تمهيد في تعريف أصول الفقه وذكر مبادئه
تعريفه :
أصول الفقه له تعريفان :
الأول : باعتبار مفرديه .
فالأصول جمع أصل ، وهو لغة : ما يستند وجود الشيء إليه .
واصطلاحاً : يطلق عدة اطلاقات ، ومنها الدليل ، وهو المراد هنا ، فأصول الفقه : أدلته .
والفقه لغة : الفهم.
واصطلاحاً : معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية .
والتعريف الثاني : باعتباره علماً على هذا الفن ، فهو : أدلة الفقه الإجمالية ، وكيفية الاستفادة منها ، وحال المستفيد .
وثمرته : هي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية على أسس سليمة ، ومعرفة أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، لقدرتها على إيجاد الأحكام لما يستجد من حوادث على مَرِّ العصور .
ونسبته إلى غيره : وهي مرتبته من العلوم الأخرى أنه من العلوم الشرعية ، وهو للفقه ، كعلوم الحديث للحديث ، وأصول النحو للنحو .
وفضله : ما ورد في الحث على التفقه في دين الله تعالى ، وهذا متوقف على أصول الفقه ، فيثبت له ما ثبت للفقه من الفضل ، لأنه وسيلة إليه .
وواضعه : هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي – رحمه الله – وذلك بتأليف كتاب ( الرسالة ) وهو أول كتاب في الأصول .
واستمداده : أي مصادره التي بنيت عليها قواعده :
1 – استقراء النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة .
2 – الآثار المروية عن الصحابة والتابعين .
3 – اللغة العربية .
4 – إجماع السلف الصالح .
5 – اجتهاد أهل العلم واستنباطاتهم وفق الضوابط الشرعية .
وحكمه : فرض كفاية ، إلا لمن أراد الاجتهاد فهو فرض عين في حقه .
ومسائله : وهي مباحثه التي يستفيد منها المجتهد في استنباط الأحكام الشرعية .
وشرفه : وهو علم شريف لشرف موضوعه ، وهو العلم بأحكام الله تعالى المتضمنة للفوز بسعادة الدارين .
الباب الأول : في أدلة الأحكام الشرعية
الأدلة جمع دليل ، وهو في اللغة : ما أرشد إلى المطلوب
وفي الاصطلاح : ما يستفاد منه حكم شرعي علمي على سبيل القطع أو الظن .(1/1)
والأدلة هي : الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وهذه أدلة متفق عليها بين جمهور المسلمين ، وأما الاستصحاب ، ومذهب الصحابي ، وشرع من قبلنا ، والمصالح المرسلة ، والعرف ، وسَدُّ الذرائع فأدلة مختلف فيها ، وهي عند القائلين بها دلائل على حكم الله تعالى .
والأدلة كلها ترجع إلى الكتاب فهو الأصل ، والسنة مخبرة عن حكم الله تعالى ، ومبينة للقرآن ، والإجماع والقياس مستندان إليهما ، وسائر الأدلة لا ينظر إليها ما لم تستند إلى الكتاب والسنة .
1 - الكتاب
وهو كلام الله تعالى ، المنزل على رسوله محمد ج ، المبدوء بسورة الفاتحة ، المختوم بسورة الناس .
ومن خصائصه :
1 – أنه كلام الله تعالى ، وهو اللفظ والمعنى جميعاً .
2 – أنه نزل بلسان عربي مبين .
3 – أنه متعبد بتلاوته في الصلاة وغيرها .
4 – أنه مكتوب في المصاحف .
5 – أنه محفوظ في الصدور .
6 – أنه محفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان .
وهو قطعي الثبوت ، لأنه منقول بالتواتر ، أما القراءة غير المتواترة فلا تسمى قرآناً ، وأما دلالته على الأحكام فقد تكون قطعية ، وقد تكون ظنية ، وهو الأكثر .
وقد اشتمل القرآن على كل ما يحتاجه الناس ، وهو ثلاثة أنواع :
1 – أحكام اعتقادية .
2 – أحكام أخلاقية سلوكية .
3 – أحكام عملية ، وهي المتعلقة بأفعال المكلفين ، وهي نوعان :
1 – عبادات . 2 – معاملات ، وتسميتها بذلك مجرد اصطلاح .
2 - السنة
وهي أقوال النبي ج وأفعاله وتقريراته .
أما أقواله فإما قول صريح وهو المرفوع حقيقة ، وإما فيه معنى القول كقول الصحابي : أمر رسول الله ج بكذا أو نهى عن كذا .
وهي حجة قاطعة على من سمعها ، فإن كانت منقولة إلى الغير فهي عند الجمهور إما متواتر أو آحاد .
فالمتواتر لغة : المتتابع ، واصطلاحاً : ما نقله جماعة كثيرون ، يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب ، وأسندوه إلى شيء محسوس .(1/2)
وهو يفيد العلم ، وهو القطع بصحة نسبته إلى من نُقل عنه ، والعمل بما دلَّ عليه بتصديقه إن كان خبراً ، وتطبيقه إن كان طلباً .
والآحاد لغة : جمع ( أحد ) بمعنى واحد .
واصطلاحاً : ما سوى التواتر .
وحديث الآحاد حجة مطلقاً في العقائد والأحكام ، لأنها تفيد الظن الراجح بصحة نسبتها إلى رسول الله ج إذا تحققت فيها شروط الصحيح ، أو مادون ذلك وهو الحديث الحسن ، وقد تفيد العلم القاطع إذا احتفت بها قرائن أو تلقتها الأمة بالقبول ، وهذا يعرفه أهل الحديث خاصة ، وغيرهم تبع لهم .
وأما أفعاله ج فالأصل هو التأسي به ج ، ولا يحكم على الفعل بالخصوصية إلا بدليل ، ثم ما فعله على وجه العبادة فالصحيح أن حكمه الاستحباب ، وما فعله بياناً لمجمل فهو تشريع لأمته ، منه ما هو واجب ، ومنه ما هو مندوب .
وما فعله بمقتضى العادة فلا حكم له في ذاته ، وليس من التشريع ، إلا إذا كان له صفة مطلوبة .
وأما ما لا يظهر فيه وجه القربة فهو محتمل للعادة أو العبادة ، وأقل أحواله الإباحة .
ويقابل الأفعال التروك ، وهي ثلاثة أنواع :
1 – أن يترك الفعل لعدم وجود المقتضي له ، فلا يكون سنة .
2 - أن يترك الفعل مع وجود المقتضي له ، بسببِ مانعٍ ، فهذا لا يكون سنة ، لكن إذا زال المانع كان فعل ما تركه مشروعاً غير مخالف لسنته .
3 – أن يترك الفعل مع وجود المقتضي له وعدم المانع ، فيكون تركه سنة .
وهذا النوع من السنة أصل عظيم ، وقاعدة جليلة به تُحفظ أحكام الشريعة ، و يُوصد باب الابتداع في الدين .
وإذا تعارض قوله ج مع فعله ، فإما أن يكون الفعل مخصصاً للقول ، أو محمولاً على بيان الجواز ، أو أنه ناسخ للقول ، أو غير ذلك مما تتم معرفته باستقراء مواضع التعارض والنظر في الأدلة والقرائن التي يستفاد منها في تحديد المراد .(1/3)
وأما تقريره ج فهو ترك الإنكار على قول أو فعل ، أو رضاه عنه ، أو استبشاره به ، أو استحسانه له ، وهو دليل على الجواز على الوجه الذي أقره ، وشرط ذلك أن يعلم بوقوع الفعل أو القول كأن يقع في حضرته ، أو في غيبته ويبلغه أو نحو ذلك ، فإن لم يعلم فهو حجة لإقرار الله عليه .
ومنزلة السنة في المرتبة الثانية بعد القرآن ، وأما في الاحتجاج ووجوب الاتباع فهما سواء ، والسنة كالقرآن قد تكون دلالتها على الأحكام قطعية ، وقد تكون ظنية .
والأحكام الواردة في السنة ثلاثة أنواع :
1 - أحكام موافقة لأحكام القرآن ومؤكدة لها .
2 - أحكام مبينة لأحكام القرآن إما في بيان مجمل ، أو تخصيص عام ، أو تقييد مطلق .
3 - أحكام مبتدأة سكت عنها القرآن ، وجاءت بها السنة .
3 - الإجماع
وهو اتفاق المجتهدين بعد وفاته ج في عصر من العصور على حكم شرعي .
وينقسم باعتبار ذاته إلى : قولي وسكوتي ، فالقولي أن يُبديَ كل واحد من المجتهدين رأيه في المسألة ، وهذا إن وجد فهو حجة قاطعة بلا نزاع .
