|
تم استيراده من نسخة : عبد الحميد بن عبد الستار
حرب المصطلحات
الحمد لله وبعد : فإن حرب المصطلحات تكتيك استراتيجي ومعركة تبدأ من العقل الباطن لتنتهي في استطراق الفكر وتحجيم القدرة وخصْي المبادرة . حرب شديدة الفاعلية، قوية التأثير، تتسلل كالخلية السرطانية إلى عقول وأفئدة المسلمين لتسكنها، وتبدأ عملها في تخريب وتدمير ما حولها وذلك بعد أن يمكّن لها في الأرض عن طريق الإلحاح الإعلامي، وكثرة الدوران على ألسنة كتّاب ليسوا فوق مستوى الشبهات منهجيّاً وعقديّاً. بل ومما يؤسف أنها باتت تسكن في أفواه بعض كبار الكتّاب في الساحة في غفلةٍ منهم ، فلن تخطئ أذنك سماع كلماتٍ مثل: (أيديولوجية، ونظرية، وإرهاب، وديمقراطية، وفقه بدوي، ودولة مدنية، وعقلانية، ونصوصية) تدور بكثرة على ألسنة وأقلام الكتاب في الساحة الإسلامية. بل إن من الكتَّاب من يتحول إلى داعيةٍ لمصطلح بعينه، فيصير هاجساً له، وزاداً يعلكه، وقضية يناضل من أجلها، حتى لو وقع في تناقضات مع نفسه، وابتلع مصطلحات متضاربةً أشد التضارب، وربما كانت كَنَسيّة المصدر، صليبية الاتجاه. ولو نظر الواحد بأدنى تأملٍ لوجد كثيرين ممن دعَوْا قديماً إلى الاشتراكية يدعون اليوم إلى الديمقراطية، ويتعصبون لها ويُنظّرون ؛ برغم ما بين المصطلحين من تضارب كما بين الليل والنهار. هذه الحرب قديمة قدم وجود اليهود حين حرفوا الكلم عن مواضعه، وغيّروا نصوص التوراة والإنجيل دلالاتٍ وألفاظاً كما أخبر تعالى عنهم بقوله { مِنَ الَذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } كما استخدموها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في محجتهم ورطانتهم وحوارهم {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَياً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ }.
(1/1)
واستُخدِمت في تاريخ الإسلام في طروحات الفرق المنحرفة عن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وحربها الاصطلاحية على أهل السنة ، ففي حين سمى المعتزلة أنفسهم : أهل العدل والتوحيد أطلقوا على أئمة السنة: بلاكفة (لأنهم ينفون التكييف عن الله تعالى )، وحشوية، ومعطّلة، ومشبّهة. وفي عصرنا أخذت هذه الحرب أشكال عديدة منها تقسيم الإسلام إلى: إسلامي بدوي وحضري ، وإسلام أرثوذكسي وعلماني، وإسلام رسمي وشعبي، وإسلام نصوصي وعقلاني، وإسلام مدرسي (اسكولاستيكي) وحداثي ... . واستخدموا في سبيل ذلك مناهج لقراءة النصوص لا علاقة لها باللغة التي تحدَّث بها المصطفى صلى الله عليه وسلم أفصح العرب ولا بأصول الاستنباط والنظر التي تواضع عليها الأصوليون ، ولا بفهوم الصحابة والتابعين والأئمة المُعْتَبَرِين، فقراءتهم ــ كما يسمونها ــ عصرية/ تنويرية/ عقلانية / تثويرية. وبدأوا بطرح فكرة ( أًلْسَنَةِ ) القرآن ، كما في التوراة والإنجيل ، والمقصود أنهم حاولوا أن يوحوا أن الوحي المعصوم يتحول بعد نزوله مباشرة إلى نص بشري قابل للنقد والقبول والرد، وقراءته بعين : (سوسير، وإلتوسير، ورولان بارت، وميشيل فوكو) . فالقرآن والسنة عندهم نصوصاً لا تتميز بحالٍ من الأحوال عن زاوية لصحفي معروف في صحيفة إخبارية؛ لتنتفي القداسة عن النص، ويتحول فور كتابته أو نزوله إلى كتابات مستقلة لا علاقة بينها وبين منشئها ، ويعود نصاّ بلا معانٍ محددة. حرب المصطلحات غزو يعتمد تكثيف الهجوم ، وتنويع الأساليب ، والمباغتة والتمويه ، مستغلاً غفلة المسلمين وما أعمقها من غفلة ، وانشغالهم وتفرقهم، ورداءة مناهجهم في التعامل مع الواقع الفكري والدعوي، وقلة متابعتهم، لما يُرمَون به . وكلمة مصطلح يراد بها المعنى الذي تعارف عليه الناس، واتفقوا عليه في استعمالهم اللغوي الخاص ، أو في أعرافهم الاجتماعية، وعاداتهم السائرة .
