حجية خبر الآحاد
في العقائد والأحكام
إعداد الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، أحمدُه سبحانه، وأستغفره وأستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه، جعله رحمة للعالمين وخاتماً للأنبياء والمرسلين، وفتح الله به آذاناً صماً وقلوباً غُلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أما بعد:
فإن السنة المطهرة جعلها الله صنو القرآن، فقال سبحانه:?? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([النساء: 113] والحكمة هنا المراد بها – عند جمهور المفسرين – السنة. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه))(1). وكما أن الله تعالى أمرنا بالإيمان بالقرآن والعمل به فكذلك أمرنا بالإيمان بالرسول وبما جاء به مما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - من السنة قولاً أو عملاً أو اعتقاداً؛ قال الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( [الحشر: 7]. وقد سار على هذا الأصل صحابته ومن جاء بعدهم واقتفى أثرهم من أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا ولله الحمد والمنة.
__________
(1) أخرجه أبو داود 4/200، كتاب السنة، باب لزوم السنة والترمذي 5/37، كتاب العلم باب ما يُنهى عنه أن يقال عند حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال حديث حسن، وأحمد في المسند 4/130 – 131.(1/1)
وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - من كثرة الاختلاف والافتراق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تفترق اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ))(1).
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ(2)، وإياكم ومحدثات الأمور))(3).
كما أن الله حذر من الافتراق وبين أن عاقبته سيئة في الدنيا والآخرة فقال الله تعالى: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ([آل عمران: 105].
وقد عاش سلف هذه الأمة - الصحابة والتابعون - في ظل الكتاب والسنة يعملون بأوامرهما وينتهون عن نواهيهما، وما أشكل عليهم ردوه إلى القرآن والسنة فاستنبطه الذين أوتوا العلم منهم، عملاً بقول الله تعالى:
( ? ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( [النساء: 59].
وقوله عزوجل: ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ([النساء 83].
__________
(1) أخرجه أبو داود 4/5 ك السنة، والترمذي 5/25 ك الإيمان قال الترمذي: "حسن صحيح من حديث أبي هريرة" ونقل الشيخ الألباني تصحيحه عن جمع من الأئمة "انظر: السلسلة الصحيحة" رقم204.
(2) جمع ناجذ – بالذال المعجمة – وهو الناب وقيل الضرس.
(3) أخرجه أبو داود برقم 4607، وأحمد في المسند 4/126، الدارمي في السنن 1/44، وإسناده صحيح.(1/2)
فلما امتد الزمن بالناس، ودخل فيهم أو خالطوا من لم يقِرّ الدين في قلوبهم، وتحركت دفائن الحقد على الإسلام وأهله في قلوب اليهود والنصارى والمجوس، أخذوا يثيرون الشكوك والشبه في دلالات الألفاظ وأسانيد الأخبار، ونمت هذه البذور الفاسدة شيئاً فشيئاً حتى أصبحت تثار في مجالس العلم ومجامع الناس، بقصد وبغير قصد، فتلقفها من لا يعرف مقاصد باذريها، واتسع نطاقها حتى أصبحت تعقد لها المناظرات، وأخذ كل فريق يستخدم ما يشاء من الألفاظ وأسانيد الأخبار ويتلاعب بها، حتى نشأ ما يعرف بظنية ثبوت الخبر وقطعية ثبوته، ومن ثمَّ ظنية دلالته وقطعيتها، وهذا التصنيف وإن كان يمكن أن ينطبق على عموم الأخبار، إلا أنه لا ينطبق على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة. لكنهم أجروه على الكل، فنشأ علم التأويل بالنسبة للقرآن، ومصطلحُ المتواتر والآحاد بالنسبة للسنة، وجعلوا الميزان في معرفة التأويل وتحديد المصطلح هو العقل، وجعلوه حاكماً على القرآن –كما سيأتي– ثم قسموا الدين إلى أحكام وعقائد، وجعلوا لأدلة الأحكام ضوابط وشروطاً، ولأدلة العقائد ضوابط وشروطاً أخرى، في ضوء ما تمليه عليهم عقولهم، ويتفق مع قواعدهم وأصولهم التي هي أساساً مبنية على أوهام عقلية.
وما كان سلف الأمة ومن تبعهم بإحسان يفسرون القرآن إلا في ضوء ما ثبت من السنة أو أقوال الصحابة وعملهم، فإن لم يجدوا عمدوا إلى اللغة العربية السليمة فأرجعوه إليها.
وكذا الحال بالنسبة للسنة، ولم يكن يعرف عندهم الحديث المتواتر ولا الآحاد، وإنما ما ثبت عندهم عملوا به إن لم يكن منسوخاً أو معارضاً بما هو أرجح منه، سواء أكان ذلك في باب الأحكام أم في باب العقائد.
وقد تصدى سلف الأمة لظاهرة التفريق بين أحاديث الأحكام وأحاديث العقائد، سواء من حيث الشروط لكلٍّ أو من حيث الاحتجاج بها، وبينوا في ذلك وجه الحق.
وهذا البحث الذي بين يديك إنما هو جمع ما قيل حول هذا الموضوع(1/3)
-حجية أحاديث الآحاد في الأحكام والعقائد– سواء من جهة من يحتج بها أو من يخالفها – وتحرير الكلام في هذه المسألة وبيان الراجح إن شاء الله. وقد سرت فيه وفق المنهج التالي:
الفصل الأول: أقسام الحديث وفيه:
( أ ) توطئة: وفيها بيان أقسام الحديث إجمالاً.
(ب) أقسام الحديث باعتبار طرقه: متواتر، وآحاد.
1- تمهيد: في بيان نشأة هذين المصطلحين وتطورهما.
2- المبحث الأول: في المتواتر وفيه:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
شرح التعريف وبيان محترزاته.
أنواعه.
شروط الحديث المتواتر.
ما يفيده الحديث المتواتر من العلم.
وجود الحديث المتواتر.
حكم العمل به.
أهم الكتب المصنفة فيه.
3- المبحث الثاني: في حديث الآحاد وفيه:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
أنواعه:
أ- المشهور:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
الفرق بينه وبين المستفيض.
أنواعه مع التمثيل لكل نوع.
أهم الكتب المصنفة فيه.
ب- العزيز:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
التمثيل له وشرح التمثيل.
ج- الغريب:
تعريفه لغة واصطلاحاً.
الفرق بينه وبين الفرد.
أنواعه مع التمثيل لكل نوع.
أهم الكتب المصنفة فيه.
د- ما يفيده خبر الآحاد من العلم.
الفصل الثاني: في شروط قبول حديث الآحاد، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الشروط المتفق عليها.
المبحث الثاني: الشروط المختلف فيها.
الفصل الثالث: الأقوال في حجية خبر الآحاد.
1- توطئة.
المبحث الأول: أدلة القائلين بحجية خبر الآحاد في الأحكام والعقائد مطلقاً.
أ- من الكتاب.
ب- السنة.
ج- الإجماع.
د- القياس.
هـ- العقل.
المبحث الثاني: أدلة القائلين بحجية خبر الآحاد في الأحكام دون العقائد.
توطئة.
شبهتهم.
أدلتهم:
أ- من القرآن.
ب- من السنة.
ج- القياس.
د- العقل.
المبحث الثالث: أدلة القائلين بعدم الاحتجاج بالسنة مطلقاً.
توطئة:
أ- من القرآن.
ب- من السنة.
ج- من العقل.
الخاتمة.
الفهارس.
فهرس المصادر والمراجع.
فهرس الموضوعات.(1/4)
وأخيراً: أسأل الله العلي العظيم أن يجعل عملنا وأقوالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يرزقنا الإنصاف فيما نقول ونحكم، وأن يتقبل هذا العمل ويجعله في ميزان الأعمال الصالحة ( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الشعراء: 88-89] وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد.
الفصل الأول:
أقسام الحديث
الفصل الأول: أقسام الحديث
توطئة:
قسم العلماء الحديث باعتبارات عدة إلى أقسام على النحو التالي:
أ) أقسام الحديث باعتبار القبول والرد:
وقسموه بهذا الاعتبار إلى قسمين:
الأول: المقبول. ويدخل فيه الصحيح بأنواعه – لذاته ولغيره – والحسن – لذاته أو لغيره -.
الثاني: المردود – وهو الضعيف وهو قسمان:
الأول: ضعيف منجبر – وأسبابه كثيرة دون الكذب أو التهمة به.
الثاني: ضعيف لا ينجبر – وهو الحديث الذي يكون في إسناده كذاب أو متهم بالكذب.
ب) أقسام الحديث باعتبار طرقه:
ينقسم الحديث باعتبار طرقه إلى:
1- عند الجمهور قسمان:
الأول: المتواتر.
الثاني: الآحاد.
2- عند الأحناف ثلاثة:
1- المتواتر.……2- المشهور.……3- الآحاد.
وفيما يلي تفصيل ذلك، بعد تمهيد بين يدي هذا التقسيم.
تمهيد: وفيه بيان نشأة مصطلحي المتواتر والآحاد.(1/5)
أولاً: من المسلم به عند العلماء - على اختلاف تخصصاتهم – أن تقسيم الحديث وفق طرقه إلى متواتر وآحاد لم يكن معروفاً في زمن الصحابة - رضي الله عنهم -. ومن المتيقن – أيضاً – أنهم كانوا ينزلون حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة واحدة من حيث القبول والعمل، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمعهم كلما أراد أن يحدثهم عن ربهم مع علمه وعلمهم بكثرة المنافقين والكذابين وكثرة خصومهم – في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - - وبعد موته، وكان كل واحد منهم يحدث بما بلغه عن رسول الله – قولاً أو عملاً – ويحدث به مَنْ لم يحضر مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيد هذا قول البراء بن عازب رضي الله عنهما: "ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت لنا ضَياع(1) وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب"(2).
ومثله قول أنس - رضي الله عنه -: "والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله سمعناه منه، ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضا"(3). ولم ينقل عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - حرف واحد في أنهم طلبوا التحري في حديث بعضهم لشبهة عرضت لهم فيه، لكن للتثبت وزيادة الاحتياط.
واستمر الأمر كذلك إلى نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، فكان ذلك بمنزلة الإجماع منهم.
__________
(1) جمع ضيعة، وهي المعايش والعيال، النهاية 3/107.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" وأخرجه أحمد 4/283، والحاكم في المستدرك 1/95، وصححه ووافقه الذهبي.
(3) مجمع الزوائد 1/153.(1/6)
قال الإمام ابن القيم "ت 751 هـ": " فهذا لا يشكك فيه من له خبرة بالمنقول، فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث، وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك تابع التابعين مع التابعين، وهذا أمر يعلمه ضرورة أهل الحديث كما يعلمون عدالة الصحابة وصدقهم ونقلهم ذلك عن نبيهم "(1).
وقال الإمام أبو محمد بن حزم " ت 457هـ ": " إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، يجري على ذلك كل فرقة في عملها، حتى حدث متكلمو المعتزلة(2) بعد المائة من التاريخ فخالفوا"(3).
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/433.
(2) المعتزلة: فرقة بزغت في أوائل القرن الثاني الهجري في عصر الحسن البصري ،حيث سأله أحد تلاميذه فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا ذلك اعتقاداً؟ ففكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء – أحد تلاميذ الحسن – أنا أقول إن صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو فيها لا مؤمن ولا كافر، فأغضب ذلك الحسن البصري فطرده من حلقته فاعتزل واصل إلى سارية في المسجد يقرر ما ذهب إليه... وانضم إليه نفر وصار له أتباع فسموا المعتزلة.، انظر: الفرق بين الفرق، ص20، والملل والنحل للشهرستاني 1/48.
(3) الإحكام في أصول الأحكام 1/88.(1/7)
وقال الشيخ الألباني – رحمه الله -: "إننا على يقين أنهم – يعني الصحابة كانوا يجزمون بكل ما يحدث به أحدهم من حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه: خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر، بل لم يكونوا يعرفون هذه الفلسفة التي تسربت إلى بعض المسلمين بعدهم"(1).
وقال شيخنا الدكتور عبد الله الجبرين حفظه الله: "ومن المتحقق أن هذا التقسيم لم يكن معروفاً بين الصحابة والتابعين الذين إنما يعتبرون صحة المنقول وبطلانه – غالباً - باعتبار حال الناقل له من ثقته وأمانته أو ضد ذلك"(2).
ثانياً: أن تقسيم الحديث على ما يفيد التواتر وإلى ما هو آحاد كان نتيجة لعلم الكلام الذي بدأ ظهوره في المجتمع المسلم بظهور الفرق- كما أشار ابن حزم وغيره -.
ثالثاً: أن علم الكلام اعتمد العقل في الاستدلال على القبيح والحسن من الأقوال والأفعال، وقدمه على القرآن والسنة، بل إن ما خالف العقل من القرآن فلابدَّ من تأويله حتى يخضع لمراد العقل، وكذلك ما خالفه من السنة أو يُرْفَض، فقسموا السنة إلى متواتر وآحاد، حتى يتسنَّى لهم قبول ما يريدون ورفض ما يريدون.
ومن الأسس التي بنى عليها المعتزلة أصولهم – تقديم العقل على النقل– القرآن والسنة.
قال أبو علي الجبائي: (ت 303هـ) -وهو من رواد هذا الفكر والمنظرين له–: "إن سائر ما ورد به القرآن في التوحيد والعدل ورد مؤكداً لما في العقل، فأمَّا أن يكون دليلاً بنفسه يمكن الاستدلال به فمحال "(3).
ويقول النظام: (ت 222هـ) "إن جهة حجة العقل قد تنسخ الأخبار"(4).
وأقوال المعتزلة وتطبيقاتهم في رفض ما خالف العقل معلومة مشهورة.
__________
(1) وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة، ص 12.
(2) أخبار الآحاد في الحديث النبوي، ص 30.
(3) المحيط بالتكليف 4/174.
(4) تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة، ص 43.(1/8)
رابعاً: وبناءً على ما تقدم فإن المعتزلة والجهمية(1) كانوا أول من اشترط العدد في الحديث المتواتر - كما سيأتي – إذ أثاروا قضية قطعية أو ظنية ثبوت دلالتها ومن ثم قطعية أو ظنية دلالاتها. ولم يسعهم ما وسع سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان من قبول ما توافرت فيه شروط الحديث المقبول من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بناءً على مسلك الصحابة والتابعين أومسلك المتأخرين الذين قعدوا القواعد ووضعوا الشروط -كما سيأتي -.
ويرى أحمد أمين (ت 1373هـ) أن هذه النزعة عند المعتزلة لم تكن وليدة الصدفة، وإنما ذلك نتيجة لتأثرهم بالفلسفة اليونانية، إمَّا عن طريق مخالطة الداخلين في الإسلام من هذا الجنس، أو لقراءتهم في كتبهم المترجمة حيث قال: "وكان المعتزلة أسرع الفرق استفادة من الفلسفة اليونانية، وصبغها بصبغة الإسلام، والاستعانة بها على نظرياتهم وجدلهم، وكان من أشهر من استخدم الفلسفة في ذلك أبو الهذيل العلاف، والنظام، والجاحظ، وهؤلاء الثلاثة هم أبرز قادة ومنظِّري المعتزلة "(2).
ولماَّ كان الخبر – مطلقاً – يحتمل أن يكون صدقاً أو كذباً، نشأ هذا التساؤل وهو: ما الحد الذي يكون به الخبر صدقاً؟ ثم إذا كان صدقاً هل هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة أم أنه ظني الثبوت ظني الدلالة؟(3).
وقد تأثر بأفكار المعتزلة والجهمية من عاصرهم أو جاء بعدهم، وكان تأثرهم إمَّا من باب المقارعة والمجادلة، وإمَّا من باب المجاراة والقناعة بأفكارهم، حتى تحوَّل علم التوحيد والعقيدة إلى علم كلام، وكذا الحال بعلم الأصول.
خامساً: كان الإمام الشافعي (ت 204هـ) هو أول من تكلم في أصول الفقه والحديث؛ نتيجة لسريان تلك المفاهيم في الحياة العلمية في زمانه.
__________
(1) هي إحدى فرق المرجئة أتباع الجهم بن صفوان السمرقندي " قتل سنة 128هـ".
(2) فجر الإسلام، ص299.
(3) انظر الفروق للقرافي 1/24، وإرشاد الفحول للشوكاني 1/44.(1/9)
قال رحمه الله: "قال لي قائل: اُحدُدْ لي أقلَّ ما تقوم به الحجة على أهل العلم حتى يثبت عليهم خبر الخاصة. فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى ينتهي به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مَن انتهى به إليه دونه، ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً:
منها: أن يكون حدث به ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً لما يحدث به، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون من يؤدي الحديث بحروفه كما سمع لا يحدث به على المعنى... حافظاً إن حدث من حفظه، حافظاً لكتابه إن حدث من كتابه، وإذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم، بريئاً من أن يكون مدلساً... وأن يكون هكذا مَن فوقه من حدثه حتى ينتهي الحديث موصولاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى من انتهى به إليه دونه... "(1).
والجميع يعلم أن الإمام الشافعي كان فقيهاً أصولياً -أكثر منه محدثاً- إلاَّ أنه اعتمد الحديث وطريقة أهله في تقعيده لعلمي أصول الفقه وأصول الحديث، بعيداً عن علم الكلام وتطبيقاته العملية، لذا نجده يحذر من علم الكلام وأهله، واشتهر عنه قوله: " حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الرأي "(2).
سادساً: أن من جاء بعد الإمام الشافعي - ولاسيما علماء الأصول - لم يَسْلموا من تأثير علم الكلام في تصانيفهم، حتى أصبح يطلق عليهم فيما بعد: علماء المتكلمين، ويراد بهم علماء الأصول.
__________
(1) الرسالة، ص 369 – 373، بتصرف.
(2) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي، ص 156.(1/10)
ولمَّا كان أصول الفقه الغرض منه وضع القواعد الكلية التي تستخرج بها الأحكام من أدلتها التفصيلية، وكانت السنة المطهرة هي المصدر الثاني لتلك الأدلة، فقد كان لعلماء الأصول عناية بالسنة النبوية من حيث معرفة طرقها وتعددها وما يترتب على ذلك من قوة الدليل وترجيح دليل على آخر، لكنهم لمَّا كانوا متأثرين بعلم الكلام نجد أنهم لم يتحرروا من قضايا قطعية الثبوت للدليل أو ظنيته، ومن ثم ظنية الدلالة وقطعيتها، مع أنهم قسموا الخبر – ومنه الحديث – إلى متواتر وآحاد، فإن المتواتر أيضاً لم يسلم من وضعه تحت هذا المحك نتيجة لتأثرهم بعلم الكلام.
ويعدّ الأصوليون هم أول من قسم الحديث إلى متواتر وآحاد، وقد شهد لهم بهذا علماء الحديث أنفسهم.
فهذا الإمام الخطيب البغدادي ينقل في "الكفاية"(1) تعريف الأصوليين للخبر، وتقسيمهم له إلى متواتر وآحاد، ويكاد يكون كلامه نقلاً لما ذكره الأصوليون، وقد أفصح عن ذلك الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في مقدمته فقال: "ومن المشهور: المتواتر(2) الذي يذكره أهل الفقه وأصوله. وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص، وإن كان الخطيب قد ذكره ففي كلامه أنه اتبع فيه غير أهل الحديث، ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم، ولا يكاد يوجد في رواياتهم "(3).
__________
(1) ص 50.
(2) قال الشيخ محمد راغب الطباخ – في تعليقه على التقييد، ص 225 –: ظاهره يفيد أن المتواتر من أقسام المشهور ولعله أراد المشهور بالمعنى اللغوي أما بالمعنى الاصطلاحي فليس المتواتر من أقسام المشهور بل هو قسم على حدة " ا.هـ.
(3) ص 267.(1/11)
وقال ابن أبي الدم الشافعي(1): "اعلم أن خبر المتواتر إنما ذكره الأصوليون دون المحدثين، خلا الخطيب أبا بكر البغدادي، فإنه ذكره تبعاً للمذكورين، وإنما لم يذكره المحدثون؛ لأنه لا يكاد يوجد في رواياتهم ولا يدخل في صناعتهم"(2).
