مفهوم الأسماء والصفات
سعد ندر
المدرس بالجامعة الإسلامية
في الحلقات الخمس الماضية يسر الله لي معالجة شيء من المعاني المتعلقة ببعض أسماء الله الحسنى في محاولة لفهم جوانب من مضامينها ؛ وكان آخر ما شملته هذه المحاولة هو اسمي(المولى-والوليّ) . ولما بدا لي ا، أستكمل بحثي في هذه الحلقة ، ذكرت دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم الجامع لهذين الاسمين في آن معا حين يضرع إلى ربه قائلا: "اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها،أنت وليها ومولاها".
وهذا الدعاء الرائع يشمل خيري الدنيا والآخرة، إذ أنه لو جمع الإنسان أن يبعد عن نفسه فجورها، وأن تحقق لها بقواها، لكان كل ما يأتيه مراقباً فيه لله تعالى طامعاً في ثوابه، حاذراً من عقابه، وكذلك لو جمع للإنسان أن تجنب نفسه تدسيتها، وتُحصلَّ لها تزكيتها، لكان كل ما يصدر عنه نقياً طاهراً.
وما دام أن عمل الإنسان قد خلص لله جل وعلا، ونقي من كل شائبة، فإنه يكون سبباً في خيره وفلاحه في دنياه وآخرته.
ومن ذا الذي يخلص النفس من فجورها وتدسيتها؟ ومن ذا الذي يحقق لها تقواها وزكاتها؟ إنه الله القدير سبحانه، قلوبنا بين إصبعين من إصبعه يقلبها كيف يشاء، ذلك بأنه-جل وعلا- يتولى أمر عبده المؤمن، ويوليه رعايته وتوفيقه، فيعيش في كنفه، ويحظى بالأمن في رحابه.
ومن أسعد ممن يرعاه حبيبه، ويتولاه مولاه ؟ ويأخذ بناصيته إلى برّ النجاة؟
وبالتأمل في كتاب اللّه العزيز، نجد تلك المعاني في مثل قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس آية 6-10).(1/1)
ومعنى قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}: أي خلقها سويةً مستقيمة على الفطر القويمة كما قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(1).
أو بمعنى: سوَّاها: خلقها وأنشأها وسوى أعصابه(2) .
ومعنى قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}: أي بيّن لها الخير والشر، أو ألهمهما الخير والشر، أو جعل فيها فجورها وتقواها (3) .
أو بمعنى: عرَّفها وأفهمها حالهما (أي حال التقوى والفجور) وما فيهما من الحسن والقبح. أو عرفها طريق الفجور والتقوى، والمعصية والطاعة. أو: عرفها طريق الخير وطريق الشر كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}. وقد حكى الإمام بن كثير قول محمد بن كعب: "إذا أراد اللّه بعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشر فعمل به". كما حكى قول ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا القول، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان. وقال الواحدي: وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام، فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام، والإلهام أن يوقع في قلبه ويجعل فيه، وإذا أوقع الله في قلب عبد شيئا ألزمه ذلك الشيء وهذا صريح في أن اللّه خلق في المؤمن تقواه، وفى الكافر فجوره(4) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير الجزء 4ص515.
(2) فتح القدير للشوكاني الجزء 5 ص 449.
(3) تفسير القرآن العظيم الجزء 4 ص 516.
(4) فتح القدير للشوكاني الجزء5ص449.(1/2)
وجاء في معنى قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم كان عندما يقرأ هذه الآية يقول: " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها" رواه الإمام أحمد- بسنده- عن زيد بن أرقم الذي قال عن هذه الدعوات:
"كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يُعلمْناهنّ ونحن نعلمكُموهنّ". ورواه الإمام مسلم – بسنده- كذلك عن زيد بن أرقم (1) .
وقيل في معنى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أنه عرفها الفجور والتقوى، وما تميز به رشدها وضلالها- قال ابن عباس: "بين لها الخير والشر والطاعة والمعصية، وعرفها ما تأتي وما تتقي" (2) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم الجزء 4 ص 515 ، 516.