(1/2)
وقد تساعد الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية على أن تُحَمّل كلمةٌ مّا معنىً غير الذي وضعت له في أصل اللغة التي تنتمي إليها ، ويسير هذا المعنى الجديد بين الناس، حتى يصبح في استعمالهم اليومي شيئاً مألوفاً يُنسي المعنى اللغوي الأساس أو يكاد. وهذا المعنى الجديد هو ما يسمى ( بالمعنى الاصطلاحي ) . المصطلح كلمة أو كلمتان أو ثلاث كلمات ، وقد لا تتعدى ذلك إلا في حالات نادرة ، ولكن هذه الكلمة قادرة على أن تفرغ العقول والقلوب وتملأها ، ولها مفعول السحر الذي يستعصي فهمه على المنطق وقوانين العقل. وغالباً ما تكون بعيدة عن المحاكمات المحددة ، ملتبسة بأثر العواطف والغرائز ، وتنعكس عليها آثار النفوس من حقد وحسد وضغينة وانتقام ، وتصرخ من بين حروفها الأهواء والعواطف الملتوية التي تغلف التواءها بكثير من الادعاء والتطاول وحب التغلب والسيطرة. أهمية الكلمة : ولأهمية الكلمة وخطورتها فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تنبيه أصحابه وتوعيتهم وتحذيرهم من ذلك كالألفاظ الشركية التي كانت تدور على ألسنة بعضهم ، دون أن يفطنوا لظلالها، وخطورة ما استتر تحتها من عقائد ومفاهيم .عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزلّ بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب". متفق عليه .وصوب صلى الله عليه وسلم بعض الألفاظٍ التي تخالف العقيدة. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " إن أخنع اسمٍ عند الله ــ عز وجل ــ رجل تسمى: ملك الأملاك " . وفي سنن أبي داود عن بريدة رضي الله عنه مرفوعاً: " لا تقولوا للمنافق: سيد؛ فإنه إنْ يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل " .كما غيَّر صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء ذات الدلالات القبيحة كتغييره اسم الأجدع إلى عبد الرحمن، وبني الزّنْية إلى بني الرّشدة، وعاصية إلى جميلة، وعبد الكعبة إلى عبد الله. (
(1/3)
الألوهية في العقائد الشعبية / عبد السلام بسيوني 237 وما بعدها بتصرف يسير ) . كما غيَّر صلى الله عليه وسلم بعض العبارات ذات المعاني الجاهلية مثل : بالرفاء والبنين، وعم صباحاً، وأبيت اللعن ، لما تتضمنه من مفاهيم تتعارض مع قواعد الإسلام ومفاهيمه. ( المصدر السابق 247 ). ونبَّه صلى الله عليه وسلم إلى أن قوماً يأتون بعده سيعبثون بالمسميات ويغشّون في الدلالات ، كما في سنن ابن ماجه بسند صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لَيشربنّ أقوام من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها... ". وما هذا الحرص منه صلى الله عليه وسلم إلا أن للألفاظ دلالات حقيقية وأخرى مجازية ، وأن لها زوايا للنظر من جهة الوضع اللغوي، والدلالة الشرعية والدلالة الاصطلاحية ، والدلالة المعرفية ، كما أن الدلالة اللغوية للكلمة تدور بين النص والظاهر والمشترك والمجمل والمبهم ، والعام والخاص ، والمفهوم والمنطوق، والفحوى والإشارة . يقول ابن حزم في مقدمة كتاب (الإحكام) عن تحديد المصطلح وخطورته : هذا باب خلّط فيه كثير ممن تكلم في معانيه، وشبك بين المعاني، وأوقع الأسماء على غير مسمياتها، ومزج بين الحق والباطل، فكثر لذلك الشغب والالتباس، وعظمت المضرّة، وخفيت الحقائق. ( التبعية الثقافية 68 ) . ولذ فإن حرب المصطلحات يحاول أربابها صبغ الإسلام بغير صبغته ، وإلباسه ثياباً غير ثيابه ، والحديث عنه بقواعد مراوغة وعدائية ، بعيدة من الفهم الصحيح أو الإنصاف والحيادية .
(1/4)
أهداف هذه الحرب : 1- إرهاب المسلمين باستعمال ألفاظٌ قمعية كمصطلح التطرف والتشدد والتزمت في الوقت الذي يصف الغربيون أنفسهم على أنهم أهل الحرية والانفتاح والحوار والوسطية 2 ــ استعمال العبارات التي تؤدي إلى نتائج معروفة سلفاً كتحييد الطرف الآخر ومنعه من الاعتراض ، فلا يطرح أعداء الإسلام عداءهم بطريقة سافرة لئلا يثيروا غضب المسلمين ، وإنما يهاجمونه عبر مظلة اسمها: (تحليل التدين والسلوك الديني، أو الوعي الديني) ، ويسارعون بوضع هذا (العنوان ) في بداية أي دراسة أو تحليل لهم للإسلام لتحييد مشاعر المسلمين وعدم استفزازهم ، ثم يطعنون فيه أثناء هذه الدراسة أوالتحليل . ( علماء الاجتماع 198 ). 3- تعمد المغالطة المنهجية لتحقيق أغراض خبيثة. فقد يكون للمصطلح دلالة خاصة في الإسلام فيجري تحريفها لصالح خصومه. مثال ذلك لفظ (الاجتهاد) الذي يحمل مفهوماً خاصاً وتعريفاً محدداً وهو: (بذل المجتهد الذي تحققت فيه شروط الاجتهاد للجهد والوسع وأقصى الطاقة في استخراج الحكم من الأدلة الشرعية ) . هذا المصطلح يستخدم الآن استخداماً معكوساً ؛ فبدلاً من أن يكون الاجتهاد داخل النص تعرفاً على معطياته، واستنباطاً لأحكامه الآمرة الناهية ــ نراه يستخدم بمفهوم غربي غريب عن الاجتهاد المعروف في ثقافتنا الأصيلة ؛ إذ يُعبّر به الآن عن جهد بشري مطلقٍ من كل قيد، لا علاقة له بالنصوص والأدلة الشرعية؛ حيث يرى بعضهم أن الدين تجربة مجتمع، ونتاج ظروف وبيئة معينة . ( التبعية الثقافية 123). 4- صناعة ولاءات جديدة، وزرع أفكار ذات جذور عقلية وعقدية لا تنتمي للإسلام ، وذلك عبر توظيف المصطلح توظيفاً خاصاً. وممن يستعملون هذا الأسلوب : المنصرون الذين نصوا في أكثر من وثيقة من وثائق مؤتمر كلورادو 1978 على أن استعمال اللغة يمكن أن يكون وسيلة تنصير . ( التبعية الثقافية 611 ).
