المُقَدِّمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد:
فإنَّ الواجب على المؤمن أن يكون متبعاً للكتاب والسنة على منهج السلف الصالح .
قال تعالى: { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}(1) .
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(2) .
وقال تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}(3)
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)) قالوا من هي؟ قال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((الجماعة)) (4) .
وإن مما أمر به الكتاب والسنة وجوب طاعة ولاة الأمور ، ومبايعتهم ، والذب عن أعراضهم ، وعدم غيبتهم ، وذكرهم بالجميل ، والدعاء لهم بظهر الغيب .
وإن من الدول الإسلامية التي أعلنت تطبيق الشريعة ، ودعت إليه الأمم ، وبذلت المال والجاه وما تستطيعه لنصرة الإسلام وأهله الدولة السعودية .
__________
(1) سورة الأعراف(آية/3).
(2) سورة النساء(آية/59).
(3) سورة النساء(آية/115).
(4) رواه الإمام أحمد في المسند(4/102)، وأبو داود في سننه(4/198رقم4597) ، وابن أبي عاصم في السنة(1/35رقم2) ، والطبراني في المعجم الكبير(19/376،377رقم884-885) ، وفي مسند الشاميين(2/108) ، ومحمد بن نصر في السنة(ص/20رقم51) ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين(1/128) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة(1/101رقم150)، وغيرهم وهو حديث صحيح ، صححه الحاكم والذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي والألباني وغيرهم . انظر: السلسلة الصحيحة(1/404رقم204).(1/1)
ومع ما تقوم به هذه الدولة من نصرة للإسلام والمسلمين وقضاياهم فهي من أشد الدول التي وجهت لها السهام ، وأعلنت عليها الحرب حتى ممن أحسنت إليهم ، وغمرتهم بفضلها وإحسانها –بعد فضل الله وإحسانه- .
لذا كان الواجب على أهل السنة مناصرة هذه الدولة ، والدفاع عنها ، والذب عن عرض ولاتها ، والتحذير ممن يطعن فيها ويحاربها .
ومساهمة في نشر الحق ، ونصرة لدين الله كتبت هذا البحث أسأل الله أن يكتب لي الأجر والمثوبة ، وأن يجعله ذخراً لي { يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ {88} إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}(1) .
ولا أبتغي على كتابتي من العباد جزاء ولا شكورا وإنما من الله الواحد الأحد .
وأقول كما قال الشيخ العلامة مقبل الوادعي -رحمَهُ اللهُ- في شريط براءة الذمة: "أنا أقول هذا ، لم يدفعني إليه أحدٌ ، ولم يُلزمني أحدٌ بأن أقوله، بل مِن نفسي أرى أنه يلزمني براءة لذمَّتي".
وقسمته إلى مقدمة وتمهيد وسبعة مباحث والخاتمة.
التمهيد : كلام بعض أهل العلم الكبار في الثناء على هذه الدولة وبيان أنها دولة إسلامية .
المبحث الأول: الأدلة من الكتاب والسنة والآثار السلفية على لزوم بيعة السلطان ووجوب طاعته بالمعروف ، وتكريم السلطان ، وحفظ حقه.
المبحث الثاني: البراهين على أن الدولة السعودية قامت على الكتاب والسنة على منهج السلف.
المبحث الثالث: جهود الدولة السعودية في نصرة العقيدة السلفية ونشر التوحيد.
المبحث الرابع: جهود الدولة السعودية في العلم والتعليم وخدمة القرآن الكريم والسنة المطهرة.
المبحث الخامس: كلام العلماء في التحذير من الكلام على ولاة الأمر في هذه البلاد.
المبحث السادس: استنكار العلماء ما يقوم به المبطلون من تفجير وتخريب.
المبحث السابع: الشبه المثارة حول الدولة السعودية وكشفها وبيان زيفها.
__________
(1) سورة الشعراء(آية/88-89).(1/2)
وأسأل الله أن ينفع بهذا البحث كاتبه وقارئه ، وأسأله تعالى أن يفتح به قلوباً غلفاً ، وآذاناً صماً ، وأعيناً عمياً .
إنه ولي ذلك والقادر عليه .
كتبه :
أبو عمر أسامة بن عطايا بن عثمان العتيبي
التمهيد
كلام بعض أهل العلم الكبار في الثناء على هذه الدولة وبيان أنها دولة إسلامية
الدولة السعودية دولة إسلامية تطبق الشرع ، والعلماء متفقون على أنها دولة مسلمة وأن ملكها تلزم مبايعته جميع شعبه ، ويجب السمع والطاعة له في المعروف .
ومن أقوال الأئمة في ذلك(1) :
قال مفتي عام المملكة العربية السعودية الإمام محمد بن إبراهيم -رحمهُ اللهُ-: " والحكومة بحمد الله دستورها الذي تحكم به هو كتاب الله وسنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد فتحت المحاكم الشرعية من أجل ذلك تحقيقا لقول الله تعالى : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}(2) وما عدي ذلك فهو من حكم الجاهلية الذي قال الله تعالى فيه : {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(3)"(4).
قال شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز -رحمَهُ اللهُ- : "الملك عبد العزيز نفع الله به المسلمين وجمع الله به الكلمة، ورفع به مقام الحق، ونصر به دينه، وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحصل به من الخير العظيم والنعم الكثيرة ما لا يحصيه إلا الله -عزَّ وجلَّ-.
ثم أبناؤه بعده ، حتى صارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والبعد عن البدع والخرافات.
وهذه الدولة السعودية دولةٌ مباركةٌ، وولاتها حريصون على إقامة الحق، وإقامة العدل، ونصر المظلوم، وردع الظالم، واستتباب الأمن، وحفظ أموال الناس وأعراضهم.
__________
(1) وسيأتي مزيد أقوال للعلماء في آخر المبحث الثاني(ص/92) .
(2) سورة النساء(آية/59).
(3) سورة المائدة(آية/50).
(4) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم(12/288-منسوخة على الوورد) .(1/3)
فالواجب التعاون مع ولاة الأمور في إظهار الحق وقمع الباطل والقضاء عليه حتى يحصل الخير"(1).
وسئل الشيخ ابن باز –رحمه الله- :
بعض الإخوة هداهم الله لا يرى وجوب البيعة لولاة الأمر في هذه البلاد ما هي نصيحتكم يا سماحة الوالد ؟
فقال الشيخ –رحمه الله- :
ننصح الجميع بلزوم السمع والطاعة كما تقدم والحذر من شق العصى والخروج على ولاة الأمور بل هذا من المنكرات العظيمة بل هذا دين الخوارج ، هذا دين الخوارج ، ودين المعتزلة .
الخروج على ولاة الأمور والسمع والطاعة لهم في غير المعصية هذا غلط ، خلاف ما أمر به النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالسمع والطاعة بالمعروف وقال: ((من رأى من أميره شيئاً من معصية الله ؛ فليكره ما يأت من معصية الله ، ولا يَنْزِعَنَّ يداً من طاعة)) (2).
وقال: ((ومن أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاضربوا عنقه)) (3)
فلا يجوز لأحد أن يشق العصى أو أن يخرج عن بيعة ولاة الأمور أو يدعو إلى ذلك فإن هذا من أعظم المنكرات ومن أعظم أسباب الفتنة والشحناء والذي يدعو إلى ذلك هذا هذا هو دين الخوارج إذا شاقق يقتل لأنه يفرق الجماعة ويشق العصى .
فالواجب الحذر من هذا غاية الحذر ، والواجب على ولاة الأمور إن عرفوا من يدعو إلى هذا أن يأخذوا على يديه بالقوة حتى لا تقع الفتنة بين المسلمين" انتهى كلامه -رحمَهُ اللهُ- .
وقال العلامة محمد ناصر الدين الألباني -رحمهُ اللهُ- : "أسألُ اللهَ أن يُديمَ النعمة على أرض الجزيرة وعلى سائر بلاد المسلمين, وأن يحفظَ دولةَ التوحيدِ برعايةِ خادمِ الحرمين الشريفين".
__________
(1) من شريط مسجل موجود لسماحته في 29/4/1417هـ. بعنوان "حقوق ولاة الأمر على الأمة".
(2) رواه مسلم في صحيحه(3/1482رقم1855) من حديث عوف بن مالك -- رضي الله عنه --.
(3) رواه مسلم في صحيحه(3/1480رقم1852) من حديث عرفجة -- رضي الله عنه --.(1/4)
قال الشيخ العلامة الفقيه محمد الصالح ابن عثيمين -رحمه الله- عن الدولة السعودية: "وهي من خير ما نعلمه في بلاد المسلمين تطبيقا للشريعة، وهذا أمر مشاهد ولا نقول إنها تامة مائة في المائة ، بل عندها قصور كثير ، ويوجد ظلم ويوجد استئثار ، لكن الظلم إذا نسبته إلى العدل وجدت أنه اقل .
ومن الظلم أن ينظر الإنسان إلى الخطأ ويغمض عينيه عن الصواب فإذا كان كذلك فالواجب أن الإنسان يحكم بالعدل لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}(1)
وقال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألاّ تعدلوا}. شنئان يعني بغض، ويجرم بمعنى يحمل، يعني لا يحملنكم بغض قوم على ألاّ تعدلوا {اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله}".
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتى عام المملكة حفظه الله :
"المملكة العربية السعودية ومنذ نشأتها منذ ما يزيد على القرنين وهي ولله الحمد، دولة سلفية محكمة لشرع الله وسارت على هذا بخطى ثابتة مستمدة عونها من الله سبحانه
ولا زالت ولله الحمد على هذا المنهج وقد نفع الله بها الإسلام والمسلمين في ميادين كثيرة جداً
ففي مجال العلم الشرعي نشرت العلم الشرعي الصحيح ، وهكذا أيضاً الدعوة إلى الله في أقطار الأرض ،وأيضاً نشرت كتب العلم بل قبل ذلك كتاب الله سبحانه
ثم أيضاً عنيت بحاجات المسلمين في كل مكان ومدت لهم يد العون والمساعدة
ولا زالت تناصر قضايا الأمة وهذا شيء معلوم مشهود يشهد به العدو والصديق،
وأيضاً لها جهودها العظيمة في خدمة الحرمين الشريفين وتيسير سبل الحج والعمرة، وهكذا أيضاً بناء المساجد والمراكز الإسلامية في شتى بقاع الأرض وغير ذلك كثير حتى أصبحت بتوفيق من الله هي مفاءة المسلمين في هذا العصر،
__________
(1) سورة النساء(آية/135).(1/5)
فلله الحمد والمنة ونسأل الله أن يديم علينا هذه النعمة وأن يعزّ هذه البلاد وحكامها .
وأن يلهمهم السداد في القول والعمل وأن يكبت عدوهم، أما من يشكك في هذا ويشكك في منهج هذه الدولة المباركة فهذا إما جاهل أو أن في قلبه مرضا وليحذر المسلم أن ينساق وراء مثل هؤلاء فليس وراءهم إلا الفتنة وإثارة التنازع والشقاق.
والواجب السعي في وحدة الصف وجمع الكلمة، حتى تنضبط الأمور، وفقنا الله وإياكم وسائر إخواننا المسلمين لكل خير ورزقنا جميعاً تقواه والبعد عن أسباب سخطه سبحانه إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد"(1).
وقال الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله-:
"ومن آخر ذلك ما نعايشه الآن من وفود أفكار غريبة مشبوهة إلى بلادنا باسم الدعوة على أيدي جماعات تتسمَّى بأسماء مختلفة مثل: جماعة الإخوان المسلمين ، وجماعة التبليغ ، وجماعة كذا وكذا ، وهدفها واحد ، وهو أن تزيح دعوة التوحيد، وتحل محلَّها ، وفي الواقع أنَّ مقصود هذه الجماعات لا يختلف عن مقصود من سبقهم من أعداء هذه الدعوة المباركة كلهم ، يريدون القضاء عليها لكن الاختلاف اختلاف خطط فقط ، وإلا لو كانت هذه الجماعات حقاً تريد الدعوة إلى الله فلماذا تتعدى بلادها التي وفدت إلينا منها؟ وهي أحوج ما تكون إلى الدعوة والإصلاح ، تتعداها وتغزوا بلاد التوحيد تريد تغيير مسارها الإصلاحي الصحيح إلى مسارٍ معوجٍّ ، وتريد التغرير بشبابها ، وإيقاع الفتنة والعداوة بينهم .
لأنهم رأوا ما تعيشه بلادنا من الوحدة والتلاحم بين قادتها ، وبين أفرادها وجماعتها ، رأوا في بلادنا دولة إسلامية في عقيدتها ومنهجها ، تحكم بالشريعة وتقيم الحدود ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر.
__________
(1) جريدة الرياض العدد 12175 السنة 38 الأربعاء 08 شعبان 1422 .(1/6)
فأرادوا أن يسلبوها هذه النعمة ، ويجعلوها كالبلاد الأخرى تعيش الفوضى ، وفساد العقيدة ، وإلا فما هو هدفها من غزو بلادنا بالذات ، والتركيز عليها ، وترك البلاد الفاسدة .
وإذا كانت هذه الجماعات قد غررت ببعض شبابنا فتأثروا بأفكارها وتَنَكَّروا لمجتمعهم وتشكَّكوا في قادتهم وعلمائهم وانطفأت الغيرة على العقيدة فيهم ، فتركوا الاهتمام بها ، وصاروا يهرفون بما لا يعرفون ، وينعقون بما يسمعون .
فإن في هذه البلاد –ولله الحمد- رجالاً يغارون لدينهم ، ويدافعون عن عقيدتهم ويردون كيد الأعداء في نحورهم ، ولا ينخدعون بالأسماء البَرَّاقة ، ولا يتأثرون بالحماس الكاذب"(1).
قال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي -رحمَهُ اللهُ- :
"وبعد هذا ـ حفظكم الله تعالى ـ أُعجِبتُ عند أن نقلت إلى مكة ، كنتُ باليمن عند الباب نحو أربعة حرَّاس ، ومع هذا فلسنا آمنين في بيتنا لا ليلاً ولا نهاراً ، وأنا في فندق دار الأزهر بمكَّة ، بعض الليالي لا يأتيني نومٌ، وأخرج إلى الحَرم نصف اللَّيل وحدي، أشعرُ بنعمةٍ وراحةٍ ولذَّةٍ ليس لها نظير! ليس لها نظير ! أخرج وحدي إلى البيت،
فهذا الأمنُ الّذي ما شاهدتُه في بلَدٍ ، إنَّ سببه هو الاستقامة على كتاب الله وعلى سنَّة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، من المسؤولين، ومن كثير من أهل البلد
__________
(1) حقيقة الدعوة إلى الله تعالى- المقدمة-.(1/7)
وصدق ربنا -عزَّ وجلَّ- إذ يقول في كتابه الكريم في شأن أهل الكتاب { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ}(1) ، ويقول سبحانه و تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}(2) ، و يقول سبحانه و تعالى: {وقَالُوا} أي: في شأن قُريشٍ{إن نَّتَّبِع الهُدى معكَ نُتَخَطَّفْ من أرْضِنا} فقال الله سبحانه وتعالى: {أَوِلَم نُمكِّن لَّهم حَرَمًا آمنا يُجبى إليه ثمراتُ كُلِّ شيءٍ رِّزقاً مِّن لَّدُنَّا}(3) ، وقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَم يَرَوْا أنَّا جعَلْنَا حَرَمًا آمناً و يُتخطَّف النَّاس مِنْ حَولهِم}(4)، وربُّ العِزَّة يقول في كتابه الكريم –أيضاً-: {وَألَّوِ استقاموا على الطريقةِ لأسقيناهم ماء غدقاً}(5)، وصدق ربُّنا -عزَّ وجلَّ- الَّذي يقول في كتابه الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}(6) ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ {1} إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ {2} فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}.
__________
(1) سورة المائدة(آية/66).
(2) سورة الأعراف(آية/96).
(3) سورة القصص(آية/57).
(4) سورة العنكبوت(آية/67).
(5) سورة الجن(آية/16).
(6) سورة النُّور(آية/55).(1/8)
فالأمن نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، نعمة عظيمة من الله ، سببه الاستقامة على كتاب الله وعلى سنَّة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، فالأمر أنَّ الاستقامة .. لمَّا استقامت هذه البلاد -وبحمد الله- مكَّن الله لهم ، مع أننا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقهم البطانة الصالحة، وأن يُعيذهم من جلساء السوء، الذين يُزيِّنُون البَاطل، وأن يحرصوا على مجالسة أهل الخير والفضل، وحتى ولو أتوا من الكلام ما يخشن عليهم فإنه كما يقال : صديقك من صدَقَك ، لا من صدَّقك، وعدوُّك من صدَّقك.
فينبغي أن نحمد الله سبحانه وتعالى ، كما أنه يجب على أهل هذا البلد أن يحمدوا الله سبحانه وتعالى ؛ فإنَّ فيها أُناساً ربَّما يكونون شهوانيِّين يطالبون بأشياء من الإباحية وغيرها، ولكن جزى الله المسؤولين خيراً ؛ فقد رأيتُ في جريدة أن الأمير نايفاً -حفظه الله تعالى- طُلب منه ترشيح المرأة ، فقال : "أتريدون أن يبقى الرَّجل هو في بيته و هي تخرج؟ لا ! هذا أمرٌ لا تُحاولوا فيه "، وطُلب منه الانتخابات، فقال : "رأيناها ليست ناجحة في البُلدان المجاورة ؛ فإنَّ الذي ينجحُ فيها هم أهل النُفوذ وأهل الأموال".
وصدق ، ثم بعد ذلك أيضاً هي واردة من قبل أعداء الإسلام.
جمعيَّة حقوق الإنسان استقبلها كثير من النَّاس على ما فيها من الأباطيل، لماذا؟
لأن معناه : الحدود وحشيَّة ، ومعناه تعطيل الكتاب والسنة وإدخال الأنظمة من قبل أعداء الإسلام.
الحكومة السُّعوديَّة -وفقها الله لكل خير- استقبلتها بشرط أن تكون خاضعة للإسلام وللكتاب والسنة، هكذا أيضاً إقامة الحدود ، وإقامة الحدود كما يقول ربُّنا -عزَّ وجلَّ- في كتابه الكريم : {وَلَكُم في القِصَاص حياةٌ}(1) .
__________
(1) سورة البقرة(آية/179)(1/9)
نعم! القتل قليلٌ في هذه البلاد ، وكذلك السّرقة، تضع سيَّارتك عند المسجد أو عند بيتك ولا يأتيها السَّرقُ ولا شيء، ثم بعد ذلك في بُلدان أخرى تضعها وتخرج ولا تراها، بل ربَّما ينهبُونها على الشخص وهو في سيارته؛ فهذا هو بسبب إقامة الحدود ، فجزاهم الله خيراً ، وكما سمعتم قبلُ قول الله -عزَّ وجلَّ-{وَلَكُم في القِصَاص حياةٌ } ، فهكذا السَّارق، إذا علم أنها ستُقطع يدُه، يكفُّ عن سرقته، والزَّاني إذا علم أنه سيجلد إذا كان بِكراً ، أو يُرمى إذا كان مُحْصَنًا خفَّ ذلك ، لا أقول : إنه لا يُوجد ، لكنه يخفُّ ذلك.
من ذلك تمكين هيئة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ؛ فقد رأينا في جريدة أنَّ الملكَ فهداً -حفظه الله تعالى- أعطى للهيئة نحو "300" سيَّارة، وقال لهم : أنتم هيئة أمرٍ بالمعروف، و نحن هيئة ضبط، وأنتم المسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى، فجزاهم الله خيراً
نعم! أحسنوا في هذا إلى بلدهم وإلى أمتهم وإلى دولتهم، إنه يجب على كلِّ مسلم في جميع الأقطار الإسلامية أن يتعاون مع هذه الحكومة ولو بالكلمة الطيِّبة؛ فإنَّ أعداءها كثيرٌ ، من الداخل ، ومن الخَارج ونعم ! هناك شهوانيون إباحيون من الداخل، ولكنَّ الله كبتَهم بتمكين هذه الدَّولة المباركة والحمد لله ، فيجب على كل مسلم أن يتعاون مع هذه الحكومة.
القصَاصُ أو غير ذلك من الحدود نعمة من الله سبحانه وتعالى على المجتمع، يَعِيبُون علينا إذا أقمنا حدًّا من حدود الله وهم يسحَقون الشُّعُوب سَحقاً!
وهذه الحدود مصلحتها للفرد والمجتمع ؛ فهي للفرد كفَّارةٌ ، كما في الصَّحيحين من حديث عُبادة بن الصَّامت -- رضي الله عنه --، و هي للمجتمع مُحافِظَة على أموالهم ودِمائهم وأعراضهم.
نَعم ! تَخرج إلى الشَّاطئ أو إلى غيره أو إلى أيِّ مكان، ترى الرَّجل وامرأته لا يخشى على نفسه من أحدٍ.(1/10)
هذه الحدود مصلحةٌ ، لما عُطِّلت في كثير من البلاد الإسلامية عجزَ أهلها عن مكافحة السَّرقة ، وعجز أهلها عن مكافحة الجريمة، وعجز أهلها عن مكافحة المسكرات والمخدِّرات؛ والسَّببُ في هذا هو إقامة الحدود ، والله المستعان
وبعد هذا أيضا : بناء المساجد في البلاد الإسلامية وفي غيرها ، إلا أننا ننصحهم: أنهم إذا بَنَوا مسجداً أن يسلِّمُوه لأهل السنَّة ؛ فهم إذا سلَّموه لصوفيٍّ سيَسُبُّهم، و يخطب الجمعة في سبِّهم، وهم إذا سلَّموه لحزبيٍّ أيضاً سيستغله للحزبية، فننصحهم أن يُسلِّموا هذه المساجد لأهل السنَّة المُحبين لهذه الحكومة وللقائمين عليها
وبعد هذا ، مسألة الكِتابة، سُئلتُ عنها غير مرة، والكلام في الأشرطة، فقد أمرتُ الأخ الَّذي يَطبعُ كُتُبي أَلاَّ يُبقي شيئاً في الكلام على السُّعودية ؛ فالله سبحانه و تعالى يقول في كتابه الكريم{هَل جَزَاء الإحسَانِ إلاَّ الإحسَان}(1) ، فقد أحسنوا إلينا وأكرمونا غاية الإكرام، فنحن لسنا ممن يُقابل الإحسان بالإساءة، هذا من فضل الله سبحانه وتعالى.
أنا أقول هذا ، لم يدفعني إليه أحدٌ ، ولم يُلزمني أحدٌ بأن أقوله، بل مِن نفسي أرى أنه يلزمني براءة لذمَّتي "(2) .
فهذا كلام بعض أهل العلم الكبار في الثناء على هذه الدولة وبيان أنها دولة إسلامية(3).
فمن كفر الدولة السعودية فقد اتبع غير سبيل المؤمنين ، وقد سلك سبيل أهل البدع من الخوارج والتكفيريين.
المبحث الأول
الأدلة من الكتاب والسنة والآثار السلفية على لزوم بيعة السلطان ووجوب طاعته بالمعروف، وتكريم السلطان، وحفظ حقه
تَمْهِيد
__________
(1) سورة الرحمن(آية/60)
(2) انظر: شريط براءة الذمة.
(3) وسيأتي مزيدٌ من ثناء العلماء على الدولة السعودية في آخر المبحث الثاني(ص/92).(1/11)
فقد تواردت الأدلة من الكتاب والسنة والآثار السلفية على وجوب الدخول في بيعتهم ، وأن من كان تحت ولايته فهو داخل في بيعته ، وطاعة ولاة الأمر ، وتوقيرهم وإكرامهم ، وحفظ حقهم ، والدعاء لهم ، والصلاة خلفهم ودفع الزكاة لهم ، والحج والجهاد معهم ، ومناصحتهم سراً لا جهراً ، وحرمة غيبتهم ، والطعن فيهم ، والتشهير بهم ، وحرمة الخروج عليهم ، وحرمة الإعانة على من خرج عليهم ولو بالكلمة ، وعقوبة المثبط عن ولاة الأمور ، وعقوبة المثير عليهم الْمُفَرِّق للجماعة
وقد تنوعت مسالك الأدلة في ذلك إلى أنواعٍ أذكر ثمانية منها محاولاً الاختصار -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
النوع الأول
وجوب مبايعة ولي الأمر ، وأن من كان تحت ولايته فهو داخل في البيعة ، وأن من مات وليس في عنقه بيعة فميتته ميتة جاهلية.
إن إقامة السلطان وولي الأمر من الواجبات الدينية ، ومما لا تتم مصالح الناس الدينية والدنيوية إلا به .
قال رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب -- رضي الله عنه -- : "لا بد للناس من أمير ؛ بَرٍّ ، أو فاجر ، يعمل فيه المؤمن ، ويستمتع فيه الكافر ، ويبلغ الله فيها الأجل"(1).
قال الحسن البصري -رحمَهُ اللهُ- : "والله لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا ، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون ، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وأنَّ فرقتهم لكفر"(2) يعني أنه كفر للنعمة وهو كفر أصغر لما سيأتي من الأدلة -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
__________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى وسنده حسن.
(2) انظر: جامع العلوم والحكم(2/117حديث رقم28)(1/12)
قال شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- : " يجب أن يعرف أن ولاية أمور الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها ... ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة ، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم ، وإقامة الحدود ، لا تتم إلا بالقوة والإمارة ، ولهذا روى أن السلطان ظل الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان ، والتجربة تبين ذلك... فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله ، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات ، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال"(1) .
وقال ابن رجب -رحمَهُ اللهُ- : "وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين ففيها سعادة الدنيا ، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم ، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم"(2) .
ومبايعة أهل الحل والعقد للسلطان المسلم لازمة عليهم ، وملزمة لمن يقع تحت سلطان ولي الأمر كما عليه أهل السنة والجماعة.
فلما بايع أهل الحل والعقد أبا بكر الصديق -- رضي الله عنه -- لزمت هذه البيعة جميع المسلمين .
يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} الآية.
فأمر الله -عزَّ وجلَّ- بطاعته وطاعة رسوله وطاعة ولاة أمور المسلمين وهذا يتضمن الإقرار ببيعتهم ، وأنهم داخلون تحت ولايته ملزمون ببيعته .
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية))(3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى(28/290-291) .
(2) جامع العلوم والحكم(2/117-الرسالة).
(3) رواه مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- .(1/13)
وقال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية))(1) .
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((فإنَّهُ من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية))(2)
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- : "من خرج من الطاعة شبراً فمات فميتته جاهلية"(3)
وقيل للإمام يحيى بن يحيى -رحمَهُ اللهُ- : البيعة مكروهة؟ قال: لا. قيل له : فإن كانوا أئمة جور؟ فقال: "قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان(4) ، وبالسيف أخذ الملك ، أخبرني بذلك مالكٌ عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه. قال يحيى بن يحيى: والبيعة خير من الفرقة"(5) .
وقال الإمام الحسن بن علي البربهاري -رحمَهُ اللهُ- : "والسمع والطاعة للأئمة فيما يحبُّ ويرضى ، ومن ولي الخلافة بإجماع الناس عليه ورضاهم به فهو أمير المؤمنين، ولا يحل لأحد أن يبيت ليلة ولا يرى أن عليه إماماً براً كان أو فاجرا"(6) .
وقال شيخنا العلامة محمد الصالح بن عثيمين -رحمَهُ اللهُ- : "الواقع أنَّ مسؤولي الحكومة يعتبرون ولاة أمر في رقابنا لهم بيعة على السَّمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر" .
النَّوع الثَّاني
وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف وثواب من فعل ذلك
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند ، والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث معاوية -- رضي الله عنه -- وهو حديث صحيح.
(2) متفق عليه من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ، وروى مسلم نحوه من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- .
(3) رواه معمر في جامعه والخلال في السنة وغيرهما وسنده صحيح غاية.
(4) رواه البخاريُّ في صحيحه (6/2634رقم6777-البغا).
(5) الاعتصام(2/627) .
(6) شرح السنة(ص/75-76-تحقيق: الشيخ خالد الردادي).(1/14)
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} الآية (1) .
قال القرطبي -رحمَهُ اللهُ- : "لَمَّا تقدَّم إلى الولاة في الآية المتقدمة ، وبدأ بهم ، فأمرهم بأداء الأمانات ، وأن يحكموا بين الناس بالعدل ؛ تقدَّم في هذه الآية إلى الرعيَّة فأمر بطاعته جل وعز أوّلاً ، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ثم بطاعة رسوله ثانياً فيما أمر به ونهى عنه ، ثم بطاعة الأمراء ثالثاً ؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم" .
ثم ذكر قولاً ثانياً في المراد بأولي الأمر وأنهم العلماء ، وقيل: هم أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خاصَّة ، وقيل: أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- خاصة.
ثم قال القرطبي : "وأصح هذه الأقوال الأول والثاني ؛ أما الأول: فلأنَّ أصلَ الأمر منهم ، والحكم إليهم . وروى الصحيحان –يعني البخاري ومسلماً- عن ابن عباس قال: نزل: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي ، إذ بعثه النبي-- صلى الله عليه وسلم --في سرية ، -قال أبو عمر: وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة ومن دعابته: أنَّ رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --أمَّرَه على سرية- فأمرهم أن يجمعوا حطباً ويوقدوا نارا ، فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها ، فقال لهم : ألم يأمركم رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --بطاعتي؟ وقال: ((من أطاع أميري فقد أطاعني)) فقالوا: ما آمنا بالله ، وأتبعنا رسوله ، إلا لننجوا من النار . فصوَّب رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --فعلهم ، وقال: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} وهو حديث صحيح الإسناد مشهور..." (2) .
__________
(1) سورة النساء(آية/59).
(2) تفسير القرطبي(5/260).(1/15)
قال الحافظ ابن كثير -رحمَهُ اللهُ- : "والظاهر –والله أعلم- أنَّها عامَّة في كلِّ أولي الأمر من الأمراء والعلماء"(1) .
قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)). متفق عليه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- .
وقال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((تسمع وتُطيع للأمير، وإن ضُرِبَ ظهرُك وأُخذ مالُك، فاسمع وأطع ))(2).
عن عبادة بن الصامت -- رضي الله عنه -- عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((اسمع وأطع ، في عُسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك ، وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك))(3) .
وعن سُويد بن غَفَلَة قال: قال لي عمرُ: "يا أبا أمية ، إني لا أدري لعلي أن لا ألقاك بعد عامي هذا ، فاسمع وأطع ، وإن أُمِّر عليك عبد حبشي مجدَّع فاسمع له وأطع ، إن ضربك فاصبر ، وإن حرمك فاصبر ، وإن أراد أمراً ينتقص دينَكَ فقل: سمعٌ وطاعةٌ ، دمي دون ديني ، ولا تفارق الجماعة))(4).
__________
(1) تفسير ابن كثير(1/519).
(2) رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة -- رضي الله عنه -- ، وهذه الزيادة صحيحة ولطريقها متابعان ، انظر تخريجهما في السلسلة الصحيحة(4/399-400) ولها شاهد من حديث عبادة -- رضي الله عنه -- وأثر عن عمر -- رضي الله عنه --.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه وابن أبي عاصم في السنة والديلمي في مسنده وسنده صحيح، وأصله في صحيح البخاري(6/2588رقم6647) ، وصحيح مسلم(3/1470 رقم1709).
(4) رواه ابن أبي شيبة والخلال في السنة ، والآجري في الشريعة ، والبيهقي في السنن الكبرى وغيرهم وسنده صحيح.(1/16)
وعن سلمة بن يزيد الجعفي -- رضي الله عنه -- أنه سأل رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله الثالثة، فجذبه الأشعث بن قيسٍ، فقال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم ))(1).
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((اسمعوا وأطيعوا ، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة))(2).
وقال أبو ذر -- رضي الله عنه -- : ((إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطع وإن كان عبداً حبشياً مُجَدَّع الأطراف))(3).
وقد أجمعت الأمة على وجوب طاعة ولاة الأمور
قال أبو الحسن الأشعري -رحمهُ اللهُ- : "وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمة المسلمين"(4) .
وقال النووي -رحمَهُ اللهُ- : "أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية"(5) .
وقال الحافظ ابن حجر -رحمَهُ اللهُ- : "قال ابن بطال: ...وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب ، والجهاد معه ، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء ، وتسكين الدهماء"(6) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمَهُ اللهُ- : "وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه ؛ من معصية ولاة الأمور ، وغشهم ، والخروج عليهم بوجه من الوجوه ، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً ، ومن سيرة غيرهم"(7).
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(3/1474رقم1846).
(2) رواه البخاريُّ في صحيحه(6/2612رقم6723-البغا) من حديث أنس -- رضي الله عنه -- .
(3) رواه مسلم في صحيحه(1/448رقم648) ، والبخاري في الأدب المفرد(ص/52رقم113).
(4) رسالة إلى أهل الثغر(ص/296).
(5) شرح مسلم(12/222) .
(6) فتح الباري(13/7) .
(7) مجموع الفتاوى(35/12) .(1/17)
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- : "الأصل الثالث: أنَّ مِن تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمَّر علينا ، ولو كان عبداً حبشياً ، فبيَّن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا بياناً شائعاً ذائعاً بكل وجه من أنواع البيان شرعاً وقدراً ، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدَّعي العمل به"(1) .
وقد وُعِدَ السامع والمطيع بالثواب الجزيل والأجر العظيم .
قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --: ((يا أيها الناس أطيعوا ربكم ، وصلوا خمسكم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا أمراءكم ؛ تدخلوا جنة ربكم))(2) .
وقال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من عبد الله لا يشرك به شيئاً ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وسمع وأطاع ؛ فإن الله يدخله من أي أبواب الجنة شاء ، وإن لها ثمانية أبواب))(3) .
النوع الثالث
وجوب توقير السلطان وإكرامه وحفظ حقه
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}(4) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ }(5) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(6).
فالسلطان المسلم داخل في هذه الآيات وحظه من المناصرة والإكرام محفوظ وهو حق واجب على ما سيأتي.
قال ابن أبي عاصم في السنة: " باب في ذكر فضل تعزيز الأمير وتوقيره"
ثم ذكر حديث معاذ -- رضي الله عنه -- .
__________
(1) الأصول الستة(ص/324-كما في الجامع الفريد)
(2) رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي والطبراني وابن حبان والروياني والحاكم وغيرهم وسنده صحيح ، وصححه الترمذي ، وابن حبان والحاكم وغيرهم.
(3) رواه ابن أبي عاصم في السنة(2/468) وسنده حسن .
(4) سورة التوبة(آية/71).
(5) سورة المائدة(آية/55)
(6) سورة الحجرات(آية/10)(1/18)
قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((خمس من فعل واحدة منهن كان ضامناً على الله -عزَّ وجلَّ-: من عاد مريضاً ، أو خرج مع جنازة ، أو خرج غازيا ، أو دخل على إمامة يريد تعزيزه وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه ، وسلم من الناس))(1).
والتعزير: الإعانَةُ ، والتَّوقيرُ ، والنَّصرُ مرّة بعد مرَّة (2) .
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((سيكون بعدي سلطان فأعِزُّوهُ ، من التمس ذُلَّهُ ثَغَرَ ثَغْرَةً في الإسلام ، ولم يقبل منه توبة حتى يعيدها كما كانت))(3).
فأوجب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بإعزاز السلطان ، وحرَّم إذلاله ، وتوعد من أذلَّه بعدم قبول توبته.
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من أكرم سلطان الله أكرمه الله ، ومن أهان سلطان الله أهانه الله))(4).
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند(5/241) والطبراني(20/37-38رقم54، 55)، والبزار(2/ 275رقم1649-كشف الأستار)، وابن أبي عاصم في السنة(2/490رقم1021، 1022) من حديث معاذ -- رضي الله عنه -- وهو حديث صحيح. وصححه ابن حبان(2/94رقم372) وابن خزيمة(2/375رقم1495)، والحاكم(1/212) بنحوه.
(2) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير(3/228).
(3) رواه ابن أبي عاصم في السنة(2/513رقم1079) وسنده صحيح.
(4) . رواه الإمام أحمد في المسند(5/42، 48-49) ، وابن أبي عاصم في السنة(2/2/489) والبيهقي في السنن الكبرى(8/163) وغيرهم من حديث أبي بكرة -- رضي الله عنه -- وسنده حسن.(1/19)
وقال حذيفة -- رضي الله عنه --: "لا يمشين رجل منكم شبرا إلى ذي سلطان ليذله فلا والله لا يزال قوم أذلوا السلطان أذلاء إلى يوم القيامة"(1).
قال سهل بن عبد الله التستري -رحمَهُ اللهُ- : " لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء ، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم ، وإذا استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم".
وقال ابن جماعة في "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام" ذاكراً حقوق ولي الأمر: "الحق الرابع: أن يُعرف له عظيم حقه ، وما يجب من تعظيم قدره فيعامل بما يجب له من الاحترام والإكرام ، وما جعل الله تعالى له من الإعظام ، ولذلك كان العلماء الأعلام من أئمة الإسلام يعظمون حرمتهم ، ويلبون دعوتهم ، مع زهدهم وورعهم ، وعدم الطمع فيما لديهم ، وما يفعله بعض المنتسبين إلى الزهد من قلة الأدب معهم فليس من السنة".
وقال ابن القيم -رحمَهُ اللهُ- : " فائدةٌ: تقبيل يد السلطان.
عوتب ابن عقيل في تقبيل يد السلطان حين صافحه ، فقال: أرأيتم لو كان والدي فعل ذلك فقبلتُ يده ، أكان خطأ أم واقعاً موقِعَه؟
قالوا: بلى . قال: فالأب يربِّيْ ولدَه تربية خاصة ، والسلطانُ يُرَبِّي العالَمَ تربيةً عامَّةً ، فهو بالإكرام أولى، ثم قال: وللحال الحاضرة حكمُ مَن لابسها ، وكيف يُطْلَبُ من المبتلى بحال ما يطلب من الخالي عنها"(2) .
النوع الرابع
الدعاء لولاة الأمور ، وحرمة الدعاء عليهم وبيان أن الدعاء لهم من علامات أهل السنة ، والدعاء عليهم من علامات أهل البدع
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف(7/487)، ومعمر في جامعه(11/344رقم20715) من طريقين وسنده صحيح ، ورواه المحاملي في الأمالي(ص/310) ، وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن(2/387)، ورواه البزار في مسنده(7/266رقم2847-2848) عن حذيفة مرفوعاً وسنده ضعيف.
(2) بدائع الفوائد(3/694).(1/20)
إن الله سبحانه فرض على عباده الدعاء لما فيه من الذل والافتقار إلى الله ، ولِمَا في الدعاء من جلب المنافع ، ودفع البلايا .
قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((الدعاء هو العبادة)) ثم تلا الآية السابقة(1).
وقال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(2).
وقال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية (3).
وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} الآية (4).
وإن الدعاء لولي الأمر فيه مصلحة للعباد والبلاد ، وفيه جلب المنافع الدنيوية والأخروية ، ودفع المضار الدنيوية والأخروية .
وقال أبو مسلم الخولاني -رحمَهُ اللهُ- : "إنه مؤمر عليك مثلك ، فإن اهتدى فاحمد الله ، وإن عمل بغير ذلك فادع له بالهدى ، ولا تخالفه فتضل"(5).
وقال الفضيل بن عياض -رحمَهُ اللهُ- : "لو كان لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في السلطان.
قيل له: يا أبا علي فسِّرْ لنا هذا. قال: إذا جعلتها في نفسي لم تعدني ، وإذا جعلتها في السلطان صلح فصلح بصلاحه العباد والبلاد .".
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند(4/271)، وأبو داود(2/76رقم1479)، والترمذي(5/ 211رقم2969)، وابن ماجه(2/1258رقم3828)، والنسائي في الكبرى(6/450رقم 11464) وغيرهم من حديث النعمان بن بشير -- رضي الله عنه --. وسنده صحيح.
(2) سورة الأعراف(آية/55).
(3) سورة الأنفال(آية/9).
(4) سورة الأنبياء(آية/83-84).
(5) رواه الخلال في السنة(1/86) وإسناده حسن.(1/21)
قال الإمام البربهاري -رحمَهُ اللهُ- : "وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى ، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة -إنْ شَاءَ اللهُ- ." ثم ذكر قول الفضيل بن عياض السابق ثم قال: "فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح ، ولم نؤمر أن ندعو عليهم وإن جاروا وظلموا ، لأنَّ جورهم وظلمهم على أنفسهم ، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين"(1) .
وقال الطحاوي -رحمَهُ اللهُ- : "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ، ولا ندعو عليهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية ،وندعو لهم بالصلاح والمعافاة".
والدعاء لولاة الأمر من عقيدة أهل السنة كما ذكر ذلك الأئمة: البربهاري والطحاوي وأبو عثمان الصابوني وأبو الحسن الأشعري وأبو بكر الإسماعيلي وابن عبد البر وغيرهم من السلف والخلف .
وقد سئل شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز -رحمَهُ اللهُ- : عن الذي يمتنع من الدعاء لولي الأمر فأجاب -رحمَهُ اللهُ- : "هذا من جهله، وعدم بصيرته، الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات ، ومن أفضل الطاعات ، ومن النصيحة لله ولعباده، والنبي-- صلى الله عليه وسلم --لما قيل له إن دوساً عصت قال: ((اللهم اهد دوسا وأت بهم، اللهم اهد دوسا وأت بهم))(2) ، يدعو للناس بالخير ، والسلطان أولى من يدعى له، لأنَّ صلاحه صلاح للأمة فالدعاء له من أهم الدعاء، ومن أهم النصح؛ أن يوفق للحق وأن يعان عليه، وأن يصلح الله له البطانة وأن يكفيه الله شر نفسه وشر جلساء السوء، فالدعاء له بأسباب التوفيق والهداية وبصلاح القلب والعمل من أهم المهمات ومن أفضل القربات"(3).
__________
(1) شرح السنة(ص/113-114).
(2) رواه البخاري في صحيحة(3/1073رقم2779) ، ومسلم في صحيحه(4/1957رقم2524) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه --.
(3) المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم(ص/21) .(1/22)
وقال العلامة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله- في شرحه للعقيدة الطحاوية: " لا يجوز الدعاء عليهم: لأنَّ هذا خروج معنوي، مثل الخروج عليهم بالسلاح، وكونه دعا عليهم؛ لأنه لا يرى ولايتهم، فالواجب الدعاء لهم بالهدى والصلاح، لا الدعاء عليهم، فهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، فإذا رأيت أحداُ يدعو على ولاة الأمور، فاعلم أنه ضال في عقيدته، وليس على منهج السلف، وبعض الناس قد يتخذ هذا من باب الغيرة والغضب لله عز وجل، لكنها غيرة وغضب في غير محلهما؛ لأنهم إذا زالوا حصلت المفاسد.
قال الإمام الفضيل بن عياض –رحمه الله- ويروي ذلك عن الإمام أحمد يقول: (لو أني أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان).
والإمام أحمد صبر في المحنة، ولم يثبت عنه أنه دعا عليهم أو تكلم فيهم، بل صبر وكانت العاقبة له، هذا مذهب أهل السنة والجماعة.
فالذين يدعون على ولاة أمور المسلمين ليسوا على مذهب أهل السنة والجماعة، وكذلك الذين لا يدعون لهم، وهذا علامة أن عندهم انحرافاً عن عقيدة أهل السنة والجماعة.
وبعضهم ينكر على الذين يدعون في خطبة الجمعة لولاة الأمور، ويقولون: هذه مداهنة، هذا نفاق، هذا تزلف!!
سبحان الله ! هذا مذهب أهل السنة والجماعة،
بل من السنة الدعاء لولاة الأمور؛ لأنهم إذا صلحوا صلح الناس، فأنت تدعو لهم بالصلاح والهداية والخير، وإن كان عندهم شر، فهم ما داموا على الإسلام فعندهم خير، فما داموا يُحَكِّمون الشرع، ويقيمون الحدود، ويصونون الأمن، ويمنعون العدوان عن المسلمين، ويكفون الكفار عنهم، فهذا خير عظيم، فيدعى لهم من أجل ذلك. وما عندهم من المعاصي والفسق، فهذا إثمه عليهم، ولكن عندهم خير أعظم، ويُدعى لهم بالاستقامة والصلاح فهذا مذهب أهل السنة والجماعة، أما مذهب أهل الضلال وأهل الجهل، فيرون هذا من المداهنة والتزلف، ولا يدعون لهم، بل يدعون عليهم.(1/23)
والغيرة ليست في الدعاء عليهم، فإن كنت تريد الخير؛ فادعُ لهم بالصلاح والخير، فالله قادر على هدايتهم وردهم إلى الحق، فأنت هل يئست من هدايتهم؟ هذا قنوط من رحمة الله، وأيضاً الدعاء لهم من النصيحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الذين النصيحة)) قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))(1) . فهذا أصل عظيم يجب التنبه له، وبخاصة في هذه الأزمنة. "انتهى كلامه.
النوع الخامس
الصلاة خلف ولاة الأمر ، ودفع الزكاة لهم ، والحج والجهاد معهم
اتفق أهل السنة والجماعة على الصلاة خلف ولاة الأمر ، وأن الزكاة تدفع لهم ، وعلى الحج والجهاد معهم .
عن أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --قال: ((صلوا خلف كل بر وفاجر ، وصلوا على كل بر وفاجر ، وجاهدوا مع كل بر وفاجر))(2).
وقال الشوكاني -رحمَهُ اللهُ- : " قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعاً فعلياً ، ولا يبعد أن يكون قولياً على الصلاة خلف الجائرين ، لأنَّ الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس ، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير ، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى(3) وقد أخرج البخاري عن ابن عمر : أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف.."(4) .
وكان عثمان -- رضي الله عنه -- يحث الناس على الصلاة مع الجماعة وإن كان الإمام من أهل الفتنة.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(1/74رقم55) من حديث تميم الداري -- رضي الله عنه --.
(2) رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي وابن الجوزي في العلل المتناهية بسند صحيح إلى مكحول، وسنده ضعيف لأنَّ مكحولاً لم يدرك أبا هريرة فالسند منقطع.
(3) ويستثنى من ذلك أمير المؤمنين معاوية -- رضي الله عنه -- ، وعمر بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ-.
(4) نيل الأوطار(3/200).(1/24)
قال الإمام البخاري في صحيحه : "باب إمامة المفتون والمبتدع.
وقال الحسن: صلِّ ، وعليه بدعته.
عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان -- رضي الله عنه -- وهو محصور ، فقال: إنك إمام عامة ، ونزل بك ما نرى ، ويصلي لنا إمام فتنة ونتحَرَّج .فقال: "الصلاة أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم"(1) .
عن زيد بن أسلم -رحمَهُ اللهُ- : "أن ابن عمر كان في زمان الفتنة لا يأتي أمير إلا صلى خلفه ، وأدى إليه زكاة ماله"(2) .
وعن أبي صالح -رحمَهُ اللهُ- : أنه سأل عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبا سعيد الخدري عن الزكاة أينفذها على ما أمر الله أو يدفعها إلى الولاة؟ قالوا : "بل يدفعها إلى الولاة"(3) .
وقال سليمان الأعمش -رحمَهُ اللهُ- : "كان كبار أصحاب عبد الله يصلون الجمعة مع المختار ، ويحتسبون بها"(4).
قال الإمام أحمد : " والغزو ماضٍ مع الإمام إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك.
وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم.
ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة من دفعها إليهم أجزأت عنه براً كان أو فاجراً.
وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه جائزة باقية تامة ركعتين من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم فالسنة بأن يصلي معهم ركعتين وتدين بأنها تامة لا يكن في صدرك من ذلك شيء"(5) .
__________
(1) صحيح البخاري(1/246).
(2) رواه ابن سعد في الطبقات(4/149) بسند صحيح.
(3) رواه ابن أبي زمنين في أصول السنة(ص/286) بسند صحيح.
(4) رواه ابن أبي زمنين في أصول السنة(ص/284) وسنده صحيح.
(5) أصول السنة(ص/43-45).(1/25)
وقال الإمام البربهاري-رحمَهُ اللهُ- : "ومن قال: الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر ، والجهاد مع كل خليفة ، ولم ير الخروج على السلطان بالسيف ، ودعا لهم بالصلاح فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره"(1) .
وقال أبو بكر الإسماعيلي -رحمَهُ اللهُ- : "ويرون الصلاةَ الجمعة وغيرها خلف كل إمام مسلم ، براً كان ، أو فاجراً ، فإن الله -عزَّ وجلَّ- فرضَ الجمعة ، وأمر بإتيانها فرضاً مطلقا مع علمه تعالى بأن القائمين يكون منهم الفاجر والفاسق ، ولم يستثن وقتا دون وقت ، ولا أمرا بالنِّداء للجمعة دون أمر .
ويرون جهاد الكفار معهم وإن كانوا جورة ، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والعطف إلى العدل ولا يرون الخروج بالسيف عليهم ولا قتال الفتنة ويرون قتال الفئة الباغية مع الإمام العادل إذا كان ووجد على شرطهم في ذلك"(2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمَهُ اللهُ- : " مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا والجهاد عمل مشكور صاحبه في الظاهر لا محالة"(3) .
وقال الطحاوي -رحمَهُ اللهُ- : "ونرى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم".
قال الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله- : "(152) ونرى الصلاة خلف كل برٍّ وفاجرٍ من أهل القبلة، وعلى من مات منهم:
هذا فيه مسألتان:
الأولى: أن الصلاة عمل وإحسان، فإذا فعلها الناس خصوصاً ولاة الأمور، فإنهم عملوا معروفاً وإحساناً، وفي ترك الصلاة خلفهم فيه محظور عظيم، من شق العصا، وتفريق الكلمة، وسفك الدماء وهذا خطر عظيم، فيجب أن يُتلافى قال -- صلى الله عليه وسلم -- : "صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وعلى من قال: لا إله إلا الله"، هذا من حيث العموم، فكيف بولاة الأمور الذين في منابذتهم ومخالفتهم شق لعصا الطاعة، وتفريق الكلمة، وآثار سيئة على المسلمين؟
__________
(1) شرح السنة(ص/129).
(2) اعتقاد أهل الحديث(ص/75-76).
(3) مجموع الفتاوى(4/13).(1/26)
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، يصلون الجمع والجماعات، ويجاهدون في سبيل الله مع كل أمير، براً كان أو فاجراً، ما لم يخرج عن الإسلام.
هذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، من عهد الصحابة إلى عهد الأئمة، وهو الذي عليه إجماع المسلمين من أهل السنة والجماعة.
المسألة الثانية: الصلاة على جنازة المسلم وإن كان فاسقاً، ما لم يخرج من الإسلام، فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، أما إذا خرج عن الإسلام فلا يصلى عليه؛ لأنه ليس بمسلم، وليس كل إنسان يَحكُمُ على الناس بالردة، إنما يحكم بذلك أهل العلم والبصيرة بالرجوع إلى قواعد أهل السنة والجماعة، أما كل أحد فلا يحكم بذلك، وإن كانت نيته طيبة ومقصده حسناً، إنما الحكم لأهل البصيرة والراسخين في العلم"انتهى كلام الشيخ الفوزان –حفظه الله-.
النوع السادس
وجوب مناصحة ولاة الأمر والأمراء سراً لا جهراً
النصيحة من أمور الدين الهامة ، ووجودها دليل على خيرية الأمة وفضلها .
وقد أمر الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آيات كثيرة .
قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}(2).
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((الدين النصيحة)) قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(3) .
__________
(1) سورة آل عمران(آية/104).
(2) سورة المائدة(آية/78).
(3) رواه مسلم في صحيحه(1/74رقم55) من حديث تميم الداري -- رضي الله عنه --.(1/27)
وقال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) (1).
ولكن النصيحة للسلطان مقيدة بالسِّرِّ ، فلا ينكر عليه علانية لما فيه من الفساد والإفساد
عن عياض بن غنم -- رضي الله عنه -- قال: قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ، وليأخذ بيده ، فإن سمع منه فذاك ، وإلا كان أدى الذي عليه)) (2)
عن أسامة بن زيد -- رضي الله عنه -- أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلمه؟ فقال: "أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ ، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ، ما دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه" متفق عليه.
وقال عبد الله بن أبي أوفى -- رضي الله عنه -- : "عليك السواد الأعظم ، عليك بالسواد الأعظم ، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم ، فإن قبل منك ، وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه"(3).
وقال ابن النحاس -رحمَهُ اللهُ- : "ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس الأشهاد ، بل يود لو كلَّمه سراً ، ونصحه خفية من غير ثالث لهما"(4) .
قال العلامة محمد بن علي الشوكاني ـ رحمه الله ـ: "ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على روؤس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أن يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يُذل سلطان الله..." (5) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود وابن أبي عاصم وابن حبان في صحيحه وغيرهم ، وسنده صحيح.
(2) رواه أحمد وابن أبي عاصم في السنة والطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث صحيح.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند والطبراني وسنده حسن .
(4) رَ: تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ، وتحذير السالكين من أفعال الهالكين(ص/64) .
(5) السيل الجرار(4/ 556).(1/28)
وقال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف -رحمه الله- : "وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج عن الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق ، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس ، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد ، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا ، كما يعرف ذلك من نوَّر الله قلبه ، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين"(1)
وقد أرسل الإمام المفتي محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- رسالة نصح فيها بعض تلامذته حيث كتب إليه يقول: "من محمد ابن إبراهيم إلى حضرة المكرَّم الشيخ ...المحترم سلَّمه الله .
بلغني أن موقفك من الإمارة ليس كما ينبغي ، وتدري –بارك الله فيك- أن الإمارة ما قصد بها إلا نفع الرعيَّة ، وليس من شرطها أن لا يقع منها زلل . والعاقل بل وغير العاقل يعرف أن منافعها وخيرها الديني والدنيوي يربوا على مفاسدها بكثير.
ومثلك إنما منصبه منصب وعظٍ وإرشاد وإفتاء بين المتخاصمين.
ونصيحة الأمير والمأمور بالسِّرِّ ، وبِنِيَّةٍ خالصة تعرف فيها النتيجة النافعة للإسلام والمسلمين.
ولا ينبغي أن تكون عثرة الأمير أو العثرات نصْبَ عينيك والقاضية على فكرك، والحاكمة على تصرُّفاتك بل في السرِّ قم بواجب النصيحة ، وفي العلانية أظهر وصرِّح بما أوجب الله من حقِّ الإمارة والسمع والطاعة لها ، وأنها لم تأت لجباية أموال الناس ، وظلم دماء وأعراض من المسلمين ، ولم تفعل ذلك أصلاً إلا أنها غير معصومة فقط.
فأنت كن وإياها أخوين:
أحدهما : مبين واعظ ناصح.
والآخر: باذل ما يجب عليه كاف عن ما ليس له ، إن أحسن دعا له بالخير ونشط عليه ، وإن قصَّر عومل بما أسلفت لك.
__________
(1) الدرر السنية(9/119).(1/29)
ولا يظهر عليك عند الرعية ولا سيما المتظلمين بالباطل عتبك على الأمير وانتقادك إياه ، لأنَّ ذلك غير نافع الرعية بشيء ، وغير ما تعبَّدت به. إنما تعبَّدت بما قدمت لك ونحوه ، وأن تكون جامع شمل لا مشتت ، مؤلِّف لا منفِّر ، واذكر وصيَّة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لمعاذ وأبي موسى: ((يسرا ولا تعسِّرا ، وبشِّرا ولا تنفِّرا ، وتطاوعا ولا تختلفا))(1) أو كما قال -- صلى الله عليه وسلم -- .
وأنا لم أكتب لك ذلك لغرضٍ سوى النصيحة لك وللأمير ولكافة الجماعة وللإمام المسلمين والله ولي التوفيق والسلام عليكم"(2).
وسئل الشيخ العلامة الإمام عبد العزيز بن باز رحمَهُ اللهُ- : "هل من منهج السلف نقد الولاة فوق المنابر، وما منهج السلف في نصح الولاة؟"
فأجاب رحمَهُ اللهُ-: "ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر لأنَّ ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي، والتحذير منها من غير أن يذكر فلاناً يفعلها؛ لا حاكم ، ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان -- رضي الله عنه -- ، قال بعض الناس لأسامة بن زيد-- رضي الله عنه -- ألا تكلم عثمان؟
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(6/163-مع فتح الباري) ، ومسلم في صحيحه(3/1359 رقم1733) .
(2) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم(12/182-183) .(1/30)
فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمراً لا أحب أن أكون أول من افتتحه (1).
ولما فتحوا –أي: الخوارج- الشر في زمان عثمان -- رضي الله عنه -- وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان بأسباب ذلك، وقتل جمع كثر من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا حتى أبغض الناس ولي أمرهم وقتلوه، نسأل الله العافية"(2)
وقال الشيخ الألباني : "
وقال شيخنا الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمَهُ اللهُ- : "فإنَّ بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمور والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك عمَّالهم من محاسن أو صواب ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد الأمر إلا شدة فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة وإنما يزيد البلاء بلاءً ويوجب بغض الولاة وكراهتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها ونحن لا نشك أن ولاة الأمر قد يسيئون وقد يخطئون كغيرهم من بني آدم فإن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولا نشك أيضاً أنه لا يجوز لنا أن نسكت على أي إنسان ارتكب خطأ حتى نبذل ما نستطيعه من واجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(3)
وسئل فضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-: "ما رأي فضيلتكم في بعض الشباب الذين يتكلمون في مجالسهم عن ولاة الأمور في هذه البلاد بالسب والطعن فيهم؟".
__________
(1) أخرج القصة الشيخان، وأحمد وغيرهم، من حديث "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار..."بألفاظ، عن أسامة بن زيد .
(2) المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم(السؤال العاشر).
(3) رسالة حقوق الراعي والرعية للشيخ محمد بن صالح العثيمين.(1/31)
فأجاب فضيلته: "هذا كلام معروف أنه باطل، وهؤلاء إما أنهم يقصدون الشر وإما أنهم تأثروا بغيرهم من أصحاب الدعوات المضللة الذين يريدون سلب هذه النعمة التي نعيشها.
إلى أن قال فضيلته: أما أننا نتخذ من العثرات والزلات سبيلا لتنقص ولاة الأمور أو الكلام فيهم، أو تبغيضهم إلى الرعية فهذه ليست طريقة السلف أهل السنة والجماعة…..
ثم قال: والكلام في ولاة الأمور من الغيبة والنميمة، وهما من أشد المحرمات بعد الشرك بالله، لا سيما إذا كانت الغيبة للعلماء وولاة الأمور فهي أشد، لما يترتب عليها من المفاسد من تفريق الكلمة، وسوء الظن بولاة الأمور وبعث اليأس في نفوس الناس والقنوط"(1) .
وقال فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضو هيئة كبار العلماء : "ولا شك أن ولاة الأمور من أهم من تجب مناصحتهم ، والتعاون معهم ، والإسهام في التعرف على مناهج الفلاح والصلاح لمسالكهم ، وأن تكون مناصحتهم مبنية على الرفق واللين وأدب الخطاب والاعتراف بمقاماتهم الاجتماعية في بلادهم وذكر ما يقدمونه لبلادهم من خدمات عامّة تُعنى بشؤون حياة العباد في الدنيا والآخرة"(2)
النوع السابع
حرمة سبهم ، وغيبتهم ، وغشهم ، والطعن فيهم ، والتشهير بهم
إن سبَّ ولاة الأمور ، وغيبتهم ، وغشهم ، والطعن فيهم ، والتشهير مما حرمه الله ورسوله ، وهو من كبائر الذنوب ، وهو مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، ومن شعار أهل البدع والضلال .
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(3).
__________
(1) الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة (ص64،65،66).
(2) تقريظ كتاب: "وصيتي للإخوان بمنهج أهل السنة في نصيحة السلطان" لبدر العتيبي.
(3) سورة الأنفال(آية/27).(1/32)
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من غشنا فليس منا))(1)
عن أنس بن مالك قال: نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قالوا: قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((لا تسبوا أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تبغضوهم، واتقوا الله واصبروا، فإن الأمر قريب))(2)
قال أبو الدرداء -- رضي الله عنه -- : "إياكم ولعن الولاة ، فإنَّ لعنهم الحالقة ، وبغضهم العاقرة" قيل: يا أبا الدرداء ، فكيف نصنع إذا رأينا منهم ما لا نحب؟ قال: "اصبروا ، فإن الله إذا رأى ذلك منهم حبسهم عنكم بالموت"(3)
وقال أبو إسحاق السبيعي -رحمَهُ اللهُ- : "ما سب قوم أميرهم إلا حرموا خيره"(4)
وقال أبو مجلز لاحق بن حميد -رحمَهُ اللهُ- : " سب الإمام الحالقة ، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين"(5)
وقال أبو إدريس الخولاني -رحمَهُ اللهُ- : "إياكم والطعن على الأئمة، فإنَّ الطعن عليهم هي الحالقة، حالقة الدين ليس حالقة الشعر، ألا إنَّ الطاعنين هم الخائبون وشرار الأشرار"(6) .
والنهي عن سب الأمراء وغيبتهم والطعن فيهم والتشهير بهم لما فيه من الفساد والإعانة على سفك الدماء
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(1/99رقم101) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- .
(2) رواه ابن أبي عاصم في السنة وسنده صحيح.
(3) رواه ابن أبي عاصم في السنة وسنده صحيح .
تنبيه: في إسناده : أبو اليمان عامر بن عبد الله الهوزني ، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال في مشاهير علماء الأمصار(ص/114) : "وكان ثبتاً".
(4) رواه ابن عبد البر في التمهيد(21/287) وسنده صحيح.
(5) رواه ابن زنجويه في الأموال.
(6) رواه ابن زنجويه في الأموال(1/78) وسنده حسن.(1/33)
قال عبد الله بن عكيم -رحمَهُ اللهُ- : ولا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان -- رضي الله عنه -- . فقيل له: يا أبا معبد أوَ أعنت على دمه؟ فيقول: إني أعد ذكر مساوئه عوناً على دمه"(1).
وقال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف رحمَهُ اللهُ-: "وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج عن الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق ، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس ، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد ، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا ، كما يعرف ذلك من نوَّر الله قلبه ، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين"(2)
وسئل الشيخ العلامة الإمام عبد العزيز بن باز رحمَهُ اللهُ- : "هل من منهج السلف نقد الولاة فوق المنابر، وما منهج السلف في نصح الولاة؟"
فأجاب رحمَهُ اللهُ-: "ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر لأنَّ ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي، والتحذير منها من غير أن يذكر فلاناً يفعلها؛ لا حاكم ، ولا غير حاكم.
__________
(1) رواه ابن سعد في الطبقات(6/115) ويعقوب بن سفيان في المعرفة(1/231) وسنده صحيح.
(2) الدرر السنية(9/119).(1/34)
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان -- رضي الله عنه --قال بعض الناس لأسامة بن زيد -- رضي الله عنه --ألا تكلم عثمان؟فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه(1).
ولما فتحوا –أي: الخوارج- الشر في زمان عثمان -- رضي الله عنه -- وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان بأسباب ذلك، وقتل جمع كثر من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا حتى أبغض الناس ولي أمرهم وقتلوه، نسأل الله العافية"(2).
وسئل الشيخ العلامة صالح الفوزان –حفظه الله-: "ما رأي فضيلتكم في بعض الشباب الذين يتكلمون في مجالسهم عن ولاة الأمور بالسب والطعن فيهم؟
فأجاب -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-: " هذا الكلام معروف أنه باطل ، وهؤلاء إما أنهم يقصدون الشر ، وإما أنهم تأثروا بغيرهم من أصحاب الدعوات المضللة –إلى أن قال:- فهذه ليست طريقة السلف أهل السنة والجماعة"(3).
النوع الثامن
وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، وحرمة الخروج عليهم ، وحرمة الإعانة على من خرج عليهم ولو بالكلمة
فالجماعة رحمة والفرقة عذاب.
قد سبق ذكر ما قاله الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- : ((ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)).
__________
(1) أخرج القصة الشيخان، وأحمد وغيرهم، من حديث "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار..."بألفاظ، عن أسامة بن زيد .
(2) المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم(السؤال العاشر).
(3) الأجوبة المفيدة(ص/57) .(1/35)
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة))(1).
"وهذا الأمر المهمُّ ، وإن كان واجباً على المسلم في جميع أحواله إلا أنه وقتَ الفتنِ آكدُ وألزمُ لما يترتب على ذلك من سلامة فوريَّة للفرد وللأمة من هذه الفتن المضلَّة.
وهذا الأمر أصلٌ من أصولِ أهل السنة والجماعة المجمع عليها .
قال الطحاوي -رحمه الله- : "ونرى الجماعة حقاً وصواباً ، والفرقة زيغاً وضلالاً"(2).
وقال -رحمه الله-: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ، ولا نَنْزِعُ يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله –عزَّ وجلَّ- فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة"ا.هـ(3).
فهذه كلمات جامعة مانعة في تفسير هذا الأصل العظيم ، وبيان الواجب فيه على مذهب السلف -رحمهم الله- لا على المذاهب المخالفة الشاذةِ عن الجماعة.
وقد بيَّن العلماء -رحمهم الله- معنى الجماعة بياناً شافياً .
قال الطبري -رحمه الله-في شرحه لحديث حذيفة في الفتن(4) : "اختلف في هذا الأمر وفي الجماعة ؛ فقال قوم: هو للوجوب ، الجماعة : السواد الأعظم ، وقال قوم: المراد بالجماعة الصحابة دون مَنْ بعدهم . وقال قوم: المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجةً على الخلق ، والناس تبع لهم في أمر الدين.
قال الطبري: والصواب أن المراد في الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره ، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند(1/18) ، والحميدي في مسنده(1/19) ، والترمذي(4/ 465رقم2165)، والنسائي في الكبرى(5/388رقم9225) ، وابن حبان في صحيحه(16/ 240رقم7254) ، والحاكم(1/114) وغيرهم وسنده صحيح.
(2) العقيدة الطحاوية(ص/775-مع شرح ابن أبي العز)
(3) المصدر السابق(ص/540) .
(4) سيأتي الحديث قريباً(ص/49).(1/36)
قال الطبري: وفي الحديث انه متى لم يكن للناس إمام ، فافترق الناس أحزاباً ، فلا يتبع أحداً في الفرقة ، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك ، خشية من الوقوع في الشر"(1).
ويمكن أن يقال-والله أعلم-: إن النصوصَ الشرعيةَ قد دلَّت على أن الجماعة جماعتان لا تضاد بينهما :
الأولى: الجماعة العلمية: وهم أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين.
فالواجب على المسلم أن يلزمَ مذهبهم ، ويتقيَّدَ بفهمهم ، ولا يخالفهم في شيء من أمور الدين أبداً .
قال ابن أبي العز -رحمه الله-: "السنة طريقة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، والجماعة جماعة المسلمين ، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فاتباعهم هدى، وخلافهم ضلال"(2).
الثانية: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أميرٍ وجبَ عليهم طاعته ، وحرًمَ عليهم معصيته ، ووجب عليهم الالتزامُ بهذه الجماعة ، وعدم الخروج عنها لما في ذلك من الأمن والسلامة للفرد والأمة.
والأدلة على وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم كثيرة من الكتاب والسنة .
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً ، يريد بذلك تعالى ذكره وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم ، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله .
ثم ساق بإسناده عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً} قال: الجماعة.
__________
(1) فتح الباري(13/37) باختصار.
(2) شرح العقيدة الطحاوية(ص/544).(1/37)
ثم قال أبو جعفر: "وقوله:{وَلاَ تَفَرَّقُواْ} يعني جل ثناؤه: ولا تتفرقوا عن دين الله، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف ، والاجتماع على طاعته ، وطاعة رسوله ، والانتهاء إلى أمره.
ثم ساق بسنده عن قتادة قال: إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد كره لكم الفرقة ، وقدَّم إليكم فيها ، وحذركموها ، ونهاكم عنها ، ورضي لكم السمع والطاعة ، والألفة والجماعة ، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم ، ولا قوة إلا بالله .
وبسنده عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يا أيها الناس ، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة ، هو خير مما تستحبون في الفرقة"(1).
وقال ابن كثير -رحمه الله- : "وقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} : أمرهم بالجماعة ، ونهاهم عن التفرقة ، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق ، والأمر بالاجتماع والائتلاف ...وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً ، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة ، فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية إلى الجنة ، ومسلَّمَة من عذاب النار ، وهم الذين على ما كان عليه النبي-- صلى الله عليه وسلم -- وأصحابه-- رضي الله عنهم --"(2).
وقال تعالى آمراً بالجماعة ، وناهياً عن الفرقة ، ومبيناً سوء عاقبتها على أهلها في الدنيا والآخرة : {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{105}يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}الآية(3) .
__________
(1) تفسير ابن جرير(7/74-75-شاكر).
(2) تفسير ابن كثير(2/745) .
(3) سورة آل عمران(آية/150-106) .(1/38)
قال ابن كثير -رحمه الله-: "ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين ؛ في افتراقهم ، واختلافهم ، وتركهم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، مع قيام الحجة عليهم .
ثم ذكر حديث معاوية في الافتراق وفيه: ((وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة))(1).
ثم قال: "وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} يعني: يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة ، قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-"(2).
والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وقد دلت السنَّة كذلك على ما دلَّ عليه القرآن؛ من لزومِ الجماعةِ ، والتحذيرِ من الفرقة ، وبيان سوء عاقبتها على أهلها في الدنيا والآخرة.
وأشهر ما يروى في ذلك حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- ، قال -- رضي الله عنه --: "كان الناس يسألون رسول الله عن الخير ، وكنت أسأله عن الشرِّ مخافةَ أن يدركني ، فقلت: يا رسول الله ، إنَّا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم)) قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم ، وفيه دخن)) قلت: وما دخنه؟ قال: ((قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم ، وتنكر)) قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، مَنْ أجابهم إليها قذفوه فيها)) قلت: يا رسول الله ، صفهم لنا. قال: ((هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا)) قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ، ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تَعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك))(3).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) تفسير ابن كثير(2/747) .
(3) رواه البخاري في صحيحه(13/35-مع الفتح) ، ومسلم في صحيحه(3/1475رقم1847).(1/39)
وفي لفظ آخر عند مسلم : ((يكون بعدي أئمة ، لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس )) قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: ((تسمع ، وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع ، وأطع))(1).
فهذا الحديث العظيم –كما ترى- نصٌّ واضح في وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، ولا سيما وقتَ ظهور دعاة الفتن ، فإن في الالتزام بذلك نجاة من هؤلاء الدعاة ، حتى لو كان الأئمة عندهم نقصٌ في التمسكِ بالدين .
وفيه –كذلك- ردٌّ عظيمٌ على مَن زعمَ أنَّ مفارقة جماعة المسلمين وإمامهم وقت الفتنِ وسيلةٌ لإصلاح الأمة ، وهذا فهمٌ معكوسٌ ، منكوسٌ ، بعيدٌ كلَّ البعدِ عن مرادِ الله ورسوله ، من الحرص على جماعة المسلمين .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: "قال ابن بطَّال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين ، وترك الخروج على أئمة الجور ، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنَّهم دعاة على أبواب جهنم ، ولم يقل فيهم: تعرف وتنكر ، كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير الحق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة"(2).
