بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
هذه نقول من الكتاب والسنة توجه المسلم إلى الفضائل التى يتم بها دينه، وتصلح بها دنياه وأخراه جميعا. مهدتُ لها وعقبتُ بتفاسير موجزة، تعالج ما انتاب المسلمين فى هذه الأعصار من انحراف وهبوط، نتيجة ما أصاب أخلاقهم من عُقد وعلل.. واكتفيت بما سُقتُ من آيات، وذكرت من أحاديث. فلم أستطرد إلى إيراد الشواهد الأخرى من أقوال الأئمة، وحِكم العلماء، وعظات العُبَّاد والمتأدبين ـ على كثرتها فى تراثنا القديم ـ لأنى قصدت أن نرجع إلى الشريعة وحدها، وأن أعرض جانب التربية منها، على أنه توجيه إلهى، يُطالب المسلم بالتزامه، ويعتبر مقصرا فى حق الله، حين يَعرض عنه.. وفرق بين المطالبة بأدب ما على أنه خلق عام، وبين التكليف به على أنه دين كسائر العبادات المفروضة فى هذا الدين. وقد درسنا، فى مراحل ثقافتنا، فلسفة الأخلاق، ومناهج الفلاسفة ومقاييسهم لضبط سلوك البشر.. وأعجبنا بما فيها من فكر عميق، وتلمُّس للحقيقة، واستشراف للمثل العليا. ولسنا نغمط فضل أحد نَشدَ الخير للناس، واجتهد فى إنارة السبل أمامهم..
ص _004(1/1)
بيد أننا نلفت أنظار المنصفين إلى أساليب التربية الناجعة، والأخلاق الرائعة التى جاء بها صاحب الرسالة الخاتمة، ونقل بها العالم من الغى إلى الرشاد. وسوف يرون أن فى الإسلام كنوزا حافلة بالنفائس، دونها ما ورث الناس من فلسفة اليونان والرومان. قيل لعالم مسلم: هل قرأت أدب النفس " لأرسطو" ؟ فقال : بل قرأت أدب النفس لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.! لقد قرأنا أدب النفس لأرسطو ولأمثاله من الفلاسفة، وقرأنا أدب النفس لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فوجدنا ما تخيله الأولون واصطنعوا له بعد العناء صورا بعضها كامل وبعضها منقوص. وجدناه قد تحول إلى حقائق حية تجسد فيها الكمال وأضحى سيرة رجل، وأدب أمة، وشعائر دين ضخم. ذلكم هو أدب النفس لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . نحمد الله إذ وفقتنا الأقدار الميمونة لدراسة بعض معالمه، وإتاحة عرضها فى إطار جديد. * * * وهذا الكتاب يعتبر حلقة ثانية بعد كتابنا "عقيدة المسلم ". وقد بدأناه بمقدمة عن الأخلاق فى الإسلام، وصلتها بالتعاليم والعبادات الأخرى. وعن طبيعة النفس وآثار البيئة.. الخ. ثم ذكرنا ما أمر الإسلام به من فضائل، ولم نقصد إلى ترتيب معين فى تقديم فضيلة على أخرى. وآثرنا فى هذا الكتاب أن نذكر مراجع النصوص. على عكس ما ألف القارئ منا فى الكتب السابقة!. ص _005(1/2)
ونحن نستشهد بالأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا كانت من قبيل "الصحيح " لذاته أو لغيره، و "الحسن " لذاته أو لغيره، كما يقول علماء المصطلح. وتلك خطة تحريناها، سواء ذكرنا المرجع، أم لم نذكره. والسنن المنقولة هنا أثبتناها كما اقتبسناها من كتابى " تيسير الوصول " و"الترغيب والترهيب "، واكتفينا بذكر مصدر واحد للحديث إذا كانت مصادره كثيرة.. ولم نبذل جهدا يذكر فى هذا التأليف، أكثر من أننا استفدنا كتابة الخير ويسرناه للمطالعين. وبقى الجهد الأكبر الذى يتحمله الكاتب والقارئ على سواء، وهو حب الخير والسير على سننه القويم.
محمد الغزالى ص _007(1/3)
المقدمة أركان الإسلام ومبادئ الأخلاق
لقد حدد رسول الإسلام الغاية الأولى من بعثته، والمنهاج المبين فى دعوته بقوله: "إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ". فكأن الرسالة التى خطت مجراها فى تاريخ الحياة، وبذل صاحبها جهدا كبيرا فى مد شعاعها وجمع الناس حولها، لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم، وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم، حتى يسعوا إليها على بصيرة.. والعبادات التى شرعت فى الإسلام واعتبرت أركانا فى الإيمان به ليست طقوسا مبهمة من النوع الذى يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلفه بأداء أعمال غامضة وحركات لا معنى لها، كلا فالفرائض التى ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه، هى تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق، مهما تغيرت أمامه الظروف.. إنها أشبه بالتمارين الرياضية التى يُقبل الإنسان عليها بشغف، ملتمسا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة. والقرآن الكريم والسنة المطهرة، يكشفان ـ بوضوح ـ عن هذه الحقائق. فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها، فقال: (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر). فالإبعاد عن الرذائل، والتطهير من سوء القول وسوء العمل، هو حقيقة الصلاة، وقد جاء فى حديث يرويه النبى عن ربه: (إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتى، ولم يستطل على خلقى، ولم يبت مصرا على معصيتى، وقطع النهار فى ذكرى، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب) . ص _008(1/4)
والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هى - أولا - غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها). فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامى بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى. ومن أجل ذلك وسع النبى - صلى الله عليه وسلم - فى دلالة كلمة الصدقة التى ينبغى أن يبذلها المسلم فقال: "تبسمك فى وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل فى أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك فى دلو أخيك لك صدقة وبصرك للرجل الردىء البصر لك صدقة" . وهذه التعاليم فى البيئة الصحراوية التى عاشت دهورا على التخاصم والنزق تشير إلى الأهداف التى رسمها الإسلام، وقاد العرب فى الجاهلية المظلمة إليها. وكذلك شرع الإسلام الصوم، فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائما من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة. وإقرارا لهذا المعنى قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " من لم يدع قول الزور، والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه " وقال: "ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد، أو تجهل عليك، فقل: إنى صائم " . والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله : (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) . ص _009(1/5)
وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة ـ الذى كلف بها المستطيع واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة عن المعانى الخلقية، ومثلا لما قد تحتويه الأديان أحيانا من تعبدات غيبية. وهذا خطأ، إذ يقول الله تعالى ـ فى الحديث عن هذه الشعيرة: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق و لا جدال في الحج و ما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب). * * * * هذا العرض المجمل لبعض العبادات التى اشتهر بها الإسلام، وعرفت على أنها أركانه الأصيلة، نستبين منه متانة الأواصر التى تربط الدين بالخلق. إنها عبادات متباينة فى جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقى عند الغاية التى رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم فى قوله: "إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ". فالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هى مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذى يصون الحياة ويعلى شأنها، ولهذه السجايا الكريمة ـ التى ترتبط نجها أو تنشأ عنها ـ أعطيت منزلة كبيرة فى دين الله. فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكى قلبه، وينقى لبه! ويهذب بالله وبالناس صلته فقد هوى. قال الله عز وجل: (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيى * و من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك جزاء من تزكى). ص _010(1/6)
ضعف الخُلق دليل على ضعف الإيمان
الإيمان قوة عاصمة عن الدنيا، دافعة إلى المكرمات ومن ثم فإن الله عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر، يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر فى قلوبهم. وما أكثر ما يقول فى كتابه: ( يا أيها الذين آمنوا ) ثم يذكر - بعدُ - ما يُكلفهم به: ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) مثلا.. وقد وضح صاحب الرسالة أن الإيمان القوى يلد الخلق القوى حتما، وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان، أو فقدانه، بحسب تفاقم الشر أو تفاهته.. فالرجل الصفيق الوجه، المعوج السلوك الذى يقترف الرذائل غير آبه لأحد، يقول رسول الإسلام فى وصف حاله: "الحياء والإيمان قرناء جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"!. والرجل الذى ينكب جيرانه ويرميهم بالسوء، يحكم الدين عليه حكما قاسيا، فيقول فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال : الذى لا يأمن جاره بوائقه "!!. وتجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما يعلم أتباعه الإعراض عن اللغو، ومجانبة الثرثرة والهذر - يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ". وهكذا يمضى فى غرس الفضائل وتعهدها حتى تؤتى ثمارها، معتمدا على صدق الإيمان وكماله.. على أن بعض المنتسبين إلى الدين، قد يستسهلون أداء العبادات المطلوبة ويظهرون فى المجتمع العام بالحرص على إقامتها وهم - فى الوقت نفسه - يرتكبون أعمالا يأباها الخلق الكريم والإيمان الحق.. إن نبى الإسلام توعد هؤلاء الخالطين، وحذر أمته منهم. ذلك أن التقليد فى أشكال العبادات يستطيعه من لم يُشرب رُوحها، أو يرتفع لمستواها. ص _011(1/7)
ربما قدر الطفل على محاكاة أفعال الصلاة وترديد كلماتها.. ربما تمكن الممثل من إظهار الخضوع وتصنع أهم المناسك.. كن هذا وذاك لا يغنيان شيئا عن سلامة اليقين، ونبالة المقصد. والحكم على مقدار الفضل وروعة السلوك يرجع إلى مسار لا يخطئ، وهو الخلق العالى! وفى هذا ورد عن النبى أن رجلا قال له: يا رسول الله، إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها. فقال: "هى فى النار". ثم قال: يا رسول الله فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها، وأنها تتصدق "بالأثوار من الأقط " ـ بالقطع من العجين ـ ولا تؤذى جيرانها. قال: "هى فى الجنة" !. فى هذه الإجابة تقدير لقيمة الخلق العالى وفيها ـ كذلك ـ تنويه بأن الصدقة عبادة اجتماعية، يتعدى نفعها إلى الغير، ولذلك لم يفترض التقلل منها كما افترض التقلل من الصلاة والصيام، وهى عبادات شخصية فى ظاهرها. إن رسول الإسلام لم يكتف بإجابة على سؤال عارض، فى الإبانة عن ارتباط الخلق بالإيمان الحق، وارتباطه بالعبادة الصحيحة، وجعله أساس الصلاح فى الدنيا والنجاة فى الأخرى. إن أمر الخلق أهم من ذلك، ولابد من إرشاد متصل، ونصائح متتابعة ليرسخ فى الأفئدة والأفكار، أن الإيمان والصلاح والأخلاق، عناصر متلازمة متماسكة، لا يستطيع أحد تمزيق عراها. لقد سأل أصحابه يوما : "أتدرون من المفلس؟! قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتى وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح فى النار" . ص _012(1/8)
ذلك هو المفلس : إنه كتاجر يملك فى محله بضائع بألف، وعليه ديون قدرها ألفان، كيف يُعد هذا المسكين غنيا؟ والمتدين الذى يباشر بعض العبادات، ويبقى بعدها بادى الشر، كالح الوجه، قريب العدوان كيف يحسب امرءا تقيا؟ وقد روى أن النبى ضرب لهذه الحالات مثلا قريبا. قال: "الخلق الحسن يُذيب الخطايا كما يُذيب الماء الجليد، والخلق السوء، يُقسد العقل كما يُفسد الخل العسل). فإذا نمت الرذائل فى النفس، وفشا ضررها، وتفاقم خطرها، انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه، وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا، فما قيمة دين بلا خلق؟!! وما معنى الإفساد مع الانتساب لله؟!! وتقريرا لهذه المبادئ الواضحة فى صلة الإيمان بالخلق القويم، يقول النبى الكريم: " ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وحج واعتمر، وقال إنى مسلم : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان ". وقال فى رواية أخرى: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم "!. وقال كذلك: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" . * * * * ص _013(1/9)
نحو عالم أفضل
ظهر من هذه التعاليم أن الإسلام جاء لينتقل بالبشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب، وأنه اعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته، كما أنه عد الإخلال بهذه الوسائل خروجا عليه وابتعادا عنه. فليست الأخلاق من مواد الترف، التى يمكن الاستغناء عنها، بل هى أصول الحياة التى يرتضيها الدين، ويحترم ذويها.. وقد أحصى الإسلام بعدئذ الفضائل كلها، وحث أتباعه على التمسك بها واحدة واحدة. ولو جمعنا أقوال صاحب الرسالة فى التحلى بالأخلاق الزكية لخرجنا بسفر لا يُعرف مثله، لعظيم من أئمة الإصلاح. وقبل أن نذكر تفاصيل هذه الفضائل، وما ورد فى كل منها على حدة، نثبت طرفا من دعوته الحازة، إلى محامد الأخلاق، ومحاسن الشيم. عن أسامة بن شريك قال: كنا جلوسا عند النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ كأنما على رءوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: "أحسنكم خلقا" . وفى رواية: "ما خيرُ ما أُعطى الإنسان؟ قال: خلق حسن" . وقال: "إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام فى شىء، وإن أحسن الناس إسلاما، أحسنهم خلقا". وسئل: "أى المؤمنين أكمل إيمانا ؟ قال: أحسنهم خلقا" . وعن عبد الله بن عمرو: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ألا أخبركم بأحبكم إلىَّ، وأقربكم منى مجلسا يوم القيامة؟ ـ فأعادها مرتين أو ثلاثا ـ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقا " . وقال: "ما من شىء أثقل فى ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، إن الله يكره الفاحش البذىء. وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة" . ص _014(1/10)
هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشئون الإصلاح الخلقى فحسب لما كان مستغربا منه، إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير. والأديان ـ عادة ـ ترتكز فى حقيقتها الأولى على التعبد المحض. ونبى الإسلام دعا إلى عبادات شتى، وأقام دولة ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين، فإذا كان ـ مع سعة دينه، وتشعب نواحى العمل أمام أتباعه ـ يخبرهم بأن أرجح ما فى موازينهم يوم الحساب، الخلق الحسن. فإن دلالة ذلك على منزلة الخلق فى الإسلام لا تخفى.. والحق أن الدين إن كان خلقا حسنا بين إنسان وإنسان، فهو فى طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه، وكلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة. إن هناك أديانا تبشر بأن اعتناق عقيدة ما، يمحو الذنوب، وأن أداء طاعة معينة يمسح الخطايا. لكن الإسلام لا يقول هذا، إلا أن تكون العقيدة المعتنقة محورا لعمل الخير. وأداء الواجب، وأن تكون الطاعة المقترحة غسلا من السوء. وإعدادا للكمال المنشود، أى أنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التى يضطلع بها الإنسان، ويرقى صعدا، إلى مستوى أفضل. وقد حرص النبى على توكيد هذه المبادئ العادلة، حتى تتبينها أمته جيدا، فلا تهون لديها قيمة الخلق، وترتفع قيمة الطقوس. عن أنس قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، وأشرف المنازل. وانه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلق أسفل درجة فى جهنم". وعن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم " وفى رواية: "إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجات قائم الليل وصائم النهار" . وعن ابن عمر: سمعتُ رسول الله يقول: "إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات الله، بحسن خلقه وكريم طبيعته " . وروى أبو هريرة عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : "كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه ". ص _015(1/11)
وروى عنه أبو ذر : "قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان ، وجعل قلبه سليماً ، ولسانه صادقاً ، ونفسه مطمئنة ، وخليقته مستقيمة" * * * وحسن الخلق لا يؤسس فى المجتمع بالتعاليم المرسلة ، أو الأوامر والنواهى المجردة ، إذ لا يكفى فى طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره : افعل كذا ، أو لا تفعل كذا . فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة ، ويتطلب تعهدا مستمرا. ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة ، فالرجل السيئ لا يترك فى نفوس من حوله أثراً طيبا. وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه، فيروعها أدبه، ويسببها نبله ، وتقتبس - بالإعجاب المحض - من خلاله، وتمشى بالمحبة الخالصة فى آثاره. بل لابد - ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل - أن يكون فى متبوعه قدر أكبر ، وقسط أجل. وقد كان رسول الإسلام بين أصحابه مثلاً أعلى للخلق الذى يدعو إليه ، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامى ، بسيرته العاطرة ، قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات.. عن عبد الله بن عمرو قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فاحشا ولا متفحشا ، وكان يقول : "خياركم أحاسنكم أخلاقا " وعن أنس قال : خدمت النبى - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين ، والله ما قال لى : أف قط ، ولا قال لشيء : لمَ فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا وعنه : إن كانت الأمَةُ لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به حيث شاءت، وكان إذا استقبله الرجل فصافحه ، لا ينزع يده من يده ؛ حتى يكون الرجل ينزع يده ، ولا يصرف وجهه عن وجهه ؛ حتى يكون الرجل هو الذى يصرفه ، ولم يُرَ مُقدِّمًا ركبتيه بين يدى جليس له - يعنى أنه يحتفظ مع جلسائه فلا يتكبر - ص _016(1/12)
وعن عائشة قالت: ما خير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه فى شىء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم، وما ضرب رسول الله شيئا قط بيده ، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يُجاهد فى سبيل الله تعالى" . وعن أنس: كنت أمشى مع رسول الله وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابى فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد، مر لى من مال الله الذى عندك فالتفت إليه رسول الله، وضحك، وأمر له بعطاء . وعن عائشة: قال رسول الله: "إن الله رفيق، يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف، وما لا يعطى على سواه وفى رواية: "إن الرفق لا يكون فى شىء إلا زانه، ولا ينزع من شىء إلا شانه". وعن جرير أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الله عز وجل ليعطى على الرفق ما لايعطى على الخرق ـ الحمق ـ وإذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير كله " وسئلت عائشة: ما كان رسول الله يفعل فى بيته؟ قالت: "كان يكون فى مهنة أهله حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة" . وعن عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وعن أنس: كان رسول الله أحسن الناس خلقا، وكان لى أخ فطيم، يُسمى أبا عمير، لديه عصفور مريض اسمه النُّغير، فكان رسول الله يلاطف الطفل الصغير ويقول له: يا أبا عمير، ما فعل النُّغير والمعروف فى شمائل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان سمحا لا يبخل بشىء أبدا، شجاعا لا ينكص عن حق أبدا، عدلا لا يجور فى حكم أبدا، صدوقا أمينا فى أطوار حياته كلها. ص _017(1/13)
وقد أمر الله المسلمين أن يقتدوا به فى طيب شمائله وعريق خلاله فقال: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا). قال القاضى عياض : كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعا، قد سبقهم إليه واستبرأ الخبر، على فرس لأبى طلحة عُرْى، والسيف فى عنقه، وهو يقول: لن تُراعوا. وقال على رضى الله عنه : إنا كنا ـ إذا حمى البأس واحمرت الحدق ـ نَتَّقى برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فما يكون أحد أقرب إلى عدو منه. وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: ما سئل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : لا. وقد قالت له خديجة: "إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق". وحمل إليه سبعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلا، حتى فرغ منها. وجاءه رجل فسأله، فقال له: ما عندى شىء، ولكن ابتع علىَّ، فإذا جاءنا شىء قضيناه، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه! فكره النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذى العرش إقلالا ، فتبسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعُرف البشر فى وجهه، وقال: بهذا أُمِرتُ. وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤلف أصحابه ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم. ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره ولا خلقه. يتفقد أصحابه ويعطى كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه مَن جالسه، أو قاربه لحاجة صابرهُ، حتى يكون هو المنصرف عنه. ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول. قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده فى الحق سواء. وكان دائم البشر، سهل الطبع، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش ولا عتَّاب، ولا(1/14)
مدَّاح، يتغافل عما لا يشتهى، ولا يقنط منه قاصده. ص _018
وعن عائشة رضى الله عنها: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله، ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال : لبيك. وقال جرير بن عبد الله رضى الله عنه : ما حَجَبَنى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أسلمت، ولا رآنى إلا تبسم. وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم ويجاريهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم فى حجره. ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى فى أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر. قال أنس: ما التقم أحد أذن رسول الله يعنى، ناجاه فينحى رأسه حتى يكون الرجل هو الذى ينحى رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة. لم يُرَ قط مادّاً رجليه بين أصحابه فيضيق بهما على أحد. يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التى تحته، ويعزم عليه فى الجلوس عليها إن أبى. ويكنى أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يتجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام. وعن أنس: " كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أتى بهدية قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحب خديجة ". وعن عائشة قالت: ما غرتُ على امرأة، ما غرتُ على خديجة، لما كنتُ أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها، وأستأذَنَت عليه أختها فارتاح إليها، ودخلت عليه امرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال : " إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان". وكان يصل ذوى رحمه، من غير أن يُؤثرهم على من أفضل منهم. وعن أبى قتادة: لما جاء وفد النجاشى قام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخدمهم، فقال له أصحابه : نكفيك، فقال : إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإنى أحب أن أكافئهم. وعن أبى أمامة قال: خرج علينا رسول الله متوكئا على عصا، فقمنا له فقال: "لا تقوموا كما يقوم(1/15)
الأعاجم، يُعظم بعضهم بعضا. ص _019
وقال: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد " وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجلس بين أصحابه مختلطا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس. وحج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على رحل رث عليه قطيفة ما تساوى أربعة دراهم، فقال : " اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة ". ولما فتحت عليه مكة ودخلها بجيوش المسلمين، طأطأ رأسه على راحلته حتى كاد يمس قادمته تواضعا لله تعالى. وكان كثير السكوت لا يتكلم فى غير حاجة، يُعرض عمن تكلم بغير جميل. وكان ضحكه تبسما، وكلامه فصلا، لا فضول فيه ولا تقصر. وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيرا له واقتداء به. مجلسه مجلس حلم وخير وأمانة، لا تُرفع فيه الأصوات، ولا تخدَش فيه الحرم. إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير. وإذا مشى مشى مجتمعا، يعرف فى مشيته أنه غير ضجر ولا كسلان. وقال ابن أبى هالة: كان سكوته على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر. وقالت عائشة: كان يُحدِّث حديثا لو عده العادُّ أحصاه. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُحب الطيب والرائحة الحسنة، ويستعملها كثيرا. وقد سيقت إليه الدنيا بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها، فأعرض عن زهرتها، ومات ودرعه مرهونة عند يهودى، فى نفقة عياله.. ! ص _020(1/16)
الإنسان بين الخير والشر
الإسلام ـ كسائر رسالات السماء ـ يعتمد فى إصلاحه العام على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء، فهو يكرس جهودا ضخمة للتغلغل فى أعماقها وغرس تعاليمه فى جوهرها حتى تستحيل جزءا منها. وما خلدت رسالات النبيين وكونت حولها جماهير المؤمنين إلا لأن "النفس الإنسانية" كانت موضوع عملها ومحور نشاطها، فلم تكن تعاليمهم قشورا ملصقة فتسقط فى مضطرب الحياة المتحركة، ولا ألوانا مفتعلة، تبهت على مر الأيام. لا.. لقد خلطوا مبادئهم بطوايا النفس، فأصبحت هذه المبادئ قوة تهيمن على وساوس الطبيعة البشرية، وتتحكم فى اتجاهاتها. وربما تحدثت رسالات السماء عن المجتمع وأوضاعه، والحكم وأنواعه، وقدمت أدوية لما يعرو هذه النواحى من علل. ومع ذلك فالأديان لن تخرج عن طبيعتها فى اعتبار النفس الصالحة هى البرنامج المفصل لكل إصلاح، والخلق القوى هو الضمان الخالد لكل حضارة. وليس فى هذا تهوين ولا غض من عمل الساعين لبناء المجتمع والدولة، بل هو تنويه بقيمة الإصلاح النفسى فى صيانة الحياة وإسعاد الأحياء. فالنفس المختلة، تثير الفوضى فى أحكم النظم، وتستطيع النفاذ منه إلى أغراضها الدنيئة، والنفس الكريمة، ترقع الفتوق فى الأحوال المختلة ويشرق نبلها من داخلها، فتحسن التصرف والمسير، وسط الأنواء والأعاصير. إن القاضى النزيه، يكمل بعدله نقص القانون الذى يحكم به، أما القاضى الجائر فهو يستطيع الميل بالنصوص المستقيمة، وكذلك نفس الإنسان حين تواجه ما فى الدنيا من تيارات وأفكار، ورغبات ومصالح. ومن هنا كان الإصلاح النفسى، الدعامة الأولى لتغليب الخير فى هذه الحياة . ص _021(1/17)
فإذا لم تصلح النفوس أظلمت الآفاق، وسادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم، ولذلك يقول الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال). ويقول ـ معللا هلاك الأمم الفاسدة ـ : - (كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب * ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). والإسلام ـ فى علاجه للنفس ابتغاء إصلاحها ـ ينظر إليها من ناحيتين: أن فيها فطرة طيبة، تهفو إلى الخير، وتُسر بإدراكه، وتأسى للشر، وتحزن من ارتكابه، وترى فى الحق امتداد وجودها وصحة حياتها. وأن فيها ـ إلى جوار ذلك ـ نزعات طائشة، تشرد بها عن سواء السبيل، وتزين لها فعل ما يعود عليها بالضرر، ويُسفُّ بها إلى منحدر سحيق. ولا يهمنا أن نستقصى أصول هذه النزعات السيئة من الناحية التاريخية، لنعرف أهى طارئة على فطرة الإنسان، أم مخلوقة معها، وإنما يهمنا أن هذه وتلك موجودتان فى الإنسان، تتنازعان قيادة، ومصيره معلق بالناحية التى يستسلم لها. قال الله تعالى: (و نفس و ما سواها * فألهمها فجورها و تقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها). وعمل الإسلام هو إسداء المعونة الكاملة للإنسان، كى يدعم فطرته ويجلى أشعتها، ويسير على هديها. وكى يتخلص كذلك ـ من وساوس الإثم! التى تراوده، وتحاول السقوط به. وقد وصف الإسلام نفسه بأنه دين الفطرة الخالصة من هذه الشوائب جمعاء، قال الله فى كتابه العزيز: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . ص _022(1/18)
إن وظيفة العين أن تبصر، ما لم يلحقها عمى، ووظيفة الأذن أن تسمع، ما لم يُصبها صمم، ووظيفة الفطرة أن تستقيم مع الحق، وتتدفع إليه تدفع الماء من صبب، ذلك ما لم يطرأ عليها تشويه يلوى عنانها ويثنيها عن وجهتها الأولى إلى الكمال والخير والفضيلة. وهذه الطوارئ المفسدة للفطرة، قد تتكون من رواسب القرون الماضية، أو من تقاليد البيئات الساقطة، أو من كليهما معا، وهى شديدة الخطر فيما تجره على الفطرة البشرية من علل، وجهاد المصلحين الحقيقى يقوم على كفاحها وكسر حدتها، وإنقاذ الفطرة من غوائلها، حتى تعود إلى صفائها الأصيل وتؤدى وظيفتها الحقة، وقد شرح الإسلام طريق ذلك. فبعد أن تقرأ فى كتاب الله الآية السابقة، فى أن الدين هو الفطرة، تقرأ قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). الإيمان لا الإلحاد، والتقوى لا الفجور، ووحدة المتدينين على ربهم لا تفرقهم فيه.. هذه النصائح هى باب العود بالإنسان إلى فطرته المستقيمة. وقد كرر القرآن الكريم هذا المعنى فى قوله: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات). ذلك التقويم الحسن، هو معرفة الحق والاستمساك به، والسير على مقتضاه، هو الولوع بالفضل والنبل، ورعايتهما فى منطق المرء مع نفسه ومع الناس، وهو نشدان الكمال فى نسقه العالى، وتغليبه على كل شىء فى الحياة. بيد أن كثيرا من الناس، تثقل بهم أهواؤهم دون هذا المستوى العالى، فيخلدون إلى الأرض، ثم تجمع بهم أهواؤهم المتبعة، فينحدرون إلى مكان سحيق، وذلك هو أسفل سافلين، الذى يردهم الله إليه. هذا الرد الإلهى، خاضع لقوانين الهداية والإضلال، وهى قوانين عادلة دقيقة، ذكرها القرآن الكريم فى قوله: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم) . ص _023(1/19)
وقوله: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين). ومن الذى يبقى على تقويمه الحسن، وينجو من الارتكاس فى الدنيا السافلة؟ الجواب فى الآية: (إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون). وقد علمت أن الخلق الحسن، هو الثمرة الدانية للإيمان الواضح والعمل الصالح. * * * * ذلكم موقف الإسلام من فطرة الإنسان الطيبة، ونهجه فى تدعيمها. أما عمله مع طبائع المرء الشريرة الأخرى، فهو التنبيه إليها، والعمل على إسلاس قيادها، وجعله خاضعا لتصريف العقل الرشيد ومنطق الفطرة الطيبة. أشار النبى إلى بعض هذه الطباع بقوله: "يشيب ابن آدم وتشيب معه خصلتان : الحرص وطول الأمل ". وقوله : "شر ما فى الإنسان جبن هالع، وشح خالع ". وقوله: " لو أن ابن آدم أعطى واديا من ذهب أحب إليه ثانيا، ولو أعطى ثانيا أحب إليه ثالثا، ولا يسد جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ". وأشار القرآن الكريم إلى بعض هذه الطباع بقوله: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب). وأول ما يلفت الإسلام نظر المرء إليه، أن الجري مع الهوى، والانصياع مع وساوسه التى لا تنقضى، لن يشبع النفس، ولن يرضى الحق. فالنفس كلما ألفت موطنا لشهوتها أحبت الانتقال منه إلى موطن آخر. وهى فى رتعها الدائم، لا تبالى بارتكاب الآثام واقتراف المظالم. ص _024(1/20)
ومن ثم حذر القرآن من اتباع هذه الأهواء المحرمة. (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب). ويقول ـ عن مسالك الكافرين وضرورة معارضتها ـ : (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون). ولابد من التفريق بين أهواء النفس المحرمة ومطالبها المعقولة المقررة، فإن كثيرا من المتدينين يخلط خلطا سيئا بين الأمرين. وذلك أن الإنسان إذا كانت له مطالب من متاع الحياة وسعتها التى لا حرج فيها، فأُفهم خطأ أن هذه المطالب من الرذائل المحظورة فستكون النتيجة أن يُقبل على هذه المطالب المحتومة بضمير من يستبيح الجرائم، ويرضى بالتدلى إليها، وضميره فى الحقيقة ضحية خطأ شنيع. إنه ما دام قد فهم أنه أصبح مسيئا، وأن الرذيلة جزء من حياته ينتقل منها إلى عمل منكرات أشد: أى منكرات حقيقية فى هذه المرة! وقد لاحظ القرآن الكريم هذه الناحية، فنص فى صراحة على إباحة الرغائب السليمة للنفس، وترك لها فرصة التوسع الطيب، وعد التدخل بالحظر والتحريم والضيق على النفس ـ فى هذه الدائرة الكريمة ـ قرينا لعمل السوء والفحشاء! لأنه مدرجة إلى عمل السوء والفحشاء. قال الله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). أجل، إن حظر الحلال الطيب، قول على الله بلا علم، وهو أخو السوء والفحشاء، اللذين يأمر بهما الشيطان . ص _025(1/21)
يكره الإسلام أن تعالج الغرائز بالكبت العنيف، وأن تتملق بالإسراف البالغ، ويشرع لها المنهج الوسط، بين الإفراط والتفريط. وكما أن ضوابط الفطرة الحيرة فى الإيمان والإصلاح، لا فى الإلحاد والإباحية. فكذلك ضوابط هذه الغرائز النزقة . وفى كلتا الحالتين، لن يكون السياج المتين، إلا فى الخلق المكين. فحيث يصف القرآن الإنسان بالضعف والتردد، والأثرة، يذكر أن النظافة من هذه الرذائل، عن طريق الدين ووصاياه فحسب: (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم * والذين يصدقون بيوم الدين * والذين هم من عذاب ربهم مشفقون * إن عذاب ربهم غير مأمون * والذين هم لفروجهم حافظون). والمعروف أن الخلق لا يتكون فى النفس فجأة، ولا يولد قويا ناضجا، بل يتكون على مكث وينضج على مراحل. وهذا سر ارتباط نمائه بأعمال متكررة، وخلال لها صفة الدوام كالصلاة والزكاة، والتصديق بيوم الجزاء، والإشفاق من عقاب الله.. الخ. وإذا كانت الطباع الرديئة دائمة الإلحاح على صاحبها، تحاول العوج بسلوكه بين الحين والحين، فلن يكفكف شرها علاج مؤقت. وإنما يُسكن ثورانها عامل لا يقل قوة عنها، يعيد التوازن على عجل إذا اختل. * * * * والخلاصة، أن الإسلام يحترم الفطرة الخالصة، ويرى تعاليمه صدى لها. ويحذر الأهواء الجامحة، ويقيم السدود فى وجهها، والعبادات التى أمر بها هى تدعيم للفطرة، وترويض للهوى، ولن تبلغ هذه العبادات تمامها وتؤدى رسالتها إلا إذا كانت كلها روافد لتكوين الخلُق العالى، والمسلك المستقيم . ص _026(1/22)
الحدود على الجرائم الخلقية
الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل، كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن؟ فالحرية النفسية والعقلية أساس المسئولية. والإسلام يقدر هذه الحقيقة ويحترمها، وهو يبنى صرح الأخلاق. ولماذا يلجأ إلى القسر فى تعريف الإنسان معنى الخير، أو توجيه سلوكه إليه، وهو يحسن الظن بالفطرة الإنسانية، ويرى أن إزاحة العوائق من أمامها كافية لإيجاد جيل فاضل؟ إن فطرة الإنسان خيرة وليس معنى هذا أنه ملاك لا يحسن إلا الخير، بل معنى هذا أن الخير يتواءم مع طبيعته الأصيلة، وأنه يُؤثر اعتناقه والعمل به كما يُؤثر الطير التحليق، إذا تخلص من قيوده وأثقاله. فالعمل الصحيح فى نظر الإسلام هو تحطيم القيود وإزالة الأثقال أولا، فإذا جثم الإنسان على الأرض بعدئذ، ولم يستطع سموا، نُظر إليه على أنه مريض، ثم يُسرت له أسباب الشفاء. ولن يصدر الإسلام حكما يعزل هذا الإنسان عن المجتمع إلا يوم يكون بقاؤه فيه مثار شر على الآخرين. فى حدود هذه الدائرة يحارب الإسلام الجرائم الخلقية، فهو يفترض ابتداء أن الإنسان يحيا أن يعيش من طريق شريف، وأن يحيا على ثمرات كفاحه وجهده الخاص أى أنه لا يبنى كيانه على السرقة. ما الذى يحمله على السرقة؟ احتياجه إلى ما يقيم أوده؟ فليوفر له من الضرورات والمرفهات ما يغنيه عن ذلك. وتلك فريضة على المجتمع، إن قصر فيها فألجأ فردا إلى السرقة، فالجريمة هنا يقع وزرها على المجتمع المفرط، لا على الفرد المضيع. فإن كفلت للفرد ضروراته ثم مد بعد ذلك يده، محصت حالته جيدا قبل إيقاع العقوبة عليه، فلعل هناك شبهة تثبت أن فيه عرقا ينبض بالخير، والإبطاء فى العقاب مطلوب دينا، إلى حد أن يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الإمام لأن يخطىء فى العفو خير من أن يخطىء فى العقاب ". ص _027(1/23)
فإذا تبين من تتبيع أحوال الشخص أن فطرته الْتَاثَتْ ، وأنه أصبح مصدر عدوان على البيئة التى كلفته وآوته، وأنه قبال عطفها وعنايتها، بتعكير صفوها وإقلاق أمنها، فلا ملام على هذه البيئة إذا حدت من عدوان أحد أفرادها، فكسرت السلاح الذى يؤذى به غيره. وقد وصف القرآن اللصوصية التى تستحق قطع اليد، بأنها لصوصية الظلم والإفساد، وقال فى هذا السارق المعاقب: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم). فالحد الذى شرعه الإسلام، هو وقاية للجماعة العادلة المصلحة، من ضراوة عضو فيها، يقابل عدالتها بالظلم، ويقابل إصلاحها بالفساد. * * * ذلك مثل نسوقه لنبين به أن الحدود على الجرائم الخلقية لم تشرع إكراها على الفضيلة، وإلجاء للناس ـ بطريق القسوة ـ إلى اتخاذ المسلك الحسنة. فالطريقة المثلى لدى الإسلام هى خطاب القلب الإنسانى، واستثارة أشواقه الكامنة إلى السمو والكمال، ورجعه إلى الله بارئه الأعلى، بأسلوب من الإقناع والمحبة، وتعليقه بالفضائل الجليلة على أنها الثمرة الطبيعية لهذا كله.. ويجب التحكم فى ظروف البيئة، التى تكتنف الإنسان حتى يُعين على إنضاج المواهب والسجايا الحسنة. ولا حرج من خلع الطفيليات التى لا فائدة منها، فنحن فى حقول الزراعات المختلفة نوفر النماء للمحاصيل الرئيسية، باقتلاع كثير من الحشائش والأعشاب وليست المحافظة على مصلحة الإنسانية العامة بأقل من ذلك خطرا فلا وجه لاستنكار الحدود التى أقرها الإسلام وسبقت بها التوراة، واعتبرت شريعة الأديان السماوية عامة . ص _028(1/24)
والإسلام يُحمل البيئة قسطا كبيرا من تبعة التوجيه إلى الخير أو الشر، وإشاعة الرذائل أو الفضائل. واتجاهه إلى تولى مقاليد الحكم يعود، فيما يعود إليه من أسباب، إلى الرغبة فى تشكيل المجتمع على نحو يعين على العفاف والاستقامة. وقد روى النبى عليه الصلاة والسلام قصة القاتل الذى يبتغى التوبة من جرائمه، وأنه "سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم. فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، من يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء". وفى رواية أنه أتى راهبا فسأله : "أهل تجد لى من توبة؟ فقال له : قد أسرفت وما أدرى، ولكن ها هنا قريتان، قرية يقال لها نصرة، والأخرى يقال لها كفرة، فأما أهل نصرة فيعملون عمل أهل الجنة، لا يثبت فيها غيرها، وأما أهل كفرة فيعملون عمل أهل النار لا يثبت فيها غيرهم، فانطلق إلى أهل نصرة فإن ثَبَتَّ فيها وعملت عمل أهلها، فلا شك فى توبتك!!.. " . * * * * من هنا يرى الإسلام أن ملاحظة البيئة وتقدير آثارها فى تكوين الخُلُق، عاملٌ ينضم إلى ما سبق تقريره من حراسة الفطرة السليمة، وتهذيب الأهواء الطائشة. وتظن أن فى العناية بهذه النواحى جميعا ضمانا لإيجاد مجتمع نقى يزخر بأزكى الصفات وأعف السير. ص _0 ص(1/25)
دائرة الأخلاق تشمل الجميع
قد تكون لكل دين شعائر خاصة به، تعتبر سمات مميزة له. ولا شك أن فى الإسلام طاعات معينة، ألزم بها أتباعه، وتعتبر فيما بينهم أمورا مقررة لا صلة لغيرهم بها. غير أن التعاليم الخلقية ليست من هذا القبيل " فالمسلم مكلف أن يلقى أهل الأرض قاطبة بفضائل لا ترقى إليها شبهة، فالصدق واجب على المسلم مع المسلم وغيره، والسماحة والوفاء والمروءة والتعاون والكرم.. الخ. وقد أمر القرآن الكريم ألا نتورط مع اليهود أو النصارى فى مجادلات تهيج الخصومات ولا تجدى الأديان شيئا. قال الله تعالى : (و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون). واستغرب من أتباع موسى وعيسى أن يشتبكوا مع المسلمين فى منازعات من هذا النوع الحاد : (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون). وحدث أنه يهوديا كان له دَيْن على النبى، فجاء يتقاضاه قائلا : إنكم يا بنى عبد المطلب قوم مُطل!! فرأى عمر بن الخطاب أن يُؤدب هذا المتطاول على مقام الرسول، وهم بسيفه، يبغى قتله. لكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسكت عمر قائلا : "أنا وهو أولى منك بغير هذا، تأمره بحُسن التقاضى؟ وتأمرنى بحُسن الأداء". وقد أمر الإسلام بالعدل ولو مع فاجر أو كافر. قال عليه الصلاة والسلام: "دعوة المظلوم مُستجابة، وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه ". وقال: "دعوة المظلوم ـ وإن كان كافرا ـ ليسن دونها حجاب ، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". وبهذه النصوص، مَنع الإسلام أبناءه أن يقترفوا أية إساءة نحو مخالفيهم فى الدين. ومن آيات حسن الخلق مع أهل الأديان الأخرى ما ورد عن ابن عمر: أنه ذبحت له شاة فى أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودى؟ أهديتم لجارنا اليهودى؟. سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ما زال جبريل يوصينى(1/26)
بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " . ص _030
وكذلك أمر الإسلام أن يصل الإنسان رحمه، ولو كفروا بدينه الذى اعتنقه، فإن التزامه للحق لا يعنى المجافاة للأهل : (وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون). * * * ذلك من الناحية الشخصية. أما من الناحية العامة، فقد قرر الإسلام أن بقاء الأمم وازدهار حضارتها، واستدامة منعتها، إنما يُكفل لها، إذا ضمنت حياة الأخلاق فيها، فإذا سقطت الخلق سقطت الدولة معه. وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ويؤكد هذه الحقيقة حديث الرسول لقومه وعشيرته، فقد رشحتهم مكانتهم فى جزيرة العرب لسيادتها، وتولى مقاليد الحكم بها. ولكن النبى أفهمهم ألا دوام لملكهم إلا بالخلق وحده. فعن أنس بن مالك قال: "كنا فى بيت فيه نفر من المهاجرين والأنصار، فأقبل علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فجعل كل رجل يوسع رجاء أن يجلس إلى جنبه.. ثم قام إلى الباب فأخذ بعضادتيه، فقال: الأئمة من قريش، ولى عليكم حق عظيم، ولهم ذلك ما فعلوا ثلاثا: إذا استُرْحموا رَحموا، وإذا حكموا عد لوا، وإذا عاهدوا وفوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " . هذا الحديث حاسم فى أنه لا مكانة لأمة ولا لدولة ولا لأسرة إلا بمقدار ما تمثل فى العالم من صفات عالية، وما تحقق من أهداف كريمة. فلو أن حكما حمل طابع الإسلام والقرآن، ثم نظر الناس إليه فوجدوه لا يعدل فى قضية، ولا يرحم فى حاجة، ولا يوفى فى معاهدة، فهو باسم الإسلام والقرآن قد انسلخ عن مقوماته الفضالة، وأصبح أهلا لأن يعن فى فجاج الأرض وآفاق السماء. وروى الحسن قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (إذا أراد الله بقوم خيرا ولى أمرهم الحكماء، وجعل المال عند السحماء، وإذا أراد الله بقوم شرا ولى أمرهم السفهاء، وجعل المال عند البخلاء". من أقوال الإمام ابن تيمية: "إن الله يقيم(1/27)
الدولة العادلة، وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة، وإن كانت مسلمة" . * * * إن الخلق فى منابع الإسلام الأولى ـ من كتاب وسنة ـ هو الدين كله، وهو الدنيا كلها، فإن نقصت أمة حظا من رفعة فى صلتها بالله، أو فى مكانتها بين الناس فبقدر نقصان فضائلها وانهزام خلقها . ص _031
الصدق
إن الله خلق السموات والأرض بالحق، وطلب إلى الناس أن يبنوا حياتهم على الحق، فلا يقولوا إلا حقا ولا يعملوا إلا حقا. وحيرة البشر وشقوتهم، ترجع إلى ذهولهم عن هذا الأصل الواضح، وإلى تسلط أكاذيب وأوهام على أنفسهم وأفكارهم، أبعدتهم عن الصراط المستقيم، وشردت بهم عن الحقائق التى لابد من التزامها. ومن هنا كان الاستمساك بالصدق فى كل شأن، وتحريه فى كل قضية، والمصير إليه فى كل حكم، دعاية ركينة فى خلق المسلم، وصبغة ثابتة فى سلوكه، وكذلك كان بناء المجتمع فى الإسلام قائما على محاربة الظنون، ونبذ الإشاعات واطراح الريب، فإن الحقائق الراسخة وحدها هى التى يجب أن تظهر وتغلب، وأن تُعتمد فى إقرار العلاقات المختلفة. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " . وقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" . وقد نعى القرآن على أقوام تجريهم وراء الظنون التى ملأت عقولهم بالخرافات، وأفسدت حاضرهم ومستقبلهم بالأكاذيب فقال: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى). وقال: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا). والإسلام ـ لاحترامه الشديد للحق ـ طارد الكاذبين، وشدد عليهم بالنكير. عن عائشة أم المؤمنين قالت: "ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الكذب، ما اطلع على أحد من ذلك فيخرج من قلبه حتى يعلم أنه قد أحدث توبة". وفى رواية عنها: "ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الكذب، ولقد كان الرجل(1/28)
يكذب عنده الكذبة، فما يزال فى نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث فيها توبة". ص _032
ولا غرو فلقد كان السلف الصالح يتلاقون على الفضائل ويتعارفون بها، فإذا أساء أحد السيرة وحاول أن ينفرد بمسلك خاطئ، بدا ـ بعمله هذا ـ كالأجرب بين الأصحاء، فلا طيب له مقام بينهم حتى يبرأ من علته. وكانت المعالم الأولى للجماعة المسلمة صدق الحديث، ودقة الأداء، وضبط الكلام. أما الكذب والإخلاف، والتدليس والافتراء، فهى أمارات النفاق، وانقطاع الصلة بالدين، أو هى اتصال بالدين على أسلوب المدلسين والمفترين! أى على أسلوب الكذابين فى مخالفة الواقع. * * * * والكذب رذيلة محضة تنبئ عن تغلغل الفساد فى نفس صاحبها، وعن سلوك ينشىء الشر إنشاء، ويندفع إلى الإثم من غير ضرورة مزعجة، أو طبيعية قاهرة. هناك رذائل يلتاث بها الإنسان، تشبه الأمراض التى تعرض للبدن، ولا يصح منها إلا بعد علاج طويل، كالخوف الذى يتلعثم به الهيابون، أو الحرص الذى تنقبض به الأيدى. إن بعض الناس إذا جُنِّد للجهاد المفروض، تقدم إليه وجلده مقشعر، وإن بعضهم إذا استخرجت منه الزكاة الواجبة، أخذ يعدها وأصابعه تُرْعش، وهذه الطباع التى تتأئر بالجبن أو بالبخل، غير الطباع التى تُقبل على الموت فى نزق، وتبعثر المال بغير حساب. وقد تكون هناك أعذار لمن يشعرون بوساوس الحرص أو الخوف، عندما يوقفون فى ميادين التضحية والفداء!! ولكنه لا عذر البتة لمن يتخذون الكذب خلقا ويعيشون به على خديعة الناس. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يُطبع المؤمن على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب " . وسئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أيكون المؤمن جبانا؟ قال: نعم! قيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: نعم! قيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لا.. " . ص _033(1/29)
وهذه الإجابات تشير إلى ما أسلفنا بيانه، من نوازع الضعف والنقص التى تخامر بعض الناس ثم يتغلبون عليها بعد لأى، عندما يواجهون بالفريضة المحكمة أو الضريبة الحاسمة، وهى لا تعنى أبدا تسويغ البخل، أو تهوين الجبن كيف؟ ومنع الزكاة وترك الجهاد بابان إلى الكفران؟؟. وكلما اتسع نطاق الضرر إثر كذبة يشيعها أفاك جرىء كان الوزر عند الله أعظم، فالصحافى الذى ينشر على الألوف خبرا باطلا، والسياسى الذى يعطى الناس صورا مقلوبة عن المسائل الكبرى، وذو الغرض الذى يتعمد سوق التهم إلى الكبراء من الرجال والنساء، أولئك يرتكبون جرائم أشق على أصحابها وأسوأ عاقبة. قال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "رأيت الليلة رجلين أتيانى، قالا لى: الذى رأيته يُشق شدقه فكذاب يكون الكذبة فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة" . ومن هذا القبيل كذب الحكام على الشعوب، فإن كذبة المنبر بلْقاء مشهورة. وفى الحديث: "ثلاثة لا يدخلون الجنة : الشيخ الزانى، والإمام الكذاب، والعائل المزهو" ـ الفقير المتكبر ـ . والكذب على دين الله من أقبح المنكرات، وأول ذلك نسبة شىء إلى الله أو إلى رسوله لم يقله. وهذا الضرب من الافتراء فاحش فى حقيقته، وخيم فى نتيجته. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن كذبا علىَّ ليس ككذب على أحد؟ فمن كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ويدخل فى نطاق هذا الافتراء، سائر ما ابتدعه الجُهال، وأقحموه على دين الله من مُحدثات لا أصل لها، عدها العوام دينا، وما هى بدين، ولكنها لهو ولعب! وقد نبه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته إلى مصادر هذه البدع المنكرة، وحذر من الانقياد إلى تيارها، ومسَّك المسلمين بآى كتابهم وسنة سلفهم قال: "يكن فى آخر أمتى أناس دجالون كذابون يُحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم! فإياكم وإياهم، لا يُضلونكم ولا يفتنونكم " . ص _034(1/30)
