يصبح الموت بداية جديدة، لحياة جديدة وزمن جديد. ويرى أدونيس بأن السياب في قصائده الخاصة بالمدينة يدعونا "إلى أن نعاني معه أبعاد هذه المدينة: البعد اليومي الاجتماعي كما تعبر عنه قصيدة "عرس في القرية"، والبعد الحياتي البرجوازي كما تعبر عنه "أغنية في شهر آب"، والبعد السياسي القومي كما تعبر عنه "رسالة من مقبرة". ويلح علينا أن نرى إلى أبعاد اليباس كيف تغطي المنظور كله، وتحوّل المدينة إلى مقبرة، إلى "حبال من الطين والنار، يمضغن قلب الشاعر ... "(2)، ليغرق الشاعر بعدها في غربة قاتلة، غربة في الداخل مع النفس، وغربة في الخارج مع المدينة القاهرة المميتة.
فهدا زمن القهر وتكميم الأفواه، حتى أن الشاعر يندهش من رؤيته بعض الطيور تغني:
يا عصافيري الملونة
كيف تغنين
والبوليس يقف بين اللهاة والحلق
يمتشق الموت وإنزال العقاب(3)
__________
(1) - يتخلى هذا بصفة خاصة بقصائد مثل : المومس العمياء، أنشودة المطر، الأسلحة والأطفال، المخبر، ينظر ديوان بدر شاكر، السياب- ص 509-474-563-338.
(2) - أدونيس، علي احمد سعيد: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط2، ص 215.
(3) - ربيعة جلطي، شجر الكلام، ص 95.(1/233)
فالذات الشاعرة تعاني زمن الخيبة المريرة، بل إنها لفي منتهى الانكسار، يقتلها العجز والخذلان، فالعصافير وحدها هي التي استمرت في الغناء، لأنها لم تع ما حولها، أما الإنسان فعلى الرغم من أنه في زمن الربيع، زمن الحياة والفرح وشدوالطيور، إلاّ أنه يعاني قهر الصمت، ورعب الموت، وقمع
البوليس ...
ونعتقد أن المقابلة بين تلك الثنائيات الضدية المتمثلة في (العصافير الملونة والبوليس المترصد)، (الغناء والموت)، ليست مجانية، بل رصد مكثف لواقع إنساني مليء بالرعب، في مقابل واقع حيواني مليء بالفرح والحبور، غير عابئ بأن يد الإنسان القاهرة سوف تطاله هو الآخر. وقد لا تكون هذه العصافير سوى أطفال أبرياء، لم يعوا بعد معنى القهر الذي ينتظرهم ... فهذا الصراع بين ثنائيات (الصمت، الغناء)، و(الموت، الحياة)، لا يكشف لنا إلاّ عن عطاء ذات مرهقة تنضح مرارة، ويتوغل بنا إلى خارطة واقع سياسي قمعي، تواطأت فيه حتى الأرض مع الحاكم ضد المحكوم:
مالَكِ أيتها الأرض
واسعة إذ يبصم ملك
وإذ يبصق مملوك
أضيق من حمى في صدر مطعون
إذ يستصرخ مياها لغسل الروح(1)
يمكن القول بان هذا لا يعدوأن يكون محاكمة صريحة لواقع سياسي غاب فيه العدل، تتسم – في أحسن الأحوال- بالخطابية والمباشرة، أو أن (السياسي) يغلب فيها على (الشعري)، ولكنه يخيل إلينا أن عنف الواقع، هو الذي افترض هذه المبادهة، واقتضى هذه المكاشفة التي خَفَتَ معها النَفَسُ الشعري. فواقعٌ فيه:
تكفي حفرة بئر مباركة
لرد جميع سقائي المدينة(2)
واقع لا يفرض إلا المواجهة الصريحة، والثورة العنبفة ضد التقتيل الجماعي كيفما كان نوعه، وبأي الأعذار كان. ولعل هذا الإحساس الإنساني النبيل، يخرج التجربة من أسار واقعها المحلي، لتحتضن الواقع الإنساني في شموليته، ولتعبر عن تظلم وتطلعات كل مضطهدي العالم، ومعاناتهم، وخوفهم الليلي المدلج:
الليل شلال قار يسيل
__________
(1) - م: س، ص 87.
(2) - م. ن-ص 13.(1/234)
سندياته تلوح بخواتمها في البحر
لا ثانوس
شمس تصلي خارج المسجد
مسجد يخطب خارج المدينة
خفاش يشرب من ماء المراحيض الموزعة
بزة عسكرية، أو تاج
تاج، أو بزة عسكرية
هكذا توزع الخوف الطازج
فلا تخرس(1)
من الواضح أن النزعة التهكمية، هي الغالبة هنا، وما التهكم سوى عنف مبطّن وعدوانية مغّلفة اتجاه الأخر (السلطة) التي كانت البادئة، والهدف من هذا النزوع الساخر والتهكم اللاذع الذي يقلب الأمور ويأتي بالمفارقات، حتى لأنها تغدوصوراً كاريكاتورية ساخرة، الهدف منه هو تحطيم الصورة غير المرضية لواقع مكرس وإعطاء انطباع ذاتي، ولووهمي بالتشفّي في الأخر القاهر، والانتقام منه، وبالتالي نوع من التثمين للذات المقهورة المهانة، ورد الاعتبار لها، ولا ريب في أن هذا التحطيم الوهمي الهروبي، هو وليد حالة انهيار نفسي شديدة الوقع، يريد صاحبها التخلص منها، حتى ولوبالوهمي الآني المسكِّن.
وتستمر النزعة التهكمية –التعويضية- ذات اللبوس السياسي لتبلغ أقصى أمدائها عند الشاعرة المغربية، (مليكة العاصمي)، حينما تتصدى لتصوير الواقع السياسي العربي، ومدى المفارقات التي تحكمه فتقول(2):
أجثولكم
مدوا لهذه المدينة
شعاع نور وهدى
.......
اليوم يأكل الأكباش كل إنسان تعيس
هذا غريب
لكنه حقيقة في عصرنا الحديث
الحيوان من فصيلة الحمير
يجلس في الأريكة الكبرى
لكي يحاضر الرعاع
وينهق الشعارات الكبار
الداء ينتشر
داء التحامر
ينفثه المريض في النهيق
أعراضه: أن يتبلد الإحساس
ثم تموت النظرة الحنونة
وتستطيل الأذان
وينبت الشعر على الجلود
ثم يصير الشخص من فصيلة الحمير،
يليق للركوب،
يحمل أثقال السادة الكبار
يظل خانعا، وظهره مطية للآخرين
وينقل التراب والحجر،
والجير والمتاع
لأن قصر السيد المطاع
__________
(1) - م. س، ص 41.
(2) - مليكة العاصمي: ديوان : كتابات خارج أسوار العالم، دار قرطبة الطباعة والنشر، الدار البيضاء- المغرب، 1988- ص: 38-41.(1/235)
يحلم أن يغالب القلاع
لهفي عليك أيها الشعب الحزين
يعم داء العصر
يقتل كل إنسان بهذا العصر
تتوشح القصيدة –التي عمدنا إلى حذف مقطع صغير منها- بوشاح أسود قاتم، لا شك هو وليد واقع أكثر قتامة منه، حيث الأمور مقلوبة تمشي على رأسها وحيث الإنسان حيوان، بليد الحواس، خاضع، لا همَّ له سوى طاعة سيده فيما أمر، لا يثور ولا ينتفض. القصيدة وليدة تجربة مريرة، ويأس محبط، وواقع دامس مهيب، ووليدة ذات "يمخضها الألم ويخضخضها، فترغي في اللحظة –الحالة، وتغيب في الاسوداد. كل هذا اكسبها مهارة في الألم، تجوهر فيه وتلألأ، وتزحزح، وتموسق، وترقص، فتشكل بألوان مزقه معارض"(1) فسيفسائية مؤلمة لواقع حضاري وسياسي يختنق، ويسير نحوحتفه، إن هو استمر على هذا الحال.
فالهم السياسي يلعب دورا رئيسيا في تشكيل قصيدة المدينة، وتحديد اتجاهها، ذلك لأن الخيارات الحرة منعدمة، والذات مهددة؛ فهي تعيش في مجتمع شيّأه القهر وسلبه هو يته، الإنسان فيه محاط بشرانق صفيقة، ينسج حوله أكفانه، يحاول التخلص من واقعه المرعب ومعانقة الطبيعة، لكن الشعاع يفضحه والعيون المترصدة تحجزه، والسنديان يحطم ضلوعه:
خرجت من شرنقة حريرية
نسجت حولي كفني
هربت كي أعيش قبل أن تشربني البحيرة
تحطمني ضلوع هذا السنديان
هربت من تحت عيوني وتسللت
ولكن الشعاع يفضح الظلام
أحببت أن أرعى غنيمات أبي في الحقل
تكون وحدتي واسعة عميقة مديدة
أكون مثل قطة فطرية مستوحشة
يا سعد أهل الغاب(2)
تحاول الشاعرة خلق عالم ذاتي خاص، تتكافأ فيه مقومات الكرامة الإنسانية، هروبا من واقع تنعدم فيه هذه الأخيرة، يتم ذلك عبر محاولة توسيع رقعة العالم الخارجي المتشرنق الخانق، ليتلاءم مع النزوع الداخلي، المتشوق إلى التحرر والانعتاق، وتلمس لحظة الأمان.
__________
(1) - م.س، من التقديم الذي أعده: محمد الصباغ للديوان، ص 8.
(2) - مليكة العاصمي : (المرجع السابق )، ص 66 – 67.(1/236)
ولما تعجز الذات عن الوصول إلى مطامحها، تلجا إلى وسيلة أخرى، تراها أكثر فاعلية، إنها السفر عبر الحلم، إلى أقاصي ذات أمداء بعيدة، وواسعة، يمكنها أن تحتضن النفس الأبية، النازعة إلى التحرر، فتخلق الأجواء التي تستطيع احتوائها:
حلمت حينما حلقت فوق الضجة السوداء والضباب
حلمت بالمدينة المقدسة
أثخنت كل ماضي العمر بالجراح
قتلت موطني الباكي
وشيّعت الروابي الحانيّة
(ماذا يكون يومي الجديد أو غدي...؟)
قبعت أصنع الخطط
أُكَلِّم التواريخ
أُصنِّف الأفكار والأشخاص(1)
إن الرجّات التي يعيشها العالم العربي، والانكسارات التي تهد كيانه، والسحق الذي يتعرض له الإنسان فيه، هو الذي يدفع بهذا الأخير إلى تلمس طرائق للخلاص، يكون أحدها الحلم، الذي هو ظاهرة إنسانية، تمكّن من توسيع الضيّق، وتضييق الواسع، ونقل الأمكنة ،وتلطيف الأجواء، وتحقيق ما تعذر تحقيقه في الواقع، فبفضله يتخلص الشاعر من آلامه الواقعية الحادة، ويعلوفوق تجاربه القاسية، ويتخلص الشاعر من التوتر المؤرق، ولذلك فهوبحق-كما يقول نوفاليس-: "... الحلم، في رأيي، سلاح يحمينا من اطّراد الحياة وسيرها المعتاد، راحة من الخيال المقيّد. حيث تختلط كل صور الحياة بعضها ببعض، وتقطع الجدية المستديمة التي يحيا فيها البالغون عن طريق اللعب الطفولي المرح، لولا الحلم لشخنا قبل الأوان، ولذلك نستطيع أن نعده هبة إلهية، ورفيقا طيبا على طريق الحج إلى القبر المقدس"(2).
__________
(1) - م.س، ص 62- 63.
(2) - عبد الغفار المكاوي: ثورة الشعر الحديث الهيئة المصرية للكتاب، سنة 1972، ج1-ص 48.(1/237)
ففي هذا الإطار الحلمي يتمكن الشاعر من التخلص من اسار واقعه القمعي البائس، ويتمكن من ابتناء واقعه المثالي المأمول. ولكن كثافة الواقع تقطع وتيرة الحلم، وترد الذات الشاعرة إلى عالم الصحو، ذلك العالم المرعب، الذي يشتت آمالها، ويحيل حاضرها ومستقبلها إلى معاناة مؤلمة (ماذا يكون يومي الجديد أو غدي... ؟)، وهوليس سؤالا بقدر ما هو تقرير حقيقة مريعة، تجمع ما بين الماضي الكالح والحاضر المرعب والمستقبل اللامأمول.
فالقمع الذي تتميز به المدينة العربية المعاصرة، ليس وليد العصر الحاضر فحسب، بل هو وليد سلوكات تراكمية وممارسات تعسّفية، تكوّنت عبر التاريخ العربي المديد، في أحلك لحظاته، يتضح هذا الأمر أكثر عند يوسف الصائغ في قصيدته (بغداد غانية القرون)، حيث يخاطبها قائلا:
وتجبّري... وتأمري
مازال يتمثل العبيد تكبّري
فلأنت سادوم وبابل فاهصري
في ليلك المحروم آلاف القرون الذاهلة(1/238)
يضيف الشاعر لبغداد (المدينة المعاصرة) أخطاء المدن القديمة وقمعها، فهي مثل سادوم القاهرة، ومثل بابل التي رآها الشاعر قامعة أيضا. وهنا تلتقي المدينة المعاصرة بسلبياتها مع المدينة القديمة، وما شاع فيها من اضطهاد للبشر واستعباد لهم، ما داموا ممتثلين خاضعين. فبغداد القديمة هي نفسها بغداد المعاصرة، كلاهما واقع ظالم، مليء بالجواري والعبيد. وهكذا يتمكن الشاعر من خلال مقابلته ما بين ماضي المدينة وحاضرها، من انتقاد سيرورة التاريخ العربي، وشجب ممارساته التعسفية، حيث استطاع أن يدرك ماهية التاريخ ويتغلغل في ثناياه، مدركا في الآن نفسه، بأنه لا حاضر للأمة إلا بماضيها، ولا مستقبل لها إلا بحاضرها، كيفما كان هذا الأخير. ولذلك نعتقد بأن هذا الربط بين الحاضر والماضي، ما هو إلا دلالة على وعي الذات، وإدراكها لماهية الحضارة التي تعيش فيها، مما يولد تجادلا بين هذين القطبين (الذات والحضارة). تُغنى معه التجربة الشعرية وتتمخض عنه أبعاد أخرى أكثر تقدما ونزوعا نحوالغرابة والتعقيد، وذلك حينما تحاول الذات الشاعرة – بفضل حدسها التنبئي، ونزعتها الإصلاحية - إصلاح فساد الواقع، والسموبه. ولكنها تغترب عنه عندما تكتشف تأصّل داء الشر فيه، وحينما تتأكد من استحالة إصلاح وضعه الميؤوس منه(1).
(((
الفصل الثالث:
التأسيس الشعري
للمدينة ومسار الوعي المغترب:
أ- وعي الذات والعالم:
1- مفهوم الاغتراب
2- مصادر اغتراب الوعي في شعرنا (الاغتراب المتفرد)
? الوعي المنشطر
3- مظاهر الاغتراب ومستوياته:
أ- الاغتراب الذاتي
ب- الاغتراب الموضوعي
__________
(1) - فضلنا في هذا الفصل عدم التعرض للأعمال السياسية، لكل من محمود درويش ونزار قباني، ذلك لان إبداع الأول هو حالة استثنائية ووضعية خاصة، كما أن أعمال الثاني لا تخصص بالانتقاد والهجاء مدينة بعينها، إلا فيما ندر، وما بقي فهوينسحب على الواقع العربي برمته، مدنه وأريافه..(1/239)
ت- الاغتراب الكوني والوجودي:
1- إفلاس الحب
2- تراجيديا الموت وتمجيد الحس العدمي.
ب – إشراقة الوجد الصوفي لقهر ظلام الاغتراب:
1- في التجربة الصوفية يتم القضاء على الذات المنشطرة
2- الرؤية بالتبصر والقدرة على الاستبطان الواعي
3- إدراك وحدة الوجود واستبصار الوحدة بين الخالق والمخلوقات
4- النزعة الثورية وحب التغيير.
أ – وعي الذات والعالم:
لعله من البديهي القول، إن النص الأدبي هو تجربة الأديب ومعاناته في مختلف مستوياتها، وأنه في إحدى هذه المستويات، وسيط إيديولوجي ذوأبعاد اجتماعية؛ على اعتبار أن الانتماء الاجتماعي هو الذي يحدد أصول الموقف المتخذ من ظاهرة، أو واقع ما. وعلى اعتبار أن النص بمضامينه وأشكاله ما هو إلا موقف خلقه المبدع –في ظل شروط اجتماعية وسياسية وحضارية- من أجل تبليغ رسالة ما، ومن أجل إحداث تأثير ما، كما أنه رؤيا تحاول تجاوز واقع مكرّس.
فالشاعر –كمواطن- وباعتباره فنانا، فإنّ رسالته تفرض عليه أن يمنح الناس نوعا من الرؤية، وأن ينميَ فيهم متعة الفهم والوعي والإدراك وأن يدربّهم –كما يرى بريخت- على الإغتباط بتغيير الواقع(1).
ولقد أدرك الشعراء العرب المعاصرون، بأنهم لن يتمكنوا من إحداث هذا التغيير المراد وتبليغ الرسالة المرجوة، إلا عن طريق وعي الذات وإدراك العالم المحيط بهم. هذا العالم المركب الذي يعيشون وقائعه وأحداثه رغما عنهم.
__________
(1) - ينظر: نزيه أبو نضال: جدل الشعر والثورة،ص 164.(1/240)
فعلى الرغم من أن العمل الفني هو نتيجة جهد فردي، إلاّ أن محصّلاته الفكرية والشعرية مستمدة –بالضرورة- من علاقة الفنان بمجتمعه الذي يعيش فيه، وبمدى انسجامه مع أفراده، واحتكاكه بهم، واستيعابه لآمالهم وطموحاتهم، وهذا كله لا يتم "إلا من خلال الموقف أو العقيدة المشتركة، ولا يتحقق الانسجام بين الشاعر والجماعة إلا من خلال استيعابه لأطراف هذه العقيدة، ومحاولته تصفية كل ما يبدوفيها من تناقض وبلورة مراميها الجوهرية، في إطار من الانسجام الشعري"(1).
ونعتقد أن أحسن استقراء لعصر ما، لا يتم إلا من خلال قراءة معطيات الفن فيه، ذلك لأن الفن هو أقرب الوسائل للتعبير الإنساني، إذ من خلاله نستطيع بسهولة لا تكاد تخطئ الصحة أنّ نستخلص نزعات النفس الإنسانية، وتوجهات العصر، ومظاهر الحضارة فيه، وكيفية استقبال الإنسان لها، وتأقلمه معها أو رفضه لها. فالفنان وحده هو المقياس الدقيق والحسّاس، الذي لا يخطئه حدسه، في إحراز قصب السبق في إبراز الحساسيات المختلفة إزاء ظاهرة ما، أو توجه ما، وبالتالي اكتشاف المعنى الإنساني فيها، ومدى حضوره أو تغييبه، وهذا من خلال وعيه لذاته ولعالمه، ماضيا وحاضرا.
وربما من أجل هذا – وبناء على ما رأيناه في الفصل السابق – فإننا نعتقد أن الوعي الذي يؤسس لتناول موضوع (المدينة) عند الشعراء المعاصرين الذين سبق ذكرهم، هو وعي يدرك أن أزمة المدينة من خلال الإبداع الشعري، هو وعي يدرك أن أزمة المدينة في الشعر، إنما هي أزمة تتأسس على قانون الاغتراب.
1- مفهوم الاغتراب:
والاغتراب الذي هو – في معناه البسيط – حس نفسي وشعوري يولد حالة من التوتر بين الذات التي تبدِع والمدينة التي تبدَع، بوصفها كثافة عالم ميكانيكي بلا قلب، بلا روح، جاء كنتيجة لتلك الإحباطات التي عاناها الشاعر في واقعه ذاك، وعاش حيثياتها المأساوية الحزينة.
__________
(1) - عز الدين اسماعيل: الشعر في إطار العصر الثوري، ص 41.(1/241)
ولا يجانب عز الدين اسماعيل الصواب حينما يقرر بأن هناك فرقا كبيرا بين أن تعيش المأساة وأن تدركها، "وهو نفس الفرق بين أن تكون حزينا وأن تدرك معنى حزنك، فبين الرؤية الحزينة والإدراك الناصع يتراوح الوجود بين ظاهر ماثل للعيان ومدرك كلي"(1).
وقد يبدو من الغريب "أن يتولد الشعور بالغربة لدى الإنسان رغم أنه يعيش بين مئات الآلاف من الناس، بل بين الملايين. ولكننا إذا تأملنا قليلا زالت هذه الغرابة. فالكثافة العددية نفسها من شأنها أن تهبط بقيمة الفرد فيها إلى الحد الأدنى، بل ربما قضت عليه تماما حتى لا يعود سوى رقم من الأرقام. ولهذا فإن الشعور بالغربة هو أسرع شيء يتسرب إلى نفس الإنسان في مثل هذه الحالة، وهو يزداد في نفس المرء حدة كلما كان المجتمع الذي يعيش فيه كثيف العدد"(2)، وخصوصا إذا كنا نعرف بأن معظم شعراء هذه الدراسة هم ذوي أصل ريفي وفدوا إلى المدينة.(3)
ولكن ما يجب التنبيه إليه هو أن تعريف مفهوم الاغتراب ما زال غائما معتما غير محدد على الرغم من كثرة التعريفات وتعدد زوايا النظر ومستوياتها. فما زالت الآراء والنظريات والتعريفات فيه تشكل خلافات جوهرية صميمية، حتى بالنسبة للمتخصصين، هذا فضلا عن عدم الاتفاق على أصوله وأسبابه بل وحتى مظاهره. فهناك من يربطه بالدين وهناك من يربطه باللاوعي وآخرون يربطونه بالاقتصاد والسياسة وهناك من يربطه
__________
(1) - عز الدين اسماعيل : الشعر العربي المعاصر، ص 350.
(2) - عز الدين اسماعيل: الفن والإنسان، دار القلم، بيروت لبنان 1974، ص 160.
(3) -فعلى من الرغم من الإمكانات الهائلة في الاتصال والمشاركة التي تتيحها المدينة، إلا أننا نرى "رسو" يقول: "لا ينتابني الشعور بالوحدة إلا عندما أكون في وسط الحشد والجمهور" ينظر: محمود رجب: الاغتراب سيرة ومصطلح، ص 72.(1/242)
بالمعرفة (1).
وهذه الاختلافات ليست إلا دليلا على سعة مفهوم الاغتراب، وشموليته، وارتباطه بجميع جوانب الحياة؛ بحيث راح كل باحث أو فيلسوف يفسره من الجانب الذي يراه مهما، وينظر من الزاوية التي يعتقد صحتها، طارحا بذلك، تفسيرات الآخرين، وجوانب نظراتهم.
ومهما تضاربت الآراء وتعددت التفسيرات حول هذا المفهوم فإن هذا لا يعدم كونه داخلا في صميم الوجود الإنساني. بل أن هذا التعدد والتضارب، ما هو إلا دليلا على وجوده وربما حتميته وبالأخص، في العالم المعاصر، أو بالأحرى عالم القرن العشرين،(2) الذي هو بحق "عالم يكتنفه التناقض ويعمه الاحتجاج، وتتسع فيه ثغرات الخراب، وتؤطره المدينة بهالة من القوانين والأنظمة التي تحد من حرية الإنسان، وتكبل توقه إلى معانقة طبيعته السمحة التي تنشد البساطة والاطمئنان. فراحت العلاقات تتدهور وأصبح كل شيء يقاس بمعيار مادي، وأضحى الإنسان متغربا في واقعه، إذ لم تعد العلاقات التي كانت تنبض بالوجدان حميمة دائمة، إنما احتواها التناقض والتذبذب، وأمسى القلق جوهر الأشياء في عالم متضاد يشكوالأرق والتبرم " (3).
2- مصادر اغتراب الوعي في شعرنا المعاصر (الاغتراب المتفرد):
__________
(1) - ففيور رباخ يربطه بالدين، وفرويد باللاوعي واللاشعور، وماركس بالإقتصاد ... إلخ، لمزيد من الإطلاع أنظر: عالم الفكر، مج 10، ع1، أبريل، مايو، يونيو1979 – ص: 12 - 147 وأيضا : د/ محمود رجب: الاغتراب: سيرة ومصطلح، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1988.
(2) - يعطي ألبير كامي لكل عصر صفة ملازمة له، فيرى بأن القرن الثامن عشر هو قرن الشك، القرن التاسع عشر هو قرن الخوف، بينما القرن العشرين هو قرن الاغتراب.
(3) - عبد الرضا علي: الأسطورة في شعر السياب، دار الرائد العربي، بيروت، ط2، 1984، ص 19.(1/243)
فظاهرة الاغتراب منتشرة بكيفية ملفتة للنظر، في معظم الآداب العالمية – إن لم نقل كلها – في العصر الحديث(1) وبخصوص انتشارها في الشعر العربي المعاصر، المرتبط بالمدينة خاصة، قد يقول قائل – كما هو مألوف في أكثر الأحيان – إنها لا تعدوأن تكون أثرا من آثار التأثر بشعراء الغرب ونقمتهم على حضارتهم المادية. ففي هذا كثير من الإجحاف والمبالغة المجانبة للصواب ... ذلك لأن الوعي المغترب لدى الشاعر العربي المعاصر نابغ من محنة ذاتية وواقع قهري ووعي بالوجود تعيس، يختلف كثيرا عن معاناة الشاعر الغربي.
حقا لا يمكننا أن ننكر أن بعض المظاهر الاغترابية في شعرنا هي وليدة تأثير غربي عن طريق عملية المثاقفة والتلهف إلى قراءة إبداعاته ونقوده، ونعني هنا الإنتاج الروائي والمسرحي الوجودي خاصة، وأيضا تلك الدراسة القيمة التي كتبها "كولون ولسن " عن "اللامنتمي، والتي أخذت حيزا كبيرا من اهتمام الشعراء والنقاد العرب حين ترجمتها إلى العربية "(2)، ولكن هذا لا يدعنا نسلِّم بالتأثر أو التمثُّل المطلق لهذه الظاهرة من طرف شعرائنا.
__________
(1) - فلقد أصبح الاغتراب مرضا يصيب هذا القرن، بل هو سرطان هذا العصر، فقضية هذا العصر هي قضية الاغتراب، إذ أنه "ليس هناك على وجه التقريب جانب من جوانب الحياة المعاصرة لم تتم مناقشته من خلال مفهوم الاغتراب، وأيا كانت الدرجة التي وصل إليها الاغتراب في مسار اعتباره السمة السائدة لهذا العصر فإنه من المؤكد أنه يبدوبمثابة شعار العصر". ينظر حسن سعد: الاغتراب في الدراما المصرية، ص 156، وريتشارد شاخت: الاغتراب، ص 56، عن: عالم الفكر، حول الاغتراب الكاف كاوي (م س)، ص 81.
(2) - ينظر: عز الدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ص 356.(1/244)
فإذا كان اغتراب الإنسان الغربي وليد "انهيار حضاري ودخول تشكيلة اجتماعية واقتصادية في مأزق نابع من بنيتها، حيث يحاصَر الفرد من قبل المؤسسات، فيشعر بالضياع وانهيار قيمه"(1) فإن الإنسان العربي على العكس من ذلك تماماً، إنه يعاني اغترابا من نوع آخر، اغتراب قهري، افترضه واقع رجعي، ديكتاتوري، لا يجد فيه هناءته، ولا تحقيقا لطموحاته، إنه التعاسة التي يجسدها صلاح عبد الصبور في قوله:
ورفاقي طيبون
ربما لا يملك الواحد منهم حشوة فم
ويمرون على الدنيا خفافا كالنسيم
ووديعين كأفراخ حمامة
وعلى كاهلهم عبء كبير وفريد
عبء أن يولد في العتمة مصباح وحيد ...(2)
فاغتراب الشاعر هنا وليد إحساس بالظلم ومعاناة من التراتب الاجتماعي الذي يسود المدينة، ولذلك فهو"إذ يتمزق بين قسوة الليل والضياع واللهاث خلف لقمة العيش وغياب وعي المقهورين من ناحية، والرغبة في الفرار من القبح عن طريق الشعر من ناحية ثانية، يصل إلى الإيمان بضرورة تغيير هذا الواقع"(3) المتردي العفن، بواسطة صفاء الشعر، إذ أن الفنان حينما يكتشف صفاءه فإنما "يكتشف عكر العالم، وتصطدم صلابة صفائه بصلابة العالم... وهذا الصفاء يولد الشرارة المضيئة للعالم... إن الفن ينبع دائما من هذا الصدام، من الرغبة في ألا يفقد الإنسان صفاءه... ويصبح هذا الهم الذاتي جذرا لهموم الناس جميعا" كما يقرر الشاعر ممدوح عدوان في مقدمة أحد دواوينه(4).
__________
(1) - محمد بدوي: الجحيم الأرضي، ص 74.
(2) - صلاح هبد الصبور: الأعمال الكاملة، 1/66.
(3) - محمد بدوي:الجحيم الأرضي، ص 75.
(4) - ممدوح عدوان:ديوان الظل الأخضر، دمشق 1967 ص77-83، نقلا عن احسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 200.(1/245)
ولما كان الصفاء "صفاء الشاعر" يتخارج مع "كدر العالم"، فلا محالة يحدث الانفصال بينهما وبالتالي الاغتراب. ولكن ينبغي التأكيد على أن تخارجهما وصراعهما ليس صراعا ميتافيزيقيا، بقدر ما هو صراع اجتماعي وحضاري، ذلك لأن "الصراع الميتافيزيقي يعني أن كل شاعر أصيل، لا يستطيع أن يعبر عن مجتمعه قبل أن يكشف أبعاد ذاته"(1).
وبناء على هذا فإن رحلة الاغتراب عند الشاعر المعاصر، هي في صميمها رحلة البحث عن الذات والمجتمع، داخل ركام حضاري مميت، فقد كل مقومات الحياة. فالذات منشطرة ومنجذلة بين عالمين، عالم يتراجع ويتقهقر باستمرار، وهوالواقع العربي الراهن، وعالم يتقدم آتيا من المستقبل، ولكنه غامض، غير واضح المعالم. من هذا الانشطار، والإنجذال، أو ما يمكن أن ندعوه بالوعي المنقسم، نشأ الاغتراب عند شعرائنا.
( الوعي المنشطر:
إن الانشداد بين تينك القطبين، القطب الرجعي والقطب الحلمي التغييري المتمثل في الرؤية المستقبلية، والتمزق بينهما هو سبب "محنة الوعي العربي، بكل ما تعنيه كلمة محنة من أبعاد مأساوية، ومن رغبة في الخلاص"(2) . يجسد الشاعر نزار قباني هذه المأساة بقوله:
خلاصة القضية
توجز في عبارة
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والروح جاهلية (3)
ومن المعروف أنه "كلما نمت الذات وقوي الشعور بها زادت محنتها، لأنها لكي تكون المعيار الحقيقي للوجود لابد أن تكون منطقية مع نفسها، فإذا هي صارت منطقية مع نفسها فإنها تجافي عندئذ بالضرورة منطق الوجود الخارجي "(4) الذي لا يتلاءم مع طموحاتها، ولا يلبي رغباتها التغييرية.
__________
(1) -احسان عباس:م.ن، ص201.
(2) - د/ برهان غليون: الوعي الذاتي، منشورات عيون، ط1، 1987، الدار البيضاء، ص 96.
(3) - نزار قباني: الأعمال السياسية، ص 7.
(4) - عز الدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ص 357.(1/246)
ولقد باءت بالفشل كل محاولة جادة من طرف الشاعر في إقامة توازن ما بين الذات –المخلصة لذاتها- وبين الوجود الخارجي، ومن شأن هذا الفشل أن يوقع بالذات تمزقا، ويرمي بها في مهاوي الضياع، ويولد لديها مشاعر من الحزن والغربة. ونتيجة هذا كله – بطبيعة الحال – هي الرفض
واللاّامتثال، لمثل هذه الظروف اللاإنسانيه، نرى ذلك على لسان نزار قباني:
إني رافض زماني وعصري
ومن الرفض تُولد الأشياء(1)
1@سيفا، وإن عاد نارا سيفه الخذم ... ونؤكد هنا على أن الوعي المنقسم، هو أحد أساسيات مولدات الاغتراب، إذ أنه عجزٌ عن إدراك روح الشمولية التي هي جوهر الوجود الإنساني، وإلى هذا ذهب هيجل حينما قرر بأن "جوهر الفرد ليس في فرديته لأن فرديته تشيؤ بل في كليته وشموله"(2) وربما من أجل هذا نجد أن الأدب قد حمل دوما و"في كل تاريخه شوق الإنسان إلى (الجماعة) وتحرُّق إلى (فردوس الوحدة)، وفي هذا السبيل كان هناك دائما في كل مجتمع أدب يكشف جذور الاغتراب، ويضعها في أسطع ضوء، فيساعد الإنسان على قهر اغترابه"(3)، هذا بصفة عامة.
ولكن فيما يختص بالعالم العربي فإنه زيادة على ذلك، فإن المثقف عموما، والشاعر خصوصا، مغترب بالنسبة لحضارته العربية من جهة؛ من حيث رفضه للماضي وللحاضر، ومغترب بالنسبة للحضارة الغربية من جهة أخرى؛ لكونها تمثل حضارة الآخر القاهر، والعدووالمستعمر. ولذلك لا ننتظر من الشاعر إلا إدانتها، إدانة الذات المنهارة، قبل إدانة الآخر العدائي، يقول البياتي على لسان المتنبي:(4)
أرى بعين الغيب يا حضارة السقوط والضياع
حوافر الخيول والضباع
تأكل هذي الجيف اللعينة
تكتسح المدينة
تبيد نسل العار والهزيمة
وصانعي الجريمة
__________
(1) -نزار قباني:الأعمال السياسية، ص 80.
(2) -مجاهد عبد المنغم مجاهد:الاغتراب والتشيؤ، المعرفة ع 179، كانون 1977، ص 82.
(3) -عبد المنعم تليمة: مقدمة في نظرية الأدب، ص 61.
(4) -البياتي: الديوان، 1/704.(1/247)
ولكن محنة العالم العربي الحقيقية -كما يقرر المفكر مالك بن نبي- ليست في الاستعمار بقدر ما هي كائنة فيما يسمى بالقابلية للاستعمار(1) هذا من جهة، يضاف إليه من جهة أخرى، أن الوعي العربي يعيش محنة اللااختيار واللاقرار، إنه يعيش التاريخ الحديث منه والماضي على حد سواء "كانحطاط وسقوط وعجز للذات وكتقدم هائل ومتسارع وإنجاز حضاري فذ للغير. كتدهور وهامشية وفقدان للقيمة والفاعلبة الذاتية، وكتنظيم ومديح لا حدود لهما للنهضة والقوة والمصداقية الغربية. كأمجاد محلية دارسة وسقوط في الأسر وتراجع أمام سنابك جيوش الاحتلال من جهة وكبناء لإمبراطوريات جديدة فاتحة، وتفجير لطاقات تكنولوجية وذرية واجتماعية هائلة من جهة أخرى"(2) وهذا الوعي المنقسم، أو هذه الازدواجية في الوعي، هي محنة الذات العربية المغتربة، وهي أيضا "الإشارة التي لا تكذب لضياع المكانة الذاتية وفقدان السيطرة على البيئة الطبيعية والتاريخية في عصر السيطرة المطلقة على الطبيعة والتحكم الكامل بمصير الإنسانية "(3)
__________
(1) -ينظر : مجلة عالم الفكر، مج10، ع1، (ندوة حول مشكلة الاغتراب)، ص 142.
(2) -د/ برهان غليون : الوعي الذاتي، ص 105.
(3) - م. ن،، ص. ن.(1/248)
ومن شأن هذه السلبية التي يقابل بها الوعي العربي واقعه وتاريخه، وواقع الغير وتاريخهم، ومن شأن هذا اللاتحكم في البيئة والطبيعة والمصير، أن يولد في الذات اغتراباً – في نفس الفنان على الأقل- ولكن ليس كنزعة هروبية، بل كمواجهة وتحد عن طريق تجسيده من أجل القضاء عليه. والتمهيد لانطلاقة إنسانية فاعلة وموفقة؛ "فالفنان دائما بحدسه وطموحه وجرأته الواثقة يكون شعار الانطلاق وعندما يعدم هذا الفنان في المجتمع أو عندما يكون ولا التفات له، يكون المجتمع قد تحدد بال"كيف" وتوقفت طاقته الإبداعية من توقف طموحه، يصبح المجتمع "كذا" من الأرقام، و"كم" من الفعاليات، فتتحجر قواعد السلوك فيه، وينتشر التطير ويعم التشاؤم فتظهر النظرة إلى الخلف"(1) ويسود الاستسلام والخضوع.
وبناء على هذا، وعلى وظيفة الفنان التغييرية، فإنه يمكننا اعتبار نقد الماضي (التاريخ)، ونقد الحاضر، أنه اغتراب عن كليهما، وبالتالي تمرد عليهما، وأيضا ثورة، لأنها تهدف إلى استئصال العوامل التي سببت هذا الاغتراب للشاعر –باعتباره واعياً- وبالتالي الجماهير، عن طريق تعريفها بوضعيتها الاغترابية، ذلك لأن الوعي الذاتي، أي وعي طبيعة الأزمة ورهاناتها ووعي طبيعة التناقضات التي تكبل الوطن العربي وتمزقه، هي الخطوة الأولى نحوتجاوز أزمتنا.
__________
(1) - يوسف الحوراني: الإنسان والحضارة، ص 94.(1/249)
فالشاعر عندما يجسد ذلك الفساد السياسي والانهيار الاقتصادي والتراجع الاجتماعي –كما سبق ورأينا- فإنما كان يسير نحوتجاوز هذه المظاهر المأزقية. وذلك عن طريق الوعي الذاتي الذي هو أساس الوعي المجتمعي. وهويبدأ بالمعرفة التاريخية، وهذه "تبدأ بمعرفة الحاضر وبالمعرفة الذاتية للموقف الاجتماعي وبتوضيح أهميته"(1) كما يقرر جورج لوكاتش في كتابه (التاريخ والوعي الطبقي). وعندئذ يصبح الوعي المغترب ليس موجها داخل الذات من أجل تثبيته، وإنما موجه خارج الذات من أجل فضحه وبالتالي تغييره.
ونحاول الآن استجلاء مظاهر الاغتراب وتجلياته من داخل الخطاب الشعري لا من خارجه. ولكن قبل هذا يجب التأكيد على أن مظاهر الاغتراب لم تكن كلها على مستوى واحد عند شعرائنا، وإن اتفقت أسبابها ومولداتها ... فهناك من لم تتعد عنده المستوى الذاتي الفردي، وهناك من ارتبطت عنده بالمستوى الاجتماعي، وآخرون تعدّت عندهم إلى المستوى الكوني، وأحيانا الميتافيزيقي، وبعضهم تجلت عنده في مظاهر حياته كإفلاس الحب، أو تمجيد الموت والتشبث بالحس العدمي. وليس في نيتنا مناقشة كل هذه المستويات، وإنما قصدنا إثارتها فقط والإشارة إليها في حدود ما تسمح به منهجية الدراسة(2)، ولذلك سوف نحاول جمعها تحت عناصر صغيرة تتمثل فيما يلي:
3- مظاهر الاغتراب ومستوياته:
أ – الاغتراب الذاتي:
__________
(1) - منى سعد أبو سنة : الاغتراب في المسرح المعاصر، عالم الفكر، مج 10، ع1، ص 160.
(2) - ولذلك فسوف نقتصر في إثارتها على بعض الرواد فقط، لأننا وجدنا بان الذين تلوهم من شعراء، لم يضيفوا شيئا جديداً إلى الظاهرة، بل لا تعدوأن تكون رؤاهم تكراراً لما أتى به الرواد.(1/250)
إن خير من يمثل هذا المستوى، هو الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، الذي يعتبر من أبرز الشعراء الذين واجهوا المدينة في فترة مبكرة من وعيهم الشعري، "فخرج في تلك المرحلة المبكرة من القرية إلى المدينة، أو لنقل من العام إلى الخاص، أو من "البراءة" إلى "التجريب" أو من "اللاوعي" إلى "الوعي"، أو من "الوهم" إلى "انقشاع الوهم""(1)
فالشاعر وهويودع قريته الآمنة، ليرتمي في أحضان تجربة جديدة ممثلة في (المدينة) يشعر بوحدة حادة، ووحشة قاسية، تنعكس في افتقاده للصاحب أو الصديق، وفي عجزه عن التوصل مع الآخر:
وذات مساء،
وعمر وداعنا عامان،
طرقت نوادي الأصحاب،لم أعثر على صاحب!
وعدت تدعني الأبواب والبواب والحاجب!
يدحرجني امتداد طريق
طريق مقفر شاحب،
لآخر مقفر شاحب،
تقوم على يديه قصور
وكان الحائط العملاق يسحقني،
ويخنقني
وفي عيني... سؤال طاف يستجدي
خيال صديق،
تراب صديق
ويصرخ... إنني وحدي
ويا مصباح مثلك ساهر وحدي
وبعث صديقي بوداع(2)
ويجسد حجازي هنا صدمة اللقاء، وهولكي يؤكد عنف اللحظة ورعب اللقاء، يعود بنا إلى تملي لحظة الوداع ورهبتها، لتظهر من خلال ذلك صورة القرية -عبر كثافة حضور المدينة الموحشة – من أغوار الذاكرة ضبابية ومأسوف على فراقها.
__________
(1) - محمود الربيعي : الشاعر والمدينة،عالم الفكر، مج 19،ع3،ص137.
(2) -أحمد عبد المعطي حجازي: الديوان، دار العودة، بيروت 1973، ص 110-111.(1/251)
فحجازي هنا يطرح مشكلة الاغتراب على المستوى الفردي فحسب – وإن كان يتضمن بعض الملامح الاجتماعية- مبينا من خلال ذلك حاجته السيكولوجية الحادة إلى صديق- (أستجدي:خيال صديق، تراب صديق) – يبثه شكواه وحنينه وغربته. وهوطرح – على الرغم مما فيه من مظاهر سوسيولوجية أو اجتماعية – ساذج، كونه لم يستطع الكشف عن الأسباب الموضوعية للاغتراب في الواقع المتعين (اقتصادية، اجتماعية، سياسية)؛ فحاجته إلى صديق خاضعة لحاجة نفسية فقط لا غير. هذه الحاجة التي فرضها واقعه الجديد الذي وفد إليه (أعني المدينة)، وهوأمر متوقع، فالاغتراب النفسي- هنا – هو الذي يحدد علاقته بغيره، وهي علاقة غياب وانفصال، أو علاقة وغياب لا حضور، علاقة انفصال لا اتصال، والتأكيد هنا على غياب الصديق، يعني في أحد جوانبه، غياب الذات، وخصوصا إذا كنا نعرف تلك العلاقة المتينة التي تربط بين الأصدقاء في القرى والأرياف، والتي لا تنتهي إلا بالموت، على عكس ما هو سائد في المدينة، إذ تقوم الصداقة على أساس انتهازي توجهه المصلحة، وتفرضه - أحيانا – الضرورة.
والشيء الذي يؤكد غربة الشاعر ويكثفها أكثر، هو الكلام المنولوجي: أو الكلام الموجه إلى غائب، وهوالأب الميت، أو الذي يرقد في مدينة الأموات كما يعبر الشاعر في قصيدته (رسالة إلى مدينة مجهولة)(1)، وهي (رسالة حزينة حزينة/بغير حد):
أبي..
إليك حيث أنت
إليك في مدينة مجهولة السبيل،
مجهولة العنوان والدليل
إليك في مدينة الموتى، إليك حيث أنت
أولى رسائلي،
وإنها رسالة حزينة حزينة
بغير حد
لأنها سترتمي أمام هذه المدينة
بغير رد.
يا غارقا في الصمت، يا مكفنا إلى الأبد...
وتبلغ صرخة الشاعر ذروتها حينما يقرر بمرارة:
فُجعت فيهم يا أبي كرهتهم في أو ل النهار(2)...
__________
(1) -م.ن، ص221-222.
(2) -أحمد عبد المعطي حجازي:الديوان، ص 224.(1/252)
ويحاول الشاعر أن يرتفع بالتجربة من المستوى الذاتي إلى المستوى الاجتماعي حينما يحاول التماس أسباب موضوعية لاغترابه، رابطا إياها بعوامل اقتصادية كما في قوله(1):
لوكان في جيبي نقود
لا ... لن أعود
لن أعود ثانيا بلا نقود
يا قاهرة!
وفي قوله(2):
وسرت يا ليل المدينة
أرقرق الآه الحزينة
أجر ساقي المجهدة،
للسيدة
بلا نقود، جائع حتى العياء،
بلا رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة
فلم يعره العابرون في الطريق،
حتى الرثاء !
أوبعوامل اجتماعية كما في قوله:(3)
والناس حولي ساهمون
لا يعرفون بعضهم... هذا الكئيب
لعله مثلي غريب
أليس يعرف الكلام؟
يقول لي حتى سلام!
يا للصديق!
يكاد يلعن الطريق!
ما وجهته؟
ما قصته؟
وفي قوله أيضاً(4).
والناس يمضون سراعا،
لا يحفلون،
أشباحهم تمضي تباعا،
لا ينظرون.
ليتأكد من خلال هذا كله الإحساس بنوع من فقدان الذات والهوية:
لقد طُردت اليوم
من غرفتي
وصرت ضائعا بدون اسم
هذا أنا،
وهذه مدينتي !(5)
ولكن على الرغم من هذا فإن الشاعر لم ينجح في تقديم ما هو نفسي على أنه انعكاس لما هو اجتماعي، أي بمعنى آخر، إنه يركز في تقديمه لمشكلة الاغتراب على أنها مشكلة فردية داخلية، أملتها ظروف الانتقال الجديد (من الريف إلى المدينة)(6)، وليست انعكاسا لواقع اجتماعي موضوعي، كما استطاع عبد الصبور إدراكها، وبالتالي الارتقاء بها إلى مستوى اجتماعي وأخلاقي أكثر شمولية.
ب- الاغتراب الموضوعي:
__________
(1) -م.ن، ص117.
(2) -م.س، ص 113-114.
(3) -م.س، ص 117.
(4) -م.ن، ص 115.
(5) -م.ن، ص 189.
(6) -وقريب من هذه الرؤية توجه كل من نازك الملائكة في كثير من شعرها ذي الحس الاغترابي وكذلك الشاعر الجزائري(حمري بحري)، في ديوانه (ما ذنب المسمار يا خشبة) وبالأخص في قصيدته التي تحمل نفس الإسم حين يقول: ... وأنا وحدي ثمل
من يأتي يؤنسني
هذا زمن الغربة
ينموفي خطواتي
يعشوشب في ذاتي(1/253)
لقد استطاع عبد الصبور –بسبب من موسوعيته الثقافية وعمق تجربته المعرفية- أن يرتقي بغربته إلى مستوى أعلى مما بلغه حجازي؛ إذ أنه عالج ظاهرة الاغتراب من زاوية نظر منفرجة، مكنته من التوصل إلى إعطائها شمولية أكثر، والارتقاء بها إلى مستوى اجتماعي شامل، حيث أطرها بإطار حزني شفيف، رابطا إياها بعوامل موضوعية؛ فهي تارة غربة روحية كما في قصيدته(مقتل الحلاج) و(مسافر ليل)، حيث يشكوالشاعر في الأولى موت (الإنسان/الإنسان) بعدما كان شكا من قبل موت (الإنسان الجسد)، وهويشكوفي الثانية من موت (موت الله)، عن طريق سرقة بطاقة تعريفه:
عامل التذاكر
ولهذا حينما أقول:
أنت قتلت الله
لا أعني طبعا -أستغفره- أنك قد...
لا، لكن أعني... أنت سرقت بطاقته الشخصية
وبهذا يتساوى الأمران(1)
فغياب القيم الروحية، وسيطرة قيم المدينة ذات المنفعة التبادلية، عمّق لدى الشاعر الإحساس بالإحباط، وزرع في نفسه بذور الشك والقلق، فكانت النتيجة أن أبرزت فكرة العبث الوجودي، والاغتراب الاعتقادي، و"هذه الفكرة هي جوهر الاغتراب الديني الذي كان يعانيه الراكب في المسرحية الشعرية، ولعل ما يكثف هذا الاغتراب ويؤكده، هو اتهام عامل التذاكر الراكب، بأنه سرق بطاقة الله"(2)، وهي كما نرى زيادة على كونها فكرة وجودية، فإنها ميتافيزقية أيضا.
__________
(1) -الأعمال الشعرية الكاملة 2/668
(2) - ينظر:أحمد يوسف، تجليات القلق في شعر صلاح عبد الصبور، مخطوط رسالة ماجستير، نوقشت 1989 بمعهد اللغة العربية وآدابها بجامعة وهران، ص 50.(1/254)
أما في ديوان (الناس في بلادي) فإن الشاعر يربط غربة بطله التي هي غربته بعوامل اقتصادية واجتماعية، حيث يقدم الكون الشعري في هذا الديوان عالما يكتنفه القهر والتناحر، أو هوبالأحرى عالمين مغتربين عن بعضهما، "عالم المقهورين الذين يعانون الليل والوحشة والحزن، وعالم الذين يصنعون القهر. ولكلّ من هؤلاء رموزه، فالمقهورون قد يتبدون في أشخاص واقعيين كـ(زهران)، أو قد يتحولون إلى رموز شفافة تحمل ضعفها كالطائر الصغير في مقطع "أغنية حزينة" من قصيدة (رحلة في الليل) التي يحاول فيها الشاعر قهر الاغتراب عن طريق دعوته إلى التعاطف والمودة. بينما يبتدى القاهرون في مظاهر ألبجورية كـ(ذي الوجه الكئيب)(1)، كما أنهم قد يتبدون في رموز غنية بالدلالات الموحية كـ(الملثم الشرير)، و(الأجدل المنهوم)، (الطارق المجهول)، (وجه بوم)، (صوته الأجش) وغيرها(2).
__________
(1) - ينظر : محمد بدوي : الجحيم الأرضي، ص64.
(2) - راجع قصيدة : (رحلة في الليل)، الديوان، ولقد آثرنا عدم إثبات الأبيات نظراً لطول القصيدة من جهة، واختصاراً للمساحة من جهة أخرى.(1/255)
ومهما يكن من أمر فإن هذه القصيدة استطاعت أن تجمع كل ألوان القهر والتسلط والحرمان، التي يعانيها إنسان العصر، كما أنها استطاعت أن تجمع من جهة أخرى كل ألون النفاق والتدجيل والتدليس التي يحترفها القاهرون ... وبذلك نستطيع القول أنها صرخة مدوية ضدّ مظاهر القبح الذي يكتنف العالم، وضد الواقع المضاد لتقدم وسيادة الإنسان، ولعل "الجدة التي تنطوي عليها تلك القصيدة تحمل الطابع الذي بدأ يميز شعر صلاح، فهورغم عدم إيمانه بأي شئ –إلى حد يبدوكأنه لم يلتزم اجتماعيا بشيء- يتحدث فيها عن الإيمان، وهوحين يتحدث عنه لا يعني الله ولا رسله ولا أو لياءه –مع أنه يتعرض لهم- وإنما يعني إحساسا بقضايا العصر في أبعاده التاريخية والأسطورية وفي امتدادها على نحويختلط فيه الوهم بالحقيقة"(1)، وغني عن البيان أن مشاعر الوهم واللاإلتزام وعدم الإهتمام الديني، هي من مشاعر اللامنتمي، فهوحينما يقول:
أمُعّيري بالوهم ...
لا وَهْمَ هناك ولا حقيقة.
فإنما يؤكد هذه المشاعر، ويؤكد من ورائها رفضه لكثير مما هو قائم من نظم سياسية، واجتماعية طبقية، وربما حتى عقائدية، وبالتالي فهويعبر عن أزمة حضارية خانقة. وحينما يقول الشاعر في موضع آخر من الديوان:
قلبي المليء بالهموم المشبعة
وروحي الخائفة المضطربة
ووحشة المدينة المكتئبة(2)
فإنه لا يزيد على تأكيد جوالكآبة الذي استحكمت قبضته بالنفوس، و"اتصاف المدينة بالكآبة، يتضمن الوعي المغترب النابع –أساسا- من أزمة حضارية إنسانية، وقف أمامها عاجزاً، وترتبت عليها حساسية شعرية غلب عليها الشعور بالألم والاغتراب والتمزق"(3).
__________
(1) - أحمد كمال زكي : دراسات في النقد الأدبي، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، 1980، ص 247.
(2) - صلاح عبد الصبور : الأعمال الشعرية الكاملة، 2/502.
(3) - أحمد يوسف : تجليات القلق في شعر عبد الصبور، (مرجع سابق).(1/256)
وفي قصائد (رسالة إلى صديقه) و(الحزن) و(الملك لك) و(عيد الميلاد لسنة 1945)، يرمي الشاعر ببطله في مدينة تثقل كاهله بمطالبها الكثيرة وضروراتها المتعددة، فتستهلك حياته وتغرقه في جومن العبثية، ويصل الشاعر إلى الحل في ديوان (الناس في بلادي)، حيث يكتشف بأن المدينة، هي مكان اغتراب بالنسبة لبطله؛ ففيها يقاسي الوحدة والوحشة. وفيها يقهره ليلها، وإذ ذاك يتبدّى له نور القرية، ببساطة حياتها وطيبة أناسها بالرغم من أنهم (جارحون كالصقور)(1).
__________
(1) * - ينظر : الأعمال الشعرية الكاملة، 1/29.(1/257)
وبروز الشاعر كبطل هنا. أو خلقه لبطل يتقمص آراءه، هو تعبير عن التناقض الحاد بين الشاعر والمجتمع. فطالما أنّه يوجد بطل يوجد تناقض مع المجتمع، سواء مع فئة القاهرين أو المقهورين الذين استسلموا لقهرهم، وهذا يعني أن الفرد (البطل) انسلخ عن المجتمع واغترب عنه، وبانسلاخه هذا يظل مغترباً عنهم، وهولذلك لا يستطيع أن يحقق ذاته؛ لأن هذه الذات لا يمكنها أن تتحقق إلا من خلال التواصل مع الآخرين، هذا التواصل الذي تأكدت للشاعر استحالته في مجتمع المدينة المستلب. وبناء على ذلك فإن اغتراب البطل/الشاعر يظل قائماً ما دام منسلخاً عن المجتمع وما دام المجتمع لا يتبنّى نظرته التغييرية؛ فهوككائن إنساني اجتماعي لا يمكنه أن يحقق ذاتيته إلا من خلال المجتمع(1). ولهذا يظل الاغتراب واقعاً بين الطرفين بسبب تغاير المواقف والرؤى. ونتيجة ذلك كله هي عجز كليهما عن تحقيق وجوده الأصيل؛ لأنه من الواضح أن النواة المحورية لظاهرة الاغتراب عند البطل إزاء المجتمع، حسب ما تقدم، "تكمن في ذلك الإخفاق، من جانب المجتمع والإنسان معاً، في تحقيق الوجود الأصيل (Authenticité) لهما"(2)، وإزالة هذا التناقض، وبالتالي الاغتراب، لا يكون إلا "بإيجاد مجتمع لا يفرز أبطالاً، أفراده أناس مستقيمون مع المجتمع"(3)، ولكن هذا لن يتأتّى ما دامت نظرة الشاعرة متخارجة مع المجتمع، وما دام غير راض عنهم، صارخاً في وجوههم :
كونكم مشؤوم
كونكم مشؤوم(4)
__________
(1) - ينظر : د/ منى سعد أبو سنة : الاغتراب في المسرح المعاصر، عالم الفكر، مج 10، ع1، أبريل، مايو، يونيو، 1979، ص 168.
(2) - د/ محمود رجب، الاغتراب سيرة ومصطلح، ص 73..
(3) 3 2- د/ منى سعد أبو سنة: الاغتراب في المسرح المعاصر، عالم الفكر، (م،س) ص 168.
(4) 4 – صلاح عبد الصبور : الأعمال الشعرية الكاملة، ص 301.(1/258)
إنها صرخة الاحتجاج، بل الإدانة والانسحاب، وهي صرخة "تعكس الوعي التعيس من جراء تأمل الذات لذاتها ولمن حولها، وإدراك الوجود المهترئ من خلال علاقات إنسانية متوحشة ومفتقرة إلى براءة البدايات"(1). إنها الحقيقة العارية التي اكتشفتها الذات من خلال وعيها لذاتها وللوجود المحيط بها، حقيقة وجود بشع أفلست فيه كل العلاقات الإنسانية السامية بما فيها الحب.
جـ- الاغتراب الكوني والوجودي:
1- إفلاس الحب :
إن وعيّ الذات لحقيقة العالم البشعة، ولتلك العلاقات الاجتماعية المبنية على الاستغلال، جعلت من الشاعر إنساناً مغترباً، كما فرضت عليه أن يتعامل بأسلوب المغترب. فمجتمع اُعتبرت فيه كل الفضائل والصفات الطيّبة رذائل؛ كونها تساعد على فرض الواقع القائم، مجتمع مغترب ولا شك. لأن ما يحتاجه المجتمع هو الحب والوعي، وليس الحب المزعوم والمساعدة المزيفة (أعني قيم المجتمع البرجوازي).
من أجل هذا الواقع المرير، وبسببه، واستعاضة عنه، اكتنزت الدورات الشعرية -في شعرنا المعاصر- بتعقّد عاطفي انطوى على خاصيات ثنائية كالسلب والإيجاب، القبول والنفور، الحب والكره... وهي كما سوف نرى حال شعرية موصولة بصميمية الذات المتحرّقة إلى علاقات إنسانية أكثر براءة وبكارة، تحلّ محل هذا الإفلاس العلائقي الذي أحدث في الوجود شروخاّ، وانفصاما. ومن هنا فإنّ الشكوى من انعدام الحب وإفلاسه، هو محايثة نفسية لإدراك آخر وجودي، هو الموت. إذ كلاهما رحاب تتجلل فيه النفس بجلاء الفناء، وتحقق فيه صبوة تواصلها بالآخر (المغيّب)، وكلاهما أيضاً موقف تُمحى فيه ميزتا الحضور والغياب برسوخ، ومن هنا أيضا تضاءلت المسافة الفاصلة بين فعل الإنسحاق شعراً، وبين موقف التحرّق إلى صبابة الحب المتسامي.
__________
(1) 5 4- أحمد يوسف، تجليات القلق في الشعر صلاح عبد الصبور (م.س)، ص 48.(1/259)
وواضح مما سبق أنه ليس يعنينا هنا، الوقوف عند صوّر الحب التقليدية، كتلك التي تتحدث عن هجران المحبوب، أو استحالة التواصل بسبب أعين الرقباء، أو أقوال الوشاة والعذال وما شابهها –وهي فعلا مواقف تولّد الاغتراب- على الأقل بين المحب والمحبوبة –ولكنها مواقف أو لية ساذجة- بقدر ما يعنينا غياب الحب الإنساني، أو بالأحرى غياب الحديث عن ذلك الحب الأسمى، الذي هو عصب الحياة ونسغها، والذي هو عطاء الذات الكامل، أما الحب الشهواني الذي يلبي الغريزة الحيوانية الجسدية، أو الذي يختصر الحب في (ساق وصدر)، كما تعبر فدوى طوقان بمرارة(1):
الحب عند الآخرين جفّ وانحصر
معناه في صدر وساق
فإنه موجود، بل وهوأبلغ دليل على فساد الطباع، وإفلاس الحب في المجتمع. لأنه إذا كان الحب الشهواني هو اندفاع نحوالأخر قصد امتلاكه –وفي هذا استعباد وأنانية، وتغريب للآخر من ذاته- فإنّ الحب المتسامي هو عطاء ثر، واتحاد بالآخر وذوبان فيه، وبالتالي تحقيق لكينونة الذات ووجودها عبر الآخر، وبهذا المفهوم يغدوبحثُنا "عن الحب إنّما هو بحث لمعرفة الذات، ورغبتنا في الحب هي رغبتنا لأن يعترف بنا لا من أجل ما "نفعل" ولكن من أجل ما "نكون"(2)، كما يرى "بيتر فليتشر".
إنّ غياب مثل هذا الحب، هو سبب اغتراب الشاعر، والاغتراب في الحب يتجلى في تباعد الشاعر عن الحب العفيف، وانشغاله بوصف محاسن المرأة الحسيّة، وربما حتى أشياءها، كاللباس الداخلي(3)
__________
(1) - نقلا من إحسان عباس : اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 197.
(2) - نوال السعداوي: المرأة والجنس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1974، ص 141.