وعن أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أنَّ النبيَّ -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثاً ، ويكره ثلاثاً ، فرضي لكم أن تعبدوه ، ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، ويكره لكم : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال))(3).
قال النووي -رحمه الله-: "وأما قوله: ((ولا تفرقوا)) فهو أمرٌ بلزوم جماعة المسلمين ، وتآلف بعضهم ببعض ، وهذه إحدى قواعد الإسلام"(4).
قال ابن عبد البر -رحمه الله- : "وفيه الحض على الاعتصام والتمسك بحبل الله في حال اجتماع وائتلاف .
__________
(1) صحيح مسلم(3/1476رقم1847).
(2) فتح الباري(13/37) .
(3) رواه مسلم في صحيحه(3/1340رقم1715)
(4) شرح مسلم للنووي(12/10) .(1/40)
وحبل الله في هذا الموضع ، فيه قولان:
أحدهما : كتاب الله .
والآخر: الجماعة ، ولا جماعة إلا بإمام .
وهو عندي معنى متداخل متقارب ، لأنَّ كتاب الله يأمر بالألفة ، وينهى عن الفرقة ...
غير أن هذا الحديث المراد به -والله أعلم- الجماعة على إمام يسمع له ويطاع ، فيكون ولي من لا ولي له في النكاح ، وتقديم القضاة للعقد على الأيتام ، وسائر الأحكام ، ويقيم الأعياد والجمعات ، وتؤمن به السبل ، وينتصف به المظلوم ، ويجاهد عن الأمة عدوها ، ويقسم بينها فيئها ،
لأن الاختلاف والفرقة هلكة ، والجماعة نجاة .
قال ابن المبارك -رحمه الله-:
إن الجماعة حبلُ الله فاعتصموا
... منه بعروته الوثقى لمن دانا
كم يرفع الله بالسلطان مظلمة
... في ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الخلافة لم تؤمن لنا سبل
... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا"(1).
وعن أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- : أنَّ رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((نضَّرَ الله عبداً سمع مقالتي هذه فحملها ، فرُبَّ حامل الفقه فيه غير فقيه ، ورُبَّ حامل الفقه إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يغل عليهن صدر مسلم ؛ إخلاص العمل لله –عز وجل-، ومناصحة أولي الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين ، فإنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم))(2).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده، وتجمع الحقوق التي لله ولعباده ، وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة ...
وأما الحقوق العامة ، فالناس نوعان: رعاة ، ورعية .
فحقوق الرعاة مناصحتهم ، وحقوق الرعية لزوم جماعتهم ، فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم ، وهم لا يجتمعون على ضلالة ، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم، واعتصامهم بحبل الله جميعاً ، فهذه الخصال تجمع أصول الدين"(3).
__________
(1) التمهيد(21/272) باختصار.
(2) سبق تخريجه.
(3) مجموع الفتاوى(1/18-19) باختصار.(1/41)
وقد قال تعالى: { وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(1) .
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2) .
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((الجماعة رحمة والفرقة عذاب)) (3).
وقد جاء الترهيب والعقاب الشديد لمن خرج على الإمام ، أو ثبط عن طاعة ولاة الأمور ، أو أثار عليهم ، ومن فارق الجماعة
قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ((من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ؛ مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّة يغضب لعصبية ، أو يدعو إلى عصبية ، أو ينصر عصبية ، فقتل ؛ فقتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس مني ، ولست منه)) (4)
__________
(1) سورة الأنفال(آية/46).
(2) سورة آل عمران(آية/103).
(3) رواه الإمام أحمد في المسند(4/278، 375) ، وابنه عبد الله في زوائد المسند(4/375) ، والبزار في مسنده(8/226رقم3282) ، وابن أبي عاصم في السنة(1/94رقم93) ، وغيرهم من حديث النعمان بن بشير -- رضي الله عنه -- وسنده حسن….
(4) رواه مسلم في صحيحه(3/1477) عن أبي هريرة -- رضي الله عنه --.(1/42)
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((وأنا آمركم بخمس ، الله أمرني بهنَّ: بالجماعة ، وبالسمع والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ، فإنَّهُ من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يرجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنَّهُ من جُثَاء جهنم)) فقال رجل: يا رسول الله ، وإن صلى وصام؟ قال: ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)) (1).
وقال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ؛ فمات عاصياً ، وأمة أو عبد آبق من سيده فمات ، وامرأة غاب عنها زوجها يكفيها المؤتة فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم)) (2).
وقال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم ويفرق كلمتكم فاقتلوه))
وفي رواية: ((إنَّهُ ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان))(3).
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي وابن خزيمة والحاكم وغيرهم من حديث الحارث الأشعري -- رضي الله عنه -- وهو حديث صحيح ، صححه الترمذي ، وابن خزيمة والحاكم وغيرهم
(2) رواه الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد وابن أبي عاصم في السنة وابن حبان في صحيحه والحاكم وغيرهم من حديث فضالة بن عبيد -- رضي الله عنه -- وهو حديث صحيح ، صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما ، وحسنه ابن عساكر.
(3) رواه مسلم في صحيحه(3/1479-1480رقم1852) من حديث عرفجة -- رضي الله عنه --.(1/43)
وعن نافع قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، فقال: إني سمعت النبيَّ -- صلى الله عليه وسلم -- يقول: ((يُنصب لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة))، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يُبايع رجلٌ على بيع الله ورسوله ثم يُصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه "(1).
قال الخطابي -رحمَهُ اللهُ- : "من خرج عن طاعة الجماعة ، وفارقهم في الأمر المجمع عليه ، فقد ضل وهلك".
قال صاحب الأزهار: "ويؤدب من يُثَبِّطُ عنه أو يُنْفَى ، ومن عاداه فبقلبه: مخطئ، وبلسانه: فاسق ، وبيده: محارب"
قال العلامة محمد بن علي الشوكاني -رحمَهُ اللهُ- في السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار(4/514) شارحاً ما سبق: "وأما قولُهُ: "ويؤدب من يثبط عنه" فالواجب دفعُهُ عن هذا التثبيط ، فإن كفَّ ، وإلا كان مستحقاً لتغليظ العقوبة ، والحيلولة بينه وبين من صار يسعى لديه بالتثبيط بحبس أو غيره ، لأنَّهُ مرتكب لمحرم عظيم ، وساع في إثارة فتنة تراق بسببها الدماء ، وتُهْتَكُ عندها الْحُرَم ، وفي هذا التثبيط نزع ليده من طاعة الإمام ، وقد ثبت في الصحيح عنه -- صلى الله عليه وسلم -- أنَّهُ قال: ((من نزع يده من طاعة الإمام فإنه يجيء يوم القيامة ولا حجة له ، ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت موتة جاهلية))".
قال الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان في شرحه للعقيدة الطحاوية: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا" هذه مسألة عظيمة، فمن أصول أهل السنة والجماعة: أنهم لا يرون الخروج على ولاة أمر المسلمين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(2) .
__________
(1) رواه البخاريُّ في صحيحه(6/2603رقم6694-البغا).
(2) سورة النساء(آية/59)(1/44)
وقال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني))، فلا يجوز الخروج عليهم؛ ولو كانوا فساقاً لأنهم انعقدت بيعتهم، وثبتت ولايتهم، وفي الخروج عليهم ولو كانوا فساقاً مفاسد عظيمة، من شق العصا، واختلاف الكلمة، واختلال الأمن، وتسلط الكفار على المسلمين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "ما خرج قوم على إمامهم إلا كانت حالتهم بعد الخروج أسوأ من حالتهم قبل الخروج" أو كما ذكر.
وهذا حتى عند الكفار، إذا قاموا على ولي أمرهم وخرجوا عليه، فإنه يختل أمنهم ويصبحون في قتل وقتيل، ولا يقر لهم قرار، كما هو مشاهد في الثورات التي حدثت في التاريخ، فكيف بالخروج على إمام المسلمين؟ فلا يجوز الخروج على الأئمة وإن كانوا فساقاً، ما لم يخرجوا عن الدين، قال عليه الصلاة والسلام: ((اسمعوا وأطيعوا إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)) (1) فالفسق والمعاصي لا توجب الخروج عليهم، خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج عليهم إن كان عندهم معاصٍ وحصل منهم فسق، فيقولون: هذا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون به الخروج على ولاة أمور المسلمين.
فأصول المعتزلة خمسة:
الأول: التوحيد، ومعناه: نفي الصفات، ويرون من يثبت الصفات فهو مشرك.
الثاني: العدل، ومعناه: نفي القدر، فيقولون: إن إثبات القدر جور وظلم، ويجب العدل على الله.
الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويريدون به الخروج على أئمة المسلمين إن كان عندهم معاصٍ دون الكفر. وهذا هو المنكر بنفسه، وليس من المعروف في شيء.
الرابع: المنزلة بين المنزلتين، وهو الحكم على أصحاب الكبائر بالخروج من الإسلام، وعدم الدخول في الكفر، وأما الخوارج فيحكمون عليه بالكفر.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(8/422-423رقم7055-7056) ، ومسلم في صحيحه(3/ 1470رقم1709) من حديث عبادة بن الصامت -- رضي الله عنه --.(1/45)
الخامس : إنفاذ الوعيد، ومعناه، أن من مات على معصية وهي كبيرة من الكبائر دون الشرك، فهو خالد مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في مصيره في الآخرة، ويخالفون الخوارج في أنه في منزلة بين المنزلتين، وألّف فيها القاضي عبد الجبار –من أئمتهم- كتاباً سماه: شرح الأصول الخمسة.
"وإن جاروا" الجور معناه: الظلم، وإن تعدوا وظلموا الناس بأخذ أموالهم، وضرب ظهورهم، أو يقتلون المسلم، فلا يرون الخروج عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "اسمع وأطع وإن أخذ مالك وجلد ظهرك" فالصبر عليهم أولى من الخروج؛ لما في الخروج من المفاسد العظيمة، فهذا من باب ارتكاب أخف الضررين لدفع أعلاهما، وهي قاعدة عند أهل السنة والجماعة، والنبي-- صلى الله عليه وسلم --أمر بالصبر على جور الولاة وإن ظلموا وجاروا وإن فسقوا. " انتهى كلام الشيخ الفوزان –حفظه الله-.
فأهل البدع هم الذين فارقوا الصراط المستقيم واتبعوا السبل فضلوا عن سبيل الله.
فخطرهم على الأمة عظيم وجسيم .
وهذا هو الواقع الآن فإن من أعظم أسباب وهن الأمة وضعفها ، وتفرقها وتشتتها هم أهل البدع والضلال ، وأهل التحزب والأهواء .
فشغلوا الأمة بعضها ببعض ، وأخذوا من وقتها الكثير لبيان حالهم وتحذير الناس من شرهم لعظيم فتكهم بالناس .
ومن أعظم أهل البدع والانحراف الذي أشاعوا الفرقة والبغضاء بين الناس الشيعة والصوفية والخوارج وحزب التحرير وجماعة الإخوان المسلمين بشتى فروعهم وأشكالهم ، وجماعة التبليغ وجماعة محمد سرور وجماعة القطبية والحدادية ونحوهم من أهل البدع والضلال الذين أشاعوا الفرقة بين الناس(1) .
فائدة
الفرق بين قتال المرتدين ، وقتال الخوارج ، وقتال البغاة
__________
(1) استفدت في كتابة هذا المبحث من عدة كتب ألفت في طاعة الولاة ككتاب المعلوم ، والورد المقطوف ، ومعاملة الحكام وغيرها مع زيادة فوائد وتنبيهات.(1/46)
سئل شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- كما في مجموع الفتاوى(35/53-57) : "عن "البغاة" و"الخوارج" هل هي ألفاظ مترادفة بمعنى واحد أم بينهما فرق؟
وهل فرقت الشريعة بينهما في الأحكام الجارية عليهما أم لا ؟
وإذا ادعى مدع أن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهم إلا في الاسم ، وخالفه مخالف مستدلاً بأن أمير المؤمنين عليا -- رضي الله عنه -- فرق بين أهل الشام وأهل النهروان ، فهل الحق مع المدعي أو مع مخالفه؟".
فأجاب -رحمَهُ اللهُ- :
"الحمد لله أما قول القائل: إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا في الاسم ؛ فدعوى باطلة ، ومدعيها مجازف ، فإنَّ نَفْيَ الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبى حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم ، مثل كثير من المصنفين في قتال أهل البغي ، فإنهم قد يجعلون قتال أبى بكر لمانعي الزكاة وقتال على الخوارج وقتاله لأهل الجمل وصفين إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام من باب قتال أهل البغي.
ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق ، بل مجتهدون ؛ إما مصيبون ، وإما مخطئون ، وذنوبهم مغفورة لهم ، ويطلقون القول بأنَّ البغاة ليسوا فساقاً.
فإذا جُعلَ هؤلاء وأولئك سواء لزمَ أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة سواء ، ولهذا قال طائفة بفسق البغاة ، ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة.
وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين الخوارج المارقين ، وبين أهل الجمل وصفين وغير أهل الجمل وصفين ممن يعد من البغاة المتأولين .
وهذا هو المعروف عن الصحابة ، وعليه عامة أهل الحديث والفقهاء والمتكلمين ، وعليه نصوص أكثر الأئمة ، واتباعهم من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم.(1/47)
وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال: ((تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق)) وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ، ويبين أن المارقين نوع ثالثٌ ، ليسوا من جنس أولئك ، فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية ، وقال في حق الخوارج المارقين : ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قرائهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ،أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)) وفي لفظ: ((لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل)).
وقد روى مسلم أحاديثهم في الصحيح من عشرة أوجه ، وروى هذا البخاري من غير وجه ، ورواه أهل السنن والمسانيد ، وهي مستفيضة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، متلقاة بالقبول ، أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم، واتفق الصحابة على قتال هؤلاء الخوارج.
وأما أهل الجمل وصفين فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في ترك القتال في الفتنة وبينوا أن هذا قتال فتنة.
وكان علي -- رضي الله عنه -- مسروراً لقتال الخوارج ويروى الحديث عن النبي-- صلى الله عليه وسلم --في الأمر بقتالهم ، وأما قتال صفين فذكر أنه ليس معه فيه نص وإنما هو رأى رآه وكان أحيانا يحمد من لم ير القتال.(1/48)
وقد ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال في الحسن: ((إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) فقد مدح الحسن ، وأثنى عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين: أصحاب علي ، وأصحاب معاوية ، وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن ، وأنه لم يكن القتال واجباً ولا مستحباً.
و"قتال الخوارج" قد ثبت عنه أنه أمر به ، وحض عليه ، فكيف يسوى بين ما أمر به وحض عليه ، وبين ما مدح تاركه وأثنى عليه؟!!
فمن سوى بين قتال الصحابة الذين اقتتلوا بالجمل وصفين ، وبين قتال ذي الخويصرة التميمى وأمثاله من الخوارج المارقين والحرورية المعتدين ؛ كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين.
و لزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين ، كما يقال مثل ذلك في الخوارج المارقين ، فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم على قولين مشهورين ، مع اتفاقهم على الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين ، والإمساك عما شجر بينهم ، فكيف نسبة هذا بهذا؟!!
وأيضاً فالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بقتال الخوارج قبل أن يقاتلوا .
وأما أهل البغي فإن الله تعالى قال فيهم: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(1) .
__________
(1) سورة الحجرات(آية/9).(1/49)
فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء ، فالاقتتال ابتداءً ليس مأمورا به ، ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم ، ثم إن بغت الواحدة قوتلت ، ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن البغاة لا يبتدئون بقتالهم حتى يقاتلوا ، وأما الخوارج فقد قال النبي-- صلى الله عليه وسلم --فيهم: ((أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)) وقال: ((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)).
وكذلك مانعوا الزكاة ، فإن الصديق والصحابة ابتدؤوا قتالهم . قال الصديق: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لقاتلتهم عليه ، وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب.
ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها ، وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب؟
على قولين ، هما روايتان عن أحمد ، كالروايتين عنه في تكفير الخوارج ، وأما أهل البغي المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين ، فإنَّ القرآن قد نص على إيمانهم وإخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي . والله أعلم".
وبهذا يتضح أن ولاة الأمر المسلمين منهم ولاة الأمر في الدولة السعودية –حرسها الله- تجب مبايعتهم ، وبيعتهم لازمة لمن هو تحت ولايتهم ، وبمبايعة أهل الحل والعقد للملك لزمت البيعة جميع الشعب السعودي من غير استثناء .
وما سبق يتبين وجوب طاعة ولاة الأمر في الدولة السعودية –حرسها الله- ، ووجوب توقيرهم وإكرامهم ، وحفظ حقهم ، والدعاء لهم ، والصلاة خلفهم ودفع الزكاة لهم ، والحج والجهاد معهم ، ومناصحتهم سراً لا جهراً ، وحرمة غيبتهم ، والطعن فيهم ، والتشهير بهم ، وحرمة الخروج عليهم ، وحرمة الإعانة على من خرج عليهم ولو بالكلمة ، وعقوبة المثبط عن طاعتهم وما يجب لهم من حقوق .
أسأل الله أن يحفظهم ويرعاهم ، وأن يوفقهم لما فيه خير البلاد والعباد .
المبحث الثاني(1/50)
البراهين والأدلة على أن الدولة السعودية قامت على الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح
تَمْهِيد
إن الدولة السعوديَّة "المملكة العربية السعوديَّة" قامت على الكتاب والسنَّة على منهج السلف الصالح منذ أن بزغ فجرها ، وشع نورها ، وأَعْلَنَ عن قيامها مؤسِّسُها -رحمَهُ اللهُ- .
وهذا ليس بغريب عليها فإنما هي مقتفية لآثار مؤسسها الأول ، وباذر نواتها الشيخ الإمام محمد بن سعود -رحمَهُ اللهُ- الذي عقد العهد والاتفاق المشهور مع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- .
فقد تعاقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الإمام محمد بن سعود -رحمَهُما اللهُ- على نصرة التوحيد والدعوة إليه ، ومحاربة الشرك وأهله.
وذلك أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- خرج من العيينة سنة 1158 متجهاً إلى بلدة الدرعية ، وأميرها يومئذٍ الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- ، فلَمَّا سمع الإمام بمقدمه قام من فوره مسرعاً إليه ، ومعه أخواه ثنيَّان ومشاري ، فأتاه في بيت محمد بن سويلم ، فسلَّم عليه ، وأبدى غاية الإكرام والتبجيل ،وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده.
فأخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ،وما دعا إليه ،وما كان عليه صحابته -- رضي الله عنهم -- من بعده ، وما أمروا به ، وما نهوا عنه ، وأنَّ كلَّ بدعة ضلالة ، وما أعزَّهم الله به بالجهاد في سبيل الله ، وأغناهم وجعلهم إخواناً.
ثم أخبره بما عليه أهل نجد في زمانه من مخالفتهم لشرع الله ، وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- بالشرك بالله ، والبدع والاختلاف والظلم.
فلَمَّا تحقَّق الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- معرفة التوحيد ، وعلم ما فيه من المصالح الدينية قال له: يا شيخ ، إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه ، فأبشر بالنصرة لك ، ولِما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد.(1/51)
فبسط الأمير محمد يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله ، والجهاد في سبيله ، وإقامة شرائع الإسلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر(1) .
ويلاحظ في هذه البيعة أنها لأمير متغلِّب على بلد تجب طاعته على من تحته من أهل البلد ، والإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- دخل بهذه البيعة في طاعة الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- الذي عاهده على إقامة شرع الله والدعوة إلى توحيده ، ومحاربة الشرك والبدع ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
ومن هذا اليوم المبارك انطلقت هذه الدعوة الإصلاحية التجديديَّة السلفية بقيادة الإمامين : محمد بن سعود -رحمه الله- بقوَّة السِّنان ، ومحمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بقوَّة القرآن لنشر الأمن والإيمان ، والخير والنور ، حتى عمَّ خيرها ونورها بلاد العالم الإسلامي ، بل وتعداها إلى سائر أرجاء المعمورة بعز عزيز، أو بذل ذليل ، على الرغم من قوة أعدائها ، ومكرهم ، وكيدهم ، فقد نصرهم الله، وجعل العاقبة لهم ، وخذل أعداءهم –ولله الحمد-.
__________
(1) انظر: تاريخ نجد لابن غنام(1/81) باختصار.(1/52)
وقد قامت بسبب هذه الدعوة المباركة دولة الإسلام في الجزيرة العربية ، فاجتمعت الأمة من بعد الفرقة ، وعزَّت من بعد الذلة ، واغتنت من بعد العالة والفاقة ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، وقد حدث بهذه الدولة المباركة حوادث وفتن انتهت بسقوطها مرَّتين لأسباب معلومة داخليَّة وخارجية ، لكنها –ولله الحمد- عالجت بتوفيق الله هذه الأسباب ، وعادت على يد الملك المجدد الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله- قويَّة عزيزة ، متماسكة ، ولا زال أبناؤه الميامين سائرين على نهج والدهم -رحمه الله- في نصرة هذا الدين، ودعوة الناس إلى التوحيد ، وتحذيرهم من الشرك عبر مؤسساتهم التعليمية والدعوية ، باذلين في سبيل ذلك الجهد والجاه والمال ، فجزاهم الله خيراً عن الإسلام وأهله ، وأعزَّهم بعزِّه ، وأيّدهم بتأييده، ونصرهم ، وثبَّتهم على الهدى إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(1) .
وفي هذا البحث سأذكر الأوجه الدَّالة على أن هذه الدولة قامت ، وما تزال ، ومستمرة -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- على منهج السلف الصالح من عهد مؤسسها الملك المجدد الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمَهُ اللهُ- إلى عهد ابنه البارَّ خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود –حفظه الله ووفقه-.
الأدلة على أن الدولة السعودية –حرسها الله- قائمة على الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح
__________
(1) سورة الحج(آية/40-41).(1/53)
إن الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- توجه من الكويت إلى الرياض لرد الحق إلى نصابه ، ولإعادة الحكم بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح .
كما قال العلامة الأديب البارع محمد بن عثيمين -رحمَهُ اللهُ-:
أرضيت آباءك الغر الكرام بما جدَّدت من مجدهم من بعد ما بانوا
نبهت ذكراً توارى منه حين علا للمارقين ضباب فيه دخان
فجئت بالسَّيف والقرآن معتزماً تُمضي بسيفك ما أمضاه قرآن
حتى انجلى الظلم والأظلام وارتفعت للدين في الأرض أعلام وأركان
دينٌ ودنيا وبأس في الوغى وندى تَفيضُ من كفه بالجود خُلجان.
وقال –أيضاً- :
إمام هدى للرشد يهدي ويهتدي مقيم سواء بالرعية يرفق
إلى أن قال -رحمَهُ اللهُ- :
فيا معشر الإخوان دعوة صارخ لكم ناصح بالطبع لا متخلق
يود لكم ما يَمْتَنِيهِ لنفْسه ويعلم أن الحب في الله أوثق
تحاموا على دين الهدى معْ إمامكم وكونوا له بالسمع جنداً تُوَفَّقوا
وإياكم والافتراق فإنَّه هو الهُلْكُ في الدنيا وللدين يوبق
فوالله ثم الله لا رب غيره يمين امرئ لا مُفْترٍ يتَملَّق
لَما عَلِمَتْ نفسي على الأرض مثله إماماً على الإسلام والخلْقِ يُشْفِقُ
قال شيخنا الشيخ صالح العبود بعد ذكر الأبيات السابقة وغيرها: "وصدق ابن عثيمين ؛ فإن عبد العزيز الإمام لَمَّا خرج من الكويت ؛ خرج وهو يريد أن يسترد مكاسب العقيدة السلفية التي اكتسبها آباؤه حين تأثروا بعقيدة السلف الصالح وطبقوها...وما أن أظفره الله بالاستيلاء على الرياض ؛ إلا وكان أول همته تقريبه العلماء ، وتكريمه لآل الشيخ من أجل الشيخ وعهده مع جده ، ولأجل ما يتصفون به من علم راسخ وعمل ثابت".
وسيأتي مزيد بيان لذلك فيما يأتي -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
الأوجه الدالَّة على أن الدولة السعودية –حرسها الله- قائمة على الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح
الوجه الأول
نظام الحكم في المملكة وقانونها(1/54)
إن نظام الحكم في الدولة السعودية هو القرآن ، ومبناها على الكتاب والسنة على منهج السالف.
جاء في أول نظام وضع للملكة كانت مادته من إملاء الإمام المجدد الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- بمكة سنة 1345هـ وقد جاء فيه : "5- جميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح"(1)
وأعلنت المملكة العربية السعودية عام 1364هـ للدول العربيَّة: أنَّها ستمتنع عن تنفيذ أي مبدأ في التعليم أو التَّشريع يخالف قواعد الدِّين الإسلامي وأصوله(2) .
وكان الإمام المجدد الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- كلَّما سئل عن دستور بلاده أجاب: دستورنا القرآن وهو يعني تقيّده هو ومملكته بأحكام الشَّرع الإسلامي المستمدة من معاني القرآن ، وما لم يكن فيه فمن حديث رسوله وعمله ، وما لم يكن فيهما فمن قضاء أصحابه وسيرتهم.."(3) .
وقارن كلام هذا الإمام المجدد بكلام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب فسترى أنهما ينهلان من معين واحد.
قال أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه --: " إذا جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ، ولا يلفتنك عنه الرجال ، فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فاقض بها ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله وليس فيه سنة من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فانظر ما اجتمع الناس عليه فخذ به ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت ؛ إن شئت أن تجتهد برأيك وتقدم ؛ فتقدم ، وإن شئت أن تتأخر ؛ فتأخر ، ولا أرى التأخر إلا خيراً لك"(4).
__________
(1) الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز(ص/90-91) .
(2) انظر: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز(3/1208) .
(3) انظر: الوجيز(ص/90) .
(4) مصنف ابن أبي شيبة(4/543) والبيهقي(10/115) وسنده صحيح.(1/55)
وقال عبد الله بن مسعود -- رضي الله عنه -- : " يا أيها الناس ، قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هناك ، ثم إن الله قد رأى من الأمر ما ترون ، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله ، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه -- صلى الله عليه وسلم -- ، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه فليقض بما قضى به الصالحون ، فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يقض به الصالحون فليجتهد برأيه ، ولا يقول: إني أرى ، وإني أخاف ؛ فإنَّ الحلال بَيّن ، والحرام بيِّن ، وبين ذلك أمور متشابهات ، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك"(1).
وجاء في الموسوعة العربية العالمية(16/96) : "اختارت الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز شكل وشعار الدولة وعلمها الحاليين ، وقام دستور الدولة على القرآن ، ويقوم الحكم فيها على تطبيق أحكام الشرع الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما أثر عن الصحابة وتابعيهم بإحسان وما عليه الأئمة الأربعة وصالح سلف الأمَّة ، وتطبق الدولة في المعاملات والأحوال الشَّخصيَّة المشهور من مذهب الحنابلة".
وقد صرح بأن دستور الدولة السعودية هو الكتاب والسنة على منهج السف الصالح : مؤسسها الإمام الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- في عدة مواطن وعدة مناسبات أذكر بعضها .
قال الإمام الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- أمام المؤتمر الإسلامي سنة1344هـ : "ففي بحبوحة هذا الأمن والحرية التي لا تفيد إلا بأحكام الشرع أدعوكم إلى الائتمار والتشاور في كل ما ترون من مصالح ونظم يطمئن إليها العالم الإسلامي بإقامة شرع الله ، والتزام أحكامه وآداب دينه"(2) .
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة(4/544) والبيهقي(10/115) وسنده صحيح .
(2) انظر: المصحف والسيف(ص/50) .(1/56)
وقال في خطاب له سنَّة 1349هـ : "وإنكم تعلمون أن أساس أحكامنا ونظمنا هو الشَّرع الإسلامي وأنتم في تلك الدائرة –يعني: مجلس الشورى- أحرار في سن كل نظام وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد على شرط أن لا يكون مخالفاً للشَّريعة الإسلامية لأنَّ العمل الذي يخالف الشَّرع لن يكون مفيداً لأحد ، والضرر كل الضرر هو السير على غير الأساس الذي جاء به نبينا محمد -- صلى الله عليه وسلم --"(1) .
وقال -رحمَهُ اللهُ- سنة 1351هـ : "وإني أرى كثيراً من النَّاس ينقمون على ابن سعود ، والحقيقة ما نقموا علينا إلا لاتباعنا كتاب الله وسنة رسوله ، ومنهم من عاب علينا التمسك بالدين ، وعدم الأخذ بالأعمال العصريَّة ، فأما الدين فوالله لا أغير شيئاً مما أنزل الله على لسان رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- ، ولا أتبع إلا ما جاء به ، وليغضب علينا من شاء وأراد ، أما الأمور العصرية التي تعنينا وتفيدنا ويبيحها دين الإسلام فنحن نأخذها ، ونعمل به ، ونسعى في تعميمها ، أما المنافي منها للإسلام فإننا ننبذه ، ونسعى جهدنا في مقاومته ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا مدنية أفضل وأحسن من مدنية الإسلام ولا عِزَّ لنا إلا التمسك به"(2) .
الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- استلم ملكاً ضائعاً فجمعه، وبلاداً خربة فعمرها ، وشعباً جائعاً ففاض بين يديه الرزق ، فهو ليس رجلاً عظيماً فحسب ولكنه رجلٌ مبارك فقد كان ما بينه وبين الله عامراً ، والملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- أسس حكمه على تقوى من الله وهذه شهادة حق لا يجوز كتمانها كما قال الله تعالى: { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } (3)"(4) .
__________
(1) انظر: المصدر السابق(ص/64) .
(2) انظر: المصحف والسيف(ص/80) .
(3) سورة البقرة(آية/283).
(4) انظر: أسد الجزيرة(ص/27).(1/57)
وقد جاء النظام الأساسي للحكم ونظام الشورى ونظام المناطق ونظام مجلس الوزراء ؛ أنظمة تقوم على النظام الأساسي في الإسلام حيث يستند الحاكم المسلم في إصدار قراراته على القرآن الكريم والسنة المطهرة واجتهاد العلماء، وعلى الإجماع في إطار تبادل المشورة بين رجال دولته والعلماء المختصين والخبراء (1) .
ويؤكد خادم الحرمين الشريفين على أن نظام الحكم في هذه البلاد هو كتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- لا محيد عنهما ولا بديل بهما حين أصدر النظام الأساسي للمملكة العربية السعودية في 27 شعبان من عام 1412هـ.
إذ نصت المادة الأولى منه على أن المملكة العربية السعودية : دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة ، دينها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- ولغتها العربية وعاصمتها مدينة الرياض.
يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد –حفظه الله- : "إن دستورنا في المملكة العربية السعودية هو كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- الذي لا ينطق عن الهوى ، ما اختلفنا في شيء إلا رددناه إليهما وهما الحاكمان على كل ما تصدره الدولة من أنظمة ، إننا ثابتون بحول الله وقوَّته على الإسلام نتواصى بذلك جيلاً بعد جيل ، حاكماً بعد حاكم"(2) .
الوجه الثاني
من كلمات الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ-
__________
(1) انظر: اهتمام خادم الحرمين الشريفين بالقرآن وعلومه(ص/18) .
(2) انظر: اتخاذ القرآن أساساً لشؤون الحياة والحكم(ص/51) .(1/58)
الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- بما وفقه الله منذ صغره للعناية بكتاب الله ، وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- جعل الجانب الديني أهم أهدافه ، بل أهم أعمدة حكمه لمملكته ، حيث كان منذ الأيام الأولى من حياته حتى نهايتها مسلماً تقياً ورعاً ملتزماً بتعاليم الإسلام السمحة(1) .
قال الشيخ ، العلامة ، الأديب ، الشاعر ، لسان أهل السنة ، وسيفها المسلول على أهل الباطل ؛ سليمان بن سحمان -رحمَهُ اللهُ- : "علمت من الملك عبد العزيز أنه يحفظ أجزاء من القرآن الكريم ، ويحفظ "الرحبية" في الفرائض" ، وتعلم "زاد المعاد" في الفقه ، ويحفظ من كتب الأحاديث "الأربعين النووية" ، و"بلوغ المرام" ، وكان يحب قراءة "البداية والنهاية" لابن كثير ، و"تاريخ الرسل والملوك" للطبري ، و"السيرة" لابن هشام ، و"المغني" ، و"الشرح الكبير" ، و"الإنصاف" ، و"تفسير ابن كثير" و"البغوي" ، وكان يحب من الشعر ما تميز بالطابع الإسلامي والنصائح"(2).
وقال شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز -رحمَهُ اللهُ- : "والملك عبد العزيز حريص على نشره كتب السلف والعناية بها وتدريسها"(3).
ففي عام (1363هـ) أشار الملك على سماحة الشيخ الجليل عبد العزيز بن باز أن يؤلف كتاباً عن الحج للحجاج وقام الملك -قدس الله روحه- بطباعته على نفقته الخاصة. وهو كتاب التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة .
قال الشيخ ناصر الهماش آل عاصم : "وحدثني سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز أن الملك عبد العزيز إذا جاء لقصره في الخرج كان يحضر درس الشيخ في الدلم بعض الأوقات الذي يقام بالمسجد.
__________
(1) انظر: توحيد المملكة للمانع(ص/314) .
(2) انظر: المصدر السابق(ص/108) .
(3) انظر: مجموع فتاوى ومقالات متنوعة(1/387) .(1/59)
والملك يستأنس بالجلوس مع العلماء ، وهو دمث الخلق معهم ، لين الجانب لهم، حتى أنه حدثني سماحة الوالد الشيخ العالم الجليل عبد العزيز بن باز أنه زار الملك عبد العزيز في قصره بالخرج فلما طلب الاستئذان من الملك عبد العزيز بالرجوع إلى بيته في الدلم قال الملك عبد العزيز مداعباً الشيخ بصوت مرتفع "ليه حاطني مثل وادي محسر من مر عليه أسرع لازم تنام عندنا هذه الليلة" فضحك سماحة الشيخ ووافق ونام تلك الليلة عند الملك عبد العزيز والعلماء الصادقون يعلمون أن الملك عبد العزيز حريص على احترام العلماء فكلمتهم مسموعة عنده وأمرهم وشفاعتهم مقبولة لديه هو دائماً يسترشد بعلمهم ويستفيد من فوائدهم والعلماء يشهدون أن الملك عبد العزيز مدافع ومستميت بالدفاع عن دينه وعن دولة التوحيد ولهذا صار بين الملك والعلماء تفاهم وبذل وعطاء فوقفوا معه في الشدائد والمحن"(1).
وقد سبق ذكر جملة من أقوال الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- يتضح منها جلياً أن هذه الدولة المباركة قامت على الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ومنهجهم.
وأقواله في ذلك أكثر من أن تحصى ولكني ذاكر بعضها أسأل الله أن ينفع بها قارئها.
قال الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- في مجمع من كبار قومه فيهم العلماء والقواد ، وهو متوجه إلى مكة عام 1343هـ : "إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها ، بل لرفع المظالم التي أرهقت كاهل عباد الله ، إني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها ؛ فلن يكون بعد اليوم سلطان إلا للشرع الذي يجب أن تطأطئ جميع الرؤوس له.
إن مكة للمسلمين كافة ، فيجب أن يكون أمر إدارتها وتنظيمها طبق رغائب العالم الإسلامي"(2).
__________
(1) انظر : أسد الجزيرة(ص/57) .
(2) انظر: صقر الجزيرة(2/315) .(1/60)
ولَمَّا دخل الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- مكة مظفراً منصوراً وأدى العمرة قال للناس وهم حوله : "ولم يكن يخطر على بالي أن أحضر مكة على هذه الصورة ، بل إنني لو رأيت في المنام ما تمَّ لِيَ الآن لَما عبَّرت رؤياي لدى أحد المشايخ مخافة أن يسخروا مني ، لكن فضل الله لا يُحَدّ ، وهذا من محض إحسانه جل وعلا ، وإكرامه لي ، أسأله تعالى أن ينصر دينه ، ويعلي كلمته ، وأن يوفقني للعمل بكتاب الله ، وإحياء سنة سيد المرسلين إنه سميع مجيب"(1).
وقال -رحمَهُ اللهُ- في خطبة ألقاها بمكة في ذي الحجة عام 1347هـ : "هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها ، وهذه هي عقيدتنا ، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله -عزَّ وجلَّ- خالصة من كل شائبة ، مُنَزَّهَة من كل بدعة ، فعقيدة التوحيد هذه ، هي التي ندعو إليها ، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب"(2).
وقال -رحمَهُ اللهُ- في خطة ألقاها بمكة في محرم عام 1348هـ وهو متوجه إلى الرياض: "وقد نصرنا الله بقوة التوحيد الذي في قلوبنا ، والإيمان الذي في الصدور ، ويعلم الله أن التوحيد لم يملك علينا عظامنا وأجسامنا فحسب ، بل ملك علينا قلوبنا وجوارحنا ، ولم نتخذ التوحيد آلة لقضاء مآرب شخصية ، أو لجر مغنم ، وإنما تمسكنا به عن عقيدة وإيمان قوي ، ولنجعل كلمة الله هي العليا"(3).
__________
(1) انظر: الإمام العادل عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود(1/3) .
(2) انظر: المصحف والسيف(ص/85-86) .
(3) انظر: المصحف والسيف(ص/89) .(1/61)
وقال -رحمَهُ اللهُ- في المدينة النبوية في خطبة ألقاها في المسجد النبوي : " وإن خطتي التي سرت عليها ، ولا أزال أسير عليها ، هي إقامة الشريعة السمحاء ، كما أنني أرى من واجبي ترقية جزيرة العرب ، والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة ، مع الاعتصام بحبل الدين الإسلامي الحنيف"(1).
وقال -رحمَهُ اللهُ- في خطبة له أمام حجاج بيت الله الحرام: "والمقصود من هذا الاجتماع هو أن نحدد اسم الإسلام ، ونعمل بمعناه ، والإسلام معناه: الاستسلام لله تعالى ، والطاعة له ، والإيمان بكتابه ورسله ، وقواعد الإسلام قائمة على كتاب الله وسنة رسوله ، وأعمال الخلفاء الراشدين ، وما اتفق عليه الصحابة الكرام ، وما جاء به فيما بعد الأئمة الأربعة فهو حق لا نحيد عن ذلك قط"(2).
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "نحن دعاة إلى التمسك بالدين الخالي من كل بدعة"(3).
وقال -رحمَهُ اللهُ- موضحاً أنه سلفي وليس ممن يلهثون وراء التجديد الذي يفقد الدين والعقيدة بل تجديد نابع من الدين الإسلامي الحق : "إننا لا نبغي التجديد الذي يفقدنا ديننا وعقيدتنا ، إننا نبغي مرضاة الله -عزَّ وجلَّ- ومن عمل ابتغاء مرضاة الله فهو حسبه ، وهو ناصره ، فالمسلمون لا يعوزهم التجديد ، وإنما تعوزهم العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح"(4).
وقال -رحمَهُ اللهُ-: "والحقيقة أن القرآن الكريم قد جاء بالحرية التامة الكافلة لحقوق الناس جميعاً"(5).
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "هل هناك أعظم من التمدن الذي ورد في كتاب الله؟!" (6).
__________
(1) انظر: المصدر السابق(ص/93) .
(2) انظر: المصدر السابق.
(3) انظر: الدعوة في عهد الملك عبد العزيز(1/291) .
(4) انظر: المصحف والسيف(ص/86).
(5) انظر: المصدر السابق(ص/93).
(6) انظر: من وثائق الملك عبد العزيز للسبيت وزملائه(ص/315).(1/62)
ومن أقواله الحكيمة -رحمَهُ اللهُ- : "إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون ، لذلك أطلب من الجميع أن يخلدوا للراحة والطمأنينة ، وإني أحذر الجميع من نزغات الشيطان ، والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار ، فإني لا أراعي في هذا الباب صغيراً أو كبيراً ، وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره"(1) .
ومن شدة بسط الإمام المجدد الملك عبد العزيز لأحكام الله وشرعه -قولاً وعملاً- ، ونشر ذلك بين شعبة ؛ أصبح يتردد في كل مكان بين الناس في الحضر والبدو وفي القرى والمدن: "الحكم للشرع" ، "السارق تقطع يده" ، "القاتل يقتل" ، "عدل عبد العزيز" ، "التمسك بشريعة الإسلام" ، "الصلاة الصلاة".
بل لقد انتقلت هذه الكلمات إلى عامة المسلمين في جميع البلاد الإسلامية ، في الصحراء وفي المدن والدساكر(2) ، في أعماق بلاد المسلمين ، يهنئ بعضهم بعضاً، بسبب ما وصل إليه الأمن والأمان في البلاد المقدسة ، وعودة بلد من بلدان المسلمين -بل قلب العالم الإسلامي- إلى الحكم بكتاب الله ، ويتمنى أن تحذو بلاد المسلمين الأخرى حذو هذه البلاد(3).
لقد كان الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- قدوة للحكام المسلمين ، ومثالاً رائعاً يحتذى به ؛ بما علم وعمل وقدَّم ، فجزاه الله خير الجزاء ، ورفع مَنْزِلته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً.
الوجه الثالث
من أقوال الملك سعود بن عبد العزيز -رحمَهُما اللهُ-
__________
(1) المصحف والسيف(ص/217) .
(3) انظر: "الملك عبد العزيز آل سعود بين نصره لله ونصر الله له(ص/150) .(1/63)
لَما توفي الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- ، -وكما قال بعضهم-: " تسابق العلماء وأهل الفضل والإيمان والعلم يبايعون أبناءه الملوك بالملك وتولي أمر الدولة لأنَّ العلماء وأهل الحل والعقد لا يريدون إلا أبناء الملك عبد العزيز ولا يريدون سواهم لأنَّ أبناء الملك عبد العزيز لا يبحثون عن الملك ولكن الملك يبحث عنهم ويحتاجهم أما الشعب كله الوفي المخلص المؤمن صاح صيحة واحدة وبعين دامعة ورفعوا أصواتهم "الملك لله ثم لآل سعود"، لأنَّ أبناءه الملوك هم منابر ومصابيح الهدى وهم مفاتيحُ للخير مغاليقُ للشر وهم شموع تضيء لشعبهم الطريق وعدلهم يعم البلاد ويتساوى فيه الجميع وهم أمراء القلوب وأصحاب الأيادي البيضاء التي أعطت فغمرت وأعانت وأغنت الشعب عن البلاد الأخرى فكم من مريض ومحتاج ومديون فرجوا كربته وكم من مريض ومحتاج دعا لهم وهذا الذي جعل الناس يلتفون حولهم ويُحبونهم وكل يريد القرب منهم ويدافع عنهم ويُضحي بالنفس ليحموهم من الخطر الذي قد يعرض لهم ويدفعوا عنهم كل أذى ويذبوا عنهم الإساءة ويقفوا معهم في الشدائد ببسالة وتضحية، ودع الملك عبد العزيز هذه الدنيا وكانت مدة حكمه ثلاث وخمسين سنة وخمسة أشهر."
وقد قام الملك سعود -رحمَهُ اللهُ- بأعباء الملك حلفاً لوالده الإمام الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- فسار على خطى والده -رحمَهُ اللهُ- .
"وتَمَّ على يدي الملك سعود فتح الجامعة الإسلامية ، وكان في المناسبات يشكر الله على ما حبا به الشَّعب السعودي من نعمة التمسك بكتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- في السمع والطاعة ولزوم طريق أهل السنة والجماعة.(1/64)
ويَذكر أن أول ما يهم الجميع هو الاعتصام بحبل الله المتين ، واتخاذ الوسائل التي تمكن روح التوحيد الخالص في قلوب أفراد الشعب كافَّة ، حتى يخلص الجميع العبادة لله وحده ، والسير في ذلك بهدي الكتاب والسنة في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في كل مجال ، وعلى الأخص في المدارس ومراقبة ذلك، وحث الناس على كل ما يأمر به الشرع الإسلامي ومنعهم من كل ما ينهى عنه لأنَّ في ذلك خيري الدنيا والآخرة ، ولأنه شيء من الخير إلا أمر به الإسلام، وليس شيء من الشر إلا ينهى عنه الإسلام"(1).
الوجه الرابع
من أقوال الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ-
كان الملك فيصل -رحمَهُ اللهُ- ذا أفق واسع ، وجهد صادق في السير مع المسلمين والدول الإسلامية فيما يحقق للمسلمين جميعاً تضامنهم ، مما دعا الملك فيصل -رحمَهُ اللهُ- لتبني الدعوة إلى مؤتمر القمة الإسلامي في الرباط سنة 1389هـ ، ثم تلته مؤتمرات إسلامية أخرى.
وقد كان الملك فيصل -رحمَهُ اللهُ- لهجاً بالدعوة إلى التضامن الإسلامي ، والاجتماع على الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح كما كان هذا دأب والده وأخيه قبله -رحمَهم اللهُ-.
ففي الكلمة الافتتاحية لإذاعة المملكة العربية السعودية ، وكان افتتاحها الساعة الواحدة بعد ظهر يوم الأحد التاسع من ذي الحجة عام 1368هـ وكانت من الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- وقرأها ابنه الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- وجاء فيها : "أحمد الله الذي جعل هذا البلد الحرام مثابة للناس وأمناً ، أحمده وأشكره ، والشكر لنعمائه أن يسرَّ للناس حج بيته العتيق ، وجعل قلوبهم تهفوا إليه ، ليشهدوا منافع لهم ، وتتآلف قلوبهم بذكر الله في هذه البقاع الطاهرة التي كانت مَنْزلاً للوحي لهدي الناس أجمعين ، وأصلي على رسول الله الذي بعثه بالهدى ودين الحق ، وبعد:
__________
(1) انظر: تاريخ الدولة السعودية لأمين سعيد(3/17-18) .(1/65)
فإنه ليسرنا أن نخاطب إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من هذا البلد الحرام في هذا اليوم المبارك ، ونتناصح ونتواصى بالبر والتقوى ، وندعو الجميع للتمسك بكتاب الله وإخلاص العبادة له"(1).
قال الملك فيصل -رحمَهُ اللهُ- : "ونحن لسنا في حاجة إلى استيراد تقاليدنا من الخارج ، وقد كان لنا تاريخ مجيد ، وقدنا العالم ، ونحن لنا أجداد وأمجاد وتاريخ وتراث ، فلماذا نتنصل من هذا ونلتفت يميناً وشمالاً نتلمس الطريق ونتلمس المبادئ ، تراثنا أشرف تراث ، وتاريخنا أشرف تاريخ ، وأمتنا خير أمة أخرجت للناس ، ونحن لا نقبل أبداً أن يقال عن ديننا وعن شريعتنا : إنه دين التأخر والجمود ، نحن نريد لأمتنا أن تكون قائدة لا مقودة ، وأن تكون في المقدمة لا في المؤخرة ، وبإمكاننا أن نتقدم ونمسك الأمر إذا اتبعنا كتاب الله وسنة نبيه -- صلى الله عليه وسلم -- "(2).
"ومن ضمن ما تدعو إليه مفاوضات الملك فيصل مع رؤساء الدول الإسلامية هو التمسك برسالة الإسلام الخالدة نصاً وروحاً.
وقام الملك فيصل برحلات إلى الأقطار الإفريقية والآسيوية وبعض الدول العربية لشرح وجهة نظر المملكة من منطلق إسلامي تجاه الخطر الصهيوني على العرب والمسلمين"(3).
وقال -رحمَهُ اللهُ- في خطبته في حج عام 1384هـ: "وهو سبحانه وتعالى إنما رضي لنا العزة والكرامة والقوة إذا نحن أخلصنا العبادة وتمسكنا بما أمرنا به سبحانه وتعالى واتبعنا سبيل نبينا صلوات الله وسلامه عليه"
__________
(1) انظر: الملك عبد العزيز والنقلة الحضارية للجزيرة العربية-مجلة الفيصل(عدد252/ص28) .
(2) تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط(ط1 عام1394/ص289-290) .
(3) انظر: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي(2/354-355) .(1/66)
وقال في خطبته تلك : "وأن شريعتنا هي المحققة للعدالة وللحريَّة والمساواة وللمحبة والأخوة"(1) .
وما زال يدعو إلى تحكيم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح حتى لقي ربَّه نسأل الله أن يتقبله شهيداً ، وأن يتغمده بواسع رحمته.
الوجه الخامس
من أقوال الملك خالد بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ-
كان الملك خالد -رحمَهُ اللهُ- فاضلاً متواضعاً ، ذا سجايا حسنة وأخلاق فاضلة، ورافق كبار تلاميذ الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمَهُ اللهُ- في الدراسة؛ كالشيخ عبد الله بن حميد .
وكان مما أعلنه الملك خالد في أول جلسة لمجلس الوزراء بعد توليه الْمُلك : شعوره بِعِظَمِ المسؤولية ، ومشقتها التي تحملها هو وأعضاء حكومته ، وبيَّن أن الواجب هو الاستعانة بالله وحده ، والحرص على بذل المجهود ، والاهتمام بكل ما من شأنه إسعاد هذه الأمة وحفظ دينها وإصلاح دنياها ، وبيَّن أن البلاد السعودية ليست مثل بلاد العالم من الناحية الإسلامية ؛ لأنَّ كل المسلمين يتطلعون إليها ، وأن أهل هذه البلاد مغبوطون بشريعة الله، وسنة رسوله، كما هم مغبوطون بثروتهم المادية"(2) .
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "كانت الشريعة الإسلامية ، وستظل -إنْ شَاءَ اللهُ- الراية التي نستظل بها ، والمنطلق الذي نسير منه ، والهدف الذي نسعى إليه ، نحتكم لمبادئها ، ونستضيء بنبراسها ، ونعض عليها بالنواجذ ، لا تأخذنا فيها لومة لائم ، ولا تصدرنا عنها عراقيل الزمن ، نجد فيها جوهر العدل ، والعدل أساس الملك"(3) .
__________
(1) انظر: مجلة البحوث الإسلامية/العدد الأول(ص/26).
(2) انظر: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي(2/355-356).
(3) انظر: مجلة البحوث الإسلامية/العدد الأول (ص/8) .(1/67)
وفي عهده -رحمَهُ اللهُ- صدر المرسوم الملكي رقم1/137 في 8/7/1391هـ بتأليف هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة المتفرعة من الهيئة ، ويتضمن المرسوم تكوين الهيئة من عدد من كبار المتخصصين في الشريعة الإسلامية من السعوديين، ويجري اختيارهم بأمر ملكي ، ويجوز عن الاقتضاء وبأمر ملكي إلحاق أعضاء بالهيئة من غير السعوديين ممن تتوفر فيهم صفات العلماء السلفيين.
وتتولى الهيئة إبداء الرأي فيما يحال إليها من ولي الأمر من أجل بحثه وتكوين الرأي المستند إلى الأدلة الشرعية فيه كما تقوم بالتوصية في القضايا الدينية المتعلقة بتقرير أحكام عامة ليسترشد بها ولي الأمر .."
وقد صدر الأمر الملكي رقم1/138 في 8/7/1391 بتعيين سبعة عشر عضواً في هيئة كبار العلماء وهم أصحاب الفضيلة المشايخ :
"محضار عقيل . عبد الرزاق عفيفي . محمد الأمين الشنقيطي. عبد الله خياط. عبد الله بن حميد. عبد العزيز بن باز. عبد العزيز بن صالح. عبد المجيد حسن. محمد الحركان. سليمان بن عبيد. إبراهيم بن محمد آل الشيخ. صالح بن غصون. راشد بن خنين. عبد الله بن غديان. محمد بن جبير. عبد الله بن منيع. صالح بن لحيدان"(1).
ومن خدمته -رحمَهُ اللهُ- للعلم ، وحرصه على نشر العقيدة الصحيحة خطاب الشكر الذي وجهه إلى الشيخ عثمان الصالح بمناسبة صدور العدد الأول من "مجلة البحوث الإسلامية" جاء فيه :
"سعادة الأستاذ عثمان الصالح
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد اطلعنا على العدد الأول من مجلة البحوث الإسلامية وكان إصدارها جيداً يدل على العمل الجاد المفيد في خدمة العلم والبحث والثقافة.
ونود أن نشكركم وجميع القائمين معكم على ما تبذلونه من الجهود الموفقة لخدمة العلم ورائديه.
راجين للجميع التوفيق والسداد لما فيه خير ديننا وأمتنا . والله يحفظكم.
__________
(1) انظر: مجلة البحوث الإسلامية/العدد الأول عام1395هـ(ص/16-17).(1/68)
خالد بن عبد العزيز"(1).
وما زال الملك خالد -رحمَهُ اللهُ- يدعو إلى تحكيم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح حتى لقي ربَّه نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته.
الوجه السادس
من أقوال خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز –حفظه الله-
لقد سار خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- على طريقة والده وإخوانه الملوك في إعلان التحاكم إلى الكتاب والسنة، وتطبيقهما على منهج السلف الصالح.
وكان -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- عالي الهمة ، قوي الإرادة والعزيمة ، فصيح العبارة، حلو الكلمة ، "بينه وبين الكلمة ألفة ورفع كلفة ، وهو محدث لَبِقٌ ، يخطر على الخطابة والارتجال بمطارف الْمُلْهَمين ، ويلهو بمآزقها على عافية"(2).
وكان خادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- يلهج دائماً بذكر العقيدة الصحيحة، ويدعو إلى تطبيقها ، والعمل بها والدعوة إليها .
وما من مناسبة يوجه فيها خادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- خطاباً للأمة أو كلمة خاصة أو عامة إلا وشدد على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- .
ولم يكن ذلك منه -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- قولاً بلا عمل ، وأماني بلا وقائع وحقائق.
وتتبع إنجازات خادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- تعجز عن حصرها الكتب والأبحاث ، ودلائلها ظاهرة واضحة ، لا ينكرها إلا جاحد معاند ، ولا يتعامى عنها إلا غوي مارق مارد.
__________
(1) انظر: مجلة البحوث الإسلامية/العدد الثاني(ص/6).
(2) انظر: خادم الحرمين الشريفين الملك فهد السيرة والمسيرة للخريجي(ص/246) .(1/69)
وقد سبق ذكر قول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود –حفظه الله- "إن دستورنا في المملكة العربية السعودية هو كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- الذي لا ينطق عن الهوى ، ما اختلفنا في شيء إلا رددناه إليهما وهما الحاكمان على كل ما تصدره الدولة من أنظمة ، إننا ثابتون بحول الله وقوَّته على الإسلام نتواصى بذلك جيلاً بعد جيل ، حاكماً بعد حاكم".
وقال-حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- في كلمة له في وفود الحجيج يوم الخميس 6/12/1402هـ: "قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(1).
ويقول الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- : ((تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)) (2)
ويقول الخليفة عمر -- رضي الله عنه -- : "إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نلتمس العزة بغيرة"(3)
إن أهمية الحكم بكتاب الله وسنة رسوله كبيرة ، ومن لم يحكم بكتاب الله وينفذ ما أمر الله به فسوف يكون هالكاً وسوف يكون الخاسر في الدنيا والآخرة"(4).
__________
(1) سورة آل عمران(آية/110).
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده(4/126) ، وابن ماجه في سننه(1/16رقم43) ، وابن أبي عاصم في السنة(1/26-27رقم48)، والطبراني في المعجم الكبير(18/247رقم619) ، وأبو نعيم في المستخرج على صحيح مسلم(1/36) ، والحاكم في المستدرك(1/175)، وفي المدخل(ص/81)، وغيرهم وسنده حسن ، وهو حديث صحيح.
(3) رواه هنَّاد بن السَّرِيّ في الزهد(2/417) ، وابن أبي شيبة في المصنف(7/10، 93) ، والحاكم في المستدرك(1/130) وغيرهم وسنده صحيح.
(4) انظر: وثائق للتاريخ ، وزارة الإعلام(ص/33).(1/70)
وقال خادم الحرمين الشريفين –حفظهُ اللهُ- في كلمة ألقاها بمناسبة صدور النظام الأساسي للحكم بتاريخ 27/8/1412هـ : "حَرِصَ الملك عبد العزيز على إنفاذ منهج الإسلام في الحكم والمجتمع ، مهما كانت الصعوبات والتحديات"(1) .
وقال –حفظه الله- ضمن خطابه في افتتاح المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز في شهر بيع الأول عام 1406هـ -عن والده الإمام المجدد عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- : "يشهد التاريخ أن تطبيق الشريعة الإسلامية كان مبدأ أساسياً في حياته -رحمَهُ اللهُ-... ، وبذلك عَرَفَتْ هذه البلاد تحكيم الشريعة الإسلامية الخالدة في الدقيق والجليل ، وأصبحت مثالاًَ صادقاً في استتباب الأمن والاستقرار"(2).
ومن أقواله وهو في ولاية العهد قبل تسلمه زمام الْمُلك خلفاً لأخيه الملك خالد -رحمَهُ اللهُ- لَمَّا سئل عما يتمناه لأكبر أبنائه وهو ما يتمناه لأبناء أمته : "أريده كأبيه ، كجده ، كأعمامه ، كسيوف أسرته ، كلها مشهرة لخدمة الله ، والأرض ، والناس ، وأريد منه أن ينقل ذلك لأبنائه: ثم قال: "رضاي من رضا ربي علي ، وويلي وويل أبي –كما كان يدعو اللهَ عمرُ بنُ الخطاب خليفة المسلمين- إن لم يغفر لي ربي أو لم يرض عني"(3).
وقال -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : "والعلاقة بين الحاكم والمحكوم محكومة أولاً وأخيراً بشرع الله كما جاء في كتابه الكريم ، وسنة نبيه -- صلى الله عليه وسلم --"(4).
__________
(1) انظر: الملك عبد العزيز والنقلة الحضارية للجزيرة العربية-مجلة الفيصل(عدد252/ص28).
(2) انظر: مجلة الدارة-شهر رجب عام 1406هـ (ص/9-10) .
(3) انظر: مجلة البحوث الإسلامية/العدد الأول(ص/30-31).
(4) انظر: فكر القائد(ص/185).(1/71)
وقال خادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- في كلمة وجهها من جوار الكعبة المشرفة للمواطنين بمناسبة عيد الفطر المبارك : " أيها الإخوة في الله لا بد لنا من في هذه المناسبة الإسلامية العظيمة من وقفة صادقة نراجع فيها أعمالنا ، ونحاسب فيها أنفسنا ، ونتبصر فيها شؤون ديننا ودنيانا فكلنا يعلم أن الأمة الإسلامية تواجه اليوم أعنف التحديات من أعدائها وتمر في مرحلة دقيقة من تاريخها ، ولا نرى سبيلاً يوصلنا إلى تحقيق أمانينا والتغلب على كيد أعدائنا إلا سبيل العودة إلى الله بالتمسك بكتابه وهدي نبيه"(1).
ومن خدمته - حفظه الله - للعلم ، وحرصه على نشر العقيدة الصحيحة خطاب الشكر الذي وجهه إلى الشيخ عثمان الصالح بمناسبة صدور العدد الأول من "مجلة البحوث الإسلامية" وكان ولياً للعهد يومئذ- جاء فيه :
"يسرني بمناسبة إصدار العدد الثاني من "مجلة البحوث الإسلامية"..
أن أشيد بما قدمت المجلة من مواد وبحوث مفيدة في عددها الأول ، راجياً أن يوفق الله أمتنا الإسلامية لكل ما من شأنه عزتهم وكرامتهم التي تكمن في تمسكهم بعقيدتهم الإسلامية.
وخاصة في هذا الوقت الذي يقف فيه معظم بني الإنسان على مفترق الطرق.
بسبب النشاط المتزايد يوماً بعد يوم من قوى الإلحاد التي تسيرها الصهيونية..
باذلة كل جهد في سبيل التشكيك في القيم الروحية وخاصة العقيدة الإسلامية.
وإنني بهذه المناسبة أهيب بعلماء المسلمين ورجال الفكر ..
أن يضاعفوا جهودهم وجهادهم في الدعوة إلى الله في كل مجال ومكان ؛ امتثالاً لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(2) ...
راجياً الله تعالى أن يجنب أمتنا كل مكروه في أن ينير بصيرتهم
ليروا الحق حقاً ويسلكوه..
ويروا الباطل باطلاً ويجتنبوه..
إنه سميع مجيب.
__________
(1) انظر: "فهد الوطن" لحامد عباس(ص/57) .
(2) سورة العنكبوت(آية/69).(1/72)
فهد بن عبد العزيز آل سعود "(1)
وجهوده في خدمة كتاب الله ، والعلم والتعليم ، والدعوة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي مختلف المجالات الداخلية والخارجية كثيرة لا تحصى ، وظاهرة لا تخفى ، ومذكورة لا تنسى.
حفظهُ اللهُ ورعاه ، وسدد على الحق خطاه ، ووفقه وجميع إخوانه وعماله لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
وعلى ما نقلتُه عن ملوك هذه الدولة المباركة سار بقية أبناء الإمام الجدد الملك عبد العزيز -رحمهُ اللهُ- فمن ذلك:
قال الأمير نايف -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : "ولا تدرك صعوبة ما بذل من جهد لبلوغ هذه الغاية إلا بالموازنة بين حال الجزيرة العربية قبل الملك عبد العزيز وبعده، فقد تآلفت شرائح المجتمع بلداناً وقبائل وانصهرت في بوتقة وطنية واحدة باحتكامها إلى الشرع الحنيف، ومفارقتها كل العادات والتقاليد التي تخالف شرع الله، حتى استرعى الأمن الذي تعيشه البلاد انتباه المتابعين من جميع أنحاء العالم، الذين عدَّوه حالة فريدة، تستحق أن تكون مضرباً للمثل، ونموذجاً يستوجب الاحتذاء"
ثم قال -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-: "وقد استطاع الملك عبد العزيز أن يقيم دولة عصرية ثابتة الأركان عزيزة الجانب تتمسك بالإسلام منهجاً للحياة مقدماً الدليل الحي على أنَّ الإسلام ديون ودولة، وأنَّ ما تحقق من انسجام وتوَحُّد بين أبناء هذه البلاد ما كان ليتم إلا على منهج الإسلام الذي لا يعرف التحوُّل والتبدُّل"(2)
__________
(1) -انظر: مجلة البحوث الإسلامية/العدد الثاني(ص/6).
(2) انظر: "وزارة الداخلية النشأة والتطور" كلمة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية(ص/6-7).(1/73)
وقال الأمير نايف بن عبد العزيز -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : " نحن سلفيون بمنطلقاتها وليس باجتهادات عالم، والكاتب عندما يكتب يجب عليه أن يتفقه بذلك الأمر ويحيط به، وإذا لم يكن متمكناً فخير له أن يترك أهل العلم يتحدثون ويتفرغ هو لما يمكن أن يلم به ويكتب عنه من أمور أخرى، والسلفي لا يقتصر على صاحب مذهب معين، فكل صاحب مذهب هو سلفي بالحجة التي منبعها القرآن الكريم والسنَّة المطهرة".
تنبيه: نقلت فيما سبق جملة من أقوال الإمام المجدد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمَهُ اللهُ- ، ومن أقوال أبنائه البررة ؛ ما يبين أن الدَّولة السعودية قامت على الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح ، وأنها دولة تحكم بالشرع وتدعو إلى ذلك ، وأردت التنبيه هنا إلى أن هناك أقوال كثيرة لم أذكرها من باب الاختصار ، وثمَّة أقوال لعدد من أمراء آل سعود -حفظهُم اللهُ ووفقهم- لم أذكرها من باب الاختصار ، وثَمَّة أعمال تدل على أصالة المنهج في الدولة السعودية ، وأن تلك الأعمال منبثقة من النظام الأساسي للحكم والمبني على الكتاب والسنة ، وسأبين هذا الأمر بشيء من التفصيل في المبحث الثالث -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- وبالله التوفيق.
الوجه السابع
شهادة أهل العلم والفضل
"وكبار العلماء في هذه البلاد المملكة العربية السعودية هم النجوم المضيئة للأمة الإسلامية وهم نجوم الحق وكواكب الهدى وإشراقات القلوب، وزكى النفوس، وهم الصفوة الأولياء، والأزكياء أحياء الله بهم قلوباً ميتةً فكم من ضال هدوه بإذن الله وكم من تائه هدوه إلى سبيل الرشد وهم أصحاب القلوب الصافية. "(1)
وقد سبق أن ذكرتُ في التمهيد بعض كلام العلماء في الثناء على هذه الدولة المباركة أعيده بشيء من الاختصار مع الزيادة على ما سبق .
جاء في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي عام المملكة -رحمهُ اللهُ- :
__________
(1) انظر: أسد الجزيرة(ص/63) .(1/74)
"(4033- الحكومة السعودية لم تحكم بقانون وضعي مطلقاً )
من محمد بن إبراهيم إلى سعادة وكيل وزارة الخارجية .......... سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد:
فقد جرى الإطلاع على خطابكم رقم 31/1/2/2758/3 وتاريخ 2/3/86 ومشفوعه خطاب سفارة جلالة الملك في القاهرة بخصوص استفسار محكمة عابدين للأحوال الشخصية عن حكم القانون السعودي فيما يتعلق بنفقة الصغار، ونرغب منكم إشعار هذه المحكمة أن الحكومة السعودية أيدها الله بتوفيقه ورعايته لا تحتكم إلى قانون وضعي مطلقاً ، وإنما محاكمها قائمة على تحكيم شريعة الله تعالى أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو انعقد على القول به إجماع الأمة ، إذ الاحتكام إلى غير ما أنزل الله طريق إلى الكفر والظلم والفسوق ، قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}.
وقال تعالى : {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ {49} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(1) ..."
مفتي البلاد السعودية ( ص/ ف 3460/1 في 21/11/1386 ) .
وقال -رحمهُ اللهُ- : " فحكومتنا بحمد الله شرعية دستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلي الله عليه وعلى اله وصحبه وسلم"(2)
__________
(1) سورة المائدة(آية/49-50).
(2) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم(12/341-منسوخة على الوورد).(1/75)
وقال -رحمهُ اللهُ- : " وعليه نشعركم أن الذي يتعين على المحكمة هو النظر في كل قضية ترد إليها بالوجه الشرعي ، وهذا ولا بد هو الذي يريده جلالة الملك ورئيس مجلس الوزراء حفظه الله ووفقه ، وهو دستور دولته الذي يحرص دائماً على التمسك به وعدم مناقضته أو الحكم بخلافه . والله يحفظكم"(1) .
وقال شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز -رحمَهُ اللهُ- : "الملك عبد العزيز نفع الله به المسلمين وجمع الله به الكلمة ورفع به مقام الحق ونصر به دينه وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحصل به من الخير العظيم والنعم الكثيرة ما لا يحصيه إلا الله -عزَّ وجلَّ- ثم أبناؤه بعده حتى صارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والبعد عن البدع والخرافات وهذه الدولة السعودية دولة مباركة وولاتها حريصون على إقامة الحق وإقامة العدل ونصر، المظلوم وردع الظالم واستتباب الأمن، وحفظ أموال الناس وأعراضهم فالواجب التعاون مع ولاة الأمور في إظهار الحق وقمع الباطل والقضاء عليه حتى يحصل الخير"(2).
__________
(1) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم(12/270-منسوخة على الوورد).
(2) من شريط مسجل موجود لسماحته في 29/4/1417هـ. بعنوان "حقوق ولاة الأمر على الأمة".(1/76)
وقال سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز -رحمهُ اللهُ- : "وليست الحكومة السعودية متصلبة إلا ضد البدع، والخرافات للدين الإسلامي، والغلو المفرط الذي نهى عنه الرسول-- صلى الله عليه وسلم -- ، والعلماء والمسلمون بالسعودية وحكامهم يحترمون كل مسلم احتراما شديدا ، ويكنون لهم الولاء والمحبة والتقدير، من أي قطر أو جهة كان، وإنما ينكرون على أصحاب العقائد الضالة ما يقيمونه من بدع وخرافات وأعياد مبتدعة، وإقامتها والاحتفال بها، مما لم يأذن به الله ولا رسوله، ويمنعون ذلك؛ لأنه من محدثات الأمور وكل محدثة بدعة، والمسلمون مأمورون بالاتباع لا بالابتداع، لكمال الدين الإسلامي واستغنائه بما شرعه الله ورسوله -- صلى الله عليه وسلم -- ، وتلقاه أهل السنة والجماعة بالقبول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ومن نهج نهجهم"(1) .
وسئل -رحمَهُ اللهُ- : بعض الإخوة هداهم الله لا يرى وجوب البيعة لولاة الأمر في هذه البلاد ما هي نصيحتكم يا سماحة الوالد ؟
فقال الشيخ –رحمه الله- : "ننصح الجميع بلزوم السمع والطاعة كما تقدم والحذر من شق العصى والخروج على ولاة الأمور بل هذا من المنكرات العظيمة بل هذا دين الخوارج ، هذا دين الخوارج ، ودين المعتزلة .
الخروج على ولاة الأمور والسمع والطاعة لهم في غير المعصية هذا غلط ، خلاف ما أمر به النبي -- صلى الله عليه وسلم --.
النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالسمع والطاعة بالمعروف وقال: ((من رأى من أميره شيئاً من معصية الله ؛ فليكره ما يأت من معصية الله ، ولا يَنْزعن يداً من طاعة)) (2)
وقال: ((من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاضربوا عنقه)) (3)
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة(1/229-230)
(2) رواه مسلم في صحيحه(3/1482رقم1855) من حديث عوف بن مالك -- رضي الله عنه --.
(3) رواه مسلم في صحيحه(3/1480رقم1852) من حديث عرفجة -- رضي الله عنه --.(1/77)
فلا يجوز لأحد أن يشق العصى أو أن يخرج عن بيعة ولاة الأمور أو يدعو إلى ذلك فإن هذا من أعظم المنكرات ومن أعظم أسباب الفتنة والشحناء والذي يدعو إلى ذلك هذا، هذا هو دين الخوارج إذا شاقق يقتل لأنه يفرق الجماعة ويشق العصى .
فالواجب الحذر من هذا غاية الحذر ، والواجب على ولاة الأمور إن عرفوا من يدعو إلى هذا أن يأخذوا على يديه بالقوة حتى لا تقع الفتنة بين المسلمين".
قال سماحة الإمام عبد العزيز بن باز منكراً على من أراد الخروج على هذه الدولة بقول أو فعل: "وهذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها، وإنما الذي يستبيحون الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج ، الذين يكفرون المسلمين بالذنوب، ويقاتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان، وقد قال فيهم النبي-- صلى الله عليه وسلم --إنهم: (( يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)) وقال: (( أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة )) متفق عليه. والأحاديث في شأنهم كثيرة معلومة"(1).
وقال الإمام عبد العزيز بن باز – رحمه الله - : "ولا ريب أن بلادنا من أحسن البلاد الإسلامية وأقومها بشعائر الله على ما فيها من نقص وضعف"(2).
