خوارج العصر
سالم العجمي
1/4/1424هـ
خوارج العصر
الحمد لله وحده ؛ والصلاة والسلام على رسوله وعبده ؛ أما بعد00
فإن من المعلوم للعقلاء أن الناس لا تنتظم حياتهم ولا تأمنُ سبلهم، إلا بحاكم يسوسهم، فإن لم يكن لهم حاكمٌ عمت بهم الفوضى، واستشرى بهم الجهل، وانتشر بينهم العدوان.
من أجل ذلك كانت عقيدة أهل السنة والجماعة : أن نصب الإمام فرضٌ واجبٌ على المسلمين، وهذا بالاتفاق.
وإجماعُ الصحابة بعد موتِ النبي صلى الله عليه وسلم على نصبِ الإمام قبل الاشتغالِ بدفنه لأكبرُ دليل وأعظمُ حجة على أن هذا الأمرَ من أهمِّ الواجبات .
وكان من المسائل التي خالف النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها أهلَ الجاهلية، أنهم كانوا يرون الطاعة للأمير ذلاٍّ فجعلَها طاعةً لله وقربةً كما قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".
ولا يشترط في الطاعةِ أن يكون الحاكمُ معيناً ممن كان قبله أو مبايعاً من الناس، بل لو غلب الحاكمُ الناسَ على الحكم وجبت طاعته وهذا بالإجماع قال ابن حجر رحمه الله : ( وقد أجمع الفقهاء على وجوبِ طاعةِ السلطانِ المتغلب والجهادِ معه، وأن طاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما في ذلك من حقنِ الدماء وتسكين الدهماء).
ونصبُ الإمامِ من النعمِ التي يحمدُ اللهُ عليها؛ لأن الناس طُبعوا على الفوضى وحبِّ التملك والاستئثار، فلو لم يكن عليهم سلطانٌ يسوسُ أمورهم لكانوا كوحوش الغاب يأكل القويُّ الضعيف.
وإذا أردت أن تعرف كيف تنتشر الفوضى عند غياب الحاكم فتأمل في ( إشارات المرور) كيف تنظم السير، فإذا تعطلت رأيت فوضى عارمة وتناحراً شديداً، كلٌّ يريد المرور ويرى أن له حقا، ويحصل الاختناقُ الشديدُ في السيارات؛ وقد يرتقي الأمر إلى السبابِ والشتامِ والضرب حتى يجيء شرطي المرور فيحتاج إلى وقتٍ لتنظيم هذا السير وفك هذا الاشتباك.(1/1)
فإذا كان هذا في إشارة المرور؟! فكيف ببلدٍ ينزع فيها السلطان أو يضعفْ؛ فلا سلطانَ فيها يُحكِمُ أمرَها؛وينصفُ أصحابَ الحقوق؛ويمنعُ المظالم وينظمُ أحوالَ الناس في معاشهم؟!
ولأجل كل هذا.. تجدُ أنه حين ينتشرُ الرعبُ في بلادٍ لا سلطانَ لها، ترى أن أهل تلك البلادِ يتمنون أن يحكمهم حاكمٌ أيا كان.. ولو كان طاغية على أن يأمنِّهم في مساكنهم وينظم حياتهم .
فإذا تَحَقَقَّتْ ذلك أيها المسلم.. علمت شمولية الإسلام ورحمته ودقته؛فحمدت الله عليه0
إن وجود الحاكم نعمةٌ عظمى للناس ؛فإن كان براً مطيعاً فهو السعادة التامة ، وإن كان فاجراً ؛فلما يصلح الله به أكثر مما يفسد- ويكفي أنه يحقن دماء المسلمين)-0
ولذلك قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:
"سلطانٌ عادلٌ خير من مطر وابل، وسلطانٌ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم".
وتأمل في فقه الصحابة الأطهار وسلف الأمة الأبرار الذين أوتوا العلم والزكاة كيف عرفوا الأمر حق المعرفة فقدروا له قدره.
قال علي رضي الله عنه:
( لا يُصلِحُ الناسَ إلا أميرٌ برٌّ كان أو فاجر ؛قالوا يا أمير المؤمنين: هذا البر فكيف بالفاجر؟!
قال: إن الفاجر يُؤمِّنُ اللهُ عز وجل به السبل، ويجاهَد به العدو، ويجيء به الفيء، وتقام به الحدود، ويُحج به البيت، ويعبد اللهَ فيه المسلمُ آمنا حتى يأتيه أجله).
وقال عبد الله بن المبارك:
لولا الأئمةُ لم تأمن لنا سبلٌ
وكان أضعفنا نهباً لأقوانا
لله درهم ما أفقههم.
وقال الطرطوشي في قوله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)
قال:" لولا أن الله تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف؛وينصف المظلوم من ظالمه لتواثب الناس يعضهم على بعض".(1/2)
ومن تأمل هذه النصوص علم فقه السلف؛وعلم حكمة الله العظيمة في أن جعل للناس إماماً يسوسهم وأوجب عليهم طاعته، فكل ذلك يعود عليهم بالمصلحة وحفظ الأنفس والأموال والأعراض؛ولولا ذلك لم ينتظم لهم حال، ولم يستقر لهم قرار؛فتفسد الأرض ومن عليها.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (السلطان ظل في الأرض، من أكرمه أكرمه الله؛ومن أهانه أهانه الله ).
قال أهل العلم: كما أن الظل يلجأ إليه من الحر والشدة، فكذلك السلطان يأوي إليه الضعيف وبه ينتصر المظلوم، فإن الظلم له وهج وحر يحرق الأجواف ويظمئ الأكباد، فإذا أوى إلى سلطان سكنت نفسه، وارتاحت في ظل عدله، ومن أكرم سلطان الله في الدنيا، أكرمه الله يوم القيامة.
وقال الحسن -رحمه الله – في الأمراء:
(هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة الجماعة والعيد، والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الأمر إلا بهم وإن جاروا أو ظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون).
ولذا فإن من الواجب على الرعية توقير حاكمهم المسلم طاعة لله ورسوله واعترافاً بفضله عليهم في تأمين سبلهم ومعايشهم.
قال صلى الله عليه وسلم: ( من أهان سلطان الله أهانه الله)
ولما خرج أبو ذر إلى الربذة، لقيه ركب من أهل الفتن، فقالوا: يا أباذر، قد بلغنا الذي صنع بك، فاعقد لواءً يأتك رجال ما شئت ؛قال: مهلاً مهلاً يا أهل الإسلام فإني سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: " سيكون بعدي سلطان فأعزوه، من التمس ذله ثغر ثغرة في الإسلام، ولم يقبل من توبة حتى يعيدها كما كانت".
رضي الله عنه .. ما أراد دنيا ولا زاحم عليها كما يفعل الخوارج، الذين لو عرض عليهم هذا العرض لتسابقوا إليه واغتروا به ورأوه فرصة لتحقيق دنياهم بدمار دنيا غيرهم ودينة.
ولذلك.. كلما تجرأ الناس على الحاكم اختل الأمن وتزعزع الهدوء وقديماً قيل: (الملك هيبة ).(1/3)
كما أنه من تمام توقيره عدم غيبته، لأن ذلك مما يحط من قدره ويجرئ الناس عليه فتذهب هيبته من قلوب الرعية، فتتحرك الفتن، ويهيج الشر ؛وربما أدى ذلك إلى خروج الرعية عليه وتخريب البلاد وإفساد معايش العباد.
وإن مما يفعله بعض الجهال لقلة ورعهم ودينهم، إن أبغضوا حاكماً ألصقوا به التهم فجعلوه فاسقاً خماراً؛ ماجناً زنديقاً؛ دون بينة واضحة ولا سلطان بين.
وهؤلاء لو راقبوا الله لما نطقوا بهذا الكلام ؛ وقد قال الله تعالى: " ستكتب شهادتهم ويسألون".
وقد حدثت في العصور الأولى قصة شبيهة بما يفعله بعض الناس من الطعن في الحكام؛أو عمال للحكام- ربما كان بعضهم أكثر ديانة وحراسة لثغور الإسلام من هؤلاء المتكلمين-؛ وذلك أنه لما رجع أهل المدينة من عند يزيد بن معاوية، مشى بعضهم إلى محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأرادوه على خلع يزيد؛ فأبى عليهم.
فقال بعضهم: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب.
فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون؛ وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير، يسأل عن الفقه ملازماً للسنة.
قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعاً لك0
( وهذه الشبهة التي تطلق دائما حتى في أزماننا هذه من قبل خوارج العصر).
فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع.
أفاطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟! فلئن أطلعكم على ذلك، إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم؛ فما يحل لكم أن تشهدوا بمالم تعلموا .
قالوا: إنه عندنا لحق ؛ وإن لم نكن رأيناه0
قال: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) ولست من أمركم في شيء.(1/4)
واعلم أنه مما ينبغي للسلطان على رعيته الدعاء له؛ وهذا من علامات السني المتبع لهدي نبيه صلوات ربي وسلامه عليه؛ قال الإمام البربهاري رحمه الله : ( إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان ، فاعلم أنه صاحب هوى ، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله).
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: ( لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام)0
قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟!
قال: متى صيرتها في نفسي لم تجزني، ومتى صيرتها في الإمام عمت، فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد .
فقبّل ابن المبارك جبهته وقال: ( يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك ) فيا لله ما أعظم فقههم.
ولا يدعى عليهم لما في ذلك من الشر المستطير؛ وقد جيء للنبي صلى الله عليه وسلم برجل يشرب الخمر فلعنه أحد الصحابة فنهاه قائلاً : ( لا تعن الشيطان على أخيك) 0
والدعاء على الحاكم إعانة للشيطان عليه؛ قال أبو عثمان الزاهد:
( فانصح للسلطان وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد بالقول والعمل والحكم، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد بصلاحهم، وإياك أن تدعو عليهم باللعنة فيزدادوا شراً ويزداد البلاء على المسلمين؛ ولكن ادع لهم بالتوبة فيتركوا الشر فيرتفع البلاء عن المسلمين ).
وقال معروف الكرخي : ( من لعن إمامه حرم عدله)
كما ينبغي إقامة العذر للسلطان فيما لا يطلع عليه إلا هو ؛ فهذا أعظم الفقه وغايته؛ وثق أنه مبتلى بعظائم الأمور وإن رآه الناس في عافية.
قال الطرطوشي رحمه الله: ( كان العلماء يقولون: أقيموا عذر السلطان لانتشار الأمور عليه ؛ وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة ، واستئلاف الأعداء، وإرضاء الأولياء؛ وقلة الناصح؛ وكثرة التدليس والطمع ).