وقال النووي – عند كلامه على الحديث المشهور -: "ومنه المتواتر المعروف في الفقه وأصوله، ولا يذكره المحدثون ولا يكاد يوجد في رواياتهم"(3).
قال العراقي زين الدين عبد الرحيم: "وقد اعترض عليه بأنه قد ذكره أبو عبدالله الحاكم وأبو محمد بن حزم وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم من أهل الحديث "(4).
وأجاب عن ذلك فقال: "إنه إنما نفى عن أهل الحديث ذكره باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص،وهؤلاء المذكورون لم يقع في كلامهم التعبيرعنه بما فسره به الأصوليون، وإنما يقع في كلامهم أنه تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، أو أن الحديث الفلاني متواتر، كقول ابن عبد البر في حديث المسح على الخفين إنه استفاض وتواتر، وقد يريدون الاشتهار لا المعنى الذي فسره به الأصوليون والله أعلم"(5).
وخلاصة هذا التمهيد:
1- أن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان حتى نهاية القرن الأول لم يكونوا يعرفون تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد، وإنما حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندهم بمنزلة واحدة، يؤمنون به ويعملون به من غير تمييز بين من كثر رواته ومن قلُّوا.
2- أن أول من أحدث بوادر هذا التقسيم هم المعتزلة والمرجئة، ثم من تفرع عنهم أو تأثر بهم من الفرق.
__________
(1) هو إبراهيم بن عبد المنعم الهمْداني الحموي(ت 642هـ).
(2) لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة للزبيدي، ص 17.
(3) تدريب الراوي 2/626.
(4) التقييد والإيضاح، ص 225.
(5) المرجع السابق، وانظر محاسن الاصطلاح للبُلقيني حاشية على مقدمة ابن الصلاح، ص 453، تحقيق عائشة بنت الشاطئ.(1/12)
3- أن هذا التقسيم كان نتيجة للتأثر بعلم الكلام الذي يستخدم الحقيقة والمجاز وما يترتب على ذلك من القطعية أو الظنية في الثبوت والدلالة، وكان أول من تأثر بعلم الكلام هم المعتزلة - كما تقدم من كلام أحمد أمين -.
4- أن أول من قَعَّد علم أصول الفقه والحديث هو الإمام الشافعي، لكن بعيداً عن علم الكلام ومنطلقاته.
5- أن علماء الأصول – بعد الإمام الشافعي - قد تأثروا كثيراً بعلم الكلام، وهم أول من قسم الخبر – ومنه الحديث - إلى قطعي الثبوت، وظني الثبوت، ومنه المتواتر والآحاد.
6- أن أول من ذكر المتواتر في أصول الحديث هو الإمام الخطيب البغدادي، ثم نقله عنه من جاء بعده، حتى استقر التقسيم بمعناه الاصطلاحي في زمن الإمام الحافظ ابن حجر "ت852هـ" والله أعلم.
المتواتر
تعريفه في اللغة:
المتواتر: اسم فاعل من التواتر، أصلها: وتر التاء الأولى مبدلة من الواو، كتاء تقوى، والتواتر التتابع، يقال: تواتر القوم أو تواتر القطا على الماء، إذا جاؤوا واحداً بعد واحد بينهما فترة زمنية(1).
ومنه قول الله تعالى:( ( ( ( ( ( [المؤمنون: 44] أي واحداً بعد واحد بينهما فترة؛ لأن "ترى" من الوتر وهو الفرد(2).
وقيل: التواتر التتابع سواء كان بينهما فترة أم لا(3).
وتواتُر الخبر: مجيء المخبرين به واحداً بعد واحد من غير اتصال(4).
وفي الاصطلاح:
هو ما رواه جماعة يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم، وأسندوه إلى شيء محسوس، ويصحب خبرهم إفادة العلم بنفسه لسامعه.
وهذا التعريف يكاد يجمع عليه الأصوليون(5) والمحدثون، وإن كان بهذا اللفظ هو الأشهر عند المحدثين.
__________
(1) تاج العروس 3/596، ولسان العرب 5/275.
(2) مختار الصحاح، ص 708.
(3) تاج العروس، ولسان العرب "تقدما".
(4) توجيه النظر 1/109.
(5) انظر: الإحكام للآمدي 1/15، مختصر ابن الحاجب 2/51، مقاصد المحدثين في القديم والحديث 2/7.(1/13)
وهو مستخلص من كلام الإمام الخطيب البغدادي"ت463هـ"(1)، حيث قال: "فأما الخبر المتواتر: فهو ما أخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حدًّا يعلم عند مشاهدتهم بمستقر العادة أن اتفاق الكذب منهم محال، وأن التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر عنهم الخبر فيه متعذر، وأن ما أخبروا عنه لا يجوز دخول اللبس والشبهة في مثله، وأن أسباب القهر والغلبة والأمور الداعية إلى الكذب منتفية عنهم"(2).
ويزيد الحافظ ابن حجر "ت 852هـ" الأمر وضوحاً وتحديداً فيقول:
"المتواتر: هو الخبر الذي جمع أربعة شروط هي:
عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب.
رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء.
وكان مستند انتهائهم الحس.
وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه"(3).
شروط المتواتر:
شروط الحديث المتواتر المتفق عليها:
1 – أن يرويه جماعة كثيرة.
2 – أن يستحيل تواطؤهم على الكذب.
3 – استمرار تلك الكثرة في جميع طبقات الإسناد.
4 – أن يكون إخبارهم عن علم لا عن ظن.
5 – أن يكون مستند خبرهم الحس لا العقل.
أقسام المتواتر:
ينقسم المتواتر إلى قسمين:
الأول: المتواتر اللفظي: وهو الحديث الذي تواتر لفظه، بمعنى أن يتتابع الرواة على روايته بلفظ واحد.
مثاله: وأشهر مثال له عند المحدثين حديث: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(4).
قال الإمام النووي "ت 676هـ": "لا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة المبشرون بالجنة إلاّ هذا الحديث، ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابياً إلاّ هذا، وقال بعضهم رواه مئتان من الصحابة"(5).
__________
(1) تقدم ص: 16.
(2) الكفاية، ص: 50.
(3) شرح نخبة الفكر، ص: 3.
(4) هذا الحديث له طرق كثيرة منها ما هو في الصحيحين ومنها ما هو في غيرهما، وقد جمعها الإمام الطبراني وغيره كما سيأتي.
(5) شرح النووي على مسلم 1/68.(1/14)
وقال زين الدين العراقي "ت 806هـ": "ليس هذا المتن وإنما هي أحاديث في مطلق الكذب والخاص بهذا المتن رواه بضعة وسبعون صحابياً". ثم عدهم(1).
وقال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "وأستبعد أن يكون ذلك العدد أو أكثر منه، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة"(2).
قلت: وللإمام الطبراني "ت 360هـ": جزء جمع فيه طرق هذا الحديث(3)، فأوصلها إلى ستين طريقاً.
الثاني: المتواتر المعنوي: وهو الحديث الذي ورد بألفاظ مختلفة ومعناها واحد.
مثاله: أمثلته كثيرة منها:
حديث رفع اليدين في الدعاء فقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القدر نحو من مائة صحابي في وقائع مختلفة.
وكأحاديث الشفاعة.
وأحاديث رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة.
وجود الحديث المتواتر:
اختلف العلماء في وجوده على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه معدوم ولا وجود له، وإلى هذا ذهب ابن أبي الدم "ت642هـ"، وابن حبان "ت 354هـ"، والإمام الحازمي "ت 584هـ".
قال ابن أبي الدم:"ومن رام من المحدثين وغيرهم ذكر حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متواتر وجدت فيه شروط المتواتر فقد رام محالاً"(4).
وقال الإمام ابن حبان: "أما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد؛ لأنه ليس يوجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خبر من رواية عدلين روى أحدهما عن عدلين وكل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما استحال هذا وبطل ثبت أن الأخبار كلها؛ آحاد ومن شَرَطَ ذلك فقد عمد إلى ترك السنن كلها؛ لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد"(5).
__________
(1) انظر: التبصرة 2/277.
(2) فتح الباري 1/11، والتلخيص الحبير 1/54.
(3) حققه علي حسن علي عبد الحميد وآخر.
(4) لقط اللآلي المتناثرة، ص: 16، للزبيدي.
(5) شروط الأئمة الخمسة، ص: 32.(1/15)
قلت: وكلامه هنا منصب على ما يعرف عند المحدثين بـ(العزيز) وهو أحد أقسام الآحاد – كما سيأتي(1) – فوجود المتواتر من باب أبعد، ووافقه الحازمي فقال: "ومن سبر مطالع الأخبار عرف أن ما ذكره ابن حبان أقرب إلى الصواب"(2).
القول الثاني: أن الحديث المتواتر قليل نادر يعز وجوده، وأشار إلى هذا الإمام النووي "ت 676هـ" حيث قال: "وذهب كثير من العلماء إلى أنه قليل نادر، لا يكاد يوجد في روايات العلماء"(3).
وعليه الحافظ ابن الصلاح "ت 643هـ": حيث قال: "ومن سئل عن أبرز مثال لذلك فيما يرويه من الحديث أعياه طلبه"(4)، ووافقهم من المعاصرين الشيخ محمود شلتوت رحمه الله(5).
القول الثالث: أن الحديث المتواتر في السنة موجود وكثير، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء.
وحجتهم: أن كتب السنة والمسانيد وغيرها قد انتشرت واشتهرت بين أهل العلم، وقطعوا بصحة نسبتها إلى أصحابها الذين صنفوها، وكثيراً ما تتفق على إخراج أحاديث قد تعددت طرقها في كل طبقات رواتها، تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب أو صدوره منهم اتفاقاً، وكلها قد انتهت إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً وجود كثرة في الأحاديث: أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت إلى إخراج حديث، وقد تعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب – إلى آخر الشروط – أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير"(6).
__________
(1) ص:37.
(2) شروط الأئمة الخمسة، ص: 32.
(3) انظر: تدريب الراوي 2/627.
(4) علوم الحديث له، ص 162.
(5) انظر: كتابه الإسلام عقيدة وشريعة ص: 62، حيث بوب لذلك فقال: باب الإسراف في وصف الأحاديث بالتواتر وأسبابه.
(6) نزهة النظر، ص: 19.(1/16)
وقال في الرد على القولين الأولين -يعني القلة والندرة(1)-: "ممنوع وكذا ما ادعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك ناشئ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطؤوا على كذب أو يحصل منهم اتفاقاً"(2).
قلت: ويمكن الجمع بين القولين الأولين من جهة والقول الثالث من جهة أخرى، وذلك بحمل القولين على المتواتر اللفظي؛ فإنه فعلاً قليل نادر إذا قورن بالمتواتر المعنوي، وبحمل قول الجمهور على المتواتر المعنوي، فإنه كثير إذا قورن بالمتواتر اللفظي والله أعلم(3).
ما يفيده الحديث المتواتر من العلم:
يكاد العلماء - من أهل الفقه والأصول والحديث – يجمعون على أن الحديث المتواتر يفيد العلم الضروري، والمراد به: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع. وخالف في ذلك من الفرق القديمة: البراهمة(4)، والسُّمنية(5)، والنظّام من المعتزلة.
وقالوا: إن العلم الضروي لا يدرك إلا بالحواس دون الأخبار وغيرها.
وقد ردَّ عليهم الإمام الآمدي "ت 631هـ" في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام"(6)، فقال: "اتفق الكل على أن الخبر المتواتر يفيد العلم خلافاً للسمنية والبراهمة في قولهم لا علم في غير الضروريات إلا بالحواس دون الأخبار وغيرها.
__________
(1) هذا من عندي للإيضاح.
(2) النكت على نزهة النظر، ص: 61.
(3) وانظر: شرح النووي على مسلم 1/120.
(4) هم: قوم دهريون ينكرون الرسالات ويزعمون أنهم أولاد إبراهيم عليه السلام - ولا يزالون إلى اليوم يعبدون الأوثان - وهم بالهند، انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/174.
(5) بضم السين: طائفة دهرية أيضاً تقول بالتناسخ وتنكر حصول العلم بالأخبار. انظر: فواتح الرحموت 1/113.
(6) 2/15.(1/17)
ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضروري بالبلاد النائية والأمم السالفة والقرون الخالية والملوك والأنبياء والأئمة والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين بما يرد علينا، ومن أنكر ذلك فقد سقطت مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته" ا.هـ.
وفي العمدة(1) للقاضي أبي يعلى "ت 458هـ": العلم الواقع بالأخبار المتواترة معلوم من جهة الضرورة لا من جهة الاكتساب والاستدلال، وهو قول أكثر أهل العلم...".
وقال الشوكاني "ت 1250هـ": "واعلم أنه لم يخالف أحد من أهل الإسلام ولا من العقلاء في أن خبر المتواتر يفيد العلم الضروري، وما روي من الخلاف في ذلك عن السُّمنية والبراهمة فهو خلاف باطل لا يستحق قائله الجواب عليه"(2).
وذهب إمام الحرمين الجويني "ت 478هـ"، وأبو القاسم الكعبي(3)، من المعتزلة إلى أن: "الحديث المتواتر لا يفيد إلا العلم النظري، أي أنه لايفيد العلم بذاته من خلال شروطه المتقدمة، ولكن لابدَّ من النظر في أدلة وقرائن أخرى تكسبه القوة"(4).
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "وهذا ليس بشيء؛ لأن العلم الحاصل بالمتواتر حاصل لمن ليس له أهلية النظر كالعامي، إذ النظر ترتيب أمور معلومة أو مظنونة يتوصل بها إلى علوم أو ظنون، وليس في العامي أهلية ذلك، فلو كان نظرياً لما حصل لهم ولا لاح بهذا التقرير بين العلم الضروري والعلم النظري؛ إذ الضروري يفيد العلم بلا استدلال، والنظري يفيده لكن مع الاستدلال على الإفادة، والضروري يحصل لكل سامع، والنظري لا يحصل إلاّ لمن فيه أهلية النظر"(5).
__________
(1) 3/847.
(2) إرشاد الفحول 1/202.
(3) هو عبد الله بن أحمد البلخي من شيوخ المعتزلة.
(4) انظر: المنهاج بشرح الإسنوي 2/217، 218، ومناهج العقول شرح منهاج الوصول 2/217، والمسودة في الأصول ص: 234.
(5) النكت على نزهة النظر، ص: 59.(1/18)
وقال أيضاً: "والمتواتر لا يبحث عن رجاله، بل يجب العمل به من غير بحث"(1).
وقال العلامة طاهر الجزائري: "ت1338هـ": "أراد بما ذكر أن المتواتر لا يبحث فيه عن رواته وصفاتهم على الوجه الذي يجري في أخبار الآحاد، وهذا لا ينافي البحث عن رواته إجمالاً من جهة بلوغهم في الكثرة إلى حد يمنع تواطؤهم على الكذب فيه أو حصوله منهم بطريق الاتفاق... وكذلك البحث عن القرائن المختصة به"(2).
حكم العمل بالحديث المتواتر:
تقدم معنا أن الإجماع قام على أن الحديث المتواتر يفيد العلم الضروري إلاّ من شذ، وهذا يعني لزوم العمل به ولهذا:
قال ابن عبد البر "ت 463هـ: "تنقسم السنة إلى قسمين: أحدهما: إجماع تنقله الكافة عن الكافة، فهذا من الحجج القاطعة للأعذار إذا لم يكن هناك خلاف، ومن رد إجماعهم فقد رد نصاً من نصوص الله يجب استتابته عليه وإراقة دمه إذا لم يتب؛ لخروجه عما أجمع عليه المسلمون، وسلوكه غير سبيل جميعهم"(3).
وتقدم كلام الحافظ ابن حجر في هذه المسألة قريباً.
ويفهم مما نقله الشيخ طاهر الجزائري في "توجيه النظر"(4) عن الجصاص وآخرين، أنهم يكفرون من أنكر الحديث المتواتر؛ لأنه يعني تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
من أهم الكتب المؤلفة في المتواتر:
1 – "الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة" - للإمام جلال الدين السيوطي "ت 911هـ".وهو مرتب على الأبواب مع ذكر إسناد كل حديث ومن رواه من الصحابة عشرة فصاعداً.
وقد جرده من الأسانيد في كتاب آخر سماه:
2 – "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة".
3 – "اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة"، لشمس الدين محمد بن محمد ابن طولون "ت 953هـ".
4 – "لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة"، لأبي الفيض محمد مرتضى الحسيني الزبيدي "ت 1205هـ".
__________
(1) السابق، ص: 60.
(2) توجيه النظر1/139، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة.
(3) جامع بيان العلم وفضله، 2/33.
(4) 1/114.(1/19)
5 – "نظم المتناثر من الحديث المتواتر "للسيد محمد بن جعفر الكتاني "ت 1345هـ " جمع فيه ما سُبق إليه مع زيادات، وهو يعد أوسع ما صنف في بابه.
الآحاد
تعريفه:
لغة: الآحاد جمع أحد بمعنى واحد - كشاهد مفرد أشهاد - وأصل الكلمة: أأحاد - بهمزتين - فأبدلت الثانية ألفاً لسكونها وانفتاح ما قبلها(1).
وسمي الآحاد بهذا الاسم؛ لأن رواته أفراد قليلون بالنسبة للمتواتر، والمراد أحاديث الآحاد، لكن حذف المضاف لكثرة الاستعمال، والمعنى اللغوي مطابق لخبر الواحد، وهو ما رواه فرد واحد أو من هو في حكم الواحد.
وفي الاصطلاح: هو الحديث الذي لم يبلغ حدَّ التواتر(2).
أقسامه:
قسم جمهور العلماء من المحدثين، والأصوليين، والفقهاء حديث الآحاد إلى ثلاثة أقسام(3):
1 - المشهور……2 - العزيز……3 - الغريب.
أمّا الحنفية فقد أخرجوا المشهور من الآحاد وجعلوه واسطة بين المتواتر والآحاد، فالحديث عندهم: "متواتر، مشهور، آحاد"(4) وسيأتي تعريف المشهور عندهم.
القسم الأول: المشهور(5).
تعريفه لغة: مصدر من الفعل شهر أو اشتهر، يقال: شهر الأمر أو اشتهر الأمر إذا ظهر وبان أو ذاع وانتشر، وسمي الحديث المشهور بهذا لوضوحه واشتهاره(6).
__________
(1) القاموس المحيط 1/240.
(2) نزهة النظر للحافظ ابن حجر،ص: 22.
(3) انظر: المرجع السابق، ص: 19 - 24، والإحكام للآمدي 2/31، ومختصر ابن الحاجب مع شرحه 2/52.
(4) انظر: مختصر ابن الحاجب وشرحه 2/55، والإحكام للآمدي 2/31، وكشف الأسرار 2/368.
(5) من مراجع هذا القسم: علوم الحديث لابن الصلاح ص 92، فتح المغيث للسخاوي 4/8، تدريب الراوي 2/173، شرح نخبة الفكر، ص 192.
(6) انظر فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت 2/111، وإرشاد الفحول 1/49، انظر: الصحاح للجوهري ص 705، ولسان العرب ص 431، ومعجم مقاييس اللغة 3/223.(1/20)
وفي اصطلاح الجمهور: هو الحديث الذي له طرق محصورة بأكثر من اثنين ولم يبلغ حد التواتر. وعند الحنفية: ما كان آحادي الأصل متواتر الفرع، بمعنى أن يكون الصحابي الراوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - له واحداً ثم يتواتر في طبقة التابعين فمن بعدهم(1).
قوله: "محصورة"، قيد خرج به الحديث المتواتر، فإنه لا يحصر بطرق معينة على الصحيح، وقوله: "بأكثر من اثنين" قيد خرج به العزيز والغريب.
واعتبره الجصاص الرازي "ت370هـ" من الحديث المتواتر، خلافاً للجمهور، وسماه بعض الأصوليين بالمستفيض لاشتراكهما في المعنى اللغوي؛ لأن المستفيض في اللغة مأخوذ من قولهم: فاض الماء إذا كثر حتى سال على طرف الوادي، ويقال: استفاض الخبر أي شاع وانتشر(2).