(3) - ينظر : نوال السعداوي : الرجل والجنس – ص:169 وأيضا:
Freud, S Le Fétichisme en S, Freud La vie sexuelle PUF,1970 – P :135.(1/260)
وغيره، ويعد نزار قباني من أبرز الشعراء الممثلين لهذا النزوع(1)، الذي فيه ربما كثير من النرجسية والفتيشية(2)، حيث يغدوالآخر بمثابة وعاء تصب فيه الذات المقهورة عذاباتها.. فالتمثيل بجسد المرأة، وتقطيعها إرباً إرباً وتعريتها – كما يفعل نزار دائما – هو نوع من تحقيق الذات مزيف، إذ تحاول الذات –قهرا لاغترابها– التسرب من قنوات أكثر إغراقا من الجنسية. وتبقى الحركة تجاه المرأة حركة اغترابية في كل مستواياتها، سواء نحوجسدها الذي يعدّ مقبرة بالنسبة للشاعر، أو روحها المغتربة عنه، لكونها لا تستجيب لندائه، وهنا يعلن الشاعر عن غياب الحب، بل موته، يقول عبد المعطي حجازي(3) :
ما الذي أبقت لنا الأيام، حتى تتجلد
وكلانا بخير الآخر أن الحب مات!
إن الإعلان عن موت الحب، الذي هو أسمى العواطف الإنسانية، ليس وليد نزعة تشاؤمية، بقدر ما هو وليد موقف شعوري أملاه واقع المدينة وأطّره زمنها (الأيام)، فأفقد الذات قدرتها على الحب، وأكد استحالة تواصلها، وكثّف شقاءها:
أشقى ما مرّ بقلبي أن الأيام الجهمهْ
جعلته يا سيدتي قلبا جهما
سلبته موهبة الحب
وأنا لا أعرف كيف أحبك
وبأضلاعي هذا القلب(4)
ومع صلاح عبد الصبور في إحباطاته وغربته القاسية المتولدة عن فقدان القدرة على الحب، نذكر البياتي، الذي يضمر عنده الحب وينكمش إلى حد التلاشي، فيتساءل حائرا:(5)
من أين يأتي الحب؟ يا حبيبتي، ونحن محكومون بالإعدام
... محاصرون منذ ألفي عام
__________
(1) * - راجع قصائده المتمحورة حول المرأة، الأعمال الشعرية الكاملة، ج1،ط2، 1973.
(2) - - ينظر : نوال السعداوي : الرجل والجنس، ص 169 وأيضا:
Freud, S Le Fétichisme en S, Freud La vie sexuelle PUF,1970 – P :135.
(3) - قصيدة: نهاية الديوان، ص 321.
(4) - صلاح عبد الصبور: قصيدة: (رسالة إلى سيدة طيبة)، الأعمال الشعرية الكاملة، 1/225.
(5) - البياتي: الأعمال الشعرية الكاملة، 2/314.(1/261)
نحاول الخروج من دوائر الأصفار.
إن تلك اليوتوبيا التي ما فتئ البياتي يتذرع بها درءا لصدمة الواقع، ومحاولة تجاوزه والانتصار عليه، ممثلة في رمز (عائشة) قد أعلنت إفلاسها، بسبب موت بشارة الحب وانغلاق منافذه.
إن الحب المطلق الذي هو قوة كونية، تملك قدرة تجديد الحياة، وقهر وحشة الإنسان واغترابه، قد غاب من الوجود، ولم يبق إلاّ ما يؤكد غربته، فالعلاقة بين الرجل والمرأة لم تعد تآلفية وتكاملية، بقدر ما عادت علاقة خداع ومكر، ولذلك يحذّر صلاح عبد الصبور من المرأة قائلا(1):
إن جئت لديها،
لا تأمنها حتى ولوجعلت فرش منامك
نهديها أو فخذيها
قد تعتبر هذه الأبيات تربة خصبة للتفسيرات والتأويلات ذات المنشأ النفسي، خصوصا وأنها تلهج صراحة بالخوف من المرأة والتحذير منها، من أن عقدة الخوف من المرأة ذات منشأ نفسي لا شعوري، أو أنها نتيجة ترسبات لا شعورية، وأن المرأة أقوى من الرجل، وأنها قادرة على خلق الحياة بحكم الولادة، وأن هذه القوة الخالقة، ملأت الرجل بالإعجاب بالمرأة، وكشفت عن عجزه إزاءها وخوفه منها، كون الإنسان غير قادر على الإعجاب بقدرة لا يملكها من غير أن يكرهها، وهذه الكراهية تولّد الخوف، وأن خوف الرجل من المرأة قد تركز في أعضائها الجنسية، لأنه في أثناء عملية الجنس يسلم عضوه لها فتحتويه في داخلها وقد تسحقه(2)...
__________
(1) - الأعمال الشعرية الكاملة، 1/254.
(2) - حول هذه الآراء: ينظر: نوال السعداوي "المرأة والجنس" – ص:81-82 وأيضا: الرجل والجنس: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2\1976، ص 173-174، وأيضا:
Freud, S, « le Fétichisme, 1972 » en, S.Freud « la vie sexuelle » PUF, 1970 – P : 135.(1/262)
أقول مهما كانت آراء النفسانيين في هذا المجال، فإننا لا نملك إلا القول بأن الحب قد فقد براءته، وأن الذات قد وعت تناقضات الواقع، وارتفعت بها إلى درجة عليا من التعرية، بحيث استطاعت أن تركبّها تركيبا جدليا، وصل بها إلى قمة الوضوح الكامل(1) والمكاشفة النهائية، التي غدا معها الحب حزنا وقلقا ورعبا:
الحب في هذا الزمان يا رفيقي ...
كالحزن، لا يعيش إلا لحظة البكاء
أولحظة الشبق
الحب بالفطانة اختنق
إذا افترقنا يا رفيقي فَلْنُلْق كل اللوم
على زماننا(2)
إن تحميل الزمان –(زمان الشاعر ورفيقته)– مسؤولية قتل الحب وخنقه، ليس تنصلا أو هروبا من المسؤولية، بقدر ما هو إدانة لواقع مرعب مرير، سلب الإنسان إمكانية التواصل العميق بالآخر، فكونها رفيقة له (يا رفيقتي) يعني أن سبل التواصل ضيقة، وأن لحظة اللقيا مؤقتة وزائلة، لا يتأكد حضورها إلا لحظة (الشبق) أو لحظة الإشراق (بالبكاء)، فالحب في هذا الزمان قد خضع لتحول جذري، أفقده بكارته وصفاءه، وديمومة وفائه. فإذا كان الحب في القديم مرحلي، خاضع للترتيب والحسبان، أو هوبحسب تعبير أحمد شوقي: (نظرة فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد فلقاء)، فإن عاشق هذا الزمان، أو "العاشق العصري قد يلتقي بمحبوبته "من قبل أن يبتسما"، وقد يذوق العاشقان ما يذوقانه قبل أن يشتهياه، فالحب لحظة شبق، تضيع قبل أن تتحدد أبعادها أو يعرف الممارسان لها أحدهما الآخر"(3)، يرفد هذا دائما لفظة (يا رفيقي) ...
واضح من هذا أن الحب أصبح –هونفسه– باعثا من بواعث القلق والاغتراب، لكونه ينطلق من خلفية درامية مرعبة، هي الواقع أو المجتمع المحكوم بعلاقات ثقافية غير مستقرة، بل وخاطئة، عن حقيقة الحب ومعناه، فعندما يقول الشاعر:
__________
(1) - ينظر: كارل ياسبيرس: عظمة الفلسفة – ص: 176.
(2) - صلاح عبد الصبور: الأعمال الشعرية، 1/221.
(3) - إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي، ص 187.(1/263)
صافية أراك يا حبيبتي كأنما كبرت خارج الزمن
وحينما التقينا يا حبيبتي أيقنت أننا
مفترقان
وأنني سوف أظل واقفا بلا مكان
لولم يسعدني حبك الرقيق للطهارة(1)
فإنه كان يعي مسبقا، بأن الحب الذي لا تحكمه الطهارة، حب مفلس لا جدوى منه، وبالتالي يجب ألا يستمر.
إن الإعلان عن إفلاس الحب من هذا المنظور، وبالتالي توقيفه، يؤكد على أن الذات الشاعرة المسكونة بشهوة إصلاح العالم، وقهر اغترابه، والقبض على براءة الأشياء، وتلمس صدق النوايا، وطهارة النفوس، وبكارة الوجود، وتطهير العالم من الشر قد فقدت معينها، وفقدت ذلك الفرح الذي تجده – عادة – الذات الإنسانية في الحب، فتَحَول هذا الأخير لديها مبعثا من بواعث الشعور بالقلق والاغتراب، نتيجة خيبة الأمل التي أصيبت بها، وأصبحت المرأة عندئذ إحدى روافد غربة (الأنا) وحزنها، ولذلك فسيان أن يتساوى الحب والكره بعدما عاد غير نابع من أعماق النفس، بل هو محض تمثيل:
لقد تساوى حبنا وكرهنا وأصبح البقاء كالرحيل
فأنت لست امرأة ساذجة، ولا أنا أحترف التمثيل
يا ليتني أقدر يا صديقتي أن أتقن التمثيل(2)
ففشل الشاعر في تحقيق الإتحاد المتسامي بالآخر، كان نتيجة خلل أصاب عصب الحياة، فأفقد النفس وقدة الإخلاص وتسامي الأمانة، وعمّق الهوة بينها وبين الآخر، فالحب أصبح عشقا مبتذلا يتكرر عشرين ألف مرة في اليوم لا مرة في العمر:
لوكنت في مكاني ... مضطرة أت تعشقيني عشرين ألف مرة في اليوم
وتيأسي وتضجري(3)
__________
(1) - صلاح عبد الصبور: الأعمال الشعرية الكاملة، 1/248.
(2) - نزار قباني: ديوان "أشعار خارجة على القانون" : ط 1، 1972، ص 120
(3) - م. ن، ص 97.(1/264)
لقد أضحت علاقة الأنا بالآخر سطحية مبتذلة، لا تتعدى جدار الجسد، إضافة إلى كونها خاضعة لتقلبات الأمزجة وتذبذبها لا محكومة بصدق النفس وتفانيها، ولذلك اضطرت الذات أن تتقنع كل يوم بقناع جديد وأن تلبس لكل حالة لبوسها. وفي كل حالة من هذه الحالات تظل الذات مغتربة عن ذاتها، وعن الآخر أيضا.
ففقدان القدرة على التواصل الحقيقي والمشاركة الوجدانية، هو فقدان لشرط الوجود، الذي هو الإيمان الصميمي والقابلية على الوعد، لأنه –كما يقرر فروم إيريك- "الإيمان بالنفس شرط قابليتنا على الوعد"(1)، وهونفس رأي نيتشه في تعريفه للإنسان عندما يؤكد على قدرته على الوعد(2)، إن نتيجة فقدان هذه القابلية الخلاقة لا تكون إلا الإعلان عن إفلاس الشعور:
أفلسنا تكررنا تعودنا على الموت انتظرنا في كراسينا
كما ينتظر الأموات في أكفانهم يوم النشور(3)
إن إعلان الخطاب الشعري عن الإفلاس مرده حقيقة الأمر إلى غياب ذلك الحب الذي هو قدرة كونية قادرة على إزالة المتضادات والثنائيات التي تحكم حياة البشر، وحضور ذلك العمل الجنسي الميكانيكي المبتور من بعده الإتحادي، والغارق في المجون، ولذلك لا تتوانى الذات الشاعرة في أن تعلن صراحة معاناتها وإفلاسها وسآمتها:
ورأينا كيف ينموالطحلب البحري في القلب
عرفنا خدر الجلد وإفلاس الشعور
هل لدي سيدتي حل لإفلاس الشعور ؟(4)
__________
(1) - إيريك فروم: فن الحب، ص 190، نقلا عن : نرجسية في أدب نزار قباني لـ: د/خريستونجم، دار الرائد العربي، بيروت، ط1، 1983، ص:284.
(2) - م.ن، ص . ن
(3) - نزار قباني: ديوان: "أشعار"، ص 138.
(4) - م: ن، ص ن.(1/265)
إن تطحلب القلب وإفلاس الشعور، لا يمكن أن يعني إلا جفاف العواطف الإنسانية، وغياب الصدق الذي "يعني أن ترتفع الهوة بين "أنا الشاعر" و"أنا الواقع" أو تضيق إلى أقصى الحدود، وهوما لا أمل فيه في إطار الرؤية الكونية الشاملة"(1) وفي إطار غياب الأمل الذي أتعب الروح وأضناها، يقول صلاح عبد الصبور:
وداعا يا نجمي الأوحد
ولأن الأيام مريضة
ولأن الليل الموحش يولد فيه الرعب
لن نجني ... حتى الحب(2)
يعتبر غياب الحب هو المسؤول عن غربة الشاعر وفقدانه لذاته وإنسانيته، لأن بالحب يصبح "الإنسان إنسانا، لما يقتضيه من مناجاة وحوار متعاطف وتضحية"(3) تشيع جوا من الألفة والتكافل بين الناس، وبالتالي تقضي على كل شعور بالغربة.
ولكن هشاشة الواقع وزيفه، وانحرافه بالحب عن هدفه الأسمى، والتدني به من خلال ربطه بمظاهر الإبتذال والإسفاف، أكد غربة الذات الشاعرة وجعلها تحتج، وتعلن سآمتها من المظاهر الخليعة يقول صلاح عبد الصبور:
هذا زمان السأم
نفخ الآراجيل سأم
دبيب فخذ إمرأة بين اليتي رجل سأم(4)
ولكن عبث المدينة، واستهتارها وسيادة مظاهر الخلاعة فيها لم يقتصر عند السياب على الأحياء فقط، بل تعدى إلى الأموات؛ فها هي مقبرة "أم البروم" التي أصبحت جزءا من المدينة، لم تنج من عبثها، وقهقهة بغاياها وسكاراها:
وأوقدت المدينة نارها في ظلة الموتِ
تقلع أعين الأموات، ثم تدس في الحفر
بذور شقائق النعمان، تزرع حبة الصمت
لتثمر بالرنين من النقود، وضجة السفر،
وقهقهة البغايا والسكارى في ملاهيها
وعصرت الدفين من النهود بكل أيديها
تمزقهن بالعجلات والرقصات، والزمر
__________
(1) - د/ ناجي نجيب: كتاب الأحزان، ص 176.
(2) - الأعمال الشعرية الكاملة، 1 /334.
(3) - محي الدين صبحي: الكون الشعري عند نزار قباني، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1977، ص 185.
(4) - صلاح عبد الصبور: الأعمال الشعرية الكاملة، 1/148.(1/266)
وتركلهن كالأكر(1)
وربما من أجل هذا فإن الشاعر المعاصر لم يكن يرى المدينة إلا مبغى كبير (السياب)، أو امرأة مبتذلة سافلة (البياتي)، أو امرأة ذات خواص غير مقبولة، ينبغي الثورة عليها وتغييرها (أدونيس)(2)، أو غجرية بريئة لوثتها الحضارة حين اكتوت بنارها (إيليا الحاوي)، في حين كانت تُشَبَهُ القرية بالمرأة الطاهرة النقية الجسد، بل وكان في كثير من الأحيان يقرن بينها وبين الأم (المكان/الأم، والزمان/الأم) السياب وحاوي على التوالي. الأم رمز الطهارة والصدق والحياة، في مقابل المدينة رمز الدنس والغواية والموت.
وبناء على هذا كله، فلا غرابة من أن نرى الشاعر –نتيجة ما وصلت إليه المدينة من إفلاس في الحب- يتّحد بالموت ويمجده ناشدا خلاصه فيه، محكوما بنظرة وجودية، لا ترى في الموت إلا وجها آخر لعملة الحياة، أو هوطرف آخر لغياب الحب وإفلاسه(3)، والمتقاطع مع انتشار الشر واستفحاله. فالذات الشاعرة ترجح كفة الخير والسموبالحياة الإنسانية بأي ثمن، حتى ولوكان بالموت، ولذلك نستطيع القول "إن إمكان الخير والشر هو الذي يؤكد سموالحياة الشخصية بوصفها حياة إنسانية قديرة على اكتشاف عالم القيم في ما وراء العلم الطبيعي"(4)
2- تراجيديا الموت وتمجيد الحس العدمي:
__________
(1) - بدر شاكر السياب: الديوان، 1/ 133.
(2) - ينظر: محمود شريح: المدينة في شعر خليل حاوي – الفكر العربي المعاصر ع 10، شباط 1981، ص 90.
(3) - توفيق صائغ الذي يعبر شعره في أكثر من موضع عن حنينه إلى المرأة – المثال، النقية الجسد والوفية في حبها، ينظر : م س/ ص. ن.
(4) - زكريا إبراهيم: المشكلة الخلقية، ص 220.(1/267)
إن الوعي باشكالية العصر الإنساني هو وليد معاناة الانسلاخ والغربة الروحية المتمخضة عن غياب الحس الأخلاقي الذي رفضه الشاعر، كما أنه وليد فضيلة الصدق، لأن "الصدق هو الذي يؤدي الرفض، وهوالذي يدفع الأدب الحديث لتجاوز الظواهر السلوكية والأحداث الخارجية لينفذ إلى أعماق الضمير ويغوص في المنطقة الخفية من العالم النفسي للإنسان. والصدق هو الذي يؤدي بالأدب الحديث إلى التشكك في (اليقينية) وإلى الشعور بالصدوع التي يعاني منها أي تفسير للمصير، وبالتالي هو الذي يولّد لدى الفنان الإحساس بالإشكالية والعجز عن تقبل أي تفسير نهائي لجملة الأسئلة التي تؤرقه"(1)، والمتولدة عن خيبة إنسان العصر في الوجود، وعجز المعرفة عن إدراك كنهه، على الرغم مما أحرزه العلم من تقدم. ومن شأن هذه الخيبة التي مني بها الإنسان –وبسبب صدقه مع نفسه- أن تتسبّب في إشاعة مشاعر الغربة، والقلق الفكري، والانقطاع العام عن الكون(2)، الذي تمظهر في تجليات ميتافزيقية أقصاها تمنّي الموت.
وإذا كان بطل عبد الصبور –كما قد رأينا سابقا-(3)، قد رمت به العلاقات الوحشية في أتون الاغتراب الاجتماعي، وأحيانا الوجودي فإن إنسان السياب، لم يكن يرى وجوده في المدينة، إلا ضربا من الموت وعدمية الحياة، وهي رؤية تراجيدية لم يستطع الشاعر منها فكاكا إلى غاية موته الحقيقي (الموضوعي).
__________
(1) - د/ حسام الخطيب : ملامح في الأدب والثقافة واللغة، منشورات وزارة الثقافة والأدب القومي، دمشق 1977، ص 13.
(2) - ينظر: م. ن، ص. ن.
(3) - راجع عنصر : الاغتراب الموضوعي.(1/268)
ولكن ما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أننا لا نريد تناول الموت من الناحية الفيزيقية، أو باعتباره ظاهرة سوسيوثقافية. ولكن قصدنا هو الإشارة إليه من حيث كونه مظهراً من مظاهر الاغتراب مكثّفا، حيث تنفصل الروح عن الجسد ويتخارجان، باعتبار أن أحدهما يمثل المادة الأرضية (الترابية) (الجسم)، والآخر يمثّل التسامي الأثيري (الروح). كما أننا نقصد الإشارة إليه من حيث كونه نزوعا فنيّا وحساسية شعرية اقتضتها ظروف الواقع المحبط.
فبعدما فتحت الذات الشاعرة عينيها على حقيقة ما وصلت إليه الأخلاق الإنسانية من إفلاس وترد، ووعت تلك الحقيقة المفزعة، وأدركت موت (الإنسان/الإنسان)، غرقت في أتون الموت، وراحت تمجد نوعا من عدمية الحس، وتبشّر بعبثية الحياة ولا جدواها، وخلوالكون من المضامين السامية التي تستحق أن يعاش من أجلها. ولقد أفرزت هذه الرؤى الإدراكية مظاهر سلوكية غريبة عن المجتمع العربي، كاليأس المطلق والإحباط المكبل والانتحار بشقيه: الجسدي والمعنوي، حتى أننا نرى السياب يعتبر موته انتصارا:
أوّد لوغرقت في دمي إلى القرار ،
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة. إنّ موتيَ انتصارا(1)
__________
(1) - النهر والموت : ديوان بدر شاكر السياب، ص 456.(1/269)
قد يصدق القول بأن هذه الأبيات تمور باليأس، وتحمل الشيء الكثير من النزوع نحوالموت، ولكن يصدق القول أيضا بأنها تمجيد للموت من أجل الحياة، اغتراب من أجل قهر الاغتراب، أي نفي النفي الذي هو إيجاب. فالسياب لا يريد أن يموت إلاّ من أجل بعث جديد، وهذا هو معنى انتصاره، لأن هناك صلة وثقى ما بين الحياة والموت؛ إذ لا يمكن تصورّ تحقيق أحدهما بمعزل عن الآخر، فكلاهما سبب للآخر ونتيجة له (العدم والحياة)(1). فالإنسان لا يمكن أن يشكّل تصوراته عن الموت إلا من خلال الحياة. وبموت الشاعر الذي يعدّ انتصاراً يتحقق معنى الفداء، وتظهر رسالة الشاعر ذلك الفادي للمجموع، فالموت على مستوى الفرد هو تحقيق للحياة على مستوى الجماعة (أحمل العبء مع البشر وأبعث الحياة). والرغبة الفدائية هنا تتعين في رؤية رمزية. بوصفها إشارة إلى وعي مدرِك لمأساة الواقع، وإلى معرفة اجتماعية وموقف سيزداد تبلوراً للرؤى الأخرى.
__________
(1) - لا يمكن أن تكون هناك حياة إلا إذا كانت هناك فترة عدم سابقة عليها، كما أن العدم لا يمكن أن يكون كذلك، ولا يمكن أن يأتي إلا بعد فترة حياة.(1/270)
وربما لم يخطئ السياب باحساسه الرومانسي المتقدم ووعيه الشعري الثاقب في أن المدينة ستكون مقبرة لوعية الريفي الصادق، ووجدانه الطاهر، ولكنه لم يستسلم بل راح يقاوم تلك المقبرة الزاحفة نحوه عبر شبكة من الرموز والإشارات الطقوسية ذات المنطلق البعثي التجديدي. إنّ مدينة السياب هي دوما (قافلة للضياع) و(مدينة للسراب) و(مدينة بلا مطر)، دروبها وساحاتها مليئة بالحفر والعظام، وحدائقها مزروعة برؤوس الناس، والأسوار مضروبة على كل شئ فيها(1)، ولكن في اللحظة التي تبدوفيها المدينة كذلك "تسمع "قطرة همست بها نسمة تقول إنّ هذه المدينة، إنّ بابل سوف تغتسل من خطاياها". هذه القطرة هي التعويذة التي يحملها السياب في حياته وشعره لكي يتغلب على الفقر والجوع والعبودية والظلم، والتي ستدخل في سلسلة من التحولات آخرها الموت الذي سيكون البداية، بداية الزمن الجديد والحياة الجديدة"(2) وهنا يتوسع إدراكنا لانتصار الشاعر من خلال موته.
فإذا كان السياب دائما على غير وفاق مع المدينة، حيث يظل "السور" قائما بينه وبينها، وما في هذا من يأس وشعور بالغربة والاقتلاع، وما فيه من تعبير عن استحالة الحياة "في مكان ليس أكثر من مقبرة مسوّرة"(3) فإنّ اتكاءه على رمز المطر وما يصحبه من مظاهر وشعائر طقوسية هو الذي يرفد حياة الشاعر ويجعل موته انتصاراً.
هذا ولقد كان السياب مولعا بإيراد رموز الموت والعذاب المتمخضة عن العدوان، كان يستقيها من أساطير "العهد القديم"، وهوإذ ينزع إلى ذلك، فإنما لكي يسبغ على تلك الرموز القديمة موقفه ورؤيته العصرية، المتمثلة في كون دلالات التاريخ كانت وستظل مؤشرات شاهدة تحّمله مسؤولية جنايته.
__________
(1) - ينظر قصائد السياب المذكورة في المتن، وأيضا: أدونيس زمن الشعر، ص 215.
(2) - أدونيس : زمن الشعر، ص 215.
(3) - أدونيس : م : س، ص 216.(1/271)
فهوعندما يستلهم رمزي "قابيل وهابيل"، فإنما لكي يسقطهما على الحاضر الراهن، ولكي يؤكد بأن العدوان ما يزال ساريا، فإذا كان "هابيل" هو أو ل ضحية تسقط على سطح الأرض، و"قابيل" أو ل جانٍ، فإن العالم يعج بأمثالهما من ضحايا وجناة. فالصراع مازال باق وإن تنوعت أشكاله وتعددت قنواته، وتطورت مبرّراته، وأدواته، سواء على المستوى الفردي أو الحزبي المجتمعي، أو العالمي في شكل حروب شرسة تخلق الموت والدمار، فهوحين يقول:
"قابيل" باق وإن صارت حجارته
وردّ "هابيل" ما قضاه بارئه
عن خلقه، ثم ردّت باسمه الأمم(1)
فإنما هي إشارة إلى استمرارية وديمومة أفعال قابيل من خلال أبنائه الممثلين في قوى التدمير والحرب والقتل.
أما عندما يصوّر "هابيل" محمولا على الصليب، وهومجرد ركام من طين بقوله:
....ألسائرين إلى وراء
كي يدفنوا "هابيل" وهوعلى الصليب ركام طين؟
"قابيل"، أين أخوك؟ أين أخوك؟
... ... جمّعت السماء
آمادها لتصيح...(2)
فإنّما لكي يشير إلى تأمل الإنسانية وصرختها واستنكارها لهذه الجريمة البشعة، أما لفظة (الطين) فهي إشارة إلى عودة الإنسان إلى أصله وتحقيقه لانتصاره مهما أُرتكب عليه من جرائم.
والسياب يركز على رمز "قابيل" بشكل ملفت للانتباه، ويتطور الموقف عنده حتى ليغدورمزا للموت الحاضر وظلام الغد القادم:
الموت في البيوت يولد،
يولد قابيل لكي ينتزع الحياة
من رحم الأرض ومن منابع المياه
__________
(1) - من رؤيا فوكاي، ديوان بدر شاكر السياب، ص 360.
(2) - قافلة الضياه، ديوان بدر شاكر السياب، ص 368. يعتمد السياب في صياغة رموزه على القصة التي يوردها الكتاب المقدس: "وكلم قبيل أخاه، وحدث اذ كان في الحقل ان قابيل قام على هابيل أخيه وقتله. فقال الرب لقابيل أين هابيل اخوك. فقال: لا أعلم. أحارس أنا لأخي. فقال ماذا فعلت: صوت دم اخيك صارخ إلي من الأرض" أنظر: سفر التكوين، الاصحاح الرابع: 8-10.(1/272)
فيظلم الغد..(1)
وكثيرا ما يقرن السياب بين الخواء العاطفي والإفلاس الشعوري للعالم وبين الموت، فغياب الحب في العالم، هو استدعاء بالضرورة للموت، ففي الجزء الأول من قصيدة (منزل الأقنان) والمعنون بـ(في جيكور) يقول:
..."ياخيول الموت في الواحة
"تعالي واحمليني، هذه الصحراء لا فرحُ
يرفّ بها، ولا أمنُ ولا حبّ ولا راحة،(2)
إنّ تصحير الشاعر للمدينة هنا، واضح الأسباب، فهونتيجة الخيبة والإحباط التي مني بها الشاعر بسبب الخواء العاطفي الذي يكتنف العالم، عالم المدينة.
وإذا كان غياب الحب هو المعادل الموضوعي للموت عند السياب، فان سيطرة الشهوة العارمة واستحكام الشبق الجنسي بالنفوس، هو أيضا عامل آخر من عوامل الغرق في تراجيدية الموت، ولذلك نراه يعمد إلى استيحاء رموز تاريخية واسطورية اشتهرت بذلك لكي يجعل منها حضورا بنيويا يجسد من خلاله الدمار الذي سيحل بالعالم المعاصر نتيجة التهاب الرغبات الجنسية الشاذة، وانتشار الغواية والتهتك، مؤكدا بذلك رفضه لها:
أهذه بغداد؟
أم أنّ عاموره
عادت فكان المعاد
موتا؟..(3)
ويقول في موضع آخر من الديوان متسائلا عن الحالة التي أصبحت عليها بغداد:
أهي عامورة الغوية أم سدوم؟
... هيهات..إنها جيكور؛
جنة كان الصبي فيها وضاعت حيلة ضاعا(4)
__________
(1) - مدينة السندباد، ديوان السياب، ص 470.
(2) - الديوان ص، 278.
(3) - المبغى: ديوان بدر شاكر السياب، 1/452.
(4) - جيكور أمي: ديوان بدر شاكر السياب، 1/657.(1/273)
فحتى "جيكور" تلك القرية الهادئة الوادعة أصيبت بعدوى المدينة وحلت بها اللعنة وحق عليها الدمار، كما حق على عامورة وسادوم في غابر الأزمان. ويمكن القول أيضا أنّ الشاعر هنا لا يقصد إلى جيكور التي ظل يحن إليها طوال حياته ويمجدها في شعره، ولكن الإشارة كانت موجهة إلى المدن الكبرى وبالأخص بغداد. وما استعمال جيكور هنا إلا تكنية عن بغداد، اجتنابا لما قد يجره عليه التصريح والمباشرة من سوء عواقب.
هكذا عانق السياب الموت وتوحّد به، على الرغم من أنه كثيرا ما كان يحاول استلهام رمز "المسيح" للقضاء على مجانية موته، وجعله ذا فائدة، ولكنه ما كان ليلبث أن يعود للغرق فيه من جديد. نتيجة أسباب ذاتية خاصة بالشاعر(كالمرض الخبيث المزمن وموت الأم المبكر)، وأسباب موضوعية تتمثل في خراب المدينة وخوائها... وما سقناه هنا كانت على سبيل التمثيل لا الحصر.
وعلى الرغم من هذه وذاك فلا يسعنا إلا أن نقول بأن السياب بقدر ما كان شاعر موت بامتياز، كان أيضا شاعر حياة بامتياز، فهولم يمجد الموت إلا من أجل حياة أفضل وأرقى يسودها التآلف والحب والوئام. ويقضي فيها على كل مظاهر الشر. فعلى الرغم من سيطرة حس الموت وسيادة مناخ القبر في شعره، إلا أنه كان مولعا بحب الحياة الحرة . فهوقد طلب الموت من منظور أن "فقدان الحرية هو الحرية نفسها، ولا يستطيع هذا الإنسان أن يمتلك ناحية الحرية المطلقة إلا بالموت"(1)
وإذا كان بطل السياب يتحد بالتناهي من أجل اللاتناهي، ويتماشى مع الموت من أجل معانقة الحياة، فإن بطل صلاح عبد الصبور يتعامل مع هذه التيمة (تيمة الموت) من المنظور الأبدي والكوني نفسه. فالموت عنده هو الحقيقة الكونية الوحيد، وما الحياة إلا أكذوبة متداعية تفتقد إلى المنطق ولا يمكن أن يصلحها ترقيع، ومن هنا كانت ضرورة الموت:
تعالى الله، أنت وهبتنا هذا العذاب وهذه الآلامْ
__________
(1) - احسان عباس: اتجاهات الشعر العربي الحديث، ص 186.(1/274)
لأنك حينما ابصرتنا لم نحل في عينيك
تعالى الله، هذا الكون موبوء، ولا برء
ولوينصفنا الرحمان عجل نحونا بالموت
تعالى الله، هذا الكون، لا يصلحه شيء
فأين الموت، أين الموت، أين الموت(1)
إن الموت هنا هو صرخة ضد لا إنسانية الوجود وبشاعته القاتلة، التي زرعت الرعب في العالم وأشاعت الفوضى، وأوقعت النفس تحت دوامة عذاب قاهر. إن سيطرة خبرة الشر على الكون بسبب جرائم الإنسان وفساده وَتَّرَتْ ديناميكية الفاعلية الشعرية وحركتها باتجاه الطرف الآخر للحياة، ألا وهوالموت.
ولذلك فالموت هنا لا يعدوأن يكون رغبة حادة في إدراك المجهول، وارتياد الأماكن القصية عن مدنسات البشر. وهنا تغرق الذات في الغربة والوحدة، من جراء القطيعة التي اتخذتها إزاء الآخرين، لتتحمل عذابها وتلوك قهرها الداخلي والخارجي على حد سواء وحيدة. وانكفاء الذات على ذاتها. هو وليد نظرة وجودية، لأن "قضية الوجودية هي قضية الإنسان الذي يبحث عن طريقه فلم يجدها في الخارج أو توهم انه لم يجدها، انطلق يفتش عنها في أعماق ذاته وفي عزمه ألا يخرج منها أبدا، خوفا من تكرار فشله"(2)، كما أنه وليد تطور حضاري مادي وحشي، ورقي معرفي عقلي لم يقدم للروح شيئا، بل صعّد من وتيرة آلامها، ومعلوم أن "التألم يزداد مقداره ونوعه تبعا لازدياد الرقي في سلم الكائنات"(3)
والجديد عند عبد الصبور في هذا المستوى الاغترابي هو تواشج الموت مع الجنون وتعالقهما، باعتبار أن كلا منهما تسليما ورضوخا، وأيضا انقطاعا عن الآخرين وعدم الاعتراف بمواضعاتهم، فهوحينما يصرخ في قصيدته (قد سلمت)(4) قائلا :
__________
(1) - صلاح عبد الصبور : الأعمال الشعرية الكاملة، 1/266-267.
(2) - رمضان لاوند: وجودية ووجوديون، ص 148.
(3) - د/ عبد الرحمن بدوي: الحما الوجودي، ص 158.
(4) - القصيدة غير منشورة، أخذناها عن : عز الدين اسماعيل: الشعر العربي المعاصر، ص 366-367.(1/275)
يا هذا المفتون البسام الداعي للبسمات
نبئني ماذا أفعل
فأنا أتوسل بك...
إن كنت حكيما نبئني كيف أجن
لأحس بنبض الكون المجنون
.. لا أطلب عندئذ فيه العقل
فإنما يريد من خلال ذلك إقامة نوع من التوازن بين الذات المؤرقة والكون المجنون، وعندئذ فقط يتسنى للذات تحقيق سعادتها، وانسجامها مع الوجود، عن طريق هذا الموت المعنوي (الجنون)، ولكن دائما في ظل وحدتها وغربتها عن الآخر، ويشترك الشاعر عبد المعطي حجازي مع عبد الصبور في كون الجنون ملاذا(1).
وإذا كان هذا حال عبد الصبور وحجازي، فإن خليل حاوي يتخذ من الموت في ديوانه "بيادر الجوع" شعاراً يرفعه في وجه بلاهة الحياة، وعقم الواقع وفراغه، ويأس الشاعر. ولعل قصيدة "أليعازر عام 1962" تكون أصدق تعبير عن ذلك، فإذا كان من المعروف أسطورياً أنّ أليعازر الميّت قد بعثه المسيح بعد ثلاثة أيام من موته، فإن لعازر العصر الحديث،لم يقوعلى النهوض والانبعاث ثانية، ولم يستطع تجاوز فساد الواقع؛ وذلك لأن "شهوة الموت متحكمة بنفس أليعازر، حتى أن المسيح، رمز القوة الغيبية يعجز عن بعث الحياة فيه، طالما أنّ المعجزة الغيبية تأتي من الخارج بينما يكون الانبعاث أصيلا في تفجره من أعماق الذات"(2). ورفض أليعازر الانبعاث إنما هو تعبير عن الوضع الحضاري المنهار، ورمز للاجدوى الرؤى الانبعاثية، وتكسر الأحلام النهضوية على صخرة الواقع، ولذلك نرى أليعازر (الشاعر) يختار دفن نفسه متخذا من أسواق المدينة مطية عبور إلى قاع لا قرار فيه:
عبثا تلقي ستاراً أرجوانيا
على الرؤيا اللعينة
وبكت نفسي الحزينة
كنت ميتا باردا يعبر
أسواق المدينة
الجماهير التي يعلكها دولاب نار
من أنا حتى أردّ النار عنها والدوّار
عمّق الحفرة يا حفار
__________
(1) - أنظر : قصيدته "لا أحد" من ديوان "لم يبق إلا الاعتراف"، ضمن الديوان، ص 381 وما بعدها.
(2) - ريتا عوض: أدبنا الحديث، ص 74.(1/276)
عمّقها لقاع لا قرار(1)
هذا ولئن كانت هذه القصيدة تمثل قيمة الانهيار الحضاري والسبات العميق الذي يغط فيه العالم العربي، والذي أدى بالشاعر إلى الإحساس بالضياع والسقوط، وكثّف لديه مشاعر الغربة والانقطاع من خلال اختيار الموت، فإنّ قصيدة أخرى هي قصيدة (جنيه الشاطئ) تمثل قمّة الصراع بين قطبي البراءة والمعرفة، البداوة والحضارة. وهوصراع ناتج عن اصطدام الفطرة الطاهرة بالتمدن الزائف. كما أنه إشارة إلى "حال البراءة الأولى متمثلة في غجرية تحيا كما تدفعها براكين الحيوية المتفجرّة في داخلها إلى الحياة. ويصور الشاعر ألم البراءة أمام "القيم المعرفية المدعية، إذ تحولت الغجرية، رمز البراءة والحيوية، على شمطاء بعد الاحتكاك بالمدينة الزائفة التي تقتل الحيوية"(2) فيها وتدفع بها إلى الاغتراب عن ذاتها الأصيلة، حينما تُتهم بالجنون، ولم تعد سوى شمطاء تنبش المزابل، وتحترف الغواية(3).
هذا وكثيرا ما يتجاور الحب والموت في خطاب أدونيس الشعري في كثير من المواضع، على اعتبار أن غياب أحدهما يستلزم حضور الآخر، وأن كليهما قهر لمشاعر الاغتراب وتحقيق التوحد والاندماج.
أما البياتي فإنّ "عائشة" تظل عنده تموت وتُبعث، تسافر وتعود، تسير وتتوقف، ويظل هو ملاحقا لها أينما حلّت، ومن ثمّ تظل حياته معها"غيابا وحضورا تملؤه الوحشة والترحال وأشباح الموتى"(4)، وقد تتحول إلى مفدي للبشر يموت من أجلهم ويقهر اغترابهم:
بدمي يغتسل العشاق
وبشعري يبني الغرباء
في المنفى شيراز
أتملّكها.. أسكن فيها
أعبدها
__________
(1) - ديوان حاوي، ص 319-320.
(2) - ريتا عوض: أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية، بيروت 1978،ص 120.
(3) - راجع القصيدة في ديوان (بيادر الجوع). ضمن الديوان، ص 193-306.
(4) - مصطفى هدارة: النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث، فصول، مج1، ع4، يوليو1981، ص 106.(1/277)
أرسم في ريشها مدنا فاضلة يتعبد فيها الشعراء(1)
ويقول عن عودتها ومعاناتها من جرّاء فساد الواقع وإفلاسه:
عائشة عادت مع الشتاء للبستان
صفصافة عارية الأوراق
تبكي على الفرات
تصنع من دموعها، حارسة الأموات
تاجا لحب مات
تعبث في خصلات ليل شعرها الجرذان
تزحف فوق وجهها جحافل الديدان
لتأكل العينين(2)
من خلال هذا المنظور"وعلى هذا النحويمضي البياتي في إطار هذه التيمة وجوهرها يكرر حكاية الموت والحياة- أهم موضوع لديه- ويستقطب فيها التاريخ الإسلامي تارة، والليجورات العالمية تارة أخرى. ويتوقف بين الحين والحين عند بابلياته وتراثه الفلكلوري"(3)، مجسّدا من خلال ذلك اغترابه تارة، واندماجه تارة أخرى، متشبثا بالموت فيما يطلب الحياة والعكس.
وبناء على ما سبق نستطيع القول إنّ النصوص المشار إليها آنفا "ترى في الإنسان كائنا من أجل الموت، بلغة الوجوديين المحدثين، بل وتراه –وبعبارة سارتر هذه المرة -" هوى لا جدوى منه"، فكأنما المعقولية والمعنى أمران زائدان على الوجود ومقحمان عليه إقحاما"(4).
__________
(1) - البياتي : قصيدة، (قمر شيراز).
(2) - البياتي: الديوان 2 / 321-322.
(3) - مصطفى هدارة: النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث، فصول (م: س)، ص 106.
(4) - يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي، ص 345.(1/278)
وسبب سيطرة هذا النزوع يرجع إلى أن كآبة الوجود قد أصابت الذات الشاعرة في مكمن عشقها للحياة، فأحالتها إلى جحيم لا يطاق، ومن ثم كان الرفض المطلق لهذا النوع من الحياة. ورفض الحياة مثل اختيار الموت، والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي تمثّل له كلمة الحياة معنيين متميزين(1). ونزعة الموت، فهي حتى وإن كانت وليدة مشاعر حادة بوطأة الحياة وكآبتها وتآكلها فإنّها أيضا وليدة نظرة وجودية إلى الحياة، ووعي منقسم على الذات، وهذا ما جعل التجربة تنتهي إلى الاعتقاد بأن الحياة لا تحتمل، مما جعل الشاعر يغرق في تجربة الموت والإحساس بالعدمية، وهي نتيجة إشكال نفسي واجتماعي.
هكذا كانت تجربة الموت بمثابة الإدانة الكاملة للوجود والإنسان، وهي رؤية على الرغم مما يبدوفيها من العدمية والإنسحابية، إلا أنها ذات نزوع إيجابي، من حيث كونها تنظر إلى الواقع المتهدّم بعين الرفض، وتريد أن تتجاوزه. ولذلك فهي انطلاقا من هذا المنظور الوجودي، شبيهة إلى حد كبير بالرؤية الصوفية التي لا تعدوأن تكون موقفا وجوديا من الحياة، محاولة من خلال الرّفض واللاانصياع الذي تنتهجه، العودة بالأشياء على انسجامها وبراءتها الأولى، والقضاء على الوعي المنقسم، وتحقيق الاتحاد المطلق، وبالتالي قهر الاغتراب.
ب- إشراقة الوجد الصوفي لقهر ظلام الاغتراب:
__________
(1) -ينظر: مصطفى هدّارة : (المرجع السابق)، ص 112.(1/279)
من الطبيعي أنه بعد الشك واليأس والقنوط الذي تملك الإنسان في المدينة، وبعد الابتعاد الكبير الذي حققته هذه الأخيرة عن الله؛ بتأليهها للعقل – الذي أُكتشف عجزه- وتشييئتها للإنسان وتغريبه، وتشطير ذاته، من الطبيعي أن تنشد الذات الشاعرة خلاصها بالعودة إلى الله-مبدأ الكون- والإرتماء في أحضان المطلق الماورائي. وليس من سبيل إلى تحقيق ذلك -بكفاءة- سوى معانقة التجربة الصوفية، واستلهام خطراتها، واستدعاء رموزها ويقينها القلبي للقضاء على الشك الذي زلزل كيانها وأحال حياتها إلى جحيم لا يطاق، من خلال تسرب تلك الأسئلة التشاؤمية إلى ذهنها مثل: التساؤل عن ماهية الحياة، وعن مدى استحقاقها للعيش فيها، وعن جدوى فعل أي شيء يمكنه تحقيق خلاص الإنسان.
ويبدوأن سؤال من مثل: لماذا التجربة الصوفية تقهر الاغتراب؟ وكيف يتم ذلك -على الرغم من أن التصوف نفسه مظهر من مظاهر الاغتراب- سؤال مشروع بل ومُلحّ.
وأعتقد أن التساؤل (لماذا) قد أجيب عنه فيما سبق من قول. أما عن (كيف؟) فنرى بأن الإجابة عنه تتمثل فيما يلي:
1- في التجربة الصوفية يتم القضاء على الذات المنشطرة التي هي منبع الاغتراب، وتحقيق الوحدة المنشودة مع المطلق الإلهي؛ إذ أنها تدرك أن ما في الوجود من تناقض ظاهر، إن هو إلا انسجام، لكن لا يستطيع العقل إدراكه، والنفس المجذبة، المتوقدة بإشراقة الوجد الصوفي، هي وحدها -فقط- التي تستطيع الوصول إلى ذلك؛ فما يظهر على أنه جمع متفرق، ليس هو في حقيقة أمره سوى مفرد بصيغة الجمع(1)، وبهذه الرؤية فقط يتسنى لنا تحقيق الذات الكبيرة في مقابل الذات الكثيرة. وهنا نحقق وحدتنا ونقهر اغترابنا، ونقضي على تناهينا بالدخول في الذات اللامتناهية التي تتوحد فيها كل المتناقضات، يجسد هذا الشاعر أدونيس في قوله:
أبحث عما يوحد نبراتنا
__________
(1) * - للإشارة فديوان أدونيس (مفرد بصيغة الجمع)، هو مصطلح صوفي محض استقاه من أبي حيان التوحيدي.(1/280)
الله وأنا والشيطان وأنا، العالم وأنا(1)
ويتمظهر هذا التوحد عند السياب في شكل آخر من خلال قوله:
قلبي الشمس إذ تنبض الشمس نورا،
قلبي الأرض، تنبض قمحا، وزهرا، وماءً نميرا
قلبي الماء، قلبي هو السنبل
موته البعث: يحيا بمن يأكل.
في العجين الذي يستدير
ويدحى كنهد صغير، كثدي الحياة
مت بالنار: أحرقت ظلماء طيني فظلّ الإله(2)
لقد أكد الخطاب الشعري على وصول الذات الشاعرة إلى ما يمكن أن نسميه "بحالة فقدان الشعور بالأنا"، وهي حالة صوفية محضة –كما هو واضح- يتم فيها نبذ قيود النظرة الذاتية، وفقدان الشعور بالأنا المفردة، وبالتالي تحقيق الأنا المطلقة المنسجمة مع الكون وخالقه؛ إذ أنه بحسب رأي هيجل أن ظاهرة فقدان الشعور بالأنا نابعة أصلا من التصوف الإسلامي، فالشاعر المسلم الصوفي إذ يسعى إلى اسشفاف الله في الكائنات يتخلى عن أناه الخاصة، وهذا ما يعود عليه بالبهجة والسعادة الروحية، فهويعزف عن ذاته ليستغرق في الأزل والمطلق(3)، وبهذا فقط يحقق ذاته الكامنة، الواقعة خارج المعطى الزماني والمكاني، المحكومة بحرية غائية لا حدود لها، المتسامية فوق ترابية الواقع، وبهذا يتسنى له قهر اغترابه ...
__________
(1) - أدونيس (علي أحمد سعيد)، أنظر أغاني مهيار الدمشقي، ص 169.
(2) - بدر شاكر السياب: قصيدة المسيح بعد الصلب. الديوان، 1/458.
(3) - محمود أحمد صبحي: التصوف إيجابياته وسلبياته، مجلة عالم الفكر، مج6، ع2، 1975، نقلا عن مصطفى هدارة: النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث ص: 114، مجلة فصول، مج1، ع4، يوليو1981.(1/281)
2- الرؤية بالتبصّر والقدرة على الاستبطان الواعي: فالتجربة الصوفية هي زهد في الدنيا، وتسام فوق العواطف البشرية العادية، وإدراك ما لا يستطيع العامة إدراكه، يقول الجنيد ابن محمد شيخ الطائفية: "يُوجد الإنسان بالحضور ويُفقد بالغياب، ذلك علم العامة المعروف. فأما أهل الخاصة والخاصة المختصة، فإن حضورهم فَقْد، ومتعتهم بالمشاهدة جهد"(1)، لأن التجربة الصوفية لها قدرات خارقة يستطيع من خلالها النفاذ إلى أعمق مستويات النفس الإنسانية، وإدراك الدلالات الحقيقية، الكامنة وراء وجودها الظاهري. ولذلك فهي تستطيع أن ترى الجميل فيما يبدوللعامة جليلا(2)، لأنها تتجاوز الرؤية الحسية والسطحية للأشياء، وتحكم عليها من منظور رؤية باطنية تأملية تنطلق من داخل النفس لا من خارجها، ولذلك فلا غرابة في أن نرى أدونيس يضفي صفة العذوبة على الداء في قوله:
لعينيّ لون كسرة الخبز
وجسدي يهبط نحوداء له عذوبة الزغب
لا الحب يطاولني
ولا تصل إليّ الكراهية(3)
وليس غريبا أيضا –ضمن هذا السياق الإستبطاني- أن يرى صلاح عبد الصبور انتصاره فيما يعتبره الآخرون انهزاما، فيعلن قائلا:
"لا يعرف الليل سوى من فقد النهار"
هذا إشعارنا
لا تبكينا، يا أيها المستمع السعيد
فنحن مزهوون بانهزامنا(4)
__________
(1) - محمود أحمد صبحي: "التصوف، سلبياته وإيجابياته"، ص 50، نقلا عن: مصطفى هدارة: م. ن.
(2) - نقصد بالجليل –هنا- كل ما هو مخيف ومرعب وقبيح، كالموت وما شاكله.
(3) - أدونيس: ديوان مفرد بصيغة الجمع، ص 132.
(4) - صلاح عبد الصبور: الأعمال الشعرية الكاملة – 1/203.(1/282)
فمحاولة تجميل الجليل من خلال نزعة التأمل العميق والاستبطان الواعي، المزود بإدراك صميمي لحقيقة الوجود، هي محاولة جادة لقهر الاغتراب، والقضاء على تفكك وانشطار الذات المعذبة برؤية المتناقضات واللا انسجام الوجودي، وهنا يصِّح القول أنه "عندما تتمزق الروح...وتتفكك الوحدة والتناغم تكون هناك حاجة إلى الجمال.. وإلى خلق النفس الجميلة بإيجاد بُعد جمالي للذات الإنسانية تكون وسيلة انقاد..."(1).
3- إدراك وحدة الوجود واستبصار التوحد بين الخالق والمخلوقات: إن مشاعر الانفصال والغربة والسأم والخوف التي كان يستشعرها الشاعر المتصوف في بداية رحلته الصوفية من خلال بُعده عن الله، والتي تتمظهر عند صلاح عبد الصبور في شكل استغاثة:
الله لومنحتني الصفاء
الله لوجلستُ في ظلالك الوارفة اللفاء
أجدل حبل الخوف و السأم
طول نهاري
أشنقُ فيه العالم الذي تركته وراء جداري
ثم أنام غارقا، فلا يغوص لي
حلم...(2)
__________
(1) - مجاهد عبد المنعم مجاهد: جدل الجمال والاغتراب، السلسلة الثقافية، مكتبة الإنجيلوالمصرية، القاهرة، مطبعة حسان 1986، ص 69.
(2) - صلاح عبد الصبور: أنظر قصيدته: (أغنية إلى الله) الأعمال الشعرية، 1/205.(1/283)
فهذه المشاعر قد زالت تماما في مرحلة متأخرة من التصوف، عندما أدركت الذات الشاعرة وحدة الوجود واستشعرت الوحدة الجامعة بين الخالق والمخلوقات، واستطاعت أن تقضي على ذلك التناقض الظاهري بينها على طريقة ابن عربي(1)، يقول أدونيس:
أبحث عما يوحد نبراتنا
الله وأنا والشيطان وأنا، العالم وأنا(2)
__________
(1) - يرى ابن عربي أن وحدة الوجود ليست مادية، وليست الحقيقة الوجودية هي ذلك العالم المادي الماثل أمام حواسنا، ولكنها وحدة وجود مثالية أو روحية تقرر وجود حقيقة عليا هي الحق الظاهر في صور الموجودات. وتعد وجود العالم بمثابة الظل لصاحب الظل ولهذا فابن عربي يحرص على القول بأن الحق مترد مشبه، فتنزيهه في وحدته الذاتية ومخالفته للحوادث، وتشبيهه في تجلية بصورها. وتختلف درجة تأكيده لجانب التنزيه وجانب التشبيه باختلاف الحال التي يكتب فيه، فقد يغلب عليه لسان التشبيه حتى تكاد تضنه ماديا. وقد تغلب عليه العاطفة الدينية فيتكلم بلسان التنززيه وينكر كل مناسبة بين الله والمخلوقات. ينظر: أبو العلاء عفيفي: التصوف الثورة الروحية في الإسلام، دار المعارف بمصر 1963، ص: 196-197، نقلا عن محمد مصطفى هدارة: النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث، فصول، مج1، ع4، يوليو1981، ص 116.
(2) - أدونيس: أغاني مهيار الدمشقي، ص 169.(1/284)
فمن خلال هذه الوحدة، وهذا الإنسجام يتمكن الشاعر من قهر اغترابه، وطرد كل الأفكار التي تشعره بانفصاله عن الله وعن الكون. والشاعر ليس معنيا –بطبيعة الحال- بتحقيق تلك الوحدة واقعيا، أو بحل التناقض بين الخلق والخالق، والواحد والكثير، والقديم والحادث، والظاهر والباطن، والأول والآخر، وغيرها من الأضداد(1)، عمليا، كما هو الشأن بالنسبة للصوفي تماما، وإنما يكفي الشاعر أنه استشعرها شعريا، وحقق وجدتها فنيا، وحسبه ذلك. ومن هذا المنظور استطاعت أن "تقترب التجربة الشعرية من التجربة الصوفية في محاولة كل منها الإمساك بالحقيقة والوصول إلى جوهر الأشياء"(2) كما يرى عبد الصبور، وبالوصول إلى إشراقة الحقيقة والقبض على جوهر الأشياء يتم تبديد ظلمة الاغتراب.
__________
(1) - ينظر محمد مصطفى هدارة: النزعة الصوفية، (م: س)، ص 116.
(2) - صلاح عبد الصبور: تجربتي في الشعر، ص 18، فصول (الشاعر والكلمة)، مج2، ع1، أكتوبر 1981، عدد خاص بالشاعر.(1/285)
4- النزعة الثورية وحب التغيير: ثمة حقيقة مؤكدة تتمثل في أن الصوفية جاءت كردة فعل ضد الانهيار الذي دلفت إليه الحياة، وضد التشبث بقشور الدنيا والإغراق في الشهوات (ثورة أبي ذر)، ولذلك فالشاعر هنا، عندما ينزع نحوالتصوف فإنما لكي يستلهم ذلك الرفض ويواجه به هذا العالم المتشيء ذي القيم العفنة المتآكلة؛ إذ أنه "قد عرف الصوفية منذ وقت بعيد بالتمرد والثورة على الأشكال الموروثة ومحاولة إحداث صدمة للواقع، وما تواضع عليه الناس، وكان جلال الدين الرومي يقول إن الهواء الذي أنفخه في هذا الناي نار وليس هو اء وكل من ليس له هذه النار فليمت(1). بل نجد أحد الباحثين المحدثين يربط بين حركة المتصوف في العصور القديمة وحركة اليسار في الفكر العربي المعاصر قائلا: إن الصوفية لعبت دورا ثوريا يتسم بالاحتجاج، ويمثل حالة "اللاانصياع" الاجتماعي أمام القائم السياسي(2)"(3)
ولذلك فالصوفي لن يتردد لحظة واحدة في فضح الزيف الذي تعانيه الحياة، وكشف مفارقاته، والثورة عليه، كما هو الأمر عند (حلاج) صلاح عبد الصبور، الذي ثار على الظلم والفساد، وحاول استئصال الشر من الكون، ورفض كل أنواع التردد والانهزام والنكوص التي كان الشلبي نموذجا لها(4).
__________
(1) * - مجلة الآداب الأجنبية، ع1، س4، تموز 1977، ص 52.
(2) ** - أنظر: مقال: الصوفية حركة يسار الفكر العربي ليوسف اليوسف، مجلة الآداب، ع1، س 1975.
(3) - محمد مصطفى هدارة: النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث – فصول: (م: س) ص 118.
(4) - أنظر مسرحيته الشعرية: مأساة الحلاج.(1/286)
ونجد هذه النزعة الصوفية الثورية أيضا لدى البياتي في جل إنتاجه الشعري الذي يمثل إحساسا باستمرار النفي وظمأ إلى الحب وارتياحا إلى عالم الأشباح (عائشة)(1)، وثورة لا تعرف المهادنة، في قصيدته (أباريق مهشّمة)(2)يقول:
الله والأفق المنور والعبيد
يتحسسون قيودهم
شيد مدائنك الغداه
بالقرب من فيزوف ولا تقنع
بما دون النجوم
وليضرم الحب العنيف
في قلبك النيران والفرح العميق
والبائعون نسورهم يتضورون
جوعا وأشباه الرجال
عور العيون
في مفرق الطرق الجديدة حائرون
لابد للخفاش..
من ليل وإن طلع الصباح
والشاة تنسى وجه راعيها العجوز
وعلى أبيه الابن والخبز المبلل بالدموع
طعم الرماد له، وعين من زجاج
في رأس قزم، تنكر الضوء الطليق
وأرامل يتبعن أشباه الرجال
تحت السماء بلا غد، بلا قبور
والله والأفق المنور والعبيد
يتحسسون قبورهم:
نبع جديد
نبع تفجر في موات حياتنا
نبع جديد
فليدفن الأموات موتاهم..
تكتسح السيول
هذي الأباريق القبيحة والطبول
ولتفتح الأبواب للشمس الوضيئة والربيع.
__________
(1) -ينظر احسان عباس : اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 209.
(2) - الديوان- 1/157 وما بعدها.(1/287)
الشاعر هنا رافض لواقعه، وثائر على كل ما من شأنه أن يكبّل الإنسان، ويعطل إرادته نحوالانطلاق الخلاق، وتحقيق حريته الإنسانية، رافض لكل أشكال التقييد مكانية كانت أو زمانية أو حتى مجتمعيه مما تواضع عليه الناس فأكد خضوعهم (كتقسيم المجتمع إلى عبيد وسادة...)، وقد استلهم الشاعر لثورته هذه رموز كثيرة من شأنها أن تبعث الحياة في هذا الموات، وأن تطهرّ العالم من أدرانه من مثل (النجوم، الحب العنيف، النيران، الفرح العميق، الضوء الطليق، نبع جديد تفجر، السيول، الشمس، الربيع...)، وهي كلها رموز- كما نرى- فاعلة، وقادرة على قهر ظلام الوعي وتثوير غربة الذات، وتحقيق وجودها. فالرمز هنا قد لعب دور الدعامة المركزية التي تسم القصيدة بنبرة درامية؛ ذلك أنه يعطل النبرة التفجعية التي يتردى فيها النص أحيانا، ويمكنّه من استيعاب حركة الصراع ببعديها الاجتماعي والوجودي...فيصبح قائما على جملة من المبادئ التي تتلخص في ظاهرة التضاد(1) الكائنة بين العالم الواقع، والعالم الذي تريده الذات الشاعرة أن يتحقق، ويتضح ذلك جليا في الصّور والألفاظ المتضادة التي كانت تمور بها القصيدة.
وبهذا نستطيع القول أن الثورية الصوفية، لم تكن ثورة على الواقع المتردي فحسب، بل وأيضا ثورة على مستوى الأفكار والمفاهيم والقيم الشعرية، باستحداثها لرموز ودلالات جديدة. وليس ذلك بالأمر الغريب، فهي كانت تنطلق من تجربة ثورية،ورؤية إشراقية بعيدة الأغوار، تؤمن بقدرة الإنسان على التغيير، وبقدرته على أن يقهر حزنه وأن يصنع فرحه وعرسه، وأن يخلق جنته الأرضية، أو كما يقول نجيب سرور :
يا عبيد الحزن يا صرعى أفانين الحذر
قدر الإنسان أن يقهر حزنه
قدر الإنسان أن يفرح أن يصنع عرسه
قدر الإنسان أن يخلق فوق الأرض جنة
بل وأن يخلق نفسه
قدر الإنسان أنّ إرادة الإنسان
في الأرض قدر
__________
(1) - ينظر : محمد لطفي اليوسفي: في بنية الشعر العربي المعاصر، ص 37.(1/288)
ما السما ما قمة الأولمب ما الأقدار؟
ما كل الأكاذيب العبيد؟
نحن لا نصبح أرباب إذا متنا
نحن أرباب على الأرض نريد(1)
بمثل هذه الأفكار الصوفية الثورية،وبمثل هذه القوة الهائلة التي زودت بها التجربة الصوفية الخطاب الشعري، استطاعت الذات الشاعرة أن تعرف قيمة قوى الإنسان، وأن تبلغ به مرحلة جديدة تجعل منه شيئا آخر(2)، غير الذي كان قبل الانخراط في هذه التجربة الروحية. لقد استطاعت أن تدرك بأن الإنسان هو الحقيقة الأكثر حياة في هذا الوجود(3)، وبأن "في إمكاناته إله صغير، فجميع ألياف الوجود تتصالب فيه.. جميع الأسباب والنتائج والنهايات والبدايات، هو في وقت واحد خالق ومخلوق على حد سواء"(4). ولكنه لا يستطيع أن يدرك ذلك وأن يحقق هناءته ويقهر اغترابه، إلا إذا توحّد بالكون وانسجم انسجاما تاما، بحيث يصير كلاهما واحد، لا فرق بينهما، وهذا ما نراه بالفعل قد تحقق عند أدونيس:
وَحِّدْ بي الكون فأجفانه
تلبس أجفاني
وحّد بي الكون بحريّتي
فأيّنا يبتكر الثاني؟(5)
والإجابة على هذا التساؤل تأتى في موضع آخر من الديوان، لتقول لنا، بأنه الإنسان الشاعر، هو الذي يبتكر الكون؛ وهذا عندما وثق من نفسه، وعرف قدرته الهائلة على تغيير طبائع الأشياء وتحويلها إلى ما يرضي الإنسان ويحقق يقظته وبعثه وبهجته، بل وبهجة جميع الكائنات:
قادر أن أصيّر وجهي بحيرة ًللبجع وأجعل أهدابي
غابات، وأصابعي ربيعا وأعراسا، قادر أن أبعث
أليعازر في كل خطوة أخطوها(6)
__________
(1) -أنظر: مجلة الآداب عدد أكتوبر 1960، عن مصطفى هدارة (م.س)، ص 119.