(1/5)
فاقترحوا استخدام لقب : ( مسلمين عيسويين ) على معتنقي النصرانية المرتدين من المسلمين ليُبقوا جزءاً من ثقافتهم المحلية ووطنهم، وعدم استفزاز مشاعر الناس حولهم ، وكذلك مصطلح ( مسجد عيسوي ) للمكان الذي يلتقي فيه هؤلاء المرتدون في الكنيسة وتحدثوا أيضاً عن ( مسجد المسيح ) وكيف يمكن الوصول للمسلمين من أجل المسيح عن طريق تأويلات قرآنية، وتوظيف الحوار المضلل في التبشير. ( المرجع السابق 767 ـ 729 ) . كما انحشر في قاموسنا عدد كبير من المصطلحات ذات الأصول الكهنوتية : كالأصولية والتنوير والعقلانية والعلمانية ، وصرنا نسمع ممن يسمى مستنير متطرف يتحدث عن الإسلام الكهنوتي والأرثوذكسي.كما يتعاطى كثير من الحداثيين في الأدب مصطلحات: الخلاص، والصلب، والتعميد، والفداء، وما شابه!وكلها مصطلحات كنسية . أساليب هذه الحرب : ويعتمد غزاة هذه الحرب جملة أساليب يجدر التحذير منها : 1- تقبيح مصطلحاتٍ شريفةٍ في أصلها، ودفع أصحابها للخجل منها، أو المدافعة عن أنفسهم عن ذكرها، فما أشرف كلمات مثل: السلفية ، والأصولية ، والجهاد، والشهادة . لكن تناولها بطريقة ملتوية وموجهة جعل السلفية تهمةً، والأصولية جريمة ، والجهاد إرهاباً، والكتب الصفراء جموداً وظلامية ، والنصوصية تحجراً . 2- تحسين وتزيين مصطلحات خسيسة، لا علاقة لها بالإسلام؛ بل هي إما كَنَسيّة المصدر أو ملحدة، كمصطلحات : الحتمية، والعقلنة، والأصولية، والتنوير، والحداثة ، والمعاصرة، ونشرها على الألسن حتى تصير مقبولة مرتضاة ، وتجد بين المسلمين دعاة لها. 3- تحريف مصطلحات ذات أصول إسلامية، وإعطاؤها دلالات جديدة: كالاجتهاد، والرأي ، والحق ، والشورى ، والعدالة ، ليكون الاجتهاد من حق كل أحد، وكذلك الرأي حتى في المعلوم من الدين بالضرورة.
(1/6)
4- ابتكار مصطلحات جديدة وطرحها، وتحديد مفاهيمها ابتداءً وفق رؤية عدائية تجاه الإسلام والمسلمين كالإرهاب والتطرف والعولمة، والإلحاح عليها حتى يصطلح عليها بعض أبناء المسلمين ليوظفوها ضد إخوانهم وبني جلدتهم ، وقد يُتخذ في هذا منهجاً مراوغاً عن طريق طرح مصطلحات جديدة مستحدثة مع إعطائها مضموناً عاماً غير منضبط، مما قد توافقهم عليه من الوجهة المبدئية، فضلاً عن جمال المصطلح الشكلي: كاصطلاح الاستنارة أو المعاصرة أو التقدمية ، ونحو ذلك ؛ فإذا استقر المصطلح في ذهن المتلقي على أنه حقيقة ثابتة بدأوا في طرحه بمضمون محدد وأفكار منضبطة تؤدي إلى هدفهم المنشود في غرس الفكرة الغربية في الثقافة الإسلامية . 5 ـــ تخفيف رد الفعل الرافض لبعض الألفاظ المباشرة واضحة المخالفة للشريعة وتمريرها كمصطلح الاشتراكية أو الاشتراكية العلمية ــ بدل الشيوعية ــ ومصطلح العلمانية بدل اللادينية أو الإلحاد. ويدخل في هذا ليّ المصطلحات : كتسمية الخمر مشروبات روحية (ترجمة لكلمة Spirits ) والرقص فناً، والربا فائدة ، والسكوت عن المنكرات مجاملة ، وإهانة المرأة حرية ومساواة ، والرشوة خدمات وهدايا ، وسميت معركتنا لتحرير فلسطين والقدس باسم قضية الشرق الأوسط ، وسمي العدوان على أفغانستان والعراق حرباً على الإرهاب، وسوِّغ العسف والاتهام في ظل قانون الأدلة السرية ، وسُمِّي الاستعمار وحرب الشعوب في أرزاقها وأخلاقها ودينها بالعولمة . ، وأصبحت حماية المرأة وصيانتها بمنع الخلوة والنهي عن التبرج ضرباً من سوء الظن وضعف الثقة . وصارت رعاية النشء وحمايتهم من الفساد نوعاً من التزمُّت في التربية وكبت الطاقات . وغدت محاربة الفساد وتشجيع الالتزام والتدين نافذةً إلى التطرف وباباً إلى الإرهاب . وسمي سبّ الله تعالى تنويراً، والاستباحة حرية، والرقص فناّ، والزنا صحة جنسية! .
