(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للعالمين أما بعد:
فاعلم أخي المسلم الكريم _ وفقني الله وإياك للقول السداد والصواب والعمل الصالح _ أن مسألة احتجاب أبدان نساء المسلمين ووجوههن عن الرجال الأجانب فرض واجب، وهي من المسائل الشرعية المتفق على فرضيتها عند علماء المسلمين وعامتهم، لا نزاع بينهم في فرضيتها البتة، وذلك؛ لاتفاق المصادر الشرعية على لزوم العمل بها وذم السفور والاختلاط، والخلوة.
فقد اتفقت أدلةُ كتاب ربنا وسنةُ نبينا وإجماعُ أئمة الإسلام والقياسُ والمصالحُ على ذلك، بل إن ذلك من مقتضيات الضروريات الخمس: الدين والنفس والمال والنسل والعقل، التي هي الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها والمحافظة عليها، بل واتفقت عليها سائر الملل(2).
فامتثل ذلك نساء المسلمين علماً وعملاً وديناً خوفاً من الله ورجاءاً.
فلم يزل عمل نساء المسلمين مستمراً وجارياً على العمل بالحجاب ونبذ السفور والتبرج والاختلاط بالرجال الأجانب منذ نزل الوحي المطهر من الله _جل جلاله_ بالأمر الصريح على نبينا محمد " بأن يأمر نساء المؤمنين بحفظ فروجهن وغض أبصارهن وستر زينتهن عن الرجال الأجانب بضرب خمرهن على جيوبهن، وأمرهن بالقرار بالبيوت، وسؤالهن المتاع من وراء حجاب؛ تطهيراً لقلوب الرجال وقلوبهن، وأن يدنين على وجوههن من جلابيبهن؛ ليعرفن فلا يؤذين، وأن لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن.
__________
(1) =الاستيعاب+ كتابٌ، بسطت فيه الأدلة، وعرضت فيه أقوال الأئمة، في مسألة الحجاب، مع ذكر شبه المجيزين للسفور، والإجابة عليها، وهذه خلاصته، رغب بعض الأفاضل فصلها عن الكتاب.
(2) انظر الموافقات للشاطبي (1/31) و(2/20) و(3/177، 236).(1/1)
فلا زال المسلمون على هذا العمل طيلة ثلاثة عشر قرناً من الزمن تقريباً يأخذه الخلف عن السلف... إلى أن جاء الاستعمار الصليبي الحاقد وضرب أطنابه وخيم على أكثر بلاد المسلمين.
وقد أدرك من تجاربه وخبراته أن المرأة هي البوابة الكبرى والسلاح الأعظم؛ لإفساد المجتمع الإسلامي والدين والدول فاتخذها سلماً وسلاحاً فتاكاً لتحقيق مآربه ومقاصده السيئة.
ففي أواخر القرن الثامن عشر، ومطلع القرن التاسع عشر، فوجئت الممالك الإسلامية بطوفان من الاستعمار الغربي، وبينا المسلمون في هجود الكرى، لم يستيقظوا بعدُ كل اليقظة، جعل هذا السيل يمتد من قطر إلى قطر، حتى شرّق العالم الإسلامي وغرب، وما أن انتصف القرن التاسع عشر حتى غدت معظم الأمم المسلمة عبيداً للغرب الأوربي، وخولاً له، والتي لم تدخل منها في عبوديته لم تسلم من الخضوع لسلطانه، ورهبة بأسه وسطوته.
وهذه هي الفترة الانهزامية التي صيرت الأمم الإسلامية فيها تحاكي أمم الغرب في الزي واللباس وسائر المظاهر الاجتماعية، في آداب المجالس وأطوار الحياة حتى في الحركة والمشي والتكلم والنطق، لقد حاولوا تشكيل المجتمع المسلم على الصيغة الغربية، وقبلوا الإلحاد والدهرية والمادية في نشوة التجدد بدون حيطة أو شعور بالعواقب وعدوا من لوازم التَّنَوُّر الفكري إيمان المرء بكل ما بلغه من قبل الغرب من فكرة ناضجة أو فَجَّة، والإفاضة فيه في مجالسه ورحبوا بالخمر والقمار واليانصيب والتهتك، والرقص، وما إلى ذلك من ثمرات الحضارة الغربية، ثم سلموا بجميع معتقدات الغرب وأعماله في الأخلاق والآداب والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون حتى في العقائد الإيمانية والعبادات، سلموا بكل ذلك من غير فهم أو شعور، ومن غير نقد أو تجريح كأنه تنزيل من السماء، ليس لهم قِبَلَهُ إلا أن يقولوا: =آمنا+.(1/2)
وأصبح المسلمون أنفسهم يستحيون من كل ما نظر إليه أعداء الإسلام بالتحقير والتعيير، ولو كان هذا الشيء من الأمور الثابتة في الشرع الحنيف، وطفقوا يحاولون أن يمحوا تلك السُّبَّةَ عن أنفسهم:
_ اعترض الغربيون على ما عندهم من أحكام الجهاد، فقال هؤلاء المنهزمون: =ما لنا وللجهاد يا سادة؟ إنا نعوذ بالله من هذه الهمجية..
_ اعترضوا عليهم في أحكام =الرق+ فقال هؤلاء: إنما هو حرام عندنا أصلاً(1).
وأطالوا لسان القدح في تعدد الزوجات، فجاء المنهزمون ينسخون بضلالهم وجهلهم آيات القرآن، ويحرفون الكلم عن مواضعه+(2).
_ ثم قال أولئك الغربيون: =لا بد من مساواة الرجل والمرأة في جميع نواحي الحياة، فوافقهم المنهزمون، وقالوا: =وهذا الذي ينادي به ديننا، ويدعو إليه+.
_ وطعن القوم في أحكام الزواج والطلاق في الإسلام، فقامت طائفة من المنهزمين تعالجها بالإصلاح والتعديل.
_ ولما عابوا الإسلام بأنه عدوٌ لما يسمى =الفنون الجميلة+ استدرك هؤلاء، قائلين: =كلا، بل ما زال الإسلام مذ كان يحتضن هذه الفنون، ويحض عليها، ويشرف على الرقص والموسيقى والتصوير والغناء، ونحت التماثيل...
لقد استطاع أعداء الإسلام في تلك الحقبة أن يغرسوا في نفوس الكثير من المنهزمين أن هؤلاء الأعداء الموتورين قد توارثوا الأحقاد على الإسلام عبر القرون، وانهم لا يألون جهداً حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا.
كأن أنسالهم من بعدهم حلفوا
أن يبعثوا الحقد نيراناً وينتقموا
هذي حضارتهم والشر يملؤها
ماتت على صرحها الأخلاق والشيم
__________
(1) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (3/386 _ 389).