(2) - انظر : م.ن، ص.ن.
(3) - انظر : مصطفى محمد هدارة: النزعة الصوفية:- (م.س)- ص 119.
(4) - ستيبان أو ذريف، على دروب زرادشت- ص 126، ترجمة فؤاد أيوب.
(5) - ادونيس : الآثار الكاملة – 1/46.
(6) -م . ن 2/240.(1/289)
وما يؤكد هذه القدرة التي يمتلكها الإنسان الشاعر، عي تلك الأفعال المضارعة المسندة إلى ضمير المتكلم (أصيّر- أجعل- أبعث)، وهي كلها تتضمن معنى التحول، بل وتشير بوضوح إلى القوة الهائلة على التغيير والبعث الفوري، بسبب استهلال جمل تلك الأفعال باسم الفعل (قادر)، الذي يفيد الحالية والفورية(1). هذه هي الكيفية التي استطاع بها ومن خلالها الشاعر العربي المعاصر أن يقهر اغترابه، وينفذ من قمة وجده الصوفي وتوحّده الكلّي إلى عالم نوراني مشرق .
وهناك مظاهر اغترابية أخرى آثرنا عدم إثارتها –بتفصيل – لكون الإشارة إليها قد وردت في ثنايا هذا الفصل –فيما سبق- ونعني هنا الأسطورة . فلجوء الشاعر إليها هو مظهر من مظاهر الاغتراب. بل مظهر مكثّف له، ومطّهر منه في آن واحد؛ فالشاعر عندما يستلهم الأسطورة، أو يعيش في عالم أسطوري، فإنما يعني هذا أنه منفصل عن الواقع ومغترب عنه. في حين أنه عندما يُؤَسْطِرُ الواقع فإن هذا يعني أنه يغرّبه ويبتعد به عن واقعيته المتعينة الجاهزة. وكلا الموقفين اغتراب –كما نرى- أما عن فاعلية الأسطورة في التخلص من الاغتراب وقهره، فيكمن في كونها تعتبر متكأ للشاعر يحاول من خلاله الاحتجاج على الواقع المتردي، والرجوع بالكون إلى الينابيع الروحية الطفلية، وبالوجود إلى عهد طهره وبراءته الأولى وشبابه الغض الذي لم تدب فيه عناصر التحلل والتدمير بعد، ولم تدنسه الحضارة.
__________
(1) - ينظر: د/ عدنان حسين قاسم: لغة الشعر العربي- ليبيا، ط1، 1981، ص 72-73.(1/290)
وواضح مما سبق أن الشاعر المعاصر لا يطرح قضية الاغتراب كموقف قدري مسلم به، بل إنه يطرحه طرحا واعيا، مؤكدا من خلال ذلك طبيعته الإنسانية، أي إنه من صنع الإنسان نفسه بعد انحرافه، ولذلك فطرحه يأتي على شكل تساؤل إنكاري رافض، وليس قدراً مسلّماً به، وفي هذا عودة خفية –إن لم نقل صريحة- إلى القيام بفعل، يمكنه أن يزيل هذا الاغتراب، وهذا بعد معرفة أسبابه الموضوعية-بطبيعة الحال- ووعيها، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية والحضارية...
ولكن هذا الوعي وهذه المعرفة لم تتم "إلا من خلال رؤية مستقبلية يظهر فيها الوضع الراهن مزيفا وهذا يعني أن الوضع الراهن في حد ذاته ليس كافيا لتنمية الوعي الجدلي السليم، ولابد، في مواجهة الوضع الراهن، من طرح واقع مستقبلي من خلاله نكشف زيف الوضع الراهن"(1).
لذلك فطرح التاريخ بالكيفية التي رأيناها سابقا أعني بعين النقد –إنما يعني في- أحد جوانبه ابتغاء تحريك الجماهير وتحملها مسؤولياتها في تغيير التاريخ، فاهتمام الشاعر "بنوع أحداث الماضي اكثر من اهتمامه بالوقائع الجاهزة"(2)، في كثير من الأحيان، يعني أنه يحاول "اكتشاف الأثر الذي تحدثه الأحداث التاريخية ومواقف الصراع من وجهة نظر ومصالح الإنسان المعاصر"(3)، وبهذه الكيفية ترتفع الذات الشاعرة إلى المستوى التاريخي، فتعالجه على أنه تاريخ مغترب في علاقته بالوعي كحل للمشكلة وكوسيلة لتحرير الإنسان من الاغتراب، وتحقيق تاريخ وواقع إنساني حر، وغير مغترب(4).
__________
(1) -منى سعد أبو سنة: الاغتراب في المسرح المعاصر- مجلة عالم الفكر، مج10، ع1- أبريل، مايو، يونيو1979، ص 156.
(2) - م . ن، ص 169 .
(3) - م: س، ص 169 .
(4) - ينظر : م . س، ص 163.(1/291)
كما أن الارتفاع بالاغتراب من المستوى الفردي على المستوى الاجتماعي هو إدراك لجدلية الذات/الموضوع، وإدراك بأن العامل الموضوعي بإمكانه الكشف عن أبعاد ذاتية جديدة في النفس الإنسانية، وبالتالي إثراء الحياة الاجتماعية والانتقال بها إلى مستوى الثورة، ذلك لأن الإنسان كذات فردية مهما كان رفضه وتمرده على الواقع لا يمكنه أن يبرح مرحلة التمرد إلى مرحلة الثورة، إلا إذا كان إنسانا كذات اجتماعية، باعتباره ذاتا فردية تعيش في مجتمع وتخضع لمواضعاته، وباعتباره-مهما تفرد- مجموعة علاقات اجتماعية لا تقهر اغترابها إلا إذا وعت أسبابه، ثم تلاحمت وتكاتفت.
وطرح الحب بالكيفية التي رأينا، والإعلان عن إفلاسه، إنما هو من جهة أو لى ثورة ضد استفحال الخيانة وعدم الإخلاص، وكبت المشاعر الإنسانية الصادقة والنزوع نحوالتصنع والتملق الذي يتبدى في شكل غزل (Galanterie) كليشيهي مزيف، يستخدمه الرجال إزاء كل النساء والعكس. وفي هذا اغتراب للإنسان عن ذاته. لأنه هو ليس ذاته بل متصنع، واغتراب عن الآخر لأنه غير صادق معه. وهومن جهة ثانية حنين إلى ثراء الحب وصفائه، حنين إلى "هذا الانفعال العظيم بكل ما فيه من جنون، وخفقان، وحماسة، وعبارات ملتهبة، بل وما فيه من لحظات صمت مشحونة وما فيه من نظرات يضيق عنها نطاق النطق" كما يقول روسو(1). فالتسامي والإخلاص والصدق الذي يبتغيه الشاعر-من خلال عرضه ذاك- هو وحده الكفيل بإزالة الاغتراب في العلاقات الإنسانية بطرح النفس على سجيتها والرجوع بها على فطرتها.
__________
(1) - Roussou,lettre a d'Alembert, Paris Garnier -Flammarion, 1967-P.P :200-201.
... نقلا عن: د/ محمود رجب الاغتراب سيرة ومصطلح، ص 67-68 .(1/292)
أما تمجيد الموت من وجهة نظر وجودية-كما سبق ورأينا- فهوتعبير عن نزوع جامح نحوالحرية، الحرية المطلقة والكاملة التي في إمكانها إزالة كل شك من أشكال الاغتراب؛ ذلك لان الإنسان هو حرية، أو هوبتعبير الوجوديين مشروع بتحقيق حريته وعمله على استمراريتها وإثبات وجوده من خلالها. ولما أدركت الذات الشاعرة بأن هناك بونا شاسعا بين ما هو موجود، وما ترغب في تحقيقه، ارتأت أن حريتها المطلقة والكاملة لا تتحقق إلا في معانقة أصل الوجود الذي هو العدم، فهوالكفيل بإزالة اغتراب الإنسان وتحقيق وحدته، والقضاء على تناقضات الوجود من حوله،
ويصدق القول نفسه على نزعة التصوف بثوريتها كما سبق وأن رأينا، لأن الصوفية لا يمكن أن تكون ذات أثر فعال في الحياة والوجود إلا إذا اقترنت بالثورية، وعبّرت عن التغيير المنشود، وإلا فهي محض تهويمات، هروبية، نكوصية، لا تضيف للواقع شيئا كما يرى البياتي (1)
وفي هذا كله ارتفاع بالاغتراب- ومحاولة إزالته المتمثلة في الوعي بأسبابه –إلى المستوى الأنطولوجي الذي هو أرقى المستويات جميعا، "وهذه المرحلة تمثل نقلة كيفية من الذات الاجتماعية إلى الذات الإنسانية"(2).
__________
(1) - أنظر : مفهوم الشعر في كتابات الشعراء المعاصرين لعز الدين اسماعيل مجلة فصولا/ مج1،ع4، يوليو1981، ص 53.
(2) - منى سعد أبو سنة: الاغتراب في المسرح المعاصر، عالم الفكر، مج10، ع1، ص 163.(1/293)
وبناء على ما سبق نستطيع القول إن الاغتراب من وجهة نظر الشاعر المعاصر يعتبر السمة المميزة والأساسية لمجتمع المدينة، واختيار الشاعر لمقولة الاغتراب واستخدامها كتقنية معنوية وشعرية، يرجع إلى تصوره أنّ الاغتراب هو الصفة الأساسية، والنمط المميز للبناء الداخلي لإنسان ومجتمع المدينة في القرن العشرين، ولكنها ليست جوهرية أو حتمية، ولذلك فالثورة عليها تصبح ضرورية، وهذا –في حد ذاته- يعني أن مفهوم الاغتراب لدى شعرائنا يستند على خلفية ذات مفهوم فلسفي، ومضمون اجتماعي، وواقع حياتي، وتقنية شعرية جمالية ثورية.
هكذا يجعلنا الشاعر العربي المعاصر نعي أسباب اغترابنا، وبالتالي نتجاوز هذا الاغتراب من خلال ممارسة التفكير خارج نطاق الفكر، أعني في الواقع، مما يتحقق معه فهمه له، ومن ثم إحداث تغيير فيه، لأن "بفهمه للواقع يلجأ إلى التأثير في الواقع وتغيير العالم، بذلك يخلق الإنسان نفسه بنفسه ويحقق حالة من عدم الاغتراب، من خلال الوعي بالاغتراب، ومن خلال الوعي الذاتي بالظروف الموضوعية القائمة"(1)، وهذا بواسطة دفع الفعل الشعري وممارسة رؤاه في الواقع الفعلي الخارجي.
__________
(1) - م. س، ص 151.(1/294)
فالفن الأصيل هو ذلك الفن الذي لا يعول على الوجود الملموس والقبول به كما هو ، بل يعول على الجنيني وحتى المجهول منه. والباحث في الشعر العربي المعاصر يكتشف تناقضا ظاهرا وتكاملا باطنا غريبا يعكسه الصراع بين الشيء ونقيضه؛ بين الوجود القسري في المدينة وبين الرغبة في التخلص من ضوضائها ودنسها، تارة عن طريق محاولته إصلاحها، وتارة أخرى من خلال الهجرة الخيالية وابتناء عوالم أكثر نقاء وطهارة وسكوناً. فالشاعر يعيش الواقع ويتعالى عليه، بمعنى أنه يرفض الحياة المدينية ولكنه مجبر على قبولها لأنه لا يملك بديلا مكانيا غيرها –بعدما ترك قريته وتأكد ألاَّ رجوع. -ولكنه بعبقريته وذكائه وحدسه الفني، وجد متنفسا جماليا راقيا، وفضاء يُسقط فيه هذا الرفض ويحققُ فيه حلمه في الوقت ذاته.
ولم يكن هذا الفضاء سوى فضاء القرية أو المدينة الحلم، التي أسقط عليها الشاعر معاناته من المدينة الواقع، وأَطَّرَ بها أفراحه وصبواته، وأيضا مآسيه. يتم هذا من خلال تصويره الجمالي للمكان وإعطائه أو صافا تتوافق ورغباته، أو تعكس عذاباته.
(((
الفصل الرابع :
التشكيل الجمالي
للمكان وخصوصيته:
1- علاقة الإنسان بالمكان وأهميته
2- المدينة وصدمة المكان الثقافية
3- المكان وفاعلية الإبداع
أ المكان كفضاء وحيز معرفي
ب المكان كمنبع للإبداع
ت الخوف في المكان
2- المكان في اللغة الشعرية
3- الصورة وخصوصية التشكيل الجمالي للمكان
أ- المكان في الصورة
ب- إشكالية المدنس والمقدس
1- المدينة مكان مدنس
- رعب الخارج وكآبة الداخل (التماهي الإسقاطي).
- شعرية اللون
2- المكان المقدس (مكان الحلم).
- مكان الحلم
- مكان الحضور والغياب (الهنا والهناك).
1- علاقة الإنسان بالمكان وأهميته :(1/295)
يلعب المكان دورا هاما وحاسما- ومنذ القدم- في تكوين حياة البشر، وترسيخ كيانهم وتثبيت هو يتهم وتأطير طبائعهم، وطبعها بطابعه الخاص (أي طابع المكان)، وبالتالي تحديد تصرفاتهم وتوجهاتها، وإدراكهم للأشياء. وهذا لكونه أشد التصاقا بحياتهم، وأكثر تغلغلا في كيانهم، وأعمق تجادلا مع ذواتهم . وعليه، فإن كان الزمن يُدرك "إدراكا غير مباشر من خلال فعله في الأشياء فإن المكان يدرك إدراكا حسيا، يبدأ بخبرة الإنسان بجسده : هذا الجسد "المكان" أو لنقل بعبارة أخرى "مكمن" القوى النفسية والعقلية والعاطفية والحيوانية للكائن الحي"(1) ليتعداه بعدها إلى أقرب مكان إليه، وهوالحيز الذي يحتويه كالثياب، ثم إلى الغرفة، ثم غيرها من الأمكنة.
وتتراتب هذه الأحياز المكانية في الأهمية تبعا لوظيفة كل منها، وعلاقة الفرد بها إن شدّة أو ضعفا، وتتسع وتضيق تبعا لسايكولوجية الفرد الانعزالية أو الانفتاحية. ولعل هذا ما يفسر قلق الإنسان وخوفه على المكان إذ هو هُدد؛ لأن تهديد هذا الأخير هو بالضرورة تهديد لكيان الفرد وهويته وإطاره الذي لا يكون إلا به، فالمكان وبخاصة الأليف كالبيت – كناية عن الذات ولذلك فكل عدوان يتعرض له المكان يعتبر عدوانا على الذات، باعتبار أن "تصاعد العدوان انتقال رمزي من المكان الرمز للأنا (البيت) إلى الأنا ذاتها"(2)، ولا أدل على ذلك من تلك الحروب الشرسة التي تخاض من أجل اغتصاب الأمكنة أو من أجل استرجاعها، ويتبدى ذلك حتى على المستوى الفردي في الحياة اليومية (في الحافلات، والمدرجات، وحتى الأقسام التربوية).
__________
(1) - يوري لوتمان: مشكلة المكان الفني، تر/ سيزا القاسم، مجلة (ألف) البلاغة المقارنة، ع6، 1986، ص 79 .
(2) - د/ سامي أسعد: مفهوم المكان في المسرح المعاصر، مجلة عالم الفكر، مج 15، ع4، 1985، ص 95 .(1/296)
ولعل ما يفسر أهمية المكان أكثر، ويعكس شدة تغلغله في كيان الفرد هو أنه المنطلق لتفسير كل تصرف. فلا يُحكم على سلوك الإنسان إلا من خلال تواجده في المكان، فما يتبدى في مكان ما إنه غير لائق، قد لا يبدوكذلك في غيره من الأمكنة. أضف إلى ذلك أن جل مفاهيم الإنسان الأخلاقية، والنفسية والاجتماعية وحتى الإيديولوجية، لايعبر عنها إلا تعبيرا مكانيا صرفا(كأعلى، وأسمى، ووضيع، واسع الصدر أو ضيقه ويمين، يسار، وتطرف وسطية... )، وعلى هذا فهوخير معين للإنسان إذ أنه يمده بتصوراته ومفاهيمه، كما أنه يشكل له وبخاصة للمبدع – حلا مريحا وآمنا، إذ ينقذه من السقوط في السطحية ويخلصه من المباشرة في معالجة الأحداث وبخاصة السياسية منها.
إذن ومن أجل هذا، احتل المكان – شأن الزمان- في الدراسات الفلسفية والأدبية- وإن كانت متأخرة نسبيا – حيزا لا بأس به، ويرجع هذا الاهتمام لكون المكان دعامة أساسية لكل تصور إنساني- -كما سبق القول- ولكونه منطلق كل دراسة تريد أن تدرك أبعاد النص وخلفياته النفسية والاجتماعية، كما أنه منطلق كل دراسة تسعى لأن تكون جادة، وقريبة من الصواب؛ فكما أن "تفاعل العناصر المكانية وتضادها يشكل بعدا جماليا من أبعاد النص"(1) فإن معايشة الإنسان للمكان وتآلفه معه، أو معاداته له، يشكل الخلفية الارتكازية لكل تصور أو توجه أو تشكيل فني .
__________
(1) - مجلة ألف، ع6، ربيع 1986، من المقدمة، ص 6(1/297)
ولكون موضوعنا، محدود سلفا، فإن ما يهمنا من دراسة المكان في هذا الفصل، هو خلفيته الفنية، وتشّكله النفسي أعني النظر من زاوية معاينة الذات الشاعرة له، وتجسيمها لملامحه، والتي أعتبرها بحق أبرز لحظة تنكشف فيها العلاقة الثلاثية ما بين الآنا (ممثلة بالذات الشاعرة) وبين الآخر (ممثلا بالمجتمع المحتوِي) وبين المدينة(الحاوي في علاقتها بساكنها (ممثلة بذلك التضخم المعماري الفارغ روحيا، وذلك الانحسار الطبيعي وسيادة الإصطناعي) أو الريف (الحاوي) (ممثلا بانفتاحية أفقه وبساطة وشدة وسهولة أُلفته). وعليه فسوف نقتصر في دراستنا على المكان الأليف والمكان المعادي- من خلال الصورة والحلم – وعلاقتهما بالذات، وعلاقة هذه الأخيرة بالآخر إن انفصالا أو اتصالا، تبعا – بطبيعة الحال- لما يفرزه المكان وما يفترضه وما يحمله من دلالات نفسية واجتماعية، ذات طبيعية بصرية –قبل كل شيء– تتشكل لغويا؛ ذلك لأن "الإنسان يدرك العالم إدراكا بصريا، وهي خاصية يترتب عليها أن الناس –في معظم الأحيان– يُرجعون العلامات اللغوية إلى بعض الأشياء البصرية/المرئية المكانية"(1)، والشاعر في استعماله للرموز اللغوية وتشكيله لدلالاتها، وبخاصة الأظرفة والأسماء المكانية إنما ينزع نحونوع من التحديد البصري الدقيق للمرئيات، وذلك عن طريق استنفار حاسة البصر فينا واتخاذها كمنطلق أساسي لتصوراتنا. ونظرا لهذا التشكيل اللغوي للمبصَرات في الإبداع، "ُيمكن القول أن بنية مكان النص تصبح نموذجا لبنية مكان العالم، وتصبح قواعد الترتيب لعناصر النص الداخلية لغة النمذجة المكانية"(2)؛ ذلك لأن التوظيف اللغوي لدى الشاعر لا يكون إلا تبعا أو نتاجا لتصوره النفسي/الاجتماعي، ونتيجة لما يلقاه في المكان.
2- المدينة وصدمة المكان الثقافية :
__________
(1) - مجلة ألف، ع6، ربيع 1986، مشكلة المكان الفني، مرجع سابق، ص 88.
(2) - م . ن، ص 89.(1/298)
وما دامت دراستنا هذه تهدف أساسا إلى معرفة علاقة الذات الشاعرة بالمكان (المديني) بصفة خاصة، بإعتباره وعاء حسيا يصب فيه الشاعر شحناته الإنفعالية، ولما كانت علاقة هذا الأخير بذلك المكان، ذات طبيعة توتّرية، فإن الشعور الأكثر بروزا هنا، هو الإحباط والإنفصال، والإحساس بالعجز والتحجم وحقارة الذات؛ نتيجة لتلك المادية المفرطة التي يتميز بها هذا المكان، والتي تصدم حواسه في كل آن وتشعره بالثقل وتكبيل الإرادة، وعرقلة الانطلاق، وعندها يكره الشاعر حدوده المادية والنفسية، ويتبرم من سطوتها، يقول أدونيس مجسدا ذلك محاولا استشفاف صورة للواقع أكثر رحابة :
لأني دم ولأني لحم
أحب حدودي وأكره
أني أحب حدودي –
ألا صورة من جديد
تصاغ لهذا الوجود(1)
وحالتئذ يصبح المكان وخاصة المعادي منه، ضرورة إنسانية، للعيش ضمنه والعمل على تحقيق الذات فيه، ولكن في الآن نفسه مشكلة إنسانية، ضاربة بجذورها في أعماق الشعور، ولافحة وجدان الشاعر قبل شغل تفكيره، نظرا للتحدي الذي يواجهه باستمرار، والتهديد الذي يلقاه.
وتكبر المأساة عندما يجد الشاعر ذوالأصول الريفية، نفسه متورطا في حيز صناعي مطلق. كل ما فيه معاد للروح، طابعا إياها بالتفاهة والموت البطيء، تقول الشاعرة ربيعة جلطي عن عبثية حياه وهموم الإنسان في هذا المكان:
ستغازل البنات في الشوارع
تدخن مثل جميع الرجال
تحمل بطاقة تعريفك
تشرب
تقود جيوش الفتح
تركض خلف سراديب المحار(2)
__________
(1) - الأثار الكاملة 1/ 105.
(2) - ديوان شجر الكلام، منشورات السفير، مكناس المغرب، ط1، 1991 ص 63.(1/299)
وعليه يمكننا القول إن التعبير بأُطر المكان على المدينة (شوارع، جدران . . . ) هو تعبير عن إشكالية حضارية صميمية ووجودية مؤلمة، تضرب بأطفالها في صميم الواقع النفسي والمادي للإنسان المعاصر، فتتخلخل علاقته بالمكان، ويصبح أكثر مأسوية. ولا مخلص للشاعر منه سوى ابتداع نقيضه، أعني مكان الهناءة والراحة، مكان الشعر والحلم. وعليه فما المكان المديني سوى الفضاءات الداخلية لرهبة الذات، في حين أن المكان الشعري الحلمي، هو الفضاءات الداخلية لرغبة الذات، في البقاء وعودة الأمن والاستقرار والإتزان الروحي؛ بإعتبار أن الشعر أداة مقاومة وإحتجاج على كل ما هو معادي.
فالمدينة هي الحيز المكاني الذي هو حاضر للشاعر ومحتويا إياه، ولذا فهوينطبع بطابعه، ويتلون شعره بألوانه، في حين أن الريف هو المكان الذي كان ماضيا للشاعر، لذلك فهو– أيضا - دائم المثول في المتن الشعري – ولوبسبيل التعشيش في الذاكرة، ذلك لأن الإنسان تواق إلى حيث لا يوجد، أو كما يقول جان بيرجوف "لأننا نكون حيث لا نوجد"(1)، ونتوق إلى أمكنة ذكرياتنا.
__________
(1) - غاستون باشلار : جماليات المكان، ترجمة / غالب هلسا، ص 192.(1/300)
ولعله بسبب من ذلك التعارض الهندسي ما بين أُطر المدينة وأطر الريف، تكثف الصراع في نفس الشاعر، وأصبحت حياته جحيما لا يطاق، ذلك لأن "تعارضا هندسيا بسيطا يصبح مشوبا بالعدائية. إن التعارض الشكلي لا يستطيع أن يظل ساكنا"(1)، حيث أن "الطريقة التي تنظم بها الزمان والمكان تُكوّن شكلا من التواصل يخضع له المرء كما لوكان جزءا لا يتجزأ من الأفراد"(2)، فتسوير الحدائق وإحاطتها بالجدران العالية يعني –بالنسبة للشاعر ذي الأصول الريفية – يعني انعدامها، أو هويؤكد لديه الشعور بالاستعباد، وهوالذي تعود على الأفق الطليق اللانهائي، والغيطان والحدائق الطبيعية المفتوحة، ففي المدينة التي ولج إليها الشعراء لسبب ما، وبوصف اختلاف نمطية استعمال المكان فيها عن الريف "أدت نماذج مختلفة تماما من استعمال المكان إلى توتر في العلاقات غير منتظر، ومما لاشك فيه أنّ هذه الإختلافات في السلوك المكاني . . . كانت تؤدي إلى عدم تفهم كبير وتجعل الصدمة الثقافية أكثر عنفا، لدرجة أنها كانت في أغلب الأحيان سببا لبعض الأمراض"(3) كالقلق والإكتئاب والخوف المحِبط ؛ تقول ربيعة جلطي مُسْقِطَةً غربتها النفسية على أمها :
وأمي تندب غربتها
وأطفالها الموزعين
يا فاتنات السطوح والشرفات(4)
ففي المكان تيه وضياع يحاصر الذات الشاعرة من كل جانب :
ضياع في الأفق
ضياع في المرايا
ظلال تتدحرج في الأزقة(5)
فهذه (الأزقة) التي ترمز إلى المكان الضيق، تُشعِر الذات بالاختناق والضيق، وبالتالي الخوف، والخوف – كتجربة وانفعال – يعتبر من أهم دوافع الإبداع ومحفزاته.
3- المكان وفاعلية الإبداع :
__________
(1) - م . ن، ص.ن.
(2) - أدوار دهال : "البروكسيمياء" أو علم المكان، تر/بسام بركة، العرب والفكر العالمي، ع2، ربيع 1988، مركز الإنماء القومي، بيروت، ص 68.
(3) - م . ن، ص . ن.
(4) - ديوان (شجر الكلام )، ص 95.
(5) - م . ن، ص 87 .(1/301)
ا – المكان كفضاء وحيز معرفي :
إذا كان الفن هو تلك الرحلة الأثيرية للإنسان، وانتقاله من الواقع الموضوعي المحدود إلى عالم المطلق، وإدراكه لكينونة الوجود، عن طريق تخليقه لهذا الوجود –نفسه وراءه وبالتالي تراجع محدودية الموضوعي إزاء هذا كله، إذا كان الأمر كذلك، فإن المكان يبقى دوما هو أصالة الفن وعنوان انتمائه، ولكنه –هنا– ينتقل من صورة حقيقة موضوعية إلى صورة غيرية – ذاتية، وذاكرة فنية، لكونه يُدرك إدراكا ذاتيا، ويُعامل حدسيا وعندها يدخل مجال الوهم والخيال والحلم، ليكون كملجأ أو كحل "للمبدع حين يريد الهروب، أو حين يعمد إلى عالم غريب عن واقعه، ليُسقط عليه رؤاه التي يخشى معالجتها، وهنا يتحول المكان إلى رمز وقناع يخفي المباشرة، ويسمح لفكر المبدع أن يتسرب من خلاله"(1)، كما أنه قد يكون "تقنية يتجاوز بها المبدع واقعه، فيصعد إلى السماء والفضاء، وقد ينزل على أعماق الأرض والبحار، ليثبت الرمز نفسه، ويهرب، بل ينسرب من خلاله أو ينقده"(2). يعالج الشاعر الجزائري أحمد حمدي واقعيا سياسيا متعفنا، مستترا وراء قناع المكان،
فيقول: (3)
ما زالت أجوب الشوارع
ضيق شارع الاستقلال
فسيحة ساحة الشهداء
__________
(1) - مدحت الجيار : جماليات المكان في مسرح عبد الصبور، مجلة (ألف)، ع6، ص 28 .
(2) - م . ن، ص. ن.
(3) - أحمد حمدي قائمة المغضوب عليهم، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980، ص 21.(1/302)
فالشاعر هنا لا يهدف إلى تصوير فيزيقي لمكان واقعي، ولكنه يقصد إلى تجسيد خيبة أمل ما بعد الاستقلال، والأماني المحطمة فيه. ولكنه لم يلجأ إلى التعبير عن ذلك بطريقة مباشرة، بل اتخذ المكان كوسيلة للتعبير عن هذا الإحساس، فهوإذ يتراءى له شارع (الشهداء) الذين ضحوا من أجل هذا الوطن كثيرون، كما أن أمانيهم في عالم ما بعد الاستقلال كانت كبيرة، ولكن كان شارع (الاستقلال) ضيقا، ذلك لأنه لم يسع هذه الأحلام، ولم يتحقق فيه ما كان يصبوإليه هؤلاء الشهداء. فهوهنا يقابل بين وضعين سياسيين متناقضين وحالتين زمنيتين: الماضي الثوري بأحلامه وطموحاته وتضحياته، والحاضر الاستقلالي بخيباته وانحرافاته، ولكن ليس بصيغة مباشرة –كما ألمعنا– بل بالبعدين المكانين (ضيّق/فسيح)، وبهذا كان المكان كقناع أو رمز استطاع الشاعر من خلاله تغليف رؤيته، والسموبها، ومُدارة موقفه الرافض لهذا الوضع.
ب- المكان كمنبع للإبداع:
يعتبر السياب من الشعراء المجيدين في هذا المجال فهوحينما يلجأ إلى استيحاء المكان القديم (عامورة) بكل محتوياته المرفوضة، ليقابل بينه وبين المكان الحاضر (بغداد) ويُسقطه عليه، فإنما يريد أيضا تجسيد واقع حاضِري مرفوض سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا:
أهذه بغداد ؟
أم أن عامورة
عادت فكان المعاد موتا(1)
ويقول أيضا:
ما زال طائر الحديد يذرع السماء،
وفي قرارة المحيط يعقد القرى
أهداب طفلك اليتيم–حيث لا غناء
إلاّ صراخ "البابيون" : " زادك القرى،
فازحف على الأربع ... فالحضيض والعلاء
سيان، والحياة كالفناء(2)!"
__________
(1) - الديوان 1/452.
(2) - م . س، ص 358.(1/303)
فالأُطر المكانية التي يزدحم بها هذا المقطع، والمتنوعة ما بين العلوي/السفلي: (السماء وقرارة المحيط) و(الحضيض والعلاء)، والسماوي/ والمائي/ والترابي: (السماء، المحيط، الثرى)، والمفتوح المضيء/المغلق المظلم: (السماء، قرارة المحيط)، فهذه الأبعاد المكانية كفلت للشاعر –دون السقوط في المباشرة– التعبير عن رؤية مأساوية للحياة، وأبانت عن واقع مرعب يحاصر فيه الموت الإنسان من كل جانب، وفي أي مكان يحل به، فما دام قد أصبح (الحضيض) و(العلاء) سيان، و(الماء) و(الثرى) سواء، فلابد أن تكون الحياة كالفناء. فالمكان يمثل هنا عنصرا ضاغطا على الذات لإخراج ما في داخلها، وإسقاطه على المكان، كما أنه يحرك في الشاعر كوامن هذه الذات ويبِين عن ما يراودها اتجاهه من مخاوف ليست إنسانية فقط، بل إنسانية – كونية، كامنة في اللاوعي البشري وتوهماته.
جـ- الخوف في المكان:
والشاعر المعاصر – وبخاصة الوافد من الريف مؤخرا – يعاين المكان بشعور خوفي حاد، وربما ليس لهذا الخوف من مبررات واقعية إطلاقا، وإنما قد يكون نتاج أو حصيلة جملة من التصورات والتخيلات، والتوهمات والمعتقدات الساذجة في ذات الريفي عن عجائبية المدينة وغرابتها وطرافتها، أتى محمَّلا بها من ريفه البسيط. ونعتقد أنها شعور إنساني طبيعي إزاء كل ما هو جديد وغير مألوف، هذا ما يجسده لنا الشاعر صلاح عبد الصبور في
قوله: (1)
قلبي المليء بالهموم المشبعة
وروحي الخائفة المضطربة
ووحشة المدينة المكتئبة
ويقول في موضع أخر: (2)
أحس أني خائف
وأن شيئا في ضلوعي يرتجف
وأنني أصابني العي، فلا أبين
وأنني أو شك أن أبكي
وأنني
... ... سقطت
... ... في
... ... كمين
وتقول الشاعرة ربيعة جلطي: (3)
ما الذي يحدث في هذه المدينة الراضية
أتحسس رأسي،
لا أحد يملك فروة رأسه
الشارع القانع مزعج
__________
(1) - صلاح عبد الصبور: الأعمال الكاملة 3/502.
(2) - شجر الليل، ص 8.
(3) - شجر الكلام، ص 70.(1/304)
ففكرة الخوف هذه، تشكلت بالهواجس والوساوس في الأماكن اللامألوفة أو نتيجة لتلك التصورات المبهمة التي يحملها الريفي عن المدينة – كما سبق القول -، وهي فكرة أملتها الذات الساذجة وأطرتها بالاختلال النفسي، حتى لأن أمكنة المدينة ومعالمها كالشوارع، والجدران العالية، والأضواء الخاطفة للبصر، أضحت أشباحا مخيفة، ومصدر إزعاج وقلق للذات، بل والشعور بالعدمية، وهذا كله ناتج عن نزعة الخوف اللاشعورية السالفة الذكر؛ فالخائف يرى أشباحا قائمة كما يراها في حال السلامة بالحقيقة، أو يسمع أصواتا كذلك، فإذا تدارك التميز والتعقل شيئا من ذلك جذب المتخيلة بالتنبيه واضمحلت تلك الصور والخيالات، ولكن ذلك الانتباه لا يحدث لأن الذات، الشاعرة هنا واقعة تحت صدمة واقع انفعالي مدهش وغريب، ومخدّر ومخيف، ولذلك فحس الضياع والخوف يبقى ملازما لها، ما دامت ملازمة لهذا المكان الذي تجهل معالمه، وما دامت غير مُدرِكة له كما هو في الواقع، يضاف إليها تلك اللامبالاة التي يقابَل بها الوافد من قبل أهل المدينة. هذا ما يجسده عبد المعطي حجازي في قوله:(1)
يا عم
من أين الطريق؟
أين الطريق "السيدة"؟
أَيْمَنْ قليلا ثم أيسر يا بني
قال: ولم ينظر إلي
ويتابع أيضا بعد وصفه لإيقاع الحياة المتسارع في هذا المكان، مجسدا رعبه فيقول (2)
... لكنني أخشى الترام
كل غريب ها هنا يخشى الترام
وأقبلت السيارة مجنحة
كأنها صدر القدر
تقل ناس يضحكون في صفاء ...
__________
(1) - أحمد عبد المعطي حجازي: الديوان، ص 113.
(2) - م . س، ص 116.(1/305)
فكل محتويات هذا المكان الجديد، بل وضرورياته، ترعب الشاعر، وتضاعف من هو اجس الخوف لديه. ومهما يقال أن خوف الشاعر لا مبرر له، إلا أن عملية الاستبطان وقرون الاستشعار التي زُوِد بها الشاعر تجعلنا نتعاطف معه ونقدر خوفه؛ ذلك لأن معاينة الشاعر للمكان، هي معاينة حدسية، فوق شعورية، تتجاوز الإدراك الخارجي لتتلون بحقيقة الذات. إنها معاناة سيزيفية لا متناهية، وعلى هذا فالمكان بنظر الشاعر حدس للمطلق اللامتناهي، لأن الشاعر –كما الإنسان العادي- يتعامل مع الأشياء التي تلح عليه، لكنه يتجاوزها إلى التفكير والتأمل، راغبا من خلال ذلك في البقاء المعنوي لا المادي أو الجسدي، وبهذا يكون تصوره تصورا علويا (عموديا) لا سطحيا (أفقيا).
والمكان – بنظر الشاعر- ليس مجرد أبعاد وإمتدادات هندسية (في الطول والعرض والارتفاع...) أو طبيعة ايكولوجية، يستطيع الإنسان أن يألفها أو يأمن إليها بسهولة، عن طريق العادة والتكرار الرتيب، بل هو قبل كل شيء تلك المساحة التي يؤطرها الإحساس والشعور الإنساني؛ باعتباره لون حقيقة الذات ومنبعها في تكوين الفرد ذاتيا واجتماعيا. فالذات تعترف بالمكان، ولكنه اعتراف خصوصي لا منطقي، نابع من الذات أساسا، وملون برؤيتها، ذلك لأن الفن بعامة والشعر بخاصة لا يعترف بالمنطق أو العقلانية الموضوعية، لأنه -أي الشعر- قبل أي شيء هو ظاهراتية الروح، وما المنطق إلا من اختصاص الفلسفة والعلوم.
فالمكان في الشعر إن هو إلا المكان كموضوع، تضاف إليه الذات بكل محتوياتها، وبذا نستطيع الجزم، انه لا وجود –في الشعر- للمكان الموضوعي، لأنه، إن هو إلاّ مكان منظور إليه بعين الذات، مُدرك إدراكا كليا ومعقدا في الآن نفسه، موَحدا بها أو منفصلا عنها، وبالتالي أليفا لديها أو معادٍ لها.(1/306)
وربما من أجل ذلك لم يكن هناك من تميّزٍ واضح لدى الذات الشاعرة بين أشكال الأمكنة واتجاهاتها وأحجامها وطبائعها، إلا بقدر ما تحسه وتشعر به فيها، وبقدر ما يجلب انتباهها فيه، فالعالي أو المنخفض، والمنفتح أو المغلق، والدائري أو المسّطح، وغيرها، ليس لها من دلالة ثابتة عند عموم الشعراء –موضوع البحث- إلا بقدر ما تضفيه خصوصية الذات عليها من مشاعر وأحاسيس، مريحة أو متوترة... ومن هنا ينتفي المكان الموضوعي ولا يبقى إلا المكان النفسي، وهنا مكمن الصعوبة في دراسة المكان لدى شعرائنا المعاصرين دفعة واحدة وتحت دلالات محددة –وبخاصة بالنسبة لدراسة تطمح لأن تشمل أطول فترة ممكنة لظاهرة شعرنا المعاصر، وجل أقطاره العربية- فاستقصاء النصوص ذات الطابع المكاني، توحي بوجود تمايز كبير بين شاعر وآخر، وتجعلنا ندرك أننا بازاء "تجليات شتى لظاهرة واحدة هي روح العصر المبنية على شروط البيئة الجغرافية والطبيعية"(1) التي تحتويهم، ولكن لا مندوحة لنا –ونزولا عند ما تقتضيه صرامة المنهج- أن نحاول قدر الإمكان جمع رؤاهم وصوّرهم المكانية، واحساساتهم فيها، وحصرها تحت دلالات محددة، محاولين الإشارة إلى كلّ فرق أو تميّز يتبدى لنا –على الرغم من خصوصية رؤية كل منهم – على اعتبار أن بنية واحد وعصرا واحدا، يُفرز مضامين ورؤى، إذا استحال تشابهها، فهي على الأقل متقاربة، وما هذا الفرق –في اعتقادنا- سوى نتيجة التفاوت في ملكة الإبداع، وقابلية الشاعر إزاء عناصر المكان، وامتصاص مضامينه والقدرة على تشكيلها المتفرد، لأن المكان هو أساس الإبداع والدينامية الفاعلة في عملية التصوّر.
__________
(1) - يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي، ص 67.(1/307)
وهوفي كل الأحوال خاضع -دوما- لرؤية الذات وتشكيلاتها، مستسلم لتوهماتها وخيالاتها- وإن كان هذا مخالفا للواقع تماما. فللشاعر "كل الحق في تشكيل الطبيعة، والتلاعب بمفرداتها الناجزة...كيفما شاء ووفقا لتصوراته الخاصة"(1)، وعليه فالمكان هو الفضاء الأمثل الذي تنهل منه عملية الإبداع لدى الشاعر تصوّراتها وشعورها، وذلك عبر عملية التجادل بينه وبين الذات.
فالمكان هو عنصر ضاغط على الذات –كما سبق القول- مُصيغٌ لها، وهذه الخبرة تتشرب كل ما يعطيه هذا المحيط لتعيد صياغته، وتشكيله من جديد وفقا لمنطلقاتها، في شكل حالات ذهنية وأبعاد تصورية نفسية، عبر الصورة واللغة الشعريتين، ضمن مبدأ الانحرافL'ecart، الذي هو ميزة لغة الشعر مقارنة بلغة الكلام العادي، أو لغة التواصل اليومي؛ كونها لغة معيارية اصطلاحية محدّدة معانيها سلفا. ولذا فهي أدنى مرتبة-فنيا- من اللغة الشعرية وطاقاتها الخلاقة.
4- المكان في اللغة الشعرية:
إنّ اللغة تُكسِب المكان خصائص فيزيقية ومجردة في آن معا، وهذا من زاوية النظر إليه على أنه عنصر شكلي وتشكيلي في العمل الفني، ويتبدى هذا بصفة خاصة على المستوى النحوي من خلال استعمال أظرفة وأسماء المكان، التي تتحدد عبرها تجربة الشاعر الكلية مع المكان ورؤياه فيه.
__________
(1) - عز الدين إسماعيل : الصور الشعرية، مجلة (المجلة)، ع34، 1969.(1/308)
فالمكان لا يتشكل حضوره في النص الأدبي إلا من خلال عناصر اللغة التي تشكّل "مجتمعة بناء لغويا يكون بديلا"(1) فنيا عن المكان الموضوعي، وتجلِّ حسي وذهني له، بسبب تلك الخاصية المزدوجة التي تمتلكها اللغة ذات الطابع الجمالي، إذ أنّ لها –أي اللغة-"بعد فيزيقي يربط بين الألفاظ وأصولها الحسيّة، كما أن لكل لغة نظاما من العلاقات التي تعتمد على التجريد الذهني"(2)، الأمر الذي يجعل من المكان كتصوير لغوي حسّي، يسموإلى تكوين عالم من العلاقات الدلالية المتلاحمة، التي تتجاوز سطح الوجود وقشرة الواقع الخارجية، فاتحة بذلك مجالات أكثر رحابة من خلال عملية استقطاب طبقات هذا المجالات وصورها الدلالية، على نحويمكننا من خلاله إدخال هذا النوع من التصوير الحسّي للمكان، ضمن الرأي القائل بأن "المجال هو الذي يمارس الكلام والحضور، وأن حضوره هذا مُتَضَمَن، ومتضمن في قاعدة الرسالة أقوى مما هو في فحواها"(3) نظرا لأهميته الخاصة، ومن ثمة "تعد نظرية "المجالات الدلالية"Semantique Fileds من أهم نظريات البحث اللغوي المعاصر، وتعتمد في دراسة المعنى على المنهج التحليلي، الذي يهدف إلى تحليل ملامح البنية الدلالية للمفردات داخل النص بطريقة موضوعية دقيقة"(4).
__________
(1) - اعتدال عثمان : جماليات المكان، الأندلس في الشعر العربي الحديث الشعر ومتغيرات المرحلة، (3)، دار الشؤون الثقافية العامة؟، بغداد 1986،ص 51
(2) - نفس المصدر
(3) - (المجال واللغة ) : G Gennette .Figuers I.P 120 Espace et Language
(4) - طه وادي: تحولات الأزمنة وتعارضات الحداثة في شعر الخليج المعاصر، عالم الفكر، المجلد 18، العدد 3، أكتوبر، نوفمبر ديسمبر 1987، ص 150.(1/309)
وهذا المجال الدلالي -الذي هو طبيعة استثنائية في تحليل بنية المفردات- يعرّف"بأنه مجموعة من الكلمات ترتبط دلالتها، وتوضع تحت مسمى عام يجمع كل ما يتصل بالمجال، ويعرِّف"أولمان" المجال بأنه قطاع متكامل من المادة الّلغوية يعبر عن مجال معين من الخبرة. أما"لويّنر"فيرى أنه مجموعة جزئية لمفردات اللغة، أمّا "نيدا"فيعرِّف المجال بأنه مجموعة من المعاني المشتركة في مكونات دلالية معينة"(1) تتضح عبر استجلاء مضامين ودلالات اللغة الشعرية، التي بواسطتها "تتدفق موجات الجِدّة فوق سطح الوجود"(2). واللغة نفسها تحمل في طياتها جدل الداخل والخارج (الذات والموضوع). و"جدل المفتوح والمغلق. فمن خلال المعنى تنغلق، في حين أنها من خلال التعبير الشعري تنفتح"(3) لتبلغ أمداء أو سع من المكان الموضوعي. هذا ما نراه في قول أدونيس من خلال إشراقة صوفية، بحيث يغدوللنملة –هذا الكائن المتناهي في الصغر- ثديا بحجم السماء، يفرز حليبا مدرارا، كأنه المطر، ليغسل به عفن الأفكار، وربما ملامح الموت، يقول:
ثدي النملة يفرز حليبه ويغسل الاسكندر
الفرس جهات أربع ورغيف واحد(4)
ويقول أيضا في موضع آخر، حيث يتمرأى له العالم في شكل مزدوج:
وحين لا تواتيك الدنيا؟
ألهوبعينيّ ليزدوج فيهما العالم
أرى السماء اثنتين
الأرض اثنتين(5)
__________
(1) -م.ن، ص.ن.
(2) - غاستون باشلار : جماليات المكان – تر/ غالب هلسة، ص 199.
(3) - م.ن، ص.ن.
(4) - الآثار الكاملة 2/ص 177.
(5) - م. ن- 2/211، 212.(1/310)
إن الفن ليس آلة تستنسخ الواقع كما هو ، بل كثيرا ما تُسقط عليه الذات رؤاها الأصيلة، وقيمها الحضارية، لأن "المكان الذي يعيش فيه البشر مكان ثقافي، أي أن الإنسان يُحوِل معطيات الواقع المحسوس وينظمها، لا من خلال توظيفها المادي لسدّ حاجاته المعيشية فقط، بل من خلال إعطائها دلالة وقيمة"(1)، لكن عناصر هذا الواقع المحسوس لا تمتلك خصوصيتها المادية ودلالتها الحسية وكذا قيمتها إلا "من خلال إدخالها في نظام اللغة، فاللغة، هي المقابل اللامحسوس لعالم المحسوسات، فاللغة مخزون-كنز- مجرد من العلاقات ينوب عن عالم الواقع ويحل محله"(2)، وينبغي الإشارة إلى "أن هذه العملية ليست عملية سلبية، أو بريئة، ولكنها مشبعة بالقيمة، فالأشياء تُسمَّى ولكن –في الوقت ذاته- تكون هذه التسمية حاملة لدلالة إيجابية أو سلبية من خلال نسجها في منظومات الثقافة، وإذ يدخل المكان في هذه المنظومات يكتسب كل مصطلح من مصطلحات الاحداثيات المكانية دلالة خاصة طبقا للخطاب الذي يدخل فيه"(3) وطبقا للنزوع الفني لدى كل شاعر وتبعا لطبيعة تجربته، لأن اللغة في هذا المجال –الفني- تعد طينة طيعة في يد الصانع الماهر (الفنان)، يشكلها كيفما شاء، ويمنحها الدلالات التي أراد،ويصبّها في الأنساق التي توافق مزاجه، أو بالأحرى لا وعيه، ولذا فهي تعد بحق –أي اللغة - كما يراها يوري لوتمان الأداة الأساسية الأولية للنظام النمذجة الأولى لتحويل العالم إلى أنساق ودلالات شتى، تختلف بحسب استعمالات المبدعين المختلفة.
__________
(1) - يوري لوتمان، مشكلة المكان الفني:، تر/ سيزا قاسم، مجلة ألف (م.س). ص 48.
(2) - م.س، ص 48.
(3) - م.ن، ص. ن.(1/311)
وعليه فمصطلح، أو ظرف (بَيْنَ)، يكتسب دلالات ومفاهيم عدة، تتعدد بتعدد استعمال كل شاعر له، فإن كان عند السياب يُفجّر الينابيع الشعرية ذات الدلالة المأساوية ويؤكد الارتباط العضوي بين الذات والمكان(ممثلا في المدينة) من جهة ثم بين حَيِزين زمنيين هما (الصبح والدجى) من جهة أخرى في قوله من قصيدة (المسيح بعد الصلب)(1):
... وأنصّت : كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينة
مثل حبل يشد السفينة
وهي تهوي إلى القاع، كان النواح
مثل خيط من النور بين الصباح
والدجى، في سماء الشتاء الحزينة.
فإن كان هذا اللفظ/الظرف يؤكد الانفصال والانفصال نفسه، عند السياب، فإنه عند عبد الصبور يؤكد تارة الاتصال بين أشياء مجرد ممّثلة في العواطف الانسانية (الحب، الاشفاق، الضغينة)، ثم يؤكد مرة الرغبة في الفصل بين حيزين مكانيين لا يمكن أن يصحّ الفصل بينهما أصلا، هما (اللحم والجلد)، بغية الاحتماء بينهما ،يقول:(2)
لكنني أحببتها : أحببت هذه المدينه
(ما أضيق الفراغ بين الحب والإشفاق والضغينة)
أحببت أن أعيش بين لحمها وجلدها
لكي أحس نبضها العليل في عروقها الدفينه
أحببت أسوح جنب نهرها
إذ تلتوي بَشْرتُه الكابية الحزينه
أما عند أدونيس فإنه يوظَّف على أساس الوصل بين حيز مكاني ممثلا في (الأطفال) وحالة ممثلة في الفجيعة،
فيقول:
وعرفنا من العشب أن الطبيعهْ
ستقيم السلام
بين أطفالنا والفجيعهْ(3)
__________
(1) - بدر شاكر سياب: الديوان، 1/ 457.
(2) -صلاح عبد الصبور: ديوان الابحار في الذاكرة، ص 42
(3) -أدونيس : الأثار الكاملة، 2/91.(1/312)
ولكن المكان كتجسيد حسي وتصوير لغوي من خلال هذا الظرف (بين) لا يقف عند الجزيئات الحسية للمكان، أو يقتصر على مجرد الوصف الخارجي الذي لا يكاد يتجاوز مستوى منح الإحساس بالفجيعة المهيمنة على المشهد عند السياب، أو الرغبة في تلاحم الشعور بالاستبعاد عند عبد الصبور، أو استدرار الأمان عند أدونيس، بل إنه ليتجاوزه إلى إقامة صور حسية دلالية تغدوفيها مختلف العلائق اللغوية المتصلة بالظرف (بين)، وكأنها تمارس استحضارا لصور حية تتحرك باتجاه بعضها البعض، لتتضامن فيما بينها، متمخضة في الأخير عن جزئيات متجانسة، تحيل إلى كون متحرك، تنتظمه وحدات مختلفة الأحجام والأمداء والخصائص، فإذا هي عند السياب ممثلة في: السهل بانبساطيته وما يوحي به، والمدينة بعمرانها واكتظاظها وانهيارها – الذي يحتاج إلى مخلص هو الشاعر هنا – ثم السفينة وما توحي –(النجاة)- وما تشترطه –أعني البحر- ثم أيضا الشتاء الحزين ببكائيته، .. وإذ هي –أي هذه الجزئيات- عند عبد الصبور: مدينة/إمرأة، وما توحي به كل منهما، وهي عند أدونيس: طبيعة وأطفال، وفجيعة (كإحساس).(1/313)
فهذه الأحياز المكانية ليست تجريدات هندسية، بل إنها تحيل إلى أبعاد عاطفية تستشعرها الذات الشاعرة إزائها، وتنفتح على أماكن شعورية كامنة في أعماقنا أكثر مما هي متمظهرة في العالم الخارجي المحيط بنا، كما تحيل أيضا إلى أزمنة متعددة تقوم بها الأفعال في حركيتها ودلالاتها الزمنية. ولذلك فإن اللغة بقدر ما هي نسيج تصويري دلالي ساكن تارة، ومتحرك تارة أخرى، ذهني حينا، وحسي شعوري حينا آخر، فهي أيضا "كيان مستقل من العلاقات الباطنية التي يتوقف بعضها على البعض الآخر"(1)، وهي بهذا لا تعطي نفسها مباشرة أو تخبر ببُعد وقائعي محدد سلفا، أو تقرر حقيقة مباشرة، وإنما هي –بهذا الإنغراس الباطني- تصور رؤية فنية شاملة تجتمع فيها كل السياقات : الزمانية والمكانية والوظيفية أيضا.
هذا وللظرف (بَيْنَ) دلالات أخرى، تتعدد بتعدد استعمالاته، ويتحدد معناه ضمن السياق الذي يتضمنه؛ فهوقد يوحي بشيء من التباعد والمخالفة، أو بالقرب أو البعد، بالاتصال أو الانفصال، وغيرها من الدلالات. ولكنه يمتاز عموما بخاصية تكثيف الخطوط الأفقية للشعر –باعتباره نسيجا لغويا- ويوسع من المدى الأفقي الممتد أمام الشاعر، وهذا تركيز للرؤية وليس تعميقا لها. بعكس الظرف (في)، الذي يوحي مثلا، بالعمق وبالحلول في الشيء ...
ويصدق القول نفسه، من حيث تعدد الدلالات وتنوع الحالات داخل المتن الشعري، واختلافها بين الشعراء على كثير من الأظرفة والأسماء المكانية مثل: (فوق، تحت، على) وغيرها ...
__________
(1) - زكريا ابراهيم: مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية، ص 77.(1/314)
ولكن خصوصية التشكيل الجمالي للمكان في الشعر، لا تعتمد على اللغة وحدها فحسب، بل يُعمد في ذلك -أيضا- إلى الخيال المتشكل عبر الصورة. ولكن ينبغي التنبيه إلى أن قولنا هذا، لا يعني إنقاصا من قيمة (اللفظ)، فللألفاظ وظيفتها الفعالة داخل الصورة، فهي التي تتشكل من خلالها الصورة وتتحدد طبيعتها كتشبيه أو كاستعارة أو كرمز. هذا إضافة إلى أن اللغة كأداة عظيمة في عملية الوعي، هي "التي تجعلنا نرى على نحوواع، الشمس والبحر والنجوم والمطر، وهذه مواضيع لا تثير لدى الحيوانات سوى (استجابات) فحسب، فهذا هو الذي يجعلنا قادرين على تقييم الحقيقة والجمال، فالحقيقة هي علاقة ما بين إدراك الواقع والعلم الإدراكي المشترك والجمال علاقة ما بين درجة الشعور بالواقع والأنا المشتركة"(1)، والتي تعتبر الصورة أبرز تجل لها.
5- الصورة
وخصوصية التشكيل الجمالي للمكان:
أ- المكان في الصورة:
__________
(1) - كريستوكودويل: الوهم والحقيقة (دراسة في منابع الشعر والواقع) ص: 176، ت ر / توفيق الأسدي، دار الفرابي، ط1، 1982.(1/315)
تعد الصورة أبرز خصيصة في القصيدة المعاصرة، فهي فضّ للذات عبر الاصطدام بالعالم الخارجي الذي يتفتت وينشطر ويتفكك ليعاد تركيبه وصياغته من جديد، وفق ما تُمْلِيه الذات المتخيلة الحالمة من أنساق وأشكال وأبعاد، يمكن أن تكون في أكثر الأحوال غير واقعية، وإن كانت تستمد جزئياتها من الواقع، إلا أنها تتجاوزها وتعلوعليها، بفضل الطاقة الإحائية التي تتوفر عليها، والدفق الخيالي الذي هو "الفعل النفساني المكلف بصياغة الصور وتنسيقها في أنظومة أحادية البنية. فهوبذلك مسؤول عن الصياغة والتلاحم معا، إنه يصوغ ويملغم ما يصوغ في بنية واحدة"(1) متماسكة؛ هي الصورة في تشكيلاتها الكونية والنفسية معا؛ لأن الخيال -بحسب تعبير باشلار- لا يمكن اعتباره فقط قوة كونية بقدر ما هو قوة سيكولوجية(2) أيضا، تنفذ إلى أعماق الوجود الإنساني، لتقبض على مكمن الجوهر فيه، وتطبع به العمل الفني وتسمه بالرفعة، ذلك لأن الأدب الرفيع هو الذي يُعبَر عنه في الصورة لا في الزخرفة البيانية، يقول أدونيس في الصورة الشعرية تعمد إلى إذابة الفوارق بين الأحجام وطبائع التكوين في الأشياء، وتحويلها إلى كون منسجم:
سأشق عروقي
نهراً يحمل الفضاء
سأدور مع الكوكب المغرّب أجمرت الشروق
لابسا قامة الهواء(3)
فالصورة – هما كما نرى- تتضمن الخوارق والمتناقضات، التي تمكِّنها من القفز فوق حواجز الواقع، والتسامي عليه، ووسمة بالطرافة والغرابة المدهشة.
__________
(1) - يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي، ص 247.
(2) - غاستون باشلار: جماليات المكان – ت ر / غالب هلسة، المقدمة، ص 14.
(3) - الأثار الكاملة، 2/80.(1/316)
ولعله بسبب من هذا النزوع الموغل في الغرابة والطرافة المتسامية غير القابلة للاختزال، يصبح تفهم الصورة وتمثلها ليس بالأمر الهين، إذ أن عملية مستعصية ودقيقة كهذه تحتاج من الباحث والقارئ على السواء "أن يكون ظاهراتيا(1)فيتابع الشاعر إلى الحدود القصوى لصوره، دون أن يختزل تطرفها، لأن هذا التطرف هو الظاهرة المحددة للدافع الشعري"(2) والمنظمة له. هذا بالإضافة إلى أن الصورة كما يرى (جان برنيس)، هي "مادة هاربة لا تتخذ معناها إلا في المجال الحاضر للوجدان الذي تستحضر فيه. ولكنها لا تستقر ولا يكون القبض عليها ممكنا إلا في اللحظة التي أُطلق عليها اسم "فجر الصورة""(3) أي في لحظة بداية أو أواليات تكوّنها، وهي لحظة جد حاسمة. فالصورة لا تُفهم بيسر ما لم تُؤخذ في هذه اللحظة الفجرية بالذات، ذلك لأنها "تتعلق قبل كل شيء بشكل آخر من أشكال الحياة النفسية غير المعقول"(4) وغير الخاضع للتحليل المعقلن، بل الأصح من ذلك "يجب مبادرته بكثير من الجهل والبساطة. إنه يقع خارج الملاحظة الموضوعية والبناء العقلي لأنه متقدم عليهما وهويدمج الذهن وعمله في اندفاع واحد. والمخيلة تؤدي وظيفتها بواسطة النشاط النفسي بكليته،"إنها ليست حالة بل هي الوجود ذاته"(5)" .
__________
(1) * - الاتجاه الظاهراتي هو فكرة فلسفية أو جدها (هوسرل)، والفكرة المركزية فيه هي قصيده الوعي، وهذا الوعي هو دوما متجه إلى موضوع ما، وهذا الموضوع يتحدد من خلال وعينا به، ومعايشتنا له صميما لا كما هو موجود موضوعيا. وهذا يعني انه لا وجود لموضوع دون ذات، تعيه وتسقط عليه رؤاها، وتشكله حسب خيالاتها الموغلة في الغرابة.
(2) - غاستون باشلار: جماليات المكان، ص 198.
(3) -جان برنيس : المخيلة، تر/ د. خليل الجر، المنشورات العربية، ط1، 1984، ص 44.
(4) - م. ن، ص 45.