وقيل: المستفيض في الاصطلاح ما تساوى فيه الطرفان والوسط، والمشهور أعم من ذلك.
وقيل: المستفيض ما تلقته الأمة بالقبول دون اعتبار لعدد، فهو والمتواتر سواء(3).
والصحيح: أنهما بمعنى واحد، لكن الاختلاف في الاستعمال، فالأصوليون يسمون المشهور مستفيضاً، والمحدثون عندهم المشهور والمستفيض بمعنى واحد.
أقسام الحديث المشهور:
ينقسم إلى قسمين:
1- المشهور عند المحدثين " الاصطلاحي " وتقدم تعريفه.
2- المشهور على ألسنة العامة، وهذا أنواع كثيرة ويدخل فيه المتواتر، والعزيز، والفرد، وما ليس له أصل، والموضوع.
الأمثلة:
أولاً: من أمثلة المشهور الاصطلاحي:
حديث: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)).
هذا الحديث رواه عدد من الصحابة ورواه عنهم جماعة من التابعين فرواه من الصحابة.
__________
(1) أصول الفقه للسرخسي، ص 392.
(2) انظر: تاج العروس 18/503.
(3) انظر: فتح المغيث للسخاوي 4/9.(1/21)
1 - عبدالله بن مغفل - رضي الله عنه -، وأخرج روايته: الإمام أحمد في المسند(1)، وأبو داود(2)، والدارمي(3)،ثلاثتهم من طريق: حماد بن سلمة(4)، عن يونس بن أبي إسحاق(5) وحميد(6)، عن الحسن البصري(7)، عن عبد الله ابن مغفل، وهذا إسناد صحيح.
2 - أبو هريرة - رضي الله عنه -، أخرج روايته: ابن ماجه(8) من طريق أبي بكر بن عياش(9)، عن الأعمش(10)، عن أبي صالح(11)، عن أبي هريرة. وهذا الإسناد صحيح، رجاله ثقات كلهم.
__________
(1) 4/87.
(2) في السنن برقم " 4807 " كتاب الأدب، باب في الرفق.
(3) في السنن برقم " 2690 " كتاب الرقاق، باب في الرفق.
(4) هو ابن دينار أبو سلمة الإمام أحد الأعلام ثقة عابد روى عنه مسلم والأربعة، ت 167هـ، التقريب (1499).
(5) هو السبيعي، صدوق يهم روى عنه مسلم والأربعة، ت 159هـ، التقريب (7899).
(6) هو الطويل أبو عبيدة البصري ثقة يدلس عن أنس وقد تابعه يونس – كما تقدم – فعضد كل منهما الآخر وروى عنه الجماعة، ت 142هـ، الكاشف (1248).
(7) هو الإمام التابعي، ابن أبي الحسن أبو سعيد ثقة كبير القدر رفيع الشأن روى عنه الجماعة، ت 110هـ، الكاشف (1022).
(8) في السنن برقم 3688 – كتاب الأدب، باب الرفق.
(9) هو الأسدي الموفي الحناط المقرئ أحد الأعلام، ثقة تغير بآخره، روى عنه البخاري والأربعة، ت 193هـ، الكاشف (6535).
(10) هو الإمام سليمان بن مهران، ثقة حافظ، روى عنه الجماعة، ت 148هـ، التقريب (2615).
(11) هو ذكوان السمان المدني، ثقة ثبت، روى عنه الجماعة، ت 101هـ، التقريب (1841).(1/22)
3 - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أخرج روايته: الإمام أحمد(1)، والبخاري في التاريخ الكبير(2)، كلاهما عن عبد الله(3) بن وهب(4) بن منبه عن أبيه، عن أبي خليفة(5) عن علي - رضي الله عنه -.
وهذا الإسناد ضعيف؛ لأن عبدالله بن وهب بن منبه وأبا خليفة مقبولان حيث يتابعان، لكن يشهد له ما تقدم.
4- عن عائشة رضي الله عنها أخرجه الإمام مسلم(6).
وله طرق أخرى لا يخلو كل منها من مقال، لكن الحديث صحيح –كما تقدم - فهذا الحديث له طرق أكثر من اثنين لكنها لم تبلغ حدَّ التواتر، بمعنى أنها لم تتحقق فيها شروط المتواتر التي تقدم ذكرها، وإن كان قد اشتهر أمره عند العلماء.
والحديث المشهور منه ما هو صحيح - كما تقدم – ومنه الحسن، كحديث ((الأذنان من الرأس)) رواه عدد من الصحابة منهم:
1- أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أخرجه الترمذي(7)، وأبو داود(8)، وابن ماجه(9)، كلهم من طرق عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة. وشهر بن حوشب صدوق يرسل ويهم، كما قال الحافظ(10).
2- عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - أخرجه ابن ماجه(11) وفي سنده سويد بن سعيد بن سهل الهروي، صدوق إلا أنه عمي فصار يتلقن(12).
__________
(1) في المسند 1/112.
(2) 1/307.
(3) اليماني، مقبول، التقريب (3695).
(4) أبو عبد الله، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 115هـ، التقريب (7485).
(5) هو الطائي البصري، مقبول، التقريب (637).
(6) في صحيحه برقم (2593) كتاب البر، باب فضل الرفق.
(7) برقم (37)، كتاب الطهارة باب ما جاء في الأذنين.
(8) برقم (34) كتاب الطهارة باب صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(9) في السنن برقم (443)، كتاب الطهارة.
(10) التقريب (2830).
(11) برقم (444).
(12) التقريب (2690).(1/23)
3- أبو هريرة - رضي الله عنه - أخرجه ابن ماجه(1)، وفي سنده عمرو بن الحصين(2)، ومحمد بن عبدالله بن عُلاثة(3)، وكلاهما ضعيف. فهذا الحديث ورد من طرق أكثر من اثنين، ولكن كل طريق فيها مقال، وبمجموعها يكون الحديث مشهوراً حسناً لغيره.
ومن الحديث المشهور ما هو ضعيف، كحديث: ((ارحموا من الناس ثلاثة: عزيز قوم ذَلَّ، وغني قوم افتقر، وعالم بين جهال )) رواه جمع من الصحابة وهم: أنس، وعبدالله بن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة - رضي الله عنهم -، لكن كل طريق فيها مجاهيل أو ضعفاء أو متهمون بالكذب، ولذا أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات(4)، وتعقبه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة"(5).
ثانياً: المشهور غير الاصطلاحي:
وهو المشهور على الألسنة من غير شروط معتبرة، فهو أعم من المشهور الاصطلاحي، وهذا أنواع كثيرة منها:
1- المشهور على ألسنة المحدثين خاصة، ومثاله: حديث أنس - رضي الله عنه -: ((قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان)) أخرجه الشيخان(6).
__________
(1) برقم (445).
(2) هو العُقيلي الجزري، متروك، التقريب (5012).
(3) بضم العين المهملة – العُقيلي الجزري، صدوق يخطئ، ت 168هـ، روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجة، التقريب (2539).
(4) 1/236.
(5) 1/211.
(6) البخاري 2/32، كتاب الوتر، ومسلم 1/468، كتاب المساجد رقم (299).(1/24)
ووجه كونه مشهوراً عند المحدِّثين خاصة: أنه من رواية سليمان التيمي(1)، عن أبي مجلز(2)، عن أنس لا يعلمه إلا أهل الحديث(3)، أمَّا عند غيرهم فغريب من هذه الطريق؛ لأن المشهور عندهم: أنه من رواية سليمان التيمي عن أنس بدون واسطة(4).
2- المشهور عند الفقهاء خاصة مثاله حديث ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر)) رواه مسلم(5).
وكونه مشهوراً عندهم: أنه أصبح كالقاعدة التي يندرج تحتها فروع عدة. وكحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه الحاكم(6).
3- المشهور عند الأصوليين خاصة، كحديث ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران)) أخرجه الشيخان(7).
4- المشهور عند المؤدبين، كحديث: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) وهو حديث ضعيف أخرجه السمعاني(8).
5- المشهور عند العامة، كحديث ((العجلة من الشيطان))أخرجه أبو يعلى(9).
ونظراً لقلة المشهور الاصطلاحي من الحديث لم يصنف فيه أحد، أما المشهور غير الاصطلاحي -المشهور على الألسنة- فقد اعتنى به العلماء، وصنفوا فيه، ومن أهم تلك المصنفات وأشهرها:
- "التذكرة في الأحاديث المنتثرة" لبدر الدين أبي عبد الله محمد بن عبدالله الزركشي "ت: 794هـ"، لخصه وزاد عليه الحافظ السيوطي "ت 911ه" في كتاب سماه "الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة".
__________
(1) هو سليمان بن بلال أبو محمد المدني، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 177هـ، التقريب (2539).
(2) هو لاحق بن حُميد السدوسي، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 106هـ، التقريب (7490).
(3) الغاية شرح البداية 1/237، ومعرفة علوم الحديث للحاكم ص 93.
(4) انظر اليواقيت والدرر 1/156.
(5) كتاب البيوع، 3/53.
(6) المستدرك 2/75، وصححه ووافقه الذهبي.
(7) الفتح 13/218 – ومسلم 3/1342.
(8) أدب الإملاء والاستملاء، ص 87.
(9) المسند 7/ 4256، وإسناده حسن.(1/25)
- "المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة" للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي " ت 902هـ " وهو كتاب أظهر فيه مصنفه كثيراً من لطائف وفنون الصناعة الحديثية، كطرق الأحاديث والمتابعات والشواهد والكلام عليها.
- وقد اختصره تلميذه ابن الديبع الشيباني وجيه الدين عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن عمر اليمني الشيباني " ت 950هـ ".
- "البدر المنير في غريب أحاديث البشير النذير" لعبد الوهاب بن أحمد بن علي الشعراني " ت 973هـ " ذكر فيه نحواً من ألفين وثلاثمائة حديث مرتبة على حروف المعجم.
- "تيسير السبيل إلى كشف الالتباس عما دار من الحديث بين الناس" لعز الدين محمد بن أحمد الخليلي " ت 1057هـ.
- "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" للإمام إسماعيل بن محمد بن عبد الهادي العجلوني أبي الفداء الجراحي "ت 1162هـ" لخصه من كتب من سبقوه.
القسم الثاني: العزيز(1)
تعريفه:
لغة: صفة مشبهة على وزن فعيل، مأخوذ من الفعل عزَّ يَعِزُّ –بكسر العين– بمعنى قلَّ وندر.
وقيل: مأخوذ من عزَّ يَعَزُّ – بفتح العين – بمعنى قوي واشتد، ومنه قول الله تعالى:( ? ( ([ يس?: 14].
وهذان المعنيان ينطبقان على العزيز، فهو قليل نادر بالنسبة لغيره من أنواع الحديث، وهو يقوي بعضه بعضاً لكونه جاء من طريقين فيعزز أحدهما الآخر ويقويه.
وفي الاصطلاح: ما رواه اثنان عن اثنين في جميع طبقات الإسناد أو بعضها(2). وقيل: ما رواه اثنان أو ثلاثة(3).
__________
(1) لمزيد المعرفة بهذا النوع، انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 270، الباعث الحثيث ص 161، وفتح المغيث للسخاوي 4/5، تدريب الراوي 2/180، منهج النقد في علوم الحديث ص 415.
(2) هذا اختيار الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهو الراجح إن شاء الله؛ لأنه يميزه عن المشهور وغيره. انظر: شرح النخبة، ص 197.
(3) وهذا قول النووي وابن الصلاح.(1/26)
فخرج بقوله " اثنين " المشهور؛ لأنه ما كان محصوراً بأكثر من اثنين ما لم يبلغ حدَّ التواتر، وخرج به الغريب؛ لأنه ما رواه راوٍ واحد – كما سيأتي.
مثاله: حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ماله وولده والناس أجمعين)) أخرجه الشيخان(1) من حديث أنس.
فقد رواه من الصحابة اثنان هما:
1) أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
2) أبو هريرة - رضي الله عنه - (2).
ورواه عن أنس اثنان هما:
1) عبد العزيز بن صهيب(3).
2) قتادة بن دعامة السدوسي(4).
ورواه عن عبد العزيز بن صهيب اثنان هما:
1) عبد الوارث بن سعيد العنبري(5).
2) إسماعيل بن عُلَيَّة(6).
ورواه عن قتادة اثنان هما:
1) شعبة بن الحجاج(7).
2) حسين المعلم(8).
__________
(1) البخاري برقم 15 – كتاب الإيمان باب حب رسول الله – صلى الله عليه وسلم من الإيمان، ومسلم برقم 44 – كتاب الإيمان باب وجوب محبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - .
(2) رواية أبي هريرة، أخرجها ابن ماجه برقم " 2769 " كتاب الجهاد، باب التكبير في سبيل الله،والحاكم في المستدرك 2/86.
(3) هو البناني، البصري، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 130هـ، التقريب (4102).
(4) أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، روى عنه الجماعة، ت 196هـ، التقريب (5518 ".
(5) أبو عبيدة التنوري، ثقة ثبت، روى عنه الجماعة، ت 180هـ، التقريب (4251 ".
(6) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم أبو بشر البصري، المشهور بابن علية، ثقة حافظ، روى عنه الجماعة، ت 173هـ، التقريب (416).
(7) أبو بسطام الواسطي، ثقة حافظ متقن، روى عنه الجماعة، ت 160هـ، التقريب (2790).
(8) هو ابن ذكوان العوذي، المُكْتِب، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 145هـ، التقريب (1320).(1/27)
فنجد فيما تقدم أن الحديث قد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنان: أنس وأبو هريرة رضي الله عنهما ورواه من التابعين ثلاثة وهم: عبد العزيز بن صهيب، وقتادة عن أنس، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج(1) عن أبي هريرة. ورواه عن عبد العزيز بن صهيب اثنان هما: عبد الوارث وابن علية. وعن قتادة اثنان هما: شعبة وحسين المعلم.
وهكذا يزداد العدد في الطبقات التالية.
حكم الحديث العزيز:
قد يكون مقبولاً – صحيحاً أو حسناً – وقد يكون ضعيفاً، بناء على توافر شروط القبول من عدمها.
وجوده:
ذهب أبو حاتم البستي -المعروف بابن حبان- "ت 354 هـ" إلى أن الحديث العزيز يَعِزُّ وجوده أو لا يكاد يوجد؛ بدليل أنه لم يصنِّف فيه أحدٌ(2).
وقد تعقبه الحافظ ابن حجر فقال: "إن أراد أن رواية اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلاً فيمكن أن يُسَلَّم، وأمَّا صورة العزيز التي حررناها فموجودة بأن لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين". ثم ذكر الحديث السابق(3).
قلتُ: والذي يظهر أنه لا خلاف بين القولين، فإن الإمام ابن حبان لم ينف وجود العزيز وإنما أشار إلى قلته بالنسبة للحديث المتواتر والمشهور والغريب، ولهذا قال: لا يكاد يوجد... ولم يصنِّف فيه أحد، وكلام الحافظ ابن حجر يدل على أنه موجود ولكنه لا ينفي القلة، فالخلاف شكلي، والله أعلم.
القسم الثالث: الغريب " أو الفرد ":
أولاً: الغريب: تعريفه:
لغة: الغريب – صفة مشبهة على وزن فعيل، مأخوذة من الغربة وهي النزوح والبعد عن الوطن، ومنه غروب الشمس. وسمِّي الغريب غريباً لانفراده وبعده عن وطنه وأقاربه(4).
__________
(1) أبو داود المدني، ثقة ثبت عالم، ت 117هـ، روى عنه الجماعة، التقريب (4033).
(2) انظر: الإحسان 1/118.
(3) انظر: شرح شرح نخبة الفكر، ص 206.
(4) انظر معجم مقاييس اللغة، 3/695.(1/28)
وفي الاصطلاح: هو الحديث الذي تفرد بروايته راو واحد في أي طبقة من السند(1).
وسواء كان التفرد بكل الحديث أو بشيء منه.
أنواعه:
قسم علماء الحديث الغريب إلى أربعة أنواع:
الأول: الغريب سنداً ومتناً: وهو الحديث الذي لا يعرف متنه إلا عن طريق راو واحد، وهذا يسمى الفرد المطلق وسيأتي.
مثاله: ما رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث(2)، بسنده عن طريق محمد بن سوقة(3)، عن محمد بن المنكدر(4) عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن هذا الدين متين(5) فأوغلوا(6) فيه برفق، ولا تُبغض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المنبت(7) لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)).
قال الحاكم: هذا الحديث غريب المتن والإسناد؛ فلم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا جابر، ولم يروه عن جابر إلا محمد بن المنكدر، ولم يروه عن محمد بن المنكدر إلاّ محمد بن سوقة.
الثاني: الغريب سنداً لامتناً. وهو: الحديث الذي عرف متنه عن صحابة معينين ثم ينفرد بروايته راوٍ عن صحابي آخر.
__________
(1) انظر مقدمة ابن الصلاح مع التقييد ص 270، وشرح الهندابة للسخاوي، 1/308.
(2) ص 96).
(3) هو أبو بكر الغنوي: الكوفي، ثقة عابد، روى عنه الجماعة، الكاشف برقم (4895).
(4) هو ابن عبدالله، التيمي، المدني حافظ إمام، روى عنه الجماعة، ت 130هـ، السابق برقم (5170).
(5) أي قوي شديد، النهاية 4/293.
(6) الإيغال: الدخول في الشيء، والمعنى: سيروا فيه برفق وابلغوا الغاية القصوى منه بالرفق لا على سبيل التهافت ولا الخرق ولا تحمل نفسك وتكلفها ما لا تطيق فتعجز فتترك الدين والعمل، المرجع السابق5/209.
(7) أي دائم السير فينقطع عنه فيقال له منبت أي منقطع، والمراد أنه بقي في طريقه عاجزاً عن مقصده لم يقض وطره وقد أعطب ظهره، أي راحلته – النهاية 1/92.(1/29)
مثاله: ما رواه أبو كريب عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معىً واحد))
قال الحافظ ابن رجب "ت 795هـ": هذا حديث معروف المتن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة، وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة(1) ومن حديث ابن عمر(2)، أما حديث أبي موسى الأشعري: فخرجه مسلم(3) عن أبي كريب(4)، عن أبي موسى. وقد استغربه غير واحد من هذا الوجه، ومنهم البخاري وأبو زرعة، وذكروا أن أبا كريب تفرد به".(5)
الثالث: غريب في بعض الإسناد، ويمثل له بالشاذ(6) في مقابل المحفوظ(7)، ويمكن أن ينطبق عليه المثال السابق.
الرابع: غريب في بعض المتن، وهو أن ينفرد راوٍ بزيادة في المتن لم يوافقه عليها الآخرون.
__________
(1) أخرجه البخاري 9/469، كتاب الأطعمة باب المؤمن يأكل في معي واحد، ومسلم برقم 2063، كتاب الأشربة باب المؤمن يأكل..
(2) البخاري 9/468 في الكتاب والباب السابقين، ومسلم برقم 2060.
(3) في صحيحه- برقم 2062، في الكتاب والباب السابقين.
(4) هو محمد بن العلاء بن كُريب الهَمْداني، ثقة حافظ، روى عنه الجماعة، ت 147هـ.
(5) انظر شرح علل الترمذي 1/440.
(6) الشاذ: مارواه المقبول – أي راوي الصحيح والحسن – مخالفاً لمن هو أوثق منه.
(7) المحفوظ: ما رواه الثقة الذي رجحت روايته على رواية غيره من الثقات بأي وجه من وجوه الترجيح. قال الحافظ ابن حجر: "إن خولف راوي الصحيح والحسن بأرجح منه لمزيد ضبطه أو كثرة عدده أو غير ذلك من المرجحات فالراجح يقال له: المحفوظ والمرجوح يقال له الشاذ )).ا.ه، انظر نخبة الفكر، ص 28.(1/30)
مثاله: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((الأرض كلها مسجد إلاَّ المقبرة والحمَّام))(1) رواه عمرو(2) بن يحيى(3) بن عمارة المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد مرفوعاً هكذا، بزيادة الاستثناء وما بعده(4).