وقال -رحمه الله وغفر له- في "بيان حقوق ولاة الأمور على الأمة بالأدلة من الكتاب والسنة، وبيان ما يترتب على الإخلال بذلك" ومحذراً من الدعوات الباطلة والضالة واصفا أصحابها بأنهم دعاة شر عظيم : فكان مما قال : "صارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والإخلاص له، والبعد عن البدع والضلالات، ووسائل الشرك .."
__________
(1) مجموع فتاوى سماحته (4/91)
(2) مجموع فتاوى سماحته (4/162) .(1/78)
وقال: "وهذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق، ونصر بها الدين، وجمع بها الكلمة، وقضى بها على أسباب الفساد وأمّن الله بها البلاد، وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله، وليست معصومة، وليست كاملة، كلٌّ فيه نقص فالواجب التعاون معها على إكمال النقص، وعلى إزالة النقص، وعلى سد الخلل بالتناصح والتواصي بالحق والمكاتبة الصالحة، والزيارة الصالحة، لا بنشر الشر والكذب، ولا بنقل ما يقال من الباطل ...".
وقال الشيخ العلامة الفقيه محمد الصالح ابن عثيمين -رحمه الله- عن الدولة السعودية: "وهي من خير ما نعلمه في بلاد المسلمين تطبيقا للشريعة، وهذا أمر مشاهد".
وسئل الإمام محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - عمَّن يقول: إن أكثر الشر في بلد التوحيد مصدره الحكومة، وأن ولاتها ليسوا بأئمة سلفيين؟
فقال -رحمهُ اللهُ- : "ردنا على هذا أنهم كالذين قالوا للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه مجنون وشاعر وكما يقال: لا يضر السحاب نبح الكلاب، لا يوجد والحمد لله مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة وهي لا تخلو من الشر كسائر العالم، بل حتى المدينة في عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان فيها من بعض الناس شر... "
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مفتى عام المملكة حفظه الله : "المملكة العربية السعودية ومنذ نشأتها منذ ما يزيد على القرنين وهي ولله الحمد، دولة سلفية محكمة لشرع الله وسارت على هذا بخطى ثابتة مستمدة عونها من الله سبحانه ، ولا زالت ولله الحمد على هذا المنهج وقد نفع الله بها الإسلام والمسلمين في ميادين كثيرة جداً ... أما من يشكك في هذا ويشكك في منهج هذه الدولة المباركة فهذا إما جاهل أو أن في قلبه مرضا وليحذر المسلم أن ينساق وراء مثل هؤلاء فليس وراءهم إلا الفتنة وإثارة التنازع والشقاق"(1) .
__________
(1) جريدة الرياض العدد 12175 السنة 38 الأربعاء 08 شعبان 1422 .(1/79)
وقال معالي الشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : "إن المملكة العربية السعودية مملكة إسلامية ولله الحمد وبحق يحكمها نظام الإسلام وتحكم شريعة الإسلام وأصول عملها وأنظمتها مقيدة بأن لا تخالف الإسلام فإذا استنكرت مثل هذا العمل(1) فإنما تفعل ما تفعله من واقع دينها، ومن موقفها الإسلامي الذي تقف فيه لأنها دولة الحرمين، وبلاد منبع الرسالة، فلا غرو أن تستنكر الفواحش، وأن تستهجن إجرام المجرمين، وأن تندد بإيواء كلِّ مرتكب للإجرام أو يرضى بجرمه"(2) .
وقال الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان –حفظه الله-: ".. رأوا ما تعيشه بلادنا من الوحدة والتلاحم بين قادتها ، وبين أفرادها وجماعتها ، رأوا في بلادنا دولة إسلامية في عقيدتها ومنهجها ، تحكم بالشريعة وتقيم الحدود ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر."(3)
وقال الشيخ العلامة حمادٌ الأنصاريُ -رحمهُ اللهُ- : "من أواخر الدولة العباسية إلى زمنٍ قريب, والدول الإسلامية على العقيدة الأشعرية أو عقيدة المعتزلة, ولهذا نعتقد أن الدولة السعودية نشرت العقيدة السلفية عقيدةَ السلف الصالح, بعد مدةٍ من الانقطاع والبعد عنها إلا عند ثلةٍ من الناس" ا. هـ .
__________
(1) يشير إلى حادث تفجير برجي التجارة بنيويورك.
(2) سيأتي ذكر كلامه كاملاً في المبحث الخامس(ص/236).
(3) انظر: حقيقة الدعوة إلى الله تعالى- المقدمة-.(1/80)
وقال -رحمهُ اللهُ- : " أما العلمُ في آسيا -المقارنة بين العلماء في آسيا وإفريقيا: الحقيقة آسيا قبل هذه الدولة ما كان العلمُ في آسيا كما ينبغي قبل هذه الدولة، لأن هذه الدولة -دولة الملك عبد العزيز- هذه الدولة جاءت بخير كبير لآسيا أوّلاً ثم للعالم الآخر ثانيًا، وذلك أنه قبل هذه الدولة ما كان العلماء يُعنون بالتوحيد في آسيا كما يجب، وما كانوا -كذلك- يُعنون بالحديث كما ينبغي تطبيقًا، قد تجد العلماء قبل هذه الدولة يشتغل بعضهم بالحديث هنا في آسيا ولكنهم لا يطبِّقونه -لا يطبِّقون الحديث-، وإنما يعتمدون على مجرّد ما في المذهب -من المذاهب التي يتقيدون بها-، فهذا من ناحية.
وكذلك -أيضًا- ما كانوا يُعنون -أي: العلماء قبل هذه الدولة- ما كانوا يُعنون بالسيرة كما يجب، ولكن بتوفيق من الله عز وجل لما جاءت هذه الدولة -وهي الدولة السعودية التي نرجو أن تكون هي الطائفة المنصورة- لما جاءت هذه الدولة قامت بعمل عظيم، وهو أن هذه الدولة نبّهت العالم الإسلامي إلى أنّ العلم لا بدّ وأن يتركّز على شيئين:
أحدهما: العقيدة -وهي الأساس-.
وثانيًا: القرآن والسنة تطبيقًا، ما هو مجرد قراءة!
فلذلك الآن العلماء من أيام هذه الدولة إلى الآن -إن شاء الله إلى آخر الدنيا- يخالف وضعهم قبل هذه الدولة، حيث إنّ الدولة نشرت العقيدة السلفية، وكذلك أيضًا نشرت السنة النبوية، وكذلك أيضًا نبّهت الناس إلى أن القرآن يجب أن يدرَس كما درسه الصحابة وكما درَسه التابعون -رضي الله عن الجميع-. "(1)
__________
(1) انظر: المجموع في ترجمة العلامة المحدث الشيخ حماد بن محمد الأنصاري(2/826-827)(1/81)
وقال الشيخ مقبل بن هادي الوادعي -رحمَهُ اللهُ- : "فهذا الأمنُ الّذي ما شاهدتُه في بلَدٍ ، إنَّ سببه هو الاستقامة على كتاب الله ، وعلى سنَّة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، من المسؤولين، ومن كثير من أهل البلد، ... فالأمن نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، نعمة عظيمة من الله ، سببه الاستقامة على كتاب الله وعلى سنَّة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، فالأمر أنَّ الاستقامة .. لمَّا استقامت هذه البلاد -وبحمد الله- مكَّن الله لهم ، ... جمعيَّة حقوق الإنسان استقبلها كثير من النَّاس على ما فيها من الأباطيل، لماذا؟
لأن معناه : الحدود وحشيَّة ، ومعناه تعطيل الكتاب والسنة وإدخال الأنظمة من قبل أعداء الإسلام.
الحكومة السُّعوديَّة -وفقها الله لكل خير- استقبلتها بشرط أن تكون خاضعة للإسلام وللكتاب والسنة، هكذا أيضاً إقامة الحدود ، وإقامة الحدود كما يقول ربُّنا -عزَّ وجلَّ- في كتابه الكريم : {وَلَكُم في القِصَاص حياةٌ}(1)...من ذلك تمكين هيئة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ؛ فقد رأينا في جريدة أنَّ الملكَ فهداً -حفظه الله تعالى- أعطى للهيئة نحو "300" سيَّارة، وقال لهم : أنتم هيئة أمرٍ بالمعروف، و نحن هيئة ضبط، وأنتم المسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى، فجزاهم الله خيراً.
نعم! أحسنوا في هذا إلى بلدهم وإلى أمتهم وإلى دولتهم، إنه يجب على كلِّ مسلم في جميع الأقطار الإسلامية أن يتعاون مع هذه الحكومة ولو بالكلمة الطيِّبة؛ فإنَّ أعداءها كثيرٌ ، من الداخل ، ومن الخَارج "(2).
__________
(1) سورة البقرة(آية/179)
(2) شريط براءة الذمة.(1/82)
يقول رشيد رضا في مجلته المنار : "وأما معيد هذه النهضة -أي إحياء مذهب أهل السنة والجماعة الذي كان عليه السلف الصالح- ومجدد دولتها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود فهو على شدة تمسكه بالسنة ونشرها واسع الصدر عارف بحاجة الأمة العربية والشعوب الإسلامية إلى التعاون"(1) .
وقال علامة الجنوب الشيخ أحمد بن يحيى النجمي -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-: "إن محمد سرور ذلكم المارق؛ المبتدع؛ الضال؛ له كلام يفهم منه؛ تكفير الدولة السعودية, ويزعم أنهم محكومون لرئيس أمريكا؛ يقول هذا, وهو مقيم في لندن عاصمة دولة بريطانيا, فكر أخي!! من الأولى بالعبودية للكفار؟ ؛ هل هي الدولة المستقلة ببلدها, وحكومتها ودينها؟!! أم هو محمد سرور المقيم في بريطانيا؛ الخاضع لها والمستجير بها, والمستجدي منها, والحكم للقارئ.
أما العلماء في السعودية فهو يسميهم عبيد عبيد عبيد العبيد, ويقول إن علماء السعودية؛ يأخذون, ولا يستحون ويقول: إن مهمة العالم في السعودية؛ كمهمة قائد الشرطة؛ لا تختلف عنها؛ أي أن مهمة العالم تنفيذ الأوامر فقط.
وأقول: سبحانك ربي ما أعظم نعمة الحياء, وما أعظم نعمة الإيمان؛ إني لأتعجب من هذه الجراءة على الكذب, والبهت, وعدم الاستحياء ولو من الله؛ إذا كان هذا المفتري قد انعدم حياؤه من الناس.
__________
(1) انظر: عناية الملك عبد العزيز بالعقيدة السلفية ودفاعه عنها (ص/27)(1/83)
إن الدولة السعودية تجل علماءها, وتبجلهم وتحترمهم؛ بما لم يكن في دولة من الدول, ولا في بلد من البلدان قط؛ حتى أن رئيس الدولة ليزور كبارهم في بيوتهم ولقد زار الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله الشيخ ابن باز, وزار الملك فهد حفظه الله ابن عثيمين في بعض السنوات حين زار القصيم, وكذلك ولي العهد حفظه الله , ومع ذلك فالدولة تحكم شرع الله في محاكمها, وتحكِّم هيئة كبار العلماء ؛ في بعض الأمور المستعصية, وتأخذ بما وجههم كبار العلماء إليه؛ من شرع الله عز وجل"(1) .فهذا كلام بعض أهل العلم الكبار في الثناء على هذه الدولة وبيان أنها دولة إسلامية قائمة على الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح.
فتبين بما سبق ذكره من الأدلة والبراهين أن الدولة السعودية دولة إسلامية سلفية، قامت على كتاب الله ، وسنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- على منهج السلف الصالح .
وأن نظام الحكم في الدولة السعودية هو القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وأن الحكم فيها بما أنزل الله ، وأن ملوكها والقائمون عليها يصرحون بذلك ، ويدعون إليه سائر الأمم .
وأن ما سبق ذكره هو الواقع المشاهد ، وهو ما يلهج به كبار العلماء والفضلاء من أهل السنة ، ولا ينكر هذا الأمر إلا حاقد أو حاسد .
ولا يعني هذا عصمتها من الزلل والخطأ والتقصير ، فهذا طبع البشر ، ولا عصمة لأحد من البشر بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
أسأل الله أن يحفظ هذه البلاد من كيد الكائدين ، وعبث العابثين ، وحقد الحاقدين .
وأسأله تعالى أن يتم على هذه البلاد نعمه ، وأن يصلح جميع أحوالها ، وأن يوفق قادتها لكل خير وصواب.
والله الموفق
المبحث الثالث
جهود الدولة السعودية في نصرة العقيدة السلفية ونشر التوحيد
تَمْهِيد
__________
(1) الفتاوى الجلية عن المناهج الدعوية ص (39-40)(1/84)
إنَّ جهود الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- في نصرة العقيدة السلفية ، ونشر التوحيد ، وما تبذله من مال ، وما تعده من رجال لذلك من أبرز ما يميِّز هذه الدولة المباركة ، وهو مما شهد لها به القاصي والداني ، والقريب والبعيد ، والعدو والصديق.
وقد تنوعت مجالات نصرة هذه الدولة المباركة للتوحيد والعقيدة ، وتعددت الوسائل والطرق:
فمن خدمة لكتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- .
فخدمت كتاب الله تفسيراً ، وترجمة ، وتسجيلاً ، ونشراً "وسيأتي هذا في المبحث الرابع -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- ".
وخدمت سنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ تحقيقاً ، وشرحاً ، وطباعة ، ونشراً.
واشتدت عناية هذه البلاد بالعقيدة السلفية ، وبالتوحيد الخالص ؛ تدريساً وتعليماً ، ونشراً وتوزيعاً ، وبعثاً للعلماء والدعاة ، وإكراماً للعلم وأهله.
وسأذكر أوجهاً تبين عناية هذه الدولة المباركة بالعقيدة السلفية ، ونصر التوحيد الخالص وتوضيحه وبيانه .
وأسأل الله العون والتوفيق والسداد.
الوجه الأول
اتخاذ العقيدة السلفية منهجاً وأساساً للحكم
سبق أن ذكرت في المبحث الثاني أن "المملكة العربية السعودية" -حَرَسَهَا اللهُ- تحكم شرع الله ، وقام نظام حكمها –وما زال- على كتاب الله، وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- .
وذكرت عدة أدلة وبراهين على ذلك اشتملت على ذكر نصوص من نظام الحكم وأنه مشتمل على أن نظام الحكم في البلاد هو كتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- .
فمن ذلك : ما جاء في أول نظام وضع للملكة حيث كانت مادته من إملاء الإمام المجدد الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- بمكة سنة 1345هـ وقد جاء فيه: "5- جميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح"(1).
__________
(1) - الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز(ص/90-91).(1/85)
وجاء في الموسوعة العربية العالمية(16/96) : "اختارت الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز شكل وشعار الدولة وعلمها الحاليين ، وقام دستور الدولة على القرآن ، ويقوم الحكم فيها على تطبيق أحكام الشرع الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما أثر عن الصحابة وتابعيهم بإحسان وما عليه الأئمة الأربعة وصالح سلف الأمَّة ، وتطبق الدولة في المعاملات والأحوال الشَّخصيَّة المشهور من مذهب الحنابلة".
يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : "إن دستورنا في المملكة العربية السعودية هو كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- الذي لا ينطق عن الهوى ، ما اختلفنا في شيء إلا رددناه إليهما وهما الحاكمان على كل ما تصدره الدولة من أنظمة ، إننا ثابتون بحول الله وقوَّته على الإسلام نتواصى بذلك جيلاً بعد جيل ، حاكماً بعد حاكم"(1) .
وذكرت نماذج من أقوال قادة هذه البلاد المباركة تبين التزامهم بالكتاب والسنة على منهج السلف علماً وعملاً ، ونظاماً وحكماً .
فمما لم أذكره :
قال الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- : "آمر بما أمر به الإسلام ناهٍ عمَّا نهى عنه الإسلام ، غير منتصر لآبائي وأجدادي ، أو لنعرة جاهلية أو لِمذهب من المذاهب غير الكتاب والسنة"(2).
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "إنني -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- أحبُّ أن يكون دين الله منصوراً، وكلمته هي العليا ، ودينه هو الظاهر ، وأنَّ الله تعالى يديم علينا وعليكُم نعمة التَّوحيد"(3).
__________
(1) انظر: اتخاذ القرآن أساساً لشؤون الحياة والحكم(ص/51) .
(2) مجلة اليمامة ، قضية الأسبوع –عدد280 ذو الحجة عام 1404هـ (ص/7) .
(3) انظر: من وثائق الملك عبد العزيز (المقدمة) .(1/86)
وقال الملك خالد -رحمَهُ اللهُ- عند ترأسه اجتماعا لمجلس الوزراء بعد وفاة الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- بأسبوع واحد وذلك في 19/3/1395هـ : "بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، بعد:
أيها الإخوة أعضاء مجلس الوزراء إن المسؤولية التي تحملناها عظيمة وشاقة ، وأن واجبنا الاستعانة بالله وحده ، والحرص على بذل كل الجهود في سبيل إنجاز أعمالنا ومراقبة الله في كل خطوة تخطوها ، والاهتمام بكل ما من شأنه إسعاد هذه الأمة ، وحفظ دينها ، وإصلاح دنياها . هذا وسيتم -إنْ شَاءَ اللهُ- إصدار بيان شامل يوضح سياسة المملكة في الداخل والخارج والله الموفق."
وقد رد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- لما كان ولياً للعهد-
بكلمة قال فيها : "أرجو يا جلالة الملك أن أكون وإخواني أعضاء المجلس عند حسن ظن جلالتكم بنا في جميع الأمور سواء ما كان منها ما يتعلق بأمور الدولة أو ما يتعلق بنا من الناحية الشخصية.
إننا نأمل أن نوفق إلى رضا الله أولاً قبل كل شيء ، ثم رضا جلالتكم ، ونأمل أن نوفق لأداء الواجب كما رسمه لنا مؤسس هذه الدولة جلالة الملك عبد العزيز، وجلالة الملك فيصل طيب الله ثراه ، ثم جلالتكم ، ونرجو من الله أن يهدينا طريق الصواب وهو القادر على ذلك"
ثم عقَّب الملك خالد بن عبد العزيز بكلمة قال فيها: "إن ثقتي فيكم كاملة ، وسأقدم لكم كل الدعم والمساعدة لتمكينكم من أداء مسؤولياتكم الجسيمة... وإن العالم بأسره يطلع اليوم إلى هذه البلاد لِما حباها الله من نعمة في الثروة وتمسك بالشريعة الإسلامية"(1).
__________
(1) انظر: مجلة البحوث الإسلامية-العدد الأول(ص/449-450) .(1/87)
وقال الملك خالد بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- في خطاب –تلاه الملك فهد- مبيناً سياسة "المملكة العربية السعودية" الخارجية والداخلية : "وفي المجال الداخلي كانت الشريعة الإسلامية ، وستظل -إنْ شَاءَ اللهُ- الراية التي نستظل بها ، والمنطلق الذي نسير منه ، والهدف الذي نسعى إليه ، نحتكم لمبادئها ونستضيء بنبراسها ونعض عليها بالنواجذ لا تأخذنا فيها لومة لائم ، ولا تصدنا عنها عراقيل الزمن ، نجد فيها جوهر العدل ، والعدل أساس الملك ، وتدفعنا مبادئها إلى النهوض والبناء وتحثنا على التكاليف والتآزر في الداخل والخارج"
ثم قال : "ولقد حرص العاهل الراحل يقدم لشعبه نظاماً أساسياً للحكم مستمداً من كتاب الله ومبادئ الشريعة الإسلامية الغرَّاء ، يرسي للعدل قواعده وينظم علاقة السلطات ببعضها ، وصلات الحاكم بالمحكوم ...يكون من دعائمه مجلس الشورى يضطلع بدوره التنظيمي الهام ، وأعلن -رحمَهُ اللهُ- عن رغبته تلك ، وعمل لتحقيقها بتهيئة الجو الملائم لها ، وشرع في مراحل التنفيذ... وشاءت إرادة الله أن يرحل عنا قبل تحقيق رغبته"
إلى أن قال: "أما سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية فقد تولاها العاهل الراحل من عشرات السنين وأوضح أسسها في أول خطاب بعد بيعته -رحمَهُ اللهُ- ملكاً على البلاد إذ قال: "ولسنا أيضاً في حاجة لتكرار الأساس التقليدي الذي تسير عليه سياستنا الخارجية فنحن منذ أسس هذه الدولة بانيها ، وأوضح أساس نهضتها الملك عبد العزيز قد أثبتنا في المجال الدولي إيماننا بالسلام العالمي ورغبتنا في دعمه وتقويته ونشره في ربوع العالم وكنا ولا نزال نفعل ذلك بوحي من تعالم ديننا وتقاليدنا العربية الأصلية . ونحن نؤيد الآن في سبيل ذلك نزع السلاح وتجنب البشرية مخاطر الأسلحة الفتاكة وندعو إلى حرية تقرير المصير لكل الشعوب ، وحل المنازعات الدولية بالوسائل السلمية المرتكزة على الحق والعدل"(1/88)
وإن من أهم الركائز التي قامت عليها سياستنا الخارجية هي الدعوة للتضامن الإسلامي..." (1).
وقال خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : "ما دمنا متمسكين بكتاب الله وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، وما دمنا حريصين على إقامة حدود الله في جميع أمور ديننا فلا يضرنا ما يحدث أو يقال هنا وهناك غير أن الحقيقة الثابتة التي لا مراء فيها أن المسؤولين في هذا البلد ليس لهم قصد أو غاية ضد أحد من قريب أو بعيد ولا يضمرون الشرَّ لأحد"(2)
الوجه الثاني
مظاهر التوحيد وتغييب مظاهر الشرك
كانت بلاد الحرمين -صانها الله وحفظها- قبل الدولة السعودية –حرسها الله- مرتعاً للشرك والمشركين ؛ فكان القبر النبوي يطاف به ويستغاث بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- عنده جهاراً نهاراً ، وكانت في ساحة المسجد شجرة يطاف حولها ويتبرَّك بها ، كحال المشركين الجاهليين مع ذوات أنواط .
وكان البقيع مليئاً بالقباب والأضرحة المبنِيَّة المرفوعة والتي هدمت والحمد لله في ظل الدولة السعودية الرشيدة.
وكذلك في مكة كانت الأضرحة والقبور مشيَّدة مرتفعة وخصوصاً قبر خديجة -رضي الله عنها- في مقبرة المعلاة.
وكذلك في دوس عاد الناس إلى ذي الخلَصة ، والطلب منها ، والاستغاثة بها حتى هدمها الملك عبد العزيز -رحمه الله- رَ : إتحاف الجماعة للشيخ حمود التويجري -رحمه الله-(2/225-230) .
وكذلك في جدة عند قبر حواء عليها السلام .
وكذلك في رابغ وينبع وغالب مدن وقرى الحجاز بل وغالب البقاع في جزيرة العرب ، والتي لم تهدم ولم تجتث إلا في عهد الدولة السعودية –حرسها الله-.
هذا في جزيرة العرب والتي هي مهد الرسالة ، فما الظن بغيرها من بلاد المسلمين؟!.
__________
(1) انظر: مجلة البحوث الإسلامية-العدد الأول(ص/451-452).
(2) انظر: مجلة التضامن الإسلامي-رَبيع الثاني (ص/2) عام 1410هـ.(1/89)
وأنقل هنا حال كثير من المسلمين كما وصفهم العلماء ممن رأوا حال هؤلاء النَّاسِ نسأل الله أن يكشف عن المسلمين الغمَّةَ ، ويردَّهم إلى دينه وتوحيده رداً جميلاً .
قال المؤرخ ابن بشر ما نصه: ((وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد وغيرها ، وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار ، والقبور ،والبناء عليها وتبرك بها، والنذر لها ، والاستعاذة بالجن ، والذبح لهم،ووضع الطعام لهم،وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم وضرهم ، والحلف بغير الله…وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر.
والسبب الذي أحدث ذلك في نجد -والله أعلم- أن الأعراب إذا نزلوا في البلدان وقت الثمار ، وصار معهم رجال ونساء يتطيبون ويداوون ، فإذا كان أحد من أهل البلد مرض ، أو في بعض أعضائه ؛ أتى أهله إلى متطببة ذلك القطين من البادية، فيسألونهم عن دواء علته، فيقولون لهم: اذبحوا له في الموضع الفلاني كذا وكذا؛ إما خروفاً بهيماً أسود، وإما تيساًأصمع، وذلك ليحققوا معرفتهم عند هؤلاء الجهال، ثم يقولون لهم : لا تسموا الله على ذبحه، وأعطوا المريض منه كذا وكذا، وتركوا كذا وكذا، فربما يشفي الله مريضهم فتنة لهم واستدراجاً، وربما يوافق وقت الشفاء…حتى كثر ذلك في الناس ،وطال عليهم الأمد، فوقعوا بهذا السبب في عظائم، وليس اللناس من ينهاهم عن ذلك، فيصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورؤساء البلدان وظلمتهم لايعرف ون إلا ظلو الرعايا والجور والقتال لبعضهم بعضاً))(1) .
وأذكر هنا حالة الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمَهُ اللهُ- ليعلم النَّاس عظيم منة الله ونعمته على العباد بسبب ما هيأه الله من اتحاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود -رحمَهُما اللهُ- .
__________
(1) انظر: عنوان المجد(ص/6-7).(1/90)
يذكر المؤرخ حسين بن غنام حالة الناس قبيل قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بالدعوة إلى الإسلام الذي أرسل الله به رسوله محمد بن عبد الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأورد هنا خلاصة لذلك :
"في مطلع القرن الثاني عشر الهجري كان أكثر الناس قد انهمكوا في الشرك ، وارتدوا إلى الجاهلية ، وانطمست بينهم أنوار الإسلام والسنة ، لذهاب أهل العلم والبصيرة ، وغلبة أهل الجهل ، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال ، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من ضلال ، ظانين أنهم أدرى بالحق وأعلم بطريق الهدى ...
عدلوا عن عبادة الله وحده إلى عبادة الأولياء والصالحين من الأموات والأحياء ، يستغيثون بهم في النوازل والكوارث ، ويقبلون عليهم في الحاجات والرغبات ، ويعتقدون النفع والضر في الجمادات كالحجار والأشجار ، ويعبدون أهل القبور ويصرفون لهم الدعاء والنذور في حالتي الضراء والسراء زائدين على مشركي الجاهلية الأولى ، حيث كانوا إذا مسهم الضر لا يدعون إلا الله مخلصين له الدين، أما إذا نجاهم الله ، فهم يشركون ، لكن هؤلاء أحبوا أوثانهم من دون الله محبة أعظم من محبتهم لله ، سرت في سويداء قلوبهم ، وبدت على صفحات وجوههم وألسنتهم وجوارحهم ، وبذلوا أعمارهم وحيلتهم في دفع الحق ومن يبديه.
وهذا ليس في قطر دون آخر ، ولكنه في غالب الأقطار كما أنه ليس في أول زمن الشيخ فحسب بل كان بدؤه من قديم ، حيث حدث التغيير والابتداع والاختلاف بعد زمان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وزمان من بعده من أهل القرون الفاضلة، ثم تعاقبت العصور وتوالت السنون ، والغي يزداد ، والضلال ينتشر، حتى جاء من اعتقد أن الدين هو ذلك الضلال والبدع ، لأنهم وجدوا آبائهم وأجدادهم وأسلافهم عليه، فقالوا: إنا على آثارهم مقتدون.
وقد نص على ذلك كثير من العلماء في كتبهم المصنفة فيما حدث من البدع والحوادث وما غير من منار الدين وشعائر الإسلام.(1/91)
كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم ، يأتون عند قبر زيد بن الخطاب -- رضي الله عنه --في الجبيلة ، فيدعون لتفريج الكرب وكشف النوب ، وكان عندهم مشهوراً بذلك ومذكوراً بقضاء الحوائج.
وفي أسفل الدرعية غار كبير ، يزعمون أن امرأة تسمي بنت الأمير .أراد بعض الفسقة أن يظلمها ، فصاحت ، فا نفلق لها الغار ، وأجارها من ذلك السوء ، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ، ويبعثون بصنوف الهدايا إليه.
وكان عندهم رجل يزعمونه من الأولياء اسمه تاج سلكوا فيه سبيل الطواغيت ؛ فصرفوا إلية النذر ، وتوجهوا إليه بالدعاء واعتقدوا فيه النفع والضر ، وكانوا يأتونه لقضاء شؤونهم أفواجاً ، وكان هو يأتي إليهم من بلدة الخرج إلى الدرعية لتحصيل ما تجمع من النذور والخراج ، وكان أهل البلاد المجاورة يعتقدون فيه اعتقاداً عظيماً حتى خافه الحكام ، وهاب أعوانَه وحاشيتَه الناسُ ، فلا يتعرضون لهم بما يكرهون ، ويدَّعُون فيه دعاوى فظيعة ، وينسبون إليه حكايات قبيحة ، وكانوا الكثرة ما تناقلوها وأذاعوها يصدقون ما فيها من مين وزور ، زعموا أنه أعمى ، وأنه يأتي من بلدة الخرج من غير قائد يقوده ، وغير ذلك من الحكايات والاعتقادات التي ضلوا بسببها عن الصراط المستقيم ، وأعرضوا عن إخلاص الدعاء لله وحده رب العالمين.
وأما ما يفعل في الحرم المكي الشريف -زاده الله رفعة وتشريفاً- فهو يزيد على غيره كثيراً ، ففي تلك البقاع المطهرة تأتي جماعات الأعراب من الفسوق والضلال والعصيان ما يملأ القلب أسى وحزناً ، فلقد انتهكت فيه المحرمات والحدود تظاهر بذلك جم غفير ، ولم يكن لأهل العلم تغيير ، بل صادمو الحق، وجادلوا بالباطل ليد حضوا به الحق.(1/92)
فمن ذلك: ما يفعل عند قبة أبي طالب ، وهم يعلمون أنه حاكم متعد غاصب، كان يخرج إلى بلدان نجد ، ويضع عليهم خراجاً ، فإن أعطي ما أراده انصرف، وإلا عاداهم وحاربهم ، فصاروا يأتون قبره بالسماعات والعلامات ،يستغيثون به عند المصائب ونزول الكوارث .
وكذلك ما يفعل عند قبر المحجوب ؛ يعظمون أمره ، ويحذرون سِرَّهُ ، ويطلبون عنده الشفاعة ومغفرة الذنوب
وإن التجأ سارق أو متعد أو غاصب إلى أحد هذين القبرين لم يتعرض له أحد بما يكره ، ولا يخشى معاقبة، أما إن تعلق جانٍ -مهما تكن جنايته صغيرة- بالكعبة؛ فإنه يسحب منها سحباً ، لا يرعون للكعبة حرمة .
ومن ذلك أيضاً: ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين -رضي الله عنها- في سَرِف، وعند قبر خديجة -رضي الله عنها- في المعلاة ؛ من اختلاط النساء برجال ، وفعل الفواحش والمنكرات وارتفاع الأصوات عندهما بالدعاء والاستغاثة وتقديم الفدية ، مما لا يسوغ المسلم أن يبيحه ، فضلاً عن أن يراه قربة وعبادة.
وكذلك ما يأتونه عند قبر عبد الله بن العباس -رضي الله عنهما- بالطائف من هذه الأمور التي تشمئز نفس الجاهل ؛ فكيف بالعالم؟!
يقف عند قبره المكروب والخائف متضرعاً مستغيثاً في حالة عبوديته ، وينادي أكثر الباعة في الأسواق : اليوم على الله وعليك يا ابن عباس! ثم يسألونه و يسترزقونه .
وأما ما يفعل عند قبره عليه الصلاة وسلام من الأمور العظيمة المحرمة-كتعفير الخدود ، والانحناء والسجود خضوعاً وتذللا ، واتخاذُ ذلك القبر عيداً- ؛ فهو أعم من أن يخفى ، وأعظم من أن يذكر ؛ لشهرته وشيوعه ، وقد لعن الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- فاعله، وكفى بذلك زجراً ووعيداً ، ونهى عما يفعل عنده الآن غالب العلماء ، وغلظوا في ذلك تغليظاً شديداً.
ويكل اللسان عن وصف ما يفعل عند قبر حمزة -- رضي الله عنه -- ، وفي البقيع وقباء، ويعجز القلم عن بيانه مهما يكتفي بذكر القليل منه:(1/93)
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل .
وأما ما يفعل في جدة ؛ فقد عمَّتْ به البلوى ، وبلغ من الضلال والفحش الغاية؛ فعندهم قبر طوله ستون ذراعاً، علية قبة ، يزعمون أنه قبر حواء ، وضعه بعض الشياطين من قديم وهيأه ، فيجبي عنده السدنة من الأموال كل سنة ما يكاد أن لا يخطر بالبال ، ولا يدخل إنسان ليسلم على أمه ؛ إلا عجَّلَ بتقديم الدراهم ، وكيف لا؟! أيبخل أحد من اللئام فضلاً عن الكرام ببذل بعض حطام الدنيا في سبيل الدخول على أمه والسلام عليها؟!
وعندهم معبد يسمى العلوي ، فاقوا في تعظيمه جميع الخلائق ، فلو دخل قبره سارق أو قاتل ،لم يتعرضه مؤمن ولا فاسق بمكروه , ولم يجرؤ أحد أن يخرجه منه فمن استجار بتربة أجير ، ولم ينله أحد من الحكام بأذى .
وفي سنة عشر بعد المائتين والألف اشترى تاجر من أهل جدة أموالاً من تجار الهند والحسا القادمين تزيد على سبعين ألف ريال ، فانكسر بعد أيام وأفلس ، وتغيرت حاله ، ولم يبق عنده ما يقابل نصف ما عليه ، فهرب إلى ذلك المعبد مستجيراً ، فلم يتقدم إليه من الناس شريف ولا وضيع ولا كبير ولا صغير، وترك بيته بما فيه من مال ومتاع ، ولم يرزأ بقليل ولا كثير حتى اجتمع التجار ، ورأوا أن ينظروه وييسروا عليه ، وجعلوا المال عليه نجوماً في سنين ، وكان بعض أهل الدين من المشيرين بذلك...".
وأما ما يجري في بلدان مصر وصعيدها من الأمور التي ينَزَّه الإنسان عن ذكرها، خصوصاً عند قبور الصلحاء والعُبَّاد ، كما ذكرها الثقات في نقل الأخبار وروايتها ؛ فأكثر من أن يحصى.(1/94)
فمنها أنهم يأتون قبر أحمد البدوي وقبور غيره من العُبَّادِ والزهاد والمشهورين بالخير، فيستغيثون ويندبون ، ويسألونهم المدد ويستحثونهم على كشف المصائب، ويتداولون بينهم حكايات ، وينسبون إليهم كرامات ، ويحكون في محافلهم خرافات من أفحش المنكرات ، فيقولون :فلان استغاث بفلان فسارع إلى إغاثته، وفلان شكا لصاحب ذلك القبر حاله فأغاثه وكشف عنه ضره! وفلان شكا إليه حاجته فأزال عنه فقره ... وأمثال هذا الهذيان المليء بالزور والبهتان.
ويصدر هذا الكلام في تلك البلاد وهي مملوءة بالعلماء وذوي التحقيق والعرفان، ويبقى ذلك المنكر لا يزال بل ربما تنشرح له صدورهم .
وأما ما يفعل في بلدان اليمن من الشرك والفتن ، فأكثر من أن يستقصى ، فمن ذلك ما يفعله أهل شرقي صنعاء بقبر عندهم يسمى الهادي ، كانوا يغدون عليه جميعاً ويروحون ، يدعونه ويستغيثون به ، فتأتيه المرأة إذا تعسَّر حملها أو كانت عقيماً ؛فتقول عنده كلمة عظيمة قبيحة ؛ فسبحان من لا يعاجل بالمعاقبة على الذنوب.
وأما أهل بُرَع ؛ فعندهم البرعي ، وهو رجل يرحل إلى دعوته كل دان وقاص ، ويؤتى إليه من مسيرة أيام وليال لطلب الإغاثة وشكاية الحال ، ويقيمون عند قبره للزيارة ، ويتقربون إليه بالذبائح ؛ كما حقق أخباره من شاهدها.(1/95)
وأما أهل الهجرية ؛ فعندهم قبر يسمى علوان ، وقد أقبل عليه العامة في نوائب الزمان ، واستغاث به منهم كل لهفان ، ويسميه غوغاؤهم منجي الغارقين ، وأغلب أهل البر والبحر منهم يطربون عند سماع ذكره ويستغيثون به ، وإن لم يصلوا إلى قبره، وينذر له في البر والبحر وعند أهل بلده نذوراً تزيد عن الحصر ، ويفعلون عند قبره السماعات والموالد ، ويجتمع عنده أنواع من المعاصي والمفاسد، وليس في أقطار اليمن مثله في الاشتهار، ولهم في حضرته أمور يفعلونها تديناً، كطعنهم أنفسهم بالسكاكين والدبابيس ، ويقولون وهم يرقصون طَرِبِيْنَ وقد ملأ الوجد ألبابهم : يا سادتي قلبي بكم مُعَنَّى.
وأما حال حضرموت و الشحر ويافع وعدن، فقد ثوى فيهم الغي والضلال ، عندهم العيدروس يفعل عند قبره من السفه والشرك ما يكفي ذكر مجملة ؛ يقول قائلهم: شيء لله يا عيدروس! شيء لله يا محيي النفوس!!
وأما بلدان الساحل فعندهم الكثير :
أهل المخا ؛ عندهم الشاذلي ، أكثرهم يدعوه ويستغيث به ، ولا تفتر ألسنتهم عن ذكره قعوداً وقياماً ، وينتابون تربته وحداناً وجميعاً.
وأهل الحديدة عندهم الشيخ صديق ؛ يعظمونه ويغْلُونَ فيه إلى حدِّ أنه لا يمكن أحد أن يركب البحر أو يَنْزِل منه إلى البر حتى يجيء إليه ويسلم عليه ويطلب منه الإغاثة والمدد فيما أراد!
وأما أهل اللحية ؛ فعندهم الزيلعي، واسمه عندهم الشمس، لأنَّ قبره ليس عليه قبة؛ يصرفون إليه جميع النذور ، ويعظمونه ، ويدعونه أشد ما يكون ذلك عبادة وضراعة، ويحكي عنه أهل البادية منهم أنه كان رسولاً في حاجة، فأراد أن يدخل بلده والشمس متدلية للغروب ، فقال لها: قفي فتوقفت! وسمِعَتْ قولَهُ وامْتَثَلَتْ فدخل بلده نهاراً.
وعندهم قبر رابعةَ مشهورٌ ؛ لا يحلفون يميناً صادقاً إلا بها!!(1/96)
وفي أرض نجران الطامة المعضلة ، وهو الرئيس المعروف عندهم بالسيد ؛ فقد أتى أهل نجران وما يليهم من الأعراب والقبائل من تعظيمه والغلو فيه والاعتقاد الشركي ما أفضى بهم إلى الضلال والإلحاد ،صرفوا له من أنواع العبادة سهماً ، وجعلوا فيه للألوهية قسماً ، حتى كادوا يجعلونه لله نداً ، وكان عندهم بذلك الحال شهير ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وأما في حلب ودمشق وأقصى الشام وأدناه ؛ فهو مما لا يوقف له على حد ، ولا يمكن ضبط قدره ، بحسب ما يحكيه من يشاهد ذلك أو يراه ، من العكوف على عبادة القبور ، وصرف القربان إليه والنذور ، والمجاهرة بالفسوق والفجور، وأخذ المكوس ، وإحلال الدستور الوضعي محل الشريعة الربانية ، وتنظيم عمل البغايا ، ووضع الخراج عليهن من مهورهن الخبيثة.
وفي الموصل وبلدان الأكراد وما يليها من سائر البلاد ، وفي العراق عموماً ، وفي المشهد وبغداد خصوصاً ، ما لا يقدر على حصره وتعداده مما يفعل عند قبر الإمام أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر -رضي الله تعالى عنهم-من الدعاء والاستغاثة بهم والطلب منهم في سائر الأوقات والأزمان، ويحصل من التعظيم والتذلل عندهم والخضوع أعظم مما يصدر بين يدي الله في الصلاة، واشتهر عندهم أن كثيراً ممن فعل ذلك وجرَّبَ ؛ وجد أنهم لقضاء الحوائج ترياقٌ مجرب .(1/97)
وأما مشهد علي -- رضي الله عنه -- ،فقد صيرتْهُ الرافضة -لعنها الله- وثناً يعبد ، يدعونه بخالص الدعاء من دون الله تعالى ، ويصلون له في قبته ، ويركعون ويسجدون ، وليس في قلوبهم من تعظيم الله معشار ما فيها لعلي -- رضي الله عنه -- ، يحلفون بالله الأيمان الكاذبة ولا يخافون ، أما علي -- رضي الله عنه -- فلا يحلف به أحدهم كاذباً أبداً ، ويجزمون أن عنده مفتاح الغيب ، ولهذا يقولون : إن زيارته أفضل من سبعين حجة! وقد غلوا فيه ، وأتوا من الشرك أعظم مما فعل النصارى بالمسيح ، سوى دعوى الولدية وزخرفوا على قبره قبة مذهبة.
ومثل ذلك الشرك يفعل عند مشهد الحسين والكاظم.
ولقد شب فيهم على ذلك الكفر : الرِّعاعُ والأطفالُ ، وشابوا عليه ؛ فلا يسمع بينهم ذكر لله ، وإنما دينهم ذكر علي والحسين وبقية الآل ، وكفى بما ذكر حجة عليهم في الخروج عن الإسلام.
وكذلك جميع قرى الشط والمجرة وما حول البصرة وما توسط فيها من تلك القبب والمشاهد ؛ كقبر الحسن البصري والزبير -- رضي الله عنه -- ؛ يطلبون منهما الفرج، ويصرفون لهما من العبادة الدعاءَ والاستغاثةَ عند الشدائد ؛ لا يجحد ذلك إلا مباهتٌ مكابرٌ.
وأما في القطيف والبحرين ؛ فالبدع الرفضية الشركية ، والمشاهد الوثنية التي لا تكاد تخفى على أحد من الناس .
وعلى العموم ؛ فإن من رأى أفعال الناس في بلاد المسلمين مما أشرنا إليه وهو عارف بالإيمان ؛تبين له غربة الإسلام في ذلك الزمان ، وصيرورة الحظوظ الدنيوية والشهوات النفسية غايتهم ومقصودهم وسرهم في الخلق والإيجاد.(1/98)
وهذا في الغالب الأكثر ، وليس عليه جميع المسلمين حيث إن الله تعالى لا يجمع الأمة على ضلالة ، ولا يعميها بالسفاهة والجهالة ؛ كما ثبت ذلك في صحيح الأخبار عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وكما أخبر أيضاً أن في أمته أناساً لا يزالون بهديه يتمسكون إلى القيام الساعة ،كما أن أكثرهم في أزمنة الغربة مخطئون ، وعن هدي الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- ومنهاجه منحرفون ، وهذا مما زينه الشيطان واقتضته الطباع الناقصة والنفوس البشرية ، حتى أن ذلك يوجد من بعض العلماء المنتسبِين إلى أحد المذاهب المتعصبين ؛ فلا يقبلون من الدين رأياً ولا رواية إلا ما كان لأصحابهم به عمل أو دراية ، فيرفض السنن النبويَّ واتِّباعَهُ ، ولو عرف أن الحق ليس مع مذهبه ، وقد يحمله التعصب على الطعن في الأئمة وثلبهم ، كذلك من المتعبدة والمتصوفة من يرى طريقة العلم سفاهة وضلالاً ، يدَّعي أن العلماء لم يشربوا من صافي الشريعة ومعينها ؛كبُرَتْ فرية من هؤلاء المتصوفة)).
ثم ذكر ابن غنام عن الذبح للجن تقريباً إليهم ، وقصْدِ الذابحِ أن يبرأ مريضه من شكواه ثم قال : ((ومن العجب أن ذلك يفعل في بلدان العارض وغيرها ؛ لا ينكره أحد من علمائهم على من فعله ، بل منهم من يفتي الجهال بذلك ويقول : اذبحوا على هذا الصبي أو هذا المريض ذبيحة سوداء للجن ، ولا تسموا عليها! وقصده أنَّ الجنَّ يزيلون ذلك المرض إذا ذبحت لهم تلك الذبيحة .
فلما أظهر الله هذا الشيخ ، ونهى عن ذلك ، وبلَّغَ الناس كلام الله وكلام الرسول وكلام أهل العلم ؛ أن ذلك كفر وردة ، ينكر ذلك عليه من يزعم أنه من العلماء فهل يشكُّ أحدٌ من العلماء أن ذلك كفر وشرك وعبادةٌ للجنِّ ، نعوذ بالله من الطبع على القلب))(1) .
__________
(1) انظر: الروضة لابن غنام(1/137-138) .(1/99)
ومع ما حصل من خير بسبب دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ونصرة الإمام محمد بن سعود وأبائه لهذه الدعوة إلا أن تعرض الدولة السعودية الأولى للحرب من قبل محمد علي باشا حاكم مصر أدى إلى عودة مظاهر الشرك من جديد ، وكثُرَ الاعتقاد في الأشجار والأحجار ، والبناء على القبور ، والتبرك بها ، والنذر لها، وغير ذلك من مظاهر الشرك الأصغر والأكبر.
فقام الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- حاملاً راية التوحيد ، وناصراً للعقيدة السلفية فأزال مظاهر الشرك والكفران ، وأعلا منار التوحيد والإيمان ، وأذل صروح البدع والبهتان .
قال شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز -رحمَهُ اللهُ- : "الملك عبد العزيز نفع الله به المسلمين وجمع الله به الكلمة ورفع به مقام الحق ونصر به دينه وأقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحصل به من الخير العظيم والنعم الكثيرة ما لا يحصيه إلا الله -عزَّ وجلَّ- ثم أبناؤه بعده حتى صارت هذه البلاد مضرب المثل في توحيد الله والبعد عن البدع والخرافات وهذه الدولة السعودية دولة مباركة وولاتها حريصون على إقامة الحق وإقامة العدل ونصر، المظلوم وردع الظالم واستتباب الأمن، وحفظ أموال الناس وأعراضهم فالواجب التعاون مع ولاة الأمور في إظهار الحق وقمع الباطل والقضاء عليه حتى يحصل الخير" انظر: من شريط مسجل موجود لسماحته في 29/4/1417هـ. بعنوان "حقوق ولاة الأمر على الأمة".
فجزاه الله خيراً ، واعظم أجره عند ربه ، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجان.
وقد تعددت صور نصرة التوحيد والعقيدة في عهد الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- وفي عهد أبنائه أذكر بعضها:
1- التأكيد على صفاء التوحيد ، ونقائه وخلوه من الشرك والبدع والخرافة خلال خطاباته وخطبه وبياناته -رحمَهُ اللهُ- .(1/100)
وقال -رحمَهُ اللهُ- في خطة ألقاها بمكة في ذي الحجة عام 1347هـ : "هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها ، وهذه هي عقيدتنا ، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله -عزَّ وجلَّ- خالصة من كل شائبة ، منَزَّهة من كل بدعة ، فعقيدة التوحيد هذه ، هي التي ندعو إليها ، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن وأوصاب"(1)
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "نحن دعاة إلى التمسك بالدين الخالي من كل بدعة"(2).
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "إن سبيل رقي المسلمين هو التوحيد الخالص ، والخروج من أسر البدع والضلالات ، والاعتصام بما جاء في كتاب الله على لسان رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- "(3) .
2- إلغاء جميع القوانين التي تخالف الشرع.
فقد حرص الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- على إلغاء جميع القوانين التي كانت موجودة من بقايا الدول السابقة ، وكان يُعْمَلُ بها في بعض مناطق المملكة، وحثَّ العلماء على إصدار فتوى بذلك ، وقد أصدروا فتوى بتاريخ 8/8/1345هـ ، ومما جاء فيها: "وأما القوانين فإنْ كان موجوداً منها شيء فيزال فوراً ولا يحكم إلا بالشرع المطهر"(4).
ومن ذلك إبطال التحاكم إلى العوائد والسلوم المخالفة للشرع ، وأن لا يتحاكم إلا إلى الشريعة فقط.
3- جَمْعُ علماءِ مكة بعلماء نجد ليتباحثوا في مسائل الشرع.
فقد اجتمعوا في جمادى الأول عام 1343هـ ، وأصدروا بياناً جاء فيه : "قد حصل الا تفاق بيننا وبين علماء نجد في مسائل أصولية منها:
أ- أن من جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه يدعوهم ويرجوهم في جلب نفع أو دفع ضر فهو كافر حلال الدم والمال.
__________
(1) انظر: المصحف والسيف(ص/85-86) .
(2) انظر: الدعوة في عهد الملك عبد العزيز(1/291) .
(3) انظر: دعائم التمكين للمملكة العربية السعودية(ص/106) .
(4) انظر: الدرر السنية(5/319) .(1/101)
ب- أن البناء على القبور واتخاذ السرج عليها وإقامة الصلاة فيها بدعة محرمة في الشريعة الإسلامية.
ج- من سأل الله بجاه أحد من خلقه فهو مبتدع مرتكب محرماً.
واتفق العلماء على نشر هذا البيان الذي من خلاله اتضحت وحدة العقيدة في أنحاء المملكة"(1)
4- إزالة مظاهر الشرك والخرافة.
فمنع -رحمَهُ اللهُ- من البناء على القبور ، وهدم ما كان مبنياً ، وكذلك في دوس عاد الناس إلى ذي الخلَصة ، والطلب منها ، والاستغاثة بها حتى هدمها الملك عبد العزيز -رحمه الله-(2)
ومن الوسائل التي هيأها الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- إنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فقد عيَّن الإمام المجدد الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف آل الشيخ ، وعيَّن معه جماعة من العلماء كالشيخ عمر بن حسن آل الشيخ ، والشيخ عبد الرحمن بن إسحاق آل الشيخ ، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ وذلك عام 1345هـ ؛ للاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فكان أولئك المشايخ يؤدون مهمتهم بنجاح ، يساعدهم في ذلك دعم الملك لهم وصرامته -رحمَهُ اللهُ- في الحق ، والتزامه بتطبيق الشريعة.
وكان للهيئة عدة مراكز في الرياض ، والمنطقة الشرقية ، والحدود الشمالية ، والأحساء ، ووادي الدواسر ، وحائل وغيرها .
ولما ضم الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- الحجاز إلى دولته الميمونة توسع جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
__________
(1) انظر: الدعوة في عهد الملك عبد العزيز(1/275) .
(2) رَ : إتحاف الجماعة للشيخ حمود التويجري -رحمه الله-(2/225-230).(1/102)
وقد صدر نظام جديد للهيئة بتاريخ 15/1/1356هـ يربط الهيئة في المنطقة الغربية برئيس القضاء ، وينص النظام على أن اختصاص الهيئة يتمثل في تعميق التدين عند الناس ، كتنبيه الناس وحضهم على أداء ومراقبة ما قد يحدث في المجتمع من إخلال بالشرع ، ودعوة الناس إلى ترك المعاصي ، والإقلاع عن البدع والخرافات والشرك ، ومنع الناس من السباب والشتائم وفحش القول الذي درج عليه بعض السوقة.(1)
ومن اهتمام الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعلها رئاسة مستقلة مرتبطة بمجلس الوزراء مباشرة .
وقد قام جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتطبيق هذا الأمر من إظهار للتوحيد ومحو لمظاهر الشرك خير قيام .
فلا يعلمون بقبر يعظم إلا منعو الناس من تعظيمه ، ولا علموا بقبر مرفوع بناؤه إلا هدم ، ولا بساحر إلا أمسكوا به وأقاموا حكم الله فيه ، وغير ذلك من أنواع المنكرات.
والحوادث في هذا المجال كثيرة جداً.
ولم يقتصر باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إدارة واحدة ، بل ثمة إدارات وأجهزة حكومية تقوم بهذه المهمة كل إدارة حسب اختصاصها.
منها: الإدارة العامة لمكافحة المخدرات وهي تابعة لوزارة الداخلية ، واللجنة الوطنية لمكافحة المخدرات وهي تابعة للرئاسة العامة لرعاية الشباب ، ومكاتب خاصة بمكافحة التزوير والتزييف ، وكذلك صدرت أنظمة لمكافحة الرشوة ، ومكافحة الغش التجاري وما تفرع عنه من تكوين إدارات مختصة بذلك ، وهيئة الرقابة والتحقيق ، وهيئة التأديب ، وتم إنشاء ديوان المظالم للنظر في الخلافات بين أفراد المجتمع والإدارات الحكومية.(2)
الوجه الثالث
الْمَنَاهِجُ التَّعْلِيمِيَّة
__________
(1) انظر : المنهج السعودي الإسلامي في الحسبة(ص/532) كما في مجلة الجامعة الإسلامية العدد 109 السنة31 عام 1420هـ.
(2) انظر: المرجع السابق(ص/530-541) .(1/103)
حرص حكام هذه البلاد الميامين على تحقيق الأسباب النافعة المؤدية إلى استمرار الأمن والأمان والإسلام في هذه البلاد ومن ذلك حرصهم على التعليم.
فقد بذلت حكومتنا المباركة جهوداً عظيمة في نشر العلم والعمل به بين أبناءنا في كل مكان من هذه المملكة العظيمة في المدن والقرى والبوادي وجعلت التعليم أساساً من أسس نهضتها المباركة حتى عم العلم - ولله الحمد - الحاضر والباد وحصل من جرَّاء ذلك نهضة علمية مباركة.
والسياسة التعليمية في المملكة العربية السعودية تنبثق من الإسلام الذي تدين به الأمة عقيدة وعبادة وخلقاً وشريعة وحكماً ونظاماً متكاملاً للحياة. وهي جزء أساس من السياسة العامة للدولة.
وقد قام التعليم في المملكة العربية على أسس عظيمة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالإسلام بل هي جزء منه.
وسأورد هنا نماذج يسيرة تبين مدى حرص هذه البلاد واهتمامها بتعليم التوحيد والعقيدة السلفية ، ونصرة المنهج السلفي البعيد عن أدران الشرك ، ومساس البدع والخرافات.
علماً بأنه سيأتي مبحث مستقل فيه بيان جهود المملكة في خدمة العلم والتعليم والقرآن الكريم والسنة المطهرة.
فمن الأسس التي قام عليها نظام التعليم في المملكة العربية السعودية –حرسها الله- كما ورد في وثيقة سياسة التعليم :
"2-الإيمان بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد-- صلى الله عليه وسلم --نبيّاً ورسولاً.
3- التصور الإسلامي الكامل للكون والإنسان والحياة، وأن الوجود كله خاضع لما سنَّه الله تعالى، ليقوم كل مخلوق بوظيفته دون خلل أو اضطراب.
4- الحياة الدنيا مرحلة إنتاج وعمل، يستثمر فيها المسلم طاقاته عن إيمان وهدى للحياة الأبدية الخالدة في الدار الآخرة، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
5- الرسالة المحمدية هي المنهج الأقوم للحياة الفاضلة التي تحقق السعادة لبني الإنسان، وتنقذ البشرية ممَّا تردت فيه من فساد وشقاء.(1/104)
6- المثل العليا التي جاء بها الإسلام لقيام حضارة إنسانية رشيدة بنَّاءَةٍ تهتدي برسالة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- لتحقيق العزَّة في الدنيا، والسعادة في الدار الآخرة."
"23- شخصية المملكة العربية السعودية متميزة بما خصها الله به من حراسة مقدسات الإسلام وحفاظها على مهبط الوحي واتخاذها الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة، ودستور حياة، واستشعار مسؤوليتها العظيمة في قيادة البشرية بالإسلام وهدايتها إلى الخير. أ-هـ."
"28- غاية التعليم فهم الإسلام فهماً صحيحاً متكاملاً، وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها، وتزويد الطالب بالقيم والتعاليم الإسلامية وبالمثل العليا، وإكسابه المعارف والمهارات المختلفة، وتنمية الاتجاهات السلوكية البناءة، وتطوير المجتمع اقتصادياً واجتماعيّاً وثقافياً، وتهيئة الفرد ليكون عضواً نافعاً في بناء مجتمعه. ا-هـ."
"29- تنمية روح الولاء لشريعة الإسلام، وذلك بالبراءة من كل نظام أو مبدأ يخالف هذه الشريعة، واستقامة الأعمال والتصرفات وفق أحكامها العامة الشاملة.
30- النصيحة لكتاب الله وسنة رسوله بصيانتهما، ورعاية حفظهما ، وتعهد علومهما، والعمل بما جاء فيهما."
"60- إيقاظ روح الجهاد الإسلامي لمقاومة أعدائنا، واسترداد حقوقنا، واستعادة أمجادنا، والقيام بواجب رسالة الإسلام.
61- إقامة الصلات الوثيقة التي تربط بين أبناء الإسلام وتبرز وحدة أمته.اهـ."
فهذه بعض أسس التعليم في هذه البلاد المباركة .
وقد كانت تلك الأسس وغيرها مما لم أذكره وهي مذكورة في أسس التعليم في السعودية –حرسها الله- ظاهرة وجلية في مناهج التعليم خلال مراحل التعليم بدء من رياض الأطفال إلى المراحل الجامعية العالية .
وسيأتي شرحه بشيء من التفصيل في المبحث الرابع -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .(1/105)
فمن أهداف مرحلة الحضانة ورياض الأطفال : "63- صيانة فطرة الطفل ورعاية نموه الخلقي والعقلي والجسمي في ظروف طبيعية سوية بجو الأسرة متجاوبة مع مقتضيات الإسلام.
64- تكوين الاتجاه الديني القائم على التوحيد المطابق للفطرة
65- أخذ الطفل بآداب السلوك وتيسير امتصاصه الفضائل الإسلامية والاتجاهات الصالحة بوجود أسوة حسنة وقدوة محببة أمام الطفل".
ومن أهداف المرحلة الابتدائية : "73- تمهد العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفسية الطفل ورعايته بتربية إسلامية متكاملة في خلقه وجسمه وعقله ولغته وانتمائه إلى أمة الإسلام.
74- تدريبه على إقامة الصلاة وأخذه بآداب السلوك والفضائل.".
فأول هدف من أهداف هذه المرحلة هو العناية بالعقيدة الصحيحة وهو هدف عظيم لأنه بدأ بما أوجب الله علينا أن نبدأ به في التعلم والتعليم والدعوة إلى الله عز وجل وهو الذي بدأ به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوتهم وبدأ به نبينا محمد-- صلى الله عليه وسلم -- دعوته وأمر رسله إلى الناس أن يبدؤوا به كما في حديث ابن عباس رض الله عنها قال : لما بعث النبي-- صلى الله عليه وسلم -- معاذاً إلى نحو أهل اليمن قال له: ((إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم)). الحديث وهو متفق عليه من حديث ابن عباس واللفظ للبخاري(1/106)
ولعل الهدف التالي لهذا الهدف مقتبس أيضاً من هذا الحديث لأنَّ فيه التدريب على الصلاة والعناية بها بعد تعليمه العقيدة الصحيحة وهذا الحديث نص على ذلك وقد دلت الأدلة كذلك على وجوب تعليم الطفل الصلاة في هذه المرحلة وهي مرحلة التمييز كما قال -- صلى الله عليه وسلم --: ((مروا أبناءكم للصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع)) (1)
وهكذا أهداف مراحل التعليم المتنوعة إلى المرحلة الجامعية كما سيأتي ذكره -إنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى- .
ففي المرحلة الثانوية -مثلاً- تدرَّس عدة مواد منها:
1- القرآن الكريم.
2- التفسير وأصوله.
3- الحديث والثقافة الإسلامية.
4- التوحيد.
5- الفقه.
وسأذكر بعض ما تضمنه مقرر التوحيد في المرحلة الثانوية .
فمنهج التوحيد المقرر للمرحلة الثانوية منهج عظيم متكامل لا يوجد له نظير في أي بلد من بلاد العالم الإسلامي ، بل ولا يدرس أبناء العالم الإسلامي -وللأسف الشديد- في المدارس الحكومية معشار هذا المقرر ، هذا بالإضافة إلى دقة هذا المنهج ، واعتماده الكتاب والسنة في مباحثه كلها ، وهذا عرض موجز لمنهج التوحيد في السنة الأولى.
يتكون هذا المنهج من خمسة أبواب وتحت كل باب عدة فصول وتحت كل فصل مباحث ومسائل موزعة على فصلين دراسيين.
الباب الأول: مدخل لدراسة العقيدة وفيه عدة فصول :
الفصل الأول: العقيدة وأهميتها.
الفصل الثاني: مصادر العقيدة ومنهج السلف في تلقيها.
الفصل الثالث: الانحراف عن العقيدة وسبل التوقي منه.
الفصل الرابع: نماذج من جهود المصلحين في الدفاع عن العقيدة الصحيحة.
الباب الثاني: توحيد الربوبية وفيه عدة فصول:
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (2/187)، وابن أبي شيبة في المصنف(1/304رقم3482)، وأبو داود في سننه(1/133رقم495)، والدارقطني(1/230)، والحاكم في المستدرك(1/197) ، والبيهقي في سننه(3/84، 7/94) وغيره وهو حديث صحيح.(1/107)
الفصل الأول: توحيد الربوبية وإقرار المشركين به .
الفصل الثاني : مفهوم كلمة الرب في القرآن وتصورات الأمم الضالة.
الفصل الثالث: الكون وفطرته في الخضوع والانقياد والطاعة لله.
الفصل الرابع: منهج القرآن في إثبات وجود الخالق ووحدانية .
الفصل الخامس: استلزام توحيد الربوبية لتوحيد الألوهية.
الباب الثالث: توحيد الألوهية وتحته عدة فصول:
الفصل الأول: توحيد الألوهية وأنه موضوع الرسل.
الفصل الثاني: معنى الشهادتين وما يتعلق بهما.
الفصل الثالث: العبادة :معناها،أنواعها، شمولها.
الفصل الرابع: ركائز العبودية الصحيحة.
الفصل الخامس: شروط قبول العبادة والعمل.
الفصل السابع: مراتب الدين: الإسلام، الإيمان، الإحسان.
الباب الرابع: في توحيد الأسماء والصفات وتحته عدة فصول:
الفصل الأول: معنى توحيد الأسماء والصفات وبيان منهج السلف في ذلك .
الفصل الثاني: أسماء الله الحسنى وما تدل عليه من صفات الكمال.
الفصل الثالث: فصل معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته والإيمان بها وأثره في الفرد والمجتمع.
الباب الخامس: الولاء والبراء وتحته عدة فصول:
الفصل الأول: الولاء والبراء : تعريفه وما يتعلق به.
الفصل الثاني: الاحتفاء بأعياد الكفار ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم.
الفصل الثالث: حكم الاستعانة بالكفار والعمل عندهم والإقامة بينهم .
الفصل الرابع: تقليد الكفار: أقسامه وآثاره.
فهذه بعض الأمور الدالة على أن الدولة السعوديَّة –حرسها الله- قائمة بنصرة العقيدة والتوحيد الصحيح من خلال مناهج التعليم في دور الحضانة والتعليم (1)
__________
(1) وهناك أوجه أخرى تدل على نصرة المملكة العربية السعودية -حرسَها اللهُ- للتوحيد والعقيدة السلفية تركتها مخافة الإطالة أذكر بعض محاورها:
الوجه الرابع: الكتب السلفية طباعة ونشراً
1- الكتب السلفية التي طبعت أو اشتريت ووزعت على نفقة الملك عبد العزيز وأبنائه البررة.
2- الكتب الدراسية في مختلف مراحل التعليم التابعة لوزارة المعارف.
3- الكتب الدراسية في المراحل الجامعية .
4- الكتب السلفية التي توزعها وزارة الشؤون الإسلامية على الدوائر الحكومية والمساجد والجوامع ومكتباتها وعلى المشايخ وطلبة العلم.
5- الكتب السلفية التي توزعها رئاسة البحوث العلمية والإفتاء بالرياض.
6- الكتب السلفية التي تطبعها وتوزعها عمادة البحث العلمي وعمادة خدمة المجتمع بالجامعة الإسلامية وكذلك مركز خدمة السنة والسيرة النبوية .
عمادة خدمة المجتمع وإسهامها في طباعة ونشر الكتب السلفية في التوحيد والاعتقاد:
عمادة البحث العلمي وإسهامها في طباعة ونشر الكتب السلفية في التوحيد والاعتقاد:
7- الكتب السلفية التي تحتضنها مكتبات المدارس والمكتبات العامة .
الوجه الخامس: العلماء تفريغاً وتكريماً
الوجه السادس:الدعاة إعداداً وتفريغاً وإرسالاً وبعثاً
الوجه السابع: الجامعة الإسلامية إنشاء وهدفاً(1/108)
.
المبحث الرابع
جهود الدولة السعودية في العلم والتعليم وخدمة القرآن الكريم والسنة المطهرة
تَمْهِيد
إنَّ منْزِلةَ العلم منْزِلةٌ رفيعةٌ ، ومرتبتَهُ مرتبَةٌ رفيعة ، وقد قال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}(1).
وقال تعالى: {وقل رب زدني علماً}(2).
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) (3).
وقال -- صلى الله عليه وسلم --: ((العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) (4).
وأشرف العلوم وأعلاها علم الكتاب الكريم ، والسنة المطهرة إذ هما مصدر التشريع .
فالقرآن الكريم هو أصل الدلائلِ ، وفيه البيان لجميع الأحكام ، وهو كاف شافٍ.
__________
(1) سورة الزمر(آية/9) .
(2) سورة طه(آية/114) .
(3) رواه مسلم في صحيحه(4/2074رقم2699) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه --.
(4) رواه الإمام أحمد في المسند(5/196) ، والدارمي في سننه(1/110رقم342)، وأبو داود في سننه(3/317رقم3641) ، والترمذي في سننه(5/48رقم2682) ، وابن ماجه(1/81رقم223) وابن حبان في صحيحه(1/189رقم88) والطحاوي في شرح مشكل الآثار(3/10رقم982) وغيرهم من حديث أبي الدرداء -- رضي الله عنه --. وهو حديث حسن؛ حسنه حمزة الكناني، والشيخ الألباني، وصححه ابن حبان والطحاوي.(1/109)
فيه الدلالة على الهدى ،والحماية من الوقوع في الهلاك والردى ، اشتمل على أشرف العلوم وأعظمها ، وهو توحيد الله بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، وفيه البيان والتوضيح والتفصيل لما يحتاجه الخلق ، مما يقربهم إلى الله ، ويباعدهم عن مساخطه وغضبه ، وفيه الخبر عن الأمم السالفة مما فيه المواعظ والعبر ، وفيه الحكم والأمثال مما ينبه الإنسان ، ويشعل الأذهان ، ويهيء النفوس لمعرفة المراد بالحكم والأمثال مما يرضي الملك المتعال ، وفيه الخبر عن المغيبات من ملائكة وجان ، وما في القبر من فتنة ونعيم وعذاب ، وأحوال القيامة وأهوالها ، وما يسبقها من علامات الساعة وأشراطها ، وأحوال البعث والنشور ، والحساب والسؤال ، وما في الجنة والنار من صنوف النعيم والعذاب وغير ذلك من الحقائق والدقائق ، والعلوم والمعاني.
قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}(1) وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}(2) وقال:{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ}(3).
قال الشافعي(4)-رحمهُ اللهُ-:"وليست تنْزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله
تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها"(5).
__________
(1) - سورة الأنعام(آية/38).
(2) - سورة النحل(آية/89).
(3) - سورة إبراهيم(آية/1).
(4) - هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان الشافعي ، المطلبي ، أبو عبد الله ، المكي ، نزيل مصر ، الإمام عالم العصر ناصر الحديث فقيه الملة ، المجدد لأمر الدين على رأس المائتين توفي سنة 204هـ سير أعلام النبلاء(10/5) ومناقب الشافعي لابن أبي حاتم.
(5) - الرسالة للشافعي(ص/33) وانظر: قواطع الأدلة للسمعاني(1/32) والإتقان في علوم القرآن للسيوطي(2/331).(1/110)
والسُّنَّةُ وحي أوحاه الله إلى محمد -- صلى الله عليه وسلم -- ، فيها تفصيل ما أجمل في القرآن ، وتوضيح لما أشكل ، وتخصيص لبعض العمومات في القرآن ، وهي شارحة للقرآن موضحة له.
قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (1).
ففي هاتين الآيتين بيان أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا ينطق عن هواه ومن عند نفسه بل بما أوحاه الله إليه وأمره بتبليغه.
قال الزركشي في البرهان في علوم القرآن(2/129) : "اعلم أن القرآن والحديث أبداً متعاضدان على استيفاء الحق ، وإخراجه من مدارج الحكمة ؛ حتى إن كل واحد منهما يخصص عموم الآخر ، ويبين إجماله.
ثم منه ما هو ظاهر ، ومنه ما يغمض ، وقد اعتنى بإفراد ذلك بالتصنيف الإمام أبو الحكم ابن بَرَّجان في كتابه المسمى بـ"الإرشاد" وقال: ما قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من شيء فهو في القرآن ، وفيه أصله ؛ قَرُب أو بعُد ، فَهِمَه مَن فَهِمَه ، وعَمِه عنهُ مَن عَمِه ، قال الله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}...".
فالسنة المطهرة مع القرآن الكريم: الركن الركين الذي يقوم عليه الاستدلال على صحة العبادة أو فسادها ، وعلى قبول العبادة أو ردها وعلى حصول القربة أو امتناعها .
من منطلق ما سبق كان اعتناء الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- بالعلم والتعليم اعتناءً فائقاً قلَّ له نظير .
وقد تنوعت مظاهر اهتمام الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- بالعلم والتعليم أبين شيئا منها فيما يأتي .
عناية الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- بالقرآن الكريم تعليماً ودعوة وخدمة
__________
(1) -سورة النجم(آية/3-4).(1/111)
لقد أولت الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- ابتداء بمؤسسها الإمام المجدد الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- القرآنَ الكريم عناية فائقة ، واهتماماً ظاهراً ، ابتداءً من تحكيمه وجعله نظاماً للحكم في البلاد ، وانتهاء بطباعته وتوزيع نسخه وإهدائها للمسلمين في شتى أنحاء المعمورة.
والمجتمع السعودي مجتمع قرآني، فمنذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة بقيادة الإمام المجدد الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ-بدا أن هذه الدولة ستسير في هذا الطريق،فقد كان مؤسسها قد اتخذ من العلماء جلساء لمدارسة القرآن بعد صلاة العشاء.(1)
وبدا ذلك أيضا من تعليمه أولاده وتحفيظهم كتاب الله تعالى وقد كان في ذلك فريدا بين ملوك هذا الزمان،لقد نشأ الملك عبد العزيز أولاده على حفظ القرآن بدءا من أكبرهم "تركي" ومرورا "بمشاري" الذي أقام حفلا بمناسبة ختمه القرآن كاملا عام 1356هـ(2).
وفي صباح الأحد الثاني عشر من شعبان 1364هـ احتفلت مدرسة الأمراء بختم الأمير سلمان للقرآن الكريم في حفل حضره الأمراء وقرأ فيه الأمير تركي دعاء ختم القرآن(3).