ومما يخطئ به البعض- بسبب الأفكار المنحرفة- ظنه أنه لمجرد كون الحاكم حاكماً أن هذا يبيح عرضه وسبه والكلام عليه بما لا يجوز ولا يستحسن.(1/5)
وكم من الحكام من له فضائل على بلده وأمته أكثر ممن يخاصمونه من أجل الملك والدنيا من أولئك الخوارج الذين تزيوا بزي النساك؛ فيكف الله بالسلطان الدم وتقام الشعائر وتقام الجماعات والجمع ؛ويأمن السبيل ؛ أليس هذا حريٌّ بأن يشكر له؟!.
ومن تأمل بعين البصيرة علم أنه لربما انفتحت بذهاب هذا الحاكم الذي يسوس أمره أبواب الفتن ؛ فأورثه ذلك الرضا بسلطانه0
قال عمار بن ليث الواسطي:
( قال الفضيل بن عياض : ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون؛ ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره ، فكبر ذلك علينا ، فلما مات هارون وظهرت الفتن ، قلنا: الشيخ كان أعلم بما تكلم ).
والفضيل-رحمه الله- قال ذلك ديانةً لله ، لم يقل ذلك طمعاً في دنيا؛ بل إنه كان من العباد الزهاد؛ وكان يعطيه هارون -رحمه الله – العطاء والمال فيرفضه ولا يأخذ منه شيئاً؛ وإنما كان قوله هذا دليلاً على فقهه وديانته ؛ فلا نامت أعين الخوارج.
فيا أيها المسلمون..
تحسسوا هذه النعم حيث تسيرون آمنين في الطريق؛ محفوظة أعراضكم، مأمنة سبلكم؛ موفرة معايشكم؛ وغيركم محروم من ذلك ؛ فاشكروا لمن ولاه الله أمركم، ولا تغتروا بالخوارج الذين ينافسون على الحكم من أجل دنياهم، ولو تَوَلّوْكُم لأفسدوا دينكم ومنعوكم الدنيا0
وتأملوا في كثير من البلاد الإسلامية - التي أفسدها الخوارج بزرع القلاقل والفتن- لا زالت تأن من الحسرات؛ وفسدت معايش الناس ؛ وحل الخوف والرعب في كل طريق؛ فلا يهنأ الناس في عبادة ولا يستمتعون بعيش ؛ وزعماء الخوارج الذين أحدثوا كل هذا الفساد ؛ يعيشون بين أظهر الكفار؛ ويكتفون بتوجيه الأغبياء لتدمير بلادهم المسلمة.
فأين زعماء خوارج العصر من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنا بريء ممن سكن بين أظهر المشركين) ؟!!
ويا طالب الحق00 يا من تريد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في سنته وسيرته..(1/6)
اعلم أن الكلام في هذا الموضوع الذي يتعلق بجانب السلطان حساس جداً ؛ ولكن الكلام فيه ديانة لله ، وقد كان أجلة أئمة الإسلام يتكلمون فيه ، ويؤلفون فيه الكتب بعيدا عن الأعراض الدنيوية ، وما ألفوا إلا ديانة لله ؛ وخوفا على الأمة من الاختلاف المؤدي إلى الهرج والمرج- وهو الخلاف على السلطان-0
ولا تغتر بكلام أولئك الخوارج الخونة الذين يشهّرون بمن تكلم في هذا الموضوع ويرجفون به بأنه ما قال ذلك إلا مداهنة ورياء ؛ بل هو دين وشرع ، والنوايا عند عالمها سبحانه وتعالى ؛" وإنما لكل امرئ ما نوى "0
كما أن الكلام في هذا وبيان فضل السلطان من المروءة ومن شكر المعروف؛ ولا يرضى المسلم أن يكون له مثل السوء ؛ فيسب حاكمه الذي يأكل في صحنه؛ ويعيش في ظله؛ فيكون كالكلب الذي يأكل في الصحن ثم يبول فيه0
والعجب العجاب أن أكثر من يسب الحكام ويهينهم؛ هو أكثر الناس استفادة من خيرهم وأكلا في صحونهم ؛ فلا تعجب 00إنا في زمن المتناقضات0
والأمر المحير : أن بعض هؤلاء قبل أن تتوحد البلاد على السلطان كان مستضعفا في الأرض؛ لا يقدر على حماية نفسه وأمواله وبساتينه ، فإذا به لما منّ الله عليه بالأمن والنعمة في ظل حاكم يرعى له ذلك فإذا به يهدر كما يهدر الجمل الحاقد ؛ ويرغي ويزبد ؛ ويصيح ويندد ، نسي هذا الأحمق أنه لو حصل تفكك وضعف في السلطان أن المتضرر الأكبر من هذا الانفلات هو وأمثاله الذين لا يستطيعون عيشا بين أفواج الأمم المتناحرة؛ والوحوش الكاسرة .
فليت هذا وأمثاله ينظر إلى ماضيه وحاضره ؛ فيشكر نعمة الله عليه أن صار موقرا بعد ذلته؛ وغنيا بعد فاقته ؛ بسبب أمن السلطان الذي أنعم الله به عليه0
إن إنكار المنكر من محاسن دين الإسلام ؛ وقد امتدح الله -سبحانه وتعالى- هذه الأمة به؛ فقال تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ..."ولكن ليس الحاكم كغيره في هذا الباب 0(1/7)
ومما وفق له أهل السنة ، وضل عنه الخوارج طريقة الإنكار على الحاكم -مما لا يفتح باب فتنة وشر على المسلمين -وذلك أن ينصح الحاكم سرا فيما صدر عنه من المنكرات ؛ ولا يكون ذلك على رؤوس المنابر ؛ وفي مجامع الناس لما ينتج عن ذلك من تأليب العامة وإثارة الرعاع ، وإشعال فتيل الفتنة0
والإنكار العلني على الحاكم ليس دأب أهل السنة والجماعة؛ بل سبيلهم ومنهجهم جمع قلوب الناس على ولاتهم؛ والعمل على نشر المحبة بين الراعي والرعية ؛ والأمر بالصبر على ما يصدر من الولاة من استئثار بالمال؛ أو ظلم للعباد؛والتحذيرمن المنكرات عموما أمام الناس دون تخصيصِ فاعل؛ كالتحذير من الزنا والربى والظلم – ونحو ذلك – بالعموم0
وقد بينت لنا السنة الغراء كيفية الإنكار على الحاكم؛ وأن يكون ذلك سرا دفعا للمفسدة؛ ومن ذلك ما جاء في الحديث : ( أن عياض بن غنم جلد صاحب (دارا ) حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض؛ ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض : ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن من أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنيا للناس ) . فقال عياض بن غنم : يا هشام بن حكيم: قد سمعنا ما سمعت؛ ورأينا ما رأيت؛ أولم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية؛ ولكن ليأخذ بيده فيخلو به ؛ فإن قبل منه فذاك ؛ وإلا كان قد أدى الذي عليه " ؛ وإنك يا هشام لأنت الجريء ؛ إذ تجترئ على سلطان الله؛ فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى "0
ولو أن الدعاة المخلصين أخذوا بهذا الأصل في النصيحة سرا للولاة ؛ لأصلح الله لهم الحكام؛ وكان أدعى لإخلاصهم؛ وأنت ترى أن عامة الناس يغضبون إذا نصحوا علنا؛ فكيف بالحاكم00؟!(1/8)
وما سد الشارع باب الإنكار العلني على السلطان؛ إلا لما ينتجه ذلك من الفتن والفساد ؛ وقد جاء في البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قيل له ألا تدخل على عثمان لتكلمه ؟ فقال :" أترون أني لا أكلِّمه إلا أسمعكم ؛والله لقد كلمته بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه "0
قال أهل العلم : مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك ؛ بل يتلطف به وينصحه سرا فذلك أجدر بالقبول؛ ولما فتحوا الشر في زمن عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عليه جهرة؛ نشأ عن ذلك قتله؛ ونمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم0
ومن تأمل هذه النصوص علم أن الإنكار العلني على السلطان مقدمة للخروج عليه وباب من أبواب الفتنة العمياء الصماء0
وقد خالف بعض الوعاظ والقصاص -من مروجي فكر الخوارج- في هذا العصر؛والمتصدرون للدعوات السياسية هذا الأصل في إسرار النصيحة للسلطان؛ فباتوا يهيجون الشباب على الخروج ويزينونه لهم ويحيكون لذلك القصص الملفقة ويلتمسون الروايات الضعيفة لنصرة مذهبهم الخارجي الغالي المتشدد 0
قال ابن عثيمين رحمه الله : " مخالفة السلطان فيما ليس من ضروريات الدين علنا وإنكار ذلك عليه في المحافل والمساجد والصحف ومواضع الوعظ-وغير ذلك- ليس من باب النصيحة في شيء ؛ فلا تغتر بمن يفعل ذلك وإن كان عن حسن نية فإنه خلاف ما عليه السلف الصالح المقتدى بهم"0
هذا واعلموا أيها الفضلاء أن الله سبحانه وتعالى أوجب عليكم طاعة من ولي أمركم؛ فإياكم وتتبع فكر الخوارج؛ والانحراف عما جاء في نصوص السنة النيرة؛ التي تهدي إلى أقوم طريق وأوضح سبيل وأنجاه بين يدي الله تعالى 0(1/9)
وخذوا العلم في هذا الباب الخطير عن أهله فها هي آثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديكم فتأملوا بها، ولا تحيدوا عنها؛ فقد كانوا رضي الله عنهم يرون طاعة السلطان طاعة لله ولرسوله؛ لم يروا ذلك ذلاً ولا ضعفاً ؛ومن أجل ذلك سلم لهم دينهم وطابت لهم معايشهم0
" لما قدم أبو ذر رضي الله عنه على عثمان من الشام-وقد بلغه عنه شيء- وقف على الباب؛ وقال: يا أمير المؤمنين: افتح الباب حتى يدخل الناس، أتحسبني من قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم- أي الخوارج- يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه ، حتى يعود السهم على فوقه هم شر الخلق والخليقة.
والذي نفسي بيده ؛لو أمرتني أن أقعد لما قمت؛ ولو أمرتني أن أكون قائماً لقمت ما أمكنتني رجلاي؛ ولو ربطتني على بعير لم أطلق نفسي حتى تكون أنت الذي تطلقني؛ ثم استأذنه أن يأتي الربذة، فأذن له، فأتاها،فإذا عبد يؤمهم فقالوا: أبو ذر؛ فنكص العبد، فقيل له: تقدم؛ فقال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم : أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي مجدع الأطراف"0
واحذروا أن يلبس عليكم الخوارج ويقولون لكم أن هذه الأحاديث إنما هي في الولاة و السلاطين العادلين0!!