بينما أصل الحديث: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) بدون الاستثناء، رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة من الصحابة(5) بهذا اللفظ.
أمَّا الفرد وعلاقته بالغريب: فقبل الكلام على هذه القضية لابدَّ من تعريف الفرد وبيان أنواعه فأقول وبالله التوفيق: .
ثانياً: الفرد:
الفرد لغة: أصل يدل على الواحد مأخوذ من فرد بمعنى انفرد والفرد الوتر أي الواحد، والجمع أفراد، وتفرَّد أو استفرد بكذا أي انفرد به(6).
وفي الاصطلاح: هو الحديث الذي تفرد بروايته راوٍ واحد(7).
أنواع الحديث الفرد:
قسم علماء الحديث الفرد إلى نوعين(8) رئيسين هما:-
أ) الفرد المطلق: وهو الحديث الذي يتفرد بروايته راوٍ واحد عن جميع الرواة بحيث لا يرويه غيره.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 492، كتاب الصلاة باب في المواضع كلها تجوز فيها الصلاة، والترمذي برقم 317، وكتاب الصلاة باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني في أحكام الجنائز، ص 211.
(2) ثقة روى عنه الجماعة، التقريب (5139).
(3) الأنصاري المدني، ثقة، روى عنه الجماعة، التقريب (7612).
(4) أخرجه أبو داود والترمذي كما تقدم،وانظر شرح علل الترمذي، 2/627.
(5) وهم: علي، وابن عمرو، وأبو هريرة، وجابر بن عبدالله، وابن عباس، وحذيفة وأنس وأبو أمامة، وأبو ذر كذا عدهم الترمذي في الموضع السابق.
(6) مختار الصحاح ص 496.
(7) انظر مقدمة بن الصلاح، ص 187، واختصارها لابن كثير 2/460.
(8) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح 2/703.(1/31)
مثاله: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء(1) وهبته)).
أخرجه الإمام البخاري(2) بسنده عن عبد الله بن دينار(3)، عن عبد الله ابن عمر – رضي الله عنهما – مرفوعاً به.
فهذا الحديث لا يرويه أحد عن ابن عمر - رضي الله عنه - إلا عبد الله بن دينار، ولا يعرف إلاَّ من طريقه.
ب) الفرد النسبي: وهو ما يقع فيه التفرد بالنسبة على جهة خاصة.
وهو أنواع أيضاً(4).
منها: ما تفرد به راوٍ عن راوٍ:
مثاله: حديث أيمن بن نابل – بنون وموحدة(5) – قال: أتيت جابراً - رضي الله عنه - فقال: إنَّا يوم الخندق(6) نحفر فعرضت كُدْية(7) شديدة فجاؤوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا نازل))، ثم قام وبطنه معصوب بحجر... الحديث – أخرجه البخاري(8).
فهذا الحديث تفرد به أيمن عن جابر - رضي الله عنه - وقد روي من طرق أخرى من غير حديث جابر.
__________
(1) الولاء أي: ولاء العتق وهو إذا مات المعتق ورثه معتقه، وكانت العرب تبيعه وتهبه فنهي عنه؛ لأن الولاء كالنسب، النهاية 5/227.
(2) في صحيحه برقم (6756)، كتاب الفرائض باب إثم من تبرأ من مواليه، ومسلم – شرح النووي على مسلم 3/740.
(3) أبو عبدالرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة، روى عنه الجماعة، ت 127هـ، التقريب (3301).
(4) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح 2/705.
(5) أبو عمران ويقال: أبو عمرون الحبشي، المكي، صدوق، روى عنه، البخاري والأربعة إلا أبا داود، التقريب (597).
(6) أي غزوة الخندق وكانت في السنة الخامسة من الهجرة.
(7) بضم الكاف وسكون الدال، هي قطعة غليظة صلبة لا تعمل فيها الفأس، النهاية 4/156.
(8) برقم (4101 (كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب.(1/32)
ومنها: تفرد أهل بلد بالرواية عن(1) شخص:
مثاله: حديث حنش الصنعاني(2)، قال: كان علي - رضي الله عنه - يضحي بكبشين، كبش عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكبش عن نفسه وقال: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه أبداً. أخرجه الحاكم في المعرفة(3).
وهذا الحديث تفرد به أهل الكوفة من أول الإسناد إلى آخره لم يشركهم فيه أحد.
ومنها: ما تفرد به شخص عن أهل بلد – عكس السابق–:
قال الحافظ: "وهو قليل جداً، وصورته أن ينفرد شخص عن جماعة بحديث تفردوا به"(4).
ومنها: ما تفرد به أهل بلد عن أهل بلد أخرى:
__________
(1) ليس معنى ذلك أن أهل البلد رووا الأحاديث أو الحديث عن ذلك الشخص، وإنما هذا من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.
(2) هو ابن عبدالله – ويقال: ابن علي - بن عمرو السبائي أبو رشيدين، نزيل أفريقيا، روى عنه مسلم والأربعة، (ت 100هـ)، التقريب (1576).
(3) ص 96، وأخرجه أبو داود 3/94، كتاب الضحايا، باب الأضحية عن الميت، والترمذي في 4/84، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من شريك، قلت: وحنش الصنعاني مختلف فيه. انظر: عون المعبود
7/486 وما بعدها.
(4) النكت على كتاب ابن الصلاح 2/707.(1/33)
ومثاله: ما أخرجه الحاكم في "معرفة علوم الحديث(1)" بسنده عن الحسين بن داود البلخي قال: حدثنا الفضيل بن عياض(2) قال: حدثنا منصور(3) عن إبراهيم(4) عن علقمة(5) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله عزوجل للدنيا: يا دنيا اخدمي من خدمني، وأتعبي يا دنيا من خدمك)).
قال الحاكم: "هذا حديث من أفراد الخراسانيين عن المكيين؛ فإن الحسين ابن داود البلخي والفضيل بن عياض عداه في المكيين"(6).
قلت: هذا حديث ضعيف جداً؛ فالحسين بن داود ضعيف جدا،ً أغلب أحاديثه موضوعة(7).
تفرد أهل بلد بالحديث دون غيرهم:
مثاله: حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: ((صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء في المسجد)). أخرجه مسلم وغيره، وهذا الحديث له طريقان(8) عن عائشة، رواتهما كلهم مدنيون.
قال الحاكم: "تفرد أهل المدينة بهذه السنة"(9).
العلاقة بين الغريب والفرد:
بالنظر إلى ما تقدم يتبين أن العلاقة بين الغريب والفرد علاقة عموم وخصوص؛ ذلك أن الغريب أعم من الفرد فكل غريب فرد ولا عكس.
__________
(1) ص 101.
(2) هو ابن مسعود التميمي أبو علي الزاهد، (ت 187 هـ)، تذكرة الحفاظ 1/245.
(3) هو ابن المعتمر أبو عتاب، ثقة ثبت، روى عنه، الجماعة، (ت 132 هـ)، التقريب (6908)
(4) هو ابن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، ثقة كان يرسل كثيراً، روى عنه الجماعة، (ت 96هـ)، الكاشف (221).
(5) هو ابن قيس أبو شبل الفقيه، ثقة مشهور، روى عنه الجماعة، (ت 62هـ)، الكاشف (3873).
(6) معرفة علوم الحديث، ص 101.
(7) انظر: تاريخ بغداد 8/44.
(8) الأولى عند مسلم برقم 99، كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنازة في المسجد، والثانية برقم101، الكتاب والباب السابقان.
(9) معرفة علوم الحديث، ص 97.(1/34)
قال ابن الصلاح "ت 643هـ": "ليس كل ما يعد من نوع الأفراد معدوداً من أنواع الغريب كالأفراد المضافة إلى البلاد"(1).
ولذا نجد أن الحافظ ابن حجر- رحمه الله – قد مزج بينهما ولم يفرق، وقال: "ويقل إطلاق الفرد النسبي على الغريب؛ لأن الغريب والفرد مترادفان لغة واصطلاحاً، إلا أن أهل الاصطلاح غايروا بينهما من حيث كثرة الاستعمال وقلته، فالفرد أكثر ما يطلقونه على الفرد المطلق، والغريب أكثر ما يطلقونه على الفرد النسبي، هذا من حيث إطلاق الاسم عليهما، وأمَّا من حيث استعمالهم الفعل المشتق فلا يفرقون، فيقولون في المطلق والنسبي: تفرد به فلان أو أغرب به فلان"(2).
الفصل الثاني:
في شروط قبول حديث الآحاد
الفصل الثاني: في شروط قبول حديث الآحاد
شروط قبول خبر الآحاد بأنواعه الثلاثة:
الشروط المتفق عليها عند جماهير العلماء خمسة شروط(3) هي:
1) أن يكون الراوي عدلاً.
2) أن يكون ضابطاً.
3) أن يكون الإسناد متصلاً.
4) أن يكون الخبر سالماً من الشذوذ.
5) أن يكون الخبر سالماً من العلة.
معنى هذه الشروط إجمالاً:
- عدالة الراوي: بأن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً(4) سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة وسيئ العادات(5).
__________
(1) علوم الحديث، ص 244.
(2) انظر شرح النخبة، ص337.
(3) انظر: مقدمة بن الصلاح ص 15، والنكت على نزهة النظر ص 82، تحقيق الأثري.
(4) هذا الشرط لازم عند الأداء أما عند التحمل فقد أجمع العلماء على قبول ما تحمله الراوي حال صغره كرواية الحسن والحسين وابن عباس.
(5) خرج بهذا رواية غير العدل، وهو مجهول العدالة من المسلمين والفاسق والمبتدع الذي يدافع عن بدعته ويدعو إليها وإن كان صادقاً.(1/35)
وقال ابن السمعاني "ت 489هـ": "لابد في العدل من أربعة شرائط: المحافظة على فعل الطاعة، واجتناب المعصية، وألاّ يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض، وألا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم، وأن لا يقتصر من المذاهب ما يرد أصول الشرع"(1).
- ضبط الراوي: أن يكون حافظاً متقناً لما حفظ في صدره، قادراً على استحضاره عند الحاجة إليه إن كان يحدِّث من حفظه، وأن يكون كتابه معارضاً على كتاب شيخه، ومحافظاً عليه من أن تناله أيدي العابثين، عالماً بما فيه إن كان يحدث من كتابه، وعليه فالضبط عند العلماء ضبطان:
1- ضبط صدر……2- ضبط كتاب.
وخرج بما تقدم: فحش الغلط، وكثرة الأوهام، وسوء الحفظ، والغفلة، والمخالفة للثقات، فإن هذه كلها أو بعضها من الأسباب التي تخلُّ بضبط الراوي(2).
- واتصال السند: معناه أن يكون كل راوٍ في الإسناد قد أخذ عمن فوقه مباشرة(3).
- والسلامة من الشذوذ: ألاّ يكون الراوي مخالفاً من هو
أوثق منه، سواء في الإسناد أو في المتن(4).
- والسلامة من العلة: ألاَّ يكون في الحديث – سنداً أو متناً – سبب خفيٌّ يقدح في صحته، وإن كان الظاهر سلامته من ذلك.
قال ابن الصلاح "ت 643 هـ ": "أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند الذي اتصل إسناده، بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً، وفي هذه الأوصاف احتراز عن المرسل والمنقطع والمعضل والشاذ وما فيه علة قادحة، وما في راويه نوع جرح"(5).
والشرطان الأخيران زادهما أصحاب الحديث كما قال ابن دقيق العيد في "الاقتراح"(6) وزاد: "وفيه نظر على مقتضى نظر الفقهاء؛ فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء".
__________
(1) إرشاد الفحول، 1/265.
(2) انظر: النكت ص 114 – 139، تحقيق الأثري.
(3) المرجع السابق، ص 97.
(4) المرجع السابق، ص 97.
(5) علوم الحديث/ ص 15 – 16.
(6) ص 6.(1/36)
قال الحافظ العراقي: "والجواب: أن من يصنف في علم إنما يذكر الحدَّ عند أهله لا عند غيرهم من أهل علم آخر... وكون الفقهاء والأصوليين لا يشترطون في الصحيح هذين الشرطين، لا يفسد الحد عند من يشترطهما"(1).
قلتُ: ولذا قال ابن الصلاح بعد تعريفه للصحيح: "فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث"(2).
الفصل الثالث: الأقوال في حجية خبر الآحاد
ويشمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: في أدلة القائلين بحجية خبر الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد.
المبحث الثاني: أدلة القائلين بحجية خبر الآحاد مطلقاً إذا احتفت به القرائن.
المبحث الثالث: أدلة القائلين بعدم الاحتجاج بخبر الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد.
المبحث الأول: قبول حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد:
1- القائلون به:
ذهب جمهور العلماء من السلف الصالح – الصحابة والتابعين وأصحاب الحديث والفقه والأصول- إلى أن خبر الواحد حجة في الأحكام والعقائد، يلزم من بلغه العمل به إذا توافرت فيه شروط الحديث المقبول الخمسة المتفق عليها: اتصال السند، عدالة الراوي، وضبطه، وعدم الشذوذ، وعدم العلة، ما لم يكن منسوخاً أو مرجوحاً.
قال الإمام الشافعي "ت 204هـ": "لو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الآحاد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلاَّ قد أثبته جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد بما وصفت بأن ذلك موجود على كلِّهم"(3).
وبوَّب البخاري لذلك فقال: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، وذكر فيه خمسة عشر حديثاً.
__________
(1) التقيد والإيضاح ص 8.
(2) علوم الحديث ص 16.
(3) الرسالة ص 457.(1/37)
قال الحافظ ابن حجر "ت 852 هـ": "المراد بالإجازة: جواز العمل به والقول بأنه حجة، وقصد بالترجمة الرد على من يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به إلاَّ إذا رواه أكثر من شخص واحد يصير كالشهادة ويلزم منه الرد على من شرط أربعة أو أكثر"(1).
وقال ابن بطال "ت 444هـ": انعقد الإجماع على القول بالعمل بأخبار الآحاد "(2).
وقال الإمام أبو محمد بن حزم "ت 457 هـ": "قال أبو سليمان، والحسين بن علي الكرابيسي(3)، والحارث بن أسد المحاسبي(4) وغيرهم: إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجب العلم والعمل معاً وبهذا نقول ".
وقال أيضاً: " القرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله، فمن جاءه خبر عن رسول الله يقرُّ أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله، أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أولقول فلان وفلان فقد خالف الله وأمر رسوله"(5).
وقال الخطيب البغدادي "ت 463هـ": "وعلى العمل بخبر الواحد كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار لذلك ولا اعتراض عليه، فثبت أن من دين جميعهم وجوبه، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه فيه "(6).
وقال ابن عبد البر "ت 463هـ": "وكلهم يرون خبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وحكماً وديناً في معتقده، على ذلك جماعة أهل السنة ولهم في الأحكام ما ذكرناه "(7).
__________
(1) فتح الباري 13/233.
(2) فتح الباري 13/321.
(3) الفقيه الشافعي (ت 248).
(4) أبو عبدالله من كبار الصوفية كان زاهداً وعظاً (ت 243).
(5) الإحكام 1/98، 102، 108 بتصرف.
(6) الكفاية ص 72.
(7) التمهيد 1/34.(1/38)
وقال: "خبر الآحاد الثقات الأثبات المتصل الإسناد يوجب العمل عند جماعة علماء الأمة الذين هم الحجة والقدوة "(1).
وقال ابن دحية(2) " ت 633هـ": "وعلى قبول خبر الواحد الصحابة والتابعون وفقهاء المسلمين وجماعة أهل السنة، يؤمنون بخبر الواحد ويدينون به في الاعتقاد"(3).
وهو ما رجحه الحافظ ابن الصلاح "ت 643هـ" في (( مقدمة علوم الحديث))(4) قال - بعد ذكره لأقسام الصحيح -: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لمن نفى ذلك".
وتعقبه الإمام النووي "ت 676 هـ" فقال: "خالفه المحققون والأكثرون"(5).
قلتُ: ولم أجد من وافق الإمام النووي على هذا القول، بل إنه قال في "شرحه لصحيح مسلم"(6): "الذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم، وأن وجوب العمل به عرفناه بالشرع لا بالعقل...".
__________
(1) جامع بيان العلم 2/34.
(2) هو أبو الخطاب عمر بن الحسن الأندلسي. يلقب بذي النسبين نسب إلى دحية الكلبي ونسب إلى الحسن
ابن علي.
(3) الابتهاج في أحاديث المنهاج ص 78.
(4) ص 24.
(5) التقريب ص 14.
(6) 1/131.(1/39)
وقال الإمام ابن كثير "ت 774 هـ": - بعد كلام ابن الصلاح –: "وهذا جيد وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه وأرشد إليه، ثم وقفت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية مضمونه: نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة، منهم: القاضي عبدالوهاب المالكي(1)، والشيخ أبو حامد الإسفراييني(2)، والقاضي أبو الطيب الطبري(3)، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد(4) وأبو يعلى بن الفراء، وأبو الخطاب(5) وابن الزعفراني(6) وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية... ".
وقال أيضاً: " وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم كأبي إسحاق الإسفراييني(7) وابن فورك، وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب السلف عامة"(8).
قال ابن كثير: "وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح استنباطاً فوافق فيه هؤلاء الأئمة الأربعة "(9).
__________
(1) هو الإمام الفقيه أبو محمد البغدادي (ت 422هـ).
(2) هو محمد بن أحمد شيخ الشافعية في زمانه (ت 406هـ).
(3) الإمام العالم ظاهر بن عبدالله أحد فقهاء الشافعية (ت 450هـ).
(4) أبو عبدالله الحسن بن حامد البغدادي (ت 403هـ).
(5) هو الفقيه محفوظ بن أحمد الكلوزاني البغدادي (ت 510هـ).
(6) هو الفقيه شيخ الحنابلة في عصره علي بن عبيد الله بن نصر البغدادي (ت 527هـ).
(7) هو إبراهيم بن محمد بن مهران (218هـ).
(8) انظر الفتاوى 18/40.
(9) الباعث الحثيث 1/127.(1/40)
وقال ابن القيم: "ت 751هـ":"ومعلوم مشهور استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القبول بأخبار الآحاد، وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى ومسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة وإخراج الموحدين من المذنبين من النار... وهذه الأشياء، علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولا ينفعه، ويصير كأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه"(1).
وقال أيضاً: "إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها، ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها في الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة؛ فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث العملية التي تتضمن الخبر عن الله بأنه شَرَعَ كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم من أهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه يجوِّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته، فأين سلف المفرقين بين البابين؟! نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين وقواعد المتكلفين فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين..."(2).
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 1/332.
(2) المرجع السابق 2/412.(1/41)
وقال أيضاً: "والذي ندين به ولا يسعنا غيره: أن الحديث إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح عنه حديث آخر بنسخه، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحد كائنا من كان لا راويه ولا غيره"(1).
وقال الحافظ ابن حجر "ت 852 هـ" :يقبل خبر الواحد وإن كان امرأة(2) وقال أيضاً: " قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرر بطريق العلم به"(3).
ونقل عن الإمام ابن دقيق العيد "ت 702هـ قوله: "المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد أنه صورة من الصور التي تدل، وهي كثيرة"(4).
وقال أبو الحسنات اللكنوي "ت 1304هـ": - عن حكم العمل بحديث الآحاد-: "وحكمه أنه يجب العمل به مالم يكن مخالفاً للكتاب والسنة... وهو الصحيح المختار عند الجمهور"(5).
وقال الشيخ محمد الخضري " ت 1345 هـ ": "تواتر عن الصحابة في وقائع لا تحصى العمل بخبر الواحد، ومجموع هذه الوقائع تفيد إجماعهم على إيجاب العمل بأخبار الآحاد، وكثيراً ما كانوا يتركون آراءهم التي ظنوها باجتهادهم إذا روي لهم خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(6).
__________
(1) إعلام الموقعين 4/408 تحقيق مشهور.
(2) فتح الباري 1/308.
(3) فتح الباري 1/308.
(4) فتح الباري 1/381.
(5) ظفر الأماني ص 61.