وأما السكوتي فهو أن يقول بعض المجتهدين قولاً ويسكت الباقون ، وهذا ليس بحجة على الراجح .
والإجماع باعتبار قوته وضعفه ينقسم إلى : قطعي ، وهو ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة ، وهذا حجة قاطعة ، لا يحل لأحد مخالفته .
وإلى ظني : وهو ما يُعلم بالتتبع والاستقراء ، وهو غير ممكن إلا في عصر الصحابة رضي الله عنهم ، وبعدهم متعذر غالباً لكثرة الاختلاف وانتشار الأمة .
والإجماع ليس دليلاً مستقلاً إذ لا يوجد مسألة مجمع عليها إلا وفيها دليل شرعي يعلمه ولو بعض المجتهدين .
4 - القياس
وهو إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما .
وهو مسلك اجتهادي قائم على نصوص الكتاب والسنة ، ولا يُعدل إليه إلا إذا فُقِدَ النص ، ولا اعتبار بقياس يصادم النص أو الإجماع .(1/4)
وكيفية القياس أن ينص الشارع على حكم في مسألة لها وصف منصوص عليه ، أو مستنبط ، ثم يُوجد ذلك الوصف في مسألة أخرى لم يَنُصَّ الشارع على عينها ، ولكنها تساوي المنصوص عليها ، فيجب إلحاقها بها في حكمها ، لأن الشارع الحكيم لا يفرق بين المتماثلات في أوصافها ، ولا يجمع بين المختلفات .
وأركان القياس أربعة :
1 – أصل : ويسمى المقيس عليه ، وهو ما ورد النص بحكمه .
2 – حكم الأصل : وهو الحكم الشرعي الذي ورد به النص في الأصل ، ويراد تعديته إلى الفرع .
3 – الفرع : ويسمى المقيس ، وهو ما لم يرد نص بحكمه .
4 – العلة : وهي المعنى المشترك بين الأصل والفرع ، الذي بني عليه الحكم الشرعي ، وهي أهم أركان القياس .
وللقياس شروط ، فحكم الأصل له شرطان :
1 – أن يكون ثابتاً بنص أو إجماع .
2 – أن يكون معقول المعنى ؛ ليُعَدَّى حكم الأصل إلى الفرع .
والفرع له شرطان :
1 – أن تكون العلة مقطوعاً بوجودها فيه كوجودها في الأصل ، وهذا هو قياس الأولى والمساواة ، أو يغلب على الظن وجودها .
2 – ألا يكون حكم الفرع منصوصاً عليه بنص يخالف حكم الأصل ، فإن كان موافقاً له جاز من باب تكثير الأدلة .
والعلة لها أربعة شروط :
1 – أن تكون وصفاً ظاهراً منضبطاً .
2 – أن تكون وصفاً مناسباً لترتيب الحكم عليه ، يعلم من قواعد الشرع اعتباره ، فإن كان طردياً لا مناسبة فيه لم يصح التعليل به .
3 – أن تكون وصفاً متعدياً ، فإن كان قاصراً على حكم الأصل امتنع القياس بها ، لعدم تعديها إلى الفرع .
4 – أن تكون العلة ثابتة بمسلك من مسالك الإثبات ، وهي ثلاثة :
1 - النقل ، وهو النص والإيماء ، 2 - الإجماع ، 3 - الاستنباط بواسطة السبر والتقسيم .
وأما الأدلة المختلف فيها فهي :
1 – مذهب الصحابي :
وهو من اجتمع بالنبي ج مؤمناً ومات على ذلك .
والمراد بمذهبه : قوله ورأيه فيما لا نص فيه من الكتاب أو السنة ، ويدخل في ذلك الفعل والتقرير ، وله ثلاثة أوجه :(1/5)
الوجه الأول : إذا اشتهر ولم ينكر ، فهذا حجة عند الجمهور ، وعده بعضهم إجماعاً سكوتياً ، وتقدم ضعفه .
الوجه الثاني : إذا لم يشتهر ولم يخالفه غيره ، وهذا هو محل النزاع ، والأظهر – والله أعلم– أنه يؤخذ به حيث لا دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو غيرها مما يعتبر ، لأن الأخذ بما أدى إليه اجتهاد الصحابة أولى من اجتهاد من جاء من بعدهم ، لكنه ليس حجة ملزمة كنصوص الكتاب والسنة .
وأقوى مذهب الصحابي ش : قول الخلفاء الأربعة ، ثم من اشتهر من الصحابة بالفقه والفتيا .
الوجه الثالث : إذا خالفه غيره من الصحابة ، وهذا ليس بحجة عند جميع الفقهاء ، فإن وجد مرجح لقوله أو قول غيره كان العمل بالدليل لا بقول الصحابي .
ويستثنى من ذلك تفسيرهم للنصوص من الكتاب والسنة ، فهو حجة ، ومقدم على تفسير من بعدهم ، لأنهم أهل اللسان ، وقد شهدوا التنزيل ، فلهم من الفهم التام ، ومعرفة مراد الشارع ما ليس لغيرهم .
2 – الاستصحاب :
وهو لغة : طلب الصحبة واستمرارها .
واصطلاحاً : استدامة إثبات ما كان ثابتاً أو نفي ما كان منفياً .
وهو ثلاثة أنواع كلها حجة :
1 – استصحاب البراءة الأصلية حتى يرد ما ينقل عنها ، وهذا هو المراد عند إطلاق لفظ: الاستصحاب .
2 – استصحاب الدليل الشرعي حتى يرد الناقل .
3 – استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه .
والاستصحاب بأنواعه الثلاثة لا يثبت حكماً جديداً ، وإنما يدل على استمرار الحكم السابق الثابت بدليله المعتبر ، وعليه فليس دليلاً مستقلاً تستفاد منه الأحكام ، لكنه طريق من طرق إعمال الأدلة ، ولا يفزع إليه إلا عند فقد الدليل الخاص في حكم المسألة ، فهو آخر مدار الفتوى ، وذلك بأن يستفرغ المجتهد وسعه في البحث عن الدليل فلا يجده ، فيرجع إلى الاستصحاب . وأما استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع فليس بحجة على الصحيح .
وقد قام على الاستصحاب جملة من القواعد الفقهية ، ومنها :(1/6)
1 – اليقين لا يزول بالشك .
2- الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه .
3 - الأصل في الأشياء الطهارة إلا ما دل الدليل على نجاسته .
4 – الأصل في العادات الإباحة إلا ما نهى عنه الشرع .
5 – الأصل براءة الذمة حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك .
6 – الأصل بقاء ما اشتغلت به الذمة حتى يتيقن البراءة والأداء .
3 - شرع من قبلنا :
والمراد به : الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمم السابقة على ألسنة رسله إليهم ، مما جاء في التوراة والإنجيل وغيرهما ، وهو أربعة أنواع :
الأول : أحكام شُرعت للأمم قبلنا ، وجاء الكتاب والسنة بجعلها شرعاً لهذه الأمة ، فهذا حجة بلا ريب .
الثاني : أحكام شرعت للأمم قبلنا وجاء الكتاب والسنة بنسخها وأنها ليست شرعاً لهذه الأمة ، فهذا ليس بشرع لنا ، بلا خلاف .
الثالث : أحكام لم يرد لها ذكر في الكتاب ولا في السنة ، كالمأخوذة من الاسرائليات ، فهذا ليس بشرع لنا إجماعاً .
الرابع : أحكام ورد لها ذكر في الكتاب أو السنة ، لكن لم يأت ما يدل على أنها شرع لنا أو ليس بشرع لنا ، وهذا محل خلاف بين أهل العلم هل يُعَدُّ من أدلة التشريع أو لا ؟ والراجح : أنه شرع لنا ، وهو مذهب الجمهور .
4 – المصالح المرسلة :
وهي جمع مصلحة : وهي جلب منفعة أو دفع مضرة .
والمرسلة : أي المطلقة التي لم يقيدها الشرع باعتبار ولا بإلغاء .
والمصالح ثلاثة أقسام :
1 – ما شهد الشرع باعتبارها بدليل معين من نص أو إجماع أو قياس ، وهذه معتبرة باتفاق .
2 – ما شهد الشرع بإلغائها ، وهذه ملغاة باتفاق .
3 – ما لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا بإلغاء بدليل معين ، ولكن فيها وصف مناسب لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة أو يدفع مفسدة .(1/7)
وهذه هي المصلحة المرسلة ، والقول بأنها حجة ومصدر من مصادر التشريع في المعاملات وسياسة أمور الناس وجيه جداً ، وقد جاء الأخذ بالمصلحة المرسلة عند جميع الفقهاء ، لاتفاقهم على أن تحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها أصل شرعي ، لكن بشروط ثلاثة :
1 - أن تلائم مقاصد الشرع ، بأن تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها ، لا تخالف أصلاً من أصوله ، ولا تنافي دليلاً من أدلة أحكامه .