لا .. بل إنها تشمل الحاكم المسلم؛ البرَّ والفاجرَ الظالم ؛ ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :" يكون بعدي أئمة، لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"؛ قال حذيفة رضي الله عنه ؛ قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع"0
فهذا الحديث يبين مع أن كون السلطان ظالما جائرا ؛ فقد أمر المسلم بالسمع والطاعة له0
وليس معنى هذا أن يطاع الحاكم في معصية الله؛ فلو أمر الناس بمعصية فلا طاعة له لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الطاعة بالمعروف)؛ وقوله : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)0(1/10)
فلو أمر الناس بأمر محرم فلا يطاع في ذلك كما يجب عليهم بغض ما ارتكبه من المعاصي.
وتعجب من أناس تمر بهم هذه النصوص فلا يسمعون ولا يفقهون؛ قد أعماهم ما في نفوسهم من البدع والهوى عن فقه النصوص الشرعية؛ وتأملِ هذه الآداب المرعية0
وكيف يوفق مبتدع00؟؟!! أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل فلن تجد له سبيلا0
فما فتئوا يألبون الناس على حكامهم حتى أفسدوا القلوب وملؤوها بالحقد والضغينة والغل والحسد، والمصيبة أن بعض هؤلاء أصبح رأسا لفكر الخوارج في هذا الزمان وهو قليل البضاعة في العلم نفخت به القنوات الفضائية- حتى ظن نفسه عالما- وهو خليط من الجهل، وما أجدر هذا وأمثاله بقول الراغب الأصفهاني رحمه الله حين قال:
"ولما ترشح قوم للزعامة في العلم بغير استحقاق، وأحدثوا بجهلهم بدعاً استغروا بها العامة؛ واستجلبوا بها منفعة ورياسة، فوجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم؛ وقرب جوهرهم منهم، وفتحوا بذلك طرقا منسدة، ورفعوا ستورا مسبلة، وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيهم من الشرة ، فبدعوا العلماء وجهلوهم اغتصابا لسلطانهم ، ومنازعة لمكانهم، فأغروا بهم أتباعهم حتى وطئوهم بأظلافهم وأخفافهم ، فتولد بذلك البوار والجور العام والعار".
ومن تأمل كلام الراغب وأنزله على خوارج عصرنا رأى أنه لم يغادر منهم موضع إبرة0
فهاهم يتزعمون رئاسة العلم بلا علم، ويحدثون البدع، ويتصنعون للحكام حتى يصلوا إلى ما يريدون من الجاه ، ويستعينون بالفساق من أجل تشويه صورة أهل الحق، ويحيكون عليهم القصص الكاذبة والأراجيف الباطلة لتنفير الناس منهم لأنهم يحذرون من فكرهم الباطل.
هذا واعلموا أيها المسلمون00 أن غالب من خرج على الحكام؛ وهيج عليهم العوام وأهاج عليهم الفتن؛ ما فعل ذلك إلا من أجل الجاه أو المال؛وقد يتلبس بلباس الدين للاستخفاف بعقول أتباعه من الجهال الذين والَوا كل مبتدع؛ وأبغضوا كل صاحب سنة0(1/11)
ولو تأملت في خوارج العصر؛ لرأيت أن ولاءهم للحاكم مرتبط بالجاه والمال والدنيا؛ "فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون)0
ومن كان هذا حاله فهو مخذول ؛متوعد بما يسوؤه على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل؛ ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا ؛فصدقه؛ وهو على غير ذلك؛ ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى؛وإن لم يعطه منها لم يف" 0
قال ابن تيمية رحمه الله : " فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد ، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر ، فأجره على الله؛ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم ، فما له في الآخرة من خلاق"0
والعجيب أن بعض زعماء الخوارج في عصرنا؛ لما أعطي من الدنيا بدا يتكلم بكلام الأخيار؛بل وصل كلامه في مدح الحكام حدا لم يتكلم به من يحبهم أشد الحب، وبعضهم بدأ ينكر أفعال أتباعه الذين يقومون بعمل التفجيرات؛وترويع الآمنين؛ وسفك الدماء، وأشرطته مليئة بالحث على الهيجان والخروج.
والمصيبة أن بعض الحمقى لا زال يمجد هؤلاء ويقدمهم؛ وقد انكشف حالهم لكل مبصر؛ وقد افتضح أمرهم من كثرة خروجهم في القنوات الفضائية ؛وبان جهلهم للناس وتخبطهم؛ لأنهم تقحموا باباً لا قدرة لهم بدخوله؛ وليتهم يصدقون فيما يتكلمون به ، بل إن لكلامهم ألف وجه وألف معنى ؛ وبدأوا يستعملون التقيّة 0
ولا أعجب من رجل يستنكر أفعال التفجير في بلاد التوحيد- في بيان أصدره- وفي نفس البيان يطالب بمزيد من الحريات 0
فأي حريات يطالب بها هذا وأمثاله من مثيري الفتن ؟؟!! ؛ وما دخل هذه التفجيرات بالحريات..؟!0(1/12)
إذن هل كانت التفجيرات لدنيا ؛ أم أن عقول هؤلاء الشباب تلوثت ورأوا أن ذلك دين فسارعوا إلى تطبيقه؟؟
ولماذا يستغل هذا المتلون مثل هذا الظرف السيئ ويدخل مدخل السوء فيطالب بالحريات؛ في وقت يطالب فيه أهل الفساد والفسق بالحريات المزعومة!!
فهل هو تأييد لمطالبهم ؟!!
وإن كنت متعجبا!!.. فاعجب من أناس يريدون أن يليهم أمثال عمر بن عبد العزيز وهم قد تركوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وسارعوا إلى المحرمات وتركوا الواجبات ؛ وقد قيل : " مثلما تكونوا يولى عليكم " ؛ وقال تعالى:
"وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون "0
فإذا ابتلي الناس بحاكم ظالم ؛ فليعلموا أن ذلك من كسب أيديهم ؛ ولا يرفعه عنهم إلا التوبة لله رب العالمين0
قال الحسن البصري رحمه الله : اعلم- عافاك الله- : أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى؛ ونقم الله لا تلاقى بالسيوف ، وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب0
إن نقم الله متى لقيت بالسيف كانت هي أقطع؛ ولقد حدثني مالك بن دينار أن الحجاج كان يقول :اعلموا أنكم كلما أحدثتم ذنبا أحدث الله في سلطانكم عقوبة ؛ ولقد حُدثت أن قائلاً قال للحجاج : إنك تفعل بأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت!! ؛ فقال: أجل ؛ إنما أنا نقمة على أهل العراق لما أحدثوا في دينهم ما أحدثوا ، وتركوا من شرائع نبيهم عليه الصلاة والسلام ما تركوا0
وقيل: إن الحسن سمع رجلا يدعو على الحجاج فقال : لا تفعل- رحمك الله- إنكم من أنفسكم أُتيتم ، إنما أخاف إن عزل الحجاج أو مات؛ أن تليكم القردة والخنازير0(1/13)
وقال رحمه الله: ( والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا؛ ما لبثوا أن يرفع الله عز وجل ذلك عنهم- وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيُوكلُون إليه ؛ووالله ماجاؤوا بيوم خير قط ؛ ثم تلا قوله تعالى: ( وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون)0
هذا واعلموا أنه لم يُعهد في تاريخ الأمة الإسلامية ؛ أن طائفة خرجت على السلطان فنصروا عليه0
ومن تأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: " السلطان ظل الله في الأرض من أكرمه أكرمه الله ؛ ومن أهانه أهانه الله ) ؛ علم السر في ذلك0
نسأل الله ان يقينا شر الفتن ؛وان يرزقنا الإخلاص والقبول؛وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه لا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً0(1/14)
النعمة الكبرى..
سالم العجمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ؛ والصلاة والسلام على رسوله وعبده؛
أما بعد00
فإن من المعلوم للعقلاء أن الناس لا تنتظم حياتهم ولا تأمنُ سبلهم، إلا بحاكم يسوسهم، فإن لم يكن لهم حاكمٌ عمت بهم الفوضى، واستشرى بهم الجهل، وانتشر بينهم العدوان.
من أجل ذلك كانت عقيدة أهل السنة والجماعة : أن نصب الإمام فرضٌ واجبٌ على المسلمين، وهذا بالاتفاق.
وإجماعُ الصحابة بعد موتِ النبي صلى الله عليه وسلم على نصبِ الإمام قبل الاشتغالِ بدفنه لأكبرُ دليل وأعظمُ حجة على أن هذا الأمرَ من أهمِّ الواجبات .
وكان من المسائل التي خالف النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها أهلَ الجاهلية، أنهم كانوا يرون الطاعة للأمير ذلاٍّ فجعلَها طاعةً لله وقربةً كما قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"؛ولا يشترط في الطاعةِ أن يكون الحاكمُ معيناً ممن كان قبله أو مبايعاً من الناس، بل لو غلب الحاكمُ الناسَ على الحكم وجبت طاعته وهذا بالإجماع؛قال ابن حجر رحمه الله : " وقد أجمع الفقهاء على وجوبِ طاعةِ السلطانِ المتغلب والجهادِ معه، وأن طاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما في ذلك من حقنِ الدماء وتسكين الدهماء".
ونصبُ الإمامِ من النعمِ التي يحمدُ اللهُ عليها؛ لأن الناس طُبعوا على الفوضى وحبِّ التملك والاستئثار، فلو لم يكن عليهم سلطانٌ يسوسُ أمورهم لكانوا كوحوش الغاب يأكل القويُّ الضعيف.
وإذا أردت أن تعرف كيف تنتشر الفوضى عند غياب الحاكم فتأمل في ( إشارات المرور) كيف تنظم السير، فإذا تعطلت رأيت فوضى عارمة وتناحراً شديداً، كلٌّ يريد المرور ويرى أن له حقا، ويحصل الاختناقُ الشديدُ في السيارات؛ وقد يرتقي الأمر إلى السبابِ والشتامِ والضرب حتى يجيء شرطي المرور فيحتاج إلى وقتٍ لتنظيم هذا السير وفك هذا الاشتباك.(1/1)
فإذا كان هذا في إشارة المرور؟! فكيف ببلدٍ ينزع فيها السلطان أو يضعفْ؛ فلا سلطانَ فيها يُحكِمُ أمرَها؛وينصفُ أصحابَ الحقوق؛ويمنعُ المظالم وينظمُ أحوالَ الناس في معاشهم؟!
ولأجل كل هذا.. تجدُ أنه حين ينتشرُ الرعبُ في بلادٍ لا سلطانَ لها، ترى أن أهل تلك البلادِ يتمنون أن يحكمهم حاكمٌ أيا كان.. ولو كان طاغية على أن يأمنِّهم في مساكنهم وينظم حياتهم .