(6) أصول الفقه ص 280.(1/42)
وقال أحمد شاكر " ت 1377هـ ": "والحق الذي ترجحه الأدلة الصحيحة ما ذهب إليه ابن حزم ومن قال بقوله: من أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي، سواء أكان في أحد الصحيحين أم في غيرهما، وهذا العلم اليقيني علم نظري برهاني، وهذا العلم يبدو ظاهراً لكل من تبحر في علم من العلوم، وتيقنت نفسه بنظرياته واطمأن قلبه.... ودع عنك تفريق المتكلمين في اصطلاحاتهم بين العلم والظن فإنما يريدون بهما معنى آخر غير ما نريد، ومنه زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، إنكاراً لما يشعر به كل واحد من الناس من اليقين بالشيء ثم ازدياد هذا اليقين"(1).
2- أدلة القائلين بوجوب قبول خبر الآحاد في الأحكام والعقائد:
استدلوا بأدلة كثيرة من: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، والعقل. وفيما يلي تفصيل ذلك وبالله التوفيق.
الدليل الأول: القرآن:
فالآيات القرآنية تدل صراحة أو ضمنياً على أخذ ما بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سواء كان ذلك عن طريق التواتر أو عن طريق الآحاد، وتقدم معنا أن السلف – من الصحابة والتابعين – لم يكونوا يفرقون بين الأحاديث – آحاد ومتواتر – وإنما كانوا يقبلون ما بلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما الصحابة، أما التابعون فمن بعدهم فقد كانوا يفتشون عن الإسناد فلا يقبلون إلاَّ ما رواه العدل الضابط واشتهر عنهم: " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"(2).
وكان سلف الأمة والتابعون لهم بإحسان يتلقون ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تفريق كذلك، عملاً بقول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الحشر: 7].
__________
(1) الباعث الحثيث 1/125.
(2) رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه1/84،مع شرح النووي عن الإمام محمد بن سيرين (ت110ه) رحمه الله.(1/43)
لكن لما نبتت فرق الفتنة واتخذت كل طائفة لها أصولاً تبني عليها ما تراه عقولها اضطروا إلى معارضة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتلك النتائج، فأخذوا يبحثون عن مخرج، فما كان منهم إلا أن لجؤوا إلى علم الفلسفة والكلام وأخذوا يقسمون الأخبار إلى قطعي الثبوت وظني الثبوت، ومن ثمَّ إلى قطعي الدلالة وظني الدلالة، ومنها إلى متواتر وآحاد. ولما كان أغلب السنة آحاداً ركزوا جهودهم عليها، وقالوا إنها ظنية الثبوت فهي ظنية الدلالة، وفرقوا بين الأمور الاعتقادية والأمور العملية، فأجازوا الاستدلال بالأحاديث الآحاد في الأحكام ورفضوا الاستدلال بها في العقائد، بل تمادوا في غيهم فكان منهم من أنكر حتى المتواتر - كما سيأتي - وسار على طريقهم آخرون فأنكروا السنة مطلقاً، وهم الذين عرفوا في هذه الأزمنة المتأخرة بالقرآنيين – كما زعموا- فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وما سأذكره من الآيات الدالة على حجية السنة إنما هو على سبيل المثال لا الحصر، فمن ذلك:
1) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [التوبة: 122].
ووجه الدلالة من الآية من وجهين:
الأول: من حيث المعنى اللغوي، فإن الله أمر الطائفة بالتفقه والإنذار، والطائفة القطعة من الشيء فيدخل فيه الواحد والاثنان والثلاثة، كما قال الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( [الحجرات: 9]، فيدخل فيه الاثنان إذا اقتتلا بدليل قول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( (
[الحجرات:10] وقال:( ( ( ( ( ([التوبة: 66]، وكان رجلاً واحداً.
قال السرخسي "ت 490هـ": "ولا يقال الطائفة اسم للجماعة؛ لأن المتقدمين اختلفوا في تفسير الطائفة فقال محمد بن كعب: اسم للواحد. وقال عطاء: اسم للاثنين. وقال الزهري: للثلاثة، وقال الحسن: للعشرة، فيكون هذا اتفاقاً منهم أن الاسم يحتمل أن يتناول كل واحد من هذه الأعداد ولم يقل أحد بالزيادة على العشرة "(1).
__________
(1) أصول السرخسي 1/323.(1/44)
قال ابن الأثير "ت: 606هـ"الطائفة من الناس وتقع على الواحد"(1).
ولم يقل أحد بشرط بلوغها حدَّ التواتر.
الوجه الثاني: أن الله أمر الطائفة – واحداً فصاعداً – بالإنذار، والأمر يقتضي الوجوب، فلو لم يكن في الإنذار – من الواحد فصاعداً – فائدة تقتضي العمل لما أوجب الإنذار؛ لأن الإنذار معناه الإعلام المخوف بما يفيد العلم المقتضي للعمل.
ولهذا قال: ( ( (( "ولعل" هنا ليست للترجي، فإنه محال في حق الله تعالى لما يشعر به من علمه بالعاقبة، بل هو للطلب فيفيد وجوب المطلوب وهو الحذر اعتماداً على إنذار الطائفة (2).
وقد بوب الإمام البخاري بما يدل على هذا فقال: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق وقول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( [التوبة:122]الآية، وساق في الباب اثنين وعشرين حديثاً مستدلاً بها على خبر الواحد.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ" شارحاً هذه الترجمة: "المراد بالإجازة: جواز العمل به أي بخبر الآحاد، والقول بأنه حجة، وقصد الترجمة الرد به على من يقول إن خبر الواحد لا يحتج به إلا إذا كان رواه أكثر من شخص حتى يصير كالشهادة"(3).
وقال أبو محمد بن حزم "ت: 456هـ": "لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلاً أو فاسقاً ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كان فاسقاً فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته، فأوجب ذلك سقوط قبوله، فلم يبق إلاّ العدل، فكان هو المأمور بقبول نذارته، وقد حذر الله من مخالفة نذارة الطائفة، والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء، ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلماً ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوماً إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لزاماً لهم قبوله ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة..."(4).
__________
(1) النهاية 3/153.
(2) انظر أخبار الآحاد للشيخ عبدالله بن جبرين.
(3) فتح الباري 13/233.
(4) الإحكام في أصول الأحكام 1/100.(1/45)
وقال السرخسي "ت 490 هـ": "لو لم يكن خبر الواحد حجة لوجوب العمل لما وجب الإنذار بما سمع... والأمر بالحذر لا يكون إلا بعد توجه الحجة، فدل أن خبر الواحد موجب للعمل"(1).
الاعتراض على هذا الدليل: اعترض على هذا الدليل بما يأتي:
أ) أن الضمير في قوله:( ( ( وقوله:( ( ( راجع إلى الطائفة الباقية لا إلى الطائفة النافرة للجهاد، وعليه فالآية لا تدل على إثبات العمل بخبر الواحد؛ بدليل أن الله توعد المتخلفين في غزوة تبوك، وعليه فلابدَّ من تقدير كلام في الجملة، فتكون: فلولا نفر من كل فرقة طائفة وأقام طائفة ليتفقهوا. ويجاب عن هذا: بأن الأصل عدم التقدير، وقد قال النحاة: وعدم التقدير أولى من التقدير(2).
ب) أن الوجوب المستفاد من الآية هو وجوب الإنذار لا وجوب العمل، كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة لا ليعمل بها وحدها ولكن إذا انضم إليها غيرها.
وإلى هذا ذهب الإمام الغزالي " ت 505هـ"(3).
والجواب: أنه قياس مع الفارق، فإن الشاهد لا يجب عليه أداء الشهادة إذا كان لوحده؛ لأن ذلك لا ينفع المدعي إلا إذا انضم إليه ثانٍ؛ لأن وجود الشاهدين مطلب شرعي في محل الخصومات إلاَّ ما ورد النص بتخصيصه زيادة أو نقصاً، بينما الأمر بالعمل بما بلغه وصح سنده لا يحتاج إلى شهادة عدلين.
ج) أن المراد بالإنذار الفتوى؛ لأن الإنذار متوقف على التفقه، والخبر لا يلزم له التفقه، وعليه فالآية تدل على وجوب قبول خبر الواحد في الفتوى فقط.
والجواب: أنه يلزم من هذا أن يكون الخطاب في قوله تعالى:
( ( ( خاص بالمقلدين؛ لأن المجتهدين لا يقلد بعضهم بعضاً وعدم التخصيص أولى من التخصيص؛ لأن المجتهد يستفيد من الرواية باستنباط الأحكام منها والمقلد يستفيد الزجر وحصول الثواب فيكون عدم التخصيص أرجح(4).
__________
(1) أصول السرخسي 1/324.
(2) انظر روح المعاني للألوسي 11/44.
(3) المستصفى 1/120.
(4) أصول الفقه لأبي النور زهير 3/140.(1/46)
د) أن قوله تعالى:( ( ( ليس من صيغ الأمر الصريح فلا يكون الأمر واجباً.
والجواب: أن الله قد أمر بالتفقه في الدين، ثم بينه للناس وذم الذين يكتمون ما أنزل الله، ففي هذه الآية من الحض على التفقه والإنذار ما يؤيد ذلك، ولما كانت صيغة ( ( ( هنا ذكرت لتعليل الحض على التفقه، دل على وجوب التفقه ثم الإنذار، وهو التخويف الموجب للحذر؛ إذ لا تخويف في ترك غير واجب(1).
هـ) أن الأمر قد لا يدل على وجوب المأمور به.
والجواب: أن الأمر المطلق لا يصرف عن الوجوب إلا بقرينة، وها هنا دلت القرائن – وهي أدلة وجوب البيان والنهي عن الكتمان – على أنه للوجوب(2).
2) قول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الحجرات:6].
قال الإمام ابن القيم "ت 751ه": "وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى التثبت، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبت حتى يحصل العلم. ومما يدل عليه أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وفعل كذا وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وهذا معلوم في كلامهم بالضرورة. وفي صحيح البخاري: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدة مواضع، وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سمعه من صحابي غيره، وهذه شهادة من القائل وجزم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما نسبه إليه من قول أو فعل، فلو كان خبر الواحد لا يفيد العلم لكان شاهداً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير علم"(3).
__________
(1) أخبار الآحاد في الأحاديث النبوية، لشيخنا عبدالله بن جبرين، ص 116.
(2) المرجع السابق.
(3) مختصر الصواعق المرسلة 2/394.(1/47)
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "ووجه الدلالة منها – يعني (( ( ( ( ( ( - يؤخذ من مفهومَيْ الشرط والصفة، فإنهما يقتضيان قبول خبر الواحد، وهذا الدليل يورَد للتقوّي لا للاستقلال؛ لأن المخالف قد لا يقول بالمفاهيم، واحتج الأئمة أيضاً بآيات أخرى، وبأحاديث في الباب، واحتج من منع بأن ذلك لا يفيد إلاَّ الظن.
وأجيب بأن مجموعها يفيد القطع كالتواتر المعنوي، وقد شاع فاشياً عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير، فاقتضى الاتفاق منهم على القبول، ولا يقال: لعلهم عملوا بغيرها أو عملوا بها لكنها أخبار مخصوصة بشيء مخصوص؛ لأنا لا نقول العلم حاصل من سياقها بأنهم إنما عملوا بها لظهورها لا لخصوص"(1).
ولو كان خبر الواحد لا يقبل مطلقاً لم يحتج إلى تعليل التثبيت فيه بالفسق؛ لأن علة الرد موجودة قبل الفسق فكان التعليل تحصيل حاصل(2).
وقد اعترض على هذا الاستدلال: بأنه استدلال بالمفهوم، وهو ليس بحجة، أو هو حجة ظنية، والظن احتمال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
والجواب: أن هذا الظن راجح بقرينة تأييد الفطرة، وعمل الأمة بالتفريق بين خبر العدل وخبر الفاسق واقع.
3) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( [الإسراء: 36]، أي لا تتبعه ولا تعمل به، ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يَقْفون أخبار الآحاد ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات، فلو كانت لا تفيد علماً لكان الصحابة، ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم(3).
4) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( [الأنبياء: 7].
__________
(1) فتح الباري 13/233.
(2) انظر روح المعاني للألوسي 24 /146.
(3) مختصر الصواعق المرسلة 2/396.(1/48)
قال ابن القيم "ت 751هـ": فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علما،ً وهو سبحانه لم يقل سلوا عدد التواتر، بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقاً، فلو كان واحداً لكان سؤاله وجوابه كافياً(1).
وقال شيخنا عبد الله الجبرين: "فقد أمر من لا يعلم أن يسأل أهل الذكر ولو لم يجد إلا واحداً منهم، ولابدَّ أن جواب المسؤول يكتفى به، ويلزمه اعتقاده"(2).
وقد اعترض على الاستدلال بهذه الآية من وجهين:
الأول: أن قوله:( (? ليست صيغة أمر، وإن كانت كذلك فهي لا تفيد الوجوب.
والجواب: أنها صيغة أمر لكونها جاءت على صيغة "افعل" وهي من أصرح الصيغ الدالة على فعل الأمر عند المحققين.والأمر المطلق يفيد الوجوب، ولا يصرف عنه إلاَّ لقرينة.
الثاني: أن المراد بالسؤال – الاستفتاء من أهل العلم ويجوز قبول قول المفتي من غير شروط.
والجواب: ظاهر الآية أن الأمر فيها يدل على وجوب سؤال أهل الذكر من غير تخصيص المجتهد والمقلد.
5) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( [البقرة: 159].
وقوله:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [آل عمران: 187]. وهاتان الآيتان وإن كانتا نزلتا في أهل الكتاب على الخصوص، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد صرحتا بوجوب البيان وتحريم الكتمان للعلم، ويدخل فيه علم الكتاب والسنة، كما يدخل فيه الأفراد والجماعة.
قال الإمام ابن جرير الطبري "ت 310هـ": في الآية الأولى: "وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاص من الناس، فإنها معني بها كل كاتم علماً فرض الله بيانه للناس، وذلك نظير الخبر الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار))"(3)(4).
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/396.
(2) أخبار الآحاد، ص 98.
(3) أخرجه أبو داود 2/288.
(4) جامع البيان في تأويل القرآن 2/53.(1/49)
قلتُ: وهذا يدل على وجوب تبليغ العلم ولو من واحد أو لواحد، وهذا يدل على أن خبر الواحد يفيد العلم ويقتضي وجوب العمل.
وقال شمس الأئمة السرخسي: "وفي هاتين الآيتين نهي لكل أحد عن الكتمان، وأمر بالبيان على ما هو الحكم في الجمع المضاف إلى الجماعة أنه يتناول كل واحد منهم، ولأن أخذ الميثاق من أصل الدين، والخطاب للجماعة بما هو أصل الدين يتناول كل واحد من الآحاد، ومن ضرورة توجه الأمر بالإظهار على كل واحد أمر السامع بالقبول منه والعمل به؛ إذ أمر الشارع لا يخلو من فائدة حميدة، ولا فائدة في النهي عن الكتمان والأمر بالبيان سوى هذا "(1).
وقد اعترض على الاستدلال بهذه الآية بأمور منها:
1- أن المراد منها تبليغ القرآن والخلاف في خبر الآحاد.
والجواب: أن السنة هي المبينة للقرآن والمكملة له، فهي من الدين الذي أمرنا بتبليغه، وكتمانها ككتمان القرآن، مع أن السنة أوحى الله تعالى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أوحى بالقرآن، كما قال الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [ النجم: 3-4].
وقال حسان بن عطية(2) "ت 120هـ": "كان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن"(3).
2 - أن الوعيد في الآية على الكتمان، ولم تتعرض لحكم قبوله من الآحاد.
والجواب: أن الله قد أوجب على أهل العلم البيان وأوجب على أهل الجهل السؤال، ولا شك أن الوعيد يعم من كتم العلم ولو كان واحداً
-كما تقدم-.
3 - أن المراد من الآية إظهار كل فرد علمه لينضم خبره إلى خبر غيره، وهكذا فيحصل التواتر.
والجواب: أنه لا دليل على هذا التأويل، بل التحريم يعم كل من كتم علماً واحداً أو أكثر.
__________
(1) أصول السرخسي 1/322.
(2) أبو بكر المحاربي الدمشقي تابعي، ثقة، روى عنه الجماعة.
(3) أخرجه الدارمي في السنن 1/153.(1/50)
6) قول الله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( (( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( [المائدة: 67]، فالآية فيها أمر بتبليغ جميع ما أنزل إليه لجميع الناس، ولو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر تبليغ الناس هذه الشريعة؛ لتعذر وصول خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل أحد، كما أنه يتعذر إرسال من يفيد خبرهم التواتر، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شهد الله له بإبلاغ الرسالة وإتمام النعمة، وإنما التبليغ عن طريق تبليغ الشاهد للغائب أفراداً أو جماعات.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: ((وأنتم مسؤولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت...))(1).
ومعلوم أن هذا خطاب يدخل فيه كل واحد، وتبلُّغ الواحد تقوم به الحجة، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرسل الواحد من الصحابة يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت الحجة على الخلف بما بلغه الثقات من السلف – آحاداً أو مثاني أو ثلاثاً أو متواتراً - وعدم الأخذ بهذا يلزم منه أمران – كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله-:
1 - إمَّا أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ إلاَّ القرآن وما رواه عنه عدد متواتر، وما سوى ذلك لا تقوم به حجة ولا تبليغ.
2 - أن يقال: إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً، وهذان الأمران باطلان، وببطلانهما يبطل القول بأن أخباره - صلى الله عليه وسلم - التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا تفيد علما،ً وهذا ظاهر لا خفاء فيه (2).
7) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [النساء: 135].
وهذا خطاب لأهل الإيمان يتناول كل واحد، فمن أمر بالقسط وشهد لله وأخبر عن رسوله فقد أدى الشهادة وقام لله بالقسط، وهذا يعني قبول خبر الواحد، وأن ذمته تبرأ بذلك البلاغ والشهادة.
__________
(1) رواه مسلم 4/41.
(2) مختصر الصواعق 2/396.(1/51)
8) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحزاب: 53].
فقد أمر الله بالاستئذان عند الرغبة في دخولهم أحد بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم من التطبيق العملي لهذا المبدأ - سواء من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله أو تقريره أو فعل الصحابة ومن تبعهم – أنه يكفي إذن الواحد للجماعة، ولا يلزم الاستئذان من كل أحد إذا كانوا جميعاً.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ ": "وهذا متفق على العمل به عند الجمهور، حتى اكتفوا فيه بخبر من لم تثبت عدالته لقيام القرينة فيه بالصدق"(1).
9) قول الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (
[النساء: 65].
قال الإمام ابن القيم: "وفرض تحكيمه لم يسقط بموته، بل هو ثابت بعد موته كما كان ثابتاً في حياته، وليس تحكيمه مختصاً بالعمليات دون العلميات... وقد افتتح – سبحانه – هذا الخبر بالقسم المؤكد بالنفي قبله وأقسم على انتفاء الإيمان منهم حتى يحكموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع ما تنازعوا فيه من دقيق الدين وجليله وفروعه وأصوله، ثم لم يكتف منهم بهذا التحكيم حتى ينتفي الحرج وهو الضيق مما حكم به فتنشرح صدورهم لقبول حكمه انشراحاً لا يبقى معه حرج ( ( ( ( أي ينقادوا انقياداً لحكمه، والله يشهد ورسوله وملائكته والمؤمنون أن من قال: أدلة السنة القرآن والسنة لا تفيد اليقين وأن أحاديث الأسماء والصفات أخبار آحاد لا تفيد العلم بمعزل عن هذا التحكيم وهو يشهد على نفسه بذلك"(2).
10) قال الله تعالى:( ? ( ( ( ( ( ( ( ( ( [الأحزاب: 34].
والمقصود من الحكمة: ما زاد على القرآن بلاشك؛ لأنه عطف الحكمة على القرآن، والحكمة هنا هي السنة عند جمهور المفسرين من السلف والخلف(3).
__________
(1) الفتح 13/240.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/352.