(5) - م. س، ص 46.(1/317)
ولعل هذا النموذج الأدونيسي يوضح ذلك أكثر، في غرابته وسموه على العقلي والموضوعي ومعانقته للوجودي والبَدْئي :
في الجرح أبراج وملائكة
نهر يغلق أبو ابه وأعشاب تمشي
رجل يتعرّى بفتت ريحانا يابسا ويهلل
ثم ينقط الماء فوق رأسه
ثم يسجد ويغيب
أحلم-
أغسل الأرض حتى تصير مرآة
أضرب الأرض حتى تصير مرآة
أضرب عليها سورا من القيم سياجا من النار
وأبني قبة من الدمع أجلبها بيدي(1)
فمن هذه الغرابة، ومن هذا الإيغال في الطرافة والغرابة التي لا تستلم لشرطية العالم الخارجي، يتأتى للصورة طابعها الشمولي والبدئي والجوهري الكينوني .
بناءا على هذا يستلزم أخذ الصورة كما هي في حالة ابتداعها من طرف الذات الشاعرة، والسير معها في دهاليز أعماق الروح- التي انبثقت منها- إلى أقصى حد ممكن، والاستسلام لمغناطيسيتها، أعني محاولة تمثّلها، والعمل على خلقها من جديد في طزاجتها المبتدَعَة عليها دون الالتفات على مدى مطابقتها للواقع القائم، أو الخضوع إلى إساره لأن "الصورة ناقل ذاتي للحالة –المفهوم التي تمثل في (باطنها) الاستنكاف عن الاندراج في الواقع القائم، أو انتقاض التوافق مع هذا الواقع"(2)، فهي قبل كل شيء تكوين شعري ظاهراتي يحدوه التسامي النازع إلى التخلص النهائي من أطر الواقع المحدودة "ومن الأثقال العضوية والنفسية التي يرغب الإنسان في التحرر منها، وبكلمة أخرى، إنه مطابق للتسامي المحض"(3)، الذي لا يعترف بالواقع إلا بقدر ما يأخذ منه، وهذا بدوره يعني الاندماج مع الداخل وتحفيزه على محاورة الخارج.
__________
(1) - الأثار الكاملة، 2/147.
(2) - يوسف اليوسف : مقالات في الشعر الجاهلي، ص 322.
(3) - غاستون: جماليات المكان، ص 203.(1/318)
ولذلك فلا تني الصورة تستعين بالخيال الجموح الذي يمكِّنها من هذا التسامي المحض، ويوفر لها سبلا للمحاورة أرقى، وعندها يسكن الإنسان (الداخل) في الصورة، كما تسكن الصورة في الخيال، وتصبح ذات طبيعة تضخيمية "تسعى لزعزعة العلاقة بين المحتوَى والذي يحتويه"(1)، وبذلك يغدوعند أدونيس (الجرح)، هذا الحيز المكاني الصغير هو (الحاوي)، بينما السماء ذلك الفضاء الفسيح هي (المَحْوِي):
... والسماء على الجرح ملصوقة والضفاف
تتهامس...(2)
وبدل أن تكون شظايا الزجاج المكسّر هي التي تنغرز في يد أو رجل الإنسان مثلا، يصبح الإنسان هو الذي يدخل في هذه الشظايا- حينما تصير مدينة محطّمة- وهكذا يصبح الحاوي محويا والعكس :
من مبنى بلا معنى إلى معنى بلا مبنى وجدنا الحرب
هل بيروت مرآة لنكسرها وندخل في الشظايا
أم مرايا نحن يكسرنا الهواء(3)
هذا وبينما يكون المجيء عادة إلى مكان ما، وطبقا للمنطق والعقلانية، في وسائل نقل معروفة، قد تكون حيوانا أو سيارة أو طائرة أو غيرها، فإن المجيء هنا، وطبقا لرؤية استبطانية، وجموح خيالي، ينحومنحى الغرابة التي تندمج فيها الذات بالطبيعة كلية، فإن المجيء-كحركة في المكان- يكون في سعف النخل ورئة العصفور، يقول أدونيس(4):
جئت إلى بغداد:
في سعف النخل وماء النهر
في رئة العصفور
__________
(1) - م. ن، ص 201.
(2) - أدونيس : الآثار الكاملة 2/28.
(3) -محمود درويش : حصار لمدائن البحر، ص 100.
(4) - الآثار الكاملة 2/86.(1/319)
فهذه الصور يغلب عليها طابع الحلم، الأقرب إلى الفوضى التصويرية، منها إلى الإيحائية الشعرية، التي يجب أن تلتزم حدا أدنى من الموضوعية حفاظا على ذلك الجسر الدلالي الذي ينبغي أن يبقى ما بين الشاعر والقارئ. ولكن لا غرابة في ذلك، فهذه الصوّر من حيث هي زعزعة للمنطق الخارجي وإيغال في الغرابة، وتبديل لخصائص الأشياء ووظائفها-كما رأينا في الحاوي والمحوي- فإنها رؤية الذات المبدِعة للأشياء، وسعيها الدائب-في الآن نفسه- إلى خلق حالة من التواؤم والتوافق بينها وبين الموضوع المبدَع، وجعله طبيعيا، ولومن وجهة نظرها، فقط أو على الأقل مألوفا. وبعبارة أخرى أقلّ عدائية إزاءها، بغضِّ النظر عن عدم موافقتها للحقيقة الموضوعية.(1/320)
وبناء على هذا يمكن أن تُفهم الصورة على أنها"انسحاب عن الحقيقة من اجل التفاعل الأفضل معها. ولذلك فإن كل صورة ناجحة هي علاقة لقاء ناجح مع الحقيقة"(1)، التي تتجلى وتتضح أكثر من خلال عملية التجادل بين الذات والموضوع، الأمر الذي يفرض تحديد وعي الشاعر وفق ما يحيط به من أمكنة متعددة الوظائف والأحجام، من خلال عملية المعاينة الذاتية أو التجربة الجماعية، وبالتالي الشعورية، مما يتشكّل معه ذلك المكان بمختلف التشكيلات، وتتنوّع -معه- الأحاسيس فيه؛ ذلك لأن "العملية الإبداعية الشعرية المستميزة بالطاقة الروحية الفياضة، هي التي تعمل على ملء الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم، وينفذ فيه أبعاده"(2)، وهي التي تشيع فيه الحركة بعد الجمود والسكون، وتشبعه بالأحاسيس الإنسانية الحارّة، لتخلِّصه من رقبة التموضع العقلي الموضوعي، وتحيله من مجرّد مقولة هندسية مجرّدة، إلى مقولة نفسية وذهنية، بل – والأكثر من ذلك- إنه لَيعامَل على أنه كائن إنساني حي يشعر ويحس ويتفاعل ويصارع مع المواقف الحادثة. ولذلك نرى المدينة نفسها أيضا تعاني وليس الإنسان وحده فقط، يقول البياتي:
مدينتي الحزينة الصمّاء
تخاف من حاكمها الشرّير
الميّت الضمير...(3)
__________
(1) - سي دي لويس: الصورة الشعرية، ص 114، تر/ أحمد نصيف الجنابي ومالك ميري وسلمان حسن ابراهيم، الجمهورية العراقية، وزارة الثقافة والاعلام، دار الرشيد للنشر، 1982.
(2) - د/ جميل صليبا: المعجم الفلسفي، 2/412.
(3) -الأعمال الكاملة، 1/297.(1/321)
فالمكان أيضا يعاني مثله مثل الإنسان تماما، يحزن، ويخاف ويضجر، إلى غير ما هنالك من الاحساسات الاسقاطات التي يريدها له التشكيل الشعري، ذلك لأن "المكان حي بالنسبة لمن يستعمله،وليس من قبيل التمثيل (المدرك ذهنيا). وفيما يتعلق بالمكان المجرد للمعماريين والمخططين وخبراء التعمير،فإن مكان الأداء الذي يحقق الحياة اليومية لمن يستعمله، هو مكان حسّي متعين، مما يعني القول إنه مكان ذاتي، ومكان الذوات. وليس مكان الحسابات، مكان التمثيل، له أصله: في الطفولة بتجاربها، مكتسباتها وخساراتها، وعلاقة المكان الحي هي الصراع بين النضج المحتوم الطويل الصعب، وعدم النضج الذي يترك المصادر الأولية ويُبقي على البكارة"(1). إذن وبعد هذا التوضيح –الوجيز نسبيا- للصورة والتعريف بحقيقتها حري بنا الآن أن نطرح التساؤل التالي:
كيف كان موقف الذات الشاعرة إزاء المكان المديني، وكيف كانت اسقاطاتها عليه، وتشكيلاتها وتلويناتها له، وممارساتها فيه؟ وبخاصة إذا عرفنا أنه مكان معاد في معظم تجلّياته؟
من الواضح -ومن خلال ما سبق- تبين لنا أن الذات الشاعرة ذات الأصول الريفية، وجدت حين وفدت إلى المدينة صعوبة كبيرة في التكيف مع طبيعة مكانها المعقدة، ووتيرة الحياة المتسارعة فيها، ولقد حاولت هذه الذات جاهدة التكيف والتلاؤم معها، لكن دون جدوى، إذ أن الشعور بالاستبعاد والاغتراب، والمعاناة القلقة كانت سيدة الموقف. فأول شيء يفتقده الإنسان في هذا المكان، هو حرارة العواطف الإنسانية وانعدام الأصدقاء، وأول شيء يقابله فيه هو ضخامة الجدران وعملاقيتها؛ الأمر الذي يؤكد لديه الشعور بالاستبعاد والغربة أكثر، يقول أحمد عبد المعطي حجازي بعد توديعه لقريته الحالمة وولوجه عالم المدينة:
غريب في بلاد تأكل الغرباء
وذات مساء،
وعمر وداعنا عامان،
__________
(1) - اديث كيرزويل: عصر البنيوية من ليفى شترواس إلى فوكو، ص 89، تر/ جابر عصفور.(1/322)
طرقت نوادي الأصحاب، لم أعثر على صاحب !
وعدت ... تدعني الأبواب، والبواب، والحاجب!
يدحرجني امتداد طريقي
طريق مقفر شاحب،
لآخر مقفر شاحب،
تقوم على يديه قصور
وكان الحائط العملاق يسحقني،
ويختفي
وفي عيني... سؤال طاف يستجدي
خيال صديق،
تراب صديق
ويصرخ ... إنّني وحدي
ويا مصباح! مثلك ساهر وحدي(1)
__________
(1) - الديوان، ص 100-111.(1/323)
يجسد الخطاب الشعري، حسّ الضياع المسيطر على الذات في هذا المكان التراجيدي الغريب، الذي ولجته بعد توديعها لمكانها الأليف. فهوبجومن الرعب والخطر الذي يتهددها بسبب ذلك الانشراح الماثل ما بين الداخل والخارج، وهومتأتّ من كون الذات جاهلة لمعالم هذا المكان، لمناظره الواسعة العملاقة التي تكاد تسحق الشاعر. فلعبة التكامل هنا غير متعادلة ما بين إدراك الجسد وإدراك العالم الخارجي؛ فبينما يزداد العالم الخارجي ضخامة، يزداد الجسد إزاءها تضاؤلا؛ فالصورة في الأول متنامية، بينما هي في الأخير متناقصة. ومن هذا اللا تماثل ما بين الذات والعالم، يتأكد الشعور بالاستبعاد، ويزداد النفور بين العالمين، العالم الداخلي والعالم الخارجي. وتصبح العلاقة بين الداخل والخارج، الحاوي والمحوى-(المدينة والشاعر)- مستحيلة. فالباب الذي يمثل جدل الداخل/الخارج ويرمز إلى الانفتاح على العالم الخارجي وأيضا الانفتاح على العالم الداخلي الحميمي، لا يصبح هنا إلا رمزا للاضطهاد والاستبعاد (تدعني الأبواب)، بينما يغدوالطريق رمز المنفتح، مجالا مفتوحا لضياع الشاعر وانسداد الأفق أمامه، فيظّل حبيس أمكنة مسطحة بلا عمق، هو لا يستطيع تركها إلا إلى أمكنة أخرى تشابهها كلية (طريق مقفر شاحب لآخر مقفر شاحب). فالأماكن التي تتحرك فيها الذات الشاعرة تتكرر لكنها لا تتنوع وتختلف ولذلك فانطلاقة الذات هنا لا تنطوي على نقطة بداية ولا نقطة نهاية أو وصول، وإنما تظل تدور في حلقة مفرغة لا يسلم فيها الضياع إلا إلى ضياع آخر، فكل شيء ساكن، منغلق على نفسه، يمارس استبعاد ويوحي بالرعب. وتمّحي الانطباعات السمعية لكون الصراخ والاستجلاء لا يأتي بنتيجة، بينما تسيطر الانطباعات البصرية سيطرة تامة على المشهد ممثَلة في تلك المناظر الراعبة، ويغدوأيضا القصر- رمز الرفاه المادي والسموالاجتماعي والمنعة والحصانة- مصدر قلق للشاعر وتأكيد لحقارته وضآلته.(1/324)
ونجد الشعور نفسه عند صلاح عبد الصبور، في أو ل لقاء له مع المدينة، فيقول:
وصلتها في وسط الصيف، بيوتها التلال
موصدةٌ، لتتقي الأغراب والسخونهْ
وصوتها تحت سياط الشمس والرمال
يئن
... ... يئن
... ... ... يئن
نخطئه مسامع الأرصاد والرجال
... ... تسمعه كلابها الضالة، محتضروها
بعض المجانين بها
والشاعر الذي رمت به سفينة الحديد والصدأ
على تخوم رملها في ساعة الزوال(1)
فكل معالم المدينة تؤكد للشاعر شعوره بالغربة والاستبعاد، وتمنعه من الانخراط فيها. ويصبح الشاعر والمهمشين في المدينة سواء، وليس عبثا أن يحشر نفسه في زمرة المحتضرين والمجانين والكلاب الضالة.
وهذه المرحلة، أي مرحلة الدخول إلى المدينة، تمثل طقس العبور عند الشاعر، وهوطقس يمثل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، وهوأيضا طقس يمثل مرحلة اللا عودة، أو استحالة العودة إلى المرحلة الأولى: مكانيا وزمانيا. مما يفرض عليه التسلح بوعي ذاتي لمواجهة المرحلة الثانية. ولكن تظل طقوس العبور الأولى أكثر سيطرة على حس الشاعر وذهنه، نظرا لمثاليتها بالنسبة له، مما يحرمه من سحر المكان الجديد ويُعمي عينه عن رؤية الأشياء الجميلة فيه. وبذلك يظل الشاعر حبيس ماضيه متشبثا بطقس عبوره الأول، يستلهمه كلما عجز عن مواجهة واقعه الجديد، ويقول السياب:
وتلتف حولي دروب المدينة:
حبالا من الطين يمضغنا قلبي
ويعطين، عن جمرة فيه، طينه،
حبالا من النار يجلدن عُرَيَ الحقول الحزينة
ويحرقن جيكور في قاع روحي
ويزرعن فيها عماد الضغينة.(2)
__________
(1) - صلاح عبد الصبور: - الإبحار في الذاكرة، ص 38-39.
(2) - الديوان- 1/ 414.(1/325)
يواجهنا الخطاب الشعري هنا، بنوع متداخل من الأمكنة المتنوعة ما بين: الواقعي(المدينة) والخيالي(جيكور) والأسطوري (النار والطين)، وغني عن البيان أن هذا التداخل ما بين الأمكنة، هو تعبير عن الاضطراب والتمزق بين عوالم هذه الأمكنة وإيحاءاتها، بين اليقظة والحلم، الاضطراب والسكينة، الخوف والطمأنينة. وهذه التعددية المكانية وتداخلها، لا يمكن أن تجسدها إلا الصورة الفنية الراقية المتاخمة لحدود الحلم، والخاضعة لجدل الداخل والخارج ،(الرؤية والواقع)، المغلق والمفتوح: (قاع الروح، دروب المدينة)، وبالتالي الأمن والخوف وعلى الرغم من أن "صور الاستدارة الكاملة تساعدنا على التماسك، وتسمح لنا أن نضفي مزاجا مبدئيا على ذواتنا، وأن نؤكد وجودنا بحميمية، في الداخل"(1)، إلا أن صورة الاستدارة هنا تتدخل لتضاعف من حس الخوف والتناهي(تلتف حولي دروب المدينة: حبالا من الطين ومن النار...). كما أن النار، رمز الإخصاب والإنضاج في اللا شعور البشري، تفقد هنا هذه الخاصية، وتصبح مصدر عدوان على الشاعر، فتحرق ذكر مكانه الأليف المترسبة في قاع روحه، ألا وهو(جيكور)، وتصبح الطين بمائها أيضا مصدر موت للشاعر لا مصدر انبعاث له. ويتراجع الحس الزماني ليحتل الحس المكاني ساحة الوجدان، لكونه أكثر سيطرة، ولأن صراع الإنسان هنا مع المكان وليس مع الزمان. والشاعر -من خلال الصورة وتشكيلاتها للمكان- لا يقدم لنا أمكنة جاهزة بكل تفاصيلها، بل هو يقدم لنا عدة اختيارات مكانية تؤكد خضوع الوجدان لحس المكان، بنوعيه: الأليف والمعادي، وتنبئ عن صراع مرير بينهما، تكون الغلبة فيه لهذا الأخير، ويصبح المكان بالنسبة للإنسان معاناة سيزيفية لا تنتهي، يتداخل فيها المكان الأسطوري ببنيويته –كونه جزءا من بنية الكون وبنية الفكر الإنساني من خلال تراكماته عبر التاريخ- مع المكان الحسي بوَظِيفِيَتِه.
__________
(1) - غاستون باشلار: جماليات المكان، ص 209.(1/326)
ليتأكد بذلك الصراع الأزلي ما بين الإنسان والمكان، في محاولة الأول الفكاك من قيود المكان بشتى السبل والتخلص من قهره، وتقييد الثاني أي (المكان) لحركة الإنسان واحتوائه بعنف.
والانطباع الوحيد الذي يتأكد لنا من خلال ما سبق، هو أنه في خضم المحاولات المبذولة من طرف الذات الشاعرة لإيجاد صيغ التلاؤم مع هذا المكان السيزيفي، تبرز المعاناة النفسية المؤلمة نتيجة الشعور بالقهر والاغتراب، ويتجلى القلق والتمزق الذاتي في أبرز أشكاله. وهذا من شأنه أن يعطي للعملية الإبداعية تدفقاً حيويا ودفقا شاعريا ملتهبا، إذ أن أعظم شعر هو ذلك الذي يَنتُج عن أعظم معاناة وأكبر ألم . ومما يؤلم حقا أن يُحكم المرء بقوانين لا يعرفها ولا يؤمن بها، كما حدث للشاعر في أو ل لقاء له بالمدينة(1/327)
ولكن أي شعر عظيم دون ألم أو معاناة أو قلق؟ فالقلق في اعتقادنا "هوالشرط الأساسي للإبداع الفكري والفني والسموالشخصي والتضحية، ولكل ما هو فائق في التاريخ البشري"(1)، هذا إضافة إلى أن أغلى ما يمتلكه الإنسان هذا العصر –بل وكل إنسان على مر الأزمان– وهوأكثر جوهريا من الفرح، إذ أنه "الوسيلة الأصلح لإيقاظ الجوهر الإنساني الحق وبلوغ قدسية الحياة"(2). كما أنه الوسيلة الأنجع لمحاولة التحرر من سطوة المكان وثقل الزمان في آن واحد، والقبض على بكارة الحقيقة الأزلية والجوهرية للوجود، والتسامي على كل ما هو عرضي وزائل ودخيل ومصطنع، فبه تتجلى "كيفية رفض الإنسان لكيانه المدني الحالي، ونضاله ضد هذا الكيان لاسترجاع جوهره المفقود، وجوهره المفقود هو حقيقته الأزلية التي أُعطيَها يوم انبثق إلى الوجود. فكان في نظرته الأولى صوت الحقيقة الإلهية في الكون. فكأنما الفطرة هي كمال بالقوة. والمدينة ليست ربطا بين الطرفين. بل هي خيانة للحقيقتين معا. ووحدة الألم – هي النزوع إلى المعرفة وممارسة التأمل والاندفاع، لتجاوز حيثيات الزمان والمكان –يحررنا من ذواتنا التي انحرفت عن خطها، ويعيدنا إلى نقطة الابتداء، حيث بناء ذاتنا الكبرى"(3). "وهكذا عن طريق "أتون التجربة الخلاقة"، نجد وسط الألم والخسران إيجابية الحياة التي تتخطاهما"(4)،
__________
(1) -شارلز فرنكل: أزمة الانسان الحديث تر / نقولا زيادة، ص 96.
(2) - غسان خالد: جبران الفيلسوف، ص 96.
(3) - م.ن، ص 202.
(4) - جبرا إبراهيم جبرا: النار والجوهر (دراسات في السعر)، ص 173..(1/328)
وهذا ما يتبدى لنا بجلاء في صراع الشاعر مع المكان، الذي كان لا يرى فيه سوى حيز رهيب معاذ، "يفترسه التناقض، وتتقاسمه أفكار وقيم متضاربة، وتفتك به مصالح طبقات معينة، وتنهال عليه ضربات الإستغلال والإستبداد، وتشيع فيه مظاهر النفاق والتمزق والتشتت"(1)، وتتفاعل فيه بشكل خطير معطيات شتى لا تمت بالمنابع الأصيلة في النفس الإنسانية بصلة. ولعل السوق كمكان عامر بالحركة والنشاط، هو أبرز مكان تتجلى فيه مثل هذه المظاهر وتتفاعل. يجسد صلاح عبد الصبور ذلك حين نزوله إلى السوق مع الشيخ بسام الدين فيقول:
ونزلنا نحوالسوق أنا والشيخ
كان الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان الكركي
فمشى من بينهما الإنسان الثعلب
عجبا ...
زور الإنسان الكركي في فك الإنسان الثعلب
نزل السوق الإنسان الكلب
كي يفقأ عين الإنسان الثعلب ...
واهتز السوق بخطوات الإنسان الفهد
قد جاء لبقر بطن الإنسان الكلب
ويمتص نخاع الإنسان الثعلب(2)
__________
(1) - محمد زكي العشماوي: الأدب وقيم الحياة المعاصرة، ص 42.
(2) - صلاح عبد الصبور: الأعمال الكاملة، 1/267، 268.(1/329)
ترتبط صور السوق –كمكان حضاري متمدن- هنا بالحضيض والتدني، كون الحركة متجهة من الأعلى إلى الأسفل (نزلنا)، وتؤدي وظيفة درامية تتمثل في التصادم والصراع المرير القائم بين الشخصيات التي تتحرك بداخله، ويستمر النزول أكثر إلى أن تتم تصفية إنسانية الإنسان، ولا يبقى في المشهد إلا محض حيوانات لا يمكن أن تثير في الإنسان إلا شعور الرعب والموت، ويكتسب السوق بذلك صفة القتامة والوحشة، على الرغم من أنه مكان منفتح على الآخر، أو بعبارة أخرى تنفتح فيه الذات على الآخر، وتتعاون فيه معه، فيما يمكن أن ينفعهما. ولكن الشاعر يريد من خلاله إدانة واقع حضاري مبني على صراع المصالح، متّسم بالتدني الإنساني والانحطاط الأخلاقي إلى حدّ الحيوانية. وبهذا يتأكد انفصال الداخل عن الخارج، ويغدوالسوق كمعادل موضوعي تُسقط من خلاله الذات الشاعرة رؤاها على الواقع، بفضل ما فيه من كثافة وترميز وقدرة على الإيحاء بما تريد تصويره. وبدل أن يغدوهذا المكان العامر بشرا مصدر إئتناس يتوحّد فيه الفرد بالجماعة ويتنامى إحساسه بالانتماء والألفة، فإنه يغدوجحيما يجب تركه، إلى ما يمكن أن يعيد للشاعر أمنه وألفته، يقول السياب عن المدينة وسوقها:
أهرب منها، من ذراها الطوال
من سوقها المكتظ بالبائعين(1).
فابرز خصيصة للسوق هنا، هي الاكتظاظ، ثم سيطرة منطق البيع، كقيمة تنبني عليها المعاملة بين الناس، وهي قيمة تشير إلى ما هو مادي، في حين أنها تهمِّش الروحي، بل وتغيّبه، مما يعني أنّ الإنسان أصبح يتخبط في "أزمة تتداخل فيها المعطيات، فلم نعد نميّز ما بين"(2) الإنساني وغير الإنساني، الروحي والمادّي، والأخلاقي وغير الأخلاقي.
__________
(1) - بدر شاكر السياب: الديوان، 1/ 420.
(2) - بول قيريليو: حول أزمة المجال، عرض د / رجاء مكي، مجلة العرب والفكر العالمي، ع2، ربيع 1988، ص 117.(1/330)
ففي ظل التحولات الحضارية الكبرى التي شهدها عالمنا المعاصر، وتحت تأثير الضربات المتوالية التي كانت تسددها هذه الحضارة المادية العقلانية للروح، بدأت تتقوض تلك المظاهر الأخلاقية التي كانت قطب الرحى وبؤرة التوازن الذاتي للإنسان، الأمر الذي عطّل كل ما هو روحي لديه وقزّمه وهمشّه، ودعم من الجانب الآخر كل ما هو مادي دنس.
ولقد كان المكان المديني، أبرز تجلّ، لهذا الانهدام الأخلاقي، وهذا التراجع الروحي. ممّا ولّد لدى الشاعر نفورا قويا من مثل مكان كهذا، وشحن نفسه إزاءه بالكراهية، فاتخّذ منه موقفا معاديا، واعتبره مكانا سالبا لكلّ ما هو ذي قيمة إيجابية في الذات، ملطخا إياها بكل ما هو متدنّ ودنس. ولا مهرب للشاعر منه سوى"العودة القسرية إلى الداخل، وإحداث جزر مديني حقيقي"(1)، أعني التقوقع على الذات، والانسحاب إلى الداخل، واجترار الذكريات، ذكريات الريف، بوصفه المكان الأليف- وعلى اعتبار أن المكان ذاكرة فنية – الذي يحوي ويحتضن كل ما هو أثير ومقدس لدى الشاعر. وهكذا نجد أنفسنا بازاء تجادل مكانيّ نصطلح على تسميته، بناء على ما سبق، بإشكالية المدنّس (المدينة) والمقدّس (الريف).
ب)- إشكالية المدنّس والمقدّس
1)- المدينة مكان مدنّس: إن أو ل شعور يلفح وجداننا، ونحن نتصفح قصائد المدينة، هو تلك الأدران التي تكتنف المكان، وذلك الوحل الدنس الذي يتمرّغ فيه. فمكان كهذا لم يعط للشاعر شيئا-مما يتوقعه فيه- يطمئنه إليه، بل على العكس من ذلك تماما، فلقد جرّده من كل ما هو أثير لديه، واستنفد كل مضامين عالمه الجميل، بل وأخذ منه أكثر مما أعطاه، الأمر الذي جعله يملؤه حقدا وعداوة، ولم يره -يوصفه إطارا حضاريا- إلا مكانا للبغي والسفالة والفساد والدنس، الذي ينبغي تحطيمه وهدمه والثورة عليه، كما يتجلى في قول عبد الوهاب البياتي:
أرى بعين الغيب- يا حضارة السقوط والضياع
حوافر الخيول والضباع
__________
(1) -م. ن، ص 115-116.(1/331)
تأكل هذي الجيف اللّعينة
تكتسح المدينة
تبيد نسل العار والهزيمه
وصانعي الجريمة.(1)
ويتبدى هذا الدنس المرتبط بمكان المدينة أيضا في قول السياب ممثّلا في (المومس العمياء) التي هي رمز المدينة:
مات الضجيج، وأنت، بعدُ، على انتظارك للزناه،
تتنصّتين، فتسمعين
رنين أقفال الحديد يموت، في سأم، صداه:
الباب أو صد.
ذاك ليل مَرَّ
فانتظري سواه(2).
ونجد ذلك أيضا عند فاروق شوشة، فعندما سقط قناعها المزيّف،وانقشع الوهم عنه، لم يجدها إلا قاهرة عاهرة:
وجدتك عاتية القهر
شامخة العهر
فاسدة الأمكنة(3)
وهي أيضا عند البياتي –مرة أخرى- مكانا مُغتصَبا مُستبَاحا:
مدينتي استباحها الغجر(4)
والحق أنّ رغبات الشعراء تكاد تتشابه، ورؤاهم تكاد تتّحد على معاداة هذا المكان (المدينة)، ووسمه بالفساد والعهر، وبالتالي الاتفاق على حتمية تطهيره من هذا الدنس الذي يكتنفه. فلقد كان صدمة لوجداناتهم الطاهرة. وليس بالأمر الغريب "أن تتشابه تجارب الشعراء الريفيين المهاجرين إلى المدن العربية في طبيعة الصدمة –إن حدثت- فهي دائما تعبيرا عن الاغتراب النفسي والاجتماعي الذي أصابهم، ولكنها تتفاوت في العمق والمدى"(5)، أضف إلى ذلك أن فصل الإنسان عن مكانه –كيفما كان هذا الفصل- ومجابهته عادات مختلفة عما كان قد ألفه، يولِّد تخلخلا في التوازن النفسي، وشعورا بالغرابة، وصدمة في اللقاء، يصعب التحكم فيها. هذا ما يصوّره أحمد عبد المعطي حجازي في قوله :(6)
فُجعت فيهم يا أبي، كرهتهم في أو ل النهار
شوارع المدينة الكبيرة
قيعان نار
__________
(1) -عبد الوهاب البياتي : الأعمال الشعرية- 1/704 .
(2) -.الديوان : قصيدة (المومس العمياء)، 1/ 542.
(3) - ديوان: الدائرة المحكمة، نشر مدبولي، القاهرة 1982، ص 120.
(4) - الأعمال الكاملة، 1/297.
(5) - إحسان عباس : انجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 117 .
(6) - أحمد عبد المعطي حجازي : الديوان ص 124-129 .(1/332)
تجتر في الظهيرة
ما شربته في الضحى من اللهيب
يا ويله من لم يصادف غير شمسها
غير البناء والسياج، والبناء والسياج...
وحتى الزمن يختلف الإحساس به تبعا لاختلاف المكان:
الليل في المدينة الكبيرة
عيد قصير...(1)
ولكن تجدر الإشارة على أن المكان المديني لم يكن –لدى شعرائنا- ممقوتا لذاته – بل نتيجة لما يتضمّنه من تهديد لأمن الإنسان، وتقزيمه لروحه، ومعاداته لينابيعه الأصيلة، وأنماطه العليا التي ترسخت في نفسه منذ صباه – بوصفه ابن الريف- وصارت جزءا من كيانه الذي لا يستطيع التخلي عنه بسهولة، الأمر الذي يربك الذات، ويلقي بها في أتون موقف تصارعي مقيت؛ يتجلى في الصراع ما بين الخارج المرعب والداخل الكئيب.
- رعب الخارج وكآبة الداخل (التماهي الاسقاطي ):
ففي وضع كهذا، ونتيجة وحشة الخارج وجوّه الكئيب، لا يكون الداخل إلا مرعوبا بالهموم المشبّعة، ومحاطا بالخوف والاضطراب، يجسد صلاح عبد الصبور ذلك فيقول:
قلبي المليء بالهموم المشبعة
وروحي الخائفة المضطربة
ووحشة المدينة الكئيبة(2)
فنحن هنا بازاء تبادل تجادلي بين قطبي الداخل والخارج، فارتباك الداخل ورعبه، ما هو إلا انعكاس لخلل الخارج وقسوته على الروح، هذه الروح التي ما تني تتراجع، أمام قسوة المكان، وتعاني تهميشا وإهمالا مريعا... يعطل كل قواها الانبعاثية ويدمر رغبة الحياة فيها، ويحاصرها بتلك المعاناة السيزيفية الرهيبة يقول حاوي:
عاينت في مدينة
تحترف التمويه والطهارة ...(3)
ولكن أبد ا ما كانت تلك المدينة – طاهرة، بل هو محض تزييف وتمويه يتمرأى بريقه الكاذب، لكنه ما يلبث أن يتهاوى أمام حدس الرؤية الشعرية المدعمة بالذاكرة – فهي كفيلة بفضحه- والتي يرفدها احتراق الذات بنار السؤال الحائر والساخر في الآن نفسه:
كيف استحالت سمرة الشمس
وزهوالعمر والنضاره
__________
(1) - م . ن، ص 131.
(2) - صلاح عبد الصبور، العمال الشعرية، 2/502.
(3) -خليل حاوي، الديوان، ص 235.(1/333)
لغصة، تشنج، وضيق
عبر وجوه سلخت من
سورها العتيق(1)
إن اقتلاع الذات من موقعها الحصين والأصيل، وتموضعها في مكان معاد. خلخل توازنها، ووصم واقعها بالضيق، والتشنج، والغصص، وأحال تلك السمرة الشمسية اللون إلى شحوب واغبرار، يوحي بتسارع السنين وزوال الشباب. الأمر الذي أو قظ حس المأساة في الروح، وأشعرها بالمحاصرة الكلية وفقدان قيمة الحياة. ولعلّ ما يدعّم زعمنا هذا، أن أصل هذا الإحساس المأساوي، سببه الأولي، ذلك الاقتلاع القسري الذي مُورِسَ على الذات، والذي جسّدته بصراحة لفظة (سُلِخت) ورفدته عبارة (من سورها العتيق)، هذا السور العتيق، الذي يوحي بالمنعة والحصانة، ويجسّد حاجة الإنسان القصوى إلى الأمن والاحتماء، وكذا الانتماء إلى شئ مركوز وعميق في الذات وأليف لديها.
ولعل هذه المعاناة الصريحة، وهذه الحاجة الملحة إلى الاحتماء، لا تنمّ إلا عن خوف وتوجس عميق ومتأصل، وشعور بالقمع المتسلط على الذات، والذي جرّدها حتى مما يمكن أن يُشعرها بإنسانيتها أو بمتعة حياتها؛ فحين يندحر لحن الحب، وتتلاشى نجواه، ويصبح محمولا على نعش ليل المدينة، لم يبق للشاعر سوى التحسّر المضني، والحزن المرير: (2)
أتُغنين لنا الحب ونجواه ولينهْ
وصفاء الأمس في أرض السكينهْ
أتغنين!/ وهل أبقى لنا ليل المدينهْ
أضلعا تشتاق ما كان/ وتشتفّ حنينهْ!
__________
(1) - م. س، ص 235- 236.
(2) - م. س، ص 11.(1/334)
يجسد الخطاب الشعري تجادل عالمين. عالم يتراجع ويكاد يختفي وهوعالم الداخل بفرحة وحبوره وصفائه ترفده الذاكرة، وعالم يسود ويتقدم بكآبته وسطوته يرفده الواقع الحاضر، وهوعالم الخارج اللّيلي اللامتناهي، والذي لا "يتوقف عن كونه مكانا فارغا"(1) ومحبطا ومغتصبا، الأمر الذي يتصعّد ويحتدّ معه جدل الداخل والخارج، ويكون أكثر حسما. وجدير بالملاحظة أن مواجهة الداخل والخارج تعني التفكير بالوجود والعدم فـ"حين يواجه الفلاسفة الخارج والداخل" فإنهم يفكرون بمصطلحات الوجود والعدم"(2)، وكذلك الشعراء فما الشعر إلا الوجه الآخر للفلسفة- مكثّفا. وعلى الرغم من ميتافيزيقيتها العميقة، إلا أنهما يتضمنان معنى مكانيا، ذلك لأن "الميتافيزياء العميقة متجذرة في هندسة ضمنية، تضفي- سواء أردنا أم لم نرد- مكانية على الفكر"(3) الفلسفي والشعري على حد سواء.
__________
(1) - غاستون باشلار: جماليات المكان، ص 206.
(2) - م. س، ص 191.
(3) -م . ن، ص. ن.(1/335)
ومقاربة جيدة للأبيات السابقة، ومعايشة مستقصية لها. تؤكد لنا، أننا أمام مزيج من الوجود والعدم، أو بعبارة أو ضح اللاّإمكان والعدم الإمكان، فالداخل الذي يمثل المكان الأليف، أصبح وجودا للاّإمكان بسبب من تراجعه وارتعاشه ولا استقراره، وكذا ضبابيته وفقدانه لوضوحه، في حين أن الخارج، أي العدم، يصبح ممكنا ومتحققا بكل محتوياته؛ بحيث أنه "يفقد عدميته، والوجود العدمي هو المادة الخام لامكانية الوجود"(1)، إنهما-(أي الداخل والخارج)- يتبادلان الأماكن، ليتسنى لهما مبادلة العداوة. لأن تجادل الداخل والخارج هو تجادل اغترابي عدائي شكلا ومضمونا، هندسة ومعنى، وإن كان صراعا كهذا "يمتنع عن اتخاذ الدليل الهندسي كمعيار"(2)، ولكن دليلنا في ذلك أن "وراء ما هو مُعََبر عنه، بخصوص صراعهما الشكلي، يقع الاغتراب والعداء بين الاثنين"(3)، والذي يتجلى في شكل معاناة تنضج بها الذات، وتجسدها في خطابها الشعري متنوعة عبر مختلف أبعاد المكان واتجاهاته وحركاته وأشكاله كالمتّسع والضيّق، والعالي والمنخفض، والمستدير، والمنفتح والمغلق والمتناهي في الصغر والمتناهي في الِكبر، وغيرها من الأشكال والأحجام، بل والألوان.
شعرية اللون:
__________
(1) - م . ن.ص 196.
(2) - م. ن، ص 206.
(3) - م. س، ص 191.(1/336)
وحتى الألوان – باعتبار أن اللون هو قيمة جمالية وبعد مكاني أيضا- تسهم في تشكيل البنية الدلالية للخطاب الشعري، وتعطي للصورة إيحاءات بتنوعها، وهذا على الرغم من أنه"لا يمكن وضع قاعدة قارة بشأن القيمة الجمالية للون بوجه عام"(1)، ذلك لأن الاستجابة (لشعرية اللّون)، عملية معقّدة ذات طابع إشكالي، كونها ترتبط بالتراث واللغة المستعملة، والعصر وثقافته، وحتى الإيديولوجيا السائدة، هذا إضافة إلى أن التعبير باللون قد يكون تصريحا، وقد يكون تلميحا، وأحيانا أخرى يكون ترميزا أو انزياحا، وهوالسائد في الشعر العربي الحديث، يقول السيّاب:
أهذه مدينتي؟ جريحة القباب
فيها يهوذا أحمر الثياب
يسلِّط الكلاب
على مهود اخوتي الصغار ... والبيوت..(2).
فاللون الأحمر هنا كصورة مدركة تثير في الذات منظرا دراميا مرعبا، وتجسد القهر المسلط، الذي ينذر بالموت والزوال، ويشير إلى مناظر دماء الضعفاء المسفوكة دون شفقة.
ولعلّ الشاعر محمد عفيفي مطر من أكثر الشعراء المعاصرين تعبيرا بجمالية اللون، لتجسيد رؤاه، والتعبير عن مواقفه، يقول:
الجوع في المدينة
يصفرّ في إنسكابة الجدائل
يخضرّ في المزابل
يسودّ في حدائق الإسفلت والسكون المخنثة(3)
__________
(1) - د/ محمد حافظ : جماليات اللون في القصيدة، مجلة"فصول" ص: 41، م5، ع2، القاهرة 1985.
(2) -الديوان – 1/472، 473.
(3) - ملامح من الوجه الانباد وقليسي، دار الآداب، بيروت 1969، ص 24-36.(1/337)
فجمالية استعمال اللّون هنا، لا تأتي كتوظيف تصريحي لدلالية اللون المعروفة، ولكنها تنتقل من لغة الرؤيا المسطحة إلى لغة الرؤيا المركبّة، التجريدية، المنبثقة من عالم باطني، يصبغ على اللون دلالات ميتافيزيقية -لا معان فيزيقية معروفه سلفا- تفجر مكامن عاطفية، هي وليدة تجربة الذات الشاعرة مع واقع عرفت تفصيلاته، ومحتويات أماكنه، فكانت استجابتها الداخلية لهذه المحتويات هي التي تلّون المكان بحس رؤيتها له، لا كما هو في الواقع.
ونعتقد أن تلوين الشاعر لهذا المكان المعادي (المدينة) بهذه الألوان القاتمة، ما هي إلا نوع من التشويه والتدمير الذي كثيرا ما يمارسه الإنسان على المكان الذي لا يجد فيه إلا إحباطا لطموحاته وقبرا لآماله.
2-المكان المقدس (مكان الحلم) :
إن ّ أو كد انطباع تركته الخطابات الشعرية السابقة على مرآة الوعي، هو أن جدلية الذات -المدينة، الذات– الريف، هي العلاقة الرئيسية الأولى التي تؤطر جل العلاقات، وتؤسس معظم القيم سواء الاجتماعية منها أو السياسية أو الأدبية؛ ذلك لأن المدينة (كمكان) ليست فقط بُعدا من أبعاد الحياة الاجتماعية والسياسية والنفسية وبالتالي الفكرية والأدبية، كما أنها ليست فحسب بعدا كينونيا طبيعيا جغرافيا محايدا، بل هي أكثر من ذلك "سمة تحايث الذات وتلازمها بحيث تمتزج وإياها في وحدة لا فكاك لأواصرها"(1). فالتقوقع المحيطي، والانغلاق الأفقي، والتعملق المعماري للمدينة، والانفجار السكاني والتزاحم البشري فيها، مسؤولةٌ كلها عن الشعور بالتفاهة والانسلاب الروحي، والانحدار الذاتي، وفقدان القيم الأصيلة، التي يشكل فقدانها عاملا مهما وحاسما من عوامل ارتباك الذات وفقدانها لهويتها، وبالتالي نفورها من المكان الذي سلبها كينونتها ووجودها الخلاق والحر:
وتلتف حولي دروب المدينة:
حبالا من الطين يمضغن قلبي
.........................
__________
(1) -يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي، ص 18.(1/338)
حبالا من النار يجلدن عُريَ الحقول الحزينة
ويُحرقن جيكور في قاع روحي(1)
إن الذات تروم الخلاص من المكان القاهر، وترى بحتمية الانفصال عنه، وربما الشيء الذي صعّد هذا الانفصال والنفور أكثر، هو أن طبيعة الريف وملامح أمكنته، كانت قائمة في وعي الشاعر ومتغلغة في نفسه، بل هي كيانه نفسه، لأنه إذا كان في الطبيعة (مكان الريف) الحرية والجمال، ففي المدينة الرعب والانسحاق، و"في الرعب فزع ميتافيزيقي، وفي السحق فزع اجتماعي"(2). ولكن كيف السبيل إلى استعادة المكان الأليف، الذي تروم الذات الشاعرة الارتماء في أحضانه والموت في كنفه، الجواب على ذلك نجده في قول الشاعرة (ربيعة جلطي):(3)
وحين خيَّروها بين الموت والموت
سافرتْ في تنفّس المزارع.
يقرر الخطاب الشعري، ألا سبيل لامتلاك ذلك المكان، إلا عن طريق السفر الحلمي الذي يتم عبر الصورة الشعرية التي تقفز فوق حدود المكان من خلال تقويض أركانه، وتتجاوز الزمان عن طريق عدم الاعتراف بأمدائه وآناته.
والصورة متمردة غير قابلة للتموضع، بل هي نوع من الهلوسة البصرية أو السمعية أو الشميّة أو الذوقية، أو لنقل هي حلم يقظة؛ بسبب ذلك التداعي المكاني واللاّثبات الذي تستميز به، إضافة إلى لامبالاتها بالأبعاد المكانية الموضوعية، إذ أنه "قد لوحظ أننا إذا تصورنا مكانا فيه أشياء مختلفة لا نبالي بأوضاع هذه الأشياء بالنسبة بعضها إلى بعض"(4)، بل نحن الذين نقوم بتنسيقها على حسب ما نريد –ولوفي مخيلتنا فقط – وهذا ما يقوم به حاوي، حين يجعل الأشياء ويرتبها في غير أماكنها الواقعية:
النعنع البري يموج في مطاوي
السفحِ
والريحان أدغالا بأوديتي تهيجْ
__________
(1) - بدر شاكر السياب: الديوان، ص 414.
(2) - يويف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي، ص 18.
(3) - ربيعة جلطي: ديوان شجر الكلام، ص 44.
(4) - جان برنيس: المخيلة، تر / د/ خليل الحجر، المنشورات العربية، ط1، 1984، ص 42.(1/339)
تلهووتمرح فيه قطعان الوعول(1)
ولا تتم عملية موضعة الصورة، وكبح جماح تمردها الكاسح للمكان، إلا باللجوء إلى الإحساس، فهوالذي يعطيها "صفة جسمية، وهذا يحدث عن طريق الاحساسات اللّمسية، أو الحركية الحاصلة على المحيط. فالعناصر الحسية تندمج في الصورة وتساعد على تموضعها "(2)، ونعتقد في هذا الصدد أن "فحص الانطباعات الحسية للكاتب مقاربة جيدة جدا لعالمه الادراكي"(3)؛ ولكن هذه الانطباعات الحسية تختلف بحسب اختلاف بنية الحاسة التي يعتمد عليها الشاعر وأهميتها في تشكيل تصويره للمكان، ومدى انتباهه أو عدم انتباهه لمظاهر معينة من محيطه. فقد لا نستطيع كبح جماح الصورة وإلجام تمرّدها، وبالتالي تجسيمها إلا من خلال الإحساس، لأن "الإحساس قابل للتموضع، فالمكان والقرب والبعد ووضع الأشياء بعضها بالنسبة لبعض تتعيَّن وفق المعطيات الحسية عن طريق النظر واللّمس وعن طريق الاحساسات الحركية"(4)، لا عن طريق حُلمية الصورة وطبيعتها المتعالية التضخيمية والغريبة، التي تسعى دوما إلى زعزعة العلاقة بين الحاوي والمحوي، هادفة من خلال ذلك إلى خلخلة وهدم معالم المكان وإعادة بنائه من جديد. ولكن لا ينبغي أن يُفهم من هذا، أن الشاعر -بذلك- يقوم بعملية خلق اصطناعي، فالصورة بنت الخيال، والخيال كما يرى غاستون باشلار "هوأكثر الملكات طبيعة"(5) وأشدها التصاقا بكينونة الذات الإنسانية وأعمقها تجذرا في حنايا باطنها، إذ في البدء كان الخيال، وكان الحلم، فكانت الصورة الحلمية.
- مكان الحلم :
__________
(1) - خليل حاوي: المجموعة الكاملة، ص 43.
(2) -جان برنيس: المخيلة، ص 43.
(3) - ادوارد هال : البر كسيمياء (علم المكان)، تر/ بسام بركة، العرب والفكر العالمي، ع2، ربيع 1988، ص 77.
(4) - جان برنيس: المخيلة، ص 42.
(5) - غاستون باشلار: جماليات المكان، ص 202.(1/340)
يبرز مكان الحلم إلى الوجود، عندما يكف المكان الأليف عن التواجد في الواقع، سواء بواسطة الافتقاد القسري، أو بسبب القسوة والقمع الذي يمارسه المكان الواقعي –الحاضر على الذات . وعندها يعمد الشاعر إلى "إخراج مضمون داخلي إلى الخارج- وتعارض مبدأ الداخل والخارج مبدأ أساسي في التحليل النفسي"(1)، وهنا نجد أنفسنا بازاء لعبة التكامل ما بين قطبي الداخل والخارج، الداخل برؤيته، والخارج بعناصره التي تخضعها الذات الشاعرة لتشكيلاتها الطبيعية التجريبية الحلمية، يقول صلاح عبد الصبور:
رأيت في المنام أني أقود عربة
تجرها ست من المهاري
تجوب بي الوديان والصحاري
وفجأة تحولت خيولُها قطاطا
تمشي إلى الوراء، وجهها، عيونها تبصّ لي شرارا
ثم غدت عيونها نجوما
هذا النجم ... النجم القطبي
الدب القطبي الأبيض
صارت قططي دببه
يخطونحوي الدب القطبي ليأكلني
أويأخذني ليعلقني في فكه
أتخيل أني علقت بفك الدب الأبيض
إني أتدلى من أسنان الدب الأبيض
يا خدام القصر..... ويا حراس ..... ويا أجناد
.... ويا ضباط ... ويا قادة
مدوا حول الكرة الأرضية نسج الشبكة
سقط الملك المتدلي جنب سريره(2)
__________
(1) - أناردفورد : دراسة في المسرح الافريقي : الزمان والمكان والهوية (مسرحية الأم لأتول فوغارد، تر / محمد الظاهر – عالم الفكر، مج 15 )
(2) -صلاح عبد الصبور، الأعمال الكاملة 1/269-270.(1/341)
يؤكد لنا الخطاب الشعري في هذا المقطع العلاقة المتينة والتبادلية ما بين صيغة الحلم وطبيعة اللاشعور، في انبثاقها أساسا من العقل الباطن برموزه الخاصة، وصوره اللامعقولة، المكسِّرة للعلاقات المنطقية بين الأشياء، والمعتمدة على التشويش كأساس للتصوير. ليندمج الذاتي بالموضوعي، واللا مرئي بالمرئي، وتتشكل الأشياء على غير طبيعتها ضمن منظور كشفي جديد، يشير بوضوح إلى ذلك الفيض اللاشعوري لعالم الذات الداخلي، الذي تنهل منه عملية الإبداع رؤاها، وتتشكل من خلاله طرائق التعبير فيها، تشكلا لا منطقيا، غامضا، وثريا بالدلالات والايحاءات الوجدانية، التي تشكل تربة خصبة للحلم؛ فإذا نحن أمام عالم غريب أساسه النظائر المتعارضة والمتناقضة والاتجاهات المتعاكسة:
الأمام/ الخلف : بالنسبة لسير العربة
الضخامة/ الضآلة / ثم الضخامة : الخيول/ القطط/ الدببة
الواسع / الضيق، والمنفتح/ المغلق: الصحراء / فك الدب الأبيض
المنخفض / العالي: الوديان/ النجوم
الكلي / الجزئي: القطط ثم عيونها، الدببة ثم أسنانها...
الفاعلية/ السلبية: قيادة الأنا للعربة/ ثم السيطرة عليها...(1/342)
إنه سياق حلمي تتأسس فيه الأشياء على نحوغير منطقي . فإذا العربة التي كانت تندفع في حركة أمامية عنيفة على اللاّمكان تجرها الخيول، تتراجع بصورة غير متوقعة إلى الخلف وتُمسخ تلك الخيول إلى قطط، وتفقد الأنا إذ ذاك فعاليتها في القيادة لتسقط في وضع سلبي، محاطة بجومن الرعب سببه تلك العيون التي تنطق شررا. ثم تتجه نحوالعلو، فإذا هذه العيون نجوما، ثم هي دببة تتهدد الشاعر، ثم إذ هو بعد ذلك يتخيل نفسه في فك أحدها (مكان)، ثم ينفتح المشهد على الخارج، فإذا به يتدلى من أسنانه (أسنان الدب)، لنصل في النهاية إلى تفسير هذا الحلم ألا وهوسقوط الإنسان ممثلا في عبارة (سقط الملك). هكذا يتشكل عالم الحلم عبر تداعيات تتجمع في سلسلة من المتفارقات، لا رابط منطقي بينها، تحيل مباشرة إلى عالم اللا وعي الذي تنكشف فيه حقائق عالم الوعي، حيث تمّحي الحدود بينهما، ويكتسب بهذا "مكان الحلم بعدا ثالثا ما دام قد اشتمل على الحالم وحلمه وتفسير ذلك الحلم"(1).
__________
(1) - أناردر فورد: دراسة في المسرح الإفريقي، عالم الفكر (م. س)، ص 96.(1/343)
ونظراً للخصيصة التطهيرية التي يتوافر عليها الحلم، فإنّ مكان الحلم، يتميز بالتقوقع الاحتمائي والانغلاق المزدوج الذي يلعب على مستويين: مستوى الفعل، ومستوى الإدراك المتلاشي. وعندها يكون مغلقاً أمام العالم الخارجي، بينما هو مفتوح على العالم الداخلي والماضي(1) المنبثق من الذاكرة ببساطتها وتعقدها في آن: فالبساطة تكمن في سهولة استرجاع الذات لذكرياتها، لكونها أكثر جذرية والتصاقا وحميمية بها، ومعقدة لكونها تشحن الصورة وتحشوها بمركب من الذكريات –لا الفردية فحسب بل الجمعية أيضا- الحادثة في فترات زمنية متباعدة. مما يتراجع معه المكان الواقعي ويخلف وراء الذات، ليصبح المجال مفتوحا لبروز مكان الحلم أو المكان الداخلي المنبثق عن انسحاب الذات نحوأعماقها، وكفها عن التعامل مع الخارجي إلا بمنطقها هي، ويصبح آنئذ مكان الذات هو مكان الشعور الداخلي لا المكان الواقعي . يقول أدونيس:
أعرف أنّ الطريق
لغة في شعوري، لا في المكان
لغة في العروق، وفي نبضها، لغة في السريرة
حيث تأتي المسافات من أو ل الروح موصولة بالبريق
ببريق الفتوحات والكشف والعابرين
في التخوم الأخير(2).
__________
(1) - ينظر : م . ن، ص 95.
(2) - أدونيس الآثار الكاملة 2/223.(1/344)
فالمعجم اللغوي ذوالدلالات المكانية المعتمدة هنا (الطريق، المسافات، الوصل، البريق، الفتوحات، العابرين، التخوم) هي تجليات مكانية صوفية لا تَمَوْضُعَ لها في الحقل الإدراكي العادي، فهي تنفتح على عالم نوراني غريب، تنعدم فيه جاذبية وفاعلية العالم الخارجي، وتبقى رهن رؤية الذات الباطنية، معلقة في فراغ، لا تخضع إلا لمنطقها اللاشعوري. وما يريد الشاعر نقله هنا حين خضوعه لهذه الاشراقات الصوفية، هو إقامة نوع من "التفاعل بين الحلم والواقع، بين الايحاءات المنبعثة من عالم اللاشعور والمجهود العقلي الذي يبذله الفنان في صياغة هذه الإيحاءات في صورة قادرة على أن تحقق التجاوب"(1). لتتبدى الصورة-هنا- في شكل بداية ونهاية، حركة دائرية يؤدي فيها بعد الداخل/ الخارج بتكراره المتوارد إلى مجموعة لا نهائية من الأمكنة التي تندمج مع بعضها البعض وتتداخل.
ومادام مكان الحلم هو مكان اللاشعور-بامتياز- وما دام أنه مكان الذكرى أيضا، هذه الذكرى التي ترتبط حتما بمكان ما. وانطلاقا من فكرة فحواها أن المكان يقوم بوظيفة إيحائية، على اعتبار أنه مرتبط بوقائع وشروط معينة، مادام الأمر كذلك، فإن الذكريات السائدة هنا، هي ذكريات الطفولة المترسبة، وبالتالي المكان، الأبرز حضورا هنا، هو المكان الأليف-أعني بيت الطفولة – والذي يعتبر أحد أبرز المكونات اللاشعورية الثاوية في عقل الشاعر، بوصفه المكان الأثير لدى النفس، أو بمعنى آخر الفردوس المفقود بشكل من الأشكال، هذا ما تجسّده نازك الملائكة في استدعائها لماضيها الطفولي بكل تفاصيله وجزئياته:
ليتني لم أزل كما كنت قلبا ... ليس فيه إلا السنا والنقاء
كل يوم أبني حياتي أحلا ... ما وأنسى إذا أتاني المساء
أبد أصرف النهار على التل ... وأبني من الرمال قصورا
__________
(1) - مراد وهبة: يوسف وهبة والمذهب التكاملي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الاسكندرية، 1974، ص 287.(1/345)
ليت شعري أين القصور الجميلا ... ت وهل عدن ظلمة وقبورا؟..
ذهب الأمس لم أعد طفلة تر ... قب عش العصفور كل صباح
لم اعد أبصر الحياة كما كنت رحيقا يذوب في أقداحي...
آه يا تل أنا مثلما كنت فارجع فردوسي المفقودا
أيّ كفٍ أثيمة سلبت رمـ ... ـلك هذا جماله المعبودا
كنت عرشي بالأمس يا تلّي الرمـ ... ـليّ والآن لم تعد غير تلّ
كان شدوالطيور رجع أناشيـ ... ـد وكان النعيم يتبع ظليّ.......
ذهب الأمس والطفولة واعتضـ ... ـتُ بحسي الرهيف عن لهوأمسي
كل ما في الوجود يؤمني الآ ... ن وهذه الحياة تجرح نفسي(1)
تتحد ذكريات الطفولة هنا بأزمنتها وأمكنتها لتشكل مشهدا مفعما بالمتعة والأمن،والدفء الانساني والألفة والاستقرار؛ حيث يشحن هذا البيت
(
__________
(1) - نازك الملائكة: الديوان 1/ 31-34.(1/346)
بيت الطفولة) بقيم حليمة لا تزول بزوال البيت، بل تتجمع في وحدة شعورية مركزة تستعصي على الزوال، وتعاودنا كلما ضجرنا من حاضرنا وشقينا به، لتمدنا بالراحة والاسترخاء الذي يمكننا من مواصلة رحلة حياتنا من جديد. ولذلك، نرى الشاعرة هنا، تحشد لهذا الموقف جملة من الألفاظ والجملة ذات الدلالات الموحية بالمشاهد الطفلِية التي تمتزج فيها الذات بالموضوع، والواقع بالحلم، بكل محتوياتهما، ولم يعد هناك من تناقض بين الداخل والخارج، المغلق والمفتوح(عالم الذات الداخلي) و(العالم الخارجي)، فكل شيء علامة على هناءة القلب وراحة النفس، التي يمثلها بيت الطفولة بمشاهده الأليفة والمنسجمة والمتناغمة مع رؤية الذات لها. ولكن هذا الانتقال لا يكفل للذات أمنا وراحة تامة، ولا يستطيع أن ينتزعها من انغلاقها، فأقصى ما يمكن أن يؤمنه لها هو مهلة مؤقّتة، تنقذها من حضور واقع ثقيل بات مؤكدا وشديد الوطء على النفس. فبيت الطفولة يبدأ في التلاشي والانحسار من ساحة الشعور، بمجرد ما يبدأ مكان الواقع في الظهور إلى الوجود، وتدرك الذات الشاعرة أن بيت الطفولة فردوس قد تراجع وإلى الأبد لا ينفعها معه أي تحسر، ومن شأن هذا التراجع ألايؤدي إلا إلى جعل مكان الواقع المرعب أشد طغيانا وأكثر تسلطا على النفس؛ لأنه الحقيقة المعاشة التي يفتقد معها وينتفي كل وجود للماضي، ليصبح استدعاءه بمثابة المنفى الذي يختاره الشاعر طائعا، كتعبير عن رفضه للواقع.
ولعلّ هذا الافتقاد أو الانتفاء، هو الذي يجعل الخيال أكثر نشاطا وتحفزا لاستدعائه. و"حين يتم استدعاء هذا المنفى بوصفه حلما ضائعا، في منافي الشعراء، فإنه يحفز بأبعاده الفيزيقية والمجردة في آن معا"(1)؛
__________
(1) - اعتدال عثمان: جماليات المكان : الأندلس في الشعر العربي الحديث- الشعر ومتغيرات المرحلة
(
3) –دار الالشؤون الثقافية العامة – وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1986، ص 53(1/347)
فالفيزيقية-كما رأينا مع نازك- ممثلة في (التلال، الرمّال، العصافير، والظلال...) والمجردة ممثلة في (إحساس الذات إزاء هذه الأشياء الأليفة، وكذلك النهار والليل، والصباح والمساء...).
ولكن ما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أنّ المكان الفيزيقي بأبعاده الهندسية لا يعنينا؛ أو لا: لكونه من اهتمامات العلم لا الأدب،وثانيا: لأنه يُفقر التجربة الشعرية التي تتأبّى أن تمنح نفسها للحدس الهندسي، بل هي إطار للوجود السرّي، الذي لا يخضع للمعايير والمقاييس الخارجية المتعارفة، وهذا ما نراه عند أدونيس في قوله:
رأيت فيلا يخرج من قرن الحلزون
رأيت جمالا وأحصنة في محارات بحجم الفراشة(1)
فنحن أمام تشكيلات مكانية غريبة، لا تخضع للقياس الهندسي؛ فإذا بالمتناهي في الكبر في عالم الحيوان (الفيل) يخرج من قرن أحد أصغر الحيوانات (قرن الحلزون)، فيصبح هنا المتناهي في الصغر هو الحاوي، بينما المتناهي في الكبر هو المحوي، وتتمرأى الخيول والجمال في حجم الفراشة، هكذا تتبادل الأشياء الكبيرة خصائصها مع الأشياء الصغيرة، ونجد أنفسنا بإزاء تجربة فريدة في التعامل مع المكان، وتشكيله، غير خاضع للمنطق الإدراكي؛ لكون الشاعر عاكفا على النظر إلى الحلم المعروض أمامه، وهوعرض يتم في أمكنة خيالية مُبَنْينَة حسب علاقة الداخل/الخارج، وتفقد الأشياء كثيرا من خصائصها العادية، لتكتسب خصائص جديدة، بسبب تغليب الحلم للعقل الباطن على الإدراك المباشر، ذلك لأن الحواس الخارجية التي يعتمدها هذا الإدراك كأساس لرؤيته وكمركز لحكمه على الأشياء، تفقد فعاليتها، وتصبح الرؤية نابعة من الداخل أساسا، لا من الخارج المحبط.