ويتبين اهتمام هذه الدولة المباركة بالقرآن الكريم تعليماً وخدمة في الأوجه التالية:
الوجه الأول
نظام الحكم في المملكة العربية السعودية قام على الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح
إن نظام الحكم في الدولة السعودية هو القرآن ، ومبناها على الكتاب والسنة على منهج السالف.
قال الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- في مجمع من كبار قومه فيهم العلماء والقواد، وهو متوجه إلى مكة عام 1343هـ : "إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها ، بل لرفع المظالم التي أرهقت كاهل عباد الله ، إني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها ؛ فلن يكون بعد اليوم سلطان إلا للشرع الذي يجب أن تطأطئ جميع الرؤوس له.
__________
(1) انظر: عناية الملك عبد العزيز بالقرآن وعلومه للسلمان(ص/5) .
(2) المصدر نفسه(ص/17).
(3) المصدر نفسه(ص/17).(1/112)
إن مكة للمسلمين كافة ، فيجب أن يكون أمر إدارتها وتنظيمها طبق رغائب العالم الإسلامي"(1)
ولَمَّا دخل الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- مكة مظفراً منصوراً وأدى العمرة قال للناس وهم حوله : "ولم يكن يخطر على بالي أن أحضر مكة على هذه الصورة ، بل إنني لو رأيت في المنام ما تمَّ لِيَ الآن لَما عبَّرت رؤياي لدى أحد المشايخ مخافة أن يسخروا مني ، لكن فضل الله لا يُحَدّ ، وهذا من محض إحسانه جل وعلا ، وإكرامه لي ، أسأله تعالى أن ينصر دينه ، ويعلي كلمته ، وأن يوفقني للعمل بكتاب الله ، وإحياء سنة سيد المرسلين إنه سميع مجيب"(2)
وجاء في أول نظام وضع للملكة كانت مادته من إملاء الإمام المجدد الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- بمكة سنة 1345هـ وقد جاء فيه : "5- جميع أحكام المملكة تكون منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح"(3)
وأعلنت المملكة العربية السعودية عام 1364هـ للدول العربيَّة: أنَّها ستمتنع عن تنفيذ أي مبدأ في التعليم أو التَّشريع يخالف قواعد الدِّين الإسلامي وأصوله(4).
وكان الإمام المجدد الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- كلَّما سئل عن دستور بلاده أجاب: دستورنا القرآن وهو يعني تقيّده هو ومملكته بأحكام الشَّرع الإسلامي المستمدة من معاني القرآن ، وما لم يكن فيه فمن حديث رسوله وعمله ، وما لم يكن فيهما فمن قضاء أصحابه وسيرتهم.." (5).
__________
(1) انظر: صقر الجزيرة(2/315) .
(2) انظر: الإمام العادل عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود(1/3) .
(3) الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز(ص/90-91) .
(4) انظر: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز(3/1208) .
(5) انظر: الوجيز(ص/90) .(1/113)
وجاء في الموسوعة العربية العالمية(16/96) : "اختارت الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز شكل وشعار الدولة وعلمها الحاليين ، وقام دستور الدولة على القرآن ، ويقوم الحكم فيها على تطبيق أحكام الشرع الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما أثر عن الصحابة وتابعيهم بإحسان وما عليه الأئمة الأربعة وصالح سلف الأمَّة ، وتطبق الدولة في المعاملات والأحوال الشَّخصيَّة المشهور من مذهب الحنابلة".
وقد صرح بأن نظام الحكم في الدولة السعودية هو الكتاب والسنة على منهج السف الصالح : مؤسسها الإمام الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- في عدة مواطن وعدة مناسبات أذكر بعضها .
قال الإمام الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- أمام المؤتمر الإسلامي سنة1344هـ : "ففي بحبوحة هذا الأمن والحرية التي لا تفيد إلا بأحكام الشرع أدعوكم إلى الائتمار والتشاور في كل ما ترون من مصالح ونظم يطمئن إليها العالم الإسلامي بإقامة شرع الله ، والتزام أحكامه وآداب دينه"(1)
وقال في خطاب له سنَّة 1349هـ : "وإنكم تعلمون أن أساس أحكامنا ونظمنا هو الشَّرع الإسلامي وأنتم في تلك الدائرة –يعني: مجلس الشورى- أحرار في سن كل نظام وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد على شرط أن لا يكون مخالفاً للشَّريعة الإسلامية لأنَّ العمل الذي يخالف الشَّرع لن يكون مفيداً لأحد ، والضرر كل الضرر هو السير على غير الأساس الذي جاء به نبينا محمد -- صلى الله عليه وسلم --"(2).
__________
(1) انظر: المصحف والسيف(ص/50) .
(2) انظر: المصدر السابق(ص/64) .(1/114)
وقال -رحمَهُ اللهُ- سنة 1351هـ : "وإني أرى كثيراً من النَّاس ينقمون على ابن سعود ، والحقيقة ما نقموا علينا إلا لاتباعنا كتاب الله وسنة رسوله ، ومنهم من عاب علينا التمسك بالدين ، وعدم الأخذ بالأعمال العصريَّة ، فأما الدين فوالله لا أغير شيئاً مما أنزل الله على لسان رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- ، ولا أتبع إلا ما جاء به، وليغضب علينا من شاء وأراد ، أما الأمور العصرية التي تعنينا وتفيدنا ويبيحها دين الإسلام فنحن نأخذها ، ونعمل به ، ونسعى في تعميمها ، أما المنافي منها للإسلام فإننا ننبذه ، ونسعى جهدنا في مقاومته ، لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولا مدنية أفضل وأحسن من مدنية الإسلام ولا عِزَّ لنا إلا التمسك به"(1)
وقال -رحمَهُ اللهُ- في خطبة له أمام حجاج بيت الله الحرام: "والمقصود من هذا الاجتماع هو أن نحدد اسم الإسلام ، ونعمل بمعناه ، والإسلام معناه: الاستسلام لله تعالى ، والطاعة له ، والإيمان بكتابه ورسله ، وقواعد الإسلام قائمة على كتاب الله وسنة رسوله ، وأعمال الخلفاء الراشدين ، وما اتفق عليه الصحابة الكرام ، وما جاء به فيما بعد الأئمة الأربعة فهو حق لا نحيد عن ذلك قط"(2)
وقال -رحمَهُ اللهُ- مصححاً بعض المفاهيم : "والحقيقة أن القرآن الكريم قد جاء بالحرية التامة الكافلة لحقوق الناس جميعاً"(3)
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "هل هناك أعظم من التمدن الذي ورد في كتاب الله؟!"(4)
__________
(1) انظر: المصدر السابق(ص/80) .
(2) انظر: المصدر السابق(ص/93).
(3) انظر: المصدر السابق .
(4) انظر: من وثائق الملك عبد العزيز للسبيت وزملائه(ص/315) .(1/115)
الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- استلم ملكاً ضائعاً فجمعه، وبلاداً خربة فعمرها ، وشعباً جائعاً ففاض بين يديه الرزق ، فهو ليس رجلاً عظيماً فحسب ولكنه رجلٌ مبارك فقد كان ما بينه وبين الله عامرا ، والملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- أسس حكمه على تقوى من الله وهذه شهادة حق لا يجوز كتمانها كما قال الله تعالى: { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } (1)
وقد جاء النظام الأساسي للحكم ونظام الشورى ونظام المناطق ونظام مجلس الوزراء ؛ أنظمة تقوم على النظام الأساسي في الإسلام حيث يستند الحاكم المسلم في إصدار قراراته على القرآن الكريم والسنة المطهرة واجتهاد العلماء، وعلى الإجماع في إطار تبادل المشورة بين رجال دولته والعلماء المختصين والخبراء(2) .
وقال الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود -رحمَهُ اللهُ- : " فإنه ليسرنا أن نخاطب إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من هذا البلد الحرام في هذا اليوم المبارك ، ونتناصح ونتواصى بالبر والتقوى ، وندعو الجميع للتمسك بكتاب الله وإخلاص العبادة له"(3) .
__________
(1) سورة البقرة(آية/283) وانظر: أسد الجزيرة(ص/27)
(2) انظر: اهتمام خادم الحرمين الشريفين بالقرآن وعلومه(ص/18) .
(3) انظر: الملك عبد العزيز والنقلة الحضارية للجزيرة العربية-مجلة الفيصل(عدد252/ص28) .(1/116)
وقال -رحمَهُ اللهُ- : "ونحن لسنا في حاجة إلى استيراد تقاليدنا من الخارج ، وقد كان لنا تاريخ مجيد ، وقدنا العالم ، ونحن لنا أجداد وأمجاد وتاريخ وتراث ، فلماذا نتنصل من هذا ونلتفت يميناً وشمالاً نتلمس الطريق ونتلمس المبادئ ، تراثنا أشرف تراث ، وتاريخنا أشرف تاريخ ، وأمتنا خير أمة أخرجت للناس ، ونحن لا نقبل أبداً أن يقال عن ديننا وعن شريعتنا : إنه دين التأخر والجمود ، نحن نريد لأمتنا أن تكون قائدة لا مقودة ، وأن تكون في المقدمة لا في المؤخرة ، وبإمكاننا أن نتقدم ونمسك الأمر إذا اتبعنا كتاب الله وسنة نبيه -- صلى الله عليه وسلم -- "(1)
وقال الملك خالد بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ-: "كانت الشريعة الإسلامية ، وستظل -إنْ شَاءَ اللهُ- الراية التي نستظل بها ، والمنطلق الذي نسير منه ، والهدف الذي نسعى إليه ، نحتكم لمبادئها ، ونستضيء بنبراسها ، ونعض عليها بالنواجذ ، لا تأخذنا فيها لومة لائم ، ولا تصدرنا عنها عراقيل الزمن ، نجد فيها جوهر العدل ، والعدل أساس الملك"(2)
ويؤكد خادم الحرمين الشريفين على أن نظام الحكم في هذه البلاد قائم على كتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- لا محيد عنهما ولا بديل بهما حين أصدر النظام الأساسي للمملكة العربية السعودية في 27 شعبان من عام 1412هـ.
إذ نصت المادة الأولى منه على أن المملكة العربية السعودية : دولة عربية إسلامية ذات سيادة تامة ، ديتها الإسلام ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- ولغتها العربية وعاصمتها مدينة الرياض.
__________
(1) تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط(ط1 عام1394/ص289-290) .
(2) انظر: مجلة البحوث الإسلامية/العدد الأول (ص/8) .(1/117)
يقول خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : "إن دستورنا في المملكة العربية السعودية هو كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- الذي لا ينطق عن الهوى ، ما اختلفنا في شيء إلا رددناه إليهما وهما الحاكمان على كل ما تصدره الدولة من أنظمة ، إننا ثابتون بحول الله وقوَّته على الإسلام نتواصى بذلك جيلاً بعد جيل ، حاكماً بعد حاكم"(1).
وقال -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : "والعلاقة بين الحاكم والمحكوم محكومة أولاً وأخيراً بشرع الله كما جاء في كتابه الكريم ، وسنة نبيه -- صلى الله عليه وسلم --"(2).
الوجه الثاني
اتخاذ القرآن الكريم منهجاً دراسياً أساسياً إلزامياً في مختلف مراحل التعليم
إن من أبرز الأدلة على اهتمام هذه الدولة المباركة بالقرآن الكريم جعلها القرآن الكريم منهجاً دراسياً أساسياً في شتى مراحل التعليم.
وهذا نابع من الركائز الدينية الثابتة ، والعقيدة السلفية التي غرزت فيهم حتى نص على هذا الاهتمام في المادة(30) من سياسة التعليم في المملكة العربية السعودية رقم799في16/9/1389هـ : "النصيحة لكتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- بصيانتهما ، ورعاية حفظهما ، وتعهد علومهما ، والعمل بما جاء فيهما".
والمدارس العامة تنقسم إلى أنواع ثلاثة: مدارس تحفيظ القرآن ، المدارس "غير مدارس التحفيظ" ، المعاهد العلمية والإسلامية وهي تبدأ من المرحلة المتوسطة إلى المرحلة الثانوية .
هذا بخلاف التعليم العالي .
أولاً: مدارس تحفيظ القرآن وهي ثلاثة مراحل: ابتدائية ومتوسطة وثانوية
__________
(1) انظر: اتخاذ القرآن أساساً لشؤون الحياة والحكم(ص/51) .
(2) انظر: فكر القائد(ص/185).(1/118)
في عهد الإمام المجدد الملك عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- بدأ تأسيس مدارس تحفيظ القرآن الكريم وكان ذلك في المدينة المنورة حيث أسست أول مدرسة ابتدائية لتحفيظ القرآن الكريم عام 1367هـ وتبعتها الثانية بمكة المكرمة عام 1371هـ.
والغرض من إنشائها تحقيق الأهداف الآتية:
- النصيحة لكتاب الله تعالى بصيانته ورعايته وحفظه وتعهد علومه تحقيقاً لمقاصد السياسة التعليمية في هذا المجال وأهدافها.
- تربية النشء تربية إسلامية تهدف إلى رعاية نموه خلقياً وفكرياً واجتماعياً في ضوء العقيدة الإسلامية وتعهد تنشئته ومساعدته في تكوين شخصيته.
- تزويد الناشئ بما يحتاج إليه من العلوم والآداب والفنون والتدريبات العملية حتى يكون أفراد الجيل مواطنين صالحين مؤمنين بالله مدركين لواجباتهم وحقوقهم معتزين بإسلامهم.
- إعداد الطالب للحياة العامة، وإكسابه المهارات العملية وإعداده للدراسة في المراحل التعليمية(1) .
ويكمل الطالب بهذه المدارس حفظ كتاب الله تعالى في مرحلتي الابتدائي والمتوسط فيحفظ نصفه في المرحلة الابتدائية والنصف الآخر في المرحلة المتوسطة.
وفي المرحلة الثانوية يراجعون كتاب الله كاملاً إضافة إلى دراسة القراءات السبع من طريق الشاطبية ، ومادة علوم القرآن ومادة التفسير.
ومدارس تحفيظ القرآن منتشرة في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- ؛ حيث بلغ عددها عام 1420هـ (907) مدرسة للبنين والبنات على مختلف المراحل(كلٌ على حدة) ، حوت 4796 فصلاً ، 465930 طالباً وطالبة، وتحفز الطلاب بإعطائهم مكافآات مالية شهرياً ، ومع ذلك فيدرس فيها جميع العلوم بالإضافة على المواد الشرعية المكثفة خاصة القرآن الكريم وعلومه.
ثانياً: المدارس العامة "غير تحفيظ القرآن" وهي ثلاثة مراحل: ابتدائية ومتوسطة وثانوية
__________
(1) رَ: نشرة التوثيق التربوي(ص/57) .(1/119)
فيقرؤون فيها كتاب الله من سورة الناس إلى سورة الأنعام تلاوة وتجويداً على مختلف المراحل من الابتدائية إلى الثانوية .
ويحفظون من سورة الناس إلى سورة الذاريات على اختلاف المراحل للبنين هذا بالنسبة لقسم العلوم الشرعية أما قسم العلوم الطبيعية والتقنية فهم أقل قليلاً فيحفظون إلى سورة الرحمن هذا بالنسبة للبنين .
أما مدارس البنات فيقرأن كتاب الله كاملاً تلاوة وتجويداً على اختلاف المراحل، ويحفظن من سورة الناس إلى سورة الطلاق ، بالإضافة إلى حفظ سورة مريم.
وقد بلغ عدد مدارس البنين عام 1420هـ 9938 مدرسة حوت 82664 فصلاً ، و1846933 طالباً.
هذا بالإضافة إلى مادة التفسير في المرحلتين: المتوسطة والثانوية.
وبلغ عدد مدارس البنات 8983 مدرسة ، حوت 74366 فصلاً ، و1425147 طالبة.
ثالثا: تعليم القرآن الكريم وعلومه في التعليم العالي
لم تقتصر عناية المملكة العربية السعودية بتعليم القرآن الكريم وعلومه على مراحل التعليم العام فحسب ، بل تجاوز ذلك إلى التعليم العالي من جامعات وما فوقها ، فالإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود وأبناؤه البررة يرون أن حفظ القرآن الكريم وتعلم علومه لا يتوقف عند مرحلة دراسية محدودة ولا يقتصر على أنواع معينة من التعليم.
بل إن الاهتمام والعناية بالقرآن الكريم يشمل جميع المراحل من المرحلة الابتدائية وحتى حصول الدارس على مرحلة الدكتوراه. علما أن بالمملكة اليوم ثماني جامعات منتشرة في مختلف أرجائها تضاهي أعرق الجامعات تعليماً وتنظيماً.
وكان لخادم الحرمين الشريفين اليد الطولى في تأسيسها ووضع لبناتها الأولى ورعايتها حق الرعاية والإنفاق عليها حتى قامت على سوقها وآتت أكلها وارتفع عدد الطلاب في التعليم العالي المدني خلال (40) سنة من (1300) طالب وطالبة إلى ما يربو على (360.000) طالب وطالبة تحتضنهم أكثر من (250) كلية.(1/120)
قال خادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- معبراً عن فرحه وسروره بافتتاح أول جامعة في المملكة وهي جامعة الملك سعود في الرياض سنة 1377ه:
"إن هذه اللحظة لحظة هامة وحدث عظيم في تاريخ المملكة فهو يمثل نقطة انطلاق جديدة في حقل التعليم، ولاشك أن تأسيس هذه الجامعة سوف يجعل ناشئة هذه البلاد يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، وسوف تتيح لهم هذه الجامعة أنواعاً من الدراسات العميقة التي تستهدف الحق والعدل في دراستها الأدبية، وتستهدف السلم والرفاهية في دراستها العلمية، ولاشك أن هذه وتلك تستهدف المثل العليا التي تسعون إليها جاهدين وسوف يسجل التاريخ الخالد هذا اليوم العظيم من تاريخ هذه البلاد، وسوف تذكر الأجيال القادمة يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر ربيع الثاني" .
والجامعات حسب ترتيب إنشائها:
- جامعة الملك سعود بالرياض سنة: 1377ه.
- الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: 1381ه.
- جامعة الملك عبد العزيز بجدة: 1387ه، وكانت جامعة أهلية ثم تحولت إلى جامعة حكومية عام 1391ه.
- جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام1394ه، وقد تأسست كلية الشريعة واللغة التابعة لها قبل ذلك في عام 1373ه.
- جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران عام: 1395ه.
- جامعة الملك فيصل بالأحساء عام: 1395ه.
- جامعة أم القرى بمكة عام: 1401ه، وتأسست كلية الشريعة التابعة لها في سنة: 1367ه.
- جامعة الملك خالد بأبها عام: 1419ه.
ونظرة سريعة على مقرر القرآن الكريم وعلومه بتلك الجامعات نرى الاهتمام البالغ الذي حظي به ذلك المقرر فهو متطلب أساسي حيثما وجد.
ففي جامعة الملك سعود:
يدرس الطلاب بقسم الثقافة التابع لكلية التربية (27) وحدة في القرآن الكريم وعلومه، منها(8) وحدات في التلاوة والتجويد والأخرى في علوم القرآن الكريم، وفي قسم اللغة التابع لكلية الآداب يدرس الطالب (3) وحدات في علوم القرآن.
وفي جامعة الملك عبد العزيز:(1/121)
يولي قسم الدراسات الإسلامية اهتماماً كبيراً بالقرآن وعلومه يدرس الطالب (15) وحدة في القرآن وعلومه كمتطلب في التخصص .
جامعة الملك فهد للبترول والمعادن:
تولي هذه الجامعة القرآن وعلومه عناية طيبة فمن خلال قسم الدراسات الإسلامية والعربية بكلية العلوم يدرس جميع الطلاب مادة القرآن وعلومه ويحفظون بعض السور .
جامعة الملك فيصل:
تولي هذه الجامعة أيضاً العناية التامة لكتاب الله حيث يدرس الطلاب (13) وحدة في القرآن وعلومه وذلك خلال السنوات الثلاث الأولى وهو مقرر أساسي.
جامعة الملك خالد:
وقد أولت هذه الجامعة اهتماماً كبيراً بالقرآن الكريم وعلوم من خلال الكليات والأقسام التي بها.
حيث بلغت عدد الوحدات المخصصة للقرآن وعلومه (151) وحدة نال كل قسم منها حظاً ونصيباً .
جامعة الإمام محمد بن سعود:
وهي من الجامعات المتخصصة في العلوم الشرعية وتهتم اهتماماً بالغاً بالقرآن الكريم وعلومه. حتى نشأ بها قسم للقرآن وعلومه يتبع كلية أصول الدين يدرس الطالب به (78) وحدة للقرآن وعلومه.
وشعبة للقراءات تابعة لقسم القرآن وعلومه يدرس الطالب بها (77) وحدة في القرآن وعلومه، وبلغ إجمالي عدد الوحدات التي حظي بها القرآن وعلومه في باقي الأقسام (145) وحدة نال كل قسم منها حظاً ونصيباً .
جامعة أم القرى:
وهي أيضاً من الجامعات المتخصصة بالعلوم الشرعية وتهتم اهتماماً بالغاً بالقرآن الكريم وعلومه وفيها قسم عني بالقراءات يحفظ طلابه القرآن الكريم كاملاً ويدرسون علم القراءات وعلوم القرآن وقد بلغت عدد وحدات القرآن الكريم وعلومه في الكليات وأقسامها: (65) من غير قسم القراءات موزعة بين الأقسام حظي كل قسم منها بنصيب .
الجامعة الإسلامية:
مؤسسة إسلامية عالمية من حيث الغاية عربية سعودية من حيث التبعية.
وقد نص نظامها على أهداف منها:
- تبليغ رسالة الإسلام الخالدة إلى العالم عن طريق الدعوة والتعليم الجامعي والدراسات العليا.(1/122)
- غرس الروح الإسلامية وتنميتها، وتعميق التدين العملي في حياة الفرد والمجتمع المبنى على إخلاص العبادة لله وحده، وتجريد المتابعة لرسوله -- صلى الله عليه وسلم --.
- إعداد البحوث العلمية وترجمتها ونشرها وتشجيعها في مجالات العلوم الإسلامية والعربية خاصة، وسائر العلوم، وفروع المعرفة الإنسانية التي يحتاج إليها المجتمع الإسلامي.
- تثقيف من يلتحق بها من طلاب العلم من المسلمين من شتى الأنحاء وتكوين علماء متخصصين في العلوم والمعارف بما يؤهلهم للدعوة للإسلام. وحل ما يعرض للمسلمين من مشكلات في شئون دينهم ودنياهم على هدي الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح .
ومن منطلق هذه الأهداف حرصت الجامعة الإسلامية على تثقيف من يلتحق بها من طلبة المسلمين ثقافة إسلامية نقية مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله-- صلى الله عليه وسلم -- ولما كان كتاب الله عز وجل هو رأس العلوم وأساسها نال هو وعلومه من العناية غايتها.
ففي الجامعة خمس كليات كلها تعنى بكتاب الله وعلومه:
وكلها تخرج طلابها يحفظون عشرة أجزاء من القرآن إلا كلية القرآن فطلبتها يحفظون كتاب الله كاملاً بالقراءات.
1- كلية الشريعة:
يدرس الطالب بها (108) وحدات في القرآن والتفسير منها (29) وحدة للقرآن.
2- كلية الدعوة وأصول الدين:
يدرس الطالب بها (84) وحدة في القرآن والتفسير منها(21)وحدة للقرآن.
3- كلية اللغة:
يدرس الطالب بها (29) وحدة في القرآن والتفسير منها (12) وحدة للقرآن الكريم.
4- كلية الحديث:
يدرس الطالب (36) وحدة في القرآن والتفسير منها (12) وحدة للقرآن الكريم. وكل هذه الوحدات متطلبات أساسية لا يتخرج الطالب قبل أن يجتازها بنجاح.
5- كلية القرآن الكريم:(1/123)
أنشئت بعد كليتا الشريعة والدعوة ، وبعدها كليتا اللغة والحديث ، وهي أول كلية متخصصة في القراءات على مستوى العالم فهي هدية حكومة خادم الحرمين الشريفين إلى العالم الإسلامي تعنى بالقرآن وعلومه، وعلى وجه الخصوص علم القراءات وعلم الرسم والضبط وعلم الفواصل وهي علوم كادت أن تندرس وقل العارفون بها، لولا أن سخر الله لها قيام هذه الكلية المباركة في طيبة الطيبة مهاجر رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- وحيث يَنْزِلُ الوحي، كما تعنى بالتفسير بقسميه (التحليلي) (والموضوعي).
أهدافها:
كان الهدف من إنشاء هذه الكلية هو العناية بكتاب الله عز وجل حفظاً وتفسيراً، وإعداد المعلمين المتمكنين في علوم القرآن الكريم وتأهيل القراء لاستيعاب القراءات المتواترة عرضا وتوجيها ومعرفة رسم المصحف وضبطه وعدّ آيه مع الإلمام بالعلوم التي تساعدهم على ذلك .
وبالكلية قسمان:
أ - قسم القراءات
ب- قسم التفسير
يدرس الطالب بهما (52) وحدة للقرآن وعلومه ويشترط للقبول في هذه الكلية أن يكون المتقدم لها حافظاً للقرآن الكريم.
وهناك كليات تتبع وزارة المعارف:
ككليات إعداد المعلمين:
يدرس الطالب (6) وحدات في القرآن متطلب كلية ويدرس في تخصص الدراسات الإسلامية (33) وحدة في القرآن وعلومه، ويدرس في تخصص الدراسات القرآنية (47) وحدة في القرآن وعلومه، وهكذا نرى ما بذلته حكومة خادم الحرمين الشريفين من جهود للعناية بكتاب الله من خلال الجامعات والكليات التابعة لوزارة المعارف بحيث تضافرت جهود الجميع على جعل القرآن الكريم متطلباً أساسياً في جميع الأقسام، يستوي في ذلك الكليات المتخصصة في علوم الشريعة وغير المتخصصة فهم جميعاً يلتفون حول مائدة القرآن يغترفون من معينه وينهلون من ورده ويحظون ببركته.(1/124)
ولم تقف العناية بالقرآن عند هذا المستوى من التعليم بل تجاوزته إلى الدراسات العليا (مرحلة الماجستير والدكتوراه) حيث تشترط بعض الأقسام في كل من الجامعة الإسلامية وجامعة الإمام محمد بن سعود وجامعة أم القرى أن يجتاز المتقدم لهذه المرحلة امتحاناً في حفظ بعض الأجزاء (خمسة أجزاء لمرحلة الماجستير وعشرة أجزاء لمرحلة الدكتوراه في الجامعة الإسلامية).
ومن مظاهر العناية بكتاب الله في هذه الجامعات ما يقدم فيها من أبحاث ورسائل تعنى كلها بالقرآن وعلومه تربو على المئات وأضرب لذلك مثلاً فهذه كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بلغ عدد الرسائل المسجلة بقسميها منذ إنشائها عام 1394ه بلغ ما يربو على (170) بين ماجستير ودكتوراه ورد في دليل الرسائل العلمية الصادر عن عمادة البحث العلمي (1420ه) البعض منها والبعض الآخر أخذاً من واقع سجلات القسمين.
ولاشك أن هذا العدد قليل إذا ما قورن بما هو مسجل في بعض أقسام القرآن الأخرى ذات الأعداد الكبيرة كما في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة أم القرى ونحوهما(1).
الوجه الثالث
التشجيع على حفظ القرآن الكريم
إن من أهم مظاهر اهتمام المملكة العربية السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- بالقرآن الكريم تشجيع حفظ القرآن الكريم.
ولهذا التشجيع مظاهر متعددة منها:
أولاً: الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم
لقد كانت البذرة الأولى لجمعيات تحفيظ القرآن الكتاتيب وحلقات القرآن في المساجد .
وأول جمعية لتحفيظ أنشأت في عهده وفي المدينة المنورة أيضا وقيل إن أول جمعية كانت بمكة عام 1382هـ وتلتها المدينة بعام واحد.
__________
(1) انظر لهذا المبحث: اهتمام خادم الحرمين الشريفين بالقرآن وعلومه(ص/37-43) بتصرف يسير.(1/125)
ولقد نمت الجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في عهد خادم الحرمين الشريفين –حفظه الله ورعاه- وأولتها حكومته الرعاية اللازمة مادياً ومعنوياً ، وخصصت لها الإعانة السنوية ، ومنحت الأراضي التي تقيم عليها المباني ، وأسند إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الإشراف على هذا الجمعيات وذلك بالمرسوم الملكي (7/5/1037 في 10/7/1414ه) ، وانتشرت انتشاراً واسعاً في جميع أنحاء المملكة حتى بلغت ست عشرة جمعية خيرية لتحفيظ القرآن.
وهدف هذه الجمعيات تعليم القرآن الكريم تلاوة وحفظا وتجويداً وما يتصل بذلك أو يتفرع عنه من أغراض ويكون مقرها في عاصمة المنطقة.
أهداف هذه الجمعيات:
1- ربط المسلم بكتاب الله تعالى علماً وعملاً إذ هو مصدر عزه الحقيقي وتمكينه في الأرض.
2- تحقيق الخيرية الموعود بها في قوله:-- صلى الله عليه وسلم --"خيركم من تعلم القرآن وعلمه" .
3- تعليم القرآن الكريم لأبناء المسلمين تلاوة وتجويداً وتفسيراً.
4- إعداد المدرسين الأكفاء لتعليم القرآن الكريم.
5- العمل على تخريج جيل حافظ يقوم بدوره في إمامة المساجد وفي تعليم كتاب الله العزيز.
6- تهذيب أخلاق الناشئة بما يتعلمونه من كتاب الله.
7- إحياء جانب من جوانب رسالة المسجد.
وبلغ عدد جمعيات تحفيظ القرآن (82) جمعية لتحفيظ القرآن الكريم في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- ،وبلغ العدد الإجمالي للطلبة والطالبات في الجمعيات الخيرية في مختلف مناطق المملكة (361.645) طالب وطالبة منهم (132.181) طالبة.
كما بلغ عدد حلق التحفيظ فيها (15.962) حلقة منها (5.947) حلقة خاصة بالنساء.
أما عدد الخاتمين للقرآن الكريم فقد بلغ (4.377) خاتماً وبلغ عدد الخاتمات (619) خاتمة للقرآن الكريم ويقوم بالتدريس في حلق تحفيظ البنين ما مجموعه (8.106) مدرسين.(1/126)
وبلغ عدد المدرسات في حلق البنات (6.271) كما أشار الكتاب إلى أن نسبة الزيادة عن عام 1421ه بلغت في عدد الطلبة والطالبات 13% أي بزيادة بلغت (40.329) طالباً وطالبة .
ومن فضل الله عليَّ أني حفظت القرآن الكريم في حلقة من حلقات تحفيظ القرآن، وأتممته في ثلاثة عشر شهراً واستلمت شهادة حفظ القرآن الكريم عام 1409هـ ، وشرف صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبد العزيز -رحمَهُ اللهُ- الحفل الختامي السنوي بتخريج دفعة تلك السنة من حفاظ القرآن الكريم وتسليمهم الجوائز ، وكنت أحدهم والحمد لله على توفيقه.
ثانياً: حلقات التحفيظ في السجون ودُور الملاحظة.
ومن مظاهر اعتناء المملكة العربية السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- بالقرآن الكريم هو إنشاء حلقات لتحفيظ القرآن في السجون ودور الملاحظة ، وعُزِّزَ ذلك بمكرمة ملكية وهي تخفيف مدة المحكومية على السجين الذي يحفظ كتاب الله كاملاً داخل السجن إلى نصف المدة المقررة عليه أصلاً.
وذلك في المرسوم الصادر في عهد خادم الحرمين الشريفين – -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- رقم 107/8 في 7/2/1408ه .
وهذا ما حدا بالسجناء إلى التنافس في حفظ كتاب الله ليستفيدوا من هذه المكرمة وقد تم ذلك حيث حفظ البعض منهم كتاب الله كاملاً فحظي أولاً بشرف حفظه لكتاب الله ، وحظي ثانياً بتخفيف مدة العقوبة إلى نصفها والحق أنها مكرمة لا مثيل ولا سابق لها في العالم كله فهي سنة حسنة سنها خادم الحرمين الشريفين لخدمة كتاب الله في موطن أشد ما تكون الحاجة فيه إلى تدبر كتاب الله وفهم معانيه والاستضاءة بنوره.
وقد أراد خادم الحرمين الشريفين من هذه المكرمة أموراً منها:
1- إكرام حامل القرآن الكريم وهو منهج سديد اقتدى فيه بهدي رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --وخلفائه من بعده في إكرام حامل القرآن.(1/127)
2- أن من جمع القرآن في وجوفه وصار لسانه رطباً به عادت عليه بركاته فزكت نفسه وسمت عن سفاسف الأمور وقبيحها وتطلعت إلى معالي الأمور لأنَّ القرآن الكريم يهدي للتي هي أقوم، فيستقيم ظاهراً وباطناً ويطيب مظهره ومخبره.
3- أن تتحول هذه السجون ودور الملاحظة إلى دور إصلاح وتهذيب بما يتلى فيها من كتاب الله ودراسته وحفظه فإن المكان الذي يتلى فيه كتاب الله تغشاه الرحمة وتَنْزِلُ عليه السكينة.
ولقد كان من ثمرة ذلك ما شوهد من بعض من خرج منها بعد انقضاء مدته من حسن حاله واستقامة أمره بسبب حفظه لكتاب الله كاملاً أو أجزاءً منه فصار منهم الدعاة بل والأئمة.
أجزل الله لخادم الحرمين الشريفين موفور الثواب يوم يلقاه.
ثالثاً: مسابقات حفظ القرآن الكريم وتفسيره.
ومن مظاهر عناية المملكة العربية السعودية بالقرآن الكريم وعلومه ، دعم قادتها -حفظهُم اللهُ- ورعايتهم لمسابقات حفظ القرآن الكريم والتي تأتي في مقدمتها (المسابقة الدولية لحفظ القرآن الكريم وتلاوته وتفسيره) التي مقرها مكة المشرفة، والتي صارت تعرف بمسابقة الملك عبد العزيز الدولية.
تلك المسابقة التي بثها خادم الحرمين الشريفين بين أبناء العالم ودعا إليها وأمدها بالدعم اللازم، فكانت باباً من أبواب الخير يتنافس فيه المتنافسون وملتقى حول مائدة القرآن في رحاب البيت العتيق ومهبط الوحي.
ولا يخفى ما في هذه المسابقة من حفظ للقرآن وحروفه التي نزل عليها من الضياع مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1) .
والجهة المنظمة لهذه المسابقة هي وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية وقد أنشئت بموجب صدور الأمر الملكي رقم (25281) في 12/11/1398ه على أن تقام في كل عام في مكة المكرمة.
في خمسة فروع وهي:
__________
(1) سورة الحجر(آية/9).(1/128)
الفرع الأول: حفظ القرآن الكريم كاملاً مع التجويد والترتيل وتفسير جزء منه يحدد سنوياً.
الفرع الثاني: حفظ القرآن الكريم كاملاً مع التلاوة والتجويد.
الفرع الثالث: حفظ عشرين جزءً متتالية مع التلاوة والتجويد.
الفرع الرابع: حفظ عشرة أجزاء متتالية مع التلاوة والتجويد.
الفرع الخامس: حفظ خمسة أجزاء متتالية مع حسن الصوت والتلاوة.
وقد بلغ عدد المشاركين فيها حتى عام (1419ه) (3135) متسابقاً من مختلف أنحاء العالم.
وتشرف عليها لجنة تحكيم دولية يختار أعضاؤها من خيرة القراء في العالم الإسلامي ورصدت لها الجوائز التشجيعية للفائزين والمتسابقين الذين لم يفوزوا نسأله سبحانه وتعالى أن يجزيه على ذلك خير الجزاء كما أن خادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- قد وافق على إنشاء المسابقة المحلية لحفظ القرآن الكريم على غرار المسابقة الدولية إلا أنها خاصة بالسعوديين يرعاها ويتولى جوائزها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز ومقرها الرياض وليست خاصة بالذكور فللنساء نصيب منها.
وقد بلغ عدد المشاركين في هذه المسابقة حتى عام 1418ه (1412) متسابقاً.
الوجه الرابع
العناية بالقرآن الكريم وعلومه من خلال إذاعة القرآن الكريم
تعتبر الإذاعة من أهم وسائل الإعلام المسموعة لسرعة انتشارها وبلوغها ما لا تستطيع بلوغه أي وسيلة أخرى فهي قادرة على تخطي كل الحواجز والمسافات البعيدة فتسمع في البر والبحر والجو وفي الحضر والمدر، وتفيد الأمي والمتعلم، فجهاز بث صغير تصحبه معك تطل منه على العالم كله، ولذلك كانت من أنفع الوسائل في مجال الدعوة إلى الله إذا ما وظفت لذلك فما يبث من خلالها من قرآن متلو فيه الشفاء والرحمة للمؤمنين وتفسير لآياته وبيان لأحكامه وإظهار لسنة وتوضيح لعقيدة صافية من شوائب الشرك وكلمة طيبة كل ذلك له أثاره الحميدة في العاجل والآجل.(1/129)
ومنذ بدء انطلاقة الإذاعة بالمملكة العربية السعودية في 13 رجب من عام 1368ه وبدأ الإرسال من مدينة جدة في يوم الأحد/9/ ذي الحجة عام1368ه.
ثم تلا ذلك البث من إذاعة الرياض في رمضان 1384ه .
وخصصت للبرامج الدينية من ذلك البث ساعات لا بأس بها مع قلة الزمن المحدد لذلك البث وكان للقرآن الكريم وعلومه الحظ الأوفر من تلك المواد.
وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- كان ميلاد إذاعة القرآن الكريم في شهر محرم عام 1403ه بعد أن تم توحيد كل من إذاعة القرآن الكريم التي تبث من مكة المكرمة وإذاعة القرآن التي تبث من الرياض في بوتقة واحدة مما صار يعرف بـ(إذاعة القرآن الكريم) تبث طوال عشرين ساعة في اليوم، وتمثل التلاوة القرآنية ما نسبته 75 % من هيكل برامجها.
ومن أهم أهداف هذه الإذاعة خدمة القرآن الكريم وعلومه وما يتصل به من معارف وعلوم حيث تنطلق آيات الله تتلى عبر موجاتها بأصوات مشاهير القراء على اختلاف حروفه التي نزل عليها، وتلاوات أئمة الحرمين الشريفين ثم ما يتخلل تلك التلاوات من أحاديث وبرامج ذات صلة وثيقة بكتاب الله كتفسير معانيه وبيان أحكامه والوقوف على العقيدة الصحيحة المستفادة منه وإجابة فتاوى المستمعين.
وبين إذاعة القرآن الكريم ومجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف تعاون وثيق.
وبين الإذاعة وكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية تعاون وثيق في بث البرنامج المسمى (دروس من القرآن الكريم) والذي يتم تسجيل حلقاته في استديو كلية القرآن الكريم ثم بعد استكمال التصحيح يرسل لتبثه الإذاعة.
وقد بلغ عدد حلقاته التي تمت إذاعتها أكثر من (800) حلقة وهو برنامج يهدف إلى تسجيل مصحف كامل بالقراءات السبع وآخر بالعشر بأصوات طلاب الكلية المهرة وإشراف أساتذتها ذوي الخبرة.(1/130)
ولما لهذه الإذاعة من نشاط بارز ودور رائد في خدمة القرآن وعلومه أولاها المسؤولون بوزارة الإعلام في حكومة خادم الحرمين الشريفين ما تستحقه من الرعاية والدعم فزودت بوسائل البث المطورة التي تمكنها من اتساع رقعة انتشارها وسماعها بصفاء ووضوح، وتم بثها عبر الأقمار الصناعية العربية ليصل بثها إلى قارات العالم أجمع فتشنف آذان سامعها بما يتلى فيها من كتاب الله فيردد معها تلك الآيات مما يملأ قلبه نوراً وعقله إيماناً وجوارحه استكانة وخشوعاً وقد سمعنا من حفظ بعض أجزاء القرآن خلال متابعته لتلاواتها وتفقه في أمور دينه من خلال برامجها الدعوية الإفتائية.
فإيصال هذا الخير والنور والهدى إلى هذه الأنفاس المتعطشة للإيمان ومعرفة الأحكام، ومنعها من الوقوع في الغواية والضلال سيكون ثواب موصله عند الله جزيلاً وجزاؤه عنده موفوراً.
وخادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- له النصيب الأوفر من ذلك بإذن الله.
والحديث عن هذه الإذاعة وما تقدمه من جهود في خدمة القرآن الكريم وعلومه لا توفيه هذه السطور حقها نسأل الله للقائمين عليها مزيداً من التوفيق والسداد.
الوجه الخامس
العناية بطباعة القرآن الكريم ونشره
إن من شدة اهتمام المملكة العربية السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- بالقرآن الكريم عنايتها بطباعة القرآن الكريم طباعة جيدة ودقيقة ، فكونت لجنة في الإفتاء ، ثم في وزارة الشؤون الإسلامية لمراجعة القرآن والإذن بطباعته أو فسحه.
ثم توج هذا العمل بإنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الذي لا يوجد له نظير في العالم كله .(1/131)
حيث يهدف إلى تغطية احتياجات العالم الإسلامي من المصاحف الخالية من التصحيف والتحريف والتغيير والتبديل.في وقت كثرت فيه طباعات تجارية للقرآن الكريم لم تحظ بالقدر الكافي من العناية والتدقيق والضبط وحسن الإخراج ناهيك عن وجود طبعات أخرى محرفة عن قصد صادرة عن أعداء الإسلام كي يلبسوا على المسلمين أمر دينهم ويصدوهم عن كلام ربهم الذي تكفل بحفظه فباؤوا بالخزي والفشل والخسارة المادية والمعنوية وحق عليهم قول البارئ جل وعلا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}(1) .
وقع اختيار خادم الحرمين الشريفين على المدينة النبوية لتكون مقراً لهذه المنشأة العظيمة لأنها عاصمة الإسلام الأولى، وحيث كان يتَنَزَّلُ الوحي على رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وبها تم جمع القرآن الكريم في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق-- رضي الله عنه --. ثم حصل الجمع الثاني في مصاحف في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان -- رضي الله عنه -- وسُمِّي ذلك المصحف بمصحف (المدينة النبوية).
ففي السادس عشر من شهر المحرم عام 1403ه. تفضل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- بوضع حجر الأساس لهذا المشروع العملاق، وقال عند وضع حجر الأساس: "بسم الله الرحمن الرحيم، وعلى بركة الله العلي القدير، إننا نرجو أن يكون هذا المشروع خيراً وبركة لخدمة القرآن الكريم أولاً، والإسلام والمسلمين ثانياً، راجياً من الله العلي القدير العون والتوفيق في أمورنا الدينية والدنيوية وأن يوفق هذا المشروع الكبير لخدمة ما أنشئ من أجله، وهو القرآن الكريم، لينتفع به المسلمون،وليتدبروا معانيه".
__________
(1) سورة الأنفال(آية/36).(1/132)
وفي السادس من شهر صفر عام 1405ه أزاح خادم الحرمين الشريفين الستار إيذاناً بتشغيل المجمع بعد أن كمل بناؤه وتجهيزاته الفنية والبشرية.
وسطر في سجل المجمع الكلمة التالية: "لقد كنت قبل سنتين في هذا المكان لوضع حجر الأساس لهذا المشروع العظيم، وفي هذه المدينة التي كانت أعظم مدينة فرح أهلها بقدوم رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وكانوا خير عون له في شدائد الأمور، وانطلقت منها الدعوة، دعوة الخير والبركة للعالم أجمع، وفي هذا اليوم أجد أن ما كان حلماً يتحقق على أفضل مستوى، ولذلك يجب على كل مواطن في المملكة العربية السعودية أن يشكر الله على هذه النعمة الكبرى، وأرجو أن يوفقني الله أن أقوم بخدمة ديني ثم وطني وجميع المسلمين وأرجو من الله التوفيق".
أهم أهداف هذا المشروع:
طباعة المصحف الشريف بالروايات المشهورة في العالم الإسلامي.
ترجمة معاني القرآن الكريم وتفسيره إلى أهم اللغات وأوسعها انتشاراً وطباعتها.
تسجيل تلاوة القرآن الكريم بأصوات مشاهير القراء.
إجراء البحوث والدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم والسنة والسيرة النبوية المطهرة.
تلبية حاجة المسلمين في الداخل والخارج من إصداراته المختلفة.
ومن أهم أعمال مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف:
1- طباعة المصحف الشريف.
2- تسجيل تلاوة القرآن الكريم
3- ترجمة معاني القرآن الكريم
4- الدراسات القرآنية
أولاً : طباعة المصحف الشريف
لقد تم تشكيل لجنة مراجعة مصحف المدينة النبوية برئاسة عميد كلية القرآن الكريم وعضوية عدد من العلماء المختصين منهم (ثمانية) من كلية القرآن الكريم ورئيس قسم اللغويات بالجامعة وأربعة من رئاسة البحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد بالرياض، ومستشار من المجمع.(1/133)
وقد قامت هذه اللجنة بمراجعة وتصحيح النسخة التي بدأ العمل في طباعتها، وبلغ عدد الختمات التي تمت لهذه النسخة مائة وثمانين ختمة مع الفحص الدقيق والعناية اللازمة حتى توصلت اللجنة إلى تصحيح شامل دقيق للنسخة، لا يظن أنه توفر لأي مصحف مطبوع قبل ذلك وهذا من فضل الله وإعانته وتوفيقه (1)
وقد قام مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بطباعة القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم بأحجام مختلفة هي: الحبيب، والثمن، والربع، والعادي 75جم، والجوامعي العادي 45جم، والجوامعي الخاص، والجوامعي الفاخر، والملكي الفاخر، إضافة إلى طبعة مجزأة: جزء عم، وجزء تبارك، وجزء قد سمع، والعشر الأخير، وربع يس، كما طبع مصحف بكامله مجزأ على ستة أقسام.
كما طبع براوية ورش عن نافع المدني، وهي الرواية التي يقرأ بها في معظم دول المغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس، موريتانيا) إضافة إلى السنغال، تشاد، نيجيريا.
كما طبع برواية الدوري عن أبي عمرو البصري
كما طبع مصحف نسخ تعليق برواية حفص عن عاصم على حسب قواعد الرسم والضبط المتعارف عليها في باكستان وما جاورها
وتبلغ طاقة المجمع الإنتاجية (9) تسعة ملايين نسخة في العام، وقد بلغ ما تم طباعته من النسخ حتى عام 1421ه /1422ه (160) مائة وستين مليون نسخة وزع منها حتى الآن (120) مائة وعشرون مليون نسخة من مختلف الإصدارات على المساجد والمؤسسات الإسلامية والمراكز الإسلامية داخل المملكة وخارجها وزود كل حاج بنسخة هدية من خادم الحرمين الشريفين يعود بها إلى بلاده .
ومما يجدر ذكره مما يلتحق بطباعة المصحف الشريف :
مطابع خادم الحرمين الشريفين لطباعة القرآن الكريم بخط (برايل) للمكفوفين
__________
(1) انظر: تقرير كلية القرآن الكريم المنشور في مجلتها لعام 1404ه - 1405(1/134)
ومن مظاهر عنايته حفظه الله بالقرآن الكريم تشجيعه لطباعته للمكفوفين الذين بلغ عددهم في المملكة وحسب المسح الذي قامت به وزارة المعارف عام 1401ه: عشرين ألف كفيف.
جاء في التقرير الذي أعده الدكتور ناصر بن على الموسى عن مطابع خادم الحرمين الشريفين ما يأتي:
1- لقد تشرفت مطابع المكتب الإقليمي لشؤون المكفوفين للطباعة بخط برايل بإطلاق اسم مطابع خادم الحرمين الشريفين لطباعة القرآن الكريم عليها في 24/7/1412ه وذلك بعد موافقة كريمة من المقام السامي.
2- تفضل خادم الحرمين الشريفين بدعمه السخي لهذه المطابع مادياً ومعنوياً، لكي تقوم بطباعة القرآن الكريم بخط برايل، وتوزيعه مجاناً على المكفوفين المتطلعين لقراءة كتاب الله بأنفسهم وذلك في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
الهدف من إنشائها:
إن الهدف من إنشاء هذه المطابع هو توفير الكتب المطبوعة بخط برايل، وبخاصة القرآن الكريم والكتب الدينية والثقافية التي تعود على قارئها بالفائدة.
وقد كان لهذه المطابع الريادة في استخدام الترجمة الآلية عن طريق الحاسوب من الخط العادي إلى خط برايل.
وبدأ تشغيل نظام الحاسب الآلي الذي طور خصيصاً لهذا العمل عام 1402ه.
تم طبع ما يزيد على (2000) نسخة وزعت مجاناً على نفقة خادم الحرمين الشريفين تلبية لطلبات المعوقين بصرياً داخل المملكة وخارجها.
وتقوم على هذه المطابع لجان مختصة منهم تسعةٌ مكفوفون وثلاثةٌ مبصرون وجميعهم يجيدون طريقة برايل.
مهام هذه اللجنة:
1- مراجعة طباعة القرآن الكريم على هذه الطريقة من حيث:
أ- المقدمة.
ب- علامات الوقوف.
ج- علامات الضبط.
د- علامات الأحزاب والأجزاء.
ه- طريقة كتابة الفهرس، البيانات التي يتضمنها وموضع الفهرس في كل مجلد.
و- المعلومات التي ترد قبل السورة مثل:
عدد الآيات، ومكان النُّزُولِ، ووقته.(1/135)
وقد راعت اللجنة في الطبعة الجديدة من مطابع خادم الحرمين الشريفين لطباعة القرآن الكريم بخط برايل الأخذ بأحكام الرسم والضبط المتبعة في مصحف (المدينة النبوية) المطبوع بمجمع الملك فهد .
ثانياً: تسجيل تلاوة القرآن الكريم
يقوم المجمع إلى جانب طباعة المصحف الشريف بتسجيل القرآن الكريم بالروايات المشهورة المتوترة بأصوات بعض القراء السعوديين تحت إشراف لجنة متخصصة من علماء القراءات تعرف باللجنة العلمية لمراجعة التسجيلات ينتمون جميعاً إلى كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية فيما سبق والله يبارك فيما بقي منهم.
ويتم تسجيل التلاوة في (استديو) مجهز بأحدث أجهزة التسجيل، وتقوم اللجنة بمتابعة القارئ أثناء التلاوة ويدون كل عضو ملحوظاته في بيان خاص بذلك.
وتناقش هذه الملحوظات ويطلب من القارئ تصحيح ما أجمع على تصحيحه منها في نفس اليوم الذي تلا فيه.
وهكذا يستمر العمل حتى تنتهي تلاوة كامل المصحف فتراجع اللجنة مرة أخرى التلاوة بكاملها وتتخذ الخطوات السابقة نفسها حتى تطمئن على سلامة التسجيل وتوقع على إجازة العمل وربما استغرق القارئ سنة إلى ثلاث سنوات لتسجيل تلاوة المصحف كاملاً.
وتتابع بعد ذلك خطوات الاستنساخ من الشريط الأصل إلى شريط ماستر 4/1 بوصة ثم إلى القرص CD ثم إلى بكرات تعبئة أشرطة الكاسيت وفي كل مرحلة يخضع العمل إلى مراقبة عاملين وفنيين متخصصين حتى يظهر التسجيل على مستوى جيد من الدقة العلمية والفنية .
ثالثاً: الترجمات لمعاني القرآن الكريم
إن من أهم الأعمال التي يقوم بها المجمع إلى جانب طباعته للمصحف ترجمة معاني القرآن الكريم إلى العديد من اللغات العالمية وقد ساهم مساهمة كبيرة في تيسير فهم القرآن الكريم على ملايين المسلمين الذين لا يتكلمون اللغة العربية.(1/136)
وتمتاز ترجمات المجمع بسلامة العقيدة على منهج السلف الصالح، وصحة الأحكام الشرعية، وذلك لكون المترجمين والمراجعين مسلمين، وللمزيد من العناية بالترجمات فقد أنشئ في المجمع عام 1416ه مركز متخصص للترجمات.
من أهدافه:
القيام بأعمال ترجمات معاني القرآن الكريم وتفسيره إلى لغات العالم.
دراسة المشكلات المرتبطة بترجمات معاني القرآن الكريم وتقديم الحلول المناسبة لها.
إجراء البحوث والدراسات في مجال الترجمات.
تسجيل ترجمة معاني القرآن الكريم في أشرطة صوتية وأسطوانات الليزر.
ترجمة ما يحتاج إليه المسلمون من العلوم المتعلقة بالقرآن الكريم .
ويتّبع المجمع بعض الإجراءات في اختيار ترجمات معاني القرآن الكريم ونشرها وفيما يأتي أهم تلك الإجراءات.
يتم تحديد اللغة التي ينوي المجمع نشر ترجمةٍ لمعاني القرآن الكريم بها وذلك حسب الأولويات التي تحددها أهمية اللغة، وسعة انتشارها، وعدد المتكلمين بها وحاجة المسلمين الناطقين بها إلى ترجمة، أو كون الناطقين بها معرضين لتنصير أو غيره مما يصرفهم عن دينهم.
مخاطبة الجهات التي يمكن أن تتوافر لديها ترجمة اللغة المطلوبة، وفي حالة وجود الترجمة تطلب نسخة منها للدراسة.
ترشح بعض الجهات أو الجمعيات ترجمات معينة للمجمع يقوم بدراستها واختيار الصالح منها.
تشكل لجنة متخصصة ممن يجيدون لغة الترجمة المطلوبة أو المعروضة مع إجادة اللغة العربية والعلوم الشرعية من ذوي العقيدة السليمة لدراسة الترجمة وإبداء الرأي فيها من جميع النواحي وبخاصة من ناحيتي العقيدة والأحكام الشرعية وتقدم اللجنة تقريراً مفصلاً تبين فيه الأخطاء الواردة في الترجمة مع بيان الصواب.
بناء على توصية اللجنة المكلفة يتم قبول الترجمة أو رفضها.
في حال قبول الترجمة يزود المترجم بملاحظات اللجنة عليها ويطلب منه الموافقة على تعديل الترجمة في ضوء تلك الملحوظات.(1/137)
إذا وافق المترجم على تعديل الترجمة حسب ملاحظات المجمع تتخذ الإجراءات اللازمة لطباعة الترجمة بعد تعديلها .
ويتكون مركز الترجمات في المجمع من الوحدات البحثية الآتية: وحدة اللغات الأوربية، وحدة اللغات الأفريقية، وحدة اللغات الآسيوية، وحدة المعاجم اللغوية للألفاظ القرآنية والإسلامية، وحدة المعلومات، وحدة النشر والتوزيع، وتم تأسيس مكتبة متخصصة في الترجمات لمختلف اللغات زودت بالمصادر الأصيلة والأعمال المرجعية والمعاجم اللغوية في كثير من لغات العالم ولهجاته.
كما بنيت فيه قاعدة معلومات مناسبة بواسطة الحاسب الآلي عن الترجمات وأشهر المترجمين، ولغات العالم ولهجاته وأعداد سكانه.
وله مجلس علمي يضم عدداً من المختصين في علوم الشريعة واللغات الأجنبية، يقوم بالتخطيط ووضع البرامج والمشروعات العلمية، ويتلقى الاقتراحات في مجال الترجمات لدراستها وتقديم توصياته بشأنها .
وقد تجاوز عدد الترجمات للقرآن الكريم (50) ترجمة بلغات العالم ولهجاته المختلفة .
رابعاً : الدراسات القرآنية
تم إنشاء مركز الدراسات القرآنية في المجمع في عام 1416ه لحاجة الدارسين والباحثين في القرآن الكريم وعلومه إلى معاجم وتفاسير تعنى بكتاب الله وحل ألفاظه ومعانيه ،سهلة ميسرة قريبة المعنى سلسة الألفاظ، تشبع رغبة مطالعها وناظرها.
ومن أهم أهدافه:
1- إجراء الدراسات والبحوث في مجال القرآن الكريم.
2- توفير الأعمال المرجعية لخدمة البحث في القرآن الكريم مثل: الأعمال المعجمية التي ترصد ألفاظ القرآن الكريم، وتشرحها لغوياً، واصطلاحياً، وتحدد مواضع ورودها في القرآن الكريم والأماكن، وأسماء الحيوان، والنبات، والمعادن، وألفاظ الحضارة والتاريخ، والمعاجم الشارحة للغريب المعرب، في ضوء المعرفة الحديثة باللغات القديمة.(1/138)
3- إصدار الأعمال المرجعية الأخرى مثل دائرة معارف القرآن الكريم، وموسوعات القرآن المختلفة والمداخل التفسيرية للقرآن الكريم، والقوائم الببليوجرافية للبحوث القرآنية، والفهارس للأعمال المخطوطة والمطبوعة، والتفاسير الحديثة الموسعة والمختصرة.
4- إنشاء دائرة معارف إسلامية بواسطة كتّاب مسلمين والعمل على ترجمتها إلى اللغات المختلفة.
5- تحديث الدراسات القرآنية في العالم الإسلامي، وذلك من خلال الاستفادة من التقدم العلمي الحديث، وما نتج عنه من ثروة في المعرفة والمعلومات، والوسائل، والأدوات والمناهج، والاستفادة على وجه الخصوص من زيادة المعرفة الإنسانية وتقدمها في مجال التاريخ والحضارة والديانات واللغات القديمة.
6- تخليص التفسير القرآني من الانحرافات والإسرائيليات والتفاسير الخاطئة، وإصدار أعمال تفسيرية جديدة خالية من الإسرائيليات والأفكار الأجنبية المنحرفة.
7- بيان أصالة المفاهيم القرآنية، والاستفادة من القرآن الكريم في تأصيل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبيان التوجيه القرآني للعلوم.
8- عمل الدراسات الخاصة ببيان الإعجاز القرآني في ضوء المعرفة الحديثة والتقدم العلمي الحديث.
9- جمع المعلومات حول القرآن الكريم من بحوث ومقالات وتقارير، وندوات، ومؤتمرات، ووثائق، ومخطوطات، وفهارس، وترجمات، وأعلام، وتكوين شعبة للمعلومات القرآنية.
10- إعداد المادة الصالحة للتعريف بالقرآن الكريم في أسلوب عصري يُراعى فيه حسن العرض، والإيجاز وجمال الإخراج، لتعريف المسلمين وغير المسلمين بالمفاهيم القرآنية.
11- دراسة آراء المستشرقين حول القرآن الكريم دراسة نقدية تهتم ببيان أخطائهم وشبهاتهم وتفنيدها.
12- إعداد مجموعة مختارة من الباحثين المتخصصين في الدراسات القرآنية، وتأهيلهم لغوياً وعلمياً، ذلك لتكوين قاعدة علمية إسلامية لخدمة بحوث القرآن الكريم.(1/139)
13- عقد المؤتمرات والندوات والدورات العلمية في علوم القرآن الكريم لخدمة أهداف المركز.
ويعكف المركز حالياً على إصدار معجم تفاسير القرآن الكريم سيظهر قريباً إن شاء الله تعالى. كما أنه أسهم إسهاماً فاعلاً في إصدار(التفسير الميسر) اشترك في إعداده عدد من العلماء بإشراف ومتابعة وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد وطبع هذا التفسير طبعة أنيقة بثلاثة أحجام (كبير، ووسط، وصغير)، وكان الإقبال عليه شديداً حتى إن الطبعة الأولى منه نفدت فور صدورها. والعمل جار على طباعته ثانياً .
قال عنه وزير الشؤون الإسلامية عند صدوره: "إن الله قد وفق قادة المملكة العربية السعودية إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- والاعتناء بهما تعليماً وتطبيقاً ونشراً، وكان من أعظم الوسائل التي هدى الله إليها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود وفقه الله لإنشائها مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة النبوية إذ اعتنى بطباعة المصحف الشريف وتوزيعه بمختلف الروايات على المسلمين في مختلف أنحاء المعمورة. واعتنى بترجمة معاني القرآن إلى مختلف اللغات التي يتحدث بها المسلمون وتوزيعها عليهم وكانت أي ترجمة يراد طبعها في المجمع تخضع لفحص ومراجعة دقيقة من لجان موثقة ومتخصصة ويتم تلافي ما يظهر من الملحوظات قدر الإمكان، واتجه المجمع بعد دراسة مستفيضة إلى إصدار تفسير ميسر لكتاب الله الكريم باللغة العربية على أصول التفسير وطرقه الشرعية التي نهجها السلف الصالح سالماً من تحريف الكلم عن مواضعه يكون هو الأساس لما يصدره المجمع مستقبلاً من ترجمات" .
وقد صدر عن المركز العديد من الكتب التي تخدم القرآن وعلومه منها:
1-كتاب الطراز في شرح ضبط الخراز، للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله التنسي المتوفي سنة 899ه). دراسة وتحقيق الدكتور / أحمد بن أحمد شرشال.(1/140)
2- فن الترتيل وعلومه تأليف الشيخ / أحمد بن أحمد عبد الله الطويل.
3- شرح المقدمة الجزريه لطاش كبرى زادة المتوفى سنة (968ه) دراسة وتحقيق الدكتور / محمد بن سيدي محمد الأمين.
وبالمركز الكثير من الكتب تحت الطباعة نسأل الله عز وجل أن يجعل كل ذلك في موازين خادم الحرمين ا لشريفين يوم توفى كل نفس بما عملت.
فتبين بما سبق ذكره وغير ما ذكرته مما هو معلوم مشاهد حرص الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- على القرآن الكريم ، والسعي الحثيث في تعليمه ودعوة الناس إليه وخدمته .
أسأل الله أن يوفقها للمزيد ، وأن يجعل ما تقدمه في ميزان حسنات ولاة أمرها(1).
المبحث الخامس
كلام العلماء في التحذير من الكلام على ولاة الأمر في هذه البلاد
تَمْهِيد
لقد دأب العلماء الربانيون على اتباع الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح -رحمهُم اللهُ- ، ومن ذلك تحذيرهم من الكلام على ولاة الأمور ، والحث على توقيرهم واحترامهم ، والسمع والطاعة لهم بالمعرف ، والتحذير من كل وسيلة تحاول النيل من الثوابت الشرعية والأمور المرعية ، ومن أعظم ما استنكره العلماء ما قام به أهل الشر والإرهاب والتطرف والفساد من تفجير وتخريب وخاصة في بلاد المسلمين وأخص ذلك ما قام به المارقون من تفجير في معقل الإسلام وحصنه الحصين ، وحامية الحرمين الشريفين المملكة العربية السُّعوديَّة -حرسَها اللهُ- .
__________
(1) وقد كنت كتبت مطلباً آخر بعنوان: "عناية الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- بالسنة المطهرة تعليماً وخدمة" ، وذكرت فيه عدة محاور منها:
الوجه الأول: اتخاذ السنة النبوية الشريفة منهجاً دراسياً أساسياً إلزامياً في مختلف مراحل التعليم.
الوجه الثاني: التشجيع على حفظ القرآن الكريم
الوجه الثالث: العناية بالسنة النبوية وعلومها من خلال إذاعة القرآن الكريم .
الوجه الرابع: العناية بطباعة كتب السنة وما يخدمها ، وتوزيعها.
ورأيت طول المقام فتركته اختصاراً واكتفاء بما سبق.(1/141)
ومن كلام العلماء في التحذير من سب ولاة الأمر(1) :
عن أنس بن مالك قال: نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قالوا: قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((لا تسبوا أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تبغضوهم، واتقوا الله واصبروا، فإن الأمر قريب))(2)
قال أبو الدرداء -- رضي الله عنه -- : "إياكم ولعن الولاة ، فإنَّ لعنهم الحالقة ، وبغضهم العاقرة" قيل: يا أبا الدرداء ، فكيف نصنع إذا رأينا منهم ما لا نحب؟ قال: "اصبروا ، فإن الله إذا رأى ذلك منهم حبسهم عنكم بالموت"(3)
وقال أبو إسحاق السبيعي -رحمَهُ اللهُ- : "ما سب قوم أميرهم إلا حرموا خيره"(4)
وقال أبو مجلز لاحق بن حميد -رحمَهُ اللهُ- : " سب الإمام الحالقة ، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين"(5)
وقال أبو إدريس الخولاني -رحمَهُ اللهُ- : "إياكم والطعن على الأئمة، فإنَّ الطعن عليهم هي الحالقة، حالقة الدين ليس حالقة الشعر، ألا إنَّ الطاعنين هم الخائبون وشرار الأشرار"(6) .
وأذكر في هذا المبحث جملاً من كلام العلماء في التحذير ممن يطعن في ولاة الأمور في هذه البلاد ، وبعض ما صدر منهم من بيانات تستنكر وتندد وتحذر من التفجير والتخريب..
كلام العلماء في التحذير من الكلام على ولاة الأمر في هذه البلاد
__________
(1) سبق ذكر هذه الأحاديث والآثار في المبحث الأول.
(2) رواه ابن أبي عاصم في السنة وسنده صحيح.
(3) رواه ابن أبي عاصم في السنة وسنده صحيح .
تنبيه: في إسناده : أبو اليمان عامر بن عبد الله الهوزني ، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال في مشاهير علماء الأمصار(ص/114) : "وكان ثبتاً".
(4) رواه ابن عبد البر في التمهيد(21/287) وسنده صحيح.
(5) رواه ابن زنجويه في الأموال.
(6) رواه ابن زنجويه في الأموال(1/78) وسنده حسن.(1/142)
لقد تواردت كلمات العلماء ونصائحهم على وفق ما جاء في الكتاب والسنة ، وما جاء عن السلف الصالح من آثار في التحذير من سب ولاة الأمر في البلاد السُّعودية -حرسَها اللهُ- وأذكر بعض تلك الكلمات والتَّوجيهات:
قال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف رحمَهُ اللهُ-: "وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج عن الإسلام فالواجب فيها مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق ، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس ، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد ، وهذا غلط فاحش وجهل ظاهر لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا ، كما يعرف ذلك من نوَّر الله قلبه ، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدين"(1). وسئل سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمهُ اللهُ- : سماحة الشيخ هل الكلمة تؤثر في الأمن وتزعزعه مثل الأوراق التي تأتي بالفاكسات من خارج هذه البلاد ، من بعض الحاقدين على هذه البلاد وولاتها وعلمائها؟
فأجاب -رحمهُ اللهُ- قائلاً:
توزيع الأشرطة الخبيثة التي تدعو إلى الفرقة والاختلاف ، وسب ولاة الأمور والعلماء ، لا شك أنها من أعظم المنكرات .
والواجب الحذر منها ، سواء كانت جاءت من لندن من الحاقدين والجاهلين الذين باعوا دينهم وباعوا أمانتهم على الشيطان من جنس محمد المسعري ومن معه ، الذين أرسلوا الكثير من الأوراق الضارة المضلة ، والمفرقة للجماعة ، يجب الحذر منهم ، ويجب إتلاف ما يأتي من هذه الأوراق ؛ لأنها شر وتدعو إلى الشر، وما هكذا النصيحة .
فالنصيحة تكون بالثناء على ما فعل من الخير ، والحث على إصلاح الأوضاع ، والتحذير مما وقع من الشر ، هذه طريقة أهل الخير الناصحين لله ولعباده"(2).
__________
(1) الدرر السنية(9/119).
(2) نشرت في جريدة عكاظ في العدد ( 10541 ) ليوم الجمعة الموافق 25 / 1 / 1416 هـ .(1/143)
وسئل -رحمهُ اللهُ- : لقد قامت الدولة في المملكة العربية السعودية منذ أن تأسست على تطبيق شرع الله وعلى إقامة حكمه فما الواجب علينا جميعا تجاه هذه المسئولية؟
فأجاب -رحمهُ اللهُ- : من الواجب على الرعية مساعدة الدولة في الحق والشكر لها على ما تفعل من خير والثناء عليها بذلك.
يجب عليهم معاونة الدولة في إصلاح الأوضاع فيما قد يقع فيه شيء من الخلل بالأسلوب الطيب وبالكلام الحسن لا بالتشهير وذكر العيوب في الصحف وعلى المنابر ولكن بالنصيحة وبالمكاتبة والتنبيه على ما قد يخفى حتى تزول المشاكل وحتى يحل محلها الخير والإصلاح وحتى تستقر النعم ويسلم الناس من حدوث النقم ولا سبيل إلى هذا إلا بالتناصح والتواصي بالخير- والواجب على الدولة- وفقها الله- أن تجتهد فيما يكون قد وقع من خلل في إصلاحه ، وأن تجتهد في كل ما يرضي الله عز وجل ويقرب إليه- وفي إزالة كل ما نهانا عنه الله عز وجل وأن تقوم بواجبها في إصلاح ما هو مخالف للشرع ، وأن تجتهد في إزالة ذلك بالتعاون مع العلماء والموظفين والمسئولين الطيبين والصالحين ومع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1).
وسئل الشيخ العلامة الإمام عبد العزيز بن باز رحمَهُ اللهُ- : "هل من منهج السلف نقد الولاة فوق المنابر، وما منهج السلف في نصح الولاة؟"
فأجاب رحمَهُ اللهُ-: "ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر لأنَّ ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
__________
(1) مجموع فتاوى ومقالات(7/130-131) .(1/144)
وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي، والتحذير منها من غير أن يذكر فلاناً يفعلها؛ لا حاكم ، ولا غير حاكم.
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان -- رضي الله عنه --قال بعض الناس لأسامة بن زيد -- رضي الله عنه --ألا تكلم عثمان؟فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه(1).
ولما فتحوا (أي الخوارج ) الشر في زمان عثمان -- رضي الله عنه --وأنكروا على عثمان جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان بأسباب ذلك، وقتل جمع كثر من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا حتى أبغض الناس ولي أمرهم وقتلوه، نسأل الله العافية"(2)
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - : معلوم أن قيادة الأمة تكون بصنفين من الناس لا ثالث لهما :الصنف الأول :العلماء .والصنف الثاني : الأمراء .
وهم المقصودون في قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (3).
ومعلوم أن الأمة إذا لم يكن لها قيادة ،قيادة في دين الله تكون على أيدي العلماء، وقيادة في الأمن ، أمن السبل ، أمن البلاد ،وتكون على يدي الأمراء ، إذا لم تكن هذه القيادة : أصبح الناس فوضى ، أصبح كلٌ يعبد الله بما شاء ، بالهوى بغير علم ؛ فيضل هو بنفسه ويضل غيره .
__________
(1) أخرج القصة الشيخان، وأحمد وغيرهم، من حديث "يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار..."بألفاظ، عن أسامة بن زيد .
(2) المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم(السؤال العاشر)
(3) …سورة النساء(آية/59) .(1/145)
إذا لم يكن هناك حماية للأمن وللطرق وللبلاد عن طريق الأمراء أصبح الناس فوضى يقتل بعضهم بعضاً ,ويكسر بعضهم بعضاً ،ولا يبالون ؛لأنهم ليس لهم سلطان يحميهم كما أنَّ الأولين لا يبالون إذا خالفوا الشريعة ؛لأنهم ليس لهم علماء يقتدون بهم . ولهذا أقول : إن من الخطأ العظيم الفادح أن يقع الناس في أعراض العلماء أو يقع الناس في أعراض الأمراء(1) .