(3) انظر السنة لأبي نصر المروزي ص 112.(1/52)
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله -: "فنوَّع المتلو إلى نوعين: آيات وهي القرآن، وحكمة وهي السنة، والمراد بالسنة ما أخذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى القرآن، كما قال: ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا إنه مثل القرآن وأكثر))(1).
وقال الأوزاعي عن حسان بن عطية: " كان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن"(2). فهذه الأخبار التي زعم هؤلاء أنه لا يستفاد منها علم أنزل بها جبرائيل من عند الله عز وجل كما نزل بالقرآن"(3).
فأمر الله نساء النبي أن يبلغن ما تلاه عليهن وما علمنه من سنته - وهي غير القرآن - ما من شأنه أن يخفى على غيرهن غالباً – كتحريم الصلاة والصيام على الحائض، وكقضاء الصوم دون الصلاة، وهذا تشريع عام حدّثن به في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبعد مماته، وما أمرهن بذلك إلاَّ وقد أوجب على الأمة قبوله وقبول غيره عن الواحدة منهن، فالآية ترد على من لا يقبل في العقائد والتشريع إلا ما نقل بالتواتر، والغالب أنهن حدثن وهن متفرقات.
الدليل الثاني: السنة:
تقدم معنا أن الحديث المتواتر يعتبر قليلاً - إن لم يكن نادراً - إذا قورن بحديث الآحاد، وعليه فإن أغلب السنة آحاد، والأخذ بالآحاد أخذ بالسنة وَرَدُّه رد لها.
وفيما يلي بعض الأحاديث التي تدل على وجوب الأخذ بحديث الآحاد، وهي - كما قلت - على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
__________
(1) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 295، وأحمد في المسند 6/8، وأبو داود 4/187، كتاب السنة باب لزوم السنة، والترمذي 5/177، كتاب العلم باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي، وابن ماجه
1/77 – المقدمة، والحاكم 1/108 وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، كلهم من حديث أبي رافع مرفوعاً به وله شاهد من حديث عبد الله بن معد يكرب عند الدارمي 1/144 وأحمد 4/130.
(2) تقدم تخريجه ص 69.
(3) مختصر الصواعق المرسلة 2/340.(1/53)
1- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وقد أرسله إلى اليمن: ((إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل)) وفي رواية: ((فادْعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة..)) الحديث. متفق عليه(1).
ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً وهو واحد أن يعلم أهل اليمن شرائع الإسلام، سواء منها ما كان علمياً كالشهادتين أو عملياً كالصلوات والزكاة.. فبدأ بعقيدة التوحيد، ما يجب عليهم أن يعرفوه في حق الله، ومن وجوب توحيده والإيمان بأسمائه وصفاته من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف، وهكذا يعلمهم سائر الشرائع.
وهذا دليل قاطع على أن العقيدة تثبت بخبر الواحد وتقوم به الحجة على الناس ولولا ذلك لما اكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإرسال معاذ وحده.
قال الحافظ ابن حجر "ت 852هـ": "الأخبار طافحة بأن أهل كل بلد منهم كانوا يتحاكمون إلى الذي أُمِّر عليهم، ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه من غير التفات إلى قرينة"(2).
وقال الشيخ الألباني "ت1420هـ": "من لم يُسَلِّم لزمه أحد أمرين لا ثالث لهما:
1) القول بأن رسله - رضوان الله عليهم- ما كانوا يعلمون الناس العقائد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بذلك، وإنما أمرهم بتبليغ الأحكام فقط، وهذا باطل بالبداهة مع مخالفته لحديث معاذ.
__________
(1) البخاري مع الفتح 7/611 ـ كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، ومسلم مع شرح النووي 1/228 ـ كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.
(2) الفتح 13/247.(1/54)
2) أنهم كانوا مأمورين بتبليغها، وأنهم فعلوا ذلك فبلغوا الناس كل العقائد الإسلامية، ومنها هذا القول المزعوم "لا تثبت العقيدة بخبر الآحاد" فإنه في نفسه عقيدة كما سبق، فعليه: فقد كان هؤلاء الرسل - رضوان الله عليهم - يقولون للناس: آمنوا بما نبلغكم إياه من العقائد لكن لا يجب عليكم أن تؤمنوا بها؛ لأنها أخبار آحاد، وهذا باطل كالذي قبله، فثبت بطلان هذا القول وثبت وجوب الأخذ بخبر الآحاد في العقائد"(1).
2- عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره؛ فإنه يؤذن -وقال ينادي - بليل، ليرجع قائمكم(2)، وينبِّه نائمكم)) (3).
ووجه الاستدلال منه: أن الأذان إخبار واحد في أمر تشريعي قبله النبي - صلى الله عليه وسلم - وزكاه، فيلزم قبول خبر الواحد إذا صح سنده في سائر الشرائع والأحكام.
3- عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) أخرجه الشافعي(4) وغيره عن زيد بن ثابت(5).
ووجه الاستدلال: أنه حث على تبليغ مقالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل فيه كل واحد، ولا يلزم وجود التواتر، ولا يلزم أن يكون المبلغ فقيهاً.
__________
(1) مصطلح الحديث للمحدث الألباني ص 87.
(2) قوله "ليرجع قائمكم" أي ليعود إلى نومه أو قعوده عن صلاته إذا سمع الأذان. النهاية 2/202.
(3) أخرجه البخاري ـ الفتح 13/231 ـ كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق...
(4) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 175.
(5) أبو داود 3/322 كتاب العلم باب فضل نشر العلم، والترمذي 5/33 كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وابن ماجه 1/84 المقدمة باب من بلغ علماً. وهو حديث حسن.(1/55)
قال الإمام الشافعي "ت204هـ": "فلما ندب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها امرئ يؤديها، والامرؤ واحد، دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أُدي إليه؛ لأنه إنما يؤدى عنه حلال يُتَّبع أو حرام يُجتنب، أو حدٌّ يقام أو مال يؤخذ ويُعطى أو نصيحة في دين ودنيا. ودل على أنه قد يحمل الفقه غير فقيه يكون له حافظاً ولا يكون فيه فقيهاً))(1).
4- عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذ أتاهم آت فقال: إن رسول الله قد أُنزل عليه قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة"(2).
ووجه الاستدلال: أن الصحابة رضي الله عنهم قبلوا خبر واحد، وتحولوا عن قبلة هي يقين عندهم إلى قبلة قد تكون في أول الأمر غير متحققة الثبوت، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بأمرهم فأقرهم ولم ينكر عليهم.
قال الشافعي: "أهل قباء أهل سابقة في الإسلام وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم به عليهم الحجة، ولم يَلْقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، وانتقلوا بخبر الواحد من أهل الصدق من فرض كان عليهم، ولم يكونوا ليفعلوه بخبر إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله"(3).
واعترض بعضهم بأن خبر المذكور أفادهم العلم بصدقه لما عندهم من قرينة ارتقاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوع ذلك؛ لتكرار دعائه به، والبحث إنما هو في خبر الواحد إذا تجرد عن القرينة.
__________
(1) الرسالة ص 402.
(2) أخرجه البخاري 1/87 ـ كتاب الصلاة، باب ما جاء في القبلة ـ وفي التفسير باب من سورة البقرة، وفي مسلم 4/10، وكتاب المساجد، باب تحويل القبلة.
(3) الرسالة ص 406.(1/56)
والجواب: أنه إذا سلم لهم أنهم اعتمدوا على خبر الواحد كفى في صحة الاحتجاج به والأصل عدم القرينة(1).
5- حديث أنس - رضي الله عنه - قال: كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة بن الجراح وأُبيّ بن كعب شراباً من فضيخ(2) وتمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس(3) لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت". أخرجه البخاري(4).
ووجه الاستدلال: أنهم عملوا بخبر الواحد بدليل استجابتهم الفورية لهذا الخبر، ولم ينتظروا حتى يتواتر الخبر أو يلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتثبتوا منه مع قربهم منه، ولم ينقل أنه أنكر عليهم عدم التثبت.
قال الإمام الشافعي: " 204هـ ": "ولم يقل هو - يعني أبا طلحة - ولا هم: نحن على تحليلها حتى نلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قربه منهم - أو يأتينا خبر عامّةٍ"(5).
6- أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنيساً(6) أن يغدو على امرأة رجل ذكر أنها زنت، فإن اعترفت فليرجمها، فاعترفت فرجمها(7).
ووجه الاستدلال منه: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتمد خبر أنيساً في اعتراف المرأة، وقبل أهلها إقامة الحد بخبر أنيس، مع ما في ذلك من إقامة حد وقتلٍ لنفسٍ مؤمنة.
__________
(1) الفتح 13/237.
(2) الفضيخ: هو شراب من البُر المشروخ ـ النهاية 3/453.
(3) هو حجر مستطيل منقور يدق فيه ويتوضأ منه ـ النهاية 5/259.
(4) الفتح 10/37 كتاب الأشربة، باب نزل تحريم الخمر وهي من البروالتمر.
(5) الرسالة ص 170.
(6) مصغراً، ابن أبي مرثد الأنصاري.
(7) أخرجه البخاري 4/491 كتاب الوكالة، باب الوكالة في الحدود وفي مواضع أخرى ومسلم 3/1324 كتاب الحدود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما.(1/57)
7- حديث النور بنت عبد الله بن الحارث قالت: بينما نحن بمنى إذا علي ابن أبي طالب على جمل يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن هذه أيام طعام وشرب فلا يَصُومَنَّ أحد فاتَّبع الناسَ وهو على جمل يصرخ فيهم بذلك(1).
قال الإمام الشافعي: "والنبي - صلى الله عليه وسلم -لا يبعث بنهيه واحداً صادقاً إلا لزم خبره عن النبي بصدقه عند المنهيين عن ما أخبرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه.. وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق، وهو لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم وعليهم قائمة بقبول خبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان هكذا مع ما وصفت من مقدرة النبي بعثه جماعة إليهم كان ذلك - إن شاء الله -فيمن بعده ممن لا يمكنه ما أمكنهم وأمكن فيهم أولى أن يثبت به خبر الصادق"(2).
8- حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: إن أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ابعث لنا رجلاً يعلمنا الإسلام قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: ((هذا أمين هذه الأمة)). أخرجه مسلم(3).
__________
(1) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 411.
(2) السابق 412-413.
(3) الصحيح مع شرح النووي 7/29.(1/58)
ووجه الاستدلال من قوله: "ابعث لنا رجلاً" وقوله: "فأخذ بيد أبي عبيدة" الحديث، فهم فهموا أن الواحد يكفي في الإخبار والتعليم، وهو سيقوم بتعليم الإسلام شريعة وعقيدة، فلو لم تقم الحجة في ذلك بخبره وهو واحد لم يبعثه - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان هناك فرق في خبر الواحد عن الشريعة والعقيدة لبينه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عملياً، ولما اكتفى بإرسال واحد، وهكذا القول في إرسال علي ومعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، ولا ريب أن هؤلاء كانوا يعلِّمون الذين أُرسلوا إليهم العقيدة والشريعة، فلو لم تكن الحجة قائمة بهم على من أُرسل إليهم لم يبعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفراداً.
"وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث عليهم قائمة بقبول خبره - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان قادراً على أن يبعث إليهم فيشافههم، أو يبعث إليهم عدداً، فبعث واحداً يعرفونه بالصدق"(1).
9- عن سعيد بن جبير(2) قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكالي(3) يزعم أن موسى - صاحب الخضر - ليس موسى بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب(4) عدو الله، أخبرني أُبيّ بن كعب قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر حديث موسى والخضر بما يدل على أن موسى بني إسرائيل هو موسى صاحب الخضر(5).
__________
(1) الرسالة ص 412.
(2) الوالبي أبو محمد أحد الأعلام ثقة ثبت فقيه تابعي مشهور روى عنه الجماعة، قتل شهيداً في شعبان 95هـ.
(3) بكسر الباء - وهو نوف بن فضالة وأمه كانت امرأة كعب الأحبار ـ تابعي ت بين 90-100هـ.
(4) يعني أخطأ وليس المراد به التكذيب لأن السلف ولا سيما الصحابة والتابعين يطلقون الكذب على الخطأ ـ كما قال الخطابي وغيره ـ انظر غريب الحديث للخطابي 1/187.
(5) أخرجه الشافعي في الرسالة ص 442، والبخاري 1/35 ومسلم 2/227.(1/59)
قال الشافعي: ((فابن عباس مع فقهه وورعه يثبت خبر أُبيّ بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يُكذب به امرأً من المسلمين؛ إذ حدثه أُبيّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر"(1).
قال الشيخ الألباني "ت 1420هـ": "وهذا القول من الإمام الشافعي
- رحمه الله - دليل على أنه لا يرى التفريق بين العقيدة والعمل في الاحتجاج بخبر الآحاد؛ لأن كون موسى - عليه السلام - هو صاحب الخضر ـ عليه السلام ـ هي مسألة علمية وليست حكماً عملياً كما هو مبين، ويؤيد ذلك أن الإمام - رحمه الله -عقد فصلاً هاماً في الرسالة تحت عنوان: الحجة في تثبيت خبر الواحد(2)، وساق تحته أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وهي أدلة مطلقة أو عامة تشمل بإطلاقها وعمومها أن خبر الواحد حجة في العقيدة أيضاً، وكذلك كلامه عليها عامٌّ أيضاً، وختم هذا البحث بقوله: "وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل، وكذلك من حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان(3)"(4).
10- رسل ورسائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك الأرض المجاورين لجزيرة العرب يدعوهم إلى الإسلام ـ شريعة وعقيدة ـ ولم يثبت أنهم إنما كانوا يخبرون من أُرسلوا إليهم بأحكام الشرع، بل كانت دعوتهم عامة إلى الإسلام بأحكامه وعقائده، وهذا مما تواتر علمه عند العامة والخاصة، فألزم - صلى الله عليه وسلم - كل ملك ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه إليهم.
__________
(1) الرسالة ص 442-443.
(2) المرجع السابق ص401-453.
(3) المرجع السابق ص401-453.
(4) مصطلح الحديث للمحدث الألباني ص 116.(1/60)
قال الإمام الشافعي"ت204هـ ": "وبعث - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - في دهر واحد اثني عشر رسولاً إلى اثني عشر ملكاً يدعوهم إلى الإسلام... ولم تزل كتب رسول الله تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي ولم يكن لأحد ولاته ترك نفاذ أمره"(1).
قال الإمام ابن القيم"ت: 751هـ: "وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسل الواحد من الصحابة يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله وسننه، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، أو دون عدد التواتر، وهذا من أبطل الباطل"(2).
وقال أيضاً: "هذا التفريق باطل بإجماع الأمة؛ فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلمية - يعني في العقيدة - كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شَرَعَ كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته. ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم ألبتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته. فأين سلف المفرقين بين البابين؟! نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله ورسوله وأصحابه؛ بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلفين، فهم الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين.. وادعوا الإجماع على هذا التفريق، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعاً عن إمام من أئمة المسلمين، ولا عن أحد من الصحابة والتابعين..."(3).
__________
(1) الرسالة ص 181.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/394
(3) المصدر السابق 2/395 بتصرف.(1/61)
وقال ابن أبي العز الحنفي "ت 792هـ" في شرحه لقول الطحاوي: "وجميع ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشرح والبيان كله حق" قال: "يشير الشيخ - رحمه الله - بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر وآحاد، فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات، قالوا: والآحاد لا تفيد العلم ولا يحتج بها من جهة طريقها ولا من جهة متنها، فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي في الحقيقة ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( "((1) [النور: 39].
وبالجملة فقد ذكر ابن القيم "ت751هـ" واحداً وعشرين دليلاً على أن خبر الآحاد يفيد العلم والعمل معاً في الأحكام والعقائد، ثم قال:
"إن صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورواه الثقات والأئمة، وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم، فيما سبيله العلم هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، أما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال فلابدّ من نقله عن طريق التواتر لوقوع العلم به حتى أخبر عنه القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم من ذلك رد الأخبار، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول"(2).
الدليل الثالث: الإجماع:
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية ص 398.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/394، وانظر مبحث: ما يفيده خبر الآحاد من العلم من هذا البحث.(1/62)
أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يومنا هذا على حجية خبر الآحاد الصحيح - في الأحكام والعقائد - ولم يرد في القرآن ولا في السنة ولا في عمل أحد من الصحابة وقوله تخصيص أدلة لا يعمل بها إلا في الأحكام وأدلة لا يعمل بها إلا في العقائد، وأنهم قالوا: لا يحتج في العقائد إلا بالأحاديث المتواترة، ولم يرد عنهم -كما تقدم - تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، فضلاً عن أن يشترطوا شيئاً في المقبول من السنة، وإنما احتيج لتلك الشروط بعد ظهور الفتنة وركوب الناس الصعب والذلول، وأصبح من شاء يقول ما شاء.
وفيما يلي نذكر بعض الوقائع من الصحابة والتابعين الدالة على ذلك ومنها:
1- عمل أبي بكر في توريث الجدة، وقد أخذ بخبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة، وتقدم.
2- قبول عمر بخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -أخذها من مجوس هجر(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وكان عمر يقول: ما أدري ما أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت - وعمل بخبر حَمْل بن مالك في دية الجنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة عبد(2) أو وليدة(3).
وورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، بعد أن أخبره
__________
(1) أخرجه البخاري ـ الفتح 6/357 ـ كتاب الجزية، ومالك في الموطأ 1/207 والشافعي في الرسالة ص 186، والدارقطني في السنن 2/154، وهو صحيح،(انظر: إرواء الغليل رقم 1249).
(2) قوله: عبد أو وليدة ـ بدل من غرة ـ أي: العبد أو الوليدة نفسها وتجب إذا سقط ميتاً: النهاية 3/353
(3) أخرجه البخاري ـ الفتح 9/14، ومالك في الموطأ 2/855، والشافعي في الرسالة ص 185.(1/63)
الضحاك بن سفيان(1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه بذلك(2).
واشتهر عن الصحابة الرجوع إلى عائشة، وأم سلمة، وميمونة، وحفصة، وفاطمة بنت أسد، وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم(3).
قال الشافعي "ت204هـ ": "ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدناه هذه السبيل، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا من أهل البلدان قال: وجدنا سعيداً بالمدينة يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا فيثبت حديثه سنة، ويقول: حدثني أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيثبت حديثه سنة، ويروي عن الواحد غيرهما فيثبت حديثه سنة ـ وذكر طائفة من التابعين من بعدهم إلى عهده - هذا دأبهم مجمعون على تثبيت خبر الواحد واعتماده إذا كان مقبولاً".
ثم قال: "وغيرهم من محدثي المدينة كلهم يقولون: حدثني فلان لرجل من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من التابعين عن رجل من الصحابة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فنُثَبِّت ذلك سنة ووجدنا...، ومحدثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء إليه والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عمن فوقه ويقبله عنه من تحته، ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي، ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد"(4).
__________
(1) الكلابي صحابي ولي نجداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أحرجه أبو داود 2/117 ـ كتاب الفرائض، باب المرأة التي ترث من دية زوجها. والترمذي 5/286، وابن ماجه 2/883 كتاب الديات باب الميراث من الدية.
(3) انظر فتح الباري 13/235.
(4) الرسالة ص 453-458 بتصرف.(1/64)
قال القاضي أبو يعلى "ت 458هـ": "يجب عندنا سماعاً وقال عامة الفقهاء والمتكلمين وهو الصحيح المعتمد عند جماهير العلماء من السلف والخلف"(1).
وقال الرازي "ت 606هـ: " في معرض ذكر أدلة حجية خبر الواحد..." العقل: وهو أن العمل بخبر الواحد يقتضي دفع خبر مظنون فكان العمل به واجباً"(2).
وقال الآمدي "ت 631هـ": "إن عمل بعض الصحابة - بل الأكثر من المجتهدين منهم - بأخبار الآحاد، مع سكوت الباقين عن النكير دليل الإجماع على ذلك"(3).
وقال الحافظ الخطيب البغدادي "ت 463هـ": "إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على قبول خبر الواحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واشتهار ذلك منهم في وقائع كثيرة إن لم يتواتر آثارها حصل العلم بمجموعها".