(2) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي (3/377 _ 380).(1/3)
فقد نظر الغرب إلى الحجاب والنقاب بعين المقت والازدراء، وصوره أقبح تصوير وأشنعه فيما كتب ونشر، وعَدَّ =حبس المرأة+ _ على حد تعبيره _ من أبرز عيوب الإسلام، ولكن أنَّى للمنهزمين أن يغضوا عن هذه النقيصة التي أخذها سادتهم عليهم فيما أخذوا؟! لقد فعلوا في هذه المسألة _ الحجاب _ مثل ما فعلوا في مسائل الجهاد وتعدد الزوجات والرق وما شاكلها من المسائل، فما كان منهم إلا أن عمدوا إلى الكتاب والسنة يتصفحون أوراقهما، وإلى كتب الفقه والأحكام ينقبون عن اجتهادات الأئمة فيها، وأقوال الفقهاء لعلهم يجدون في ثناياها ما يعينهم على أن يغسلوا عن أنفسهم هذا العار الذميم الذي عَيَّرهم به الغربيون، فإذا بهم يقعون على أقوال لبعض الأئمة تجيز للمرأة أن تبدي وجهها وكفيها وتخرج من بيتها لحوائجها، ويؤخذ منها أيضاً أن المرأة يجوز لها أن تشهد الحرب لسقي المجاهدين ومداواة الجرحى، ثم وجدوا في تلك الأقوال إذناً بخروج المرأة إلى المسجد للصلاة، وجلوسها للتعلم والتعليم، فكفاهم هذا القدر من المعلومات لأن يدعوا أن الإسلام قد أعطى للمرأة حرية مطلقة وأن الحجاب من تقاليد الجهلاء، اتخذه المتأخرون من المسلمين الجامدين، المتشددين، ولا أثر له في آية ولا في حديث، وإنما القرآن والسنة يعلمان الحياء والعفاف على سبيل التوجيه الخلقي العام، وليس فيها قانون أو ضابط يقيد حركة المرأة وتنقلها بقيد ما+اهـ (1).
قلت: ومن هنا ينبغي لنا أن نعلم هذه الحقائق:
_ أن احتجاب وجوه نساء المؤمنين عن الرجال الأجانب مما استمر عملهن عليه طيلة هذه القرون؛ أي ابتداءاً من نزول الأمر به من الله سبحانه على نبينا محمد" إلى أن زحزح عنهن بالقوة والقهر والعيب والتعيير، والمقت من قبل العدو المستعمر وتحكمه بالمسلمين، في أواخر القرن الثامن عشر وأول التاسع عشر الميلادي.
__________
(1) نقلاً من عودة الحجاب لمحمد أحمد المقدم (1/7_11).(1/4)
_ أنه لا خلاف بين علماء المسلمين في وجوب الحجاب على نسائهم، وتحريم السفور وإنما الخلاف في الحقيقة بين المسلمين وبين أعداء المسلمين ومن ظاهرهم من المنهزمين.
_ أن ما تعلق به المنهزمون من الأدلة على جواز السفور شبه، لا حقيقة لها ولا قرار.
_ أن من الأدلة على عدم الأدلة على جواز السفور قول المنهزمين:
=الحجاب من تقاليد الجهلاء، اتخذه المتأخرون من المسلمين الجامدين، المتشددين، ولا أثر له في آية ولا في حديث... الخ.
فهذا القول المنكر وهذا الإرجاف والتنفير، لا يلجأ إليه إلا المنهزمون حيث لم يجدوا دليلاً، ولا شبه دليل يؤيد دعواهم، وإلا لو كان عندهم شيء من الأدلة لقارعوا الحجة بالحجة والدليل بالدليل بدلاً من أساليب المنهزمين الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق.
ولعل من شُبِّهَ عليه والتبس عليه الأمر لا يصدق بهذه الحقائق إلا إذا عززت وبرهنت بكلام أهل العلم.
فيقال له: إليك هذه الحقائق _ نور الله بصيرتك _:
الحقيقة الأولى: استمرار العمل بالحجاب طيلة ثلاثة عشر قرناً ونصف القرن ثابت ومنقول بالتواتر. وإليك الأمثلة لهذه الحقيقة:
قال بدر الدين العين الحنفي في عمدة القاري (20/98) في فوائد حديث عائشة _ رضي الله عنها _ في قصة أفلح أخي أبي القعيس ... الخ:
=وفيه أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن للرجل الذي ليس بمحرم لها في الدخول عليها، ويجب عليها الاحتجاب منه بالاجماع+اهـ.
وقال أيضاً في العمدة (9/324):
=ولم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب+.
وقال أيضاً (20/217):
=استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار متنقبات؛ لئلا يراهن الرجال.... إلى أن قال:
=إذ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات+.
وقال أبو حيان المالكي في البحر المحيط (7/240):(1/5)
=أمر النساء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه؛ ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهن... إلى أن قال:
=وكذا عادة بلاد الأندلس، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة+.
وقال محمد أولي الأنصاري المالكي في كتابه إرشاد المسترشد (2/61) حاكياً وفاق الأئمة الأربعة في لباس المحرمة:
=وكذلك المرأة لا تغطي وجهها، ولا كفيها إلا عند ملاقاة الرجال الأجانب+.
وقال الإمام الحافظ ابن حجر الشافعي في فتح الباري (9/337):
=استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهن الرجال... إلى أن قال:
=إذ لم تزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات+.
وقال قبل هذا في المصدر السابق (9/324):
=ولم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب+.
وقال أبو حامد الغزالي في الإحياء (2/53):
=لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات، ولو كان وجوه الرجال عورة في حق النساء لأمروا بالتنقب أو منعن من الخروج إلا لضرورة+اهـ.
وبمثل ذلك قال أبو العباس الشافعي في إرشاد الساري (8/117).
وقال الإمام الموزعي الشافعي في تيسير البيان لأحكام القرآن (2/1001):
=لم يزل عمل الناس على هذا قديماً وحديثاً في جميع الأمصار والأقطار، فيتسامحون للعجوز في كشف وجهها ولا يتسامحون للشابة ويرونه عورة ومنكراً+.
وقال الإمام الحبر البحر ناصر السنة وقامع البدعة شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه في مجموع الفتاوى (15/372): =كانت سنة المؤمنين في زمن النبي " وخلفائه أن الحرة تحتجب+.
وقال أيضاً في مجموع الفتاوى (15/371):
وثبت في الصحيح: =أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين+ وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحْرِمْنَ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن... إلى أن قال ص373:(1/6)
=بل كانت عادة المؤمنين أن تحتجب منهم الحرائر...+.