والإسلام يوصى أن تُغرس فضيلة الصدق فى نفوس الأطفال، حتى يشبوا عليها، وقد ألفوها فى أقوالهم وأحوالهم كلها. فعن عبد الله بن عامر قال: دعتنى أمى يوما ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاعد فى بيتنا، فقالت: تعال أعطك، فقال لها ـ صلى الله عليه وسلم ـ(ما أردت أن تُعطيه؟ " قالت : أردتُ أن أعطيه تمرا فقال لها: "أما إنك لو لك تُعطه شيئا كُتبت عليك كذبة" !!. وعن أبى هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـأنه قال : "من قال لصبى : تعال، هاك ثم لم يعطه فهى كذبة" . فانظر كيف يُعلَّم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـالأمهات والآباء أن يُنشئوا أولادهم تنشئة يقدسون فيها الصدق، ويتنرهون عن الكذب، ولو أنه تجاوز عن هذه الأمور وحسبها من التوافه الهينة لخشي أن يكبر الأطفال، وهم يعتبرون الكذب ذنبا صغيرا ـ وهو عند الله عظيم. وقد مشت الصرامة فى تحرى الحق، ورعاية الصدق، حتى تناولت الشئون المنزلية الصغيرة. عن أسماء بنت يزيد قالت : يا رسول الله، إن قالت إحدانا لشىء تشتهيه : لا أشتهيه. يُعد ذلك كذبا؟ قال: "إن الكذب يكتب كذبا حتى تكتب الكذيبة كذيبة" . وقد أحصى الشارع مزالق الكذب، وأوضح سوء عقباها، حتى لا يبقى لأحد منفذ إلى الشرود عن الحقيقة، أو الاستهانة بتقريرها. فالمرء قد يستسهل الكذب حين يمزح!! حاسبا أن مجال اللهو لا حظر فيه على إخبار أو اختلاق، ولكن الإسلام الذى أباح الترويح عن القلوب لم يرض وسيلة لذلك إلا فى حدود الصدق المحض ؛ فإن فى الحلال مندوحة عن الحرام، وفى الحق غناء عن الباطل. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ويل للذى يحدث بالحديث ليُضحك منه القوم فيكذب، ويل له، ويل له " . ص _035(1/31)
وقال: "أنا زعيم ببيت فى وسط الجنة، لمن ترك الكذب وإن كان مازحا". وقال: "لا يؤمن العبد الإيمان كله، حتى يترك الكذب فى المُزاح والمراء، وأن كان صادقا" والمشاهد أن الناس يطلقون العنان لأخيلتهم فى تلفيق الأضاحيك، ولا يُحسون حرجا فى إدارة أحاديث مفتراة على ألسنة خصومهم أو أصدقائهم ليتندروا بها أو يسخروا منهم وقد حرَّم الدين هذا المسلك تحريما تاماً، إذ الحق أن اللهو بالكذب، كثيرا ما ينتهى إلى أحزان وعداوات. * * * * وتمدُّ الناس مدرجة إلى كذب، والمسلم يجب أن يحاذر حينما يُثنى على غيره فلا يذكر إلا ما لا يعلم من خير، ولا يجنح إلى المبالغة فى تضخيم الحامد وطى المثالب. ومهما كان الممدوح جديرا بالثناء فإن المبالغة فى إطرائه ضرب من الكذب المحرم. وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمادحيه : "لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم! فإنما أنا عبد . فقولوا: عبد الله ورسوله " . وهناك فريق من الناس يتخذ المدائح الفارغة بضاعة يتملق بها الأكابر ويصوغ من الشعر القصائد المطولة، ومن النثر الخطب المرسلة، فيكيل الثناء جزافا ويهرف بما لا يعرف، وربما وصف بالعدالة الحكام الجائرين، ووصف بالشجاعة الأغبياء الخوارين، ابتغاء عرض من الدنيا عند هؤلاء وأولئك. هذا الصنف من الأذناب الكذبة، أوصى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمطاردتهم، حتى يرجعوا من تزويرهم، بوجوه عفرها الخزى والحرمان. عن أبى هريرة قال: "أمرنا رسول الله أن نحثوا فى وجوه المداحين التراب " . وقد ذكر شراح الحديث، أن المداحين المعنيين هنا "هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة، يستأكلون به الممدوح، فأما من مدح على الأمر الحسن والفعل المحمود ـ ترغيبا فى أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به ـ فليس بمداح ". ص _036(1/32)
والحدود التى يقف عندها المسلم، ويخرج بها من تبعة الملق والمبالغة، وينفع بها ممدوحه، فلا يُزله إلى العجب والكبرياء، قد بينها النبى الحكيم. فـ عن أبى بكرة قال: أثنى رجل على رجل عند رسول الله، فقال له: "ويحك قطعت عنق صاحبك ـ قالها ثلاثا ـ ثم قال: من كان مادحا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانا ـ والله حسيبه ولا يُزكى على الله أحدٌ ـ أحسب فلانا كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه " . * * * * والتاجر قد يكذب فى بيان سلعته وعرض ثمنها، والتجارات عندنا تقوم على الطمع البالغ: البائع يريد الغلو، والشارى يريد البخس، والأثرة هى التى تسود حركات التبادل فى الأسواق والمحال. وقد كره الإسلام هذه المعاملة الجشعة، وما يشوبها من لغو ومراء. قال رسول الله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدق البيعان وبينا بورك لهما فى بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحا ما، ويمحق بركة بيعها" وفى رواية: مُحقت بركة بيعهما.. اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكذب ". ومن المشترين رجال يُقبلون على الباعة وهم قليلو الخبرة، سريعو التصديق لما يقال لهم، فمن الإيمان ألا تُستغل سذاجتهم فى كسب مُضاعف أو تغطية عيْب. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "كبُرَت خيانة أن تحدِّث أخاك حديثا، هو لك مُصدِّق، وأنت له كاذب " . وقال: "لا يحل لامرئ مسلم، يبيع سلعة، يعلم أن بها داء إلا أخبر به " . وعن ابن أبى أوفى: أن رجلا أقام سلعة فى السوق فحلف بالله : لقد أعطى بها ما لم يُعط ـ ليوقع فيها رجلا من المسلمين ـ فنزلت : (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) ص _037(1/33)
والحيف فى الشهادة من أشنع الكذب. فالمسلم لا يبالى ـ إذا قام بشهادة ما ـ أن يقرر الحق ولو على أدنى الناس منه وأحبهم إليه، لا تميل به قرابة ولا عصبية، ولا تزيغه رغبة أو رهبة.. وتزكية المرشحين لمجالس الشورى، أو المناصب العامة، نوع من الشهادة ؛ فمن انتخب المغموط فى كفايته وأمانته، فقد كذب، وزور، ولم يقم بالقسط. والله تبارك وتعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا). وعن أبى بكرة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ـ ثلاثا ـ قلنا : بلى: قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس.. وكان متكئا فجلس!، وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت "!!. إن التزوير كذب كثيف الظلمات، إنه لا يكتم الحق فحسب، بل يمحقه ليثبت مكانه الباطل، وخطره على الأفراد فى القضايا الخاصة، وخطره على الأمم فى القضايا العامة شديد مبيد. ومن ثم خوف الرسول منه على هذا النحو الصارخ. وعلى أرباب الحرف والصناعات، أن يجعلوا من كلمتهم قانونا مَرعى الجانب، يقفون عنده ويستمسكون به، فإنه لمن المؤسف أن تكون الوعود المخلفة، والحدود المائعة عادة مأثورة عن كثير من المسلمين، مع أن دينهم جعل الوعود الكاذبة أمارة النفاق. ص _038(1/34)
وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقدس الكلمة التى يقول، ويحترم الكلمة التى يسمع، وكان ذلك شارة الرجولة الكاملة فيه، حتى قبل أن يرسل إلى الناس. عن عبد الله بن أبى الحمساء قال: "بايعت رسول الله ببيع قبل أن يُبعث فبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها فى مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة فجئتُ فإذا هو فى مكانه! فقال: يا فتى لقد شققت علىَّ! أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك " ـ كان يحضر فى الموعد المضروب بينهما ـ وحدث أن الرسول وعد جابر بن عبد الله بعطاء من مال البحرين، ثم عاجلته الوفاة قبل الوفاء فلما جاء مال البحرين إلى خليفته أبى بكر أطلق مناديا فى الناس يقول: "ألا من كان له على رسول الله عدة أو دَيْن فليأتنا" . انظر كيف توزن الكلمة ويوجب تنفيذها حتى لا تذهب هباء مع اللغو الضائع؟ على أن الوعود الكاذبة ليست فقط كلاما يذهب سدى، ولكنها خرق للمصالح، وإضرار بالناس، وإهدار للأوقات، وليس صدق الوعد خلة تافهة، إنها محمدة ذكرها الله عز وجل فى مناقب النبوة: (و اذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد و كان رسولا نبيا * و كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا). وسرد الصفات للفاضلة على هذا الترتيب، يدلك على ما لصدق الوعد من مكانة ولقد كان "إسماعيل " أصدق الناس وعدا حين قال لأبيه : (ستجدني إن شاء الله من الصابرين). لما قاله أبوه: (إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى). وقد يندفع الإنسان إلى الكذب حين يعتذر عن خطأ وقع منه، ويحاول التملص من عواقبه وهذا غباء وهوان ، وهو فرار من الشر إلى مثله أو أشد والواجب أن يعترف الإنسان بغلطه، فلعل صدقه فى ذكر الواقع وألمه لما بدر منه يمسحان هفوته ويغفران زلته. ص _039(1/35)
ومهما هجس فى النفس من مخاوف ـ إذا قيل الحق ـ فالأجدر بالمسلم أن يتشجع، وأن يتحرج من لوثاب الكذب قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "تحروا الصدق وإن رأيتم أن الهلكة فيه ، فإن فيه النجاة )، وقال: "إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلا من نَتنِ ما جاء به". والصدق فى الأقوال يتأدى بصاحبه إلى الصدق فى الأعمال والصلاح فى الأحوال، فإن حرص الإنسان على التزام الحق فيما ينبس به، يجعل ضياء الحق يسطع على قلبه وعلى فكره، ولذلك يقول الله عر وجل: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما). والعمل الصادق هو العمل الذى لا ريبة فيه لأنه وليد اليقين، ولا هوى معه لأنه قرين الإخلاص، ولا عوج عليه لأنه نبع من الحق. ونجاح الأمم فى أداء رسالتها، يعود إلى جملة ما يقدمه بنوها من أعمال صادقة. فإن كانت ثروتها من صدق العمل كبيرة، سبقت سبقا بعيدا، وإلا سقطت فى عرض الطريق، فإن التهريج والخبط، والادعاء والهزل، لا تغنى فتيلا عن أحد. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدى إلى البر، والبر يهدى إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقا.. وإياكم والكذب ! فإن الكذب يهدى إلي الفجور وإن الفجور يهدى إلى النار وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا". إن الفجور الذى هدى إليه إدمان الكذب هو المرحلة الأخيرة لضعة النفس، وضياع الإيمان. روى مالك عن ابن مسعود: " لا يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، فيُنكت فى قلبه نكتة سوداء، حتى يسود قلبه، فيُكتب عند الله من الكذابين". ص _040(1/36)
ويحيق به قول الحق فى كتابه: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون). وأما البر الذى هدى إليه الصدق، فهو قمة الخير التى لا يرقى إليها إلا أولو العزم من الرجال، وحسبك فيه هذه الآية الجامعة: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون). * * * ص _041(1/37)
الأمانة
الإسلام يرقب من معتنقه أن يكون ذا ضمير يقظ، تُصان به حقوق الله وحقوق الناس، وتحرس به الأعمال من دواعى التفريط والإهمال، ومن ثم أوجب على المسلم أن يكون أمينا والأمانة فى نظر الشارع واسعة الدلالة، وهى ترمز إلى معان شتى، مناطها جميعا شعور المرء بتبعته فى كل أمر يُوكل إليه، وإدراكه الجازم بأنه مسئول عنه أمام ربه، على النحو الذى فصله الحديث الكريم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة فى بيت زوجها راعية وهى مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته" . قال ابن عمر ـ راوى الحديث ـ سمعت هؤلاء من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأحسبه قال: "الرجل فى مال أبيه راع وهو مسئول عن رعيته". والعوام يقصرون الأمانة فى أضيق معانيها وآخرها ترتيبا، وهو حفظ الودائع، مع أن حقيقتها فى دين الله أضخم وأثقل. إنها الفريضة التى يتواصى المسلمون برعايتها ويستعينون بالله على حفظها ، حتى إنه عندما يكون أحدهما على أهبة سفر ، يقول له أخوه : " أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك" وعن أنس قال : " ما خطبنا رسول الله إلا قال : لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له" ولما كانت السعادة القصوى أن يوقى الإنسان شقاء العيش فى الدنيا وسوء المنقلب فى الأخرى ، فإن رسول الله جمع فى استعاذته بين الحالين معاً إذ قال : اللهم إنى أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة" فالجوع ضياع الدنيا والخيانة ضياع الدين وكان رسول الله فى حياته الأولى قبل البعثة يلقب بين قومه بالأمين. ص _042(1/38)
وكذلك شوهدت مخايل الأمانة على موسى حين سقى لابنتى الرجل الصالح ورفق بهما، واحترم أنوثتها، وكان معهما عفيفا شريفا: (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير * فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين * قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين). وقد حدث هذا قبل أن ينبأ موسى ويرسل إلى فرعون. ولا غرو فرسل الله يختارون من أشرف الناس طباعا، وأزكاهم معادن، والنفس التى تظل معتصمة بالفضيلة ـ على شدة الفقر ووحشة الغربة ـ هى لرجل قوى أمين! والمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد، تتطلب خلقا لا يتغير باختلاف الأيام بين نعمى وبؤس، وذلك جوهر الأمانة. * * * * من معانى الأمانة وضع كل شىء فى المكان الجدير به، واللائق له، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذى ترفعه كفايته إليها. واعتبار الولايات والأعمال العامة أمانات مسئولة ثابت من وجوه كثيرة : فعن أبى ذر قال: قلتُ يا رسول الله ألا تستعملنى؟ قال : فضرب بيده على منكبى، ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزى وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها" . إن الكفاية العلمية أو العملية ليست لازمة لصلاح النفس، قد يكون الرجل رضى السيرة حسن الإيمان، ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا فى وظيفة معينة. ألا ترى إلى يوسف الصديق؟ إنه لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب، بل بحفظه وعمله أيضا: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) وأبو ذر لما طلب الولاية لم يره الرسول جلدا لها فحذره منها. ص _043(1/39)
والأمانة تقضى بأن نصطفى للأعمال أحسن الناس قياما بها، فإذا ملنا عنه إلى غيره ـ لهوى أو رشوة أو قرابة ـ فقد ارتكبنا ـ بتنحية القادر وتولية العاجز ـ خيانة فادحة. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من استعمل رجلا على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" وعن يزيد بن أبى سفيان: قال لى أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد ، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله: " من ولى من أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم " والأمة التى لا أمانة فيها، هى الأمة التى تعبث فيها الشفاعات بالمصالح المقررة، وتطيش بأقدار الرجال الأكفاء، لتهملهم وتقدم من دونهم، وقد أرشدت السنة إلى أن هذا من مظاهر الفساد، الذى سوف يقع آخر الزمان. "جاء رجل يسأل رسول الله : متى تقوم الساعة؟ فقال له : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ! فقال: وكيف إضاعتها؟! قال : إذا وُسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة " . ومن معانى الأمانة أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملا فى العمل الذى يُناط به، وأن يستنفد جهده فى إبلاغه تمام الإحسان، أجل إنها لأمانة يمجدها الإسلام: أن يخلص الرجل لشغله وأن يعنى بإجادته، وأن يسهر على حقوق الناس التى وُضعت بين يديه، فإن استهانة الفرد بما كُلف به ـ وإن كان تافها ـ تستتبع شيوع التفريط فى حياة الجماعة كلها، ثم استشراء الفساد فى كيان الأمة وتداعيه برمته. وخيانة هذه الواجبات تتفاوت إثما ونكرا وأشدها شناعة، ما أصاب الدين، وجمهور المسلمين، وتعرضت البلاد لأذاه. قال رسول الله: "إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرفع لكل غادر لواء يُعرف به! فيُقال : هذه غدرة فلان" ص _044(1/40)
وفى رواية : "لكل غادر لواء عند أمته، يُرفع له بقدر غدرته ، ولا غادر أعظم من أمير عامة" أى ليس أعظم خيانة ولا أسوأ عاقبة من رجل تولى أمور الناس فنام عنها حتى أضاعها. ومن الأمانة ألا يستغل الرجل منصبه الذى عين فيه، لجر منفعة إلى شخصه وقرابته، فإن التشبع من المال العام جريمة. والمعروف أن الحكومات أو الشركات تمنح مستخدميها أجورا معينة، فمحاولة التزيد عليها بالطرق الملتوية هى اكتساب للسحت. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من استعملناه عل عمل فرزقناه رزقا ، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول" لأنه اختلاس من مال الجماعة الذى ينفق فى حقوق الضعفاء والفقراء، ويُرصد للمصالح الكبرى: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون). أما الذى يلتزم حدود الله فى وظيفته، ويأنف من خيانة الواجب الذى طوقه فهو عند الله من المجاهدين لنصرة دينه وإعلاء كلمته. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " العامل إذا استعمل فأخذ الحق ، وأعطى الحق لم يزل كالمجاهد فى سبيل الله حتى يرجع إلى بيته." وقد شدد الإسلام فى ضرورة التعفف عن استغلال النفوذ، وشدد فى رفض المكاسب المشوبة. عن عدى بن عميرة قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوق كان غلولا يأتى به يوم القيامة ، فقام إليه رجل أسود من الأنصار ـ كأنى أنظر إليه ـ فقال : يا رسول الله ، اقبل عنى ص _045(1/41)
عملك !! قال : ومالك؟ قال : سمعتك تقول كذا وكذا . قال : وأنا أقوله الآن : من استعملناه منكم على عمل فليجىء بقليله وكثيره، فما أوتى أخذ منه وما نهى عنه انتهى". وحدث أن استعمل النبى رجلا من الأزد يقال له: ابن اللتبية، على الصدقة، فلما قدم ـ بها ـ قال: هذا لكم، وهذا أهدى إلىَّ! قال راوى الحديث : فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد فإنى أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولانى الله، فيأتى فيقول : هذا لكم، وهذا هدية أهديت إلى، أفلا جلس فى بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟. والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقى الله يحمله يوم القيامة ! فلا أعرفن أحدا منكم لقى الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تبعر ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه يقول : "اللهم هل بلغت ". ومن معانى الأمانة أن تنظر إلى حواسك التى أنعم الله بها عليك، وإلى المواهب التى خصك به وإلى ما حُبيت من أموال وأولاد، فتدرك أنها ودائع الله الغالية عندك، فيجب أن تسخرها فى قرباته، وأن تستخدمها فى مرضاته. فإن امتحنت بنقص شىء منها فلا يستخفنك الجزع متوهما أن ملكك المحض قد سُلب منك، فالله أولى بك منك. وأولى بما أفاء عليك وله ما أخذ وله ما أعطى! وإن امتحنت ببقائها فما ينبغى أن تجبن بها عن جهاد، أو تفتتن بها عن طاعة، أو تستقوى بها على معصية. قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم و أنتم تعلمون * و اعلموا أنما أموالكم و أولادكم فتنة و أن الله عنده أجر عظيم). * * * ومن معانى الأمانى أن تحفظ حقوق المجالس التى تشارك فيها، فلا تدع لسانك يفشى أسرارها، ويسرد أخبارها. فكم من حبال تقطعت، ومصالح تعطلت، لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، وذكرهم ما يدور فيه من كلام، منسوبا إلى قائله. أو غير منسوب. ص _046(1/42)
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إذا حدث رجل رجلا بحديث ثم التفت، فهو أمانة " . وحرمات المجالس تُصان، مادام الذى يجرى فيها مضبوطا بقوانين الأدب وشرائع الدين، وإلا فليس لها حُرمة. وعلى كل مسلم شهد مجلسا يمكر فيه المجرمون يغيرهم ليلحقوا به الأذى أن يسارع إلى الحيلولة دون الفساد جهد طاقته. قال رسول الله : " المجلس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس : مجلس سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق" وللعلاقات الزوجية ـ فى نظر الإسلام ـ قداسة. فما يضمه البيت من شئون العشرة بين الرجل وامرأته، يجب أن يُطوى فى أستار مسبلة، فلا يطلع عليه أحد مهما قرب. والسفهاء من العامة يُثرثرون بما يقع بينهم وبين أهلهم من أمور، وهذا وقاحة حرمها الله. فعن أسماء بنت يزيد. أنها كانت عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والرجال والنساء قعود عنده، فقال : "لعل رجلا يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تُخبرها بما فعلت مع زوجها؟ فأزَمَّ القوم ـ سكتوا وجلين ـ فقلت : أى والله يا رسول الله. إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن!! قال: فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك شيطان لقى شيطانة فغشيها والناس ينظرون " . وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضا: "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يُفضى إلى امرأته وتفضى إليه، ثم ينشر سرها" . * * * * والودائع التى تدفع إلينا لنحفظها حينا، ثم نردها إلى ذويها حين يطلبونها هى من الأمانات التى نُسأل عنها؟. وقد استخلف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند هجرته ابن عمه على بن أبى طالب رضى الله عنه ليسلم المشركين الودائع التى استحفظها، مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التى استفزته من الأرض، واضطرته إلى ترك وطنه فى سبيل عقيدته، لكن الشريف لا يتضع مع الصغار. ص _047(1/43)
قال ميمون بن مهران: " ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة، والعهد، وصلة الرحم ". واعتبار الوديعة غنيمة باردة، هو ضرب من السرقة الفاجرة. عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : "القتل فى سبيل الله يُكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يُؤتي بالعبد يوم القيامةـ وإن قُتل فى سبيل الله ـ فيُقال : أدِّ أمانتك! فيقول : أى رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيُقال : انطلقوا به إلى الهاوية، وتُمثل له أمانته كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوى فى أثرها حتى يُدركها فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظنه أنه خارج زلت عن منكبيه، فهو يهوى فى أثرها أبد الأبدين، ثم قال : الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عددها، وأشد ذلك الودائع ". قال راوى الحديث: فأتيتُ البراء بن عازب، فقلتُ : ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود ؟ قال: كذا! قال ـ البراء ـ صدق، أما سمعت الله يقول: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). * * * والأمانة التى تدعو إلى رعاية الحقوق، وتعصم عن الدنايا، لا تكون بهذه المثابة إلا إذا استقرت فى وجدان المرء، ورست فى أعماقه، وهيمنت على الدانى والقاص من مشاعره؟. وذلك معنى حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله: " إن الأمانة نزلت فى جذر قُلُوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة". والعلم بالشريعة لا يغنى عن العمل بها، والأمانة ضمير حى إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن والسنة. فإذا مات الضمير انتزعت الأمانة، فما يغنى عن المرء ترديد للآيات، ولا دراسة للسنن، وأدعياء الإسلام يزعمون للناس ـ وقد يزعمون لأنفسهم ـ أنهم أمناء. ولكن هيهات أن تستقر الأمانة فى قلب تنكر للحق . ص _048(1/44)
ومن ثم يستطرد حذيفة فى وصفه، لتسرب الأمانة من القلوب التى تخلخل فيها اليقين، فيروى عن الرسول: " ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال : ينامُ الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ـ هو الأثر المغاير كالنقطة على الصحيفة ـ ثم ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل ـ كالثبور التى تظهر فى اليد مثلا في استخدام الأدوات الخشنة ـ ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدى الأمانة ؛ حتى يُقال : إن فى بنى فلان رجلا أمينا، وحتى يُقال للرجل : ما أجلده. ما أظرفه. ما أعقله. وما فى قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ". والحديث يصور انتزاع الأمانة من القلوب الخائنة تصويرا محرجا فهى كذكريات الخير فى النفوس الشريرة، تمر بها وليست منها، وقد تترك من مرها أثرا لاذعا. بيد أنها لا تحيى ضميرا مات، وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته، غير مكترث بكفر أو إيمان!؟ إن الأمانة فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فأبان أنها تثقل كاهل الوجود فلا ينبغى للإنسان أن يستهين بها، أو يفرط فى حقها. قال الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا). والظلم والجهل آفتان عرضتا للفطرة الأولى، وعُنى الإنسان بجهادهما، فلن يخلص له إيمان، إلا إذا أنقاه من الظلم: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن …). ولن تخلص له تقوى إلا إذا نَقاها من الجهالة: (إنما يخشى الله من عباده العلماء). ولذلك ـ بعد أن تقرأ الآية التى حملت الإنسان الأمانة ـ تجد أن الذين غلبهم الظلم والجهل، خانوا ونافقوا وأشركوا، فحق عليهم العقاب، ولم تكتب السلامة إلا لأهل الإيمان والأمانة : (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما). * * * ص _049(1/45)
الوفاء
إذا أبرم المسلم عقدا فيجب أن يحترمه، وإذا أعطى عهدا فيجب أن يلتزمه. ومن الإيمان أن يكون المرأ عند كلمته التى قالها، ينتهى إليها كما ينتهى الماء عن شئطآنه ؛ فيعرف بين الناس بأن كلمته موثق غليظ، لا خوف من نقضها ولا مطمع فى اصطيادها. العهد لابد من الوفاء به، كما أن اليمين لابد من البر بها، ومناط الوفاء والبر أن يتعلق الأمر بالحق والخير وإلا فلا عهد فى عصيان ولا يمين فى مأثم. وقد قال رسول الله: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليُكفِّر عن يمينه وليفعل الذى هو خير" ولا يسوغ لامرئ الإصرار على الوفاء بيمين، الحنث فيها أفضل. وفى الحديث: "لأن يلج أحدكم بيمينه فى أهله آثم له عند الله تعالى من أن يُعطى كفارته التى افترض الله عليه " . ومن ثم فلا تعهد إلا بمعروف، فإذا وثق الإنسان عهدا بمعروف فليصرف همته فى إمضائه، ما دامت فيه عين تطرف، وليعلم أن منطق الرجولة وهدى اليقين، لا يتركان له مجالا للتردد والانثناء. روى أنس بن مالك قال : "غاب عمّى أنس بن النضر عن قتال" بدر" فقال : يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلت المشركين لئن أشهدني الله مع النبى قتال المشركين ليرين ما أصنع فلما كان يوم "أحد" انكشف المسلمون ، فقال: اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعنى أصحابه ـ وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعنى المشركين ـ ثم تقدَّم.. فاستقبله سعد بن معاذ. فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إنى لأجد ريحها من دون أحد! قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، ثم تقدم.. ص _050(1/46)
قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح ورمية بسهم، ووجدناه وقد مثل به المشركون، فما عرفه إلا أخته، بشامة فيه، أو ببنانه.. قال أنس: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفى أشباهه: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا). * * * والوفاء بالعهد يحتاج إلى عنصرين، إذا اكتملا فى النفس سهل عليها أن تنجز ما التزمت به، فإن الله أخذ على آدم أبى البشر، عهدا مؤكدا ألا يقرب الشجرة المحرمة، لكن آدم ما لبث أن نسى وضعف، ثم نكث فى عهده: (و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما). فضعف الذاكرة، وضعف العزيمة، عائقان كثيفان عن الوفاء الواجب. والإنسان ـ لتجدد الحوادث أمامه، وترادف الهموم المختلفة عليه ـ يفعل الزمان فعله العجيب فى نفسه، فتخبو المعالم الواضحة، ويمسى ما كان بارزا فى نفسه لا يكاد يبين. ولهذا افتقر إلى مذكر دائم يغالب أمواج النسيان، ويمسك أمام عينيه ما يوشك أن يذهل عنه، وما أكثر آى القرآن التى تواردت لتصون هذا الذكر: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون). (وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون). (ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون). (كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون). ص _051(1/47)
والذكر المطرد اليقظ، ضرورة لازمة للوفاء، فمن أين لناسى العهد أن يفى به؟ لذلك ختمت آية العهد بعنصر التذكير: (وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون). فإذا ذكر المرء الموثق المأخوذ عليه، يجب أن ينضم إلى هذا الذكر عزم مشدد على إنفاذه. عزم يذلل الأهواء الجامحة، ويهون الصعاب العارضة، عزم يمضى فى سبيل الوفاء مهما تجشم من مشاق، وغرم من تضحيات. وأقدار الرجال تتفاوت تفاوتا شاسعا فى هذا المضمار، فإن ثمن الوفاء قد يكون فادحا، قد يكلف المال أو الحياة أو الأحبة. بيد أن هذه هى تكاليف المجد المنشود فى الدنيا أو الآخرة. لولا المشقة ساد الناس كلهم الجودُ يُفقر والإقدام قتَّال ولقد استنكر القرآن الكريم على بعض الأفهام أن تطلب العُلا بالراحة، وأن ترقب الخير الكثير بالجهاد اليسير. (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب). وعندما يستجمع الإنسان الذهن الواعى، والقلب الكبير، فهو أهل الوفاء. * * * والعهود التى يرتبط المسلم بها درجات، فأعلاها مكانة، وأقدسها ذماما، العهد الأعظم، الذى بين العبد ورب العالمين. فإن الله خلق الإنسان بقدرته، ورباه بنعمته، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة، وأن يعترف بها، وألا تشرد به المُغوياتُ، فيجهلها أو يجحدها. (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) . ص _052(1/48)
وإذا كان هناك من البشر من لم يستمع إلى المرسلين ويستهد بما جاءوا به، فإن له من فطرته سائقا يحدوه إلى ربه، ويبصره بخالقه، مهما حفلت البيئة بصنوف الفساد، وضروب التخريف.. وهذا معنى الميثاق الذى أخذه الله على الناس كافة. (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون * وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون). وليس هناك حوار كما يوهم ظاهر العبارات، وإنما هذا تصوير لاتجاه الفطرة السليمة إلى الله، وتعرفها عليه، وانتفاعها بالدلائل المبثوثة فى الكون لتوحيده وتمجيده، وانفلاتها من التقاليد السفيهة التى تباعد عنها، أو تشرك به. وهذا الأسلوب شائع عن ألسنة العرب. ومنه المثل السائر: "قال الجدار للوتد: لِمَ تشقنى ! قال: سل من يدقنى!! فإن الذى ورائى ما خلانى ورأيى" !! ووفاء الإنسان بهذا العهد أساس كرامته فى الدنيا، وسعادته فى الأخرى. ومن سوء الظن بالله أن توفى له ثم تتوقع الشر منه. (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون). وقد كان رسول الله - وهو يدعو الناس إلى الإسلام - يبايع الوفود المقبلة عليه بتعاليم - يتخيرها من بين التعاليم الكثيرة التى حفل بها الدين - على حسب ما يرى من طاقتهم النفسية والعقلية. عن عوف بن مالك قال: "كنا عند النبى - تسعة أو ثمانية أو سبعة - فقال : ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا وقلنا: نبايعك يا رسول الله! قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وتصلوا الصلوات الخمس ، وتسمعوا وتطيعوا، وأسر كلمة خفية قال: ولا تسألوا الناس شيئا . ص _053(1/49)
قال عوف بن مالك: "فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا أن يناوله إياه " فانظر إلى الوفاء بالبيعة ودقة تنفيذها، وليس هذا إلا نصحا لكل طائفة بما تعتبر أحوج إليه، فالحاكم ينصح ألا يظلم، والتاجر ألا يغش، والموظف ألا يرتشى.. إلخ، وإلا فكل مسلم مكلف بالدين كله.. وقد ظهرت فى بلاد الإسلام فرق تعطى عهودا خاصة، لا ينبغى الاكتراث بها، فهم كأدعياء الطب الذين يصفون الأدوية المزورة فلا تزيد المرضى إلا سقاما. وتعاليم الإسلام كل لا يتجزأ، والعمل بها واجب محكم، فى كل زمان ومكان. * * * * وقد بايع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأنصار: على أن يجندوا أنفسهم وأموالهم لحماية دعوته، وحراسة رسالته، حتى يستطيع إبلاغها للعرب ومن وراءهم. والعهد الذى قطعه الأنصار على أنفسهم يًعد ألمع المواثيق فى تاريخ العقائد وأدلها على التجرد لله، والفناء فى الحق. وقد تم فى ليلة رائعة من موسم الحج، وعاد الناس بعدها يعالجون شئونهم المختلفة، غير أن تبعات هذا العهد لزمت أصحابه، فقبلوها عن سماحة وطواعية. وقدموا دماءهم سهلة فى معركة "بدر" وما أعقبها من قتال بين الإسلام والوثنية، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ فى الأزمات العضوض ـ يعتمد على هذا الموثق لنصرة الدين وإعلاء كلمة الله، فلما انكشف المسلمون فى الجولة الأولى من معركة "حنين " أهمل رسول الله الجموع الكثيرة التى دخلت ـ بعدُ ـ فى الإسلام، وصاح بالأوفياء الذين بايعوه فى العقبة ليلة الموسم ينقذوا الموقف. عن أنس قال: "لما كان يوم "حنين " أقبلت "هوازن "، و"غطفان " وغيرهم بذراريهم ونعمهم ومع رسول الله يومئذ عشرة آلاف، ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقى وحده..! ص _054(1/50)
فنادى يومئذ نداءين، لم يخلط بينهما شيئا، التفت عن يمينه فقال : يا معشر الأنصار، فقالوا: لبيك يا رسول الله، نحن معك أبشر، ثم التفت عن يساره فقال : يا معشر الأنصار، فقالوا لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك... وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال : أنا عبد الله ورسوله فانهزم المشركون وأصاب غنائم كثيرة، فقسمها بين المهاجرين والطلقاء، ولم يُعط الأنصار منها شيئا.. فقالوا: إذا كانت الشدة فنحن نُدعى ويعطى الغنائم غيرنا؟؟ فبلغه ذلك فجمعهم، وقال: يا معشر الأنصار، ما شىء بلغنى عنكم؟ فسكتوا، فقال: يا مشعر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحوزونه إلى بيوتكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله رضينا، فقال رسول الله: لو سلك الناس واديا، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار والحق أن الرسالات الكبرى أحوج ما تكون إلى رجال على غرار الأنصار، يفتدون كلمتهم بأرواحهم وما يملكون، لا يشغلهم مأرب تافه، ولا تتبع نفسهم عرضا زائلا. ومسلك الرسول ـ معهم فى توزيع الغنائم ـ قام على تقدير إيمانهم وإخلاصهم، فقد تألف الأعراب بالمال الذى يشتهون، حتى لا يضجروا من تكاليف الدين الذى اعتنقوه، ووكل الأنصار إلى ما يعرف فيهم من يقين راسخ. وقد قال فى مثل هذه الحالات : "إنى لأعطى الرجل وغيره أحب إلى مخافة أن يكبه الله فى النار". * * * * ومن الوفاء المحمود أن يذكر الرجل ماضيه الذاهب لينتفع به فى حاضره ومستقبله، فإن كان معسرا فأغناه الله، أو مريضا فشفاه الله، فليس يسوغ له أن يفصل بين أمسه ويومه بسور غليظ، ثم يزعم أنه ما كان قط فقيرا ولا مريضا، ويبنى على غروره بحاضره مسلكا، كله فظاظة وجحود. هذا نوع من الغدر ينتهى بصاحبة إلى النفاق، ربما انطرد به من رحمه الله فلم تتسع بعدئذ له. ص _055(1/51)
رووا أن رجلا من أهل المدينة يدعى ثعلبة أتى مجلسا من مجالس الأنصار فأشهدهم: "لئن آتانى الله من فضله آتيت منه كل ذى حق حقه، وتصدقت منه ووصلت القرابة، فمات ابن عم له، فورث منه مالا. فلم يف بشىء مما عاهد عليه، فنزل قول الله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون * ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب). ومن القصص الدالة على شؤم الغدر وعقوق النعمة، ما رواه أبو هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن ثلاثة من بنى إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أى شىء أحب إليك؟ قال : لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عنى الذى قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه قذره وأعطى لونا وجلدا حسنا! فقال: أى المال أحب إليك؟ قال: الإبل! فأعطاه ناقة عشراء وقال : بارك الله لك فيها. ثم أتى الأقرع فقال: أى شىء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عنى هذا الذى قذرني الناس! فمسحه فذهب عنه، وأعطى شعرا حسنا، قال: فأى المال أحب إليك! قال: البقر، فأعطى بقرة حاملا وقال : بارك الله لك فيها. ثم أتى الأعمى فقال : أى شىء أحب إليك؟ قال : أن يرد الله على بصرى فمسحه، فرد الله عليه بصره، قال : فأى المال أحب إليك؟ قال : الغنم، فأعطى شاة والدًا. فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. ثم إنه أتى أى الملك الأبرص فى صورته وهيئته، فقال رجل مسكين قد انقطعت بى الحبال فى سفرى، فلا بلاغ لى اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذى أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن بعيرا أتبلغ به سفرى، فقال : الحقوق كثيرة فقال : كأنى أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله ؟؟ قال : ص _056(1/52)
إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر؟؟ قال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع فى صورته، فقال له مثل ذلك، ورد عليه مثل ما رد الأول فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. ثم أتى الأعمى فى صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال، فقال: قد كنت أعمى فرد الله على بصرى. فخذ ما شئت ودع ما شئت فو الله لا أجهدك اليوم لشىء أخذته لله!! فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضى عنك؟ وسخط على صاحبيك والإسلام يوصى باحترام العقود، التى تسجل فيها الالتزامات وغيرها، ويأمر بإنفاذ الشروط التى تتضمنها. وفى الحديث: "المسلمون عند شروطهم " . ولا شك أن انتشار الثقة فى ميدان التجارة وفى شتى المعاملات الاقتصادية أساسه افتراض الوفاء فى أى تعهد. ويجب أن تكون الشروط المكتوبة، متفقة مع حدود الشريعة، وإلا فلا حرمة لها، ولا يكلف المسلم بوفائها. وقد منح الإسلام عقد الزواج مزيدا من الرعاية فقال رسول الله: " إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج ". ومن ثم فليس يجوز لرجل بنى بامرأة، أن يغتال درهما من حقها، أو يستخف بالرباط الذى جمعه بها. وفى الحديث: "أيما رجل تزوج امرأة ـ على ما قل من المهر أو كثر ـ ليس فى نفسه أن يؤدى إليها حقها، خدعها، فمات ولم يؤد إليها حقها لقى الله يوم القيامة وهو زان! وأيما رجل استدان دينا، لا يريد أن يؤدى إلى صاحبه حقه. خدعه حتى أخذ ماله ، فمات ولم يؤد إليه دينه ، لقى الله وهو سارق ص _057(1/53)
ولا غرو، فقد تتابعت آيات القرآن، تحض على الوفاء وتخوف من الغدر: (و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) وقال تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون). وقد بين الله عز وجل أن الغدر ينزع الثقة، ويثير الفوضى، ويمزق الأواصر، ويرد الأقوياء ضعافا واهنين، فقال : (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون). إن الرجل قد يحل عقدا أبرمه، ينتظر ربحا أوفر من عقد آخر، وإن الأمة قد تطرح معاهدة بينها وبين أمة أخرى، جريا وراء مصلحة أحظى لديها.. والدين يكره أن تداس الفضائل فى سوق المنفعة العاجلة، ويكره أن تنطوى دخائل الناس على هذه النيات المغشوشة، ويوجب الشرف على الفرد والجماعة حتى تصان العقود على الفقر والغنى، وعلى النصر والهزيمة. ولذلك يقول الله ـ بعد الأمر الجازم باحترام العهود: (ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم * ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون). * * * والوفاء بالحق واجب مع المؤمن بالإسلام ومع الكافر به. فإن الفضيلة لا تتجزأ، فيكون المرء خسيسا مع قوم، كريما مع آخرين. والمدار على موضوع العهد، فما دام خيرا فإقراره حتم مع كل فرد، وفى كل حين. ص _058(1/54)
وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى حلف الفضول ـ : " لو دُعيتُ به فى الإسلام لأجبتُ ". وعن عمرو بن الحمق قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "أيما رجل أمن رجلا على دمه، ثم قتله، فأنا من القاتل برىء، وإن كان المقتول كافر" . وهذا البيان الحاسم، يكشف عن روح الإسلام فى معاملة من لم يدينوا به فبينما ترى اليهود ينكرون على غيرهم حق الوفاء، ويضنون عليهم بنبل المعاملة، ويحسبون أنهم وحدهم "أبناء الله وأحباؤه " وأن الله جعل رحمته وأمانة لشعب إسرائيل فقط، ترى الإسلام يدفع ـ بحمية بالغة ـ عمن منحهم ذمته وأدخلهم فى عقده، ويتحدث عن الكافرين إلى المسلمين حديثا له مغزاه: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). فانظر كيف صورت الآية وجهة نظر الكفار، وتمشت مع مزاعمهم وهم وثنيون، فاعتبرتهم طلاب فضل من الله ورضوان، وطلبت من المسلمين ـ مهما قووا ـ أن يتعاونوا على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان؟. وقد تكلمنا فى موضوع آخر عن المعاهدات بين المسلمين وغيرهم، وعن التعاليم التى أنزل الله بشأنها، فليرجع إليه من شاء. * * * * ومن الشئون التى اهتم الإسلام بها، ونوه بقيمة الوفاء فيها، الديون فإن سدادها من آكد الحقوق عند الله، وقد قطع الدين قطعا عنيفا وساوس الطمع التى تنتاب المدين وتغريه بالمطال، أو إرجاء القضاء . ص _059(1/55)
وأول ما شرعه الإسلام فى هذا أن حرم الاستدانة إلا للحاجة القاهرة فمن الورطات المخوفة، أن يقترض المرء فى أمور، يمكن الاستغناء عنها. بل لقد روى أن ذلك من الآثام التى يحلقها القصاص: "إن الدَّيْن يُقتص من صاحبه يوم القيامة إذا مات، إلا من تدين فى ثلاث خلال: الرجل تضعف قوته فى سبيل الله، فيستدين يتقوى به على عدو الله وعدوه، ورجل يموت عنده مسلم، فلا يجد ما يُكفنه ويواريه إلا بدَّيْن! ورجل خاف على نفسه العزوبة، فينكح خشية على دينه ! فإن الله يقضى عن هؤلاء يوم القيامة". وفى رواية: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يدعو الله بصاحب الدَّيْن يوم القيامة، حتى يوقف بين يديه ، فيقال : يا ابين آدم، فيم أخذت هذ الدَّيْن؟ وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول: يارب إنك تعلم أنى أخذته فلم آكل، ولم أشرب، ولم ألبس، ولم أضيع، ولكن أتى على إما حرق، وإما سرق، وإما وضيعة ! فيقول الله : صدق عبدى، أنا أحق من قضى عنك، فيدعو الله بشىء فيضعه فى كفة ميزانه، فيرجح حسناته على سيئاته، فيدخل الجنة بفضل رحمته " . ويظهر من هذا أن الله يعذر من يضطر إلى الدَّيْن لأزمات شداد، ومن يعجز عن القضاء لمصائب جائحة. أما الذى تمر بنفسه شهوة طارئة، ويضعف عن إجابتها من ماله، فيسارع إلى الاقتراض من غيره، غير ناظر إلى عقباه، ولا مهتم بطريقة الخلوص من دَّيْنه فهو ـ كما وصفته الآثارـ سارق جرئ. وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله ". والإسلام يريد أن يوفر للديون ضمانات شتى، حتى تعتبر أموالا حية، وحتى يرى الوفاء بها ضربة لازب، وحتى لا يحاول أحد الفرار من أداء الحق المكتوب، ولو بأداء عبادات أخرى رفيعة الأجر . ص _060(1/56)
عن أبى قتادة رضى الله عنه : "قال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت فى سبيل الله، أتكفر عنى خطاياى؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: نعم، إن قُتلت وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر! ثم قال : كيف قلت؟ فأعاد. قال: نعم إلا الديْن، فإن جبريل أخبرني بذلك). وفى رواية أخرى: " يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين " . ولما علمه العقلاء من خطر الدين على آخرة المسلم ومنزلته كانوا ينصحونه بالتخلص منه، قبل أن يُقدم على أى مخاطرة، قد تودى بحياته. فعن أبى الدرداء : "أنه كان يقف حين ينتهى إلى الدرب فى ممر الناس إلى الجهاد، فينادى نداء يُسمع الناس: يا أيها الناس، من كان عليه ديْن يظن أنه إن أصيب فى وجهه هذا لم يدع له وفاء فليرجع، ولا يتبعنى فإنه لا يعود كفافا". وقد استهان المسلمون بالديون فافترضوها لشهوات الغى فى البطون والفروج، واقترضوها من اليهود والنصارى بالربا الذى حرمه الله تحريما باتا، فكان من آثار ذلك أن نكبوا نكبات جائحة فى ديارهم وأموالهم. ولا يزال الوفاء بالقروض مستعصيا.. ولولا سياط القانون لضاعت حقوق كثيرة.. إن الله عز وجل يحب الأوفياء من عباده، وما أهلك القرى الظالمة إلا بعد أن قال فى أهلها: (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين). * * * * ص _061(1/57)
الإخلاص
إن البواعث التى تسوق المرء إلى العمل، وتدفعه إلى إجادته، وتُغريه بتحمل التعب فيه، أو بذل الكثير من أجله، كثيرة متباينة. منها القريب الذى يكاد يُرى مع العمل، ومنها الغامض الذى يختفى فى أعماق النفس. وربما لا يدركه العالم المتأثر به، مع أنه سر اندفاعه فى الحقيقة إلى فعل ما فعل، أو ترك ما ترك. والغرائز البشرية المعروفة هى قواعد السلوك العام، ومن اليسير أن ترى فى حركات رجل أمامك حبه لنفسه، أو طلبه للسلامة، أو حرصه على المال، أو ميله للفخر، أو تطلعه للظهور. وما أكثر ما تكون مشاعر الإعجاب أو الكراهية أو المحاكاة أو الكبرياء مصدر ما يدور بين الناس من حديث، وما يقع من بينهم تصرفات.. والإسلام يرقب، بعناية فائقة، ما يقارن أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من عواطف وانفعالات. وقيمة العمل عنده ترجع ـ قبل كل شىء ـ إلى طبيعة البواعث التى تمخضت عنه، قد يعطى الإنسان هبة جزيلة، لأنه يريد بصنائع المعروف أن يستميل إليه القلوب، وقد يعطيها لأنه يريد أن يجزى خيرا من سبقوا فأسدوا إليه خيرا. وكلا المسلكين كرم دفع إليه شعور المرء بنفسه: سلبا أو إيجابا كما يعبر علماء النفس ولكن الإسلام لا يعتد بالصدقة إلا إذا خلصت من شوائب النفس، وتمخضت لله وحده على ما وصف القرآن الكريم: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا). (الذي يؤتي ماله يتزكى * و ما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * و لسوف يرضى * ) . ص _062(1/58)
ولتصحيح اتجاهات القلب، وضمان تجرده من الأهواء الصغيرة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتة إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاتجر إليه " إن ألوف المسافرين يقطعون المسافة بين مكة والمدينة، لأغراض شتى ولكن نية الانتصار للدين والحياة به، هى التى تفرق بين المهاجر والمسافر! وإن كانت صورة العملين واحدة! فمن ترك مكة إلى المدينة، فرارا بدينه من الفتن، وإقامة لصرح الدولة الجديدة فى بلدها الجديد، فهو المهاجر، وأما من رحل لشئون أخرى فليس من الهجرة فى شىء. إن صلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين، يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوى البحت، فيجعلانه عبادة متقبلة. وإن خبث الطوية، يهبط بالطاعات المحضة، فيقلبها معاصى شائنة فلا ينال المرء منها، بعد التعب فى أدائها؛ إلا الفشل والخسار. قد يبنى الإنسان قصرا منيف الشرفات، فسيح الردهات، وقد يغرس حديقة ملتفة الأغصان متهدلة الأثمار، وهو بين قصره المشيد، وبستانه النضيد، يعد من ملوك الدنيا. بيد أنه إذا قصد من وراء بنيانه وغراسه نفع الناس، كان له فيهما ثواب غير مقطوع. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من بنى بنيانا فى غير ظلم ولا اعتداء أو غرس غرسا فى غير ظلم ولا اعتداء، كان له أجرا جاريا، ما انتفع به أحد من خلق الرحمن تبارك وتعالى". وقال: "ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة". بل إن اللذاذات التى تتشهاها النفس، إذا صاحبتها النية الصالحة والهدف النبيل، تحولت إلى قربات. فالرجل يواقع امرأته، يريد أن يحفظ عفافه ويصون دينه، له فى ذلك أجر "وفى بضع أحدكم صدقة" . ص _063(1/59)