فإذا تَحَقَقَّتْ ذلك أيها المسلم.. علمت شمولية الإسلام ورحمته ودقته؛فحمدت الله عليه0
إن وجود الحاكم نعمةٌ عظمى للناس ؛فإن كان براً مطيعاً فهو السعادة التامة ، وإن كان فاجراً ؛فلما يصلح الله به أكثر مما يفسد- ويكفي أنه يحقن دماء المسلمين)-0
ولذلك قال عمرو بن العاص رضي الله عنه:"سلطانٌ عادلٌ خير من مطر وابل، وسلطانٌ غشوم خيرٌ من فتنة تدوم".
وتأمل في فقه الصحابة الأطهار وسلف الأمة الأبرار الذين أوتوا العلم والزكاة كيف عرفوا الأمر حق المعرفة فقدروا له قدره.
قال علي رضي الله عنه: " لا يُصلِحُ الناسَ إلا أميرٌ برٌّ كان أو فاجر ؛قالوا يا أمير المؤمنين: هذا البر فكيف بالفاجر؟!
قال: إن الفاجر يُؤمِّنُ اللهُ عز وجل به السبل، ويجاهَد به العدو، ويجيء به الفيء، وتقام به الحدود، ويُحج به البيت، ويعبد اللهَ فيه المسلمُ آمنا حتى يأتيه أجله".
وقال عبد الله بن المبارك:
لولا الأئمةُ لم تأمن لنا سبلٌ
وكان أضعفنا نهباً لأقوانا
لله درهم ما أفقههم.
وقال الطرطوشي في قوله تعالى: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"؛ قال:" لولا أن الله تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف؛وينصف المظلوم من ظالمه لتواثب الناس يعضهم على بعض".(1/2)
ومن تأمل هذه النصوص علم فقه السلف؛وعلم حكمة الله العظيمة في أن جعل للناس إماماً يسوسهم وأوجب عليهم طاعته، فكل ذلك يعود عليهم بالمصلحة وحفظ الأنفس والأموال والأعراض؛ولولا ذلك لم ينتظم لهم حال، ولم يستقر لهم قرار؛فتفسد الأرض ومن عليها.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "السلطان ظل في الأرض، من أكرمه أكرمه الله؛ومن أهانه أهانه الله "؛ قال أهل العلم: كما أن الظل يلجأ إليه من الحر والشدة، فكذلك السلطان يأوي إليه الضعيف وبه ينتصر المظلوم، فإن الظلم له وهج وحر يحرق الأجواف ويظمئ الأكباد، فإذا أوى إلى سلطان سكنت نفسه، وارتاحت في ظل عدله، ومن أكرم سلطان الله في الدنيا، أكرمه الله يوم القيامة.
وقال الحسن -رحمه الله – في الأمراء: "هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة الجماعة والعيد، والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الأمر إلا بهم وإن جاروا أو ظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون".
ولذا فإن من الواجب على الرعية توقير حاكمهم المسلم طاعة لله ورسوله واعترافاً بفضله عليهم في تأمين سبلهم ومعايشهم ؛قال صلى الله عليه وسلم: "من أهان سلطان الله أهانه الله"0
ولما خرج أبو ذر إلى الربذة، لقيه ركب من أهل الفتن، فقالوا: يا أباذر، قد بلغنا الذي صنع بك، فاعقد لواءً يأتك رجال ما شئت ؛قال: مهلاً..مهلاً يا أهل الإسلام فإني سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول: " سيكون بعدي سلطان فأعزوه، من التمس ذله ثغر ثغرة في الإسلام، ولم يقبل منه توبة حتى يعيدها كما كانت".
رضي الله عنه .. ما أراد دنيا ولا زاحم عليها كما يفعل الخوارج، الذين لو عرض عليهم هذا العرض لتسابقوا إليه واغتروا به ورأوه فرصة لتحقيق دنياهم بدمار دنيا غيرهم ودينه.
ولذلك.. كلما تجرأ الناس على الحاكم اختل الأمن وتزعزع الهدوء وقديماً قيل: (الملك هيبة ).(1/3)
كما أنه من تمام توقيره عدم غيبته، لأن ذلك مما يحط من قدره ويجرئ الناس عليه فتذهب هيبته من قلوب الرعية، فتتحرك الفتن، ويهيج الشر ؛وربما أدى ذلك إلى خروج الرعية عليه وتخريب البلاد وإفساد معايش العباد.
وإن مما يفعله بعض الجهال لقلة ورعهم ودينهم، إن أبغضوا حاكماً ألصقوا به التهم فجعلوه فاسقاً خماراً؛ ماجناً زنديقاً؛ دون بينة واضحة ولا سلطان بين.
وهؤلاء لو راقبوا الله لما نطقوا بهذا الكلام ؛ وقد قال الله تعالى: " ستكتب شهادتهم ويسألون".
وقد حدثت في العصور الأولى قصة شبيهة بما يفعله بعض الناس من الطعن في الحكام؛أو عمال للحكام- ربما كان بعضهم أكثر ديانة وحراسة لثغور الإسلام من هؤلاء المتكلمين-؛ وذلك أنه لما رجع أهل المدينة من عند يزيد بن معاوية، مشى بعضهم إلى محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأرادوه على خلع يزيد؛ فأبى عليهم ؛ فقال بعضهم: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب.
فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون؛ وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة متحرياً للخير، يسأل عن الفقه ملازماً للسنة.
قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعاً لك0
( وهذه الشبهة التي تطلق دائما حتى في أزماننا هذه من قبل خوارج العصر).
فقال: وما الذي خاف مني أو رجا عندي حتى يظهر إليّ الخشوع؟!؛ أفَأَطْلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟! فلئن أطلعكم على ذلك، إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم؛ فما يحل لكم أن تشهدوا بمالم تعلموا .
قالوا: إنه عندنا لحق ؛ وإن لم نكن رأيناه0
قال: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: "إلا من شهد بالحق وهم يعلمون"؛ ولست من أمركم في شيء.(1/4)
واعلم أنه مما ينبغي للسلطان على رعيته الدعاء له؛ وهذا من علامات السني المتبع لهدي نبيه صلوات ربي وسلامه عليه؛ قال الإمام البربهاري رحمه الله : " إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان ، فاعلم أنه صاحب هوى ، وإذا رأيت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله".
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "لو أن لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلا في الإمام" ؛ قيل: وكيف ذلك يا أبا علي؟!
قال: متى صيرتها في نفسي لم تجزني، ومتى صيرتها في الإمام عمت، فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد .
فقبّل ابن المبارك جبهته وقال: ( يا معلم الخير من يحسن هذا غيرك ) فيا لله ما أعظم فقههم.
ولا يدعى عليهم لما في ذلك من الشر المستطير؛ وقد جيء للنبي صلى الله عليه وسلم برجل يشرب الخمر؛فلعنه أحد الصحابة؛فنهاه قائلاً : " لا تعن الشيطان على أخيك"؛ والدعاء على الحاكم إعانة للشيطان عليه0
قال أبو عثمان الزاهد: "فانصح للسلطان وأكثر له من الدعاء بالصلاح والرشاد بالقول والعمل والحكم، فإنهم إذا صلحوا صلح العباد بصلاحهم، وإياك أن تدعو عليهم باللعنة فيزدادوا شراً ويزداد البلاء على المسلمين؛ ولكن ادع لهم بالتوبة فيتركوا الشر فيرتفع البلاء عن المسلمين"؛ وقال معروف الكرخي :"من لعن إمامه حرم عدله"0
كما ينبغي إقامة العذر للسلطان فيما لا يطلع عليه إلا هو ؛ فهذا أعظم الفقه وغايته؛ وثق أنه مبتلى بعظائم الأمور وإن رآه الناس في عافية.
قال الطرطوشي رحمه الله: " كان العلماء يقولون: أقيموا عذر السلطان لانتشار الأمور عليه ؛ وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة ، واستئلاف الأعداء، وإرضاء الأولياء؛ وقلة الناصح؛ وكثرة التدليس والطمع ".
ومما يخطئ به البعض- بسبب الأفكار المنحرفة- ظنه أنه لمجرد كون الحاكم حاكماً أن هذا يبيح عرضه وسبه والكلام عليه بما لا يجوز ولا يستحسن.(1/5)
وكم من الحكام من له فضائل على بلده وأمته أكثر ممن يخاصمونه من أجل الملك والدنيا من أولئك الخوارج الذين تزيوا بزي النساك؛ فيكف الله بالسلطان الدم وتقام الشعائر وتقام الجماعات والجمع ؛ويؤمَّن السبيل ؛ أليس هذا حريٌّ بأن يشكر له؟!.
ومن تأمل بعين البصيرة؛علم أنه لربما انفتحت بذهاب هذا الحاكم الذي يسوس أمره أبواب الفتن ؛ فأورثه ذلك الرضا بسلطانه0
قال عمار بن ليث الواسطي: " قال الفضيل بن عياض : ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون؛ ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره ، فكبر ذلك علينا ، فلما مات هارون وظهرت الفتن ، قلنا: الشيخ كان أعلم بما تكلم".
والفضيل-رحمه الله- قال ذلك ديانةً لله ، لم يقل ذلك طمعاً في دنيا؛ بل إنه كان من العباد الزهاد؛ وكان يعطيه هارون -رحمه الله – العطاء والمال فيرفضه ولا يأخذ منه شيئاً؛ وإنما كان قوله هذا دليلاً على فقهه وديانته ؛ فلا نامت أعين الخوارج.
فيا أيها المسلمون..