وفي هذا الصدد يمارس المكان الواقعي المحبط غيابا، أو بمعنى أصح، تمارس عليه الذات تعتيما وله إبعادا من ساحة شعورها، وتقترب المسافة
بينها وبين ماضيها، وعندئذ تكف هذه الذات عن العيش في (الهُنا)
__________
(1) - الآثار الكاملة 2/153.(1/348)
لتُعَوضه بالعيش في (الهُناك).
- مكان الحضور والغياب (الهُنا والهُناك) :
إن العيش في (الهناك) أكثر تغلغلا في بواطن النفس، وأشد التصاقا بأنماطها الينبوعية الأصيلة " فهوذوجذر نفسي يمت إلى باطن الإنسان وأعماقه بصلة وثقى"(1)، وأشد ما يتجلى هذا في القصيدة العربية المعاصرة، التي تحاول أن "تؤكد العلاقة المتينة وربما التبادلية بين صيغة الحلم واللاشعور أو طبيعتهما من جانب وصيغة القصيدة الشعرية وطبيعة بنائها من جانب آخر، فالصيغة هنا وهناك تعني ما يرسمه العقل الباطن باصطلاحاته الخاصة ورموزه من صور مثقلة من خلال العلاقات المنطقية وتشويش للوعي الظاهر، وقضاء على تخوم الزمان والمكان، وتجاوز أو انفلات في حدود الذات والموضوع ودمج للكل في منظور كشفي جديد، وبذلك تضحى القصيدة قبضا من عالم اللاشعور الداخلي المستعر تلتقفه عدسة الغيبوبة في اكتشافها أو استقصائها لساحة ما وراء الطبيعة "(2)وعندئذ لا يصبح هناك من فرق بين طبيعة المكان في الصورة، وطبيعته في الحلم؛ باعتبار أن منطلقهما الأساسي هو اللاشعور، ومنازع النفس الباطنية اللاوعية، التي هي حتما سابقا لعملية الوعي، إضافة إلى أن التعبير فيهما يتم بشكل غير مباشر. وعندئذ نستطيع القول: إن أحلام الشاعر هي صور داخلية لتعبير خارجي. فما هما (أي الصورة والحلم) سوى نوع من أنواع توق الشاعر إلى الانعتاق والتحرر والانطلاق الذاتي.
ولقد تأكد للذات الشاعرة بأنها لن تستطيع انعتاقها، إلا بالعيش في (الهناك) في بيت الطفولة كما رأينا مع نازك الملائكة سابقا في استيحائها لمكان الطفولة بملامحه الفيزيقية والشعورية في آن معا، وكما نراه أيضا عند كل من السياب ونزار قباني.
__________
(1) - نعيم اليافي : النقد التطبيقي في الشعر الحديث، الموقف الأدبي، دمشق ع181، 182، 183، حزيران تموز 1986/س16، ص 47.
(2) - م . س، ص 47 – 48.(1/349)
فيقول الأول :(1)
- أعيش بالأمس، وأدعوأمسي الغدا
- إنّ ماضيّ قبري وإنّي قبر ماضي
- جيكور، يا حقلا من النور
يا جدولا من فراشات نطاردها
في الليل، في عالم الأحلام والقمر
- جيكور، مسي جبيني فهوملتهب...
مدي علي الظلال السمر، تنسحب
ليلا، فتخفي هجيري في حناياها
- والليل في جيكور
تهمس فيه النجوم
أنغامها تولد فيه الزهور
وتخفق الأجنحة
في عين الأطفال، في عالم للنوم...
ويقول الثاني (أي نزار) عن توقه إلى العيش في-(الهناك)- بيت
الطفولة :
وإذا بالشام تأتيني نهورا ومياها وعيونا عسلية
وإذا بي بين رفاقي وفروضي المدرسية(2)
__________
(1) - الديوان 1/138 – 208 – 186 – 187 – 634.
(2) - نزار قباني : ديوان (أحبك والبقية تأتي)، ص 35.(1/350)
والنماذج من هذا القبيل في شعرنا المعاصر كثيرة، ولكن الشيء المؤكد –من هذا كله- هو أن الذات الشاعرة على الرغم من معايشتها الطويلة للمدينة، إلا أنها لم تستطع التكيف مع طبيعة مكانها. وأشد ما يتجلى هذا عند السياب، الذي كان ارتباطه بمكان الطفولة (جيكور)، ارتباطا صميميا، دائم المثول في وجدانه، بحيث كان بمثابة الأم –باعتبارها عصب الانتماء المشيمي إلى مكان الألفة الأول، وإلى وطن الرحم- بالنسبة له، بعدما وراها ثراه، لذلك لم يكن حضوره في المدينة سوى غياب مستمر عنها، بينما كان غيابه عن الريف حضورا دائما فيه. وغني عن البيان أن الغياب يستدعي الحضور –باعتبار كل شيء يحمل نقيضه- والخيال ينشط لاستدعاء (الهناك) المستقرة في الأعماق كلّما اشتدت المحاصرة وتكرس الإحباط في (الهنا). وهذا الاستدعاء الخيالي يتم من خلال الصورة؛ فهي التي تكفل للذات أن تتنفس في الطبيعة بحُرية. ولكن هذا لا يعني أن الصورة الشعرية في وضعها الأساسي، هي تعبير منتقى قَصَدَ به أن يدل على فكرة مجردة، حدد الشاعر معالمها سلفا ثم راح يتأمل الطبيعة من حوله ويختار أكثرها مناسبة لتصوير فكرته، بل إنها انبثاق تلقائي حر يفرض نفسه على الشاعر كتعبير وحيد عن لحظة نفسية انفعالية تريد أن تتجسد في حالة من الانسجام مع الطبيعة من حيث هي مصدرها البعيد الأغوار(1)، ومن حيث هي مكان بكر ساكن تستكين النفس إليه، ولذلك فهودائم التذكر لها والحلم بالعودة إليها يقول في قصيدته (في السوق القديم) بعدما يتطرق إلى معاناته في هذا السوق وغربته فيه(2) :
الريح تعبث، في فتور واكتئاب، بالدخان،
وصدى غناء ..
ناء يذكر بالليالي المقمرات وبالنخيل؛
وأنا الغريب.. أظل أسمعه وأحلم بالرحيل...
__________
(1) - حسين عبدالله محمد : الصورة والبناء الشعري، دار المعارف، القاهرة.
(2) - بدر شاكر السياب : الديوان 1/22.(1/351)
وتقول نازك الملائكة في قصيدتها (الخيط المشدود في شجرة السرو) حانقة على التواجد في (الهنا) حالمة بالعيش في (الهناك) :(1)
ثم ها أنت هنا، دون حراك
متعبا، توشك أن تنهار في أرض الممر
طرفك الحائر مشدود هناك
عند خيط شد في السروة، يطوي ألف سر
فالهناك هو مكان الذكريات، ومكان تحقيق الذات، بحيث يزول التناقض بين الذات والمكان، وينعدم الصراع بينهما، ولذا نلقى علاقة الشاعر بالمكان ولهجته حباله تتغير، وتغدوأكثر ارتباطا ووجدانية. بينما نجدها إزاء (الهنا) تهديدا بالفتح والاكتساح، بل والتدمير. يقول فُلاذ عبدالله الأنور في قصيدته (سقوط المدينة النحاسية) :(2)
فلا تفرحي الآن أيتها المدن الحائطية
نخلته الآن، تعلن إقلاعها للميادين،
تأتي محملة بعبير من الأرض،
يغرق كل التماثيل
لا تفرحي هو آت
على منكبيه تراب وعشب وفاس
هوآت وإن غاب لا يحتويه النعاس
إنه طالع في سواه على الدرب
يغرس أعشابه في الرخام
ونخلته في بلاد النحاس.
هكذا يغدو(الهناك) حضورا دائم المثول في الوجدان، حتى ولواقتضى الأمر إحلاله محل (الهنا) بتدميره، وهذا التدمير لا يكمن في التحطيم فحسب، بل يمتد إلى تجريده من جماله وجوانبه الإيجابية، وإضفاء بعض الصور القبيحة عليه : (المدن الحائطية، البلاد النحاس...)، كاشفا من خلال ذلك عن التوتر المتأزم القائم بين (الهنا) والذات.
__________
(1) - نازك الملائكة : الديوان 2/195.
(2) - ديوان : إشارات المجد المنطفئة، ص 19، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987.(1/352)
والحق أن حضور بُعد (الهناك) ومثوله في الوجدان، كما في الخطاب الشعري هو حضور ذوبُعد تجريدي، قبل أن يكون بعدا مكانيا، وهولذلك لا يتجسد ضمن أبعاده الفيزيقية الواقعية، بل يضاف إليه كثير من التوشية والجمال. فكل شاعر له (هناك) خاص به يلونه برؤيته، ويلتقطه من الزاوية المحببة إليه. ذلك لأن حضوره يتم عبر الخيال، وخيال الشاعر ليس خيالا وصفيا يستعيد صورة العالم مثلما هي دون إحداث تغيير –قد يكون جذريا- فيها، يُصدم المتلقي ويحدث الدهشة في نفسه. والاهتمام (بالمدينة/الريف) من وجهة نظر المكان لم يكن من جانب التركيز على تفاصيل المكان كما هو الواقع، لأن الشعر لا يمكن أن يكون وصفا وثائقيا أو دليلا سياحيا، بل معالجة فنية، فيها الكثير من الخيال الخلاّق، الذي تتداخل فيه الحدود، وتتعدد فيه الإيحاءات، وتلتبس فيه الرؤى، وتلتحم فيه المادة بالروح. الخيال الذي يهدف إلى تأسيس طبيعة سامية للشعر كذات مفارِقة للواقع، كتصوير يسموعليه، كعالم خاص يتم فيه التحرر والانعتاق من وطأة المادة وصلابتها وجمودها الهندسي، ومعانقة المطلق الكوني الرابض في أعماق الروح.
ونظرا لهذا التأسيس الخيالي المطلق، فإن مكان (الهناك) هو الممكن الذهني لا الممكن الفعلي؛ ذلك لأن العلائق الفعلية لدى الشاعر بالمكان منقطعة، وحضور ووجود الريف لديه، هو حضور ووجود داخلي فحسب.
والشاعر في المقابلة والمواجهة التي يقيمها بين (الهناك) مكان تحقيق الذات، و(الهنا) مكان تهميشها وإعدامها، يعتمد على المخزون النفسي المتراكم في ذهنه، سواء من المخزون الشعري القديم الحافل بمدح الطبيعة والتشبث ببيت الطفولة والشباب(1)، أو من ذكرياته الشخصية هو . ولعل هذا ما يفسر الرجوع المتعمد للماضي ومحاولة إحلاله محل الحاضر والمستقبل.
__________
(1) * - كما هو الحال عند الشاعر الجاهلي بتشبثه بالطلل وإحلاله مكانة عظيمة في نفسه، كذلك هو الأمر بالنسبة للغاب والقرية لدى الشاعر الرومانسي.(1/353)
من هذا المنظور، راح الشاعر المعاصر يبحث عن البديل الذي يمكنه أن يؤسس من خلاله "مدينته الفاضلة"، تلك المدينة الهاربة من "المدينة الخراب" وهذا البديل لا يمكنه أن يجد شرعيته إلا في الحلم والذات، في الداخل لا في الخارج، في معانقة الخيالي، في الغامض والأسطوري، في الطبيعي لا الاصطناعي، الطبيعي المفارِق للطبيعي الرومنسي المتضخم بالبكائي والغنائي. إنه بديل يعتمد المواجهة المقتحمة الجريئة المتسلِّحة بالوعي الخلاق، الواثق في الإرادة الإنسانية وقدرتها على التغيير.
ويجدر بنا في ختام هذا الفصل أن نتساءل: هل يمكن الفصل بين المكان –كتصوير فني وتشكيل جمالي- والزمان –كحركة في المكان – بحيث يغدوأحدهما أكثر سيطرة على حس الشاعر وأكثر بروزا في المتن الشعري من الآخر ؟
الواقع أن الشعر كتصوير فني، لا يمكن الفصل فيه بين الزمان والمكان، بل هما متداخلان، ذلك لأن الصورة الشعرية نفسها – وهي أسُّ الشعر- هي معطى زماني ومكاني. هذا إضافة إلى أنه لا مكان بدون زمان كما أنه لا زمان بدون مكان.
(((
الفصل الخامس:
تجرية الزمن في المكان
1- الزمن المتجحّر
2- استراتيجية الزمنكة (أوتداخل الزمان بالمكان)
3- وتيرة الزمن المديني وحس التناهي
أ إيقاع المدينة والوجه الآخر للحياة
ب إيقاع الموت في المدينة ودلالة المعاناة
ج إيقاع الزمان ما بين لحظة العقم ولحظة الخصب
4- عادة الزمن الضائع
أ- زمن الطفولة
ب - زمان الذاكرة (زمن الخبرة)(1/354)
إذا كانت دراسة المكان تعتبر نقطة ارتكاز مهمة لمعرفة خلفيات النص الأدبي ومقاربة جمالياته بعمق، فإنّ دراسة الزمن هي الأخرى، لا يُعدم دورها المهم في هذا الفهم؛ إذ تُعدّ معرفة السمات الزمنية التي تنهض عليها القصيدة، منفذا هاما لمقاربة النص وفهم دواخله، والإحاطة بواقع التجربة من منظورها الفني والمعرفي. هذا إضافة إلى أن الشعر فن زمني؛ باعتبار أن أداته هي اللغة، التي هي تشكيل زماني؛ كونها تتابعا زمانيا لحركات وسكنات منتظمة في نظام اصطلاحي واجتماعي. كما أنّ "رصّ الكلمات بعضها إلى جوار بعض يتضمن فكرة الحركة والتتابع والصيرورة"(1). والشعر –نفسه- فن لا يتم تذوقه إلا تحت قانون الزمن. لأنه عمل غير سكوني. هذا شأن الزمن مع كل شعر.
ولكن في الشعر الحداثي له شأن خطير؛ إذ فيه تكمن أسرار الوجود، وفي معينه يتحرك الكون كله(2). وتجربة الحداثة لها ارتباط وثيق بتجربة المدينة، كونها رمزا للمكان الذي تتجسّد فيه مجموع التناقضات التي تكتنف الحياة المعاصرة، وتتفاعل في رحمها.
وبما أن قيمة الوقت تتحكم في علاقات المدينة وحضارتها، فإن الشاعر نفر من قضية الزمن؛ نظرا للعلاقة الوثيقة بين التمّرد على المدينة والثورة على الزمن والخروج من أسواره(3)، مما يترادف معه المكان بالزمن ويتقمّصه، ليؤلفا معا بُعدا شعريا جديدا، ولحظة كينونية متخمة بالرفض والحلم.وهذا من شأنه أن يجعل العيش في المدينة (المكان) ركوبا في قطار الزمن بكل ما فيه من تسارع أو تباطؤ، سير أو توقف، أمل أو إحباط .
__________
(1) - د/نعيم عطية : دلالة الزمن في الرواية الحديثة، مجلة (المجلة)، ع170، فبراير 1971، الهيئة المصرية للتأليف والنشر، ص 19.
(2) - ينظر: د/ عدنان حسين قاسم : لغة الأشعر العربي، ص 79.
(3) -ينظر: محمود شريح: تجربة المدينة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر، ع10، شباط 1981، ص 91.(1/355)
فتجربة الشعر الحديث هي تجربة الزمن العربي الحديث بكل آلامه، وطموحاته، تناقضاته وتحوّلاته، انتماؤه إلى الماضي ثم محاولة التمرّد عليه وإحداث القطيعة معه. كسر سياق الزمن الموضوعي وتعاقبيته، وخلخلة نموّه المنطقي المنتظم في مستوياته الثلاثة المتعارفة (الماضي، الحاضر، المستقبل)وتداخلها، وامتزاجها بصورة دينامية، والنزوع نحوتأسيس زمن جديد على أنقاضها(1)-أي المستويات الثلاثة- هو زمن الانقطاع المعرف،في زمن الاختزال والاختلال، زمن الرؤيا والحلم، زمن الواقع المحتمل والوجود المستتر بسريريته وغموضه، زمن الدوام المتعاقب والثبات الدائم. وزمن الانفلات من عقال الآنية، زمن العودة، كما انه زمن الانتظار والتوقّع.
__________
(1) - لأنه أدرك أن " الحركة الثلاثية للزمن تحدد مسار الإنسان المغلق، وتنحدر به إلى ارض السكوت" التي يحاول الفنان مقاومتها بكل ما أو تي من قوةينظر : (الكتاب المقدس) (العهد القديم) : المزامير 115/17.(1/356)
و(وعي الزمان) هو إحدى أهم خاصيات الوعي في قرننا المتمدن هذا، وخصوصا بعد أن اصبح الزمن من إحدى أهم أكبر الإشكاليات في الفلسفة(1)، والتي لا غنى لخطاب الشعري المعاصر عنها، والعكس يصح(2)- باعتبار الشعراء هم أكبر معلمي الفلسفة، وبخاصة حين يتعلق الأمر بمحنة إنسانية لها طابع الديمومة(3)- و"محنة الشاعر المعاصر تنحصر في التوقيت المكثّف"(4)، والإيقاع المتسارع لوتيرة الزمن الذي فرضته حياة المدينة الحديثة.
__________
(1) - ينظر: خير منصور: أبواب ومرايا : مقالات في حداثة الشعر، ص 65.
(2) - يقول الناقد وفيلسوف علم الجمال الألماني (شيلينغ) بصدد أصالة الشعر وأسبقيته على الفلسفة : "عن الفن أكثر من مجرد أداة، إنه مستند الفلسفة الحقيقي، وبما أن الفلسفة ولدت في الشعر، فلا بد أن يأتي يوم تعود فيه على الأم التي انفصلت عنها ": أنظر : دني هو يسمان : علم الجمال، ص 69، إلى الأم التي انفصلت عنها " . أنظر : دني هو يسمان: علم الجمال، ص 69، تر/ ظاهرة الحسن، منشورات عويدات، ط2، بيروت 1973. ويقول (برغسون)ا لفيلسوف الزماني بامتياز : "ما من أحد كالشاعر يحس بالزمان" ويذهب غاستون باشلار إلى ما هو أبعد من ذلك حين يقول : كم سيتعلم الفلاسفة لووافقوا على قراءة الشعراء "ينظر : خير منصور أبو اب ومرايا، ص 72"
(3) - خير منصور : أبو اب ومرايا، ص 72.
(4) - جلال الخياط : الشعر والزمن، دار الحرية للطباعة، بغداد 1975، ص 10 .(1/357)
والحق أنّ الزمن لا يمكن أن ينفصل عن المكان؛ ذلك لأنّ كلاّ منهما يستدعي الآخر، ويستوجب حضوره، بسبب تلك اللحمة الخفيّة القائمة بينهما. وإذا كانت هجرة الشاعر العربي المعاصر من الريف إلى المدينة هي هجرة في المكان، فإنها أيضا هجرة في الزمن، ذلك لأنه"لا يجوز أن تنشأ الهجرة، من مكان إلى مكان آخر، إلا داخل إطار الزمن"(1).
والزمن لا يمكن إدراكه –وفق هذا المنطق- إلا داخل إطار المكان، وبه، لأننا"عندما نغيّر الزمان بفضل آلات الضبط الخارجية إنما نقيسه بواسطة المكان أي بالمسافة التي يقطعها العقرب، وهويدور حول ميناء الساعة"(2)، ونقيسه بمقدار وطول العشب الذي ينمو-في الطبيعة- ونقيسه أيضا بمقدار تأثيره على أجسامنا كمكان. إننا نستطيع أن نقيس الزمن وندركه بواسطة الأمكنة التي نتواجد فيها. وإحساسنا به يختلف: قوة أو ضعفا، شدة أو رخاوة، خفة أو ثقلا تبعا لاختلاف هذه الأمكنة ومدى حبنا لها وقربها من أنفسنا أو مدى كرهنا لها وبعدها عنا، فإحساسنا به في الطبيعة عكس إحساسنا به في المدينة، وفي المسجد عكس قاعة السينما، وفي السجن عكس المنزل وهلم جرا.
__________
(1) - عبد المالك مرتاض : بنية الخطاب الشعري (دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمنية)، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1986، ص170.
(2) - سمير الحاج شاهين: لحظة الأبدية (دراسة الزمان في أدب القرن العشرين)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1980-ص 180.(1/358)
فإذا كنا"نحن كائنات في الزمن"(1) فإن هذا الزمن ليس ِبمُدرك إلا داخل إطار المكان، ذلك لأن هذا الأخير أسهل إدراكا من سابقه؛ لكونه أكثر مباشرة، وأشد التصاقا بنا، وأقل تعقيدا، فنحن "ندرك المكان بواسطة أعضائنا الجسدية، بالرؤية أو اللمس، لكن الزمان بأي حاسة نعيه ؟ وكيف لنا أن نقيس الطاقة الخفية لا نستطيع أن نحدد صفة واحدة من صفاتها، الوقت يجري نعم. لكن بأي مقدار. لكي نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال يجب أن يمر الزمان بإيقاع واحد عند الجميع وهذا ليس حاصلا"(2)أبدا، إنه نسبي، يختلف الإحساس به-كما أسلفنا- من مكان لآخر، ويختلف إدراكه من شخص لآخر، تبعا لدرجة وعيه، ولثقافته ثراء أو ضحالة، ولأفقه اتساعا أو ضيقا. فكلما ازداد حظ الإنسان من الثقافة والوعي، كلما ازداد إحساسه بقهر الزّمن، وإدراكه لخطورته وجبروته الجارف.
ولما كان الشاعر المعاصر من أكثر الناس وعيا وثقافة- نظرا لما يستدعيه هذا الشعر- فإنه من أكثر الناس إدراكا لقيمة الزمن، ومن أرفعهم إحساسا به، وبما ينطوي عليه من فاعلية وتوتر ودينامية قلقة، تُشعّ خطرا ودهشة، ورعبا وقلقا، فـ"الشعراء الآن أكثر إحساسا بكون الآدمي ضحية الزمن الوحيدة إذا ما اعتبرنا الوعي بالجلاد هو أصل المشكلة"(3).
فالشاعر مُطالَب بهذا الوعي، لأنه صانع حياة، ومدرِك بأن "أكبر خطر يحيق بالإنسان، وأعظّم مصيبة تحلّ عليه، هو أن يعيش غافلا عن الوقت، هو أن يحيا دون أن يشعر بالزمن، لأن هذا يعني الموت ذاته"(4).
__________
(1) - محمد الأسعد: اللغة في حالة الزمن، الناقد، ع33، آذار / مارس 1991، س3، ص 38.
(2) - سمير الحاج شاهين : لحظة الأبدية، ص 180.
(3) -خير منصور: أبو اب ومرايا، ص 72.
(4) - سمير الحاج شاهين : لحظة الأبدية، ص 181.(1/359)
هو -إذن- مُطالب بادراك الزمن، لكن بكيفية أعمق، قد لا تكون عقلانية أو منطقية، ولكنها شعرية صميمية، وسريرية متصلة بالروح، ومحكومة بتسلسل إيقاع الحياة الداخلية، وتناغمها وانظامها. وهنا مكمن اختلاف تجارب الشعراء إزاء الزمن ونظرتهم إليه، على الرغم من أنهم قد يتواجدون في المكان الواحد نفسه.
قد يكون في وسعنا تصوّر الأشياء خارج تيار الزمن، لكنه ليس بمقدورنا -والحال هذه- إدراك حقيقة الوجود الفعلي للإنسان والأشياء، وليس في مقدورنا التعرف على تجليات الوعي الإنساني؛ ذلك لأن الزمان ضرورة حتمية لتواصل وتيرة حركة الوجود، سواء بمعطياته الداخلية أو الخارجية، باعتباره وقود الحياة، ومادة النشاط الإنساني؛ إذ فيه وبه يتم الهدم والبناء، التقدم والتأخر . ... فهولا يتوقف، إنه يتسم بالحركة والانسكاب والتتابع والديناميكية ...
من أجل هذا فإن التجارب التي نريد تحديد بعض معالمها، والوقوف على بعض مظانها، تَرِدُ مقترنة بالزمن. وهذا يعني أنه من الصعوبة بمكان، بل من المستحيل فصلها عن إطارها الزماني، الذي لا يمكنه هو الآخر الانفصال عن إطاره المكاني. لذلك سنحاول تحليلها منطلقين أساسا، من تحديد طبيعة وأشكال الأزمنة التي تطرحها التجربة الشعرية، وبخاصة في علاقتها بالإنسان في المكان(1).
على الرغم من أن الزمن –واقعيا وموضوعيا- لا يتوقف، وأنه دوما متحرك منسكب، تعاقبي، ودينامي، إلاّ أنّ الذات الشاعرة لسبب ما – قد يكون حضاريا في أحد جوانبه، وحياتيا في مجمله- قد تستشعر توقُّفه وتحجّره، بل وتكلسّه.
1-الزمن المتحجّر:
__________
(1) -* يمكن دراسة الزمن في الشعر من زوايا مختلفة، وجوانب عديدة جدا قد يتمثل بعضها في: دراسة زمن القراءة، زمن الكتابة، الزمن الخارجي، الزمن الداخلي، زمن الإيقاع والنغم ... وغيرها . ولكننا سوف نقتصر على ما ذكرنا فقط، أي علاقة الزمن بالإنسان في المكان ...(1/360)
إن المدينة العربية الحديثة، التي جاءت كنفيّ لعالم الريف الرازح تحت عبء تخلّفه، والمتثاقل في حركة تطوّره، وقامت على أنقاضه، محتلة دوره، فأوهمت الشاعر بإمكانية تحقيق حلمه في التطور والتقدّم الحضاري، لم تكن في حقيقة أمرها تحمل إلا خيبة وانكسارا، ولم تكن إلا مثالا للجمود والتحجّر، والتوقف الذي هو رديف الموت وصنوه، يجسد خليل حاوي هذا التوقف الزمني في قصيدة (الكهف)(ديوان بيادر الجوع : 1961-1964) فيقول:(1)
وعرفت كيف تمطّ أرجلها الدقائق
كيف تجمد، تستحيل إلى عصورْ
ثمة تجسيد اعري لحسّ الضياع، الذي ينبثق من خلال اللعب على وتر جدلية الحضور والغياب، الحضور الزمني المتجمد -بمأساته- والغياب الزمني المتحرك -بألقه- الذي يبتغيه الشاعر من أجل تلطيف واقعه المتحجر، وتأكيد استمرارية حياته.
يواجه الشاعر سكونية زمانه، المحكوم بتراجيديا اللحظة المتجمدة بحسّ ممتلئ بالحياة المشحونة بحدة التجربة المعذّبة، والوجود الإنتشائي الثّر، المقاِوم لكل استلاب أو مصادرة لرغبة الشاعر في الحياة. ولكن يبدوأن إسار الواقع كان أكبر من أن يُقَاوَم، وزمنه كان أكثر تحجراً وتثاقلاً؛ وعليه فالمعاناة ما زالت مستمرة، في انتظار ميلاد جديد، يقول في قصيدة (وجوه السندباد):(2)
غِبْتَ عنّي
والثواني مَرِضتْ،
ماتت على قلبي،
فما دار النهار،
... ليلنا في الأرز من دهرٍ تُراه
أم تراه البارحهْ ؟
__________
(1) - المجموعة الكاملة، ص 279.
(2) - المجموعة الكاملة، ص 195.(1/361)
إن ما ذهب إليه أحد الباحثين بشأن هذه الأبيات في قوله(1): "إن هذا التجميد للماضي انتصارا على الزمن" مُجانِب للحقيقة، فتجميد الماضي –هنا- هو تعبير عن واقع استلابي، وتجسيد لموت الأشياء من خلال تجمّدها وتوقفها عن الحركة، مما يعني فقدانها القدرة على مواصلة الحياة، ومواكبة صيرورتها المتدفقة. إنّ الانتصار على الزمن لا يتم بهذه الكيفية، ولكن له أشكال أخرى قد تتمثل في : التشبث بزمن الطفولة، أو الارتماء في أحضان زمن الأبدية (الصوفي والأسطوري)، أو الوقوع في دائرة اللاّزمان (اللاّشعور) وغيرها من الأشكال. فمشكلة الشاعر هنا ومأساته، هي ليست تجميد الماضي، بقدر ما هي كامنة في غياب التطور الذي يجب أن يصاحب الانتقال من الماضي إلى الحاضر؛ فتواجد الشاعر في الحاضر؛ لم يصحبه أيّ تطور أو تحول يدلّ على أنّ الزمن يسير. الحياة متوقفة وكأن الشاعر لم يبرح ماضيه بعد. غياب ملامح التطور في الواقع العربي-المتبدية في المكان- عبر انتقاله من الماضي إلى الحاضر، هو الذي أو حى بمثل هذه الرؤية المأساوية للزمن، فعنصرا الزمن : الاستمرار والتغيّر قد عطّلا.
يرفد هذا التصور قوله في موضع آخر من قصيدة (الكهف) ديوان بيادر الجوع(2):
هذه العقارب لا تدور،
ربّاه كيف تمطّ أرجلها الدقائق
كيف تجمد، تستحيل إلى عصور !
__________
(1) - إحسان عباس: اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ص 86.
(2) -المجموعة الكاملة، ص 288.(1/362)
إنّ ضجر الشاعر سببه توقف زمنه الحاضر (العقارب لا تدور)، ومطّاطيته، وتجّمده، وهوناتج أساسا عن ضحالة الحياة النفسية التي يعيشها، والواقع المتأزم الذي يحياه، فالإيقاع البطيء للزمن يسبب الضجر(1)، وضحالة الحياة تجعله بطيئا. فالزمن كنسيج لحياتنا الداخلية تنساب فيه هذه الأخيرة "كما تنساب المياه في مجرى النهر، سريعة عندما تكون زاخرة تملأ ضفتيه وتدفع تياره بزخم، وبطيئة عندما تكون ضحلة، تمضي متمهّلة لا يميز الناظر بين سيرها ووقوفها"(2)(.
إنّ هذا النوع من الزمن، هو زمن ذاتي، خاضع لتيار النفس الداخلي، ولكنه أيضا محكوم بمنطق الواقع الخارجي، الذي لا يَبِين عن أي تطور من المفروض أن يحدثه الزمن عبر تعاقبيته. تتقاطع في هذه الرؤية الضجرة بواقعها، المتبرمة بتثاقل زمنها، سواء الماضي منه أم الحاضر، معظم الخطابات الشعرية المعاصرة، وبخاصة في ارتباطها بالمدينة (المكان)، والتي كانت تحمل حلم التغيير، وأمل التطور، يقول السياب:(3)(
بغداد كابوس : ردًى فاسد
يجرعه الراقد
ساعاته الأيام، أيامه الأعوام، والعام نيرْ ...
ويقول أحمد عبد المعطي حجازي:(4)(
بغداد درب صامت، وقبة على ضريح
ذبابة في الصيف، لا يهزّها تيار ريح
نهر مضت عليه أعوام طوال لم يفضْ
ويقول محمود درويش:(5)
اغتسلي يا دمشق
ليولد في الزمن العربي نهار.
وتقول(ربيعة جلطي) في قصيدة (معايدة) بشيء من التهكّم الساذج، مبينّة حلول الحَوْل، ودخول السنة الجديدة، دون حدوث أدنى تغيير يذكر، متمنية أن يحمل العام الجديد بعض التغيير والحل للمشاكل العالقة، وألاّ يكون كسابقه فتقول:(6)
تحلّ السنة الجديدة، وبمناسبة هذا
الحلول المبارك، أتمنى أن تحل جميع
__________
(1) - ينظر : سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، ص 256.
(2) - م. ن،ص 15.
(3) - الأعمال الكاملة 1/449.
(4) - الديوان، ص 181.
(5) - الديوان، ص 535.
(6) -ديوان : شجر الكلام، ص 51-52.(1/363)
مشاكلنا الصغيرة والكبيرة، وتكون
الحلول المباركة فورية ومُرضية
أتمنى أن تجد سكنا أفضل
أتمنى أن تجد عملا و ...
أتمنى أن تتخرج من ... كما أتمنى أن..
أتمنى أن تتمكن من.. وقت.. وأن ...
... ... ... ... ...
عام آخر على الدنيا
أم على الدنيا سلام
أم على الدنيا ... ؟
أما صلاح عبد الصبور، ففي قصيدته (تكرارية) التي تضّمنها ديوانه (الإبحار في الذاكرة). فلم ير إلاّ أشكالا وصوّرا واحدة تتكرر، لا تحمل أي جديد على الرغم من مرور الزمن وتعاقب آناته، وهذا من شأنه أن يوحي بتوقّفه:
الليل، الليل يكرر نفسه – ويكرر نفسه
والصبح يكرر نفسه
والأحلام وخطوات الأقدام- وهبوط الاظلام
وهبوط الوحشة في القلب مع الاظلام
رعشات الأوردة المثلوجة المحروره
ورفيف الرايات المنصورة والمكسوره
وقصص القتلى والقتلَه
وفكاهات الهزليين وهزل الفكهِيين
وضجيج الطرقاتْ
وجنازات الأمواتْ
حتى سأم التكرار يكرر نفسه ...
تتمرد بعض المدن على التكرار
وتحاول جاهدة أن تتشبه بالمدن الأحلام أو ...
المدن الآثار كما تحكى عنها الأصنام أو
المدن اليوتوبيا المرسومة من عبث الأقلام
أوالمدن المرسومة في كهف مرايا الله
ظلاًّ دون قوام
يتمرد بعض المكرورين على التكرار
... ... ... ... .
لكن الريح ... الشمس ... الأمطارْ
تسلمهم للتكرار
... ... ... ... .
لا تُبْحِر عكس الأقدار
واسقُطْ مختاراً في التكرار(1)
تأتي الخطابات الشعرية السابقة- في مجملها، وعلى الرغم من بعض التفاوت في حدة الإحساس بالفجيعة- لتجسد حاضرية الزمن العربي، زمن التيه والمعاناة النابعة من هو اجس البحث عن إيقاع أكثر سرعة للزمن، عن زمن حيوي متدفق، يحمل أمل التغيير، ويطرد ألم الضجر والسأم .
__________
(1) - ديوان الإبحار في الذاكرة، دار العودة، ط3، 1982، ص 70-74.(1/364)
إن جمود الزمن العربي الراهن، وتأخّره عن الركب، هو الذي كثّف من إحساس الذات الشاعرة بالوقت، وطبعه بطابع المأساة وأشاع فيه نوعا من الحس بالفناء، فالحس بالوقت- كما يرى أحد الباحثين- "يحيا في الجمود، ويموت في الحركة. نشعر بالفناء كلما تباطأ، وبالوجود كلما تسارع"(1)، ففراغ الحياة وخلوها من المعنى، وانعدام التجديد فيها، يزيد من حدة الإحساس به، ووطأة معاناته؛ فنحن "نحس بوطأته وننوء تحت عبئه المرهق منسحقين تحت عجلاته البطيئة الصلدة، عندما تتشابه أجزاؤه وتتوحّد، وتترابط، ويصبح لها وزن" (2)(. ففي الكآبة يتمطّط ويتمدد، أما في أو قات الفرح فإنه يتقلصّ. وليس هناك ما هو أكثر من الشاعر- عموما والشاعر العربي خصوصا- باعتباره لا يتوقف عند سطوح الأشياء وقشريتها، بل يلج إلى باطنها ويتعرف على حقائقها وفجواتها، ويستشعر أخطارها قبل غيره.
قد ترى النظرة المتسرعة العجلى في هذا النوع من الزمن، أنه (زمن ذاتي) خاضع لتيار النفس الداخلي، وهذه الأخيرة غير خاضعة لِمترية الزمن الموضوعي-إلا بمقدار- بقدر ما هي خاضعة لمركباتها المتمثلة في الخيال والتصوّر والشعور، وحتى اللاّشعور، حسب زعم فرجينيا ولوف، التي ترى بأنه قد تصبح الدقيقة ساعة، وقد تصبح الساعة دقيقة، متى أقام الزمن في عنصر الروح العجيب(3)، ويوافقها في ذلك بروست حينما يقول: "الزمن الذي يتعلق بنا ونستعمله كل يوم مطّاط، والانفعالات التي نشعر بها تمدّده وتبسطه والتي نوحي بها تقلّصه والعادة تملؤه"(4). قد يصدق ذلك –على الأقل سيكولوجيا- عند الإنسان العادي، لكن عند الشاعر العربي الذي ينطلق في تصوراته-أساسا- من رؤية حضارية، وواقع عقيم يلفّه حس العدم ويكبّله الجمود، فإن الأمر يختلف تماما.
__________
(1) -سمير الحاج شاهين: لحظة الأبدية، ص 212.
(2) - م. س، ص. ن
(3) - هانزمير هو ف: الزمن في الأدب، ص 17-20.
(4) - م.ن، ص.ن.(1/365)
إنّ الحسّ الفجائعي يتوقف بتوقف حركة الزمن العربي وتكلّسه، ليس وليد انفعالات ذاتية ساذجة، أو نتاج تقلّبات مزاجية آنية، بقدر ما هو وعي بخيبة أمل جماعية(1)، وإدراك لواقع حضاري مُهترئ، منشرخ يعاني خواء العدم، ويتجرّع سقم الوجود.
نظرا للوعي العميق بهذه المأساة الوجودية الحضارية، والإدراك العالي المصاحِب لها، والذي من شأنه أن يفرض تأزُّما جديدا(2)، وإمعانا في تجسيد تحجّر الزمن وتكلسّه وفضح عقمه، لجأت الذات الشاعرة إلى استعارة ألفاظ ذات دلالة مكانية للتعبير عن هذا الزمن المكثِّف للإحساس بالفناء، ليتداخل الزمان بالمكان ويتبادلا الوظائف، ويؤلّفا من خلال ذلك بُعدا شعريا جديدا.
2 - إستراتجية الزمكنة:
(أوتداخل الزمان بالمكان):
استعملنا كلمة (استراتيجية)، للتعبير عن التصوّر المكاني للزمان؛ وكونها استراتيجية فهذا يعني-أولا- أنها مؤقتة، فيما هي قابلة للتغيير، و–ثانيا-، أنها مشروع لإيجاد مقياس أكثر تجسيد وتجسيم لزمن يتّسم بالتضخّم والجمود.
قد يكون اللّجوء إلى التصوّر المكاني للزمن، والتشبث به، أو استعارة مدلولاته، حيلة نفسية ينزع إليها الشاعر للتخلّص من سلطان الزمن، والحد من تياره المتدفق، وقهر سطوته لتثبيت لحظات الفرح المنتشي، كما هو الشأن عند الشاعر الجاهلي في البرهة الطللية.
__________
(1) - لأن "الشعر الجيد لا يعتمد على التلاعب الذكي بالألفاظ وإنما على ذلك المزيج الفريد من الانفعال والحس الجماعي الذي يحاول إيصال خبرة عاطفية وعقلية وجمالية حميمية وأصيلة إلى القارئ فتمنحه حسابا لاكتشاف والحبور والإدراك العميق"، ينظر د/ عدنان خالد عبد الله : النقد التطبيقي، سلسلة كتب شهرية تصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية، بغداد، ط1، 1986، ص 41.
(2) - ينظر: كولون ولسون: سقوط الحضارة، تر/ أنيس زكي حسن، منشورات دار الأداب، بيروت، ط2، 1979، ص 86.(1/366)
ولكن الخطاب الشعري المعاصر، يواجهنا بنوع آخر من استعارة المدلولات المكانية للزمن، وببعد جديد من أبعاد الاستعمال المكاني له -أي للزمن- فحداثة هذا الشعر تنبني على مفهوم الزمن المتقدم دوما، الذي لا يتراجع أبدا، الزمن المتحرك، المنشطر، المتمرد على النموذج المثال، والمورث المثال. إنّه زمن مناقض للزمن القديم، من حيث كون هذا الأخير ثباتا واستقرارا، وقياسا معلوم الحدود، متعارفا، خارجيا، مستقلا عن المكان، سطحيا غير منغرز في الذات. هو معاير له، ومختلف عنه، باعتباره داخليا منشبكا بالذات، نسبيا تجريبيا، حاملا لطاقة تحوّل جذري، ملتحما بالمكان، لا يتحقق إلاّ به، إنّه زمن ذريّ انشطاري يشكّل المكان ولا يتشكّل إلا به. إنّه نوع من (الزمكنة)، التي لا هي بمكان خالص، ولا هي بزمان خالص، بل كلاهما، أو هوبحسب تعبير أنشتاين "زمكان (Espace- Temps)".
فإذا كان شاعر التراث يشكومن انفصاله عن الحاضر، فيما هو يحس بالتحام حميمي بالماضي- مُجسَّدا في البرهة الطللية- فإن الشاعر المحدث- كون الحداثة "هي جوهريا وعي ضدّي للزمن، ووعي ضدّي للذات في الزمن"(1) بجميع مستوياته- لا يشعر بأدنى اتصال بأي منها (الماضي الحاضر، وحتى المستقبل(2).
__________
(1) - د/ كمال أبو دديب : الحداثة، السلطة، النص، مجلة"فصول"، مج4، ع3، القاهرة 1984،
ص 35.
(2) - حتى المستقبل – لان الحداثة تحوّل لا يعرف التوقف، وتجاوز دائم، وتقدم مستمر – سيصبح ماضيا ويتأكد انفصال الذات عنه.(1/367)
زيادة على هذا فإن الشاعر المعاصر- في مرحلة أو لى على الأقل – لا يشكومن تدفق الزمن، بقدر ما يشكومن جموده المضجِر، فيما العالم يجري بخطى متسارعة(1)، وعليه فاستعماله لمدلولات المكان للتعبير عن الزمن، أو تصوره المكاني للزمن،هوتقنية فنية لإخراج الزمن اللاّمرئي-عادة- إلى حيّز المرئي، ولتجسيد مطاطيته وكهفيته، ومواته. فعندما يقول خليل حاوي في قصيدة (السجين):(2)(
ردّ باب السجن في وجه النهارْ
كان قبل اليوم يغري العفو/ أو يغري الفرارْ
قبل أن تصدأ في قلبي الثواني
لا صدى تُحصيه، لا حمّى انتظارْ
قبل أن تمتصني عتمة سجني
قبل أن يأكل جفنيَّ الغبارْ
قبل أن تنحلّ أشلاء السجين
... ... ... ... ... ... ... ...
كيف تُخضرّ خيوط العنكبوتْ
تتشهّى عودة للموت/ في دنيا تموت؟
عندما يقول هذا، فإنما يواجهننا بنوع متداخل من الزمن بالمكان، ليقذف بنا في بعد جديد، هو بعد "الزمكانية". إنّ ما يصدأ هو الجسم المعدني- وهوحيز مكاني- وصدؤه دلالة على قدمه، وانعدام أو تراجع فاعليته، أو تعطّله إن كان مَيْكَنَة. ونقل هذه الخاصية المكانية (الصدأ) إلى الثواني(الزمن) هو تجسيد لزمن معطّل، يطرق أبو اب الموت ويقف على عتباته، فإذا هو – لاحقا- يتمطى في أعضائه عضوا فعضوا:
كل ما أذكره أنّي أسيرْ،
عمره ما كان عمرا
__________
(1) - يرى (بول فيريس) أن سبب تأخر العرب هو تجمّد زمنهم ووقوفه محنّطا ميتا، في وقت أصبحت فيه السرعة اليوم هو الذي يمتلك صنع التاريخ، ويمتلك أن نمتلك الزمن"، ولذلك فلا يغترن العرب اليوم كونهم مازالوا يحتفظون بأراضيهم، فهذا لن يغني عنهم شيئا في ظل سيادة وحضور منطق السرعة التي أصبحت استراتيجية العالم المعاصر. وبفضل ما لها من إمكانية في تقليص المسافة، فإنها تعد نفيا للمكان، وهكذا يتراجع المكان، ليسود نوع من اللا مكان،
... ينظر: Paul Virilis " Vitesse et Politique Edition gallilée, paris 1977-P :102.
(2) - المجموعة الكاملة، ص 73-74.(1/368)
كان كهفا في زواياه/ تدِبّ العنكبوت
والخفافيش تطيرْ
في أسى الصمت المريرْ
وأنا في الكهف محموم ضريرْ
يتمطّى الموت في أعضائه
عضوا فعضوا، ويموتْ
كل ما أعرفه أنّي أموتْ
مُضغةً تافهةً في جوف حوتْ.(1)(
"الكهف الضرير"، "جوف الحوت"، و"السجن" آنفا، كلها رموز مكانية مظلمة، مرعبة ورهيبة، معزولٌ من دخل إليها ومغضوبٌ عليه ومعاقب، هي موت معنوي في (الكهف والسجن) ومادّي في (جوف الحوت)، حقا هي رموز مكانية متباعدة طبيعيا- وإن كانت تشترك فيما ذكرنا من صفات- ولكنها كلها تجسيد لواقع استلابي واحد، ومعاناة فجائعية لزمن كهفي مظلم. ولعلّ "أخطر ما في هذه المعاناة أن ذات الشاعر لم تعد تخاطب زمن الواقع بزمان أعقل وأقوى- فهوالآخر زمان يموت في الداخل. زمان الفكر وزمان الواقع في صراع لا يتناهى، بدون مفاجأة التغيير الأكبر"(2). إلا أنّ صراع هذين الزمنين من شأنه أن ينشأ عنه ردّ فعل كلّ منهما اتجاه الآخر، عبر خلق نوع من الحركة للزّمنية الثانية باتجاه مضاد للحرة الأولى، متزامنة أو متعاقبة معها، وطبيعي أنّ "تعاقب ردّي فعل متعاكسين يجعل من الضروري كبت أحدهما"(3)- كما يقرر ريفير (Rivers) للحفاظ على قدر أدنى من التوازن النفسي، من خلال المراوحة بين لعبة الوظائف، ولذلك يبقى زمن الفكر- نظرا لقوة ردة فعل زمن الواقع- مكتوما إلى حين حدوث المعجزة، وتتواصل معاناة الشاعر ليقول في قصيدته (حب وجلجلة):(4)
وإذا الليل على صدري جلاميد،
جدار الليل في وجهي
وفي قلبي دخان واشتعال،
آه ربي !صوتهم يصرخ في قبري:
__________
(1) - خليل حاوي : المجموعة الكاملة- ص: 67-68.
(2) - خليل أحمد خليل : فرادة التشخص في تخاطب الأنا / الآخر، مجلة "الفكر العربي المعاصر، ع26، 1983، ص 48، عدد خاص (بخيل حاوي).
(3) - غاستون باشلار : جدلية الزمن، تر/ خليل احمد خليل، ديوان المطبوعات الجامعية –الجزائر، 1983، ص 43.
(4) - المجموعة الكاملة، ص 101-102.(1/369)
تعال ! !
كيف لا أنفض عن صدري الجلاميد
الجلاميد الثقال
كيف لا أصرع أو جاعي وموتي
كيف لا أضرع في ذل وصمت:
ردّني، ربي، إلى أرضي"
"أعدني للحياة"
ويقول في قصيدة (سجين في قطار):(1)(
سجين في قطار
ما درى ما نكهة الشمس،
وما طيب الغبار
ورشاش الملح في ريح البحار.
لا يخفى ما يحمله المقطع الأول من إيقاع أسطوري مكثّف، وتمازج ما بين البدائي والحضاري، الإيماني والإلحادي، الأمل والقنوط. وهي ثنائيات ضدية تجسّد حس المعاناة، وترفد جحيم القلق من الحاضر والمستقبل. ولكن ما يهمنّا هنا، هو ذلك التصوير المكاني للزمن، فإذا الليل جلاميد ثقيلة تَرِين على صدر الشاعر فتكاد تخنقه، وإذا هو جدار، أو له جدار يحول بين الشاعر ومحاولة تحرره.
أما في المقطع الثاني، فإنّ القطار هو رمز للزمن، ولكنه زمن مظلم؛ فهوقطار بلا نوافذ يمكن أن تكفل للشاعر الاطلاع على العالم الخارجي، ومعرفة (ما نكهة الشمس وطيب الغبار ورشاش الملح في ريح البحار)، إنه بالسجن أشبه – وهنا ندرك أنه ليس عبثا عَنْونة القصيدة بـ"سجين في قطار"- إنه زمن التوقف واللاّ معقول، بل إنه زمن السجن، والذي تتمثل إحدى أبرز خصائصه في قضائه"على الحركة أهمّ مظاهر الزمن الطبيعيّ. وبموتها تموت فسحة الفعل التي يضطلع فيها الفرد بوظيفته الاجتماعية ويمارس معناه البشري الإنسانيّ، أما هذا الزمن الساكن الوقف فهوالذي يكثّف حضور الفرد في الذات على حساب حضور الكائن الاجتماعي فيها"(2). إنه الانفصال عن الهيئة الاجتماعية والتقوقع على الذات، وهذا من شأنه أن يُصعّد من الإحساس بتضخم الذات، ويعمق من معاناة الآنات الزمنية الحاضرة، فيما هو منفصل عن الماضي، غير آمل بالمستقبل:
في مداه لا غَدٌ يشرق.
لا أمسٌ يفوت
__________
(1) - م.ن، ص 198-199.
(2) - عبد الصمد زايد: مفهوم الزمن ودلالته في الرواية العربية المعاصرة، الدار العربية للكتاب، الجماهرية الليبية، ط1988، ص 268.(1/370)
غير آنٍ ناء كالصخر على دنيا تموت(1)(.
إنّ ما يقلق حاوي حقا، هو الشعور بتوقف الزمن الحاضر، وهذا يتأتى من الإحساس المتضخم بالآن، لأن الآن – كما يرى كل من أرسطووأفلاطون- "لا تجري فيه حركة، وبالتالي لا يكون فيه جريان للزمان. فالشعور بالآن لا يتم حقا إلا في حالة القلق الهائل. وهذا ما يفسر لنا لماذا نشعر بطول الزمان جداّ في حال القلق والخوف، بينما نشعر بقصره كلّ القصر في حال الأمن والسرور"(2)(.
إن الشاعر غير قلق على ماضيه –بقدر ما يخشى تكرّره في المستقبل- بل إنه قلق على مستقبله، ولكن هذا القلق يتم في الحاضر، في الآن، ليؤكد فينا حس العدم، أو كما يقول كيركجورد :" إننّا لا نقلق من مكروه ماض، إلا خوفا من تكراره في المستقبل. وعلى هذا فالقلق يرتدّ في النهاية إلى المستقبل. ولكن هذا هو ما يبدوظاهرا ولأول وهلة، أما إذا تعمقنا معنى القلق، فإننا نجد أنه، وإن أشار إلى المستقبل، فإنه يقوم في الآن الحاضر، على أساس هذا العدم الذي يثير القلق شعورنا به : فإن الشعور في هذه الحالة يتعلق بلحظة ذات كيان، إنما ببرهة لا سُمْك لها إطلاقا، وهي ما نسميه الآن"(3). ومعروف عن حاوي أنه لا يكترث بالماضي كثيرا –كما هو الشأن عند السياب- بقدر ما يهمّه المستقبل، الذي يتمظهر في شكل قلق في الآن الحاضر. وتستمر معاناة الشاعر ليظل الزمن عنده (مهد ولحد، قبر ورحم)، أمْكِنة متعددة لكن المعاناة فيها واحدة، كلها تحيل الشاعر إلى كائن ممتقع ممسوخ متداع، قانط في جدران الوجود المغلق المقفل(4)(.
__________
(1) - خليل حاوي : المجموعة الكاملة، ص 65.
(2) - عبد الرحمن بدوي: الزمان الوجودي، دار الثقافة، بيروت، لبنان، ط2،1973، ص 174.
(3) - م. س، ص 30.
(4) - إيليا حاوي : قراءة في شعر خليل حاوي: مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 26- 1983، ص 30.(1/371)
إننا نعثر عليه في جل دواوين حاوي، ابتداء من (نهر الرماد) حتى (بيادر الجوع) ويتجلى أكثر في قصيدة (ليالي بيروت)- وهي رمز لحال كل المدن العربية- "حيث يبدوالسأم وحشا يزحف من كهف المغيب ويلف الشاعر المحموم والحي الكئيب وحيث تغاوي الذنوب ويقع الإنسان تحت وطأة صليبية يمتهن الخطيئة، بله الجريمة كردة فعل على بلادة الزمن وتزجيّه الخاوي ويديه المسبلتين وعزمه المتراخي وامتناع الجدة في قلبه"(1)(.
إن هذه المزاوجة بين الزمن العربي الراهن -المتوقف- وحاضر المدن العربية، هو نوع من التداخل بين المعطى المكاني بالمعطى الزماني، ينبئ عن وعي عميق وحس دقيق بضرورة هذه المزاوجة؛ فالزمان كحركة، أو بالأحرى علامة على الحركة وذات علاقة بها، لا تتم إلاّ في المكان، كما أن المكان لا يتم إدراكه إلاّ في الزمن، أي الزمن. هذا فضلا عن أنهما يتبادلان التأثير والتأثر، إنهما نتاج بعضهما، فرداءة الزمن(2)- إن جاز التعبير- تُردي المكان وتؤخر تطوّره، وتبغضه إلينا، كما أن كراهيتنا للمكان تشعرنا بثقل الزمن وتوقفه، كما رأينا عند حاوي في تصويره لليالي بيروت المحمومة جنسا وشهوة، وهوفي هذا يبتغي سيادة ليالي الريف أو القرية ( البساطة والروحانية والتعفّف)، لا شعوريا على الأقل.
__________
(1) - م .س، ص 30.
(2) - مثل زمن الحروب، وزمن الكوارث والخطوب.(1/372)
إنّ هذه القصيدة-كما هي غيرها من قصائد حاوي- تصوّر لنا نوعا من التمزق بين موقعين مكانين (الريف، المدينة)، وهذا بالضرورة يؤدي إلى التمزّق بين نوعين زمانيين(الماضي، الحاضر)، أو كما يعبر (سامي سويدان) التمزق بين "(هنا) و(هناك)، بحيث يأتي التشكل المكاني مطابقا للتشكل الزماني في تشديد المعاناة وسدّ دروب النجاة"(1)، وهذا التمزّق ينتهي برفض الشاعر لكلا الزمكنين – المكان والزمان الماضي لاستحالة الرجوع إليهما واسترجاعهما، والمكان والزمان الحاضر لأن الذات تمقتهما- "واختياره الإبحار والبحث المطلق"(2)( زمانيا ومكانيا.
ويلتقي السياب- في مقاطع قليلة في بعض قصائده- في هذا التصوّر المكاني للزمان مع حاوي، لكن ليس من حيث مسار حركة الزمن الدائرية عند السياب- المنحصرة بين لحظة الميلاد والموت- والانفتاحية عند حاوي- البحث عن الزمن والمكان المطلق- بل في كونه يعتبر عند كلٍّْ منهما زمنا فجائعيا، يرتبط بمكان فجائعي هو الآخر (مكان وزمان المدينة)، فهذا السياب يقول:(3)(
إليك يا مدينة السراب، يا ردى حياتها.
عبرت أو ربا إلى آسيه
وما انطوى النهار ...
كأنما الجبال والبحار
رُبى. وأطراف الساقية
ويقول في قصيدة "المعبد الغريق"، مصوّرا الزمن في شكل أخطبوط، والأزل في شكل شرفة، والموت في شكل سهام يسددها الزمن نحوالإنسان(4)(:
وأرسى الأخطبوط فنار موتٍ ترصد البابا،
سجا في عينيه الصوّراء صبح "كان في الأزل"..
... ... ... ... ... ... ... ... ... .
ففيم غرور هذا الهالك الإنسان، هذا الحاضر المشدود بالأجل؟
أعَمّر ألف عام؟ ليته شهد الخلائق وهي تعبر شرفة الأزل؟
ألا ليته شهد السلاحف: تسحق الدنيا
قياصرها، ويمنع دِرعُها ما صوَّب الزمن
إليها من سهام الموت!
__________
(1) - سامي سويدان: دراسة بنيوية لنص شعري، قصيدة "نهر الرماد"، الفكر العربي المعاصر، ع26،1983، ص 56.
(2) - م. س، ص. ن.
(3) - الديوان : 01/163-161.
(4) - م . س،ص. ن.(1/373)
على الرغم من أن كثيرا من الأفكار التي يحملها المقطع الثاني، لا تخدم الفكرة التي نريد إثباتها(1)- وهي تجسيد جمود الزمن عن طريق تصويره مكانيا- إلا أننا نلفى بعض هذه الصور التي تجسم الزمن، وتخرجه في صورة حيز مكاني، فإذا هو مرة "أخطبوط" ومرة"له شرفه" ومرة يتجسد في شكل إنسان سفّاح لا تخطئ سهامه أحدا. إذن –فالزمن المعنوي- متموضع هنا ماديا ومجسم في أحياز مكانية.
أما في المقطع الأول فإن الشاعر يجسّد الزمن (النهار) في شكل مادي يمكن أن نطويه، ولكنه بديل ثقيل، فهولم ينطوولم يتحرك، وربما بدا للذات الشاعرة كذلك لأنه مرتبط بمكان مكروه، ألا وهوالمدينة. ويؤكد باشلار في هذا الصدد أننا نرغب في تجسيد الزمان ماديا، وفي الفواصل الزمنية التي تقيس تخلفاتنا، عندما نكون مشدودين إلى ملكوت مكان مكروه(2)(.
وانفعالات الإنسان وحالاته النفسية التي تنتابه دون سبب ظاهر كالضجر والقلق والخوف، لا يمكن تبريرها بدون الزمان. إنّ الزمان هو آفاتنا الحقيقية التي تظل في صراع دائم معها(3)(. والضجر والتعاسة التي يستشعرها السياب، والعدمية التي يغرق فيها، مصدرها جمود الزمن، فـ "جمود الزمان وتباطؤه هو مصدر التعاسة لأنه يغرقنا في دوامة العدم. بينما حركة الزمان وتسارعه هي مبعث فرح لأنها تسلمنا لتيار الوجود"(4)(بحسب تصوّر فاليرى. كما أن المكان المكروه يبلّد حواسنا إزاء الزمن ويشعرنا بثقله حتى لنخاله متوقفا.
__________
(1) -كونه يحمل فكرة الخوف من الموت،ويشكوسلطان تدفق الزمن، والذي كلما تقدم يقربه من حتفه. وهوما سوف نتناوله في مبحث لاحق تحت عنوان (وتيرة الزمن المديني وحس التناهي).
(2) -ينظر : غاستون باشلار، جدلية الزمن، ص 41.
(3) - ينظر: سمير الحاج شاهين: لحظة الأبدية، ص 65.
(4) - م. ن، ص.ن.(1/374)
في الحقيقة، إنّ التصور المكاني للزمان- من أجل إثبات جموده وثقله وخوائه- يلتقي فيه كثير من شعرائنا المعاصرين إن لم نقل جلّهم. فنحن مثلا نجده عند صلاح عبد الصبور يتموضع في أشكال لا تكاد تخرج عمّا سبق ذكره، مثل : زماننا الضرير(1)(- حقيقة الدنيا هو ت في كهف / حقيقة الدنيا هي الغلسان فوق الكهف5 – أيام بلا طعم6، الأيام المريضة(2)- قفار العمر والسهوب(3)(- الأيام الجهمة2، وحين يأفل الزمان3، الزمن الميت(4)، الزمن المنحط5، - اليوم المجدب6الزمن الفاتر7- صحراء الوقت(5)- فلا حفر في ماضي الأزمان9- الزمن الشفقي10 - صيحة ديك الوقت11.
كما هو واضح من خلال المعجم الزمني الذي أو ردناه، فإن عبد الصبور، لم يختلف عن سابقيْه في موضعة الزمان وتجسيمه، وتجسيد معاناة الذات ومقاساتها أهواله، إلا في إضفائه عليه نوعا من الذوق والطعم واللّون (أيام بلا طعم، الأيام الجهمة، الزمن الشفقي).