(2) صفوة التفاسير الجزء 3 ص 566.(1/3)
أقول: وقد تظهر شبهة عند بعض الذين لا يعلمون، فيرى أن هناك تعارضاً بين الآية المذكورة وهي قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وبين آيات أخرى تضاد معناها من مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة آية 16)، وقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (فصلت آية 17)، وقوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف آية 39)، وقوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (إبراهيم آية 33)، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} (الفرقان آية 37، 38)، وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (الأحزاب آية 67). وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الحشر آية 16). إلى غير ذلك من كثير الآيات التي يفهم منها أن فجور العبد وضلاله إنما هو بكامل اختياره ومشيئته دون تدخل لأي إرادة أو(1/4)
مشيئة أخرى سواه. في حين أن قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} يفهم منه أن الله هو الذي يضع الفجور أو التقوى بالإلهام في قلب عبده.
وخلص هؤلاء إلى أن هناك تعارضا بين نوعي الآيات، وأخذوا يؤولون ويخبطون، ونشأت اتجاهات شاذة حملتها الفرق الضالة كالقَدرية الذين نفوا قدرة الله القدير سبحانه فزعموا أن العبد هو الذي يخلق عمله استقلالا، ولهذا سّموا (مجوس هذه الأمة)، وذلك لمشابهتهم المجوس في قولهم بالأصلين: النور والظلمة ؛ ويعنون بذلك أن هناك إلهين: إله النور ويصدر عنه كل خير، وإله الظلمة ويصدر عنه كل شر. كذلك القدرية يقولون إن اللّه خالق العباد، وأن العباد خالقين لأفعالهم. وبهذا كان عند القدرية- كما يعتقد المجوس- خالقان.
ومن ثم عطلوا صفة (القدرة) التي يتصف بها الله جل وعلا، وكذبوه فيما سمى به نفسه سبحانه من اسم (القادر، والقدير) كما عطلوا صفة المشيئة أو الإرادة التي وصف بها نفسه تبارك وتعالى، في مثل قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف آية 33، 34). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (الحج آية 14).
ومن الفرق الضالة كذلك الجَبْرِيًة الذين زعموا أن فاعل جميع الأفعال هو الله تعالى، ونفوا أن العبد يفعل شيئا، ونتج عن اتجاههم هذا: القولُ بأن العبد مجبور على فعله لأنه بإتيانه ما يفعل ليس إلا كريشة في مهب الرياح تتقاذفها تارة يمنةً وتارة يسرةً، ومن ثم فلا مشيئة له ولا إرادة، وهو في أفعاله مسير تسييرا كاملا لا اختيار له في أي عمل.(1/5)
وهؤلاء كذبوا الله تعالى فيما أثبته للعبد من مشيئة في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف آية 29)، وافتروا عليه الكذب سبحانه في أنه يجبر العبد على مالا يريد فعله ومالا يقدم عليه بمحض اختياره. وبهذا الاتجاه الضال انتشرت بين الناس مقالة أن العبد مُسَيرٌ لا مخير. وهذا زعم كاذب، وخبْط في التيه، بلا برهان من الله.
ومثل هاتين الفرقتين القدرية والجبرية قد فرطت أولاهما فنفت ما أثبته اللّه لنفسه سبحانه من صفات وأفرطت الثانية فأثبتت للعبد ما لم يثبته له اللّه، وكلا الفرقتين مكذب لله تعالى فيما أخبر من إثبات مشيئة له سبحانه وإثبات مشيئة للعبد في مثل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الإنسان الآية 30) وفيما أخبر من خلقه للعبد ولعمله في مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات الآية 96).
ومن ثم فالعبد له مشيئة، وهو مخير تمام التخيير في جميع التكليفات، وتتميز بأنها تتم بعمله واختياره، كالصلاة والصيام والزكاة وسائر التكاليف، وهو مُسَير تسييرا كاملا فيما وراء التكاليف كالرزق، والأجل، وإنجاب الأولاد أو العقم وما ماثل ذلك، وتتميز هذه الأمور بأنه لا يد له فيها البتة. وهذا ما توسط به أهل السنة والجماعة.