وقال الحافظ ابن رجب في فتح الباري (2/346):
=صارت المرأة الحرة _ بعد نزول آية الحجاب _ لا تخرج بين الناس إلا بالجلباب+.
وأما الحقيقة الثانية: فهي القول بعدم الخلاف بين علماء المسلمين في فرضية الحجاب على نساء المؤمنين بين الرجال الأجانب، وتعزيزها يتضح بثبوت الإجماع على وجوب وفرض الحجاب، الذي نقله ما يزيد على أربعين نفساً من أئمة المسلمين.
فهاك نماذج منه على كل مذهب من مذاهب الأئمة الأربعة:
أولاً: النقول من أصحاب المذهب الحنفي:
_ تقدم قريباً قول العيني: =يجب على المرأة الاحتجاب من الرجال بالإجماع+.
وقال الشيخ محمد أديب كلكل فيما نقله عنه الهنداوي في فرضية النقاب ص139:
=ستر وجه المرأة فرض عند خوف الفتنة، والفتنة واقعة لا محالة لا يشك في ذلك إلا مكابر، ومنكر للحقائق والواقع، وعليه اتفاق الأئمة _ رضوان الله عليهم أجمعين _+.
وقال محمد بن الحسن في روايته موطأ مالك ص146 رقم425:
= ولا ينبغي للمرأة أن تنتقب، فإن أرادت أن تغطي وجهها فلتسدل الثوب سدلاً من فوق خمارها على وجهها، وتجافيه عن وجهها. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا+اهـ.
وقال سماحة مفتي باكستان الشيخ شفيع الحنفي في كتابه: =المرأة المسلمة+ ص202:
= وبالجملة فقد اتفقت مذاهب الفقهاء وجمهور الأمة على أنه لا يجوز للنساء الشواب كشف الوجوه والأكف بين الأجانب، ويستثنى منه العجائز، لقوله تعالى: [والقواعد من النساء... الآية].
وصرح الشيخ صديق حسن خان في فتح العلام (1/97) بأن المرأة كلها عورة.
ثانياً: النقول من أصحاب المذهب المالكي:
قال الإمام ابن عبدالبر في التمهيد (15/108) والاستذكار (11/28) رقم15257 في ستر المرأة المحرمة وجهها:
=وأجمعوا .... أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال إليها+.(1/7)
وبمثل هذا نقل الإمام الزرقاني في شرح الموطأ (2/234) رقم734 في شرح حديث فاطمة بنت المنذر: =كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات... الحديث.
وابن رشد في بداية المجتهد (1/336).
وتقدم قول الأنصاري في حكاية مذاهب الأئمة الأربعة (1/61) في المحرمة:
=المرأة لا تغطي وجهها ولا كفيها إلا عند ملاقاة الرجال الأجانب+.
وقال أبو الحسن بن القطان في الإقناع (1/262) رقم 1458في المحرمة:
=وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً، تستتر به عن نظر الرجال إليها+.
وصرح الإمام أبو بكر ابن العربي في العارضة (2/135_137) بوجوب ستر جميع جسد المرأة، فإنها عورة.
وقال في المصدر نفسه (4/56):
=ستر وجه المرأة بالبرقع فرض إلا في الحج؛ فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها+.
وعزا الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (22/109) إلى الإمام مالك أنه يذهب إلى أن المرأة عورة كلها حتى ظفرها.
ثالثاً: النقول من أصحاب المذهب الشافعي:
حكى الإمام العلامة أحمد بن حسين أبو العباس الرملي الشافعي المعروف بـ: ابن رسلان × فيما نقله عنه الإمام الشوكاني في نيل الأوطار (6/130):
=اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لا سيما عند كثرة الفساق+اهـ.
وقال شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة الرملي الشافعي الصغير في نهاية المحتاج (6/187): =النظر وكشف الوجه مع خوف الفتنة حرام بالإجماع، كما قاله الإمام _ يعني إمام الحرمين _+.
ونقل الشهاب في شرحه _كما في عودة الحجاب للمقدم _ (3/271) أنه قال:
=ومذهب الشافعي × كما في الروضة وغيرها: أن جميع بدن المرأة عورة حتى الوجه والكف مطلقاً+اهـ.
وقال البيضاوي في أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/121):
=كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة+اهـ.(1/8)
وقال أبو العباس أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/5):
=حرم أئمتنا النظر إلى قلامة ظفر المرأة المنفصلة، ولو مع يدها على الأصح من حرمة نظر اليدين والوجه؛ لأنهما عورة في النظر من المرأة ولو أمة على الأصح، وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة... الخ+.
وجاء في عناية القاضي وكفاية الراضي (6/373):
=أن مذهب مالك والشافعي أن جميع بدن الحرة عورة+.
وصرح الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر ص410_414 =بأن كل بدن المرأة عورة حتى الوجه والكفين في الأصح+.
ونقل ابن حجر في تحفة المحتاج (2/112): =عن الزيادي _ وأقره عليه _ أن عورة المرأة أمام الأجنبي جميع بدنها حتى الوجه والكفين على المعتمد+ اهـ.
وقال الشرقاوي في حاشيته على تحفة الطلاب (1/174):
=وعورة الحرة خارج الصلاة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها حتى الوجه والكفين، ولو عند أمن الفتنة+.
وحكى الإمام النووي في روضة الطالبين (7/21) عن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني أنه =حكى اتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات الوجوه+.
رابعاً: النقول من أصحاب المذهب الحنبلي:
قال شيخ الحنابلة الإمام الموفق ابن قدامة في المغني (5/154) رقم 590 في المرأة المحرمة:
=فإذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها... لا نعلم فيه خلافاً+.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (26/112) في المحرمة:
=ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه فالصحيح أنه يجوز أيضاً، ولا تكلف المرأة أن تجافى سترتها عن الوجه لا بعود، ولا بيد ولا غير ذلك+.
وقال أيضاً في حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة ص7:
=وبالجملة فقد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خرجت+اهـ.(1/9)
وقال الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد (3/141) في المحرمة:
=قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها+ اهـ.
وقال الإمام العلامة شمس الدين أبو عبدالله بن مفلح في الفروع (3/450) في المحرمة:
=والمرأة إحرامها في وجهها، فيحرم تغطيته ببرقع أو نقاب... إلى أن قال:
ويجوز لها أن تسدل على الوجه لحاجة وفاقاً+يعني للثلاثة.
وقال أيضاً في المصدر نفسه (5/155):
=ويحرم النظر بشهوة، ومن استحله كفر إجماعاً، قاله شيخنا+.