2 - أن تكون معقولة في ذاتها ، فتتلقاها العقول السليمة بالقبول ، لكونها جرت على الأوصاف المناسبة المعقولة ، وعليه فلا تجري في العبادات لأنها مبنية على التوقيف .
3 - أن يكون الأخذ بها لحفظ ضروري كحفظ الدين و الأنفس والأموال ، أو لدفع حرج لازم في الدين تخفيفاً وتيسيراً .
وجميع شرائع الدين ترجع إلى تحقيق ثلاث مصالح :
1 - درء المفاسد . وشُرع لها حفظ « الضروريات » الخمس : الدين ، والنفس ، والعقل ، والمال ، والعرض .
2 - جلب المصالح . وشُرع لها ما يرفع الحرج عن الأمة في العبادات والمعاملات وغيرها ، وهي المعبر عنها بـ« الحاجيات » .
3 - الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات . وشُرع لها أحكام « التحسينيات » .
5 - العرف :
وهو ما ألفه الناس واعتادوه من الأقوال والأفعال .
وهو بمعنى العادة ، إلا أن العادة لغة أعم من العرف ، لإطلاقها على عادة الفرد والجماعة ، بخلاف العرف فإنه يختص بالجماعة .
وهو نوعان :
1 - عرف صحيح : وهو الذي لا يخالف نصاً ، ولا يفوت مصلحة معتبرة ، ولا يجلب مفسدة راجحة .
2 - عرف فاسد : وهو ما خالف نصاً ، أو فوت مصلحة معتبرة ، أو جلب مفسدة راجحة .
والعرف معتبر في الشرع ، ولكنه ليس دليلاً مستقلاً من أدلة الفقه ، وإنما هو أصل من أصول الاستنباط يرجع إلى أدلة الشريعة المعتبرة .
فإذا نص الشرع على حكم وعلق به شيئاً ولم يرد لذلك حد في الشرع ولا في اللغة فإنه يُرجع فيه إلى العرف الجاري .(1/8)
ومن قواعد الفقهاء : « العادة مُحَكَّمة » « المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً » .
والأحكام المبنية على العرف والعادة تتغير إذا تغيرت العادة بتغير الزمان ، وهذا معنى قول بعض العلماء : « الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان » .
6 - سدُّ الذرائع وإبطال الحيل :
والذرائع : جمع ذريعة ، وهي لغة : الوسيلة المؤدية إلى الشيء .
واصطلاحاً : الوسيلة الموصلة إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة ، أو المشروع المشتمل على مصلحة .
ثم صارت في عرف الفقهاء مختصة بالأول ، وهو ما أفضى إلى فعل محرم ، فهي فيه حقيقة عرفية ، ومعنى سَدِّ الذرائع : الحيلولة دون الوصول إلى المفسدة إذا كانت الذريعة تؤدي إليها.
والذريعة تأخذ حكم المقصود ، فإن كان المقصود الذي أفضت إليه الذريعة حراماً كانت الذريعة حراماً ، وإن كان واجباً أو مندوباً فالذريعة مثله ، كما تقدم في قاعدة : « الوسائل لها أحكام المقاصد » .
وقد قسم الأصوليون الأفعال المباحة التي تفضي إلى المفاسد إلى ثلاثة أنواع :
1 - ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة نادراً وقليلاً ، فهذا تُرَجَّحُ مصلحته ، ويبقى له حكم الأصل ، وهو الإباحة .
2 - ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة كثيراً وغالباً ، فهذا ترجح مفسدته ، ويُمنع منه سداً للذريعة .
3 - ما يحتال به المكلف ليستبيح به المحرم ، وظاهر تلك الحيلة الإباحة في الأصل ، وهذا النوع كالذي قبله ، فيمنع منه سداً للذريعة .
وسد الذرائع تابع ومؤكد لأصل المصالح ، لأنه يمنع من الأسباب والوسائل المفضية إلى المفاسد ، ويشهد لهذا الأصل من نصوص الشريعة شواهد كثيرة ، وليس المعتبر في سد الذرائع النية السيئة من الفاعل ، بل مجرد كون الفعل يفضي إلى ما حرمه الشرع .
أحكام الحيل :
رتب العلماء على أصل سَدِّ الذرائع مَنْعَ الحيل في الشريعة الإسلامية ، لكنها بوجه عام ثلاثة أقسام :
1 - متفق على بطلانه ، وهو ما هدم دليلاً شرعياً أو نَاقَضَ مصلحة معتبرة .(1/9)
2 - متفق على جوازه ، وهو ما جاءت الشريعة بالإذن فيه ، لما فيه من تحقيق مصلحة راجحة .
3 - مختلف فيه بسبب التردد في موافقته لمقصد الشارع أو مخالفته له ، فمن رأى أنه غير مخالف للمقصد أجاز الحيلة فيه ، ومن رآه مخالفاً منع الحيلة .
الباب الثاني
في الأحكام الشرعية
الأحكام : جمع حكم ، وهو لغة : المنع .
واصطلاحاً : ما اقتضاه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين ، من طلب أو تخيير أو وضع .
والحكم الشرعي له ثلاثة أركان : حاكم ، ومحكوم عليه ، ومحكوم به .
أما الحاكم فهو الله تعالى ، لأن الحكم له وحده ، سواء كان ذلك في كتابه أو على لسان رسوله ج .
وأما المحكوم عليه فهو المكلف ، وهو البالغ العقل ، فمن اجتمع له الوصفان صار أهلاً لثبوت الأحكام في حقه ، فتلزمه الواجبات ، ويؤاخذ بأقواله وأفعاله .
وقد يعتري هذه الأهلية ما يزيلها أو ينقصها أو يؤثر فيها بتغيير بعض الأحكام ، وتسمى « عوارض الأهلية » وهي إما عوارض كونية : كالصغر ، والجنون ، والعته ، والنسيان ، والغفلة ، والنوم ، والإغماء ، والمرض ، والحيض ، والنفاس ، والموت ، أو عوارض مكتسبة : كالجهل ، والخطأ ، والهزل ، والسفه ، والسفر ، والسكر ، والإكراه .
وهذه العوارض في الجملة إنما هي في حق الله تعالى ، أما في حقوق المخلوقين فلا تمنع من ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه .
وأما المحكوم به : فهو فعل المكلف الذي تعلق به حكم الشارع ، وله شرطان : كونه ممكناً ، وكونه معلوم الصفة .
والحكم نوعان :
1 - حكم تكليفي : وهو ما دل عليه خطاب الشرع من طلب فعل أو ترك أو تخيير ، وهو خمسة : الواجب ، والمندوب ، والمحرم ، والمكروه ، والمباح .
2- حكم وضعي : وهو ما دل عليه خطاب الشرع من كون هذا الشيء سبباً في شيء آخر أو شرطاً له أو مانعاً منه أو صحيحاً أو فاسداً أو رخصة أو عزيمة .
الأحكام التكليفية :
1 - الواجب : وهو لغة : الساقط واللازم .(1/10)
واصطلاحاً : ما طلب الشرع فعله طلباً جازماً .
وحكمه : يثاب فاعله امتثالاً ، ويستحق تاركه العقاب . والفرض بمعنى الواجب عند الجمهور خلافاً للحنفية .
ويدل على الوجوب أمور كثيرة منها :
1 - صيغة الأمر المطلق ؛ إما بفعل الأمر الصريح ، أو المضارع المقرون بلام الأمر ، أو اسم فعل الأمر ، أو المصدر النائب عن فعل الأمر ، وسيأتي في باب « الأمر » بيان دلالة ذلك على الوجوب .
2- صيغة أَمَرَ أو كَتَبَ أو فَرَضَ ، أو لفظة « على » ، أو « حقٌّ على العباد » ، أو « حقٌّ على المؤمنين » .
3 - الذم على ترك الفعل ، أو الوعيد بالعقاب على تركه ، أو وصف من تركه بالمخالفة .
4 - نفي المسمى الشرعي عن الفعل إذا عُدم بعض أجزائه .
5 - تسمية الشرع العبادة ببعض أجزائها .
والواجب باعتبار الفعل نوعان :
1 - معين : وهو الأكثر ، وهو الواجب الذي لا يقوم غيره مقامه .
2 - مبهم : وهو الواجب المبهم في أقسام محصورة يتحقق الامتثال بفعل أحدها .
وباعتبار الوقت نوعان - أيضاً - :
1- مضيق : وهو ما تعين له وقت بقدر فعله لا يزيد عليه .
2 - موسع : وهو ما كان وقته المعين يزيد على فعله .