تحسسوا هذه النعم حيث تسيرون آمنين في الطريق؛ محفوظة أعراضكم، مأمنة سبلكم؛ موفرة معايشكم؛ وغيركم محروم من ذلك ؛ فاشكروا لمن ولاه الله أمركم، ولا تغتروا بالخوارج الذين ينافسون على الحكم من أجل دنياهم، ولو تَوَلّوْكُم لأفسدوا دينكم ومنعوكم الدنيا0
وتأملوا في كثير من البلاد الإسلامية - التي أفسدها الخوارج بزرع القلاقل والفتن- لا زالت تأن من الحسرات؛ وفسدت معايش الناس ؛ وحل الخوف والرعب في كل طريق؛ فلا يهنأ الناس في عبادة ولا يستمتعون بعيش ؛ وزعماء الخوارج الذين أحدثوا كل هذا الفساد ؛ يعيشون بين أظهر الكفار؛ ويكتفون بتوجيه الأغبياء لتدمير بلادهم المسلمة. فأين زعماء الخوارج من قول النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا بريء ممن سكن بين أظهر المشركين" ؟!!0
ويا طالب الحق00يا من تريد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في سنته وسيرته..(1/6)
اعلم أن الكلام في هذا الموضوع الذي يتعلق بجانب السلطان حساس جداً ؛ ولكن الكلام فيه ديانة لله ، وقد كان أجلة أئمة الإسلام يتكلمون فيه ، ويؤلفون فيه الكتب بعيدا عن الأعراض الدنيوية ، وما ألفوا إلا ديانة لله ؛ وخوفا على الأمة من الاختلاف المؤدي إلى الهرج والمرج- وهو الخلاف على السلطان-0
ولا تغتر بكلام أولئك الخوارج الخونة الذين يشهّرون بمن تكلم في هذا الموضوع ويرجفون به بأنه ما قال ذلك إلا مداهنة ورياء ؛ بل هو دين وشرع ، والنوايا عند عالمها سبحانه وتعالى ؛" وإنما لكل امرئ ما نوى "0
كما أن الكلام في هذا وبيان فضل السلطان من المروءة ومن شكر المعروف؛ ولا يرضى المسلم أن يكون له مثل السوء ؛ فيسب حاكمه الذي يأكل في صحنه؛ ويعيش في ظله؛ فيكون كالكلب الذي يأكل في الصحن ثم يبول فيه0
والعجب العجاب أن أكثر من يسب الحكام ويهينهم؛ هو أكثر الناس استفادة من خيرهم وأكلا في صحونهم ؛ فلا تعجب 00إننا في زمن المتناقضات0
والأمر المحير : أن بعض هؤلاء قبل أن تتوحد البلاد على السلطان كان مستضعفا في الأرض؛ لا يقدر على حماية نفسه وأمواله وبساتينه ، فإذا به لما منّ الله عليه بالأمن والنعمة في ظل حاكم يرعى له ذلك فإذا به يهدر كما يهدر الجمل الحاقد ؛ ويرغي ويزبد ؛ ويصيح ويندد ، نسي هذا الأحمق أنه لو حصل تفكك وضعف في السلطان أن المتضرر الأكبر من هذا الانفلات هو وأمثاله الذين لا يستطيعون عيشا بين أفواج الأمم المتناحرة؛ والوحوش الكاسرة .
فليت هذا وأمثاله ينظر إلى ماضيه وحاضره ؛ فيشكر نعمة الله عليه أن صار موقرا بعد ذلته؛ وغنيا بعد فاقته ؛ بسبب أمن السلطان الذي أنعم الله به عليه0
هذا ومما تجدر الإشارة إليه؛معرفة أن إنكار المنكر من محاسن دين الإسلام ؛وقد امتدح الله -سبحانه وتعالى- هذه الأمة به؛ فقال تعالى :"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر "؛ ولكن ليس الحاكم كغيره في هذا الباب 0(1/7)
ومما وفق له أهل السنة ، وضل عنه الخوارج طريقة الإنكار على الحاكم -مما لا يفتح باب فتنة وشر على المسلمين -وذلك أن ينصح الحاكم سرا فيما صدر عنه من المنكرات ؛ ولا يكون ذلك على رؤوس المنابر ؛ وفي مجامع الناس لما ينتج عن ذلك من تأليب العامة وإثارة الرعاع ، وإشعال فتيل الفتنة0
والإنكار العلني على الحاكم ليس دأب أهل السنة والجماعة؛ بل سبيلهم ومنهجهم جمع قلوب الناس على ولاتهم؛ والعمل على نشر المحبة بين الراعي والرعية ؛ والأمر بالصبر على ما يصدر من الولاة من استئثار بالمال؛ أو ظلم للعباد؛والتحذيرمن المنكرات عموما أمام الناس دون تخصيصِ فاعل؛ كالتحذير من الزنا والربى والظلم – ونحو ذلك – بالعموم0
وقد بينت لنا السنة الغراء كيفية الإنكار على الحاكم؛ وأن يكون ذلك سرا دفعا للمفسدة؛ ومن ذلك ما جاء في الحديث : "أن عياض بن غنم جلد صاحب (دارا ) حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض؛ ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض : ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن من أشد الناس عذابا أشدهم عذابا في الدنيا للناس ).فقال عياض بن غنم : يا هشام بن حكيم: قد سمعنا ما سمعت؛ ورأينا ما رأيت؛ أولم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبد له علانية؛ ولكن ليأخذ بيده فيخلو به ؛ فإن قبل منه فذاك ؛وإلا كان قد أدى الذي عليه " ؛ وإنك يا هشام لأنت الجريء ؛ إذ تجترئ على سلطان الله؛ فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى "0
ولو أن الدعاة المخلصين أخذوا بهذا الأصل في النصيحة سرا للولاة ؛ لأصلح الله لهم الحكام؛ وكان أدعى لإخلاصهم؛ وأنت ترى أن عامة الناس يغضبون إذا نصحوا علنا؛ فكيف بالحاكم00؟!(1/8)
وما سد الشارع باب الإنكار العلني على السلطان؛ إلا لما ينتجه ذلك من الفتن والفساد ؛ وقد جاء في البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قيل له ألا تدخل على عثمان لتكلمه ؟ فقال :" أترون أني لا أكلِّمه إلا أسمعكم ؛والله لقد كلمته بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه "0
قال أهل العلم : مراد أسامة أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك ؛ بل يتلطف به وينصحه سرا فذلك أجدر بالقبول؛ ولما فتحوا الشر في زمن عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عليه جهرة؛ نشأ عن ذلك قتله؛ ونمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم0
ومن تأمل هذه النصوص علم أن الإنكار العلني على السلطان مقدمة للخروج عليه وباب من أبواب الفتنة العمياء الصماء0
وقد خالف بعض الوعاظ والقصاص -من مروجي فكر الخوارج- في هذا العصر؛والمتصدرون للدعوات السياسية هذا الأصل في إسرار النصيحة للسلطان؛ فباتوا يهيجون الشباب على الخروج ويزينونه لهم ويحيكون لذلك القصص الملفقة ويلتمسون الروايات الضعيفة لنصرة مذهبهم الخارجي الغالي المتشدد 0
قال ابن عثيمين رحمه الله : " مخالفة السلطان فيما ليس من ضروريات الدين علنا وإنكار ذلك عليه في المحافل والمساجد والصحف ومواضع الوعظ-وغير ذلك- ليس من باب النصيحة في شيء ؛ فلا تغتر بمن يفعل ذلك وإن كان عن حسن نية فإنه خلاف ما عليه السلف الصالح المقتدى بهم"0
هذا واعلموا أيها الفضلاء أن الله سبحانه وتعالى أوجب عليكم طاعة من ولي أمركم؛ فإياكم وتتبع فكر الخوارج؛ والانحراف عما جاء في نصوص السنة النيرة؛ التي تهدي إلى أقوم طريق وأوضح سبيل وأنجاه بين يدي الله تعالى 0(1/9)
وخذوا العلم في هذا الباب الخطير عن أهله فها هي آثار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديكم فتأملوا بها، ولا تحيدوا عنها؛ فقد كانوا رضي الله عنهم يرون طاعة السلطان طاعة لله ولرسوله؛ لم يروا ذلك ذلاً ولا ضعفاً ؛ومن أجل ذلك سلم لهم دينهم وطابت لهم معايشهم0
" لما قدم أبو ذر رضي الله عنه على عثمان من الشام-وقد بلغه عنه شيء- وقف على الباب؛ وقال: يا أمير المؤمنين: افتح الباب حتى يدخل الناس، أتحسبني من قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم- أي الخوارج- يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه ، حتى يعود السهم على فوقه هم شر الخلق والخليقة.
والذي نفسي بيده ؛لو أمرتني أن أقعد لما قمت؛ ولو أمرتني أن أكون قائماً لقمت ما أمكنتني رجلاي؛ ولو ربطتني على بعير لم أطلق نفسي حتى تكون أنت الذي تطلقني؛ ثم استأذنه أن يأتي الربذة، فأذن له، فأتاها،فإذا عبد يؤمهم فقالوا: أبو ذر؛ فنكص العبد، فقيل له: تقدم؛ فقال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم : أن أسمع وأطيع ولو لعبد حبشي مجدع الأطراف"0
واحذروا أن يلبس عليكم الخوارج ويقولون لكم أن هذه الأحاديث إنما هي في الولاة و السلاطين العادلين0!! ؛ لا .. بل إنها تشمل الحاكم المسلم؛ البرَّ والفاجرَ الظالم ؛ ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :" يكون بعدي أئمة، لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"؛ قال حذيفة رضي الله عنه ؛ قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع"0
فهذا الحديث يبين مع أن كون السلطان ظالما جائرا ؛ فقد أمر المسلم بالسمع والطاعة له0
وليس معنى هذا أن يطاع الحاكم في معصية الله؛ فلو أمر الناس بمعصية فلا طاعة له لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الطاعة بالمعروف"؛ وقوله : "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"0(1/10)
فلو أمر الناس بأمر محرم فلا يطاع في ذلك؛كما يجب عليهم بغض ما ارتكبه من المعاصي.
وتعجب من أناس تمر بهم هذه النصوص فلا يسمعون ولا يفقهون؛ قد أعماهم ما في نفوسهم من البدع والهوى عن فقه النصوص الشرعية؛ وتأملِ هذه الآداب المرعية0
وكيف يوفق مبتدع00؟؟!! أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل فلن تجد له سبيلا0
فما فتئوا يألبون الناس على حكامهم حتى أفسدوا القلوب وملؤوها بالحقد والضغينة والغل والحسد، والمصيبة أن بعض هؤلاء أصبح رأسا لفكر الخوارج في هذا الزمان وهو قليل البضاعة في العلم نفخت به القنوات الفضائية- حتى ظن نفسه عالما- وهو خليط من الجهل، وما أجدر هذا وأمثاله بقول الراغب الأصفهاني رحمه الله حين قال: "ولما ترشح قوم للزعامة في العلم بغير استحقاق، وأحدثوا بجهلهم بدعاً استغروا بها العامة؛ واستجلبوا بها منفعة ورياسة، فوجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم؛ وقرب جوهرهم منهم، وفتحوا بذلك طرقا منسدة، ورفعوا ستورا مسبلة، وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيهم من الشرة ، فبدعوا العلماء وجهلوهم اغتصابا لسلطانهم ، ومنازعة لمكانهم، فأغروا بهم أتباعهم حتى وطئوهم بأظلافهم وأخفافهم ، فتولد بذلك البوار والجور العام والعار".