(1/7)
أيها الأحبة إن الغزو الثقافي والفكري أخطر أنواع الغزو والسيطرة ، لأنه يجعل المغزو يتحرك وينشط بعيداً عن هيمنة الأساطيل والأسلحة المنظورة ، ظاناً أنه يتحرك مستقلاً حراً مالكاً زمام أمره ، ولكنه في حقيقة أمره مسلوب الإرادة ، مسخر نشاطه وجهوده من أجل الأرض التي أنبتت الثقافة التي تثير إعجابه ، فيرفع لواءها ، ويسير في ظلها ، وقد يموت ويميت جموعاً لا تحصى في سبيل ذلك. والمصطلح هو "الحبة" أو "الجرعة" السحرية التي يتناولها الفرد لتحول اتجاه تفكيره من جهة إلى جهة - إن لم تفقده التفكير أصلاً - ، وقد يتسلل إلى العقل العام تسللاً عبر الإذاعة والصحيفة والمناهج دراسية..فيُلْتَقَط ويُستعمل ويشيع ، ولا يمضي وقت قصير حتى تضاف إليه الشروح والحواشي ، وتشذب انعكاساته الضارة عن طريق تزيينه بأساليب المنظرين، فتمتد جذوره في أرضٍ وفِد عليها ، ويبدأ يعطي ثماره : فكراً وافداً وثقافة هجينة. ولنأخذ نموذجاً واحداً من هذه المصطلحات الشائعة والتي جرت على الأقلام والألسنة أياماً طويلة ، وهو كلمة "الرجعية".فماذا تعني هذه الكلمة في أذهان مبتدعيها؟ . وماذا تعني عند مردديها ، وخصوصاً في مجتمعات المسلمين ؟ . وما مدى الهوة بين مدلولها الأصلي ، من حيث الوضع ، ومدلولها في أذهان الناطقين بالعربية؟ . تقول الموسوعة السياسية عن معنى هذه الكلمة : هي نقيض التقدمية ، ويطلق الشيوعيون واليساريون هذه الكلمة على الأحزاب والتيارات التي تنادي ببقاء المؤسسات القديمة على قدمها. وبناء على هذا فإن هذا التعريف يبين لنا مَنْ وضع هذا المصطلح ، ومن روجه وهم (الشيوعيون واليساريون) ويطلقونه على خصومهم جملة . والشيوعيون وخصومهم، من حيث المبدأ والمنشأ، هم نتيجة لمجتمع وثقافة تختلف اختلافاً كبيراً عن مجتمعاتنا وثقافتنا ، وليس المجال مجال تفنيد آرائهم والرد عليهم.
(1/8)
ولكن الذين أدخلوا هذا المصطلح إلى ثقافتنا هم الذين تأثروا بتلك الأفكار ، ورأوا أن يحققوا عن طريق إشاعتها مآرب وغايات في نفوسهم ، في ظل مطاردة كل ما هو أصيل وهيمنة كل ما هو غريب. وقد كَثُرَ استخدام هذا اللفظ بعد خروج المستعمرين من البلاد العربية والإسلامية ، وبروز اتجاه السيطرة على الشعوب المسلمة بحجة أنها جموع همج رعاع قاصرة عن التفكير والتصور والإدراك ، فكان لا بد من استجلاب مبادئ جديدة لتحل محل عقائدها البالية بزعمهم ؛ ثم وصْف هذه المبادئ المستوردة بشتى الأوصاف الحسنة البراقة ، وإضفاء أنواع من التزيينات عليها: كالتقدم ، والتطور ، والبناء، والتنوير، والتجديد ، والتحديث ، والعلمية ، والمنطقية ... الخ ، في حين يقذف الإسلام بأبلغ أنواع السباب والشتائم والأوصاف المقذعة مثل : الرجعية ، والغيبية ، والتخلف ، والجمود ، والتحجر ، والتقوقع و الظلامية ، والسلبية ، والتعصب ... الخ. وهكذا صار لفظ الرجعية يطلق على المسلمين المتمسكين بإسلامهم ، ومن غير المسموح لهم أن يردوا على التهم الموجهة إليهم ، والقذف الساقط على رؤوسهم ، بطريقة متكافئة مع الطرق التي يثلبون ويحاربون بها ... كل هذا لإسقاط الإسلام من نفوس أتباعه . فمن الأمور المفروغ منها عند جميع الناس على اختلاف عقائدهم ، المسلمون وغيرهم أنه لا أحد يرضى بأن تتوقف عجلة التاريخ عند نقطة معينة ، ولا أن يبقى النشاط الإنساني في مكان واحد ، وليس من مسلم يريد الرجوع بالناس إلى عصر ركوب الدواب بعدما ركبوا السيارة والطيارة والمركبات الفضائية ، وكذلك فإن الحملات الكلامية لا يمكن -لاعتبارات كثيرة- أن تتجه مباشرة وصراحة إلى دين الأمة إلا في حالات نادرة ، وفي أمكنة خاصة.