وباعتبار الفاعل نوعان :
1 - واجب عيني : وهو ما طلب الشرع فعله من كل مكلف بعينه .
2 - واجب كفائي : وهو ما طلب الشرع حصوله من جماعة المكلفين ، بحيث لو قام به بعضهم خرج من تخلف عنه من المأثم ، وقد يكون الواجب الكفائي عينياً إذا لم يوجد من يقوم به غيره .
والواجبات تتفاضل حسب الأحوال والأشخاص والأوقات ، وهذا يتضمن تفاضلها في الثواب ، وطلب الأفضل أكمل .
2 - المندوب وهو لغة : اسم مفعول من الندب ، وهو الدعاء إلى الفعل ، والأصل : المندوب إليه .
واصطلاحاً : ما طلب الشرع فعله طلباً غير جازم .
وحكمه : يثاب فاعله امتثالاً ، ولا يعاقب تاركه . ويسمى : سنة ، ومستحباً ، وتطوعاً ، ونفلاً .(1/11)
والمندوب على مراتب ، فأعلى المندوبات : السنن المؤكدة ، ثم غير المؤكدة ، ثم الفضيلة والأدب ، وتسمى : « سنة الزوائد » .
والمندوب تطوع قبل الشروع فيه وبعده ، فمن شرع فيه فالأولى إتمامه ، وإن قطعه جاز ، ولا قضاء عليه .
ويدل على المندوب أمور منها :
1 - صيغة الأمر إذا ورد ما يدل على صرفها من الوجوب إلى الندب .
2 - الندب إلى الفعل والترغيب فيه ، وذلك بذكر ما رُتِّبَ عليه من الثواب .
3 - فعل الرسول ج للشيء من غير قرينة تدل على الوجوب .
والمندوب خادم للواجب ، ومكمل له ، وجابر للنقص الحاصل فيه .
والمندوبات تتفاضل كالواجبات ، وهذا يرجع إلى حال الإنسان وما هو أنفع له .
3 - المحرم وهو لغة : الممنوع .
واصطلاحاً : ما طلب الشارع تركه طلباً جازماً .
وحكمه : يثاب تاركه امتثالاً ، ويستحق فاعله اختياراً العقاب .
ويدل على المحرم أمور منها :
1 - لفظ التحريم ، أو لفظ النهي ، أو نفي الحل ، أو لفظ لا ينبغي ، أو لفظ زجر .
2 - صيغة المضارع المقرون بلا الناهية .
3 - الوعيد على الفعل بالعقاب ، أو وصفه بأنه كبيرة ، أو أنه من الذنوب ، أو لعن فاعله ، أو أنه من العدوان أو الظلم أو الإساءة ، أو أن الله تعالى لا يحبه أو لا يرضاه لعباده .
والمحرم قسمان :
1 - محرم لذاته : وهو ما حرمه الشارع ابتداءً لمفسدة راجعة إلى ذاته .
2 - محرم لغيره : وهو ما كان مشروعاً في الأصل ولكن اقترن به عارض اقتضى تحريمه .
والمحرمات تتفاوت في نفس تحريمها ، وهو النهي الشرعي ، وفي متعلقها ، وهو العقاب .
4 - المكروه : وهو لغة : ضد المحبوب .
واصطلاحاً : ما طلب الشارع تركه طلباً غير جازم .
وحكمه : يثاب تاركه امتثالاً ، ولا يعاقب فاعله .
ويدل على المكروه في أحكام الشرع أمور منها :
1 - لفظ الكراهة .
2 - صيغة النهي مع القرينة الصارفة عن التحريم .
وقد وقع في كلام الشافعي وأحمد وبعض المحدثين استعمال لفظ الكراهة بمعنى التحريم تورعاً .(1/12)
4 - المباح وهو لغة : الموسَّع والمعلن والمأذون فيه .
واصطلاحاً : ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته .
وحكمه : أنه لا ثواب في فعله ولا عقاب في تركه ، إلا إذا اقترن بفعله أو تركه نية صالحة فيثاب على نيته .
وهذا المباح الباقي على أصل الإباحة ، فإن كان وسيلة لمأمور به أو منهي عنه فحكمه حكم ما كان وسيلة إليه .
ومن أسمائه : الحلال ، والجائز .
ويدل على المباح في أحكام الشرع أمور منها :
1 - النص على الحل ، وهي من أقوى صيغ الإباحة .
2 - التصريح برفع الحرج أو الإثم أو الجناح أو ما في معنى ذلك .
3 - صيغة الأمر إذا وردت بعد حظر ما كان مباحاً في الأصل .
4 - صيغة الأمر إذا وردت لإفادة نسخ الحظر وإعادة الحكم إلى الإباحة .
5 - استصحاب الأصل بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة .
الأحكام الوضعية
وهي سبعة - كما تقدم - : السبب ، والشرط ، والمانع ، والصحيح ، والفاسد ، والرخصة ، والعزيمة .
1 - فالسبب لغة : ما يتوصل به إلى غيره .
واصطلاحاً : ما يلزم من وجوده الوجود ، ويلزم من عدمه العدم .
2- والشرط : - وهو بالسكون - لغة : اللازم ، - وبالفتح - : العلامة .
واصطلاحاً ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود .
ويفارق الركن : في أن الركن داخل في ماهية الشيء وجزءٌ من حقيقته ، والشرط ليس كذلك .
والشرط باعتبار مصدر اشتراطه نوعان :
1 - شرط شرعي : وهو ما جعله الشرع شرطاً إما بالتنصيص عليه ، أو بالإيماء والإشارة إليه ، وهذا هو المراد عند الإطلاق ، وهو إما شرط وجوب ، أو شرط صحة .
2 - شرط جَعْلي : وهو ما وضعه الناس لأنفسهم في عقودهم ومعاملاتهم ، فما وافق الشرع فهو شرط صحيح ، وما خالفه فهو فاسد .
3 - والمانع لغة : الحائل بين الشيئين .
واصطلاحاً : ما يلزم من وجوده العدم ، ولا يلزم من عدمه الوجود ، وهو نوعان :
1 - مانع الحكم : وهو الوصف الذي يترتب على وجوده عدم ترتب الحكم على سببه .(1/13)
2 - مانع السبب : وهو الوصف الذي يلزم من وجوده عدم تحقق السبب .
4 - والصحيح لغة : السليم من المرض .
واصطلاحاً : ما ترتبت آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً .
5 - والفاسد لغة : الذاهب ضياعاً وخسراً .
واصطلاحاً ما لا تترتب آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً .
والباطل بمعنى الفاسد عند الجمهور ، إلا في مسائل يسيرة فرقوا فيها بينهما ، ليس مخالفة لقاعدة الترادف ، وإنما لما قام عندهم من الدليل .
ولا يحكم بالصحة لحكم وجد سببه إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع ، فإن لم يوجد الشرط ، أو وجد ولكن قام المانع لم يتم الحكم .
وشروط العبادات والمعاملات كل ما تتوقف صحتها عليه ، ويعرف ذلك بالتتبع والاستقراء الشرعي .
6 - والرخصة لغة : السهولة .
واصطلاحاً : استباحة المحظور شرعاً مع قيام سبب الحظر ، وهي ثلاثة أنواع :
1 - إباحة ترك الواجب ... ... ... 2 - إباحة المحرم ... ...
3 - تصحيح بعض العقود التي يحتاجها الناس مع اختلال بعض ما تصح به .
7 - والعزيمة لغة : القصد المؤكد .
واصطلاحاً : ما شرع من الأحكام الكلية ابتداء .
الباب الثالث
طرق استنباط الأحكام وقواعده
عمدة أصول الفقه كيفية استنباط الأحكام من الأدلة ، ولا يتم ذلك إلا بدراسة دلالات الألفاظ وقواعد الاستنباط ، ومعرفة مقاصد الشريعة ، وما يتعلق بتعارض الأدلة .
وفي هذا ثلاثة فصول :
الأول : في القواعد الأصولية .
الثاني : في مقاصد التشريع .
الثالث : في تعارض الأدلة .
الفصل الأول : في القواعد الأصولية
وهي القواعد المتعلقة بألفاظ النصوص من جهة إفادتها للمعاني ، والإحاطة بهذه القواعد تستلزم الوقوف على أقسام اللفظ بالنسبة للمعنى ، وهي أربعة :
الأول : باعتبار دلالة اللفظ على المعنى وضعاً ، وهو ثلاثة : الخاص ، ويدخل تحته : المطلق والمقيد والأمر والنهي ، الثاني : العام ، الثالث : المشترك .(1/14)
القسم الثاني : باعتبار الظهور والخفاء ، ويدخل تحته : الظاهر والنص والمفسَّر والمحكم ، ويقابلها المجمل والخفي والمشكل والمتشابه .