ومن تأمل كلام الراغب وأنزله على خوارج عصرنا رأى أنه لم يغادر منهم موضع إبرة؛ فهاهم يتزعمون رئاسة العلم بلا علم، ويحدثون البدع، ويتصنعون للحكام حتى يصلوا إلى ما يريدون من الجاه ، ويستعينون بالفساق من أجل تشويه صورة أهل الحق، ويحيكون عليهم القصص الكاذبة والأراجيف الباطلة لتنفير الناس منهم لأنهم يحذرون من فكرهم الباطل.(1/11)
هذا واعلموا أيها المسلمون00 أن غالب من خرج على الحكام؛ وهيج عليهم العوام وأهاج عليهم الفتن؛ ما فعل ذلك إلا من أجل الجاه أو المال؛وقد يتلبس بلباس الدين للاستخفاف بعقول أتباعه من الجهال الذين والَوا كل مبتدع؛ وأبغضوا كل صاحب سنة ؛ ولو تأملت في خوارج العصر؛ لرأيت أن ولاءهم للحاكم مرتبط بالجاه والمال والدنيا؛ "فإن أُعطُوا منها رَضُوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون"0
ومن كان هذا حاله فهو مخذول ؛متوعد بما يسوؤه على لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل؛ ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا ؛فصدقه؛ وهو على غير ذلك؛ ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى؛وإن لم يعطه منها لم يف" 0
قال ابن تيمية رحمه الله : " فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد ، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر ، فأجره على الله؛ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم ، فما له في الآخرة من خلاق"0
والعجيب أن بعض زعماء الخوارج في عصرنا؛ لما أعطي من الدنيا بدا يتكلم بكلام الأخيار؛بل وصل كلامه في مدح الحكام حدا لم يتكلم به من يحبهم أشد الحب، وبعضهم بدأ ينكر أفعال أتباعه الذين يقومون بعمل التفجيرات؛وترويع الآمنين؛ وسفك الدماء، وأشرطته مليئة بالحث على الهيجان والخروج.
والمصيبة أن بعض الحمقى لا زال يمجد هؤلاء ويقدمهم؛ وقد انكشف حالهم لكل مبصر؛ وقد افتضح أمرهم من كثرة خروجهم في القنوات الفضائية ؛وبان جهلهم للناس وتخبطهم؛ لأنهم تقحموا باباً لا قدرة لهم بدخوله؛ وليتهم يصدقون فيما يتكلمون به ، بل إن لكلامهم ألف وجه وألف معنى ؛ وبدأوا يستعملون التقيّة 0(1/12)
ولا أعجب من رجل يستنكر أفعال التفجير في بلاد التوحيد- في بيان أصدره- وفي نفس البيان يطالب بمزيد من الحريات ؛فأي حريات يطالب بها هذا وأمثاله من مثيري الفتن ؟؟!! ؛ وما دخل هذه التفجيرات بالحريات..؟!0
إذن هل كانت التفجيرات لدنيا ؛ أم أن عقول هؤلاء الشباب تلوثت ورأوا أن ذلك دين فسارعوا إلى تطبيقه؟؟ ؛ ولماذا يستغل هذا المتلون مثل هذا الظرف السيئ ويدخل مدخل السوء فيطالب بالحريات؛ في وقت يطالب فيه أهل الفساد والفسق بالحريات المزعومة!!؛فهل هو تأييد لمطالبهم ؟!!
وإن كنت متعجبا!!.. فاعجب من أناس يريدون أن يليهم أمثال عمر بن عبد العزيز وهم قد تركوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وسارعوا إلى المحرمات وتركوا الواجبات ؛ وقد قيل : " مثلما تكونوا يولى عليكم " ؛وقال تعالى:"وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون "0
فإذا ابتلي الناس بحاكم ظالم ؛ فليعلموا أن ذلك من كسب أيديهم ؛ ولا يرفعه عنهم إلا التوبة لله رب العالمين0
قال الحسن البصري رحمه الله : "اعلم- عافاك الله- : أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى؛ ونقم الله لا تلاقى بالسيوف ، وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب0
إن نقم الله متى لقيت بالسيف كانت هي أقطع؛ ولقد حدثني مالك بن دينار أن الحجاج كان يقول :اعلموا أنكم كلما أحدثتم ذنبا أحدث الله في سلطانكم عقوبة ؛ ولقد حُدثت أن قائلاً قال للحجاج : إنك تفعل بأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيت وكيت!! ؛ فقال: أجل ؛ إنما أنا نقمة على أهل العراق لما أحدثوا في دينهم ما أحدثوا ، وتركوا من شرائع نبيهم عليه الصلاة والسلام ما تركوا"0
"وقيل: إن الحسن سمع رجلا يدعو على الحجاج فقال : لا تفعل- رحمك الله- إنكم من أنفسكم أُتيتم ، إنما أخاف إن عزل الحجاج أو مات؛ أن تليكم القردة والخنازير"0(1/13)
وقال رحمه الله: " والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا؛ ما لبثوا أن يرفع الله عز وجل ذلك عنهم- وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيُوكلُون إليه ؛ووالله ماجاؤوا بيوم خير قط ؛ ثم تلا قوله تعالى: ( وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون)"0
هذا واعلموا أنه لم يُعهد في تاريخ الأمة الإسلامية ؛ أن طائفة خرجت على السلطان فنصروا عليه ؛ ومن تأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: " السلطان ظل الله في الأرض من أكرمه أكرمه الله ؛ ومن أهانه أهانه الله ) ؛ علم السر في ذلك0
نسأل الله ان يقينا شر الفتن ؛وان يرزقنا الإخلاص والقبول؛وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه لا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً0
كتبه
سالم العجمي
29/3/1424هـ
الكويت- الجهراء ص ب1476
salem-alajmi@maktoob.com(1/14)
الخوارج(1)
والتفجير في بلاد الإسلام00
كتبه
سالم العجمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ؛ والصلاة والسلام على رسوله وعبده ؛نبينا محمد وعلى آله وصحبه؛ أما بعد00
فإن الأمة لما خالفت سبيل نبيها محمد صلى الله عليه وسلم تمزقت أشلاءً وتفرقت أحزابا وفرقا وطوائف متعددة كل حزب بما لديهم فرحون 0
وعلى افتراق الطوائف التي خرجت في هذه الأمة؛وخالفت السبيل القويم؛فإن الأمة الإسلامية لم تُبتل بطائفة كما ابتليت بطائفة الخوارج.
تلك الطائفة التي خرجت على جماعة المسلمين وإمامهم ؛ وكان انتشارها وقوتها في زمن علي رضي الله عنه وأرضاه؛وإن كان أصل خروجها ونشأتها قد حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم0
فما ابتليت أمة الإسلام بطائفة وفتنة كما ابتليت بهذه الطائفة التي ابتعدت عن العلم؛ وتاهت في ظلمات الجهل؛ وتركت سبيل السنة وطريقة العلماء الربانيين ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- تعليقا على قول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج " شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه" -يقول: [أي إنهم شر على المسلمين من غيرهم فانهم لم يكن أحد شراً على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى؛فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك- أي يرون ذلك دينا- لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة].
__________
(1) خطبة الجمعة 19رمضان1424هـ الموافق14/11/2003م0(1/1)
هذا حال الخوارج الذين خرجوا على جماعة المسلمين وهذا شيء من أو صافهم العديدة المتعددة وأصل هؤلاء الخوارج كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث انه قد جاءته الغنائم في غزوة حنين فقسمها صلى الله عليه وسلم وقد فضل أناسا من أمراء القبائل في الأعطيات من أجل مصلحة عظيمة رآها صلى الله عليه وسلم وهي تأليفهم على الإسلام ، فجاءه رجل ناتئ الجبهة عريض الوجنتين فقال له :" اعدل يا محمد فإنك لم تعدل" ،( يقول: اعدل ويقول: يا محمد)؛ لأنه رأى في نفسه أنه بلغ في العلم والتقى مبلغها حتى قال : اعدل يا محمد؛ وفي لفظ قال: ( إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله) كبر وتعالم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء.؟!" ؛وقال صلى الله عليه وسلم: "فمن يعدل إن لم أعدل؟؛خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل"؛ فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ،فقال : دعه؛فلما ولى مدبرا قال صلى الله عليه وسلم : " إن من ضئضىء هذا، ( يعني أصله؛هذا الأصل وسيأتي له فروع )، إن من ضئضيء هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ( أي:يقرؤونه من غير فقه يصل إلى ها هنا ويقف؛ وقيل معناه لا ترتفع أجورُهم إلى السماء )؛ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ؛( كما يأتي السهم فيضرب الطائر من مكان فيخرج من مكان آخر لا يأخذ من دمه ولا من ريشه شيئا؛وهذا دليل على قلة نصيبهم من الإسلام )، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" (أي: قتلا مستأصلا كما قال الله سبحانه وتعالى: فهل ترى لهم من باقية).(1/2)
وفي زمن عثمان رضي الله عنه وأرضاه اجتمعوا من بلاد عديدة وجاءوا قافلين حتى بلغوا المدينة ، وخرجوا عليه رضي الله عنه وقتلوه رضي الله عنه والمصحف في يده ، وركب خارجي على صدره (( حتى تروا أنهم يريدون الدنيا)) ركب هذا الخارجي على صدره وطعنه بتسع طعنات؛ ثم قال: أما ثلاث فلله،وأما ستٌّ فلشيءٍ في نفسي عليه.
ثم خرجوا في وقت علي رضي الله عنه وأرضاه؛ وكان خروج قادتهم للدنيا ؛ وذلك أن الأشتر –وهو من الخوارج- كان يطمع أن يجعله عليٌّ أميرا على البصرة فجعل عليها عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما؛ وعند ذلك خرجوا عن طاعته وذهبوا إلى منطقة يقال لها حروراء وهي بجانب الكوفة واعتزلوا الناس وبدأوا بالكلام وإثارة الناس على عليٍّ رضي الله عنه؛ باسم الدين ورفعِ شعار الورع والتنسك فقال لهم عليٌّ رضي الله عنه: "لا نمنعكم المساجد؛ولا نمنعكم الفيء ولا نبدؤكم بقتال حتى تبدؤوه"، ثم مالوا إلى عبد الله بن خباب بن الارت رضي الله عنه ( حتى تعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى حيث قال فيهم : يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) مالوا إلى عبد الله بن خباب بن الأرت ابن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أميراً لعلي رضي الله عنه فجاءوا إليه وقتلوه وشقوا بطنَ أمِّ ولده ؛عنفا وقسوة في القتل؛ يقتلون مسلما موحدا لأنه لم يكن سائرا على طريقتهم.