ويصدق الأمر نفسه عند نازك الملائكة، فإذا الزمن عندها غول له ظلال وأياد وأهداب. فضلا عن أنه يقهقه ساخرا – هذا بغضّ النظّر عما يوحي به هذا التجسيم:
ذلك الغول أي انعتاق
من ظلال يديه على جبهتي الباردة
أين أنجووأهدابه الحاقدة
في طريقي تصّب غداّ ميتاّ لا يطاق؟
أين نمشي؟ وأي انحناء
يغلق الباب دون عدوى مريب
إنه يتحدى الرجاء
ويقهقه سخرية من وجومي الرهيب(6)
وهوحينا آخر في شكل (سمكة) ميتة عملاقة:
ومشينا لكن الحركة
ظلت تتبعنا، والسمكة
تكبر تكبر
حتى عادت في حضن الموجة كالعملاق
وصرخت "رفيقي أي طريق
يحمينا من هذا المخلوق؟
لنعد، فالدرب يضيق يضيق
__________
(1) - 5-6- ديوان :أقوم لكم، ص 153-167-162.
(2) 7 -ديوان تأملات في زمن جريح، ص 332.
(3) -2-3- أحلام الفارس القديم : ص: 204-225-244.
(4) 4 5-6-7– ديوان شجر الليل : ص 24-31-49-62.
(5) 8 –9-10-11: الإبحار في الذاكرة، ص83-93-98-99
(6) 12 - الديوان 2/ 79.(1/375)
والظلمة محكمة الإغلاق"(1)(
وهوأيضا، حينا آخر "أفعوان فظيع"، إلى آخر ما هنالك من تجسيمات ولكن ما يسترعي الانتباه حقا، هو هذا الاتكاء الملّح على الجمل التصويرية، والتي تسهم في تكثيف الموقف النفسي وتعمق المعاناة؛ بما تضفيه على الحركة الخارجية من إبطاء، في مقابل حركة النفس الداخلية، التي تحترق توترا، ليتأكد الانفصال ما بين الداخل والخارج، ويتعمق الانشراخ ما بين الزمن النفسي والزمن الميقاتي الموضوعي، بما في ذلك مَكانَيْهما.
وتتبع سلمى الخضراء الجيوسي الخط نفسه في هذا التجسيم المكاني للزمان، فتخاطب زمن هذا العصر، مصورة إياه على أنه:
سكران يرتاد النجوم ويستبيح ضياءها
يغوانفتاح الأفق يبتلع السماوات العتيقة(2)(
ويتخذ عفيفي مطر من الزمان شخصية مكانية، منضيا على تصويره لمحة تلغيزية فيقول(3):
والشمس تولج أطراف الليل في قفازات الأرجون وجوارب
الذهب المسبوك وغير المسبوك
صاعدة هي ومليئة
هابط هو إلى همهمة الخشاش وتلاصق الدويبات
وزواحف السعي
ويقول في موضع آخر بصيغة حلمية، مستحضراً الزمن من خلال إحدى خصائص المكان (سقوف، قريي)، فيقول(4)( :
في سنتي العاشرة
رأيت سقوف الظهيرة تهوي
وتهجر صوتي الخرافة
... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قريي الصيف ويأسى خيمتي.
ويتوافق في هذه الخصيصة الزمكانية كثير من الشعراء، فتقول ربيعة جلطي موفّرة نوعا من التداخل بين دينامكية المساحة وإيقاعية الزمن، فتقول:(5)
الليل شلال قار يسيل
سنديانة تلوح بخواتمها في البحر
لا فانونس
__________
(1) - م.ن 2/246.
(2) - سلمى الخضراء الجيوسي: العودة من النبع الحالم – ص 97.
(3) 4- عن مجلة "الأقلام العراقية" "قراءة"، ع 10، س12، بغداد، تموز 1977، ص 54-57
(4) - محمد عفيفي مطر : "ديوان شهادة البكاء في زمن الضحك"، دار العودة، بيروت، ص 93 وما بعدها.
(5) - ديوان : "شجر الكلام"، ص 41.(1/376)
ويقول محمود درويش في صيغة إشكالية زمكانية، مجسّداً متاهته، مع إقحام نوع من الذهنية التجريدية المغيِّبة للغة المحسوسات، جامعا بين مفارقات : (الليل بظلامه والمرايا بجلائها):(1)
ما الذي يجعل الريح شوكا وفحم الليالي مرايا
ما الذي يجعل القلب مثل القذيفة؟
لقد استطاع من خلال هذه الرموز القليلة أن يقبض على اللاّثبات (الليل بحركته) ويدخله في الثبات (المرايا)، بلغة خيالية تقفز فوق المنطقية الآلية المتعارفة، ومواضعاتها الاجتماعية، وتتمرد على المحاكاة الدلالية التقليدية، التي لا تستطيع أن تصل إلى مستوى الرمز أو "الاستعارة الواسعة"- بحسب تعبير ت.س. اليوت(2) - بسبب إنغرازها في تربة المجتمع وإنشباكها بمواضعاته. وهذا التمرد من شأنه أن يولّد صدمة انفعالية وإشكالية معرفية لدى المتلقي- يصعب توقّعها- إن لم يكن عارفا بخبايا الشعر الحداثي وجمالياته المعرفية والثقافية.
ويأتي الشاعر محمد عمران بصورة (زمكانية)، ذات تفجّر دلالي طريف، مدمرا منطق الوضوح، خالقا نوعا من الفجوة المتوترة بين الزمن كموضوع وكميقات، والزمن كرؤية وإحساس فيقول:
في زماننا المريض
أعدم الغناء
زماننا المصلوب فوق مسطرة
زماننا المهندس النبضي(3)
__________
(1) - الديوان، دار العودة، ط8، بيروت 1981، ص 555.
(2) - ينظر: John Cohen :Structure du langage poétique P : 111.
(3) -مرفأ الذاكرة الجديدة، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص 106.(1/377)
ويختلف أدونيس بعض الشيء في تصويره للزمان مكانيا، عن بقية الشعراء، كونه يلحّ على رصد الجزئيات الفيزيائية للمكان واسباغها على الزمن. ويتجلى هذا الاختلاف أيضا في بعض التمظهرات المخالفة في تشكلاتها لما سبق ورأيناه، بسبب ما عُرف به أدونيس من مبالغة في النزوع نحوالغرائبية التصويرية المدهشة، المعتمدة على حذاقة التلاعب اللغوي- لتأسيس نوع من الأنطولوجيا البديلة للعالم على غرار ما قال به هيدجر، أو تحقيق قفزة خارج المفاهيم السائدة، وإحداث تغيير في نظام الأشياء بحسب رأي أدونيس نفسه(1)- الذي يصل أحيانا إلى حد الانزلاق فيما يشبه العدمية اللغوية والإبهام الدلالي؛ فإذا الزمن عنده (يتحلزن)، وإذا هو هش كالماء، منصوب كالرمح يتقدم نحوالمسافة :
وهنا الضحى يتحلزن
فوضى: صباح لا يرى وألوهة تثوثّن
وإذا هو أيضا عنده هش كالماء، منصوب كالرّمح، يسعى نحوالمسافة التي تتعرى في استسلام:
هكذا تتعرى المسافة
ثم يتقدّم الزمن إلى سريرها
هشا كالماء، منصوبا كالرّمح(2)(.
يتبدى الزمن في المقطع الأول أشبه بالسديم أو بـ "غيمومة الوجود أو السديمية التي تلفّ الأشياء فتحيلها إلى قتامة ليس من اليسير اختراقها"(3)
لكونه قد صيغ من اشكالية مكانية غير واضحة في الحدود رجراجة:
(التحلزن).
__________
(1) - ينظر: أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، ط1، بيروت 1972، ص 9.
(2) -الآثار الكاملة 2/171.
(3) - يوسف سامي اليوسف: الشعر العربي المعاصر، ص 138.(1/378)
وفي المقطع الثاني تتبدى "الأبعاد الزمانية والمكانية كقيم مجردة، تتزاوج فالمسافة أنثى يداهمها الزمان متقدما نحومضجعها، لكن الزمن-عند الشاعر – ذوطبيعة غريبة فهوهش وهشاشته لها شكل أغرب، فهي كملمس الماء، والهشاشة يوصف بها الجسم الصلب والماء السائل، وكأنه يدلنا على أن إمكانية إدراك كنهه تكمن بين هذا وذاك، أو أنه ليس له طبيعة محددة معلومة وبخاصة أن الشاعر يجعل له قامة منصوبة كالرمح، بعد أن أذاب وميع محدوديته وعينيته"(1) وهوأيضا عنده (أي الزمن) مرة أخرى :
تابوت يلبس وجه الطفل
كتاب
يُكتب في أحشاء غراب
وحش يتقدم، يحمل زهرة
صخرة
تتنفس في رئتي مجنون(2) ...
إنه زمن تابوتي وحشي مرعب يتلبس البراءة، وهو"حلقة متصلة من القمع تبدأ بالتاريخ الذي يتراكم كصفائح القبر وتنتهي بالحاضر الذي يجثم على الروح عصرا من الجليد وأرضا يبابا"(3). وإذا هو أيضا شيء يمكن جسّه:
كنت أجسّ الدقائق
أمخض ثدي القفار ...
عقِرت الحصى والغبار
كانت الأرض أضيق من ظل رمحي - متّ(4)
أدونيس مغرم بالمقابلة بين الثنائيات الضدية ثم المزاوجة بينها، فهويعرض أصغر الجزئيات الزمنية بعد الثواني – أعني الدقائق- فيجسّها، فإذا هي بطيئة، ثقيلة خانقة، ويعرض أكبر مساحة مكانية (الأرض ) فهي أضيق من ظل الرمح. إن مقابلته هذه بين المتناهي في الصغر زمانيا والمتناهي في الكبر مكانيا، وتبرمه بكليهما، توحي برعب بالغ يحيط بالشاعر، فإذا المكان ممقوت، ومكثِّف للحس بالوقت ومسهم في الشعور بثقله وتفتته، وإذا هذا الزمن -هوالآخر- مبّرِر لمقت المكان ومسهم في الإحساس بضيقه، على الرغم من سعته واقيا وموضوعيا، إنها أرض كاملة تضيق ...
__________
(1) - د/ عدنان حسين قاسم: لغة الشعر العربي، ص 80.
(2) - الآثار الكاملة 2/481.
(3) - د/ كمال أبو ذيب: الحداثة، السلطة، النص. فصول، ع3، م4، 1984، ص 37.
(4) - الآثار الكاملة 2/33.(1/379)
ويطالعنا في موضع آخر بنوع من المزاوجة الزمانية المكانية أكثر غرابة ودهشة، وأكثر إيغالا في غياهب الرؤية الجنونية المتمردة، المصعّدة لشحنات الرعب، فيقول:
وكأنّ النهار
حجر يثقب الحياة
وكأّن النهار
عربات من الدمع(1)(
يزاوج الشاعر بين النهار الذي يشغل حيزا زمانيا، والحجر الذي يشغل حيزا مكانيا،وعيا منه بأن"الحياة حركة امتداد زمني، واتساع مكاني معا، والزمن هو الذي يخترق حركتها"(2)، ولقد كفل له هذا الوعي، التوفيق إلى إحداث نوع من "الدهشة بالمنطق المتماسك، واكتشاف الغريب بالمفاجأة الواعية وقتل الصدفة في التداعي الصوري، وإحكام تنزيلها في هندسة العمارة المتكاملة"(3) وأعانته في ذلك موسوعيته الفكرية الثرية.
وأدونيس مغرم بين المزاوجة بين الزمان والمكان، وتبادل الوظائف بينهما، ومن يتتبع إنتاجه الشعري يجد الشيء الغزير من ذلك، بل إنّ هذا يتجلى حتى في العناوين الرئيسية لدواوينه- كما يلحظ ذلك الدكتور عدنان قاسم بحق- مثل (كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل)، إذ أن الأقاليم، وهي مساحات مكانية، تقترن بالنهار والليل الذين هما امتداد زمني(4)(.
__________
(1) - الآثار الكاملة 2/27.
(2) - د/ عدنان حسين قاسم: لغة الشعر العربي، ص 81.
(3) - أنتوان غطاس كرم: "الواقع رؤية والرؤية واقع" محاضرة حول شعر خليل حاوي، ألقيت في إطار الشهر الشعري لاتحاد الكتاب اللبنانيين، العبارة مأخوذة من : الفكر العربي المعاصر ع26، 1983، عن سامي سويدان دراسة بنيوية لنص شعري، ص 52 وأنظر أيضا حاوي، ص 371.
(4) - ينظر: عدنان حسين قاسم: لغة الشعر العربي، ص 80-81.(1/380)
ونخلص في آخر هذا المبحث إلى القول، إنّ انعكاس الزمن على المكان، وتصوير الزمان بمعطيات ومدلولات مكانية، يرتبط أساسا بالتجربة التي هي عماد كل تشكيل ورؤية شعريين، بحيث يتداخل الوعي بالمكان بالوعي بالزمان ويمتزجان، ليصبح هذا الوعي -الناتج عن تلاحمهما- إحدى العلائم الأساسية، والمرتكزات الهامة في فهم خلفيات العملية الابداعية الحداثية، وتقدير قيمها الفنية والأدبية والفكرية وتحديد مدى صلتها بالواقع الاجتماعي والحضاري.
ومن هذه الزاوية، وبهذه الرؤية المتشابكة والعميقة، تبدوعلاقة الزمن بالمكان-في النص الحداثي- علاقة إشكالية مأزقية، لكونها لا تنطرح في شكل سلسلة من الافتراضات والحلول المحتملة، وإنما في سلسلة من المشكلات المستعصية، التي على الشاعر الحق مجاهدتها وإيجاد صيغ التلاؤم معها، والخروج من المتاهة، متاهة معاناة تيار الزمن المديني المتدفق وهواجس الإحباط المصاحبة لها، وحس التناهي المسيطر على الذات فيه.
3- وتيرة الزمن المديني وحس التناهي:
أ- إيقاع المدينة والوجه الآخر للحياة:
سبق القول أنّ الزمن هو حركة في المكان في ما هو تأثير عليه، و"الرابطة بين المكان والزمان هي الحركة أو هي السرعة ... وفهم الزمن إذن لا يمكن أن نصل إليه إلا بفهم السرعة"(1).وغني عن البيان، القول أن إيقاع الزمن في المدينة يختلف كثيرا عن إيقاعه في الريف أو القرية؛ من حيث هدوء هذا الأخير وسكونيته، وصخب الأول وتسارعيته . إذ يجد الإنسان العصري نفسه عاجزا عن التكيف معه- وبخاصة ذاك الذي كانت له تجارب في الريف مثلما هو شأن جل شعرائنا كما سبق بيانه. يصور الشاعر عبد المعطي حجازي تسارع ليل المدينة وصخبه الشهواني، بنبرة مأساوية، فيقول:
الليل في المدينة الكبيرة
عيد قصير
النور والأنغام والشباب
والسرعة الحمقاء والشراب
عيد قصير
__________
(1) - اميل توفق : الزمن بين العلم والفلسفة والأدب، دار الشروق، ط1، 1988، ص 129.(1/381)
شيئا ... فشيئا ... يسكن النغم
ويهدأ الرقص وتتعب القدم
وتكنس الرياح كل مائده
فتسقط الزهور
وترفع الأحزان في أعماقنا رؤوسها الصغيرة(1)(
ذلك هو (ليل المدينة)، يبدأ كعيد تتجلى فيه جميع مظاهر الحياة؛ من أنوار وأنغام وشباب ورقص، لكن ما يلبث أن ينتهي كل شيء، فيسكت النغم، ويهدأ الرقص ويخيم على الجونوع من الحزن الوجودي، الذي هو أقرب إلى حس الفناء، منه إلى الحزن العادي، ذلك لأنه بدون سبب ظاهر.
فعالم المدينة المفرَغ من منطقه الداخلي الصلب وتفكك وحدة عناصره وثقله، هو الذي أغرى هؤلاء بالتحرر من نير الزمن، بخلق أزمنة ذاتية وهمية عن طريق الإغراق في الرقص والخمر والغناء الصاخب والسموعن الزمن الموضوعي والإنعام بالتخلص من كل وعي أو معرفة به.
ولكن ذلك لا يجدي نفعا، فهؤلاء الذين حاولوا اختصار الزمن في لحظات نشوة خاطفة، سرعان ما يعاودهم شعورهم بخيبة الأمل التي تعقب انتهاء كل لحظة منتشية، ومعاودة الاستفاقة على الواقع. فطور المثلنة (Idiéalisation) لابد وأن يتوّج بخيبة أمل، بعد عودة الوعي، وانطفاء الرغبة المحمومة، وانقضاء لحظاتها التي حلّقت بالذوات خارج أسوار الزمن، ليطلّ الحزن المأساوي من جديد إبّان الاستفاقة على واقع هزيل.
يجد الإنسان نفسه في المدينة محاطا بجومن الكآبة صفيق، لا يغني معه أي مظهر من مظاهر الفرح الزائفة تلك. فذاته موزعة بين شتى الرغائب –المادية خصوصا- دون أن يتمكن من بلوغ إحداها على الوجه الأكمل، فيما الوقت يمر بسرعة لا متناهية؛ فـ"هوإذ به يحاول أن يسيطر على الزمن ويسوده، إذا به يصبح عبدا للزمن ويخضع لسلطته"(2)( .
فمشكلة الإنسان مع عامل الوقت لم تبرز بحدة إلا في المدينة، يقول حجازي عن أهل (المدينة) مجسدا ذلك بوضوح:(3)(
وأهلها تحت اللهيب والغبار صامتون
__________
(1) - عبد المعطي حجازي، الديوان، ص (131-132).
(2) - أميل توفيق: الزمن بين العلم والفلسفة الأدب، ص 134.
(3) - الديوان، ص 223.(1/382)
دائما على سفر !
لوكلموك يسألون ... كم تكون ساعتك؟
يقول (ريكله) الألماني: (كل شيء يمضي سريعا قبل أن نتقن عادات تعلمناها)، وتمضي عربة(مارسيل) مجلجلة في صحاري لا نهائية دون توقف (كتعبير عن تدفق الزمن) ويعبّر (هيرا قليطس) عن تراجيديا الزمن اللاّمتوقف فيقول: "أنت لا تعبر النهر مرتين"(1). تلك هي علاقة أهل المدينة بالزمن، ومعاناتهم له، "فالشيء الذي يحكم علاقتهم هو السرعة، والعجز عن الارتباط الإنساني المتأني الأنيس ... حتى إذا سألوك عن شيء فعن "الساعة"وهي نفسها رمز من رموز "السرعة" ... إنها رمز للطرف الثاني من أطراف الصراع داخل هذه المدينة المليئة بالأحزان ... هذا الطرف هو "الوقت" فما أكثر ما يتحمله إنسان المدينة من أعباء صغيرة لا تنتهي، ومن خلال هذه الأعباء المتراكمة تذوب مطالبه الإنسانية الحقّة"(2)(.
يجسد الشاعر محمد مهران السيد ذلك بوضوح فيقول:(3)(
وككل نهار
يحملني الدرب الأحدب ... أبحث عن نفسي
في كل الأشياء، أنا الإنسان
وأجيل الطرف فما ارتعشت في وجهي صافحني شفتان
أوغرست في أعماقي بذرة الشوق عينان
أحجار الغربة قد رُصّفت حتى أصغر ميدان.
__________
(1) - ينظر: خير منصور، أبو اب ومرايا، مقالات في حداثة الشعر، ص 65 .
(2) - رجاء النقاش، مقدمة ديوان (مدينة بلا قلب) ضمن الديوان، ص 36.
(3) - محمد مهران السيد، فقرات من مذكرات مبعثرة/ الدم في الحدائق، ص 35.(1/383)
إنها حيرة الإنسان المعاصر-حيال الزمن- في تشتته بين العمل المكثف لتحيق مطالبه المادية –التي تفرضها طبيعة الحياة في المدينة- والتي تستغرق كل وقته، وبين تدهور مطلبه الروحي نتيجة لذلك.لقد أضحى الإنسان في المدينة ضحية هذا العصر الذي من سماته-كما يقول ايرك فروم- : ""اللا شخصية"و"الفراغ" و"اللا معنى" للحياة" و"آلية الفرد" ... ومن ثم ارتبط العمل بتكييف الإنسان نفسه وفق حاجات السوق.. ليبيع ذاته.. من أجل السعي للربح واكتناز المال دون الاهتمام بالقيم المعنوية .. ولم يعد لديه وقت لاكتناز ذاته.. تلك الذات التي تاهت وضاعت ... ..ليس هناك وقت للغنى الحقيقي.. غنى النفس والروح"(1)، ولذلك تجدههم (دائما على سفر)، غارقين في بحر صمتهم، وإذا (كلموك يسألونك كم تكون ساعتك؟).
إن هذا الغلوفي السعي وراء توفير الحاجات المادية، والقلق المبالغ فيه على المستقبل، إلى حد التفريط في الجوانب الروحية، مبعثّه حس دفين بالفناء والتناهي، وحاجة ماسة إلى الطمأنينة الروحية المفقودة بسبب اللهاث وراء تلبية الحاجات المادية الملحّة. يعبر عبد الصبور عن ذلك في أسلوب فيه كثير من السخرية من عبثية الحياة في المدينة وتبديد الوقت، فيقول:
طلع الصباح فما ابتسمتُ ولم ينر وجهي الصباح
وخرجتُ من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح
ورجعتُ بعد الظهر في جيبي قروش
فشربت شايا في الطريق
ورتّقت نعلي
ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق
قل ساعة أو ساعتين
قل عشرة أو عشرتين(2)(
__________
(1) - إيريك فروم: الشخصية، عن، اميل توفيق، الزمن بين العلم والفلسفة والأدب، ص 135.
(2) - صلاح عبد الصبور، الأعمال الكاملة، 1/36.(1/384)
إن لغة الحياة اليومية، ببساطتها وثقلها، وربما حتى بابتذالها، الموظفة في هذا المقطع، تجمعت كلها لترفد حس التفاهة الذي يغرق الإنسان المعاصر في قاعه، ولتجسّد فظاعة الخواء الروحي، ولتعكس ثقل الانفعال وبلادة الوعي، ولتنبئ عن الحزن الذي يرين على النفوس، نتيجة ضغط الحياة المادي.
لا مجال للروحيات إذن في حياة المديني، فكل همه هو مسابقة ايقاع الزمن لتحصيل الرزق المتاح، ومن بعد فلا أهمية للوقت، بل إنه لا يصّر على تناسيه وتزجيته فيما لا يفيد، على غرار إنسان حجازي، الذي يعمل جاهدا على تناسي حزنه، وتبديد وقته بالإغراق (في الشراب والرقص والغناء )، فإذا الليل –نتيجة هذا الإغراق- كأنه عيد قصير، ما تلبث الأحزان أن تطل بعد انقضائه برؤوسها الصغيرة. و"تطاير الوقت وتبدده كالهباء المنثور، وعدم الإحساس به هي خصائص تابعة لمملكة الموت"(1)، كما أن الخطر الأكبر الذي يمكن أن يعيشه الإنسان هو أن يحيا متغافلا عن الوقت، غير عابئ بالزمن، وغير مبال بمصيره، متهرّب من مواجهته بطرق لا مجدية، وهي المشكلة نفسها التي يعانيها إنسان حاوي في المدينة؛ والذي يحترف الخطيئة كردة فعل على عبثية زمنه. يفر من مواجهة رعب زمنه:
فيرسوفي الموانئ
ومحطات القطار
لبنات "البار" ما في جيبه،
ضِحكةٌ،
حشرجةٌ خلف الستار،
وجهُ من يتعب من نار
فيرتاح بنار.(2)(
__________
(1) - سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، ص 178.
(2) - خليل حاوي، الديوان، دار العودة، بيروت 1972، ص 204-205.(1/385)
إنه كائن انحطاطي "ميت ما عادت تدميه الذنوب"(1)( بله الجريمة. فبعد ما كان يهجس بالبكارة ويحن إلى حياة النقاء والطهارة الروحية في (جنية الشاطئ)، ويؤمن إلى حد التسليم المطلق بل العبادة بما يمليه عليه الدرويش من غيبيات وشعوذة-في نشيد (البحار والدرويش)- زاعما أنها أو امر ونواهي الدين(2)، هاهويطالعنا في نشيد (ليالي بيروت) –بعدما ولج المدينة وخبر زمنها- بنغمة جديدة تمجد الدنس وتعتنق الدناءة:
ويثور الجنُّ فينا
وتغاوينا الذنوب
والجريمه:
"إن في بيروت دنيا غير دنيا"
"الكدح والموت الرتيب"
"إن فيها حانة مسحوره، "
"خمرا، سريرا من طيوب"
"للحيارى"
في متاهات الصحاري،
في الدهاليز اللعينة
ومواخير المدينة(3)(.
__________
(1) - نهر الرماد، ص 27.
(2) - يقول في هذا : وركعنا خشعا للكيمياء / ولساحر/ كور الجنة من ذيل المقابر/ وعبدناه إلها يتجلى في المغاور: / يا إله المتعبين/ يا إله الضائعين/ يا إلها هاربا من صرعة الشمس/ ومن رعب اليقين. الديوان، ص 115، ويقول عن الدرويش وخضوع الناس له، في قصيدة (البحار والدرويش): دوختهم "حلقات الذكر" /فاجتازوا الحياة/ حلقات حلقات/ حول درويش عتيق. وهي كما نرى أزمنة غيبية تعتمد التطرف الديني، ولا تولد إلا آفة اللا مبالاة على المستوى الحياتي والاجتماعي، إن لم نقل الحضاري. أنظر الديوان- ص 13.
(3) - م. س، ص 23-24.(1/386)
إنه الصراع الدامي والتمزق الفاجع بين الطهارة والدنس؛ بين ما تقدمه حياة المدينة من إغراءات لعينة، وبين ما تحتاج إليه سكينة الروح من طهارة مثالية ويقين ديني-حتى ولوكان غيبيا من قبيل ما يمليه الدرويش في حلقاته- ولذلك جاءت قصيدة (ليالي بيروت) لتجسّد هذا الصراع، ولتنهض بهذا التمزق الفاجع "بين دواعي الأخلاق ونواهي الدين من جهة وإغراءات حانات ومواخير المدينة في الليل من جهة ثانية، أو هوبين القيم"الروحانية" المثالية وبين نداءات اللّذة المادية الشريرة؛ وفجائعيته تأتي من أنه يتشكل على معطى ثنائي آخر يحمل تناقضه أو مفارقته الخاصة وهوالليل في مواجهة النّهار. فاحتدام التناقض بين القطبين الأولين ما كان ليتم على هذا النحومن الحدّة لولم يكن يجري في "ليالي الضيق والحرمان" التي تواجهها نهارات "الكدح والموت الرتيب"، فتكون الدعوة للّذة شكلا من أشكال الخلاص أو التعويض الذي بدونه يختّل توازن الليل والنهار فيمتدان عمرا مشلولا مُدمىّ "في دروب هدّها عبء الصليب"(1)(.
هكذا هي دورة زمن المدينة –كما يصوّرها حاوي- نهارات كادحة رتيبة تفضي إلى ليال شبقية محمومة،وهي كلها مكرورة، تؤكد حس الفناء، وتحمل الخوف من طبيعة الحياة المادية الخاضعة –بحدّة- لناموس الزمن؛ فالخوف الذي يستبد به والسأم الذي يلّفه والسويداء التي تفترسه ما هي إلا الوجه الآخر لمأساة الحياة، ألا وهوالموت. فالمعاناة الزمنية هي التي أرغمت الإنسان على الإغراق في الخمرة لينسى ذاته وحاله الكئيبة:
طالما غبت في الخمرة عن طبعي وحاله
غبت في طبع صّبي لا يبالي
غبت في طبع الدوالي(2)(
__________
(1) - سامي سويدان، دراسة بنيوية لنص شعري قصيدة "نهر الرماد"، الفكر العربي المعاصر، ع26، 1983- ص 54-55.
(2) - خليل حاوي، الرعد الجريح، دار العودة، بيروت1979، ص 29 .(1/387)
وهي نفسها التي أدت بالدرويش –ذلك الكائن الانهزامي الملهج بالغيبيات- إلى الولوج إلى الخمارة، وإلى انتزاع امرأة من الشارع لينعم معها أياما، ثم يعتزلها ويغرق في كآبته بعدما تبين له استحالة نسيان فعل الزمن. وأنه لا سبيل لمقاومته، وبعدما " أحس بلا جدوى الأشياء واستحالة الكينونة وأن الإقامة في منزل مع امرأة لا تجدي ما دام الزمن يعدو ويعدو، وأنه يمط الوجوه ويجعدها وأنه لا سبيل إلى نقضه والتعضّي عليه، فهومارد يهتضم المواد وليس من سبيل إلى دفعه"(1)( فلقد أدرك أنّ :
في مطاوي جلده ينموطُفيلّي النبات:(2)(
طحلب شاخ على الدهر ولبلاب صفيق.
بعدما كانت قد (شرشرت رجلاه في الوحل وبات / ساكنا، يمتص ما تنضجه الأرض الموات)، وبعدما كان غائبا (عن حسه لن
يستفيق) :(3)(
حظه من موسم الخصب المدوي
في العروق
رُقع تزرع بالزهوالأنيق
جلده الرثّ العتيق
هذا الزمن المدمر، ذي الإيقاع السريع الذي يعمل بشراسة وسادية في عقول وأجساد الناس، هو الذي جعل الشاعر يتذكر وجه أبيه الذي ضمه القبر منذ أمد بعيد، وأجساد إخوته الطرية التي عضها ناب الموت. وهوالذي، جعله يتذكر أمه وحبيبته وكيف مط الزمن ثدييها إلى البطن وجعل أنفها كمنقار بومة(4). وهوالذي جعل ذاته القديمة تقفز إلى ذهنه لتتقابل وذاته الحديثة وكيف صيرها زمن المدينة مسخا، ليقابل بين (ما كانه) و( ما هو عليه الآن)، بين وجهه الفتي السليم من عاهات الزمن ووجهه الآن الذي عاث فيه الزمن فسادا :
كنت أمشي معه في درب "سوهو"
وهويمشي وحده في لا مكان
وجهه أعتق من وجهي، ولكن/ليس
فيه أثر الحمّى/ وتحفير الزمان،
وجهه يحكي بأنّا توأمان(5)(.
__________
(1) - إيليا حاوي، قراءة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر، ع26، 1923، ص 30.
(2) - من قصيدة : (البحار والدرويش). ضمن الديوان، ص 13-14.
(3) - م.ن، ص.ن.
(4) - انظر الديوان، ص 32 – 33 –34.
(5) - خليل حاوي، الديوان، ص 212 – 213.(1/388)
فرعب الإحساس بهذا الزمن المخرِّب، ورائحة الموت المشتمة منه، هو الذي دفع بالشاعر –وإنسان المدينة عموما كونه أكثر إحساسا بالزمن من الريفي لأسباب عديدة ذكرنا بعضها- إلى ارتياد المقهى والخمارة والمبغى لنسيان نفسه والهروب من زمنه.
فالإنسان في المدينة، مجرد كائن انحطاطي منهار، مطموس الملامح، عصيّ على الفهم، آسف على نفسه، كل همه إشباع بطنه وتلبية غرائزه، أو كما يقول السياب :(1)
هكذا قد أسف من نفسه الإنسان وانهار كانهيار العمود
فهويسعى وحلمه الخبز والأسمال والنعل واعتصار النهود !
والذي حارت البرية فيه بالتآويل، كائن ذونقود!
ويتجلى هذا الكائن العابث بنفسه، الخاضع لوتيرة زمن المدينة وطبيعته في مواضع كثيرة من نتاج السياب الشعري، كقصيدة المومس العمياء وغيرها. وأمثال هؤلاء يقول عنهم الشاعر بمن فيهم هو نفسه :(2)(
إنا هنا كوم من الأعظم
لم يبق فينا من مسيل الدم
شيء نُروِّي منه قلب الحياة.
وإنسان عبد الصبور هو الآخر، يفر من واجهة زمانه المرير ويعمل على تناسيه عن طريق الإغراق في شرب الخمر :
حتى إذا طال انتظاري المرير
شربت كأس الخمر والدوّار(3)(
ولكن هذا الهروب لا يفيد شيئا، لأن "الإنسان كائن عابر يظل دائما خاضعا لقوى الزمن المدمرة، وكل محاولة منه للتغلب على فوضى الحياة الفانية وتيار الزوال الجارف تبوء بالفشل"(4)، لذلك نراه يقول :
لكن هدير الزمن الدوار
يبتلع الزامر والمزمار(5)(
فلقد عرف بأن هدير الزمن يعيث في جسده ونفسه فسادا وتشويها، وأيقن :
بأن أياما تفوت
وبأن مرفقنا وهم
وبأن ريحا من عفن
مس الحياة فأصبحت وجميع ما فيها مقيت
__________
(1) - الديوان، 1/409.
(2) - م . ن، ص 387.
(3) - صلاح عبد الصبور، الأعمال الكاملة 1/ 18.
(4) - سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، ص 162.
(5) - صلاح عبد الصبور، الإبحار في الذاكرة، ص 74.(1/389)
يجسد المقطع مأساة الإنسان العميقة مع الزمن، الزمن الهارب دوما، والمدمر دوما، والذي لا يستطيع له مقاومة أو ردا، لأن قدراته محدودة إزاءه.
ويقول حجازي متحسّرا، على طفولته، متفجعا من فعل الزمن وقوة سلطانه، والتغيير الذي يحدثه، بينما الناس عنه غافلين :
أصدقائي!
نحن قد نغفوقليلا.
بينما الساعة في الميدان تمضي.
ثم نصحو.. فإذا الركب يمرّ
وإذا نحن تغيّرنا كثيرا،
وتركنا عامنا السادس عشر(1)
يفتح الشاعر عينيه، فإذا به يصاب بهلع عظيم لهول ما وجد عليه نفسه وصحبه، لقد غابت إشراقة السادسة عشر، وإذا أثر الأيام باد عليهم جميعا. لقد فعل الزمن المدمّر فعلته في نفوسهم البريئة وأجسادهم الغضّة فغيّر كثيرا من معالمها. لقد غابت شمس الطفولة ولا يمكن استرجاعها، لأنها إشراقة متملّصة لا تقبل الاستنساخ أو التكرار.
__________
(1) - الديوان، ص 99.(1/390)
إن الزمن تنين يفترس النفس ويهدّ الجسّد، ولا تنفع معه تلك الإغفاءات، أو الحيل البائسة التي يلجأ إليها الناس كسبل للخلاص – (اللجوء إلى الخمارات والمقاهي...)- لأن الاستفاقة التي تعقب لحظة الانتشاء والإغفاء، تجعل الإنسان يكتشف "أنه يعيش في الحاضر، ويدرك مدى التغيير الذي أحدثه فيه الزمن وفيمن حوله، فيصاب بضربة عنيفة ويرتاح عندما يدرك انه يقف على خشبة الآن الرقيقة وحدها حيث تحمل له كل ثانية تتقدم خطرا جديدا(1). ولقد جاء إيقاع المقطوعات السابقة مجسدا لذلك بوضوح؛ فزمنها فينا نوعا من الإحساس والارتجاف والإيقاع السريع، ربما هو أقرب إلى إيقاع الزمن على الوجدان المعاصر، وانعكاسا جليا لما يتصف به هذا الزمن من تدفق وانجراف، إذ فقدت فيه الأشياء قدرتها على اختزان الزمن، وفقد فيه الإنسان كل مقاومة له، وأصبح خاضعا لوتيرته الجارفة.يبذل قصارى جهده ليعايشه، لا أن يعيشه، والعيش- كما يقول أرسطو- داخل الزمن لا يعني معايشة الزمن(2). فمعايشة الزمن تكفل لنا تكوين نوع من العادة، يجعلنا قادرين على أن نشعر ببعض الاستقرار والثبات(3) والسكونية التي نطمح إليها، لنستمتع بزمننا، ونشعر بنوع من الامتلاء، ونتخلص من شعور الخواء والعدم الذي يلازمنا، والسأم والضجر والتوتر الذي يحكمنا.
__________
(1) - ينظر سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، ص 153.
(2) -Pierre Jeagle:Essai sur l'espace et le temps ou propos sur la dialectique de la nature-Ed.Sociales Paris,1976,P:41 .
(3) -ينظر: سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، ص 152.(1/391)
ولكن يجب التأكيد على أنّ "الخواء ليس –دائما- نفيا للوجود وعلامة على العدم، بل إن الخواء في بعض البرهات هو الذي يحيلنا إلى امتلاء المكان النفسي، وتفاعله الكوني مع جوهر الوجود"(1)حقا إن ديناميكية الزمن وتدفقه المتسارع يولد في الإنسان شعورا بالحس المأساوي للحياة وعبثية الوجود وعدميته، ولكنه شعور ضروري لدفع الإنسان للتخلص من عبء زمنه، كما أنه دليل حياة؛ ففكرة العدم-كما يرى برغسون- هي أغنى من فكرة الوجود(2)، لكون هذا الأخير هو الأصل، فلا يتم إدراك الوجود إلا داخل إطار العدم، الذي هو أصل الزمن نفسه...
فلقد كان الإحساس بالحاضر يولّد في النفس شعورا بالضجر، ويفتح عينيها على واقع رهيب، رتيب مكرور، غير متنوع لا حافل بما يُرغب النفس في الحياة، ولكن العيب في الإنسان وليس في حاضره، لكونه لم يدرك إلا المعنى السلبي فيه .فعدم امتلاك الإنسان لرؤية واضحة لمعطيات الزمن، هي من أهم مسببات التعاسة لديه، لأّن الزمن –كما يرى باشلار-"مرادف للسعادة، أو على الأقل، مرادف لخير، لهبة. وإنّ وضوح الامتلاك يأتي ليعزز الوعد بالزمن"(3).
__________
(1) - أحمد يوسف، تجليات القلق في شعر صلاح عبد الصبور ص، 234، وينظر أيضا غاستون باشلار، جدلية الزمن ص 22-23.
(2) - غاستون باشلار، جدلية الزمن ص 15.
(3) - م، ن، ص، 134.(1/392)
حقا إنّ حس الحاضر "يبعث القلق والاشمئزاز في النفس في أحايين كثيرة، ومع ذلك فإنّ هذا الاشمئزاز وذلك القلق لا يخلقان قيمة سالبة كل السلبية، إذ أن ردّ الفعل الناتج عنهما عند الإنسان هو ما يشكّل جانبا من قيمة إيجابية لها كثير من الأهمية"(1)في حياة الإنسان، ودفعه إلى تجاوز زمنه المحبط، والاندماج في الزمن الكوني، والدخول في الديمومة التي هي ليست "لحظة تحلُّ مكان أخرى، وإلا لما كان هناك سوى الحاضر"(2)المرعب. والفنان وحده هو المؤهل للاضطلاع بهذه المهمّة، لكونه راءٍ، ولأنه "إنسان شارد يتوصل إلى رؤية الحقيقة المحجوبة عن عيوننا لأنه أكثر تجردا منّا، وأقل انشغالا بالأمور العملية"(3) وأكثر تهيؤا لتقبل الجمال والتأثر به. وإشاعته في حياة الناس. ولكن "بالرغم من ذلك فإنّ الزمان هو معطى يتملّص جزئيا، لأنه سائل، متلاش، إنه مزيج من الحضور والغياب، خليط من الكون واللون، فكل ما يدرك في الزمان هو إذن غياب يجعله حاضرا، كوننا نقتطعه من أصل العدم، وعلى هذا ستكون علاقة الإنسان بالعالم أكثر من تصوير مجرّد. إنها ستكون على هذا النحواستحضارا مشخصا يتعرض للخطر دوما"(4)، ويغلّب حسّ الموت على حسّ الحياة، فنحن في عصر يهدّ كل طمأنينة ويدمر كل سكينة ويزلزلها .
ب- إيقاع الموت في زمن المدينة ودلالة المعاناة:
لقد أصابت كبد الحقيقة تلك العبارة القائلة : (الناس تولد في الأرياف وتُحتضر في المدن). فالسياب ابن جيكور، لم يعان من تيار الزمن المتدفق، ولم يشعر بالعمر يتقصّف، ودبيب الموت يسري في أو صاله إلا في المدينة. فلنسمعه يقول بتفجع صارخ:(5)
تعبتُ من تصنع الحياة
__________
(1) - خيري الضامن، التكوين الشعري، منشورات عويدات، 1958، ط1، ص53.
(2) -سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، ص 76.
(3) -م . ن، ص 84.
(4) -سوسف كوميز، القيمة والحرية، تر/ عادل العوا، دار الفكر، دمشق، ط1، 1975، ص 7.
(5) -الديوان، 1/137-138.(1/393)
أعيش بالأمس،وأدعوأمسي الغدا
كأنني ممثل من عالم الردى
تصطاده الأقدار من دجاه
إنّ محاولة الشاعر الإمساك بالزمن، واعتماده ما يسمى(بالإبطاء الزمني) المتمثل في النزوع نحوالماضي، وإحلاله محل الحاضر الرديئ المرعب، لهوأقوى دليل على اللا تكيّف(1)الذي يعيشه، والتمزّق الذي يعانيه. فهولم يستسغ فكرة أنّ كل وجود يفضي بالضرورة إلى العدم، لذلك نراه يصارع زمنه، ويلتجئ إلى أمسه وطفولته المشرقة فيقول بتحسّر:
طفولتي، صباي أين ... أين كل ذاك؟
أين حياة لا يحدّ من طريقها الطويل سور
كشّر عن بوابة كأعين الشباك
تفضي إلى القبور؟(2)
وهوإذ يعود إلى جيكور، قريته، يفجع بالتغيير الحادث فيها بفعل الزمن، فيصرخ مستفسرا:(3)
جيكور.. ماذا؟ أنمشي نحن في الزّمن
أم أنه الماشي
ونحن فيه وقوف
أين أو له
وأين آخره؟
هل مرّ أطوله
أم مر أقصره الممتدّ في الشجن
يؤكد خطاب السياب الشعري فقدان الإحساس بالحصانة إزاء القوة التدميرية للزمن، والخضوع لتياره الجارف، وبالتالي سيطرة حس الفناء على وجدانه، وسيادة اللحن الجنائزي ولوعة التحسّر:
وهيهات! ما للصبي من رجوع
إنّ ماضيّ قبري وإني، قبر ماضيّ:
موت يمد الحياة الحزينة؟
أم حياة تمد الردى بالدموع؟
__________
(1) - يرى المفكر المغربي (عبد الله العروي) أن أزمتنا الحقيقة –نحن العرب- هي أزمة بالدرجة الأولى، فإضافة إلى عدم امتلاكنا رؤية واضحة للزمن، فإننا "لا نعيش الحاضر على انه الحاضر فعلا، وكذلك الأمر بالنسبة للمستقبل والماضي. فهذه الأزمنة ليست حقيقية عندنا". ينظر : Abdellah et Aroui:
L'idiologie arabe contemporaine, Maspéro,Paris 1977-p: 66
(2) - الديوان، ص 146.
(3) -م. ن، ص 188.(1/394)
تتوزع الذات الشاعرة بين موقعين مكانيين، ونوعين زمانيين؛ مكان القرية المنشود بزمنه الماضي، ومكان المدينة المرفوض بزمنه الحاضر، ومن شأن هذا التوّزع، أن يولّد تخلخلا في وتيرة الزمن، وعدم انتظام في إيقاعه، مما يسبب للذات الشاعرة قلقا ووحشة، وتمزقا وضياعا، لأن الحياة – كما يقول باشلار- هي "حقيقة جزئية، فبدون تناغم، وبدون جدلية منتظمة، وبدون وتيرة إيقاع، لا يمكن للحياة ولا للفكر أن يكونا مستقرين وأكيدين"(1) ومن هذا المنظور، ونتيجة لانعدام مثل هذا الإدراك، وإصرار الشاعر على التشبث بتجربة الماضي – التي يمكن أن تتمخض عن كائن مشوه بمعزل عن الحاضر- المناقضة لتجربة الحاضر من منظور رؤية الشاعر، تولدت النظرة العبثية للحياة، فإذا الماضي يمارس غيابا إلا في الذاكرة، وإذا الحاضر قد غدا شيئا غير متحقق، بل إنه غدا مَعْبرا من إخفاق إلى إخفاق،لتقوم العادة – والحال هذه- بتسويغ الحياة فتكتسي بمظهر الضجر والرتابة(2).
والإحساس بالزمن قدر لا مفرّ منه، فحتى لوكان الإنسان قد أمّن جميع حاجياته، واطمأن إليها، غدا هناك عقبة كأداء تظل تؤرقه دوما وهي "الزمن"، الذي يشعرنا بأن وجودنا معرّض للزوال، كلما أحسسنا بخطر محدق، أو كارثة محتملة تهددنا، فتُسقِط خوفنا وتوجساتنا على الزمن نفسه. يقول الشاعر حبيب صادق في قصيدة (من حكاية الغول والمدينة المحاصرة):(3)
يتهدل لحم الليل يتفسخ
يطاير قطنا محروقا
وشظايا رمدها قحط السنوات
الساعة تنقر وجه الزمن القادم
صدئت تلك الأرقام
__________
(1) - غاستون باشلار، جدلية الزمن، ص 15وما بعدها
(2) - ينظر، د/ نعيم عطية، دلالة الزمن في الرواية الحديثة، مجلة (المجلة)، ع170، فبراير1971،
ص 24.
(3) -في زمن القهر والغضب، ص 63-64.(1/395)
فالإحساس بالسير الحثيث للزمن هو مصدر عذاب الذات، لأن مثل هذا "الإحساس به هو في حد ذاته إحساس بالفناء والعدم. إنه جلادنا الحقيقي. إنه أشد وألعن من كل صنوف العذاب. إنه أصل كل تلك المشاعر التي لا تنتج عن دوافع معينة وأسباب خارجية: الكآبة المبهمة، القلق من المجهول، الهم دون مبرر، الضجر الذي يسحقنا فجأة دون أن نعرف له مصدرا أو غاية. الإنسان إذن محكوم عليه بالعذاب المؤبد طالما أنه يحمل في أعماق ذاته هذه الساعة اللعينة، التي تتكتك كالعلة"(1) في ذاته وكيانه وتظل تذكّره بمصيره الآيل إلى الزوال.
فالتجارب المحبطة، والانفعالات المعقدة والضغوط التي يتعرض لها الشاعر في المدينة، والناتجة عن الاصطدام المباشر بينه وبين طبيعة الحياة فيها، هي التي تدفعه إلى محاولة التمرد عليها، وهدم العالم الذي يتضمن هذه الضغوطات، حتى ولوكان هذا الهدم عن طريق التجسيد التهكمي لمحتويات هذا العالم والقيم التي تحكمه وتوجِّه الزمن فيه. يقول محمد عمران:
الرغيف،
هذا السيد المكرس السيادة
لدي ما أغني
لمجده
أغمضيها قليلا
عينيك.
في زماننا المريض
أعدم الغناء
زماننا المصلوب فوق مسطرة
زماننا المهندس النبضي
الشفاه، آلة الكلا،
العين آلة(2)
يجسد الخطاب الشعري الواقع من خلال رؤية درامية بالغة التعقيد، ساعدها في هذا، ذلك الكم التراكمي من الألفاظ القائم على تحطيم قواعد الربط المألوفة، والمنساب إنسيابا فيه من التنافر، أكثر مما فيه من التجانس، ناهيك عن النبرة التهكمية التي تشيع في ثنايا القصيدة والتي هي نوع من الدفاع عن النفس، وتحصينها ضد خطر ما يتهددها.
__________
(1) - سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، ص 213.
(2) - مرفأ الذاكرة الجديدة، إتحاد الكتاب العرب، دمشق، ص 106.(1/396)
فالصراع إذن قائم بين الذات الشاعرة وواقعها المحبط، بين عالم التجربة الإنسانية، والعالم الواقعي المجرد، بين مفهوم الزمن من خلال التجربة الشعرية التي تطمح إلى تحقيق ثباتها ومنعتها ضد الزمن، ومفهومه الموضوعي، الميقاتي المجرد، بجميع أبعاده. وتكون نتيجة هذا الصراع الزمني – بطبيعة الحال – ذات وقع عنيف على نفس الشاعر ووجدانه، وبما أن الإنسان هو مجموع ما كانه وما يأمل أن يكون، أو بعبارة أو ضح مجموع تجاربه الماضية وأحلامه المستقبلية، فإن التجربة تُحلل الماضي والمستقبل مكانة أسمى من الحاضر، وتحاول إحلالهما محلّه، ولكن الواقع يفرض عكس ذلك؛ فالماضي ليس له من وجود إلا في الذاكرة، والمستقبل وجود غير متعين بينما الحاضر هو وحده الذي يمارس حضوره في الواقع، وهكذا تبقى الذات الشاعرة كلما فكرت بالماضي والمستقبل في لحظات الحسرة على ما فات، أو ترقبها لما سيأتي، كلما تضاعف وعيها بالوقت واشتدَّ، وازدادت حصرتها بسبب عدم قدرتها على قبض اللحظة الهاربة، وعجزها عن امتلاكها؛ يقول صلاح عبد الصبور:(1)
هل تقدر أن تمسك باللحظة
وتكبلها في قيد الوقت
حتى تتأملها في خلوة
أوتسمعها في صمت.
لقد أدركت الذات الشاعرة استحالة القبض على اللحظات الهاربة، لذلك فهي لن تخدع نفسها باللجوء إلى الحيل البائسة التي لا يمكنها أن تصمد أمام نهر الزمن الجارف؛ كتلك التي لجأ إليها الساقي المصبوغ الفودين والعاهرة ذات طاقم الأسنان الذهبية؛ إذا لجأ الساقي العجوز إلى صبغ شعره الذي شاب، ولجأت العاهرة إلى ترميم الأسنان المتهدمة فكلاهما يحاول الإحتيال على الشيخوخة – التي هي مدخل الموت، ونتاج فعل الزمن- واستعارة ما لا يُستعار، وكلاهما يحاول تناسي مصيره ولكن الزمن يواصل فعله وحفره في كل الأحوال، سواء وعينا فعله، أو تغافلنا عنه، وهولا يميت الناس فقط، بل الأشياء أيضا تموت:
مرت ليلتنا لتسقط في صبح ميت
__________
(1) - ديوان شجر الليل، ص 24.(1/397)
ومغنينا الأعمى ماتت أغنيته
أتوهم أحيانا أني أتسمع وقع صداها
هل تقدر أن تمسك باللحظة
وتكبلها في قيد الوقت
حتى تتأملها في صمت
أما الخمرة
فلقد صارت رائحة مبتذلة
تتبخر في زفرات الشمس المشتعلة
إذ يتجشؤها الحجر المصمت
والنشوة خمدت
ثم انطفأت في أحشاء العاهرة المفتوحة
والعاهرة المفتوحة ماتت مثل ذبابة
فوق تراب مدينتنا المجروحة
وأنا بعد زمان
أجلس في ركني الجامد كالكوب الفارغ
يتقطر فيّ الزمن الميت(1)
__________
(1) - صلاح عبد الصبور: ديوان شجر الليل، ص 24-25.(1/398)
قد يكون الموت في زمن المدينة رغبة صادقة في تجديد الحياة، والارتفاع بالذات فوق هشاشة الواقع، كما قد يكون علامة على نضج الرؤية واكتمالها، وإدراك لحقيقتها المأساوية، التي تعد شرطا ضروريا لممارستها، كما أن الألم، وبخاصة الشريف منه، هو الضريبة التي يجب تسديدها لنعيش زماننا بامتلاء ونصارع قدرنا، لأن "هناك نوعين من الألم: ألم الرجال حين يصارعون الأقدار فتصرعهم، أو يخاطرون في الحب والحرب والحياة فيُهزمون، وذلك هو الألم الشريف. وهناك ألم الحيوانات، ألم الجسد، ألم الضرب بالعصا، والركل بالقدم، ومهانة وإذلال الروح. هناك ألم عظيم، وشريف، وجميل، وهناك موجع وقاس وتافه"(1)، وذلك هو الألم الذي اختاره الشاعر للساقي والعاهرة والمغني الأعمى، والذين سقطوا في وهم الخلود.فهولا يريد أن يخدع نفسه بأماني زائفة، أو مستحيلة، أو أفراح هشة لا تقوم على أساس؛ لأنه يدرك نفسه كونه بدنا، وهذا الأخير يعتبر مجالا حيويا وتربة خصبة لفعل الزمن. ولذلك فإذا كان ولا بد من خلاص، فليكن خلاص الروح اللائبة، لا البدن الآفل، وهذا يستلزم مواجهة الزمن مواجهة جادة، غير تلك التي لجأ إليها المغني والساقي والعاهرة، التي تخيّر لها الشاعر أحقر ميتة (والعاهرة المفتوحة ماتت مثل ذبابة فوق تراب مدينتنا)، فكل الأشياء تموت، المادية منها والمعنوية (الخمرة بتبخرها، والنشوة بتلاشيها، وأغنية المغني الأعمى بانقطاع صداها...)، ولذلك يؤكد الشاعر ألا مجال لخداع النفس وتغافلها عن المصير، ولا مجال للهروب من حزن المصير بحيل آنية بائسة. من أجل هذا وبسبب وعيه المأساوي للحياة، نراه يموت قبل موته الحقيقي (أجلس في ركني كالكوب الفارغ/ يتقطر فيّ الزمن الميت)، ونراه يعاني موت الآخرين الذين تغافلوا عن مصيرهم الحتمي ومصير كل كائن.
__________
(1) - صلاح عبد الصبور: مدينة العشق والحكمة، منشورات إقرأ، بيروت، ص 34.(1/399)
إنّ حزن المصير لديه متجذّر ومكين، لا تنفع معه حيلة، ولذلك نراه يقول(1)
حزني لا تطفئه الخمر ولا المياه
حزني لا تطرده صلاة
فخصوبة الحياة –إذن- تكمن في وعي الموت، ومن ثم مواجهته. ولكن ليس من أجل خلاص الجسد، بل من أجل خلاص الروح:
أهتف أحيانا: يا رباه
ارفع عنا هذا الزمن الميت
أقس علينا لا تعبر عنّا كأس الآلام
علمنا أن نتمزق بإرادتنا العمياء
في منقار –الأيام
علّمنا أن نتبعثر في الريح الملعونة
أن نتعلّق بالأشجار المسنونة
أن لا نمثُلَ للموت
علمنا أن نتفتت أشلاء دموية
نتنفس كاليرقات الدبقة
في قيعان الزمن الآتي(2)
__________
(1) - الأعمال الكاملة، 1/287.
(2) - صلاح عبد الصبور ديوان شجر الليل، ص 26-27 .(1/400)
إذن فالذات الشاعرة تراهن على مواجهة موتها الحاضر، بانتظار الزمن الآتي، الذي تتوسم فيه خلاصها. وتعاني تمزقها، لأنّ في هذا التمزق يكمن خلاصها الروحي. حقا إن ترقب اللحظات الآتية يعلّمنا قلق الموت، ولكن لا مناص لنا من مواجهة موتنا، لأنّ "هذا هو الثمن الذي يجب دفعه لأجل التواصل القائم بين المعرفة الموضوعية والمعرفة الذاتية"(1) للزمن وإدراكه، وهما حتما خاصيتان تختلفان؛ لأنه "من البيّن تماما أنه يوجد سلوك ثنائي أمام ظواهر الزمان، إن الوجود يخسر دوريا ويربح في الزمان، ففيه يتحقق الوعي أو فيه ينحل"(2)، وهذا الوعي والشعور بالقلق المصاحب له "ليس شيئا دخيلا على الإنسان، وإنما هو كامن في صميم النسيج البشري... هو الدليل القاطع على أن الإنسان يعلم حق العلم أنه مشكلة، ويعرف في الوقت نفسه أنه لن تكون لتلك المشكلة كلمة أخيرة أو نهاية حاسمة"(3)، وما البحث عن الخلاص النهائي إلا دليل قصور معرفي، وعجز عن إدراك ماهية الزمن الجوهرية في تقدمها الدائم، والتي تسلب الذات كل ما امتلكته. ولكن ما يقلق الشاعر ليس الموت كرؤية ميتا فيزيقية، وضرورة حتمية يحملها كل كائن في نسيجه، بل الموت كتجربة مجانية يتعرض لها الإنسان في المدينة، وعقم الذات وتدنّيها في مواجهته:
في زحمة المدينة المنهمرة
أموت لا يعرفني أحد
أموت لا يبكي أحد(4)
ويقول عبد المعطي حجازي مجسدا هذا الموقف المفزع(5):
فالناس في المدائن الكبرى عددْ
جاء ولدْ
مات ولدْ!
الصدر كان قد همدْ
وارتد كف عض الترابْ
.......................
الموت في الميدان طنّ...
ويقول أيضا:(6)
__________
(1) - غاستون باشلار، جدلية الزمن، ص 41.
(2) - م. ن، ص 46.
(3) - زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان، مكتبة مصر للطباعة، الفجالة، القاهرة، ص 11.
(4) - صلاح عبد الصبور، الأعمال الكاملة، ص 195.
(5) - عبد المعطي حجازي، الديوان، ص 143-144.
(6) -م. س، ص 224.(1/401)
مضيت صامتا موزّع النظر
رأيتهم يحترقون وحدهم في الشارع الطويل
حتى إذا صاروا رمادا في نهايته.
نما سواهم في بدايته.
وجدفت ساق الوليد فوق جثة الفقيد.
كأّن من مات قضى ولم يلدْ
ومن أتى، أتى بغير أبْ.
ويقول خليل حاوي:(1)
كل ما أذكره أني أسير،
عمره ما كان عمرا،
كان كهفا في زواياه/ تدب العنكبوت...
ويقول في موضع آخر، فاراّ من قبضة الزمن التعيس، رافضا موته المجاني:
خففوا الوطء/ على أعصابنا يا عابرين
نحن مامتنا، تعبنا/ من ضبابٍ وسخٍ،
مهترئ الوجه، مداجي
يتمطى أفعوانا، أخطبوطا/ وأحاجي،
رحمُ الأرض ولا الجوالّلعين...
نحن في عتمة قبومطمئنّ
نمسح الحمى، ونصحو، ونغنّي
نتخفّى،/ ونخفّي العمر من درب السنين
خففوا الوطء/ على أعصابنا يا عابرين(2)
فالتخفي من درب السنين (الزمن) هو احتجاج واضح ضدّ مجانية الحياة وضد الحس العدمي الذي يتغلغل في كيانها ويدب في نسيجها، إنه شبيه بذلك التخفي الذي لجأ إليه المسيح في أثناء محاولة صلبه المجاني الظالم. وهوالتخفي نفسه الذي يلجأ إليه أدونيس في قوله:(3)
في حقول الكآبة، في العشب أحفر آباري اللولبية
كاسرا صفحة المرايا
بين شمس الظهيرة والماء في البركة الآدمية.
إنه فرار من حسّ العدم الذي يلازمه، والمتأتي من رهبة الدهر، الذي يدمر في صمت، ويحمل للعمر خريفها وفناءها:
أسمع صمت الدهر
يحمل أكفان الرؤى ويغسل الجفون
يزرع أشجارا بلا غصون
حول ضفاف العمر(4)
__________
(1) - خليل حاوي، (نهر الرماد)، الديوان، ص 67.
(2) - خليل حاوي، الديوان، ص 218-220.
(3) -أدونيس، الآثار الكاملة 2/17.
(4) - م، ن 2/ 66 .(1/402)
فإذا كان المقطع الأول يحاول أن يبرز كثافة الهموم التي يرزح تحت ثقلها الشاعر، والكآبة التي ترين على نفسه، عبر صورة استعارية، ممثّلة في استحضار كثافة الشجر والزرع، وإسباغها عليها، ورفدها بصورة أخرى أكثر غرابة ممثلة في(حفر الآبار اللولبية)، التي تساعد، في إظهار هذه الكآبة وإدامتها ... مضافا إليها(شمس الظهيرة كزمن)، إذا كان هذا بعض ما يجسده المقطع الأول-فيما يريد تجسيده- من خلال هذه الصورة الاستعارية الغريبة، فإن المقطع الثاني لا يأتي إلا لكي يكثف من صور هذه الكآبة، ويزيد الإحساس بوطأة الزمن ورعب المصير أكثر، عبر صور إستعارية أكثر غرابة من الأولى ؛ من خلال المزج بين المألوف واللامألوف (اسمع صمت)، (صمت الدهر)... فكل الرموز الموظفّة تجسد بوضوح حس الفناء، وتؤكد عجز الإنسان أمام مصيره المنتظر، إذ يحضر فعل الدهر خلال كل السطور الشعرية، سواء بصفة مباشرة كما هو الحال في السطر الأول، أو من خلال السياق كما نستشفه من السطور المتبقية، ولذلك يمكن قراءة المقطع على الشكل التالي:
أسمع صمت الدهر: يحمل أكفان الرؤى
أسمع صمت الدهر : يغسل الجفون
أسمع صمت الدهر : يزرع أشجارا بلا غصون حول ضفاف العمر.