الثالث : باعتبار استعماله في المعنى الموضوع له ، ويدخل تحته : الحقيقة والمجاز والصريح والكناية .
الرابع : باعتبار كيفية دلالة اللفظ على المعنى ، ويدخل تحته : عبارة النص وإشارته ودلالته واقتضاؤه ومفهومه .
القسم الأول : وضع اللفظ للمعنى
1 - الخاص :
وهو لغة : التفرد ، يقال : فلان خُصَّ بكذا أي : انفرد به لا يشاركه فيه أحد.
واصطلاحاً : اللفظ الموضوع للدلالة على معنى واحد على الانفراد ، إما من الأجناس كإنسان ، أو الأنواع كرجل وامرأة وفرس ، أو الأشخاص كزيد وخالد ، ومنه أسماء الأعداد كمائة وألف .
وحكمه أنه يدل على معناه الموضوع له دلالة قطعية ، لأنه بَيِّنٌ في نفسه ، لا إجمال فيه ولا إشكال ، وأنواعه :
المطلق ، والمقيد ، والأمر ، والنهي .
المطلق والمقيد
المطلق : هو اللفظ الدال على فرد معين أو أفراد غير معينين ، مثل : طالب وطلاب .
والمقيد : هو اللفظ الدال على فرد غير معين أو أفراد غير معينين مع اقترانه بصفة تحدد المراد منه ، مثل : طالب مجد ، وطلاب مجدون .
وحكم المطلق أنه يجب العمل به على إطلاقه إلا بدليل يدل على تقييده .
وحكم المقيد أنه يعمل به بقيده ، لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها ، حتى يقوم دليل على خلاف ذلك .
وإذا ورد نص مطلق ونص مقيد واتحدا في الحكم والسبب حمل المطلق على المقيد فقيد به ، وإن اختلف السبب أو الحكم لم يحمل المطلق على المقيد ، ويعمل بكل واحد منهما على ما ورد عليه من إطلاق أو تقييد .
الأمر
وهو اللفظ الدال على طلب الفعل على جهة الاستعلاء .
وصيغه : فعل الأمر ، والمضارع المقرون بلام الأمر ، واسم فعل الأمر ، والمصدر النائب عن فعله ، والتصريح بلفظ الأمر وما في معناه ، والأمر بلفظ الخبر كالأمر بلفظ الطلب .(1/15)
وصيغة الأمر تفيد الوجوب إن تجردت عن دليل صارف ، وإلا فهي بحسبه ، كالندب ، والدليل الصارف قد يكون نصاً صريحاً ، وقد يكون خفياً ، وقد يكون قرينة من دليل خارجي ، والأمر بعد الحظر يعود إلى ما كان عليه قبله .
والأمر إن قيد بما يدل على الفورية أو بما يفيد التراخي عمل به ، وإلا فهو للفور ، وإن قيد بما يدل على المرة الواحدة أو بما يفيد التكرار عُمِلَ به ، وإن تجرد عن ذلك لم يدل على إيقاع المأمور به أكثر من مرة .
وإن توقف فعل المأمور به على شيء كان ذلك الشيء مأموراً به ، فإن كان المأمور به واجباً كان ذلك الشيء واجباً ، وإن كان المأمور به مندوباً كان ذلك الشيء مندوباً .
والأمر للنبي ج أمر للأمة ، وكذا خطابه لواحد من الصحابة ش ، إلا بدليل على الخصوصية فيهما .
النهي
وهو اللفظ الدال على طلب الترك على جهة الاستعلاء .
وصيغته : المضارع المقرون بلا الناهية ، وقد يستفاد طلب الترك من التصريح بلفظ التحريم أو النهي أو الوعيد على الفعل ، أو ذم الفاعل ، ومن ذلك نفي الإجزاء أو القبول .
والنهي بلفظ الخبر كالنهي بلفظ الطلب ، وهو لنفي الصحة ، فيستلزم فساد المنفي عبادة كان أم عقداً ، وقد يكون لنفي الكمال بدليل يفيد ذلك ويدل على نقصان المنفي .
وصيغة النهي تفيد تحريم المنهي عنه إن تجردت عن دليل صارف ، وإلا فهي بحسبه كالكراهة والإرشاد ، وتقتضي فساده إن عاد النهي إلى ذات المنهي عنه أو شرطه ، فإن جاء دليل يفيد البطلان أو الصحة عُمِلَ به ، فإن عاد النهي إلى أمر خارج لم يقتض الفساد .
والأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ، والنهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده .
وما لا يتم اجتناب المنهي عنه إلا به فهو منهي عنه ، وهذا مع ما تقدم في باب الأمر داخل تحت القاعدة العظيمة : « الوسائل لها أحكام المقاصد » فوسائل المأمورات مأمور بها ، ووسائل المنهيات منهي عنها .
2 - العام :
وهو لغة : الشامل .(1/16)
واصطلاحاً : ما دل على متعدد غير محصور دفعة بوضع واحد ، وصيغه :
1 - ما دل على العموم بذاته ، مثل : كل ، جميع ، وكافة ، وعامة ، ونحوها .
2 - أسماء الشرط ، مثل : من ، وأين ، وأيّ .
3 - أسماء الاستفهام ، مثل : من ، وما ، وأين ، وأيّ .
4 - الأسماء الموصولة ، مثل : الذي ، والذين ، وما .
5 - النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام أو الامتنان .
6 - المعرف بـ « أل » الاستغراقية مفرداً كان أم مجموعاً .
7 - المعرف بالإضافة مفرداً كان أم مجموعاً .
وأما المفرد المعرف بـ « أل » الجنسية فلا يفيد العموم ، وكذا المعرف بـ « أل » العهدية إن كان المعهود خاصاً ، فإن كان عاماً فالمعرف بها عام .
وأما الجمع المنكر فليس من صيغ العموم ، والفرق بينه وبين العام أن العام يستغرق جميع أفراده بلا حصر ، والجمع المنكر يتناول جميع أفراده من غير استغراق .
وألفاظ الجموع من حيث دلالتها على الذكور والإناث ثلاثة أنواع :
1 - ما يدخل فيه الذكور والإناث بلا خلاف ، كلفظ : « الناس » و « القوم » و « الطائفة » و « مَنْ » المستعملة في العاقل .
2 - ما يخص كل جنس بلا خلاف ، كلفظ : « الرجال والذكور » و « النساء والإناث » .
3 - ما فيه خلاف ، وهو جمع المذكر السالم ، مثل : « مسلمين ، محسنين » وضمير جمع المذكر المتصل بالفعل ، مثل : « آمنوا ، أقيموا » .
وهذا الخلاف لفظي ، لاتفاق الفريقين على دخول النساء في عموم الأحكام الشرعية ، ما لم يرد مخصص .
والعام من حيث دلالته ثلاثة أنواع :
1 - عام أريد به العموم قطعاً ، وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي احتمال تخصيصه .
2 - العام الذي يراد به قطعاً الخصوص ، وهو العام الذي صحبته قرينة تنفي بقاءه على عمومه .(1/17)
3 - عام مخصوص ، وهو العام المطلق الذي لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه ، ولا قرينة تنفي دلالته على العموم ، ودلالته على جميع أفراده ظنية ، لأن كل عام يحتمل التخصيص غالباً ، وهذا هو أكثر العمومات في الكتاب والسنة.
والتخصيص : هو إخراج بعض أفراد العام .
ودليل التخصيص نوعان :
1 - متصل : وهو ما لا يستقل بنفسه ، بل يكون جزءاً من النص العام .
2 - منفصل : وهو ما يستقل بنفسه ، ولا يكون جزءاً من النص العام .
فالمتصل أربعة أنواع :
1 - الاستثناء ، وهو إخراج بعض أفراد العام بـ « إلا » أو إحدى أخواتها .
ومن شرطه : أن يكون متصلاً بالمستثنى منه حقيقة أو حكماً ، فإن حصل فاصل من سكوت أو كلام لم يصح الاستثناء ، إلا أن يكون المجلس واحداً ، وأن يبقى من المستثنى منه شيء إلا إن كان الاستثناء من عدد ، فإن كان من صفة صح وإن خرج الكل .
وإذا وقع الاستثناء عقيب جمل ، فإن وجد قرينة تدل على المراد عمل بها ، وإن تجرد عن القرينة عاد إلى الجميع .
2 - الصفة : وهي ما أشعر بمعنى يتصف به بعض أفراد العام من نعت أو بدل أو حال .
3 - الشرط : والمراد الشرط اللغوي ، وهو تعليق شيء بشيء بـ « إن » الشرطية أو إحدى أخواتها ، وهو مخصص ، سواء تقدم أم تأخر .