نحن لا نبَرِّئ العلماء من الخطأ ،ولا نبرئ الأمراء من الخطأ ،كلٌ يخطئ ويصيب لكن هل يجوز لنا أن نتتبع عورات العلماء وعورات الأمراء ، ثم يُتخذ من هذا وسيلة لسبهم والقدح فيهم ، وتهوين أمرهم على الناس ،وتهوين قوتهم بين الناس؟! ما أعتقد أنَّ هذا جائز ! لا عقلاً ولا شرعاً (2) اهـ .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله تعالى - : الله ، الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان وأن لا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور فهذا عين المفسدة وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها فإذا حاول أحد يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن ؛ لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم وإن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم وحصل الشر والفساد(3).
__________
(1) …وليس بيان خطأ من أخطأ أو الرد على أهل البدع والمناهج الفاسدة من باب الطعن في العلماء فتنبه .
(2) …انظر: الوقيعة في العلماء والأمراء .
(3) …انظر: معاملة الحكام (ص/32) .(1/146)
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى - : لقد ابتلي بعض الناس بغيبة صنفين من الأمة وهما ولاة الأمور فيها من العلماء والحكام ، حيث كانوا يسلطون ألسنتهم في المجالس على العلماء وعلى الدعاة وعلى الأمراء وعلى الحكام الذين فوق الأمراء، وإن غيبة مثل هؤلاء أشد إثماً وأقبح عاقبة وأعظم أثراً لتفريق الأمة . إن غيبة ولاة الأمور من أمراء وعلماء ليست غيبة لهؤلاء بأشخاصهم ولكنها غيبة وتدمير لما يحملونه من المسئولية :
فإن الناس إذا اغتابوا العلماء قل قدر العلماء في أعين الناس وبالتالي يقل ميزان ما يقولونه من شريعة الله وحينئذ يقل العمل بالشريعة بناء على هذه الغيبة ؛ فيكون في ذلك إضعاف لدين الله تعالى في نفوس العامة .
وإن الذين يغتابون ولاة الأمور من الأمراء والحكام إنهم ليسيئون إلى المجتمع كله، لا يسيئون إلى الحكام فحسب ولكنهم يسيئون إلى كل المجتمع ، إلى الإخلال بأمنه ، واتزانه وانتظامه ، ذلك لأن ولاة الأمور من الأمراء والحكام إذا انتهك الناس أعراضهم قل قدرهم في نفوس العامة وتمردوا عليهم فلم ينصاعوا لأوامرهم ولم ينتهوا عما نهوا عنه ، وحينئذٍ تحل الفوضى في المجتمع ويصير كل واحد من الناس أميراً على نفسه ، وحينئذٍ ، تفسد الأمور ويصبح الناس فوضى لا سراة لهم ، وإن الغيبة من كبائر الذنوب ليست بالأمر الهين(1) .
__________
(1) انظر: وجوب طاعة السلطان للعريني(ص/51-52) ، والفتاوى الشرعية للحصين(ص/ 59-60) .(1/147)
وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله تعالى - : " بعض الناس ديدنه في كل مجلس يجلسه الكلام في ولاة الأمور والوقوع في أعراضهم ونشر مساوئهم وأخطائهم معرضاً بذلك عمّا لهم من محاسن أو صواب ،ولا ريب أن سلوك هذا الطريق والوقوع في أعراض الولاة لا يزيد في الأمر إلا شدة فإنه لا يحل مشكلاً ولا يرفع مظلمة إنما يزيد البلاء بلاءاً ويوجب بغض الولاة وكراهيتهم وعدم تنفيذ أوامرهم التي يجب طاعتهم فيها " (1).
وسئل الشيخ العلامة صالح الفوزان –حفظه الله-: "ما رأي فضيلتكم في بعض الشباب الذين يتكلمون في مجالسهم عن ولاة الأمور بالسب والطعن فيهم؟
فأجاب -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-: " هذا الكلام معروف أنه باطل ، وهؤلاء إما أنهم يقصدون الشر ، وإما أنهم تأثروا بغيرهم من أصحاب الدعوات المضللة –إلى أن قال:- فهذه ليست طريقة السلف أهل السنة والجماعة"(2).
وقال أيضاً - حفظه الله تعالى – فيمن يدعو إلى نزع يد الطاعة لولاة الأمر في هذه البلاد وخلع البيعة عنهم عن طريق القنوات الفضائية وبعض المنتديات في الإنترنت : هذه البلاد مقصودة ومغزوة ؛ لأنها هي البلاد الباقية ، التي تمثل منهج السلف الصالح ، وهي البلاد الآمنة من الفتن ومن الثورات ومن الانقلابات، فهي بلاد – ولله الحمد – يرفرف عليها الأمن والأمان ومنهج السلف الصالح ، فهم يريدون أن ينتزعوا هذه الخصائص ويجعلوها بلاداً فوضى ويكون فيها قتل وتقتيل كما في البلاد الأخرى .
__________
(1) انظر: وجوب طاعة السلطان للعريني (ص23-24 ).
(2) انظر: الأجوبة المفيدة(ص/57)(1/148)
فعلينا أن نحذر من هؤلاء ، وأن نحذر منهم ، ولا نأتي بهذه القنوات لبيوتنا ولأولادنا يشاهدون هذه الفتن وهذه الشرور ، وينشؤون عليها ، يجب أن تحمى البيوت من هذه القنوات الفضائية ، وأن يمنع الأولاد أنهم يذهبون للمقاهي التي فيها هذه القنوات أو هذا الإنترنت ، على الآباء أنهم يمنعون أولادهم من الذهاب إلى هذه المقاهي التي فيها هذه المفاسد ، هم المسؤولون عنهم(1).
المبحث السادس
استنكار العلماء لِمَا يقوم به المبطلون من تفجير وتخريب
تَمْهِيد
إن الاعتداء على دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم مما عظمت حرمته في الكتاب والسنة ، ومما اتفقت على استنكاره وإبطاله جميع الشرائع السماوية ، وجاءت الشريعة الإسلامية بحفظ دماء المعاهدين والمستأمنين وحفظ حقوقهم، وإن الاعتداء على المسلمين والمعاهدين والذميين والمستأمنين لا تقره شريعة ، ولا يقره عقل.
ولَمَّا استطال بعض المتطرفين والخوارج على دماء المسلمين والمعاهدين والمستأمنين تعالت صيحات العلماء تنديداً بهذا الفعل الشنيع ، واستنكاراً لتلك الأفعال النَّكراء.
وسأورد بعض بيانات هيئة كبار العلماء في الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- ، وبعض بيانات الأزهر ، وبعض بيانات العلماء وفتاواهم التي تضمنت استنكار تلك الأعمال الإجرامية والأفعال الشيطانية ..
بعض بيانات هيئة كبار العلماء المنددة بالتفجير والتكفير
بيان من هيئة كبار العلماء حول التكفير والتفجير
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
__________
(1) …انظر: أهداف الحملات الإعلامية ، والفتاوى الشرعية للحصين(ص/61-62) .(1/149)
فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف، ابتداء من تاريخ 2/4/1419هـ ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية، وغيرها من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء ، وتخريب المنشآت، ونظراً إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة ؛ وإتلاف أموال معصومة ، وإخافة للناس ، وزعزعة لأمْنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك نصحاً لله ، ولعباده ، وإبراء للذمة وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق :
أولاً: التكفير حكم شرعي، مرده إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملة .
ولَمَّا كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله ؛ لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة ، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن، لِمَا يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مِمَّا يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات؛ ولذلك حذر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: (( أيُّمَا امرئ قال لأخيه: يا كافر ، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال؛ وإلا رجعت عليه))(1).
وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أنَّ هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به، لوجود مانع يمنع من كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث، سببه القرابة –مثلاً- وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين، وهكذا الكفر يكره عليه المؤمن فلا يكفر به.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(7/127رقم6104) ، ومسلم في صحيحه(1/79رقم60) من حديث عبد الله بن عمر -- رضي الله عنه --.(1/150)
وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد، كما في قصة الذي قال: ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك)) ؛ أخطأ من شدة الفرح(1).
والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة: من استحلال الدم والمال ، ومنع التوارث وفسخ النكاح ، وغيرها مما يترتب على الردة ، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة .
وإذا كان هذا في ولاة الأمور كان أشد ؛ لِمَا يترتب عليه من التمرد عليهم، وحمل السلاح عليهم ، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد العباد والبلاد ، ولهذا منع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من منابذتهم، فقال: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان))(2). فأفاد قوله: ((إلا أن تروا)) : أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة. وأفاد قوله: ((كفراً)) أنه لا يكفي الفسوق ولو كبر ؛ كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار، والاستئثار المحرم. وأفاد قوله: ((بواحاً)) أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح؛ أي: صريح ظاهر. وأفاد قوله: (( عندكم فيه من الله برهان)): أنه لا بد من دليل صريح ، بحيث يكون صحيح الثبوت ، صريح الدلالة ، فلا يكفي الدليل ضعيف السند ، ولا غامض الدلالة . وأفاد قوله: ((من الله)) أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت مَنْزِلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله، أو سنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم --.
وهذه القيود تدل على خطورة الأمر .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(4/2104رقم2747) من حديث أنس بن مالك -- رضي الله عنه --.
(2) رواه البخاري في صحيحه(8/422-423رقم7055-7056) ، ومسلم في صحيحه(3/1470 رقم1709) من حديث عبادة بن الصامت -- رضي الله عنه --.(1/151)
وجملة القول: أن التسرع في التكفير له خطره العظيم ؛ لقول الله -عزَّ وجلَّ-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(1).
ثانياً: ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ: من استباحة الدماء، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت ، فهذه الأعمال وأمثالها محرمة شرعاً بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة ، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار ، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم ورواحهم ، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها .
وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم ، وأعراضهم ، وأبدانهم ، وحرم انتهاكها، وشدد في ذلك ، وكان من آخر ما بلغ به النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمته ، فقال في خطبة حجة الوداع : ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ؛ كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا)) ثم قال -- صلى الله عليه وسلم --: ((ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)) متفق عليه(2) .
وقال -- صلى الله عليه وسلم --: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه ، وماله ، وعرضه))(3) ، وقال –عليه الصلاة والسلام- : ((اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة))(4) .
__________
(1) سورة الأعراف(آية/33).
(2) رواه البخاري في صحيحه(1/30رقم67) ، ومسلم في صحيحه(3/1305رقم 1679) من حديث أبي بكرة -- رضي الله عنه --.
(3) رواه مسلم في صحيحه(4/1986رقم2564) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه --.
(4) رواه مسلم في صحيحه(4/1996رقم2578) من حديث جابر -- رضي الله عنه --.(1/152)
وقد توعد الله سبحانه من قتل نفساً معصومة بأشد الوعيد، فقال سبحانه في حق المؤمن: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(1) ، وقال سبحانه في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ : {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً}(2) فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة ، فكيف إذا قتل عمداً ، فإنَّ الجريمة تكون أعظم ، والإثم يكون أكبر . وقد صح عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة))(3).
__________
(1) سورة النساء(آية/93) .
(2) سورة النساء(آية/92).
(3) رواه البخاري في صحيحه(4/398-399رقم3166) من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- .(1/153)
ثالثاً: إن المجلس إذ يبين حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- وخطورة إطلاق ذلك، لما يترتب عليه من شرور وآثام ، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت هو عمل إجرامي، والإسلام برئ منه، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه ، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف ، وعقيدة ضالة؛ فهو يحمل إثمه وجرمه ، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسنة ، المستمسكين بحبل الله المتين ، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة؛ ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه محذرة من مصاحبة أهله . قال الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ {205} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ {206}(1).
__________
(1) سورة البقرة(آية/204-206) .(1/154)
والواجب على جميع المسلمين في كل مكان التواصي بالحق ، والتناصح والتعاون على البر والتقوى ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله -سبحانه وتعالى- : {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1)، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(2) وقال -عزَّ وجلَّ- : {وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3} وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((الدين النصيحة)) قيل: لمن يارسول الله ؟ قال: ((لله ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم))(3) ، وقال -عليه الصلاة والسلام- : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))(4) .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
__________
(1) سورة المائدة(آية/2)
(2) سورة التوبة(آية/71).
(3) رواه مسلم في صحيحه(1/74رقم55) من حديث تميم الداري -- رضي الله عنه --.
(4) رواه البخاري في صحيحه(7/102رقم6011) ، ومسلم في صحيحه(4/1939 رقم2586) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- .(1/155)
ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى : أن يكفَّ البأس عن جميع المسلمين ، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه ، ويعلي بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعاً في كل مكان، وأن ينصر بهم الحق ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه"(1).
بيان هيئة كبار العلماء حول أعمال الشغب التي قام بها بعض الحجاج الإيرانيين في موسم حج عام 1407هـ.
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه ، واتَّبع سنته إلى يوم الدين . وبعد:
__________
(1) مجلة البحوث العلمية. عدد56 (ص/357) .(1/156)
فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية على الأحداث المؤسفة التي قام بها بعض الحجاج الإيرانيين بعد صلاة العصر من يوم الجمعة السادس من شهر ذي الحجة لعام 1407هـ من تجمُّعات ومسيرة صاخبة ، تعطَّل بسببها خروج المصلين إلى منازلهم ومصالحهم ، وتعرقلت حركة المرور ، وتوقَّف السير فجأة في الشوارع والطرقات ، مما أدى إلى تدخل الحجاج والمواطنين المحتجزين عن الحركة مع الحجاج الإيرانيين في محاولة لإقناعهم بإخلاء الشوارع ، ورفض المسيرة إلا أنَّ الحجاج الإيرانيين أصروا على استكمال مسيرتهم الغوغائية رغم جميع المحاولات السلمية الهادئة التي بذلها الحجاج الآخرون على مختلف جنسياتهم وكذا المواطنون سقط خلالها المئات من القتلى والجرحى من النساء والرجال حجاجاً ومواطنين . وإن المجلس ليستنكر هذا العمل ويشجبه، لِما فيه من إيذاء المسلمين من الحجاج وغيرهم في هذا البلد الحرام في الشهر الحرام ، ولكونه وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من قتل النفوس ، ومضايقة الناس وغير ذلك من أنواع الأذى والظلم ، كما يُحَمَّل الإيرانيين مسئولية ما نشأ عن عملهم هذا من مفاسد وفتن .
ولا شك أن هذا العمل مخالف لأمر الله سبحانه لمن أراد الحج بقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(1) والواجب على المسلم أن يلتزم بما أمر الله به ، ورسوله -- صلى الله عليه وسلم -- من الأخلاق الكريمة ، والمعاملة الطيبة لإخوانه المسلمين.
__________
(1) سورة البقرة(آية/197)(1/157)
ولقد عظَّم الله سبحانه وتعالى بيته الكريم ، وجعل له من الخصائص ما ليس لغيره من الأمكنة والبقاع ، فقال سبحانه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}(1)، وتوعَّد من أراد الإلحاد فيه بالعذاب الأليم بقوله سبحانه: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}(2) قال ابن عباس -- رضي الله عنه --: الظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك.اهـ.
وقد حرم الله سبحانه إيذاء المؤمنين والمؤمنات في كتابه الكريم في كل مكان وفي كل زمان ، فكيف بإيذائهم في البلد الأمين ، وفي وقت أداء المناسك ، لاشك أن هذا يكون أشد إثماً ، وأعظم جرماً ، قال سبحانه : {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}(3).
__________
(1) سورة البقرة(آية/125)
(2) سورة الحج(آية/25) .
(3) سورة الأحزاب(آية) .(1/158)
وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى مشروعية الحج ومنافعه بقوله: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ {27} لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ {28} ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ {29} ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ –إلى قوله سبحانه- فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ –إلى قوله سبحانه- ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ{32}(1) .
فهذه هي أوامر الله سبحانه وتعالى وتوجيهاته لحجاج بيت الله الحرام : لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، ولا استهانة بحرمات الله ، ولا تلفظاً بقول الزور، بل ذكر الله وتعظيم لحرماته وشعائره.
وبذلك يعلم أن ما فعله بعض الحجاج الإيرانيين بأعمالهم الاستفزازية مخالف لأوامر الله وتوجيهاته التي وردت في كتابه الكريم ، وعلى لسان رسوله الأمين.
فالواجب على جميع علماء المسلمين وحكامهم وقادتهم إنكار ذلك وشجبه ليعلم كل أحد تحريم هذا العمل وبشاعته ومخالفته لشرع الله ، وسوء ما يترتب عليه من العواقب الضارة بالمسلمين من الحجاج وغيرهم وعلى المتظاهرين أنفسهم .
وبذلك يعلم حكام إيران أن الواجب عليهم منع حجاجهم من هذا العمل السيء، وعدم تشجيعهم عليه لما تقدم من الأدلة الشرعية ، والمعاني المرعية ، والعواقب السيئة المترتبة على ذلك.
__________
(1) سورة الحج(آية/27-32) .(1/159)
كما يعلم أن الواجب على حكومة هذه البلاد وفقها الله منع مثل هذا العمل ، وعدم التمكين منه بالطرق التي تراها كفيلة بذلك حماية لحجاج المسلمين وغيرهم من المواطنين من الأذى والظلم وغير ذلك مما يترتب على هذه الأعمال المخالفة للشرع ممن العواقب الوخيمة.
وبهذه المناسبة فإن المجلس حين يستنكر هذا الحادث ويشجبه يوصي جميع حجاج بيت الله الحرام بتقوى الله وتعظيم حرماته ، والتعاون على البر والتقوى ، وعطف بعضهم على بعض ، وإحسان بعضهم إلى البعض الآخر ، والحذر من كل ما يضرهم في دينهم ودنياهم ، أو يشغلهم عن أداء مناسكهم على الوجه الذي شرعه الله ، والله المسؤول أن ينصر دينه ، ويعلي كلمته ، ويصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، ويصلح قادتهم ، ويمنح الجميع الفقه في دينه والثبات عليه ،وأن يوفق ولاة أمر هذه البلاد لكل ما فيه صلاح الأمة وسعادتها ، وتسهيل أمور الحج للمسلمين ، وأن يضاعف مثوبتهم على ما قدموه من إحسان وتسهيل وأن يزيدهم من فضله ، وينصر بهم الحق ، إنه جواد كريم .
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
هيئة كبار العلماء
عبد الله خياط ، عبد العزيز بن صالح ، عبد الرزاق عفيفي ، عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، سليمان عبيد ، …عبد المجيد حسن ، إبراهيم بن محمد آل الشيخ ، صالح بن غصون ، محمد جبير ، صالح بن محمد اللحيدان ، عبد الله بن غديان راشد بن خنين ، عبد الله بن منيع ، حسن بن جعفر العتمي ، عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ …محمد الصالح العثيمين ، عبد الله البسام ، صالح الفوزان (1).
قرار مجلس هيئة كبار العلماء حول حادث التخريب
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين. وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، وبعد:
__________
(1) مجلة البحوث العلمية عدد2 (ص/317-320) .(1/160)
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثانية والثلاثين المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من 18/1/1409 إلى 12/1/1409بناءً على ما ثبت لديه من وقوع عدة حوادث تخريب ذهب ضحيتها الكثير من الناس الأبرياء ، وتلف بسببها كثير من الأموال والممتلكات والمنشآت العامة في كثير من البلاد الإسلامية وغيرها ، قام بها بعض ضعاف الإيمان أو فاقديه من ذوي النفوس المريضة والحاقدة ، ومن ذلك:
نسف المساكن ، وإشعال الحرائق في الممتلكات العامة ، ونسف الجسور والأنفاق ، وتفجير الطائرات أو خطفها ، وحيث لو حظ كثرة وقوع مثل هذه الجرائم في عدد من البلاد القريبة والبعيدة ، وبما إن المملكة العربية السعودية كغيرها من البلدان عرضة لوقوع مثل هذه الأعمال التخريبية ، فقد رأى مجلس هيئة كبار العلماء ضرورة النظر في تقرير عقوبة رادعة لمن يرتكب عملاً تخريبياً ، سواء كان موجهاً ضد المنشآت العامة والمصالح الحكومية ، أو كان موجهاً لغيرها بقصد الإفساد والإخلال بالأمن.
وقد اطلع المجلس على ما ذكره أهل العلم من أن الأحكام الشرعية تدور من حيث الجملة على وجوب حماية الضروريات الخمس، والعناية بأسباب بقائها مصونة سالمة وهي: الدين والنفس والعرض والعقل والمال.
وقد تصور المجلس الأخطار العظيمة التي تنشأ عن جرائم الاعتداء على حرمات المسلمين في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم ، وما تسببه الأعمال التخريبية من الإخلال بالأمن العام في البلاد، ونشوء حالة الفوضى والاضطراب ، وإخافة المسلمين وممتلكاتهم.(1/161)
والله سبحانه وتعالى قد حفظ للناس أديانهم وأبدانهم وأرواحهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم بما شرعه من الحدود والعقوبات التي تحقق الأمن العام والخاص، ومما يوضح ذلك قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} الآية(1) ، وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2)
وتطبيق ذلك كفيل بإشاعة الأمن والاطمئنان، وردع من تسول له نفسه الإجرام والاعتداء على المسلمين في أنفسهم وممتلكاتهم ، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وغيرها على السواء، لقوله سبحانه: {ويسعون في الأرض فساداً} ، والله تعالى يقول: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}(3) ، وقال تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا}(4)
__________
(1) سورة المائدة( آية/32).
(2) سورة المائدة( آية/33).
(3) سورة البقرة(آية/204-205).
(4) سورة الأعراف(آية/56).(1/162)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما أضر بعد الإصلاح ، فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد ، فنهى تعالى عن ذلك"(1) أ. هـ
وقال القرطبي: "نهى سبحانه وتعالى عن كل فساد قل أو كثر بعد صلاح قل أو كثر فهو على العموم على الصحيح من الأقوال"(2) أ. هـ.
وبناء على ما تقدم ولأن ما سبق إيضاحه يفوق أعمال المحاربين الذين لهم أهداف خاصة يطلبون حصولهم عليها من مال أو عرض، وهؤلاء هدفهم زعزعة الأمن وتقويض بناء الأمة ، واجتثات عقيدتها ، وتحويلها عن المنهج الرباني ، فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي:
أولاً : من ثبت شرعاً أنه قام بعمل من أعمال التخريب والإفساد في الأرض التي تزعزع الأمن ، بالاعتداء على النفس والممتلكات الخاصة أو العامة، كنسف المساكن أو المساجد أو المدارس أو المستشفيات والمصانع والجسور ، ومخازن الأسلحة والمياه والموارد العامة لبيت المال كأنابيب البترول ، ونسف الطائرات أو خطفها ونحو ذلك فإن عقوبته القتل ، لدلالة الآيات المتقدمة على أن مثل هذا الإفساد في الأرض يقتضي إهدار دم المفسد ، ولأن خطر هؤلاء الذين يقومون بالأعمال التخريبية وضررهم أشد من خطر وضرر الذي يقطع الطريق فيعتدي على شخص فيقتله أو يأخذ ماله ، وقد حكم الله عليه بما ذكر في آية الحرابة.
ثانياً : أنَّه لابد قبل إيقاع العقوبة المشار إليها في الفقرة السابقة من استكمال الإجراءات قبل إيقاع العقوبة المشار إليها في الفقرة السابقة من استكمال الإجراءات الثبوتية اللازمة من جهة المحاكم الشرعية وهيئات التمييز ومجلس القضاء الأعلى، براءة للذمة واحتياطاً للأنفس، وإشعاراً بما عليه هذه البلاد من التَّقَيُّدِ بكافة الإجراءات اللازمة شرعاً لثبوت الجرائم وتقرير عقابها.
__________
(1) تفسير ابن كثير(2/223).
(2) تفسير القرطبي(7/226).(1/163)
ثالثاً: يرى المجلس إعلان هذه العقوبة عن طريق وسائل الأعلام.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .
مجلس هيئة كبار العلماء. (1)
قرار حادث التفجير الذي وقع في الرياض في حي العليا
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه .
وبعد:
فإن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية علمت ما حدث من التفجير الذي وقع في حي العليا بمدينة الرياض قرب الشارع العام ضحوة يوم الإثنين20/6/1416 هـ وأنه قد ذهب ضحيته نفوس معصومة، وجرح بسببه آخرون ، وروع آمنون وأخيف عابر السبيل، ولذا فإن الهيئة تقرر أن هذا الاعتداء آثم وإجرام شنيع، وهو خيانة وغدر، وهتك لحرمات الدين في الأنفس، والأموال ، والأمن، والاستقرار ، ولا يفعله إلا نفس فاجرة ، مشبعة بالحقد والخيانة والحسد والبغي والعدوان، وكراهية الحياة والخير، ولا يختلف المسلمون في تحريمه، ولا في بشاعة جرمه وعظيم إثمه ، والآيات والأحاديث في تحريم هذا الأجرام وأمثاله كثيرة ومعلومة.
وإن الهيئة إذ تقرر تحريم هذا الإجرام وتحذر من نزعات السوء، ومسالك الجنوح الفكري ، والفساد العقدي ، والتوجيه المردي، وإن النفس الأمارة بالسوء إذا أرخى لها المرء العنان ذهبت به مذاهب الردى ، ووجد الحاقدون فيها مدخلاً لأغراضهم وأهوائهم التي يبثونها في قوالب التحسين، والواجب على كل من علم شيئاً عن هؤلاء المخربين أن يبلغ عنهم الجهة المختصة.
__________
(1) قرار رقم(148) الصادر في الدورة الثانية والثلاثين بتاريخ 12/1/1409 "مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد الثاني(ص/181)"(1/164)
وقد حذر الله سبحانه في محكم التَّنْزِيل من دعاة السوء والمفسدين في الأرض فقال: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1) وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ{205}وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(2)
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يهتك ستر المعتدين على حرمات الآمنين، وأن يكف البأس عنا وعن جميع المسلمين، وأن يحمي هذه البلاد وسائر بلا المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمر المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد إنه خير مسؤول.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مجلس هيئة كبار العلماء
قرار حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر في المنطقة الشرقية
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لانبي بعده محمد وآله وصحبه
وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في جلسته الاسثنائية العاشرة المنعقدة في مدينة الطائف يوم السبت13/2/1417 هـ. استعرض حادث التفجير الواقع في مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية يوم الثلاثاء 9/2/1417 هـ وما حصل بسبب ذلك من قتل وتدمير وترويع وإصابات لكثير من المسلمين وغيرهم.
__________
(1) سورة المائدة( آية/33).
(2) سورة البقرة(آية/204-206).(1/165)
وإن المجلس بعد النظر والدراسة والتأمل قرر بالإجماع ما يلي:
أولاً: إن هذا التفجير عمل إجرامي بإجماع المسلمين، وذلك للأسباب الآتية:
1 – في هذا التفجير هتكٌ لحرمات الإسلام المعلومة بالضرورة: هتكٌ لحرمة الأنفس المعصومة، وهتكٌ لحرمات الأمن والاستقرار وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غِنَى للناس في حياتهم عنها.
وما أبشع وأعظم جريمة من تجرأ على حرمات الله وظلم عباده وأخاف المسلمين والمقيمين بينهم، فويلٌ له ثم ويلٌ له من عذاب الله ونقمته، ومن دعوة تحيط به، نسأل الله أن يكشف ستره، وأن يفضح أمره.
2 – أن النفس المعصومة في حكم شريعة الإسلام ، هي كل مسلم، وكل من بينه وبين المسلمين أمان كما قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(1).
وقال سبحانه في حق الذمي الذي ذمة في حكم قتل الخطأ: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً}(2) فإذا كان الذمي الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قتل عمداً؟! فإن الجريمة تكون أعظم والإثم يكون أكبر.
وقد صح عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة))(3) فلا يجوز التعرض لمستأمن بأذى فضلاً عن قتله في مثل هذه الجريمة الكبيرة النكراء، وهذا وعيد شديد لمن قتل معاهداً، وأنه كبيرة من الكبائر المتوعد عليها بعدم دخول القاتل الجنة، نعوذ بالله من الخذلان.
__________
(1) سورة النساء(آية/93) .
(2) سورة النساء(آية/92).
(3) رواه البخاري في صحيحه(4/398-399رقم3166) من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- .(1/166)
3 – أن هذا العمل الإجرامي يتضمن أنواعاً من المحرمات في الإسلام بالضرورة من غدر وخيانة وبغي وعدوان وإجرام آثم وترويع للمسلمين وغيرهم، وكل هذه قبائح منكرة يأباها ويبغضها الله ورسوله والمؤمنون.
ثانياً : إن المجلس إذ يبين تحريم هذا العمل الإجرامي في الشرع المطهر. فإنه يعلن للعالم أن الإسلام بريء من هذا العمل، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه، وإنما تصرف من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة، فهو يحمل إثمه، وجرمه ، فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام المعتصمين بالكتاب والسنة والمتمسكين بحبل الله المتين.
وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة، ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه، محذرة من مصاحبة أهله ، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ{205}وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(1)
وقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2).
__________
(1) سورة البقرة(آية/204-206).
(2) سورة المائدة( آية/33).(1/167)
ونسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكشف ستر هؤلاء الفعلة المعتدين، وأن يمكن منهم لينفذ فيهم حكم شرعه المطهر، وأن يكفَ البأس عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز وحكومته وجميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعاً إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية(1)
بيان هيئة كبار العلماء حول حوادث التفجيرات التي وقعت في مدينة الرياض
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده محمد واله وصحبه .
أما بعد ..
فإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء في جلسته الاستثنائية المنعقدة في مدينة الرياض يوم الأربعاء 13/ 3/1424 هـ استعرض حوادث التفجيرات التي وقعت في مدينة الرياض مساء يوم الاثنين 11/3/1424هـ وما حصل بسبب ذلك من قتل وتدمير وترويع واصابات لكثير من الناس من المسلمين وغيرهم .
ومن المعلوم أن شريعة الإسلام قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس وحرمت الاعتداء عليها وهى الدين والنفس والمال والعرض والعقل .
ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الانفس المعصومة والانفس المعصومة في دين الإسلام اما ان تكون مسلمة فلا يجوز بحال الاعتداء على النفس المسلمة وقتلها بغير حق ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام يقول الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(2)
__________
(1) مجلة الدعوة العدد 1548بتاريخ 18/2/1417 هـ
(2) سورة النساء(آية/93) .(1/168)
ويقول سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ...} الآية(1) قال مجاهد -رحمهُ اللهُ-: "فى الإثم"(2).
وهذا يدل على عظم قتل النفس بغير حق.
ويقول النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة)) متفق عليه وهذا لفظ البخاري(3) .
ويقول النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) متفق عليه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-(4) .
وفى سنن النسائى عن عبدالله بن عمرو -- رضي الله عنه -- عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)) (5).
__________
(1) سورة المائدة( آية/32).
(2) رواه الطبري في تفسيره(6/202)
(3) رواه البخاري في صحيحه(8/356رقم6878) ، ومسلم في صحيحه(3/1302رقم1676) من حديث عبد الله بن مسعود -- رضي الله عنه --.
(4) رواه البخاري في صحيحه(1/14رقم25) ، ومسلم في صحيحه(1/53رقم22).
(5) رواه الترمذي في جامعه(4/16رقم1395) ، والنسائي في سننه(7/82رقم3987) وغيرهما وهو حديث صحيح بمجموع طرقه. انظر: غاية المرام تخريج أحاديث الحلال والحرام للشيخ الألباني -رحمهُ اللهُ-(ص/253رقم439).(1/169)
ونظر ابن عمر -رضي الله عنهما- يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ((ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك))(1) .
كل هذه الأدلة وغيرها كثير تدل على عظم حرمة دم المرء المسلم وتحريم قتله لأي سبب من الأسبابِ إلا ما دلت عليه النصوص الشرعية، فلا يحل لأحد أن يعتدى على مسلم بغير حق.
يقول أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- : بعثنا رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت نا ورجل من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري ، فطعنته برمحى حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبيَّ -- صلى الله عليه وسلم -- فقال: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟)) قلت: كان متعوذاً ، فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. متفق عليه وهذا لفظ البخاري(2) .
وهذا يدل اعظم الدلالة على حرمة الدماء فهذا رجل مشرك وهم مجاهدون في ساحة القتال لما ظفروا به وتمكنوا منه نطق بالتوحيد فتأول أسامة-- رضي الله عنه -- قتله على أنَّه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله ولم يقبل النبي-- صلى الله عليه وسلم -- عذره وتأويله ، وهذا من أعظم ما يدل على حرمة دماء المسلمين وعظيم جرم من يتعرض لها .
__________
(1) رواه الترمذي في جامعه(4/378رقم2032) ، وابن حبان في صحيحه(13/75رقم5763) وسنده حسن ، وقد صح نحوه مرفوعاً؛ فعن عبد الله بن عمرو قال: رأيت رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --يطوف بالكعبة ويقول : ((ما أطيبك! وما أطيب ريحك! ، ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك -ماله ودمه-)) رواه ابن ماجه في سننه(2/1297 رقم3932) وهو حديث صحيح لغيره انظر: صحيح الترغيب والترهيب(رقم2441).
(2) رواه البخاري في صحيحه(5/105-106رقم4269) ، ومسلم في صحيحه(1/97رقم96).(1/170)
وكما أن دماء المسلمين محرمة فإن أموالهم محرمة محترمة بقول النبي-- صلى الله عليه وسلم --: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) أخرجه مسلم.
وهذا الكلام قاله النبي -- صلى الله عليه وسلم - - في خطبة يوم عرفة وأخرج البخارى ومسلم نحوه في خطبة يوم النحر(1) .
وبما سبق يتبين تحريم قتل النفس المعصومة بغير حق .
ومن الأنفس المعصومة في الإسلام: أنفس المعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين.
فعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي-- صلى الله عليه وسلم --قال: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً)) أخرجه البخارى (2) .
ومن أدخله ولي الأمر المسلم بعقد أمان وعهد فإن نفسه وماله معصوم لا يجوز التعرض له، ومن قتله فإنه كما قال النبي-- صلى الله عليه وسلم --: ((لم يرح رائحة الجنة))، وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين.
ومعلوم أن أهل الإسلام ذمتهم واحدة ؛ يقول النبي-- صلى الله عليه وسلم --: ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم))(3).
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(1/30رقم67) ، ومسلم في صحيحه(3/1305رقم 1679) من حديث أبي بكرة -- رضي الله عنه --.
(2) رواه البخاري في صحيحه(4/398-399رقم3166) من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- .
(3) رواه الإمام أحمد في المسند(2/191-192، 211)، وابن الجارود في المنتقى(3/85رقم771)، وأبو داود في سننه(3/80رقم2751)، وابن ماجه(2/895رقم2685) وغيرهم وسنده حسن، وهو حديث صحيح بشواهده.(1/171)
ولما أجارت أم هانئ -رضي الله عنها- رجلاً مشركاً عام الفتح وأراد على بن أبى طالب -- رضي الله عنه -- أن يقتله ذهبت للنبى -- صلى الله عليه وسلم -- فأخبرته فقال -- صلى الله عليه وسلم --: ((قد أجرنا من أجرتِ يا أمَّ هانئ)) أخرجه البخاري ومسلم(1) .
والمقصود أن من دخل بعقد أمان أو بعهد من ولى الأمر لمصلحة رآها فلا يجوز التعرض له ولا الاعتداء لا على نفسه ولا ماله .
إذا تبين هذا فإن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرم لا يقره دين الإسلام وتحريمه جاء من وجوه ..
1- أن هذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين فيها .
2- أن فيه قتلاً للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام .
3- أن هذا من الإفساد في الأرض .
4- أن فيه إتلافاً للأموال المعصومة .
وإن مجلس هيئة كبار العلماء إذ يبين حكم هذا الأمر ليحذر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات ويحذرهم من مكائد الشيطان فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك إما بالغلو بالدين، وإما بالجفاء عنه ومحاربته والعياذ بالله، والشيطان لا يبالى بايهما ظفر من العبد لأنَّ كلا طريقى الغلو والجفاء من سبل الشيطان التي توقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه .
وما قام به من نفذوا هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها فهو داخل في عموم قول النبي-- صلى الله عليه وسلم --: ((من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة)) أخرجه أبو عوانه في مستخرجه من حديث ثابت بن الضحاك-- رضي الله عنه -- (2) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(1/118رقم357) ، ومسلم في صحيحه(1/498رقم366).
(2) رواه البخاري في صحيحه(5/2247رقم5700-البغا) ، ومسلم في صحيحه(1/104 رقم110) وأبو عوانه في مستخرجه(1/44) وغيرهم من حديث ثابت بن الضحاك -- رضي الله عنه --.(1/172)
وفى صحيح مسلم من حديث أبي هريرة-- رضي الله عنه --عن النبي:-- صلى الله عليه وسلم --((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)) وهو في البخارى بنحوه(1) .
ثم ليعلم الجميع أن الأمة الإسلامية اليوم تعاني من تسلط الأعداء عليها من كل جانب، وهم يفرحون بالذرائع التي تبرر لهم التسلط على أهل الإسلام وإذلالهم واستغلال خيراتهم، فمن أعانهم في مقصدهم وفتح على المسلمين وبلاد الإسلام ثغراً لهم فقد أعان على انتقاص المسلمين والتسلط على بلادهم وهذا من أعظم الجرم .
كما أنه يجب العناية بالعلم الشرعى المؤصَّل من الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة، وذلك في المدارس، والجامعات، وفى المساجد، ووسائل الإعلام، كما أنَّهُ تجب العناية بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والتواصى على الحق، فإن الحاجة بل الضرورة داعية إليه الآن أكثر من أى وقت مضى، وعلى شباب المسلمين إحسان الظن بعلمائهم، والتلقى عنهم ، وليعلموا أن مما يسعى إليه أعداء الدين الوقيعة بين شباب الأمة وعلمائها، وبينهم وبين حكامهم حتى تضعف شوكتهم وتسهل السيطرة عليهم فالواجب التنبه لهذا ، وقى الله الجميع كيد الأعداء.
وعلى المسلمين تقوى الله في السر والعلن، والتوبة الصادقة الناصحة من جميع الذنوب، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
نسال الله ان يصلح حال المسلمين ويجنب بلاد المسلمين كل سوء ومكروه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد واله وصحبه.
هيئة كبار العلماء
رئيس المجلس: عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد ال الشيخ
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(5/2179رقم5442-البغا) ، ومسلم في صحيحه(1/103 رقم109)(1/173)
صالح بن محمد اللحيدان ، عبدالله بن سليمان المنيع ، عبدالله بن عبدالرحمن الغديان ، د / صالح بن فوزان الفوزان ، حسن بن جعفر العتمى ، محمد بن عبدالله السبيل ، د / عبدالله بن محمد بن ابراهيم ال الشيخ ، محمد بن سليمان البدر ، د / عبدالله بن عبدالمحسن التركى ، محمد بن زيد ال سليمان ، د / بكر بن عبدالله ابو زيد-لم يحضر لمرضه- ، د / عبدالوهاب بن إبراهيم أبو سليمان-لم يحضر- ،د / صالح بن عبدالله بن حميد ، د / احمد بن على سير المباركى
د / عبدالله بن على الركبان ، د / عبدالله بن محمد المطلق .
شيخ الأزهر: الإرهابيون موعودون بالعذاب الشديد في الآخرة
أدان مجلس الرئاسة في المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة الذي اختتم اجتماعاته في القاهرة، برئاسة الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر، التفجيرات الإرهابية التي حدثت في مدينة الرياض يوم الإثنين الماضي.
وأعرب رؤساء المنظمات والجمعيات الإسلامية الأعضاء في المجلس عن استنكارها الشديد للجرائم الإرهابية المروعة التي نتجت عن هذا التخريب، ووصفوا فاعليه بالجهلة الذين لا يفقهون دين الإسلام، وبالقتلة الذين أودوا عن عمد وقصد بحياة عدد من المسلمين وغيرهم من المستأمنين، وبالمفسدين بالأرض الذين قصدوا هدم منشآت الدولة، ومباني السكن الآمنة وبيَّن الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر، ورئيس المجلس أن عقوبة هذا الفساد شديدة في الدنيا والآخرة مذكراً الإرهابيين بقوله تعالى:{ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(1).
__________
(1) سورة المائدة( آية/33).(1/174)
وقد أوضح الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله الزيد، الأمين المساعد للمجلس الأعلى العالمي للمساجد في رابطة العالم الإسلامي، الذي مثل الرابطة في اجتماعات مجلس الرئاسة نيابة عن معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي: أنَّ ما حدث في الرياض لقي استنكاراً وشجباً، واستهجاناً من قادة العمل الإسلامي العلماء والدعاة ورؤساء المراكز الإسلامية والأكاديميين الذين مثلوا المنظمات والجامعات والروابط الإسلامية، وفي مقدمتها رابطة العالم الإسلامي في اجتماعات مجلسهم في القاهرة، مشيراً إلى أن هؤلاء جميعاً يقفون إلى جانب ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية وضد الإرهابيين، وضد أعمالهم المشينة التي لا يرضى عنها دين ولا عقل ولا ضمير"(1).
شيخ الأزهر يقول: حادث التفجير تستنكره جميع الأديان السماوية ولا يقدم عليه إلا من نذر نفسه للشيطان
أكد الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر لجريدة "الرياض" أن ما وقع في مدينة الرياض من تفجيرات قبل أيام وفي شهر رمضان المبارك أدانها الجميع فهي عمل إجرامي بشع ، أثار الرعب في قلوب المسلمين.
__________
(1) جريدة الرياض الإثنين 18 ربيع الأول 1424العدد 12750 السنة 39.(1/175)
وقال: إنَّ التفجيرات التي استهدفت وتستهدف النفس البريئة لا يقدم عليها إلا إنسان فقد رشده، وانتكس فكره، وانطمست بصيرته لأنَّ الاعتداء على الآمنين تدينه وتستنكره جميع الأديان السماوية وجميع العقول الإنسانية، وما حدث في الرياض هو لون من المنكرات التي توعد الله سبحانه وتعالى من يقترفها بأشد ألوان العقوبات ويكفي أن الله عز وجل قد بيّن لنا في كتابه الكريم أن من يقتل إنساناً ظلماً وعدواناً فكأنما قتل الإنسانية جميعها قال تعالى {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} الآية(1)
وأضاف: إنَّ المملكة دولة والحمد لله أسست على تقوى من الله ورضوانه، دولة تبني ولا تهدم، تُعمر ولا تخرب، تصلح ولا تفسد، تتعاون مع غيرها على البر والتقوى، لا على الإثم والعدوان، دولة تزدهر فيها الفضائل وتضمحل فيها الرذائل، ودولة هذا شأنها يصونها الله من كل سوء ويبوء من يضمرها السوء فضلاً عما يفعله يبوء بالخسران في الدنيا والآخرة.
وأشار إلى أنَّ هذا العدوان البشع الذي ذهب ضحيته عدد من الأبرياء من المسلمين سينتقم الله من فاعله كما ذكر سبحانه وتعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(2)، وعلى شباب الأمة الإسلامية أن يعرفوا تعاليم دينهم الإسلامي التي حافظت على النفس، وحرَّمَتْ كل ما يزهقها من غير سبب شرعي، وعليهم أن يتأكدوا أنَّ ما هذه التفجيرات إلا نزوة شيطانية راح ضحيتها الكثير.
وقال: يا شباب الأمة انظروا إلى مناظر التفجيرات المخيفة والتي شاهدناها، أهذا المنكر يأمر به الدين الإسلامي؟! لا والله .
__________
(1) سورة المائدة( آية/32).
(2) سورة النساء(آية/93) .(1/176)
إذا كانت الأديان الأخرى كما ذكرت لا تقبلها فكيف هو الدين الإسلامي؟!
ونحن ندعو للمملكة وشقيقاتها أن يديم الله عليهم نعمة الإسلام ونعمة الأمان، ونعمة الرخاء، ونعمة الاطمئنان، ونقول لكل من يعتدي على الآمنين، نقول له: اقرأ قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الذِينَ ظلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
وندعو الله لنا جميعاً بالهداية وبفهم الدين فهماً سليماً وبالسلوك الحميد الذي يعود على صاحبه وعلى الأمة بالخير الكثير"(1) .
كلام جماعة من العلماء في استنكار ما حصل من تفجير بغير حق
حادث التفجير بمكة المكرمة إجرام عظيم
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمهُ اللهُ- :
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله .
لقد استنكر العالم الإسلامي ما حدث في مكة المكرمة من تفجير مساء الإثنين 7 / 12 / 1409 هـ واعتبروه جريمة عظيمة ومنكراً شنيعاً ، لما فيه من ترويع لحجاج بيت الله الحرام ، وزعزعة للأمن وانتهاك لحرمة البلد الحرام ، وظلم لعباد الله ، وقد حرم الله سبحانه البلد الحرام إلى يوم القيامة ، كما حرم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم إلى يوم القيامة ، وجعل انتهاك هذه الحرمات من أعظم الجرائم ، وأكبر الذنوب ، وتوعد من هم بشيء من ذلك في البلد الحرام بأن يذيقه العذاب الأليم، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}(2) فإذا كان من أراد الإلحاد في الحرم متوعداً بالعذاب الأليم وإن لم يفعل- فكيف بحال من فعل ، فإن جريمته تكون أعظم ، ويكون أحق بالعذاب الأليم .
__________
(1) جريدة الرياض الأربعاء 24 رمضان 1424العدد 12934 السنة 39
(2) سورة الحج(آية/25) .(1/177)
وقد حذر الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- أمته من الظلم في أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما بينه للأمة في حجة الوداع حين قال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت فقال الصحابة نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إلى الأرض ويقول : اللهم اشهد اللهم اشهد)) (1).
وهذا الإجرام الشنيع بإيجاد متفجرات قرب بيت الله الحرام من أعظم الجرائم والكبائر ، ولا يقدم عليه من يؤمن بالله واليوم الآخر ، وإنما يفعله حاقد على الإسلام وأهله ، وعلى حجاج بيت الله الحرام . .
فما أعظم خسارته ، وما أكبر جريمته فنسأل الله أن يرد كيده في نحره ، وأن يفضحه بين خلقه ، وأن يوفق حكومة خادم الحرمين لمعرفة وإقامة حد الله عليه إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه . .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لرابطة العالم الإسلامي
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية "(2)
حادث التفجير في الرياض جريمة عظيمة ، وفساد في الأرض، وظلم كبير
أكد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء - أن حادث التفجير الذي وقع في مدينة الرياض يوم الاثنين الماضي حادث أثيم ومنكر عظيم وظلم كبير ترتب عليه إزهاق نفوس ، وفساد في الأرض ، وجراحة للآمنين ، وتخريب بيوت ودور وسيارات وغير ذلك .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(1/30رقم67) ، ومسلم في صحيحه(3/1305رقم 1679) من حديث أبي بكرة -- رضي الله عنه --.
(2) نشرت هذه الكلمة الاستنكارية لسماحته في جريدة الرياض وغيرها من الصحف المحلية في 12/12/1409(1/178)
وأكد سماحته أن من قاموا بذلك العمل قد امتلأت نفوسهم الخبيثة بالحقد والحسد والشر والفساد وعدم الإيمان بالله ورسوله . وأوصى سماحته كل من يعلم خبراً من أولئك المجرمين أن يبلغ عنهم ، لأنَّ هذا من باب التعاون على دفع الإثم والعدوان وعلى تمكين العدالة من مجازاة أولئك الظالمين .
جاء ذلك في إجابة سماحته على سؤال لـ ( المدينة ) حول جزاء من يستهدف ترويع أمن الناس الآمنين كما حدث في حادث التفجير بالرياض الذي قام به مجرمون تسببوا في ترويع الآمنين وقتل الأبرياء ، وتخويف عباد الله جل وعلا وهذا نصه:
"لا شك أن هذا الحادث أثيم ومنكر عظيم يترتب عليه فساد عظيم وشرور كثيرة وظلم كبير ، ولا شك أن هذا الحادث إنما يقوم به من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، لا تجد من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا يعمل هذا العمل الإجرامي الخبيث الذي حصل به الضرر العظيم والفساد الكبير ، إنما يفعل هذا الحادث وأشباهه نفوس خبيثة مملوءة من الحقد والحسد والشر والفساد وعدم الإيمان بالله ورسوله نسأل الله العافية والسلامة.
ونسأل الله أن يعين ولاة الأمور على كل ما فيه العثور على هؤلاء والانتقام منهم لأنَّ جريمتهم عظيمة وفسادهم كبير ولا حول ولا قوة إلا بالله ، كيف يقدم مؤمن أو مسلم على جريمة عظيمة يترتب عليها ظلم كثير وفساد عظيم وإزهاق نفوس وجراحة آخرين بغير حق ، كل هذا من الفساد العظيم وجريمة عظيمة.
فنسأل الله أن يعثرهم ويسلط عليهم ويمكن منهم ، ونسأل الله أن يخيبهم ويخيب أنصارهم ، ونسأل الله أن يوفق ولاة الأمر للعثور عليهم والانتقام منهم ومجازاتهم على هذا الحدث الخبيث وهذا الإجرام العظيم .(1/179)
وإني أوصي وأحرض كل من يعلم خبرا عن هؤلاء أن يبلغ الجهات المختصة ، على كل من علم عن أحوالهم وعلم عنهم أن يبلغ عنهم؛ لأنَّ هذا من باب التعاون على دفع الإثم والعدوان وعلى سلامة الناس من الشر والإثم والعدوان ، وعلى تمكين العدالة من مجازاة هؤلاء الظالمين الذين قال الله فيهم وأشباههم سبحانه : {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرض ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }(1)
إذا كان من تعرض للناس بأخذ خمسة ريالات أو عشرة ريالات أو مائة ريال مفسدا في الأرض ، فكيف من يتعرض بسفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل وظلم الناس ، فهذه جريمة عظيمة وفساد كبير .
التعرض للناس بأخذ أموالهم أو في الطرقات أو في الأسواق جريمة ومنكر عظيم، لكن مثل هذا التفجير ترتب عليه إزهاق نفوس وقتل نفوس وفساد في الأرض وجراحة للآمنين وتخريب بيوت ودور وسيارات وغير ذلك ، فلا شك أن هذا من أعظم الجرائم ومن أعظم الفساد في الأرض ، وأصحابه أحق بالجزاء بالقتل والتقطيع بما فعلوا من جريمة عظيمة .
نسأل الله أن يخيب مسعاهم وأن يعثرهم وأن يسلط عليهم وعلى أمثالهم وأن يكفينا شرهم وشر أمثالهم وأن يسلط عليهم وأن يجعل تدبيرهم تدميرا لهم وتدميراً لأمثالهم إنه جل وعلا جواد كريم ، ونسأل الله أن يوفق الدولة للعثور عليهم ومجازاتهم بما يستحقون . ولا حول ولا قوة إلا بالله(2).
الشيخ العلامة محمد بن صالح بن عثيمين -رحمهُ اللهُ-
__________
(1) سورة المائدة( آية/33).
(2) نشرت في جريدة المدينة في 25/5/1416هـ.(1/180)
قال شيخنا العلامة محمد العثيمين -رحمهُ اللهُ- وجزاه عنَّا خير الجزاء لما سئل رحمه الله بعد حادث التفجير في الخبر، وأنه امتداد لما سبق أن وقع في العليا ، فقال رحمه الله :
"لا شك أن هذا العمل لا يرضاه كل عاقل فضلا عن المؤمن !! لا يرضاه أحد لأنه خلاف الكتاب والسنة. ولأن فيه إساءة للإسلام في الداخل والخارج .لأن كل الذين يسمعون بهذا الخبر لا يضيفونه إلا إلى المتمسكين بالإسلام، ثم يقولون لشعوبهم هؤلاء هم المسلمون ؟؟ هذه أخلاق الإسلام ؟؟
والإسلام منها برئ!! فهؤلاء في الحقيقة أساءوا قبل كل شيء إلى الإسلام ونسأل الله أن يجازيهم بعدله بالنسبة لهذه الإساءة العظيمة.
ثانيا : أنهم أساؤوا إلى إخوة لهم من الملتزمين لأنه إذا تصور الناس حتى المسلمون ، إذا تصوروا أن هذا يقع ممن يدعى أنه مسلم وأنه يغار للإسلام فسوف يكره من هذه أخلاقه وسوف يظن أن هذه أخلاق كل ملتزم ، ومن المعلوم أن هذا لا يمثل أحداً من الملتزمين إطلاقاً!! لأنَّ الملتزم حقيقة هو الذى يلتزم بكتاب الله وسنة رسوله-- صلى الله عليه وسلم -- ولا يخفى علينا جميعاً أن الله تعالى أمر بوفاء العهود وأمر بوفاء العقود وقال: {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً}(1). ولا يخفى علينا أن الرسول-- صلى الله عليه وسلم -- قال : ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة))(2)!!
__________
(1) سورة الإسراء(آية/34)
(2) رواه البخاري في صحيحه(4/398-399رقم3166) من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- .(1/181)
ولا يخفى علينا أيضاً أنه-- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسعَى بِها أدنَاهثم، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))(1) ... ولا يخفى علينا أن الائتمان أو التأمين والإجارة يكون حتى من واحدٍ من المسلمين وإن لم يكن ولي أمر حتى ولو كان امرأة قال النبي:-- صلى الله عليه وسلم --((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)) (2) فكيف إذا كان الأمان من ولاة الأمور !! فهذا هو عين المحادة لله ورسوله ، وعين المشاقة لله ورسوله.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(2/577رقم1780)، ومسلم في صحيحه(2/1147رقم1370) من حديث علي -- رضي الله عنه --.
(2) رواه البخاري في صحيحه(1/118رقم357) ، ومسلم في صحيحه(1/498رقم366).(1/182)
ثالثاً : لو قدرنا على أسوأ تقدير أن الدولة التي ينتمى إليها هؤلاء الذين قتلوا دولة معادية للإسلام فما ذنب هؤلاء؟ هؤلاء الذين جاؤوا بأمر حكومتهم ، قد يكون بعضهم جاؤوا عن كره ولا يريد الاعتداء!! ثم ما ذنب المسلمين الساكنين هناك!! فقد قتل من المسلمين من هذه البلاد عدة ، فقد أصيب عدة من هؤلاء : من أطفال وعجائز وشيوخ في مأمنهم في ليلهم عند الرقاد على فرشهم. ولهذا تعتبر هذه جريمة من أبشع الجرائم!! ولكن بحول الله إنه لا يفلح الظالمون!! سوف يعثر عليهم إن شاء الله ويأخذون جزاءهم . لكن الواجب على طلاب العلم أن يبينوا أن هذا المنهج منهج خبيث!! منهج الخوارج الذين استباحوا دماء المسلمين وكفوا عن دماء المشركين. وأن هؤلاء إما جاهلون وإما سفهاء وإما حاقدون!! فهم جاهلون لأنهم لا يعرفون الشرع ، الشرع يأمر بالوفاء بالعهد ، وأوفى دينٍ في العهد هو دين الإسلام ولله الحمد. هم سفهاء أيضاً لأنه سيترتب على هذه الحادثة من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله ، ليست هذه وسيلة إصلاح حتى يقولوا : إنما نحن مصلحون ، بل هم المفسدون في الواقع ، أو حاقدون على هذه البلاد وأهلها ؛ لأننا لا نعلم والحمد لله بلاداً تنفذ من الإسلام مثل ما تنفذه هذه البلاد ، الآن البلاد الإسلامية أليست فيها قبور تعبد من دون الله ؟ أليس فيها بيوت الدعارة ؟ أليس فيها الزنا؟ أليس فيها اللواط ؟ أليس فيها الخمر ؟ علناً في الأسواق ، أليس حكامها يصرحون بأنهم يحكمون بالقوانين لا بالكتاب والسنة ؟ فماذا يريدون ؟ ماذا يريدون من فعلهم هذا ؟ أيريدون الإصلاح ؟ والله ماهم بمصلحين ، إنهم لمفسدون ، ولكن علينا أن نعرف كيف يذهب الطيش والغيرة التي هي غبرة وليست غيرة إلى هذا الحد ؟ ولا شك أن هذا إساءة ـ المرتبة الرابعة والخامسة ـ إلى هذه البلاد وأهلها ، وترويع الآمنين، كل إنسان يتعجب ؛ كيف هذا في هذا البلد الأمين ؟ ولكن نسأل الله سبحانه وتعالى أن يخزي هؤلاء ،(1/183)
وأن يطلع ولاة الأمور عليهم ولمن خطط لهذه الجرائم حتى يحكموا فيهم بحكم الله عزوجل"(1).
وقال شيخنا العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله بعد أن بين عصمة دماء الذمي والمعاهد والمستأمن:"وفي صحيح البخاري ومسلم أن النَّبِيَّ:-- صلى الله عليه وسلم --((ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسعَى بِها أدنَاهثم ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ)) (2). ومعنى الحديث أن الإنسان إذا أمَّنَ إنساناً وجعله في عهده ، فإن ذمته ذمة للمسلمين جميعاً من أخفرها و غدر بهذا الذي أعطي الأمان من مسلم ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
(يقول الشيخ): وإننا لنلعن من لعنه الله ورسوله وملائكته وأنه لا يقبل منه صرف ولا عدل … وبذلك نعرف خطأ عملية التفجير التي وقعت في الخبر … ولا شك أن هذه العملية لا يقرها شرع ولا عقل ولا فطرة … ولا أدري ماذا يراد من مثل هذه الفعلة ، أيراد الإصلاح ؟ فالإصلاح لا يأتي بمثل هذا ، إن السيئة لا تأتي بحسنة ولن تكون الوسائل السيئة طرقاً للإصلاح أبداً ، وإننا وغيرنا من ذوي الخبرة والإنصاف ليعلم أن بلادنا خير بلاد المسلمين اليوم في الحكم بما أنزل الله ، وفي اجتناب سفاف الأمور ودمار الأخلاق ، ليس فيها ولله الحمد قبور يطاف بها وتعبد ، وليس فيها خمور تباع علناً وتشرب ، وليس فيها كنائس يعبد فيها غير الله سبحانه جهاراً ، وليس فيها وليس فيها ما يوجد في كثير من بلاد المسلمين اليوم ، فهل يليق بناصح لله ورسوله والمؤمنين ، أن ينقل الفتن إلى هذه البلاد ، إلا فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً وليفعلوا فعلاً حميداً.
__________
(1) لقاء الباب المفتوح ، ونشرت في جريدة المسلمون.
(2) رواه البخاري في صحيحه(2/577رقم1780) ، ومسلم في صحيحه(2/1147 رقم1370)من حديث علي -- رضي الله عنه --.(1/184)
(ثم دعا الشيخ) : اللهم إنا نسألك أن تقي بلادنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم قنا شرور أنفسنا وشرور عبادك ، وأدم على بلادنا أمنها ، وزدها صلاحاً وإصلاحاً ، إنك على كل شيء قدير. اللهم أقمع المفسدين ، ورد كيدهم في نحورهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين…"(1)
بيان سماحة المفتي العام لحادث تفجير مبنى الأمن العام
صدر عن سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ بيان حول حادث التفجير الذي وقع في مبنى الإدارة العامة للمرور بوسط مدينة الرياض يوم أمس الأول الأربعاء(2) هذا نصه:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فقد تابعنا ببالغ الألم حادث التفجير الذي وقع في مبنى الإدارة العامة للمرور بوسط مدينة الرياض، وما نتج عنه من قتل لانفس مسلمة معصومة وإصابات متنوعة لعدد كبير من المسلمين العاملين في المبنى أو المراجعين أو من كانوا في الطريق أو في المباني المجاورة، وإتلاف للممتلكات من مبان وسيارات وغيرها.
وإني إبراء للذمة، ونصحاً للأمَّةِ، وبياناً لحال هذه الفئة الضالة المنحرفة التي اتخذت الدين لها ستاراً، لأبين لعموم المسلمين أن هذا العمل محرم بل هو من أكبر الكبائر لأدلة كثيرة:
منها: قول الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(3)
__________
(1) خطبة بخط يد الشيخ نقلها عنه الشيخ عصام السناني في خطبة له بتاريخ 15/3/1423هـ.
(2) وقع الحادث الأليم يوم الأربعاء 2/3/1425هـ.
(3) سورة النساء(آية/93) .(1/185)
ويقول سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ}(1)، ويقول -عزَّ وجلَّ-: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً {68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً {69} إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}(2).
ويقول النبي-- صلى الله عليه وسلم --: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قيل: يا رسول الله ، وما هن ؟ قال: ((الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق...)) أخرجه البخاري ومسلم (3).
ويقول-- صلى الله عليه وسلم --: ((أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء)). أخرجه البخاري ومسلم(4).
ويقول -- صلى الله عليه وسلم --: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراماً)) (5).
قال ابن عمر -رضي الله عنهما- : "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله" أخرجه البخاري(6).
__________
(1) سورة الإسراء(آية/33)
(2) سورة الفرقان(آية/68-70).
(3) رواه البخاري في صحيحه(12/181-مع فتح الباري) ، ومسلم في صحيحه(1/92رقم89) .
(4) رواه البخاري في صحيحه(5/2394رقم6168-البغا)، ومسلم في صحيحه(3/1304رقم 1678) .
(5) رواه البخاري في صحيحه(6/2517رقم6469).
(6) رواه البخاري في صحيحه(6/2517رقم6470).(1/186)
ويقول -- صلى الله عليه وسلم --: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركاً أو يقتل مؤمناً متعمداً))(1).
ويقول -- صلى الله عليه وسلم --: ((من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً"(2).
ويقول -- صلى الله عليه وسلم --: ((لو أن أهل السماء وأهل الارض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار))(3).
ويقول -- صلى الله عليه وسلم -- وهو يطوف بالكعبة: ((ما أطيبك! وما أطيب ريحك! ، ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم حرمة منك دمه وماله وأن تظن به إلا خيراً))(4).
ويقول -- صلى الله عليه وسلم -- : ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم))(5).
__________
(1) رواه أبو داود في سننه(4/103رقم4270)، وابن حبان في صحيحه(13/318رقم5980)، والحاكم في المستدرك(4/351) وغيرهم من حديث أبي الدرداء -- رضي الله عنه -- وسنده صحيح. انظر: الصحيحة(رقم511).
(2) رواه أبو داود في سننه(4/103رقم4270) وغيره من حديث عبادة بن الصامت،وسنده صحيح.
(3) رواه الترمذي في سننه(4/17رقم1398) وغيره من حديث أبي هريرة وأبي سعيد، وهو حديث صحيح بشواهده. انظر: صحيح الترغيب والترهيب(رقم2442).
(4) رواه ابن ماجه في سننه(2/1297 رقم3932) وهو حديث صحيح لغيره انظر: صحيح الترغيب والترهيب(رقم2441).
(5) رواه الترمذي في جامعه(4/16رقم1395) ، والنسائي في سننه(7/82رقم3987) وغيرهما وهو حديث صحيح بمجموع طرقه. انظر: غاية المرام تخريج أحاديث الحلال والحرام للشيخ الألباني -رحمهُ اللهُ-(ص/253رقم439).(1/187)
ويقول -- صلى الله عليه وسلم --: ((يأتي المقتول متعلقاً رأسه بإحدى يديه متلبباً قاتله باليد الأخرى تشخب أوداجه دماً، حتى يأتي به العرش فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني، فيقول الله للقاتل: تعست، ويُذْهَب به إلى النار))(1).
وقد أجمع المسلمون إجماعاً قطعياً على عصمة دم المسلم وتحريم قتله بغير حق وهذا مما يعلم من دين الإسلام بالضرورة.
ومما سبق من النصوص الثابتة الصريحة يتضح عدة أمور أهمها:
أولاً: تحريم قتل المسلم بغير حق وأنه من أكبر الكبائر.
ثانياً: أنَّ النبيَّ -- صلى الله عليه وسلم -- جعله قريناً للشرك في عدم مغفرة الله لمن فعله.
ثالثاً: أن من قتل مسلماً متعمداً فقد توعده الله بالغضب واللعنة والعذاب الأليم والخلود في النار.
رابعاً: أنَّ الدم الحرام هو أول المظالم التي تقضى بين العباد وحصول الخزي يوم القيامة لمن قتل مسلماً بغير حق.
خامساً: أنَّ قتل المسلم بغير حق من أعظم الورطات التي لا مخرج منها.
سادساً: عظم حرمة المسلم حتى أنه أعظم حرمة من الكعبة، بل زوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم.
سابعاً: أنَّ الإعانة أو الإشارة أو تسهيل قتل رجل مسلم كلها اشتراك في قتله وهؤلاء جميعاً متوعدون بأن يكبهم الله في النار حتى لو اشترك في ذلك أهل السماء والأرض لعظم حرمة دم المسلم.
ثامناً: أنَّ من فرح بقتل رجل مسلم بغير حق لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً.
تاسعاً: أن قتل المسلم من أعظم ما يرضي عدو الله إبليس عليه لعنة الله.
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير(10/306رقم10742)، والأوسط(4/286رقم4217) من حديث ابن عباس -رضي اللهُ عنهما- .ورواه الترمذي(5/240رقم3029) وغيره بنحوه، وقال: حسن غريب. وهو حديث صحيح. انظر: صحيح الترغيب والترهيب(رقم2447).(1/188)
هذا كله في قتل المسلم بغير حق فكيف إذا انضم إلى ذلك تفجير الممتلكات وترويع الآمنين من المسلمين والانتحار وغير ذلك من كبائر الذنوب التي لا يقدم عليها إلا من طمس الله على بصيرته، وزين له سوء عمله فرآه حسناً؛ كما قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً {104} أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}(1) .
ويقول -عزَّ وجلَّ-: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ {205} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}(2).
وإني إذ أبين حكم هذه الفعال القبيحة المنكرة لأؤكد على أمور منها: أن دين الإسلام يحارب هذه الأفعال ولا يقرها وهو بريء مما ينسبه إليه أولئك الضالون المجرمون.
ومنها: أن الله قد فضح أمر هذه الفئة الضالة المجرمة وأنها لا تريد للدين نصرة ولا للأمة ظفراً ، بل تريد زعزعة الأمن وترويع الآمنين وقتل المسلمين المحرم قتلهم بالإجماع، والسعي في الأرض فساداً.
__________
(1) سورة الكهف(آية/103-105).
(2) سورة البقرة(آية/204-206) .(1/189)
ومنها: أنه لا يجوز لأحد أن يتستر على هؤلاء المجرمين وأن من فعل ذلك فهو شريك لهم في جرمهم وقد دخل في عموم قول النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((لعن الله من آوى محدثاً))(1) .
فالواجب على كل من علم شيئاً من شأنهم أو عرف أماكنهم أو أشخاصهم أن يبادر بالرفع للجهات المختصة بذلك حقناً لدماء المسلمين وحماية لبلادهم.
ومنها: أنه لا يجوز بحال تبرير أفعال هؤلاء القتلة المجرمين.
ومنها: أن هذه البلاد ولله الحمد متماسكة تحت ظل قيادتها وولاة أمرها وأننا جميعا ندين لله -عزَّ وجلَّ- بالسمع والطاعة لولاة أمرنا في غير معصية الله -عزَّ وجلَّ- اتباعاً لقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}(2).
وقول النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((عليكم بالسمع والطاعة)) (3).
ومنها: أن ما أصاب المسلمين من شيء فبسبب ذنوبهم يقول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}(4)
فالواجب على الجميع تقوى الله والمبادرة بالتوبة من الذنوب والمعاصي.
وأحب أن أخاطب إخواني رجال الأمن في هذه البلاد الطاهرة وأبشرهم بأنهم على خير عظيم، وهم في ثغر من ثغور الإسلام فعليكم بالحرص واليقظة والعزيمة في الدفاع عن دينكم أولاً ثم عن بلاد المسلمين ضد هؤلاء الضالين.
سدد الله خطاكم وأعانكم على كل خير.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(2/661رقم1771) ، ومسلم في صحيحه(3/1567رقم1978)، من حديث علي -- رضي الله عنه -- واللفظ لمسلم
(2) سورة النساء(آية/59).
(3) رواه البخاري في صحيحه(6/2588رقم6647) ، ومسلم في صحيحه(3/1470 رقم1709) من حديث عبادة بن الصامت -- رضي الله عنه -- بنحوه ، واللفظ المذكور رواه الطبراني في المعجم الأوسط(1/91-92رقم277).
(4) سورة الشورى(آية/30).(1/190)
ثم إني أخاطب من سولت له نفسه القيام بمثل هذه الأفعال الإجرامية المحرمة أو زلت قدمه بذلك أو تعاطف مع أولئك ناصحاً لهم بالمبادرة بالتوبة إلى الله -عزَّ وجلَّ- قبل حلول الأجل وأن يراجعوا أنفسهم، ويتأملوا نصوص الكتاب والسنة مما سقناه وغيره، وألا يعرضوا عنها فإن الله سائلهم عنها وعن ما اقترفوه، يقول الله -عزَّ وجلَّ- : { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(1).
أسال الله تعالى أن يحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يهدي ضال المسلمين، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يغفر لمن مات من المسلمين، وأن يرزق أهلهم وذويهم الصبر، إنه سبحانه قريب مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والافتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ
رسالة سماحة المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- عند اصطدام الطائرتين بمبنى التجارة العالمي بأمريكا
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد..
فنظراً لكثرة الأسئلة والاستفسارات الواردة إلينا حول ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أيام وما موقف الشريعة منها وهل دين الإسلام يقر مثل هذه التصرفات أم لا.
__________
(1) سورة البقرة(آية/281).(1/191)
فأقول مستعينا بالله الواحد القهار إن الله سبحانه قد منّ علينا بهذا الدين الإسلامي وجعله شريعة كاملة شاملة صالحة لكل زمان ومكان مصلحة لأحوال الأفراد والجماعات تدعو إلى الصلاح والاستقامة والعدل والخيرية ونبذ الشرك والشر والظلم والجور والغدر، وإن من عظيم نعم الله علينا نحن المسلمين أن هدانا لهذا الدين وجعلنا من أتباعه وأنصاره فكان المسلم المترسم لشريعة الله المتبع لسنة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --المستقيم حق الاستقامة على هذا الدين هو الناجي السالم في الدنيا والآخرة..
هذا وإن ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث خطيرة راح بسببها آلاف الأنفس لمن الأعمال التي لا تقرها شريعة الإسلام وليست من هذا الدين ولا تتوافق مع أصوله الشرعية وذلك من وجوه..
الوجه الأول: أن الله سبحانه أمر بالعدل وعلى العدل قامت السموات والأرض وبه أرسلت الرسل وأنزلت الكتب يقول الله سبحانه: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(1) ويقول سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(2) وحكم الله ألا تحمل نفس إثم نفس أخرى لكمال عدله سبحانه: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(3) .
__________
(1) سورة النَّحل(آية/90).
(2) سورة الحديد(آية/25).
(3) سورة الإسراء(آية/15).(1/192)
إن الله سبحانه حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما كما قال سبحانه في الحديث القدسي : ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا))(1) وهذا عام لجميع عباد الله مسلمهم وغير مسلمهم لا يجوز لأحد منهم أن يظلم غيره ولا يبغي عليه ولو مع العداوة والبغضاء يقول الله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله}(2) فالعداوة والبغضاء ليست مسوغاً شرعياً للتعدي والظلم.