وما يطعمه فى بدنه، أو يطعمه أولاده وزوجته، له مثوبة بنية الخير التى تقارنه. عن سعد بن أبى وقاص أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: "إنك لن تنفق نفقة، تبتغى بها وجه الله ، إلا أجرت عليها، حتى ما تجعله فى فم امرأتك ". وقال: "ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة" . والحق أن المرء ما دام قد أسلم لله وأخلص نيته، فإن حركاته وسكناته ونوماته ويقظاته، تحتسب خطوات إلى مرضاة الله، وقد يعجز عن عمل الخير الذى يصبو إليه، لقلة ماله أو ضعف صحته، ولكن الله المطلع على خبايا النفوس يرفع الحريص على الإصلاح إلى مراتب المصلحين، والراغب فى الجهاد إلى مراتب المجاهدين لأن بُعد همتهم أرجح لديه من عجز وسائلهم؟ حدث فى غزوة العسرة، أن تقدم إلى رسول الله رجال يريدون أن يقاتلوا الكفار معه، وأن يجودوا بأنفسهم فى سبيل الله، غير أن الرسول لم يستطع تجنيدهم، فعادوا وفى حلوقهم غصة ؛ لتخلفهم عن الميدان وفيهم نزل قوله عز وجل (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون). أترى أن الله يهدر هذا اليقين الراسخ، وهذه الرغبة العميقة فى التضحية؟ كلا؟ ولذلك نوه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإيمان أولئك القوم وإخلاصهم. فقال للجيش السائر: "إن أقواما خلفنا بالمدينة، ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا، حبسهم العذر"؟ . إن النية الصادقة سجلت لهم ثواب المجاهدين، لأنهم قعدوا راغمين. ولئن كانت النية الصالحة تضفى على صاحبها هذا القبول الواسع، إن النية المدخولة تنضم إلى العمل الصالح ـ فى صورته ـ فيستحيل بها إلى معصية تستجلب الويل (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراؤون * و يمنعون الماعون). ص _064(1/60)
إن الصلاة مع الرياء، أمست جريمة، وبعد ما فقدت روح الإخلاص باتت صورة ميتة لا خير فيها، كذلك الزكاة، إنها إن صدرت عن قلب يسخو لله ويدخر عنده قبلت، وإلا فهى عمل باطل: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا). إن القلب المقفر من الإخلاص، لا ينبت قولا، كالحجر المكسو بالتراب لا يخرج زرعا؟ والقشور الخادعة، لا تغنى عن اللباب الردىء شيئا؟ ألا ما أنفس الإخلاص، وأغزر بركته، إنه يخالط القليل فينميه حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير فلا يزن عند الله هباءة. ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أخلص دينك يكفك العمل القليل" ويظهر أن تفاوت الأجور التى رُصدت للحسنات، من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة يعود إلى سر الإخلاص الكامن فى أطواء الصدور وهو ما لا يطلع عليه إلا عالم الغيب والشهادة. فعلى قدر نقاء السريرة، وسعة النفع تكتب الأضعاف. وليس ظاهر الإنسان، ولا ظاهر الحياة الدنيا، هو الذى يمنحه الله رضوانه، فإن الله تبارك وتعالى يقبل على عباده المخبتين المخلصين، ويقبل منهم ما يتقربون به إليه، أما ما عدا ذلك من زخارف الدنيا وتكلفات البشر فلا قيمة له ولا اكتراث به. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم " . وفى الحديث: "إذا كان يوم القيامة جىء بالدنيا، فيميز منها ما كان لله وما كان لغير الله، رمى به فى نار جهنم " . ص _065(1/61)
فمن ربط حياته بهذه الحقائق ، فقد استراح فى معاشه ، وتأهب لمعاده ، فلا يضيره ما فقده ، ولا يحزنه ما قدم . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "مَن فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده لا شريك له ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، فارقها والله عنه راض " . وهذا مصداق قوله تعالى : (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة و ذلك دين القيمة) . * * * والإخلاص يسطع شعاعه فى النفس ، أشد ما يكون تألقا فى الشدائد الحرجة ، إن الإنسان عندها ينسلخ من أهوائه ، ويتبرأ من أخطائه ويقف فى ساحة الله أوابا ، يرجو رحمته ويخاف عذابه . وقد صور القرآن الكريم ، فزع الإنسان عند الحيرة ، وانقطاعه إلى ربه يستنجد به ، ليخرجه من مأزقه وقع فيه : (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ، قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) . إن هذا الإخلاص حال طارئة ، والأحوال التى تنتاب المرء وتفارقه ليست خلقا، والله تبارك وتعالى يريد من الناس أن يعرفوه حق المعرفة، وأن يقدروه حق قدره، فى السراء والضراء جميعا، وأن يجعلوا الإخلاص له مكينا فى سيرتهم فلا تهى صلتهم به، ولا يقصدون بعملهم غيره. وحرارة الإخلاص تنطفئ رويداً رويدا ، كلما هاجت فى النفس نوازع الأثرة وحب الثناء ، والتطلع إلى الجاه وبعد الصيت ، والرغبة فى العلو والافتخار ، وذلك لأن الله يحب للعمل أن ينقى من الشوائب المكدرة . (ألا لله الدين الخالص) . ص _066(1/62)
وطبيعة الفضيلة كطبيعة الثمرة الناضجة ، يجب لسلامتها والإبقاء على نظافتها وحلاوتها ، أن تكون خالية من العطوب والآفات !! وقد أعلن الإسلام كراهيته العنيفة للرياء فى الأعمال الصالحة ، واعتبره شركا بالله رب العالمين . والحق أن الرياء من أفتك العلل بالأعمال ، وهو إذا استكمل أطواره وأتم دورته فى النفس ، كما تستكمل جراثيم الأوبئة أطوارها ودورتها . أصبح ضربا من الوثنية ، التى تقذف بصاحبها فى سواء الجحيم . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "اليسير من الرياء شرك ، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء ، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يُعرفوا: قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة". وعن ابن عباس: قال رجل: يا رسول الله إنى أقف الموقف أريد وجه الله، وأريد أن يُرى موطنى، فلم يرد عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى نزلت: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا) . وإنما كانت حملات الإسلام على الرياء ـ وغيره من العلل الناشئة عن فقد الإخلاص ـ على ما هى عليه من الشدة، لأنها فساد معقد، وطريقة ملتوية فى التنفيس عن الشهوات المكبوتة . فالرذيلة السافرة تولد جريمة ، وتسير فى المجتمع جريمة، فهى منكورة محقورة، ولعل صاحبها، لشعوره بسوئها، يتوب منها على عجل أو على مهل . . أما الرذيلة التى تظهر فى لباس من الطاعة المطلوبة، فهى رذيلة مرهوبة الشر على صاحبها وعلى المجتمع . ذلك أن صاحبها يقترفها وهو يشبع نهم نفسه ، فى الوقت الذى يتوهم فيه أنه يرضى الله . . فكيف يحس أنه ارتكب إثما ؟ وكيف يتوب مما يفترض أنه خير ؟ أما المجتمع العام فمصائبه من الفضلاء المنافقين ، أنكى من مصائبه التى ينزلها به معتادو الإجرام من الصعاليك . ص _067(1/63)
إن ضعف الإخلاص عند كثير من ذوى المواهب، جعل البلاد تشقى بمواهبهم وترجع القهقرى. ثم إن تلويث الفضيلة بأقذار الهوى عدوان على منزلتها، ومحاولة متعمدة لإسقاط قيمتها. وهذا جرم آخر، ينشأ عن فقدان الإخلاص، والرجل الذى يقصد بعمله وجه الناس، ويذهل عن وجه ربه، رجل لا يدرى ـ لسفاهته ـ حطة ما يصنع بعمله. إنه ينصرف عن القوى الغنى، ذى الجلال والإكرام إلى الضعاف الفقراء الذين لا حول لهم ولا طول ولذلك قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ، ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك فى عمله لله أحدا، فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك" . * * * على العسكريين ـ جنودا أو قادة ـ أن يجعلوا جهادهم منزها عن الشوائب، فقد ربطوا حياتهم ومماتهم بواجب مقدس، تصغر إلى جانبه الألقاب والرتب والشارات، فليؤثروا ما عند الله، وليقفوا أمانيهم على التضحية المرتقبة والفداء العزيز. عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: "يا عبد الله بن عمرو، إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا، وان قاتلت مرائيا مكاثرا ، بعثك الله مرائيا مكاثرا. يا عبد الله بن عمرو: على أى حال قاتلت أو قتلت، بعتك الله على تلك الحال " . * * * وعلى الموظف، وهو فى ديوانه، أن يعتد ما يكتبه، وما يحسبه، وما يكد فيه عقله، ويتعب فيه يده، عملا يقصد به مصلحة البلاد ورضا الله. إن الدابة قد تكدح سحابة النهار، نظير طعامها، والإنسان قد يهبط بقيمة جهده إلى مستوى الحيوان، فيكون عمله لقاء راتبه فحسب. لكن الرجل العاقل يغالى بتفكيره ونشاطه، فيجعلهما لشيء أجل. ص _068(1/64)
ومن المؤسف أن هناك جمهورا من الموظفين لا يفقهون إلا منطق المال والدرجة والترقية . ويحتبسون بدينهم ودنياهم داخل هذا النطاق، ويربطون رضاهم وسخطهم وفتورهم ونشاطهم بميزانه المضطرب. قال رسول الله: "إذا كان آخر الزمان صارت أمتى ثلاث فرق: فرقة يعبدون الله خالصا ، وفرقة يعبدون الله رياء ، وفرقة يعبدون الله ليستأكلوا به الناس فإذا جمعهم الله يوم القيامة قال للذى يستأكل الناس : بعزتى وجلالى ما أردت بعبادتى؟ فيقول : وعزك وجلالك أستأكل بها الناس . قال : لم ينفعك ما جمعت ، انطلقوا به إلى النار . ثم يقول للذى كان يعبد رياء : بعزتى وجلالى ما أردت عبادتى ؟ قال : بعزتك ؛ وجلالك رياء الناس ! قال لم يصعد إلى منه شيء ، انطلقوا به إلى النار . ثم يقول للذى كان يعبده خالصا : بعزتى وجلالى ما أردت بعبادتى ؟ قال : بعزتك وجلالك أنت أعلم بذلك من أردت به أردت به ذكرك ووجهك . قال صدق عبدى ، انطلقوا به إلى الجنة " . * * * والإخلاص العميق، ألزم ما يكون لميادين العلم والثقافة، فإن العلم أشرف ما ميز الله به الأكرمين من خلقه. فمن الزاوية الشنيعة به أن يُسخر لعوامل الشر، وأن تختلط به الأهواء والفتن، والعالم لم تصبه الجراحات القاتلة إلا على أيدى علماء، فقدوا الخلق الفاضل، والنزاهة المحمودة. وقد أوجب الإسلام على الأستاذ والطالب جميعا، أن يتجردوا للعلم، وأن ينظرا قبل كل شيء إلى المثل العالية والمصلحة العامة. والتعلم والتعليم ابتغاء المال وحده وتلهفا على المنفعة الشخصية المحضة، كما هو ديدن الألوف اليوم، هو فى الحقيقة استهانة بقيمة العلم، وإضاعة لرسالته الجليلة. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من تعلَّم علما مما يُبتغى به وجه الله تعالى ، لا يتعلمه إلا ليصيب عرضا من الدنيا ، لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة " . ص _069(1/65)
وقد كره الإسلام كذلك أن يطلب المرء العلم، حتى إذا نبغ فيه استكبر به على الناس، واتخذه وسيلة للشغب والمراء. وفى الحديث: "لا تَعَلمُوا العِلمَ لتباهوا به العُلماء، ولا تماروا به السفهاء، ولا تخروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار" . إن العلم ـ على اتساع فنونه الدنيوية والأخروية ـ لم يزدهر ويصل إلى المرحلة التى بلغها إلا بالتجرد الحق، والتعالى عن الأغراض الصغيرة. وهذا لا يعنى ألبته أن يكلف العلماء والمتعلمون بتحمل مشاق العيش، والتعرض للأزمات المحرجة. فإن إخلاص النية، لا يستلزم إعنات المخلص، وتحميله الأذى. والعلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهى إذا استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا قلت تركت به ثلما شتى، ينفذ منها الشيطان. وإنما يسخط الله عز وجل، على ذوى الأغراض والمرائين وغيرهم، من عباد المال والجاه، لأن المفروض فى المسلم، أن يضحى بالأغراض والعلاقات والشهوات فى سبيل الله، لا أن يذهل عن وجه ربه فى سبيلها. وقد كان سحرة فرعون، آية فى اليقين الصحيح والإخلاص العالى، عندما رفضوا الإغراء، وحقروا الإرهاب، وداسوا حب المال والجاه، وقالوا للملك الجبار: (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا و ما أكرهتنا عليه من السحر و الله خير و أبقى) . وشتان بين هؤلاء الذين يستهينون بالدنيا فى سبيل الله، وبين الذين يسخرون الدين نفسه فى التقرب من كبير، أو الاستحواذ على عرض حقير . * * * ص _070(1/66)
أدب الحديث
نعمة البيان من أجل النعم التى أسبغها الله على الإنسان، وكرمه بها على سائر الخلق: (الرحمن ، علم القرءان ، خلق الإنسان ، علمه البيان) . وعلى قدر جلال النعمة يعظم حقها. ويُستوجب شكرها، ويُستنكر كنودها. وقد بين الإسلام كيف يستفيد الناس من هذه النعمة المسداة، وكيف يجعلون كلامهم الذى يتردد سحابة النهار على ألسنتهم طريقا إلى الخير المنشود، فإن أكثر الناس لا ينقطع لهم كلام ولا تهدأ لألسنتهم حركة. فإذا ذهبت تحصى ما قالوا. وجدت جُله اللغو الضائع أو الهذر الضار، وما لهذا ركب الله الألسنة فى الأفواه، ولا بهذا تقدر الموهبة المستفادة: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) . وقد عُنى الإسلام عناية كبيرة، بموضوع الكلام، وأسلوب أدائه، لأن الكلام الصادر عن إنسان ما، يشير إلى حقيقة عقله وطبيعة خُلقه، ولأن طرائق الحديث فى جماعة ما، تحكم على مستواها العام، ومدى تغلغل الفضيلة فى بيئتها. * * * ينبغى أن يسائل المرء نفسه قبل أن يتحدث إلى الآخرين. هل هناك ما يستدعى الكلام؟ فإن وجد داعيا إليه تكلم، وإلا فالصمت أولى به. وإعراضه عن الكلام حيث لا ضرورة له عبادة جزيلة الآجر. قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "والذى لا إله غيره، ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسانٍ " . ص _071(1/67)
وقال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: "خمس، لهم أحسن من الدُّهم الموقفة: لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنه فضل، ولا آمن عليك الوزر..! ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا، فإنه رب متكلم فى أمر يعنيه قد وضعه فى غير موضعه، فعيب .. ولا تمار حليما ولا سفيها فإن الحليم يقليك، وإن السفيه يؤذيك.! واذكر أخاك إذا تغيب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك منه ..! واعمل عمل رجل يرى أنه مجازى بالإحسان، مأخوذ بالإجرام والمسلم لا يستطيع هذا إلا إذا ملك لسانه، وسيطر على زمامه بقوة، فكبحه حيث يجب الصمت، وضبط حين يريد المقال. أما الذين تقودهم ألسنتهم فإنما تقودهم إلى مصارعهم * * * إن للثرثرة ضجيجا يذهب معه الرشد ، وأكثر الذين يتصدرون المجالس. ويتحدَّر منهم الكلام متتابعا، يجزم مستمعهم بأنهم لا يستمدون حديثهم من وعى يقظ، أو فكر عميق، وربما ظن أن هناك انفصالا بين العقل وهذا الكلام المسترسل! والمرء حين يريد أن يستجمع أفكاره ويراجع أعماله يجنح إلى الصمت، بل إنه حين يريد أن يبصر نفسه ويرتب ذهنه، يفر من البيئة الصاخبة إلى ريف صامت، أو ضاحية هادئة، فلا جرم أن الإسلام يوصى بالصمت، ويعده وسيلة ناجحة من وسائل التربية المهذبة. فمن نصائح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبى ذر: "عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان ، وعون لك على أمر دينك " . أجل إن اللسان حبل مرخى فى يد الشيطان يصرف صاحبه كيف شاء، فإذا لم يملك الإنسان أمره، كان فمه مدخلا للنفايات التى تلوث قلبه وتضاعف فوقه حجب الغفلة. ص _072(1/68)
وقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يستقيمُ إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه ، حتى يستقيم لسانه" . وأول مراحل هذه الاستقامة، أن ينفض يديه مما لا شأن له به، وألا يقحم نفسه فيما لا يسأل عنه: "من حسن إيمان المرء تركة ما لا يعنيه" . * * * والبعد عن اللغو من أركان الفلاح، ودلائل الاكتمال، وقد ذكره القرآن الكريم بين فريضتين من فرائض الإسلام المحكمة، هما الصلاة والزكاة: (قد أفلح المؤمنون ، الذين هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون) . ولو أن العالم أجمع ، أحصى ما يشغل فراغه من لغو فى القول والعمل ، لرَاعه أن يجد أكثر القصص المنشورة، والصحف المشهورة، والخطب والإذاعات لغوا مطردا، تعلق به الأعين، وتميل إليه الآذان، ولا ترجع بطائل ! وقد كره الإسلام اللغو ؛ لأنه يكره التفاهات وسفساف الأمور. ثم هو مضيعة للعمر فى غير ما خلق الإنسان له من جد وإنتاج . وبقدر تنزه المسلم عن اللغو، تكون درجته عند الله. عن أنس بن مالك قال: توفى رجل ، فقال رجل آخر- ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع: أبشر بالجنة. فقال رسول الله: أولا تدرى؟ فلعله تكلم فيما لا يعنيه، أو تخل بما لا يُنقِصُهُ". واللاغى، لضعف الصلة بين فكره ونطقه، يرسل الكلام على عواهنه. فربما قذف بكلمة سببت بواره ودمرت مستقبله، وقد قيل: من كثر لغطه كثر غلطه، وقال الشاعر: يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرّجل ص _073(1/69)
وفى الحديث: "إن العبد ليقول الكلمة، لا يقولها إلا ليُضحك بها المجلس، يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض !! وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه * * * فإذا تكلم المرء فليقل خيرا وليعود لسانه الجميل من القول، فإن التعبير الحسن عما يجول فى النفس أدب عال أخذ الله به أهل الديانات جميعا. وقد أوضح القرآن أن القول الحسن من حقيقة الميثاق المأخوذ على بنى إسرائيل على عهد موسى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) . والكلام الطيب العف، يجمل مع الأصدقاء والأعداء جميعا، وله ثماره الحلوة. فأما مع الأصدقاء فهو يحفظ مودتهم، ويستديم صداقتهم، ويمنع كيد الشيطان أن يُوهى حبالهم ويفسد ذات بينهم: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا) . إن الشيطان متربص بالبشر، يريد أن يُوقع بينهم العداوة والبغضاء، وأن يجعل من النزاع التافه، عراكا داميا ولن يسد الطريق أمامه كالقول الجميل. وأما حسن الكلام مع الأعداء فهو يطفئ خصومتهم، ويكسر حدتهم أو هو على الأقل يقف تطور الشر واستطاره شرره. (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) . ص _074(1/70)
وفى تعويد الناس لطف التعبير مهما اختلفت أحوالهم يقول رسوا الله: "إنكم لن تسعوا بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " . بل إنه يرى الحرمان مع الأدب أفضل من العطاء مع البذاءة . (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم) . والكلام الطيب خصلة تسلك مع ضروب البر ومظاهر الفضل، التى ترشح صاحبها لرضوان الله، وتكتب له النعيم المقيم. روى عن أنس قال: قال رجل للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "عَلِّمنى عملا يُدخلنى الجنة ! قال: أطعم الطعام ، وأفشِ السلام، وصل بالليل والناس نيام، تدخل الجنة بسلام " . وقد أمر الله عز وجل، بأن يكون حجاجُنا مع أصحاب الأديان الأخرى فى هذا النطاق الهادئ الكريم، لا عنف فيه ولا نكر، إلا أن يجور علينا امرؤ أثيم، فيجب كبح جماحه، ومنع اعتدائه: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) . وعظماء الرجال يلتزمون فى أحوالهم جميعا ألا تبدو منهم لفظة نابية، ويتحرجون مع صنوف الخلق، أن يكونوا سفهاء أو متطاولين. روى مالك أنه بلغه عن يحيى بن سعيد أن عيسى عليه السلام مرَّ بخنزير على الطريق، فقال له: أنفذ بسلام ! فقيل له: تقول هذا لخنزير؟ فقال: إنى أخاف أن أعود لسانى النطق بالسوء ! . * * * ومن الناس من يعيش صفيق الوجه شرس الطبع لا يحجزه عن المباذل يقين، ولا تلزمه المكارم مروءة، ولا يبالى أن يتعرض للآخرين بما يكرهون، فإذا وجد مجالا يشبع فيه طبيعته النزقة الجهول، انطلق على وجهه لا ينتهى له صياح، ولا تنحبس له شِرَّة . والرجل النبيل لا ينبغى أن يشتبك فى حديث مع هؤلاء، فإن استثارة نزقهم فساد كبير، وسد ذريعته واجب، ومن ثم شرع الإسلام مداراة السفهاء. ص _075(1/71)
حدث أو وقف رجل من أولئك الجهال أمام بيت الرسول يريد الدخول، فرأى النبى أن يحاسنه حتى صرفه، ولم يكن من ذلك بدُّ ـ فالحلم فدامُ السفيه ـ ولو تركه يسكب ما فى طبيعته الفظة لسمع ما تتنزه عنه أذناه !! وعن عائشة قالت : استأذن رجل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "بئس أخو العشيرة هو" فلما دخل انبسط إليه وألان له القول فلما خرج قلت: يا رسول الله، حين سمعت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت فى وجهه وانبسطت إليه ! فقال: يا عائشة متى عهدتنى فاحشا؟ إن من شر الناس عند الله تعالى منزلة يوم القيامة، من تركة الناس اتقاء فحشه " . وهذا مسلك تصدقه التجارب، فإن الرجل لا يسوغ أن يفقد خُلُقه مع من لا خُلُق له . ولو أنه شغل بتأديب كل جهول يلقاه لأعيته الحِيلُ من كثرة ما سوف يلقى . ولذلك عد القرآن الكريم فى أوائل الصفات التى يتحلى بها عباد الرحمن، هذه المداراة العاصمة : (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) . (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) . وقد يكظم الإنسان غيظه مرة أو مرتين ثم ينفجر . بيد أن المطلوب من المسلم الفاضل، أن يطاول الأذى أكثر من ذلك حتى لا يدع الشر يسيطر على الموقف آخر الأمر . عن سعيد بن المسيب قال: "بينما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالس فى أصحابه وقع رجل بأبى بكر، فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية فصمت عنه، ثم آذاه الثالثة، فانصرف أبو بكر رضى الله عنه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . . فقال أبو بكر: أوجدت ص _076(1/72)
على يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكن نزل مَلَكَ من السماء يكذبه بما قال ، فلما انتصرت ، ذهب الملك ، وقعد الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ قعد الشيطان " . * * * ومداراة السفهاء لا تغنى قبول الدنية، فالفرق بين الحالين بعيد! الأولى ضبط النفس أمام عوامل الاستفزاز، ومنعها طوعا أو كرها من أن تستجيشها دواعى الغضب وإدراك الثأر . أما الأخرى فهى بلادة النفس، واستكانتها إلى الهون ! وقبولها مالا يرضى به ذو عقل أو مروءة . وقد أعلن القرآن محبته لمداراة السفهاء وكراهيته لقبول الدنية: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ، إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا) . * * * ومن الضمانات التى اتخذها الإسلام لصيانة الكلام عن النزق والهوى تحريمه الجدل ! وسدُّه لأبوابه، حقا كان أو باطلا. ذلك أن هناك أحوالا تستبد بالنفس، وتغرى بالمغالبة، وتجعل المرء يناوش غيره بالحديث، ويصيد الشبهات التى تدعم جانبه، والعبارات التى تروج حجته، فيكون حب الانتصار عنده أهم من إظهار الحق، وتبرز طبائع العناد والأثرة فى صور منكرة، لا يبقى معها مكان لتبيُّن أو طمأنينة !! والإسلام ينفر من هذه الأحوال ويعدُّها خطرا على الدين والفضيلة. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "مَن ترك المراء وهو مبطل بُنى له بيت فى ربض الجنة، ومن تركة وهو محق بُنى له فى وسطها، ومن حسن خلقه بُنى له فى أعلاها " . ص _077(1/73)
وهناك أناس أوتوا بسطة فى ألسنتهم، تغريهم بالاشتباك مع العالم والجاهل، وتجعل الكلام لديهم شهوة غالبة، فهم لا يملونه أبدا . وهذا الصنف إذا سلط ذلاقته على شئون الناس أساء ، وإذا سلطها على حقائق الدين شوّه جمالها وأضاع هيبتها . وقد سخط الإسلام أشد السخط على هذا الفريق الثرثار المتقعّر. قال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " . وقال: "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" . هذا الصنف لا يقف ببسطة لسانه عند حد، إنه يريد الكلام فحسب، يريد أن يباهى به ويستطيل، إن الألفاظ تأتى فى المرتبة الأولى، والمعانى فى المرتبة الثانية، أما الغرض النبيل، فربما كان له موضوع أخير، وربما عزَّ له موضع، وسط هذا الصخب. ولقد حدث أن واحدا من أولئك الأغرار وفد إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .. عليه شارة حسنة" فجعل النبى لا يتكلم بكلام إلا كلفته نفسه أن يأتى بكلام يعلو كلام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ !! فلما انصرف ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الله لا يحب هذا وأضرابه ، يلوون ألسنتهم للناس لى البقر بلسانها المرعى، كذلك يلوى الله تعالى ألسنتهم ووجوههم فى النار". والجدال فى الدين ، والجدال فى السياسة ، والجدال فى العلوم والآداب ، عندما يتصدى له هذا النفر من الأدعياء البلغاء ، يفسد به الدين، وتفسد السياسة والعلوم والآداب، ولعل السبب فى الانهيار العمرانى، والتحزب الفقهى، والانقسام الطائفى، وغير ذلك مما أصاب الأمة الإسلامية، هو هذا الجدل الملعون فى حقائق الدين، وشئون الحياة. والجدل أبعد شيء عن البحث النزيه والاستدلال الموفق . ص _078(1/74)
وروى عن عدد من الصحابة ، قالوا : خرج علينا رسول الله يوما ونحن نتمارى فى شيء من أمور الدين . فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال: مهلا يا أمة محمد ، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء لقلة خيره، ذروا المراء فإن المؤمن لا يُمارى، ذروا المراء فإن الممارى قد تمت خسارته ذروا المراء فكفى إثما ألا تزال مماريا. ذروا المراء فإن الممارى لا أشفع له يوم القيامة. ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات فى الجنة، رياضا، ووسطها، وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء، فإن أول ما نهانى عنه ربى بعد عبادة الأوثان المراء" . * * * وللناس مجالس يتجاذبون أطراف الحديث فيها، والإسلام يكره مجالس القاعدين، الذين يقضون أوقاتهم فى تسقط الأخبار وتتبع العيوب، لأن لهم فضول أموال يستريحون فى ظلها، وليسوا يجدون شغلا إلا فى التسلِّى بشئون الآخرين. (ويل لكل همزة لمزة ، الذي جمع مالا وعدده ، يحسب أن ماله أخلده ، كلا لينبذن في الحطمة ، وما أدراك ما الحطمة) . وقد فشا فى عصرنا هذا جلوس الجماهير فى النوادى والمشارب . وتلك آفة أصابت المجتمع بعلل شتى، وقد كثرت فى المدائن والقرى لغير ضرورة مشروعة. وفى الحديث: "إياكم والجلوس فى الطرقات. قالوا: يا رسول الله، ما لنا بد من مجالسنا. نتحدث فيها. قال: إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه. قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر" . * * * ص _079(1/75)
سلامة الصدر
من الأحقاد ليس أروح للمرء، ولا أطرد لهمومه، ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب، مبرأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد. إذا رأى نعمة تنساق إلى أحد رضى بها، وأحس فضل الله فيها وفقر عباده إليها، وذكر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم ما أصبح بى من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر" ، وإذا رأى أذى يلحق أحدا من خلق الله رثى له، ورجا الله أن يفرج كربه ويغفر ذنبه، وذكر مناشدة الرسول ربه:" إن تغفر اللهم تغفر جَمَّا وأى عبد لك ما ألمَّا "وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة، راضيا عن الله وعن الحياة، مستريح النفس من نزعات الحقد الأعمى، فإن فساد القلب بالضغائن داء عياء، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش، كما يتسرب السائل من الإناء المثلوم !. ونظرة الإسلام إلى القلب خطيرة، فالقلب الأسود يفسد الأعمال الصالحة ويطمس بهجتها ويعكر صفوها. أما القلب المشرق فإن الله يبارك فى قليله، وهو إليه بكل خير أسرع: عن عبد الله بن عمرو " قيل: يا رسول الله أى الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان. قيل: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقى النقى، لا إثم فيه ولا بغى ولا غل ولا حسد" . ومن ثم كانت الجماعة المسلمة حقا هى التى تقوم على عواطف الحب المشترك، والود الشائع، والتعاون المتبادل، والمجاملة الدقيقة، لا مكان فيها للفردية المتسلطة الكنود، بل هى كما وصف القرآن: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) . * * * ص _080(1/76)
إن الخصومة إذا نمت وغارت جذورها، وتفرعت أشواكها شلت زهرات الإيمان الغض، وأذوت ما يوحى به من حنان وسلام . وعندئذ لا يكون فى أداء العبادات المفروضة خير، ولا تستفيد النفس منها عصمة . وكثيرا ما تطيش الخصومة بألباب ذويها، فتتدلى بهم إلى اقتراف الصغائر المسقطة للمروءة والكبائر الموجبة للعنة، وعين السخط تنظر من زاوية داكنة، فهى تعمى عن الفضائل، وتضخم الرذايل. وقد يذهب بها الحقد إلى التخيل وافتراض الأكاذيب وذلك كله مما تسخطه الإسلام ويحاذر وقوعه ، ويرى منعه أفضل القربات . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى! قال؟ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هو الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين" . ربما عجز الشيطان أن يجعل من الرجل العاقل عابد صنم. ولكنه ـ وهو الحريص على إغواء الإنسان وإيراده المهالك ـ لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه، حتى يجهل حقوقه أشد ما يجهلها الوثنى المخرّف، وهو يحتال لذلك بإيقاد نيران العداوة فى القلوب . فإذا اشتعلت استمتع الشيطان برؤيتها وهى تحرق حاضر الناس ومستقبلهم ، وتلتهم علائقهم وفضائلهم : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون فى جزيرة العرب، ولكنة لم ييأس من التحريش بينهم " . ذلك أن الشر إذا تمكن من الأفئدة فتنافر ودها، وانكسرت زجاجتها ارتد الناس إلى حال من القسوة والعناد، يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الأرض . * * * وقد تيقظ الإسلام لبوادر الجفاء، فلاحقها بالعلاج ، قبل أن تستفحل وتستحيل إلى عداوة فاجرة، والمعروف أن البشر متفاوتون فى أمزجتهم وأفهامهم، وأن التقاءهم فى ميادين الحياة قد يتولد عنه ضيق وانحراف، إن لم يكن صدام وتباعد. ولذلك شرع الإسلام من المبادئ ما يرد عن المسلمين عوادى الانقسام والفتنة وما يمسك قلوبهم على مشاعر الولاء(1/77)
والمودة ، فنهى عن التقاطع والتدابُر . ص _081
نعم قد يحدث أن تشعر بإساءة موجهة إليك، فتحزن لها وتضيق بها، وتعزم على قطع صاحبها . ولكن الله لا يرضى أن تنتهى الصلة بين مسلم ومسلم إلى هذا المصير . قال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا ولا تحاسدوا. وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " . وفى رواية: "لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث. فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه. فإن رد عليه السلام فقد اشتركا فى الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجرة" وهذا التوقيت فترة تهدأ فيها الحدة وينفثئ الغضب، ثم يكون لزاما على المسلم بعده أن يواصل إخوانه، وأن يعود معهم سيرته الأولى، كأن القطيعة غيمة، ما إن تجمعت حتى هبت عليها الريح فبددتها، وصفا الأفق بعد عبُوس . والإنسان فى كل نزاع ينشب، أحد رجلين. إما أن يكون ظالما، وإما أن يكون مظلوما، فإن كان عاديا على غيره، ناقضا لحقه، فينبغى أن يُقلع عن غيه وأن يصلح سيرته، وليعلم أنه لن يستل الضغن من قلب خصمه، إلا إذا عاد عليه بما يطمئنه ويرضيه. وقد أمر الإسلام المرء ـ والحالة هذه ـ أن يستصلح صاحبه ويطيب خاطره . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شىء فليتحلله منه اليوم، من قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه " . ذلك نصح الإسلام لمن عليه الحق أما من له الحق فقد رغب إليه أن يلين ويسمح، وأن يمسح أخطاء الأمس بقبول المعذرة، عندما يجىء له أخوه معتذرا ومستغفرا، ورفض الاعتذار خطأ كبير . وفى الحديث: " من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس " . ص _082(1/78)
وفى رواية: "من تُنُصِّلَ إليه فلم يَقبل لم يرد علىَّ الحوض" . وبهذا الإرشاد المبين للطرفين جميعا يحارب الإسلام الأحقاد، ويقتل جرثومتها فى المهد، ويرتقى بالمجتمع المؤمن إلى مستوى رفيع، من الصداقات المتبادلة، أو المعاملات العادلة. وقد اعتبر الإسلام من دلائل الصغار وخسة الطبيعة، أن يرسب الغل فى أعماق النفس فلا يخرج منها، بل يظل يموج فى جوانبها كما يموج البركان المكتوم. وكثير من أولئك الذين يحتبس الغل في أفئدتهم يتلمسون متنفسا له فى وجوه من يقع معهم ؛ فلا يستريحون إلا إذا أرغوا وازبدوا، وآذوا وأفسدوا . روى عن ابن عباس أن رسول الله قال: "ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله. قال: إن شراركم الذى ينزل وحدة، ويجلد عبده ويمنع رفده. أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله، قال: من يبغض الناس! ويبغضونه. قال أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى، إن شئت يا رسول الله، قال: الذين لا يُقيلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، ولا يغفرون ذنبا، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: من لا يُرجى خيره ولا يؤمن شره " . والأصناف التى أحصاها هذا الحديث، أمثلة لأطوار الحقد عندما تتضاعف علته وتفتضح سوأته، ولا غرو، فمن قديم أحس الناس، حتى فى جاهليتهم، أن الحقد صفة الطبقات الدنيا من الخلق ! وأن ذوى المروءات يتنزهون عنه ! قال عنترة: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب * * * وهناك رذائل رهَّب الإسلام منها، وليس يفوت النظر القريب أن تعرف مصدرها الدفين . إنها على اختلاف مظاهرها، تعود إلى عملة واحدة هى الحقد . فالافتراء على الأبرياء جريمة، يدفع إليها الكره الشديد، ولما كان أثرها شديدا فى تشويه الحقائق، وجرح المستورين، عدَّها الإسلام من أقبح الزور . ص _083(1/79)
روت عائشة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأصحابه: "أتدرون أربى الربا عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: قإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىء مسلم ، ثم قرأ رسول الله : (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) . ولا شك أن تلمس العيوب للناس، وإلصاقها بهم عن تعمد يدل على خبث ودناءة، وقد رتب الإسلام عقوبات عاجلة لبعض جرائم الافتراء وما يبيت فى الآخرة لصنوف الافتراء كلها أشد وأنكى . قال رسول الله: "من ذكر امرأً بشيءٍ ليس فيه، ليعيبه به، حبسه الله فى نار جهنم حتى يأتى بنفاد ما قال فيه " . وفى رواية: "أيما رجل أضاع على رجل مسلم كلمة، وهو منها برىء، يشينه بها فى الدنيا، كان حقا على الله أن يُذيبه يوم القيامة فى النار، حتى يأتى بنفاد ما قال ". وما دام الذى قاله بهتانا، فكيف يستطيع أن يثبت عن الله باطلا؟ وكيف يتنصل من تبعته؟ إن سلامة الصدر تفرض على المؤمن أن يتمنى الخير للناس، إن عجز عن سوقه إليهم بيده. أما الذى لا يجد بالناس شرّاً فينتحله لهم انتحالا، ويزوره عليهم تزويرا فهو أفاك صفيق . قال الله عز وجل: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) . ومن فضل الله على العباد : أنه استحب ستر عيوب الخلق، ولو صدق اتصافهم بها. ص _084(1/80)
وما يجوز لمسلم أن يتشفى بالتشنيع على مسلم ولو ذكره بما فيه فصاحب الصدر السليم يأسى لآلام العباد، ويشتهى لهم العافية، أما التلهِّى بسرد الفضائح، وكشف الستور، وإبداء العورات، فليس مسلك المسلم الحق. ومن ثم حَرَّم الإسلام الغيبة، إذ هى متنفس حقد مكظوم، وصدر فقير إلى الرحمة والصفاء . عن أبى هريرة أن رسول الله قال: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان فى أخى ما أقول؟. قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ومن آداب الإسلام التى شرعها لحفظ المودات، واتقاء الفرقة، تحريم النميمة، لأنها ذريعة إلى تكدير الصفو وتغيير القلوب وقد كان النبى ينقى أن يُبلغ عن أصحابه ما يسوءه ، قال: "لا يُبلغنى أحد منكم عن أحد من أصحابى شيئا، فإنى أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " . وعلى من سمع شيئا من ذلك ألا يوسع الخرق على الراقع، فرب كلمة شر تموت مكانها لو تركت حيث قيلت ! ورب كلمة شر سعرت الحروب، لأن غرا نقلها ونفخ فيها، فأصبحت شرارة تنتقل بالويلات والخطوب . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا يدخل الجنة نمام " ، وفى رواية " قَتَّاتٌ". قال العلماء: هم بمعنى واحد. وقيل: النام الذى يكون مع جماعة يتحدثون فينقل عنهم، والفتات، الذى يتسمع عليهم من حيث لا يشعرون ثم ينمّ . وروى فى الحديث: "إن النميمة والحقد فى النار، لا يجتمعان فى قلب مُسلم " . ومن لوازم الحقد سوء الظن، وتتبع العورات، واللمز، وتعيير الناس بعاهاتهم، أو خصائصهم البدنية والنفسية . وقد كره الإسلام ذلك كله كراهية شديدة . ص _085(1/81)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن عَلِمَ من أخيه سيئة فسترها، ستر الله عليه يوم القيامة". وقال: "من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موؤدة " . وكثيرا ما يكون متتبعو العورات لفضحها أشر إجراما، وأبعد عن الله قلوبا من أصحاب السيئات المكتشفة، فإن التربص بالجريمة لنشرها، أقبح من وقوع الجريمة نفسها . وشتان بين شعورين، شعور الغيرة على حرمات الله والرغبة فى حمايتها، وشعور البغضاء لعباد الله والرغبة فى إذلالهم إن الشعور الأول قد يصل فى صاحبه إلى القمة، ومع ذلك فهو أبعد ما يكون عن التشفى من الخلق، وانتظار عثراتهم، والشماتة فى آلامهم. * * * وسلامة الصدر فضيلة تجعل المسلم لا يربط بين حظه من الحياة ومشاعره مع الناس، ذلك أنه ربما فشل حيث نجح غيره، وربما تخلف حيث سبق آخرون. فمن الغباء أو من الوضاعة أن تلتوى الأثرة بالمرء، فتجعله يتمنى الخسار لكل إنسان، لا لشيء، إلا لأنه هو لم يربح ثم إن المسلم يجب أن يكون أوسع فكرة، وأكرم عاطفة، فينظر إلى الأمور من خلال الصالح العام، لا من خلال شهواته الخاصة . وجمهور الحاقدين، تغلى مراجل الحقد فى أنفسهم، لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد فاتهم، وامتلأت به أكف أخرى . وهذه هى الطامة التى لا تدعُ لهم قرارا وقديما رأى إبليس أن الخطوة التى يتشهاها قد ذهبت إلى آدم، فآلى ألا يترك أحدا يستمتع بها بعدما حرمها . (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين). ص _086(1/82)
هذا الغليان الشيطانى هو الذى يضطرم فى نفس الحاقدين ويفسد قلوبهم، وقد أهاب الإسلام بالناس أن يبتعدوا عن هذا المكر، وأن يسلكوا فى الحياة نهجا أرقى وأهدأ . عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسا عند النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "يطلعُ الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار، تنظف لحيته من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال النبى مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبى مثل مقالته أيضا، فطلع ذلك الرجل على مثال حاله الأولى . فلما قام النبى تبعه عبد الله بن عمرو- تبع الرجل- فقال: إنى لا حيت أبى، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤوينى إليك حتى تمضى فعلت ! قال: نعم . قال أنس: فكان عبد الله يُحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالى ، فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار- تقلب فى فراشه ذكر الله عز وجل حتى ينهض لصلاة الفجر قال عبد الله: غير أنى لم أسمعه يقول إلا خيرا . فلما مضت الليالى الثلاث وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله لم يكن بينى وبين أبى غضب ولا هجرة، ولكنى سمعت رسول الله يقول لك- ثلاث مرات-: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوى إليك. فأنظر ما عملك فأقتدى بك . فلم أرك عملت كبير عمل ! فما الذى بلغ بك ما قال رسول الله؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، قال عبد الله فلما وليت دعانى فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أنى لا أجد فى نفسى لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التى بلغت بك وفى رواية: "ما هو إلا ما رأيت يا ابن أخى، إلا أنى لم أبت ضاغنا على مسلم". ص _087(1/83)
وقد حرَّم الإسلام الحسد ، وأمر الله رسوله أن يستعيذ من شرور الحاسدين لأن الحسد جمرة تتقد فى الصدر، فتؤذى صاحبها وتؤذى الناس به . والشخص الذى يتمنى زوال النعم آفة تحذر غوائها على المجتمع ، ولا يُطمأن إلى ضميره فى عمل . وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا يجتمع فى جوف عبد غبار فى سبيل الله وفيح جهنم. ولا يجتمع في جوف عبد، الإيمان والحسد " . وقال: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " . والرجل الذى يكره المنعم عليهم، ويود لو يمسون محرومين ويصبحون ضائعين، رجل ضللته عن حقيقة الحياة، ظلمات شتى . إنه أولا محصور بالدنيا ومتاعها، يقاتل عليه ويبكى وراءه، ويتبع بالغيظ من نالوا نصبا ضخما منه . وهذا خطأ فى تقدير الحياتين، بل لعله جهل أو ذهول عن الحياة الأخرى وما ينبغى لها من استعداد، يجب أن يتأهَّب المرء له، ويأسى لفواته . قال الله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) . ثم إن الحاسد بعد ذلك، شخص واهن العزم، كليل اليد، جاهل بربه وبسننه فى كونه. ذلك أنه لما فاته الخير لأمر ما تحول يكيد للناجحين ! حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالكل أعداء له وخصوم وكان أجدى عليه أن يتحول إلى ربه ، يسأله من فضله، فإن خزائنه ليست حكرا على واحد بعينه، ثم يستأنف السعى فى الحياة بعدئذ . فلعل ما عجز عنه فى البداية يدركه ثانية، إن هذا لا ريب أشرف من الضغينة على الآخرين . ص _088(1/84)
والبون بعيد بين الحسد والطموح، وبين الحسد والغبطة، وبين الحسد واستنكار العوج فى الأضاع والخلط فى المنع والعطاء .! فالطموح رغبة فى الرفعة وسعى إليها، وذلك من شأن الصالحين من عباد الله . قال سليمان : (قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) . وقال عباد الرحمن: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) . والتطلع إلى فضل الله مع الأخذ فى أسباب اكتسابه شيء، غير كراهية فضل الله عندما ينزل بإنسان معين . والغبطة رغبة المرء فى الحصول على نعمة مماثلة لما أكرم الله به الآخرين . ولما كان تطلع الإنسان إلى غيره، قد يكون فتحا لأبواب الفتنة، وتعلقا بالمنى الباطلة، واشتهاء لما يحسبه الشخص نافعا له، وهو فى الحقيقة ضار به، أرشد الإسلام إلى ما ينبغى طلبه، والتنافس فيه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : "لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته فى الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويُعلمها " . والحسد فى الحديث: تمنى مثيل النعمة، لا تمنى زوالها . والمقصود أن يكون المثل الأعلى الذى يستهدفه الإنسان جليلا رائعا، فإن من سقوط الهمة أن ترتبط الآمال بالتافه من الأحوال.. وهناك شئون يعتبر التشبث بطلبها عبثا لا يورث إلا الحسرة، وقد ينتهى بالحقد على الناس، لا لشيء إلا لأن الله خصهم بمواهب فطرية أو بمنافع تقوم على هذه المواهب . وفى هذه الشئون وأمثالها يقول الله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما) . ص _089(1/85)
وأما استنكار العوج فى الأوضاع، فهو إقرار للعدالة الواجبة، وليس من قبيل الحسد المذموم . فإذا غضبنا لأن هذا أخذ الكثير على جُهد قليل، أو رفع إلى درجة لا ترشحه لها كفايته، فهذا الغضب مفهوم ومحمود، وهو ضرب من رعاية المصالح العامة، لا صلة للحقد الشخصى به . إن الإسلام يتحسس النفوس بين الحين والحين، ليغسلها من أدران الحقد الرخيص، وليجعلها حافلة بمشاعر أزكى وأنقى نحو الناس ونحو الحياة . فى كل يوم، وفى كل أسبوع، وفي كل عام تمر النفوس من آداب الإسلام فى مصفاة تحجز الأكدار، وتنقى العيوب، ولا تبقى فى الأفئدة المؤمنة أثارة من ضغينة. أما فى كل يوم ؛ فقد أوضح الإسلام أن الصلوات المكتوبة لا يحظى المسلم بثوابها إلا إذا اقترنت بصفاء القلب للناس، وفراغه من الغش والخصومات . قال رسول الله : " ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا: رجل أمَّ قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان مُتصارمان " . وأما فى كل أسبوع، فإن هناك إحصاء ما يعمله المسلم، ينظر الله فيه ليحاكم المرء إلى ما قدمت يداه، وأسرَّه ضميره، فإن كان سليم الصدر نجا من العثار، وإن كان ملوثا بمآثم الغضب والحسد والسخط، تأخر فى المضمار . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "تُعرض الأعمال فى كل اثنين وخميس: فيغفر الله عز وجل فى ذلك اليوم ولكل امرىء لا يشرك بالله شيئا ، إلا امرءا كانت بينة وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا " . وأما فى كل عام فعبد تراخى الليالى وامتداد الأيام، لا ينبغى أن يبقى المسلم حبيسا فى سجن العداوة، مغلولا فى قيود البغضاء . فإن لله فى دنيا الناس نفحات لا يظفر بخيرها إلا الأصفياء السمحاء ! ص _090(1/86)
ففى الحديث: "إن الله عز وجل يطلع على عباده، ليله النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويُؤخرُ أهل الحقد كما هم " فمن مات بعد هذه المصافى المتتابعة، والبغضاء لاصقة بقلبه لا تنفك عنه، فهو جدير بأن يصلى حر النار فإن ما عجزت الشرائع عن تطهيره، لا تعجز النار عن الوصول إلى قراره، وكى أضغانه وأوزاره . . * * * والشحناء التى كرهها الإسلام وكره ما يدفع إليها أو ينشأ عنها، هى التى تنشب من أجل الدنيا وأهوائها، والطماعية فى اقتناص لذائذها والاستئثار بمتاعها . أما البغض لله، والغضب للحق، والثورة للشرف، فشأن آخر . . وليس على المسلم جناح فى أن يقاطع حتى الموت، من يفسقون عن أمر الله ، أو يعتدون على حدوده، وليس عليه من لائمة فى أن يُكن لهم البغضاء، ويعالنهم بالعداء. بل إن ذلك من أمارات الإيمان الصحيح. والإخلاص لله وحده . وقد أمر الله عر وجل أن نجافى أعداءه، ولو كانوا أقرب الناس إلينا : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان و من يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) . وابتعاد المسلم عمن تسوء صحبتهم أو من يغرون بالتهاون والهزل واجب . وابتعاده عمن أخطأ فى حق الله عقابا له، إلى أجل محدود أو ممدود، لا شىء فيه، فقد هجر النبى بعض نسائه أربعين يوما، وهجر عبد الله بن عمر ولدا حتى مات ؛ لأنه رد حكما لرسول الله ، كان أبوه يرويه فى إباحة خروج النساء إلى المساجد ... * * * ص _091(1/87)
القُوَّة
العقيدة المكينة . معين لا ينضب للنشاط الموصول، والحماسة المذخورة، واحتمال الصعاب، ومواجهة الأخطار، بل هى سائق حثيث يدفع إلى لقاء الموت دون تهيب، إن لم يكن لقاء مُحب مشتاق !! تلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن، إنه يضفى على صاحبه قوة تنطبع فى سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخا فى عمله، وإذا اتجه كان واضحا فى هدفه، وما دام مطمئنا إلى الفكرة التى تملأ عقله، وإلى العاطفة التى تعمر قلبه، فقلما يعرف التردد سبيلا إلى نفسه وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه، بل لا عليه أو يقول لمن حوله: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون ، من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) . هذه اللهجة المقرونة بالتحدى. وهذه الروح المستقلة فى العمل، وتلك الثقة فيما يرى أنه الحق.. ذلك كله يجعله فى الحياة رجل مبدأ متميز، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره. إن رآهم على الصواب تعاون معهم وإن وجدهم مخطئين نأى بنفسه واستوحى ضميره وحده . قال رسول الله: "لا يكن أحدكم إمعة. يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت !! ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم " . والرجل الضعيف، هو الذى يستعيده العرف الغالب، وتتحكم فى أعماله التقاليد السائدة، ولو كانت خطأ يجر معه متاعب الدنيا والآخرة. وقد أحدث الناس فى أفراحهم وأحزانهم بدعا شتى، وتواضعوا على الاستمساك بها أشد من استمساكهم بحقائق الدين نفسها . ص _092(1/88)