4 - الغاية : وهي نهاية الشيء المقتضية ثبوت الحكم لما قبلها ، وانتفاءه عما بعده ، وصيغتها « إلى » و « حتى » .
والمنفصل سبعة :
1 - الحس : أي الإدراك بالحواس .
2 - العقل .
3 - النص : وهو أربعة أقسام :
1 - تخصيص الكتاب بالكتاب .
2 - تخصيص السنة بالسنة .
3 - تخصيص السنة بالكتاب .
4 - تخصيص الكتاب بالسنة .
4 - القياس المعتمد على نص .
5 - المفهوم .
6 - فعل النبي ج .
7 - تقريره .(1/18)
ويجب العمل بعموم اللفظ العام حتى يثبت تخصيصه ، ولا يلزم البحث عن مخصص ، لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك ، لكن على الفقيه أن يتثبت في كل حكم دلالة النص عليه ظنية ، لاحتمال وجود مخصص ، لكون هذا هو الغالب في نصوص العام .
وإذا ورد العام على سب خاص فإن دل دليل على العموم أو على تخصيص العام بما يشبه السبب عمل به ، وإلا فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
والعام إذا دخله التخصيص فأخرج منه بعض الأفراد بقي حجة فيما لم يُخَصَّ .
وذكر بعض العام بحكم العام لا يقتضي تخصيصه ، لأن المخصص يجب أن يكون منافياً للعام ، إلا إذا جاء تقييده بوصف فإنه يقتضي التخصيص ، وفائدة ذكره إما لنفي احتمال إخراجه من العام ، أو التفخيم له بإظهار مزيته على غيره .
ولا يجوز التخصيص بقضايا الأعيان على الراجح .
3- المشترك :
وهو اللفظ الموضوع للدلالة على معين أو أكثر بأوضاع متعددة ، ويقع في الأسماء والأفعال والحروف ، مثل : لفظ ( القرء ) فهو مشترك بين الطهر والحيض ، ولفظ ( المولى ) فهو مشترك بين العبد والسيد .
وحكم المشترك أنه لا يجوز استعماله إلا في معنى واحد من معانيه ، وهذا قول الأكثرين ، ويعرف ذلك بالقرينة الدالة على المراد ، وهي تحتاج إلى اجتهاد ونظر ، وذلك مما يختلف فيه المجتهدون .
ويرى آخرون : جواز استعمال المشترك في جميع معانيه إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وعزاه شيخ الإسلام ابن تيمية لأكثر الفقهاء .
القسم الثاني : استعمال اللفظ في المعنى
ويدخل تحته الحقيقة والمجاز والصريح والكناية .
1 - الحقيقة : وهي لغة : فعيلة بمعنى فاعلة ، من حق الشيء : إذا ثبت .
واصطلاحاً : اللفظ المستعمل فيما وضع له ، وهي ثلاثة :
1 - حقيقة لغوية : وهي التي يعرف حدها باللغة ، كلفظ : الشمس والقمر ، والسماء والأرض ، ونحو ذلك .(1/19)
2 - حقيقة شرعية : وهي التي يعرف حدها بالشرع ، كلفظ : الإيمان والإسلام ، والكفر والنفاق ، والصلاة والزكاة والصوم والحج .
3 - حقيقة عرفية : وهي التي يعرف حدها بعرف الناس وعاداتهم ، كلفظ : البيع ، والنكاح ، والدرهم والدينار ، ونحو ذلك .
وحكم الحقيقة : أنه يجب حمل اللفظ على حقيقته ولا يعدل عنه إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة .
وفائدة معرفة أقسام الحقيقة أن يحمل اللفظ على معناه الحقيقي في موضع استعماله ، فما حكم به الشرع وبين معناه وجب الرجوع فيه إلى المعنى الشرعي ، فإن لم يكن للفظ معنى شرعي قدمت الحقيقة العرفية في تفسيره - وهي عرف الصحابة ش - ، فإن لم يكن للفظ عرف شرعي ولا عرفي فُسِّر بحسب اللغة .
2 - المجاز : وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي .
وقد اختلف في وقوعه في القرآن ، فمن أهل العلم من نفاه مطلقاً ، ومنهم من أثبته ، والأظهر التفصيل ، و أن المجاز واقع في القرآن ما عدا آيات الصفات ، فهي محمولة على حقيقتها ووجهها اللائق بالله تعالى ، ويمتنع حملها على المجاز .
وحكم المجاز : أنه لا يحمل اللفظ على المعنى المجازي إلا إذا تعذر حمله على معناه الحقيقي ، فإذا تعذر حُمِلَ على المجاز مع وجود القرينة الدالة على ذلك ، وتعلق الحكم الشرعي به .
والقرينة ثلاثة أنواع :
1 - قرينة حسية : وهي التي تدرك بالحس ، وهو المشاهدة .
2 - قرينة حالية : وهي التي تدرك من الحال التي تدل على المعنى المراد من الكلام .
3 - قرينة شرعية : وهي تدرك من أدلة الشرع وقواعده .
3 - الصريح : وهو لغة : الواضح من القول والفعل .
واصطلاحاً : هو اللفظ الذي ظهر معناه ظهوراً تاماً لكثرة استعماله ؛ سواء كان حقيقة أم مجازاً .
وحكمه : ثبوت الحكم الشرعي بمجرد التلفظ به من غير افتقار إلى نية المتكلم به ، وذلك لوضوح معناه ، وعدم احتمال غيره .(1/20)
4 - الكناية : وهي لغة : من كنَّى الشيء : إذا ستره .
واصطلاحاً : هي اللفظ الذي استتر المعنى المراد به ، فلا يفهم إلا بقرينة .
وحكمها : أنه لا يثبت الحكم الشرعي بمجرد اللفظ حتى يقترن بالنية التي تحدد المراد .
وهذا داخل تحت أصل عظيم من أصول الشريعة ، وهو « أن الأمور بمقاصدها » وبه يتبين أن الكناية لا تتصل بنصوص الكتاب والسنة ، وإنما بتصرفات المكلفين وما يترتب على أقوالهم من أحكام .
القسم الثالث : دلالة اللفظ على المعنى
1 - الواضح الدلالة :
وهو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي ، وهو أربعة :
1 - النص : وهو لغة : الظهور والرفع .
واصطلاحاً : ما دل على معنى سيق الكلام لأجله دلالة تحتمل التأويل أو التخصيص أو النسخ .
وحكمه : أنه يجب العمل به ، ولا يعدل عنه إلا بدليل يصرفه عن ظاهره من تخصيص أو تقييد أو تأويل .
2 - الظاهر : وهو لغة : الواضح والبيِّن .
واصطلاحاً : ما دل على معنى متبادر لذهن السامع من غير تأمل ، دون أن يكون مسوقاً لذلك المعنى مع احتمال التأويل أو التخصيص أو النسخ .
وحكمه : أنه يجب العمل بالمعنى الظاهر إلا بدليل يصرفه عن ظاهره ، من تأويل أو تخصيص أو تقييد ونحوها .
والتأويل لغة : من الأوْل : وهو الرجوع والعود .
واصطلاحاً : له ثلاثة معان :
منها اثنان عند السلف ، وهما : الحقيقة التي يؤول إليه الكلام ، وهذا هو المراد به في الكتاب والسنة ، والتفسير والبيان .
ومعنى عند المتأخرين : وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل ، وهذا هو المراد عند الأصوليين ، وهو نوعان :
1 - تأويل صحيح مقبول : وهو أن يكون اللفظ قابلاً للتأويل ، ودلَّ عليه دليل صحيح من نص أو قياس صحيح أو أصل عام من أصول التشريع .
2 - تأويل فاسد مردود : وهو ما ليس عليه دليل صحيح ، كتأويل المعطلة في باب الأسماء والصفات ، وهو من باب تحريف الكلم عن مواضعه .(1/21)
3 - المفسَّر : وهو لغة : اسم مفعول من فسَّر الشيء : إذا وضحه وشرحه .
واصطلاحاً : ما دل بنفسه على معناه المفصَّل على وجه لا يبقى معه احتمال للتأويل .
وحكمه : أنه يجب العمل به على الوجه الذي ورد تفصيله عليه ، ويقبل النسخ في زمن الوحي إذا كان من الأحكام التي يدخلها النسخ .
ويتفق التفسير مع التأويل بمعنى التفسير في أن كلاً منهما فيه بيان للمراد من النص ، لكن المفسَّر جاء بيانه من قبل الشارع ، فهو قطعي في بيان المراد ، أما المؤول فهو تبيين من المجتهد ، فلا يكون قطعياً في تعيين المراد .
4 - المحكم : وهو لغة : اسم مفعول من أحكم الشيء إذا أتقنه .