(1/9)
وذلك لأن ما يترتب على هذا من مكاسب وإنجازات لا يتناسب مع الأضرار المتوقعة ، ولذلك فلابد من الالتفاف والمداورة بشن هذه الحملات على الأشخاص ، وتجريدهم من مكانتهم في النفوس ، وجعل صورهم تهتز في أنظار الناس من حولهم ، حتى لا يكون هناك مثل أعلى يمكن النظر إليه ، فيخلد الناس إلى اليأس ، ويألفون القنوط حينما لا يسمعون عمن يقول: " لا إله إلا الله محمد رسول الله " إلا كل سمعة سيئة ، ولا يعرفون عنه إلا الصورة المشوهة التي رسمها له خصومه ، وتكون النتيجة لا فقدان الأمل بالأشخاص فقط ؛ بل فقدان المبرر للتمسك بالإسلام الذي يحملونه من حيث هو إذ يرون أنه دين صعب التطبيق ، مكبل للنشاط الإنساني ، داعٍ إلى الكسل والخمول. وتكون النتيجة النهائية أن هذا الدين هو المتسبب الأول والأخير في تخلف هذه الشعوب ، لذلك لابد من القضاء على أثره في النفوس بشتى الطرق. لقد كانت الفترة الذهبية لاستخدام هذا المصطلح هي فترة الخمسينات والستينات ، ثم بدأ انحساره منذ مطلع العقد الثامن من هذا القرن ، حيث أنه قد استهلك ومجه الناس لشكهم وفقدانهم الثقة فيمن يستخدمه ولتجنيه وعدم صحته في إنفاقه على من يُرمى به. إن الصراع بين المسلمين والكفار دائم ومستمر ما دامت السماوات والأرض { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } وقد جرب أعداء الإسلام سلاح القوة مراراً فما أجدى لهم نفعاً ، مما جعلهم يفكرون في وسيلة أخرى وميدان آخر للصراع . لقد أدركوا أن سر صلابة المسلمين وتفوقهم هو في إسلامهم ؛ ولذا حولوا ميدان الصراع من حرب المسلمين ذاتهم إلى حرب العقيدة الإسلامية ، وبهذا تغيرت ملامح المعركة ، فلم يعد ميدانها الرئيسي الأرض ولكنه الأدمغة والعقول ، ولم تعد وسيلتها السيف بل الفكر ، ولم تعد جيوشها الأساطيل والفرق العسكرية ولكنها المؤسسات والمناهج بالدرجة الأولى . ( العلمانية للحوالي 535 ). وتشويه تاريخ هذه الأمة .
(1/10)
لقد تعرض التاريخ الإسلامي لأكبر قدر من هجمات الكر والفر في حرب المصطلحات القائمة على قدم وساق ، حيث ركز الأعداء بشدة على تشويه تاريخ الأمة ، ذلك أن التاريخ - بالنسبة لأية أمة - هو مجال اعتزازها وموطن القدوة فيها. فإذا كان حافلاً بالأمجاد فإنه سيكون باعثاً لهم على النهوض والتمسك بالمبادئ والآداب والقيم التي جعلت الأجداد يحرزون هذا المجد والفخار ، ويصلون إلى المستوى الراقي في بناء الأمة والحضارة ، ويبحثون عن السر الذي رفعهم إلى هذا المستوى، ومن ثم يسعون جاهدين لانتشال أنفسهم من الوضع المتردي الذي وصلوا إليه ، واضعين نصب أعينهم الصورة الجلية والقدوة المشرقة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرج الله به الأمة من الظلمات إلى النور ، ومن الشرك والأهواء وتحكم الطواغيت إلى التوحيد والعدل والأمن والطمأنينة ، ومن الفقر وضيق الحال والشتات إلى الغنى وسعة الدنيا والآخرة والاعتصام بحبل الله. وكذا أصحابه رضي الله عنهم الذين حملوا الراية وآزروه ونصروه ، ويليهم بقية الأجيال من السلف الصالح من العلماء والزعماء والقادة والمصلحين والدعاة إلى الحق. والنماذج الممتازة في التاريخ الصالحة للقدوة ليسوا أفراداً يمكن حصرهم ولكنهم أجيال وأجيال ، في مجالات الحياة كافة ، العسكرية والسياسية والتربوية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية وهذا لا يوجد في تاريخ أية أمة أخرى غير هذه الأمة لما لها من خاصية الاستمساك بالوحي المعصوم . والتاريخ الإسلامي هو الذي يسجل هذه الصور السامقة ويوضح دور الأمة وأثرها وفضلها على البشرية ، ولذلك ليس من المستغرب إذا ركز الأعداء في حربهم على التاريخ الإسلامي حتى ناله كثير من التشويه والتحريف والتجهيل والتزييف والتفسير الخاطئ لأحداثه ومزاحمته بتواريخ الأمم الجاهلية حتى يبدو حلقة صغيرة أو كماً مهملاً في تاريخ البشرية.