ولكن المؤمن الحق، لا يكترث بأمر ليس له من دين الله سناد. وهو، فى جرأته على العرف والتقاليد، سوف يلاقى العنت. بيد أنه لا ينبغى أن يخشى فى الله لومة لائم، وعليه أن يمضى إلى غايته، لا تعنيه قسوة النقد، ولا جراحات الألسنة . والباطل الذى يروج حينا، ثم يثور الأقوياء عليه فيسقطون مكانته. لا يبقى علي كثرة الأشياع أمدا طويلا، ورب مخاصم اليوم من أجل باطل انخدع به، أمسى نصيرا لمن خاصمهم، مستريحا إلى ما علم منهم، مؤيدا لهم بعد شقاق . عن ابن عباس رضى الله عنهما. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من أسخط الله في رضا الناس سخط الله عليه . وأسخط عليه من أرضاه فى سخطه ! ومن أرضى الله فى سخط الناس رضى الله عنه . وأرضى عنه من أسخطه فى رضاه !! حتى يزينه ويزين قوله وعمله فى عينيه " . فليجمد المسلم على ما يوقن به وليستخف بما يلقاه من سخرية واستنكار عندما يشذ عن عرف الجهال، ويخط لنفسه نهجا، يلتمس به مثوبة الله عز وجل، ولئن كان الإيمان بالأوهام يُغرى البعض، بأن يسخر ويتهكّم، إن الإيمان بالإسلام يجب أن يجعل أصحابه أقوياء راسخين . (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ، إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) . أجل. يجب أن يكون المسلم شاعرا بقوة اليقين فى شخصه، وروعة الإيمان فى نفسه، إن لم يستطع فرض ذلك على ما حوله بقى كالطود الأشم، لم تجرفه الغمار السائدة، ولم تطوه اللجج الصاخبة، وماذا عسى يفعل الناس لامرئ اعتز بإيمانه، واستشعر القوة لصلته بربه واستقامته فى دينه؟ إنهم لو تألبوا عليه جميعا ما نالوا منه قليلا ولا كثيرا . عن ابن عباس قال: كنت رديف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال: "يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد(1/89)
لو اجتمعوا على أن ص _093
ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك جفت الأقلام وطويت الصحف " . والحق أن فضيلة القوة ترتكز فى نفس المسلم على عقيدة التوحيد، كغيرها من الفضائل التى تجعله يرفض الهوان فى الأرض، لأنه رفيع القدر بانتسابه إلى السماء، ولأنه يستطيع فى نطاق إيمانه أن يكون أمة وحده، وفى فمه قول الله عز وجل : (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين) . * * * ومن فضائل القوة التى يوجبها الإسلام أن تكون وثيق العزم، مجتمع النية على إدراك هدفك بالوسائل الصحيحة التى تقربك منه، باذلا قصارى جهدك فى بلوغ مأربك، غير تارك للحظوظ أن تصنع لك شيئا، أو للأقدار أن تدبر لك ما قصرت فى تدبيره لنفسك !! فإن هناك أقواما يجعلون من الملجأ إليه ستارا يوارى تفريطهم المعيب وتخازلهم الذميم، وهذا التواء كرهه الإسلام . فعن عوف بن مالك قال : قضى رسول الله بين رجُلين. فلما أدبرا قال المقضى عليه: حسبى الله ونعم الوكيل ! فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله يلوم على العجز !! ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ فقل: حسبى الله ونعم الوكيل " . أى أن المرء مكلف بتعبئة قُواه كلها لمغالبة مشاكله حتى تنزاح من طريقه، فإن ذللها حتى استكانت له فقد أدى واجبه . وإن غلب على أمره أمامها بعد استفراغ جهده كان ركونه إلى الله عندئذ معاذا يعتصم به من غوائل الانكسار، فهو على الحالين قوى، بعمله أولا وبتوكله آخرا . إن الإسلام يكره لك أن تكون مترددا فى أمورك، تحار فى اختيار أصوبها وأسلمها، وتكثر الهواجس فى رأسك فتخلق أمامك جوا من الريبة والتوجس، فلا تدرى كيف تفعل. وتضعف قبضتك فى الإمساك بما ينفعك فيفلت منك ثم يذهب سُدى . ص _094(1/90)
إن هذا الاضطراب لا يليق بالمسلم . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنى فعلت كذا لكان كذا. ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل، فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان " . وعمل الشيطان هو تشييع الماضى بالنحيب والإعوال، هو ما يلقيه فى النفس من أسى وقنوط على ما فات. إن الرجل لا يلتفت وراءه إلا بمقدار ما ينتفع به فى حاضره مستقبله، أما الوقوف مع هزائم الأمس، واستعادة أحزانها والتعثر فى عقابيلها، وتكرار لو، وليت، فذلك ليس من خلق المسلم، بل لقد عده القرآن الكريم من مظاهر الحسرة التى تتلجلج فى قلوب الكافرين : (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير) . وقد جاء فى الحديث: "من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله " . والتوكل الذى يقوى الإنسان به ضرب من الثقة بالله، ينعش الإنسان عندما تكتنفه ظروفه محرجة. ويلتفت حوله فلا يرى عونا ولا أملا فالمكافح عدوا قوى الشكيمة، شديد البأس، على ضعف العدة وقلة الناصر، يحس عندما يتوكل على الله أنه أوى إلى ركن شديد، ويستمد من هذا التوكل ثباتا ورباطا، ويظل يقاوم حتى تبرق بشائر النصر خلال جو مكفهر، وقد بين الله تبارك وتعالى أن هذا التوكل كان غذاء الكفاح الطويل الذى قاوم به النبيون وأتباعهم مظالم الطغاه وبغى المستبدين . (وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون) . ص _095(1/91)
وقد كان الحكام الفجرة وأشياعهم يسمون تشبث المؤمنين بما لديهم، وتأميلهم الخير فى المستقبل: وطمأنينتهم إلى أن ضعفهم الحاضر سيتحول قوة غالبة.. كانوا يسمون ذلك غرورا !! (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) . فالتوكل الحق قرين الجهد المضنى والإرادة المصممة ولم ينفرد التوكل عن هذه المعانى إلا فى العصور التى مُسخ فيها الإسلام، وأصبح بين أتباعه لهوا ولعبا . ومما يجعل المسلم قويا أن يبتعد عن حياة الخلاعة والفجور، وأن يألف مسالك النزاهة والاستقامة فإن الرجل الخرب الذمة أو الساقط المروءة لا قوة له ولو لبس جلود السباع، ومشى فى ركاب الملوك. وقد نصح الله قوم هود فأرشدهم إلى أسباب القوة الصحيحة، وكانوا عمالقة جبارين، فقال: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) . وأراد رسول الله أن يزين الطاعات للناس، وأن يغريهم بأدائها، وأن يشرح لهم عظمة الإنسان عندما يفعل الخير ويراغم الشيطان ويسمو إلى الملأ الأعلى فضرب لهم هذا المثل فى سياق حديث له، قال: "لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتتكفأ فأرساها بالجبال فاستقرت. فتعجب الملائكة من شدة الجبال فقالت: يا ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد. قالوا: فهل خلقت خلقا أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار، قالوا: فقل خلقت خلقا أشد من النار؟ قال: نعم، الماء قالوا: فهل خلقت خلقا أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح، قالوا: فهل خلقت خلقا أشد من الريح؟ قال: نعم ، ابن آدم إذا تصدق صدقة بيمينه فأخفاها عن شماله" ! . إن الإنسان، هذا الكائن العجيب، يعتبر سيدا لعناصر الكون كلها، يوازن أعتاها وأقساها فيرجحه ويربو عليه، يوم يكون شخصًا فاضلا ! ولكنه يُلعَن فى الأرض والسماء ويرجحه الذر والهباء يوم يكون شخصًا ساقطا . ص _096(1/92)
والمثل الذى ذكره الحديث ليس إلا إبرازا لقيمة الرجل المحسن وتصويرا لرسوخه وسموه عندما يسبق فى ميدان الخير . ومن عناصر القوة أن يكون المسلم صريحا، يواجه الناس بقلب مفتوح ومبادئ معروفة، لا يصانع على حساب الحق بما يغض من كرامته وكرامة أنصاره، بل يجعل قوته من قوة العقيدة التى يمثلها ويعيش لها. ولا يحيد عن هذه الصراحة أبدا فى تقرير حقيقة ما . حدث أن كسفت الشمس على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم مات ابنه إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم !! فقام رسول الله يخطب الناس، فقال: "إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله تعالى يُريهما عباده . فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة " . ذلك أن الشخص الذى يحيا فى الحقائق لا يتاجر بالأباطيل، فهو غنى عنها، وصراحته دليل على ثروة عريضة من الشرف، تغنى صاحبها عن الدجل والاستغلال ، وتقيم سيرته على ركائز ثابتة من الفضيلة والكمال . وقاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تنبثق من هذا السمو النفسى، لأنها تعتمد على مصارحة بما فرط منهم ابتغاء محوه لتثبت مكانه الصواب والخير . وقد شرحنا فى كتبنا الأخرى الغايات الاجتماعية والسياسية التى ناطها الإسلام بقاعدة الأمر والنهى . والذى نريد توكيده هنا أن المسلم يجب أن يكون نقادة للعيوب الفاشية، جريئا فى الحملة عليها، لا يتهيب كبيرا ولا يستحى من قريب، ولا تأخذه فى الله لومة لائم .. وقد كره الإسلام أن يضعف الرجل أمام العصاة من الكبراء، وأن يناديهم بألفاظ التكريم . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إذا قال الرجل للمنافق: يا سيد، فقد أغضب ربه " . ص _097(1/93)
وإنها لجريمة مضاعفة أن ينتهك امرؤ الحرمات المصونة، ثم يستمع إلى من يبجلونه لا إلى من يحقرونه . (ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) . وتحريم الإسلام للغيبة فيه محافظة على رجولة المسلم، وإمساك لعنصر القوة فيه، فإن الشخص الذى ينخنس ليُنفس عن أحقاده فى الخفاء بذكر المعايب المستورة أو المعروفة، هو لا شك شخص وضيع . والرجل الذى يأنس من نفسه قوة الاستجابة لدواعى الحق يواجه من شاء بما شاء ولا يتوارى ليطعن من وراء ستار . وليس معنى ذلك أن نجابه بالسوء من نود مساءتهم . بل إذا وجدنا فى امرئ ما عيبا فنحن بإزائه بين أمور معينة: إن كان هذا العيب عاهة فى بدنه، أو ضآلة فى مرتبته، فمن السفاهة التشنيع عليه به عيانا أو غيابا . وإن كان ذنبا انزلق إليه وليس من شأنه أن يقارفه ، إنما هى كبوة الجواد، فمن الدناءة أن نفضح مثله، وأن نشهر بين الناس به . وإن كان العيب الذى وجدناه جرأة مستهتر أو معصية مجاهر، فهذا الذى يجب أن يقابل بكلمة الحق. تقرع أذنيه دون مبالاة . ولكيما تكون هذه الكلمة خالصة ينبغى أن تبتعد عن مشاعر الشماتة وحب الأذى. وأن تقترن بالرغبة المجردة فى تغيير القبيح، وإصلاح الفرد والجماعة . وليس من هذا ألبته أن تذكر العاصى بشر عند أعدائه لتقترب من قلوبهم، أو لتطعم من موائدهم، أو لتتظاهر بالبراءة من الخصال التى ذممتها فيه . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يُطعمه مثلها من جهنم، ومن كسى ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن قام برجل مسلم مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة". إن الغيبة شيمة الضعاف "وكل اغتياب جهد من لا جهد له " . * * * ص _098(1/94)
والإسلام يكره أولئك الذين يعيشون فى الدنيا أذنابا، تغلب عليهم طبائع الزُّلفى والتهافت على خيرات الآخرين، ويحبون أن يكونوا فى هذه الحياة كالثعالب التى تقتات من فضلات الأسود . إن المسلم أكبر من أن يربط كيانه بغيره على هذا النحو الوضيع، بل يجب أن ينأى عن مواطن الهُون، وأن يضرب فى فجاج الأرض يبتغى العزة والكرامة . وقد ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحاب الجنة وخلالهم، وأصحاب النار وخلالهم، فعد فضائل القوة والكرامة والنبل فى الأولين وقرن رذائل الهوان والاختلاس والعجز والتلاعب بالآخرين قال : ".. أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق . ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذى قربى ومسلم . وعفيف متعفف ذو عيال . وأهل النار : الخائن الذى لا يخفى له طمع ـ وإن دق ـ إلا خانه . ورجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك . وذكر البخل والكذب ، والشنطير الفحاش ، وإن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد " . * * * على أن هناك أمورا قد تعرض للمسلم فينوء بها، وربما يهون فى نفسه ما دامت مصاحبة له: فالتعاسة النفسية الهوان الاجتماعى قد يضغطان على الإنسان ضغطا يُقعده، ويجعله سيئ التفكير، كثير التشاؤم، قليل الإنتاج، وواجب المسلم أن يبذل كل جهد للتملص من هذه القيود الكئيبة، والخروج من مآزقها القابضة . وقد كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعيذ بربه من هذه المصائب الهدامة "اللهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك: من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال " . والصبر والرجاء، هما عدة اليوم والغد، ويتحمل المرء فى ظلهما المصائب الفادحة فلا يذل، بل يظل محصنا من نواحيه كلها، عاليا على الأحداث والفتن لأنه مؤمن والمؤمن لا يضرع إلا إلى الله . * * * ص _099(1/95)
الحلم والصفح
تتفاوت درجات الناس فى الثبات أمام المثيرات، فمنهم من تستخفه التوافه فيستحمق على عجل، ومنهم من تستفزه الشدائد فيبقى على وقعها الأليم محتفظا برجاحة فكرة وسجاحة خلقه . ومع أن للطبع الأصيلة فى النفس دخلا كبيرا فى أنصبة الناس من الحدة والهدوء، والعجلة والأناة، والكدر والنقاء، إلا أن هناك ارتباطا مؤكدا بين ثقة المرء بنفسه وبين أناته مع الآخرين، وتجاوزه عن خطئهم، فالرجل العظيم حقا كلما حقق فى آفاق الكمال اتسع صدره، وامتد حلمه، وعذر الناس من أنفسهم، والتمس المبررات لأغلاطهم ! فإذا عدا عليه غرٌّ يريد تجريحه، نظر إليه من قمته كما نظر الفيلسوف إلى صبيان يعبثون فى الطريق وقد يرمونه بالأحجار . وقد رأينا الغضب يشتط بأصحابه إلى حد الجنون، عندما تقتحم عليهم نفوسهم، ويرون أنهم حقروا تحقيرا لا يعالجه إلا سفك الدم . أفلو كان الشخص يعيش وراء أسوار عالية من فضائله يحس بوخز الألم على هذا النحو الشديد؟ كلا. إن الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد . وهذا المعنى يفسر لنا حلم هود وهو يستمع إلى إجابة قومه بعد ما دعاهم إلى توحيد الله . قالوا: (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ، قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين). إن شتائم هؤلاء الجهال لم يطش لها حلم هود، لأن الشقة بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولا فهو فى الذؤابة من الخير والبر، وبين قوم سفهوا أنفسهم وتهاووا على عبادة الأحجار يحسبونها ـ لغبائهم ـ تضر وتنفع ! كيف يضيق المعلم الكبير بهرف هذه القطعان؟ ص _100(1/96)
وقد أراد رسول الله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلم أصحابه هذا الدرس فى الأناة وضبط النفس، فروى أن أعرابيا جاءه يطلب منه شيئا، فأعطاه ثم قال له: أحسنت إليك؟ قال الأعرابى: لا، ولا أجملت ! فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا.. ثم قام ودخل منزله، فأرسل إليه وزاده شيئا، ثم قال له: أحسنت إليك؟؟ قال نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال له النبى: إنك قلت ما قلت آنفا، وفى نفس أصحابى من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدى حتى يذهب ما فى صدورهم عليك !! قال: نعم. فلما كان الغد جاء، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إن هذا الأعرابى قال ما قال فزدناه. فزعم أنه رضى، أكذلك؟ قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . فقال رسول الله "مثلى ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها الناس فلم يزودوها إلا نفورا، فناداهم صاحبها، فقال لهم: خلوا بينى وبين ناقتى، فإنى أرفق بها منكم وأعلم. فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض، فردها حتى جاءت ! واستناخت، وشد عليها رحلها، واستوى عليها . "وإنى لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال، فقتلتموه، دخل النار" . إن الرسول الحليم لم تأخذه الدهشة لكنود الأعرابى أول الأمر، وعرف فيه طبيعة صنف من الناس مرد على الجفوة فى التعبير والإسراع بالشر، وأمثال هؤلاء لو عوجلوا بالعقوبة لقضت عليهم، ولما كانت ظلما . لكن المصلحين العظماء لا ينتهون بمصاير العامة إلى هذا الختام الأليم، إنهم يفيضون من أناتهم على ذوى النزق حتى يلجئوهم إلى الخير إلجاء، ويطلقوا ألسنتهم تلهج بالثناء . وثمن ذلك لا يضن به الواجد الأريب، ولو كان عطاء سخيا، فما بذل المال إلى جانب ملك الأنفس ؟ إن الأعرابى الذى اشترى رضاه بما علمت لا يبعد أن تراه بعد أيام وقد كلف بعمل خطير. يقدم فيه عنقه عن طيب خاطر !! وما المال فى أيدى المصلحين الكبراء إلا ص _101(1/97)
حاجة العفاة من الوافدين الطامعين، أو هو قمام الأرض تستناخ به الرواحل الجامحة. لتقطع عليها المفازات الشاسعة . وقد كان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستغضب أحيانا غير أنه ما يجاوز حدود التكرم والإغضاء . والمحفوظ من سيرته أنه ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها . ولما قال له أعرابى جلف وهو يقسم الغنائم: اعدل، فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، لم يزد فى جوابه أن بين له ما جهله، ووعظ نفسه وذكرها بما قال له فقال: "ويحك فمن يعدل إن لم أعدل ؟ خبت وخسرت إن لم أعدل " . ونهى أصحابه أن يقتلوه حين هم بعضهم بذلك . خطب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الناس عصر يوم من الأيام فكان مما قاله لهم : إن بنى آدم خلقوا على طبقات شتى : "ألا وإن منهم البطيء الغضب سريع الفيء . والسريع الغضب سريع الفيء ، والبطيء الغضب بطيء الفيء ، فتلك بتلك ، ألا وإن منهم سريع الفيء سريع الغضب ألا وخيرهم بطيء الغضب سريع الفيء ، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء ، ألا وإن منهم حسن القضاء حسن الطلب ، ومنهم سيئ القضاء حسن الطلب ، ومنهم سيئ الطلب حسن القضاء فتلك بتلك ألا وإن منهم سيئ القضاء سيئ الطلب ، ألا وخيرهم الحسن القضاء الحسن الطلب ، وشرهم سيئ القضاء سيئ الطلب " . " ألا وإن الغضب جمرة فى قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه ، فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض " أى فليبق مكانه وليجلس . فإنه إذا استطير وراء لهب الغيظ أفسد الأمور فى غيبة وعيه وغلبة عاطفته فلم يدع لإصلاحها مكانا . وقد شرح الحديث الشريف صنوف الخلق ومنازلتهم فى الفضل، والمؤمن يضع نفسه حيث يجب . ص _102(1/98)
إن الشخص الغضوب كثيرا ما يذهب به غضبه مذاهب حمقاء، فقد يسب الباب إذا استعصى عليه فتحه وقد يكسر آلة تضطرب فى يده، وقد يلعن دابة جمحت به. وحدث أن رجلا نازعته الريح رداءه فلعنها، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا تلعنها فإنها مأمورة مسخرة . وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه " . وسيئات الغضب كثيرة ونتائجه الوخيمة أكثر، ولذلك كان ضبط النفس عند سوراته دليل قدرة محمودة وتماسك كريم . عن ابن مسعود قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذى لا تصرعه الرجال . قال: ولكنة الذى يملك نفسه عند الغضب ". وقال رجل للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أوصيينى ولا تكثر على لعلى لا أنسى ! قال: "لا تغضب" وهذه الإجابة المقتضبة خير ما يرد به على سؤال يصاغ فى هذه العبارة ! وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينصح من جاءوه مسترشدين بما يلائم طباعهم ويوافق بيئتهم، وقد يوجز أو يطنب وفق ما تقضى به الأحوال . والجهلية التى عالج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ محوها كانت تقوم على ضربين من الجهالة، جهالة ضد العلم وأخرى ضد الحلم، فأما الأولى فتقطيع ظلامها يتم بأنواع المعرفة وفنون الإرشاد، وأما الأخرى فكف ظلمها يعتمد على كبح الهوى ومنع الفساد، وقد كان العرب الأولون يفخرون بأنهم يلقون الجهل بجهل أشد . ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فجاء الإسلام يكفكف من هذا النزوان، ويقيم أركان المجتمع على الفضل فإن تعذر فالعدل، ولن تتحقق هذه الغاية إلا إذا هيمن العقل الراشد على غريزة الغضب. وكثير من النصائح التى أسداها الرسول للعرب كانت تتجه إلى هذا الهدف، حتى اعتبرت مظاهر الطيش والتعدى انفلاتا من الإسلام، وانطلاقا من القيود التى ربط بها الجماعة فلا تميد وتضطرب ! "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" . ص _103(1/99)
وقال عبد الله بن مسعود: "ما من مسلمين إلا وبينهما ستر من الله عز وجل، فإذا قال أحدهما لصاحبه كلمة هجر خرق ستر الله " . ووفد أعرابى على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد أن يتعلم الإسلام، ولم تكن له معرفة سابقة بالنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولا بما يدعو قال الأعرابى- واسمه جابر بن سليم- "رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئا إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: رسول الله ! قلت: عليك السلام يا رسول الله ! قال: لا تقل عليك السلام ، "عليك السلام تحية الميت . قل : السلام عليك " !! قال: قلت أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله الذى إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة (جدب) فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك . . قال: قلت: اعهد إلى. قال: لا تسبن أحدا- فما سببت بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة ـ قال : ولا تحقرن شيئا من المعروف . وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، إن ذلك من المعروف .. ثم قال : وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك ، فلا تعيره بما تعلم فيه . فإنما وبال ذلك عليه * * * ومن الناس من لا يسكت عنه الغضب، فهو فى ثورة دائمة، وتغيظ يطبع على وجهه العُبُوس، إذا مسه أحد ارتعش كالمحموم، وأنشأ يُرغى ويزبد ويلعن ويطعن، والإسلام برىء من هذه الخلال الكدرة . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء " . واللعن من خصال السفلة، والذين يستنزلون اللعنات على غيرهم لأتفه الأسباب يتعرضون لبلاء جسيم، بل إن المرء يجب أن يتنزه عن لعن غيره، ولو أصابه منه الأذى الشديد . وكلما ربا الإيمان فى القلب ربت معه السماحة وازداد الحلم، ونفر المرء من طلب الهلاك والغضب للمخطئين فى حقه . ص _104(1/100)
قيل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ادع الله على المشركين والعنهم ! فقال: "إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا " وعلى قدر ما يضبط المسلم نفسه، ويكظم غيظه ويملك قوله، ويتجاوز عن الهفوات، ويرثى للعثرات، تكون منزلته عند الله . ومن ثم استنكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أبى بكر أن يلعن بعض رقيقه وقال: ولا ينبغى لصديق أن يكون لعانا " . وفى رواية: "لا يجتمع أن تكونوا لعانين وصديقين " فأعتق أبو بكر أولئك الرقيق كفارة عما بدر منه لهم، وجاء إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول له : لا أعود !! ذلك أن اللعن قذيفة طائشة خطرة، يدفع إليها الغضب الأعمى أكثر مما يدفع إليها استحقاق العقاب، واستهانة الناس بهذه الدعوات الشداد لا تليق، لأنه لا يفلت من وبالها أحد . فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإن لم تجد مساغا رجعت إلى الذى لعن، فإن كان أهلا.. وإلا رجعت إلى قائلها " . وقد حرم الإسلام المهاترات السفيهة وتبادل السباب بين المتخاصمين . وكم من معارك تبتذل فيها الأعراض وتعدو فيها الشتائم المحرّمة على الحرمات العزيزة، وليس لهذه الآثام الغليظة من علة إلا تسلط الغضب وضياع الأدب . وأوزار هذه المعارك الوضيعة تعود على الموقد الأول لجمرتها، كما جاء فى الحديث: "المُسْتَبَّان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدى المظلوم" . وملاك النجاة من هذه المنازعات الحادة تغليب الحلم على الغضب، وتغليب العفو على العقاب ولا شك أن الإنسان يحزنه أى تهجم على شخصه أو على من يحب، وإذا واتته أسباب الثأر سارع إلى مجازاة السيئة بمثلها، ولا يقر له قرار إلا إذا أدخل من الضيق على غريمه بقدر ما شعر به هو نفسه من ألم . ص _105(1/101)
لكن هناك مسلكا أنبل من ذلك وأرضى لله، وأدل على العظمة والمروءة. أن يبتلع غضبه فلا ينفجر، وأن يقبض يده فلا يقتص، وأن يجعل عفوه عن المسىء من شكر الله الذى أقدره على أن يأخذ بحقه إذا شاء . عن ابن عباس قال: لما قدم عُيينة بن حصن نزل على ابن أخيه الحُرِّ بن قيس، وكان من النفر الذين يُدنيهم عمرو، إذ كان القراء أصحاب مجلس أمير المؤمنين عمر ومشاورته ، كهولا كانوا أو شبانا . فقال عُيينة: يا ابن أخي استأذن لى على أمير المؤمنين، فاستأذن له فلما دخل قال: هيه يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به . فقال الحُرُّ: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول لنبيه: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وإن هذا من الجاهلين: فوالله ما تجاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافا عند كتاب الله وإنما غضب عمر لتطاول الأعرابى وهم بردعه، لأنه لم يدخل عليه ناصحا بخير أو طالبا لحق، وإنما دخل على حاكم فى سلطانه ليشتمه دون مبرر وليسأله عطاء جزلا على غير عمل!! فلما ذكر بأن الرجل من الجهال أعرض عنه وتركه ينصرف سالما. وفى الحديث: "من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخبره فى أى الحور شاء " . وعن عبادة بن الصامت قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك . وتعطى من حرمك ، وتصل من قطعك " . وقد عد القرآن الكريم هذه الشمائل الرقيقة طريق الفلاح التى تسرع بصاحبها إلى الجنات العلا: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) . ص _106(1/102)
ومن قصص العفو التى لا مثيل لها بين الناس، عفو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن زعيم المنافقين عبد الله بن أبى، فإن عبد الله هذا كان عدّوا لدودا للمسلمين يتربص بهم الدوائر، ويحالف عليهم الشيطان ويحيك لهم المؤامرات، ولا يجد فرصة للطعن عليهم والنيل من نبيهم إلا انتهزها، وهو الذى أشاع قاله السوء عن أم المؤمنين عائشة، وجعل المرجفين يتهامسون بالإفك حولها، ويهزٌّون أركان المجتمع الإسلامى هزا بهذا الاتهام الدنىء، وتقاليد الشرق من قديم تجعل عرض المرأة فى الذروة من القداسة، وتربط به كرامتها وكرامة أهلها الأبعدين والأقربين . ولذلك كان حز الألم قاسيا فى نفس الرسول وأصحابه، وكانت الغضاضة من هذا التلفيق الجرىء تملأ نفوسهم كآبة وغما، حتى نزلت الآيات أخر الأمر تكشف مكر المنافقين وتفضح ما اجترحوا وتنوه بطهر أم المؤمنين ونقاء صفحتها : (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امريء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) . ولقد أقيم الحد على من كانوا مخالب القط فى هذه المأساة، أما جرثومة الشر فإنه نجا.. ليستأنف كيده للمسلمين وسوق الأذى لهم ما استطاع !! وكتب الله الفوز لرسوله وجنده واكتسح الإسلام مخلفات القرون المخرفة، وانحصر أعداؤه فى حدود أنفسهم، بل لقد دخلت عليهم من أقطارها وانكمش ابن أبى ثم مرض ومات، بعد ما ملأت رائحة نفاقه كل فج ، وجاء ولده إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلب منه الصفح عن أبيه فصفح ، ثم طلب منه أن يكفن فى قميصه فمنحه إياه ، ثم طلب منه أن يصلى عليه ويستغفر له، فلم يرد له الرسول الرقيق العفو هذا السؤال، بل وقف أمام جثمان الطاعن فى عرضه بالأمس يستدر له المغفرة . لكن العدالة العليا حسمت الأمر كله فنزل قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا(1/103)
يهدي القوم الفاسقين). ص _107
ومما يتصل بحادثة الإفك أن قريبا لأبى بكر كان يعيش على إحسانه لم يتورع عن الخبط فى عرض السيدة التى يكفله أبوها، فنسى بذلك حق الإسلام وحق القرابة وحق الصنيع القديم، مما أحفظ أبا بكر وجعله يحلف أن يترك قريبه هذا، ولا يصله كما كان يصله . فنزل قوله تعالى: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) . فعاد أبو بكر بعطائه الأول قائلا : إنى أحب أن يغفر الله لى . * * * ص _108(1/104)
الجود والكرم
الإسلام دين يقوم على البذل والإنفاق، ويضيع على الشح والإمساك، ولذلك حبب إلى بنيه أن تكون نفوسهم سخية، وأكفهم ندية، ووصاهم بالمسارعة إلى دواعى الإحسان ووجوه البر. وأن يجعلوا تقديم الخير إلى الناس شغلهم الدائم، لا ينفكون عنه فى صباح أو مساء : (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . ومن الواجب على المسلم أن يقتصد فى مطالب نفسه حتى لا تستنفذ ماله كله، فإن عليه أن يشرك غيره فيما آتاه الله من فضله، وأن يجعل فى ثروته متسعا يسعف به المنكوبين ويريح المتعبين . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك ، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى" . وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى حين قرن النهى عن التبذير بأمر الإنفاق على القرابة والمساكين. فإن المبذر متلاف سفيه، يضيع فى شهواته الخاصة زبدة ماله. فماذا يبقى بعدُ للحقوق الواجبة والعون المفروض ؟؟ قال الله تعالى: (وآت ذا القربى حقه و المسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين و كان الشيطان لربه كفورا) . ومضى السياق فى الإيصاء بالمحتاجين وصيانة وجوههم فأمر المسلم أن يُرجيهم الخير، وأن يرد بميسور من القول إذا كان لا يملك إيتاءهم ما يبتغون: (وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا) . ص _109(1/105)
ودعوة الإسلام إلى الجود والإنفاق مستفيضة مطردة، وحربه على الكزازة والبخل موصولة متقدة . وفى الحديث: "السخى قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، بعيد من الجنة ، قريب من النار ، ولجاهل سخى أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل " . إنه لم يوجد فى الدنيا ـ ولن يوجد ـ نظام يستغنى البشر فيه عن التعاون والمواساة، بل لابد لاستتباب السكينة وضمان السعادة من أن يعطف القوى على الضعيف، وأن يرفق المكثر بالمقل، ما دامت طبيعة المجتمع البشرى أن تتجاوز فيه القوة والضعف والإكثار والإقلال ! . ولو كان المال فى وفرته وندرته يتبع ما أوتى الناس من مواهب معنوية لاكتنز البعض الكثير، وعاش البعض على الكفاف فتلك سنن الخليقة التى لا افتعال فيها، وإنما يتسرب الشقاء إلى الناس عندما يحيون متقاطعين لا يعرفون إلا أنفسهم ومطالبها فحسب، مع أن الله عز وجل خلط الناس بعضهم ببعض، وجعل اختلاطهم على اختلاف أحوالهم اختبارا عويصا يمحص به الإيمان ويوزع به الفضل : (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) . ولن تنجح أمة فى هذا المضمار إلا إذا وثقت الصلات بين أبنائها، فلم تبق محروما يقاسى ويلات الفقر، ولن تبق غنيا يحتكر مباهج الغنى . وفى الإسلام شرائع محكمة لتحقيق هذه الأهداف النبيلة، من بينها تنشئة النفوس على فعل الخير وإسداء العون وصنائع المعروف، ونتائج هذه التنشئة السمحة لا يسعد بها الضعاف وحدهم، بل يرتد أمانها واطمئنانها إلى الباذلين أنفسهم ! فتقيهم زلازل الأحقاد وعواقب الأثرة العمياء : (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء) . إن الفقر معرة إذا لصقت بالإنسان أحرجته، وهبطت به دون المكانة التى كتب الله للبشر، وإنها لتوشك أن تحرمه الكرامة التى فضل الله بها الإنسان على سائر الخلق، ص(1/106)
_110
وإنه لعزيز على النفس أن ترى شخصا مشقوق الثياب، تكاد فتوقه تكشف سوءته، أو حافى الأقدام أبلى أديم الأرض كعوبه وأصابعه، أو جوعان يمد عينيه إلى شتى الأطعمة ثم يرده الحرمان وهو حسير . . والذين يرون هذه الصور الفاحشة ثم لا يكترثون بها ليسوا بشرا وليسوا مؤمنين، فبين البشر عامة رحم يجب أن توصل وألا تمزقها الفاقة . وقضية الإيمان أن يرهب المرء ربه فى أمثال أولئك البائسين . ولقد حدث أن رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحد هذه المناظر الحزينة فشق عليه مرآها، فجمع المسلمين ثم خطبهم، فذكرهم بحق الإنسان على الإنسان وخوفهم بالله واليوم الآخر، وما زال بهم حتى جمعوا ما أغنى وستر . عن جرير قال: كنا فى صدر النهار عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فجاءه قوم عراة، مُجتابى النِّمار ـ مشقوقى الملابس ـ عامتهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى بهم من الفاقة ـ تغير وحزن ـ فدخل ثم خرج ، فأمر " بلالا " فأذن وأقام فصلى ، ثم خطب فقال . (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) . ثم قال: ليتصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمر ، حتى قال : ولو بشق تمرة . قال : فجاءه رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل لقد عجزت ثم تتابع الناس ، حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتهلل كأنه مذهبة ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء" . ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء" . ص _111(1/107)
وهذا الكلام البليغ دعوة إلى التنافس فى الخير، والتسابق فى افتتاح مشروعاته النافعة، كقطار الرحمة، ومعونة الشتاء، وأشباه ذلك، وهو تحذير كذلك لأولئك الذين ينشئون التقاليد السمجة ويعقدون بها شئون الجماعة، ويتركون من بعدهم يضطرب فى شرورها ومتاعبها . * * * لكن الإنسان مجبول على حب المال والحرص على اقتنائه، يضرب فى مناكب الأرض وللأثرة فى نفسه إيحاء شديد، أكثر تفكيره فى نفسه وأقله فى الآخرين . لو أنه أوتى ما فى الأرض جميعا، بل لو أنه امتلك خزائن الرحمة العليا لما طوعت له نفسه أن تنفق منها بسعة، ولقامت له من طبيعته الضيقة علل شتى تضع فى يديه الأغلال: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق و كان الإنسان قتورا) . وقد عد الإسلام هذا الشعور من النزعات الخسيسة التى يجب أن تُخاصم بعُنف، وأن تقاوم دسائسها بيقظة ونشاط، وبين أن الفوز بخيرى الدنيا والآخرة لا يحرزه إلا من نجح فى قمع دوافع البخل فى نفسه حتى عودها التكرم والسخاء . (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) . إن الأموال المستخفية فى الخزائن، المختبئ فيها حق المسكين والبائس، شر جسيم على صاحبها فى الدنيا والآخرة، إنها أشبه شىء بالثعابين الكامنة فى جحورها كأنها رصيد الأذى للناس، بل إن الإسلام أبان أنها تتحول فعلا إلى حيات قد أمرقت واحتدفت أنيابها، تطارد صاحبها لتقضم يده التى غلها الشح . " .. . ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يتبعه فاتحا فاه ، فإذا فر منه يناديه ، خذ كنزك الذى خبأت ، فأنا عنه غنى فإذا رأى أنه لابد له منه سلك يده فى فمه ، فيقضمها قضم الفحل " . ص _112(1/108)
وقد أخذ الإسلام يفهم الإنسان بالحسنى والإقناع أن محبته الشديدة لماله قد تورده المتالف، وأنه لو فكر حقيقة ما يملك وفى عاقبته معه لرأى السماحة أفضل من الأثرة، والعطاء خيرا من البخل . "يقول العبد : مالى مالى : وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو أعطى فأقنى . وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس " . وعجيب أن يشقى امرؤ فى جمع ما يتركه لغيره، وإذا لم يستفد المسلم من ماله فيما يصلح معاشه ويحفظ معاده فمم يستفيد بعد ؟ . وقد أماط الرسول اللثام عن هذه الحقيقة فقال: "أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه. قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر " . ومع ذلك، فإن النبى عندما أعلن عن جمع الزكاة تحسس برفق مشاعر الحرص فى الناس وتلطف فى علاجها. فقال: "سيأتيكم ركيب مبغضون ـ يعنى جامعى الزكاة ـ فإذا جاءوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليهم، وأرضوهم فإن تمام زكاتكم، رضاهم وليدعوا لكم " . ونجاح الإنسان فى إزاحة عوائق البخل التى تعترض مشاعر الخير فيه هو فى نظر الإسلام فضيلة كاملة، إذ المعروف أن المرء يشتد أمله فى الحياة، وتتوثق أواصره بها عندما يكون صحيح البدن، طامحا فى المستقبل، يقتصد فى نفقته ويضاعف فى ثروته، ليطمئن إلى غد أرغد له ولذريته، فإذا غالب هذه العوامل كلها وبسط كفه فى ماله، ينفق عن سعة ولا يخشى إقلالا ولا ضياعا، فهو يفعل الخير العظيم . جاء رجل إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يا رسول الله، أى الصدقة أعظم أجرا ؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا ". * * * ص _113(1/109)
والبذل الواسع عن إخلاص ورحمة يغسل الذنوب ويمسح الخطايا : قال الله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) . وقال: (إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم ، عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) . فإذا انزلق المسلم إلى ذنب وشعر بأنه باعد بينه وبين ربه، فإن الطهور الذى يعيد إليه نقاءه ويرد إليه ضياءه ويلفه فى ستار الغفران والرضا، أن يجنح إلى مال عزيز عليه فينخلع عنه للفقراء والمساكين، زلفى يتقرب بها إلى أرحم الراحمين . عن أبى ذر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "تعبد عابد من بنى إسرائيل فعبد الله فى صومعة ستين عاما ، فأمطرت الأرض فاخضرت ، فأشرف الراهب من صومعته ، فقال : لو نزلت فذكرت الله فازددت خيرا !! فنزل ومعه رغيف أو رغيفان ، فبينما هو فى الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها ، ثم أغمى عليه . فنزل الغدير يستحم ، فجاءه سائل ، فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين ، ثم مات .. فوزنت عبادة ستين سنة بتلك الزنية فرجحت الزنية بحسناته ، ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته ، فرجحت حسناته ، فغُفر له . ومن أروع الأمثلة فى بيان ما للعطاء والجود من أثر فى الغفران والنجاة، ما أوحى الله به إلى نبيه يحيى ليعلمه أمته: " . . . وآمركم بالصدقة . ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثَقوا يده إلى عنقه ، وقربوه ليضربوا عنقه ، فجعل يقول : هل لكم أن أفدى نفسى منكم ؟ وجعل يعطى القليل والكثير حتى فدى نفسه " . إن الصدقات التى نبذلها، على اختلاف صنوفها، من زكاة أو هبة أو نفقة أو غير ذلك جليلة الخطر فى معاش الإنسان ومعاده، وهى فى أساسها تضعف أو تقوى صلة ص _114(1/110)
المسلم بدينه، ولن يحرم المرء كبخله فى الحقوق وسوء ظنه بالله. ولن يسبق به كجوده وثقته فى فضل الله . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (صنائع المعروف تقى مصارع السوء ، وصدقة السر تطفئ غضب الرب ، وصلة الرحم تزيد فى العمر) . وقال: "حصنوا أموالكم بالزكاة ، وداووا مرضاكم بالصدقة ، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع " . وما من شيء أشق على الشيطان، وأبطل لكيده، وأقلت لوساوسه من إخراج الصدقات، ولذلك يقذف فى النفوس الوهن حتى يثبطها عن البذل، ويعلقها بالحطام الفانى . (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) . وفى الحديث: "لا يخرج رجل شيئا من الصدقة، حتى يفك عنها لحى سبعين شيطانا، كلهم عنها " . إن الإنسان عندما يقسم راتبه أو دخله على مصارفه ومطالبه يجعل جزءا ـ قل أو كثر ـ للمستهلكات المعدومة، وينظر إليه على أنه مغارم لازمة وقد نبه الإسلام إلى أن المرء قد يسوغ له أن يعد طعامه وشرابه ودواءه فى هذا الجزء المفقود ..! أما ما أنفقه فى سبيل الله فلا... روى عن عائشة أنهم ذبحوا شاة فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما بقى منها؟ قالت ما بقى منها إلا كتفها. قال: بقى كلها إلا كتفها " . وهذا مصداق قوله عز وجل: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) . ويروى الرسول عن ربه هذا الحديث: "يا ابن آدم أفرغ من كنزك وعندى لا حرق، ولا غرق ولا سرق، أوفيكه أحوج ما تكون إليه " . * * * ص _115(1/111)
وقد يسبق الظن إلى أن السخاء ينقص الثروة ويقرب من الفقر، ويسلب الرجل نعمة الطمأنينة فى ظل ماله الممدود، وخيره المشهود، وهذا الظن من وساوس الشيطان التى يلقيها فى نفوس القاترين الأدنياء . والحق أن الكرم طريق السعة، وأن السخاء سبب النماء، وأن الذى يجعل يديه ممرا لعطاء الله يظل مبسوط اليد بالنعمة، مكفول اليوم والغد بالغدق الدائم من رحمة الله وكرمه . وفى الحديث: " ثلاثة أقسم عليهن .. ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها ، إلا زاده الله بها عزا ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر " . فليستمسك الإنسان بعُرا السماحة، وليسارع إلى سداد ما يلقاه من ثغرات، ولينظر إلى المحتاجين الذين يقصدونه نظرته إلى أسباب التجارة الرابحة . إن بذل اليوم القليل فسيرجع غدا أو بعد غد بالكثير .. وقد اعتبر الله العطاء الجميل قرضا حسنا، لا يرده لصاحبه مثلا أو مثلين بل يرده أضعافا مضاعفة، وأغرى العبد بالإنفاق، فكشف له أن نفقته على غيره وسيلة جُلى ليتولى الله الإغداق عليه من خزائنه التى لا يلحقها نفاد . وفى الحديث عن الله تبارك وتعالى: "يا عبدى أنفق أنفق عليك، يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما بيده، وكان عرشة على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع " . وقال عز وجل: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) . إن المنفقين هم ـ على السراء والضراء ـ بعين الله، وفى كنفه، تصلى عليهم الملائكة ويرتقب لهم المزيد، أما الكانزون فلا يتوقع لهم إلا الضياع. وهل يخلدون مع المال أو يخلد معهم المال؟ إن المال عارية انتقل إلينا من غيرنا، وسينتقل منا إلى غيرنا، فلم التشبث به والتفانى فيه؟ إن كل ما يتعلق البشر به من حطام الدنيا سوف يدعونه لوارث السموات والأرض، وسينقلون إلى ربهم عراة، لا مال ولا جاه كما خُلقوا أول مرة، وسيطوقون ما بخلوا(1/112)
به ص _116
يوم القيامة فلا غرو إذا نقم الملأ الأعلى على من ينسى هذه الحقائق، وينطلق فى ربوع الأرض، لا هم له إلا جمع ما يضره، ونسيان ما يفيده . قال رسول الله : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا " . * * * وقد يحرص المرء على المال لأنه يريد ترك أولاده فى ثراء يحميهم تقلب الأيام وأحداث الليالى، وهذا قصد حسن، والمسلم مكلف أن يصون ذريته، وأن يمنع عنهم العيلة، وأن يراهم بمأمن من الحاجة إلى الناس، والإسلام الذى يأمرك أن تحارب الفقر فى بيت الغريب لا يرضى لك أن تجره إلى بيتك . وفى الحديث: ".. لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". لكن كفالة المرء لأولاده وضمانه لمستقبلهم لا يصح أن يتم على حساب دينه وخلقه: وإنها لحماقة أن يضحى الإنسان بنفسه، وبمروءته، وبرضوان الله عليه، ليقتر من كسبه ما يبقيه لعقبه . وقد كشف الإسلام عن أن أولاد المسلم وأمواله كسائر النعم التى تساق إليه ليمتحن فيها، فإن وقف عندها، وذهل عن الواجبات المكتوبة والتضحيات المطلوبة فإن هذه النعم تكون مصدر بلائه، بلا تكون أنكى أعدائه : وهذا تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم) . نعم ! إن قعد الرجل عن الجهاد ليظل قريبا من زوجه، أو نكص عن البذل ليدخر الكثير لولده، فهو مسىء فى شكر النعم التى يسرت له، وقد جعل منها بغبائه نقمة عليه . وعن خولة بنت حكيم قالت: خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم وهو محتضن أحد ابنى بنته ، وهو يقول " إنكم لتبخلون وتجبنون وتجهلون ، وإنكم لمن ريحان الله تعالى " . ص _117(1/113)
فمن استفاد من ولده أن يكون بخيلا جبانا جهولا فقد خسر ومن عرف حقوق الله وعباده قبل كل شيء فقد أفلح . على أن البخل بالحقوق وكنزها للأولاد لا يمحو فقرا ولا يضمن غنى ولا يُقبل من صاحبه يوم القيامة عذر . روى عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " شر الله عبدين ممن أكثر لهما من المال والولد . فقال لأحدهما : أى فلان بن فلان . قال : لبيك رب وسعديك . قال : ألم أكثر لك من المال والولد ؟ قال : بلى أى رب . قال : وكيف صنعت فيما آتيتك ؟ قال : تركته لولدى مخافة العيلة !! قال : أما إنك لو تعلم العلم لضحكت قليلا ولبكيت كثيرا . أما إن الذى تخوفت عليهم قد أنزلت بهم . ويقول للآخر : أى فلان بن فلان ، فيقول : لبيك أى رب وسعديك . قال له : ألم أكثر لك من المال والولد ؟ قال : بلى أى رب : قال : فكيف صنعت فيما آتيتك ؟ قال : أنفقت فى طاعتك ، ووثقت لولدى من بعدى بحسن طولك ! قال : أما إنك لو تعلم العلم لضحكت كثيرا ولبكيت قليلا . أما إن الذى وثقت به قد أنزلت بهم والإسلام يوصى بأن يكرم المرء نفسه ثم أهل بيته ثم ذوى رحمة ثم سائر الناس. ومعنى كرم المرء مع نفسه أن يشبع نهمتها من الحلال فيصدها عن الحرام، وأن يصونها عن مظاهر الفاقة التى تخدش مكانتها فى المجتمع، وتهبط بها دون المستوى الواجب لعزة المسلم، وذلك كله فى نطاق القصد الذى لا إسراف فيه ولا شطط، للمسلم أن يمسك لديه من المال ما يبلغه هذه الأهداف المشروعة، فإذا يجدها فهو فقير. عن أبى سعيد الخدرى: " دخل رجل المسجد بهيئة بذة والنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر بالصدقة فتصدق الناس . فأعطاه النبى ثوبين ثم قال : تصدقوا ، فطرح الرجل أحد ثوبيه . فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أترون إلى هذا الذى رأيته بهيئة بذة فأعطيته ثوبين ؟ ثم قلت : تصدقوا فطرح أحد ثوبيه !! خذ ثوبك !! وانتهره " . ص _118(1/114)
إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد أن يمحو من المجتمع مناظر العُرى والفاقة والبؤس، وقد لا يبالى بعض الناس أن يعيش طاويا عاريا بيد أن أمثال هؤلاء لا ينبغى أن يفرضوا مذهبهم فى الحياة على تعاليم الدين نفسه، فإن الإسلام يوجب أن يملك الإنسان من متاع الحياة ما يرفع رأسه ويحقن وجهه . عن جابر قال : جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهى صدقة ما أملك غيرها! فأعرض عنه ، فأتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك ، فأعرض عنه . فأتاه من قبل ركنه الأيسر فقال مثل ذلك فأعرض عنه ، ثم أتاه من خلفه فقال مثل ذلك ، فأخذها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحذفه بها ، فلو أصابته لأوجعته .. وقال : " يأتى أحدكم بجميع ما يملك فيقول : هذه صدقة ، ثم يقعد يتكفف الناس ، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى * * * وعلى رب البيت أن يتعرف المطالب المعقولة لأهله وولده، وأن ينفق عن سعة فى قضائها، فليس من الدين أن يدع المرء زوجته أو بنيه وبناته فى حال قلقة من الاحتياج والضيق، ثم يضع ماله فى مصرف آخر مهما كان خطره، فروابط الأسرة أولى بالعناية وأحق بالتوثيق من غيرها . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " دينار أنفقته فى سبيل الله ، ودينا أنفقته فى رقبة ، ودينار تصدقت به على أهلك ، أعظمها أجرا الذى أنفقته على أهلك " . ذلك ، وقد مضى فى "الإخلاص" ذكر قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة " . والإسلام بهذا الإرشاد الدقيق يريد أن يرتب النفقات المشروعة الترتيب المثمر الصالح، فإن الأسرة قوام المجتمع الكبير والخلية الحية التى تكون بناءه الضخم، فتوجيه العناية إليها أولا أجدى على الأمة كلها من حرمانها وتحويل حقوقها عنها . ثم إن فى هذا الإرشاد زجرا لطائفة من الناس يجنحون إلى السرف خارج بيوتهم وبين أصدقائهم أو الغرباء عنهم، فإذا خلوا إلى أهلهم(1/115)
كانوا أمثلة سيئة للتقتير والعسف ! * * * ص _119
وأقرباء المسلم أجدر الناس بالإفادة من فضول ماله، ومن حقهم أن ينصرف إليهم أى عطاء تجود به يده، وذلك أو ما يتبادر إلى الفهم السليم، فإنه إذا كان إلى جنب الإنسان محتاج فلا معنى لمجاوزته والذهاب بالخير إلى آخر قصى، بل إن ذلك قد يزرع الضغينة فى قلوب المحرومين، ويشعرهم بأن إهمالهم متعمد للنكاية بهم والإزراء عليهم، فإذا كان هذا التنكيل بذوى القربى ما يقصده المعطى، فإن صدقته ترد عليه وتتحول وبالا . وفى الحديث: "يا أمة محمد والذى بعثنى بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل وله قرابة محتاجون إلى صلته ويصرفها إلى غيرهم، والذى نفسى بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة " . وعن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضى الله عنها قالت: " قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت : فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقلت له : إنك رجل خفيف ذات اليد ، وإن رسول الله قد أمرنا بالصدقة فأته فسله ، فإن كان ذلك يجزى عنى وإلا صرفتها إلى غيركم ، فقال عبد الله : بل ائته أنت !! قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار ، حاجتها حاجتى ، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد ألقيت عليه المهابة ، فخرج علينا بلال ، فقلت له : ائت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك : أتجزى الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام فى حجورهما ولا تخبره من نحن . قالت: فدخل بلال على رسول الله فسأله ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من هما ؟ فقال : امرأة من الأنصار وزينب ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أى الزيانب ؟ قال : امرأة عبد الله بن مسعود ، فقال : لهما أجر القرابة وأجر الصدقة " . وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الصدقة على المسكين صدقة وعلى القريب صدقتان ، صدقة وصلة ص _120(1/116)
الصبر
" والصبر ضياء " .