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على قتال الخوارج فقال :" سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان؛ (أي: أنهم شباب صغار يتحمسون في مجلس ويملؤهم رجل في شريط تهييجي ثم يدفعهم لأعمال التخريب).(1/3)
" سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام "؛ ( أي: أن عقولهم صغيره )؛ "يقولون من خير قول البرية "؛( أي أنهم إذا تكلموا في القنوات قلت: ليس هناك أبلغ من فلان فإنهم أوتوا جدلا ولحنا ؛ولتعرفنهم في لحن القول) ؛"يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"( أي:يقرؤونه من غير فقه ولا إدراك)، "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة"0
كما انه قد وصفهم صلى الله عليه وسلم بوصف شديد ؛وسماهم شرَّ الخلق والخليقة؛فقال: "إن بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية؛ثم لا يعودون فيه؛هم شر الخلق والخليقة". وخرجت خارجة من هؤلاء في الشام فقُتلوا وأُلقوا في بئر ، فجاء أبو أمامة صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم؛ ثم بكى وقال : سبحان الله ما فعل الشيطان بهذه الأمة كلاب النار كلاب النار كلاب النار شر قتلى تحت ظل السماء خير قتلى تحت ظل السماء من قتلوه. قيل: يا أبا أمامة أشيءٌ تقوله برأيك أم شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:إني إذا لجرىء ،بل سمعته من رسول الله صلى الله عله وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثا حتى عد عشرا0
فوصفهم النبي صلى الله عله وسلم بأنهم شر قتلى تحت أديم السماء وسماهم كلابَ النار ووصْفِهم بالكلاب؛لأن الكلب لا يزال ينبح ويستهيج الناس حتى يدلَ العدوَّ على قومه؛أو لأنهم لا يزالون تقتيلا في المسلمين وتكفيرا كمثل الكلب إذا جاع فإنه يرجع إلى ذنبه فيأكلَه0(1/4)
وقد أكرم الله سبحانه وتعالى علياً رضي الله عنه وأرضاه بقتالهم؛ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقاتلهم وأن آية ذلك أن فيهم رجلا يده مقطوعة وأن يده في مؤخرتها قطعةُ لحمٍ كحلمة الثدي، فقاتل علي رضي الله عنه هؤلاء الخوارجٍ؛ثم بعد أن انتهى من قتالهم بعث من يبحث له عن هذه الصفة،فبحثوا فلم يجدوا شيئا؛فرجعوا إلى علي وأخبروه فقال: ارجعوا "فوالله ما كذبْتُ وما كُذّبت"-مرتين أو ثلاثا- فبحثوا حتى وجدوا ذلك الرجل على الصفة التي ذكرها له النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .
وعند ذلك سُرّ أصحابه لِما رأوا من تصديق الخبر؛ وذلك أن بعضهم لما رأى اجتهادَ الخوارجِ في العبادة والصلاة وطول القيام أخذته ريبة من أمرهم؛ كما حدث ذلك مع جندب رضي الله وأرضاه-وقد كان مع جيش علي-رضي الله عنه-؛يقول جندب رضي الله عنه: لما كان يومُ قاتل عليٌّ رضي الله عنه الخوارج:(1/5)
نظرتُ إلى وجوههم والى شمائلهم فشككت في قتالهم ؛أي أنه لما رأى الناس يصلون ويبيتون قائمين يطيلون القيام استراب في أمرهم، يقول رضي الله عنه: فشككت في قتالهم فتنحيت عن العسكر؛ (يعني أخذت لي جانبا غير بعيد) فنزلت عن دابتي وركزت درعي تحتي وعلقت ترسي سترا من الشمس؛وأنا معتزل العسكر ناحية؛إذ طلع أمير المؤمنين عليُّ بن أبى طالب؛على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛فقلت في نفسي:مالي وماله أنا أفر منه وهو يجيء إلىّ، (يعني:أنه يودّ اعتزالَ هذا القتال)؛ فقال لي: يا جندب مالك في هذا المكان تنحيت عن العسكر؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أصابني وعك فشق عليَّ الغبار فلم أستطع الوقوف ، فقال:أما بلغك ما للعبد في غبار العسكر من الأجر؟ (وذلك يقينا بما عند الله وبما أخبره الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم)؛ ثم ثني رجله فنزل فأخذت برأس دابته؛وقعد فقعدت؛ فأخذت الترس بيدي فسترته من الشمس، فوا لله إني لقاعد إذ جاء فارس يركض فقال يا أمير المؤمنين : إن القوم قد قطعوا الجسر ذاهبين فالتفت إليّ وقال: إن مصارعهم دون النهر؛ (لأن الذي اخبره بذلك الذي لا ينطق عن الهوى محمد صلى الله عليه وسلم)، وإن الذي أجده عنده واقف (يعني لا زال الرجل واقفا عنده)؛ إذ جاءه رجل آخر فقال : يا أمير المؤمنين والله قد ابتعدوا فما بقي منهم أحد قال: ويحك إن مصارعهم دون النهر ، فجاء فارس يركض فقال يا أمير المؤمنين: والذي بعث نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لقد رجعوا؛ ثم جاء الناس فقالوا: قد رجعوا حتى انهم ليتساقطون في الماء ( انظروا إلى حماسهم إلى قتل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انهم ليتساقطون في الماء زحاما على العبور لأن الجسر كان فوق النهر )؛ ثم إن رجلاً جاء؛ فقال: يا أمير المؤمنين إن القوم قد صفوا الصفوف ورموا فينا وقد جرحوا فلانا فقال علي رضي الله عنه: هذا حين طاب القتال ، فوثب فقعد على بغلته؛ وقمت إلى سلاحي فلبسته ثم شددته(1/6)
عليّ؛ثم قعدت على فرسي وأخذت رمحي ثم خرجت؛ فوا لله ما صليت الظهر أو قال العصر حتى قتلت بيدي سبعين"0
فهاهو قد استراب في أمرهم لما رأى عبادتهم رضي الله عنه ، لكن لما رأى حماسهم لقتل المسلمين؛بل أخيارِ الناس بعد الأنبياء أصحابِ محمد صلى الله عليه وسلم تيقن الخبر؛لا سيما وقد سمع من علي رضي الله عنه أنه يحدد مصارعهم0 وقد هزمهم الله جل وعلا شر هزيمة على يد علي رضي الله عنه ،ولذلك قال الآجرّي رحمه الله : ( فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلاً كان أو جائرا؛فخرج وجمع جماعة وسل سيفه واستحل قتال المسلمين؛ فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن ولا بطول قيامه في الصلاة ولا بمداومة الصيام ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبُه مذهبَ الخوارج).
ولا يظن مسلم أن بدعة الخوارج قد انتهت بل إن بدعتهم باقيةٌ إلى أن يخرج قوم منهم في الدجال كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الذي حصل أن الأزياء تغيرت؛والألسن تبدلت؛ولذلك التبس أمرهم على كثير من المسلمين ، يقول ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينشأ نشىءٌ (يعني جماعة أحداث صغار السن) يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم كلما خرج قرن قطع".
انظروا إلى هذا القول: (كلما خرج قرن قطع ) أي:أن الخوارج لن تقوم لهم قائمة أبداً 0
قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عيه وسلم يقول: "كلما خرج قرن قطع؛ أكثر من عشرين مرة ، حتى يخرج في عراضهم الدجال"؛ ( يعني حتى يخرج في خداعهم الدجال)0
فبدعة الخوارج باقية ولا زالت تعيش بين صفوفنا؛ولكن أُلبست على كثير من الناس؛ لأن أصحابها في هذا الزمن تغيرت أزياؤهم؛ وتبدلت ملابسهم؛وتلونت وجوههم؛ فباتوا يظهرون في كل وجه ؛ ومن تأمل السنة وخبر أعمالهم مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علم أوصافهم فحذرهم ؛وإنْ رأى منهم عبادة؛لأن عبادتهم لأنفسهم ولكن ضررَهم يعود على المسلمين جميعا 0(1/7)
فهم يخرجون على أئمة المسلمين بالطعن والثلب ؛ وإحداث القلاقل والفتن كما خرجوا في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، لما خرج أصلهم الفاسد؛ونبتتهم الأولى فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : اعدل يا محمد فإنك لم تعدل ،وكما خرجوا على عثمان ، وعلي رضي الله عنهما .
وتنبهوا أيها المسلمون إلى أن الخوارج طبقات ودرجات ، ومن هؤلاء الخوارج طبقة تسمى القعدية؛ وهم الذين يهيجون الناس على الخروج على الحاكم ويحسنونه لهم ولا يخرجون ،وهذه الطائفة من طوائف الخوارج قد انتشرت أشرطتهم بين صفوف المسلمين؛ولا يزالون يهيجون الناس على الحكام ويدفعون بالناس إلى الفتن؛ثم بعد ذلك ينسلون في بيوتهم؛بل ويفعلون ما هو أشد من ذلك من إعلان البراءة من فعل هؤلاء المغرورين؛ وهذه طامة عظمى يراها كل مبصر ويعيها كلُّ عاقل 0
وتجد أن هؤلاء إذا مُنعوا من الدنيا هاجوا وماجوا وأن أُعطوا منها تحول حالهم إلى ما هو أحسن؛ فإذا بهم يكيلون للولاة والحكام من عبارات المدح والثناء؛ما لو قاله صاحب سنة لوسموه بالنفاق والعمالة0
فانظروا وتأملوا في هذا الواقع الذي يشيب الولدان، فتجد رجلا يهيج الناس ويحرضهم، فإذا أعطي من الدنيا فإذا بلسانه يتغير؛ وإذا بمدحه يزداد؛وإذا بالذم يعود مدحاً للحكام والولاة 0
أين الطاعة في المعروف ؟ هو مأمور بالطاعة أن مُنع أو أُعطي ، فلماذا يعلِّق هذا الأمر الشرعي بالدنيا فإن أعطي منها مدح وإذا منع منها قدح.
والطاعة ملازمة له على كل حال للحاكم المسلم في بلاد المسلمين فلا تعلَّق بالدنيا0
ومن صفات هؤلاء الخوارج الجهل؛كما وصفهم بذلك أصدق الخلق؛وأنصح الخلق للخلق محمد صلى الله عليه وسلم حيث أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم؛فتجدهم يحملون الآيات الواردةَ في الكفار والمنافقين ويضعونها على المسلمين، وإذا بهم يضعون النصوص في غير محلها الصحيح 0(1/8)
ومن عاداتهم الخروج على العلماء والطعن فيهم وتنفير الناس منهم للانفراد بتوجيه الشباب فإذا رأوا عالما سنيا مقتفيا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا منه توجيها وتسديدا ونصحا للمسلمين فإذا بهم يعودون عليه بالقدح والسب والطعن لتنفير الناس منه.