وقال الإمام العلامة يوسف بن عبدالهادي الشهير بابن المَبْرد في مغني ذوي الأفهام ص120:
=ويجب عليها ستر وجهها إذا برزت+.
قلت: يعني عند الأئمة الأربعة.
وعلى هذا القول عامة فقهاء الحنابلة _رحمهم الله تعالى_.
وأما الإمام أحمد × فقد ثبت عنه أنه نص على أن المرأة كلها عورة حتى ظفرها. نقله عنه جماعة من أصحابه.
وممن نص على أن المرأة كلها عورة شيخ الإسلام ابن تيمية × في مجموع الفتاوى (22/113) و(26/112) وكافة علماء الحنابلة.
وقال العلامة النظار المجتهد الكبير محمد بن إبراهيم الوزير اليماني في الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (1/202):
=وأجمعوا على وجوب الحجاب للنساء+ اهـ.
وذكر الإمام العلامة الأمير الصنعاني في كتابه منحة الغفار على ضوء النهار (4/2011 ،2012 ): =إجماع المسلمين على تحريم التبرج+.
وقال الإمام العلامة الشوكاني في نيل الأوطار (6/128): =وقال ابن المظفر في البيان: إنه يحرم النظر إلى الأجنبية مع الشهوة اتفاقاً+ اهـ.
وصرح الإمام الأمير الصنعاني في سبل السلام (1/383) بأن المرأة كلها عورة في باب النظر .
الحقيقة الثالثة: أن ما تعلق به دعاة السفور المنهزمون على جواز السفور شبه لا حقيقة لها ولا قرار، ومنها:
_ قوله سبحانه وتعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا]، حيث قالوا: الزينة المستثناة هي الزينة الظاهرة، وهي الوجه والكفاف.(1/10)
وهذا يدل على جواز سفور الوجه والكفين للأجانب!!!
وقد غاب عنهم أن الآية ليس فيها دليل على جواز السفور البتة؛ لأن ظاهرها بل صريحها يدل دلالة واضحة على وجوب حجب الزينة مطلقاً عن الرجال الأجانب، ووجه ذلك: أن الله جل شأنه لم يسند إظهار الزينة فيها إلى المؤمنات، وإنما أسنده إلى الزينة نفسها، فقال: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] ولم يقل =إلا ما أظهرن منها+ وهذا صريح بأن المراد ظاهر الثياب..الخ.
وما ظهر منها بنفسه من غير قصد إظهار ولا إرادته. يوضح هذا أن الله سبحانه لما أراد جواز إظهار الزينة قصداً وإرادة أسند إظهار الزينة إلى المؤمنات، فقال:
[وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ...]الآية.
فما أراد الله بإظهاره من الزينة بالقصد أسند الإظهار إليهن، وما لم يقصد إظهاره منها أسند الإظهار إلى الزينة.
فبين العبارتين فرق عظيم وبون شاسع، يتغير به المعنى.
والعلم عند الله تعالى.
فإن قيل: جاء عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ أنه فسر [مَا ظَهَرَ مِنْهَا] بالوجه والكفين؟
قيل: نعم، جاء عنه ذلك، ولكنه لا يدل على جواز السفور لوجوه:
الأول: أنه على فرض صحته _ أراد به: ما تظهره في بيتها لمن دخل عليها.
كما رواه البيهقي في السنن الكبيرى (7/94) وابن جرير في تفسيره (9/305) رقم 25967
الثاني: أنه ثبت عنه ÷ أنه قال: المرأة المحرمة تغطي وجهها كما جاء في مسائل أبي داود للإمام أحمد ص108، 110 بسند صحيح.
الثالث: أنه ورد عنه رضي الله عنه أنه فسر آية الحجاب من سورة الأحزاب بتغطية الوجه والكفين.
أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/ 332) رقم 28647 بلفظ: =أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة+.(1/11)
_ ومن الشبه: تعلق دعاة السفور المنهزمين بفهم بعض العلماء من نهي المحرمة عن النقاب والقفازين، فقال: إن المحرمة لا تستر وجهها، ولا تغطيه ولو كانت بين الرجال الأجانب.
وهذا فهم خاطئ وغلط فاحش؛ فإن المحرمة لم تنه عن تغطية وجهها البتة، وإنما نهيت عن تغطية الوجه والكفين بما يستران به من اللباس المعتاد كالنقاب والقفازين فقط، مثلها في ذلك مثل الرجل المحرم، فقد نهي عن اللباس المعتاد كالقميص والبرانس واالسراويل والخفاف ونحوها.
أي اللباس المصنوع والمُعَدِّ لهذه الأعضاء، ولهذا جاز للرجل ستر بدنه وعورته بغير اللباس المعتاد باتفاق العلماء، فكذلك المرأة المحرمة يجوز لها تغطية وجهها وكفيها بغير المعتاد من الثياب باتفاق العلماء.
قال ابن حزم في المحلى (7/102):
= فقد كذبوا، وما نهيت المرأة عن تغطية وجهها، بل مباح لها في الإحرام _ وإن نهيت عن النقاب فقط+.
وقال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية × في المجموع (26/112):
=ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق+.
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (3/141):
=قد أجمع الناس على أن المحرمة تستر بدنها بقميصها ودرعها...+.
وقال الإمام الشوكاني في السيل الجرار (2/180) في المحرمات:
=بل كن يكشفن وجوههن عند عدم وجود من يجب سترها منه، ويسترنها عند وجود من يجب سترها منه+اهـ.
وقال أبو بكر ابن العربي × في عارضة الأحوذي (4/56) في قوله ":
=ولا تنتقب المرأة+: وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لا صق به+اهـ.
ومن شبه دعاة السفور: استدلالهم على جوازه بأن وجه المرأة ليس بعورة في الصلاة.
قالوا: وما ليس بعورة في الصلاة فليس بعورة في النظر إليه!!، والجواب عن هذا بما يلي:
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (22/109):(1/12)
=وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها؛ لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله _عز وجل_ آية الحجاب بقوله: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ] حُجِبَ النساء عن الرجال... إلى أن قال ص111:
=فكان النساء ينتقبن، وفي الصحيح: =أن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين، فإذا كن مأمورات بالجلباب؛ لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب: كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة... إلى أن قال ص115:
=وبالجملة قد ثبت بالنص والإجماع أنه ليس عليها في الصلاة أن تلبس الجلباب الذي يسترها إذا كانت في بيتها، وإنما ذلك إذا خرجت، وحينئذٍ فتصلي في بيتها، وإن رؤي وجهها ويداها وقدماها، كما كن يمشين أولاً قبل الأمر بإدناء الجلابيب عليهن، فليست العورة في الصلاة مرتبطة بعورة النظر، لا طرداً، ولا عكساً+اهـ بتصرف.