إذا استحكمت الأزمات وتعقدت حبالها، وترادفت الضوائق وطال ليلها، فالصبر وحده هو الذى يشع للمسلم النور العصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط. والصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم فى دينه ودنياه، ولابد أن يبنى عليها أعماله وآماله وإلا كان هازلا.. يجب أن يوطن نفسه على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النتائج مهما بعدت، ومواجهة الأعباء مهما ثقلت، بقلب لم تعلق به ريبة، وعقل لا تطيش به كُربة، يجب أن يظل موفور الثقة بادى الثبات، لا يرتاع لغيمة تظهر فى الأفق ولو تبعتها أخرى وأخرى، بل يبقى موقنا بأن بوادر الصفو لابد آتية، وأن من الحكمة ارتقابها فى سكون ويقين . وقد أكد الله أن ابتلاء الناس لا محيص عنه، حتى يأخذوا أهبتهم للنوازل المتوقعة، فلا تذهلهم المفاجآت ويضرعوا لها . (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) . وذلك على حد قول الشاعر: عرفنا الليالى قبل ما نزلت بنا فلما دهتنا لم تزدنا بها علما ! ولا شك أن لقاء الأحداث ببصيرة مستنيرة واستعداد كامل أجدى على الإنسان، وأدنى إلى إحكام شئونه. قال تعالى : (وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) . * * * والصبر يعتمد على حقيقتين خطيرتين: أما الأولى فتتعلق بطبيعة الحياة الدنيا، فإن الله لم يجعلها دار جزاء وقرار بل جعلها دار تمحيص وامتحان، والفترة التى يقضيها المرء بها فترة تجارب متصلة الحلقات يخرج من امتحان ليدخل فى امتحان آخر، قد يغاير الأول مغايرة تامة، أى أن الإنسان قد يمتحن بالشيء وضده، مثلما يصهر الحديد فى النار ثم يرمى فى الماء. وهكذا . ص _121(1/117)
وكان سليمان عالما بطبيعة الدنيا عندما رزق التمكين الهائل فيها فقال : (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) . والابتلاء بالأحزان مبهم الأسباب ! ويحسن أن نفهم أن أوضع الناس فى الحياة كجيش عبئ للقتال، وقد تكلف بعض فرقه بالقتال حتى الموت، لإنقاذ فرق أخرى، وإنقاذ الفرق الباقية يكون للقذف بها فى معارك جديدة، ترسمها القيادة حسبما توحى به المصلحة الكبرى، فتقدير فرد ما فى هذه الغمار المائجة لا ينظر إليه، لأن الأمر أوسع مدى من أن يرتبط بكيان فرد معين . كذلك قد يكتب القدر على البعض صنوفا من الابتلاء ربما انتهت بمصارعهم . وليس أمام الفرد إلا أن يستقبل البلاء الوافد بالصبر والتسليم، وما دامت الحياة امتحانا فلنكرس جهودنا للنجاح فيه . وامتحان الحياة ليس كلاما يكتب أو أقوالا توجه، إنه الآلام التى قد تقتحم النفس وتفتح إليها طريقا من الرعب والحرج، إنها النقائض التى تجعل الدنيا تتخم بطون الكلاب، وتنيم صديقين على الطوى، إنها المظالم التى تجعل قوما يدعون الألوهية، وآخرين يستشهدون وهم يدافعون عن حقوقهم المنهوبة . إن تاريخ الحياة من بدء الخلق إلى اليوم مؤسف ! ومن الحق أن يشق المرء طريقه فى الحياة وهو موقن بأنه غاص بالأشواك والأقذاء . وأما الحقيقة الأخرى فتتعلق بطبيعة الإيمان : فالإيمان صلة بين الإنسان وبين الله عز وجل، وإذا كانت صلات الصداقة بين الناس لا يُعتد بها ولا ينوه بشأنها إلا إذا أكدها مر الأيام، وتقلب الليالى، واختلاف الحوادث، فكذلك الإيمان، لابد أن تخضع صلته للابتلاء الذى يمحصها، فإما كشف عن طيبها، وإما كشف عن زيفها . قال الله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). ص _122(1/118)
ولا ريب فى أن علم الله محيط بظواهر الأمور وبواطنها، وأن هذا الامتحان لم يأت بجديد بالنسبة إلى الكشف الإلهى، المستوعب للبدايات والنهايات، غير أن الإنسان لا يُحاسب على ما فى علم الله، بل حسابه على عمله الشخصى، وإذا كان بعض المجرمين سينكرون ما اقترفوا من سيئات، فكيف تقام عليهم الحجة إلا بامتحان تشهده جوارحهم، وتنطبق به أركانهم ؟ قال تعالى في هؤلاء: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ، ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ، انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) . فكيف يُكتفى بحساب هؤلاء على مقتضى العلم الإلهى ؟ إن جزاءهم العدل لا يقضى به عليهم إلا من أعمالهم التى تثبت لهم ولغيرهم فسادهم وسوء صنيعهم . * * * على هاتين الحقيقتين يقوم الصبر، ومن أجلهما يطالب الدين به. بيد أن الإنسان ـ ومن عادته تجاهل الحقائق ـ يدهش للصعاب إذا لاقته، ويتبرم بالآلام إذا مسته، ويقوم له من طبعه الجزوع ما يبغض له الصبر، ويجعله فى حلقه كريه المذاق. فإذا أحرجه أمر، أو صدمته خيبة، أو نزلت به كارثة، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه الأيام مهما امتدت !! وحاول أن يخرج من حالته بأسرع من لمح البصر.. وهى محاولة قلما تنجح، لأنها ضد طبيعة الدين والدنيا، وأولى بالمسلم أن يدرب نفسه على طول الانتظار، قال تعالى: (خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون) . وفى الحديث: "... ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر " . والصبر من معالم العظمة وشارات الكمال، ومن دلائل هيمنة النفس على ما حولها، ولذلك كان " الصبور " من أسماء الله الحسنى، فهو يتمهل ولا يتعجل ص _123(1/119)
ويبطئ بالعقاب إن أسرع الناس بالجريمة، ويرسل أقداره لتعمل عملها على اتساع القرون، لا على ضيق الأعمار، وفى نطاق الزمن الرحب، لا فى حدود الرغبات الفائرة، والمشاعر الثائرة : (و يستعجلونك بالعذاب و لن يخلف الله وعده و إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) . والصبر من عناصر الرجولة الناضجة والبطولة الفارعة، فإن أثقال الحياة لا يطيقها المهازيل. والمرء إذا كان لديه متاع ثقيل يريد نقله، لم يستأجر له أطفالا أو مرضى أو خوارين ؛ إنما ينتقى له ذوى الكواهل الصلبة ؟ والمناكب الشداد !! كذلك الحياة ، لا ينهض برسالتها الكبرى ، ولا ينقلها من طور إلى طور إلا رجال عمالقة وأبطال صابرون . . ومن ثم كان نصيب القادة من العناء والبلاء مكافئا لما أوتوا من مواهب، ولما أدوا من أعمال . سُئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أى الناس أشتد بلاء ؟ قال "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه. وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشى على الأرض ما عليه خطيئة " . فاختلاف أنصبة الناس من الجهد والتبعة والهموم الكبيرة يعود إلى طاقتهم فى التحمل والثبات . وسنة العظمة والاعتداد هى التى أوحت لقائد أمريكى كبير أن يقول: " لا تسأل الله أن يخفف حملك، ولكن اسأل الله أن يقوى ظهرك " إن خفة الحمل: وفراغ اليد، وقلة المبالاة صفات قد يظفر الأطفال منها بقسط كبير لكن مشاغل العيش وهموم الواجب، ومرارة الكفاح، واستدامة السعى، هى أخلاق الجاهدين البنائين فى الحياة والرجل القاعد فى داره لا يصيبه غبار الطريق، والجندى الهارب لا يشوكه سلاح، ولا يروعه زحف . أما الذين أسهموا فى معركة الحياة وخاضوا غمارها، فستغبرهم وعثاؤها، وتنالهم جراحاتها، ويدركهم من النصب والكلال ما يدركهم . ص _124(1/120)
ومن هنا كرم الإسلام المنتصبين لأعراض الدنيا وواسى المتعبين مواساة تطمئن بالهم وتخفف آلامهم . " مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تُفيئها الريح، تصرمها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتيه أجله. ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على أصلها لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة " . فالمؤمن السارب فى الحياة هدف لمشاكلها الجمة، أما العاجز الهارب من الميدان فماذا يصيبه ؟! وذاك سر قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من يرد الله به خيرا، يصب منه " وقوله: " إذا أحب الله قوما ابتلاهم. فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط " فالمتعرض لآلام الحياة، يدافعها وتدافعه، أرفع عند الله درجات من المنهزم القابع بعيدا، لا يخشى شيئا ولا يخشاه شيء . وما ادخره الله لأولئك العانين الصابرين يفوق ما ادخره لضروب العبادات الأخرى من ثواب جزيل : (يود أهل العافية يوم القيامة ، حين يُعطى أهل البلاء الثواب ، لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض) . * * * ومن الغرائب أن بعض الناس فهم أن الإسلام يمجد الآلام لذاتها ويكرم الأوجاع والأوصاب لأنها أهل التكريم والموادة . وهذا خطأ بعيد، فـ عن أنس بن مالك قال: رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيخا يهادى بين ابنيه ، فقال : ما بال هذا ؟ قالوا نذر أن يمشى ! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله عن تعذيب هذا لغنى " وأمره أن يركب . ص _125(1/121)
وعن ابن عباس أن أخت عقبة نذرت الحج ماشية وذكر عقبة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها لا تطيق ذلك، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إن الله لغنى عن مشى أختك ، فتركب ولتهد بدنة". وقال الله عز وجل : (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم) . إنما يحمد الإسلام لأهل البلوى وأصحاب المتاعب رباطة جأشهم وحسن يقينهم، وهو إذ يذكر لهم الأسقام التى يعانونها، أو الضوائق التى يواجهونها، لا يعنيه منها إلا ما تنطوى عليه من امتحان يجب اجتيازه بقوة وتسليم، لا باسترخاء وتسخط على القدر : ورد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل على امرأة مريضة فوجدها تلعن الداء وتسب الحمى، فكره منها هذا المسلك وقال لها مواسيا: " إنها- أى الحمى- تُذهب خطايا بنى آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد " . فهل معنى ذلك أن نربى جراثيم المرض ونهديها إلى من نحب ؟. كذلك يريد بعض الناس أن يفهم .. والجنون فنون ؟. والإنسان فى إبان المعركة قد يمرغ فى التراب، وقد يضطره الحرج إلى اقتحام المذاهب المعنتة، ولكنه فى تقلبه على الخشن من أحوال الحياة لا يزيد من الله إلا قُربا، ما دام وثيق الإيمان، رفيع الرأس . ومن الخلط أن يحسب المسلم تلاحق الأذى عليه آية على نسيان الله له، وإبعاده من رحمته، لكن هذا الفهم ساد بين المسلمين للأسف فى عصور الانحلال والاضمحلال، وقد أسلفنا القول أن مصاعب الحياة تتمشى مع همم الرجال علوا وهبوطا . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " . ص _126(1/122)
فهو نبى تربى فى حجور أنبياء، وتحدر من شجرة عريقة، وهو كريم على الله بالاجتباء والرسالة. فانظر إلى هذا الكريم كيف قضى مراحل حياته الأولى وهو يخرج من ضائقة ليدخل فى أختها. فقد أمه وهو طفل، ثم تآمر عليه إخوته فاختطفوه من أحضان أبيه ورموا به فى البئر، ليلقى فى غيابتها مصيره المجهول. واستنقذه السيارة ليمتلكوه عبدا، ثم يبيعوه فى سوق الرقيق بثمن بخس دراهم معدود. وابتاعه ملك مصر، فما إن آواه فى القصر حتى تعرض للدسائس الماكرة، فاتهم وهو العفيف الحصن، بأنه يبغى السوء. ومع ظهور براءته فقد طرح فى السجن مع الأشقياء لا أياما أو شهورا، بل بضع سنين !! ولو أن شخصا آخر نظر إلى ماضيه فوجده مثقلا بالآلام على هذا النحو لضاق بالأرض وتنكر للسماء، بيد أن يوسف الصديق بقى متألق اليقين وراء جدران السجن يذكر بالله من جهلوه، ويبصر بفضله من جحدوه . (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . وذلك شأن أولى الفضل من الناس، لا يفقدون صفاء دينهم إن فقدوا صفاء دنياهم، ولا يهونون أمام أنفسهم لنكبة حلت بهم.. وإنك لترى شاعرا من الطامحين إلى أمجاد الدنيا يغالب الحرمان بالمغالاة فى تفخيم نفسه فيقول مفتخرا بهمومه : أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن وما رأيناه فى سير الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يؤكد أن عظم المنزلة مع ثقل الأحمال ومعاناة الصعاب . وقد جاء عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ، ابتلاه الله فى جسده أو ماله ، أو فى ولده . ثم صبر على ذلك ، حتى يبلغه المنزلة التى سبقت له من الله عز وجل " . ص _127(1/123)
فكأن تكاثر المصائب إشارة إلى ما يُرشح له المرء من خير، وما يُراد له من كرامة. وكثيرا ما تكون الآلام طهورا يسوقه القدر إلى المؤمنين ليصادر ما يستهوى ألبابهم من متع الدنيا، فلا تطول خدعتهم بها أو ركونهم إليها. ورب ضارة نافعة، وكم من محنة فى طيها منح ورحمات !! * * * والتريث والمصابرة والانتظار خصال تتسق مع سنن الكون القائمة ونظمه الدائمة، فالزرع لا ينبت ساعة البذر، ولا ينضج ساعة النبت، بل لابد من المكث شهورا حتى يجتنى الحصاد المنشود. والجنين يظل فى بطن الحامل شهورا حتى يستوى خلقه، وقد أعلمنا الله عز وجل أنه خلق العالم فى ستة أيام، وما كان ليعجز أن يقيم دعائمه فى طرفة عين أو أقل. وتراخى الأيام والليالى على الناس هو المدى الذى تقتطع منه أعمارهم، وتستبين فيه أحوالهم، وتنضح على لهبه الهادئ طباعهم. ثم ينقلبون بعدُ إلى بارئهم . (كما بدأكم تعودون ، فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) . فالزمن ملابس لكل حركة وسكون فى الوجود، فإذا لم نصابره اكتوينا بنار الجزع، ثم لم نغير شيئا من طبيعة الأشياء التى تسير حتما على قدر . * * * والصبر أنواع : صبر على الطاعة ، وصبر على المعصية ، وصبر على النوازل: فأما الصبر على الطاعة، فأساسه أن أركان الإسلام اللازمة تحتاج فى القيام بها والمداومة عليها إلى تحمل ومعاناة . فالصلاة مثلا فريضة متكررة يقول الله فيها : (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) . ويقول تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) . وعشرة المؤمنين والإبقاء على مودتهم والإغضاء عن هفواتهم، خصال تعتمد على الصبر الجميل : ص _128(1/124)
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) . والتواصى بالصبر قرين التواصى بالحق، وقد أقسم الله عز وجل على أن فلاح البشر منوط بهما : (و العصر ، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر) . والصبر عن المعاصى، هو عنصر المقاومة للمغويات التى بثت فى طريق الناس، وزينت لهم اقتراف المآثم المحظورة . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات " . والإقبال على المكاره والإدبار عن الشهوات لا يتأتى إلا لصبور. والصبر هنا أثر اليقين الحاسم والاتجاه الحازم إلى ما يرضى الله... وهو روح العفاف الذى يحمى المؤمن أوضار الدنايا، ومكر السيئات . (ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين) . وهناك الصبر على ما يصيب المؤمن فى نفسه أو ماله، أو منزلته، أو أهله. وتلك كلها أعراض متوقعة، وهيهات أن تخلو الحياة منها، وإذا لم يصب أحد بسيلها الطام ضربه رشاشها المتناثر . على أن المسلم إذا احتمى بالله ولجأ إليه فلّ حدّ الحوادث، فضعف حرها فى بدنه. وكثيرا ما يكون اليقين البالغ طاغيا على الآلام الحادة طغيان " المغيب " فى العمليات الجراحية الخطيرة، ولن تفارق المؤمن رحمة الله ما دام دينه لا يهى فى الأزمات، ويقينه لا يزيغ لدى الشدائد . (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). ص _1 ص(1/125)
وعن أم العلاء ـ وهى من المبايعات ـ قالت: دعاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا مريضة فقال: " يا أم العلاء، أبشرى فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الحديد والفضة " . وفى الحديث: " إن الله لا يرضى لعبده المؤمن، إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض فصبر بثواب دون الجنة " . وينبغى أن لا يعزب عن البال أن كل شيء نرتبط به ونزعم لأنفسنا حقا فهي، فإن رباط الله به أوثق، وحق الله فيه أسبق. من أقرب للمرء من ولده؟ إن ولد الإنسان آثر شيء لديه، وأحبه إليه. عن طريقه وجد، وفى حجره عاش، وإنه ليرى فيه امتداد نفسه، وقطعة من حسه، فإذا سطا عليه الموت هتف الأب الثاكل: ولدى. ولكن صوت الحق قبل هتاف الحزن يجعلنا نقول: إذا كان الأب فقد ولده، فإن الملك استرد عبده. إن الذى فتح هذه العيون على أنوار الحياة هو الذى أغمضها، والذى نمى هذا البدن بضروب النعماء هو الذى يعيده إلى معدنه الأول.. إلى التراب . إذا قال الوالد: ولدى. قال الموجد: عبدى، أنا ـ قبل غيرى ـ أولى به وأحق. عن القاسم بن محمد قال: " هلكت امرأة لى ، فأتانى محمد بن كعب القرظى يعزينى بها فقال : إنه كان فى بنى إسرائيل رجل فقيه ، عالم عابد مجتهد ، وكانت له امرأة وكان بها معجبا فماتت . فوجد عليها وجدا شديدا حتى دخل فى بيت وأغلق على نفسه واحتجب ، فلم يكن يدخل عليه أحد . فسمعت به امرأة من بنى إسرائيل فجاءته فقالت : عن لى إليه حاجة أستفتيه فيها ، ليس يجزينى إلا أن أشافهه بها ولزمت بابه ! فأخبر بها . فأذن لها . فقالت : أستفتيك فى أمر . قال : وما هو ؟ قالت : إنى استعرت من جارة لى حليا : فكنت ألبسه زمانا ، ثم إنها أرسلت تطلبه ، أفأرده إليها ؟ قال : نعم والله ! قالت : إنه قد مكث عندى زمانا !! فقال : ذاك أحق لردك إياه !! فقالت له : يرحمك الله ، أفتأسف على ما أعارك الله ثم أخذه منك ، وهو أحقق به منك ؟؟ فأبصر ما كان فيه ، ونفعه الله بقولها
ص_130(1/126)
القصد والعفاف
تضمن الإسلام طائفة من الإرشادات المتصلة بحياة المسلمين الخاصة، قصد بها إلى تنظيم شئونهم البدنية والنفسية، ووضعها على أساس كريم. هى آداب تتعلق بمطعم الإنسان وملبسه ومسكنه، وسائر آماله التى يسعى إليها فى هذه الحياة، لا يجنح بها إلى الرهبانية المغرقة ولا إلى المادية الجشعة، فهى تقوم على التوسط والاعتدال ومن ثم، فتنفيذها سهل قريب . إن الإسلام يقرن بين مطالب الجسم والنفس فى تعاليمه، ويكف طغيان أحدهما على الآخر، ويرى فى تنسيق حاجاتهما عونا للمرء على أداء رسالته فى هذه الحياة وما بعدها. والفلسفات التى نبتت فى الأرض، والتى اصطنعها الناس ليحيوا فى نطاقها عندما غابت عنهم هدايات السماء، هذه الفلسفات قلما نجحت فى التوفيق بين ضرورات البدن وأشواق الروح، وبين كفالة الآخرة التى سنصير إليها، ورعاية الدنيا التى بدأنا المسير منها !! إن بعضها يقوم على هدم الجسم زاعما أن الروح لا يحلق فى أوجه إلا إذا أفلت من قيوده، وبعضها الآخر استهدف الملذات ودار فى حدودها المهينة ساخرا بما وراء ذلك. أما الإسلام فلن تجد فيه الرهبانية التى يضيق الناس ذرعا بها، ويتحرجون من صرامتها. كما أنك لن تجد فيه الحيوانية القائمة على عبث الشهوات ومطاوعة الأهواء . وينبغى أن نذكر حقيقة حاسمة فى هذا الشأن، هى أن حياة المؤمن المصدق بالدار الآخرة ليست كحياة الكافر الذى يعتبر عمره فوق ظهر الأرض هو دنياه وآخرته معا، هو فرصته الأولى والأخيرة لقضاء لبناته وإدراك غاياته . وأكثر الذين يفقدون عفتهم ويتبعون ويعيشون للمتع وحدها هم من ذلك الصنف الأخير. أو هم إليه منتهون إن لم يثوبوا إلى رشدهم، ويرجعوا عن غيهم. وفى هؤلاء يقول الله عز وجل: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم). ص _131(1/127)
ويقول : (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) . أما المؤمن فهو يقسم آماله ورغائبه على معاشه ومعاده، ويطلب الخير لنفسه فى يومه وغده، وقد علمنا القرآن الكريم أن التطلع إلى النعمة والسعادة فى كلتا الحياتين هو من أكبر الذكر لله !!! قال الله تعالى : (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) . وقد جاء فى النصح "لقارون" ما يؤكد العمل للحياتين معا، فإن الدنيا وسيلة للآخرة. وصحة الوسيلة ضمان لنجاح المقصد، كما أن انتظام المقدمات مؤد إلى تحصيل النتيجة المطلوبة. ومن ثم تضمن إرشاد الله "لقارون" هذه المعانى كلها : (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) . * * * بناء على ما تمهد من هذه القواعد يوصى الإسلام المرء ألا يكون عبد بطنه، يعيش فى الدنيا ليأكل، ويغدو ويروح وليس له من هم إلا أن يجمع على مائدته ألوان الطعام، فإذا حشد فوقها ما لذ وطاب سُرَّ واطمأن، وإلا تغير وتغيّط وحسب أن القدر يكيد له !! إن الرجال الذين يمعنون فى التشبُّع والامتلاء ويبتكرون فى وسائل الطهى وضروب التلذذ، لا يصلحون لأعمال جليلة، ولا ترشحهم هممهم القاعدة لجهاد أو تضحية. ص _132(1/128)
وقد روى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - :" أكثر الناس شبعا فى الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة". والمعروف أن عددا كبيرا من الأمراض الشديدة والعلل المنهكة ينشأ عن اكتظاظ المعدة بما لا تطيق هضمه.. ولذلك جاء فى الحديث: " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن وتخفف الإنسان من مقادير الأطعمة لا يتم بالتزهد المجرد، أو الامتناع لغير معنى مفهوم. بل الطريق الصحيحة أن يربط الإنسان همته بمطمح كبير ثم ينشغل بتحصيله، فإن هذا يصرفه عن فنون اللهو وأنواع الملذات الرخيصة . حدث أن أضاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا كافرا، فأم له بشاة فحلبت ؛ فشرب حلابها، ثم أخرى، فشرب حلابها، حتى شرب حلاب سبع شياه. ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فشرب حلابها، ثم أخرى فلم يستتمه !! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إن المؤمن ليشرب فى معى واحد، والكافر يشرب فى سبعة أمعاء " . وذلك أن الرجل غلبه التفكير عندما شعر بروعة الانتقال من طور الجاهلية إلى طور النور، وعندما عرف موقفه الجديد من ربه وتكاليف دينه وحساب آخرته، فكان لارتفاع همته إلى تأسيس حياة أرقى مما مضى، أثر بالغ فى عزوفه عن الاستزادة مما قدم له . والحق أن ملذات الطعام وحطام الدنيا أنزل قدرا من أن يتفانى الناس فيها على النحو الشائن الذى نراه فى عصرنا هذا . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه، فانظر إلام يصير " . وفى رواية: " إن الله ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا " . وهذا الكلام قد يخطئ الناظر القاصر فهم دلالته، وقد يحسبه إبعادا للمسلم عن الحياة وحثا له على ترك طيباتها وهجر نعمائها. وشيء من ذلك لا يقصد إليه ص _133(1/129)
الإسلام ؛ فإن تحريم الحلال، كتحليل الحرام، جريمة مُنكرة وحق الله على المسلم ألا يغلب الحرامُ صبره، ولا الحلالُ شكره . أما حقه فى الحياة والاستمتاع بخيرها فلا ريب فيه : (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين) . وقد رأينا كرم أبى الأنبياء إبراهيم مع ضيوفه، فقد بادر بذبح عجل سمين لهم، وقدمه على المائدة دون استفسار أو انتظار : (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين ، فقربه إليهم قال ألا تأكلون) . وكان رسول الله وأصحابه فى حياتهم الخاصة ينزلون عند قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) . وللبدن مطالب، أجمع العقلاء على أن فى انتقاصها إضرارا به . فكل زهد أو تصوف يغض منها فالإسلام بريء منه. والحملات التى شنها الإسلام على المادية إنما تعنى بطنة المترفين وتشتم الممعودين الغارقين فى شهواتهم . * * * والإسلام يوصى بالاعتدال فى ارتداء الملابس، ويكره للرجل أن يباهى بها أو يختال فيها، فهو لا يعتبر حسن البزة من عناصر الرجولة، أو مقومات الخلق العظيم، فرب امرئ لا تساوى ثيابه درهما ترجح نفسه بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رب أشعث أغبر ذى طمرين ، لو أقسم على الله لأبره " . وإنه لمن الحماقة أن يجعل الشاب من جسمه معرض أزياء يسير بها بين الناس، يرتقب نظرات الإعجاب تنهال عليه من هنا ومن هناك. إن هناك فتيانا أغرارا يقضون ص _134(1/130)
الساعات الطوال فى البيوت ليس لهم من عمل إلا استكمال وجاهتهم، والاطمئنان إلى أناقتهم. ولو أنهم كلفوا ببذل هذا الوقت فى التزيد من علم، أو التفقه فى دين لنفروا ونكصوا. إنهم يحسبون اتساق الملابس على أجسامهم شارة الكمال وكفى!! وقد ندد الإسلام بهذا الطيش ونفر المسلمين منه.. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من لبس ثوب شهرة فى الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ، وألهب فيه نارا " والحق أن المفتونين والمفتونات من الرجال والنساء ، لما قلت حظوظهم من آداب النفس ظنوا المغالاة فى اللباس تستر نقصهم ، وهيهات . عن أبى بريدة قال: " دخلت على عائشة رضى الله عنها ، فأخرجت إلينا كساء ملبدا وإزارا مما يصنع اليمن . وأقسمت بالله لقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى هذين الثوبين " . وروى عن جابر قال : " حضرنا عرس على وفاطمة ، فما رأينا عرسا كان أحسن منه . حشونا الفراش - يعنى من الليف - وأتينا بتمر وزبيب فأكلنا وكان فراشها ليلة عرسها إهاب كبش " . إن الاستغناء عن الفضول، والاكتفاء بالضرورات من آيات الاكتمال فى الخلق: ذكر الفتى عمره الثانى وحاجته ما قاته وفضول العيش أشغال ولا يستنتج من هذا أن الذين يحب الملابس الزرية، أو يرحب بالهيئات المستكرهة، أو يندب إلى لبس المرقعات وارتداء الخرق الباليات، كما يفعل جهلة العباد كلا كلا : سأل رجل عبد الله بن عمر: ما ألبس من الثياب؟ قال: ما لا يزدريك فيه السفهاء ، ولا يعيبك به الحكماء ، قال : ما هو - ما ثمنه - قال : ما بين الخمسة دراهم إلى العشرين درهما . وهذا التثمين يلائم عصر ابن عمر، وربما يزيد عليه عصرنا كثيرا . وجاء رجل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب دون، فقال له: "ألكَ مال ؟ قال : نعم ، قال : من أى المال ؟ قال : من كل المال قد أعطانى الله تعالى . ص _135(1/131)
قال: " فإذا أتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته " . وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما على أحدكم ، إن وجد سعة ، أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة غير ثوبى مهنته " . فالإسلام ـ كما رأيت ـ يستحب لأتباعه التجمل وحسن السمت، والفرق كبير بين إنسان يزخرف ظاهره ويهمل باطنه، وينفق خير وقته وماله فى رياش يلصقها بجسمه، وآخر يجعل همه الأكبر فى صيانة حقيقته، واستكمال مروءته، ثم لا ينسى فى زحمة الواجبات ارتداء ما يَجمل به ويلقى الناس به . . إن العالم اليوم يستقبل فى فصول العام المختلفة بدعا فى دنيا الأزياء ليس لها من حصر، فثياب الصيف غير ثياب الخريف، وهذه غير ثياب الشتاء، وتلك غير ثياب الربيع: بل إن أجزاء اليوم الواحد تتطلب أنواعا متميزة من الملابس، فإن ما يليق بالسهرة لا يحسن بالأصيل ! وهذا الشطط السمج يفرضه على المجتمعات فى الشرق والغرب، النساء وعبيد النساء وأشباه النساء !! وهو هوس يبرأ الإسلام منه، وينزه الأتقياء عنه . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ويل للنساء من الأحمرين: الذهب والمعصفرة " . وهذا التهديد لمن يولعن بالحلى، وينشغلن عن الحقوق الجليلة بفنون الألبسة والألوان ! والثابت من تعاليم الإسلام أن الذهب والحرير محرمان على الرجال، ففى الأنسجة الأخرى متسع لهم، وليس من شأن الذكور التحلى والتطرية، أما النساء فإنه، وإن حل لهن الحرير والذهب، فليس يسوغ لهن أن يجعلن التزين والإغراء شغلهن الشاغل الذى يستغرق الأوقات، ويستهلك الثروات . * * * والإسلام لا يأبى أن تقام الحصون بروجا مشيدة، وأن تبنى المدارس والجامعات، والملاجئ والمحاضن والمستشفيات، فتنفق فى بنائها الألوف المؤلفة، وترفع شرفاتها حتى تناطح السحاب، ذلك أن المصالح العامة للأمم باقية على مر الأجيال، ومن ص _136(1/132)
الحق ربطها بهذه الساحات الرحبة والجدر الشامخة، لكن ما معنى أن يشيد رجل فذ لنفسه أو لمتعه قصرا يرسو على الثرى ويذهب فى الفضاء ؟ إن الإسلام يستحب البساطة المطلقة فى تأسيس البيوت وتأثيثها . ويوصى بنبذ التكلف والمبالغة فى هذه النفقات . روى قيس بن حازم قال : أتينا خباب بن الأرت نعوده وقد اكتوى سبع كيات فى بطنه، فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعا إلا التراب !! ولولا أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به!! ثم أتيناه مرة أخرى، وهو يبنى حائطا له، فقال إن المسلم يؤجر فى كل شيء ينفقه، إلا فى شيء يجعله فى هذا التراب . فهذا الصاحب الجليل كان يبنى فعلا، ولكنه لحساسيته الشديدة بوجوب الإنفاق فى سبيل الله حسب أن ما يتكلفه فى البناء من نفقة لا أجر له فيه، وهو لا أجر له فيه بتة رن كان يبنى مفاخرة ومكاثرة، وذهولا عن الآخرة، وتعشقا للدنيا، أما إن كان يبنى ما يقيه ويكفله فإن أجر ما فيه مدخر، والبناء هنا عبادة . وأما الأثاث، فحكم الإسلام فيه حاسم، فقد قطع دابر الترف داخل حجرات البيت، وكره انتشار الطنافس والزخارف فى نواحيه : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: " إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين " . ومن ثم حرم الإسلام أوانى الذهب والفضة ومفارش الحرير والديباج . وبحسب الناس أن تكون أوانيهم من المواد المعهودة، وأن تكون مفارشهم كذلك: عن حذيفة قال: نهى رسول الله أن نشرب فى آنية الذهب والفضة ، وأن نأكل فيها ، وعن لبس الحرير والديباج ، وأن نجلس عليه . ص _137(1/133)
قد يفهم من ذلك أن الخشونة سمة الحياة الإسلامية، ولو صح هذا الفهم فأى عيب فيه؟ على أنه من المستغرب أن تُقرن ليونة العيش باستعمال الحرير والذهب!! إن جماهير البشر يمكنهم أن يحيوا سعداء وادعين، دون أن يتحلوا بذهب أو يرتدوا الحرير . لكن الإسلام يريد أن يجتث جذور الترف من معيشة الفرد ومعيشة الجماعة حتى يسلم للأمم كيانها ويبقى تماسكها وجدير بالأمة المسلمة أن تجعل حياتها جندية لله، وتاريخها جهادا موصولا لإعلاء الحق وحماية دعوته، وظاهر أمرها وباطنه ترفعا عن نتن الدنيا وملاهيها الصغيرة . أما التهالك على الشهوات والتهاوى فى المحرمات فهو فرار من التكاليف ونكوص عن الجد، وتضييع لمعالم الشرف، وتلك خلال إن تسربت إلى أمة وأدتها: روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " سيكون رجال من أمتى يأكلون ألوان الطعام ويشربون ألوان الشراب ، ويلبسون ألوان الثياب ، ويتشدقون فى الكلام ، أولئك شرار أمتى". وإنك لترى مصداق هذا الحديث فى أقوام ورثوا الدين كلاما، واتخذوه لهوا ولعبا، فضاعوا فى الدنيا، وضاعت بينهم حقائق الدين . إن الله نعى على قوم ولعهم باللذائذ وافتتانهم بالمرح واللهو، وانحصارهم فى مطالب الجسد ودنيا الغرائز السفلى، فقال : (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) . وعندما يلقون عقوبتهم يُذكرون بأن ذلك لفقدانهم العفاف والقصد، وانطلاقهم مع الغواية والمجون . ص _138(1/134)
(ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون) . والحق أن كفلا ضخما من تصدع الدولة الإسلامية يرجع إلى ضياع العفة وشيوع الملذات، وقد حذر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته من هذا الانحلال النفسى . فعن أبى برزة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إنما أخشى عليكم شهوات الغى فى بطونكم وفروجكم ، ومضلات الهوى " . إن الإسلام بدأ بين قوم فقراء، يحجزهم الإقلال عن إدراك المباحات فضلا عن التشبع من الطيبات وكانت حالة الشظف التى يعانونها مثار شكواهم . عن أبى هريرة: " رأيت سبعين من أهل الصفة ، ما منهم رجل عليه رداء ، إما إزار وإما كساء ، قد ربطوها فى أعناقهم . فمنها ما يبلغ نصف الساقين ، ومنها ما يبلغ الكعبين ، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته " . والفقر نكبة موجعة، ومن حق الناس أن يتخلصوا من هذا البلاء، والإسلام نفسه يجعل مباهج الدنيا من حق الذين آمنوا. وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخشى أن يكون هناك رد فعل لهذا الحرمان الشديد عندما يسود الإسلام وتنتشر مبادئه، فحذر من الحال الأخرى التى ستحدث بعد وفاته، فبين أنه إن كان فقد الدنيا شرا، فالافتنان بها والتطاحن عليها شر أشد . إن التوسط لب الفضيلة والتوسط هنا أن تملك الحياة لتسخرها فى بلوع المثل العليا، لا أن تملكك الحياة فتسخرك لدناياها، ولا أن تحرم من الحياة أصلا فتقعد ملوما محسورا . وهذا ما عناه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قال: " والله ما الفقر أخشى عليكم. ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم ، كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " . وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة " . ص _139(1/135)
النظافة والتجمل والصحة
على المسلم فى كل ساعة من عمره أن يسعى نحو الكمال، وأن يُحث إلى الارتقاء المادى والنفسى، فإن مستقبله عند الله مرتبط بالمرحلة التى يبلغها فى تقدمه ؛ إن أدركه الموت وهو فى القمة كان من أصحاب الفردوس الأعلى، وإن أدركه وهو مقتصد ينقل خطاه فى السفوح القريبة كان بحسبه أن ينجو. وإن أدركه وقد رجع القهقرى وضل الغاية تخطفت زبانية العذاب الأليم، ومن كان فى هذه أعمى حشر يوم العرض أعمى، ومن كان قذرا بعث كذلك . وقد بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الرجل الحريص على نقاوة بدنه ووضاءة وجهه ونظافة أعضائه يبعث على حاله تلك، وضىء الوجه، أغر الجبين، نقى البدن والأعضاء !! عن أبى هريرة أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ زار المقابر، فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم عن قريب لاحقون. وددت أنا قد رأينا إخواننا ، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابى، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، قالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهرى خيل دهم بهم ، ألا يعرف خيله ؟ قالوا: بلى يا رسول الله ، قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء " . إن صحة الأجسام وجمالها ونضرتها من الأمور التى وجه الإسلام إليها عناية فائقة، واعتبرها من صميم رسالته، ولن يكون الشخص راجحا فى ميزان الإسلام، مُحترم الجانب إلا إذا تعهد جسمه بالتنظيف والتهذيب، وكان فى مطعمه ومشربه وهيئته الخاصة، بعيدا عن الأدران المكدرة والأحوال المنفرة، وليست صحة الجسد وطهارته صلاحا ماديا فقط، بل إن أثرها عميق فى تزكية النفس، وتمكين الإنسان من النهوض بأعباء الحياة. وما أحوج أعباء الحياة إلى الجسم الجلد والبدن القوى الصبور . كرم الإسلام البدن، فجعل طهارته التامة أساسا لابد منه لكل صلاة وجعل الصلاة واجبة خمس مرات فى اليوم، وكلف المسلم أن يغسل جسمه كله(1/136)
غسلا جيدا فى أحيان كثيرة تلابسه غالبا، وتلك هى الطهارة الكاملة، وفى الأحوال ص _140
المعتادة اكتفى بغسل الأعضاء والأطراف التى تتعرض لغبار الجو، ومعالجة شتى الأشغال، أو التى يُكثر الجسم إفرازاته منها: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا) . والطريقة التى شرعها الإسلام لإبقاء الجسم نظيفا فى كل وقت تقوم على ربط الغسل الواجب بأحوال الطبيعة المادية فى الإنسان، فلو كان الإنسان روحا فقط ما احتاج إلى متابعة الغسل والتنقية والتطهير. أما وهو مستقر فى هذا الغلاف المادى المتكون من تربة الأرض، تلك الأرض التى يحيا فوقها، ويتغذى من نباتها وحيوانها، ويترك فضلات معدته فيها، ويثوى آخر الأمر فى ثراها- أما وهو كذلك، فقد ناط الإسلام الوضوء المفروض بأعراض هذه الطبيعة المادية، وبكل ما ينشأ عن دورة الطعام فى الجسم من نُفايات وغازات . ولن يتخذ الإلزام بالتطهر طريقة ألصق وأقوم من هذه التى شرع الإسلام، لأنها تجعل المرء يعاود الغسل والوضوء ولو كان نظيفا، وهى من قبل تنفى عن الأمة المسلمة أى أثر من آثار القذارة والاتساخ . على أن الإسلام لم يدع أمر الغسل الكامل للظروف التى تفرضه فرضا، فقد يتكاسل بعض الناس عن الاغتسال ما دامت دواعى فرضه لم تقم، لذلك وقت للغسل يوما فى كل أسبوع . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " عُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، وسواك ويمس من الطيب " . وفى الحديث:" إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين ، فمن جاء الجمعة فليغتسل". * * * وقد أوجب الإسلام النظافة من الطعام، فبعد أن ندب إلى الوضوء له ت ويكفى فيه غسل الأيدى أمر بأن يتخلص الإنسان من فضلاته وروائحه، وآثاره، وهذا أنقى للمرء وأطيب . ص _141(1/137)
روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " بركة الطعام الوضوء قبلة والوضوء بعدة " . وهذه النظافة المطلوبة يتفاوت الحث عليها باختلاف بقايا الطعام المتخلفة على البدن. فإذا تسربت هذه البقايا فى الأماكن المتوارية كان حقا على المسلم أن يتطهر منها . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تخللوا، فإنه نظافة ! والنظافة تدعو إلى الإيمان، والإيمان مع صاحبه فى الجنة " . وقد اقترنت نظافة الوضوء ونظافة الطعام فى هدى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعن أبى أيوب قال: خرج علينا رسول الله فقال: " حبذا المتخللون من أمتى. قال وما المتخللون يا رسول الله؟ قال: المتخللون فى الوضوء، والمتخللون من الطعام. أما تخليل الوضوء فالمضمضة والاستنشاق وبين الأصابع . وأما تخليل الأسنان فمن الطعام " إنه ليس شيء أشد على الملكين من أن يريا بين أسنان صاحبها وهو قائم يصلى " . وعناين الدين بتطهير الفم، وتجلية الأسنان، وتنقية ما بينها لا نظير لها فى وصايا الصحة القديمة، والحديثة . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " تسوكوا ؛ فإن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب . ما جاءنى جبريل إلا أوصانى بالسواك، حتى لقد خشيت أن يُفرض على وعلى أمتى ". وفى رواية: " لقد أمرت بالسواك حتى ظننت أنه ينزل على فيه قرآن أو وحى " . والذى يلحظ أمراض الفم واللثة من إهمال تطهيرهما يدرك سر مبالغة الإسلام فى ذلك الأسنان بالمواد الحافظة لرونقها وسلامتها، دلكا يزيل ما يعلوها وما يختفى حولها. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لقد أمرت بالسواك حتى خشيت أن أدرد" . أى تسقط أسنانى من شدة الدلك . ص _142(1/138)
والأطعمة ذات الروائح النفاذة والآثار الغليظة كاللحم والسمك وغيرها يجب أن يشتد حذر الإنسان من إهمالها ؟ فإن التنظف منها ضرورة لحفظ الصحة، وضرورة لحفظ الكرامة الخاصة، والآداب العامة : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من بات وفي يده ريح غمر فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه " والغمر زهومة اللحم . وقد وردت آثار تفيد أن الجراثيم إنما تجد مرتعها الخصب فى الأيدى والأفواه القذرة، وأوصت بالتحرر من غوائلها . ومن احترام الإسلام للفرد والمجتمع تحريمه على من أكل ثوما أو بصلا أو فجلا أن يحضر المجتمعات، ذاك أن نتن الأفواه من هذه الأطعمة يؤذى المخاطبين وينفر من أكلها . وقد أسقط الإسلام سنة الجماعة فى المسجد عمن تناول هذه المواد، كما أسقط سنة الجماعة عن الذين أصيبوا بعلل تجعل روائح فمهم أو جسمهم كريهة، وهذا الأدب الكريم صيانة محمودة للمرضى والأصحاء . ويوصى الإسلام بأن يكون المرء حسن المنظر كريم الهيئة، وقد ألحق هذا الخلق بآداب الصلاة . (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) . وكان رسول الله يعلم المسلمين أن يعنوا بهذه الأمور، وأن يلتزموها فى شئونهم الخاصة حتى يبدو المسلم فى سمته وملبسه وهيئته جميلا مقبولا : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من كان له شعر فليكرمه " . وعن أبى قتادة قلت: يا رسول الله إن لى جمة أفأرجلها ؟ قال: " نعم وأكرمها!!" فكان أبو قتادة ربما دهنها فى اليوم مرتين، من أجل قول رسول الله . فتسريح الرأس سنة حسنة وتعطيره كذلك . ص _143(1/139)
وعن عطاء بن يسار قال: أتى رجل للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثائر الرأس واللحية: فأشار إليه الرسول، كأنه يأمره بإصلاح شعره، ففعل ثم رجع، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أليس هذا خيرا من أن يأتى أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان " . وعن جابر بن عبد الله: " رأى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلا رأسه شعث : فقال : " أما وجد هذا ما يسكن به شعره " ورأى آخر عليه ثياب وسخة فقال: " أما يجد هذا ما يغسل به ثوبه ؟! " . إن الأناقة فى غير سرف، والتجمل فى غير صناعة وتزويق، وإحسان "الشكل" بعد إحسان "الموضوع" من تعاليم الإسلام، الذى ينشد لبنيه علو المنزلة وجمال الهيئة . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فقال : إن الله تعالى جميل يحب الجمال " . وفى رواية أن رجلا جميلا. أتى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إنى أحب الجمال، وقد أعطيت منه ما ترى. حتى ما أحب أن يفوقنى أحد بشراك نعل ! أفمن الكبر ذلك يا رسول الله ؟ قال: " لا . ولكن الكبر بطر الحق وغمض الناس " . وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دقيق الملاحظة فى هذه الناحية. فإذا رأى مسلما يهمل تجميل نفسه وتنسيق هيئته نهاه عن الاسترسال فى هذا التبذل، وأمره أن يرتدى ألبسة أفضل . عن جابر بن عبد الله: "نظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى صاحب لنا يرعى ظهرا لنا! وعليه بردان قد أخلقا. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أما له غير هذين؟ فقلت: بلى، له ثوبان فى العبية كسوته إياهما: فقال: ادعه فليلبسهما، فلبسهما، فلما ولى قال رسول الله: ماله؟- ضرب الله عنقه- أليس هذا خيرا؟ فسمعه الرجل، فقال: فى سبيل الله يا رسول الله!! فقال: فى سبيل الله!.. فقتل الرجل فى سبيل الله " . إن هذا الرجل أدرك حقيقة المداعبة الناصحة التى ساقها النبى ـ صلى(1/140)