وبناء على ما سبق يجب أن يعلم الجميع دولاً وشعوباً مسلمين وغير مسلمين أموراً..
أولها: أن هذه الأحداث التي وقعت في الولايات المتحدة وما كان من جنسها من خطف لطائرات أو ترويع لآمنين أو قتل أنفس بغير حق ما هي إلا ضرب من الظلم والجور والبغي الذي لا تقره شريعة الإسلام، بل هو محرم فيها ومن كبائر الذنوب.
ثانيها: أن المسلم المدرك لتعاليم دينه العامل بكتاب الله وسنة نبيه-- صلى الله عليه وسلم -- ينأى بنفسه أن يدخل في مثل هذه الأعمال لما فيها من التعرض لسخط الله وما يترتب عليها من الضرر والفساد.
ثالثها: أن الواجب على علماء الأمة الإسلامية أن يبينوا الحق في مثل هذا الأحداث ويوضحوا للعالم أجمع شريعة الله وأن دين الإسلام لا يقر أبداً مثل هذه الأعمال.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(4/1994رقم2577) من حديث أبي ذر -- رضي الله عنه --.
(2) سورة المائدة(آية/8).(1/193)
رابعها: على وسائل الإعلام ومن يقف وراءها ممن يلصق التهم بالمسلمين ويسعى في الطعن في هذا الدين القويم ويصمه بما هو منه براء سعياً لإشاعة الفتنة، وتشويه سمعة الإسلام والمسلمين، وتأليب القلوب وإيغار الصدور؛ يجب عليه أن يكف عن غيه، وأن يعلم أن كل منصف عاقل يعرف تعاليم الإسلام لا يمكن أن يصفه بهذه الصفات، ولا أن يلصق به مثل هذه التهم، لأنه على مَرِّ التاريخ لم تعرف الأمم من المتبعين لهذا الدين الملتزمين به إلا رعاية الحقوق وعدم التعدي والظلم.
هذا ما جرى بيانه إيضاحاً للحق وإزالة للبس . والله أسال أن يلهمنا رشدنا، ويهدينا سبل السلام، وأن يعز دينه، ويعلي كلمته، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المفتى العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ "(1).
كلمة معالي الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-
أكد فضيلة الشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء الاعلى أن من الظلم أن يعتدى على غير جانٍ، وأن يقتل غير مجرم.
جاء ذلك في حديث لفضيلته لتلفاز المملكة العربية السعودية حول حكم شريعة الإسلام في مثل ما حدث من اعتداءات على الولايات المتحدة الأمريكية مبيناً أن شريعة الإسلام شريعة كاملة تستوعب كل حدث، وفيها حل لكل مشكلة، وفيها بيان حكم كل نازلة.
__________
(1) جريدة الجزيرة العدد:10580 الصادرة يوم الأحد 28 ,جمادى الآخرة 1422(1/194)
وأكَّدَ معاليه أنه لا غرابة أن تعلن المملكة العربية السعودية عن استنكارها وعدم رضاها للاعمال التي تعرضت لها بعض المنشآت في الولايات المتحدة الأمريكية موضحاً أن المملكة ولله الحمد مملكة إسلامية وبحق، يحكمها نظام الإسلام، وتحكم شريعة الإسلام، وأصول عملها وأنظمتها مقيدة بألا تخالف الإسلام فاذا استنكرت مثل هذا العمل فانما تفعل ما تفعله من واقع دينها ومن موفقها الإسلامي:
"أيها المشاهدون الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
الحمد لله على كل حال، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والحمد لله الذي كل شيء بقضائه وقدره.
في خضم هذه الأحداث التي طرأت، وفي مجالات اضطرابات الرأي والفكر، وفي أمر ما حدث من كارثة على الولايات المتحدة الأمريكية كَثُرَ السؤال والتساؤل عن حكم مثل هذه الأحداث في شريعة الإسلام.
لا شك أن شريعة الإسلام الشريعة الكاملة التي تستوعب كل حدث، وفيها حل كل مشكلة، وفيها بيان حكم كل نازلة، فما من نازلة تَنْزل على البشر الا وفي شريعة الإسلام حكمها وبيان أبعادها.
ومن ذلك هذه الأحداث التي طرأت ، ومما كثر السؤال عنه من خاصة وعامة، إنما هو ما هو حكم الشريعة في مثل هذه الأحداث؟ هل في ذلك جواز في شريعة الإسلام؟وهل مثل هذا العمل يقره علماء الإسلام؟
فيقال عن بيان حكم الإسلام في ذلك ما ينبغي أن يقال ، ولأن علماء الإسلام لابد أن يتحدثوا عن الأحداث، ويبينوا أحكام الشريعة الإسلامية فيما يطرأ من نوازل، وما يلم في المسلمين، أو في غيرهم من ملمات.
لا شك أن كل أمر فبقضاء الله -جل وعلا- قدره ، ومع ذلك فأحكام الشريعة تستوعب كل حدث..
اللهُ جلَّ وعلا أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وهو الحكم العدل؛ حرم الظلم على نفسه، وجعله بينه وبين العباد محرماً.(1/195)
وقد ثبت عن نبي الله -- صلى الله عليه وسلم -- فيما يروي عن ربِّهِ -جلَّ وعلا- أنه قال سبحانه : ((((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا))(1).
إن من الظلم أن يعتدى على غير جانٍ ، وأن يقتل غير مجرم، والنبي-- صلى الله عليه وسلم -- نبي الرحمة، نبي الشفقة نبي الاحسان المبعوث إلى البشرية بل إلى الثقلين الجن والإنس، أوضح المعالم وكان في الغزو والجهاد والقتال إذا جهز السرية أوصاهم ألا يقتلوا وليداً ، ولا امرأة، ولا هرماً ، ولا متعبداً في صومعته أي أن الإسلام لا يبيح قتل إلا من يقتل ويقاتل، ويعتدى على المسلمين.
ولهذا فإن مثل الجرائم التي تقع ولا تفرق بين رضيع وامرأة ومسن ومسنة ومريض وصحيح، وتأتي على المال وأهل المال ، إن هذا العمل يعد من الجرائم العظام والفواحش الخطيرة، لأنَّ هذا ينظر إليه في شريعة الإسلام بأنه من الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل ، وهذا أمر حرمه الإسلام، حرمه الله وحرمه رسوله-- صلى الله عليه وسلم --، والنبي لما رأى امرأة مقتولة في الغزو قال "ما كانت لتقاتل" أي أن قتلها أمرٌ ممنوعٌ منعاً باتاً.
ولهذا فإن ما حدث مما شاهدته في العرض الذي عرضته وكالات البث العام مما حدث على تلك العمارات من الضرب التي تداعت له العمارة فصار الناس إثر ذلك كأنما القيامة قامت، وكأن الفزع فزع قيام الساعة، وظهر على وجوه الذين يركضون هنا وهناك الذهول.
إن من يحدث مثل هذه الجرائم يعد في النظر الإسلامي من أخطر الناس جرماً وأسوئهم عملاً ، ومن يظن أن أحداً من علماء الإسلام العارفين بمقاصد شريعة الإسلام المطلعين على مقاصد القرآن وسنة المصطفى-- صلى الله عليه وسلم -- ؛ يظن أنه يجيز مثل هذه الأعمال فإنما يظن سوءاً.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(4/1994رقم2577) من حديث أبي ذر -- رضي الله عنه --.(1/196)
إنَّ المسلم لا يليق به أن يشمت حتى بالعدو إذا ظلم، فالظلم غير مقبول، والعدوان الانفرادي أمر محرم فظيع على من ليس مستحقاً للعقاب، فكيف إذا وقع الجرم بالذي شوهد وتردد صداه وأفزع النظر إليه من نظر، كيف يقال عن ذلك إن أهل الإسلام يقرون مثل هذا العمل؟!
إنَّهم ومهما ادعوا من مسوغ مثل هذه الحوادث لا يصح أن تقبل، وأن تسوغ في ميزان الإسلام، إن الله جل وعلا يقول في القرآن الكريم في خطابه للمسلمين: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(1) .
ولذلك العدل قامت به السموات والأرض، وإيقاع عقوبة جماعية لا تتفق بأي وجه من الوجوه مع ميزان العدل، ولا توضع في كفة الوزن إلا أنها في كفة الظلم والعدوان الفاحش ؛ لأنَّ قتل فرد بريء لا ذنب له جرم عظيم ، فكيف إذا كان الجرم واقعاً على فئات عظيمة، وأعداد كبيرة ، ورضع ، وأطفال، ونساء حبالى، حتى ربما وضعت المرأة حملها من هول الفزع، كأنما قامت قيامة الساعة.
إن هذه المناظر المرعبة التي شوهدت من آثار ذلك الاجرام مناظر لا يقرها عقل مسلم ولا يعتد بفعل من فعلها ولو كان نابتاً منبتاً إسلامياً في بلد إسلامي ، العبرة بما يقوله أهل العلم، والعبرة بما تقرر في أحكام الشريعة الإسلامية في أمثال هذه الجرائم من الجرائم الخطيرة.
والمملكة العربية السعودية عندما نظرت في يوم من الأيام أمر اختطاف الطائرات قبل أن يختطف للسعودية أي طائرة قرر علماؤها تحريم هذا العمل ولم يفرقوا بين اختطاف طائرة ركابها مسلمون وبين طائرة ركابها غير مسلمين، بل رأوا أن الظلم أمر محرم وأن العدوان على الناس وارهابهم بغير حق من أعظم الفواحش في الأرض والفساد فيها.
__________
(1) سورة المائدة(آية/8).(1/197)
إن مثل هذه الامور لاغرابة أن تعلن المملكة العربية السعودية استنكارها وعدم رضاها عن ما حدث وعن من أحدث لأنَّ المملكة العربية السعودية مملكة إسلامية ولله الحمد وبحق يحكمها نظام الإسلام وتحكم شريعة الإسلام وأصول عملها وأنظمتها مقيدة بأن لا تخالف الإسلام فإذا استنكرت مثل هذا العمل فإنما تفعل ما تفعله من واقع دينها، ومن موقفها الإسلامي الذي تقف فيه لأنها دولة الحرمين، وبلاد منبع الرسالة، فلا غرو أن تستنكر الفواحش، وأن تستهجن إجرام المجرمين، وأن تندد بإيواء كلِّ مرتكب للإجرام أو يرضى بجرمه.
إن الإنسان المسلم العارف مقاصد الشرع العالم ما تنطوي عليه الشريعة الإسلامية من الشفقة والرحمة لعباد الله يرى أن هذه الاعمال من أخبث الاعمال وأشدها ضرراً على بني الإنسان.
ومما طرح علي من الاسئلة وهي كثيرة قبل أن أقبل بأن أتكلم، ولكن تحت ضغط كثرة الأسئلة ، والرغبات في أن أتحدث، ويعرف موقف القضاء في المملكة العربية السعودية، ولأن يتكلم من هو في قمة مسؤولية القضاء؛ رأيت أن أبدأ وأبين أن هذا العمل هو عمل منكر، ولكن الحقيقة أن النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- قال: ((لايجني جان إلا على نفسه))(1) أي أن إجرام المجرم أو عبث عابث لا يصح أن يشغل غيره.
ومما قيل لي وقد سألتني إحدى الصحف قبل هذا الموقف أمام هذه الكاميرا، وبينت أن هذا العمل الفظيع عمل لا يقر.
__________
(1) رواه أحمد في المسند(3/498) ، وابن أبي شيبة في مصنفه(7/453)، والترمذي في جامعه(4/461رقم2159، 5/273رقم3087) ، وابن ماجه في سننه(2/890رقم2669، 2/1015رقم3055) ، وغيرهم وهو حديث صحيح بشواهده.(1/198)
كما أن هذا العمل الفظيع لا يمكن أن يولد إلا بغضاً أو حقداً وانتقاماً على المسلمين الذين لم يرضوا ولم يقروا هذا العمل أو يحمدوه لأنَّ مقتضى العدل ونواميس العقل تستلزم أن لا يؤخذ أحد إلا بذنبه، وأن لا يحاسب إنسان أو جماعة على ذنوب غيرها، لأنه كما هو مقرَّرٌ في شريعة الإسلام، وكما هو قول نبي الهدى محمد-- صلى الله عليه وسلم --: ((لا يجني جان إلا على نفسه)) ، ولأن القرآن يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(1) أي لا تتحمل وازرة وزر أخرى، ولا يحمل بريء ذنبَ مسيء ، ولا يعاقب مسالِمٌ كافٌ الأذى بسبب إجرام مرتكب جريمة.
ومما أثير عما قد يقال أو تردد في بعض وسائل الاعلام عن الشعب الأمريكي، وما قد يكون ينظر للمسلمين المتواجدين في أمريكا من أصل أمريكي أو من وافدين إليها من العرب أو غيرهم وهل هذا مما يقبل عقلاً؟
ذكرت وأذكر هنا أنه لا يتوقع أنَّ الشعب الأمريكي الذي يقول عن نفسه إنه من أبرز حماة الديمقراطية، وحامل لواء العدل، لا يعقل أن ينظر إلى مواطنيهم أو ضيوفهم من العرب والمسلمين، ومن غير المسلمين من العرب أيضاً لا يمكن أن ينظر اليهم الشعب الأمريكي مع ما هو فيه من مناعة، وما يفترض فيهم العقل ومعرفة التجانس، وتذكر ما قد حدث في أيام المحن، لا يمكن أن ينظر إلى غير المسيء بنظرته للمسيء ، فإنه لا يستوي المجرم مع غير المجرم، ولا يُحَمَّلُ مُسالِمٌ موالي ذنب وجريرة معتد ظالم.
__________
(1) سورة الإسراء(آية/15).(1/199)
إنني أؤكد أن مثل هذا العمل غير مقبول في الإسلام، وألْمَحت إلى أنَّ الناس في القتال -في الغالب- لا يفكرون في أيام الحروب فيما يصيب من لم يشارك في الحرب من أضرار وسفك للدماء، ما عدا أن الإسلام يمنع مِن قَتْلِ من لم يشارك في الحرب، ويمنع قتل الوليد؛ أي الأطفال الذين لم يكونوا مقاتلين، ويمنع قتل النساء، ويمنع قتل الشيوخ، ويمنع قتل من تفرغوا للعبادة من الرهبان في صوامعهم، فدين ينظر الرسول المبعوث به لهذه الشعوب والأفراد والجماعات هذه النظرة لا يمكن أن يقر أتباع هذا الدين مثل هذا العمل الفاحش.
إنه عمل خطير، وإنه عمل من النوازل النادرة التي لم تكن معروفة في الزمن القديم وطرقها يحتاج إلى أن تعالج معالجة من جميع النواحي معالجة المجرم، ومن رضي بإجرامه، وأقره عليه وأيده وأمده، والنظر في الأخذ بالأسباب الواقية من تكرر مثل هذا الإجرام.
والأسباب يعرفها العقلاء والباحثون عن الحلول، وتوقي الأخطار والأخذ بأسباب منع الحوادث لا يعوزهم الوصول إلى الحل السليم والوقاية التامة.
ولا شك أن الشريعة الإسلامية جاءت بـ"الوقاية خير من العلاج" ، ولايختص هذا بمرض الأبدان، بل يعم مرض الأبدان والمجتمعات والشعوب، فالوقاية من الأخطار والأخذ بالأسباب التي لا تعرض للأخطار –أيضاً- من مقاصد الشريعة الكاملة، ومن متطلبات أهل سداد الرأي والفكر السليم والعقول الراجحة.
لا أحب أن أستمر في حديثي، ولكني أؤكد أن الأمَّةَ الإسلامية بقياداتها العلمية، وقياداتها السياسية، وأذكر القيادة العلمية قبل السياسية لأنَّ الأمر أمر بيان حكم الشريعة لا يمكن أن تقر مثل هذه الأعمال.(1/200)
كما أنني أعتقد أن المجتمع الأمريكي والغربي أجمع لا يمكن أن ينظر إلى مثل هذه الأحداث بأنَّ من ينتسبون إلى أي دولة وهو خارج عن إرادة دولته في تصرفه أن تؤاخذ دولته، وتعادى لأجل عمل قام به من لم يستشرها، ولم يعلمها، ولم يخبرها، لأنَّنِي لا أتوقع أنَّ أحداً من مرتكبي هذه الجريمة الفاحشة الشنعاء أنه يمكن أن يكون أطْلَعَ أحداً من رجال دولته على أي قصد من هذه المقاصد.
وإنَّنِي أقول: على المسؤولين في كل مكان أن يحسنوا الظن بمن يواطنوهم الآن لا سيما وأنَّ المواطنة في الولايات المتحدة وفي غيرها صارت لكثير من المسلمين ممن أصولهم من تلك البلاد، وممن وفدوا إليها، والإسلام لا يفرق في أخُّوَّتِهِ بين جنس وجنس ، ولا لسان ولسان ، ولا لون ولون في هذه العقيدة.
أكرر مرة أخرى: إن هذا العمل الذي تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الفظاعة، والوحشية المتناهية التي هي أبعد من عمل الوحوش، وأبعد من عمل ما قد يسمى جماعات إرهاب، أو فصائل إجرام، بل هو عمل بالغ الخطورة، أقول: إنَّهُ في غاية الفحش والسوء.
وأسال الله جل وعلا بأسمائه وصفاته أن يقينا في دنيانا كل سوء، وأن يهدي كل ضال إلى الصواب، وأن ينصرالحق وأهله، وأن يخذل الباطل وأهله، وأن يجعل أعمالنا كلها في مرضاته سبحانه وتعالى، وأن يلطف بنا لأنَّ من لم يلطف به الله فلا معين له.
وصلى الله وسلم على رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- وجميع إخوانه من الأنبياء ورسله وجميع المتبعين للحق الصادقين في أتباعه.
والحمد لله رب العالمين ، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.
كلام معالي الشيخ العلامة: صالح الفوزان -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ-(1)
سئل معاليه : أحسن الله إليكم: هل القيام بالاغيالات وعمل التفجيرت في المنشآت الحكومية في بلاد الكفار ضرورةٌ وعمل جهادي. جزاكم الله خيراً؟
__________
(1) عضو هيئة كبار العلماء ، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء .(1/201)
الجواب: لا. هذا لايجوز الأغتيالات والتخريب هذا أمرٌ لا يجوز، لأنه يجر على المسلمين شراً ويجر على المسلمين تقتيلاً وتشريداً ، هذا أمرٌ لا يجوز إنما المشروع مع الكفار الجهاد في سبيل الله ومقابلتهم في المعارك إذا كان عند المسلمين إستطاعة يجهزون الجيوش ويغزون الكفار ويقاتلونهم كما فعل النبي-- صلى الله عليه وسلم --.
أما التخريب والاغتيالات، فهذا يجر على المسلمين شراً، الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- يوم كان في مكه قبل الهجرة كان مأموراً بكف اليد، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}(1) مأموراً بكف اليد، عن قتال الكفار، لأنه ما عندهم إستطاعة لقتال الكفار، ولو قتلوا احداً من الكفار ،
لقتلهم الكفار عن آخرهم، واستأصلوهم عن آخرهم، لأنهم أقوى منهم، وهم تحت وطأتهم وشكوتهم.
فالأغتيال يسبب قتل المسلمين الموجودين في البلد مثل ما تشاهدون الآن وتسمعون، هذا ليس من أمور الدعوة، ولا هو من الجهاد في سبيل الله ،هذا يجر على المسلمين شراً، كذلك التخريب والتفجيرات، هذه تجر على المسلمين شراً كما هو حاصل، فلما هاجر الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- وكان عنده جيش وعنده أنصار حينئذ أُمرَ بالجهاد، أُمرَ بجهاد الكفار.
هل الرسول-- صلى الله عليه وسلم --والصحابة يوم كانوا في مكة، هل كانوا يُقتلُون في الكفار؟ أبداً. بل كانوا منهيينَ عن ذلك.
هل كانوا يخربون أموال الكفار وهم في مكة؟؟ أبداً كانوا منهيين عن ذلك.
مأمور بالدعوة والبلاغ فقط. أما الألزام والقتال هذا إنما كان في المدينة. لما صار للإسلام دولة" (2) .
وقد أجرت إذاعة الرياض لقاءً مع معالي الشيخ صالح بن فوزان الفوزان تحدث فيه عن المكانة الخاصة لمكة المكرمة في قلوب المسلمين وخصوصيتها ومكانتها.
__________
(1) سورة النساء(آية/77).
(2) من شريط أسئلة مهمة في الدعوة. تسجيلات منهاج السنة(1/202)
ووجهت الإذاعة في بداية اللقاء سؤالاً لفضيلة الشيخ يقول: ما واجبنا نحن كمسلمين تجاه الأمن؟ وكيف نحافظ عليه؟ وما حكم هذه الأعمال الإجرامية؟
فقال معاليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فإنَّ هذه الحرمات العظيمة لا ينتهكها من في قلبه إيمان، وهذه الحرمات:
أولاً : حرمة المسلمين فإن المسلمين لهم حرمة قال-- صلى الله عليه وسلم --: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)) (1)
[ثانياً] : ومكة -أيضاً- لها حرمة، حرمة الدم وحرمة المسلم وحرمة الحرم.
وقال سبحانه وتعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(2) وحرمة مكة.. مكة حرام جميع الحرم منذ خلق الله السماوات والأرض إلى أن تقوم الساعة كما أخبر بذلك النبي-- صلى الله عليه وسلم --وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الحرم {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (3).
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(1/30رقم67) ، ومسلم في صحيحه(3/1305رقم 1679) من حديث أبي بكرة -- رضي الله عنه --.
(2) سورة النساء(آية/93) .
(3) سورة الحج(آية/25) .(1/203)
[ثالثاً] : وكذلك حرمة شهر رمضان المبارك الذي فرض الله صيامه وشرع للأمة صيامه، والإكثار من العبادة فيه بأنه شهر عظيم شهر مبارك شهر ميزه الله على سائر الشهور بالخيرات والبركات؛ فهذه حرمات عظيمة ، وهؤلاء الطُّغْمَةُ ينتهكون هذه الحرمات، ولا شك بأن الله سبحانه وتعالى ليس بغافل عنهم حيث انتهكوا حرمات الله عز وجل ، والله عزيز ذو انتقام والله جل وعلا بالمرصاد {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}(1)
وهؤلاء الطغمة الذين تجرؤوا على هذه الحرمات: حرمة المسلمين، وحرمة شهر رمضان، وحرمة البلد الحرام ؛ لا شك أنهم أقدموا على جريمة، بل على جرائم لم يأتها الكفار من قبل، فإن الكفار كانوا يعظمون الحرم، وكانوا لا يعادون فيه أحداً ، حتى أن أحدهم يلقى قاتل أبيه أو ابنه أو قريبه فلا يتعرض له حتى يخرج من الحرم ، هذا وهم كفار، إنهم يخشون من العقوبة من الله سبحانه وتعالى، فكيف بهؤلاء الذين يدعون ويدعون الجهاد؟!
الجهاد قتل المسلمين؟! هل الجهاد الاعتداء على حرمات الله عز وجل؟! هل الجهاد الاعتداء على حرمة الحرم الشريف؟!
__________
(1) سورة إبراهيم(آية/42).(1/204)
لكن إذا تذكرنا سلفهم الذين خرجوا في عهد الصحابة، وكَفَّرُوا الصحابة ، وقتلوا الخلفاء الراشدين؛ قتلوا عثمان -- رضي الله عنه --، وقتلوا علياً -- رضي الله عنه --، وحاولوا قتل معاوية بن أبي سفيان -- رضي الله عنه --، وقتل عمرو بن العاص-- رضي الله عنه --، وقتل المغيرة بن شعبه-- رضي الله عنه --، فإذا عرفنا موقعهم من صحابة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --، وأنهم لا يحترمون الصحابة الذين هم خير القرون، فأحلوا دمهم، وقد أخبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن هذه الطغمة أنهم يقاتلون أهل الإيمان، ويدعون أهل الأوثان ، فإذا كانوا بزعمهم يجاهدون في سبيل الله، فهل الجهاد في سبيل الله انتهاك حرمات الله عز وجل؟!
إن هذا جهاد في سبيل الشيطان {الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً}(1) .
لا شك أنهم ارتكبوا حرمات متعددة، إذا كان الحرم بالذات لا يؤيد الصيد فيه، ولا الطيور، ولا الوحوش التي لا تؤذي الناس، ولا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه تعظيماً لحرمات الله ، فكيف ببيت فيه القتل والتخريب وتجمع فيه القوة والذخائر لأجل قتل المسلمين وتدمير ممتلكات المسلمين وترويع المسلمين؟!!
لا شك أنَّ هذه طغمة فاسدة ، تلقت مذهبها من شياطين الإنس والجن، وجاؤوا يريدون انتهاك حرمات المسلمين.
لماذا يأتون إلى مكة المكرمة، وإلى المملكة العربية السعودية التي هي الدولة الوحيدة التي تحكم شرع الله -عزَّ وجلَّ- ، والتي هي تحمي حمى الحرمين الشريفين، والتي هي مضرب المثل في التمسك بالإسلام، هل يريدون أن يقضوا على الإسلام؟
__________
(1) سورة النساء(آية/76).(1/205)
إنهم لا يريدون الجهاد في سبيل الله، وإن تسموا بهذا، وإنما يريدون القضاء على الإسلام والمسلمين، هذه مهمتهم ، وقد لقنوا هذا الشيء من أعداء الله من الكفرة، فهم الذين لقنوهم هذه الأفكار، وهم الذين شربوهم هذه الجرائم وأرسلوهم في نحور المسلمين.
ولكن الله عز وجل لهم بالمرصاد ، والله يمهل ولا يهمل، وبحمد الله أن الله يمكن ولاة الأمور من القبض عليهمـ ومن إبطال كيدهم، وهذا من فضل الله ومن حوله وقوته ، فإنهم لا يدبرون مكيدة إلا والله جل وعلا يكشفها عما قريب فهم مخذولون بحول الله.
ودعوات المسلمين في المسجد الحرام في مكة، وفي مسجد الرسول-- صلى الله عليه وسلم -- في الحرم الشريف ، ودعوات المسلمين في هذا الشهر المبارك، ودعوات المسلمين في كل مكان سوف تحيط بهم بإذن الله فان الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد والله قريب مجيب.(1/206)
وإننا نذكر من في قلبه بقية من الإيمان أو ذرة من إيمان من هؤلاء أن يتوبوا إلى الله عز وجل، وأن يرجعوا إلى رشدهم، ويثوبوا إلى صوابهم، ولا يغتروا بأقوال الأعداء والكفار، فإنهم لم يفلح سلفهم، فما ظهر لهم قرن في أي زمان إلا ويقطعه الله عز وجل، فعليهم أن يعتبروا بسلفهم، وأن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، ولا نستغرب إقدامهم على انتهاك الحرم، وسلفهم الذين دخلوا المسجد الحرام وقتلوا الحجاج فيه، وألقوا جثثهم في بئر زمزم، وذهبوا إلى عرفه في يوم عرفة، وقتلوا الْحُجَّاجَ في عرفة، لا نستغرب من تلاميذهم أن يفعلوا مثل أفعالهم، أو يحاولوا، ولكنهم بحول الله مخذولون، وبحول الله إنَّهم مقهورون، ولا يبوؤون إلا بالخيبة والفشل، وإنَّ جميع المسلمين على وجه الأرض يمقتونهم، بل حتى الكفار يشمتون منهم، فإنَّ هؤلاء الكفار الذين غرروا بهم لاشك أنهم يشمتون بهم، وكما قال الشيطان، وإن زين لهم يوم بدر، {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1) هذا الشيطان يقول كذا ، فهؤلاء الكفار الذين لقنوا هؤلاء الأغرار سيكون موقفهم إذا أوقعهم الله بأيدي المسلمين، سيكون موقفهم منهم مثل موقف الشيطان من الكفار في بدر، فعليهم أن يتقوا الله إن كان فيهم بقية من إيمان، وأن يتوبوا إلى الله، وأن يتخلوا عن هذه الأفكار الخبيثة..
كيف يغزون المسلمين؟! كيف يغزون آباءهم وإخوانهم وجيرانهم في بلاد الإسلام يروعونهم ويقتلونهم ويدمرون بيوتهم؟! أين الإنسانية؟! أين الشهامة؟! أين الدين ؟! إن كان فيهم دين فعليهم أن يتقوا الله عز وجل على بقيتهم.
__________
(1) سورة الأنفال(آية/48)(1/207)
وأما من أوقعهم الله في قبضة المسلمين فسيلقون جزاءهم الرادع بحول الله، ولكن على بقيتهم أن يتوبوا إلى الله، وأن يلقوا السلاح الذي بأيديهم، ومن تاب تاب الله عليه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} (1)
فعليهم أن يتوبوا إلى الله ويعلموا أنهم لا يعجزون الله سبحانه وتعالى فان الله محيط بهم وقادر عليهم والله جل وعلا ينتصر لأوليائه قال-- صلى الله عليه وسلم --فيما يرويه عن ربه عز وجل "إن الله قال من عادي لي وليا فقد آذنته بالحرب" فمن آذى عباد الله وآذى المسلمين فانه قد حارب الله عز وجل ومن حارب الله فانه مخذول لأنَّ الله يسلط عليه جنود السماوات والأرض {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }(2) .
فعلى من بقى منهم أن يتوبوا إلى الله، وأن يرجعوا إلى رشدهم، وأن يدخلوا في صف المسلمين، وأن يضعوا أيديهم في أيدي المسلمين ما دامت التوبة لها مجال، وما دام أنهم يتمكنون من التوبة.
أما إذا أُلْقِيَ القبض عليهم فإنهم سيطبق فيهم حكم الله ورسوله الرادع الذي يردعهم ويردع غيرهم..
والله سبحانه وتعالى لما ذكر عقوبة الذين يسعون في الأرض فساداً قال جل وعلا: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {33} إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3) .
__________
(1) سورة الأنفال(آية/38)
(2) سورة الفتح(آية/4).
(3) سورة المائدة( آية/33-34).(1/208)
فعلى هؤلاء أن يتوبوا إلى الله قبل أن يقعوا في قبضة المسلمين ويوقع بهم حكم الله ورسوله..
عليهم أن يتوبوا ويرجعوا إلى رشدهم، فإن الله يتوب على من تاب، وإن المسلمين يفرحون بتوبتهم لأنهم أبناؤهم وإخوانهم، فإذا تابوا إلى الله فإنَّ هذا يسر المسلمين، ومن تاب تاب الله عليه..
نسال الله لنا ولهم الهداية ، والرجوع إلى الحق، وأن يعيذنا من نزغات الشيطان، ومن أفكار الشيطان ، وأعوان الشيطان، إنه قريب مجيب .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين(1) .
وسئل الشيخ العلامة صالح الفوزان السؤال التالي :
أحسن الله إليكم ،يقول :هل يقال فيمن قاموا بالتفجيرات في هذه البلاد أنه من الخوارج ؟
فأجاب -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : هذا إفساد في الأرض،هذا إفساد في الأرض وإهلاك للحرث والنسل ،واعتداء على الدماء البريئة ،وترويع للمسلمين فهو من أشد أفعال الخوارج ،بل الخوارج ما فعلوا مثل هذا ،الخوارج يبرزون في المعارك جاءوا يقاتلون ،أما هؤلاء فيجيئون الناس وهم نائمون وآمنون وينسفون المنازل بما فيها ،هذا فعل الخوارج ؟! لا هذا أشبه شيء بفعل القرامطة ،أما الخوارج فهم يَتَنَزَّهُونَ عن هذا الغدر وهذه الخيانة ، ما فعل هذا الخوارج .
المبحث السابع
الشبه المثارة حول الدولة السعودية وكشفها وبيان زيفها
تَمْهِيد
لقد جرت سنَّة الله الكونية بأن الحق له أعداء ، وأن أهل الحق يتعرضون لحملات التشويه من أهل الباطل والفساد.
فقد قام أعداء الله بتشويه دعوة الرسل –عليهم الصلاة والسلام- ، ورموا أنبياء الله بتهم عظيمة كالسحر والكذب والجنون ، وأثاروا الشبهات حول دعوتهم –عليهم الصلاة والسلام- ليصدوا الناس عن الدين الحق ، بل بذلوا في ذلك الأموال الأنفس ..
__________
(1) جريدة الرياض الأحد 14 رمضان 1424العدد 12924 السنة 39.(1/209)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ {36} لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}(1)
وهكذا أتباع الرسل –عليهم الصلاة والسلام- نالهم من الأذى والبهتان نظير ما أصاب أنبياء الله ورسله.
وإن المملكة العربية السعودية -حرسَها اللهُ- لَمَّا كانت متمسكة بالكتاب والسنَّة على منهج السلف الصالح ، داعية إليه ؛ فقد تعرضت لحملات تشويه، وأثيرت حولها الشبه الواهية ، والحجج الداحضة..
بل وصل الحال بأعدائها أن كفروا حكامها ونظامها، بل أفرط بعض أعدائها في الغلو فجعلها أكفر الدول!!
وسأذكر بعض الأحاديث المحذرة من تكفير المسلم، مع بيان مفصل صدر عن هيئة كبار العلماء حوى خطورة التكفير وضوابطه.
ثم سأذكر أعظم تلك الشبه مع الرد عليها بما يبين وهاءها ، ويرد كيد أصحابها بعون الله وتوفيقه.
التحذير من تكفير المسلم وضوابط التكفير
هذه بعض الأدلة التي تبين حرمة دم المؤمن ، والوعيد الشديد لمن يستهين بدم المسلم.
قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(2).
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}(3) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ}(4).
__________
(1) سورة الأنفال(آية/36-37).
(2) سورة الحجرات(آية/10)
(3) سورة التوبة(آية/71).
(4) سورة المائدة(آية/55)(1/210)
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه ، وماله ، وعرضه))(1).
فقال: (( أيُّمَا امرئ قال لأخيه: يا كافر ، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال؛ وإلا رجعت عليه))(2).
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله)) (3).
وتكفير المسلم وسيلة لاستحلال دمه وقتله، وقد جاء الوعيد الشديد فيمن يقتل مؤمناً.
قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(4).
وعن أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))
قيل: يا رسول الله ، وما هن ؟ قال: ((الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) (5).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراماً)) (6).
وقال ابن عمر -رضي الله عنهما- : "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله"(7).
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(4/1986رقم2564) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه --.
(2) رواه البخاري في صحيحه(7/127رقم6104) ، ومسلم في صحيحه(1/79رقم60) من حديث عبد الله بن عمر -- رضي الله عنه --.
(3) رواه البخاري في صحيحه(5/2264رقم5754-البغا)، ومسلم في صحيحه(1/104رقم110) من حديث ثابت بن الضحاك -- رضي الله عنه --.
(4) سورة النساء(آية/93) .
(5) رواه البخاري في صحيحه(12/181-مع فتح الباري) ، ومسلم في صحيحه(1/92رقم89) .
(6) رواه البخاري في صحيحه(6/2517رقم6469).
(7) رواه البخاري في صحيحه(6/2517رقم6470).(1/211)
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)) (1).
وعن عبد الله بن عمرو قال: رأيت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يطوف بالكعبة ويقول : ((ما أطيبك! وما أطيب ريحك! ، ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك -ماله ودمه-))(2).
عن حذيفة بن اليمان -- رضي الله عنه -- قال: قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --: ((إن أخوفَ ما أخافُ عليكم رجل قرأ القرآن ، حتى إذا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عليه، وكان ردءاً للإسلام غيره إلى ما شاء الله ، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسَّيفِ ، ورماه بالشرك))
قال: قلت : يا نبي الله أيهما أولى بالشرك: المرمي أم الرامي؟
قال -- صلى الله عليه وسلم --: ((بل الرامي))(3).
عن عبد الله بن عباس -رضي اللهُ عنهما-: أنَّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال: ((أبغضُ الناس إلى الله ثلاثة: ملحدٌ في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه))(4).
بيان من هيئة كبار العلماء حول التكفير والتفجير
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
__________
(1) رواه الترمذي في جامعه(4/16رقم1395) ، والنسائي في سننه(7/82رقم3987) وغيرهما وهو حديث صحيح بمجموع طرقه. انظر: غاية المرام تخريج أحاديث الحلال والحرام للشيخ الألباني -رحمهُ اللهُ-(ص/253رقم439).
(2) رواه ابن ماجه في سننه(2/1297 رقم3932) وهو حديث صحيح لغيره انظر: صحيح الترغيب والترهيب(رقم2441).
(3) رواه ابن حبان في صحيحه(1/281-282رقم81)، والبزار(7/220رقم2793) وحسنه.
(4) رواه البخاري في صحيحه(6/2523-البغا)(1/212)
فقد درس مجلس هيئة كبار العلماء في دورته التاسعة والأربعين المنعقدة بالطائف، ابتداء من تاريخ 2/4/1419هـ ما يجري في كثير من البلاد الإسلامية، وغيرها من التكفير والتفجير، وما ينشأ عنه من سفك الدماء ، وتخريب المنشآت، ونظراً إلى خطورة هذا الأمر، وما يترتب عليه من إزهاق أرواح بريئة ؛ وإتلاف أموال معصومة ، وإخافة للناس ، وزعزعة لأمْنهم واستقرارهم، فقد رأى المجلس إصدار بيان يوضح فيه حكم ذلك نصحاً لله ، ولعباده ، وإبراء للذمة وإزالة للبس في المفاهيم لدى من اشتبه عليه الأمر في ذلك، فنقول وبالله التوفيق :
أولاً: التكفير حكم شرعي، مرده إلى الله ورسوله، فكما أن التحليل والتحريم والإيجاب إلى الله ورسوله، فكذلك التكفير، وليس كل ما وصف بالكفر من قول أو فعل، يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملة .
ولَمَّا كان مرد حكم التكفير إلى الله ورسوله ؛ لم يجز أن نكفر إلا من دل الكتاب والسنة على كفره دلالة واضحة ، فلا يكفي في ذلك مجرد الشبهة والظن، لِمَا يترتب على ذلك من الأحكام الخطيرة، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات، مع أن ما يترتب عليها أقل مِمَّا يترتب على التكفير، فالتكفير أولى أن يدرأ بالشبهات؛ ولذلك حذر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من الحكم بالتكفير على شخص ليس بكافر، فقال: (( أيُّمَا امرئ قال لأخيه: يا كافر ، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال؛ وإلا رجعت عليه))(1).
وقد يرد في الكتاب والسنة ما يفهم منه أنَّ هذا القول أو العمل أو الاعتقاد كفر، ولا يكفر من اتصف به، لوجود مانع يمنع من كفره، وهذا الحكم كغيره من الأحكام التي لا تتم إلا بوجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها كما في الإرث، سببه القرابة –مثلاً- وقد لا يرث بها لوجود مانع كاختلاف الدين، وهكذا الكفر يكره عليه المؤمن فلا يكفر به.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(7/127رقم6104) ، ومسلم في صحيحه(1/79رقم60) من حديث عبد الله بن عمر -- رضي الله عنه --.(1/213)
وقد ينطق المسلم بكلمة الكفر لغلبة فرح أو غضب أو نحوهما فلا يكفر بها لعدم القصد، كما في قصة الذي قال: ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك)) ؛ أخطأ من شدة الفرح(1).
والتسرع في التكفير يترتب عليه أمور خطيرة: من استحلال الدم والمال ، ومنع التوارث وفسخ النكاح ، وغيرها مما يترتب على الردة ، فكيف يسوغ للمؤمن أن يقدم عليه لأدنى شبهة .
وإذا كان هذا في ولاة الأمور كان أشد ؛ لِمَا يترتب عليه من التمرد عليهم، وحمل السلاح عليهم ، وإشاعة الفوضى، وسفك الدماء، وفساد العباد والبلاد ، ولهذا منع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من منابذتهم، فقال: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان))(2). فأفاد قوله: ((إلا أن تروا)) : أنه لا يكفي مجرد الظن والإشاعة. وأفاد قوله: ((كفراً)) أنه لا يكفي الفسوق ولو كبر ؛ كالظلم وشرب الخمر ولعب القمار، والاستئثار المحرم. وأفاد قوله: ((بواحاً)) أنه لا يكفي الكفر الذي ليس ببواح؛ أي: صريح ظاهر. وأفاد قوله: (( عندكم فيه من الله برهان)): أنه لا بد من دليل صريح ، بحيث يكون صحيح الثبوت ، صريح الدلالة ، فلا يكفي الدليل ضعيف السند ، ولا غامض الدلالة . وأفاد قوله: ((من الله)) أنه لا عبرة بقول أحد من العلماء مهما بلغت مَنْزِلته في العلم والأمانة إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح من كتاب الله، أو سنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم --.
وهذه القيود تدل على خطورة الأمر .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه(4/2104رقم2747) من حديث أنس بن مالك -- رضي الله عنه --.
(2) رواه البخاري في صحيحه(8/422-423رقم7055-7056) ، ومسلم في صحيحه(3/1470 رقم1709) من حديث عبادة بن الصامت -- رضي الله عنه --.(1/214)
وجملة القول: أن التسرع في التكفير له خطره العظيم ؛ لقول الله -عزَّ وجلَّ-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(1).
ثانياً: ما نجم عن هذا الاعتقاد الخاطئ: من استباحة الدماء، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال الخاصة والعامة، وتفجير المساكن والمركبات، وتخريب المنشآت ، فهذه الأعمال وأمثالها محرمة شرعاً بإجماع المسلمين؛ لما في ذلك من هتك لحرمة الأنفس المعصومة ، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار ، وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم ورواحهم ، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها .
وقد حفظ الإسلام للمسلمين أموالهم ، وأعراضهم ، وأبدانهم ، وحرم انتهاكها، وشدد في ذلك ، وكان من آخر ما بلغ به النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمته ، فقال في خطبة حجة الوداع : ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ؛ كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا)) ثم قال -- صلى الله عليه وسلم --: ((ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)) متفق عليه(2) .
وقال -- صلى الله عليه وسلم --: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه ، وماله ، وعرضه))(3) ، وقال –عليه الصلاة والسلام- : ((اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة))(4) .
__________
(1) سورة الأعراف(آية/33).
(2) رواه البخاري في صحيحه(1/30رقم67) ، ومسلم في صحيحه(3/1305رقم 1679) من حديث أبي بكرة -- رضي الله عنه --.
(3) رواه مسلم في صحيحه(4/1986رقم2564) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه --.
(4) رواه مسلم في صحيحه(4/1996رقم2578) من حديث جابر -- رضي الله عنه --.(1/215)
وقد توعد الله سبحانه من قتل نفساً معصومة بأشد الوعيد، فقال سبحانه في حق المؤمن: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}(1) ، وقال سبحانه في حق الكافر الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ : {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً}(2) فإذا كان الكافر الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة ، فكيف إذا قتل عمداً ، فإنَّ الجريمة تكون أعظم ، والإثم يكون أكبر . وقد صح عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة))(3).
__________
(1) سورة النساء(آية/93) .
(2) سورة النساء(آية/92).
(3) رواه البخاري في صحيحه(4/398-399رقم3166) من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- .(1/216)
ثالثاً: إن المجلس إذ يبين حكم تكفير الناس بغير برهان من كتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- وخطورة إطلاق ذلك، لما يترتب عليه من شرور وآثام ، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ ، وأن ما يجري في بعض البلدان من سفك للدماء البريئة، وتفجير للمساكن والمركبات والمرافق العامة والخاصة، وتخريب للمنشآت هو عمل إجرامي، والإسلام برئ منه، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه ، وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف ، وعقيدة ضالة؛ فهو يحمل إثمه وجرمه ، فلا يحتسب عمله على الإسلام، ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام، المعتصمين بالكتاب والسنة ، المستمسكين بحبل الله المتين ، وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة؛ ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه محذرة من مصاحبة أهله . قال الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ {205} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ {206}(1).
__________
(1) سورة البقرة(آية/204-206) .(1/217)
والواجب على جميع المسلمين في كل مكان التواصي بالحق ، والتناصح والتعاون على البر والتقوى ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله -سبحانه وتعالى- : {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(1)، وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(2) وقال -عزَّ وجلَّ- : {وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3} وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((الدين النصيحة)) قيل: لمن يارسول الله ؟ قال: ((لله ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم))(3) ، وقال -عليه الصلاة والسلام- : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))(4) .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
__________
(1) سورة المائدة(آية/2)
(2) سورة التوبة(آية/71).
(3) رواه مسلم في صحيحه(1/74رقم55) من حديث تميم الداري -- رضي الله عنه --.
(4) رواه البخاري في صحيحه(7/102رقم6011) ، ومسلم في صحيحه(4/1939 رقم2586) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- .(1/218)
ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلى : أن يكفَّ البأس عن جميع المسلمين ، وأن يوفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد، وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه ، ويعلي بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعاً في كل مكان، وأن ينصر بهم الحق ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه"(1).
الشبهة الأولى
أن ولاة الأمر يحكمون بغير ما أنزل الله ، والحاكم بغير ما أنزل الله مبدل للشرع فهو كافر!!
وهذه أعظم شبهة عند المتطرفين والخوارج في هذا الزمان ، وفرعوا على هذه الشبهة شبهاً عديدة سيأتي تفنيدها -إنْ شاءَ اللهُ تعالَى- .
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول : أن ولاة الأمر في المملكة العربية السعودية يصرحون ويعلنون في كل مناسبة أنهم يحكمون بشرع الله ، بالكتاب والسنة ولا يرضون بغيرهما بديلاً مهما كان الأمر(2) .
والوجه الثاني : أن لسان الحال أبلغ من لسان المقال ؛ فالواقع الملموس المشاهد يدل دلالة صريحة أن المملكة تحكم بشرع الله في كل مرافق الحياة .
ومجلس هيئة كبار العلماء قرر بالإجماع أن المملكة العربية السعودية – بحمد الله – تحكم شرع الله والمحاكم الشرعية منتشرة في جميع أرجائها ،ولا يمنع أحد من رفع ظلامته إلى الجهات المختصة في المحاكم أو ديوان المظالم .
والوجه الثالث : أن العلماء أثنوا على هذه الدولة المباركة(3) ، وبينوا فضلها ومكانتها وخدمتها للإسلام والمسلمين وإقامتها للتوحيد والسنة ومحاربتها للشرك والبدع - جزاها الله عن الإسلام والمسلمين كل خير - .
__________
(1) مجلة البحوث العلمية. عدد56 (ص/357) .
(2) انظر ما تقدم في المبحث الثاني: "البراهين على أن الدولة السعودية قامت على الكتاب والسنة على منهج السلف".
(3) …وقد سبق ذكر شيء من ذلك في التمهيد(ص/4) وآخر المبحث الثاني(ص/92).(1/219)
قال الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله تعالى - : العداء لهذه الدولة عداء للحق ، عداء للتوحيد ، أي دولة تقوم بالتوحيد الآن من حولنا : مصر ، الشام، العراق ، من يدعو إلى التوحيد الآن ويحكم شريعة الله ويهدم القبور التي تعبد من دون الله مَنْ ؟ أين هم ؟ أين الدولة التي تقوم بهذه الشريعة غير هذه الدولة(1) اسأل الله لنا ولها الهداية والتوفيق والصلاح ونسأل الله أن يعينها على كل خير ونسأل الله أن يوفقها ؛ لإزالة كل شر وكل نقص علينا أن ندعو الله لها بالتوحيد والإعانة والتسديد والنصح لها في كل حال(2) .
وقال أيضاً - رحمه الله تعالى - :
هذه الدولة السعودية دولة مباركة نصر الله بها الحق ونصر بها الدين وجمع بها الكلمة وقضى بها على أسباب الفساد وأمن الله بها البلاد وحصل بها من النعم العظيمة ما لا يحصيه إلا الله وليست معصومة وليست كاملة كل فيه نقص فالواجب التعاون معها على إكمال النقص وعلى إزالة النقص وعلى سد الخلل بالتناصح والتواصي بالحق والمكاتبة الصالحة والزيارة الصالحة لا بنشر الشر والكذب ولا بنقل ما يقال من الباطل بل يجب على من أراد الحق أن يبين الحق ويدعو إليه وأن يسعى إلى إزالة النقص بالطرق السليمة وبالطرق الطيبة وبالتناصح والتواصي بالحق هكذا كان طريق المؤمنين وهكذا حكم الإسلام وهكذا طريق من يريد الخير لهذه الأمة .
أما ما يقوم به - الآن - محمد المسعري وسعد الفقيه وأشباههما من ناشري الدعوات الفاسدة الضالة فهذا بلا شك شر عظيم وهم دعاة شر عظيم وفساد كبير والواجب الحذر من نشراتهم والقضاء عليها وإتلافها وعدم التعاون معهم في أي شيء يدعو إلى الفساد والشر والباطل والفتن .
__________
(1) …تأمل هذا القول جيداً ،وقارنه بمن يزعم -كذباً وزوراً- : أن المملكة العربية السعودية لا تحكم بشرع الله .
(2) …انظر: (فتاوى علماء الحرمين في الجماعات) .(1/220)
هذه النشرات التي تصدر من الفقيه أو من المسعري أو من غيرهما من دعاة الباطل ودعاة الشر والفرقة يجب القضاء عليها وإتلافها وعدم الالتفات إليها ويجب نصيحتهم وإرشادهم للحق وتحذيرهم من هذا الباطل ويتركوه ونصيحتي للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم أن يدعوا هذا الطريق الوخيم وأن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه وأن يعودوا إلى رشدهم وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم(1).
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - :
أشهد الله تعالى على ما أقول وأُشهدكم أيضاً أَنني لا أَعلم أَن في الأرض اليومَ من يطبق شريعة الله ما يطبقه هذا الوطن - أعني : المملكة العربية السعودية - .
وهذا بلا شك من نعمة الله علينا فلنكن محافظين على ما نحن عليه اليوم بل ولنكن مستزيدين من شريعة الله عز وجل أكثر مما نحن عليه اليوم ؛ لأنني لا أدعي الكمال وأننا في القمة بالنسبة لتطبيق شريعة الله لا شك أَننا نخل بكثير منها ولكننا خير - والحمد لله - من ما نعلمه من البلاد الأخرى .
إننا في هذه البلاد نعيش نعمة بعد فقر وأَمناً بعد خوف وعلماً بعد جهل وعزاً بعد ذل بفضل التمسك بهذا الدين مما أوغر صدور الحاقدين وأقلق مضاجعهم يتمنون زوال ما نحن فيه ويجدون من بيننا وللأسف من يستعملونه لهدم الكيان الشامخ بنشر أباطيلهم وتحسين شرهم للناس { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ } (2).
ولقد عجبت لما ذُكر من أن أحد الجهلة هداه الله ورده إلى صوابه يصور النشرات التي ترد من خارج البلاد التي لا تخلو من الكيد والكذب ويطلب توزيعها من بعض الشباب ويشحذ هممهم بأن يحتسبوا الأجر على الله .
سبحان الله هل انقلبت المفاهيم ؟
هل يطلب رضى الله في معصيته ؟
__________
(1) …مجموع الفتاوى والمقالات (9/97-100) .
(2) …سورة الحشر(آية/2) .(1/221)
هل التقرب إلى الله يحصل بنشر الفتن وزرع الفرقة بين المسلمين وولاة أمورهم ؟ معاذ الله أَن يكون كذلك(1).
وقال الشيخ صالح اللحيدان - حفظه الله تعالى - :
المملكة العربية السعودية ، مملكة إسلامية - ولله الحمد – وبحق يحكمها نظام الإسلام ، وتحكم شريعة الإسلام ، وأصول عملها وأنظمتها مقيدة بأن لا تخالف الإسلام(2) .
الوجه الرابع : أن الحكم بغير ما أنزل الله من كبائر الذنوب التي لا تخرج من الملة ، وقد أجمع أهل السنة على أن الحكم بغير ما أنزل الله من الكبائر دون الشرك ما لم يقترن الحكم بغير ما أنزل الله باستحلال أو استكبار أو عناد للشرع أو استهانة به.
قال حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر -رحمه الله-: "وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف ، وقال الله عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَ {الظالمون} وَ {الفاسقون} نزلت في أهل الكتاب.
قال حذيفة وابن عباس : وهي عامة فينا. قالوا: ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
روي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم ابن عباس وطاوس وعطاء.
وقال الله -عزَّ وجلَّ- : {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} والقاسط: الظالم الجائر"(3) .
__________
(1) …وجوب طاعة السلطان للعريني (ص/49) .
(2) …انظر ما سبق في المبحث السادس(ص/236).
(3) التمهيد(5/74-75) .(1/222)
وقال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ -رحمهُ اللهُ- : "وجاءت السنة بأن الطاعة في المعروف ، وهو ما أمر الله به ورضيه من الواجبات والمستحبات ، وإنما يحرم التحكيم إذا كان المستند إلى شريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة ، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم ، وكذلك سوالف البادية وعاداتهم الجارية ، فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها فهو كافر ، قال تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين :
أن الكفر المراد هنا كفر دون الكفر الأكبر ، لأنهم فهموا أن تتناول من حكم بغير ما أنزل الله ، وهم غير مستحل لذلك ، ولكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل ، وأن كفره مخرج عن الملة "(1).
الوجه الخامس: أنَّ تبديل الشرع على أقسام :
القسم الأول: من بدَّل الشرع ونسبه إلى الشرع مجتهداً أومتأولاً وهو يريد حكم الله لكنه غلط وجهل ؛ فهذا معذور ، وليس بآثم إذا كان من أهل الاجتهاد ، وهذا يسميه شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم : "الشرع المؤول" .
القسم الثاني: من بدَّل الشرع عمداً ، ولكنه لم ينسبه إلى الشرع ، ولم يكن تبديله استكباراً ولا معاندة للشرع بل يعتقد حرمة فعله ، ولكن لحاجة في نفسه كرشوة ، أو منصب ، أو معاداة لشخص ، أو نحو ذلك ؛ فهذا مجرم آثم ، وهو حاكم بغير ما أنزل الله ، ولا يكفر إلا بقرينة تدل على استحلاله أو استكباره أو معاندته للشرع .
القسم الثالث: من بَدَّلَ الشرع عمداً لا عن خطأ وتأويل ونسبه إلى الشرع ؛ فهذا كافر مرتد بإجماع المسلمين.
__________
(1) انظر: منهاج التأسيس والتقديس(ص/70-71).(1/223)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمَهُ اللهُ- : "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه ، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء ، وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله .
ولفظ "الشرع" يقال في عرف الناس على ثلاثة معان :
"الشرع المنَزَّل" : وهو ما جاء به الرسول ، وهذا يجب اتباعه ومن خالفه وجبت عقوبته.
والثاني: "الشرع المؤَوَّل" : وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه ، فهذا يسوغ اتِّبَاعه ، ولا يجب ، ولا يحرم .
وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ، ولا يمنع عموم الناس منه.
والثالث: "الشرع المُبَدَّل" : وهو الكذب على الله ورسوله ، أو على الناس بشهادات الزور ونحوها ، والظلم البين ؛ فمن قال: إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع ، كمن قال: إن الدم والميتة حلال ولو قال: هذا مذهبي ونحو ذلك." (1) .
فبين شيخ الإسلام –رحمه الله- أن التبديل الذي يخرج من الملة ما كان عن استحلال .
فإنه عقب على قوله: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه ، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء" بآية الحكم وقيد الكفر فيها بالاستحلال فقال:
"في مثل هذا نزل قوله على أحد القولين: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله".
وهذا يوافق ما بَيَّنَه أبو بكر بن العربي من معنى التبديل حيث قال -رحمهُ اللهُ- : "إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين"(2)
__________
(1) مجموع الفتاوى(3/268) .
(2) أحكام القرآن(2/127-الكتب العلمية).(1/224)
وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- إشارة واضحة أن الآية فيها قولان:
القول الأول : أنها على ظاهرها وأنها في المستحل للحكم بغير ما أنزل الله.
القول الثاني: أنها على غير ظاهرها وأن المراد بالكفر هنا : كفر دون كفر كما ورد عن ابن عباس –رضي الله عنهما- وعن غيره من التابعين.
فجعل شيخ الإسلام –رحمه الله- مرد التبديل الذي يخرج من الملة إلى الحكم بغير ما أنزل الله ، وهو لا يخرج من الملة إلا بالاستحلال كما أجمع عليه السلف كما سبق ذكره في الوجه الرابع
فآية الحكم عامة في المبدل وغيره ، عامة في الحاكم وفي المحكوم ، عامة في الفرد والطائفة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- : " وكل من حكم بين اثنين فهو قاضٍ، سواء كان صاحب حرب، أو متولي ديوان، أو منتصباً للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط، فإنَّ الصحابة كانوا يعدونه من الحكام.
ولما كان الحكام مأمورين بالعدل والعلم، وكان المفروض إنما هو بما يبلغه جهد الرجل قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر))(1)"(2)
والتفصيل عند أهل السنة لا يخرج عن قولين أشار إليهما شيخ الإسلام ، وحكاهما غيره من أهل العلم في تفاسيرهم وهما:
القول الأول: أنها في المستحل للحكم بغير ما أنزل الله .
واختلفت تعبيرات السلف في حكاية هذا القول:
فمنهم من قال: نزلت في أهل الكتاب أو الكفار وهذا مبناه على الاستحلال ، أو الجحود لأنه واقع الكفار ومن ذكر من أهل الكتاب في الآيات قبلها .
وممن قال بِنُزُولها في الكفار البراء بن عازب كما في صحيح مسلم(3) وقتادة والضحاك وغيرهما وهذا ترجيح الطبري .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(8/510رقم7352) ، ومسلم في صحيحه(3/1342رقم1716) من حديث عمرو بن العاص -- رضي الله عنه --.
(2) مجموع الفتاوى(18/170).
(3) صحيح مسلم(3/1327رقم1700)(1/225)
ومنهم من قال: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله أي معتقداً ذلك ومستحلاً له كما بينه القرطبي وعزا القول بالعموم لابن مسعود والحسن وهو مروي عن السدي وإبراهيم النخعي.
ونحوه رواية عن ابن عباس وهو قول عكرمة وغيره
والقول الثاني: كفر دون كفر ، أو ليس بكفر ينقل عن الملة كما يقوله ابن عباس وغيره من التابعين .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وأما "الشرع المبدَّل" فمثل الأحاديث الموضوعة والتأويلات الفاسدة والأقيسة الباطلة والتقليد المحرم فهذا يحرم أيضاً ،
وهذا من مثار النِّزاع فان كثيراً من المتفقهة والمتكلمة قد يوجب على كثير من المتصوفة والمتفقرة اتِّبَاع مذهبه المعين ، وتقليد متبوعه ، والتزام حكم حاكمه باطناً وظاهراً ، ويرى خروجه عن ذلك خروجاً عن الشريعة المحمدية ، وهذا جهل منه وظلم ، بل دعوى ذلك على الإطلاق كفر ونفاق .
كما أن كثيراً من المتصوفة والمتفقرة يرى مثل ذلك في شيخه ومتبوعه، وهو في هذا نظير ذلك.
وكل من هؤلاء قد يسوغ الخروج عما جاء به الكتاب والسنة لما يظنه معارضاً لهما؛ إما لما يسميه هذا ذوقاً ووجداً ومكاشفات ومخاطبات، وإما لما يسميه هذا قياساً ورأياً وعقليات وقواطع .
وكل ذلك من شعب النفاق ، بل يجب على كل أحد تصديق الرسول في جميع ما أخبر به ، وطاعته في جميع ما أمر به ، وليس لأحد أن يعارضه بضرب الأمثال، ولا بآراء الرجال ، وكل ما عارضه فهو خطأ وضلال"(1) .
وينبغي التنبه إلى هذا الكلام من شيخ الإسلام –رحمه الله- وأن لا يغيب عن أذهاننا أنه عايش التتار وعرفهم ، وبَيَّن في غير ما موضع أنهم يحكمون بالياسق، فهو يتحدث عن واقع موجود مشاهد حاله كالحال في زماننا هذا ليس غير .
__________
(1) مجموع الفتاوى(11/431)(1/226)
فشيخ الإسلام –رحمه الله- ذكر "الشرع المبدَّل" وهو يعني ما يقول فيشمل القوانين الوضعية"الشرع المبدل" التي كان يحكم بها التتر ، ويشمل "الشرع المبدَّل" الذي يوجد عند طوائف من المتصوفة وقد يكون أشد كفراً مما هو في الياسق .
وتنبه إلى أن شيخ الإسلام –رحمه الله- أدخل في "الشرع المبدل" الأحاديث المكذوبة ، والتأويلات الفاسدة ، والأقيسة الباطلة ، والتقليد المحرم ؛ كلها من "الشرع المبدل" ، ومع ذلك لا يكفر صاحبها إلا إذا نسبها إلى الشرع –كما في الأحاديث المكذوبة- ثم يعاند في ذلك بعد علمه فيخرج من الملة بلا نزاع .
وانظر إلى قول شيخ الإسلام -رحمهُ اللهُ- : "وهذا من مثار النِّزاع فإنَّ كثيراً من المتفقهة والمتكلمة قد يوجب على كثير من المتصوفة والمتفقرة اتباع مذهبه المعين، وتقليد متبوعه، والتزام حكم حاكمه باطناً وظاهراً، ويرى خروجه عن ذلك خروجاً عن الشريعة المحمدية، وهذا جهل منه وظلم، بل دعوى ذلك على الإطلاق كفر ونفاق".
فهؤلاء المتصوفة ونحوهم يبدلون الشرع بآرائهم الفاسدة ، وأقيستهم الباطلة ، وبالوجد، والذوق، ويوجبون التزام شرعهم المبدَّل ظاهراً وباطناً، ويرون الخروج عن شريعتهم خروجاً عن الشريعة المحمدية، فهؤلاء لا شك في أنهم وقعوا في الشرك الأكبر وخرجوا من الإسلام .
والناظر في واقع المطبقين للشريعة المبدَّلة بتحكيم القوانين الغربية يجد قليلاً منهم من يكون مثل هؤلاء، بل لا يوجد أحد من أولئك الحكام –على تنوع مذاهبهم ودياناتهم- يرى أن مخالفة دساتيرهم وقوانينهم خروجاً عن الشريعة المحمدية .
بل بعضهم يعلم ويصرح أنه مخالف للشريعة المحمدية ، ولكنه يظن أنه لا يستطيع أنه يحكم بالشريعة المحمدية لما عنده من الهوى أو النفاق أو الزندقة أو الكفر الأكبر .
وليس في ما سبق عذر لمن يحكم بالشرع المبدل ، ولا تبرير له ، بل هو باطل، وبعضه كفر وردة ، وبعضه فسق وظلم .(1/227)
وإنما ذكرت ذلك مقارنة لمن كان من أهل السلطة والنفوذ ويحكم بِـ"الشرع المبدَّل" ويعاقِبُ عليه قبل زماننا بقرون طويلة .
ومما سبق يظهر أن "الشرع المبدَّل" عند أهل العلم ليس شيئاً واحداً بمعنى أنه الحكم بالقوانين الوضعية المأخوذة من الغرب ، وكذلك حكمه ليس واحداً ولا إجماعياً بل فيه تفصيل عند أهل السنة .
قال شيخ الإسلام –رحمه الله- : "وأما "الشرع المبدَّل" فهو الأحاديث المكذوبة، والتفاسير المقلوبة ، والبدع المضلة التي أدخلت في الشرع وليست منه ، والحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا ونحوه : لا يحل لأحد اتِّبَاعَه"(1).
تنبه إلى تفصيل شيخ الإسلام في "الشرع المبدَّل" ، فَـ"الشرع المبدَّل" صنوف وألوان .
والحكم بغير ما أنزل الله مطلقاً لا شك في أنه تبديل ، وأنه "شرع مبدَّل" سواء كان مكتوباً أو لم يكن كذلك ، سواء ألزم به المظلوم أم لم يلزمه .
ومعلوم أن القاضي لما يبدل الشرع ويحكم بغير ما أنزل الله فإنه يلزم المظلوم بالحكم .
ومع ذلك فإجماع العلماء على عدم كفر هذا القاضي إلا إذا استحل .
ومن أقوال العلماء في بيان "الشرع المبدَّل" ما ذكره ابن القيم –رحمه الله- في "إعلام الموقعين" حيث جعل جواز نكاح المحلل من "الشريعة المبدَّلة" بل فضَّلَ شرعة اليهود والنصارى على تلك "الشرعة المبدَّلة" .
ومع ذلك فلم يكفر أحد من العلماء أصحاب المذهب الحنفي لتجويزهم نكاح المحلل !
قال شيخ الإسلام ابن القيم –رحمه الله-: "وأنت إذا وازنت بين هذا ، وبين الشريعتين المنسوختين ، ووازنت بينه وبين "الشريعة المبدَّلة" المبيحة ما لعن الله ورسوله فاعله ؛ تبين لك عظمة هذه الشريعة وجلالتها وهيمنتها على سائر الشرائع ، وأنها جاءت على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنفعها للخلق ، وأن الشريعتين المنسوختين خير من "الشريعة المبدَّلة" .
__________
(1) مجموع الفتاوى(11/507).(1/228)
فإن الله سبحانه شرعهما في وقت ، ولم يشرع المبدَّلة أصلاً "(1).
وإنما لم يكفر أصحاب الشريعة المبدَّلة -هنا- لوجود التأويل المانع من التكفير .
وإلا من عرف حكم الله ثم نسب إلى الله خلافه ، وضده ؛ عمداً ، وعناداً ؛ فإنه كافر مرتد.
وقال شيخ الإسلام ابن القيم –رحمه الله-: "وأما الحكم المبدَّل وهو الحكم بغير ما أنزل الله فلا يحل تنفيذه ، ولا العمل به ، ولا يسوغ اتباعه ، وصاحبه بين الكفر والفسوق والظلم"(2) .
فجعل "الحكم المبدَّل" هو الحكم بغير ما أنزل الله ، وفصَّلَ في حكم مبدِّله ومتَّبِعه ومنفذه فجعله بين الكفر والفسق والظلم .
وهذا قد وضحه جلياً –رحمه الله- في "مدارج السالكين" حيث قال: "والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين ، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم ، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة ، وعدل عنه عصياناً ، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ؛ فهذا كفر أصغر ، وإن اعتقد أنه غير واجب ، وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله ، فهذا كفر أكبر ، وإن جهله وأخطأه فهذا مخطئ له حكم المخطئين"(3)
وتنبه إلى أن العلامة ابن القيم عاصر التتار، وهم يحكمون بالياسق، ويَدَّعون الإسلام .
وقال أبو بكر ابن العربي المالكي: "إن حكم بما عنده على أنه من عند الله ؛ فهو تبديل له يوجب الكفر ، وإن حكم به هوى ومعصية ؛ فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين"(4).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- : "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله ، يكونون على وجهين :
__________
(1) إعلام الموقعين(2/57-58).
(2) الروح(ص/267) .
(3) مدارج السالكين(1/365).
(4) أحكام القرآن(2/624)(1/229)
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ؛ فيعتقدون تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل،فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ، ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء .
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحلال ، وتحريم الحرام ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله ، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص ؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : ((إنما الطاعة في المعروف )) وقال: ((على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية))" (1).
فذكر شيخ الإسلام –رحمه الله- نوعاً من أنواع المبدِّلين وهم الذين يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله وهم كفار مرتدون كما سبق بيانه من كلامه-رحمه الله- .
ومع ذلك ذكر نوعين من المتبعين لأولئك المبدلين :
النوع الأول: من يعتقد عقيدة المبدلين في التحريم والتحليل فهؤلاء لهم حكمهم من الكفر والردة .
النوع الثاني: من لا يعتقد عقيدة المبدلين في التحليل والتحريم ، بل يعتقدون أن الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله ، ولكنهم يطيعونهم في معصية الله لهوى في نفوسهم أو لأمر آخر.
فهؤلاء ليسوا كفاراً بل هم عصاة مذنبون .
فتبين بما سبق نقله عن الأئمة الأعلام أن التبديل في الشرع وفي عرف العلماء –ومنهم من عاصر الحكم بالقوانين الوضعية- هو الحكم بغير ما أنزل الله .
وأن تبديل الشرع يكون كفراً في حالتين:
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/70) ونقله الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في تيسير العزيز الحميد(ص/552) .(1/230)
الحال الأولى: أن يستحل الحكم بِـ"الشرع المبدَّل" ، وهذا يكفر عيناً إذا عرف أنه مخالف لشرع الله فأصر على استحلاله ، وليس مكرهاً .
الحال الثانية: أن ينسب "الشرع المبدَّل" إلى الله وشرعه ، فهذا يكفر عيناً إذا عُرِّف أنه ليس بشرع الله ، ولم يكن متأولاً ، ولا مجتهداً يسوغ له الاجتهاد.
وتبين مما سبق أنه لا فرق بين من بدل حكماً أو أكثر إلا في الإثم والوزر.
لكن يحسن التنبيه إلى أمر مهم جداً وهو :
أن من بدل الشرع كله فهو كافر مرتد .
والسبب في ذلك: أن الشرع يشمل العقائد والأحكام ، فمن بدل التوحيد بالشرك ، وبدل الشرك بالتوحيد ؛ فهو كافر مرتد بإجماع المسلمين.
أما التبديل في الأمور التي لا يكفر مرتكبها فهذا فيه التفصيل السابق . والله أعلم .
سئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات-آيات الحكم- فقال: "إنها تقع على جميع ما أنزل الله، لا على بعضه، وكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله، فهو كافر ظالم فاسق
فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد ، وترك الشرك ، ثم لم يحكم ببعض ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات"(1).
لذا يجب التنبه إلى أن من بدل الدين كله فهو كافر مرتد .
بل من طبق الشرع كله وبدل التوحيد بالشرك ، وبدل الشرك بالتوحيد فهو كافر مرتد.
وفي هذا المعنى : أعني تبديل الدين من الإيمان إلى الكفر- : قول النبي –- صلى الله عليه وسلم --: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (2).
قال الإمام الشافعي –رحمه الله- : "من بدل دينه أو كفر بعد إيمان فأقام على الكفر والتبديل ولا فرق بين من بدل دينه فأظهر ديناً معروفاً ، أو ديناً غير معروف"(3)
__________
(1) تفسير البغوي(3/61)
(2) رواه البخاري في صحيحه(3/1098رقم2854) من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما-.
(3) كتاب الأم (6/146) .(1/231)
وقال أبو الحسن المالكي : "ومن بدل بالارتداد وغير في العقائد كأهل الأهواء أو بالمعاصي ، لكن المبدِّل بالارتداد يخلد في النار ، والمبدِّل بالمعاصي في مشيئة الله تعالى حتى يمضي فيه مراده"(1)
فظهر مما سبق أن التبديل نوعان:
النوع الأول: تبديل مخرج من الملة ، وله صور :
منها: تبديل التوحيد بالشرك فهذا تبديل مخرج من الملة ولا يشترط فيه الاستحلال ، وسواء صدر من الفرد أو من الجماعة ، وسواء صدر من حاكم أو محكوم .
وهذه الصورة متفق على أنَّها كفر وردة.
ومنها: تبديل كل الشرع أو بعضه ونسبة ذلك التبديل إلى الله فهذا كفر وردة، أما تكفير المعين فبعد توفر الشروط وانتفاء الموانع .
ومنها: تبديل كل الشرع أو بعضه معاندة للشرع ومعارضة له أو استكباراً فهذا كفر وردة بالإجماع .