وقال الإمام ابن القيم _رحمه الله تعالى_ في أعلام الموقعين (2/80) في عورة المرأة:
=والعورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك+.
وقد أطبق على هذا فقهاء الحنابلة _رحمهم الله تعالى_:
وأما مذهب الحنفية فإليك طائفة من نصوص أئمتهم: قال البيانوني _رحمه الله تعالى_ في رسالة =الفتن+ ص207:
=وقال الجرداني _رحمه الله تعالى_: وعورة المرأة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها جميع بدنها بدون استثناء شيء منه أصلاً، ولو كانت عجوزاً شوهاء، فيحرم على الرجل أن ينظر إلى شيء منها، ولو بغير شهوة، ويجب أن تستتر عنه، هذا هو المعتمد+ اهـ.(1/13)
وجاء في حاشية ابن عابدين (2/488):
=ونص الاسبيجاني والمرغيناني والموصلي: على أن وجه المرأة داخل الصلاة ليس بعورة، وأنه عورة خارجها، ورجح في شرح المنية أن الوجه عورة مطلقاً+ اهـ.
وقال الشيخ صديق حسن خان في فتح العلام (1/97): يباح كشف كشف وجهها في الصلاة. وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة+ اهـ.
وأما مذهب المالكية فكذلك إلا أن أبا الوليد الباجي بين مأخذ كون الوجه ليس بعورة في الصلاة.
فقال في المنتقى (1/251) في عورة الصلاة:
= فأما الحرة فجسدها كلها عورة غير وجهها وكفيها، وذهب بعض الناس إلى أنه يلزمها أن تستر جميع جسدها+.
ثم قال: =واستدل أصحابنا في ذلك بقوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا].
قالوا: إن الذي يظهر منها الوجه واليدان، وعلى ذلك أكثر أهل التفسير.
ثم وجهه بأن ما لا يكون منها عورة خارج الصلاة، فإنه لا يكون منها عورة في الصلاة كالوجه والكفين، ومما يدل على ذلك أن هذا عضو يجب كشفه بالإحرام فلم يكون عورة كوجه الرجل، وسائر ما ذكرنا من جسد الحرة يجري مجرى عورة الرجل في وجوب ستره في الصلاة+اهـ.
قلت: ومأخذ كون الوجه ليس بعورة على الوجه الذي ذكره الباجي، فيه نظر ظاهر من وجوه:
الوجه الأول: أن تفسير ما ظهر من الزينة في الآية بالوجه والكفين ضعيف، لا يعول عليه لمخالفته لظاهر الآية وأقوال أهل التفسير، وقد تقدم وجه ذلك.
الوجه الثاني: أن استدلاله على أن الوجه ليس بعورة بوجوب كشفه بالإحرام، غلط ظاهر، وذلك أنه لم يرد دليل ولا شبه دليل على وجوب كشفه في الإحرام البتة، وإنما الوارد ستره وتغطيته بغير النقاب ونحوه وتقدم أيضاً، يوضح هذا:(1/14)
الوجه الثالث: أن الباجي نص على أن المحرمة تستر وجهها، فقد قال في المنتقى (2/200) على قول الإمام مالك: باب تخمير المحرم وجهه في حديث فاطمة بنت المنذر: =كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق _ رضي الله عنهما _+.
قال: =قولها: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات+ تريد أنهن كن يسترن وجوههن بغير =النقاب+ على معنى التستر؛ لأن الذي يُمْنَعُ =النقاب+ أو ما يجري مجراه _ على ما ذكرناه _ وإضافة ذلك إلى كونهن مع =أسماء بنت أبي بكر+؛ لأنها من أهل العلم، والدين والفضل، وأنها لا تقرهن إلا على ما تراه جائزاً عندها، ففي ذلك إخبار بجوازه عندها، وهي ممن يجب لهن الاقتداء بها، وإنما يجوز أن يخمرن وجوههن على ما ذكرنا: بأن تسدل ثوباً على وجهها تريد الستر، ولا يجوز أن تسدله لحر ولا لبرد، فإن فعلت ذلك فعليها الفدية+اهـ.
الوجه الرابع: أن أئمة أهل التفسير من علماء المالكية نصوا على أن المرأة كلها عورة وأن الوجه هو أصل الزينة التي يجب سترها.
ومن هؤلاء الإمام ابن العربي فإنه قال في أحكام القرآن (3/1579) والإمام أبو عبدالله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/5309) قالا:
=المرأة كلها عورة: بدنها وصورتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعِنُّ ويعرض عندها+.
وقال ابن العربي أيضاً (3/1368) والقرطبي (6/4621):
=الوجه أصل الزينة، وجمال الخِلقة، ومعنى الحيوانية...+.
وزاد ابن العربي: =حرم الله إظهار الزينة على الإطلاق، واستثنى من ذلك اثني عشر محلاً...الخ.
وصرح ابن العربي في العارضة (2/135_137) بوجوب ستر جميع جسد المرأة؛ فإنها عورة+اهـ.
وقال في المصدر نفسه (4/56):
=ستر وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج؛ فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها+.
وقال في القبس (1/323): =وأما المرأة فكلها عورة في الصلاة إلا وجهها وكفيها+.(1/15)
وقال الإمام أبو عبدالله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/4619):
=فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد+اهـ.
وقال العلامة محمد بن أحمد بن جُزي الكلبي في التسهيل لعلوم التنزيل (3/144):
=كان نساء العرب يكشفن وجوههن، كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعياً إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب؛ ليسترن بذلك وجوههن+اهـ.
وأما مذهب الشافعية في التفريق بين عورة الصلاة وعورة النظر فهو التفريق بينهما وإليك بعض النقول عنهم:
قال الإمام الشافعي×في الأم (1/109):
=وعلى المرأة أن تغطي في الصلاة كل بدنها ما عدا كفها ووجها+اهـ.
وقال في عورة النظر في المرجع السابق (2/162):
=وتفارق المرأة الرجل، فيكون إحرامها في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه، فيكون للرجل تغطية وجهه كله من غير ضرورة، ولا يكون ذلك للمرأة، ويكون للمرأة إذا كانت بارزة تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها، أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها، وتجافيه عن وجهها، حتى تغطي وجهها متجافياً كالستر على وجهها، ولا يكون لها أن تنتقب+اهـ.
وقرر هذا الإمام العلامة الماوردي في الحاوي الكبير (2/162) و (4/92) والإمام النووي في شرح المهذب (3/159) و (7/240).