الله عليه وسلم ـ إليه، فاستفاد منها، ويبدو أنه كان ممن تذهلهم المعايش عن العناية بشئونهم الخاصة ولكن مهما ص _144
تكاثرت الأشغال والمتاعب على الإنسان، فلا ينبغى أن ينسى واجب الالتفات إلى زيه ونظافته واكتماله . وبعض محترفى التدين يحسبون فوضى الملبس واتساخه ضربا من العبادة، وربما تعمدوا ارتداء المرقعات والتزيى بالثياب المهملة ليظهروا زهدهم فى الدنيا وحثهم للأخرى. وهذا من الجهل الفاضح بالدين، والافتراء على تعاليمه . حدثنا ابن عباس قال: لما خرجت الحرورية أتيت عليا رضى الله عنه فقال: ائت هؤلاء القوم: فلبست أحسن ما يكون من حلل اليمن، فلقيتهم فقالوا: مرحبا بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة ؟ قلت: ما تعيبون على ! لقد رأيت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن ما يكون من الحلل " . وعن البراء: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مربوعا، وقد رأيته فى حلة حمراء ما رأيت شيئا أحسن منه قط . وقد امتد هذا التطهير والتجميل من أشخاص المسلمين إلى بيوتهم وطرقهم فإن الإسلام نبه إلى تخلية البيوت من الفضلات والقمامات، حتى لا تكون مباءة للحشرات، ومصدرا للعلل: وكان اليهود يفرطون فى هذا الواجب فحذر المسلمون من التشبه بهم . روى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إن الله تعالى طيب يحب الطيب ، نظيف يجب النظافة ، كريم يجب الكرم ، جواد يحب الجود ، فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود". وإماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان: وقد اعتبر هذا العمل الخفيف الجليل صلاة مرة، وصدقة مرة أخرى . ففى الحديث: "حملك عن الضعيف صلاة ، وإنحاؤك الأذى عن الطريق صلاة". وفى حديث آخر : " . . . بكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة ، ويميط الأذى عن الطريق صدقة " . أى إزالة الأذى من حجر أو شوك أو نجاسة أو ما شابه ذلك . ص _145(1/141)
إن عناية الإسلام بالنظافة والصحة جزء من عنايته بقوة المسلمين المادية والأدبية، فهو يتطلب أجساما تجرى فى عروقها دماء العافية، ويمتلئ أصحابها فتوة ونشاطا، فإن الأجسام المهزولة لا تطيق عبئا، والأيدى المرتعشة لا تقدم خيرا . وللجسم الصحيح أثر، لا فى سلامة التفكير فحسب، بل فى تفاؤل الإنسان مع الحياة والناس.. ورسالة الإسلام أوسع فى أهدافها وأصلب فى كيانها من أن تحيا فى أمة مرهقة، موبوءة عاجزة . ومن أجل ذلك حارب الإسلام المرض، ووضع العوائق أمام جراثيمه حتى لا تنتشر، فينتشر معها الضعف والتراخى والتشاؤم وتستنزف فيها قوى البلاد والشعوب . وقد وفر الإسلام أسباب الوقاية بما شرع من قواعد النظافة الدائمة- على ما رأيت- ثم بما رسم من حياة رتيبة يلتزم المسلم السير عليها ؛ فهو يستيقظ مع الفجر، ويبتعد عن السهر، ويتحامى مزالق الشهوة، ويقتصد فى أطعمته، ويستعف فى معيشته وسيرته، ويجدد نشاطه بالصلوات فى اليوم: والصيام فى كل عام . ولا تنس أن البعد عن المعاصى حصانة كبرى من الأمراض الخبيثة، وإذا وقع أمرؤ فى براثن المرض وجب عليه أن يعالجه حتى ينجو منه. والإسلام يرشد الناس إلى التماس الأدوية الناجعة لما يحيق بهم من آلام : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء". وقال: " إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ، ولا تداووا بحرام " . وقال: " إن لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله " . وحرم الإسلام الالتجاء إلى الخرافات فى طلب الشفاء ؟ فإن لكل علم أهلا يحسنونه، ويجب الاستماع إليهم. أما الدجالون الذين يقحمون أنفسهم فيما لا ينبغى لهم فلا يسوغ لمسلم أن يقصدهم أو يصدق مزاعمهم . عن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " من علق تميمة فلا أتم الله له ، ومن علق ودعة فلا أودع الله له " . ص _146(1/142)
ومع ذلك فإن طب التمائم والودع، والحجب المكتوبة، والتعاويذ المسحورة تلقى بين العامة رواجا ! وقد عدها الإسلام ضربا من الشرك بالله، لأنها بقية من الجاهلية التى كانت تنسب إلى الأوهام ما لا يُعقل . روى عقبة أيضا: أن ركبا من عشرة وفد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبايعه، فبايع ، رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسعة وأمسك عن رجل منهم ! فقالوا: ما شأنه؟ فقال: إن فى عضده تميمة، فقطع الرجل التميمة ، فبايعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثم قال: " من علق فقد أشرك"!. ومن وسائل الوقاية الحكمة التى شرعها الإسلام إيجابه قضاء الحاجة فى أماكن معزولة حتى تذهب الفضلات الحيوانية فى مستقر سحيق، فلا يتلوث بها ماء، ولا يتنجس طريق ولا مجلس ! ولو أن المسلمين، أخذوا أنفسهم بهذا الأدب الجليل لنحوا من غوائل الأدواء التى هدَّت قواهم، وأنهكت قراهم، وجشمتهم العنت الكبير . فعن جابر عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه نهى أن يبال فى الماء الراكد . وعنه أيضا: نهى أن يبال في الماء الجارى . وعن معاذ: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اتقوا الملاعن الثلاث : البراز فى الموارد ، وقارعة الطريق ، والظل " . أى أن هذه الأمور تجلب على فاعلها اللعنة، والشخص الذى يتخلى فى الطريق العامة ساقط المروءة، فهو يأتى فعلا يثير الاشمئزاز، ويستوجب السخط . وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من آذى المسلمين فى طرقهم وجبت عليه لعنتهم " . وفى رواية : " من غسل سخيمته على طريق من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " . وهذه المنهيات كلها أساس انتشار الأمراض المتوطنة لدينا نحن المسلمين، إذ أن العوام استهانوا بها فجرت عليهم الوبال . ص _147(1/143)
وقد وضع الإسلام قواعد الحجر الصحى، فإذا ظهر مرض مُعد فى بلد ما، ضرب حوله حصارا شديدا، فمنع الدخول فيه والخروج منه، وذلك حتى تنكمش رقعة الداء فى أضيق نطاق . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا سمعتم بالطاعون ظهر بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها " . وقد واسى الإسلام سكان البلد الموبوء، وحبب إليهم المكث فيه فإن الرغبة فى النجاة تزين للكثير أن يفر منه خلسة، وتلك الرغبة فى إحراز السلامة الشخصية تعرض البلاد جملة لخطر جارف . ولهذا يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " . . . ما من عبد يكون فى بلد فيه الطاعون ، فيمكث فيه لا يخرج ـ صابرا محتسبا ـ يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له ، إلا كان له مثل أجر شهيد " . وربما حاول بعض المغامرين أن يسافر إلى البلد الموبوء، وقد يحتج بأن الخوف من العدوى ضعف فى اليقين، أو هروب من القضاء المحتوم. وهذا خطأ، فإن عمر بن الخطاب رفض السفر إلى الشام لما ظهر فيها من الطاعون فقيل له: تفر من قدر الله ؟ قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله . إن الأخذ بالأسباب حق، وهو من القدر كما يقول عمر، وقد شرع الإسلام التحرز من العدوى . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يوردن ممرض على مصح " . وقال: " فر من المجذوم فرارك من الأسد " . وإنه، وإن كانت العدوى حقا، إلا أننا يجب أن نعرف أنه ليست كل عدوى تصيب، فقد يحمل الشخص جرثومة المرض ولا يُصاب به، لأن فيه مناعة خاصة، بل قد ينجو منه وينقله إلى غيره !! ولو أن كل عدوى تصيب لهلك أهل الأرض فى يوم واحد، فهناك ـ كما يقول الأطباء ـ ظروف معقدة للإصابة عن طريق العدوى. وهذا معنى الحديث : " لا عدوى.. ". وليس النفى منصبا على إنكار حقيقة العدوى، لأن آخر الحديث يمنع ذلك، وهو قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك مباشرة: ".. وفر من المجزوم فرارك من الأسد" . * * * ص _148(1/144)
الحياء
الحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان! فهو يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه. وعندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغى، أو ترى حُمرة الخجل تصبغ وجهه إذا بدر منه ما لا يليق، فاعلم أنه حى الضمير، نقى المعدن، زكى العنصر، وإذا رأيت الشخص صفيقا بليد الشعور، لا يبالى ما يأخذ أو يترك، فهو امرؤ لا خير فيه، وليس له من الحياء وارع يعصمه عن اقتراف الآثام وارتكاب الدنايا . .
وقد وصى الإسلام أبناءه بالحياء، وجعل هذا الخلق السامى أبرز ما يتميز به الإسلام من فضائل.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لكل دين خلقا، وخلق الإسلام الحياء" .
كانت الصرامة ملحوظة فى تعاليم اليهودية على عهد موسى عليه السلام، وكانت السماحة ملحوظة فى تعاليم المسيحية على عهد عيسى عليه السلام.. وقد تميز الإسلام بالحياء، والأديان كلها تأمر بالفضائل جملة، وتحاسب عليها جملة .
وقد أراد النبى الكريم أن يجعل من حساسية المسلم بما فى الفضيلة من خير، وبما فى الرذيلة من شر أساسا يدفعه إلى الاستمساك بالأولى، والاشمئزاز من الأخرى. حياء من ترك الخير ومن فعل الشر، بغض النظر عن الثواب والعقاب، كما قال ابن القيم:
هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحق حياء العباد من المنعم ؟؟
وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - أرق الناس طبعا، وأنبلهم سيرة، وأعمقهم شعورا بالواجب، ونفورا من الحرام .
عن أبى سعيد الخدرى: " كان رسول الله أشد حياء من العذراء فى خدرها، وكان إذا رأى شيئا يكرهه عرفناه فى وجهه " .
* * *
ص _149(1/145)
إن الإيمان صلة كريمة بين العباد وربهم، ومن حق هذه الصلة، بل أثرها الأول تزكية النفوس، وتقويم الأخلاق، وتهذيب الأعمال. ولن يتم ذلك إلا إذا تأسست فى النفس عاطفة حية، تترفع بها أبدا عن الخطايا، وتستشعر الغضاضة من سفاسف الأمور. أما الإلمام بالمحاقر دون تورع، والوقوع فى الصغائر دون اكتراث، فذلك دلالة فقدان النفس لحيائها، ثم فقدانها لإيمانها : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الحياء والإيمان قرناء جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر". وعلة ذلك أن المرء حينما يفقد حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوى حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل. وقد روى عن رسول الله حديث يكشف عن مراحل هذا السقوط، الذى يبتدئ بضياع الحياء وينتهى بشر العواقب : " إن الله عز وجل إذا أراد أن يُهلك عبدا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا ، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا ، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا ، نزعت منه الرحمة ، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما مُلعنا ، فإذا لم تلقه إلا رجيما مُلعنا نزعت منه ربقة الإسلام " . وهذا ترتيب دقيق فى وصفه لأمراض النفوس وتتبعه لأطوارها، وكيف تُسلم كل مرحلة خبيثة إلى أخرى أشد نكرا، فرن الرجل إذا مزق الحجاب عن وجهه، ولم يتهيب على عمله حسابا، ولم يخش فى سلوكه لومة لائم، مد يد الأذى للناس، وطغى على كل من يقع فى سلطانه، ومثل هذا الشخص الشرس لن يجد قلبا يعطف عليه، بل إنه يغرس الضغائن فى القلوب وينميها . وأى حب لامرئ جرىء على الله وعلى الناس، لا يرده عن الآثام حياء ؟ فإذا صار الشخص بهذه المثابة لم يؤتمن على شيء قط، إذ كيف يؤتمن على أموال لا يخجل من ص _150(1/146)
أكلها أو على أعراض لا يستحى من فضحها، أو على موعد لا يهمه أن يخلفه، أو على واجب لا يبالى أن يفرط فيه، أو على بضاعة لا يتنزه عن الغش فيها ؟. فإذا فقد الشخص حياءه وفقد أمانته أصبح وحشا كاسرا ينطلق معربدا وراء شهواته ويدوس فى سبيلها أزكى العواطف، فهو يغتال أموال الفقراء غير شاعر نحوهم برقة، وينظر إلى آلام المنكوبين والمستضعفين فلا يهتز فؤاده بشفقة. إن أثرته الجامحة وضعت على عينيه غشاوة مظلمة، فهو لا يعرف إلا ما يغويه ويغريه بالمزيد.. ويوم يبلغ امرؤ هذا الحضيض فقد أفلت من قيود الدين وانخلع من ربقة الإسلام . وللحياء مواضع يستحب فيها، فالحياء فى الكلام يتطلب من المسلم أن يطهر فمه من الفحش، وأن ينزه لسانه عن العيب، وأن يخجل من ذكر العورات، فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الحياء من الإيمان والإيمان من الجنة. والبذاء من الجفاء والجفاء فى النار" . ومن الحياء فى الكلام أن يقتصد المسلم فى تحدثه بالمجالس، فإن بعض الناس لا يستحيون من امتلاك ناصية الحديث فى الحافل الجامعة، فيملأون الأفئدة بالضجر من طول ما يتحدثون، وقد كره الإسلام هذا الصنف . قال رسول الله: " من تعلم صرف الكلام ليستبى به قلوب الرجال لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " . وقال: " إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذى يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة " . وسر هذا البغض أن أخبار هؤلاء لا تخلو من التزيد، وأحوالهم لا تخلص من الرياء، واستئثارهم بالمجالس متنفس لعلل خلقية كان الحياء علاجها الشافى لو أنهم استمسكوا به ولذلك جاء فى بعض الآثار أن العى أفضل من هذا الإفصاح، وهو عى اللسان لا عى القلب . ص _151(1/147)
ومن الحياء أن يخجل الإنسان من أن يُؤثر عنه سوء، وأن يحرص على بقاء سمعته نقية من الشوائب، بعيدة عن الإشاعات السيئة . . فإن الغيبة إنما تحرم فيمن سترت حاله، أما من كشف صفحته وأظهر سوءته فإن الناس لن يبلغوا منه ما يبلغ من نفسه، ولذلك أمر رسول الله من لوثته قاذورات المعاصى أن يتوارى عن الأعين . وعندما رآه بعض أصحابه مع زوجته فى ناحية من المسجد استوقفهم ليُنبئهم بأنه ليس مع امرأة غريبة عنه . والفارق واضح بين من يطلب بعمله السمعة، ومن يذود عن سمعته ظنون العباد. واتقاء المسلم للناس لا يعنى النفاق بإبطان القبيح وإظهار الحسن. كلا، بل المراد عدم الجهر بالقبائح والاستحياء من مقارفتها علانية . فإن الرجل الذى يخجل من الظهور برذيلة لا تزال فيه بقية من خير، والرجل الذى يطلب الظهور بالفضيلة لا تزال فيه بقية من شر.. على أن الإنسان ينبغى أن يخجل من نفسه كما يخجل من الناس، فإذا كره أن يروه على نقيصة فليكره أن يرى نفسه على مثلها، إلا إذا حسب نفسه أحقر من أن يُستحى منها. وقد قيل: من عمل فى السر عملا يستحى منه فى العلانية فليس لنفسه عنده قدر. ومن ثم كان لزاما على المسلم أن يبتعد عن الدنايا، ما ظهر منها وما بطن، سواء خلا بنفسه أو برز إلى الناس . وفى الأثر: " ما أحببت أن تسمعه أذناك فأته، وما كرهت أن تسمعه أذناك فاجتنبه". * * * إن الحياء ملاك الخير، وهو عنصر النبل في كل عمل يشوبه، قال رسول الله "ما كان الفحش فى شيء ألا شانه ، وما كان الحياء فى شيء إلا زانه " . فلو تجسم الحياء لكان رمز الصلاح والإصلاح : عن عائشة أن رسول الله قال لها: " لو كان الحياء رجلا لكان رجلا صالحا ، ولو كان الفحش رجلا لكان رجلا سوءا " . ص _152(1/148)
ومن حياء الإنسان مع الناس أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم، وأن يؤتى كل ذى فضل فضله. فللغلام مع من يكبرونه، وللتلميذ مع من يعلمونه مسلك يقوم على التأدب والتقديم ؛ فلا يسوغ أن يرفع فوقهم صوته، ولا أن يجعل أمامهم خطوة: وفى الحديث: " تواضعوا لمن تًعلمون منه " .. وفى الحديث كذلك: " اللهم لا يدركنى زمان لا يتبع فيه العليم ، ولا يستحيا فيه الحليم " . وعن عبد الله بن يسر: لقد سمعت حديثا منذ زمان: " إذا كنت فى قوم فتصفحت وجوههم فلم تر فيهم رجلا يهاب فى الله عز وجل ، فاعلم أن الأمر قد رق !! " . وليس الحياء جبنا، فإن الرجل الخجول قد يفضل أن يريق دمه على أن يريق ماء وجهه، وتلك هى الشجاعة فى أعلى صورها . قد يكون فى الحياء شيء من التخوف، بيد أنه تخوف الرجل الفاضل على مكارمه ومحامده أن تذهب ببهائها الأوضاع المحرجة. وهذا التخوف يقارن الجراءة فى مواطنها المحمودة . فعندما نكص اليهود قديما عن محاربة الجبارين النازلين بالأرض المقدسة (قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) . فهؤلاء الذين يتقون الله ويخافون العار ويستحيون من الفرار، هم الذين لو وقع قتال لقادوا الهجوم وقربوا الفتح !! ولا شك أن الحياء الكامل يسبقه استعداد فطرى ممهد، فإن هناك طبائع تكاد الصفاقة تكون لازمة لها، فى الوقت الذى ترى فيه بعض الناس شديد الخجل مرهف الإحساس إلى حد بعيد. لكن الخجل، مع أنه العنصر البارز فى الحياء، يقع فى الخير والشر، وقد يجر صاحبه إلى ورطات سيئة. أما الحياء فلا يكون إلا فى الحدود المشروعة. فالذى يتهيب تفريع المبطلين لا يعتبر حييا ! إن الحياء لا يكون تجاه الباطل، ولا موضع له مع الناس إذا ضلوا، ولا موضع له فى السلوك عندما يقف المرء ص _153(1/149)
موقفا يناصر فيه الحق.. وقد عاب المشركون على الإسلام أنه حقر الأصنام، وفضح عجزها عن خلق ذبابة، بل عن حماية نفسها لو هاجمتها ذبابة، وقالوا: إنه ليس من الحياء أن تهاجم آلهتهم بهذا الأسلوب.. فنزل قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) . فإبراز الأصنام فى هذه الصورة من العجز والضعة حق: (والله لا يستحيي من الحق) وفى سبيل إحقاق الحق لا يتهيب المسلم أحدا ولا يخشى بأسا . والحياء فى أسمى منازله وأكرمها يكون من الله عز وجل، فنحن نطعم من خيره ونتنفس فى جوه وندرج على أرضه، ونستظل بسمائه. والإنسان بإزاء النعمة الصغيرة من مثله يخزى أن يقدم إلى صاحبها إساءة، فكيف لا يوجل الناس من الإساءة إلى ربهم، الذى تغمرهم آلاؤه من المهد إلى اللحد، والى ما بعد ذلك من خلود طويل ؟ إن حق الله على عباده عظيم، ولو قدروه حق قدره لسارعوا إلى الخيرات يفعلونها من تلقاء أنفسهم، ولباعدوا عن السيئات خجلا من مقابلة الخير المحض، بالجهود والخسة . عن ابن مسعود: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " استحيوا من الله حق الحياء، قلنا: إنا نستحيى من الله يا رسول الله- والحمد لله- قال: ليس ذلك . . الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى.. ومن أراد ترك زينة الحياة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء " . وهذه العظة، ويقال إنها لابن مسعود، تستوعب كثيرا من آداب الإسلام ومناهج الفضيلة، فإن على المسلم تنزيه لسانه أن يخوض فى باطل، وبصره أن يرمُق عورة أو ينظر شهوة، وأذنه أن تسترق سرا أو تستكشف خبئا. وعليه أن يفطم بطنه عن ص _154(1/150)
الحرام، ويقنعه بالطيِّب الميسور. ثم عليه أن يصرف أوقاته فى مرضاة الله، وإيثار ما لديه من ثواب، فلا تستخفه نزوات العيش ومتعة الخادعة . فإن فعل ذلك عن شعور بأن الله يرقبه، ونفور من اقتراف تفريط فى جنب الله فقد استحيا من الله حق الحياء . . والحياء بهذا الشمول هو الدين كله، فإذا أطلق على طائفة من الأعمال الجميلة فهو جزء من الإيمان وأثر له . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ". إن الإنسان فى حضرة الرجال الذين يُجلهم ويحرص على استرضائهم يضبط سلوكه ضبطا محكما، فيتكلم بقدر، ويتصرف بحذر. والمسلم الذى يعرف من تعاليم دينه أنه لا يغيب عن الله أبدا، لأنه ماثل فى حضرته ليلا ونهارا، ينبغى أن يكون تهيبه لجلال الله أعظم، وتأدبه بشرائعه أحكم.. وذلك معنى الأثر "استحيى من الله كما تستحيى من أولى الهيبة من قومك " . أن اهتزاز الإنسان وتمعر وجهه فى بعض المواقف دليل سمو كامن، وطبع كريم، و" الحياء خير كله " . أما إذا سقطت صبغة الحياء عن الوجه، كما تسقط القشرة الخضراء عن العود الغض، فقد آذنت الحياة الفاضلة بالضمور، وتهيأ الحطام الباقى أن يكون حطبا للنار.. وذلك الذى يقال له: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " . * * * ص _155(1/151)
الإخاء ليست هناك دواع معقولة تحمل الناس على أن يعيشوا أشتاتا متنافرين . بل إن الدواعى القائمة على المنطق الحق والعاطفة السليمة تعطف البشر بعضهم على البعض، وتمهد لهم مجتمعا متكافلا تسوده المحبة، ويمتد به الأمان على ظهر الأرض. والله عز وجل رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين، ليجعل من هذه الرحم الماسة ملتقى تتشابك عنده الصلات وتستوثق . (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) . فالتعارف ـ لا التنافر ـ أساس العلائق بين البشر، وقد تطرأ عوائق تمنع هذا التعارف الواجب من المضى فى مجراه، وإمداد الحياة بآثاره الصالحة. وفى زحام البشر على موارد الرزق، وفى اختلافهم على فهم الحق وتحديد الخير قد يثور نزاع، ويقع صدام، بيد أن هذه الأحداث السيئة لا ينبغى أن تنسى الحكمة المنشودة من خلق الناس وتعمير الأرض بجهودهم المتناسقة . وكل رابطة توطد هذا التعارف وتزيح من طريقه العوائق فهى رابطة يجب تدعيمها، والانتفاع بخصائصه، وليس الإسلام رابطة تجمع بين عدد قل أو كثر من الناس فحسب، ولكنه جملة الحقائق التى تقر الأوضاع الصحيحة بين الناس وربهم، ثم بين الناس أجمعين . ومن ثم فأصحاب الإسلام وحملة رسالته يجب أن يستشعروا جلال العقيدة التى شرح الله بها صدورهم، وجمع عليها أمرهم، وأن يولوا التعارف عليها ما هو جدير به من عناية وإعزاز. إنه تعارف يجدد ما درس من قرابة مشتركة بين الخلق، ويؤكد الأبوة المادية المنتهية إلى آدم بأبوة روحية ترجع إلى تعاليم الأديان الملخصة فى رسالة الإسلام، وبذلك يصير الدين الخالص أساس أخوة وثيقة العرى، تؤلف بين أتباعه فى مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل منهم ـ على اختلاف الأمكنة والأزمنة ـ وحدة راسخة سامقة البناء، لا تنال منها العواصف الهوج . وهذه الأخوة هى روح الإيمان الحى، ولباب المشاعر الرقيقة التى يكنها المسلم(1/152)
لإخوانه، حتى أنه ليحيا بهم ويحيا لهم، فكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة، أو زوج واحد حل فى أجسام متعددة . * * * ص _156
إن الأثرة الغالبة آفة الإنسان وغول فضائله، إذا سيطرت نزعتها على امرئ محقت خيره ونمت شره، وحصرته فى نطاق ضيق خسيس لا يعرف فيه إلا شخصه، ولا يهتاج بالفرح أو الحزن إلا لما يمسه من خير أو شر. أما الدنيا العريضة. والألوف المؤلفة من البشر، فهو لا يعرفهم إلا فى حدود ما يصل إليه عن طريقهم ليحقق آماله أو يثير مخاوفه..!! وقد حار الإسلام هذه الأثرة الظالمة بالأخوة العادلة، وأفهم الإنسان أن الحياة ليست له وحده، وأنها لا تصلح به وحده، فليعلم أن هناك أناسا مثله، إن ذكر حقه عليهم ومصلحته عندهم فليذكر حقوقهم عليه ومصالحهم عنده، وتذكر ذلك يخلع المرء من أثرته الصغيرة، ويحمله على الشعور بغيره حين يشعر بنفسه، فلا يتزيد ولا يفتات. من حق أخيك عليك أن تكره مضرته، وأن تبادر إلى دفعها، فإن مسه ما يتأذى به شاركته الألم، وأحسست معه بالحزن. أما أن تكون ميت العاطفة قليل الاكتراث، لأن المصيبة وقعت بعيدا عنك فالأمر لا يعنيك، فهذا تصرف لئيم. وهو مبتوت الصلة بمشاعر الأخوة الغامرة التى تمزج بين نفوس المسلمين فتجعل الرجل يتأوه لألم ينزل بأخيه، مصداق قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " مثل المسلمين فى توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى " . والتألم الحق هو الذى يدفعك دفعا إلى كشف ضوائق إخوانك، فلا تهدأ حتى تزول غمتها وتدبر ظلمتها، فإذا نجحت فى ذلك استنار وجهك واستراح ضميرك : قال رسول الله : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه . من كان فى حاجة أخيه كان الله فى حجته . ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة . ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة " . من علائم الأخوة الكريمة أن تحب النفع لأخيك، وأن تهش(1/153)
لوصوله إليه كما تبتهج بالنفع يصل إليك أنت. فإذا اجتهدت فى تحقيق هذا النفع فقد تقربت إلى الله بأزكى الطاعات وأجزلها مثوبة . عن ابن عباس أنه كان معتكفا في مسجد رسول الله، فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئبا حزينا ، قال : نعم يا ابن عم رسول الله ، لفلان على حق ولاء ، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه !! ص _157
قال ابن عباس : أفلا أكلمه فيك ؟! " قال: إن أحببت: قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من، المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه ؟ قال: لا، ولكنى سمعت صاحب هذا القبر، والعهد به قريب- ودمعت عيناه- يقول من مشى فى حاجة أخيه، وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أبعد مما بين الخافقين " وفى رواية: " كل خندق أبعد مما بين الخافقين " ! وهذا الحديث يصور إعزاز الإسلام لعلائق الإخاء الجميل، وتقديره العالى لضروب الخدمات العامة، التى يحتاج إليها المجتمع لإرساء أركانه وصيانة بنيانه . لقد آثر ابن عباس أن يدع اعتكافه، والاعتكاف عبادة محضة رفيعة الدرجة عند الله لأنها استغراق فى الصلاة والصيام والذكر، ثم هو فى مسجد رسول الله، حيث يضاعف الأجر ألف مرة فوق المساجد الأخرى . ومع ذلك فإن فقه ابن عباس فى الإسلام جعله يدع ذلك ليقدم خدمة إلى مسلم يطلب العون: هكذا تعلم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . * * * إن أعباء الدنيا جسام، والمتاعب تنزل بالناس كما يهطل المطر فيغمر الخصب والجدب. والإنسان وحده أضعف من أن يقف طويلا تجاه هذه الشدائد. ولئن وقف إنه لباذل من الجهد ما كان فى غنى عنه لو أن إخوانه أهرعوا لنجدته وظاهروه فى إنجاح قصده، وقد قيل: " المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه " . ومن حق الأخوة أن يشعر المسلم بأن إخوانه ظهير له فى السراء والضراء وأن قوته لا تتحرك فى الحياة وحدها. بل إن قوى المؤمنين(1/154)
تساندها وتشد أزرها . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " . ومن ثم كانت الأخوة الخالصة نعمة مضاعفة، لا نعمة التجانس الروحى فحسب، بل نعمة التعاون المادى كذلك . ص _158
وقد كرر الله عز وجل ذكر هذه النعمة مرة ومرة فى آية واحدة : (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا). وأخوة الدين تفرض التناصر بين المسلمين، لا تناصر العصبيات العمياء، بل تناصر المؤمنين الصالحين لإخفاق الحق وإبطال الباطل، وردع المعتدى وإجارة المهضوم . فلا يجوز ترك مسلم يكافح وحده فى معترك، بل لابد من الوقوف بجانبه على أى حال لإرشاده إن ضل، وحجزه إن تطاول، والدفاع عنه إن هوجم، والقتال معه إذا استبيح.. وذلك معنى التناصر الذى فرضه الإسلام . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما . قال : انصره مظلوما ، فكيف أنصره ظالما ؟ قال تحجزه عن ظلمه فذلك نصره ! " . إن خذلان المسلم شيء عظيم، وهو ـ إن حدث ـ ذريعة خذلان المسلمين جميعا، إذ سيقضى على خلال الإباء والشهامة بينهم، وسيخنع المظلوم طوعا أو كرها لما وقع به من ضيم.. ثم ينزوى بعيدا وتتقطع عُرى الأخوة بينه وبين من خذلوه . وقد هان المسلمون أفرادا. وهانوا أمما يوم وهت أواصر الأخوة بينهم، ونظر أحدهم إلى الآخر نظرة استغراب وتنكر، وأصبح الأخ يُنتقص أمام أخيه فيهز كتفيه ويمضى لشأنه كأن الأمر لا يعنيه ! إن هذا التخاذل جر على المسلمين الذلة والعار. وقد حاربه الإسلام حربا شعواء، ولعن من يقبعون فى ظلاله الداكنة الزرية : قال رسول الله: " لا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما ، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه " . فإذا رأيت أن إساءة نزلت بأخيك أو مهانة وقعت عليه، فأره من نفسك الاستعداد لمظاهرته. والسير معه حتى ينال بك الحق ويرد الظلم . روى عن النبى ـ صلى الله عليه(1/155)
وسلم ـ : " من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام " . ص _159
وهذا الواجب العظيم يزداد تأكيدا إذا كنت ذا جاه فى المجتمع أو صاحب منصب تحفه الرغبة والرهبة.. إن للجاه زكاة تؤتى كما تؤتى زكاة المال، فإذا رزقك الله سيادة فى الأرض أو تمكينا بين الناس فليس ذلك لتنتفخ بعد انكماش، أو تزدهى بعد تواضع إنما يسر الله لك ذلك ليربط بعنقك حاجات لا تقضى إلا عن طريقك، فإن أنت سهلتها قمت بالحق المفروض، وأحرزت الثواب الموعود، وإلا فقد جحدت النعمة وعرضتها للزوال : روى عن رسول الله : " إن لله عند أقوام نعما أقرها عندهم ما كانوا فى حوائج المسلمين ، ما لم يملوهم ، فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم " . واستخدام المرء جاهه لنفع الناس ومنع أذاهم ينبغى أن يتم فى حدود الإخلاص والنزاهة. فإن فعل أحد ذلك لقاء هدية ينتظرها فقد أجره عند الله، وتأكل بعمله السحت : قال رسول الله: " من شفع شفاعة لأحد ، فأهدى له هدية عليها ، فقبلها ، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الكبائر " . * * * وهناك رذائل حاربها الإسلام لأنها تناقض آداب الأخوة وشرائطها . إن القاعدة التى تسوى بها الصفوف تسوية ترد المتقدم إلى مكانه، وتقدم المتأخر عن أقرانه هى الأخوة. فإذا نشب نزاع أو حدث هرج ومرج طبقت قوانين الإخاء على الكافة ونفذ حكمها : (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) . وقد حذر رسول الله من هذه الرذائل فى حديثه الجليل، وهى رذائل تبدو للنظر القاصر تافهة الخطر، غير أنها لمن تدبر عواقبها تصدع القلوب، وتجفف عواطف الود منها : قال: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث . ولا تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم ص _160(1/156)
الله تعالى .. المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره . بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم . كل المسلم على المسلم حرام . ماله ودمه وعرضه .. إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .. التقوى ها هنا . التقوى ها هنا . التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ، ألا لا يبع بعضكم على بيع بعض . وكونوا عباد الله إخوانا .. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " . فى المجتمع المتحاب بروح الله، الملتقى على شعائر الإسلام، يقوم إخاء العقيدة مقام إخاء النسب، وربما ربت رابطة الإيمان على رابطة الدم . . والحق أن أواصر الأخوة فى الله هى التى جمعت أبناء الإسلام أول مرة، وأقامت دولته، ورفعت رايته، وعليها اعتمد رسول الله فى تأسيس أمة صابرت هجمات الوثنية الحاقدة وسائر الخصوم المتربصين، ثم خرجت بعد صراع طويل وهى رفيعة العماد وطيدة الأركان. على حين ذاب أعداؤها وهلكوا . إن الأمور تذكر بأضدادها، وفى عصرنا هذا يذكرنا تجمع اليهود حول باطلهم وتطلعهم إلى إقامة ملك لهم. ومجيئهم من المشرق والمغرب نافرين إلى الأرض المقدسة، تاركين أوطانهم الأولى وما ضمت من ثروات وذكريات يذكرنا هذا الانبعاث عن عقيدة باطلة بالانبعاث الأغر الذى وقع من أربعة عشر قرنا، حين يمم المسلمون من كل فج شطر "يثرب" وهاجروا من مواطنهم الأولى إلى الوطن الذى اختاروه ليقيموا فيه أول دولة للإسلام . . كانت المدينة التى احتضنت الإسلام ومجدت كلمته تقيم العلاقات بين القاطنين والوافدين على التباذل فى ذات الله، والإيثار عن سماحة رائعة، والمساواة بين الأنساب والأجناس، وتبادل الاحترام والحب، وإشاعة الفضل وتقديس الحق، وإسداء المعروف عن رغبة فيه لا عن تكليف به : قال الله عز وجل : (والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) . ص _161(1/157)
وهذه علائم الإخاء الصحيح، إخاء العقيدة الخالص لوجه الله، لا إخاء المنافع الزائل، ولا إخاء الغايات الدنيا . وكانت تعاليم الإسلام ترعى هذا الإخاء حتى لا يعدو عليه ما يكدره فلا يجوز لمسلم أن يسبب لأخيه قلقا، أو يثير فى نفسه فزعا . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا يحل لمسلم أن يروع مسلما " . وروى عن رسول الله: " من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة " . وما يؤدى إلى إيذاء المسلم أو يقرب من العدوان علية يعتبر جريمة غليظة. فكيف بإيذائه والاعتداء عليه ؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهى ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه " . وبهذه الوصايا كانت الأخوة تأمينا شاملا، بث فى أكناف المجتمع السلام والطمأنينة.. وشد من أزر هذه الأخوة تحريم الإسلام للاستكبار والافتخار، فإن الإخوة الشاعرين بالشركة فى أب واحد والموالاة على دين واحد لن تجعلهم حظوظ الدنيا أعداء.. ولا مكان لافتخار باطل بين قوم يعلمون أن الكرامة للتقوى ! وأن التقوى فى القلوب، وأن القلوب إلى الله ما يدرى سرها أحد ! قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يبغى أحدٌ على أحدٍ ولا يفخر أحد على أحد " . ورهب الإسلام من يلعب بهم الشيطان ويغريهم بالتطاول على إخوانهم طلبا للاستعلاء فى الأرض، فبين أن هؤلاء المتطاولين سوف يتضاءلون يوم القيامة، وعلى قدر ما انتفخوا ينكمشون حتى يصيروا هباء ينضغط فى مواطئ النعال : وفى الحديث: " يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر فى صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان " . ومما يمزق أواصر الأخوة التهكم والازدراء والسخرية من الآخرين. إن هذه الأخلاق تنشأ عن جهالة سادرة، وغفلة شائنة فإن من حق الضعيف أن يُحمل لا أن ينال ص _162(1/158)
منه، ومن حق الحائر أن يُرشد لا أن يُضحك عليه. وإذا وجدت بشخص عاهة أو عرضت له سيئة، فآخر ما يتوقع من المسلم أن يجعل ذلك مثار تندره واستهزائه : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ) . وعن الحسن: " إن المستهزئين بالناس يُفتح لأحدهم فى الآخرة باب من الجنة فيقال له هلم . فيجيء بكربه وغمه ، فإذا جاء أغلق دونه . ثم يفتح له باب آخر فيقال هلم هلم . فيجيء بكربه وغمه ، فإذا جاء أغلق دونه . فما يزال كذلك حتى إن أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة ، فيقال له : هلم .. فما يأتيه من الإياس". ذلك جزاء الساخرين، وهى عقوبة من جنس الذنب المقترف، كأنها توبيخ للمستهزئين وتذكير لهم بما كانوا يعملون . ومما اتخذه الإسلام لصيانة الأخوة العامة، ومحو الفروق المصطنعة، توكيد التكافؤ فى الدم والتساوى فى الحق وإشعار العامة والخاصة بأن التفاخر بالأنساب باطل، لأن أبوة آدم لفت أعقابه كلهم فى شعار فذ، فما يفضل أحد صنوه إلا بميزة يحرزها لنفسه بكده وجده، فمن لا امتياز له بعمل جليل لم ينفعه أسلافه ولو كانوا ملوك الآخرة . عن أبى هريرة. قال رسول الله: " إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادى : ألا إنى جعلت نسبا ، وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم أتقاكم ، فأبيتم إلا أن تقولوا : فلان ابن فلان ، فاليوم أرفع نسبى وأضع نسبكم !! " . وهذا مصداق قوله تعالى : (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) . والغريب أن عادة العرب فى الاستعلاء بالنسب والازدهاء بالأبوة غلبت فى مجتمعهم تعاليم الإسلام، فكان ذلك من أسباب الفتوق الخطيرة فى ماضينا وحاضرنا . . ص _163(1/159)
ومن وسائل الإسلام كذلك فى المحافظة على الإخاء بين بنيه مهما اختلفت أوطانهم وعشائرهم، إماتته للنزعات العنصرية والعصبيات الجنسية . إنه من الطبيعى أن يحب المرء وطنه وقومه. لكن لا يجوز أبدا أن يكون ذلك سببا فى نسيان المرء لربه وخُلقه ومثله : قال رسول الله: " خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم " . وسُئل: ما العصبية ؟ قال: " أن تُعين قومك على الظلم " . إن الأخوة فى الإسلام تعنى الإخلاص له، والسير على سبيله، والعمل بأحكامه وتغليب روحه على الصلات الخاصة والعامة، واستفتاءه فيما يعرض من مشكلات، وغض الطرف عما عدا ذلك من صيحات ودعوات . ص _164(1/160)
الاتحاد
تقوم شرائع الإسلام وآدابه على اعتبار الفرد جزءا لا ينفصم من كيان الأمة، وعضوا موصولا بجسمها لا ينفك عنها، فهو ـ طوعا أو كرها ـ يأخذ نصيبه مما يتوزع على الجسم كله من غذاء ونمو وشعور . . وقد جاء الخطاب الإلهى مُقرا هذا الوضع، فلم يتجه للفرد وحده بالأمر والنهى، إنما تناول الجماعة كلها بالتأديب والإرشاد، ثم من الدرس الذى يلقى على الجميع يستمع الفرد وينتصح. وهكذا أطرد سياق التشريع فى الكتاب والسنة . (يا أيها الذين آمنوا اركعوا و اسجدوا و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون ، وجاهدوا في الله حق جهاده) . فإذا وقف المسلم بين يدى الله ليناجيه ويتضرع إليه لم تجر العبادة على لسانه كعبد منفصل عن إخواته، بل كطرف من مجموع متسق مرتبط يقول: (إياك نعبد وإياك نستعين ) لا : إياك أعبد وإياك أستعين !! ثم يسأل الله من خيره وهداه فلا يختص نفسه بالدعاء، بل يطلب رحمة الله له ولغيره، فيقول (اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ) . إن الله عز وجل لم يخلق الناس لينقسموا ويختلفوا.. لقد شرع لهم دينا واحدا وأرسل أنبياءه تترى ليقودوا الناس كافة فى طريق واحد، وحرم عليهم من الأزل أن يصدعوا الدين، وأن يتفرقوا حوله عزين . بيد أن الشهوات المتنزية تناست هذه الوصية الكريمة، وتنكرت للتراث الإلهى العظيم، فانقسم الناس أحزابا، وصار كل حزب يكيد للآخر ويتربص به . قال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ، فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ، فذرهم في غمرتهم حتى حين) . وبين الله عز وجل أن اتباع الهوى ومتابعة البغى هو سر هذا الافتراق الواسع. ص _165(1/161)
والحق أن العلم عندما ينفصل عن الخلق، ويفارقه الإخلاص يمسى وبالا على أهله وعلى الناس.. وقد كان الناس قبل الدين يضلهم الجهل فى شعابه الحائرة. فلما جاء الدين واستبد به دهاقينه، وتاجروا بعلومه لأنفسهم ومطامعهم تاهت جماهير العامة فى سبل جائرة !. وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعيذ بالله من علم لا ينفع. وقال: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدى منافق عليم اللسان " . أجل، إن القلب الخرب يجعل من العلم سلاحا للفساد. وقد تأذى العالم فى القديم والحديث من هذا العلم المدمر. ونبزنا الله عز وجل أن العلماء بألسنتهم لا بأفئدتهم هم الذين مزقوا شمل البشر : قال جل شأنه: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) ثم قال "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " . وقال " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ". فانظر إلى ضراوة العلم عندما يفقد الإخلاص لله والرفق بالعباد، كيف يثير الفرقة، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل . إن اختلاف الأفهام واشتجار الآراء ليس بمستغرب فى الحياة، ولكن ليس هذا سبب التقاطع والشقاق. إنما يعود سبب الشقاق إلى انضمام عوامل أخرى. تستغل تباين الأنظار والأفكار للتنفيس عن أهواء باطنة . ومن ثم ينقلب البحث عن الحقيقة إلى ضرب من العناد لا صلة له بالعلم البتة . ولو تجردت النيات للبحث عن الحقيقة، وأقبل روادها وهم بعداء عن طلب الغلب، والسمعة، والرياسة، والثراء ؛ لصفيت المنازعات التى ملأت التاريخ بالأكدار والمآسى . وقد لحظنا أن هناك توافه ضخم الخلاف فيها وامتد لأن هذا الخلاف اقترن ابتداء بمنافع سياسية . على حين انكمش الخلاف فى مسائل مهمة، وتُركت وجهات النظر ترسو حيث شاءت، لأن نتائج هذا الخلاف(1/162)
نظرية بحتة ! ص _166
ولما كان هذا الاختلاف المريب مفسدا لدين الله ودنيا الناس اعتبره الإسلام انفصالا عنه وكفرا : قال الله عز وجل: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) . وحذر الله المسلمين من الخلاف فى الدين والتفرق فى فهمه شيعا متناحرة متلاعنة كما فعل الأولون: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) . إن ائتلاف القلوب والمشاعر، واتحاد الغايات والمناهج، من أوضح تعاليم الإسلام، وألزم خلال المسلمين المخلصين.. ولا ريب أن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة، ودوام دولتها، ونجاح رسالتها ولئن كانت كلمة التوحيد باب الإسلام. إن توحيد الكلمة سر البقاء فيه، والإبقاء عليه، والضمان الأول للقاء الله بوجه مشرق وصفحة نقية ..!! إن العمل الواحد فى حقيقته وصورته يختلف أجره اختلاقا كبيرا حين يؤديه الإنسان وحيدا، وحين يؤديه مع آخرين . إن ركعتى الفجر أو ركعات الظهر هى هى لم تزد شيئا عندما يؤثر المرء أداءها فى جماعة عن أدائها فى عزلة. ومع ذلك فقد ضعف الإسلام أجرها بضعا وعشرين مرة أو يزيد عندما يقف الإنسان مع غيره بين يدى الله. وهذا إغراء شديد بالانضواء إلى الجماعة ونبذ العزلة ودفع بالإنسان إلى الانسلاخ من وحدته، والاندماج فى أمته إن الإسلام يكره للمسلم أن ينحصر فى نطاق نفسه وأن يستوحش فى تفكيره وإحساسه، وأن ينأى بمصلحته عن مصلحة الجماعة وحياتها . وفى الحديث: ".. ثلاث لا يُغل عليهن قلب امرئ مُؤمن: إخلاصُ العمل لله : والمناصحة لأئمة المسلمين . ولزوم جماعتهم ، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم " ص _167(1/163)