ومنها: تبديل كل الشرع أو بعضه استخفافاً بالشرع واستهانة به فهذا كفر وردة بالإجماع .
ومنها: تبديل كل الشرع أو بعضه استحلالاً لهذا التبديل واعتقاد جوازه فهذا كفر وردة ولايكفر المعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء موانعه.
النوع الثاني: تبديل لا يخرج من الملة ، وله صور :
منها: تبديل بسبب تأويل أو اجتهاد سائغ فهذا صاحبه معذور إذا استفرغ وسعه في البحث والنظر .
ومنها: تبديل بعض الشرع لهوى أو شهوة أو خوفاً من أناس آخرين فهذا فسق وفجور إذا لم يقترن به معاندة للشرع أو معارضة أو بغض أو استكبار أو إنكار أو استحلال .
ولا شك أن الدَولة السعودية -حرسَها اللهُ- تطبق الشريعة، وتحكم بما أنزل الله، وما قد يقع فيها من بعض الأمور التي تخالف الشرع فهي إما عن اجتهاد وإما عن خطأ غير متعمد ، ولا يخرج خطؤها عن خطأ من سبق من السلاطين والخلفاء الذين يحكمون الشرع ولكن العصمة إنما هي للأنبياء والمرسلين.
__________
(1) كفاية الطالب (1/123-124).(1/232)
الوجه السادس: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن الكفر في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} معرف بـ(ال) وإذا جاء معرفاً بأل فيدل على أن المراد به الكفر الأكبر.
فالجواب على هذه الشبهة:
أولاً: هذا لا يصح ، لورود أحاديث صحيحة جاء "الكفر" فيها معرفاً بأل ، ويراد به الكفر الأصغر إجماعاً.
عن مسروق -رحمهُ اللهُ- قال: سألت ابن مسعود -- رضي الله عنه -- عن الرشا في الحكم؟ قال: ذلك الكفر(1).
ومعلوم أن الرشوة في الحكم من الكبائر إجماعاً.
عن ابن عباس -رضي اللهُ عنهما-: أنَّ امرأة ثابت بن قيس أتت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فقالت: يا رسول الله ، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام.. الحديث (2).
وقد قال ابن عباس -- رضي الله عنه -- عن الرجل الذي يأتي المرأة في دبرها : ((ذلك الكفر)) (3).
قال محمد بن إسحاق حدثني أبان بن صالح عن طاوس وسعيد ومجاهد وعطاء: أنهم كانوا ينكرون إتيان النساء في أدبارهن، ويقولون هو الكفر(4) .
ثانياً: إن الآية ليس فيها كلمة (الكفر) فهذه مصدر، وإنما في الآية (الكافر) وهو اسم فاعل وفرق بين المصدر المعرف بأل ، وبين اسم الفاعل المعرف بأل ..
فكلام شيخ الإسلام -رحمهُ اللهُ- على المصدر لا على اسم الفاعل.
__________
(1) رواه مسدد في مسنده -كما في المطالب العالية(10/197)- ، وأبو يعلى(9/173-174) ، وابن جرير في تفسيره(6/240) والطبراني في المعجم الكبير(9/225-226) ، والبيهقي في السنن الكبرى(10/139) وهو صحيح.
(2) رواه البخاري في صحيحه(6/505رقم5273) .
(3) رواه معمر في جامعه(11/442رقم20953) ، والنسائي في السنن الكبرى(8/197رقم 8955-الرسالة) وسنده صحيح.
(4) رواه الدارمي في سننه(1/277) وسنده حسن.(1/233)
قال شيخنا العلامة محمد بن صالح بن عثيمين -رحمهُ اللهُ- : "من سوء الفهم أيضاً قول من نَسَبَ لشيخ الإسلام ابن تيميَّة أنَّه قال: "إذا أطْلِق الكفر فإنما يراد به كفر أكبر" مستدلاً بهذا القول على التَّكفير بآية : {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، مع أنَّه ليس في الآية أن هذا هو (الكفر).
وأما القول الصحيح عن شيخ الإسلام فهو تفريقه -رحمهُ اللهُ- بين (الكفر) المعرف بـ(ال)، وبين (كفر) منَكَّراً(1).
فأما الوصف؛ فيصلح أن نقول فيه : "هؤلاء كافرون" أو "هؤلاء الكافرون" ؛ بناء على ما اتصفوا به من الكفر الذي لا يخرج من الملة، فَفَرْقٌ بين أن يوصف الفعل وأن يوصف الفاعل.
وعليه؛ فإنه بتأويلنا لهذه الآية على ما ذكر: نحكم بأن الحكم بغير ما أنزل الله ليس بكفر مخرج من الملة، لكنه كفر عملي، لأن الحاكم بذلك خرج عن الطريق الصحيح"(2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- : "وإذا كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم: إنه يكون فيه إيمان وكفر، ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قالوا: كفروا كفراً لا ينقل عن الملة، وقد اتبعهم على ذلك أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة"(3) .
__________
(1) بينت عدم صحة هذا أيضاً فيما سبق.
(2) التحذير من فتنة التكفير(ص/77-78).
(3) مجموع الفتاوى(7/312).(1/234)
الوجه السابع: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: يقول تعالى : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(1) . فقد أمرت الآية الكريمة المسلمين أن يردوا أمرهم عند التنازع إلى الله ورسوله وبينت أنهم لا يكونون مؤمنين بالله واليوم الآخر إن لم يفعلوا ذلك ؛ ذلك أن الآية قد جعلت الرد إلى الله ورسوله - كما يقول الإمام ابن القيم - " من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى هذا الرَّد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ولا سيّما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر ... "(2).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالة تحكيم القوانين: "وتأمل ما في الآية.. كيف ذكر النكرة وهي قوله (شيء) في سياق الشرط وهو قوله جلَّ شأنه {فإن تنازعتم } المفيد للعموم .. ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر بقوله: { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} "(3)
الجواب على هذه الشبهة:
أولاً: الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- ترد جميع شؤونها إلى كتاب الله وسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- ، وعلى ذلك بنت دستورها ونظامها كما سبق بيانه.
ثانياً: أن الرد إلى الكتاب والسنة واجب وفريضة ولعدم الرد إلى الكتاب والسنة ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن لا يرد إلى الكتاب والسنة لعدم إيمانه بهما أو استهزاء بهما واستخفافاً بحقهما ، أو مستحلاً الرد إلى غيرهما فهذا كفر أكبر.
الحال الثانية: أن لا يرد إلى الكتاب والسنة بعض المسائل التي يفسق مرتكبها فهذا قد اختل إيمانه ولا يكون كافراً بل يكون فاسقاً.
__________
(1) سورة النساء(آية/59).
(2) إعلام الموقعين(1/84).
(3) تحكيم القوانين(ص/6-7)(1/235)
الحال الثالثة: أن لا يرد إلى الكتاب والسنة لشبهة عرضت له كمن يقدم العقل على النقل فهذا قد يكون فاسقاً وقد يكون كافراً وقد يكون معذوراً .
قال القرطبي -رحمهُ اللهُ- : " أي: ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته -- صلى الله عليه وسلم -- هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة وهو الصحيح. ومن لم يرَ هذا اختل إيمانه لقوله تعالى: { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}"
ثالثاً: قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} دليل على أم من ترك الرجوع إلى الكتاب والسنة بالكلية انتفى إيمانه بالله واليوم الآخر بالكلية ، ومن ترك الرجوع إلى الوحي في بعض أحواله فقد نقص من إيمانه بالله واليوم الآخر على قدر ما ترك من الرجوع إلى الوحي .
وهذا جار على قاعدة أهل السنة والجماعة في أن الإيمان شعب يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، والكفر شعب؛ من شعبه ما يذهب الإيمان ومنها ما يضعفه.
الوجه الثامن : ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(1)
فيه نفي للإيمان ، ويراد به نفي أصل الإيمان فيكون صاحبه كافراً.
الجواب على هذه الشبهة:
أنَّ هذه الآية تعم وتشمل من رد حكم الله عناداً واستكباراً ومن رده عن هوى وشهوة .
ففي صحيح البخاري (2) عن عروة: قال خاصم الزبير رجلاً في شريج الحرة فقال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: (( اسق يازبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك))
فقال الأنصاري: يا رسول الله! إن كان ابن عمتك!!
__________
(1) سورة النساء(آية/65).
(2) صحيح البخاري(3/108رقم2356-2360) .(1/236)
فتلون وجه رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ثم قال: ((اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك)).
فاستوعى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري وكان أشار عليهما -- صلى الله عليه وسلم -- بأمر لهما فيه سعة
قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ..} الآية .
فهذا الأنصاري وهو ممن شهد بدراً (1) لم يكفره النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ولم يستتيبه وإنما اكتفى بتعزيره يتأخير الماء عنه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- : "إن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك ؛ فإنما يكون لترك واجب من ذلك المسمى ، ومن هذا قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل على أن هذه الغاية فرض على الناس فمن تركها كان من أهل الوعيد ، لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب ، فإنَّ الله إنما وعد بذلك من فعل ما أمر به، وأما من فعل بعض الواجبات وترك بعضها فهو معرض للوعيد ، ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه ، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم ويسلموا تسليماً"(2)
__________
(1) والبدريون قد عصمهم الله من الوقوع في الكفر ، كما نبه عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى(7/490)
(2) مجموع الفتاوى(7/37-38) .(1/237)
وقال -رحمهُ اللهُ- : " فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته ، كقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ حَتَى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، وقوله تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين} ، وقوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} الآية ، وقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} الآية ، ونظائر ذلك كثيرة"(1) فالآية تشمل صنفين من الناس : كفرة وفسقة .
ومعلوم أن القاضي لما يظلم ويحكم بغير الشرع ولو في قضية واحدة أن الآية تنطبق عليه انطباقاً تاماً.
وقد أجمع العلماء على عدم تكفير مثل هذا القاضي حتى يظهر منه عناد واستكبار أو استحلال للحكم بغير ما أنزل الله .
الوجه التاسع: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن الله تعالى حكم على من يطيع أولياء الشيطان بالكفر حيث قال تعالى: { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}(2) ومن حكم بغير ما أنزل الله فقد أطاع الشيطان وأولياءه.
فالجواب على هذه الشبهة:
أن طاعة الشيطان وطاعة أوليائه : منها ما هو كفر ومنها ما هو كبيرة ومنها ما هو صغيرة ..
فطاعة الشيطان وأوليائه بتحريم الحلال أو تحليل الحرام شرك أكبر.
وطاعة الشيطان وأوليائه بفعل الحرام كالرشوة والزنا أو ترك واجب كإقامة الحد على من وجب عليه أو ترك بر والديه فهذا فسق وليس شركاً أكبر.
__________
(1) مجموع الفتاوى(22/530) .
(2) سورة الأنعام(آية/120).(1/238)
وطاعة الشيطان وأوليائه بفعل صغائر الذنوب كالنظر إلى العورات فهذا ليس كفراً ولا فسقاً بل صغيرة إذا أصر عليها صارت مفسقة ..
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمهُ اللهُ- : "{وإن أطعتموهم} في شركهم وتحليلهم الحرام ، وتحريمهم الحلال {إنكم لمشركون} لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله ، ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين ، فلذلك كان طريقكم طريقهم"(1) .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: "..حَكَمَ على من أطاع أولياء الشيطان في تحليل ما حرم الله أنَّه مشرك وأكد ذلك بـ"إنَّ" المؤكدة.."(2)
الوجه العاشر: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن الحكم بغير ما أنزل الله تشريع لم يأذن الله به فهو كفر أكبر والله يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}(3) .
فالجواب على هذه الشبهة:
أن الآية نصت على أن هؤلاء الشركاء شرعوا لهم من الدين أي جعلوا شريعتهم ديناً يتدينون به ، ويتقربون به إلى الله ..
قال ابن جرير -رحمهُ اللهُ- : "يقول تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين بالله {شركاء} في شركهم وضلالتهم ، {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} يقول: ابتدعوا لهم من الدين ما لم يبح الله لهم ابتداعه"(4).
__________
(1) تيسير الكريم الرحمن(ص/271) .
(2) الرسائل والمسائل النجدية(3/46)
(3) سورة الشورى(آية/21).
(4) تفسير الطبري(25/21)(1/239)
وقال ابن كثير -رحمهُ اللهُ- : "وقوله جل وعلا : {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} أي : هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم ، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة ، التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم، من التحليل، والتحريم، والعبادات الباطلة، والأقوال الفاسدة"(1)
الوجه الحادي عشر: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا:
إن الله -عزَّ وجلَّ- قد خصَّ نفسه بالتشريع ، فهو حق من حقوق الله لا يشاركه فيها أحد ، فمن حكم بغير ما أنزل الله فهو مشرك كافر والله يقول: {ولا يشرك في حكمه أحداً}(2) ، وقال تعالى: {إن الحكم إلا لله}(3).
فالجواب على هذه الشبهة:
أولاً: معلوم أن القاضي لَمَّا يحكم في قضية واحدة بهوى وظلم فقد حكم بغير ما أنزل الله ، وبدَّل حكم الله ، وقد انعقد إجماع أهل السنة على أنَّه لا يكفر إلا بالاستحلال أو التكذيب أو العناد والاستكبار .
ثانياً: أن التشريع من خصائص الرب جل وعلا بلا شك ولا ريب ، كما أن الكبرياء من خصائص الرب جل وعلا ، وقد أجمع أهل السنة على أن الكبر من كبائر الذنوب ولم يكفروا المتكبر إذا لم يحمله الكبر على ارتكاب ما يخرجه من الملة كما حصل لإبليس وفرعون ..
وكذلك التشريع هو من خصائص الرب -عزَّ وجلَّ- فمن شرع شيئاً من أمور الدنيا ولم يحرم حلالاً ، ولم يحل حراماً فليس بكافر ولا فاسق إذا لم يكن مخالفاً للكتاب والسنة.
وقد سبق نقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- : " ولفظ "الشرع" يقال في عرف الناس على ثلاثة معان :
"الشرع المنَزَّل" : وهو ما جاء به الرسول ، وهذا يجب اتباعه ومن خالفه وجبت عقوبته.
__________
(1) تفسير ابن كثير(4/112)
(2) سورة الكهف(آية/26).
(3) سورة يوسف(آية/40)(1/240)
والثاني: "الشرع المؤَوَّل" : وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك ونحوه ، فهذا يسوغ اتباعه ، ولا يجب ، ولا يحرم .
وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ، ولا يمنع عموم الناس منه.
والثالث: "الشرع المُبَدَّل" : وهو الكذب على الله ورسوله ، أو على الناس بشهادات الزور ونحوها ، والظلم البين ؛ فمن قال: إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع ، كمن قال: إن الدم والميتة حلال ولو قال: هذا مذهبي ونحو ذلك." (1) .
فالشرع المبدل منه ما هو كفر ، ومنه ما هو فسق..
وفي عصرنا الحاضر أُطْلِقَ على الأوامر التقنينية والتنظيمية تشريعاً باعتبار المعنى اللغوي..
فيسمون المصالح المرسلة تشريعاً كإشارات المرور ، والتعزيرات ونحوها..
وهذا جائز لا بأس به ولكن يجب أن يكون التشريع موافقاً للكتاب والسنة ، فمن فعل خلاف ذلك فإن كان مجتهداً فهو معذور ، وإن كان صاحب هوى وشهوة ولكنه مقر بما أحل وما حرم فهو فاسق ، وإن كان معانداً أو محللاً ما حرم الله أو محلاً ما حرمه الله فهذا كفرٌ أكبر ..
الوجه الثاني عشر: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن من تبع حكم من حكم بغير ما أنْزل اللهُ فقد عبده من دون الله ، واتخذه رباً والله يقول: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}(2).
الجواب على هذه الشبهة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- : "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله ، يكونون على وجهين :
__________
(1) مجموع الفتاوى(3/268) .
(2) سورة التوبة(آية/31).(1/241)
أحدهما : أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل ؛ فيعتقدون تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل،فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ، ويسجدون لهم ، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء .
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحليل الحلال ، وتحريم الحرام ثابتاً لكنهم أطاعوهم في معصية الله ، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص ؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : ((إنما الطاعة في المعروف )) وقال: ((على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية))" (1).
فذكر شيخ الإسلام –رحمه الله- نوعاً من أنواع المبدِّلين وهم الذين يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله وهم كفار مرتدون كما سبق بيانه من كلامه-رحمه الله- .
ومع ذلك ذكر نوعين من المتبعين لأولئك المبدلين :
النوع الأول: من يعتقد عقيدة المبدلين في التحريم والتحليل فهؤلاء لهم حكمهم من الكفر والردة .
النوع الثاني: من لا يعتقد عقيدة المبدلين في التحليل والتحريم ، بل يعتقدون أن الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله ، ولكنهم يطيعونهم في معصية الله لهوى في نفوسهم أو لأمر آخر.
فهؤلاء ليسوا كفاراً بل هم عصاة مذنبون .
__________
(1) مجموع الفتاوى(7/70) ونقله الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في تيسير العزيز الحميد(ص/552) .(1/242)
الوجه الثالث عشر: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن من حكم بغير ما أنْزل اللهُ فقد ابتغى حكم الجاهلية ، والله يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}(1) والجاهليون كفار ، فمن فعل مثلهم فهو كافر
الجواب على هذه الشبهة:
أنَّ أمور الجاهلية منها ما هو كفر ومنها ما هو فسق..
يقول النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) (2).
وهذه الأمور من الكبائر مع أنها من خصال الجاهلية.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: "باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((إنك امرؤ فيك جاهلية))، وقول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}"(3).
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمهُ اللهُ- : " فقد أخبرك أن في الذنوب أنواعاً كثيرة تسمى بهذا الاسم، وهي غير الإشراك التي يتخذ لها (4) مع الله إله غيره، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فليس لهذه الأبواب عندنا وجوه إلا أنها(5) أخلاق المشركين وتسميتهم وسننهم وألفاظهم وأحكامهم ونحو ذلك من أمورهم.
__________
(1) سورة المائدة(آية/50).
(2) رواه مسلم في صحيحه(2/644) من حديث أبي مالك الأشعري -- رضي الله عنه --.
(3) صحيح البخاري(1/16).
(4) 100) كذا الأصل ولعل الصواب (فيها )
(5) 101) الأصل (أنا ) ولعل الصواب ما أثبتنا(1/243)
وأما الفرقان الشاهد عليه في التَّنْزيل فقول الله جل وعز: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }( المائدة /44) وقال ابن عباس: " ليس بكفر ينقل عن الملة " (1) وقال عطاء بن أبي رباح: " كفر دون كفر "
فقد تبين لنا أنه (2) كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باق على حاله وإن خالطه ذنوب، فلا معنى له إلا خلاف الكفار وسنتهم، على ما أعلمتك من الشرك سواء، لأن من سنن الكفار الحكم بغير ما أنزل الله.
ألا تسمع قوله { أفحكم الجاهية يبغون } ( المائدة /50). تأويله عند أهل التفسير أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون.
وهكذا قوله: ((ثلاثة من أمر الجاهلية الطعن في الأنساب والنياحة والأنواء))(3).
__________
(1) 102) الأصل (ملة ) والتصويب من ( مستدرك الحاكم )، وقد أخرجه (2/313) من طريق طاوس عن ابن عباس وصححه هو والذهبي
(2) 103) كذا الأصل، ولعل الصواب (إذ)
(3) 104) حديث صحيح، رواه البخاري في " التاريخ " والطبراني في " الكبير " (1/105/2) عن جنادة بن مالك، والبزار عن عمرو بن عوف، وابن جرير عن أبي هريرة وعن أنس بن مالك، وعنه أبو يعلي أيضا باختصار بإسناد قوي كما في " الفتح " (37/12) وهو في البخاري عن ابن عباس موقوفا عليه.(1/244)
ومثله الحديث الذي يُرْوَى عن جرير وأبي البختري الطائي: ((ثلاثة من سنة الجاهلية النياحة وصنعة الطعام، وأن تبيت المرأة في أهل الميت من غيرهم))(1) وكذلك الحديث " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا أوعد أخلف وإذا ائتمن خان " (2) وقول عبد الله " الغناء ينبت النفاق في القلب "(3)
ليس وجوه هذه الآثار كلها من الذنوب أن راكبها يكون جاهلاً، ولا كافراً، ولا منافقاً، وهو مؤمن بالله وما جاء من عنده، ومؤد لفرائضه، ولكن معناها أنها تتبين من أفعال الكفار، مُحَرَّمَةٌ مَنْهِيٌّ(4) عنها في الكتاب وفي السنة ليتحاماها المسلمون ويتجنبوها، فلا يتشبهوا بشيء من أخلاقهم ولا شرائعهم.
ولقد روي في بعض الحديث: ((إنَّ السواد خضاب الكفار))(5) فهل يكون لأحد أن يقول: إنَّه يكفر من أجل الخضاب ؟!
__________
(1) 105) أما حديث جرير وهو ابن عبد الله البجلي، فقد أخرجه ابن ماجه (1612) عن إ سماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير قال: " كنا نرى الاجتماع الى أهل الميت، وصنعة الطعام من النياحة " وإسناده صحيح وأما حديث أبي البحتري واسمه سعيد بن فيروز تابعي ثقة – فلم أره.
(2) 106) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
(3) 107) رواه أبو داود (4927) عن عبد الله وهو ابن مسعود مرفوعا، وإسناده ضعيف. يقول أبو عمر العتيبي: وصح موقوفاً على ابن مسعود -- رضي الله عنه --. رواه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة(2/629) ، والبيهقي في السنن الكبرى(10/223) ، وفي شعب الإيمان(4/278) وسنده حسن.
(4) 108) كذا الأصل، ولا يخلو من شيء
(5) 109) حديث ضعيف أخرجه الطبراني والحاكم وقال الذهبي وغيره: " حديث منكر ".(1/245)
وكذلك حديثه في المرأة إذا استعطرت ثم مرت بقوم يوجد ريحها: ((أنها زانية))(1) فهل يكون هذا على الزنا الذي تجب فيه الحدود؟
ومثله قوله: ((المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان))(2). أفيتهم عليه أنه أراد الشيطانين الذين هم أولاد إبليس ؟!
إنما هذا كله على ما أعلمتك من الأفعال والأخلاق والسنن.
وكذلك كل ما كان فيه ذكر كفر أو شرك لأهل القبلة فهو عندنا على هذا، ولا يجب اسم الكفر والشرك الذي تزول به أحكام الإسلام ويلحق صاحبه للردة إلا بكلمة الكفر خاصة دون غيرها وبذلك جاءت الآثار مفسرة"(3) .
الوجه الرابع عشر: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن الله -عزَّ وجلَّ- وجل يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}(4) ، وسبب نزول الآية يدل على أن مجرد التحاكم إلى غير الشريعة كفر أكبر.
__________
(1) 110) حديث صحيح، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في " صحاحهم " عن أبي موسى الأشعري مرفوعا بلفظ: " أيما امرأة استعطرت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية " وأخرجه بنحوه أبو داود والترمذي وصححه.
(3) كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكماله ودرجاته لأبي عبيد(ص/44-46) ، والتعليقات لمحققه الشيخ الألباني -رحمهُ اللهُ- .
(4) سورة النساء(آية/60).(1/246)
وقد وردت روايات في سبب نزولها أصحها ما ورد عن ابن عباس أنَّه قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} - إلى قوله:- {إِحْسًاناً وَتَوْفِيقاً}"(1)
الجواب على هذه الشبهة:
أولاً: أن هذه الآية واردة في المنافقين ، وقد وضَّح ذلك ما بعدها من الآيات قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً}والآيات بعدها ، وعلى أن الآية في المنافقين عامة المفسرين.
فالمنافقون لا يؤمنون بالله ولا يوحدونه ، بل هم مشركون حالهم في الحقيقة كحال اليهود الذين يحكمون بغير ما أنزل الله جاحدين حكم الله ، مستحلين للحكم بغير ما أنزله -عزَّ وجلَّ- .
ثانياً: أن المنافقين طلبوا التحاكم إلى الطاغوت وهو الكاهن لأنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت ، ففعلوا ذلك عن اعتقاد واستحلال.
ثالثاً: أنَّ من طلب التحاكم إلى الطاغوت فقد فعل كفعل المنافقين واليهود والمشركين في الجاهلية ، ويكون قد شابههم في ذلك ، كمشابهة الجاهلية في الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت والفخر بالأحساب، والتَّبَرُّجَِ، ونحو ذلك من خصال الجاهلية.
ولا يكون كافراً إلا بقرينة كاستحلال أو استكبار أو عناد للشريعة الإسلامية.
رابعاً: أن التحاكم إلى غير الشريعة الإسلامية هو طلب للحكم بغير ما أنزل الله بالقول ، وحكم القاضي ونحوه بغير ما أنزل الله هو طلب للحكم بغير ما أنزل الله بالفعل وكلاهما حرام ، ويكون كفراً أكبر بالاستحلال والاستكبار ونحو ذلك لا بمجرد الحكم.
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره(3/991رقم5547)، والطبراني في المعجم الكبير (11/373 رقم120045) ، وفي مسند الشاميين(2/119رقم1027)، والواحدي في أسباب النّزول(ص/160-161) وسنده صحيح.(1/247)
خامساً: أن الدَّولة السعودية -حرسَها اللهُ- تحكم بالشريعة الإسلامية فلم تحكم بغيرها ولم تتحاكم إلى غيرها .
وما يقال من تحاكم الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- إلى جامعة الدول العربية أو إلى الأمم المتحدة وأنَّه تحاكم إلى الطاغوت فسيأتي بيانه في الرد على الشبهة الثانية -إنْ شاءَ اللهُ تعالَى- .
الوجه الخامس عشر: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن الله -عزَّ وجلَّ- كفر اليهود في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(1) لَمَّا غيروا حكم رجم الزاني المحصن إلى التحميم لأنهم عدلوا عن حكم الله وجعلوا حكمهم نظاماً يطبق على الجميع ، ولم يكن كفرهم لاستحلالهم الحكم بغير ما أنزل الله! (2)
الجواب على هذه الشبهة:
أن هذا من أعجب العجب!
فالروايات الصحيحة صريحة بأن اليهود جعلوا حكمهم المبدَّل هو حكم الله وشريعته، حيث نسبوا تشريعهم إلى الله -عزَّ وجلَّ- وجل ، فهذا أمر يتضمن استحلالهم ما حرَّم الله وزيادة..
فسبب نزول الآية: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ اليهودَ جاؤوا إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- فذكروا له؛ أنَّ رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --: ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟)) فقالوا: نفضحهم ويجلدون.
__________
(1) سورة المائدة(آية/44).
(2) ذكر هذه الشبهة المقدسي والمحمود وغيرهما .(1/248)
فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إنَّ فيها الرجم، فَأَتَوا بالتوراة، فنشروها، فَوَضَعَ أحدُهم يدَهُ على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فَرُجِمَا"(1)
فقد جاء في هذا الحديث التَّصريح بأن اليهود نسبوا حكمهم إلى التوراة ، والتوراة كتاب الله ووحيه وشريعته، فقد نسبوا حكمهم إلى الله حين سألهم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟)) فقالوا: نفضحهم ويجلدون.
وفي حديث البراء بن عازب -- رضي الله عنه --: فدعاهم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فقال: ((هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟)) قالوا: نعم(2).
قال ابن كثير -رحمهُ اللهُ- : "فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله -عزَّ وجلَّ- إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به مع [عملهم] على خلافه بَانَ زيغُهُم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا: {إن أوتيتم هذا} أي: الجلد والتحميم {فخذوه} أي : اقبلوه ، {وإن لم تؤتوه فاحذروا} أي: من قبوله واتباعه"(3).
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه(4/550رقم3635)، ومسلم في صحيحه(3/1326رقم1699).
(2) رواه مسلم في صحيحه(3/1327رقم1700).
(3) تفسير ابن كثير(2/60).(1/249)
وقد بين ابن جرير أن الله كفرهم لأنهم جاحدون لحكم الله حيث قال -رحمهُ اللهُ- : "إن الله عمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين ، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنَّهُ بِجُحُودِهِ حكمَ الله بعد علمه أنَّهُ أنزله في كتابه نظيرَ جُحودِهِ نبوَّةَ نبيه بعد علمه أنه نَبِيٌّ"(1).
وقال الجصاص -رحمهُ اللهُ- : "من جحد حكم الله ، أو حكم بغير حكم الله ثم قال: إن هذا حكم الله فهو كافر ، كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك"(2).
وقال إسماعيل القاضي -رحمهُ اللهُ- : "ظاهر الآيات يدلُّ على أنَّ من فعل مثل ما فعلوا واخترع حكماً يخالف به حكم الله ، وجعله ديناً يعمل به فقد لزمه ما لزمهم من الوعيد المذكور حاكماً كان أو غيره"(3).
فظهر أن اليهود لم يكونوا عادلين عن حكم الله دون جحد أو استحلال بل كانوا جاحدين لحكم الله ، مستحلين الحكم بما تواضعوا واصطلحوا عليه ، ونسبوا فعلهم هذا إلى شريعة الله .
__________
(1) تفسير الطبري(6/257).
(2) أحكام القرآن (2/439).
(3) نقله عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري(13/129).(1/250)
وهذا معروف عن اليهود كما ذكر الله ذلك عنهم في كتابه حيث قال -عزَّ وجلَّ- : {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(1)، وقال -عزَّ وجلَّ- : {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(2).
وكما في حديث عدي بن حاتم -- رضي الله عنه -- حيث قال : ..فانتهيت إليه –يعني : إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو يقرأ في سورة براءة: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} فقلت: إنا لسنا نعبدهم.
قال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((يحرمون ما أحل الله فتحرمون، ويحلون ما حرم الله فتستحلون)) قلت: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)) (3).
__________
(1) سورة البقرة(آية/79).
(2) سورة آل عمران(آية/78).
(3) رواه البخاري في التاريخ الكبير(7/106)، والترمذي في سننه(5/278رقم3095)، والطبراني في المعجم الكبير(17/92)، والطبري في تفسيره(10/114)، وابن أبي حاتم في تفسيره(6/1784) ، والبيهقي في السنن الكبرى(10/116) ، وفي المدخل(ص/210)، وابن حزم في الإحكام(6/283)، وعزاه الحافظ في تخريج الكشاف إلى : ابن سعد في الطبقات ، وأبي يعلى في مسنده، وابن أبي شيبة في مسنده، وابن مردويه في تفسيره. وحسنه شيخ اسلام ابن تيمية، وقال الترمذي: حسن غريب ، وحسنه الشيخ الألباني.(1/251)
الوجه السادس عشر: ومما يلبس به الخوارج ما قالوا: إن الإمام ابن كثير نقل الإجماع على كفر من يحكم بالقوانين الوضعية حيث قال -رحمهُ اللهُ- : "فمن ترك الشرع المحكم المنَزَّل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدَّمها عليه؟! من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين"(1).
الجواب على هذه الشبهة:
أولاً: الدَّولة السعودية -حرسَها اللهُ- لم تَتْرك الشرع المنَزَّل على محمد -- صلى الله عليه وسلم -- ، ولم تتحاكم إلى الشرائع المنسوخة ، بل تحكم بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح كما سبق بيانه في المبحث الثاني.
ثانياً: أن الإجماع قد انعقد على أن من بدَّل الشريعة كلها فقلب التوحيد شركاً والشرك توحيداً فهو كافر مرتد ، والدَّولة السعودية -حرسَها اللهُ- من أبعد الدول عن ذلك.
ثالثاً: أجمع العلماء –أيضاً- على أن الحكم بغير ما أنزل الله من كبائر الذنوب، ولا يخرج من الملة إلا بالجحود والاستحلال والاستكبار.
والإجماع الذي حكاه ابن كثير -رحمهُ اللهُ- إنما هو فيمن بدَّل دين الله بالكلية كما فعل التَّتَر.
وحال التَّتَر قد بينه جماعة من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- حيث قال: "كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام -وهو يخاطب رسل المسلمين ويتقرب إليهم بانا مسلمون –فقال : هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله محمد وجنكسخان.
فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين : أن يسوى بين رسول الله -وأكرم الخلق عليه وسيد ولد آدم وخاتم المرسلين- وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفراً وفساداً وعدواناً من جنس بختنصر وأمثاله .
__________
(1) البداية والنهاية(13/128).(1/252)
وذلك أن اعتقاد هؤلاء التتار كان في جنكسخان عظيماً فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح ويقولون أن الشمس حبلت أمه وأنها كانت في خيمة فَنَزَلَتْ الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حبلت.
ومعلوم عند كل ذي دين أن هذا كذب ، وهذا دليل على أنه ولد زنا ، وأن أمة زنت فكتمت زناها وادعت هذا حتى تدفع عنها معرة الزنا.
وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله في تعظيم ما سنة لهم وشرعه بظنه وهواه حتى يقولوا لمال عندهم من المال هذا رزق جنكسخان ويشكرونه على أكلهم وشربهم وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادى لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين.
فهذا وأمثاله من مقدميهم كان غايته بعد الإسلام أن يجعل محمدا بِمَنْزِلَةِ هذا الملعون.
ومعلوم أن مسيلمة الكذاب كان أقل ضررا على المسلمين من هذا ، وادعى أنه شريك محمد في الرسالة ، وبهذا استحل الصحابة قتاله وقتال أصحابه المرتدين ،
فكيف بمن كان فيما يظهره من الإسلام يجعل محمدا كجنكسخان وإلا فهم مع إظهارهم للإسلام يعظمون أمر جنكسخان على المسلمين المتبعين لشريعة القرآن، ولا يقاتلون أولئك المتبعين لما سنه جنكسخان كما يقاتلون المسلمين.
بل أعظم أولئك الكفار يبذلون له الانقياد ، ويحملون إليه الأموال ، ويقرون له بالنيابة ولا يخالفون ما يأمرهم به إلا كما يخالف الخارج عن طاعة الإمام للإمام ،
وهم يحاربون المسلمين ، ويعادونهم أعظم معاداة ، ويطلبون من المسلمين الطاعة لهم ، وبذل الأموال ، والدخول فيما وضعه لهم ذلك الملك الكافر المشرك المشابه لفرعون أو النمروذ ونحوهما بل هو أعظم فساداً في الأرض منهما
قال الله تعالى : {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (1).
__________
(1) سورة القصص(آية/4).(1/253)
وهذا الكافر علا في الأرض يستضعف أهل الملل كلهم من المسلمين واليهود والنصارى ومن خالفه من المشركين بقتل الرجال وسبى الحريم وبأخذ الأموال ويهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد
ويرد الناس عما كانوا عليه من سنن الأنبياء والمرسلين إلى أن يدخلوا فيما ابتدعه من سنته الجاهلية وشريعته الكفرية فهم يدعون دين الإسلام ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين والحكم فيما شجر بين أكابرهم بحكم الجاهلية لا بحكم الله ورسوله وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى وإن هذه كلها طرق إلى الله بِمَنْزِلَةِ المذاهب الأربعة عند المسلمين.
ثم منهم من يرجح دين اليهود أو دين النصارى .
ومنهم من يرجح دين المسلمين وهذا القول فاشٍ غالب فيهم حتى في فقهائهم وعبادهم لاسيما الجهمية من الاتحادية الفرعونية ونحوهم فإنه غلبت عليهم الفلسفة وهذا مذهب كثير من المتفلسفة أو أكثرهم ، وعلى هذا كثير من النصارى أو أكثرهم ، وكثير من اليهود أيضا ،
بل لو قال القائل أن غالب خواص العلماء منهم والعباد على هذا المذهب لما أبعد وقد رأيت من ذلك وسمعت مالا يتسع له هذا الموضع
ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين ، وباتفاق جميع المسلمين أن من سَوَّغَ(1) اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً {150} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً}(2).
__________
(1) سورة القصص(آية/4).
(2) سَوَّغَ: يعني: أباح وأحلَّ.(1/254)
واليهود والنصارى داخلون في ذلك ، وكذلك المتفلسفة يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ومن تفلسف من اليهود والنصارى يبقى كفره من وجهين .
وهؤلاء أكثر وزرائهم الذين يصدرون عن رأيه غايته أن يكون من هذا الضرب، فإنه كان يهوديا متفلسفاً ، ثم انتسب إلى الإسلام مع ما فيه من اليهودية والتفلسف ، وضم إلى ذلك الرفض فهذا هو أعظم من عندهم من ذوي الأفهام وذاك أعظم من كان عندهم من ذوى السيف فليعتبر المؤمن بهذا
وبالجملة فما من نفاق وزندقة والحاد إلا وهى داخلة في أتباع التتار ؛ لأنهم من أجهل الخلق ، وأقلهم معرفة بالدين ، وأبعدهم عن اتباعه ، وأعظم الخلق إتباعاً للظن وما تهوى الأنفس ، وقد قسموا الناس أربعة أقسام: يال ، وباع ، وداشمند ، وطاط ؛ أي : صديقهم ، وعدوهم ، والعالم ، والعامي.
فمن دخل في طاعتهم الجاهلية وسنتهم الكفرية كان صديقهم ومن خالفهم كان عدوهم ولو كان من أنبياء الله ورسله وأوليائه
وكل من انتسب إلى علم أو دين سموه : داشمند ؛ كالفقيه والزاهد والقسيس والراهب ودنان اليهود والمنجم والساحر والطبيب والكاتب والحاسب فيدرجون سادن الأصنام فيدرجون في هذا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع ما لا يعلمه إلا الله
ويجعلون أهل العلم والإيمان نوعاً واحداً، بل يجعلون القرامطة الملاحدة الباطنية الزنادقة المنافقين كالطوسي وأمثاله هم الحكام على جميع من انتسب إلى علم أو دين من المسلمين واليهود والنصارى.
وكذلك وزيرهم السفيه الملقب بالرشيد يحكم على هذه الأصناف، ويقدم شرار المسلمين كالرافضة والملاحدة على خيار المسلمين أهل العلم والإيمان، وحتى تولى قضاء القضاة من كان أقرب إلى الزندقة والإلحاد والكفر بالله ورسوله، بحيث تكون موافقته للكفار والمنافقين من اليهود والقرامطة والملاحدة والرافضة على ما يريدونه أعظم من غيره …"(1).
__________
(1) مجموع الفتاوى(28/221-226 فما بعدها).(1/255)
إلى آخر كلامه -رحمهُ اللهُ- ، ويظهر منه جلياً أن هؤلاء التتار ينسبون دينهم إلى الله وأنه حق وما عداه باطل .
الشبهة الثانية
زعم المتطرفون والخوارج أن الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- عندها قوانين وضعية فكفروها بذلك
وبيان زيف هذه الشبهة وبطلانها بما يلي:
تعريف القانون :
قال الجوهري : "والقَوانِينُ الأصول الواحد قَانونُ وليس بعربي"(1)
وقال الفيروزآبادي: "والقانون: مقياس كل شيء جمعه قوانين".
وقال شارحه: "قيل: رومية ، وقيل : فارسية"(2)
وقال ابن منظور: "وقانون كل شيء: طريقُه ومقياسه. قال ابن سيده؛ وأُراها دَخِيلَة"(3)
فالتقنين هو طريق كل شيء ومقياسه .
ومجرد التقنين ليس كفراً بل هو راجع إلى الأمر المقنَّن وقصد المقنِّن.
وهو على ثلاثة أحوال :
الحال الأولى: من قنن أنظمة دنيوية معاشية لا تتعارض مع الشرع ولم ينص عليها الشرع بخصوصها فهذا مباح لا شيء فيه.
وهذه قد تكون وسائل إلى غايات مشروعة ومطلوبة .
مثل: تقنين أنظمة المرور وتقنين أنظمة الدراسة في الجامعات وتقنين أنظمة الكتابة في المنتديات الحوارية على الانترنت ونحوها من التنظيمات التي لا يكون فيها ما يعارض الشرع .
ومثل: تقنين قواعد اللغة العربية ومصطلح الحديث وأصول الفقه ونحوها مما لا يتعارض مع الشرع .
فهذا التقنين مباح ولا شيء فيه أصلاً .
وهو ما يسمى بالمصالح المرسلة وهو أحد أنواعها على التحقيق .
وهذا لا أعرف خلافاً بين العلماء في جوازه .
الحال الثانية: تقنين الأمر المحرم الممنوع شرعاً فهذا حرام .
مثل الزنا وشرب الخمور .
فإذا كان عند رجل محل لبيع الخمور - وهو معتقد حرمتها- فقنن عمله لها وجعل قوانين لصناعتها وتعليبها وتغليفها وبيعها ؛ فهذا عاص وآثم ، وليس بكافر إذا لم يصدر منه ما يدل على استحلالها .
__________
(1) انظر: مختار الصحاح(ص/231) لسان العرب(13/350) .
(2) انظر : القاموس المحيط(ص/1582)
(3) انظر: لسان العرب(13/349)(1/256)
وكذلك تقنين الربا وجعل الضوابط المقيدة له فهذا فسق وفجور وليس بكفر .
ولقد كانت قوانين الربا معروفة في عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إلى يومنا هذا وجدد تنظيمها في عصرنا الحاضر بما لا يخرج في جوهرة على ما كان في عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والقرون السابقة .
فمعلوم أن كل مرابٍ يحرس ماله أو يجعل له من يحرسه ، ومعلوم أن كل مرابٍ يحفظ ماله ويقيده وله من الدفاتر والسجلات ما يحفظ به ماله الحرام .
وكذلك السُّرَّاق لهم قواعد ونظم وقوانين في كيفية السرقة بل ألف بعضهم كتاباً في "حيل اللصوص" علمهم فيه كيف يسرقون !!
فهذا التقنين محرم وفسق وفجور وليس بكفر مخرج من الملة إلا إذا كان قصد مقننه الاستحلال فهذا يخرج من الملة بسبب الاستحلال .
والنبي -- صلى الله عليه وسلم --لم يكفر كاتب الربا وشاهديه مع أنهما من أطراف القانون !
وعلى هذا قول الصحابة والتابعين وسلف الأمة حيث لم يكفروا المرابي وشارب الخمر وبائعها وصانعها مع أنهم مستحقون للعن .
ومن زعم أن الربا لم يكن مقننا وكذا الخمر فهو من أجهل الناس بمعنى التقنين وبحال الناس قديماً وحديثاً.
وهذه الحال سبق مزيد بيان لها في الكلام على التبديل في الرد على الشبهة الأولى.
الحال الثالثة: تقنين الأمر الكفري كفر مخرج من الملة ولا يحتاج إلى استحلال أصلاً.
وذلك مثل: تقنين الطواف حول القبور والاستغاثات الشركية والقيام بشؤون تلك الظواهر الشركية .
ومثل: تقنين السجود لغير الله وإهانة المصاحف والشعائر الدينية وقتل الموحدين لتوحيدهم.
ومثل: النص على التحليل الشرعي لأمور محرمة أو التحريم الشرعي لأمور حلال.
ومثل: تقنين القوانين لتعطيل أسماء الله وصفاته أو تعطيل الشرع وهذا وقع فيه كثير من أهل البدع والتعصب المذهبي.
مثل: قوانين الأشاعرة والمعتزلة والجهمية والخوارج ونحوهم .
كقول صاحب الجوهرة:
وكل نص أوهم التشبيه ... أوله أو فوض ورم تنْزيها(1/257)
فهذه قاعدة كفرية .
وكقول الصاوي في حاشيته على الجلالين: الأخذ بظواهر النصوص الشرعية شرك!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- : "وأما هذا القانون الذي وضعوه فقد سبقهم إليه طائفة منهم أبو حامد -يعني: الغزالي- وجعله قانوناً في جواب المسائل التي سئل عنها في نصوص أشكلت على السائل ، كالمسائل التي سأله عنها القاضي أبو بكر بن العربي .
وخالفه القاضي أبو بكر في كثير من تلك الأجوبة ، وكان يقول : شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر .
وحكى هو عن أبي حامد نفسه أنه كان يقول: أنا مزجى البضاعة في الحديث .
ووضع أبو بكر بن العربي هذا قانونا آخر مبنيا على طريقة أبي المعالي ومن قبله كالقاضي أبي بكر الباقلاني .
ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله ، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته ، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعاً له فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه .
وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم ، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها ، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من نصوص الأنبياء أو ما بلغهم عنهم وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل ، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات فإن غلطه إما في الإسناد ، وإما في المتن .
وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم وقد غلطوا في الرأي والعقل .(1/258)
فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء لكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم بخلاف بدعة الجهمية والفلاسة فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء وأنه صحيح عندهم"(1).(4)
وهذه الحال الثالثة يكفر صاحبها إذا علم حكم الله وشرعه ثم عاند وأصر .
فهذه ثلاث حالات للتقنين مع توضيح حكمها .
قال الشيخ أحمد شاكر –رحمه الله- في مقال:"السمع والطاعة": "نرى بعض القوانين تأذن بالعمل الحرام الذي لا شك في حرمته ، كالزنا وبيع الخمر ونحو ذلك ، وتشترط للإذن بذلك رخصة تصدر من جهة مختصة معينة في القوانين .
فهذا الموظف الذي أمرته القوانين أن يعطي الرخصة بهذا العمل إذا تحققت الشروط المطلوبة فيمن طلب الرخصة لا يجوز له أن يطيع ما أمر به ، وإعطاؤه الرخصة المطلوبة حرام قطعاً ، وإن أمره بها القانون ، فقد أمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة .
أما إذا رأى أن إعطاء الرخصة في ذلك حلال ، فقد كفر وخرج عن الإسلام ، لأنه أحل الحرام القطعي المعلوم حرمته من الدين بالضرورة"(2) (5)
وأنصح بالرجوع إلى ذلك المقال بكامله فإنه نفيس جداً .
والمصيبة أن خوارج العصر يجعلون الحالات الثلاث حالة واحد وهذا جرم عظيم وهو حكم بغير ما أنزل الله .
الشبهة الثالثة: زعموا أن الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- والت الكفار، وظاهرتهم على المسلمين
وهذا كذب واضح ، وبيان بطلانه وفساده بما يلي:
هناك أمور ليست من المولاة وإنما هي مجرد معاملة أباحها الإسلام ،وهؤلاء القائلون بهذا الكلام لم يفرقوا بين المعاملة في البيع والشراء والمولاة ،وكذا لم يفرقوا بين المدارة لخطر الكفار وبين الموالاة .
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل(1/5-7) .
(2) "كلمة الحق"(ص/88) تحت مقال:"السمع والطاعة"(1/259)
والسبب في ذلك هو إما جهلهم بأحكام الإسلام وإما الهوى والبدع والضلال.
أما الأمر الأول فهو إباحة التعامل مع الكفار في البيع والإجارة ونحو ذلك من أمور الدنيا:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -- صلى الله عليه وسلم -- وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ"(1).
وعن عَبْد اللَّهِ -- رضي الله عنه --: أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ -- صلى الله عليه وسلم -- مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -- صلى الله عليه وسلم -- قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ (2) .
فهل يقول مسلم عاقل يعي ما يقول : إنَّ هذه من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- موالاة ومحبة للكفار !!؟؟ - حاشاه بأبي هو وأمي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا ما لا يقوله مسلم .
وقد سئل الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله تعالى - : إنه بسبب الأحداث التي وقعت أصبح بعض المسلمين يوالي الكفار ،وكذلك لفتوى سمعها من أحد طلاب العلم ،فما حكم ذلك ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - :ما أظن مسلماً يوالي الكفار لكن أنتم تفسرون الموالاة بغير معناها ،فإن كان يواليهم جاهل أو ما هو بمسلم ،من المنافقين .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه(3/312رقم 2916)،ومسلم في صحيحه(3/1226رقم 1603).
(2) أخرجه البخاري في صحيحه(3/345رقم3014)، ومسلم في صحيحه(3/1364 رقم1744).(1/260)
أما المسلم فإنه لا يوالي الكفار لكن هناك أفعال – تحسبونها موالاة وهي ليست موالاة – مثل البيع والشراء مع الكفار ، مثل الإهداء للكفار، هذا جائز ولا هو من الموالاة، هذا من المعاملات الدنيوية، تبادل المصالح، مثل استئجار الكافر لعمل، هذا ما هو من الموالاة هذا من تبادل المصالح ، ويجوز أن المسلم يؤجر نفسه للكافر إذا احتاج؛ لأن هذا من باب تبادل المنافع، ما هو من باب المحبة والمودة حتى الوالد الكافر يجب على ولده أن يبر به وليس هذا من باب المحبة .
فهناك أشياء من التعاملات مع الكفار وكذلك الهدنة والعهد والأمان مع الكفار، هذا يجري، وليس هو من الموالاة، فهناك أشياء يظنها بعض الجهال أنها موالاة، وهي ليست موالاة ،هناك المداراة إذا كان على المسلمين خطر وداروا الكفار؛ لدفع الخطر هذا ليس من الموالاة، وليس هو من المداهنة، هذا مداراة وفرق بين المداراة وبين المداهنة، المداهنة لا تجوز لكن المداراة إذا كان على المسلمين أو على المسلم خطر ودفعه ودارى الكفار لتوقي هذا الخطر فهذا ليس من المداهنة وليس من الموالاة، هذه الأمور تحتاج إلى فقه، تحتاج إلى معرفة، أما أن كل شيء مع الكفار يفسر بأنه موالاة، هذا من الجهل ومن الغلط أو من التلبيس على الناس.
الحاصل أنه لا يدخل في هذه الأمور إلا الفقهاء وأهل العلم لا يدخل فيها طلبة العلم وأنصاف المتعلمين ويخوضون فيها ، ويحللون ويحرمون ويتهمون الناس ويقولون هذه موالاة ، وهم ما يدرون ولا يعرفون الحكم الشرعي هذا خطر، خطر على القائل ؛ لأنه قال على الله بغير علم(1) .انتهى .
القسم الثاني: بعض الأعمال التي يقوم بها ولي الأمر مداراة وتقية:
__________
(1) انظر: فتاوى في التكفير والموالاة.(1/261)
قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}(1) .
عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ} قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون اللطف ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}(2) .
وقال مجاهد -رحمهُ اللهُ- : قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} : إلا مصانعةً في الدنيا ومخالَقَةً(3) .
وقال أبو بكر بن العربي -رحمهُ اللهُ- : "قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}..
فيها قولان: أحدهما: إلا أن تخافوا منهم، فإن خِفْتُم منهم فساعدوهم ووالهم وقُولُوا ما يصرف عنكم من شَرِّهم وأذاهم بظاهرٍ منكم لا باعتقادٍ ؛ بيَّن ذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}(4) على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
الثاني: أنَّ المرادَ به إلا أن يكونَ بينكم وبينه قرابة فَصِلُوها بالعطية، كما روي أنَّ أسماء قالت للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- : إنَّ أمِّي قدمت علَيَّ وهي مشركة، وهي راغبة أفأَصِلُها؟ قال: ((نعم. صِلِي أُمَّكِ)) (5).
__________
(1) سورة آل عمران(آية/28).
(2) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره(2/628)، وابن جرير في تفسيره(3/228).
(3) تفسير ابن أبي حاتم(2/630) وابن جرير في تفسيره(3/228-229).
(4) سورة النَّحل(آية/106).
(5) رواه البخاري(2/924رقم2477-البغا) ، ومسلم(2/696رقم1003).(1/262)
وهذا وإن كان جائزاً في الدين فليس بِقَويٍّ في معنى الآية وإنَّما فائدتها ما تقدَّم في القول الأول. والله أعلم"(1) .
قال المحدث العلامة أحمد بن يحيى النَّجمي -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : "إذا منعت الدولة الكافرة إلاَّ أن تتولَّى هي بنفسها محاربة من يقوم بعمل الإرهاب من المسلمين ، والمسلمون وافقوا على ذلك باللسان خوفاً من التورط في الحرب مع ضعف قوة المسلمين ، ومع استقامة المسلمين على عقيدتهم ، وبغضهم للكفار ، ولكن وافقوهم في الظاهر ليدفعوا شرهم ، ففي هذه الحال فعل المسلمون ما هو مباح لهم ، والله تعالى يقول : { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}. قال ابن كثير رحمه الله : " نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين أن يوالوا الكافرين ، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ، ثمَّ توعد على ذلك فقال : {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ}أي: من يرتكب ما نهى الله -عزَّ وجلَّ- عنه في هذا فقد برئ من الله كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً}(2) -إلى أن قال:- { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلاَّ من خاف في بعض البلدان أو الأوقات شرهم ، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنَّه قال : "إنَّا لنكشِّر في وجوه أقوامٍ وقلوبنا تلعنهم "(3) وقال
__________
(1) أحكام القرآن(1/351-352).
(2) سورة النساء(آية/144).
(3) ذكره البخاري في صحيحه(5/2271-البغا) معلقاً حيث قال: "ويُذكَر عن أبي الدرداء..".(1/263)
الثوري :
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "ليس التَّقِية بالعمل إنَّما التقية باللسان"(1) وكذا قال أبو العالية ، وأبو الشعثاء ، والضحاك ، والربيع بن أنس ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى : {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(2).
وقد تبين مما سبرته أنَّ إطلاق الكفر على المسلمين الذين لا تعلم نيتهم في الموافقة القولية حكمٌ خاطئ باطل ، وأنَّ التفصيل هو الواجب .
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم(2/629).
(2) سورة النَّحل(آية/106) وانظر: تفسير ابن كثير(1/358).(1/264)
وقد ساق المؤلف(1) المذكور في كتابه هذا كثيراً من الآيات التي تنهى عن تولِّي الكفار ، وتحضره وتجعله ارتداداً عن الدين مثل قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}(2)، وقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} (3)، ومثل قوله : {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً}(4)، ومثل قول الله تعالى : {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}(5) ، ومثل قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {23} قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
__________
(1) يعني به: ناصر الفهد، وكتابه: التبيان في كفر من أعان الأمريكان" وهو كتاب جار على منهج الخوارج، ولعل مؤلفه تاب عما فيه من باطل ضمن توبته التي أعلنها في شهر رمضان عام1424هـ.
(2) سورة الممتحنة(آية/13).
(3) سورة النساء(آية/144).
(4) سورة النساء(138–139)
(5) سورة آل عمران(آية/28).(1/265)
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(1) إلى غير ذلك من الآيات ، وهذه الآيات وما في معناها صريحةٌ في أنَّ تولي الكفار من دون المؤمنين بأن أحبَّهم ووالاهم ، ومال إليهم ، ونصرهم أو أفضى إليهم بأسرار المسلمين أو تجسس للكفار عليهم ، ودلَّهم على مواطن الضعف عند المسلمين فإنَّه حينئذٍ يكفر كما سبق شرحه .
وكل الآيات التي ساقها المؤلف(2) ترتب على تولي الكفار الردة ، وحبوط العمل، والخلود في النار، لكن ما هو التولي الذي يوجبه؛ أهو مطلق السلام والكلام مع الكفار؟ أو هو الميل القلبي والمحبة والنصرة من المسلم للكافر على المسلم؟
أقول: هو الثاني، لا الأول، كما هو مقتضى الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة.
أمَّا إذا اتفقت فئتان فئةٌ مسلمة ، وفئةٌ كافرة على منع أو محاربة ما يمنعه الإسلام، ويحاربه كالفساد في الأرض بالتفجيرات ، والاغتيالات ، والمظاهرات، فهي تسمَّى حرابة ؛ لأنَّها محاربة لله ولرسوله ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(3).
__________
(1) سورة التوبة(آية/23–24)
(2) يعني به: ناصر الفهد.
(3) سورة المائدة(آية/33)(1/266)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية لَمَّا ذكر هذه الآية آية المحاربة قال : " فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول في طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله، ومن عمل في الأرض بغير كتاب الله، وسنة رسوله-- صلى الله عليه وسلم -- فقد سعى في الأرض فساداً ، ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار ، وعلى أهل القبلة حتى أدخل عامَّة الأمة فيها قطَّاع الطرق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ المال ، وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ولرسوله ساعين في الأرض فسادا وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه ، ويقرون بالإيمان بالله ورسوله" -إلى أن قال:- " … ولهذا اتفق أئمة الإسلام أنَّ هذه البدع المغلَّظة شرٌّ من الذنوب التي يعتقد أصحابها أنَّها ذنوب ، وبذلك مضت سنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- حيث أمر بقتال الخوارج الذين خرجوا عن السنة ، وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم، والصلاة خلفهم مع ذنوبهم ، وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنَّه يحب الله ورسوله، ونهى عن لعنه، وأخبر عن ذي الخويصرة وأصحابه مع ورعهم وعبادتهم أنَّهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، وقد قال الله في كتابه : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(1)، فكل من خرج عن سنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --وشريعته فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنَّه لا يؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في جميع ما يشجر بينهم في أمور الدنيا والدين وحتى لا يبقى في أنفسهم حرجٌ من حكمه ، ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة "(2).
__________
(1) سورة النساء(آية/65)
(2) مجموع الفتاوى(28/470).(1/267)
وأقول(1) إذا عرضت علينا دولةٌ كافرةٌ أن نتعاون معها على منع أمرٍ ومحاربته مما يمنعه ديننا الحنيف
كمحاربة نوعٌ من الفساد وهو الإرهاب ، وهو الغدر الذي نهى عنه نبي الإسلام وحرَّمه ، فإنَّه يجوز أن نتعاون معهم على منعه ، وتتبع فاعليه ، ومعاقبتهم ؛ لأنَّ ديننا يأمر بمنع ذلك الشيء وينهى عنه ، ويذم فاعليه ، ولأنَّ ذلك نوعٌ من الفساد الذي حرَّمه الله ورتب عليه عقوبة في الدنيا ، وتوعد بالعذاب من فعله ، ولا يعد ذلك من المسلمين خروجاً عن الدين ، ولا موالاةً للكافرين ، ولا يترتب عليه تكفيرٌ لمن فعله ، ولا تفسيقٌ له سواءً كان المتفق مع الدولة الكافرة دولةٌ مسلمة أو فردٌ أو جماعة.
وإنَّما يترتب التكفير ، والتفسيق على ذلك إذا اتفقنا مع الكفار على شيءٍ يضر بديننا أو بإخواننا المسلمين محبةً للكفر ، وإيثاراً له على الإسلام ، ورغبة فيه دون الإسلام ، والدليل على ذلك قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }(2)، فجعل استحباب الكفر شرطاً في تحريم الموالاة لهم .
وقال -رحمهُ اللهُ- : "وقد ثبت في الصحيح عن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أنَّه قال : (( يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم)) . قالت : قلت يا رسول الله : كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: ((يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم)) والحديث مستفيضٌ أخرجه أرباب الصحيح عن عائشة وحفصة ، وأمِّ سلمة رضي الله عنهنَّ اهـ بتصرف(3) .
__________
(1) القائل: الشيخ أحمد النجمي.
(2) سورة التوبة(آية/23).
(3) مجموع الفتاوى(28/535).(1/268)
فإذا كان من سار معهم تَصوَّر في حقه الإكراه ، وعذره الله -عزَّ وجلَّ-، وبعثه على نيته من كراهية ما فعلوه ، فالإكراه متصور في حق من وافقهم بلسانه خوفاً من القنابل التي كل واحدةٍ منها عدة أطنان يرمى بها ، فتهدم المنازل ، وتهلك الحرث ، والنسل ، فمن خاف على نفسه أو على شعبه أو على قومه ، فإنَّه يعتبر مكرهاً من باب أولى ، فأين إطلاقاتكم التي تحكمون فيها على المسلمين بالكفر المخرج من الملة ؟ !!
بل صريحٌ أنَّ المسلم على أصل إسلامه لا يخرج عنه إلاَّ بدليل واضح الدلالة على مراد المستدل.
وإذا أجلنا النظر في الآيات التي تنهى عن تولي الكفار وتحرمه، وتمقت فاعليه، ونظرنا في الأدلة من السنة التي تبيح التعامل مع الكفار بالبيع والشراء والإجارة أو الاستئجار ، والتعاون معهم أو طلب الإعانة منهم على أمرٍ مباح ، والكلام معهم لحاجة بدون انبساط إليهم ، ومحبة لهم ، فإنَّ هذه الأدلة تدل على إباحة ذلك بدون تحريم ولا كراهة"(1).
ومن القسم الثاني الذي لا يدخل في الموالاة : التَّبَرُّع للكفار بالأموال ولو كثرت.
فقد سئل الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى - : ما حكم التبرع للكفار بالأموال الطائلة ؟
فأجاب : إذا كان لمصلحة المسلمين ما في مانع ،ندفع شرهم حتى الزكاة يعطى فيها المؤلفة قلوبهم ممن يرجى كفُّ شره ، الكافر الذي يرجى كف شره عن المسلمين يعطى من المال من الزكاة التي هي فرض ،فكيف لا يعطى من المال الذي ما هو بزكاة ؛لأجل دفع ضررهم عن المسلمين ،وهذا أيضاً من التي يظنها بعض الجهال من الموالاة ، هذه مداراة لخطرهم وشرهم عن المسلمين(2) انتهى .
__________
(1) انظر: البيان في الرد على مؤلف كتاب ( التبيان في كفر من أعان الأمريكان) للعلامة المحدث أحمد بن يحيى النجمي -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- .
(2) انظر: فتاوى في التكفير والموالاة .(1/269)
وقال الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله تعالى - : عندنا في الشرع ، وعند أئمة التوحيد ، لفظان لهما معنيان يلتبس أحدهما بالآخر عند كثيرين :
الأول : التولي .
الثاني : الموالاة .
التولي : مكفر .
الموالاة غير جائزة
والثالث : الاستعانة بالكافر واستئجاره : جائزة بشروطها .
فهذه ثلاث مسائل :
أما التولي : فهو الذي نزل فيه قول الله جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (1).
وضابط التولي : هو نصرة الكافر على المسلم وقت حرب المسلم والكافر ، قاصداً ظهور الكفار على المسلمين .
فأصل التولي : المحبة التامة ، أو النصرة للكافر على المسلم ، فمن أحب الكافر لدينه ، فهذا قد تولاه تولياً ، وهذا كفر .
وأما موالاة الكفار : فهي مودتهم ، ومحبتهم لدنياهم وتقديمهم ورفعهم وهي فسق وليست كفراً . قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } (2) .
قال أهل العلم : ناداهم باسم الإيمان ، وقد دخل في النداء من ألقى المودة للكفار ، فدل على أن فعله ليس كفراً ، بل ضلال عن سواء السبيل . ؛ وذلك لأنه ألقى المودة وأسر لهم ؛ لأجل الدنيا ، لا شكاً في الدين .
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن صنع ذلك : " ما حملك على ما صنعت " ؟
قال : والله ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله ، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي".
__________
(1) …سورة المائدة(آية/51) .
(2) …(الممتحنة : 1) .(1/270)
فمن هذا يتبين : أن مودة الكافر والميل له لأجل دنياه ليس كفراً إذا كان أصل الإيمان والاطمئنان به حاصلاً لمن كان منه نوع موالاة .
وأما الاستعانة بالكافر أو استئجاره : فهذا قال أهل العلم بجوازه في أحوال مختلفة ، يفتي أهل العلم في كل حال ، وفي كل واقعة بما يرونه يصح أن يفتى به(1) .
وقال أيضاً - حفظه الله تعالى - : عقد الإيمان يقتضي موالاة الإيمان والبراءة من الكفر لقوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } (2) ، وعقد الإيمان يقتضي البراءة من المعبودات والآلهة المختلفة ومن عبادتهم لقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } (3) .
فأساس الإيمان هو الولاء للإيمان والبراءة من الكفر وعبادة غير الله جل وعلا ، ويتضمن ذلك موالاة أهل الإيمان والبراءة من أهل الكفر على اختلافهم مللهم .
__________
(1) …الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن (50-52) .
(2) …(المائدة : 55-56).
(3) …(الزخرف : 26-28).(1/271)
هذه الموالاة منها ما يكون للدنيا ، ومنها ما يكون للدين ، فإذا كانت للدنيا فليست بمخرجة من الدين ، ومما قد يكون في بعض الأنواع من الموالاة في الدنيا: من الإكرام أو البشاشة أو الدعوة أو المخالطة ما قد يكون مأذوناً به ما لم يكن في القلب مودة لهذا الأمر ، من مثل ما يفعله الرجل مع زوجته النصرانية ، ومن مثل ما يفعله الابن مع أبيه غير المسلم ، ونحو ذلك مما فيه إكرام وعمل في الظاهر، ولكن مع عدم المودة الدينية في الباطن ، فإذا كانت الموالاة للدنيا فإنها غير جائزة إلا في ما استثني كما ذكرنا في حال الزوج مع الزوجة أو الابن مع أبيه مما يقتضي معاملة وبراً وسكوناً ونحو ذلك .
أما القسم الثاني : فأن تكون الموالاة للدنيا ولكن ليس لجهة قرابة وإنما لجهة مصلحة بحتة في أمر الدنيا وإن فرط في أمر دينه ، فهذه موالاة غير مكفرة ؛ لأنها في أمر الدنيا ، وهذه التي نزل فيها قول الله جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } (1)، وهنا أثبت أنهم ألقوا بالمودة وناداهم باسم الإيمان ، قال جمع من أهل العلم : مناداة من ألقى المودة باسم الإيمان دل على أن فعله لم يخرجه من اسم الإيمان .
هذا مقتضى استفصال النبي - صلى الله عليه وسلم - من حاطب - رضي الله عنه - حيث قال له في القصة المعروفة:" يا حاطب ما حملك على هذا ؟ - يعني : أن أفشى سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فبين أن حمله عليه الدنيا وليس الدين .
__________
(1) …(الممتحنة : 1).(1/272)
القسم الثالث : موالاة الكافر لدينه ، يواليه ويحبه ويوده وينصره ؛ لأجل ما عليه من الشرك ومن الوثنية ونحو ذلك ، يعني محبة لدينه ، فهذا مثله ، هذا موالاة مكفرة ؛ لأجل ذلك ، والإيمان الكامل ينتفي مع مطلق موالاة غير المؤمن ؛ لأن موالاة غير المؤمن بمودته ومحبته ونحو ذلك منافية للإيمان الواجب لقول الله جل وعلا: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (1).
أما مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين هذا من نواقض الإسلام ، كما هو مقرر في كتب فقه الحنابلة، وذكره العلماء - ومنهم : شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – : في النواقض العشر الناقض الثاني .
وهذا الناقض مبني على أمرين :
الأول : المظاهرة .
والثاني : الإعانة .
قال : (مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين) .
والمظاهرة : أن يتخذ أو أن يجعل طائفة من المسلمين أنفسهم ظهراً للكافرين ، يحملونهم فيما لو أراد طائفة من المؤمنين أن يقعوا فيهم ، يحمونهم ، وينصرونهم ، ويحمون ظهورهم وبيضتهم .
هذا مظاهرة بمعنى أنه صار ظهراً لهم .
قول الشيخ - رحمه الله - :(مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين) مركبة من أمرين :
المظاهرة ، بأن يكون ظهراً لهم ، بأي عمل ، أي يكون ظهراً يدفع عنهم ويقف معهم ويضرب المسلمين ؛ لأجل حماية هؤلاء .
__________
(1) …(المجادلة : 22).(1/273)
وأما الثاني : فإعانة المشرك على المسلم ، فضابطها أن يعني قاصداً ظهور الكفر على الإسلام ؛ لأن مطلق الإعانة غير مكفرة ؛ لأن حاطب -- رضي الله عنه -- حصل منه إعانة لهم ، إعانة المشركين على الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- بنوع من العمل ، والإعانة بكتابة سر رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- والمسير إليهم لكن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- استفصل منه ، فدل على أن الإعانة تحتاج إلى استفصال ، والله جل وعلا قال في مطلق العمل هذا { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } (1) لكن ليس بمكفر إلا بقصد ، فلما أجاب حاطب بأنه لم يكن قصده ظهور الكفر على الإسلام قال : يا رسول الله ، ما فعلت هذا رغبة في الكفر بعد الإسلام ، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا له يد يدفع بها عن أهله وماله ، وليس لي يد في مكة ، فأردت أن يكون لي بذلك يد ، فقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- :" إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال :" اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وحاطب -- رضي الله عنه -- فعل أمرين :
الأمر الأول : ما استفصل فيه وهي مسألة : هل فعله قاصداً ظهور الكفر على الإسلام ، ومحبة للكفر على الإسلام ؟ لو فعل ذلك لكان مكفراً ولم يكن حضوره لأهل بدر غافر لذنبه ؛ لأنه يكون خارجاً عن أمر الدين .
الأمر الثاني : أنه حصل منه نوع إعانة لهم ، وهذا الفعل فيه ضلال وذنب والله جل وعلا قال: { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } إلى قوله: { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } إلى قوله: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } (2) أي في إبراهيم ومن معه.
__________
(1) …(الممتحنة : 1).
(2) …(الممتحنة :1-6).(1/274)
وهذا يدل على أن الاستفصال في هذه المسألة ظاهر ، فالإعانة فيها استفصال ، وأما المظاهرة بأن يكون ظهراً لهم ويدفع عنهم ويدرأ عنهم ما يأتيهم ويدخل معهم ضد المسلمين في حال حربهم لهم هذا من نواقض الإسلام التي بينها أهل العلم(1) .
الشبهة الرابعة
ما زعمه المتطرفون من أن الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- تحارب الدعاة وتضيق عليهم ، وهذا لأنها تحارب الإسلام!!
وهذا من أوهى الشبه وأوضحها بطلاناً ..
وبيان فساد هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول : أن الواقع المشاهد الملموس يكذب هذه الفرية المزعومة فالمملكة العربية السعودية تحث على العلم ونشره وتحارب الجهل (2) .
الوجه الثاني : أن كل مسلم في هذه البلاد يعلم ما تقوم به وزارة الأوقاف والدعوة والإرشاد والجامعة الإسلامية وجامعة الإمام محمد بن سعود وغيرها من المؤسسات العلمية والدعوية والخيرية من إرسال الدعاة في داخل البلاد وإلى خارجها وإقامة الدروس والندوات والكلمات .
وكما يعلم كل مسلم دور رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه البلاد .
الوجه الثالث : أن أهل العلم بينوا أن هذه الدولة تحترم العلماء ولا تحاربهم .
فقد سئل الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله تعالى - : ما نصيحتكم لمن يقول إن هذه الدولة تحارب الدين وتضيق على الدعاة ؟
__________
(1) …فتاوى الأئمة في النوازل المدلهمة (180-185) وانظر: المدارج للشيخ أحمد عمر با زمول.
(2) راجع: المبحثين الثالث والرابع.(1/275)
فأجاب - حفظه الله تعالى - : الدولة السعودية منذ نشأت وهي تناصر الدين وأهله وما قامت إلا على هذا الأساس وما تبذله الآن من مناصرة المسلمين في كل مكان بالمساعدات المالية وبناء المراكز الإسلامية والمساجد وإرسال الدعاة وطبع الكتب وعلى رأسها القرآن الكريم وفتح المعاهد العلمية والكليات الشرعية وتحكيمها للشريعة الإسلامية وجعل جهة مستقلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل بلد كل ذلك دليل واضح على مناصرتها للإسلام وأهله وشجى في حلوق أهل النفاق وأهل الشر والشقاق والله ناصر دينه ولو كره المشركون والمغرضون .