وقال الإمام ابن عبد البر "ت 463": "إنه تواتر عن الصحابة في وقائع لا تحصى العمل بخبر الواحد، ومجموع هذه الوقائع تفيد إجماعهم على وجوب العمل بأخبار الآحاد، وكثيراً ما كانوا يتركون آراءهم التي ظنوها باجتهادهم إذا روي لهم خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(4).
وقال ابن دقيق العيد "ت702 هـ": "ومن تتبع أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وجمهور الأئمة - ما عدا هذه الفرقة اليسيرة - علم ذلك قطعاً"(5).
__________
(1) العدة في أصول الفقه 3/809.
(2) المحصول 2/508.
(3) الإحكام 2/97.
(4) جامع بيان العلم وفضله 2/34.
(5) الاقتراح ص 27.(1/65)
قال ابن القيم: "وأما المقام الثامن، وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب تعالى بها، فهذا بلا شك فيه لمن له أقل خبرة بالمنقول؛ فإن الصحابة هم الذين رووا الأحاديث، وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول، ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقاها عنهم جميعُ التابعين من أولهم إلى آخرهم، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم، ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك، وكذلك تابعو التابعين مع التابعين"(1).
وقال أيضاً: "ومشهور ومعلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد، وكذلك إجماع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى وفي مسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموحدين من المذنبين من النار وفي صفة الجنة والنار وفي الترغيب والترهيب والوعد والوعيد وفي فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومناقب الصحابة والأنبياء المتقدمين والرقاق وغيرها مما يكثر ذكره... وهذه الأشياء علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها، فإذا قلنا: خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولا ينفعه، وكأنهم قد دونوا في أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه"(2).
وقال الإمام الشوكاني "ت 1250هـ": "ومن الإجماع: إجماع الصحابة والتابعين على الاستدلال بخبر الواحد، وشاع كذلك وذاع ولم ينكره أحد، ولو أنكره منكر لنقل إلينا، وذلك يوجب العلم العادي باتفاقهم كالقول الصريح"(3).
__________
(1) مختصر الصواعق 502.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/505.
(3) إرشاد الفحول 1/253.(1/66)
وقال الشيخ الدكتور عبد الله الجبرين: "إن الاعتبار في الإجماع على كل فن بأهله المشتغلين به، فلا تضر مخالفة من أعرض عنه واشتغل بغيره، كما لا تضر مخالفة أهل الطب والعربية وأهل الكلام في هذا الباب؛ لعدم أهليتهم لمعرفة طرقه ومتونه ونقلته ونحو ذلك. ثم إنه لا يراد ـ أيضاً ـ بالإجماع اتفاق كل فرد من الأمة على العمل بكل فرد من الأحاديث"(1).
الدليل الرابع: القياس:
إن العقول السليمة والفهوم القويمة لا تفرق بين الأحاديث الصحيحة من حيث الثبوت والعمل؛ لأنها من شرع الله الذي أمرنا بالأخذ به، فيقاس العمل بالأحاديث في العقائد على الأخذ بالأحاديث الآحاد في الأحكام بجامع أنها:
1- من شرع الله الذي أمرنا بالأخذ به.
2- صدورها من مشكاة واحدة وهي مشكاة محمد صلى الله عليه وسلم.
3- أن السنة عموماً هي صنو القرآن؛ لكونها مأموراً بالأخذ بها، ولكونها البيان القولي والعملي لما أشكل فهمه وأجمل من القرآن.
قال الفخر الرازي "ت606هـ" في ذكر أدلة حجية خبر الآحاد: "ولنا النص، والإجماع والقياس والعقل".
ثم قال: "القياس: أجمعوا على أن الخبر الذي لا يقطع بصحته "خبر الواحد" مقبول في الفتوى والشهادات موجب أن يكون مقبولاً في الروايات، والجامع تحصيل المصلحة المظنونة أو دفع المفسدة المظنونة"(2).
__________
(1) أخبار الآحاد في الحديث النبوي ص 67 بتصرف.
(2) المحصول 2/508.(1/67)
قال الإمام ابن القيم "ت 751هـ": "ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها - يعني بالأحاديث الآحاد - كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها، وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات كما تحتج بها في الطلبيات العمليات، ولاسيما والأحكام العملية تتضمن الخبر عن الله بأنه شَرَعَ كذا وأوجبه ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الأخبار عن الله وأسمائه وصفاته. فأين سلف المفرقين بين البابين؟"(1).
ويقول الشيخ عبد العزيز الراشد: "هذا التفريق تأباه الفطرة السليمة والدين والعقل؛ لأنه لا يعقل أن يتقرب أحد إلى الله بعمل شيء أو تركه تدعو الطبيعة والفطرة إلى الأخذ به وفعله أو كراهته إلا وقد عقل قلبه على وجوبه أو حرمته أو كراهته أو استحسانه، وهذا عين العقيدة"(2).
قلتُ: إن القائلين بأنه لا يحتج بالحديث الآحاد في العقائد قد ثبت عنهم قبوله في إثبات عذاب القبر وسؤال منكر ونكير ورؤية المؤمنين لله بالأبصار يوم القيامة ـ إلا من شذّ ـ ونعيم الجنة وعذاب النار... إلخ.
المبحث الثاني: قبول خبر الآحاد مطلقاً إذا احتفت به القرائن
ذهب إلى هذا القول طائفة من الحنابلة كالموفق ابن قدامة(3) وابن عقيل(4) وأبي البقاء.
__________
(1) محتصر الصواعق المرسلة 2/412.
(2) رد شبهات الإلحاد عن خبر ص 24.
(3) هو شيخ الإسلام عبد الله بن أحمد بن محمد أحد الأئمة الأعلام المقدسي الصالحي الدمشقي"620هـ".
(4) هو الإمام علي بن عقيل بن محمد بن عقيل أبو الوفاء شيخ الحنابلة في عصره)ت 513هـ".(1/68)
وهو قول النظام من المعتزلة، ووافقه عليه آخرون، واختاره الآمدي، وقال به أبو بكر بن الباقلاني، والفخر الرازي، وابن الحاجب وآخرون(1).
ولهذا قال الحافظ بن حجر "ت852": "وقد يقع في أخبار الآحاد ما يفيد العلم.. لكنه لا ينفي أن ما احتف بالقرائن أرجح، والخبر المحتف بالقرائن أنواع.. منها:
1- ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ حد التواتر، فإنه احتفت به قرائن، منها:
جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة على التواتر. إلا أن هذا مختص بما لم ينقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين وبما لا يقع التجاذب(2) بين مدلوليه مما وقع في الكتابين حيث لا ترجيح؛ لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر. وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته(3).
2- المشهور إذا كان له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل.
3- ومنها: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين، فإنه يفيد العلم عند سامعيه؛ لجلالة رواته، ولما يفهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم العدد الكثير من غيرهم، كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلاً ويشاركه فيه غيره عن الشافعي ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس. وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث المتبحر فيه العارف بأحوال الرواة المطلع على العلل. وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينبغي حصول العلم للمتبحر المذكور ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها:
أن الأول: يختص بالصحيحين.
__________
(1) انظر نهاية السول شرح منهاج الأصول 2/215، الإحكام للآمدي 2/32، المختصر لابن الحاجب
2/56، روضة الناظر 1/260.
(2) أي التعارض ـ شرح شرح النخبة ص43.
(3) أي ثبوته فإن فيهما ما هو حسن على الاصطلاح.(1/69)
والثاني: بما له طرق متعددة.
والثالث: بما رواه الأئمة"(1).
وأما القرائن المنفصلة عن الراوي فلا علاقة لأخبار الآحاد بها، ولابد من التفريق بين الأخبار النبوية وغيرها من سائر الأخبار، فالأولى محفوظة بحفظ الله لها، ولذا قيض الله لها، من الأمة المسلمة من يقوم على حفظها وتمحيصها وبيان صحيحها من ضعيفها حتى تميز منها المقبول الذي يعمل به، والمردود الذي لا يعمل به، فهو يكتسب حجته بحسب مصدره وناقله ويدل عليه.
قال الإمام بن القيم "ت751": "خبر الواحد يفيد العلم في مواضع:
أحدها: خبر من قام الدليل القطعي على صدقه، وهو خبر الواحد القهار جل وعلا وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يخبر به.
الثاني: خبر الواحد بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يصدقه، كخبر الذي أَخبر بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أن الله يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع... فضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعجباً وتصديقاً له))(2) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصدق أصحابه، كما قطع بصدق تميم الداري لما أخبره بقصة الدجال(3)، وروى ذلك عنه على المنبر، ولم يقل: أخبرني جبريل عن الله بل قال: حدثني تميم الداري، ومن له أدنى معرفة بالسنة يرى هذا كثيراً فيما يجزم بصدق أصحابه ويرتب على أخبارهم مقتضاها من المحاربة والمسالمة والقتل. والقتال ونحن نشهد بالله شهادة على البت والقطع لا نمتري فيها ولا نشك في صدقهم ونجزم به جزماً ضرورياً لا يمكن دفعه عن أنفسنا.
الثالث: أن يخبر الواحد ويدعي أنه سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ننكره، ويدل على أنه حق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الكذب.
__________
(1) انظر النكت على نزهة النظر ص 73-81 بتصرف.
(2) أخرجه البخاري 8/423 كتاب التفسير باب قوله تعالى:( ? ( ( ( ( (.
(3) أخرجه مسلم وأبو داود.(1/70)
الرابع: أن يخبر الواحد ويدعي عدد كثير أنهم سمعوه منه فلا ينكره منهم أحد فيدل على أنه صدق؛ لأنه لو كان كذباً لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه، والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب لأنه واقع عن نظر واستدلال.
وقد اتخذ منكرو السنة ـ قديماً وحديثاً ـ مثل هذا المنطق سلّماً للطعن في السنة ونقلتها وبنوا عليه شبهاتهم ـ كما تقدمت الإشارة إليه"(1).
وبعد، فلا يهولنك تتابع كثير من الأصوليين ومتأخري أهل الحديث على هذا القول - كما فعل الإمام النووي في تقريبه، وكلامه على مقدمة صحيح مسلم ـ فإن السبب في ذلك تأثرهم بمن تقدمهم من أهل الكلام، وليس لهم دليل صحيح على ما ذهبوا إليه لا نقلياً ولا عقلياً وإنما اعتمدوا خيالات وشبهات جعلوها أدلة لما ذهبوا إليه، ومن ذلك:
1 – قولهم: إن صفة كل مخبر وطبيعته توجب أن يكون خبره صدقاً أو كذباً، وقبول خبر من كانت هذه صفاته في التشريع والعقيدة يعني التعبد بما ليس هو ثابت.
ويرد عليهم: بأن هذا مسلَّم، لكن ليس ببعيد أن يهيئ الله من الأمة من يعصمه من الكذب تحقيقاً لوعده تعالى بحفظ هذا الدين، والواقع العملي من حال الرواة وعلماء الحديث يصدق ذلك.
2- لو علم الله صدق خبر الواحد لأرسل لنا دليلاً على ذلك.
ويرد عليهم بما تقدم، وأن الله تعالى قد زكى المؤمنين من هذه الأمة سلفاً وخلفاً، فقال:( ? ( ( ( ( ( [آل عمران: 110]. وقال تعالى:
( ( ( ( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ([آل عمران: 104].
فلو لم يكن خبر الواحد موجباً للعلم وتقوم به الحجة لما كلفت الأمة المسلمة - جماعات وأفراداً- بهذا الواجب، وهذا أكبر دليل على صدق خبر الواحد من مؤمني هذه الأمة.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليبلغ الشاهد الغائب))(2).
__________
(1) انظر ص(11).
(2) أخرجه مسلم 2/987، وأبو داود 1/294، والترمذي 1/165 وابن ماجه 1/84، والدارمي 2/67.(1/71)
ولمّا مرت جنازة فذكرها بعض الصحابة بخير قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وجبت))، ولمّا مرت جنازة فذكروها بشر قال: ((وجبت))، فقالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: ((الأولى ذكرتموها بخير فوجبت لها الجنة، ومرت الثانية فذكرتموها بشر فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض))(1).
3- أن الله أمرنا بالحكم بما يشهد به العدل مع يمين الطالب، وبما يشهد به العدلان فصاعداً، وبما حلف عليه المدعى عليه إذا لم يقم المدعي البينة، ولو كان خبر الواحد يحصل به العلم لما احتيج إلى تعدد الشهود ولا إلى يمين المدعي مع الشاهد.
ويرد عليهم: بأن حقوق العباد مبناها على المشاحة والنزاع، فجعل الله الحكم بينهم بأمر ظاهر منضبط وهو البينة، ولا تقاس الأخبار النبوية على الشهادة للفرق بينهما كما تقدم.
4- إن الإجماع منعقد على عدم تكفير من ردّ خبر الواحد أو تفسيقه، وهذا دليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم الموجب للعمل.
ويرد عليهم: بأن إدراك العلم بالخبر يتفاوت فيه الناس بحسب القرائن والأحوال، فكون بعضهم لا يأخذ بخبر الآحاد لا يعني ذلك كذب المخبر أو عدم صدقه، ولكن اجتهاده هو الذي أوصله إلى عدم الأخذ بذلك الحديث، والمجتهد إذا أصاب الحق فله أجران وإذا لم يصب فله أجر واحد. وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
ولذا فإن من المعلوم أن المجتهد إذا خالف حديثاً صحيحاً فإنه يجب أن يحمل ذلك منه على أنه لم يبلغه الحديث، أو بلغه ولكن لم يصح عنده، أو أن له تأويلاً مسوغاً عنده، وهذا أمر معلوم من عصر الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، فليس لأحد حق في ادعائه أنه جمع السنة وأحاط بها، وإنما كل يأخذ بما علم ولهذا تباينت أقوال العلماء في أغلب مسائل الفروع - وهذا أمر معلوم- أيضا. وهم يعلمون علم اليقين أنهم لم يحيطوا بالسنة؛ ولهذا نجد أن كل واحد منهم يأمر تلاميذه بالرجوع إلى الحديث إذا جاء مخالفاً لرأيه.
__________
(1) أخرجه البخاري 3/181، ومسلم 1/184.(1/72)
فهذا الإمام أبو حنيفة "ت150هـ" يقول: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"(1).
وقال الإمام مالك(2) " ت179هـ ": "فإنما أنا بشر أُخطئ وأُصيب، فانظروا في رأيي: فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه"(3).
وقال الإمام الشافعي "ت204هـ": "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعزب(4) عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قولي"(5).
وبعد: فإن هذا القول يمكن أن يكون مندرجاً تحت القول الأول؛ لأن القرائن التي أشاروا إليها هي الشروط نفسها التي اشترطها أهل القول الأول، ولا سيما القرائن المتصلة وأما المنفصلة فقد تبين لك بطلانها. لكن جعلت هذا قولاً ثانيا،ً لما رأيت كثرة من أفرده وجعله قولاً مستقلاً.. والله أعلم.
المبحث الثالث: قول القائلين بعدم حجية حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد وأدلتهم والرد عليها.
بيان شبهاتهم:
شبهة أهل هذا القول: أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظنّ، والظن لا يغني عن الحق شيئاً.
ثم إنهم قاسوا الرواية على الشهادة واعتبروا في الرواية ما يعتبر في الشهادة وقد ذهب إلى هذا:
(1) متأخرو المعتزلة والشيعة، وجماهير القدرية(6).
قال الإمام ابن حزم"ت456هـ": "إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجري على ذلك كل فرقة في عملها كأهل السنة والخوارج والشيعة، حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك"(7).
__________
(1) الانتقاء في فضل الأئمة الفقهاء لابن عبد البر ص 145.
(2) هو مالك بن أنس الأصبحي.
(3) جامع بيان العلم لابن عبد البر 2/91.
(4) أي: تغيب.
(5) إعلام الموقعين 2/363.
(6) انظر ص 11 من هذا البحث.
(7) الإحكام 1/107.(1/73)
وبعدم حجية الآحاد مطلقاً - يقول الشريف المرتضي- من الشيعة "ت433هـ" حيث قال: "لابد في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم، ولذلك أبطلنا العمل بأخبار الآحاد؛ لأنها لا توجب علماً ولا عملاً...؛ لأن راوي خبر الواحد إذا كان عدلاً فغاية ما يقضيه الظن بصدقه، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذباً"(1).
وتابعتهم جماهير المستشرقين من اليهود والنصارى، ومن سار على دربهم من المستغربين من أبناء جلدتنا المنتسبين إلى ملتنا(2).
وقد استدلوا بما يأتي:
أ- من القرآن:
قوله تعالى:( ( ( ( ( ( ( ( ( [الإسراء: 36].
ووجه الاستدلال: إن العمل بخبر الواحد اقتفاء لما ليس لنا به علم، وشهادة وقول بما لا نعلم؛ لأن العمل به موقوف على الظنّ.
والجواب على هذا الاستدلال: إن هذه الآية رد عليهم؛ لأن القائلين بحجية خبر الآحاد لم يقفوا ما ليس لهم به علم، بل قد صح عندهم العلم من عدة وجوه:
1- اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم بإحسان لخبر الواحد والعمل بمقتضاه - كما تقدم.
2- انعقاد الإجماع على حجية خبر الواحد ووجوب العمل به، والإجماع دليل قطعي، فاتباعه لا يكون اتباعاً لما ليس لهم به علم ولا اتباعاً للظن.
__________
(1) أصول الفقه للمظفر السمعاني 1/70.
(2) انظر: السنة ومكانتها من التشريع للدكتور مصطفى السباعي، ودفاع عن السنة للدكتور محمد أبي شهبة، والأضواء الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة للشيخ عبد الرحمن المعلمي، توثيق السنة في القرن الثاني الهجري للدكتور رفعت فوزي، حجية السنة للدكتور عبد الغني عبد الخالق، دراسات في الحديث النبوي للدكتور محمد مصطفى الأعظمي، السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام لعماد الدين السيد الشربيني، وانظر: أصول الفقه المحمدي لشاخت ـ ترجمة الأستاذ الصديق بشير..(1/74)
3- ثم إن الامتناع عن التعبد بخبر الواحد ليس عليه دليل قطعي، فمن نفاه فإنما عمدته الظن فيدخل في الذم المذكور في الآية.
4- إن الظن المذموم إنما هو الظن المبني على التخرص والوهم الذي ليس له مستند، بخلاف الظن الراجح فهو ملحق بالقطعي، في وجوب العمل به
- كما تقدم - ثم الظن المذكور في الآية ورد في سياق ظن المسلم بأخيه إذا اغتابه أو حسده أو قصد به الشر ونحو ذلك مما ينقله الوشاة لقصد إثارة العداوة والبغضاء، مع أن أكثره غير صحيح، فأمر المؤمنين بتجنب كثير من هذا الظن وليس في الآية الأمر ببعض الظن أصلاً(1).
قوله تعالى:( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( ( (
[النجم: 28].
ووجه الاستدلال: : أن خبر الواحد يفيد الظن، وجاء الظن هنا في الآية في معرض الذم وهو يقتضي التحريم.
ولأنه لا يجوز التعبد بخبر الآحاد في الفروع من باب أولى ألا يتعبد به في الأصول.
والجواب على هذا: أنه قد ثبت بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة العمل بخبر الآحاد متى صح، من غير تفريق، وما ادعيتموه من عدم جواز التعبد بخبر الآحاد مجرد دعوى تحتاج إلى دليل، ولا دليل عندكم إلا ما قلتم بأنه لا يفيد إلا الظن - وتقدم ردّ هذا - والله جل وعلا قد أكمل لنا الدين - شريعة وعقيدة - ونُقلت عبر أجيال المسلمين إلى يومنا هذا سواء ما كان منها متواتراً أو ما كان آحاداً، والعمل بما صح من ذلك منهج جماهير المسلمين من السلف والخلف دون تفريق بين الأصول والفروع.