ولكى يمتزج المسلم بالمجتمع الذي يحيا فيه شرع الله الجماعة للصلوات اليومية ورغب فى حضورها وتكثير الخطا إليها. ثم ألزم أهل القرية الصغيرة والحى الآهل أن يلتقوا كل أسبوع لصلاة الجمعة. ثم دعا إلى اجتماع أكبر فى صلاة العيد جعل مكانه الأرض الفضاء خارج البلد وأمر الرجال والنساء - حتى الحيض - بإتيانه، إتماما للنفع وزيادة فى الخير . ثم أذن إلى حشد أضخم يضم الشتات من المشرق إلى المغرب، ففرض الحج، وجعل له مكانا معلوما وزمانا معلوما، حتى يجعل اللقاء بين أجناس المسلمين أمرا محتوما . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد التحذير من عواقب الاعتزال والفرقة، وكان فى حله وترحاله يوصى بالتجمع والاتحاد . عن سعيد بن المسيب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الشيطان يهم بالواحد والاثنين فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم " . وقد رأى فى سفره أن القافلة عندما تستريح يتفرق أهلها هنا وهناك، كأنما ليس بينهم رباط، فكره هذا المنظر ونفر منه . عن أبى ثعلبة كان الناس إذا نزلوا منزلا تفرقوا فى الشعاب والأودية فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : " إن تفرقكم هذا من الشيطان . فلم ينزلوا بعد إلا انضم بعضهم إلى بعض . حتى يقال : لو بسط عليهم ثوب لعمهم " . وذلك أثر امتزاج المشاعر، وتبادل الحب وانسجام الصفوف . . * * * إن الناس إن لم يجمعهم الحق شعبهم الباطل. وإذا لم توحدهم عبادة الرحمن مزقتهم عبادة الشيطان، وإذا لم يستهوهم نعيم الآخرة تخاصموا على متاع الدنيا.. ولذلك كان التطاحن المر من خصائص الجاهلية المظلمة، وديدن من لا إيمان لهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا ترجعوا بعدى كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض " . يعنى أن هذا العراك الدامى شأن الكافرين المنقسمين على أنفسهم أحزابا متناحرة . ص _168(1/164)
وقد لان الإسلام لاختلاف العقول فى الفهم، ومنح المخطئ أجرا والمصيب أجرين، ثم وسع الجميع فى كنفه الرحب، ما داموا مخلصين فى طلب الحق، حراصا على معرفته والعمل به . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " . فأنت ترى رحمة الله لا ترتبط بنتائج الفكر قدر ارتباطها بصلاح القصد.. فلما يضيق ذرع البشر بما وسعه دين الله ؟ ولما القسوة بينهم والجفاء ! عندما أمر رسول الله المجاهدين الخارجين من المدينة إلا يصلوا العصر إلا فى "بنى قريظة" تأول بعضهم الأمر على أن ذلك ما لم يضع الوقت ! وصلى فى الطريق ! وأمضى الآخرون النص على ظاهره فصلوا العصر فى العتمة . . وقبل الرسول فهم الفريقين ، ثم صفهم بإزاء العدو جيشا واحدا . ذلك روح الإسلام فى علاج الخلاف العلمى. وذلك ما لا محيص عنه عندما تستقيم الضمائر والعقول.. أما يوم يجعل الخلاف مصيدة للدنيا ينصبها العناد والبغض فقد ضاعت الدنيا وضاع قبلها الدين . قيل لأحد الشيوخ: أدرك المصلين فى المسجد، يوشك أن يتقاتلوا، قال: علام ؟ قيل بعضهم يريد أن يصلى التراويح ثمانى ركعات، والبعض يريد صلاتها عشرين. قال: ثم ماذا ؟ قال هم فى انتظار فتواك . قال: الفتوى أن يغلق المسجد فلا تصلى فيه تراويح ألبته، لأنها لا تعدو أن تكون نافلة ووحدة المسلمين فريضة، ولا قامت نافلة تهدم الفريضة !! إن الإخلاص لله والنصح للدين وللعامة، أبعد ما يكون عن الشغب الذى يحدث فى أمثال هذه الشئون. وتمشيا مع تعاليم الإسلام فى وقاية الأمة غوائل الشقاق، أفتى العلماء بأن تغيير المنكر لا يلزم إذا كان سيؤدى إلى مفسدة أعظم، فإن بقاء المنكر ضرر ووقوع هذه المفسدة ضرر أبلغ، فيرتكب أخف الضررين !! ألا ترى الطبيب لا يقدم على جراحة بالجسم إلا إذا رأى الجسم يطيق إجراءها ؟ فإذا رأى فيها خطرا على الحياة توقف ؛ ولو بقيت العلة . ص _169(1/165)
وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبايع الأنصار " على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا " . يعنى أن المرء الصالح ينبغى ألا يكترث لفقدان حظه من الدنيا، فإذا أهمل فى إسناد منصب، أو بخس فى تقدير راتب لم يملأ الآفاق صياحا وشغبا، فإن الغضب للدنيا على هذا النحو الشائن شيمة المنافقين الذين قال الله فيهم : (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) . ولو غلغلت النظر فى كثير من الانقسامات لرأيت حب الدنيا، والأثرة العمياء تكمن وراء هذه الحزازات.. والاتحاد قوة.. وليس ذلك فى شئون الناس فقط إنه قانون من قوانين الكون فالخيط الواهى إذا انضم إليه مثله أضحى حبلا متينا يجر الأثقال. وهذا العالم الكبير ما هو إلا جملة ذرات متحدة ! وقد شرح حكيم لأولاده هذا المعنى عند وفاته ليلقنهم درسا فى الاتحاد، قدم إليهم حزمة من العصى قد اجتمعت عيدانها، فعجزوا عن كسرها، فلما انفك الرباط وتفرقت الأعواد كسرت واحدا واحداً . تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا إن الشقاق يضعف الأمم القوية، ويميت الأم الضعيفة.. ولذلك جعل الله أول عظة للمسلمين ـ بعد ما انتصروا فى معركة "بدر" ـ أن يوحدوا صفوفهم، ويجمعوا أمرهم. لما تطلعت النفوس للغنائم، تشتهى حظها وتتنافس على اقتسامها، نزل قوله تعالى : (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله و الرسول فاتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم و أطيعوا الله و رسوله إن كنتم مؤمنين) . ثم أفهمهم أن الاتحاد فى العمل لله هو طريق النصر المحقق والقوة المرهوبة : (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) . ص _170(1/166)
وحذرهم من أن يسلكوا فى التكالب على الدنيا، والحرص على غثائها مسلك الذين لا يرجون عند الله ثوابا، فقال : (و لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله) . ثم تلقى المسلمون فى "أحد" لطمة موجعة أفقدتهم من رجالهم سبعين بطلا، وردتهم إلى المدينة وهم يعانون الأمرين من خزى الهزيمة وشماتة الكافرين . ولم ذلك ؟ مع أن إيمانهم بالله ودفاعهم عن الحق يرشحانهم للفوز المبين، ذلك لأنهم تنازعوا وانقسموا وعصوا أمر الله ورسوله . (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) . ولو عقل المسلمون أحوالهم فى هذه المرحلة العصيبة من تاريخهم، لأحسوا بأن ما لحقهم من عار يعود إلى انحلال عُراهم وتفرق هواهم . إن الهجوم الصليبى المعاصر، والهجوم الصهيونى الذى جاء فى أذياله.. لم ينجحا فى ضعضعة الدولة الإسلامية وانتهاب خيرها، إلا عقب ما مهدا لذلك بتقسيم المسلمين شيعا منحلة واهنة، ودويلات متدابرة، يثور بينها النزاع وتتسع شقته لغير سبب.. وسياسة الغرب فى احتلال الشرق وتسخيره تقوم على قاعدة " فرق تسد" . إن الإسلام حريص على سلامة أمته وحفظ كيانها، وهو لذلك يطفئ بقوة بوادر الخلاف، ويهيب بالأفراد كافة أن يتكاتفوا على إخراج الأمة من ورطات الشقاق ومصايره السود. " يد الله على الجماعة ومن شذ شذ فى النار " . وأعداء الإسلام يودون أن يضعوا أيديهم على شخص واحد ليكون طرفا ناتئا يستمكنون منه، ويجذبون الأمة كلها عن طريقه ! فلا جرم أنه يستأصل هذا النتوء لينجى الجماعة كلها من أخطار بقائه، ولذلك يقول رسول الله: "ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يُفرق أمر هذه الأمة وهى جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان " . والخروج على إجماع الأمة ـ وهذا عقابه فى الدنيا ـ يدخل بعدئذ فى حدود قوله تعالى:(1/167)
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) . ص _171
ولا يستغربن أحد هذا الوعيد ؟ فإن جرثومة الشقاق لا تولد حتى يولد معها كل ما يهدد عافية الأمة بالانهيار . وفى الناس طبائع سيئة قد تموت وحدها فى ظل الوحدة الكاملة. فإذا نجمت بوادر الفرقة رأيت المتربصين والمنتهزين يلتفون حول أول ثائر، ظاهر أمرهم التجمع حول مبدأ، وباطنه دون ذلك : ولذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة الجاهلية " . وفى حديث آخر: ".. من خرج على أمتى يضرب برها وفاجرها ، لا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفى بعهد ذى عهدها ، فليس منى ولست منه " . * * * من حق الفاضل أن يقدم. ومن حق ذى الكفاية أن تستفيد الأمة منه. على أن الرجل مهما أوتى من فضل وكفاية فلن ينفع نفسه، ولن تنتفع به أمته إذا كان مريضا بحب الرياسة. فطالب الزعامة يفوته توفيق الله، والمرء الذى يفوته توفيق الله مشئوم ولو كان عبقريا . . ومن ثم قرر الإسلام حرمان طلاب الرياسة من المناصب التى يعشقونها : عن أبى موسى: " دخلت على النبى - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بنى عمى ، فقال أحدهما: يا رسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله تعالى ، وقال الآخر مثل ذلك، فقال : إنا - والله - لا نولى هذا العمل أحدا سأله . أو أحدا حرص عليه " . والغريب أن الفتوق الشنعاء التى انهدت لها أركان الإسلام وأمته بدأت وتكررت، وما زالت تبدأ وتتكرر، من الأفراد والأسر المصابة بحب الرياسة . ولو كان هُيامها بالملك والسيادة نتيجة تفوق هائل فى المزايا والملكات ما أعطاها ذلك حق التقدم كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف وهؤلاء المتملكون من حثالات الخلق وأدنئهم خلقا ؟ وصفهم المتنبى قديما فقال : سادات كل أناس من نفوسهمو وسادة المسلمين الأعبد البهم فليحذر كل مسلم هذا الانحراف أين وجده ، يضع فى وحدة أمته لبنة . * * * ص _172(1/168)
اختيار الأصدقاء
للصداقات الخاصة أثر عميق فى توجيه النفس والعقل. ولها نتائج مهمة فيما يصيب الجماعة كلها من تقدم أو تأخر، ومن قلق أو اطمئنان . وقد عُنى الإسلام بهذه الصلات التى تربطك بأشخاص يؤثرون فيك ويتأثرون بك ويقتربون من حياتك اقترابا خطيرا لأمد طويل . إن هذه الصلات إن بدأت ونمت نبيلة خالصة تقبلها الله وباركها، وإن كانت رخيصة مهينة ردها في وجوه أصحابها : (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ، يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) . إن الإسلام ـ كما علمت ـ دين تجمع وألفة، ونزعة التعرف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة فى تعاليمه. وهو لم يقم على الاستيحاش، ولا دعا أبناءه إلى العزلة العامة، والفرار من تكاليف الحياة، ولا رسم رسالة المسلم فى الأرض على أنها انقطاع فى دير، أو عبادة فى صومعة. كلا، كلا. فإن الدرجات العالية لم يُعدها الله عز وجل لأمثال أولئك المنكمشين الضعاف : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " المؤمن الذى يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذى لا يُخالط الناس ولا يصبر على أذاهم " . لمن شرعت الجماعات ؟ وعلى من فرضت الجمعة ؟ ومن الذى يحمل أعباء الجهاد ويعين فى أزماته الكالحة ؟ أن ذلك يستلزم أمة توثقت فيها العلاقات الخاصة والعامة إلى حد بعيد . ولذلك أجاب ابن عباس عندما سُئل مرارا عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولكنه لا يحضرُ الجمعة ولا الجماعات، فقال: خبروه أنه من أهل النار . ذلك أن الإسلام شديد الحرص على أن تكون شعائره العظمى مثابة يلتقى المسلمون عندها ليتعاونوا على أدائها، ويستوحوا من جوها الطهور عواطف الود المصفى، والإخلاص العميق . ص _173(1/169)
وكلما ضخم العدد الذى ينتظم المسلم مع إخوانه تكاثرت عليه بركات الله . في الحديث: ".. صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وكلما كثر فهو أحب إلى الله عز وجل" . وفى رواية أخرى: " صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى . وصلاة أربعة أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى . وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى " . وهذه السنن تشير إلى رغبة الإسلام فى تكثير سواد المسلمين ورؤيتهم حشودا متضاعفة، لا فرادى منقطعين . على أن أمر العزلة والاختلاط وما يتبعه من إنشاء الصلات وتكوين الصداقات يخضع لأحكام شتى . فكل اعتزال عن الأمة يفوت جهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو يضعف من جانب الدفاع عن الإسلام أمام خصومه. فهو جريمة ولا يقبل من صاحبه عذر. والناس بعدئذ طبائع . منهم الذى يهرع إلى المجامع الحافلة، وسرعان ما يتصل بهذا وذاك. ويستأنس بتصفح الوجوه ومحادثة القريب والبعيد، ومنهم من تزج به فى الأحفال المائجة فإذا هو يقيم حول نفسه سورا، يطل منه على الناس بحذر، ويتوارى خلفه إن قصده قاصده . وكلتا الطبيعتين هداها الإسلام نهجها السوى. فيقال للأول: " خالط الناس، ودينك لا تكلمته " . ويقال للآخر: " المؤمن هين لين ألف مألوف " . على أن الإسلام أوجب اعتزال الفتن . فإذا اضطربت البلاد وتهارش أهلها على الدنيا، وانتقضت عرا الفضائل فإن مقاطعة الفساد لون من استنكاره وذلك فى حدود مراتب التغيير التى شرعها الله لخصومة المنكر من تغيير اليد، فاللسان، فالقلب . أى أن اعتزال الفساد لا يقبل ممن يملك تغييره بلسانه فضلا عن يده، والمقاطعة سلاح استخدم فى هذا العصر بحكمة. جربته الأمم المستضعفة مع عدوها القاهر . ص _174(1/170)
ومنزلة المقاطعة من أسلحة الكفاح الأخرى هى منزلة الاعتزال من أساليب الإصلاح الكثيرة. أى أنها مهرب العجزة عندما لا يجدون وسيلة غير الفرار بدينهم. فأما عند كثرة الوسائل التى يمكن بها إطفاء الفتن فالاعتزال، كما بينا، جريمة نكراء. وعلى ضوء هذا البيان تفهم قول رسول الله وقد سُئل: أى الناس أفضل يا رسول ، الله ؟ قال: " مؤمن يجاهد بنفسه وماله فى سبيل الله. قيل ثم من ؟ قال: رجل معتزل فى شعب من الشعاب يعبد ربه " . ثم إن العزلة والاختلاط لا يمكن أن يكونا وصفين دائمين للإنسان. فليقسم المسلم وقته بين الخلوة النافعة والاختلاط الحسن، ليخرج من الحالين بما يصلح شأنه كله . * * * وعلى هذا الأساس نتخير الأصحاب، ونرغب فى الصداقات أو نزهدها.. وأول شرائط الصحبة الكريمة أن تبرأ من الأغراض، وأن تخلص لوجه الحق، وأن تولد وتكبر فى طريق الإيمان والإحسان. وهذا هو معنى الحب لله . إن الإنسان إذا رسخ فى فؤاده اليقين، وخالطت بشاشة الإيمان قلبه، وأحس بحلاوته فى مذاقه أصبح ينظر للأحياء قاطبة على ضوء العقيدة التى تمحض لها. فهو يحب لمبدأ، لا لشهوة، ويكره لمبدأ، لا لحرمان . وقد تتجمع القطعان على مورد عذب أو كدر، وقد يلتقى الناس على دنيا عارضة أو دائمة، وربما تأسست بينهم علاقات متينة، بيد إن هذا الضرب من التعارف والتواد لا يقاس بما ينشأ بين أصحاب المثل العليا من محبة وصفاء، وتعاون وتفان. ولذلك احتفى الإسلام بمشاعر الصداقة النقية ورغب المؤمنين فى إخلاصها لله، وإبقائها لوجهه، وجعل لها من جميل المثوبة ما هى له أهل: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال الله عز وجل: " المتحابون بجلالى فى ظل عرشى ، يوم لا ظل إلا ظلى " وعن عمر بن الخطاب قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن من عباد الله ناسا ، ما هو بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله ، قالوا: يا رسول الله ، فخبرنا : من(1/171)
هم ؟ قال : هم قوم تحابوا بروح الله ، على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها : فوالله إن وجوههم لنور . وإنهم ص _175
لعلى نور . لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس . وقرأ " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " . والحب فى الله لا يزعمه كل أحد، ولا يُصدق من كل دعى. فلابد أن يعرف الإنسان ربه أولا معرفة صحيحة، ثم يغالى بهذه المعرفة حتى ترجح فى نفسه ما عداها. ثم ترقى هذه المعرفة إلى حُب الله ذاته، وإيثار العمل له. وعندئذ يصدق على المرء، إذا أحب أو كره، أنه أحب لله وكره لله . أما أن يعجب المرء بموهبة عظيم أو يستلطف سيرة آخر فيحبه، فذلك لون آخر من الصداقة غير ما نحن بإزائه . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب فى الله ويبغض فى الله ، وأن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحب إليه من أن يشرك بالله شيئا " . ولما كان الحب فى الله خاتمة مراحل تسبقه فى مراقى الإيمان، وكانت ثمرته لا تبدو إلا عند من أنضجتهم حرارة الإخلاص، كان فيض هذا الحب دليل كمال ونقاء، يستحقان أجل الجزاء . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ما من رجلين تحابا فى الله بظهر الغيب إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حبا لصاحبه " . وكلا الأخوين المتحابين فى حماية الله وكنفه. روى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الله عز وجل قال: " قد حقت محبتى للذين يتحابون من أجلى . وقد حقت محبتى للذين يتزاورون من أجلى . وقد حقت محبتى للذين يتباذلون من أجلى . وقد حقت محبتى للذين يتصادقون من أجلى " . * * * وأثر الصديق فى صديقه عميق. ومن ثم كان لزاما على المرء أن ينتقى إخوانه ، وأن يبلو حقائقهم حتى يطمئن إلى معدنها . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم إلى من يخالل " . ص _176(1/172)
فإن كانوا رجالا يعينونه على أداء الواجب وحفظ الحقوق ويحجزونه عن السوء واقتراف الحرام، فهم قرناء الخير، الذين يجب أن يستمسك بهم، ويحرص على مودتهم. وإلا فليحذر الانخداع بمن يزينون له طرق الغواية أو يسترسلون معه فى أسباب اللغو واللهو . إن الصديق العظيم قد يقود صديقه إلى النجاح فى الدنيا والفلاح فى الأخرى. أما الصديق الغبى المفتون فهو شؤم على صاحبه. وكم من غر قرع سن الندم على هذه الصحبة السيئة، لأنها وضعته على شفا جُرُف هار، فانهار به فى نار جهنم . قال تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا) . إن الطبع يسرق من الطبع. وما أسرع أن يسير الإنسان فى الاتجاه الذى يهواه صاحبه، وللعدوى قانونها الذى يسرى فى الأخلاق كما يسرى فى الأجسام. بل إن الروح الذى يسود المجلس قد يكون مصدره من شخص قوى، يغمر من حوله بفيض مما يتفجر من باطنه . وقد شوهد أن عدوى السيئات أشد سريانا وأقوى فتكا من عدوى الحسنات. ففى أحيان كثيرة تنتقل عدوى التدخين من المصاب بها إلى البرىء منها. ويندر أن يقع العكس . وتقديرا لهذه الآثار، وحماية للخُلق الحسن والعادات الكريمة أمر رسول الله بتخير الجليس، فقال: " مثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه . ومثل الجليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه " . فإن كانت تلك حال الجليس الذى قد تجتمع به فى لقاء عابر، فى ساعة يسيرة من ليل أو نهار. فكيف بك مع صاحب العمر الذى يخالطك فى السراء والضراء ؟. إن صداقة الأذكياء الأتقياء قد ترفع إلى القمة. أما صداقة السفهاء البُله فهى منزلق سريع إلى الحضيض . قال تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين ، هذا بصائر للناس وهدى ورحمة(1/173)
لقوم يوقنون) . ص _177
إن الصداقة يجب أن تعتمد على قوة العقائد وسمو الأعمال. وجبر من يستديم المرء عشرتهم، ويستبقى للدنيا والآخرة مودتهم، أولئك الذين عناهم الأثر " من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته " . وإذا نشأت الصداقة لله فلن تبقى إلا بطاعته، ولن تزكو إلا ببعد الصديقين معا عن النفاق والفساد فإذا تسربت المعصية إلى سيرة أحدهما أو سيرتهما، تغيرت القلوب وغاض الحب : وفى الحديث: ".. والذى نفسى بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما " . من أجل ذلك كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجعلون من التواصى بالحق والتعاون على الخير سياجا يحفظ ما بينهم من ود، ويقربهم من غفران الله ورضوانه : عن أبى قلابة قال: " التقى رجلان فى السوق فقال أحدهما للآخر: تعال نستغفر الله فى غفلة الناس! ففعلا، فمات أحدهما. فلقيه الآخر فى النوم. فقال. علمت أن الله غفر لنا عشية التقينا فى السوق " . وعن أنس بن مالك: كان عبد الله بن رواحة إذا لقى الرجل من أصحاب رسول الله قال : تعال نؤمن بربنا ساعة ، فقال ذات يوم لرجل ! فغضب الرجل ، فجاء إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فقال : يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة ؟ فقال النبى : " يرحم الله ابن رواحة . إنه يحب المجالس التى تتباهى بها الملائكة " . * * * وينبغى أن يتعارف الأصدقاء حتى يكون تواصلهم عن بينة، وأن يذكر أحدهم للآخر ما يكنه له من إعزاز وحب : قال رسول الله : " إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبه " . وعن أنس: كان رجل عند النبى ، فمر رجل فقال يا رسول الله إنى أحب هذا . قال : أعلمته ؟ قال : لا . قال : ص _178(1/174)
فأعلمه . فلحقه ، فقال : إنى أحبك فى الله . فقال : أحبك الذى أحببتنى له " . وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا آخى الرجل الرجل فليسأله عن اسمه واسم أبيه وممن هو ؟ فإنه أوصل للمودة " . ولا شك أن لتجانس المزاج والتفكير مدخلا كبيرا فى تأسيس الصداقات وتوثيق الأواصر، وقد قيل: " رب أخ لك لم تلده أمك " . فقد يلتقى المرء فى زحام الحياة بمن يحس سرعة التجاوب معه والانجذاب إليه. وكأنما سبقت المعرفة به من سنين. وهذا مصداق الحديث: " الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " . لكن هذه العاطفة يجب أن يحكمها سلطان العقيدة، ونظامها، هذا السلطان الذى يستوحيه المؤمن فى اتجاهات قلبه كلها، فيجعله يحب فى الله من لم يطالع لهم وجها، لبعد الشقة أو لسبق الزمن. ويكره كذلك من لم يخالطهم فى حضر أو سفر، لا لشيء إلا لأنه يود الأخيار ويكره الأشرار. واتجاهات القلب على هذا النحو الخالص ترفع صاحبها درجات فوق منزلته . عن أبى ذر قلت: " يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل عملهم. قال: أنت يا أبا ذر مع من أحببت " . ومن سنن الإسلام فى الصداقة التزاور. ويجب أن يكون خاليا من كل غرض خالصا لوجه الله . عن أبى هريرة عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أن رجلا زار أخا له فى قرية فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد ؟ قال: أريد أخا لى فى هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربها. قال: لا. غير أنى أحببته فى الله تعالى.. قال: فإنى رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه " . إن هذه الخطوات غالية، إنها كخطا المجاهدين فى سبيل الله تحظى بأجل الثواب . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من عاد مريضا ، أو زار أخا له فى الله ، ناداه مناد : بأن طبت . وطاب ممشاك ، وتبوأت من الجنة منزلا " . ص _179(1/175)
وقال: " ما من عبد أتى أخاه يزوره فى الله إلا ناداه مناد من السماء أن طبت وطابت لك الجنة ، وإلا قال الله فى ملكون عرشه : عبدى زار فى وعلى قراه . فلم يرض له ثواب دون الجنة " . والمسلم، وإن كان يحب النفع للناس كافة، فهو لنفع أصدقائه أحب، ولما يصلهم من خير أفرح. ولا بأس إن وجد فضلا أن يذكر منه أصحابه: (ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير) . وقد استحب رسول الله تبادل الهدايا بين الأصدقاء فقال: " تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدر " . وعن عائشة قالت: " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبل الهدية ويثيب عليها ". على أن هذا الأدب العالى إذا خرج به التكلف عن حدوده أصبح مكروها، فإن الإسلام قام على محاربة التصنع، وإشاعة البساطة، وكل مسلك ينطوى على الإحراج والمداهنة فالإسلام منه برىء. إنما يهدف الإسلام إلى إحاطة الصداقة بألوان من المجاملة التى تحسن مظهرها بعد أن يطمئن إلى سلامة جوهرها، وأن يجعل منها وسيلة لتيسير الحياة وتخفيف متاعبها " خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره " . إن الإسلام أباح للشخص أن يأكل من طعام صديقه كما يأكل من طعام والديه وإخوته والأقربين منه: (أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم) . إلى أن قال: (أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم) . ولا غرو، فعقد الصداقة كبير القيمة جليل الأثر حتى إنه ليكون مظنة النجدة فى الأزمات الطاحنة . ص _180(1/176)
ولو كانت هذه الأزمات النجاة من عذاب جهنم !! قال تعالى فى وصف حال المشركين حين يقاسون العذاب : (تالله إن كنا لفي ضلال مبين ، إذ نسويكم برب العالمين ، وما أضلنا إلا المجرمون ، فما لنا من شافعين ، ولا صديق حميم) . ولما يرتبط بهذه الصداقات من حقوق عظام. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقى " . وقلت : أخ !! قالوا : أخ من قرابة ؟ فقلت لهم : إن الشكول أقارب صديقى فى حزمى وعزمى ومذهبى وإن باعدتنا فى الأصول المناسب ص _181(1/177)
العزة
الكبرياء على العباد صفة رب العباد، الذى خلق فسوى، والذى قدر فهدى، والذى إذا ظهر قهر، وإذا تجلى طاشت لأنوار جلاله ألباب البشر : (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين ، وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) . وذلة العباد لربهم ذلة بالحق لا بالباطل. فإن الخلق والأمر والغنى والملك له وحده. ومصاير العباد رهن مشيئته وطوع إرادته. وهم إنما يكونون فى أزكى أحوالهم ساعة تعنو جباهُهُم لرب العزة فى السجود الخاضع الطويل. عندئذ يعرفون وضعهم ويلزمون حدهم، ويعطون الخالق الكبير حقه الذى لا مرية فيه. ولا عدوان فى تقريره . . أما ذلة العبد لعبد مثله فباطل لا ريب. والمتكبر هنا متطاول مبطل يزعم لنفسه ما ليس لها. والوضيع المستعبد جاهل بقدره، تحمل من الأوزار ما لا يطيق. وقد حرم الإسلام الكبر، وحرم الذل، وأوجب العزة . . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من كان فى قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله لوجهه فى النار " . وقال: " بينما رجل يمشى فى حلة ، تعجبه نفسه ، مرجل رأسه ، يختال فى مشيته إذ خسف الله به ، فهو يتجلجل فى الأرض إلى يوم القيامة " . ذلك أن الكبر وصف الله. ولا ينبغى لبشر أن ينازع الله وصفه المستحق له. وتكبر الناس إنما يعنى جملة من الخصال الخسيسة، فى طليعتها جحد الحق وجهل الواقع، وسوء العشرة، وتجاوز القدر، وتحقير الفضل، إلى غير ذلك . . وقد حرم الإسلام على المسلم أن يهون، أو يستذل، أو يستضعف، ورمى فى قلبه القلق والتبرم بكل وضع يخدش كرامته وجرح مكانته . روى عن أنس بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " من أصبح حزينا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه . ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به فإنما يشكو الله تعالى . ص _182(1/178)
ومن تضعضع لغنى لينال مما فى يديه أسخط الله ، ومن أعطى القرآن فدخل النار ، فأبعده الله " . وفى رواية: " من جلس إلى غنى فتضعضع له ، لدنيا تصيبه ، ذهب ثلثا دينه ، ودخل النار " . وهذا الحديث يستنكر الضراعة التى تظهر على بعض الناس حين يؤزمون، فيكون ما فقدوا من حطام، ويصيحون بالخلق طالبين النجدة، ويتمرغون فى تراب الأغنياء انتظار عرض يفرضونه لهم أو يقرضونه إياهم . والتألم من الحرمان ليس ضعة، ولكن تحول الحرمان إلى هوان هو الذى يستنكره الإسلام. فقد مضت سنة الرجولة من قديم أن يتحامل الجريح على نفسه حتى يشفى فيستأنف المسير بعزم، لا أن يخور، ثم يتحول إلى كسيح، ثم ينتظر الحاملين. وفى معنى الحديث يقول الشاعر : إني لأستغني فما أبطر الغنى وأعرض ميسورى على مبتغى قرضى وأعسر أحيانا فتشتد عسرتى وأدرك ميسور الغنى ومعى عرضى وما نالها- حتى تجلت وأسفرت أخو ثقة منى بقرض ولا فرضى يعنى أنه يتماسك على ما به من ضائقة حتى تنجلى، دون أن يذل بها لأحد ولو كان أخا ثقة !! وفى الحديث: " من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا " . والإسلام يدع المؤمن مستقرا فى المكان الذى يُنبت العز ويهب الحرية الكاملة، ويجب على المؤمن أن يوفر هذه المعانى فى بيئته، فإن استحال عليه ذلك ليتحول عن دار الهوان ولينشد الكرامة فى أى مكان . وفى ذلك يقول الله عز وجل: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) . وقد عذر الله العجزة من الرجال الذين يفقدون القدرة على الانتقال ولا يجدون وسيلة للنجاة، وضم إليهم النساء والأطفال فقال: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) ص _183(1/179)
وهذا التعبير يشعر بكراهية الإسلام لاحتمال الهوان، ويستنهض الهمم حتى تبذل الجهد كله فى التخلص منه . إن اعتزاز المسلم بنفسه ودينه وربه هو كبرياء إيمانه، وكبرياء الإيمان غير كبرياء الطغيان، إنها أنفة المؤمن أن يصغر لسلطان، أو يتضع فى مكان، أو يكون ذنبا لإنسان. هى كبرياء فيها من التمرد بقدر ما فيها من الاستكانة، وفيها من التعالى بقدر ما فيها من التضامن: فيها الترفع على مغريات الأرض ومزاعم الناس وأباطيل الحياة، وفيها الانخفاض إلى خدمة المسلمين والتبسط معهم، واحترام الحق الذى يجمعه بهم، فيها إتيان البيوت من أبوابها، وطلاب العظمة من أصدق سبلها. (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) . * * * العزة والإباء والكرامة من أبرز الخلال التى نادى الإسلام بها، وغرسها فى أنحاء المجتمع وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسن من تعاليم، وإليها يشير عمر بن الخطاب بقوله: أحب من الرجل إذا سيم خطة خسف أن يقول بملء فيه: لا. علام يصيح المؤذن خمس مرات كل يوم مناديا بتكبير الله وحده فى بداية الأذان ونهايته ؟ ولماذا يتكرر هذا التكبير فيكتنف حركات الصلاة كلها من قيام وقعود ؟ ذلك لكيما يوقن المسلم يقينا لا يهتز ولا يزيغ، أن كل متكبر بعد الله فهو صغير، وإن كل متعاظم بعد الله فهو حقير، فكأنما وكل إلى هذا النداء أن يرد الناس إلى الصواب كلما أطاشتهم الدنيا، وضللتهم متاهاتها الطامسة . وتوكيدا لهذه المعانى اختار الله عر وجل اسمى العظيم والأعلى من أسمائه الحسنى ليكررها المسلم فى أثناء ركوعه وسجوده، فتشرب روحه إفراد رب العالمين بالعظمة والعلو .. ص _184(1/180)
والعزة حق يقابله واجب، وليس يسوغ لامرئ أن يطالب بما له من حق حتى يؤدى ما عليه من واجب، فإذا كلفت بعمل ما فأديته على أصح وجوهه فلا سبيل لأحد عليك، ولا يستطيع من فوقك ولا من دونك مرتبه أن يعرض لك بلفظ محرج، وتستطيع أن تحتفظ بعزة نفسك أمام رؤسائك حين تسد الثغرات التى ينفذ منها إليك اللوم والتقريع. إن ألد أعدائك حينئذ يتهيبك . قال تعالى : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) . وارتكاب الآثام سبيل السقوط والإهانة، ومزلقة إلى خزى الفرد والجماعة . وقد بين الله أن الهزيمة فى غزوة أحد سببها ما ارتكبه البعض من مخالفات . (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم) . فالإسلام عندما أوصى المسلم بالعزة هداه إلى أسبابها، ويسر له وسائلها، وأفهمه أن الكرامة فى التقوى، وأن السمو فى العبادة، وأن العزة فى طاعة الله والمؤمن الذى يعلم ذلك ويعمل به يجب أن يأخذ نصيبه كاملا غير منقوص فى الحياة الرفيعة المجيدة. فإذا اعتدى عليه أحد أو طمع فيه باغ كان انتصابه للدفاع عن نفسه جهادا فى سبيل الله. وليس ذيادا عن الحق الشخصى فقط، بل إقرارا للحقوق العامة والمثل العالية . ومن ثم فإن موت المسلم دون حقه شهادة : جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالى ؟ قال: لا تعطه مالك ! قال: أرأيت إن قاتلنى ؟ قال: قاتله! قال: أرأيت إن قتلنى؟ قال: فأنت شهيد! قال أرأيت إن قتلته ؟ قال: هو فى النار . ص _185(1/181)
نعم: فمن عزة المؤمن ألا يكون مستباحا لكل طامع، أو غرضا لكل هاجم. بل عليه أن يستميت دون نفسه وعرضه. وماله وأهله. وإن أريقت فى ذلك دماء " فإن هذا رخيص لصيانة الشرف الرفيع . وإنما شرع الله الثأر من المظالم، إعزازا لجانب المهضوم وإيهانا لجانب العادى فعلق المسلم بحقوقه وملأ بها يديه، وأغراه أن يتشبث بها فلا ينزل عنها إلا عفوا كريما، أو سماحة تزيده عزا على عز . . وقد لقنه أولا دروس الإيمان وشرائع الكمال، ووقفه على نهج الفضل والرفعة بقوله: (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) . بعد هذه التعاليم التى توفر لأصحابها العزة الكاملة، فرادى وجماعات قال: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ، وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين) . فمن خلق المسلم أن يغفر إذا استغضبه من دونه، ومن خلقه كذلك أن يؤدب المجترئين عليه، حتى يفل حدهم ويكسر شوكتهم. وهو فى هذه الحال مكلف أن يبرز قوته حتى يرهب المجرمين، وله وهو فى هذا المكان العالى، أن يعفو، فإن عفو المقتدر، بعد أن تنتفى علائم الضعف، لون أخر من تأديب المجرمين وكرامة المؤمنين. فالخُلق الذى تضمنته الآيات الأخيرة، يغير الخلق الذى تضمنته الآيات الأولى. الأولى تعنى التجاوز عن هفوات العاثرين. (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) . أما الأخرى فتقدم الجانى إلى القضاء، وتصدر عليه العقاب، وتمكن سيف القصاص من عنقه. حتى إذا انكسرت سطوته واختفت جرأته، جاء الفضل، بعد استطالة العدل! فكان زيادة فى انقماع المستخفين وزيادة فى عزة المسلم . * * * ولما كان فى النفس الإنسانية شىء من الضعف أو القلق، ربا حملها على الخنوع لمن يملك الفصل فى أمورها وقضاء مطالبها، وربما انزلق بها إلى مواقف تجافى(1/182)
الكرامة، لذلك ص _186
علمنا رسول الله ألا نستكين فى هذه الأمور وأن تبقى جباهنا عالية ونحن نسعى إلى ما نبغى فقال: " اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجرى بالمقادير " . وبين لنا أن البشر ولو اجتمعوا بأسرهم أذل من أن يمنعوا شيئا أعطاه الله، وأقل من أن يعطوا شيئا منعه الله، ومن ثم فعلى المسلم أن يرد مصاير الأمور إلى مدبرها الأعظم. وأن يجعل فيه الثقة وعليه المعول . وليكبر دينه فلا يذل به، وليملك نفسه فلا يعطى فرصة لأحمق كيما يستعلى ويستكبر، فإن قرارا ما لن يتم إلا إذا أمضاه الله . قال تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) . ومظهر السلطة الذى يمنحه الله طائفة من العباد لا يغير قيد شعرة من إرادة القاهر فوق العباد. إننا فى أحيان كثيرة نحس أننا مغلوبون على أمرنا لكن هذا الإحساس منتف فى حق الله الذى لا يمكن أن يُعجزه شيء : (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . فالأدنى إلى الحق، والأقرب إلى النفع، والأرشد فى علاج المشاكل أن يظل المسلم منتصب القامة مرتفع الهامة، لا تدنيه حاجة ولا تطويه شدة يجأر إلى مولاه بالدعاء ويكشف انكساره لربه وحده، فلا يبدى صفحته لمخلوق، فاقها قول الله له: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم) . وقد علمت كيف علم الرسول أصحابه الاستغناء والاكتفاء، وفطم النفوس عن أن تسأل الناس شيئا حتى التافه الذى لا يضير، فكان أحدهم ينزل عن ناقته ليلتقط سوطه، ويرفض أن يكلف أحدا مناولته إياه . * * * إن الناس يذلون أنفسهم، يقبلون الدنية فى دينهم ودنياهم، لواحد من أمرين: إما أن يصابوا فى أرزاقهم، أو فى آجالهم. والغريب أن الله قطع سلطان البشر على ص _187(1/183)
الآجال والأرزاق جميعا، فليس لأحد إليهما من سبيل: فالناس فى الحقيقة يستذلهم وهم نشأ من أنفس مريضة بالحرص على الحياة والخوف على القوت. والناس من خوف الذل فى ذل، ومن خوف الفقر فى فقر. مع أن الإسلام بنى حقيقة التوحيد على الصلة بالله تبارك وتعالى فيما ينوب ويروع واليأس من الناس فيما لا يملكون فيه على الله بتا، ولا يقدمون نفعا ولا ضرا : (أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور ، أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور) . ويقول ابن القيم فى مناجاة الله : يا من ألوذ به فيما أؤمله ! ومن أعوذ به مما أحاذره ! لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يُهيضون عظما أنت جابره ! ذلكم هو التوحيد الكامل. وذلكم ما يجب أن يستشفى به أولئك الضعاف المساكين، الذين يريقون ماء وجوههم فى التسكع على الأبواب، والتمسح بالثياب، والزلفى على الأعتاب . يريد الإسلام ليجتث عوامل القلق فى النفوس وأن يكشف عنها الضيق حتى تتنفس فى جو طليق، فيقول رسول الله: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله" . إنه يقول ذلك لا ليقعد الناس عن التكسب الواجب: فهذا ظن الجهلة. لكنه يقول ذلك ليُجمل الناس فى الطلب، ويخففوا من الإلحاح الشائن والتملق المعيب، وذلك سر القسم : (وفي السماء رزقكم وما توعدون ، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) . عن ابن مسعود أن رسول الله قال: " ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلى أمرتكم به ، ولا عمل يقرب إلى النار إلى وقد نهيتكم عنه ، فلا يستبطئن أحد منكم رزقه . فإن جبريل ألقى فى روعى أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه .فاتقوا الله أيها الناس وأجملوا فى الطلب . فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله ؛ فإن الله لا ينال فضله بمعصيته " . ص _188(1/184)
بهذه الوصايا الحارة رفع الإسلام قدر المستمسك به، وجعله ينقل أقدامه على الأرض مكينا كريما. ثم أوضح له أن هؤلاء الذين نتردد عليهم فى حاجاتنا إنما هم ممر للعطاء، أو مظهر للمنع : روى عن عبد الله بن مسعود أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ترضين أحدا بسخط الله، ولا تحمدن أحدا على فضل الله، ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص، ولا ترده عنك كراهية كاره، وإن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرج فى الرضا واليقين وجعل الهم والحزن فى السخط " . وهذا الحديث لا يعنى جحود الصنيع، ولا ازدراء الفضل لمن أسدوا الفضل، فإن الحديث يقول: " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " . ولكن معناه، ألا يستعبد المرء بمنة وصلته حتى تداس كرامته! فإن المنة لله أسبق، ولا يجوز للمعطى أن يقصد بهبته شراء الأنفس والتصرف فيها كما يحب، فإن هذا يحبط أجره. وكان ذلك القصد - ولا يزال - شأن الذين يؤتون لغير الله، ولذلك تأفف الأحرار من عطاياهم : لاه ابن عمك ، لا أفضلت فى نسب عنى ولا أنت ديانى فتخزونى أما الذين يعطون لله، ويؤدون حقوق العباد ابتغاء وجهه. فقد قال رسول الله فى بيان مكافآتهم: " من أعطى عطاء فليجز به إن وجد ، فإن لم يجد ليُثن به ، فإن من أثنى به فقد شكره ، ومن كتمه فقد كفره " . * * * أما تهيب الموت وتحمل العار طلبا للبقاء فى الدنيا على أية صورة فذلك حُمق، فإن الفرار لا يطيل أجل والإقدام لا ينقص عمرا، كيف؟ (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) . إن القضاء يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره، فكن عزيزا ما دام لن يفلت من محتوم القضاء إنسان . * * * ص _189(1/185)
الرحمة
الرحمة كمال فى الطبيعة يجعل المرء يرق لآلام الخلق ويسعى لإزالتها، ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهم الهدى. هى كمال فى الطبيعة لأن تبلد الحس يهوى بالإنسان إلى منزلة الحيوان ويسلبه أفضل ما فيه، وهو العاطفة الحية النابضة بالحب والرأفة ، بل إن الحيوان قد تجيش فيه مشاعر مبهمة تعطفه على ذراريه، ومن ثم كانت القسوة ارتكاسا بالفطرة إلى منزلة البهائم، بل إلى منازل الجماد الذى لا يعى ولا يهتز. والرحمة فى أفقها الأعلى وامتدادها المطلق صفة المولى تباركت أسماؤه! فإن رحمته شملت الوجود وعمت الملكوت. فحيثما أشرق شعاع من علمه المحيط بكل شىء أشرق معه شعاع للرحمة الغامرة، ولذلك كان من صلاة الملائكة له: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) . وعن عمر بن الخطاب: قدم على رسول الله بسبى فإذا امرأة من السبى تسعى قد تحلب ثديها، إذا وجدت صبيا فى السبى أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أترون هذه المرأة طارحة ولدها فى النار؟ قلنا: لا والله- وهى تقدر على أن لا تطرحه!- قال: فالله تعالى أرحم بعباده؟ من هذه بولدها . وكثير من أسماء الله الحسنى ينبع من معانى الرحمة والكرم والفضل والعفو. وقد جاء فى الحديث القدسى: " إن رحمتى تغلب غضبى " ، أى أن تجاوزه عن خطايا البشر يسبق اقتصاصه منهم وسخطه عليهم وبذلك كان أفضل الرحماء: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) . ما ترى فى الأرض من تواد وبشاشة وتعاطف وبر أثر من رحمة الله التى أودع جزءا منها فى قلوب الخلائق، فأرق الناس أفئدة أوفرهم نصيبا من هذه الرحمة وأرهفهم إحساسا بحياة الضعفاء . أما غلاظ الأكباد من الجبارين والكازين والمستكبرين فهم فى الدرك الأسفل من النار. وفى الحديث: ".. إن أبعد الناس من الله تعالى القاسى القلب " . وكان رسول الله يعد جمود العين واستغلاق القلب من الشقاء . ص _190(1/186)