واصطلاحاً : ما دل بنفسه دلالة واضحة على معناه لا تحتمل تأويلاً ولا نسخاً .
ويدخل تحته نصوص العقائد كالتوحيد وأصول الإيمان ، وأصول العبادات ، ومكارم الأخلاق ، والقواعد العامة التي قامت عليها شرائع الإسلام كرفع الحرج ، ومنع الضرر ، ونحو ذلك ، والأحكام الفرعية الجزئية التي اقترن بها ما يدل على تأبيدها .
وحكم المحكم : أنه يجب العمل به قطعاً ، ولا يمكن صرفه عن ظاهره ، لا بتأويل ولا بتخصيص ولا بنسخ ، وهو أعلى أقسام « الواضح الدلالة » ثم المفسَّر ، ثم النص ، ثم الظاهر ، ويظهر أثر هذا الترتيب عند التعارض .
2 - غير الواضح الدلالة :
وهو ما لا يدل على المراد منه بنفس الصيغة ، بل يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي ، وهو أربعة :
1 - الخفي : وهو لغة : المستور والمكتوم .
واصطلاحاً : هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة ظاهرة ، لكن في انطباق معناه على بعض الأفراد خفاء وغموض ، يحتاج كشفه إلى نظر وتأمل .
ومن أسباب الخفاء أن يكون لبعض أفراد المعنى اسم خاص ، أو وصف يمتاز به ، أو غير ذلك .(1/22)
وحكمه : أنه لا يعمل به إلا بعد إزالة الخفاء ، وذلك بنظر المجتهد وتأمله في اللفظ ، وهذا بالرجوع إلى النصوص في الموضوع ، ومراعاة مقاصد الشريعة ، فإن ظهر أن اللفظ يتناول هذا الفرد بوجه من الوجوه جُعِلَ من أفراده وأخذ حكمه ، وإن كان لا يتناوله لم يأخذ حكمه ، وهذا مما يختلف فيه نظر المجتهدين .
2 - المشكل : وهو في اللغة : اسم فاعل من أشكل الأمر : إذا التبس .
واصطلاحاً : هو اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه ، وإنما يتوقف فهم المراد منه على قرينة خارجية يمكن التوصل إليها عن طريق البحث .
ويرد الإشكال في موضعين :
الأول : اللفظ المشترك ، لأنه - كما تقدم - موضوع لغة لأكثر من معنى ، وليس في صيغته ما يدل على معنى معين مما وضع له ، فافتقر إلى قرينة خارجية تعينه .
الثاني : النصان اللذان ظاهرهما التعارض ، فإن الإشكال ينشأ من اجتماعهما مع أن كل نص بمفرده ظاهر الدلالة ولا إشكال فيه .
وحكم المشكل : إن كان الإشكال بسبب الاشتراك وجب النظر في المعاني التي يحتملها اللفظ ثم الاجتهاد في تعيين المعنى المراد بالقرائن أو بالأدلة من الكتاب أو السنة .
وإن كان بما ظاهره التعارض فعلى المجتهد أن يبذل وسعه في درء التعارض مستنداً إلى نصوص أخرى أو أصول شرعية عامة .
3 - المجمل : وهو لغة : اسم مفعول من أجمل الكلام : إذا أو جزه .
واصطلاحاً : هو اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه ولا توجد قرينة تساعد على معرفته ، و لا تفهم دلالته إلا ببيانٍ ممن أجمله .
وأسباب الإجمال :
1 - عدم تعيين المراد إما لكون اللفظ مشتركاً بين معنيين أو أكثر ، أو لغرابته .
2 - عدم معرفة الصفة .
3 - عدم معرفة المقدار .(1/23)
وحكم المجمل : التوقف فيه حتى يتبن المراد منه من جهة الكتاب والسنة ، فإن كان بيانه وافياً صار المجمل بعد البيان مفسَّراً ، وإن كان بيانه غير كاف بل فيه بقية خفاء صار المجمل من قسم المشكل ، فيحتاج من المجتهد إلى نظر وتأمل لإزالة إشكاله ومعرفة المراد منه .
فإن كان اللفظ مجملاً من جهة ومبيناً من جهة أخرى فإنه يعمل بما كان مبيناً منه ، ويطلب بيان ما أجمل منه من غيره .
وأعلم أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول ج ، ولا بد أن تنقلها الأمة ، فما ترك الله ورسوله حلالاً إلا بيناً ، ولا حراماً إلا بيناً ، لكن قد يكون بعضه أظهر بياناً من بعض .
4 - المتشابه : وهو لغة : اسم فاعل من تشابه الشيئان : إذا أشبه كل منهما الآخر .
واصطلاحاً : هو اللفظ الذي لا تدل صيغته على المراد منه ، وليس ثمة قرائن تبينه ، واستأثر الله بعلم حقيقته .
وهو مقابل المحكم ، وكلاهما في القرآن ، ومن أمثلته : نصوص صفات الله تعالى باعتبار كيفيتها لا باعتبار معانيها ، والروح ، ووقت قيام الساعة ، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار ، وغير ذلك .
وحكمه : وجوب الإيمان به ورَدُّه إلى الله تعالى ، وهي طريقة الراسخين في العلم ، بخلاف ما عليه المنحرفون عن الحق من اتباع المتشابه طلباً للفتنة وتحريفاً لكتاب الله تعالى .
وهذا في المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، أما المتشابه الذي يحتاج إلى بيان فيجب البحث عن بيانه ، وذلك برده إلى المحكم .
والمتشابه بالمعنى المتقدم ليس من مباحث الأصول ، لأنه لا يتصل به شيء من التكاليف ، وإنما يُذكر من باب تتمة القول في دلالات النصوص .
القسم الرابع : كيفية دلالة اللفظ على المعنى
1 - عبارة النص : وهي دلالة اللفظ على المعنى المتبادر فهمه من نفس صيغته .(1/24)
2 - إشارة النص : وهي دلالة اللفظ على معنى غير مقصود من سياقه ، لكنه لازم للمعنى الذي سيق الكلام لإفادته ، وهذا التلازم قد يكون ظاهراً ، وقد يكون خفياً لا يدرك إلا بتأمل .
3 - دلالة النص : وهي دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة الحكم .
وهذه العلة تدرك بمجرد فهم اللغة من غير حاجة إلى بحث واجتهاد ، وتسمى « مفهوم الموافقة » عند من يقول : إن الدلالة لفظية ، وتسمى « القياس الجلي » عند من يقول : الدلالة قياسية ، وهو نوعان :
1 - أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق ، ويسمى « فحوى الخطاب » و « قياس الأولى » .
2 - أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق ، ويسمى « لحن الخطاب » و « قياس المساواة » .
4 - اقتضاء النص : وهو المعنى الذي لا تستقيم دلالة الكلام إلا بتقديره ، والمقتضِي - بكسر الضاد - : الحامل على التقدير ، والمقتضَى - بالفتح - : هو الشيء المقدر ، وحكم المقتضَى ما ثبت به من الأحكام .
5 - مفهوم المخالفة : وهو ما خالف المسكوت عنه المنطوق في الحكم ، ويسمى « دليل الخطاب » ، وهو ستة أنواع :
مفهوم الصفة ، ومفهوم الشرط ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم العدد ، ومفهوم الحصر ، ومفهوم اللقب .
1 - مفهوم الصفة : دلالة اللفظ الموصوف بصفة على نقيض حكمه عند انتفاء تلك الصفة .
والمراد بالصفة - هنا - مطلق اللفظ الذي يرد مقيداً للفظ آخر ، وليس بشرط ولا غاية ولا عدد ولا لقب ولا حصر ، وليس المراد خصوص النعت النحوي ، بل ما هو أعم من ذلك .
2 - مفهوم الشرط : دلالة اللفظ المقيد بشرط على نقيض حكمه عند انتفاء الشرط ، والمراد بالشرط : الشرط اللغوي .
3 - مفهوم الغاية : دلالة اللفظ المقيد بغاية على نقيض حكمه عند انتفاء تلك الغاية .
4 - مفهوم العدد : دلالة اللفظ المقيد بعدد على نقيض حكمه عند انتفاء ذلك العدد .(1/25)
5 - مفهوم الحصر : هو إثبات الحكم لشيء بصيغة ونفيه عما عداه بمفهوم تلك الصيغة ، ومن صيغه : النفي والاستثناء ، وإنما .
6 - مفهوم اللقب : دلالة اللفظ الذي علق الحكم فيه بالاسم على انتفاء ذلك الحكم عن غيره .
ومفهوم المخالفة حجة عند الجمهور بجميع أقسامه بالشروط المعتبرة ، عدا مفهوم اللقب .