وتحقيق هذه المسألة يرجع إليها في مظانها لأن المقام يضيق هنا عن تفصيلها, فأحيل القارئ الكريم على تلك المظان من كتب العقيدة.
ومعنى قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا }: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة اللّه وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل. أو أن المعنى: قد أفلح من زكى اللّه نفسه(1) .
وقد ذكر الإمام الشوكاني في معنى هذه الآية: أنه قد فاز من زكى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب (2) .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم الجزء 4ص 516.
(2) فتح القدير ص 449.(1/6)
وذُكر في تيسير الكريم الرحمن أن معنى هذه الآية: أنه طهر نفسه من الذنوب، ونقاها من العيوب، ورقّاها بطاعة اللّه وعلاّها بالعلم النافع، والعمل الصالح (1).
وجاء في صفوة التفاسير أن معنى هذه الآية: أنه فاز وأفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وطهرها من دنس المعاصي والآثام (2) .
ومعنى قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أنه خاب من دسَّسَ نفسه أي أخملها ووضع منها، وذلك بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل. أو أن المعنى: قد خاب من دسّ الله نفسه (3) .
وذكر الإمام الشوكاني في معنى {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}: أي خسر من أضلها وأغواها, أو أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح، أو أنه دسَّ نفسه في جملة الصالحين وليس منهم(4).
وجاء في تيسير الكريم الرحمن في معنى هذه الآية أنه أخفى نفسه الكريمة التي ليست حقيقةً بقمعها وإخفائها بالتدنس بالرذائل والدنو من العيوب والذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسيها (5).
وجاء في صفوة التفاسير أن معنى هذه الآية أنه قد خسر وخاب من حقَّر نفسه بالكفر والمعاصي، وأوردها موارد الهلكة. فإن من طاوع هواه، وعصى أمر مولاه، فقد نقص من عداد العقلاء، والتحق بالجهلة الأغبياء (6).
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن 8 ص 246.
(2) صفوة التفاسير الجزء 3 ص566.
(3) تفسير القرآن العظيم الجزء 4ص 516.
(4) فتح القدير للشوكاني الجزء 5ص 449.
(5) تيسير الكريم الرحمن الجزء 8ص 246.
(6) صفوة التفاسير الجزء 3 ص 566.(1/7)
أقول: وإذا كان إلهام النفس وإتيانها تقواها، هو تعريفها دروب الخير وإلهامها سلوكها وتوفيقها إلى التزامها ، وإذا كانت زكاة النفس هو تطهيرها من كل دنس، والسمو بها –بطاعة الله عز وجل- إلى مراقي الفوز والفلاح، إذا كانت تقوى النفس وتزكيتها بهذه المثابة، فقد حُقّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلجأ في ضراعة لمولاه الذي يتولاه ويتولى المؤمنين، فيقول: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها".
وحين يستجاب هذا الدعاء العظيم، يتحقق للنفس من خيري الدنيا والآخرة، ما تسعد به سعادة لم تشهد قبل لها مثيلا.
ومن ثم كان مقتضى معرفة معنى اسم (المولى- والوليّ) ،أن ينزع المؤمن من قلبه كل ولاية لغير الله تعالى، فيستبعد كل ولاية زائفة, ويحطم كل ولاية لعديد الجبابرة من طواغيت الأحياء أيا كانت سطواتهم ومهما بلغ سلطانهم، ولحشود المقبورين من طواغيت الأموات أيا كانت شخصياتهم ومهما سمت مرتباتهم، وأن يجرد الولاية لله الحق في الحياة الدنيا والآخرة، لينعم بإكرام الله تعالى له بالنصر والفوز في الدارين.
أسألك اللهم ربي ومولاي، أن تثبت قلبي- مع اخوتي على درب الإيمان-على دينك، وأن تصرفه على طاعتك ، وأن تجعل ولايته خالصة لك," أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلما وألحقني بالصالحين".
قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (سورة الروم آية 43).(1/8)