ولقد أراد الله أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه، ويرثى لخطاياه، ويستميت فى هدايته، ويأخذ بناصر الضعيف، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها، ويخضد شوكة القوى حتى يرده إنسانا سليم الفطرة لا يضرى ولا يطغى.. فأرسل "محمدا " ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وسكب فى قلبه من العلم والحلم، وفى خلقه من الإيناس والبر، وفى طبعه من السهولة والرفق، وفى يده من السخاوة والندى، ما جعله أزكى عباد الله رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدرا. ولذلك قال فيه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) . وقد لازمته هذه الفضائل العذبة فى أعصب الساعات عندما حاول المشركون فى "أحد" اغتياله، وألجأوه إلى حفرة ليُكب فيها: ونظر إلى زهرة أصحابه فوجدهم مضرجين بدمائهم على الثرى، ونظر إليه بقية أصحابه فإذا خده قد شق وسنه قد سقطت.. فى هذه الأزمة قيل له: ادع على المشركين ؛ فغلبه رفقه وجعلت نفسه العالية تستميح لأعدائه العذر: فكان دعاؤه. " اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ". إن القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهى أبدا إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والأضغان . إن القسوة فى خلق إنسان دليل نقص كبير، وفى تاريخ أمة دليل فساد خطير.. فلا عجب إذا حذر الإسلام منها واعتبرها علة الفسق عن أمر الله، وسر الشرود عن صراطه المستقيم : (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون). وقد أمر الإسلام بالتراحم العام. وجعله من دلائل الإيمان الكامل، فالمسلم يلقى الناس قاطبة وفى قلبه لهم عطف مذخور وبر مكنون، فهو يوسع لهم ويخفف عنهم جهد ما يستطيع : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لن تؤمنوا حتى ترحموا ، قالوا : يا رسول الله ، كلنا رحيم . قال : إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ، ولكنها رحمة العامة(1/187)
" . ص _191
أجل، فإن الرجل قد يهش لأصدقائه حين يلقاهم، وقد يرق لأولاده حين يراهم، وذلك أمر يشيع بين الكثير. بيد أن المفروض فى المؤمن أن تكون دائرة رحمته أوسع، فهو يبدى بشاشته، ويظهر مودته ورحمته لعامة من يلقى . . وقد جاءت الأحاديث تترى حاثة على هذه الرحمة الشاملة. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله " زاد فى رواية " ومن لا يغفر لا يُغفر له " . وقال: " من لا يرحم من فى الأرض لا يرحمه من فى السماء " . وقال: " طوبى لمن تواضع فى غير منقصة ، وذل فى نفسه من غير مسألة ، وأنفق مالا جمعه فى غير معصية ، ورحم أهل الذلة والمسكنة ، وخالط أهل الفقه والحكمة " . والذلة فى غير مسنة تعنى السكينة للمؤمنين والليونة معهم، وقد وصف الله المجتمع المسلم أنه متماسك بهذا العطف المتبادل فقال عن أهله : (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) . وقال: (أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) . وقد تسأل ما معنى ذكر الشدة فى سياق الحديث عن الرحمة؟ والحق أن الإسلام يوصى بالرحمة العامة لا يستثنى منها إنسانا ولا دابة ولا طيرا. والنصوص التى سلفت تؤيد هذا الشمول. بيد أن هناك من الناس والدواب من يكون مصدر خطر على غيره ومثار رعب وفزع، فيكون من رعاية الصالح العام للجماعة كلما أن يحبس شره، ويحاصر ضرره. وقد تكون الشدة معه رحمة به كذلك وتقويما لعوجه. والإسلام رسالة خير وسلام وعطف على البشر كلهم. وقد قال الله لرسول: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وسور القرآن الكريم مٌفتتحة كلها بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " . لكن ذئاب البشر أبوا إلا اعتراض الرحمة المرسلة ؛ ووضع الجنادل فى مجراها حتى تنقطع عن الناس مواردها، فيهلكوا بعيدا عنها فى أودية الحيرة والجهالة. فلم يكن به من إزالة هذه العوائق، والأغلاظ لأصحابها ويوم ينقطع تعرضهم وتحديهم ص _192(1/188)
تشملهم هذه الرحمة الجامعة فليس فى هذه الرحمة قصور، وإنما القصور فيمن حرم نفسه منها ألست ترى أن رحمة الله وسعت كل شيء ! ومع ذلك فلن ينالها مشرك ولا جحود: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) . كما تقول: هذه القاعة تتسع ألف جالس. ولكن لا يؤذن بدخولها إلا لمن يحمل بطاقة، فإذا رفض البعض حمل البطاقة المعهودة فحرموا من الدخول وبقوا فى الخارج فليس ذلك قدحا فى سعة القاعة . ومثل ذلك قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " كل أمتى يدخل الجنة إلا من أبى. فقالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعنى دخل الجنة. ومن عصانى فقد أبى " . وقد تأخذ الرحمة الحقة طابع القسوة وليست كذلك: إن الأطفال عندما يساقون إلى المدارس كرها، ويحفظون الدروس زجرا، ولو تركوا وأهواءهم لقتلهم اللهو واللعب ولشبوا لا يحسنون صنعا، ولذلك قال الشاعر : فقسا ليزدجروا ومن يك راحما فليقس أحيانا على من يرحم والطبيب عندما يجرى بالجسم جراحة، يستخدم مبضعة لتمزيق اللحم، وقد يضطر لتهشيم العظام بتر أعضاء، وما يفعل ذلك إلا رحمة بالمريض !! فليست الرحمة حنانا لا عقل معه، أو شفقة تتنكر للعدل والنظام. كلا إنها عاطفة ترعى هذه الحقوق جميعا، إن منظر المشنوق وجسمه يتأرجح فى الهواء وعيناه تعشقان الضوء وتطلبان النجاة، منظر قد يستدر العطف، ولو أجيبت هذه العاطفة السريعة، وأطلق سراح القاتل لامتلأت الأرض فوضى.. والرحمة الحقة فى كبت هذا الشعور . (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) . إن القسوة التى استنكرها الإسلام جفاف فى النفس لا يرتبط بمنطق ولا عدالة، إنها نزوة فاجرة تتشبع من الإساءة والإيذاء، وتمتد مع الأثرة المجردة والهوى الأعمى . أما الرحمة فهى أثر من الجمال الإلهى الباقى فى طبائع الناس يحدوهم إلى البر، ويهب عليهم فى الأزمات الخانقة ريحا بليلة ترطب الحياة(1/189)
وتنعش الصدور . ص _193
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " جعل الله الرحمة مائة جزء ، وأنزل فى الأرض جزءا واحدا ، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " . وفى رواية أخرى: " إن الله تعالى خلق- يوم خلق السموات والأرض- مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها فى الأرض رحمة واحدة، فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضه على بعض " . وكما ينمى العقل بشتى المعارف فيزكو، تنمى هذه الرحمة بشتى الأساليب لتتسع وتربو.. أما إذا تركت لتذوى وتموت فقد أصبح صاحبها حطبا لجهنم : عن أبى هريرة: سمعت الصادق المصدوق صاحب هذه الحجرة أبا القاسم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " لا تُنزع الرحمة إلا من شقى " . * * * ونبه الإسلام إلى أن هناك أقواما مخصوصين ينبغى أن يحظوا بأضعاف من الرحمة ، والرعاية . من هؤلاء ذوو الأرحام، والرحم مشتقة من الرحمة فى مبناها، فيجب أن تستقيم معها فى معناها . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الراحمون يرحمهم الله تعالى. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله " . وعلى المسلم أن يؤدى حقوق أقربائه وأن يقوى بالمودة الدائمة صلات الدم القائمة . وأجدر الناس بجميل بره أمنهم عليه وأولاهم به، وهم والداه، قال الله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) . ثم أولاده، فعن البراء رضى الله عنه قال: " أتى أبو بكر عائشة وقد أصابتها الحمى فقال: كيف أنت يا بنية، وقبل خدها " . ص _194(1/190)
والمشاهد فى أجلاف الناس أن عواطفهم لا تأخذ هذا الطابع من الرقة والحنو. ففى أخلاقهم وألفاظهم جفوة مستكرهة . عن أبى هريرة: " قبل رسول الله الحسن أو الحسين بن على وعنده الأقرع ابن حابس التميمى ، فقال الأقرع ، إن لى عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا قط ! فنظر إليه رسول الله وقال : " من لا يرحم لا يُرحم " وفى رواية " أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك " ؟ . وعن أنس: " دخلنا مع رسول الله على أبى سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم ابن رسول الله ، فأخذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابنة فقبله وشمه ، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله تذرفان فقال ابن عوف : وأنت يا رسول الله ؟ ـ كأنه استغرب بكاءه ـ فقال : " يا ابن عوف إنها رحمة ، ثم أتبعها بأخرى ، فقال : إن العين تدمع ، وإن القلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضى ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " . ولا يجوز للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه، وأن يبت علائقهم، فيحيا بعيدا عنهم، لا يواسيهم فى ألم ولا يسدى إليهم عونا ، إن هذه القطيعة تحرم الإنسان من بركة الله وتعرضه لسخطه : عن أبى هريرة سمعت رسول الله يقول: " الرحمة شجنة من الرحمن تقول : يا رب إنى قطعت ! يا رب إن أسيء إلى ! يا رب إنى ظلمت ، يا رب ، يا رب فيجيبها : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك " . * * * وممن تجب الرحمة بهم اليتامى، فإن الإحسان إليهم والبر بهم وكفالة عيشهم وصيانة مستقبلهم من أزكى القربات بل إن العواطف المنحرفة تعتدل فى هذا المسلك وتلزم الجادة : فعن أبى هريرة أن رجلا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه فقال: " امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين " . ص _195(1/191)
وفى رواية: أن رجلا جاءه يشكو قسوة قلبه فقال له: " أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك ، يلن قلبك وتدرك حاجتك " . وذلك أن القلب يتبلد فى المجتمعات التى تضج بالمرح الدائم، والتى تصبح وتمسى وهى لا ترى من الحياة غير آفاقها الزاهرة، ونعمها الباهرة، والمترفون إنما يتنكرون لآلام الجماهير، لأن الملذات التى تُيسر لهم تغلف أفئدتهم وتطمس بصائرهم، فلا تجعلهم يشعرون بحاجة المحتاج وألم المتألم وحزن المحزون والناس إنما يرزقون الأفئدة النبيلة والمشاعر المرهفة، عندما ينقلبون فى أحوال الحياة المختلفة ويبلون مس السراء والضراء . . عندئذ يحسون بالوحشة مع اليتيم، وبالفقدان مع الثكلى، وبالتعبة مع البائس الفقير . * * * وتجمل الرحمة مع المرضى وذوى العاهات: فإن أولئك المصابين يستقبلون الحياة بوسائل منقوصة تعجزهم عن المسير فيها وإدراك لبانتهم منها وقد عذرهم الله عز وجل فلا يجوز أن تؤاخذهم بما أعفاهم الله منه : (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما) . والمريض شخص قيدته العلة ونغصه حر الداء ومر الدواء، وهو فى صبره على أوجاعه قريب من الله حقيق برحمته، وإذا كان مس الشوكة يكفر من سيئات المؤمن فما بالك بمن برحت به الأوصاب وأذاقته أشد العذاب ؟ إن ذلك يجعله بعين الله ! ولذلك يجب أن نحاذر من الإساءة إلى المرضى، والاستهانة براحتهم، فإن القسوة معهم جُرمٌ غليظ . * * * ومن مواطن الرحمة أن نُحسن معاملة الخدم، وأن نرفق معهم فيما نكلفهم من أعمال وأن نتجاوز عن هفواتهم، وألا نحس سطوة التصرف فيهم فنبعث بتسخيرهم، فإن الله إذا ملك أحدا شيئا فاستبد به وأساء، سلبه ما ملك وأعد له سوء المنقلب . عن أبى مسعود البدرى: كنت أضرب غلاما لى بالسوط ، فسمعت صوتا من خلفى : اعلم أبا مسعود . لم أفهم(1/192)
الصوت من الغضب ، فما دنا منى إذا هو رسول ص _196
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . فإذا هو يقول: " اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام . فقلت : يا رسول اله هو حر لوجه الله تعالى . فقال : أما لو لم تفعل للفحتك النار". وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " حسن الملكة نماء وسوء الخلق شئوم". وجاءه رجل يسأله: كم أعفو عن الخادم؟ قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " كل يوم سبعين مرة ! ". إن هناك نساء ورجالا ينتهزون فرصة ضعف الخدم فيوقعون بهم ألوان الأذى وقد رهب الإسلام من هذه الفظاظة وتوعد عليها . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من ضرب سوطا ظلما اقتص منه يوم القيامة " . * * * ومن الرحمة المطلوبة الرفق بالحيوان. رأى عمر رضى الله عنه رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال: ويلك قدها إلى الموت قودا جميلا . وقال رجل: يا رسول الله إنى لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال: "إن رحمتها رحمك الله". والإسلام شديد المؤاخذة لمن تقسو قلوبهم على الحيوان ويستهينون بآلامه، وقد بين أن الإنسان على عظم قدره يدخل النار فى إساءة يرتكبها مع دابة عجماء . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " دخلت امرأة النار فى هرة ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض " . كما بين أن كبائر المعاصى تمحوها نزعة رحمة تغمر القلب، ولو بإزاء كلب!. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "بينما رجل يمشى بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذى كان بلغ منى! فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله تعالى له فغفر له". قالوا: يا رسول الله، وإن لنا فى البهائم لأجرا. قال: " في كل كبد رطبة أجر وفى رواية: أن امرأة بغيا رأت كلبا فى يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له موقها فغفر(1/193)
لها به " . لئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب . ص _197
العِلمُ والعَقلُ
طبيعة الإسلام تفرض على الأمة التى تعتنقه أن تكون أمة متعلمة ترتفع فيها نسبة المثقفين، وتهبط أو تنعدم نسبة الجاهلين . ذلك لأن حقائق هذا الدين ـ من أصول أو فروع ـ ليست طقوسا تنقل بالوراثة، أو تعاويذ تشيع بالإيحاء، وتنتشر بالإيهام. كلا. إنها حقائق تستخرج من كتاب حكيم، ومن سنة واعية ! وسبيل استخراجها لا يتوقف على القراءة المجردة، بل لابد من أمة تتوافر فيها الأفهام الذكية والأساليب العالية، والآداب الكريمة. ولاشك أن مدارسة مناهج الإسلام تخلق فى أى أمة تعنى بها جوا من الفقه التشريعى القادم على الأوامر والنواهى ـ أى بالحقوق والواجبات ـ وجوا من الآداب الاجتماعية الدقيقة المتعلقة بقاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجوا من البحث الصحيح والاجتهاد المخلص، لمد رواق الإسلام على ما تفد به الأعصار من أقضية شتى وشئون متجددة . فإذا قلت هذه العناصر فى بيئة ما اضمحل أمر الإسلام وذبلت أغصانه كما تبلى الشجرة الباسقة فى أرض ذهب خصبها وجف ماؤها . وهناك بعد ذلك التفكير فى الكون اطرد الأمر به فى سور القرآن واعتبر الأساس الأول لإقامة إيمان ثابت وطيد. إن هذا التفكير هو الذى فتق الأذهان عن روائع الحضارة الحديثة، ويسر للدنيا هذه الكشوف الجليلة لأسرار الوجود، وسخر للناس ما لم يكونوا يحلمون به. ثم هناك أيضا التوصية باتباع الحق وحده والبحث عنه مهما خفى، واستنكار الظنون العائمة، والنهى عن الجرى وراءها ووضع رقابة محكمة على السمع والبصر والفؤاد. إن هذا كفيل بإيجاد مجتمع بعيد عن الخرافات ميزه عن الأوهام والمساخرة لا مجتمع يفيض بالشعوذة تتركز فيه الأراجيف والترهات، وتحكمه تقاليد غامضة ما أنزل الله بها من سلطان . إن العلم للإسلام كالحياة للإنسان، ولن يجد هذا الدين مستقرا له إلا عند أصحاب المعارف(1/194)
الناضجة والألباب الحصيفة. ص _198
ولأمر ما يقول الله عنه: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب) . ويقول مصورا أحاديث أهل جهنم: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) . ويقول فيمن طمست مشاعرهم وماتت مواهبهم واستغلقت أذهانهم: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) . إن الله شرف الحياة بالإسلام بعد ما بلغت رشدها ونمت قواها واستعدت لأن تتلقى منه أزكى التعاليم وأرقاها فكان جميعه ملائما لتطور الحياة نحو الكمال، بل كان هو شوطا واسعا فى الخطو بها نحو الرقى المادى والأدبى . وأنت إذا نظرت إلى الصلاة ـ وهى العبادة الأولى فى الإسلام ـ وجدت أداءها والأذان لها عملا عقليا بحتا فالدعوة إلى الصلاة كلمات تقرع العقل وتوقظ القلب ؛ تكبير لله، وشهادة بتوحيده، وحثا على الفلاح . وليست جرسا يرسل رنينه فى الفضاء ويخاطب المشاعر المبهمة، والصلاة نفسها آيات تتلى من كتاب جامع لعزائم الخير ودلائل الرشد، ومدى قبولها مقرون بصحو الفكر فى إقامتها وتدبر العقل لمعانيها . والحق أنه على قدرة ذكاء الشخص واستنارته واستقامة فطرته رسوخ قدمه فى الإسلام، وهيهات أن يسبق فى هذا الدين بليد الرأى سقيم الوجدان . إن أول ما نزل من آيات القرآن قول الله لنبيه : (اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم). وهذه أول صيحة تسمو بقدر القلم وتنوه بقيمة العلم وتعلن الحرب على الأمية الغافلة، وتجعل اللبنة الأولى فى بناء كل رجل عظيم أن يقرأ وأن يتعلم. وسما الله ص _199(1/195)
عز وجل بدرجات العلماء حتى قرنهم بنفسه وملائكته فى الشهادة بوحدانيته والإقرار بعدالته : (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) . ولا غرو. فأنى للعقول الكليلة والمعارف الضيقة أن تدرك جلال الكبير المتعال؟ وأنى لمن يعيش على هامش الحياة- بجهله وظلمته- أن يعرف الحق عن رب الحياة، أو يلمح طرفا من صفاته العظمى وآياته الكبرى ؟ لذلك أعز الله العلماء وآثرهم بكرامته وفضله قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة ، إذا قعد على كرسيه للفصل بين العباد : إنى لم أجعل علمى وحلمى فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان فيكم ولا أبالى " . قال الحافظ المنذرى: انظر إلى قوله سبحانه وتعالى " علمى وحلمى " وأمعن النظر فيه يتضح لك من إضافته إليه عز وجل، أنه ليس المراد به علم أكثر أهل زماننا المجرد عن العلم به والإخلاص . وفى عطف الحلم على العلم ما يشير إلى أنه علم لم يستبد به النزق ولم تسخره الشهوات . * * * إن المعرفة الجيدة أسبق عند الله من العمل المضطرب، ومن العبادة الجافة المشوبة بالجهل والقصور : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فضل العلم خير من فضل العبادة " وقال: " قليل العلم خير من كثير العبادة " .. وقال " أفضل العبادة الفقه " وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلى مائة ركعة : ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عُمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلى ألف ركعة " . ص _200(1/196)
والسر فى هذا الحكم أن عبادة الجهال ـ كصداقتهم ـ قليلة الجدوى، وهم يضرون أنفسهم من حيث يريدون نفعها، ويؤذون أصدقاءهم من حيث يبغون راحتهم، وجهلة العبَّاد يستمسكون بالدين استمساكا شديدا، ويتعصبون له تعصبا ظاهرا. ولكنهم فى ساعة رعونة وغباء يقفون منه الموقف الذى يلحق به الأذى والمعرة، ويجر عليه المتاعب الجمَّة، أما أولو العلم فإن بصيرتهم الذكية تحكم مسلكهم وتلهمهم الرشد، فلو قل عملهم كثر ما يصحبه من سداد وبصر . ولذلك يقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد " . ويقول: " فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم رجلا " . وروى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فضل العالم على العابد سبعون درجة ، ما بين كل درجتين حُضر الفرس سبعين عاما ، وذلك لأن الشيطان يبدع البدعة للناس فيبصرها العالم فينهى عنها . والعابد مقبل على عبادة ربه لا يتوجه لها ولا يعرفها " . وعجز هذا الحديث يشبه أن يكون مدرجا من كلام الرواة تفسيرا لما تضمنه الحديث من حكم . ولما كان ضيق الأفق لا يدع للإيمان امتدادا، ولا للإحسان منفذا، قال الله عز وجل: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) . وبين أن الضمير الدافع إلى الخير، الوازع عن الشر، المراقب له، الحريص على مرضاته، هو ضمير العالم المستنير الخبير بربه . . (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب) . * * * والعلم الذى يُقبل المسلم عليه، وتستفتح أبوابه بقوة، ويرحل لطلبه من أقصى المشارق والمغارب، ليس علما معينا محدود البداية والنهاية، فكل ما يوسع منادح النظر، ويزيح السدود أمام العقل النهم إلى المزيد من العرفان، وكل ما يوثق صلة الإنسان بالوجوه، ويفتح له آمادا أبعد من الكشف والإدراك. وكل ما يتيح له السيادة ص _201(1/197)
فى العالم، والتحكم فى قواه، والإفادة من ذخائره المكنونة. ذلك كله علم ينبغى التطلع له والتضلع فيه، ويجب على المسلم أن يأخذ بسهم منه، وهذا الشمول دلت عليه الآيات والسنن . فأما الأحاديث المشيرة إلى التزود من المعارف أيا كانت فكثيرة، منها قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من سلك طريقا التمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" وقال: " ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدى صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى ! وما استقام دينه حتى يستقيم عقله ! " . وقال: " لا حسد إلى فى اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته فى الحق. ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها " . وقال: " إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة فى جحرها وحتى الحوت فى جوف البحر ليصلون على معلم الناس الخير " . فالسياق فى هذه السنن يوجه إلى أى علم يطلب: تعلم الخير، الحكمة، ما يقى من الضرر، ما يقرب من النفع. وتخصيص العلم بلون معين من الثقافة كتخصيص المال بنوع معين من الأملاك لا وجه له. ولا شك أن فى طليعة ما تجب معرفته حق الله على الناس، وحق الناس بعضهم على بعض. فإن هداية السلوك إلى الصالح العام كبيرة الأثر فى تنظيم الجماعات وتوجيه السياسات لكن من الخطل أن نظن العلم المحمود هو دراسة الفقه والتفسير وما شابه ذلك من الفنون فحسب. وأما ما وراءها فهو نافلة يؤديها من شاء تطوعا أو يتركها وليس عليه من حرج ..!! هذا خطأ كبير، فإن علوم الكون والحياة، ونتائج البحث المتواصل فى ملكوت السماء والأرض لا تقل خطرا عن علوم الدين المحضة، بل قد يرتبط بها من النتائج ما يجعل معرفتها أولى بالتقديم من الاستبحار فى علوم الشريعة . وحسبنا أن القرآن الكريم عندما نوه بفضل العلم وجلال العلماء إنما عنى العلماء الذين يعرفون عظمة الخالق من عظمة الخلق، وإنما عنى العلم الذى ينشأ من النظر فى النبات والحيوان وشئون الطبيعة الأخرى . ص _202(1/198)
قال: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) وقال: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) إن علوم الحياة مساوية لعلوم الآخرة فى خدمة الدين وتجلية حقائقه، غاية ما هنالك أن علوم الطبيعة تحتاج دراسات أطول. أما العلم بالدين فميسور لمن أخلص له أياما معدودات. وإذا كان التوسع فى فروع الشريعة يحتاج مددا فسيحة. فهذا التوسع وظيفة اجتماعية كسائر الوظائف التى تستكثر منها الدولة أو تستقل وفق المصلحة التى تنجح رسالتها العليا وليست دراسة الحقوق والقضاء أشرف فى ذاتها من دراسة الطب مثلا. ولو بلغ صاحبها مبلغ أبى حنيفة، وإنما يرجح الرجل صاحبه فى علمه بمقدار ما يُسخر هذا العلم لنفع الناس ابتغاء وجه الله، وانتظار ما لديه من مثوبة . . * * * إن الحاجز رقيق جدا بين ما هو دين محض وما هو دنيا محضة والمرجع ـ كما أسلفنا البيان ـ إلى سلامة القصد ونبل الغاية، فالشيء الواحد قد يكون فاحشة كبيرة بما يلابسه من هوى، وقد يكون جهادا مبرورا بما يصاحبه من إخلاص . والناس قد يقرءون قوله تعالى: (المال و البنون زينة الحياة الدنيا) فينظرون إلى المال والبنين على أنهما انتفاع فحسب! وما دروا أن المال والبنين هما أمداد الجهاد المفروض، وأن تثمير الأموال وتكثير الأولاد قد جعلهما الله عُدة النصر للأمم التى غلبت على أمرها حينا، ثم أمكنها أن تستعيد مجدها المفقود، بم ؟ وكيف ؟. (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) . فبالمال والبنين امتدت هذه الأمة بعد انكماش وتقدمت بعد تقهقر، واستعادت رضا الله بعد ما فقدته. ص _203(1/199)
والقول كذلك فى دائرة العلم، فلو اشتغل رجل بعلوم السماد يبتغى إخصاب أرض الله ما نقصه أجره ذرة ؛ بل لعله يزيد على رجل صف قدميه فى المحراب وأخذ يحيى الليل فى الصلاة . . !! إن الإسلام ارتفع بمنازل العلماء وقدر جهودهم، وكرم نمارهم إلى حد بعيد : عن معاذ بن جبل : " تعلموا العلم ، فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة ، وهو الأنيس فى الوحشة ، والصاحب فى الغربة ، والمحدث فى الخلوة ؛ والدليل على السراء والضراء ، والسلاح على الأعداء ، والزين عند الأخلاء ، يرفع الله به أقواما ، فيجعلهم فى الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم وينتهى إلى رأيهم ، ترغب الملائكة فى خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، ويستغفر لهم كل رطب ويابس ، وحيتان البحر وهوامه ، وسباع البر وأنعامه ، لأن العلم حياة القلوب من الجهل ، ومصابيح الأبصار فى الظلم ، يبلغ العبد منازل الأخيار ، والدرجات العلى فى الدينا والآخرة ، التفكير فيه يعدل الصيام ، ومدارسته تعدل القيام ، به توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال من الحرام ، وهو إمام العمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء " . * * * وتعلم اللغات الأخرى من سنن الإسلام، وقد سبق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الانتفاع بهذا العلم فأمر كاتبه "زيد بن ثابت" بإجادة السريانية. قال زيد: أمرنى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتعلمت له كتاب يهودى بالسريانية . وقال : إنى والله ما آمن يهود على كتابى ! قال زيد : فوالله ما مر بى نصف شهر حتى تعلمته وجدت فيه ، فكنت أكتب له إليهم ، وأقرأ له كتبهم إليه " . وفهم لغات الشعوب يُعد من ضرورات الإسلام، فإن رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الناس قاطبة، وجمع الناس على لسان واحد مستحيل. كيف ؟ واختلاف الألسنة من آيات الله ؟(1/200)
فنقل تعاليم الإسلام إلى أمم الأرض بالألسنة التى يفهمون، أقرب إلى العقل والواقع من نقل أجناس البشر إلى لسان العرب . ص _204
وقد قال المفسرون فى شرح قوله تعالى : (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) . إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بُعث من العرب وبلسانهم. ولكنه يرسل مبعوثيه إلى الأطراف فيترجمون بألسنتهم، ويدعونهم إلى الله بلغاتهم !! وقالوا: إما أن، ينزل القرآن بجميع الألسنة، أو بواحد منها، ولا حاجة لنزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فتعين أن ينزل بلسان واحد، فكان لسان قومه أولى بالتعيين لأنهم إليه أقرب، ولأن التحريف عنه أبعد . وهذا الكلام قاطع فى أن المسلمين يجب أن يتعلموا اللغات الأخرى وإلا خانوا الرسالة التى حملوها، وجهلوا الناس عمدا بها ؛ ثم إن العلم ليس له وطن خاص، ولا ينفرد به جيل بعينه، ولو نقلنا البصر فى مصادر المعرفة التى عمت العالم قديما وحديثا لوجدنا منابع العلم كالسحب السيارة فى الفضاء، لا تحتبس فى أفق ولا يحتكرها قطر، وكم من أمة عالمة أعقبت جهالا، وكم من أسلاف جهال نسلوا المهرة الحاذقين وقد كانت (أوربا) قبل بضعة قرون تغص بالصم البكم الذين لا يعون شيئا، وهى الآن تهيمن على وراث الحضارات القديمة!! والمسلم مكلف بارتياد المواطن القصية لنيل العلم من أى يد، ومن أى بلد . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لن يشبع مؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة". وقال: " الكلمة الحكمة ضالة المؤمن ، فحيث وجدها فهو أحق بها " . وقال: " من خرج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع " . * * * إن التعلم والتعليم روح الإسلام، لا بقاء لجوهره ولا كفالة لمستقبله إلا بهما، والناس فى نظر الإسلام أحد رجلين: إما متعلم يطلب الرشد، وإما عالم يطلب المزيد، وليس بعد ذلك من يُؤيه له. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " العالم والمتعلم شريكان فى الخير، ولا خير فى سائر الناس " . * * * ص _205(1/201)
الانتفاع بالوقت والاتعاظ بالزمن
كل مفقود عسى أن تسترجعه، إلا الوقت، فهو إن ضاع لم يتعلق بعودته أمل، ولذلك كان الوقت أنفس ما يملكه إنسان، وكان على العاقل أن يستقبل أيامه استقبال الضنين للثروة الرائعة، لا يفرط فى قليلها بله كثيرها، ويجتهد أن يضع كل شيء، مهما ضؤل، موضعه اللائق به . عندما يحس أحدنا أنه موجود، ويلقى نظرة وراءه يتبين بها اللحظة التى بدأ منها المسير فى هذه الحياة، ليحصى ما يمر به من أيام وأعوام، لن يطول به فكر، لأنه لا يرى إلا بداية غامضة، ثم تتجمع السنون الطوال والليالى العراض فإذا هى وكأنها يوم واحد مائع الطول والعرض متلاحق الأحداث . إن هذا ما يستشعره الإنسان الآن، وما قد يستشعره يوم القيامة عندما يوقف للحساب: (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم) . (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا ، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما) . (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) . إن هذا الإحساس ـ على ما به ـ يلذع الذين توهموا الخلود فى الأرض وربطوا مصيرهم بترابها، وهو إحساس صادق إذا قيست أيام الدنيا بأيام الآخرة. ولكنه إحساس مخدوع مضلل لمن مرت به الأصباح والأمسية وكرت عليه الشهور والدهور، وغدا وراح، وتعب واستراح. ومع ذلك فهو فى غفلة عن يومه وغده. ظل يعبث ويسترسل فى عبثه حتى إذا استرخت أجفانه على عينيه، ودخل ظلام الموت، تيقظ بعنف ! وهيهات !! لقد صحا بعد فوات الوقت . . إن شأن الناس فى الدنيا غريب يلهون والقدر معهم جاد، وينسون وكل ذرة من أعمالهم محسوبة . (يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد). ص _206(1/202)
إن المسلم الحق يغالى بالوقت مغالاة شديدة، لأن الوقت عمره، فإذا سمح بضياعه، وترك العوادى تنهبه فهو ينتحر بهذا المسلك الطائش . إن الإنسان ليسير حثيثا إلى الله. وكل دورة للفلك تتمخض عن صباح جديد ليست إلا مرحلة من مراحل الطريق الذى لا توقف فيه أبدا. أفليس من العقل أن يدرك المرء هذه الحقيقة وأن يجعلها نصب عينيه وهو يستبين ما وراءه وما أمامه ؟، من الخدع أن يحسب المرء نفسه واقفا والزمن يسير! إنه خداع النظر حين يخيل لراكب القطار أن الأشياء تجرى وهو جالس. والواقع أن الزمن يسير بالإنسان نفسه إلى مصيره العتيد . * * * والإسلام دين يعرف قيمة الوقت، ويقدر خطورة الزمن، يؤكد الحكمة الغالية: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك " . ويجعل من دلائل الإيمان وأمارات التقى أن يعى المسلم هذه الحقيقة ويسير على هداها : (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون) . ويعتبر الذاهلين عن غدهم، الغارقين فى حاضرهم، المسحورين ببريق الدار العاجلة، قوما خاسرين سفهاء : (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) . وقد ورع الإسلام عباداته الكبرى على أجزاء اليوم وفصول العام، فالصلوات الخمس تكتنف اليوم كله، وأوقاتها تطرد مع سيره. والمقرر فى الشريعة أن "جبريل" نزل من عند الله ليرسم أوائل الأوقات وأواخرها ليكون من ذلك نظام محكم دقيق يرتب الحياة الإسلامية ويقيسها بالدقائق من مطلع الفجر إلى مغيب الشفق: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون). ص _207(1/203)
إن النظر القاصر يعرف من الزمن آثاره المحدودة. ومظاهره المحسوسة فهو يقول : أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشى ويقول: يسر المرء ما ذهب الليالى وكان ذهابهن له ذهابا لكن الزمن الذى يغضن الجباه ويطوى الآجال ويفنى الحضارات ويقف الناس مشدوهين بإزاء عجائبه. هذا الزمن نفسه هو فرصة لإيقاظ الأذكياء لفعل الخير وإسداء المعروف وادخار ما يجدى . قال تعالى : (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) . فالليل يخلف النهار ويخلفه النهار مع حركات الأفلاك الدائرة السائرة، ورب العالمين لم يخلق ذلك عبثا، وقبيح الناس أن يظنوا محياهم فى هذا الوجود الرتيب سدى، إنه الميدان الذى أعد للسباق الطويل، السباق الذى لا يتقدم فيه إلا من يعرف ربه ويذكر حقه، ويشكر نعمه، ومن يجعل من تواصل السنين تواصل دأب ونصب لإحراز الراحة الكبرى . أما الذاهلون عن هذه المعانى، الهائمون وراء منافعهم المعجلة، فهم حمقى لا ينتصحون من حكمة، ولا يستفيدون من درس . (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) . إن عمرك رأس مالك الضخم، ولسوف تسأل عن إنفاقك منه، وتصرفك فيه. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه ؟ وعن شبابه فيم أبلاه ؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ وعن عمله ماذا عمل فيه " . والإسلام نظر إلى قيمة الوقت فى كثير من أوامره ونواهيه. فعندما جعل الإعراض عن اللغو من معالم الإيمان، كان حكيما فى محاربة طوائف المتبطلين الذين ينادى ص _208(1/204)
بعضهم بعضا: تعال نقتل الوقت بشيء من التسلية !! وما درى الحمقى أن هذا لعب بالعمر، وأن قتل الوقت على هذا النحو إهلاك للفرد، وإضاعة للجماعة . ومن الحكم التى تغيب عن بال الجماهير: " الواجبات أكثر من الأوقات "، "الزمن لا يقف محايدا، فهو إما صديق ودود، أو عدو لدود " . ومن كلمات الحسن البصرى: " ما من يوم ينشق فجره إلى نادى مناد من قبل الحق : يا ابن آدم ، أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود منى بعمل صالح فإنى لا أعود إلى يوم القيامة " . وهذه الحكم تنبع من روح الإسلام ومن تفقه تعاليمه العظيمة فى الإفادة من الحياة الأولى للحياة الكبرى. وإنه لمن فضل الله ودلائل توفيقه أن يلهم الرجل استغلال كل ساعة من عمره فى العمل، أو الاستجمام من جهد استعدادا لجهد آخر . (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) ومن المؤسف أن العوام لا يبالون بإضاعة أوقاتهم سُدى، ويضمون إلى هذه الجريمة السطو على أوقات غيرهم لإراقتها على التراب، وإنهم ليقتحمون على رجال الأعمال خلواتهم الجادة ليشغلوهم بالشئون التافهة . وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ". ومن استغلال الإسلام للوقت بأفضل الوسائل حثه على مداومة العمل وإن كان قليلا وكراهيته للكثير المنقطع. وذلك أن استدامة العمل القليل مع اطراد الزمن وسيره الموصول يجعل من التافه الضئيل زنة الجبال من حيث لا يشعر المرء . أما أن تهيج بالإنسان رغبة سريعة فتدفعه إلى الإكثار والإسراف، ثم تغلب عليه السآمة فينقطع، فهذا ما يكرهه الإسلام : وفى الحديث: " يأيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل " . ص _209(1/205)
وفى رواية: " سددوا ، وقاربوا ، واغدوا ، وروحوا ، وشيئا من الدلجة . والقصد القصد تبلغوا " . وعن عائشة : دخل على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعندى امرأة من بنى أسد ، فقال : من هذه ؟ قلت : فلانة ، لا تنام الليل . فقال : مه ، عليكم من الأعمال ما تطيقون ، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه " ومن محافظة الإسلام على الوقت حثه على التبكير، ورغبته فى أن يبدأ المسلم أعمال يومه نشيطا طيب النفس مكتمل العزم، فإن الحرص على الانتفاع من أول اليوم يستتبع الرغبة القوية فى ألا يضيع سائره سدى . ونظام الحياة الإسلامية يجعل ابتداء اليوم من الفجر ويفترض اليقظة الكاملة قبل طلوع الشمس ويكره السهر الذى يؤخر صلاة الصبح عن وقتها المسنون. وفى الحديث: " اللهم بارك لأمتى فى بكورها " . وإنه لمن الغفلة والحرمان أن يألف أقوام النوم حتى الضحى، فتطلع عليهم الشمس وهم يغطون، على حين تطلع على آخرين وهم منهمكون فى وسائل معاشهم ومصالح معادهم وروى عن فاطمة بنت محمد- ـ صلى الله عليه وسلم ـ - قالت: مر بى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا مضطجعة متصبحة. فحركنى برجله، ثم قال: " يا بُنية، قومى اشهدى رزق ربك ولا تكوني من الغافلين. فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس " . إذ أن الجادين والكسالى يتميزون فى هذا الوقت، فيعطى كل امرئ حسب استعداده، من خير الدنيا والآخرة . * * * وكما أن الزمن يستغرق التكاليف التى نيطت بأعناق العباد، فهو يستوعب الأقضية التى يرسلها الله على الناس من خير وشر، وهى أقضية تفيض بالعظات الحقة، والدروس القيمة لمن يلقى إليها باله : (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) . والناس ينظرون إلى الأحداث ويذهلون عن مرسلها، ويذوقون السراء والضراء، ويجهلون من يذيقهم طعومهما، فإذا ضاقوا ذرعا بأمر ما، لعنوا الأيام وما تفد به، وهذا ضرب من الجهل بالله، والغفلة عن(1/206)
أقداره فى عباده . ص _210
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قال الله عز وجل : يؤذينى ابن آدم. يسب الدهر. وأنا الدهر بيدى الأمر، أقلب الليل والنهار " . يعنى أن الزمن لا يصنع بالناس خيرا ولا شرا مما يفرح الناس به أو يحزنون له. وإنما يسوق ذلك رب الزمان والمكان:
(كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون) .
والله سبحانه وتعالى: لا يسوق الأحوال المختلفة على الناس إلا لحكم يتدبرها العارفون فيزدادون بالله إيمانا وبلقائه يقينا :
(يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) .
والسفهاء من الناس تمر بهم الأحوال الحسنة والسيئة فلا يستفيدون من اختلافها شيئا وفى الحديث: ".. إن المنافق إذا مرض ثم أعفى كان كالبعير، عقله أهله ثم أرسلوه ، فلم يدر لم عقلوه ؟ ولم يدر لم أرسلوه " .
أجل فليس بمؤمن من لم تهذبه التجارب وتقومه الأيام. وهل تعترض الآلام الناس إلا ليتعلم بها الجاهل ويصحو الذاهل ويتوب إلى الله من نأى عنه ؟
قال الله تعالى :
(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) .
وطبيعة البشر أن يعرفوا ربهم ساعة الشدة، وأن يلجأوا إليه عندما تستحكم أزماتهم، والرجل ذو اللب إن أصابته ضائقة فعطفته على الله، يجب أن يستبقى صلته بربه قوية فتية بعدما تزول ضائقته وتستجد العافية، فإن من الخسة جحد فضل الله ـ مظنة الاستغناء عنه ـ!!
أما المسرفون الذين يجهلون القيم ويقل اكتراثهم لما يصابون به واتعاظهم بالحوادث المختلفة فهم وقت الخطر يجأرون لله، والأمن يفرون منه !
(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون) .
وهذه سيرة طائشة لا يليق أن يسلكها امرؤ نبيل مع ولى نعمته .
ص _211(1/207)
ومن الاتعاظ بالزمن دراسة التاريخ العام، وتتبع آيات الله فى الأفاق وتدبر أحوال الأمم: كيف تقوم وكيف تنهار؟ وكيف تنقلب بين ازدهار وانحدار؟ والله عز وجل يطلب من الناس أن يلتفتوا إلى هذه الأدوار المتعاقبة، وأن يكون لهم وعى حصيف يوجههم إلى الانتفاع بها : (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور) . فالرجل بين حالتين: إما أن تكون له تجارب خاصة يستغلها فى تصحيح أفكاره وتدعيم إيمانه، وإما أن يكون لا علم له، فليستمع من غيره، وليستفد من معارف الآخرين، وتجاربهم، أما فتح الأعين على الدنيا المائجة بالأحداث الهائلة دون تفكر أو فقه أو اعتبار فهذا هو العمى والظلام، وهذا ما لا يليق بمؤمن . إن العمر قصير، والحاضر الذى يحيا الإنسان فى نطاقه ضيق، والعقل لا يستمد كيانه وتألقه ونفاذه من وراء الانكماش والتصور، بل لابد أن يتعدى مكانه إلى رحاب الملكوت الواسعة، وزمانه إلى عصور الحياة المتطاولة . . ومن التطواف الممحص هنا وهناك يعود بثروة طائلة من الأفكار والقصص، والآراء والوقائع، تزيد خبرته بالعالم، وتزيد معرفته برب العالمين، والإسلام يبنى الإيمان الراسخ على هذه الدعائم المكينة من التروى، والتأمل، والبحث والتنقيب . من أجل ذلك ندب أبناءه للرحلات الطويلة والسياحات الواسعة، وحبب إليهم الضرب فى مشارق الأرض ومغاربها، لا للهو واللعب، ولكن للعلم والإفادة، لا للتسلية وتزجية الفراغ، بل للبحث والدرس واستقصاء العبر عن الأحياء والهامدين. (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، هذا بيان للناس وهدى و موعظة للمتقين) . (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق). ص _212(1/208)
وكذلك يدعو القرآن الكريم إلى دراسة الحضارات البائدة وعلل فنائها، حتى يتجنب الأخلاف مواطن الزلل التى هوت بالأولين، وكم تكشف مطالعة التواريخ من غرائب : والليالى من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب ! * * * إن الزمن آية تعجز العقول عن كنهها، وما نعرفه إلا بما يخلفه فى المادة من آثار، ولعل سر الخلود والفناء مطوى فيه، لا يعرفه إلا المحيط بظواهره وخوافيه : (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ، وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون) . والذى يجب أن نعقله. أن حياتنا هذه ليست سدى ! وأن الله أجل من أن يجعلها كذلك . وإذا انتفعنا بمرور الزمن على خير وجه، سجلنا لأنفسنا خلودا لا يناوشه الزمن بهرم ولا بلى.. عند الرفيق الأعلى . * * *(1/209)