ولا نقول:إن هذه الدولة كاملة من كل وجه وليس لها أخطاء فالأخطاء حاصلة من كل أحد ونسأل الله أن يعينها على إصلاح الأخطاء .ولو نظر هذا القائل في نفسه لوجد عنده من الأخطاء ما يقصر لسانه عن الكلام في غيره ويخجله من النظر إلى الناس(1).
__________
(1) …الأجوبة المفيدة (117) .
قال الحارثي معلقاً على كلام الشيخ الفوزان السابق كما في حاشيته على الأجوبة المفيدة (117) :ومن نعم الله علينا: أنه لا يوجد ضريح يعبد ولا يقصد من دون الله كما هو الحال في غير هذه البلاد السعودية. كما أن هذه الدولة قامت بفتح مراكز للدعوة والإرشاد على طول البلاد وعرضها وفتح حلقات لتحفيظ القرآن الكريم في بيوت الله فلا ينبغي أن تغمر هذه الجهود ونلتمس العثرات .
وأما وصف هذه الدولة بأنها تضيق على الدعاة ؛ فنعم : هي تضيق على دعاة الضلالة والمخالفين لمنهج السلف الصالح فجزاها الله عنا وعن الإسلام كل خير . وإنه من واجب السلطان : أن لا يسمح لكل أحد أن "يهرف بما لا يعرف" وإلا لفسدت العقائد باختلاف المناهج والمشارب.فهؤلاء دعاة الصوفية وهؤلاء دعاة الروافض وهؤلاء دعاة التبليغ وهؤلاء دعاة الإخوان المسلمون وهؤلاء دعاة السياسة وهؤلاء دعاة التكفير وغيرهم وغيرهم.فلو سمح لهؤلاء وهؤلاء فماذا عسى أن تكون البلاد ؟ نسأل الله السلامة والعافية .(1/276)
وقال الشيخ مقبل الوادعي – رحمه الله تعالى - في معرض كلامه عن محاسن الدولة السعودية : من ذلك - أيضاً - تكريمهم للعلماء فقد أوصاهم والدهم عبد العزيز - رحمه الله تعالى - بذلك فهم يجلون العلماء ويقدرونهم غاية التقدير ولكن هناك علماء سوء يتكلمون في الحكومة السعودية وربما يكفرونها . فينبغي التمييز بين أهل العلم : من كان على عقيدتهم أي على عقيدة التوحيد فينبغي أن يكرم ، ومن كان على العقائد البدعية أو الحزبية هؤلاء الحزبيون شرٌ، هم يهيئون أنفسهم للوثوب على الدولة متى تمكنوا ؛ فينبغي أن لا يمكنوا من شيء وألا يساعدوا على باطلهم ، اللهم إلا إذا كان من باب التأليف إذا علم أنهم سيرجعون . إنَّ إكرامهم لأهل العلم يعتبر منقبة لهم وإحساناً إلى دولتهم وإلى والدهم تنفيذاً لوصيته - رحمه الله تعالى - فجزاهم الله خيراً - (1).
الشبهة الخامسة
زعم الخوارج والمتطرفون أن خادم الحرمين الشريفين لبس الصليب، ومن لبس الصليب فهو كافر!!
وهذه الشبهة طالما استطال بها الخوارج على عامة الناس وقليلي العلم والبصيرة، ولكن هذه الشبهة واهية لا أساس لها من الصحة ولا وجه لها.
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: أن الملك فهد لم يلبس صليباً وإنما أعطي وساماً من المملكة المتحدة ، فلما لبسه تبين أن هذا الوسام يحمل صليباً حتى أنَّنَا لم نر خادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- لبسه بعد تلك المرة.
وقد ذكر بعض المشايخ أنَّه تكلَّم مع خادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- في هذا الأمر فبيَّن له خادم الحرمين الشريفين أنه لما لبس تلك القلادة لم ينتبه إلى الصليب حتى جاءه الأمير سعود الفيصل -وزير الخارجية- وهمس في أذنه بأنَّ القلادة فيها صليب ؛ فخلعها.
الوجه الثاني: أنَّ لبس الصليب له حالتان :
__________
(1) …(براءة الذمة) كلمة كانت يوم الخميس 15/1/1422هـ . وهي مشاهداته في السعودية .(1/277)
الحال الأولى: أن يلبسه راضياً به، راضياً عما عليه عبَّاد الصليب فهو كافر .
الحال الثانية: أن لا يكون راضياً بدينهم وإنما لبسه عبثاً أو عن غير قصد فهذا محرم لا يجوز ويؤمر من فعل ذلك بخلعه.
ورد في فتاوى اللجنة الدائمة هذا السؤال: "اختلفنا في المسلم الذي يلبس الصليب شعار النصارى، فبعضنا حكم بكفره بدون مناقشة، والبعض الأخر قال: لا نحكم بكفره حتى نناقشه ونبين له تحريم ذلك وأنه شعار النصارى فإن أصرَّ على حمله حكمنا بكفره"
فأجابت اللجنة الدائمة: "التفصيل في هذا الأمر وأمثاله هو الواجب ؛ فإذا بُيِّنَ له حكم لبس الصليب وأنه شعار النصارى، ودليل على أن لابسه راض ٍ بانتسابه إليهم والرضا بما هم عليه، وأصرّ على ذلك حكم بكفره ؛ لقوله -عزَّ وجلَّ- : {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(1)، والظلم إذا أطلق يراد به: الشرك الأكبر.
وفيه أيضاً إظهار لموافقة النصارى على ما زعموه من قتل عيسى عليه الصلاة والسلام، واللهُ سبحانه قد نفى ذلك وأبطله في كتابه الكريم حيث قال -عزَّ وجلَّ- : {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} الآية(2)
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو عضو
عبد العزيز بن باز عبد الرزاق عفيفي عبد الله بن غديان عبد الله بن قعود"(3).
الوجه الثالث: أن العلماء تكلموا عن حكم من يصلي بثوب مصلَّب ، أو ساعة فيها صليب ، أو على فراش فيه صليب ولم يكفروه بذلك.
أما عن الصلاة في الثوب المصلَّب:
قال البخاري في كتاب الصلاة من صحيحه(1/123): " بابٌ: إن صلى في ثوب ٍ مُصلَّب، أو تصاوير ؛ هل تفسد صلاته ؟ وما ينهى عن ذلك"
__________
(1) سورة المائدة(آية/51).
(2) سورة النساء(آية/157).
(3) فتاوى اللجنة الدائمة(2/119).(1/278)
ثم روى حديث أنس -- رضي الله عنه --: كان قِرامٌ(1) لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((أمِيطي(2) عنا قِرامَك هذا ، فإنه لا تزال تصاويره تَعْرِضُ لي في صلاتي)) .
فالإمام البخاري لم يورد حديثاً حول الصلاة في الثوب المصلَّب وإنما أورد حديثاً حول الصلاة أمام ستر فيه صور ؛ قال الحافظ ابن حجر : "فبإلحاق المصلَّب بالمصوَّر لاشتراكهما في أن كلاًّ منهما قد عُبِدَ من دون الله تعالى"
ورجح ابن حجر عدم فساد الصلاة بذلك.
وقال ابن قدامة : "قال أحمد: لا تصل إلى صورة منصوبة في وجهك . وذلك لأن الصورةَ تعبد من دون الله ، وقد روي عن عائشة قالت: كان لنا ثوب فيه تصاوير فجعلته بين يدي رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وهو يصلي فنهاني، أو قالت كره ذلك . رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده . ولأنَّ التصاوير تشغل الناظر إليها إليها وتذهله عن صلاته"(3) .
فلو كان مجرد لبس الصليب يخرج لابسه من الإسلام لما كان خلاف في صحة صلاته إذ لا تقبل صلاةً من كافرٍ.
وأما لبس الساعة التي فيها الصليب:
ورد في فتاوى اللجنة الدائمة هذا السؤال: "ما قولكم عن الساعة (أم صليب) هل يجوز أن نصلي بها أم لا؟".
فأجابت اللجنة الدائمة: " لا يجوز لبس الساعة أُمِّ صليب، لا في الصلاة ولا غيرها حتى يُزال الصليب بِحَكٍّ أو بوية تستره، لكن لو صلى وهي عليه فصلاته صحيحة، والواجب عليه البدار بإزالة الصليب؛ لأنه من شعار النصارى، ولا يجوز للمسلم أن يتشبه بهم.
__________
(1) قِرام: القِرام : هو الستر الرقيق وقيل: الستر الصفيق من صوف ذي ألوان . انظر: الغريب لابن قتيبة(2/453) ، والغريب لأبي عبيد(1/217) ، والنهاية في غريب الحديث والأثر(4/49) .
(2) أميطي: أي ؛ أزيلي وأبعدي .
(3) المغني لابن قدامة(3/88) تحقيق: د.عبد الله التركي، ود.عبد الفتاح محمد الحلو. ط4/ دار عالم الكتب 1419هـ-1999م.(1/279)
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو
عبد العزيز بن باز عبد الرزاق عفيفي عبد الله بن غديان"(1)
وأما الصلاة فوق الحصير الذي رسم فوقه صليب:
ورد في فتاوى اللجنة الدائمة هذا السؤال: "هل يمكن للمسلم أن يصلي فوق الحصير الذي رسم فوقه صليب؟"
فأجابت اللجنة الدائمة: "إذا كان السؤال عن حكم صلاة وقعت فوق الحصير الذي رسم فوقه صليب فالصلاة صحيحة إن شاء الله مع الكراهية ، وإذا كان السؤال عن حكمها مستقبلا ً فعليه أن يزيل الصليب من الحصير وذلك بطمسه بما يخفي معالمه، أو بوضع رقعة ثابتة عليه، أو يبدَّل هذا الحصير بحصير ليس فيه صليب؛ لما صحَّ عن عائشة -رضي اللهُ عنها- : كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا يدع شيئاً فيه تصليب إلا قضبه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس نائب رئيس اللجنة عضو عضو
عبد العزيز بن باز عبد الرزاق عفيفي عبد الله بن غديان عبد الله بن قعود"(2).
وفي فتوى أخرى للجنة الدائمة : "وأما الفرش التي يكون فيها صورة الصليب بما يخفي صورته من صبغ أو خياطة أو غير ذلك"(3).
فتبين بِما سبق أن لبس الصليب محرَّم ، ومن لبسه فلا يجوز تكفيره إلا إذا تبين أنه راضٍ بدين النصارى ، ومقر لهم على عقيدتهم.
فمن يكفر من لبس الصليب مطلقاً فهو خارجي ضال.
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة(6/183).
(2) فتاوى اللجنة الدائمة(6/183-184).
(3) فتاوى اللجنة الدائمة(6/185).(1/280)
والواجب على المسلم أن يحسِّن ظنَّه في ولي الأمر ، لا سيَّما إذا كان ولي الأمر معروفاً بنصرته لدين الإسلام ، وحرصه على أمن بلاد المسلمين والدفاع عنه كما هو حال خادم الحرمين الشريفين -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- (1).
الشبهة السادسة
زعم المتطرفون والخوارج أن الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- عضو في هيئة الأم المتحدة، وتتحاكم إليها ، وكذلك هي عضو في الجامعة العربية وتتحاكم إليها وهي هيئات تحكم بالقوانين الشرعية فالانضمام إليها والتَّحاكم إليها من التَّحاكم إلى الطاغوت والإيمان به. فكفروها بذلك.
قد حوت هذه الشبهة مغالطات وتلبيسات وبيان زيف هذه الشبهة وبطلانها بما يلي:
أولاً: الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- دولةٌ إسلامية ، تحكم بالكتاب والسنة، ولا تحتكم إلى غير الشريعة كما سبق بيان ذلك.
ثانياً: الدخول في معاهدات ومعاقدات ومواثيق مع الدول الكافرة أمر جائز ومشروع ، ومما اتفق عليه العلماء .
__________
(1) وقد سبق ذكر بعض أقوال خادم الحرمين الشريفين الدالة على فضله في المبحث الثاني/الوجه السادس؛ فمما قال -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- في كلمة وجهها من جوار الكعبة المشرفة للمواطنين بمناسبة عيد الفطر المبارك : " أيها الإخوة في الله لا بد لنا من في هذه المناسبة الإسلامية العظيمة من وقفة صادقة نراجع فيها أعمالنا ، ونحاسب فيها أنفسنا ، ونتبصر فيها شؤون ديننا ودنيانا فكلنا يعلم أن الأمة الإسلامية تواجه اليوم أعنف التحديات من أعدائها وتمر في مرحلة دقيقة من تاريخها ، ولا نرى سبيلاً يوصلنا إلى تحقيق أمانينا والتغلب على كيد أعدائنا إلا سبيل العودة إلى الله بالتمسك بكتابه وهدي نبيه".(1/281)
قال النَّبِيَّ -- صلى الله عليه وسلم -- : ((شهدت مع عمومتي غلاماً حلف المطيبين، وما أحبُّ أنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ وإنِّي أنكثه)) (1).
فهذا حلف في الجاهلية ، والنبي -- صلى الله عليه وسلم -- بيَّن أنه لو يدعى لمثله في الإسلام لأجاب، فهذا أصل في المعاهدات والمواثيق بين الأمم إذا لم تكن تلك المواثيق مخالفة للشرع.
وكذلك قد صالح النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قريشاً زمن الحديبية وكتبوا ميثاقاً للصلح تضمن بنوداً شديدة على المسلمين إلا أنها كانت فتحاً كما سماها الله .
فقد يكون في بعض المواثيق مع الكفار إجحاف وظلم للمسلمين ، ولكن يرى ولاة أمور المسلمين أن الدخول في تلك المعاهدات يكف عنهم شراً ، أو يخففه عنهم فلهم ذلك .
وعلى جواز الأحلاف والمواثيق مع الكفار بما لا يخالف الشرع ، وبما يدفع عن المسلمين الشر والبلاء –وإن كان في ظاهره قد يظنه قاصروا النظر أنه مخالف للشرع- جرى عمل المسلمين قديماً وحديثاً في جميع دول العالم.
ثالثاً: بعض شروط المعاهدات قد تكون في الظاهر مخالفة للشرع ، ولكن بالنظر إلى أصول الشريعة ، والقواعد الفقهية تكون تلك الأمور موافقة للشرع ليس مخالفة له ، وإنما يلتبس الأمر على ضعاف العقول خفافيش البصائر.
__________
(1) رواه الإمام أحمد(1/193) ، والبخاري في الأدب المفرد(ص/199رقم567) ، وأبو يعلى في مسنده(2/156-157، رقم844-846) ، والطحاوي في شرح مشكل الآثار(15/213 رقم5963)، وابن حبان في صحيحه(10/216رقم4373)، والحاكم في المستدرك(2/219-220)، والبيهقي(6/366) وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن عوف وسنده صحيح.(1/282)
فالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- لَمَّا تصالح مع قريش عام الحديبية كان في وثيقة الصلح بينه -- صلى الله عليه وسلم -- وبين المشركين: "وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلماً، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو، يرسُفُ في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه، أن تردَّهُ إلَيَّ.
فقال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((إنا لم نقض الكتاب بعدُ)) قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً.
قال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((فأجِزْهُ لِيْ)) قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: ((بلى فافعل)) قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بل قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أيْ معشر المسلمين أُرَدُّ إلى المشركين، وقد جئت مسلماً!! ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله)) (1).
وفي رواية: " لَمَّا كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي -- صلى الله عليه وسلم --: أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على ذلك، فردَّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً"(2) .
فهذا عقد وقانون بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وبين المشركين يتضمن تسليم الموحدين للمشركين إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين أو درء مفسدة عن المسلمين.
ومن القواعد الشرعية المرعية في مثل هذه المسائل:
__________
(1) صحيح البخاري(2/974رقم2581-البغا).
(2) صحيح البخاري(2/976رقم2564-البغا).(1/283)
1- قاعدة: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما" أو "احتمال أخف المفسدتين لأجل أعظمهما" وهي قاعدة متفرعة عن القاعدة الكلية : "الضرر يزال" ، وهي من القواعد المجمع عليها(1).
مثال القاعدة: إذا عطش مسلم ولم يجد ماءً ولا شراباً إلا الخمر جاز له شربها ، لأن مفسدة مفارقته للحياة أعظم من مفسدة شرب الخمر ، فيرتكب أخف المفسدتين لدفع أعظمهما ، وهو بذلك مأجور غير مأزور ، ومطبق للشريعة.
2- قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"(2). وقاعدة: "إذا تزاحمت المصالح قدم الأعلى منها"(3)
3- قاعدة: "المشقة تجلب التيسير" وقاعدة: "الضرر يزال" وما تفرع عنها كقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها" .
__________
(1) انظر شرح هذه القاعدة وتفصيلاتها في: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام(1/79) ، الأشباه والنظائر لابن الوكيل(2/50) ، والأشباه والنظائر للسيوطي(ص/87) ، والأشباه والنظائر لابن نجيم(ص/89) ، والقواعد للزركشي(1/349)، والموافقات للشاطبي(2/30)، شرح القواعد الفقهية لمصطفى الزرقا(ص/199-202).
(2) انظر شرح هذه القاعدة وتفصيلاتها في: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام(1/4) ، والأشباه والنظائر للسيوطي(ص/87) ، قواعد الفقه للبركتي(ص/81) ، والموافقات للشاطبي(1/151)، المدخل لابن بدران(ص/298)، شرح القواعد الفقهية لمصطفى الزرقا(ص/205).
(3) الاستقامة لشيخ الإسلام(2/216)، ومجموع الفتاوى(28/129)، والقواعد والأصول الجامعة للعلامة السعدي(ص/63-قاعدة33).(1/284)
والأمور المبيحة للمحذور سبعة : السفر ، والمرض، والإكراه، والنسيان، والجهل، وعموم البلوى، والنقص(1).
4- الحاجة العامة تُنَزَّل مَنْزلة الضرورة الخاصة (2).
5- قاعدة: "ما ثبت على خلاف الظاهر"(3).
6- قاعدة: "التصرف على الرعية منوط بالمصلحة"(4).
وغيرها من القواعد التي يراعيها ولي الأمر عند دخوله في معاهدات ومواثيق دولية.
رابعاً: إن هيئة الأمم المتحدة قامت لتحقيق مقاصد وهي –طبقاً لميثاقها-:
1- صون السلم والأمن الدوليين.. 2- تنمية العلاقات الودية بين الأمم..
3-تحقيق التعاون على حل المشاكل الدولية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان..
4- جعل هذه الهيئة مركزاً لتنسيق أعمال الأمم..
وهذه المقاصد لا تخالف الشريعة .
وأما بعض الأجهزة المتفرعة عن هيئة الأمم المتحدة وما تحتوي عليه من قوانين وضعية فإن المملكة العربية السعودية تتعامل معها بحذر بالغ ووفق الشريعة الإسلامية ، وبما لا يتعارض مع نظام الحكم فيها القائم على الكتاب والسنة على منهج السلف.
__________
(1) انظر شرح هذه القاعدة وتفصيلاتها في: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام(2/6) ، الأشباه والنظائر لابن الوكيل(2/353) ، والأشباه والنظائر للسيوطي(ص/80-84) ، والأشباه والنظائر لابن نجيم(ص/85) ، والقواعد للزركشي(2/317)، والموافقات للشاطبي(2/8)، شرح القواعد الفقهية لمصطفى الزرقا(ص/157-196).
(2) انظر شرح هذه القاعدة وتفصيلاتها في: الأشباه والنظائر لابن الوكيل(2/370) ، والأشباه والنظائر للسيوطي(ص/88) ، والقواعد للزركشي(2/24).
(3) انظر شرح هذه القاعدة وتفصيلاتها في: قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام(2/103)، والأشباه والنظائر لابن الوكيل(2/404).
(4) انظر شرح هذه القاعدة وتفصيلاتها في: شرح القواعد الفقهية لمصطفى الزرقا(ص/309).(1/285)
فظهر أن تعامل الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- مع هيئة الأمم تعامل شرعي صحيح ، وأن من يكفر هذه البلاد بمثل هذا الأمر فهو خارجي متطرف ، لا يفهم الشريعة الإسلامية ، ولا مقاصدها.
الشبهة السابعة
زعم المتطرفون والخوارج أن الدولة السعودية عندها استهزاء بالدين ورضى بالكفر! بسبب ما ينشر في الصحافة ووسائل الإعلام
والجواب عن هذه الشبهة الواهية بما يلي:
أولاً: الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- دولةٌ إسلامية ، تحكم بالكتاب والسنة، وقوانينها المتعلقة بالإعلام وجميع الوزارات موافقة للشريعة الإسلامية.
ثانياً: إن ما يكتب في الصحف والمجلات، أو يذاع في المذياع أو في التلفاز فإنه محكوم بقوانين المملكة العربية السعودية ، وثَمَّة نظم وضوابط للإعلاميين، فمن صدر منه ما يوجب فسقاً أو كفراً فهو المسؤول عما قال وفعل ، وهو عرضة للمحاكمة إن وصل أمره إلى المحكمة الشرعية.
ثالثاً: إن المملكة العربية السعودية -حرسَها اللهُ- قد أوكلت أمر مراقبة وسائل الإعلام إلى موظفين ومسؤولين فواجبهم إبلاغ الجهات المختصة عند وقوع أي تجاوز من أي كاتب.
وهنا يأتي واجب القراء والمستمعين والمشاهدين في النصح والإرشاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعاً: لو أنَّ أحد الكتاب حصلت منه تجاوزات ، وحصل من الحكومة تفريط في الأخذ على يد ذاك الكاتب، وتساهل المسؤولون معه فهذا لا يخرج عن كونه معصية لأن الإنكار باليد واللسان من الواجبات على الكفاية ، فإذا لم ينكر المنكر وقع الإثم على من استطاع إنكاره فلم يفعل.
وسئل معالي الشيخ صالح الفوزان -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : هل يكفر من زين الفواحش والرذائل للناس ؟(1/286)
فأجاب -حفظَهُ اللهُ ورعاهُ- : "الذين يدعون إلى الكفر يكفرون أما إذا كانوا يدعون الناس إلى المعاصي التي هي دون الكفر والشرك فهؤلاء لا يكفرون ولكن يأثمون بهذا قال - صلى الله عليه وسلم - :"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً"(1). قال تعالى { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (2)"(3) .
والذي يزعم أن التفريط في محاسبة من يحصل منه استهزاء بالدين أو تكلم بكلام كفري يدل على الرضى بذلك الكفر والاستهزاء فقد دخلت عليه شبهة الخوارج، والتي كفروا بها المسلمين واستحلوا دماءهم.
فزعم الخوارج أن الكاذب –مثلاً- راضٍ بالكذب ، والرضى بالكذب يدل على استحلاله، واستحلال الكذب استحلال لِما حرم الله فهو كفر!!
هكذا يتوصل الخوارج إلى تكفير المسلمين بوقوعهم في المعاصي.
وكذلك من فرط في إنكار المنكر أو لم يقم الحد على المرتد فإنه مرتكب لمعصية، لأن إنكار المنكر واجب ، وإقامة الحد واجب.
والمشكلة في أنَّ المتطرفين والخوارج يجعلون من يتساهل مع المرتد في عدم إقامة الحد عليه بمَنْزلة المرتد ، فيسوون بين العاصي والكافر!!
فالخلاصة: أن الواقع أن بعض الكتاب في الصحف والمجلات تصدر منهم بعض الأمور المنكرة وبعضها قد يصل إلى الكفر ويحصل تساهل معهم فلا يحاسبون وفي غيهم يستمرون، فتقع المسؤولية ويقع الوزر على من استأمنهم ولي الأمر على الصحافة والإعلام ، وكذلك على من علم بالمنكر فلم ينكره إذا لم ينكره غيره.
والله أعلم.
الشبهة الثامنة
__________
(1) …أخرجه مسلم في الصحيح (4/2060رقم2674) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- .
(2) …سورة النحل(آية/25) .
(3) …الأجوبة المفيدة (ص/126) .(1/287)
أن المنكرات والمعاصي منتشرة في المجتمع وهذا يدل على استحلالها!!
يزعم بعض المتطرفون والخوارج أن وجود المعاصي والكبائر دليل على الرضى بها ، والرضى بها يدل على الاستحلال وهو كفر.
وهذا القياس فاسد وباطل ، وهذا هو مسلك الخوارج في تكفيرهم مرتكب الكبيرة ..
وبيان فساد هذه الشبهة من وجوه منها:
الوجه الأول : أن المعاصي ثلاثة أنواع :
الأول :الكفر والشرك .
والثاني :البدع .
والثالث :الذنوب كبائر وصغائر ، وأشدها وأعظمها الكفر والشرك ، ويتلوها البدع والأهواء ، ويتلوها الذنوب كبائر ثم صغائر .
قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - : " لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء " (1).
قال المروذي : قلت لأبي عبد الله من مات على الإسلام والسنة مات على خير؟ فقال : اسكت . بل مات على الخير كله(2) اهـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع ؛ فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم وقال في الذي يشرب الخمر : ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله))(3) ، وقال في ذي الخويصرة: ((يخرج من ضئضىء هذا أقوام يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين -وفي رواية : من الإسلام- كما يمرق السهم من الرمية يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنَّ في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة))(4).
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي (182) وأبو نعيم في الحلية (9/111) وسنده صحيح.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء (11/296) .
(3) …أخرجه البخاري في صحيحه(8/327رقم6780) من حديث عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- .
(4) أخرجه البخاري في الصحيح (4/453رقم3344) ، ومسلم في الصحيح (2/741 رقم1064) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - .(1/288)
ثم إن أهل المعاصي ذنوبهم : فعل بعض ما نهوا عنه من سرقة أو زنا أو شرب خمر أو أكل مال بالباطل
وأهل البدع ذنوبهم ترك ما أمروا به من اتباع السنة وجماعة المؤمنين"(1).
وسئل الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله تعالى - : أيهما أشد عذاباً : العصاة أم المبتدعة ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - :
المبتدعة أشد؛ لأن البدعة أشد من المعصية والبدعة أحب إلى الشيطان من المعصية؛ لأن العاصي يتوب أما المبتدع فقليلاً ما يتوب؛ لأنه يظن أنه على حق بخلاف العاصي فإنه يعلم أنه عاص وأنه مرتكب لمعصية ، أما المبتدع فإنه يرى أنه مطيع وأنه على طاعة ؛ فلذلك صارت البدعة – والعياذ بالله - شراً من المعصية ولذلك يحذر السلف من مجالسة المبتدعة ؛ لأنهم يؤثرون على من جالسهم وخطرهم شديد .
لا شك أن البدعة شر من المعصية وخطر المبتدع أشد على الناس من خطر العاصي ولهذا قال السلف : اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة(2) اهـ .
وهذه الدولة - بحمد الله - تقيم التوحيد وتدعو إليه وتحارب الشرك وتحذر منه،كما أنها تحي السنة وتنشرها بين الناس ،وتخمد البدعة وأهلها .
الوجه الثاني: أن الدَّولة السعودية -حرسَها اللهُ- قامت على الكتاب والسنة ، وهي مطبقة للشرع ، ولا يعني أنها معصومة، بل هناك ذنوب ومعاصي وهذا تقصير لا يستوجب الكفر ، ومن يكفر بها فقد وقع في مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي .
قال العلامة عبد العزيز ابن باز - رحمه الله تعالى - : "هذه الدولة بحمد الله لم يصدر منها ما يوجب الخروج عليها وإنما الذي يستبيح الخروج على الدولة بالمعاصي هم الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب ويقاتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان"(3).
وسئل العلامة محمد ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - : "جرى بيني وبين أحد الإخوة المتحمسين كلام ويستعرض المنكرات !
__________
(1) المجموع (20/103) .
(2) الأجوبة المفيدة(ص/8) .
(3) مجموع الفتاوى والمقالات (4/89-97) .(1/289)
فقلت له : إننا - ولله الحمد - أحسن من غيرنا . فقال : ليس هذا صحيح ، بل نحن أسوأ من غيرنا !! فما تعليق فضيلتكم على ذلك ؟"
فأجاب - رحمه الله تعالى - :
"الظاهر أن هذا ما فقه الواقع إلى الآن ، هذا ممن فاته فقه الواقع .
لا نستطيع أن نعين أو نحدد دولة من الدول ونقول : اخرج إليها وانظر لكن هو لو أصغى بنصف أذنه ليسمع ما يكون في الدول الإسلامية لاعترف اعترافاً لا ينكر فيه أن بلادنا - ولله الحمد - خير بلاد المسلمين على ما فينا من نقص في رعيتنا ورعاتنا .
هل رعيتنا تمشي على صواب في كل شيء أو هم كلهم يمشون على صواب ؟
ليس الكل يمشي على صواب ، وليس من مشى على صواب يمشي في كل شيء. عندنا خلل كثير في رعيتنا : الكذب موجود ، الغش موجود ، والحسد موجود، والغيبة موجودة وعدم النصح للولاة موجود هذا خلل .
والأمة إذا ظلمت سلط عليها الولاة قال تعالى { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون َ } (1) .
لماذا نريد من ولاتنا أن يستقيموا على ما كان عليه أبو بكر وعمر ! ونحن على هذا الوضع؟
مَنْ أراد ذلك فإن هذا في الحقيقة لم يعرف حكمة الله وسنة الله { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
نحن شعبنا يقصر لا شك ، ولاتنا عندهم تقصير أيضاً ما هم كاملين عندهم نقص كثير والشعب عندهم نقص كثير .
فنحن لا شك أن عندنا نقصاً وتقصيراً وتفريطاً لا رعيتنا ولا رعاتنا ولكن إذا نظرنا - ولله الحمد - إلى من حولنا وجدنا أن بيننا وبينهم فرقاً كبيراً .
وليت هذا القائل يخرج -ولا يبعد- وينظر!
__________
(1) سورة الأنعام(آية/129)(1/290)
ألم تعلموا أنه في بعض البلاد الإسلامية من يعلن شرب الخمر في الأسواق ولا يقال لأحد شيء ، لا تقام الحدود ولا تؤخذ الحقوق ، ومن أراد الاطلاع فليتقدم قليلاً يسافر وينظر لكن لا يعني هذا أني أقول هذا كإبرة مخدرة ، نحن نريد حالاً أحسن من هذا ولا نريد أن نتردى ، كل منكم في نقص بالنسبة للحكام أو بالنسبة للرعية ، نريد أن نتقدم ؛ لأن هذه البلاد هي وجهة البلاد الإسلامية! أين يتوجه الناس في صلاتهم؟ إلى الكعبة في بلدهم في حياتهم إلى الكعبة ، بعد مماتهم إلى الكعبة !هذه البلاد هي أم الإسلام ومكة هي أم القرى .
وخلاصة جوابي : أن هذا الأخ قد ظلم نفسه فيما قال عن هذه البلاد وقد اعتدى على أهل هذه البلاد وعلى البلاد أيضاً ، وأرى أنَّ عذره في ذلك أنه لم يفقه الواقع في البلاد الأخرى ولو فقه لعرف الفرق بين بلادنا والبلاد الأخرى.
فأنا لا أقول : أنه ينبغي أن نقتصر على ما نحن عليه ! لا نقتصر على هذا عندنا ظلم كثير، بل الواجب علينا أن نتقدم إلى ما كان عليه سلفنا الصالح" (1) .
وسئل الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله تعالى - : ما هو ردكم على من يقول : أكثر الشر في بلد التوحيد مصدره الحكومة وأن الولاة ليسوا بأئمة سلفيين ؟
فأجاب - رحمه الله تعالى - : ردنا على هذا كالذين قالوا للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- إنه مجنون وشاعر ، وكما يقال : لا يضر السحاب نبح الكلاب ، لا يوجد - الحمد لله - مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة ، وهي لا تخلو من الشر كسائر بلاد العالم ، بل حتى المدينة النبوية في عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وجد من بعض الناس شر ، لقد حصلت السرقة ، وحصل الزنا(2) .
__________
(1) انظر: "الوقيعة في أعراض العلماء والأمراء" .
(2) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية (ص/58) للحصين .(1/291)
الوجه الثالث: إذا تقرر وظهر أن الدولة السعودية -حرسَها اللهُ- لم تقع في الكفر، وإنما وقعت في بعض المعاصي والذنوب ، فلنعلم أنه من الخطأ القول بأن هذه الدولة فاسقة لا خير فيها فضلاً عن تكفيرها ؛ فلا يجوز أن ننظر بعين واحدة للدولة السعودية .
بل الواجب النظر في جميع حالها .
فبعض الناس لا ينظرون إلا إلى المساوئ والثغرات مع التضخيم والتفخيم والكذب والتهويل وسوء الظن .
وكذلك فيمن يدافع عنها لابد من العدل .
فالسلفيون أهل السنة كالشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين وغيرهم لما يثنون على السعودية يعلمون ما عندها من أخطاء ولكن يحكمون بالعدل وينظرون النظرة الشرعية الواقعية .
فنحن لما ندافع عن السعودية لا ندافع عن أخطائها ، ولا نبرر ما تقع فيه من الهفوات ، ولكن ندافع عنهم في وجه من يظلمهم ويتجنى عليهم ويكفرهم ، ويدعو للإفساد والتخريب بشبه أوهى من بيت العنكبوت.
ومن أفعالهم الخيِّرة:
أولاً : رعاية وتوسعة الحرمين الشريفين .
ثانياً : بناء المساجد في داخل المملكة وخارجها .
ثالثاً : الاهتمام بأمر الحج وتسهيل سبله للحجاج .
رابعاً : طباعة المصحف الشريف وتوزيعه داخل المملكة وخارجها(1) .
خامساً : إرسال الدعاة وإقامة الدروس العلمية داخل المملكة وخارجها .
سادساً : توزيع الكتب الشرعية على طلاب العلم داخل المملكة وخارجها .
سابعاً : بناء المستشفيات داخل وخارج المملكة .
ثامناً : توزيع الأطعمة والأشربة وما يحتاج إليه المساكين .
تاسعاً : إعانة المسنين والمعاقين .
عاشراً : كفالة الأيتام والأرامل داخل المملكة وخارجها .
والله عز وجل يقول في كتابه الكريم { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } (2) .…
__________
(1) وانظر ما سبق ذكره في المبحث الرابع.
(2) سورة الأنعام(آية/160) .(1/292)
أفلا تذهب الحسنات السيئات ،والله عز وجل يقول { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (1).
وقد وقع حوار جميل في هذا المعنى بين معاوية والمسور - رضي الله عنهما - :
فعن المسور بن مخرمة -- رضي الله عنه -- أنه قدم وافداً على معاوية بن أبي سفيان -- رضي الله عنه -- فقضى حاجته ثم دعاه فأخلاه .
فقال معاوية -- رضي الله عنه -- : يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة ؟
فقال المسور -- رضي الله عنه -- : دعنا من هذا . وأحسن فيما قدمنا له .
فقال معاوية -- رضي الله عنه -- : لا والله لتكلمن بذات نفسك والذي تعيب علي .
فقال المسور -- رضي الله عنه -- : فلم أترك شيئاً أعيبه عليه إلا بينته له .
فقال معاوية -- رضي الله عنه -- : لا بريء من الذنب ، فهل تعد يا مسور مالي من الإصلاح في أمر العامة ، فان الحسنة بعشر أمثالها . أم تعد الذنوب وتترك الحسنات ؟
فقال المسور -- رضي الله عنه -- : لا والله ما نذكر إلا ما ترى من هذه الذنوب .
فقال معاوية -- رضي الله عنه -- : فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه ، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم يغفرها الله ؟
فقال مسور -- رضي الله عنه -- : نعم !
فقال معاوية -- رضي الله عنه -- : فما يجعلك أحق أن ترجو المغفرة مني؟ فوالله لما أَلِي من الإصلاح أكثر مما تلي ولكن والله لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره إلا اخترت الله تعالى على ما سواه . وإنا على دين يقبل الله فيه العمل ويجزي فيه بالحسنات ويجزي فيه بالذنوب إلا أن يعفو عمن يشاء فأنا احتسب كل حسنة عملتها بأضعافها . وأوازي أموراً عظاماً لا أحصيها ولا تحصيها .
من عمل لله في إقامة صلوات المسلمين والجهاد في سبيل الله عز وجل والحكم بما أنزل الله تعالى والأمور التي لست تحصيها وإن عددتها لك فتفكر في ذلك .
فقال المسور -- رضي الله عنه -- : فعرفت أن معاوية قد خصمني حين ذكر لي ما ذكر .
__________
(1) سورة هود(آية/114) .(1/293)
فلم يسمع المسور بعد ذلك يذكر معاوية إلا استغفر له" (1).
لكن يجب أن نعلم أن الحسنات والسيئات بيد الله -عزَّ وجلَّ- وهي من علم الغيب وليس لنا أن نجزم بأن فلاناً قبلت حسنته أو كتبت سيئته ، أو فلاناً يغفر الله له أو لا يغفر الله له . ليس لنا إلا رجاء القبول والمغفرة وخوف كتابة السيئات وعدم القبول .
فعَنْ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -- صلى الله عليه وسلم -- حَدَّثَ : ((أَنَّ رَجُلاً قَالَ وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : " مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ )) أَوْ كَمَا قَالَ(2).
وعن الزبرقان قال : كنت عند أبي وائل فجعلت أسب الحجاج وأذكر مساويه.
فقال : لا تسبه . وما يدريك لعله قال : اللهم اغفر لي فغفر له" (3).
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/344رقم20717) والخطيب في تاريخه (1/208) وابن عساكر في تاريخ دمشق(58/168، 59/161) ، وسنده صحيح.
قال أبو عبد الله محمد المناوي في كتابه "طاعة السلطان" (30) : لا يتمنى زوال السلطان إلا جاهل مغرور أو فاسق يقع في كل محذور ، فواجب على كل واحد من الرعية أن يرغب إلى الله بنصرة السلطان وأن يبذل له نصحه بصالح دعائه ؛ فإن في نصرته وصلاحه صلاح البلاد والعباد .
والسلطان معذور ؛ لانتشار الأمور عليه وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة ، وقلة الناصح له، وكثرة المدلس عليه والطامع . اهـ .
(2) …أخرجه مسلم في الصحيح (4/2023رقم2621) . ومَعْنَى "يَتَأَلَّى" : يَحْلِف.
(3) أخرج هناد السري في الزهد (2/464رقم931) ومن طريقه أبو نعيم الأصبهاني في الحلية (4/102) وابن عساكر في تاريخ دمشق(12/190) وسنده صحيح . وانظر : فتاوى اللجنة الدائمة (1/791) .(1/294)
ورحمة الله واسعة ليس لنا أن نضيقها أو نحجرها فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -- رضي الله عنه -- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -- صلى الله عليه وسلم --: ((بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ))(1).
قال الشيخ العلامة محمد أمان الجامي - رحمه الله تعالى - : إنكار المنكر شيء وتكفير الناس لأجل انتشار المنكر شيء آخر . وقوع المعاصي والمنكرات في البشر أمر لا بد منه .
لماذا نزلت الحدود والتعزيرات والعقوبات ؟ لأن الله يعلم أنه خلق هذا البشر فيهم نزعات مما يوقعهم في المعاصي وهو سبحانه وتعالى أرحم الراحمين وعدهم بالتوبة لمن تاب إليه .
إذا كان يتصور بعض الناس أن المجتمع الإسلامي هو ذلك المجتمع الذي لا تقع فيه المنكرات والمعاصي ! هذا تصور خاطئ لم يحصل ولن يحصل : خير مجتمع عاش على وجه الأرض المجتمع الذي كان يقوده رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وهل ذلك المجتمع سلم من المعاصي ؟ لا ! شربت الخمور وحصلت السرقة وفاحشة الزنا كل ذلك وقع ! وهل أخرج ذلك الدولة الإسلامية المحمدية من كونها دولة إسلامية ؟ لا .
إذن الدولة الإسلامية هي التي تقيم الحدود إذا وقعت المعاصي وتعاقب الجاني في ذوات الحدود بالحد وفيما دون ذلك بالتعزير .
هذا هو الحاصل عندنا ـ بحمد الله ـ ماذا تريد أكثر من هذا .
صحيح نحن معترفون بالتقصير، لسنا كسلفنا الصالح ؛ لا نحن طلاب العلم، ولا حكامنا، ولا مجتمعنا، النقص حاصل، والتقصير حاصل، ولكن كما قلت غير مرة لن نَنْزِلَ عن درجة المؤمن الضعيف ، المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير لا نَنْزِل عن هذه الدرجة ـ أي لسنا بكفار ـ .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح (4/504رقم11رقم3467) ومسلم في الصحيح (4/1761 رقم2245).(1/295)
ومن يريد مجتمعاً لا تقع فيه المعاصي والمنكرات كأنه يريد أن يتصور مجتمعاً من الملائكة يرأسهم جبرائيل! هذا غير واقع ، تتحدث عن المستحيل، نحن بشر، ولكن إن كنت ذا إنصاف قارن بين هذا البلد وبين المجتمع الذي أنت تعيش فيه وبين المجتمعات الأخرى التي أعرضت عن الإسلام إعراضاً كلياً مع الانتساب إلى الإسلام إنما تعرف الأشياء بأضدادها (1) اهـ .
وسئل الشيخ العلامة محمد أمان الجامي - رحمه الله تعالى - : ما هو قولك فيمن يسأل هل هذه الدولة إسلامية ؟
فأجاب - رحمه الله تعالى - :
إن كنت تشك في إسلامية دولتك هذه إن كنت منها ، إما أنك لم تفهم الإسلام أو أنك مخدوع ، معنى الدولة الإسلامية : الدولة التي تتبنى الإسلام ديناً وشريعة ، لا تستورد الأحكام لا من الشرق ولا من الغرب تطبق أحكام الشريعة الإسلامية في بلدها وعلى شعبها هذه هي الدولة الإسلامية ، وليس من شروط الدولة الإسلامية أن يكون الحكام والمحكومون معصومين ! هذه النقطة التي تدندن حولها كما سمعت غير مرة : كيف تقول هذه الدولة إسلامية مع انتشار المعاصي والفجور والفسوق ؟!
أقول : على الرغم من انتشار المعاصي والفجور والفسوق فهي دولة إسلامية .
أعود فأقول مرة أخرى : لم توجد دولة إسلامية في تاريخ الإسلام الطويل : يكون الحكام والمحكومون –جميعاً- معصومين لا يعصون الله لا تنتشر فيهم المعاصي ما وجدت ، لم يوجد حاكم مسلم معصوم بعد رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --.
وذلك المجتمع المثالي الذي كان يحكمه رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- وقعت في ذلك المجتمع جريمة الزنا وشرب الخمر فأقيمت الحدود على من ارتكب ذلك ووقع مثل ذلك في عهد الخلفاء الراشدين .
__________
(1) انظر: شريط: "27 سؤالاً في الدعوة والسلفية" (وجه/ب) .(1/296)
إذن العصمة أو عدم وقوع المعاصي في المجتمع ليس شرطاً ليكون المجتمع إسلامياً ولتكون الدولة إسلامية بل وقع في تاريخنا من بعض الخلفاء من شرب ومن عرف بالظلم والفتك مع ذلك كان الصحابة يصبرون على ذلك فيطيعون في غير المعصية ، يصلون خلفهم ويحجون معهم ، ويجاهدون معهم كل ذلك حفظاً على كلمة الإسلام على الوحدة .
الإسلام يهتم كل الاهتمام بالوحدة التوحيد والوحدة هما الأساس في الدولة الإسلامية ؛ لذلك : طالما التوحيد موجود والوحدة ـ إن شاء الله موجودة ـ فنسأل الله السلامة من الذين يحاولون أن يفرقوا هذه الوحدة ويأتوا بالجماعات هذا شر مستطير ، الوحدة أهم شيء في الدولة الإسلامية عاش المسلمون على وحدة عظيمة موحدة وعلى التوحيد ومع ذلك تقع المعاصي على اختلاف عصورهم وإن كانت في وقت أكثر ونحن أضعف منهم إيماناً وأكثر منهم تقصيراً ونقصاً ، إيماننا انقص وتطبيقنا أضعف :"ما من عام إلا والذي بعده شر منه" (1) هكذا قال النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ليصدق هذا الحديث ، نحن نعترف بنقصنا وتقصيرنا وضعف إيماننا ولكننا مسلمون دولتنا إسلامية والمجتمع إسلامي ونحن مسلمون لا نَنْزِلُ عن درجة المؤمن الضعيف يقول النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير))(2) .
بحمد الله فينا الخير وفي حكامنا الخير وفي مجتمعنا الخير ، الخير الكثير ولكنه خير فيه دخن نعترف بذلك . هذا معنى الدولة الإسلامية .
إذن الملخص : هذه الدولة إسلامية ، والمجتمع إسلامي ، ونحن مسلمون مع ما ذكرت من التقصير وضعف الإيمان وضعف التطبيق(3) اهـ
__________
(1) …أخرجه البخاري في الصحيح (8/425رقم7068) من حديث أنس -- رضي الله عنه -- .
(2) …أخرجه مسلم في الصحيح (4/2052رقم2664) من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- .
(3) …حقوق الإنسان (1/ب) .(1/297)
ومن شبه التكفيريين التي يقذفونها في قلوب من لا علم له ولا بصيرة في دين الله أن ظهور المعاصي وكثرة الوقوع فيها دليل على الاستحلال والاستحلال كفر.
وهذا الكلام الباطل لا يتمشى مع أصول أهل السنة والجماعة : السلفية ، وإنما يتمشى مع أصول الخوارج المارقين من الدين مروق السهم من الرمية .
وقد سئل الشيخ صالح اللحيدان : هناك بعض الشباب يحكمون بكفر الحاكم ويحتجون بوجود منكرات ظاهرة وباستمرارها ويزعمون أن هذا يدل على استحلالها فهل هؤلاء على صواب ؟
فأجاب حفظه الله : الاستحلال من أعمال القلوب وليس كل مرتكب معصية مستحلاً لها فإن الزنا وجد في عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، السرقة وجدت في عهده ، شرب الخمر وجد في عهده ، وشارب الخمر قال عنه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- :" إنه يحب الله ورسوله"(1) .
وكثرت ارتكاب الذنب لا يدل على استحلال فلا يحل لإنسان أن يدعي أنه يعلم ما في القلوب وهؤلاء إنما يؤتون من جهلهم وعدم بصيرتهم ، ولعل الغيرة مع ضعف البصيرة جعلتهم يجنحون هذه الجنحات ، وهذا ظلم لأنفسهم وظلم لمن يكفرونه ، مذهب أهل السنة والجماعة أن لا يكفر إنسان بذنب إلا إذا كان الذنب لا يرتكبه إلا كافر ولا يرتكبه مسلم على الإطلاق .
فإن من يشرب ويشرب ويشرب لم يكفره الصحابة ولم يكفره الرسول -- صلى الله عليه وسلم - ، ولما جاء ذكر الشراب المتكرر ما قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : إنه كفر الكفر المخرج من الملة.
ولكن هكذا كل ما أحسن الإنسان الظن في نفسه وبدا له أنه صار رجل الدنيا وواحدها يغتر بنفسه ويعطيها حكم المفتي والقاضي والحاكم والموجه والذي يصدر الناس عن أمره وهذا من جهله بنفسه(2) اهـ
الشبهة التاسعة
إخراج المشركين من جزيرة العرب، والخروج على ولي الأمر بسبب ذلك.
__________
(1) …أخرجه البخاري في الصحيح (8/327رقم6780) من حديث عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- .
(2) العلاقة بين الحاكم والمحكوم (ب) .(1/298)
زعم المتطرفون والخوارج بأن الواجب إخراج المشركين من جزيرة العرب(1)، وأن استقدام الكفار في أي مدينة من مدن البلاد السُّعوديَّة يخالف هذا الواجب، مما يوجب العمل على إخراج المشركين ولو بقتلهم!
وهذه الشبهة من أكبر الشبه التي يخادعون بها النَّاس ، ويلبسون عليهم بها، والرد على هذه الشُّبْهَة الدَّاحضة من وجوه:
الوجه الأول: أن العلماء اختلفوا في المرادِ بجزيرة العرب التي ورد الأمر بإخراج المشركين منها(2) على أقوال عديدة:
__________
(1) قال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) رواه البخاري في صحيحه(3/ 1111رقم2888-البغا)، ومسلم في صحيحه(3/1258-1259رقم1637) من حديث ابن عباس -رضي اللهُ عنهما- .
(2) مع أن جزيرة العرب في اللغة والعرف ما بين البحر الأحمر غرباً، والخليج العربي شرقاً، وبحر العرب جنوباً، وبادية الشام شمالاً. انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض(1/169)، والنهاية في غريب الحديث والأثر(1/268)، وغريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام(2/67)،ولسان العرب(4/133-134)، ومعجم البلدان(2/137-138).(1/299)
فقال الإمام الزهري: جزيرة العرب: المدينة، وقال المغيرة بن عبد الرحمن: جزيرة العرب: المدينة ومكة واليمن وقرياتها، وقال مالك: هي مكة والمدينة واليمامة واليمن، وقال الحنفية: يجوز دخول المشركين جزيرة العرب مطلقاً إلا المسجد، وقال مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة، وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلاً إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة، ومنهم من قال: إن المراد بجزيرة العرب الحجاز خاصَّة(1).
وقال ابن قدامة -رحمهُ اللهُ- : "وقال أحمد: جزيرة العرب المدينة وما والاها. يعني أن الممنوع من سكنى الكفار المدينة وما والاها، وهو مكة واليمامة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها، وهذا قول الشافعي لأنهم لم يجلوا من تيماء ولا من اليمن" إلى أن قال: "فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز، وإنما سمي حجازاً لأنه حجز بين تهامة ونجد، ولا يمنعون أيضاً من أطراف الحجاز كتيماء وفيد ونحوهما، لأن عمر لم يمنعهم من ذلك .
فَصْلٌ: ويجوزُ لهم دخول الحجاز للتجارة لأنَّ النَّصارى كانوا يتجرون إلى المدينة في زمن عمر -- رضي الله عنه --..."(2)
وقال النووي -رحمهُ اللهُ- : "مراد النَّبِيِّ -- صلى الله عليه وسلم -- بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب: إخراجهم من بعضها وهو الحجاز خاصَّة لأنَّ تيماء من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز"(3) .
__________
(1) انظر: التمهيد لابن عبد البر(1/172), وفتح الباري(6/171) وألَّف الحسين بن محمد بن سعيد اللاعى المعروف بالمغربى، قاضي صنعاء ومحدثها رسالة في حديث: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب)) رجح فيها: أنه إنما يجب إخراجهم من الحجاز فقط محتجاً بما في رواية بلفظ: ((أخرجوا اليهود من الحجاز)) البدر الطالع(1/230)، والأعلام للزركلي(2/256).
(2) المغني(9/285-286).
(3) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي(10/213).(1/300)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ- : "لما فتح النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خيبر أعطاها لليهود يعملونها فلاحةً؛ لعجز الصحابة عن فلاحتها؛ لأن ذلك يحتاج إلى سكناها، وكان الذين فتحوها أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا نحو ألف وأربعمائة، وانضم إليهم أهل سفينة جعفر، فهؤلاء هم الذين قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم أرض خيبر، فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم - يعني الجهاد - فلما كان زمن عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- وفتحت البلاد، وكثر المسلمون، واستغنوا عن اليهود؛ فأجلوهم وكان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قد قال: ((نقركم فيها ما شئنا)). وفي رواية: ((ما أقركم الله)). وأمر بإجلائهم عند موته -- صلى الله عليه وسلم -- فقال: ((أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)). ولهذا ذهب طائفة من العلماء كمحمد بن جرير الطبري إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية، إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر، وفي المسألة نزاع ليس هذا موضعه"(1).
وقال الحافظ ابن حجر: "الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب هذا مذهب الجمهور"(2).
وقال بدر الدين العيني: " إذا كان للمسلمين ضرورة إليهم لا يتعرض لهم ألا يرى أنه -- صلى الله عليه وسلم -- أقر يهود خيبر بعد قهر المسلمين إياهم لإعمار أرضها للضرورة وكذلك فعل الصديق -- رضي الله عنه -- في يهود خيبر ونصارى نجران"(3).
__________
(1) مجموع الفتاوى(28/88-89).
(2) فتح الباري(6/171).
(3) عمدة القاري(15/90)(1/301)
وقد ذكر جماعة من العلماء عدد الأيام التي يجوز مكث المشرك التاجر بالحجاز أو أي إقليم من الأقاليم التي يحرم سكنى المشركين بها، والصواب: أنَّهُ راجعٌ إلى الحاجة والضرورة وإن طالت المدة فقد مكث اليهود في خيبر وتيماء ، والنصارى بنجران قرابة ثلاثة عشر عاماً ما بين تاجر ومزارع ومعاهَد.
فخلاصة الأمر: أن إدخال المشركين إلى جزيرة العرب يجوز للحاجة أو الضرورة إليهم، وإنما يمنعون من الإقامة الدائمة فيها، ويمنعون من بناء بيت للعبادة بها.
الوجه الثاني: أنَّ الأجانبَ (غير المسلمين) الذين دخلوا إلى المملكة العربية السُّعودية إنَّمَا قدموا إلى البلاد السُّعودية بعهد وأمان مِنَ الدولة ، ومن كفلائهم الذين أحضروهم وهؤلاء الكفلاء مؤمنون..
قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده))(1).
وقال النبي -- صلى الله عليه وسلم --: ((وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل)) (2).
وقال -- صلى الله عليه وسلم -- : ((قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)) (3).
ومن حق الأجانب المستأمنين على جميع المواطنين والمقيمين أن يحفظوا حقوقهم وأن لا يظلموهم وأن لا يعتدوا عليهم وإن كان غيرهم من أبناء جلدتهم قد آذى إخواناً لنا ..
فلا يؤخذ أحد بجريرة غيره : {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}(4).
فالأجانب القادمون إلى السُّعودية -حرسَها اللهُ- من حيث الأمان نوعان :
__________
(1) حديث صحيح، سبق تخريجه(ص/210).
(2) رواه البخاريُّ في صحيحه(3/1160رقم3008-البغا)، ومسلم في صحيحه(2/994رقم 1370) من حديث علي -- رضي الله عنه --.
(3) رواه البخاري في صحيحه(1/118رقم357) ، ومسلم في صحيحه(1/498رقم366).
(4) سورة الأنعام(آية/164).(1/302)
نوع لهم أمانان : أمان الدولة وأمان كفلائهم المسلمين .
والنوع الثاني لهم أمان واحد وهو أمان الدولة ..
ولكن في الحقيقة هم لهم أمان الدولة ومن يرى شرعية الدولة وهم أهل العلم في المملكة وغيرها كما سبق بيانه(1).
فالحقيقة : أن هؤلاء الأجانب عندهم أمان من : الدولة، والعلماء، والشعب المسلم.
فلو كفروا الدولة ظلماً وعدواناً فيبقى لهؤلاء الأجانب أمانان: أمان العلماء ، وأمان الشعب المسلم..
وحقيقة هؤلاء المجرمين هو : تكفير الدولة السعوديَّة -حرسَها اللهُ-، وعدم اعتبار أي قيمة للمؤمنين من الشعب السعودي هذا إذا لم يصل الأمر بهم إلى تكفير الشعب كما عليه الغلاة من الخوارج في هذا الزمان ..
الوجه الثالث: بناءً على إجماع العلماء على صحة أمان الأجانب الذي استقدموا إلى البلاد السعودية -حرسَها اللهُ- فلا يجوز التعرض لهم بالأذى، وأن قتلهم من الكبائر العظام.
فعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي-- صلى الله عليه وسلم --قال: ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً)) أخرجه البخارى (2) .
ومن أدخله ولي الأمر المسلم بعقد أمان وعهد فإن نفسه وماله معصوم لا يجوز التعرض له، ومن قتله فإنه كما قال النبي-- صلى الله عليه وسلم --: ((لم يرح رائحة الجنة))، وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين.
فتبيَّن أنَّ قوله -- صلى الله عليه وسلم --: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) لا يتنافى مع استقدام المشركين للحاجة إليهم لمدة مؤقَّتة، فهذه سنَّة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، وكذلك سنة خلفائه الراشدين ، فأبو بكر -- رضي الله عنه -- لم يخرجهم من جزيرة العرب إلى أن مات بل أجمع الصحابة في زمن أبي بكر على عدم إخراجهم ولا المطالبة بذلك ..
__________
(1) التمهيد(ص/4) وآخر المبحث الثاني(ص/92).
(2) رواه البخاري في صحيحه(4/398-399رقم3166) من حديث عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما- .(1/303)
وعمر -- رضي الله عنه -- لم يخرجهم إلا بعد نقضهم العهد ، فأخرجهم لعدة أسباب وليس منها لأنهم مشركون وفقط كما يزعمه الخوارج لعنهم الله .
ومن أسباب إخراجهم : نقض العهد بمحاولتهم قتل ابن عمر -رضي اللهُ عنهما-، ولأن الحاجة إليهم لزرع الأرض انتهت ..
وكذلك من سنة عمر -- رضي الله عنه -- أن من كانت عنده صنعة ويحتاج المسلمون إليها أن يبقيه حتى في مدينة الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- .
فأبو لؤلؤة المجوسي عابد النَّار كان يسكن في المدينة، ويعطيه عمر الأمن والأمان، ويأخذ منه الجزية ..
فهذه سنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وسنة الخلفاء الراشدين، فلا يجوز مخالفتها لأهواء الخوارج وآرائهم الفاسدة.
الخَاتِمَة
الخَاتِمَةُ نسألُ اللهَ حُسْنَهَا
قد بينت في هذا البحث حقوق ولي الأمر وواجباته ، وبينت مَنْزلة ولاة الأمر في المملكة العربية والسعودية -حرسَها اللهُ- ، وأنهم خيرة حكام هذا الزمان، وذكرت ثناء العلماء عليهم، وتتابع العلماء على التوصية بهم والتذكير بحقوقهم.
كما بينت بعض جهود المملكة العربية السعودية -حرسَها اللهُ- في خدمة هذا الدين، وفي خدمة أهل الإسلام في كل مكان.
وبينت عناية المملكة العربية السعودية -حرسَها اللهُ- بالقرآن الكريم ، وأنَّها دولة القرآن.
وذكرت كلام العلماء في التحذير من سب ولاة الأمر في المملكة العربية السعوية -حرسَها اللهُ- .
ثم ذكرت بيانات العلماء التي حذرت من التكفير والتفجير.
ثم استعرضت الشبه التي ينطلق منها الخوارج والمتطرفون والإرهابيون لنشر معتقدهم الخبيث ومنهجهم الضال ، وكشفت زيف تلك الشبه بالكتاب والسنة وكلام أهل العلم .
وبعد هذا العرض لخلاصة البحث أذكر بعض الوسائل التي تعين على اجتثاث التطرف والإرهاب .
بعض وسائل اجتثاث التطرف والإرهاب
1– التمسك بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح ، والتفاف الشباب حول علماء الأمة الربانيين ، والبعد عن المشبوهين والمفسدين.(1/304)
2– التفاف الأمة والشعب حول حكامها المسلمين ، وطاعتهم وعدم غشهم ، ومناصحتهم سراً، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد.
3– تحذير الشباب من الغلو والتطرف ، والتحذير من كبار الغلاة بأعيانهم كأبي محمد المقدسي(1)، وأسامة بن لادن، وسعد الفقيه، والمسعري(2)
__________
(1) وقد كتبت رداً على المقدسي بينت فيه أباطيله، ونقضت أصوله الفاسدة وسَمَّيْته: "الردع والتبكيت بالمقدسي صاحب كشف شبهات المجادلين عن الطواغيت".
(2) قال شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز -رحمهُ اللهُ-: "إنَّ أسامة بن لادن: من المفسدين في الأرض، ويتحرى طرق الشر الفاسدة، وخرج عن طاعة ولي الأمر". رَ: جريدة المسلمون - 9 /5/ 1417.
وقال -رحمهُ اللهُ- : "أما ما يقوم به الآن محمد المسعري وسعد الفقيه وأشباههما من ناشري الدعوات الفاسدة الضالة فهذا بلا شك شر عظيم، وهم دعاة شر عظيم، وفساد كبير، والواجب الحذر من نشراتهم، والقضاء عليها، وإتلافها، وعدم التعاون معهم في أي شيء يدعو إلى الفساد والشر والباطل والفتن؛ لأن الله أمر بالتعاون على البر والتقوى لا بالتعاون على الفساد والشر، ونشر الكذب، ونشر الدعوات الباطلة التي تسبب الفرقة واختلال الأمن إلى غير ذلك.
هذه النشرات التي تصدر من الفقيه، أو من المسعري أو من غيرهما من دعاة الباطل ودعاة الشر والفرقة يجب القضاء عليها وإتلافها وعدم الالتفات إليها، ويجب نصيحتهم وإرشادهم للحق، وتحذيرهم من هذا الباطل، ولا يجوز لأحد أن يتعاون معهم في هذا الشر، ويجب أن ينصحوا، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يدَعوا هذا الباطل ويتركوه .
ونصيحتي للمسعري والفقيه وابن لادن وجميع من يسلك سبيلهم أن يدَعوا هذا الطريق الوخيم، وأن يتقوا الله ويحذروا نقمته وغضبه، وأن يعودوا إلى رشدهم، وأن يتوبوا إلى الله مما سلف منهم، والله سبحانه وعد عباده التائبين بقبول توبتهم، والإحسان إليهم ، ..." مجموع الفتاوى(9/100)
وقال علامة اليمن الشيخ الإمام مقبل بن هادي الوادعي-رحمه الله-: "أبرأ إلى الله من بن لادن؛ فهو شؤم وبلاء على الأمة وأعماله شر". جريدة الرأي العام الكويتية بتاريخ 19/12/1998 العدد : 11503.
وقال -رحمهُ اللهُ-: "ومن الأمثلة على هذه الفتن : الفتنةُ التي كادت تُدَبَّر لليمن من قبل أسامة بن لادن إذا قيل له: نريد مبلغ عشرين ألف ريال سعودي نبني بها مسجداً في بلد كذا. فيقول: ليس عندنا إمكانيات، سنعطي -إنْ شاءَ اللهُ- بقدر إمكانياتنا. وإذا قيل له: نريد مدفعاً ورشاشاً وغيرهما . فيقول: خذ هذه مائة ألف –أو أكثر- وإنْ شاءَ اللهُ سيأتي الباقي!
ثم بعد ذلك لحقه الدبور ، فأمواله في السودان في مزارع ومشروعات من أجل الترابي ترَّب الله وجهه فهو الذي لعب عليه!" تحفة المجيب(ص/283).(1/305)
، والتحذير من كتبهم ومؤلفاتهم وخاصة الداعية إلى الإرهاب والتفجير والتكفير.
4– تحذير الشباب من القنوات الفضائية المشبوهة ، المدمرة للدين والعقيدة ، وكذلك تحذيرهم من المواقع المنحرفة على شبكة المعلومات الإنترنت.
5– تأليف الكتب والردود التي تكشف شبهات الغلاة ، وتحصن عقول الشباب من الانسياق وراء تلك الشبهات.
6– عقد الندوات والمحاضرات والدروس التي تجتث الإرهاب من جذوره وتكثيف ذلك في المدارس والمعاهد والجامعات والمساجد وجميع المناسبات الشرعية.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
الفَهَارِسُ العَامَّةُ
الفهارس العامة
المُقَدِّمة 1
التمهيد:كلام بعض أهل العلم الكبار في الثناء على الدولة السعودية 4
المبحث الأول: الأدلة من الكتاب والسنة والآثار السلفية على لزوم بيعة السلطان
ووجوب طاعته بالمعروف،وتكريمه وحفظ حقه 14
وجوب مبايعة ولي الأمر، وأن من كان تحت ولايته فهو داخل في البيعة
وأن من مات وليست في عنقه بيعة فميتته ميتة جاهلية 16
وجوب السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف وثواب من فعل ذلك 19
إجماع الأمة على وجوب طاعة ولاة الأمور 22
ثواب من يسمع ويطيع ولي الأمر 23
وجوب توقير السلطان وإكرامه وحفظ حقه 24
تقبيل يد السلطان 25
الدعاء لولاة الأمور، وحرمة الدعاء عليهم وبيان أن الدعاء
لهم من علامات أهل السنة والدعاء عليهم من علامات أهل البدع 27
الصلاة خلف ولاة الأمر، ودفع الزكاة لهم، والحج والجهاد معهم 31
وجوب مناصحة ولاة الأمر والأمراء سراً لا جهراً 35
حرمة سبهم وغيبتهم وغشهم والطعن فيهم والتشهير بهم 41
وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، وحرمة الخروج عليهم
وحرمة الإعانة على من خرج عليهم ولو بالكلمة 45
الترهيب والعقاب الشديد لمن خرج على الإمام ، أو ثبط
عن طاعة ولاة الأمور، أو أثار عليهم، ومن فارق الجماعة 53
الفرق بين قتال المرتدين ، وقتال الخوارج ، وقتال البغاة 58(1/306)
المبحث الثاني:البراهين والأدلة على أن الدولة السعودية قامت
على الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح 62
الأدلة على أن الدولة السعودية قائمة على الكتاب والسنة
على منهج السلف الصالح 66
الأوجه الدالَّة على أن الدولة السعودية قائمة على الكتاب والسنة 68
الوجه الأول:نظام الحكم في المملكة وقانونها 68
الوجه الثاني: من كلمات الإمام المجدد الملك عبد العزيز آل سعود 73
الوجه الثالث: من أقوال الملك سعود بن عبد العزيز 79
الوجه الرابع: من أقوال الملك فيصل بن عبد العزيز 81
الوجه الخامس: من أقوال الملك خالد بن عبد العزيز 83
الوجه السادس: من أقوال خادم الحرمين الشريفين 86
الوجه السابع: شهادة أهل العلم والفضل 92
المبحث الثالث: جهود الدولة السعودية في نصرة العقيدة السلفية 102
الوجه الأول: اتخاذ العقيدة السلفية منهجاً وأساساً للحكم 104
الوجه الثاني: مظاهر التوحيد وتغييب مظاهر الشرك 109
صور نصرة الدولة السعودية التوحيد والعقيدة 120
الوجه الثالث: الْمَنَاهِجُ التَّعْلِيمِيَّة 124
المبحث الرابع: جهود الدولة السعودية في العلم والتعليم
وخدمة القرآن الكريم والسنة المطهرة 131
عناية الدولة السعودية -حَرَسَهَا اللهُ- بالقرآن الكريم تعليماً ودعوة وخدمة 135
الوجه الأول: نظام الحكم في المملكة العربية السعودية قام
على الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح 136
الوجه الثاني: اتخاذ القرآن الكريم منهجاً دراسياً أساسياً
إلزامياً في مختلف مراحل التعليم 142
مدارس تحفيظ القرآن 143
المدارس العامة "غير تحفيظ القرآن" 144
تعليم القرآن الكريم وعلومه في التعليم العالي 146
الوجه الثالث: التشجيع على حفظ القرآن الكريم 153
حلقات التحفيظ في السجون ودُور الملاحظة 156
مسابقات حفظ القرآن الكريم وتفسيره 158
الوجه الرابع: العناية بالقرآن الكريم وعلومه من خلال إذاعة القرآن الكريم 160(1/307)
الوجه الخامس: العناية بطباعة القرآن الكريم ونشره 163
تسجيل تلاوة القرآن الكريم 169
الترجمات لمعاني القرآن الكريم 170
المبحث الخامس: كلام العلماء في التحذير من الكلام على
ولاة الأمر في هذه البلاد 176
المبحث السادس: استنكار العلماء لِمَا يقوم به المبطلون من تفجير وتخريب 186
بعض بيانات هيئة كبار العلماء المنددة بالتفجير والتكفير 188
بيان من هيئة كبار العلماء حول التكفير والتفجير 188
بيان هيئة كبار العلماء حول أعمال الشغب التي قام بها بعض الحجاج 194
قرار مجلس هيئة كبار العلماء حول حادث التخريب 198
قرار حادث التفجير الذي وقع في الرياض في حي العليا 202
قرار حادث التفجير الذي وقع في مدينة الخبر في المنطقة الشرقية 204
بيان هيئة كبار العلماء حول حوادث التفجيرات التي وقعت في مدينة الرياض 207
شيخ الأزهر: الإرهابيون موعودون بالعذاب الشديد في الآخرة 213
كلام جماعة من العلماء في استنكار ما حصل من تفجير بغير حق 217
حادث التفجير في الرياض جريمة عظيمة ، وفساد في الأرض 219
كلام الشيخ ابن عثيمين في ذلك 222
بيان سماحة المفتي العام لحادث تفجير مبنى الأمن العام 226
رسالة سماحة المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ عند
اصطدام الطائرتين بمبنى التجارة العالمي بأمريكا 233
كلمة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى 236
كلام معالي الشيخ العلامة: صالح الفوزان 243
المبحث السابع: الشبه المثارة حول الدولة السعودية وكشفها وبيان زيفها 251
التحذير من تكفير المسلم وضوابط التكفير 254
كشف شبهات الخوارج:
الشبهة الأولى: والحاكم بغير ما أنزل الله .. 263
بيان إجماع العلماء على أن الحكم بغير ما أنزل الله من الكبائر دون الشرك 266
بيان أنواع التبديل ومتى يكون كفراً ومتى لا يكون 268
الرد على استدلال الخوارج بتعريف الكفر بـ(ال) في آية الحكم 280(1/308)
الرد على استدلال الخوارج بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} 283
الرد على استدلال الخوارج بقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤمِنُونَ
حَتَى يُحَكِّمُوكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 285
الرد على استدلال الخوارج بقوله تعالى: { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 288
الرد على استدلال الخوارج بقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم
مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} 289
الرد على استدلال الخوارج بقوله تعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً}
وقوله تعالى: {إن الحكم إلا لله} 290
الرد على استدلال الخوارج بقوله تعالى: : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} 292
الرد على استدلال الخوارج بقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 294
الرد على استدلال الخوارج بقوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} 298
الرد على استدلال الخوارج بسبب نزول قوله تعالى:
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 300
الرد على استدلال الخوارج بالإجماع الذي ذكره ابن كثير 304
الشبهة الثانية: زعم المتطرفون والخوارج أن الدولة السعودية
عندها قوانين وضعية 309
الشبهة الثالثة: زعموا أن الدولة السعودية والت الكفار،
وظاهرتهم على المسلمين 314
الشبهة الرابعة : ما زعمه المتطرفون من أن الدولة السعودية تحارب
الدعاة وتضيق عليهم ، وهذا لأنها تحارب الإسلام!! 329
الشبهة الخامسة: شبهة لبس الصليب 332
الشبهة السادسة: التعامل مع هيئة الأم المتحدة 337
الشبهة السابعة: الاستهزاء بالدين والرضى بالكفر في الصحافة 342
الشبهة الثامنة: أن المنكرات والمعاصي منتشرة في المجتمع
وهذا يدل على استحلالها!! 344
الشبهة التاسعة: إخراج المشركين من جزيرة العرب، ووتكفير(1/309)
ولي الأمر بمخالفة ذلك 357
الخاتمة 363
كلام العلماء في دعاة الفتن والفساد كأسامة بن لادن والمسعري والفقيه 365
الفهارس العامة 367(1/310)