هذا بالإضافة إلى تلك الاستعارات غير المألوفة،وكسر السياق البلاغي القديم المبني على الوضوح والمنطق، (فالغسل) منطقيا يرتبط (بالأكفان)، (والرؤى) أيضا يجب أن ترتبط(بالجفون)، ولكن الشاعر يتجاوز ذلك ويوائم بين ما لا يتواءم . ومتى كان الشعر يطمح إلى المنطق؟ ولا نودّ أن نسترسل أكثر في تحليل الصور المتبقية وما توحي به (الأشجار التي بلا غصون) و(ضفاف العمر)، وإنما نكتفي بالقول إنها صور تجسّد ببراعة فائقة العقم الذي يكتسح الوجود وحسّ الفناء والعدم الذي يفترس الذات، والذي يصوره السياب في صور لا تقل براعة عما سبق في قصيدة (مدينة السندباد)، فيقول:
الموت في الشوارع،
والعقم في المزارع(1/403)
وكل ما نحبّه يموت(1).
أما الشاعر (علوي الهاشمي) فإنه يصوّر هذا العقم والقفر الذي يتوطن هذا العالم ويسلبه كل ما يدل على معالم الحياة في قوله:(2)
أجيئك
فافتح تجاعيد وجهك
دحرج دمي قمرا في سمائك
كانت ضفافك مقفرة، ودمي يتلألأ فوقك
مثل النجوم البعيدة، وجهك كان يُدَوِّره الحزن،
أصفر، يمتصه الرمل، لا يمطر الماء إلا قليلا..
ويمطر عشقا مريضا، ويمطر دودا...
ونتيجة هذا القفر والعقم، الذي يكثف من حس العدم، ويتسارع معه إيقاع الموت، فيوحي بتواجده في كل ما يحط بالذات، فإن إنسان هذا العصر لم يعد سوى هيكل نخر، أو كما يقول صلاح عبد الصبور:
يقوم هيكل الإنسان
إنسان هذا العصر والأوان(3)
ولذلك فلا سبيل للذات الشاعرة، الطامحة إلى عالم أكثر حياة، وأوفر امتلاء، إلا الهروب من هذا العالم العقيم، وابتكار طرائق أخرى لمواجهة زمنها التعيس المموضع في مكان أكثر تعاسة، حتى ولوكان هذا الهروب إنسرابا عبر الحلم، يقول السياب:
على جواد الحلم الأشهب
أسربت عبر التلال
أهرب منها، من ذراها الطوال
من سوقها المكتظ بالبائعين
من صبحها المتعب
من ليلها النابح بالعابرين
من نورها الغيهب،
من ربّها المغسول بالخمر،
من عارها المخبوء تحت الزهر
من موتها الساري على النهر(4)
__________
(1) - بدر شاكر السياب، الديوان – 1/467.
(2) -ديوان (العصا في وظل الشجرة)، الهيئة العامة للنشر والتوزيع والإعلان والمطابع، طرابلس، ص 183.
(3) - الأعمال الكاملة، 1/149.
(4) - بدر شاكر السياب، الديوان (جيكور والمدينة)، 1، 420.(1/404)
فهذا "الإحساس المرير بمجانية التجربة الإنسانية،وهذا الوجدان المنبعث من شدة الإحساس بالقصامة والبرهة العابرة السريعة الارتحال، وترقّب الموت وهويوشك أن ينخطف على الإنسان"كإنخطاف الباشق"، كل هذا القلق وهذا التمزق هو من أهم الموضوعات الأشد مركزية في الشعر المعاصر"(1) والأكثر ارتباطا بطبيعة زمنه الفارغ. ويمكن القول أن مثل هذا الشعور الذي ينتاب النفس، ومثل هذه الأفكار التي تساور العقل، هي شيء عام يمكن أن يخالج أي إنسان وفي كل زمان ومكان، في مواجهة حيرته إزاء الوجود؛ وبخاصة إذا كان ما فيه وما يحيط به، يهدد حياته ويوحي له برعب الفناء، ولكن الأمر غير ذلك؛ فما "هنالك من فرق هو أن الإنسان القديم اقتنع بعالمه الخرافي الذي صوّره لنفسه، واعتبره بديلا لعالمه الواقعي، في حين أن الإنسان الحديث لم تعد تقنعه تلك التجارب والمغامرات، بل إنه على العكس من ذلك تملؤه باليأس، وتؤكد له تفاهة الحياة التي يعيشها"(2).
ولكن الذات الشاعرة، لا ترضى بان تستسلم لهذه التجربة المجانية، التي يعيشها-بفضل الحس الرسولي الذي يتملّكها، والحس الذي يوجّهها- ولا ترتاح لحس الخواء الذي يؤطر حياتها. ولذلك فلابد من المواجهة مرة أخرى، عبر استحضار الغائب المنشود وتغييب الحاضر التعيس؛ عن طريق مواجهة لحظة العقم بلحظة الخصب.
ج- إيقاع الزمان ما بين لحظة العقم ولحظة الخصب:
__________
(1) - يوسف اليوسف، الشعر العربي المعاصر، ص 27.
(2) -د/ نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار النهضة للطبع والنشر، مصر، القاهرة،
ص 79.(1/405)
من البيّن تماما أن تنوع الحياة وثرائها وخصوبتها، يخلّصها من ثقل الزمن، ويسارع من دقاته ويشعرنا بالسعادة(1)، ويلقي بنا في قلب الوجود لنعيش بامتلاء وحبور. في حين أن عقم الوجود ورتابة زمنه، تُشعر الإنسان باقتراب أجله، وتُعجّل بشيخوخته، أو على الأقل تعجل الإحساس بها.
وتجربة الفوات والتغيّر التي يُحدثها فينا الزمن، هي معطى مباشر نُدركه توا كما ندرك شذى الوردة، أي بدون إعداد فكري خاص أو مسبق(2)، ربما هو متأت –أحيانا- من فعل العادة، وأثر التقدم في السنّ الذي يضعف فينا الإحساس بالزمن، الذي هو الحياة ذاتها(3)، ويعطل فينا حاسة الإدراك المتجدد للتجارب وتنوّعها وثرائها. ولذا فلا مناص لنا، إلا أن نهرع إلى تغيير عادتنا، ونمطنا في العيش، علّنا نظفر ببعض التجديد في حياتنا، وبالتالي بعث حاسة الزمن فينا والتخفيف من سرعة تياره المتدفق لنزداد شعورا بالحياة، ونتجاوز رتابة زمنها.
والتخلص من إيقاع زمن المدينة، المتأرجح ما بين الرتابة المكرورة أحيانا، والباعثة على الضجر، وما بين الإيقاع المتسارع الذي يُشعر الذات بانصرام لحظات عمرها ويؤكد لها حس الفناء والعدم العقيم، لابد وأن يواجَهَ بلحظات خصب تجدّد الحياة وتدّعمها بحس البقاء المركوز في الذات البشرية. من أجل هذا نرى أدونيس يستلهم لحظة الخصب ويؤكد حضورها في واقعه، عبر استلهام خصائص ربيعية من الطبيعة خصبة، تؤكد حضور الحياة وتشيع فيها نغمة من التفاؤل لا يمكن أن تصمد أمامها لحظة العقم. يتم هذا كله، داخل إطار موسيقي متناغم، لا يمكنه أن يبعث إلا الارتياح والاسترخاء:
الزمن أخضر، نما، وطالّ
أوراق في الجدران والحصون
__________
(1) - ينظر: Thomas Mann : " La montagne magique", T.I1 A. Fayard 1966-P:277.
(2) - ينظر: محمد الأسعد : اللغة في حالة الزمن، مجلة "الناقد"، ع 33، س3، مارس 1991- ص 38.
(3) - ينظر : Thomas Mann : " Montagne Magique" -T.1 P: 158-159.(1/406)
الزمن الأنهار والتلال
الزمن العيون:
قامات أحجار ربيعيهْ
في غابة الروح الفراتيهْ...(1)
إن الشاعر الحريص على البقاء يهتز كيانه أمام هدير الزمن وفعله المخرِّب، ولا سبيل إلى الخلاص منه إلا عن طريق ابتداع نقيضه الذي يدمره، ولكن أحيانا قد لا تطاوعه اللغة في اللحظة التي يشاء فيها خلق هذا النقيض الإيجابي، بل هي غالبا ما تستعصي عليه وتمتنع(2)، ولكنه يستطيع التغلب على ذلك من خلال إشراق الرؤيا، وتدمير السياق اللغوي المألوف ومنطقه البلاغي التقليدي، فيصبح الزمن الذي هو في عُرف المنطق المتعارف، لحظات تتحرك فينمومعها الكون، وتنموالطبيعة في ركابه، تصبح هو نفسه ينموبفضل الطبيعة، حيث تنخلع عليه صفات هذه الأخيرة، فإذا هو يخضَّر وينمو، ويطول كما هو حال النباتات تماما، لكنه ليس نباتا عاديا، بل هو من نوع غريب، فهوينموفي الجدران والحصون(3) ويتغلغل إلى باطنها وينغرز في أحشائها، على الرغم مما تتمتع به من قوة ومنعة، فهوأحجار وأنهار وغابات وعيون أو هوالكون كلّه، بخصبه ونمائه في مواجهة عقم الواقع وفقره.
وعبر هذا الابتداع دائما، يحاول الشاعر أن يوحّد بين الطبيعة الخصبة والطفولة ببراءتها ونقائها- والتي هي أيضا رمز الجِّدة ولحظة بكارة الحياة وفجرها- لتقف في وجه الصقيع، الذي يمثل العقم والموت والجمود، فتشقُّه، وتغير من طبيعته لصالح ما هو إنساني، يقول أدونيس:
وعرفنا من العشب أن الطبيعة
ستقيم السّلام
بين أطفالنا والفجيعه
ستكون شرايينهم كالجذور
وتشق الصقيع
وتصير جبالا من الضوء وردية الجسور(4)
__________
(1) - أدونيس، الآثار الكاملة 2/93 وما بعدها.
(2) - يقول أدونيس في هذا: في عالم يلبس وجه الموت/ لا لغة تعبره لا صوت/ تولد عيناه. ينظر ديوان : أغاني مهيار الدمشقي- الأعمال الكاملة، 1/335 .
(3) -ينظر: د/ عدنان حسين قاسم : لغة الشعر العربي، ص 79.
(4) - أدونيس، الآثار الكاملة 2/91، 92.(1/407)
فعلى الرغم من أنّ الفرح مرهون بالزمن، وعلى الرغم من أنه ليس هناك فرح كامل إلا خارج إطار الزمن، إلى أن برهة الطفولة عبر توحدها مع الطبيعة البِكر، كفيلة بإدامة هذا الفرح، وتثبيت لحظة السلام المنشودة، ووقوفها في وجه زمن الفجيعة والصقيع والتصدّي له. فالرموز اللغوية الكثيرة هنا ذات الدلالة الاخصابية ممثلة في (العشب، الطبيعة، السلام، الأطفال، الشرايين، جبالا من الضوء، وردية، الجسور) في مقابل (الفجيعة والصقيع) فقط، كلّها رموز لها من القوة والنفاذ – حينما تتوحد وتتجمّع- ما يكفل لها رفد هذا الأمل الزاهي وتدعيمه. هذا بالإضافة إلى تغليب أفعال المضارعة – المسندة تارة إلى الطبيعة (ستقيم)، وتارة أخرى إلى الأطفال، أو بالأحرى إلى شرايِّينهم (ستكون، تشق، تصير)، مما يؤكد التوحُّد بينهما (أي بين الطبيعة والأطفال) وتلاحمهما- التي تضفي على الأحداث سرمدية وديمومة، وتكفل لها حضوراً قوياً في أبعاد الأزمنة الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)؛ لأن صيغة المضارع لا ترتبط بزمن معين، ناهيك عماّ توحي به من تجدُّد وتحوُّل مستمّر، تتوافق ذبذباته وما تعجُ به النفس الإنسانية وما يختلج في كيانها.
فالتوحد بالطبيعة واستلهام بكارتها ونضارتها، وتكليفها بحمل ما تعج به الذات الشاعرة من أحاسيس ومشاعر، وإسقاط الواقع النفسي عليها، كفيل بإحداث تغيير خارق في طبيعة الأشياء،وتفتيت عينّاتها المناوئة لطموح الشاعر، وإعادة صياغتها من جديد وفق ما يتلاءم وواقعه النفسي، فإذا الإنسان يتوحّد بالكون ويندمج به، ويقيم مصالحة مع الزمن. بل هو نفسه يُضفي على الزمن من فيض روحه وغناها:
أرضي ...
امرأة بخضرة اللّهب
يتصاعد حنينها وسائد وسائد
يصير الجسد شاقولا
يمتلئ الليل بشامات الروح(1)
__________
(1) - أدونيس، الآثار الكاملة، 2/171.(1/408)
يواجهنا النص، بحضور مكثّف للحركة، وتلاحم للنسيج الوجودي، وانصهاره، عبر المزاوجة بين النار، التي هي أصل الوجود وعلامة النضج والاكتمال في الميثولوجيا الإغريقية، وبين المرأة رمز الخصب والتوالد، مما يحيلنا إلى زمن ممتلئ، فإذا الأرض (الصماء) تكتسب عبر الصورة القائمة على التشبيه طراوة الجسد الأنثوي، بالإضافة إلى بعدها الإنساني الممثل في العاطفة الفياضة المتراكمة كالوسائد، وإذا هذه المرأة نفسها- في الصورة نفسها- تكتسب هي الأخرى صفة من صفات الأرض ممثّلة في (الخضرة)، ولكنها ليست خضرة من نوع عادي، فهي لهب، ينفي حضوره كل وجود للخضرة التي هي دلالة الخصب والنماء.(1/409)
فالصورة الشعرية القائمة على التشبيه هنا، تنطوي على توليف غريب، إذ ما العلاقة بين اللهب (النار) والخضرة، ثم بين الخضرة والمرأة؟ ولكن تلك الغرابة تزول، إذا ما عرفنا مدى ما يحمله رمز النار من بعد جنسي عند الشعوب البدائية؛ إذ أنها رمز من رموز الخصب وبخاصة بالنسبة للنساء، كما أن معرفتها كانت قصرا على النساء دون الرجال. إضافة إلى ارتباطها بأعضاء المرأة الجنسية(1)، وكذلك الرعشة النارية والحرارة المحمومة المتولدة عن فعل الاحتكاك سواء المادي أو المعنوي(2). فهذا الربط بين الأسطوري المخصِب، والطبيعي المخضّر، وكذا الإنسان الغني بعواطفه الموجّهة نحوالآخر والكون –على اعتبار أن الانفتاح على المرأة هو انفتاح على الكون، وخروج من الأنا إلى الآخر(3)- ارتقى بالذات فوق واقعها، وكفل لها نوعا من الشعور بالخصب والقوة والصلابة، وجعل ليلها- الذي هو رمز الخوف والرعب أحيانا- يمتلئ بالفيض الروحي.
__________
(1) -لمزيد من الاطلاع، ينظر: غاستون باشلار: النار في التحليل النفسي، خصوصا: الفصل الثالث والرابع. (فلكي تحصل الفتاة على زواج موفق في القريب العاجل وتسعد في حياتها، وتنجب كثيرا من الأطفال، لا بد أن توفق في القفز فوق النار ثلاث مرات إلى الأمام، ومثلها إلى الخلف، لكي يخصبها اللهب. أما إذا لم توفق في ذلك، فإنها لن تظفر بالزواج هذا العام، ولن تستطيع أن تكون أما، لأن اللهب لم يخصبها. يتم من خلال حفل سنوي كان يقام خصيصا لهذا الغرض ).
(2) - ينظر : احمد يوسف: تجليات القلق في صلاح عبد الصبور، ص 321-324-325.
(3) -ينظر : محمد لطفي اليوسفي : في بنية الشعر العربي المعاصر، ص 109.(1/410)
حقاً إنها رؤى لا تتحقق إلا في واقع التجربة الشعرية، التي تتأبى على الإعطاء المباشر، وتحاول النفاذ إلى لب الأشياء، وتضفي عليها نوعا من الحركة، وتخلِّصها من جمودها وسكونيتها، وتطعِّمها بدفء العاطفة الإنسانية وفيضها الروحي، فيتوحَّد الإنسان بالكون، ويستمد كلاهما طاقته من الآخر؛ إذ يُسقط الشاعر واقعه النفسي ورؤاه الطموحة على الوجود فيغيّره إلى الأفضل، ويمدّ هذا الوجود الإنسانَ بطاقة الصمود والديمومة، وتتحقق حينئذ وحدة الأنا بالكون، ووحدة الأنا بالنحن، وبهذا وحده فقط يُدرك جوهر الوجود وجماله، "فالفن ليس هو الرصد الخارجي بل هو الرصد للمقياس والمقياس ليس خارجا بل هو عين وجود العمل الفني وهذا أيضا هو الجمال.. إنه تصحيح المفاهيم التي تشوهت وتشيأت والعودة بها ... إلى ارض الجمال"(1)، والجمال بدوره حركة تجرف تيار الوقت. فما من شيء جميل في ذاته. لكن عندما تركض الدقائق يصبح كل شيء جميلا"(2).
فلكي تتخلص الذات الشاعرة من هو اجس الإحباط المصاحِبة لها في زمن المدينة العربية العقيم في جميع آنائه (الليل، النهار- المساء...كما رأينا سابقا)، فلابد أن تُواجهه ببرهات جمال وبأزمنة خصبة، تتوحَّد فيها الذات بالطبيعة، لتؤلفا معا نسيج الوجود الخصب، عبر تجادلهما وتكاملهما، يقول محمود درويش:
وينشقّ في جثتي قمر... ساعة الصفر دقت..
وفي جثتي حبة انبتت السنابل
سبع سنابل، في كل سنبلة ألف سنبلة
هذه جثتي.. أفرغوها من القمح ثم خذوها إلى الحرب
كي أنهي الحرب بيني وبيني
خذوها، احرقوها بأعدائها
خذوها ليتسع الفرق بيني وبين اتهامي
وأمشي أمامي
ويولد في الزمن العربي نهار(3)
__________
(1) - مجاهد عبد المنعم مجاهد : جدل الجمال والاغتراب، السلسلة الثقافية (2)، مكتبة الانجلوالمصرية، القاهرة، 1986، ص 151.
(2) -سمير الحاج شاهين : لحظة الأبدية، ص 17.
(3) -محمود درويش: الديوان 2/376-377.(1/411)
لقد توحد جسد الشاعر بالطبيعة وتبادل معه خصائصها، فأصبح هذا الجسد بدل الأرض هو منبت السنابل، هذه السنابل السبع التي تحمل كل واحدة منها في رحمها ألف سنبلة، كإشارة إلى الخصوبة والتوالد والنمو، وكإلماع إلى أسطورة أو زيريس الذي تنبعث جثته قمحا في الربيع.(1)
والحق أنّ هذا الزمن –زمن الخصوبة- له قدرة خارقة على خلق الوجود الحيوي المتميز. وإخصاب اللحظة الحاضرة، وإكسابِها ديمومة تستعصي على الزمن العقيم، عبر تحريكها باتجاه الماضي الأثير والمستقبل المنشود. ذلك لأن اللحظة الحاضرة، ما هي إلا "الحد المتهرب بين الماضي المباشر الذي لم يعد موجودا، وبين المستقبل الذي لم يوجد بعد، هذه اللحظة لا تكون إلا تجريداً إذا لم تكن هي المرآة المتحركة التي تعكس الإدراك، ذكرى بغير انقطاع"(2) وتشوّف للمستقبل غير متردد.
فرؤيا الخطاب الشعري تنبع-إذن- من إيمان عميق بالبحث والتساؤل والقلق والمغامرة بوصفها دوافع ذات فعالية كبرى في تحريك عجلة الحياة، واكتسابها صفة التجاوز والرفض واللاقبول للحظة العقم. ومثل هذه الرؤية مرتبطة أشد الارتباط (بالكوجيتو) الديكارتي، والزمن (النتشوي)، الذي يؤمن بقدرة الإرادة البشرية في تغيير الذات والوجود معا لصالح ما هو إنساني، بعيدا عن الزمن المسيحي، اللاهوتي وكلاسيكيته.
__________
(1) - ينظر : يوسف اليوسف : الشعر العربي المعاصر، ص 41.
(2) - هنري برغسون : الطاقة الروحية، تر/ سامي الدروبي، دار الأوابد، دمشق، ط2، 1964، ص 125.(1/412)
فخليل حاوي الذي "تبيّن له أن الإنسان هو وحده المسؤول عن كينونته، وأن الحضارة، هي فعل إنساني مشترك، وأنها هي فعل وجودي جماعي ضدّ الموت والهزيمة والتقبّل والتلقي في الوجود"(1) لا يتردد في استلهام رمز الغجرية (تفاحة الوعر الخصيب) ليرفد بها رؤيته ويقاوم بها واقعه العقيم ويتوحّد عبرها مع الطبيعة، مستلهما بعثها الدائم وبكارتها المتجددة. فيقول:
النعنع البري يمرج في مطاوي
السفحِ
الريحانُ أدغالا بأوديتي بهيج
تلهووتمرح فيه قطعان الوعول(2)
وعلى الرغم من تلك التحولات التي يمكن أن يحدثها جريان الزمن في كل من جسد الغجرية، ووجه الطبيعة، إلا أنّ كلا منهما تظل تحيا تجددا دائما، وتعيش تعاقب الفصول ودورتها محافظة على صلابتها الفطرية، وطراوتها الطفلية:
ويظل للجسد الطري صفاء مرآة
وعنقودٍ يجوهر في دعهْ
عِبرتْ ما عبرت عليه الزوبعهْ(3)
فهي تنتقل بين الفصول الأربعة من غير أن يهزمها تكرارها، أو تعدوعليها عاديات الزمن، ذلك لأنها تعيش انبعاثا دائما ينفجر من داخلها،لا بعثا يأتيها من الخارج:
مُتعبٌ أنت وحضن الماء
مرج دائم الخضرة، نيسان
أراجيحٌ تغنّي، وسريرْ
مخملي اللين شفاف حريرْ
وبنات الماء مازلن
على الدهر صبايا
ربمّا كان لديهنّ
قواريرٌ من البلسم(4).
__________
(1) - ايليا حاوي : خليل حاوي في سطور من حياته وشعره، مجلة : الفكر العربي المعاصر، ع26، 1983، ص 21.
(2) - خليل حاوي، الديوان، ص 296-297.
(3) - م . ن، ص 297.
(4) - م . س، ص 214-215.(1/413)
فما البلسم إلا امتلاك القدرة على الانبعاث الذاتي، وقوة مقاومة الزمن، والعيش في الزمن الخاص لا العام. حيث الحياة لا تخضع لإيقاع نظام الساعات الشمسية والرملية، ولا تتأثر بعدوها. ففي هذا الزمن تتخذ لها الذات مكانا في جغرافيا الزمن، لا يستطيع أن يطاله ضغظ الوقت نفسه، ولا ينسحب عليها تعاقب الليل والنهار. ولهذا تبقى الغجرية (تفاحة الوعر الخصيب)، دوماً صبية تتفجر حيوية، مندفعة، لا يعيق اندفاعها إطار مكاني ولا يحكمها إطار زماني، فجسدها أصبح استمرار للطبيعة الخصبة المتجددة دوما، وغدا أشدّ التحاما بالبداوة ونقائها، وبالفطرة التي لا تبلى مع الزمن:
هل كنت غبر صبية سمراء
في خيم الغجر،
خيم بلا أرض أو تاد وأقنعة تعيق،
الريح تحملها فتُبحر
خلف أعياد الفصول
تحط من عيد لعيد في الطريق
والريح تمسح ما تخلِّفه
العيشة من أثر(1)
لم تكن الغجرية ثابتة، بل كانت دوما متحركة مندفعة هاربة نحوالفرح، ولذلك لم يستطع أن يؤثر عليها الزمن، لأن "ما يثبت هو وحده هو الذي يستطيع أن يتغيّر. والأشياء الهاربة هي وحدها التي تستطيع أن تستقرّ، والبقاء يتطلب تيارا من الفناء يصمد عبره، ويؤكد ماهيته بالنسبة له"(2). ولكن على الرغم من هذا الهروب الذي تمارسه الذات الشاعرة عبر رمز جسد الغجرية المتدفق حيوية وخصوبة وشبابا إلا أنّ هذا الرمز سرعان ما يتهاوى عندما تسري شريعة المدينة على جسد الغجرية الفتيّ، ويحل فيها الزمن فيحيلها إلى عجوز شمطاء عقيم:
هيهات يُعرف من أنا، عبثا، مُحال،
شمطاء تنبش في المزابل
عن قشور البرتقال(3).
__________
(1) -م . س، ص 293-294.
(2) - سمير الحاج شاهي، لحظة الأبدية، ص 284.
(3) - خليل حاوي، الديوان، ص 306.(1/414)
هكذا تتهاوى لحظة الخصب، لتحل محلّها لحظة العقم، ويستفيق الشاعر على واقع مرير، ويرتعد أليعازر من سقوط رؤاه، فيدفن نفسه، متخذا من أسواق المدينة بوابة عبور إلى الجحيم، ويستعصي الواقع على الانبعاث والتجدد، وتدرك الذات الشاعرة أن إيقاع الزمان ما بين للحظة الخصب ولحظة العقم، لم يتمخّض إلا عن عقم جديد، وموت جديد، تحت ستار الخصب والبعث المرجو(1)، هو أكثر مأساوية من الأول، لينهار لديها كل أمل في بعث جديد:
عبث تلقي ستارا أرجوانياًّ
على الرؤيا اللعينهْ
وبكت نفسي الحزينهْ
كنتُ ميتا باردا يعبر:
أسواق المدينهْ
الجماهير التي يعلكُها دولاب نار
من أنا حتى أرد عنها النارْ والدوارْ
عمِّق الحفرة يا حفار،
عمِّقها لقاعٍ لا قرارْ(2)
هكذا تنفي آمال الشاعر، وتنكسر رآه على صخرة الواقع وحاضريته العقيمة، ويجد نفسه يعيش في حلقة مفرغة، طرفاها خواء العدم وسقم الوجود، وتصبح نتيجة لذلك وظيفة الشعر الأساسية هي: تجسيد المتعارضات والبذرة التي تطلعه هي الانشراخ، انشراخ الوجود إلى نافٍ ومنفي، وإنشراخ الكينونة إلى حضور وغياب يضرب الحصار حول أسوار الروح الذي لا يمتاز بأي حصانة إزاء القلق (3) ولكن استحكام غريزة البقاء بالذات في تجادلها مع غريزة الفناء، ووقوف الوجود الشعري إلى جانب الأولى، لا يستكين بسهولة للحظة العقم. مما يستلزم البحث عن طريقة أخرى لمواجهة قلق الفناء، ممثَلة في استعادة الزمن الضائع بلحظاته الطِفلية المشرقة، والاتكاء على زمن الذاكرة لتبديد قسوة الحاضر.
4- استعادة الزمن الضائع:
أ- زمن الطفولة:
__________
(1) - ينظر: مطاع صفدي، الشعر الكون والفساد، الفكر العربي المعاصر، ع 26، 1983، ص 16.
(2) - خليل حاوي، الديوان، ص 319-320.
(3) - يوسف اليوسف، الشعر العربي المعاصر، ص 26.(1/415)
حقا إن "الحاضر هو أهم لحظات الوجود لكونه يحمل في طياته المستقبل، وهواللحظة المعاشة وهووجود الوجود، أما قبل وبعد فغير موجودين"(1). كما يرى هيجل بيد أن هذه الأهمية المعطاة للحاضر لا تمنع، من كون هذا الأخير ما هو إلا نتيجة للماضي كما أن الحاضر، هو دوما في طور التكوين، لأنه لا يوجد شيء اسمه(الآن الخالص)، فالحاضر هو مساحة من الماضي(2)، هذا إضافة إلى أن القدر الميتافيزيقي للإنسان هو أنه ابن ماضيه، مهما امتلأ بحس الحاضر، ومهما عانق المستقبل.
ولكن يزداد الماضي أهمية في نفس الإنسان، ويشتد حنينه إليه، وتبرز ضرورة استعادته حينما تصر الذات على رفض الواقع وعدم الاعتراف به، وعدم الاعتراف بالواقع معناه الاستغراق في الذكريات المطبوعة في النفس(3).
ولاشك أن اكثر الذكريات التصاقا بالنفس وأكثر قربا منها، وأشدها فاعلية في بعث الفرح، ومواجهة حس الفناء الذي لازم الذات نتيجة احباطات الحاضر، هي ذكريات زمن الطفولة.
فاستحضار زمن الطفولة تدفع إليه خيبة أمل الحاضر. فالسياب الذي صدمه زمن المدينة ولم يستطيع التكيف معه – على الرغم من المدة التي قضاها في المدينة- لم يجد إلا زمن الطفولة يتخذه كملاذ من غلواء الزمن وحس الفناء الذي يعذبه، فنراه يصرخ :(4)
طفولتي، صبايا، أين... أين كل ذاك؟
كما أن خليل الحاوي، لم ير انتصارا حقيقيا على الزمن إلا في مولد طفل، فيقول في قصيدة (وجوه السندباد) :(5)
اسندي الإنقاض بالانقاض/ شديها.. على صدري اطمئني
سوف تخضر، غدا تخضَّر في أعضاء طفل
عمره منك ومني / دمُنا في دمه يسترجع
الخصب المغنِي
حلمه ذكرى لنا، رجع لما كُنا وكان،
__________
(1) - عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، ص 20.
(2) - ينظر : سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، ص 88 .
(3) - ينظر : غاستون باشلار، جدلية الزمن، ص 16.
(4) - الديوان،1/146
(5) - خليل حاوي، الديوان، ص 223-224.(1/416)
ويمر العمر مهزوما/ ويعوي عند رجليه/ ورجلينا الزمان.
على الرغم من أن خليل حاوي –على عكس السياب- لا يعتدُّ كثيرا بالماضي، ولا يرى فيه مخلصا حقيقيا من إحباط الحاضر وتعاسته، إلا أنه يلتقي مع السياب في الحنين إلى الطفولة واعتبارها ملاذا وحِمى. ولعل ذلك راجع إلى إدراكهما أن زمن الطفولة لا يعترف بالحدود والفواصل التي يمكن أن تقوم بين الذات والوجود الموضوعي، ولا يرى فرقا بين الأنا والعالم. ومن أجل ذلك فإن الطفولة لا تعرف حس الفناء ولا قلقه، ولا تعرف رعب الزوال، إنها –بحسب مفهوم ريكله(1)- فترة سرمدية مليئة بالحماس، مهيئة دائما للدهشة أمام الاكتشافات، يعيش خلالها الطفل في نوع من الأبدية المسحورة خارج أسوار الزمان، ولا يعاني من وطأة الزمن، الذي نعاني منه نحن، ولا شك أن هذه الخصائص التي يتوافر عليها زمن الطفولة بدهشته وإثارته وحماسته، واندماجه بالعالم، يمنحه شعورا خالصا بالحاضر، لا أثر فيه لفكرة الماضي أو المستقبل، "فموضوع إحساسه غير منفصل عنه، كما أن الأشياء لا وجود لها خارج ذاته، وهذا الإحساس هو دائما الإحساس الحاضر. فهولا يرتبط بما تقدم، ولا يدخل في ترقب وتوقع ما سيأتي. فالطفل لا ماضي له ولا مستقبل"(2)، كما يرى (روسو) إن الطفل يعيش فرحاً دائماً، لكونه قد تحرر من ضغط الزمن، وغدا يعيش في الأبدية. فهوينظر إلى الكون بعين روحه لا بعين جسده، وما يعيش في الروح لا يطاله الزمن أبداً، ولا يعرف للموت معنى.
__________
(1) - ينظر : سمير الحاج شاهين لحظة الأبدية ص 59.
(2) - G. Poulet:Etude Sur le Temps Humain, I.Union Général d'édition, Paris 1972-P:201.(1/417)
ولا شك أن الأطفال هم أيضاً خاضعون لنظام الزمن وتأثيراته ككل الكائنات. بيد أن الانسجام الذي تعيشه ذاته، متعادلة فيها قوة رغباته مع قوة أهوائه ونزعاته، مما يسمح لهذه الذات بأن تكون ما يريدها أن تكون(1)، دون عوائق أو ضغوط، هو الذي يمده بتلك السعادة الغامرة، وبذلك الشعور بالخلود، الذي يستشعره في نفسه وفيما حوله.
إن زمن الطفولة زمن ممتلئ، لا يعرف معنى للفراغ، فالكون يملأ آناه، وآناه تملأ الكون، وهوبهذا مكتفٍ بذاته، ومكتفٍ بالطبيعة كما هي كائنة. وشعوره كله مركز في اللحظة الحاضرة لا يبغي –بل لا يدرك- سابقاً ولا حقاً زمنياً لها3. والطفولة بهذا الحس الأبدي، المتسامي فوق الزمن قادرة على أن تمد الإنسان المحبط-ومهما كانت درجة إحباطه- بسند روحي يمكنه من مواجهة بؤس حاضره. من هذا المنظور يمكننا إدراك مأساة السياب في مواجهة حاضره المحبط، ونتفهم استيحائه لزمن الطفولة الذي يصبح بالكيفية التي ذكرناها ملاذاً حقيقياً للذات الشاعرة من هجير واقعها وحاضريته العدمية. ويغدوبذلك هذا الزمن حنيناً –واعيا أو لا واعيا- إلى فردوس الطفولة المفقود، وتبرماً شديداً بالواقع الزمني للآن الحاضر، كما يترجم رغبة حادة في التمسك بالخلود، وتَوقاً –مركوزاً في اللاوعي البشري- إلى الدخول في دائرة الأبدية والمطلق الزماني.
__________
(1) - 3- ينظر : م . س، ص 205.(1/418)
وهذا التوق الحاد إلى زمن الطفولة واستيحاء خصائصها، لمقاومة الزمن الهارب، ومحاولة الخروج من دائرة التاريخ، والتخلص من ضغط حركات المدّ والجزر، وضغوط ساعات الخسوف والكسوف وتنبؤات المراصد(1)، والعمد إلى خلق زمن أبدي خاص، عن طريق الرجوع إلى ما يسمى بالطفالة (Infantilisme)، ليس حكراً على (حاوي) الذي يئس يأساً مطبقاً من انبعاث الزمن العربي الميت، الذي كانت مظاهر المدينة العربية أحسن ممثِّل له، ولا على (السياب)، الذي كان مرضه العضال-والمرتبط بالمدينة لا القرية- من أهم الأسباب التي دفعته إلى التشبث بطفولته والتحسر عليها وربطها بالأم(2)،رمز التوالد والخصب والحنان، والصبر والحماية والقدرة على التصدي لمخاطر الطبيعة وأهوالها-كما هي ممثلة في عقل الطفل، أو كما يراها في سنيّ طفولته- حتى الآن هذا النزوع شكَّل موضوعة محورية لشعره(3) -إنها ليست حكراً على هذين الشاعرين في شعرنا الحديث فحسب بل إننا نراها في كثير من الخطابات الشعرية المعاصرة التي لا يمكن حصرها. فموجة الطفالة الوقتية، أي التوْق إلى الطفولة، والحنين إلى أيام المرء المدرسية، والتعبير عن الحزن المنبثق من توتر ودينامكية الحياة(4)، ظهرت بقوة عند نهاية الستينات وخلال السبعينات نتيجة الاحباطات والانتصارات المصاحبة لهذه الفترة في العالم العربي على جميع الأصعدة.
__________
(1) - ينظر:Marcel Proust: "A la recherche du temps perdu" volume III (Le Temps retrouvé)P:924(Bibliode Pleiande1954)
(2) - قد يرجع البعض ذلك إلى عدم تصفية عقدة أو ديب، وإلى عدم النضج العاطفي وحتى إلى عقدة نرجسية، ينظر: يوسف اليوسف، الشعر العربي المعاصر، ص 34.
(3) - ينظر: يوسف اليوسف، الشعر العربي المعاصر، ص 69.
(4) - ينظر: بنتيلي زائف، إحساس العصر الراهن، تر/عادل العامل مجلة المعرفة، ع 310، 311 أو ت، سبتمبر 1988، ص 304.(1/419)
فها هو ذا نزار قباني –في إحدى قصائد السبعينات وهي فترة إشتد فيها نكوصه نحوالطفولة بكيفية ملتفة للنظر- يستدعي زمن طفولته، ويحنُّ إلى بيته القديم في الشام ويتشوق إلى أيام تلمذته وهوبين رفاقه وزميلاته، فيقول:
وإذا بالشام تأتيني نهوراً ومياهاً وعيوناً عسلية
وإذا بي بين أمي ورفاقي وفروضي المدرسية(1).
فاستبطان زمن الطفولة واستدعائه، لا يعد فقط هروبا من الزمن القائم وإحلال الزمن الخامد محله، بل هو أيضا استدعاء لذلك الشعور الطفلي الخالي من وعي الزمن وقلق الفناء المصاحب له. وهوأيضا استدعاء للانسجام والتناغم بل والتطابق الكلي الذي يحسه الطفل إزاء العالم الخارجي حيث لا مكان للتمايز بين الأنا والعالم ولا صراع بين الأنا وموضوعها أو بين الآنا والنحن. بل إنه زمن ذات كما تدرك ذاتها، مندمج بزمن الكون كما هو مدرَك من طرف هذه الذات. إنه زمن القدرة على كل شئ، الزمن الذي لا يعرف المستحيل إذ لا انفصال فيه ولا تمييز بين الرغبة والإرادة.
وزمن الطفولة –بكل هذه المميزات والقدرات التي رأينا- يمد الشاعر بقدرات خارقة على تجاوز لحظات الإحباط، ويكفل له رؤية ما لا يرى، وإحساس ما لا يحس. وإحداث الدهشة التي يسعى إليها كل أدب بعامة وكل شعر بخاصة، وملامسة ضفاف الروح التي لا يعرفها إلا الأطفال، حتى أن الدنيا المنظور إليها بعين الطفل هي دنيا الشعر الحقيقي(2)، وفقدانها يعني فقدان كلّ شئ. هذا إضافة إلى أن في زمن الطفل جمالا وأبدية لا تعرف معنى للموت، يسعى إليها كل فنان. والذكرى هي أحد الأبواب-إن لم يكن أو حدها على الإطلاق- التي نستطيع من خلالها أن نطل على زمن الطفولة وبالتالي الأبدية.
ب- زمان الذاكرة (زمن الخبرة) :
__________
(1) - نزار قباني، ديوان (أحبك والبقية تأتي)، ص 35.
(2) - ينظر : سمير الحاج شاهين، لحظة الأبدية، ص 59.(1/420)
إن زمن الذاكرة، زمن غني الدلالات، شائك ومعقّد، لأنه جمع بين الشعور واللاشعور بنوعيه، الجمعي والفردي، يدخل تحت نِطاقه، تاريخ الفرد وتاريخ المجموع، إن لم نقل تاريخ البشرية كله، بما فيه من تراث أسطوري وديني وصوفي...
ولكن ما يهمنا من هذا كله، ليس زمن الذاكرة التاريخي، الذي يستلهم فيه الشاعر بطلاً تاريخيا بزمنه المشرق ليسقطه على الزمن الحاضر المظلم، ولا الزمن الأسطوري الذي يستطيع الشاعر من خلال تماهيه بأبطاله ورموزه أن يدخل في دائرة اللازمان. ولا الزمن الصوفي الذي تتمكن الذات الشاعرة بوساطته –أي بواسطة استلهام رموزه ولغته- تحقيق توحدها بالذات الإلهية وتلبسها إياها، وبالتالي الدخول في المطلق الزماني، فما يهمنا فقط هو زمن الذاكرة القريب، أعني زمن الذات الشاعرة مفردة فحسب، وحتى وإن كان هذا الفصل يبدوتعسفيا،إلا أننا لضرورة منهجية وتجنبا للإطالة والتكرار، نكتفي بهذا.(1/421)
إن التذكر هو خلط للزمان غير المجدي وغير الفعال، بالزمن الذي أعطى وأفاد(1) وهذا يعني –حسب فهمنا- أن في عملية التذكر يتم مزج الزمان الماضي المفرح، بالزمن الحاضر المحبط للتخفيف من حدة هذا الأخير. ولعل ما يدعم فكرتنا هذه، هو أن "الزمان شكل من أشكال الطاقة التي لا يمكننا بأي شكل من الأشكال فصلها عن الطاقة الشاملة للكون"(2). هذا إضافة إلى أن إدراك كل منهما يتم داخل نطاق الآخر؛ حيث أنّ "الماضي بوحدته الكلية أو بجُماعهِ، تحمله الذاكرة ليلتحم بالحاضر (و) البقاء في الزمن-الاستدامة Duration- هو العملية المستمرة لانماء الماضي الذي يتقدم نحوالحاضر ثم المستقبل، وهويزداد نمواً كلما تقدم بنا البقاء"(3). وتكمن -أيضا- أهمية الماضي وفاعليته في الحاضر وتلاحمه به، في أنه "يتبعنا في كل لحظة نوجَد فيها. إنّ في حاضرنا يكون وعينا وإدراكنا متأثراً بماضينا فنحن نفكر أو نعمل أو نرغب أو نحس أو ننفعل في حاضرنا ومن ورائنا كتلة الماضي كله بمحتوياته وما يشمل عليه من عناصر فكرية ووجدانية وعملية. وإن كان ما يؤثر منه هو الجزء اليسير الذي له ارتباط بالعناصر الحاضرة"(4) واليوم التعيس هو الذي يستدعي الأمس السعيد. يقول السياب:
تعبت من تصنّع الحياة
أعيش بالأمس وأدعوأمسي الغدا(5)
__________
(1) - ينظر : غاستون باشلار، جدلية الزمن، ص 47.
(2) - روبير لنس : التطور النفسي في الالف القادمة، تر/ نذرة اليازجي، ص 79،
(3) - اميل توفيق، الزمن بين العلم والفلسفة والأدب، ص 97.
(4) - م.ن، ص.ن
(5) - الديوان، 1/ 138.(1/422)
يواجهنا الشاعر بنوع من الزمن المشوش، حين يختلط فيه الأمس بالغد، وعياً موجوداً، مع إغفال تام للحاضر. وهوزمن أشبه بزمن النوم أو زمن الحلم(1)، حيث ليس هناك من ترابط منطقي بين الآنات الزمانية بل يمكن القفز، فوق إحداها، كما هو الحال هنا مع الحاضر وليس ذاك بالأمر الغريب، فعلاقة "الزمن بالذاكرة علاقة لا تخضع للترتيبات الموضوعية وللسياقات الزمنية"(2) ،بل قد يمتزج الماضي بالمستقبل دون المرور بالحاضر، وقد تمتزج كلها بصورة دينامية فعالة، تخلق زمنا غير هذه الأزمنة كلها، وربما من أجل هذا كانت المساحة ما بين الماضي الحي والمستقبل مساحة ميّتة، إذ يغدوالماضي بالنسبة إلى الحاضر خيبة أمل والمستقبل بالنسبة إلى الحاضر طموح سيتحول بدوره إلى خيبة أمل. ومن ثم كان الحاضر عذابا ذا وجهين لأن الاشتياق إلى المستقبل عذاب لانصرافه إلى شيء بالنسبة إلى الحاضر غير مدرك.. وتذكر الماضي عذاب لانصرافه إلى شيء خرج بالنسبة للحاضر عن اليد"(3).من هنا كان أسف السياب على أمسه ومحاولة استدعائه إلى غده، ومن هنا كان دائم الرجوع إلى جيكور بزمنها ومكانها ومحاولته إحلالها في حاضره ومستقبله، حتى أنها غدت مقولة زمانية أكثر منها مكانية(4)،
__________
(1) - يقول فاليري : في هذا الزمن، إن زمن النوم، هذا الزمن الأول البدائي الجوهري، هو زمان لا ماضي ولا مستقبل له، ولا تغير فيه، وهولا يختلف عن ذلك الشئ الفرضي الذي نسميه الخلود، أنظر، G.Poulet Etude sur le Temps Humain - P:387
(2) - هانز ميرهوف : الزمن في الأدب، ص 28، تر/ أسعد رزق، مراجعة العوضي الوكيل، مؤسسة سجل العرب (القاهرة)، بالاشتراك مع مؤسسة فرانك لين للطباعة والنشر، ط 1972.
(3) - د/ نعيم عطية، دلالة الزمن في الرواية الحديثة، مجلة (المجلة) ع170، فبراير 1971- ص 22، الفكرة لـ (بيكيت).
(4) - ينظر : يوسف اليوسف، الشعر العربي المعاصر، ص 84..(1/423)
تنبئ عن تشبث مُلِحّ بالماضي يكاد يبلغ حد التقوقع فيه، يقول في قصيدة (أفياء جيكور)(1) :
جيكور، جيكور، يا حقلا من النور
يا جدولا من فراشات نطاردها
في الليل، في عالم الأحلام والقمر.
ويقول:
جيكور، مسِّي جبيني فهوملتهب...
مدي عليَّ الظِلال السُمر، تنسحب
ليلا فتخفي هجيري في حناياها(2)
ويقول في قصيدة (جيكور وأشجار المدينة)(3):
والليل في جيكور
تهمس فيه النجوم
أنغامها، تولد فيه الزهور
وتخفق الأجنحة
في أعين الأطفال، في عالم للنوم...
إن السياب في المدينة يحلم حياته بدل أن يعيشها، وإنسان هذا شأنه يظل دوما ملتصقا بماضيه، وهوكما نرى كثير الرجوع إلى جيكور واقفا عند أدق تفاصيلها وقوفا متأنيا، متشبثا بكل لحظات الفرح والطفولة فيها، ولكن تكرارها هذا في شعره-وبهذه الكيفية الملفِتة للنظر- وإلى غاية أواخر سني عمره، ليس له من تفسير-في اعتقادنا- سوى محاولة بعث الماضي وإرادة استمراره في الحاضر بل وإدامته إلى الأبد، وبهذا فقط، يتمكن كما يرى جاك اليوت من إذابة الادراكات المختلفة وتكثيفها في آن واحد، وبالتالي اختزالها إلى"جوهر مفرد" بمعنى الذات.(4)
وتلتقي أيضا نازك الملائكة مع السياب في هذه الرؤية التي تحاول إستيحاء الماضي (الأمس) وإحلاله محل الحاضر، وحتى المستقبل. فهي على الرغم من أنها لم تكن تؤمن بجدوى الماضي كملاذ من الحاضر -كشأن حاوي(5)-والاهتمام أكثر بالمستقبل في قولها:
يسائلنا غدُنا مَنْ نكون
ويتركنا أمسنا المنطوي في ضباب القرون(6)
__________
(1) - الديوان، 1/186.
(2) - الديوان 1/187.
(3) - م: ن- 1/634.
(4) - أنظر : هانز ميرهوف: "الزمن في الأدب"- ص: 57.
(5) * - إذ يرى بانه لا جدوى من الالتفات إلى الماضي، بل ان الالتفات إليه يحيل صاحبه إلى عمود من الملح، أنظر: ديوانه(نهر الرماد)- ص: 84 .
(6) - الديوان، 2/ 235.(1/424)
إلا أنها اقتنعت بضرورة العودة إلى الماضي، وأدركت بأن ضمان الشعور بالاستمرار لا يمكن أن يتم إلا باللجوء إلى الماضي، وعرفت بأن الارتكاز على الماضي كأساس متين، هو أمر مهم للتخلص من خطر الحاضر، ونوال الراحة المبتغاة. ولذلك تقول:(1)
سنحلم أنّا نسير إلى الأمس لا للغد
فمن الواضح أن السياب ونازك، وغيرهم من الشعراء المعاصرين الذين لم يتسع المجال لذكرهم، أنهم باستحضارهم لذكرياتهم، ومحاولتهم إحلال خبراتهم الماضية محل الحاضر، إنما يعمدون إلى ما يسميه (بروست) بالماهية الميتافيزيقية بقية لخبراتهم الفريدة، وهي ماهية لا زمنية تعطي الشاعر حسا بالامتلاء والراحة، وتوفر له شعورا بالخلاص من أسر الزمن وضغوطه، بل وتمنحه شعورا بالأبدية(2)، تستوي عنده فيه البداية بالنهاية، بحيث لا يصبح عنده لحالات الزمن العادية(الماضي والحاضر والمستقبل) أي تمييز، إنها تغدوكلها متضمنة أو كامنة، وهذا من شأنه أن يوَلِّد وضعا لا زمنيا تتحرر الذات من خلاله من مترية الزمن واطّراده؛ إذ تصبح تلك البرهات الثلاث المتداخلة والمتضمنة، إمكانات لا نهائية ضمن أية برهة في مدى عمر أي إنسان(3).
__________
(1) -م. ن، 2/303.
(2) * - ذلك لأن الأحداث التي تدخل الذاكرة تكون قد نجت من غلواء الزمن فهولا يطاله ."فالزمن لا سلطان له على الذاكرة والأشياء التي تسكن ذاكرتنا تظل هي هي لذلك لا يكبر الأموات في ذاكرتنا ولا يهرمون"، أنظر محمد لطفي اليوسفي: في بنية الشعر العربي المعاصر- ص: 45.
(3) - ينظر : هانز ميرهوف، الزمن في الأبد، ص 56 .(1/425)
وربما من اجل هذا لمسنا كثافة حضور الفعل المضارع -الذي هو فعل الدراما بعكس القصة التي فعلها هو الفعل الماضي- لكونه غير مرتبط بزمن محدد، ولكونه أيضا الحامل الأكبر للقصيدة المعاصرة –التي هي بحق قصيدة ذات إشكالية زمانية- وعماد الفاعلية النفسية المشحونة بالاضطراب. فلقد تراجعت الصفات والألفاظ المحددة إلى المرتبة الثانية، وتركت المرتبة الأولى لاستقبال كل ما هو مشحون بالنفساني المضغوط(1).
فتوظيف الفعل المضارع –(مسي جبيني، مدي علي، تهمس، تخفق) عند السياب و(سنحلم، نسير) عند نازك- واستيحاء الماضي به، وفّر تمازجا وتداخلا حميما ما بين (القَبل) و(البَعد)، وقذف بالذات الشاعرة في لحظة الأبدية؛ بحيث لم يعد لها من تمييز بينهما، وهذا من شأنه أن يخلق لنا مفهوما غريبا للتحاضر (التآينco-présence)(2) الأزلي، الذي يُخَلِص الشاعر من ضغط الزمن الموضوعي سواء برتابته المضجرة، أو بتدفقه المتسارع الذي يشعر الذات بدنوأجلها وقرب فنائها...
__________
(1) - ينظر : يوسف اليوسف، الشعر العربي المعاصر، ص 23.
(2) - أُخذ المصطلح من : هانز ميرهوف، الزمن في الأدب، ص 56.(1/426)
وجدير بالذكر أن هناك تلاحم صميمي، ما بين غياب نمطية صارمة تنتظم القصيدة الحديثة(1)، وغياب زمن صارم أيضا يحتويها، والفعل المضارع يرفد ذلك بجدارة. والبنية الشعرية –بحسب رأي غريماس- "دليل معقد" (2) ذوجمالية مغايرة لتلك الجمالية النثرية، أي أنها جمالية شعرية تتأبى على الوضوح والإعطاء المباشر، ولذلك فهي تلد زمنا خاصا بها، ليس هو الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، وإنما هي جميعا –في بنية واحدة هي البنية الشعرية المعقدة- متحاضرة ومتآينة.
إن زمن القصيدة الحديثة، هو زمن الواقع في حركيته وصخبه، والزمن الصوفي بمطلقيته، وزمن الأسطورة بلا زمنيته وشفافيته ونبوءته، وزمن الحدس والبصيرة بنفاذه، وزمن الانتظار مؤسَّسا عبر الرؤيا والحلم، هو زمن الذاكرة مجسداً في رموزه المتسامية فوق الزمن الموضوعي، الملامسة لتخوم المستقبل، المغالبة للحظة العدم، الصابّة في لحظة التجدد، المحاولة قول كل شيء دفعة واحدة. إنه زمن التداعي، زمن التيه والثبات الأبدي الناشئ من اختلاط الماضي بالحاضر بالمستقبل. إنه مجموع هذه الأزمنة مترافدة فيما بينها، متداخلة ومتمازجة، في شبكية لغوية ورؤياوية جد معقدة، لا يستطيع أن يعكسها إلا الفن وحده-أعني الفن الأصيل- لتغدوبذلك الحياة بكلِ أبعادها ومفارقاتها وتناقضاتها موضوعا له.
(((
الخاتمة:
__________
(1) - يرى إيليا حاوي أن القصيدة الحديثة لحظة الكتابة لا تخضع إلى تصميم قبلي، أو تخطيط مسبق، بل أنها تصدر عن حدس معقد ومضمر يشبه ذلك التصميم المضمر للمراحل التي تمر بها القصيدة وتتكامل من قبلها. ينظر إيليا حاوي، في النقد والأدب، ج5، دار الكتاب اللبناني، ط1، بيروت 1980،ص 80.
(2) - Julien Greimas:Essais de sémiotique poétique,c. L. larousse, Ed . larousse,paris 1972-P:10.(1/427)
الشعر العربي المعاصر، بما هو إبداع فني وإدراك جمالي للحياة، مشروط تاريخيا وفنياً بوجود سابق إبداعي، يتمثل فيما أنجزته البشرية على مرّ العصور من تراث فنيّ وفلسفي عريقين على المستويين العربي والغربي.
ومن هنا كان من الضروري البحث في معالجته لظاهرة المدينة في الشعر العربي المعاصر، تتبع إرهاصاتها، وبوادر ظهورها، وتنوع المواقف منها، بقراءة بعض فواصلها المرجعية والدلالية في إنتاج الثقافة البشرية، وتحديدا على المستوى الشعري والفلسفي. وهوما كان المدخل والفصل الأول قد طرحاه طرحا واعياً، راعى فيه البحث عن جذور هذه الظاهرة، ومعرفة مدى التطور الذي عرفته عبر صيرورتها التاريخية.
فانتشار فكرة المدينة كظاهرة معنوية في شعرنا العربي الحديث والمعاصر، بهذه الكيفية لم يكن محض صدفة، بل إنه كان حتمية تاريخية اجتماعية، وضرورة ثقافية، تزامنت مع الانبعاث القومي ومستلزماته، وتعقد الحياة فيه.
وهذا –في حد ذاته- يعني أن تلك النقود التي ذهبت إلى أن الشعراء المعاصرين، قد نقلوا المدينة الإليوتية وتمثلوها –على اعتبار أن مدننا لم تبلغ من التعقيد ما بلغته مدينة هذا الأخير حتى يصدق التبرم منها- هي رؤية لا تعبر إلا عن كسل معرفي، لا يجتهد في أن يحيل الظاهرة على أرضيتها التاريخية، ولا تنبئ إلا عن قصور في الإدراك، يعجز عن أن يعرف بأن ما يشكّل ظاهرة في إنتاج ثقافة أمة ما، لا يمكن إلا أن يكون أصالة متجذرة في الوعي الاجتماعي والبناء الحضاري.(1/428)
والاختلاف –في هذا كله- في تناول الظاهرة (ظاهرة المدينة بين الشعر الغربي، وشعرنا العربي) واضح وبين. فإذا كان تناول الشعر الغربي لها ذا طابع تخمي مقتي، فإن تناول شعرنا لها، مطبوع بطابع نواحي "مأساتي"، ناتج أولا عن تأصل النزعة النواحية والمأساتية في النفس العربية نظراً لما تعرضت له عبر تاريخها الطويل من هزات ورجات، إضافة إلى طبيعة أرضها الصحراوية وقسوة الطبيعة عليها. وثانيا عن مدى الانكسارات والهزائم التي يعيشها العالم العربي اليوم، والذي تعتبر المدينة أهم مجسد له.
ولذلك فالشعر العربي المعاصر، لم يتناول المدينة على أساس أنها كيان مادي فحسب –كما هو الشأن في أكثر الأحيان عند الشاعر الغربي- بل أنّها غدت عنده نقطة ارتكاز مهمة لتفجير هموم أبعد من كيانها المادي، فبعضها يفجر أحزانا تاريخية، وبعضها يفجّر أحزانا فلسفية ميتافزيقية، وبعضها يفجر أحزاناً حضارية. وكل ذلك يفضي إلى تفجير أحزان حياتية. هي أحزان الواقع العربي بكل تجلياته؛ من انكسارات قديمة، وهزائم وتراجعات معاصرة...
من هذه الرؤية كان تناول الشاعر العربي المعاصر للمدينة كفضاء، وكنص عمراني، زيادة على كونها إطاراً حضارياً، يتأرجح ما بين القبول والرفض. فهومرة يراها: حضارة الأرصفة الخاوية من الروح، ومرة أخرى: مهد الثورة ومنطلق أمل التغيير المأمول.
وفكرة المدينة في الشعر العربي المعاصر –بهذه الرؤية- ظاهرة ارتبطت بتطور العصر ولم تنفصل عنه. ورفضها الذي نصطدم به في كثير من القصائد هو شكل من أشكال التعبير عن رفض قيم العصر التي سادت، باعتبارها –(أي المدينة)- المركز أو التجمّع المكثّف لهذه القيم.(1/429)
ولقد جاء هذا الرفض مبطّنا في كثير من الأحيان بالهروب الحلمي، أو اللجوء إلى الأساطير، أو الامتياح من الماضي المزهر ومحاولة إحلاله محل الحاضر المتردي، مع إلباسه لبوسا عصريا –بطبيعة الحال- وباختصار هو هروب إلى الروحيات، أو الأنماط العليا للإنسان. وهذا في حد ذاته يعتبر طرحا لبديل ممكن ومرغوب.
ولذلك فشعر المدينة، كان شعر الحضارة في بنائها، والعصرنة والحداثة في توجهاتها، لكونها لحظة تبحث عن ذاتها، عن نموها الخاص، عن تشكلها التاريخي المتبلور ضمن تدفق زخم هذه الحضارة الدخيلة الجدّ متطورة، التي تحيط بنا وتحاصرنا من كل جانب، وأيضا تفد علينا وتغزونا يوميا بآلياتها العملاقة.
فبرهة تأمل المدينة –كمكان وكزمان وكإطار حضاري- وتجسيد التغيير الحاصل فيها، هو تصوير لتسارع تاريخي وصراع حضاري، يبحث عن ذاته، محاولا تأصيلها وتجذيرها. وبعبارة أخرى، إنه الخطوة المؤسسة لما كان يجب أن تكون عليه حضارتنا وواقعنا.
والمدينة –بهذه الرؤية- كانت نقطة ضوء ممتازة لرؤية الواقع العربي في جميع مراحل حياته: ماضيه وحاضره ومستقبله، إذ بها، وفيها تنكشف الصراعات الحضارية، وتُعرف صيرورة المجتمع وحركيته، وبها يتأسس المستقبل، ويتحدد كيان الأمة، وتتجلى فردانيتها، وعلى ضوئها تتأصل ثوابتها وتتضح مميزاتها كأمة لها عراقتها وأصالتها المميزّة.
ولذلك فالمقارنة بين الريف والمدينة، حتى ولوكانت لا شعورية فإنها لا يمكن أن تكون ضربا من الحنين فقط، بل وجدنا أنها عبارة عن شكل من أشكال الصراع ما بين الأصالة، والمعاصرة النازعة نحوالتغريب. أو إن شئت بين الطبيعة والتمدين (الزائف)، الوافد من الخارج،لا المنبثق من الداخل-(داخلنا)- الناتج عن كمّ تراكمي وتطوّر حتمي لا تعسّفي. إنها تعبير عن اللا ّامتلاك الحضاري.(1/430)
ولهذا لا يمكن أن يكون شعر المدينة ورفضها، ثورة نفسية من شاعر ذي أصول ريفية ضد قيم المدينة، أو تعبيرا عن عجز عن التكيف مع حياة المدينة فحسب، لأن في هذا إغماط لهذا الشعر حقّه، وتجريده من صفة الأصالة والرفعة التي يتميز بها، كما أنها رؤية فيها الكثير من الإجحاف. ذلك لأن شعر المدينة مرتبط بالرؤية الحداثية بكل ملابساتها، هو في جوهره تمثيل لروح العصر الجديد، وتجسيد لروح التفاعل مع معطيات العالم الحديث. وتمثّل للثقافة العالمية في بعدها الإنساني. ولهذا فالأقرب إلى الحقيقة والصواب هو أن شعر المدينة ثورة حضارية، ولدّها ذلك التصادم ما بين ثقافة أصيلة راسخة، وثقافة راكدة مهتزة لا تكاد تبعث إلا على اليأس، كما ولدّها وعي الذات لواقع حضارتها في مقابل واقع حضارة الآخر.