(1/11)
ولقد قام على تشويه التاريخ الإسلامي في العصر الحديث جيش بل جيوش من الاستشراق والتنصير ودوائر البحث ومكاتب المخابرات في الدول الغربية ، واستطاعوا أن يجندوا مجموعة من ضعاف النفوس والمغرورين والجهلة وضحايا الغزو الفكري في العالم الإسلامي لمساعدتهم ونشر أفكارهم بين المسلمين . ولتوضيح هذا الأمر نذكر بعض الوسائل التي استخدموها: 1- اختلاق الأخبار والمثالب : وهذه أولى الوسائل التي استخدمها المستشرقون والمنصرون لتشويه صورة المجتمع الإسلامي وعقيدة المسلمين وسيرة رسولهم صلى الله عليه وسلم حتى ينفّروا أبناء جلدتهم من الدين الإسلامي ، ويصورون المسلمين بأنهم وحوش وسفاكو دماء وأنهم يعيشون حياة تخلف وهمجية ، ويفترون عليه صلى الله عليه وسلم حكايات تؤيد ما يقولون ، وهذه الوسيلة كانت غالبة على الكتابات الأولى للمستشرقين الذين كتبوا عن الإسلام وعلومه وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ المسلمين ، سواء كانت مؤلفات أو مقالات في المجلات التي أنشأها المستشرقون في مختلف الدول الأوربية مثل هولندا وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وأمريكا وإيطاليا أو في دوائر المعارف العامة.وقد قل استخدام هذه الوسيلة في الكتابات المؤخرة لا إنصافاً للحقيقة وإنما تغييراً في الخطة لأن الوسيلة الأولى لم تعد صالحة ولا مقبولة حتى في المجتمعات الغربية. ومَن اطلع على كتب القوم وما تكتبه المجلات الصادرة عنهم ودوائر المعارف يجد ذلك واضحاً ، وهذا مَثَل واحد من أخف الأمثلة (كارل بروكلمان) المستشرق الألماني الذي يعتبر حجة عندهم بل عند بعض الباحثين المسلمين ، ويعتبرونه من المعتدلين وقد يبالغ البعض فيعتبره من المنصفين في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية" - ولكن إذا قرأت في هذا الكتاب رأيت العجب العجاب ورأيت التشويه ، بل رأيت الجهل الثقيل ورأيت الكذب الصريح.
(1/12)
يقول : "الكعبة بناء ذو أربع زوايا يحتضن في إحداها الحجر الأسود ولعله أقدم وثن عُبد في تلك الديار ، وكانت الكعبة تضم تمثال الإله القمري هُبَل ، بالإضافة إلى الآلهة الثلاثة المعبودة (اللات والعُزى ومناة)" ( تاريخ الشعوب الإسلامية 31). وقوله هذا إما جهل وإما كذب وتزوير فلا يُظن أنه يجهل موقع العزى واللات ومناة وهو الباحث المتعمق في كتب الجغرافيا والبلدانيات الإسلامية التي تحدد مواقع تلك الأصنام . ويتحدث عن مسيلمة وسجاح فيقول : "ففيما كان محمد لايزال على قيد الحياة ظهر في تلك البلاد رجل اسمه (مسلمة) وقد دعاه المسلمون مسيلمة من باب التصغير الذي يقصد به التحقير وادعى النبوة" (المصدر السابق 58 ) . وهذه فرية ما سبقه إليها أحد ، فقد جاء خبره واسمه في صحيح البخاري (كتاب المغازي باب وفد بني حنيفة ) فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما أنا نائم رأيت في يديَّ سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحي إليَّ في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا ، فأوَّلتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسي والآخر مسيلمة ". إن ما كتبه هذا المستشرق عن الرسول صلى الله عليه وسلم والأحكام الشرعية والخلفاء الراشدين يمثل قمة السوء والحقد ، فقد رمى النبي صلى الله عليه وسلم بكل نقيصة ، وقال عن الوحي إنه حالة من الصرع والهلوسة تنتاب محمداً، وقال عن وفاته صلى الله عليه وسلم أنها كانت بسبب الحياة الزوجية الواسعة.وكل الشعائر الإسلامية مقتبسة - في نظره - من اليهود أو النصارى أو الهنود أو الفرس ، ويدافع عن اليهود وينتصر لهم ويرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ظلمهم ، بل ينكر أصل النبوة فيقول: "نضجت في نفسه الفكرة أنه مدعو إلى أداء هذه الرسالة"!. (تاريخ الشعوب الإسلامية / بروكلمان 36 ).
(1/13)
ويقول : "أعلن ما (ظن) أنه قد سمعه كوحي من عند الله" ، ويقول عن عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها : " أرملة النبي الشابة المحبة للفتنة " .( المصدر السابق 111) ، ثم يتبنى آراء الرافضة في القرآن وأنه محرف (المصدر السابق 112)... إلى غير ذلك من الترهات المبنية على الكذب والافتراء. ومما ينبغي ان يذكر أن الغزاة المستشرقين يسعون إلى نشر باطلهم بطريقة النقل المتكرر فينقل بعضهم عن بعض ويرددون الفكرة الواحدة في مجموعة من الكتب والمقالات حتى إذا كثر القول بها ظُن أنها حقيقة لا تقبل النقاش. 2 ــ ومن وسائل تشويه تاريخ الأمة : استخدام المنهج العلماني ( اللاديني ) في البحث والنقد : وهذه من أخطر الوسائل وأعظم المنجزات التي حققها زباينة حرب المصطلحات والغزو الفكري ، وتمكنوا من تقريرها في كثير من جامعات العالم الإسلامي ومراكز البحث العلمي ، ولهذا المنهج آثار سيئة على الإسلام لأنه قائم على أسس من الفلسفة الوضعية التي تنكر الوحي والنبوات، ولا تقيم وزناً للدين . ومن العجيب أن يدعي أصحابه الموضوعية والحياد العلمي مع كونه غير شرعي وغير علمي . أما كونه غير شرعي فأمر لا يحتاج إلى دليل ، أما كونه غير علمي فقد ثبت بالاستقراء والتتبع لما يكتبونه عن التاريخ والثقافة الإسلامية أنه يقوم على الأسس التالية : أولاً - العمل على إخضاع النصوص للفكرة التي يفرضونها مسبقاً حسب أهوائهم ، ثم التحكم فيما يرفضون من النصوص المضادة لها بمجرد الهوى بل قد يصل الأمر ببعضهم إلى تحريف النصوص عندما يعجز عن تفسير النص على ما يريد . مثلما فعل ولهاوزن ، وكيتاني ولامانس ، وجولد تسيهر ، وفيليب حتى ، وكارل بروكلمان في كتاباتهم . ثانياً - الضعف العلمي وقلة الإحاطة بمصادر الثقافة والتراث الإسلامي الأساسية، لذلك تأتي آراؤهم وأحكامهم ناقصة الأدلة الصحيحة من النص أو الاستقراء .