ونص الإمام النووي × في المنهاج على حرمة كشف وجه المرأة وكفيها _ وإن انتفت الفتنة، وأمنت الشهوة _ وهو قول أيضاً الاصطرخي والطبري، وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والرُّوياني وغيرهم+اهـ(1).
وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/3، 5):
=ومن ثم حَرَّمَ أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة، ولو مع يدها بناءً على الأصح من حرمة نظر اليدين والوجه، لأنهما عورة في النظر من المرأة، ولو أمة على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة+.اهـ
__________
(1) انظر نهاية المحتاج لأبي العباس الشافعي الصغير الرملي (6/187).(1/16)
وقال الإمام الشرقاوي على التحرير (1/173):
=وعورة الحرة خارج الصلاة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها، فجميع بدنها حتى الوجه والكفين، ولو عند أمن الفتنة، ولو رقيقة، فيحرم عليه أن ينظر إلى شيء من بدنها، ولو قلامة ظفر منفصلة منها+اهـ.
وقال الإمام البيضاوي في أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/252):
في قوله تعالى: [وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ] كالحلي والثياب والأصباغ فضلاً عن موضعها لمن لا يحل أن تبدي له [إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا] عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم؛ فإن في سترها حرجاً.
وقيل: المراد بالزينة مواضعها على حذف مضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينة، والمستثنى: هو الوجه والكفان؛ لأنها ليست بعورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر؛ فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة+اهـ.
وقال الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر ص410_414 في أحكام الأنثى وأحوال عورتها.. ففصل في ذلك.. ثم قال:
=وحالة مع الأجانب وعورتها كل البدن حتى الوجه والكفين في الأصح.. وحالة في الصلاة وعورتها كل البدن إلا الوجه والكفين+اهـ.
وقال الموزعي في تيسير البيان في أحكام القرآن (2/1001):
=والسلف والأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم لم يتكلموا إلا في عورة الصلاة، فقال الشافعي ومالك: ما عدا الوجه والكفين وزاد أبو حنيفة القدمين وما أظن أحداً منهم يبيح للشابة أن تكشف وجهها لغير حاجة ولا يبيح للشاب أن ينظر إليها لغير حاجة+.
ونقل ابن حجر في في تحفة المحتاج (2/112) عن الزيادي أنه قال:
=عورة المرأة أمام الأجنبي جميع بدنها حتى الوجه والكفين على المعتمد+.
ونقل أيضاً في المصدر نفسه (2/112) و (4/165) عن الشرقاوي أنه قال في حاشيته على تحفة الطلاب:
=وعورة الحرة خارج الصلاة بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها حتى الوجه والكفين+اهـ.(1/17)
وقال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في سبل السلام (1/383) رقم 194/ في عورة المرأة في الصلاة:
=يباح كشف وجهها، حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند صلاتها، بحيث لا يراه أجنبي... فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها، فكلها عورة+.
وقال في المصدر نفسه (3/282) في أحاديث النظر إلى المخطوبة:
=والأصل: تحريم نظر الأجنبي والأجنبية إلا بدليل كالدليل على جواز نظر الرجل لمن يريد خِطبَتها+اهـ.
وقال أيضاً (2/501) رقم673 في لباس المحرمة:
=والذي يحرم عليها في الأحاديث الانتقاب أي لبس النقاب، كما يحرم لبس الرجل القميص والخفين، فيحرم عليها النقاب، ومثله البرقع _وهو الذي فصل على قدر ستر الوجه؛ لأنه الذي ورد به النص، كما ورد بالنهي عن القميص للرجل مع جواز ستر الرجل لبدنه بغيره اتفاقاً، فكذلك المرأة المحرمة تستر وجهها بغير ما ذكر كالخمار والثوب. ومن قال: إن وجهها كرأس الرجل المحرم لا يغطى بشيء، فلا دليل معه+اهـ.
وقال أيضاً × في حاشيته على شرح عمدة الأحكام (3/476) في حديث ابن عمر: =ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين+:
=قوله: بوجهها وكفيها+ قال:
=أقول: فلا يلبس ما فصل وقطع وخيط لأجل الوجه كالنقاب، ولأجل اليدين كالقفازين، لا لأن المراد أنها لا تغطي وجهها وكفيها كما توهم، فإنه يجب سترهما، لكن بغير النقاب والقفازين+اهـ.
وقال الإمام العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني في السيل الجرار (1/161) في عورة الصلاة:
=قوله: =من الحرة غير الوجه والكفين+، أقول: قد دل الدليل على أن هذا يجب عليها ستره من الرجال، ولا يجوز لهم النظر إليه، وأما كون صلاتها لا تصح إذا كانت خالية أو مع زوجها أو محارمها فغير مسلم+اهـ. يعني مع تغطية وجهها.
وقال أيضاً في المصدر نفسه (2/180) في حديث عائشة:(1/18)
=كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله"محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه+ قال:
=وليس فيه ما يدل على أن الكشف لوجوههن كان لأجل الإحرام، بل كن يكشفن وجوههن عند عدم وجود من يجب سترها منه، ويسترنها عند وجود من يجب سترها منه. وهكذا ما رواه الحاكم وصححه من حديث أسماء بنحوه؛ فإن معناه معنى ما ذكرناه، فليس في المنع من تغطية وجه المرأة ما يتمسك به، والأصل الجواز حتى يرد الدليل على المنع+اهـ.
وقال في نيل الأوطار (5/7) في حديث عائشة المذكور:
=واستدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة إذا احتاجت إلى ستر وجهها، لمرور الرجال قريباً منها، فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها؛ لأن المرأة تحتاج إلى ستر وجهها، فلم يحرم عليها ستره مطلقاً كالعورة، لكن إذا سدلت يكون الثوب متجافياً عن وجهها، بحيث لا يصيب البشرة. هكذا قال أصحاب الشافعي وغيرهم، وظاهر الحديث خلافه؛ لأن الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة فلو كان التجافي شرطاً لبينه"+اهـ.
قلت: وهو كما قال _ رحمه الله تعالى _ فالثوب المسدول على الوجه لا بد من إصابته لبشرة الوجه، وليس في الحديث أن المحرمة تنهى عن ستر وجهها بما لا يمس البشرة البتة، ولا أنها تنهى عن ستر يديها بما لا يمس بشرتهما، وإنما دل الحديث بالنص على أنها نهيت عن تغطية وجهها بالنقاب والقفازين فقط وأما تغطية هذه الأعضاء بغير النقاب والقفازين فلم تنه عنه البتة.