ومع الأسف الشديد أن هذا قد درج عليه بعض الناس بسبب ما يسمعونه من هؤلاء ؛فتجد بعض العامة مع أن فطرتهم سليمة؛( أسلم من فطرة هؤلاء المنحرفين؛ تجده يتكلم في عالم كبير جليل ويطعنه بأنه عميل وأنه لا ينكر على الحكام وأنه وأنه وانه ؛ وقد قال بعض السلف : "لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة "؛ بل ولعله يأتي إلى أمور لا يعلمها إلا الله فيتهمه بأنه حصل على الأموال وحصل على المبالغ الكبيرة للتحدث في هذا الحديث أو ذاك ... فأين العقول ؟ وأين البصائر.. ؟
ولكن لا غرابة فقد أوذي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فصبر ؛ ومن كان على طريقته صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يناله نصيب من كلام هؤلاء الخوارج0
ومن صفاتهم ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، من قتالهم أهل الإسلام؛ ومسالمة أهل الأوثان ؛فقال: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان"؛ فتجد رجلا منهم يعيش في ديار الكفر ويمدحها؛ لأجل ما يحصل عليه من معايش الدنيا وهو قد سُلب دينه0
فإذا به إذا ذكرت أمم الكفر مجّد ومدح وأثنى وإذا ذكرت بلاد الخير من بلاد التوحيد أو البلاد التي تظهر فيها شعائر الإسلام؛ فإذا به يظهر كل نقيصة حتى إنه ليكذب ويزور الحقائق 0(1/9)
ومن أعمالهم التي أدى إليها هذا الفكر المتشدد تلك التفجيرات التي تحصل في بلاد المسلمين فيقوم بها أولئك النشىء الجاهل؛ الذين مازالوا يملأ عقولهم أولئك المهيجون؛الذين إذا حدثت طامة؛ قالوا: لسنا منهم في شيء( وهذا عمل ندينه)! وماذا عن الأشرطة التي لا زالت تغذي الناس سنين عديدة بهذا الفكر المتشدد؟!، فإذا فعلوا هذا الفعل قلت:( قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا)؟!
هذه الأفكار إنما كانت من أفكار أولئك الخوارج الذين لا زالوا يبثونها في الشباب حتى حدثت عندنا تلك الطوام العظيمة؛ فيأتون إلى بلاد المسلمين فيفجرون فيها 0
وأين أنت من ذلك الرجل الموحد الذي قتل في هذا الانفجار؛( بأي ذنب قتلت) وكيف ستحاج بين يدي الله وأنت قتلته من غير ذنب؟ وماذا تقول ؛ وبماذا تدفع؟!
انظروا الى الجهلة ماذا يتأولون يقولون إن حدث هذا الانفجار وقُتل فيه بعض المسلمين يبعثون على نياتهم .الله أكبر.. كيف يبعثون على نياتهم؟؟؟!!!
التفجير في بلاد المسلمين لا يجوز بأي حال من الأحوال ولو كان المتفجَّر فيه كافراً قد جاء بعهد وأمان من حاكم المسلمين0
وكيف يحاج ذلك المغرور وقد نشر الرعب والخوف بين صفوف المسلمين ؛يقتل ويفجر00 أليس ذلك نوعا من الخيانة ؛ واستجلابا لدعاء المسلمين عليه؟.
يُؤتى إلى بلد من بلاد الإسلام تُقام فيه الصلاة والشعائر الإسلامية فيُفَجَّر فيه؛ لا شك أن هذا من فعل الخوارج..
وفي الجانب الآخر إذا تكلم بعضهم يتكلم وكأنه إمام المسلمين سنفعل ونفعل ونفجر في المكان الفلاني ، ومن أنت؟؟!!؛ والمصيبة أنه لا يذكر بالتفجير إلا بلاد المسلمين0
ولعلها ستظهر الأيام أن بعض هؤلاء؛ ماكان إلا آلة في أيدي الأعداء إن لم يكن قد ظهر حاله0
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل بكشف سرهم وفضحهم 0
ومن صفات هؤلاء التي فارقوا فيها أصحابهم الماضين؛ أن الخوارج في السابق وإن كانوا أصحاب باطل إلا أنهم كانوا أصحاب شجاعة ولا يكذبون 00(1/10)
فلما وقف الخارجي بين يدي الحجاج وهو صاحب باطل ، سبه في وجهه، ولكن انظروا إلى خوارج هذا الزمان00
مئاتُ الأشرطة تنضح في الفكر الخارجي وتحريض الناس على التخريب؛ فإذا حدثت الفتنة خرج في القنوات الفضائية ليندد بهذه الأفعال على استحياء 0
فمن الذي أوصلهم إلى هذا؟..
ولماذا لما أعطيت من الدنيا فإذا بك تتنازل عما تراه دينا؟!0
ولماذا بدأ بعض هؤلاء يستعملون التقية ، فإذا به يظهر لأصحابه بوجه؛وإذا خرج إلى الناس-وقد أعطي شيئا من الدنيا- فإذا به يتنازل عن مبادئه ؛ ويلبس وجها آخر0
إن المصيبةَ العظمى والطامةَ الكبرى؛ أنْ قُدِّم أمثالُ هؤلاء لإفتاء الناس ولا يملكون علماً، ولازالوا صغار السن والعلم؛وقد فتنتتهم القنوات الفضائية بتسميتهم علماء ؛فإذا بهم لما رَقَوا جبلا صعبا؛ شق عليهم نزوله؛فراحوا يتخبطون فجاءوا بالعجائب0
ذكر اللالكائي في كتابه السنة ؛ قال: طاف خارجيان بالبيت ؛ فقال أحدهما لصاحبه : أنظر إلى هذا الخلق لن يدخل منهم الجنة إلا أنا وأنت ؛ فقال له صاحبه : جنة عرضها كعرض السماء والأرض بنيت لي ولك؟
قال أجل ؛ قال هي لك ؛ وترك مذهبه0
إن هذه النظرة القاتمة لدى هذا الرجل هي عينها التي ورثها أصحابُه في زمننا هذا؛فبدؤوا ينظرون إلى المجتمع المسلم نظرة سوداء قاتمة؛ فمن كان معهم فهو على الخير والهدى ؛ ومن خالف مذهبهم فقد ضل سواء السبيل0
وإن هذا الفكر المتشدد قد جلب لهم الوسواس ؛ وسوء الظن بالمسلمين واحتقارهم ؛ ومعاملتهم بوحشية ؛ وكل هذا بسبب ما يرونه من اعتقاد تكفير من لم يكن على طريقتهم0
وما تلك الأعمال التخريبية التي تحصل في بلاد المسلمين إلا بسبب هذا المنطلق السيئ0
وإن مما يحزن كلَّ مسلم صادق ؛ وتستنكره الفطر السليمة ؛ ما أحدثه أولئك المغرورون من التخريب في بلاد الحرمين ؛ فقتلوا الأبرياء ؛ وشوهوا صورة الاسلام البيضاء الناصعة0
فما ذنب طفل يقتل بلا سبب ولا جريمة؟!..(1/11)
وما ذنب شعب يروع بلا جناية؟!..
وما هي النتيجة المرجوة من وراء هذا الفعل الدموي؟؟!
والأدهى من ذلك ؛ ما عزم عليه أهل الشر من التفجير في مكة المكرمة ؛ قبلة المسلمين التي حرمها الله سبحانه ؛ وأوجب تأمين من دخلها ؛ كما قال تعالى: "ومن دخله كان آمنا "؛وكانت الجاهلية تعرف ذلك؛ فكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه؛فلا يؤذيه بشيء تعظيما لهذه البقعة المباركة الطاهرة0
وقد توعد الله-سبحانه وتعالى-من همّ فيه بالإلحاد والظلم أو أراده بالعذاب الأليم؛كما قال تعالى :" ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم "..
فكيف بمن فعله.؟؟!
ولما فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة ؛ خطب الناس وقال : "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات الأرض ؛ وإن الله جل وعلا لم يحله لي إلا ساعة من نهار ؛ وقد عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس ؛ فليبلغ الشاهد الغائب "؛ وقال :" إنه لا يحل لأحد أن يسفك فيه دما ؛ أو يعضد شجره ؛ ولا ينفر صيدُه ؛ ولا يُختلى خلاه "0
فإذا كان الصيد والشجر محترمين في هذا البلد الحرام ؛ فكيف بحال المسلم الذي هو أشد حرمة عند الله سبحانه من بيته الحرام..؟!
إن هذه الفتن لَما تحير العقول والأفهام !
يعمد رجلٌ يدّعي الإسلام إلى المسلمين الآمنين الذين جاءوا يطلبون رحمة الله ورضوانه ؛ فيَهمَّ بالمكر بهم وتقتيلهم وترويعهم0
هل هذا هو الجهاد الذي يزعمون؟؟!
تُقتَّل النفوس المحرمة في بلد حرام !! نعوذ بالله من غياب البصيرة0
إنَّ مَن لم يدرك فكر هؤلاء وأبعاده ؛ يظن أن في الأمر مبالغة ؛ ولكن من عرف نظرته للمسلمين ؛ وحقدهم الدفين ؛ علم أن هذا مما يمليه عليهم دينهم الذي تدينوا به ؛ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم :" يقتلون أهل الإسلام ؛ ويدعون أهل الأوثان"0
والعجب ممن إذا سئل عنهم في القنوات الفضائية ووسائل الإعلام أخذ يبرر لهم ويشرح طريقة علاجهم ؛ وكأنه يبرر فعلهم لكن على خجل ووجل 0(1/12)
إن منتهى الحسرة والغبن أن ترى شبابا كانت تعدهم أمتهم المسلمة ؛ ليكونوا لها حصنا وسترا ؛ فإذا بهم يتحولون إلى خونة ؛ يكشفون عورتها ؛ ويفضحون أسرارها ؛ مثلهم في ذك مثل الابن العاق الذي ما زالت أمه تغذوه وترعاه؛ فلما قوي عوده ؛ فإذا به يتهمها بكل ريبة ؛ ويصفها بكل لقب دنيء0
ماذا يريد هؤلاء 00هل يريدون الجهاد؟؟!!
وهل الجهاد في تقتيل الأطفال والنساء والمسلمين ؛ في بلد هو أكثر البلدان أمنا واستقرارا0
متى يعرف أولئك أنهم مغرورون00؟!!
ألا يرون أن بعض هؤلاء الذين يدفعونهم لبث الرعب في بلادهم وأمتهم؛قد عاش في بلاد الكفرة ودُعِم بقناة فضائية ؛ ينشر بها فكره ؛ ويطعن فيها بدينه ؛ وإذا تكلم فإذا به يطالب بإعطاء الحريات التي تناقض الإسلام ؛ من حرية الاعتقاد ؛ وسفور المرأة واختلاطها السافر مع الرجال ؛ وإذا به ينتقد الحكام لدنيا وهو يلبس لباس الدين زورا وبهتانا؛ ولو تمكن لعلمنا علم اليقين أن الحكام أشرف منه وأطهر 0
وهذا ليس تخمينا 00
فمطالبه وهو لا يملك شيئا حوت الفجور كلَّه … فكيف إذا تمكن؟!
أرى بين الرماد وميض نار
فيوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تُذكى
وإن الحرب أولها الكلام
لئن لم يطفها عقلاء قوم
يكون وقودَها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام؟!
فإن كانوا لحينهموا نياما
فقل قوموا فقد حان القيام
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ؛ ونعوذ بك من الشقاق والنفاق وسيء الأخلاق ؛ وصلى الله وسلم على نبينا محمد ؛ وعلى آله وصحبه0
كتبه
سالم العجمي
الكويت – الجهراء ص ب 1476(1/13)