فالمعاناة الحقيقية هي أن مدننا في شكلها الهندسي وطابعها العمراني ذات طراز حديث ومعاصر فعلا، ولكنها في مقابل ذلك ما زالت تعيش بعقلية متخلفة وسلوك غير حضاري. فهذه المدن لا تعدوأن تكون مجرد أسواق استهلاكية، لا تنتج ثقافتها، ولا تختلف في نمط معيشتها عن الريف، فهي وهوفي كثير من المناحي سواء، ولعلّ ما أسهم في هذه الوضعية، وأفقد المدينة هو يتها المميزة، هو ذلك النزوح الريفي الدائم نحوالمدن، مما غدت معه بعض المدن مجرد قرى كبيرة، ينضاف إليه أن المدينة العربية –بسبب نزوعها الاستهلاكي فقط- لم تتطور تطوراً مطرداً يمكن أن يسهم في تحديد هو يتها ويميّزها عن الريف.
ولكن الطريق ما يزال مفتوحاً أمام المدينة العربية المعاصرة لكي تتحدد هو يّتها، ويتحقق تميزها. كما أن الطريق ما يزال مفتوحا أيضا أمام الشاعر العربي لكي يرتفع بمدينته إلى مستوى الرمز، الذي يمكن أن يكون بديلا فعالا عن واقع مرفوض، وبوتقة محكمة تنصهر بداخلها مكتسبات الماضي، ومعطيات الحاضر ورؤى المستقبل.(1/431)
فالفن الأصيل هو الذي لا يعول على الوجود الملموس والقبول به كما هو، بل يعول على الجنيني والمجهول. وهوأيضا لا يعنى بنقل الواقع المعطى كما هو ، أو كما يمنح نفسه للرؤية المباشرة، بل إنه لينفذ إلى دواخله، ليكشف عن بواطنه، ويفتش فيه عما يمكن أن يفيد رؤيته ويرفد طموحه، ويسهم في بلورة صياغته.
ومقاربة شعر المدينة في رؤيته الحداثية، لا يمكن أن يغفل تلك الصلة الحميمية بين بناء القصيدة ومعمار المدينة،ومدى التداخل الحاصل بينهما.فإذا كانت العمارة القديمة تتسم بالبساطة والوضوح والانسجام والاكتفاء بالضروري، وكانت القصيدة القديمة كل همها ينحصر في الإبانة عن المعنى والتزام الوضوح والمكاشفة والنزوح نحوالبساطة، والافتتان بالانسجام والتناغم القائم على مبدأ التناظر والتقابل، فإن الأمر في العمارة الحديثة والقصيدة الحديثة، قد غدا على العكس من ذلك تماما، إذ أصبح التداخل بين المكان والزمان والتعتيم الّلوني هو ديدنها...
وبعد فإن قراءتنا لشعر المدينة في ارتباطه بالرؤية الحداثية للكون والحياة، هي وليدة جهد مضن في البحث والتحصيل تنوّع ما بين قراءات فلسفية ونفسية، واجتماعية ولسانية، ونقدية جمعت ما بين القديم والجديد. مما جنبنا النظرة الأحادية، والرؤية المبسترة،والاستسلام للإجابات اليقينية. ولكن هذا التنويع في قراءة الظاهرة لا يعني الانزلاق في متاهة التوفيقية. فالبحث كان يجهد في اختيار الأدوات الإجرائية، والعمل على حسن استثمارها، مع حرصه الكامل على المحافظة على حرارة النص الشعري وزخمه الإبداعي، الطازج، ومشاركته في البحث عن الحقيقة المغيّبة.(1/432)
ولقد كانت طموحات البحث كبيرة في دراسة تجربة المدينة في الشعر العربي الحديث والمعاصر، في سياقاتها الحضارية والجمالية. ولكن يبقى ما حققه دون ذلك، لأن حجم الإشكاليات التي تطرحها الحداثة الشعرية في علاقتها بالمدينة كبيرة، لا يمكن أن يفي بها جهد بحث واحد –مهما كانت استقصاءاته وسعته وتنوعه وثراؤه- ولذلك فحتما تبقى الكثير من الأسئلة معلقة، تنتظر جهود أبحاث أخرى. وباب الاحتمالات يبقى مفتوحا، ويبقى الخطاب الشعري قابلا لمستويات أخرى من القراءة. فقراءتنا لا تدّعى –ولا ينبغي لها أن تدّعي- الإحاطة الشاملة بمستويات الخطاب الشعري ورؤاه، على الرغم من أنها حاولت جاهدة القبض على مفاصل النص، والتماس منطلقات التجربة الشعرية الحديثة في علاقتها بالمدينة. وحسبها أن تكون قد أثارت بعض الأسئلة وطرحت بعض الإشكالات وأنارت بعض المساحات المظلمة وكشفت عن بعض المواطن الخفية، وأسهمت بشكل أو بآخر في تجلية الظاهرة وبلورتها، وفق ما يقتضيه منهج البحث الأكاديمي –على الرغم مما يتسم به من برودة وجفاف علمي- وضمن مسار البحث الإبداعي الأصيل –الذي لا يؤمن بالإجابات القطعية والأحكام المبرمة- عن الذات في علاقتها بالحضارة.
وبالله التوفيق
(((
أولا: المصادر والمراجع العربية والمترجمة:
1. ... القرآن الكريم
2. ... الكتاب المقدس
( أ )
3. ... إحسان عباس ... : اتجاهات الشعر العربي المعاصر، عالم المعرفة، الكويت 1978.
4. ... // // ... :شعر الخوارج، دار الثقافة، بيروت 1923.
5. ... أحمد حمدي ... :قائمة المغضوب عليهم، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1980.
6. ... أحمد سحنون ... :الديوان، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1980.
7. ... أحمد شوقي ... :الشوقيات (جزءان)، المكتبة التجارية الكبرى ،القاهرة ،د.ت.
8. ... أحمد عبد المعطي حجازي ... الديوان، دار العودة ،بيروت 1973.
9. ... أحمد كمال زكي ... :دراسات في النقد الأدبي،دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع 1980.(1/433)
10. ... أحمد المديني ... :أسئلة الإبداع في الأدب العربي المعاصر،دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،ط1، 1985.
11. ... أحمد مشاري ... : أجنحة العاصفة، شركة الربيعان، الكويت 198.0.
12. ... أحمد هيكل ... :الأدب الأندلسي، دار المعارف بمصر 1967.
13. ... أحمد يوسف ... تجليات القلق في شعر صلاح عبد الصبور (مخطوط) رسالة ماجيستر نوقشت بمعهد اللغة والأدب العربي جامعة وهران 1989
14. ... الأخطل الصغير ... : ،الهوى والشباب، دار بيروت ،ط 1982
15. ... إدوارد غاييد ... :المدينة في شعر زماننا: الإنسان والمدينة في العالم المعاصر، 13 مقالة في هذه المواضيع لمحاضرين ومفكرين فرنسيين، تعريب كمال خوري ،منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1977.
16. ... أدونيس (علي أحمد سعيد) ... :الآثار الكاملة (جزءان)، دار العودة–بيروت، ط2، 1971.
17. ... // // ... : أغاني مهيار الدمشقي، دار العودة ،بيروت 1977
18. ... // // ... : الثابت والمتحول (2) تأصيل الأصول ،دار العودة ،
بيروت 1974.
19. ... // // ... : الثابت والمتحول (3) صدمة الحداثة ،دار العودة ،بيروت 1975.
20. ... // // ... : زمن الشعر ،دار العودة، بيروت ،ط1 ،1972.
21. ... // // ... : كتاب القصائد الخمس ،دار العودة ،بيروت 1980.
22. ... // // ... : المسرح والمرايا ،دار العودة ،بيروت 1968.
23. ... // // ... : مفرد بصيغة الجمع ،دار العودة ،بيروت 1977.
24. ... // // ... : مقدمة للشعر العربي ،دار العودة ،بيروت، ط4، 1983
25. ... // // ... :وقت بين الرماد والورد، دار العودة، بيروت،ط3، 1972.
26. ... إديث كيرزويل ... : عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو،ترجمة: جابر عصفور، دار آفاق عربية للصحافة والنشر ،العراق ،الإيداع 1985.
27. ... أرزاح عمر ... : وحرسني الظل ،المؤسسة الوطنية للكتاب ،الجزائر 1976.
28. ... الإسكندر كوبري ... : مدخل لقراءة أفلاطون ،ترجمة : عبد المجيد أبو النجار ،مراجعة د/ أحمد فؤاد الأهواني ،الدار المصرية للتأليف والترجمة، مصر،بدون تاريخ.(1/434)
29. ... إلياس أبو شبكة ... : أفاعي الفردوس ،دار الحضارة ،بيروت ،ط3 ،1962.
30. ... // // ... : الألحان، دار المكشوف ،بيروت 1963.
31. ... // // ... : القيثارة، مطبعة صادر ،بيروت 1926.
32. ... إلياس خوري ... : دراسات في نقد الشعر ،دار ابن رشد ،ط2 ،1981.
33. ... أمل دنقل ... : الأعمال الشعرية الكاملة ،دار العودة ،بيروت 1985.
34. ... إميل توفيق ... : الزمن بين العلم والفلسفة والأدب ،دار الشروق ،ط1 ،1986.
35. ... إميل بلاثيوس ... : ابن عربي: حياته ومذهبه ،ترجمه عن الإسبانية: د/ عبد الرحمن بدوي،وكالة المطبوعات الكويت دار القلم ،بيروت 1979.
36. ... أنطوان غطاس كرم ... : ملامح الأدب العربي الحديث ،دار النهار للنشر، بيروت 1988
37. ... أنطوان قازان ... : "أدب وأدباء" الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1974.
38. ... أنطوان معلوف ... : المدخل إلى المأساة والفلسفة المأساوية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،لبنان ،ط1 ،1982.
39. ... إيليا حاوي ... : إلياس أبو شبكة شاعر الجحيم والنعيم ،دار الكتاب اللبناني ،د.ت.
40. ... // // ... : في النقد والأدب،ج 5، دار الكتاب اللبناني ،بيروت ،ط1 ،1980.
( ب )
41. ... ابن باجة ... : رسائل ابن باجة الإلهية ،تحقيق: ماجد فخري، بيروت، 1968.
42. ... بدر شاكر السياب ... : الأعمال الشعرية الكاملة ،مج 1، دار العودة ،1971.
43. ... برهان غليون ... : الوعي الذاتي ،منشورات عيون ،الدار البيضاء ،ط1 ،1987.
44. ... تشارلز فرانكل ... : أزمة الإنسان الحديث ،ترجمة: نقولا زيادة، مؤسسة فرانكلن.
المساهمة للطباعة والنشر ،بيروت، نيويورك 1959.
( ج )
45. ... الجاحظ ... :كتاب الحيوان ج3،تحقيق عبد السلام هارون ،دار الكتب ،بيروت 1969.
46. ... جان برنيس ... :المخيلة،ترجمة: د/خليل الجر، المنشورات العربية،بيروت ،ط1،1984.
47. ... جبرا إبراهيم جبرا ... : النار والجوهر (دراسات في الشعر) ،المؤسسة العربية للدراسات
والنشر، بيروت، ط3، 1982.
48. ... جلال الخياط ... : الشعر والزمن ،دار الحرية للطباعة ،بغداد 1975.(1/435)
49. ... جميل صليبا ... :من أفلاطون إلى بن سينا، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع،ط3،د.ت.
50. ... // // ... : المعجم الفلسفي ،ج2، دار الكتاب اللبناني، 1979.
51. ... جودت مدلج ... : الحب في الأندلس ،دار لسان العرب ،بيروت ،ط1، 1985
52. ... جورج غريب ... : لحظات جمالية ،دار الثقافة، بيروت ،ط2 ،1983.
( ح )
53. ... حبيب صادق ... : في زمن القهر والغضب ،اتحاد الكتاب العرب ،دمشق. د.ت.
54. ... حسام الخطيب ... : ملامح في الأدب والثقافة واللغة ،منشورات وزارة الثقافة والأدب القومي ،دمشق 1977.
55. ... حسن سعد ... : الاغتراب في الدراما المصرية المعاصرة بين: النظرية والتطبيق ،الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986.
56. ... حسين عبد الله محمد ... : الصورة والبناء الشعري ،دار المعارف ،القاهرة ،د.ت.
57. ... حمري بحري ... : ما ذنب المسمار يا خشبة–الشركة الوطنية للنشر والتوزيع،الجزائر،د.ت.
(خ)
58. ... خالدة سعيد ... : حركية الإبداع: دراسات في الأدب العربي الحديث ،دار العودة، بيروت، ط1، 1979.
59. ... خريستونجم ... : النرجسية في أدب نزار قباني ،دار الرائد العربي ،بيروت،ط1، 1983
60. ... ابن خفاجة ... : الديوان،تحقيق السيد مصطفى غازي ،دار المعارف بالإسكندرية 1960.
61. ... خلدون الشمعة ... : الشمس والعنقاء، دمشق 1974.
62. ... خليل حاوي ... : الأعمال الكاملة ،دار العودة ،بيروت 1972.
63. ... // // ... : الرعد الجريح ،دار العودة ،بيروت 1979.
64. ... // // ... : من جحيم الكوميديا ،دار العودة ،بيروت 1979.
65. ... خليل شرف الدين ... : ابن خلدون ،منشورات دار مكتبة الهلال ،د.ت.
66. ... خير منصور ... : أبو اب ومرايا: مقالات في حداثة الشعر ،دار الشؤون الثقافية العامة ،بغداد، ط1، 1987.
67. ... خيري الضامن ... : التكوين الشعري: منشورات عويدات ،ط1 ،1958.
(د)
68. ... دني هو بسمان ... : علم الجمال ،ترجمة: ظاهر الحسن، منشورات عويدات ،بيروت،ط2، 1963
(ر)
69. ... ربيعة جلطي ... : شجر الكلام، منشورات السفير ،مكناس ،المغرب ،ط1،1991.(1/436)
70. ... رمضان لاوند ... : وجودية ووجوديون ،منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت ،د.ت.
71. ... روبير لنسن ... : التطوّر النفسي في الألف القادمة ،ترجمة: نذرة اليازجي ،دار الغربان دمشق: القصور،1983
72. ... ريتا عوض ... : أدبنا الحديث بين الرؤية والتعبير،المؤسسة العربية، بيروت1979.
73. ... ريتا عوض ... : أسطورة الموت والانبعاث في الشعر العربي الحديث، المؤسسة العربية، بيروت.1978
(ز)
74. ... زكرياء ابراهيم ... : مشكلة الإنسان،مكتبة مصر للطباعة،الفجالة، القاهرة،د.ت.
75. ... // // ... : مشكلة البنية أو أضواء على البنيوية، دار مصر للطباعة –د.ت.
76. ... // // ... : المشكلة الخلقية،مكتبة مصر للطباعة، الفجالة، ط3، 1980.
(س)
77. ... سبيان (ج) ... : تطور الفكر السياسي، ج1، ترجمة: حسن جلال العروسي، تصدير: د/عبد الرازق السنهوري، مراجعة:د/خليل عثمان، دار المعارف مصر،ط3، 1963
78. ... ستيبان أو ذريف ... : على دروب زرادشت، ترجمة: فؤاد أيوب، دار دمشق –ط1، 1983.
79. ... سعدي يوسف ... : الأخضر بن يوسف ومشاغله، مطبعة الأديب البغدادية 1972.
80. ... // // ... : تحت جدارية فائق حسن ،دار الفارابي، بيروت 1974.
81. ... ابن سعيد (علي المغربي) ... :المغرب في حلي المغرب–ج2، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف بمصر1964 .
82. ... سلمى الخضراء الجيوسي ... :العودة من النبع الحالم.
83. ... سمير الحاج شاهين ... :لحظة الأبدية (دراسة الزمان في أدب القرن العشرين)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت، ط1، 1980.
84. ... سي دي لويس ... : الصورة الشعرية، ترجمة: أحمد نصيف الجناني ومالك ميري وسلمان حسن إبراهيم ،الجمهورية العراقية ،وزارة الثقافة والإعلام ،دار الرشيد للنشر 1982
(ص)
85. ... صلاح عبد الصبور ... : الإبحار في الذاكرة ،دار العودة ،بيروت، ط3، 1982.
86. ... // // ... : الأعمال الشعرية، دار العودة، بيروت، ط1، 1972.
87. ... // // ... : أقول لكم ،دار الشروق ،القاهرة،1981.
88. ... // // ... :حياتي في الشعر، دار العودة ،بيروت،1977(1/437)
89. ... // // ... :شجر الليل، دار الشروق، القاهرة ،ط3، 1981.
90. ... // // ... : مدينة العشق والحكمة، منشورات اقرأ، بيروت، د.ت.
91. ... طريف الخالدي ... : فكرة المدينة في صدر الإسلام (دراسات في تاريخ الفكر العربي الإسلامي)،دار الطليعة، بيروت، ط2، 1973.
92. ... طه حسين ... : حديث الأربعاء (ج1)، دار المعارف، مصر،ط8.
(ع)
93. ... عبد الرحمان بدوي ... : الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، مكتبة النهضة، القاهرة 1947.
94. ... // // ... : الزمان الوجودي، دار الثقافة ،بيروت ،ط2، 1973.
95. ... عبد الرحمان بن خلدون ... : المقدمة، المكتبة التجارية، مطبعة مصطفى محمد، د.ت.
96. ... عبد الرضا علي ... : الأسطورة في شعر السياب، دار الرائد العربي، بيروت، ط2، 1989.
97. ... عبد السلام بنعبد العالي ... : الفلسفة عند الفارابي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت،ط2، 1981.
98. ... عبد الصمد زايد ... :مفهوم الزمن ودلالته في الرواية العربية المعاصرة، الدار العربية للكتاب، الجماهيرية الليبية، ط1988.
99. ... عبد العزيز المقالح ... : الشعر بين الرؤية والتشكيل ،دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر ،ط2، 1985
100. ... عبد العالي رزاقي ... : الحب في درجة الصفر، المأسسة الوطنية للكتاب1977
101. ... عبد الغفار مكاوي ... : ثورة الشعر الحديث (ج1)، الهيئة المصرية العامة للكتاب1972.
102. ... عبد القادر القط ... : في الشعر الإسلامي والأموي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر ،بيروت،1979
103. ... عبد الملك مرتاض ... : بنية الخطاب الشعري (دراسة تشريحية لقصيدة أشجان يمنية للمصالح) ،دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع،بيروت،ط1، 1986.
104. ... عبد المنعم تليمة ... : مقدمة في نظرية الأدب،دار العودة،بيروت،ط2، 1979
105. ... عبد الواحد لؤلؤة ... : ت.س اليوت (والأرض اليباب) الشاعر والقصيدة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،ط1، 1980.
106. ... عبد الوهاب البياتي ... : الأعمال الشعرية، دار العودة، بيروت،ط3،1979.(1/438)
107. ... عدنان حسين قاسم ... : لغة الشعر العربي (أصالة التراث في مواجهة التهجين)،قطاع الكتاب والتوزيع والإعلان والمطابع ،الجماهيرية الليبية ،ط1، 1981.
108. ... عدنان خالد عبد الله ... : النقد التطبيقي، سلسلة كتب شهرية تصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة، أفاق عربية، بغداد ،ط1، 1986.
109. ... عز الدين إسماعيل ... : التفسير النفسي للأدب ،دار العودة ودار الثقافة، بيروت .
110. ... // // ... : الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ،دار العودة ودار الثقافة ،بيروت ،ط3، 1981.
111. ... // // ... : الشعر في إطار العصر الثوري، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع –بيروت –1985.
112. ... // // ... : الفن والإنسان ،دار القلم، بيروت 1974.
113. ... علوي الهاشمي ... : العصافير وظل الشجرة ،المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان والمطابع ،طرابلس 1983.
114. ... علي بن حزم ... : طوق الحمامة ،القاهرة 1967.
115. ... علي زيعور ... : العقلية الصوفية ونفسانية التصوف، دار الطليعة للطباعة والنشر –بيروت،ط1، 1979
116. ... عمر الدقاق ... : ملامح الشعر الأندلسي ،مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية حلب، ط3، 1978.
117. ... عمر رضا كحالة ... : الحب ،مؤسسة الرسالة –بيروت 1978.
(غ)
118. ... غسان خالد ... : جبران الفيلسوف، مؤسسة نوفل، لبنان، ط2، 1983.
119. ... غاستون باشلار ... :جدلية الزمن، ترجمة/خليل أحمد خليل،ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر 1983
120. ... // // ... : جماليات المكان ،ترجمة/ غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان،ط2، 1984..
121. ... // // ... : النار في التحليل النفسي، ترجمة / نهاد خياطة،دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان ،ط1، 1984.
(ف)
122. ... فاروق شوشة ... : الدائرة المحكمة ،نشر مدبولي، القاهرة 1982
123. ... فولاذ الأنور ... : شارات المجد المنطفئة ،الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987
(ق)
124. ... ابن قتيبة: (عبد الله بن مسلم) ... : الشعر والشعراء ،دار إحياء العلوم ،بيروت، ط2، 1986.
(ك)(1/439)
125. ... كارل ياسبيرس ... : عظمة الفلسفة ،ترجمة ،عادل العوا، منشورات عويدات ،ط2، 180.
126. ... كريستوكوديل ... : الوهم والحقيقة (دراسة في منابع الشعر والواقع)، ترجمة/ توفيق الأسدي ،دار الفارابي،ط1، 1982
127. ... الكمشخاوي ... : جامع الأصول، طبعة الحلبي، القاهرة ،د. ت.
128. ... كمال أبو ديب ... : جدلية الخفاء والتجلي ،دار العلم للملايين ،بيروت،ط1، 1979.
129. ... // // ... : في الشعرية ،مؤسسة الأبحاث العربية ،ش.م.م ط1، 1987
130. ... كولون ولسون ... : سقوط الحضارة ،ترجمة أنيس زكي حسن، منشورات دار الآداب بيروت، ط2، 1979.
(م)
131. ... ماجد السامرائي ... : رؤيا العصر الغاضب (مقالات في الشعر)، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ،ط1، 1982..
132. ... مالك بن نبي ... : ميلاد مجتمع : شبكة العلاقات الاجتماعية ج1، ترجمة/ عبد الصبور شاهين، بإشراف ندوة مالك بن نبي، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، دمشق، ط1، 1974.
133. ... م.ل.روزنتال وب. يودين ... : الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة ،بيروت ،ط3، 1981.
134. ... المتنبي (أحمد أبو الطيب) ... : موجز الديوان، شرح اليازخي ،اختصره سليمان العيسى، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، د.ت.
135. ... مجاهد عبد المنعم مجاهد ... : جدل الجمال والاغتراب، السلسلة القافية(2)، مكتبة الأنجلوالمصرية ،القاهرة،1986.
136. ... محمد الأخضر السائحي ... : همسات وصرخات،دار الطليعة،بيروت 1965.
137. ... محمد بدوي ... : الجحيم الأرضي: قراءة في شعر صلاح عبد الصبور، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1986.
138. ... محمد بنيس ... : الشعر العربي الحديث: بنياته وابدلاتها، دار توبقال للنشر الدار البيضاء، المغرب ط 1، 1990.
139. ... محمد رضى الشبيبي ... : أدب المغاربة والأندلسيين في أصوله المصرية ونصوصه العربية،دار اقرأ للنشر والتوزيع والطباعة، بيروت –ط2، 1984.
140. ... محمد رضا كحال ... : دراسات في النقد الأدبي.(1/440)
141. ... محمد زتيلي ... : فصول الحب والتحوّل ،الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر،ط1982
142. ... محمد زكي العشماوي ... : الأدب وقيم الحياة المعاصرة،دار النهضة العربية، 1980.
143. ... محمد شرارة ... : المتنبي بين البطولة والاغتراب –تحقيق حياة شرارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط1، 1981.
144. ... محمد طمار ... : تاريخ الأدب الجزائري الحديث، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ،الجزائر –ط1981.
145. ... محمد عبد الحي ... : العودة إلى سنار،ط. جامعة الخرطوم،د.ت
146. ... محمد عبد المنعم خفاجي ... : دراسات في الأدب المعاصر، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة،د.ت.
147. ... محمد عفيفي مطر ... : شهادة البكاء في زمن الضحك، دار العودة، بيروت ،د.ت.
148. ... // // ... : ملامح من الوجه الأنباد وقليسي،دار الآداب،بيروت 1969
149. ... محمد عمران ... : مرفأ الذاكرة، اتحاد الكتاب،دمشق،د.ت.
150. ... محمد غنيمي هلال ... :"الرومانتيكية"،دار المهضة مصر ،القاهرة 1971.
151. ... محمد لطفي اليوسفي ... : في بنية الشعر العربي المعاصر، سراس للنشر،تونس 1985.
152. ... محمد المكي ابراهيم ... : بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت، دار التأليف والترجمة والنشر1976.
153. ... محمد مهدي الجواهري ... : الديوان ج3،المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط3، 1982
154. ... // // ... : ديوان: نار المجاذيب ،طبع وزارة الإعلام بالخرطوم،د.ت.
155. ... // // ... : الشرافة والهجرة ،دار التأليف والترجمة والنشر جامعة الخرطوم 1973.
156. ... محمود درويش ... :حصار لمدائح البحر،دار سراس،تونس،ط1، 1984.
157. ... // // ... : الديوان،دار العودة،بيروت،ط8، 1981
158. ... محمود الربيعي ... :حاضر النقد الأدبي: مقالات في طبيعة الأدب،دار المعارف،القاهرة،ط1،1975
159. ... محمود رجب ... : الاغتراب : سيرة ومصطلح –دار المعارف، القاهرة،ط2، 1986.
160. ... محمود سامي البارودي ... : الديوان(ج1)، ضبط وشرح: علي الجارم ومحمد شفيق معروف،ط.دار المعارف،القاهرة 1971.(1/441)
161. ... محمود السمرة ... : متمردون (أدباء وفنانون) ،الدار المتحدة للنشر ،بيروت 1974.
162. ... محي الدين صبحي ... : الكون الشعري عند نزار قباني ،دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت ،ط1 ،1977.
163. ... مديحة عامر ... : قيم فنية وجمالية في شعر صلاح عبد الصبور ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،ط 1984.
164. ... مراد وهبة ... : يوسف وهبة والمذهب التكاملي ،الهيئة المصرية العامة للكتاب،الإسكندرية 1974.
165. ... مصطفى ناصف ... : دراسة الأدب العربي ،الدار القومية للطباعة والنشر ،القاهرة ،د.ت.
166. ... مليكة العاصمي ... : كتابات خارج أسوار العالم ،ديوان المقالات ،دار قرطبة للطباعة والنشر ،الدار البيضاء ،ط2.
167. ... ممدوح عدوان ... : ديوان الظل الأخضر ،منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق،1967.
168. ... مناف منصور ... : الأدب العربي قضايا ونصوص ،دار غندور للطباعة والنشر والتوزيع، ش.م.ل. الغبيري ،بيروت 1975.
169. ... // // ... : الإنسان وعالم المدينة في الشعر العربي الحديث ،مركز التوثيق والبحوث ،بيروت 1978.
170. ... منيف موسى ... : الشعر العربي الحديث في لبنان ،دار العودة ،بيروت ،ط1 –1980.
(ن)
171. ... ناجي نجيب ... : كتاب الأحزان ،دار التنوير للطباعة والنشر ،ط1، 1983
172. ... نازك الملائكة ... المجموعة الكاملة (مج1) ،دار العودة ،بيروت ،1971.
173. ... // // ... : المجموعة الكاملة (مج 2) ،دار العودة ،بيروت ،ط2، 1979.
174. ... // // ... : شظايا ورماد ،دار العودة ،بيروت ،ط2 ،1981
175. ... نبيلة إبراهيم ... :أشكال التعبير في الأدب الشعبي ،دار النهضة للطبع والنشر القاهرة،مصر.
176. ... نزار قباني ... : أحبك والبقية تأتي ،منشورات نزار قباني ،مطبعة دار الكتب بيروت،ط1، 1978.
177. ... // // ... : أشعار خارجة على القانون ،منشورات نزار قباني، مطبعة دار الكتب، بيروت، ط1، 1972.
178. ... // // ... : الأعمال السياسية ،منشورات نزار قباني ،مطبعة دار الكتب، بيروت –ط1، 1974.(1/442)
179. ... // // ... :الأعمال الشعرية الكاملة (مج1) ،منشورات نزار قباني، مطبعة دار الكتب، بيروت ،ط2 ،1973.
180. ... // // ... :قصتي مع الشعر ،منشورات نزار قباني ،مطبعة دار الكتب، بيروت ،ط1، 1973.
181. ... نزيه أبو نضال ... : جدل الشعر والثورة ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ،ط1، 1979.
182. ... أبونصر الفارابي ... :آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق، ش.م.م. بيروت، ط5، 1986..
183. ... // // ... :تحصيل السعادة ضمن (رسائل الفارابي) ،مطبوعات دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن ،الهند 1926.
184. ... // // ... :السياسة المدنية الملقب (بمبادئ الموجودات) ،تحقيق: د/فوزي متري نجار، المطبعة الكاثوليكية ،بيروت 1964.
185. ... // // ... : فصول منتزعة ،تحقيق د/ فوزي متري نجار ،دار المشرق ،بيروت، ط 1971.
186. ... // // ... :كتاب الجمع بين رأيي الحكمين،تحقيق: ماجد فخري،بيروت1968.
187. ... // // ... :كتاب الحروف،تحقيق: محسن مهدي ،دار المشرق، يروت 1970.
188. ... نوال السعداوي ... : الرجل والجنس،المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1976.
189. ... // // ... : المرأة والجنس ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1974.
190. ... نور الدين طوالبي ... : في إشكالية المقدس ،ترجمة: وجيه البعيني، منشورات عويدات، بيروت/باريس، ديوان المطبوعات الجامعية ،الجزائر ،ط1 ،1988.
(هـ)
191. ... هانز ميرهوف ... : الزمن في الأدب ،ترجمة: أسعد رزق ،مراجعة: العوضي الوكيل، مؤسسة سجل العرب (القاهرة)، بالاشتراك مع مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر ،ط 1964.
192. ... هنري برغسون ... : الطاقة الروحية ،ترجمة: سامي الدروبي ،دار الأوابد، دمشق،ط2، 1964.
193. ... هنري لوفيقر ... : ما الحداثة ،ترجمة: كاظم جهاد، دار ابن رشد للطباعة والنشر، بيروت،ط1، 1983.
( و)
194. ... الوناس شعباني ... : الشعر الجزائري منذ سنة 1945 حتى سنة 1980 ،ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1988.
( ي )(1/443)
195. ... يوسف الحوراني ... :الإنسان والحضارة (مدخل دراسة) ،منشورات المكتبة العصرية، بيروت، صيدا، ط2، 1973.
196. ... يوسف الخال ... : الحداثة في الشعر ،دار الطليعة للطباعة والنشر ،بيروت 1978.
197. ... يوسف غضوب ... : الأبواب المغلقة ،مكتبة البستاني ،بيروت 1947.
198. ... يوسف كروميز ... :القيمة والحرية ،ترجمة: عادل العوا ،دار الفكر ،دمشق،ط1، 1975.
199. ... يوسف اليوسف ... : الشعر العربي المعاصر ،منشورات اتحاد الكتاب العربي، دمشق 1980.
200. ... // // ... : مقالات في الشعر الجاهلي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1975
ثانيا: المراجع الأجنبية:
: Histoire de la philosophie en Islam. cité Urin 1972. ... A.BADAWI ... 201.
: L’idéologie arabe contemporaine maspéro, Paris 1977. ... Abdellah EL AROUI ... 202.
: Les fleurs du mal . N.E librairie Gallimard, Paris,1961. ... Charles BAUDELAIRE ... 203.
: Figures I « espace et langage » édition du seuil, Paris 1972. ... Gerard GENNETTE ... 204.
: Etude sur le temp. humain. I.Union général d’édition, Paris 1972. ... George POULET ... 205.
: Structure du langage poétique. C. Flammarion. Paris 1966. ... John COHEN ... 206.
:Essai de sémiotique Poétique. C.L. Larrousse, édition larousse, Paris 1972. ... Julien A.GREIMAS ... 207.
:The Poétique and the city, the University of Georgia.press 1948. ... John JOHNSON.H ... 208.
: Three City Poets : Rilke, Baude Laire and Verhaeren. ... Kristiian VERLUYS ... 209.
:“ A la recherché du temps perdu” T.III (le temps retrouvé) (la prisonnière) édition la pléiade 1954. ... Marcel PROUST ... 210.
:L’image poétique « courrier du centre international d’études poétiques » N° 17. ... Octavio PAZ ... 211.
: « Vitesses et Politique » Edition Gallilée, Paris 1977. ... Paul VIRILIS ... 212.
:(1/444)
Essai sur l'espace et le temp. ou propos sur la dialectique de la nature Edition Sociales, Paris 1976. ... pierre Jeagle ... 213.
: « La vie sexuelle » P.U.F. 1970. ... Sigmund FREUD ... 214.
: « La montagne magique » T.I A.F ayard 1966. ... Thomas MANN ... 215.
: « la montagne magique » T.II A.F ayard, 1968. ... // // ... 216.
ثالثا: الدوريات
1 ... إبراهيم محمود ... :حول الاغتراب الكافكاوي ،عالم الفكر، المجلد 15، العدد2، يوليو، أغسطس،سبتمبر 1984.
2 ... أحمد حامد السيد ... :الأسواق التقليدية كوسيلة للاتصال –عالم الفكر، المجلد 18، العدد 1، 1987.
3 ... أحمد عبد الله المهنا ... :تجربة الاغتراب عند نازك الملائكة ،مجلة الشعر ،العدد 42، ابريل 1986 (مصر).
4 ... إدوارد هال ... :"البروكسيمياء" أو علم المكان ،تر/ بسام بركة، العرب والفكر العالمي، العدد 2، ربيع 1988، (مركز الانماء القومي،بيروت).
5 ... اعتدال عثمان ... :الأندلس في الشعر العربي الحديث، الشعر ومتغيرات المرحلة (3) ،دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1986.
6 ... إلياس سحاب ... :المدينة الملوّثة والمدينة المشوهة، المصباح، العدد 4،(12/09/1980) (بيروت).
7 ... أنارذر فورد ... :دراسة في المسرح الافريقي : الزمان والمكان والهوية (مسرحية الأم لأتول فورغارد)،تر/ محمد الظاهرة ،عالم الفكر ،المجلد 15، العدد 4، 1985
8 ... إيليا حاوي ... :خليل حاوي في سطور من حياته وشعره ،الفكر العربي المعاصر العدد 26، 1983
9 ... إيليا حاوي ... :قراءة في شعر خليل حاوي، الفكر العربي المعاصر ،العدد 26، 1983
10 ... بانتيلي زائف ... :إحساس العصر الراهن ،تر/ عادل العامل ،مجلة (المعرفة)، العددان 310، 311 –أوت، سبتمبر1988.
11 ... بسام خليل فرنجية ... :الاغتراب في أدب حليم بركات فصول، المجلد 4، العدد 1، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1983
12 ... بول قريليو ... :حول أزمة المجال ،عرض د/ رجاء مكي، العرب والفكر العالمي ،العدد 2، ربيع 1988.(1/445)
13 ... جمال زعيتر ... :"أنشودة المطر" واقع وثورة، العرب والفكر العالمي، العدد 3، صيف 1988.
14 ... حافظ الجمالي ... :الحداثة والشعر وتجديد الحياة العربية، الموقف الأدبي، العددان: 193، 194، أيار وحزيران 1987 السنة 17.
15 ... حنا عبود ... :مورفولوجيا المدينة في الشعر السوري، الموقف الأدبي، دمشق تموز 1980
16 ... خليل أحمد خليل ... :فرادة التشخص في تخاطب الأنا/ الآخر، الفكر العربي المعاصر العدد 26،1983(عدد خاص بالشاعر خليل حاوي).
17 ... خليل الشيخ ... :صورة باريس في الأدب العربي الحديث حتى الحرب العالمية الأولى (دراسة في تلقي جمالية المكان الأوربي)، عالم الفكر ،المجلد 19، العدد 2، 1988.
18 ... دون ذكر للمؤلف ... :منظّر الرأي في الشعر عبر التاريخ، الفكر العربي المعاصر، العدد10،شباط 1981
19 ... رابح لطفي جمعة ... :الحداثة والمدينة في شعر غازي القصيبي، مجلة(المنهل)، المجلد 46، العدد 438، السنة 15،أغسطس، سبتمبر 1985.
20 ... سامية أسعد ... :مفهوم المكان في المسرح المعاصر، عالم الفكر، المجلد 15، العدد 04، 1985
21 ... سامي سويدان ... :دراسة بنيوية لنص شعري، قصيدة(نهر الرماد)، الفكر العربي المعاصر، العدد 26، 1983.
22 ... صلاح عبد الصبور ... :تجربتي الشعرية:، فصول (الشاعر والكلمة)،المجلد 2، العدد 1،أكتوبر 1981(عدد خاص بالشاعر صلاح عبد الصبور).
23 ... طه وادي ... : تحولات الأزمنة وتعارضات الحداثة في شعر الخليج المعاصر، عالم الفكر ،المجلد 18، العدد 03،1987
24 ... عدنان عزون ... :إشكالية المنهج في نقد الشعر العربي الحديث، الشعر ومتغيرات المرحلة 05، دار الشؤون الثقافية العامة "أفاق عربية" بغداد ،ط1، 1986.
25 ... عز الدين إسماعيل ... : الصورة الشعرية ،مجلة (المجلة) ،العدد 34، 1969.
26 ... عز الدين إسماعيل ... : مفهوم الشعر في كتابات الشعراء المعاصرين ،فصول ،المجلد 1، العدد 4، يوليو1981.
27 ... كمال أبو ديب ... : الحداثة، الشلطة، النص ،فصول ،المجلد 4، العدد 3،1984.(1/446)
28 ... قادة عقاق ... : النقد العربي الحديث: إشكالية في المنهج أم أزمة في المصطلح، الخطاب مجلة تصدر عن معهد اللغة العربية وأدابها، جامعة تيزي وزو، ع3 1996.
29 ... // // ... : مدخل إلى شعرية المدينة في الشعر العربي الحديث، آمال، مجلة ثقافية تصدر عن وزارة الثقافة والاتصال، الجزائر 1996.
30 ... // // ... : مفهوم التجربة الشعرية من خلال كتابات الشعراء العرب المحدثين، مجلة الكتابة الجديدة، تصدر عن مديرية الثقافة بولاية سيدي بلعباس 1998.
31 ... مجاهد عبد المنعم مجاهد ... : الاغتراب والتشيؤ ،المعرفة –العدد 179 –كانون 1977.
32 ... محمد الأسعد (1) ... :إشكالية التجربة الشعرية، الفكر العربي المعاصر، العدد 10، شباط 1981.
33 ... محمد الأسعد(2) ... :اللغة في حالة الزمن، الناقد ،العدد 33،آذار، مارس 1991،السنة 3.
34 ... محمد جمال باروت ... :مقاربة للبنيات الجمالية، الشعرية في الخطاب الشعري الحديث في سوريا، الموقف الأدبي ،العددان 193، 194، آيار، حزيران 1987،السنة 17.
35 ... محمد حافظ دياب ... :جماليات اللون في القصيدة، فصول، المجلد 5، العدد 2، 1985.
36 ... محمد الخز علي ... :الحداثة : فكرة في شعر أدونيس، عالم الفكر،المجلد 19، العدد3،اكتوبر نوفمبر، ديسمبر 1988.
37 ... محمد الزايد ... :فلسفة تقرأ شعرا، الفكر العربي المعاصر،العدد 10،شباط 1981.
38 ... محمد عابد الجابري ... :مشروع قراءة جديدة لفلسفة الفارابي السياسية والدينية،مجلة،أقلام المغربية،العدد 1، السنة2، مارس 76.
39 ... محمد عبده بدوي ... : الشاعر والمدينة في العصر الحديث،عالم الفكر –المجلد 19، العدد 3،أكتوبر، نوفمبر،ديسمبر 1988.
40 ... محمد عفيفي مطر ... :قراءة "نص شعري"، مجلة (الأقلام العراقية)، العدد 10، السنة 12، تموز 1977
41 ... محمد مصطفى بدوي ... :الشعر العربي الحديث بين التقاليد والثورة،عالم الفكر،المجلد19، العدد 3،أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر 1988.
42 ... محمد مصطفى هدارة ... :النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث، فصول –المجلد1، العدد 4، يوليو1981(1/447)
43 ... محمود شريح ... :تجربة المدينة في شعر خليل حاوي،الفكر العربي المعاصر، العدد 10، شباط 1981
44 ... مدحت الجيار ... :جماليات المكان في مسرح صلاح عبد الصبور، مجلة (ألف) البلاغة المقارنة، العدد 6، 1986.
45 ... مطاع صفدي ... :الشعر: الكون والفساد، الفكر العربي المعاصر،العدد 26، 1983
46 ... مطاع صفدي ... :قراءة ثانية للشعر الجاهلي: الأصالة والممكن،الفكر العربي المعاصر –العدد 1شباط 1981.
47 ... مناف منصور ... :تجربة المدينة عند البياتي، مجلة (قضايا عربية)، العدد 2، سنة 1975.
48 ... مناف منصور ... :مقدمات في تجربة المدينة عند أدونيس، مجلة الثقافة العربية الليبية،العدد 3، سنة 1975.
49 ... منى سعد أبو سنة ... :الاغتراب في المسرح المعاصر، عالم الفكر، المجلد 10، العدد1، أبريل،مايو،يونيو1979.
50 ... ندوة حول مشكلة ... :الاغتراب،عالم الفكر،المجلد 10، العدد 1 ،ابريل، مايو،يونيو1979.
51 ... نذير العظمة ... :السياب بين مؤثرات ايليوت وايدث ستويل، الفكر العربي المعاصر، العدد 10، شباط 1981.
52 ... نعيم عطية ... :دلالة الزمن في الرواية الحديثة، مجلة (المجلة)، العدد 170،فبراير 1971، الهيئة المصرية للتأليف والنشر.
53 ... نعيم اليافي ... :مصطلحات النقد التطبيقي في الشعر الحديث، الموقف الأدبي،الأعداد 181، 182، 183 السنة 16،حزيران، تموز 1986.
54 ... يوري لوتمان ... :مشكلة المكان الفني، تر/ سيزا القاسم، مجلة (ألف)، البلاغة المقارنة، العدد 6، 1986.
55 ... يوسف اليوسف ... : الصوفية حركة يسار الفكر العربي ،الآداب، العدد 1، سنة 1975.
(((
الفهرس التفصيلي
إهداء ... 6
مقدمة ... 6
مدخل: التطوّر التاريخي للمدينة ... 6
ظاهرة التأسيس في الفكر العربي القديم : ... 6
المدينة في التراث الغربي: ... 6
1 - أفلاطون والمدينة اليوتوبيا: ... 6
2- الشعراء الإغريق والمدينة الرمز: ... 6
3- التراث المسيحي والمدينة الجنّة: ... 6
4-الطلائعيون والمدينة الجحيم: ... 6
5-التراث العبري والمدينة/ الفردوس المفقودة: ... 6
II) عوامل النشأة في التراث العربي والإسلامي: ... 6(1/448)
أ- غياب المدينة في الشعر الجاهلي: ... 6
ب- فكرة المدينة في صدر الإسلام: ... 6
1- القرآن الكريم : (المدينة القرية) : ... 6
2- مصدر الحديث:(المدينة الفاسدة) ... 6
3- موقف الخوارج السياسي (المدينة الزائفة): ... 6
4-الحنين إلى الموطن عند العذريين : ... 6
جـ- حضارة التمدن في العصر العباسي: ... 6
أولا: في الإبداع الفني: ... 6
ثانيا : في الفكر الفلسفي: المدينة الفاضلة للرئيس الفاضل: ... 6
د- صورة المدينة في الحضارة الأندلسية: ... 6
أولا الموقف الإيجابي: ... 6
1- وصف فردوسها: ... 6
2- رثاؤها: ... 6
ثانيا: الموقف السلبي من المدينة : ... 6
1- مظاهر التهتك والمجون: ... 6
2- الاغتراب في المدينة وهجاء أهلها: ... 6
هـ- هرم المدينة عند ابن خلدون: ... 6
الفصل الأول: صورة المدينة في الشعر الحديث ... 6
أولا: الشعر الأجنبي: ... 6
1-المدينة الخاطئة : ... 6
2-بودلير والمدينة المرعبة: ... 6
3- التنويريون والاحتفاء بصورة باريس: ... 6
4- المدينة الصناعية: ... 6
5- بين تطبيعها والتبرّم منها: ... 6
ثانيا: المدينة في الشعر العربي الحديث: ... 6
1- الهوية الحضارية: ... 6
2- هجاء المدينة والتمرّد عليها : ... 6
3- الفضاء المنشود : ... 6
4-الخلفية السياسية: ... 6
5- الاحتفاء بالمدينة المميزة: ... 6
الفصل الثاني: الرؤية الحداثية لإشكالية تجربة المدينة ... 6
أ-إشكالية التجربة وحداثة الرؤيا: ... 6
1- إشكالية التجربة: ... 6
أ- مفهوم المصطلح (تجربة) لغويا ... 6
ب- مفهوم التجربة في التنظير العربي المعاصر: ... 6
1- مفهوم التجربة عند بدر شاكر السياب ... 6
3- مفهوم التجربة عند ادونيس: ... 6
4- أحمد عبد المعطي حجازي: ... 6
5- عبد الوهاب البياتي: ... 6
6- صلاح عبد الصبور: ... 6
2- حداثة الرؤيا: ... 6
أ- الطرح الحداثي لتجربة المدينة: ... 6
ب- نشوء المدينة العصرية المعقدة : ... 6
3- مرفولوجية المدينة ومعمارية الشكل الشعري الحديث: ... 6
4- غموض التجربة الحديثة (الغموض الدلالي وتناقض المواقف): ... 6
أ- فوضى الحداثة صورة لواقع مجتمعي مضطرب: ... 6
ب- شعرية المدينة كتجربة إبداعية عربية أصيلة: ... 6(1/449)
ج- ظاهرة المدينة كتجربة حياتية: ... 6
د- لكيان المادي للمدينة : ... 6
5- نسق العلاقات الإنسانية في مجتمع المدينة : ... 6
- فلسفة القوة والقهر الاجتماعي والقمع السياسي: ... 6
أ- فلسفة القهر الاجتماعي: ... 6
ب- فلسفة القمع السياسي: ... 6
الفصل الثالث:التأسيس الشعري للمدينة ومسار الوعي المغترب: ... 6
أ – وعي الذات والعالم: ... 6
1- مفهوم الاغتراب: ... 6
2- مصادر اغتراب الوعي في شعرنا المعاصر (الاغتراب المتفرد): ... 6
( الوعي المنشطر: ... 6
3- مظاهر الاغتراب ومستوياته: ... 6
أ – الاغتراب الذاتي: ... 6
ب- الاغتراب الموضوعي: ... 6
جـ- الاغتراب الكوني والوجودي: ... 6
1- إفلاس الحب : ... 6
2- تراجيديا الموت وتمجيد الحس العدمي: ... 6
ب- إشراقة الوجد الصوفي لقهر ظلام الاغتراب: ... 6
الفصل الرابع : التشكيل الجمالي للمكان وخصوصيته: ... 6
1- علاقة الإنسان بالمكان وأهميته : ... 6
2- المدينة وصدمة المكان الثقافية : ... 6
3- المكان وفاعلية الإبداع : ... 6
ا – المكان كفضاء وحيز معرفي : ... 6
ب-المكان كمنبع للإبداع: ... 6
جـ-الخوف في المكان: ... 6
4- المكان في اللغة الشعرية: ... 6
5- الصورة وخصوصية التشكيل الجمالي للمكان: ... 6
أ- المكان في الصورة: ... 6
ب- إشكالية المدنّس والمقدّس ... 6
- رعب الخارج وكآبة الداخل (التماهي الاسقاطي ): ... 6
شعرية اللون: ... 6
2-المكان المقدس (مكان الحلم) : ... 6
- مكان الحلم : ... 6
- مكان الحضور والغياب (الهُنا والهُناك) : ... 6
الفصل الخامس: تجرية الزمن في المكان ... 6
1-الزمن المتحجّر: ... 6
2 - إستراتجية الزمكنة: (أوتداخل الزمان بالمكان): ... 6
3- وتيرة الزمن المديني وحس التناهي: ... 6
أ- إيقاع المدينة والوجه الآخر للحياة: ... 6
ب- إيقاع الموت في زمن المدينة ودلالة المعاناة: ... 6
ج-إيقاع الزمان ما بين لحظة العقم ولحظة الخصب: ... 6
4- استعادة الزمن الضائع: ... 6
أ- زمن الطفولة: ... 6
ب- زمان الذاكرة (زمن الخبرة) : ... 6
الخاتمة: ... 6
أولا: المصادر والمراجع العربية والمترجمة: ... 6
ثانيا: المراجع الأجنبية: ... 6
ثالثا: الدوريات ... 6(1/450)
الفهرس التفصيلي ... 6
Résumé ... 6
(((
Résumé
L’expérience de la Ville dans la Poésie moderne et contemporaine
« Esthétique de l’espace »
I N T R O D U C T I O N
En ةgard De Notre Notion Sur La Problématique Et De L’étude Du Texte Moderne, Son Complexité De Cognition, D’interférence Structurale, Multi-Sémentique, Multidimensionnelle Cachée, Et Son Empirisme Fondue Dans L’ambiguïté D’après Notre Satisfaction Qu’un Discours Caractérisé L’analyse Est Relative Non Final Dont Le Sens Ou La Réalité Finale Absente In Découverte Sauf Ses Quelques Caractères Dés Chaque Nouvelle Lectures Considérées Comme Un Texte Moderne Micro Structure, Macro-Structure ; Un Monde Tous Ses Apparences, Sont Considérés Comme Une Image Artistique Réelle Pour Une Réalité Civilisée D’une Connaissance Emmêlée D’une Société Démouler (Existence Humaine Métaphysique) Au Niveau De Toutes Ses Simples Et Complexes Niveaux N’est Pas Facile ہ Découvrir.
En ةgard, De La Première Notion De La Problématique De La Lecture, Cette Inauguration Analytique Consciente Entrave Son Itinéraire, Nous Avons Essayé Dans Notre Tâche D’aborder L’expérience De La Ville Dans Notre Poésie Arabe Contemporaine.
En Effet De Cet Abord, Et De Notre Point De Vue, Et Selon Notre Précédente Avis Qu’il Soit Une Expérience Compliquée Du Phénomène Civilisé Et Entre Inter-Action Avec D’autres Phénomènes : Sociologique, Politiques, Historique, Culturel, Economique, Et Qu’il Soit Une Structure Globale Située Implicitement Dans Un Ensemble D’autres Structures Globales Qui Sont En Inter-Action De Temps ہ Autre Parallèles, Ou Implicite.(1/451)
On Réalité Le Chemin N’a Jamais ةté Facile Pour Cette ةtude Délicate, D’approcher Le Texte Poétique Dan La Majorité De Ses Endroits Cognitifs Esthétiques, Et Civilisée. Pour Ajouter Avec Une Analyse Satisfaisante, Profonde, Une Autre Dimension De L’expérience Qui A ةté Toujours Privée De L’objectivité Dans Toutes Ses Discours.
Cependant L’étude A Eu Une Notion Ambigus Entourée De Plusieurs Difficultés Dont Les Ouvrages Spécialisés Dans Ce Domaine A ةté Introuvable (Dans Le Domaine Sur L’étude De Poésie De La Ville).
Et Malgré La Place Considérable Qu’occupe La Poésie De La Ville Dans Le Corps Du Poème Arabe Elle A ةté Absente Au Niveau De La Critique. Sauf Des Lignes Sur Le Poème De La Ville Dans Quelques Revues Et Quelques Livres.
Et Le Peut Que Nous Avons Trouvé Dans Ce Domaine Sélectif Dans Sa Majorité Est Superficiel Dans Son ةtude Comme Méthode D’avoir Des Résultats Sans Prendre En Considération Le Côté Des Introductions, Et Des Amorces Sans S’approfondir Dans L’étude Du Phénomène (Phénomène De La Ville)- Sans Les Relier Avec D’autres Phénomènes Qui Sont En Croisement Ou En Action Intégrante, Mais Tout Ce Peu, Nous A Aider D’une Façon Relative Malgré Son Inopportunité. Nous Avons Trouvé Dans Les Discours Poétiques Décrivant L’expérience De Al Ville Qui Suffit De Couvrir La Superficie De Questions Qui Accompagnent L’études En Exploitant Nos Satisfactions Personnelles Dans La Majorité Des Points De Vues, Qu’on Croit Raisonnable.(1/452)
Logiquement, Dans Notre Avis, En S’appuyant Sur Le Précédent Dit, Et D’après Notre Notion Problématique De Lecture Sur Le Texte Poétique Arabe Contemporain Dans Son Dirigisme Moderne Et En Se Basant Sur Le Titre Qui ةtait Dans L’encadrement Du Thème- Fût L’expérience De Al Ville Dans La Poésie Arabe Contemporaine) Du Point De Vue De La Réception Esthétique De L’espace- L’étude S’organise Dan Cinq Chapitres Qui Se Termine Par Une Conclusion.
Tant Que La Ville N’est Pas Une Notion Contemporaine, Ou Une Idée Moderne, Mais C’est Les Points De Vue Qui Lui Donne Une Notion Moderne Et Modernisme Ou Le Contraire, Et Qu’elle Ne Soit Pas Une Notion Stable. Mais Une Notion Progressive Durative. Car Le Fait D’être Une Structure Architecturale, Et Une Forme Géométrique Est Un Ensemble De Relations Coutumes Et De Mœurs Progressives.
Et En Se Basant Sur Nos Dits Précédents Ce Qui Donne Au Premier Chapitre De :
La Progression Historique De La Ville :
En Essayent De Relire, La Ville Avec Ses Racines Historiques Et Civilisées Dans La Recherche De L’inconscience Arbo-Islamique, L’objectif Traditionnel Et Poétiquement Vue Cet Avis On A Pas Oublié De Poursuivre Se Caractères Dans La Pensée Occidentale Ancienne On L’a ةtudiée Chez « Platon » Dans Sa République Idéale, Chez « Homère » Et « Dantes ».(1/453)
Mais Au Niveau Du Patrimoine Arabo-Islamique On Remarque L’absence Absolue De La Ville Dans La Poésie (Avant L’islam) (Djahilit), Avec Sa Présence Dan Les Débuts De L’islam Car On L’a Trouvé Dans Le Discours Coraniques Le Contenu Du (Hadith) Et Au Niveau Politique Chez (El Khawaredj) Et Dans La Nostalgie De La Patrie Chez (El Oudriyine), Et Dans La Civilisation De Modernité Dans La Période (Abasside) A Travers La Création Artistique Et La Pensée Philosophique Particulièrement Chez (El Farabi)Dans Sa (Ville Idéale).
Comme On A Etudié L’image De La Ville Dans La Civilisation (Andalousie) Ses Caractères, Ses Point De Vue A Cet Egard Et Puis On A Essayé D’étudier La Relation Entre La Progression Architecturale Dans Cette Civilisation Et La Partition De L’art De (Taouchich) Comme On A Aussi Vu La Pyramide De La Ville Chez (Ibn Khaldoun) : Formation, Croissance, Et Son Décadence.
Chapitre II :
L’Image De Al Ville Dans La Poésie Moderne
Elle Contient Deux Parties :
1)- Première Partie Concerne La Poésie Accidentelle. On Arrête A La Ville Déshonorée, La Ville Baudelairienne Phobique, La Ville Honorable, La Ville Industrielle Chez Les Poètes Russes, Et La Ville En Décadence Chez T.S .Illiotet L’objectif Variable Entre L’amour Et La Haine Chez D’autre Poètes.(1/454)
2)- La Deuxième Partie : Consiste L’image De La Ville Dans La Poésie Arabe Moderne A Travers L’identité Civilisée, L’arrière Plan Politique, L’appel De L’espace Prôné, L’insolation Péjorative, Quelques Fois Luis Prôné, L’insolation Péjorative, Quelques Fois Lui Prône, Et La Relire Avec Des Doctrines Littéraires Artistiques, Comme Le Classicisme, Romantisme, Et Réalisme ...
Chapitre III :
La Vie Moderne De Al Problématique De La Ville
On A Etudié Dans Ce Dernier Chapitre La Problématique De La Culture De L’esprit Poétique Arabe, On A Paru Les Causes D’absence Le Niveau Théorique Ancien Et Moderne, En Effet Il S’est Apparu Sur Le Niveau (Sophisme), Comme On A Etudié La Conscience Problématique Expérimentée Dans L’opération Créatrice A Travers La Poursuite Des Affirmations De Quelques Poètes Arabes, Comme : Badr Chakir Es Sayab, Beyati, Abd Sabbour, Yocef El Khal, Hidjazi Et Adouniss.
Comme On A Relier Le Tous Avec Les Changements Du Monde Moderne Et Ses Dimensions Philosophiques, Sociologiques , Economiques, Politiques, Religieuse Et Littéraire.
Et On A Consisté Une Partie Pratique Concernant L’étude De La Relation Du Poète Et La Ville Et Son Expérience Vitale A Travers L’existence Matérielle Et L’état Des Relations Humaines Dans La Société De La Ville A Travers La Philosophie De La Force, La Torture Sociale Et L’oppression Politique.
Chapitre IV :
Le Dialecte Du Moi/ La Civilisation Envers La Conscience Aliénée.(1/455)
En Poursuivant La Crise De L’homme Arabe Contemporain A Travers Le Fondement Poétique De La Ville, Envers La Conscience Aliénée A Travers Le Dialecte L’angoisse Civilisée Qui A Eté Guidée De La Santé Et Du Phénomène De L’amour Victorieux De La Vie Sublime Des Humains.
Et Tout اa A Travers La Conscience Du Moi Du Monde Entouré De La Révolution Contre La Réalité Frustrée Avec La Perfidie De Son Passé Stagné, Et Sa Présence Vaine Dans La Recherche D’une Identité Perdue Et Son Aliénation De La Conscience Bufrique Sur Tous Les Cotés Personnels Objectifs Cosmique, Et Existentiels.
On Trouvé Ce Moi Défiguré Aliéné Qu’on Peut Détruire Sauf A Travers L’appel De La Vision Sophisme Et Les Symboles Vitales.
Chapitre V :
La Formation Esthétique De L’espace Et Son Caractère.
On A Etudié Dans Ce Chapitre L’importance De L’espace Dans La Vie De L’homme Et Son Subjectif Rôle, Dans Son Comportement Et Son Enrichissement De Savoir Et Son Rôle Dans La Créativité Opérationnelle, Considérée Comme Un Espace Du Savoir Et Une Source De Créativité Et Une Technique Artistique Et اa A Travers La Langue Et L’image Poétique Basée Sur La Vision Fictive Rêvée Qui Tend Vers Un Changement Et Un Dépassement, Qui Renforce L’idée De Pénétration Dans Le Phénomène Du Temps Qui Relie L’espace Fait Paraître Le 6ème Chapitre Titre :
(L’expérience Du Temps En Espace)(1/456)
On A Soignée Et Entré En Coopération Avec Le Temps Dans Toutes Ses Apparitions Et Ses Caractères Réels, Objectifs, Psychiques-Personnels, Historiques, Civilisés, Légendaires, Mystique Mystiques Avec La Concentration Sur Le Sémantème Linguistique Et Chargement Temporel Ce Qui Implique La Suite :
Le Temps Stagné, La Stratégie Spatio-Temporelle Et Aussi Le Temps Rythmique De La Ville, Et L’exploitation Sensualiste Défini A Travers Le Rythme De La Ville Et L’envers De La Vie Ce Qu’on Appelle La Mort.
Et Le Rythme Du Temps Entre Le Moment Stérile Et Fertile En Sainte On A Suivit La Recherche Du Poète Et Son Temps Concernant Le Temps De Son Enfance Eternelle. Mémorable Et Expérimental.
Finalement, En Arrivant A Une Conclusion Qui N’est Pas Un Précis Sur L’étude. Selon Notre Satisfaction, Quelque Soit Telle Enrichissante Lecture, Ne Pourra Ni Arriver A La Réalité Globale Du Texte, Et Ni En Fermer Tous Les Passages En Face D’autres Lectures.
(((
رقم الإيداع في مكتبة الأسد الوطنية
دلالة المدينة في الخطاب الشعري العربي المعاصر: دراسة في اشكالية التلقي الجمالي للمكان/ قادة عقاق– دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001 – 411 ص؛ 24سم.
1- 811.9009 ع ق ا د ... ... ... ... 2- العنوان
3- عقاق
ع- 2383/11/ 2001 ... ... ... ... ... مكتبة الأسد
(((1/457)