وتعبير عائشة _رضي الله عنها_ عن تغطية الوجه بالسدل ليس معناه نهياً عن تغطيته بما لا يمس البشرة؛ لأن مثل هذا لا تأتي به الشريعة السمحة البتة؛ لما فيه من الحرج والمشقة والإصر والضيق المرفوع عن هذه الأمة المحمدية.
وإلزام مَنْ قال به من أهل العلم مثلُه كمثل قول الأول:
ألقاه في اليم مكتوفاً، وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء(1/19)
ويلزم من قال : =إذا سدلت يكون الثوب متجافياً عن وجهها بحيث لا يصيب البشرة+ أن يقول مثله في حق الرجل المحرم، يلزمه أن يقول: يجوز للرجل المحرم أن يسدل على بدنه وعورته ثوباً متجافياً، بحيث لا يصيب البشرة، لأن الحديث الوارد بالنهي عن النقاب والقفازين في حق المحرمة هو الحديث الوارد بنهي الرجل المحرم عن لبس القميص والبرانس والخفاف والسراويل.
فلماذا خصت المرأة المحرمة بتكليف ما لا يطاق إلا بمشقة وحرج مع أن مخرج الحديث واحد؟!!!
ومن هنا تعلم يقيناً أن الصحيح، بل الصواب الذين ندين الله به أن المحرمة يجب عليها تغطية وجهها عن الرجال الأجانب ويديها بغير النقاب والقفازين ولو مس الغطاء البشرة، وأنه لا فرق بين التعبير عن ستر الوجه بالسدل وبين التعبير عن ستره بالتغطية أو التخمير. والله أعلم.
ومن هنا يتضح لك أيها المسلم اللبيب تمام الوضوح بعض الأوهام التي وقعت لبعض العلماء _غفر الله لهم_ وتشبث بها دعاة السفور على جوازه، والتي منها: قول بعضهم: =وللمحرمة أن تسدل على وجهها ثوباً متجافياً عنه بخشبة ونحوها+.
ومنها: قول بعضهم: =الغالب على الوجه والكفين الظهور عادة وعبادة في الصلاة والحج فحسن أن يكون الإستثناء راجعاً إليهما _ يعني في قوله تعالى: [إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا]+.
وقول بعضهم: =جمهور المفسرين يفسرون [مَا ظَهَرَ مِنْهَا] بالوجه والكفين+.
وقول بعضهم: =إن في عورة النظر خلافاً بين أهل العلم+.
وقول بعضهم: =إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه+.
وقول بعضهم: =النظر إلى الأجنبية جائز من غير شهوة ولا خلوة+.
وقول بعضهم: =كشف وجوه المؤمنات في الصلاة جائز بالإجماع ولو رآه الغرباء+.
وكل هذه الأقوال _ فيما أحسب _ لم تسعد بالصواب، لأنها ناتجة إما عن وهم، وإما عن اجتهاد، وإما عن تقليد.(1/20)
والدليل على ذلك مخالفتها لأدلة كتاب الله وسنة رسوله " وإجماع سلف الأمة وخلفها، والقياس، والضروريات الخمس _كما تقدم_.
والمسلم مأمور باتباع الدليل ومنهي عن مخالفته امتثالاً لقوله تعالى: [وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا].
وامتثالاً للقاعدة الأصولية التي تقول:
=أقوال العلماء يحتج لها بالدليل، ولا يحتج بها على الدليل+.
وأن علماء المسلمين قد أفردوا موضوع الحجاب بمؤلفات كثيرة، بلغ ما وقفت عليه منها ما يزيد على ثلاثمائة كتاب، اتفقت كلها على تحريم السفور ووجوب الحجاب، وتحريم الاختلاط والمطالبة بمساواة الأنثى بالذكر.
وأرى من المستحسن أن أختم هذا المختصر بكلام نفيس للعلامة الكبير، والفهامة النحرير محمد الأمين ابن محمد المختار الجنكي الشنقيطي × في أضواء البيان (3/422) حول المطالبة بتسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام، والميادين، يقول _ عليه رحمة الله ورضوانه _:
=فلتعلمن أيتها النساء اللاتي تحاولن أن تكن كالرجال في جميع الشئون أنكن مترجلات متشبهات بالرجال، وأنكن ملعونات في كتاب الله على لسان رسوله ".
وكذلك المخنثون المتشبهون بالنساء فهم أيضاً ملعونون في كتاب الله على لسانه "، ولقد صدق من قال فيهم:
وما عجب أن النساء ترجلت
ولكن تأنيث الرجال عجاب
واعلم _ وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه _ أن هذه الفكرة الكافرة الخاطئة الخاسئة المخالفة للحس والعقل، وللوحي السماوي وتشريع الخالق البارئ:
من تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته، وذلك لأن الله جل وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني صلاحاً لا يصلحه لها غيرها: كالحمل والوضع والإرضاع وتربية الأولاد وخدمة البيت والقيام على شئونه: من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك.(1/21)
وهذه الخدمات التي تقوم بها للمجتمع الإنساني داخل بيتها في ستر وصيانة وعفاف ومحافظة على الشرف والفضيلة والقيم الإنسانية _ لا تقل عن الرجل بالاكتساب.
فزعمُ أولئك السفلة الجهلة من الكفار وأتباعهم: أن المرأة لها من الحقوق في الخدمة خارج بيتها مثل ما للرجل، مع أنها في زمن حملها ورضاعها ونفاسها لا تقدر على مزاولة أي عمل فيه أي مشقة كما هو مشاهد.
فإذا خرجت هي وزوجها بقيت خدمات البيت كلها ضائعة: من حفظ الأولاد الصغار، وإرضاع من هو في زمن الرضاع منهم، وتهيئة الأكل والشرب للرجل إذا جاء من عمله، فلو أجروا إنساناً يقوم مقامها، لتعطل ذلك الإنسان في ذلك البيت التعطل الذي خرجت المرأة فراراً منه، فعادت النتيجة في حافرتها على أن خروج المرأة، وابتذالها فيه ضياع المروءة والدين؛ لأن المرأة متاع، هو خير متاع الدنيا، وهو أشد أمتعة الدنيا تعرضاً للخيانة؛ لأن العين الخائنة إذا نظرت إلى شيء من محاسنها فقد استغلت بعض منافع ذلك الجمال خيانة ومكراً؛ فتعريضها لأن تكون مائدة للخونة فيه ما لا يخفى على أدنى عاقل.