وشروطه ستة :
1 - ألا يوجد دليل خاص في المحل الذي يثبت فيه مفهوم المخالفة .
2 - ألا يكون القيد خرج مخرج الغالب .
3 - ألا يكون خرج مخرج الجواب عن سؤال معين .
4 - ألا يقصد الشارع تهويل الحكم وتفخيمه .
5 - ألا يكون القيد أريد به إفادة التكثير والمبالغة .
6 - ألا يقصد بالسياق التنبيه على معنى يصلح للقياس عليه بطريق المساواة أو الأولوية .
والشرط الجامع لهذه الشروط : هو ألا يظهر لتخصيص الحكم بالمنطوق فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت عنه .
الفصل الثاني : في مقاصد التشريع
والمراد بها : المعاني والحكم التي لأجلها شرع الله تعالى الشرائع .
والأحكام الشرعية - على قول أهل السنة - مبنية على مصالح الخلق فضلاً من الله تعالى ورحمة ، وليس هذا واجباً على الله .
والقول الجامع أن الشريعة لم تهمل مصلحة قط ، لأن الله تعالى أكمل لنا الدين ، وأتم النعمة .
والمصالح المقصودة بالتشريع ثلاثة أنواع :
1 - الضروريات : وهي المصالح التي تتوقف عليها حياة الناس ، بحيث إذا فقدت اختل نظام الحياة ، ولحق الناس الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة .
وهذه الضروريات خمس : الدين ، والنفس ، والعقل ، والمال ، والعرض .
وجاءت الشريعة لحفظها بأمرين :
الأول : ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها .
الثاني : ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع .
2 - الحاجيات : وهي الأمور التي يحتاج إليها الناس لرفع الحرج عنهم ، ولا يحصل بفواتها فوات ضروري لهم ، ولكن يلحقهم بذلك حرج ومشقة .
3 - التحسينيات : وهي الأخذ بمحاسن العادات والأخلاق ، وتجنب مساوئها .(1/26)
والمصالح بأنواعها الثلاثة تجب مراعاتها على هذا الترتيب ، وعلى الفقيه أن ينظر في المسائل المتعلقة بأحد هذه المصالح على هذا الاعتبار .
وقد استفاد العلماء بمراعاة مقاصد التشريع جملة من القواعد والضوابط العامة ، وبنوا عليها أحكاماً كثيرة ، وبقدر مراعاتها تتضح للفقيه مناهج الفتوى ، ويستطيع على ضوئها الاستدلال والترجيح بين المصالح ، ومن هذه القواعد :
1 - الضرر يزال .
2 - يدفع الضرر العام بتحمل الضرر الخاص .
3 - يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما .
4 - الضرورات تبيح المحظورات .
5 - الضرورة تقدر بقدرها .
6 - المشقة تجلب التيسير .
7 - إذا اختلف عليك أمران فإن أيسرهما أقرب إلى الحق .
والفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة ، وذلك لتيسير عملية الاجتهاد وإعطاء الحوادث الجديدة ما يناسبها من الأحكام ، إما عن طريق القياس أو غيره ، وبذلك تتضح صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان .
الفصل الثالث : في تعارض الأدلة
والتعارض لغة : التقابل والتمانع .
واصطلاحاً : تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر .
وليس بين أدلة الشرع تعارض في حقيقة الأمر ، لأن أدلة الشرع حق ، والحق لا يتناقض ، بل يصدق بعضه بعضاً ، وإنما يوجد ذلك في نظر المجتهد إما لنقصٍ في علمه ، أو خللٍ في فهمه .
فإذا وجد التعارض فلدرئه ثلاثة مسالك :
الأول : إعمال الدليلين ، وهذا أحسن المسالك ، لأنه عمل بكلا الدليلين ، والأصل إعمال الدليل لا إهماله ، وذلك بتخصيص العام بالخاص ، أو حمل المطلق على المقيد ، أو تأويل أحد الدليلين على معنى مناسب من غير تكلف ، كحمل أحدهما على حال والآخر على حال أخرى ، أو هذا في زمان وذاك في آخر .
الثاني : فإن تعذر الإعمال عُدل إلى النسخ ، فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم .
والنسخ : رفع حكم شرعي عملي أو لفظه بدليل شرعي متأخر عنه .(1/27)
والنسخ ثابت في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ج ، وهو قليل ، وينقسم باعتبار النص المنسوخ إلى ما نسخ حكمه وبقي لفظه ، وهذا أكثرها ، وما نسخ لفظه وبقي حكمه ، وما نسخ حكمه ولفظه ، وينقسم باعتبار الناسخ إلى نسخ القرآن بالقرآن ، ونسخ القرآن بالسنة ، ونسخ السنة بالقرآن ، ونسخ السنة بالسنة ، على خلاف في بعضها .
ويعرف النسخ إما بدلالة اللفظ عليه صراحة ، أو بقرينة في سياق النص ، أو بخبر الصحابي ، أو بالتاريخ .
الثالث : فإن تعذر النسخ فالترجيح ، وهو تقديم أحد الدليلين المتعارضين ، لما فيه من مزية معتبرة ، تجعل العمل به أولى من الآخر .
وأوجه الترجيح كثيرة منها ما يتعلق بالسند ، كالترجيح بكثرة الرواة مع الإتقان ، أو بمزيد حفظهم وإتقانهم ، ومنها ما يتعلق بالمتن ، كالترجيح بالنقل عن البراءة الأصلية ، أو يكون راوي أحد الخبرين هو صاحب القصة أو المباشر لها دون الآخر ، وقد يكون الترجيح بأمر خارجي لكون أحد الدليلين له عاضد من كتاب أو سنة ، ونحو ذلك .
الباب الرابع : في الاجتهاد والتقليد
فالاجتهاد لغة : بذل الجهد واستفراغ الوسع في أي فعل من الأفعال .
واصطلاحاً : بذل المجتهد وسعه في طلب العلم بالحكم الشرعي بطريق الاستنباط من أدلة الشرع .
ومورد الاجتهاد هو النوازل مما لا نص فيه ، أو فيه نص ظني الثبوت والدلالة ، أو ظني أحدهما ، أو ما فيه تعارض ، أما مسائل العقيدة ، والقطعيات من المسائل الفقهية التي أجمعت الأمة عليها فلا اجتهاد فيها .
وللاجتهاد شروط ستة :
1 - أن يكون عالماً بالقدر اللازم لفهم الكلام من اللغة والنحو والصرف والبلاغة .
2 - أن يكون عالماً بكتاب الله تعالى ، وذلك بمعرفة آيات الأحكام ، وأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، وما يحتاج إليه من اختلاف القراءات .(1/28)
3 - أن يكون عالماً بسنة رسول الله ج ، وذلك بمعرفة أحاديث الأحكام ، والناسخ والمنسوخ ، وما يتعلق بصحة الحديث وضعفه مما هو مدون في علوم الحديث .
4 - أن يكون عالماً بأصول الفقه ، لأن هذا العلم هو عماد الاجتهاد وأساسه .
5 - أن يكون عالماً بمواقع الإجماع لئلا يفتي بما يخالف الإجماع .
6 - إدراك مقاصد الشريعة في وضع الأحكام ، ومعرفة أحوال الناس وأعرافهم
والاجتهاد قد يتجزأ فيكون في باب واحد من أبواب العلم ، أو في مسألة من مسائله .
ويجوز للمجتهد تغيير اجتهاده ، لكن لا ينقض ما مضى إلا إن خالف دليلاً قاطعاً من نص أو إجماع أو قياس جلي ، وأما الاجتهاد فلا ينقض اجتهاداً قبله .
والمجتهد يصيب ويخطئ ، والمصيب من أصاب حكم الله تعالى ، وله باجتهاده وإصابته أجران ، والمخطئ بعد بذل الجهد له أجر واحد ، وخطؤه مغفور له .
وأما التقليد : فهو لغة : وضع الشيء في العنق محيطاً به .
واصطلاحاً : اتباع من ليس قوله حجة .
والناس صنفان : 1 - عالم مجتهد ... ... 2 - وعامي مقلد .
فأما المجتهد فيلزمه بذل جهده في استنباط الحكم ، ولا يجوز له أن يقلد غيره ، لقدرته على النظر والاستدلال ، إلا إذا نزلت به حادثة تقتضي الفورية ولا يتمكن من النظر فيها ، أو نظر وعجز عن معرفة الحق ، فله أن يقلد حينئذ للضرورة .
وأما العامي فإنه يقلد أفضل أهل العلم علماً وورعاً ، إذ لا يمكنه النظر والاستدلال ، فإن تساوى عنده اثنان خير بينهما .
لكن لا يتقيد بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه ، وإنما يكون مذهبه مذهب من يستفتيه .(1/29)