(1/14)
ثالثاً - الجهل بمراتب المصادر العلمية أو تجاهل ذلك ، ومن هنا يتحكمون في المصادر التي يختارونها ، فتجدهم ينقلون من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث النبوي ، وينقلون من كتب التاريخ ما يحكمون به في الفقه ، ويصححون ما ينقله الدميري مثلاً في كتاب حياة الحيوان، ويكذبون ما يرويه الإمام مالك في الموطأ، ويهاجمون صحيح البخاري ، ويمجدون كتاب الأغاني . ( العلمانية للحوالي 550). رابعاً - فقدان الأمانة العلمية اتجاه المباحث الإسلامية وذلك لخاصية متأصلة في النفسية الأوربية شهد بها كاتب مطَّلع من بني جلدتهم بعد أن شرح الله صدره للإسلام هو محمد أسد في كتابه الإسلام على مفترق الطرق حيث قال : إن المستشرقين لا يحتفظون تجاه البحث في الإسلام بموقف علمي متزن ... وذكر مجموعة من الطرق التي يلجأون إليها في تشويه الإسلام . (الإسلام على مفترق الطرق 52 ـ55 ، 58 ، 61 ) . 3 - التفسير الخاطئ والفهم السقيم للنصوص : جهلاً أو تعمداً، وهذا نابع من الحنق على المسلمين والعداء لهم ، ويلاحظ هذا التفسير الخاطئ في كتابات المستشرقين عن كثير من القضايا الإسلامية مثل الجهاد والرق ، ومكانة المرأة في الإسلام ، والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمذاهب والفرق الإسلامية... الخ ، لأن مثل هذه القضايا لا تفسر بناء على الوقائع التاريخية وحدها بل لابد للكتابة فيها من معرفة الأحكام الشرعية وأصول التفسير والفقه وقواعد الشريعة، لأن معرفة هذه الأصول أمر لازم لمن يحلل النصوص التاريخية عن هذه القضايا ويفسرها، وهذا الجانب من المعرفة مفتقد عند عامة من كتبوا في التاريخ الإسلامي من المستشرقين . إن من المعلوم أن التاريخ ليس هو الحدث وحده بل هو الحدث وتفسيره والحدث وباعثه .
(1/15)
ولاشك أن العقيدة تأخذ جانباً كبيراً في تحديد البواعث والأهداف ، ومن هنا تأتي ضرورة معرفة الاتجاهات العقدية عند من صنعوا الحدث ومن كتبوه ومن فسروه ، حتى نستطيع أن نقدر التقدير الصحيح والنسب الحقيقية لكل العناصر الفاعلة في الحدث التاريخي ، فلابد من إدراك هذه العناصر الثلاثة الفاعلة ومعرفة أثر كل عنصر منها وحجمه ، حتى نفسر الحدث التاريخي تفسيراً صحيحاً . 4 - الاعتماد على مجرد الهوى في النقد والتحليل للحوادث التاريخية : كثير من المستشرقين وبعض من تأثر بهم يدعون مناقشة القضايا بمنطق العقل والعلم ولكن إذا فتشت في كتبهم وجدت أن ذلك مجرد دعوى لا دليل عليها بل الواقع يناقضها ، وأن نقدهم للنصوص والأخبار هو بمجرد الهوى والتذوق والميل الشخصي، ومن أمثلة ذلك (طه حسين) في كتابه ( على هامش السيرة ) ، الذي قيل إنه أحسن كتاب له في الإسلاميات، وتراجع فيه عن كثير من آرائه السابقة فكثيراً ما يستخدم عبارات مثيرة للشكوك مثل : (قيل ويقال ويروى ، وأكاد أقطع ، وأكبر الظن ..) وقال عن حديث متفق عليه : "وأكاد أقطع أن هذا الحديث مهما كان سنده غير صحيح" . ( على هامش السيرة 133 ) . 5- ومن أساليبهم : إضعاف دراسة التاريخ الإسلامي ومزاحمته بغيره: مما يضعف شأنه في نفوس الدارسين ، ويعطى لهم بصورة مختصرة ومشوهة ، بينما يفسح المجال لدراسات واسعة في التاريخ القديم ، ويربط سكان كل منطقة بتواريخ الأمم الجاهلية التي عاشت فيها ، ففي مصر الفرعونية ، وفي العراق البابلية والسومرية ، وفي بلاد الشام الفينيقية ، وفي اليمن السبائية والحميرية ، مما يحيي الوطنيات العرقية الضيقة في النفوس ويفتت الوحدة الإسلامية ويشتت أوصالها.