وكذلك إذا لمس شيئاً من بدنها بدنُ خائن سرت لذة ذلك اللمس في دمه ولحمه بطبيعة الغريزة الإنسانية، ولا سيما إذا كان القلب فارغاً من خشية الله تعالى، فاستغل نعمة ذلك البدن خيانة وغدراً، وتحريك الغرائز بمثل ذلك النظر، واللمس يكون غالباً سبباً لما هو شر منه؛ كما هو مشاهد بكثرة في البلاد التي تخلت عن تعاليم الإسلام وتركت الصيانة؛ فصارت نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله؛ لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم _ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! نعوذ بالله من من مسخ الضمير والذوق، ومن كل سوء.(1/22)
ودعوى الجهلة السفلة: أن دوام خروج النساء بادية الرؤوس والأعناق، والمعاصم والأذرع والسوق ونحو ذلك يذهب إثارة غرائز الرجال؛ لأن كثرة الإمساس تذهب الإحساس كلامٌ في غاية السقوط والخسة؛ لأن معناه: إشباع الرغبة مما لا يجوز، حتى يزول الأرب منه بكثرة مزاولته، وهذا كما ترى.
ولأن الدوام لا يذهب إثارة الغريزة باتفاق العقلاء؛ لأن الرجل يمكث مع امرأته سنين كثيرة حتى تلد أولادهما، ولا تزال ملامسته لها، ورؤيته لبعض جسمها تثير غريزته، كما هو مشاهد لا ينكره إلا مكابر:
لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن تنادي
وقد أمر رب السماوات والأرض، خالق هذا الكون ومدبر شؤونه، العالم بخفايا أموره، وبكل ما كان، وما سيكون _ بغض البصر عما لا يحل، قال تعالى: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ...]الآية.
ونهى المرأة أن تضرب برجلها لتسمع الرجال صوت خلخالها في قوله: [وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ] ونهاهن عن لين الكلام؛ لئلا يطمع أهل الخنى فيهن، قال تعالى: [فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً]اهـ كلامه ×.(1/23)
قلت: ولك أن تنظر ما وصلت إليه حال المسلمين اليوم مما يندى له الجبين، وتتفتت له الأكباد، وتتقطع له الأفئدة أسىً وحزناً من قبول نساء المسلمين، وإقدامهن، وتسابقهن على ما يَفِدُ عليهن مما هب ودب من أعدائهن من الأخلاق الرديئة، والعادات السيئة، والتقاليد العمياء في الملابس الضيقة والقصيرة والشفافة الفاتنة، والسفور، والتبرج، والاختلاط بالرجال الأجانب، والأسفار بلا محرم، والتمثيل بالشعر قصاً، وحلقاً وصبغاً، وكأن لسان حالهن يفصح عن عدم الاهتمام بلقاء الله، والوقوف بين يديه لمناقشة الحساب، والجزاء على الأعمال، إذ لو كن يرجون ما عند الله ما أقدمن على مخالفة شرعه بفعل مثل هذه الأفعال المنكرة المناهضة لأحكام دينهن، وقد كان يكفيهن ما جاء به دينهن من النهي عن مثل هذه المنكرات كقوله تعالى:
[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] وقد نهى رسول الله " عن مثل هذه القبائح والفضائح والمنكرات، وتوعد عليها بالوعيد الشديد، والتهديد الذي يذوب منه الصخر والحديد؛ وذلك في مثل قوله ":
=صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا+.
رواه أحمد (2/355، 440) ومسلم في الصحيح (2/1680)، (4/2192) رقم2128 واللفظ لمسلم.
وفي لفظ لأحمد: =لا يرين الجنة ولا يجدن ريحها... الخ+.
وفي أخرى له: =صنفان من أمتي، من أهل النار لم أرهم بعد... الخ+.
والمراد أنهن كاسيات بالاسم، عاريات في المعنى والحقيقة.
وإنك إذا أمعنت النظر لتجد حال كثير من الناس _هدانا الله وإياهم_ قد آثروا ما جاء به أعداؤهم من الخنى والفساد على هدي ربهم الذي رباهم بنعمه، وربى أرواحهم بوحيه ألا يصبحوا عرضة لهذا الوعيد الشديد؟!(1/24)
وكيف يؤثرون ذلك على هدي ربهم مع أنهم يسألونه هداية الصراط المستقيم، واجتناب طريق المغضوب عليهم والضالين في اليوم سبع عشرة مرة، وفي الإسبوع 119 مرة، وفي السنة 6120 مرة، في فريضة الصلاة، وقد وعدهم الإجابة، وبرهان ذلك ما ثبت في الحديث القدسي فيما رواه نبي الله " عن ربه أنه قال:
=قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي _ وقال مرة: فوض إليَّ عبدي_ فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل+.
أخرجه أحمد (2/241، 285، 460) ومسلم في الصحيح (1/296) رقم395، والنسائي في المجتبى (2/136)، وأبو داود في السنن (1/512) رقم821، والترمذي في الجامع (5/201) رقم2953، وابن ماجه (2/1243) رقم3784 واللفظ لمسلم.
فانظر إلى هذا المطلب، كيف عَظَّمَ اللهُ شأنَهُ، حيث فرضه على عبده أن يسأله إياه في كل ركعة من ركعات صلاته فرضها ونفلها، ووعده الإجابة.
وعظَّمه أيضاً رسوله " وذلك فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال: =لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب+.
ولأهميته وعِظَمِ شأنه عدَّه الفقهاء ركناً من أركان الصلاة.
وما أُعطي مِثْلَ هذه الأهمية _ والله أعلم _ إلا لأن الصراط المستقيم المطلوب يقتضي مخالفة أصحاب الجحيم، كما نص على ذلك أئمة المسلمين.
وعلى هذا فماذا يقال عن المسلم الذي يدعو ربه أن يهديه الصراط المستقيم في كل ركعة من ركعات صلاته، ثم هو يقبل كل ما أملاه عليه أصحاب الجحيم كُلَّ تقبل، وارتياح ضمير، واطمئنان قلب، ولو خالف مطلبه الذي هو هداية الصراط المستقيم؟!!(1/25)
أيكون مقبلاً على صلاته أم هو ساهٍ لاه؟! أم هو ممن لا يحمل هَمَّ دينه، ولا يعنيه أمره؟ كما قيل:
وعند مراد الله تفنى كميت
وعند مراد النفس تُسْدِي وتُلْحِمُ
وكأنه ما قرأ، ولا سمع قول الباري جلا وعلا في محكم التنزيل:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)]آل عمران.
وقوله جل شأنه:
[إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)]يس.
وقوله سبحانه:
[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)]ق.
هذا ما اقتضاه الخاطر المكدود على عُجَرِه وبُجَرِه مع البضاعة المزجاة التي لا تنفتح لها السُّدَد، ولا يتنافس فيها المتنافسون.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتبه العبد الضعيف
فريح بن صالح البهلال
ليلة الخميس 14/2/1426هـ(1/26)