(1/16)
6ــ تصوير المسلمين في هذه العصور التي فسد فيها الناس على أنهم يمثلون الصورة الحقيقية للإسلام :وهذا تشويه متعمد ومغالطة للحقائق الثابتة ، والغرض من ذلك تزهيد المسلمين في دينهم والفصل بينهم وبينه ثم يجعلون المسلم بين خيارين إما أن يصبر على التخلف إذا أراد التمسك بدينه ، وإما أن يأخذ سبيل التقدم لكن عليه أن ينبذ دينه كما نبذت أوربا دينها ، ويخفون في دهاء ومكر الخيار الثالث الذي هو البديل الصحيح عن الخيارين السابقين، وهو النهوض بالأمة والرجوع بها إلى مستوى دينها الحق، وأن ما وقعت فيه الأمة من التخلف والانحطاط هو نتيجة طبيعية لتخلفها في عقيدتها وإسلامها، لا نتيجة تمسكها به كما يصور ذلك أعداؤها... . هناك فرق بين الإسلام ؛ وبين الخرافة التي كانت عليها أوربا وتسميها ديناً ، فمن الثابت أن أوروبا لم تتقدم مادياً وعسكرياً وعلمياً إلا بعد أن نبذت الخرافة وتخلت عنها وحررت عقلها من آثارها فإنها لم تكن على دين بل كانت على خرافة. ولا شك أن هذا الأسلوب في عرض المسألة وتصويرها هو من التلبيس المتعمد والتشويه المقصود الذي حاول المستشرقون زرعه في قلوب الناشئة من أبناء العالم الإسلامي.
(1/17)
7 - إبراز دور الفرق الضالة وتضخيمه : مثل الخوارج، والرافضة، والقرامطة وإخوان الصفا، والمعتزلة ، والجهمية وأيضاً من الشخصيات الضالة مثل ابن سبأ ، وعبيد الله بن ميمون القداح ، والحاكم العبيدي، وصاحب الزنج ، والحلاج ، وابن عربي ، وغيرهم فنشروا أفكارهم وكتاباتهم واعتنوا بتاريخهم وضخموا أدوارهم وأقاموا المراكز والجمعيات لخدمة ذلك ، مع تصويرهم لحركاتهم وإبرازها على أنها حركات إصلاحية ومعارضة للفساد ، تزويراً للحقائق وإخفاء للأهداف الحقيقية التي تسعى تلك الفرق وأولئك الأشخاص إلى تحقيقها وهي تحطيم الخلافة الإسلامية ، وتبديل مفاهيم الدين الصحيحة بمفاهيم باطنية ووضعية ، والكفر ملة واحدة والكفار بعضهم أولياء بعض لذلك لا نستغرب من المستشرقين إحياء تراث الفرق المنحرفة والشغب بها وبرجالها على التاريخ الإسلامي ، ومزاحمة سير رجاله وأبطاله ودعاته بسير قادة الفرق الضالة واتهام المؤرخين المسلمين بالتعصب ضدهم وتحريف تاريخهم، لا نستغرب ذلك لأنه مقتضى كفرهم وعداوتهم لأهل التوحيد والإيمان فهم يكيدون للمسلمين ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، ولا يتوقع من ملل الكفر عدل ولا إنصاف، ولكن المستغرب أن يناصرهم ويشايعهم من ينتسب للإسلام فيقوم بنشر سمومهم بين بني جلدتهم من المسلمين ليصرفوا به الأغرار عن الصراط المستقيم . هذه بعض الوسائل التي استخدمها دعاة الغزو الفكري في تشويه تاريخ الأمة الإسلامية ودينها، وهي ليست كل الوسائل ففي حصرها صعوبة بل لا تنحصر لأنها تتجدد حسب الظروف والمقتضيات وحسب الأهواء والرغبات ، ولأن كيدهم مستمر كما أخبر تعالى في كتابه : { ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } وقال عز وجل : {ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا } .
(1/18)
وأخيراً : تنبيه لأهل الترجمة : يقع كثير من الذين يترجمون معاني القرآن والألفاظ الإسلامية الأخرى إلى اللغات الأجنبية في فخ المصطلحات غير منتبهين إلى خصوصية المصطلح الإسلامي إن كان اصطلاحيّاً أو اللفظة القرآنية في محاولة تفسيرها تفسيراً ميسّراً . ومن هذا الباب نقل الألفاظ والمصطلحات الإسلامية إلى الإنجليزية مثلاً فبعض المترجمين يجعلون كلمة: (وضوء) مساوية لكلمة (أبلوشن ) ablutian، و (دين) مساوية لكلمة Religion، و (الله) ــ تعالى ــ مساوية لكلمة GOD، و ( رسول ) مساوية لكلمة Prophet ... وهذه الكلمات (العربية الإنجليزية) غير متساوية في الدلالة على المعنى الشرعي ولا مقاربة، فكلمة AbLutian تعني عند الإنجليز مثلاً التطهر بماء مقدس ، كماء التعميد، أو ماء نهر الجانج، أو الآبار المقدسة ، فهي تحمل ظلالاً وثنية مغروسة في ذهنية أبناء اللغة الأصليين . فالواجب على المترجمين أن يترجموا كلمة الوضوء إلى وضوء فقط ، ويكتبونها باللفظ العربي وبالأحرف اللاتينية ويشرحوا بعد ذلك معناها ،كذلك كلمة gods تعني: الآلهة الوثنية من الحجارة والخشب والبشر والبقر.فهي غير مساوية لكلمة الله وحاشاه تعالى من ذلك . والحمد لله رب العالمين
(1/19)