__________
(1) انظر: أخبار الآحاد لشيخنا عبد الله الجبرين ص 87.(1/75)
ثم إن الظنّ يطلق ويراد به الشك، ويطلق ويراد به اليقين، فليس كل ظن شكّاً بمعنى احتمال الخطأ على الراوي، وإنما الظن مراتب يرتقي فيها من الشك إلى اليقين وذلك بحسب ما يصاحبه، فاحتمال الخطأ أو الكذب يزول بعد التثبت والتأكد من عدالة الراوي وضبطه، فيكون خبره مفيداً للعلم اليقيني، وحتى مع القول بأن خبر الواحد يفيد الظن، فالمراد به الظن الراجح بصدق الخبر، فإن هذا الظن يستند إلى أصل قطعي وهو القرآن الكريم.
يقول الإمام الشاطبي "ت790هـ": "وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت؛ لأنها استندت إلى أصل معلوم، فهي من قبيل المعلوم جنسه، فعلى كل تقدير خبر واحد صح سنده فلابدّ من استناده إلى أصل من الشريعة قطعي فيجب قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقاً، كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء فلابدّ من ردها"(1).
وبناءً على ما تقدم، فإن القول بظنية السنة لا ينطبق على كل السنة، وإنما يمكن حصره في الأحاديث الضعيفة أو المتكلم فيها، ولذا ذهب جمهور العلماء إلى قبول ما تلقته الأمة بالقبول كأحاديث الصحيحين وما في حكمها.
وهناك أمر آخر، وهو أن الظنية التي يتكئ عليها هؤلاء إنما هي أمر نسبي غير متفق عليه يختلف إدراكه باختلاف الأحوال.
قال الإمام ابن القيم "ت 751هـ": "كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي يختلف باختلاف المدرك المستدل ليس هو صفة للدليل في نفسه، فهذا أمر لا ينازعه فيه عاقل، فقد يكون قطعياً عند زيد ما هو ظني عند عمرو، فقولهم: إن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة المتلقاة بين الأمة بالقبول لا تفيد العلم بل هي ظنية هو إخبار عمّا عندهم، إذ لم يحصل لهم من الطرق التي استفاد بها العلمَ أهلُ السنة ما حصل لهم،(2).
2- استدلالهم من السنة:
__________
(1) الاعتصام 1/190.
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/572(1/76)
1) قصة ذي اليدين(1) التي رواها أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي - إما الظهر وإما العصر - فسلم في ركعتين، ثم أتى جزعاً في قبلة المسجد فاستند إليه مغضباً - وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما - وخرج سرعان(2) الناس، فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - يميناً وشمالاً فقال: ((ما يقول ذو اليدين؟)) قالوا: صدق، لم تصل إلا ركعتين، فصلَّى ركعتين وسلم.. الحديث(3).
ووجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توقف في قبول خبر ذي اليدين حتى تابعه غيره. فلو كان خبر الواحد حجة لقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن ينتظر من يؤيده.
والجواب على هذا من وجوه:
1- معارضة خبر ذي اليدين لما هو غالب على ظن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد أتم الصلاة ولابد من مرجح لخبر ذي اليدين فلما شهد أبو بكر وعمر زال هذا العارض وقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر ذي اليدين.
2- إن خبر ذي اليدين كان مقابل سكوت الجميع فظن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذا اليدين كان واهماً، فلما تكلم من تكلم قبله النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) هو الخرباق بن عمرو السلمي يقال له ذو اليدين لطول في يديه، وقيل: كان قصير اليدين: صحابي جليل.
(2) أي المستعجلين في الخروج من المسجد بعد انقضاء الصلاة.
(3) أخرجه البخاري ـ الفتح 13/245 ـ كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد...، ومسلم بشرح النووي 3/66 كتاب المساجد، باب السهو في الصلاة والسجود له.(1/77)
قال الآمدي "ت631": "إنما توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في خبر ذي اليدين لتوهم غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير، ومع ظهور أمارة الوهم يجب التوقف فيه، فلما ارتفع الوهم بشهادة أبي بكر وعمر عمل بموجب خبره وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا عمل بخبر لم يبلغ حد التواتر ـ أي أنه آحاد"(1).
2) رد أبي بكر لخبر المغيرة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد بن مسلمة، ورد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى شهد معه أبو سعيد الخدري، وردّ عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله(2)، وغير ذلك من الوقائع الكثيرة المشهورة.
ووجه الاستدلال: أنها أخبار آحاد، ولو كانت تفيد علماً أو عملاً لقبلها أصحاب رسول الله ابتداءً.
والجواب على هذا: أن ردهم لهذه الأخبار لا لأنها أخبار آحاد، فقد تقرر - كما تقدم - أنهم لم يكونوا يعرفون هذين المصطلحين(3)، وإنما ردوا ذلك زيادة في التثبيت، ولئلا يجترئ الناس على التحديث دون تثبت. لهذا قال عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك ولكني أردت أن أتثبت في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم إن قبولهم للأخبار بعد مجيء من يثبت ذلك لا يخرج تلك الأخبار عن كونها آحاداً؛ لأنها لم تبلغ حد التواتر كما هو معلوم.
قال الآمدي"ت631هـ": "فعلم من ذلك أن ما ردوه من الأخبار أو توقفوا فيه لم يكن لعدم حجية خبر الآحاد عندهم، وإنما كان لأمور اقتضت ذلك: من وجود عارض أو فوات شرط، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها، مع كونهم متفقين على العمل بها، ولهذا أجمعنا على أن ظاهر الكتاب والسنة حجة، وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها"(4).
__________
(1) الإحكام 2/98.
(2) تقدم تخريج هذه الأحاديث في ص 85-86.
(3) انظر ص 3-4 من هذا البحث.
(4) الإحكام 1/61(1/78)
3) استدلوا بالقياس، فقاسوا الرواية على الشهادة، وقالوا: كما أنه لا يجوز الاعتماد على شهادة الواحد في الأحكام فكذلك لا يقبل خبر الواحد؛ لأنه لا يفيد علماً يوجب حكماً.
والجواب: أنه لا يصح قياس خبر الواحد على الشهادة؛ لأنه قياس مع الفارق، فالشهادة تخالف الرواية في أشياء كثيرة منها:
1- أن الشهادة دخلها التعبد بخلاف الرواية.
2- أن الرواية تقبل من المرأة ولا تقبل منها الشهادة إلا عند الضرورة، فتقبل شهادة امرأتين مع الرجل، وإلا في أمور مخصوصة للضرورة وهي ما لا يطلع عليه الرجال.
3-أن الشهادة على معين فاحتيط له، بخلاف الرواية فإنها جملة أحكام الناس، وينبني عليها قواعد كلية، فالمسلم العاقل لا يتجرأ في مثلها على الكذب لعظم الخطر فيها ولذلك اعتبر في الشهادة في الزنى أربعة بخلاف الرواية(1).
قال الخطيب البغدادي "ت 463": "إن كان هذا قياساً صحيحاً فإنه يجب القطع بتكذيب جميع آحاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين متى انفردوا بالخبر ولم تكن معهم دلالة على صدقهم، وهذا خروج عن الدين وجهل ممن صار إليه، ولو كان قياس مدعي النبوة وراوي الخبر واحداً لوجب أن يكون في الشهادة مثله، وأن يقطع على كل شهادة لم يقم دليل على صحتها أو يبلغ عدد الشهود عدد أهل التواتر أنها كذب وزور، هذا لا يقوله ذو تحصيل؛ لأن ذلك لو كان صحيحاً لم يجز لأحد من حكام المسلمين أن يحكم بشهادة اثنين ولا بشهادة أربعة وبشهادة من لم يقم الدليل على صدقه؛ لأنه إنما يحكم بشهادة يعلم أنها كاذبة"(2).
وأخيراً فإن أهل هذا القول يلزمهم ما يأتي:
__________
(1) انظر روضة الناظر 1/280
(2) الكفاية ص75.(1/79)
1- أن ما تداوله المسلمون ـ فضلا عن غيرهم ـ من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا من نسبة كل قول إلى قائله وقبوله ممن نقله وإن كان واحداً أن ذلك كذب أو ظن راجح. وهذا أمر في غاية المكابرة؛ إذ إنه يترتب على ذلك إنكار كل العلوم وعلى رأسها القرآن والسنة والمعارف التي خدمتهما، وهذا مثل إنكار الشمس في رابعة النهار.
2- أن كل تلميذ تلقى عن واحد أي نوع من العلوم لا يعتمد هو ولا غيره على ذلك العلم حتى يتيقن أن أساس علم شيخه يقين، وهذا لا يتحقق بناءً على قولهم إن خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن، وهذا يترتب عليه أحد أمرين:
الأول: الاعتراف بأن جميع ما تعلموه وما يعتقدوه كله ظن.
الثاني: أن علماءهم امتازوا على سلف الأمة ونقلة الحديث وفضلوهم؛ لأن علمهم يفيد اليقين وعلم الصحابة والتابعين ومن تبعهم - مهما بلغوا من الصدق والثقة والحفظ والديانة ـ إنما يفيد الظن، وهذا كله مباهتة ومكابرة يردها العقل والواقع"(1).
وقد أفاض الإمام الشافعي - رحمه الله - في الرد على منكري حجية خبر الآحاد مطلقاً، وذلك فيما سطره في كتبه "الرسالة"، و"الأم"، و"اختلاف" الحديث. وتبعه علماء أهل السنة والجماعة القائلين بحجية حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد، ومن أحسن ما كُتب في ذلك ما كتبه الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "الصواعق المرسلة"، وما كتبه شيخنا ناصر الدين الألباني "ت 1420هـ" في رسالة وجوب "العمل بحديث الآحاد في العقائد"، وكذلك ما كتبه شيخنا الدكتور عبد الله الجبرين في كتابه "أخبار الآحاد في الحديث النبوي"، ولكن ما ذكروه طويل جداً لا يتسع له مجال هذا البحث.
وعليه فأختصر ما قالوه في النقاط التالية:
أولاً: أن هذا القول مبتدع ولا يستند إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع.
__________
(1) انظر: أخبار الآحاد لشيخنا د. عبد الله الجبرين ص 64-65 بتصرف(1/80)
ثانياً: أنه مناقض لما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في تعاملهم مع السنة النبوية عقيدة وعملاً.
ثالثاً: أن القول بهذا يترتب عليه ردّ مئات من الأحاديث الصحيحة لمجرد كونها في العقيدة.
رابعاً: أن هذا القول مخالف لجميع أدلة القرآن والسنة التي احتج بها القائلون بحجية خبر الآحاد مطلقاً.
خامساً: أن تخصيص حجية أحاديث الآحاد بالأحكام دون العقائد تخصيص بغير مخصص فلا يعتد به.
سادساً: أن الله قد أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ ما أُنزل إليه، كما في قوله تعالى:
( ( ( ( ( ( ( ( (( ( ( ( ( ( ( (
[المائدة: 67].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بلغوا عني)) متفق عليه، فيلزم من عدم حجية خبر الآحاد أمران:
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ غير القرآن وما رواه عنه عدد متواتر، وما سوى ذلك لا تقوم به حجة ولا تبليغ، ومن المجمع عليه أن أغلب سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث آحاد، بل إن من العلماء من أنكر وجود الحديث المتواتر كما تقدم(1).
2- وإما أن يقول إن البلاغ والحجة حاصلان بما لا يوجب علماً ولا يقتضي عملاً وهذان الأمران باطلان.
سابعاً: أن من المجمع عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث أصحابه أفراداً لتبليغ رسائله وأحكام الشريعة، وأهم أمور الدين العقيدة، فكانوا يبدؤون بها، كما في حديث معاذ ((إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا عرفوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات...)) الحديث متفق عليه(2).
وهذا الحديث وغيره دليل قاطع على أن العقيدة تثبت بخبر الواحد، ومن لم يسلم بهذا لزمه أمران أيضاً:
1- القول بأن رسله ما كانوا يعلِّمون الناس العقائد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بذلك، وإنما أمرهم بتبليغ الأحكام فقط، وهذا باطل.
__________
(1) ص 104
(2) تقدم تخريجه ص74.(1/81)
2- أنهم كانوا مأمورين بتبليغ العقيدة مع الأحكام فبلغوها وقالوا للناس: لا تؤمنوا بها، لأنها أخبار آحاد، وهذا باطل كسابقه.
ثامناً: أن التفريق بين العقيدة والأحكام العملية مبني على أساس أن العقيدة لا يقترن معها عمل، والأحكام لا يقترن معها عقيدة، وكلا الأمرين باطل؛ لأن المطلوب في المسائل العملية أمران: العلم والعمل، والمطلوب في المسائل العلمية: العلم والعمل ـ أيضاً ـ فليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وعمل الجوارح تبع، ومن قال بالتفريق فعليه الدليل، ولا دليل.
بل إن أغلب الأحاديث العملية والأحكام تتضمن أموراً اعتقادية، ففي التشهد الأخير - مثلاً - يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جلس أحدكم في التشهد الأخير فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا وفتنة الممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال)) رواه الشيخان.
فهذا الحديث وأمثاله يلزم القائلين بعدم حجية خبر الواحد في العقائد، يلزمهم ولا يمكنهم نقضه.
تاسعاً: أن دعوى اتفاق الأصوليين على ظنية خبر الآحاد وعدم إفادته للعلم الموجب للعمل، دعوى باطلة.
قال القاضي أبو يعلى "ت458هـ": "خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده، ولم تختلف الرواية فيه، وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه الأمة بالقبول"(1).
وقال أبو إسحاق الشيرازي "ت 476": "وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل، سواء عمل، به الكل أو البعض"(2).
وبهذا ينتهي تلخيص الرد على من زعم أن خبر الآحاد يفيد الظن المرجوح ولا يفيد العلم.
وأخيراً فما نتيجة هذا القول والأخذ به؟
والجواب يتلخص فيما يأتي:
1-ردّ كثير من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعدم الأخذ بها لا في الأحكام ولا في العقائد.
__________
(1) العدة 2/187.
(2) شرح اللمع ص 75.(1/82)
2- اتخاذ أهل الزيغ والحقد والهوى هذا القول أساساً بنوا عليه شبهاتهم التي اتخذوها سلماً للتشكيك والطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام من المستشرقين والمستغربين ومن تبعهم من أمثال: جولد زيهر(1)، ويوسف شاخت(2)، ومرجليوث(3)، وهاملتون جيب(4) وزويمر(5)، ومحمود أبو ريَّه(6)، ونصر أبو زيد (7)، والشيخ محمود شلتوت(8) والشيخ محمد الغزالي(9) وغيرهم.
الخاتمة
وبعد، فإني أحمد الله على توفيقه لإتمام هذا البحث، كما أسأله –تعالى-أن يجعله نافعا في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب
أما عن النتائج التي توصلت إليها فيمكن إجمالها فيما يأتي:
1-إن تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد تقسيم طرأ بعد القرن الأول
-أعني بعد عصر الصحابة وكبار التابعين- ذلك لأن الصحابة وكبار التابعين لم يكونوا يفرقون بين المتواتر والآحاد من الأحاديث النبوية، وإنما حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندهم بدرجة واحدة.
__________
(1) يهودي مجري، تعلم العربية وتسلح بها وتتلمذ على العلامة الشيخ طاهر الجزائري"ت 1921م".
(2) تلميذ سابقه، تعلم العربية كان عضو مجمع اللغة العربية في دمشق، له كتب كثيرة عن الإسلام كلها تشويه وضلال.
(3) يهودي إنجليزي متعصب ضد الإسلام "ت1940م".
(4) ولد بالإسكندرية بمصر، وهو إنجليزي أصبح خليفة لسابقه في جامعة اكسفورد ومجمع اللغة العربية بدمشق ت"1965م".
(5) اسمه صمويل زويمر، مستشرق، عمل مبشراً في البحرين، وضع خريطة تنصير العالم الإسلامي.
(6) في كتابه "أضواء على السنة المحمدية".
(7) معاصر.
(8) في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" ص 61 حيث قال: "إن حديث الآحاد لا يفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليه في المغيبات".
(9) حيث قال في كتابه "مائة سؤال عن الإسلام 1/249:"إن خبر الواحد لا ينهض على إثبات حرمة أو إثبات فريضة".(1/83)
2-إن هذا التفريق نشأ عندما ظهرت الفرق-ولاسيما المعتزلة- الذين جعلوا العقل مقدما على القرآن والسنة في معرفة الأشياء والاستدلال، ولما تصادم الاستنتاج العقلي مع النص الشرعي أخذوا يبحثون عن مخرج يبقي للعقل منزلته، فأوحت لهم شياطينهم من الإنس والجن بظنية الأخبار وقطعيتها، ومن ثم القول بظنية الدليل أو قطعيته، ولما كان القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة ما كان أمامهم إلا تأويل الآيات بما يتفق و ما تراه عقولهم، ومن هنا برز عند السلف ما يعرف بالتأويل المقبول والتأويل المردود، أما السنة فإن حائطها أدون عندهم فقالوا إنها ظنية الثبوت باعتبار أنها أخبار بشر يخطئون وينسون، فلا يمكن قبولها في الأمور الاعتقادية؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يبني عقيدته على أمر ظني، فردوا أحاديث الآحاد لذلك وحشدوا لتأييد مذهبهم أدلة من القرآن والسنة حملوها على غير مقاصدها فباؤوا بالخسران، وتصدى لهم علماء أهل السنة والجماعة من السلف والخلف وبينوا بطلان ما ذهبوا إليه.
3- أن الذين قالوا بعدم حجية حديث الآحاد قد فتحوا الباب على مصراعيه لأعداء الإسلام من المستشرقين وتلاميذهم المستغربين من بني جلدتنا وأهل لغتنا، الذين تلقفوا تلك الأفكار وبنوا عليها شبهاتهم للطعن في السنة ورواتها، ولكن هيهات وأنى لهم ذلك؛ لأن السنة من الذكر الذي أوحى به الله إلى رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد تكفل الله - سبحانه - بحفظ ذلك الذكر كما قال جل وعلا:( ( ( ( ( ( ( (.([الحجر:9].
هذا ما ظهر لي، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
فهرس المصادر والمراجع
إحكام الأحكام: لسيف الدين الآمدي/ ط مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة.
الإرشاد في معرفة علماء الحديث: لأبي يعلى الخليلي/ط مكتبة الرشد، بالرياض.
أصول الفقه: للسرخسي / دار المعرفة، بيروت.
الأعلام: للزركلي/ ط3/1389هـ.
الاقتراح في بيان الاصطلاح: لابن دقيق العيد/ عناية بنت الشاطئ.(1/84)
ألفية السيوطي في علم الحديث: شرح أحمد شاكر.
الأنساب: لأبي سعد السمعاني / عناية عبد الرحمن المعلمي/ ط دار المعارف العثمانية، الهند/ ط1.
الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث: أحمد شاكر/ تحقيق علي ابن حسن الأثري/ ط دار العاصمة، بالرياض.
بحوث في تاريخ السنة المشرفة: د/أكرم ضياء العمري/ ط4.
بغية الملتمس في تاريخ أهل الأندلس: لأحمد بن يحيى الضبي/ ط دار الكتاب العربي.
تاج العروس للسيد محمد مرتضى الزبيدي/ مصورة دار صادر، بيروت.
تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي/ ط دار الكتاب العربي، بيروت.
تاريخ يحيى بن معين رواية الدارمي/ عناية د. أحمد نور سيف/ ط دار المأمون، دمشق.
تبصير المنتبه بتحرير المشتبه: للحافظ ابن حجر/ عناية علي محمد البجاوي، المؤسسة المصرية العامة.
تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: لجلال الدين السيوطي/ عناية عبد الوهاب عبد اللطيف.
تذكرة الحفاظ: للإمام الذهبي/ ط دار إحياء التراث.
ترتيب المدارك: للقاضي عياض/ ط دار مكتبة الحياة، بيروت.
تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة: للحافظ ابن حجر/ ط دار الكتاب العربي، بيروت.
التعديل والتجريح: للباجي/ عناية أبي لبابة حسين/ ط دار اللواء، بالرياض.
التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح: للحافظ العراقي/ ط المكتبة السلفية، بالمدينة النبوية.
التمهيد: للحافظ أبي عمر بن عبد البر/ ط وزارة الأوقاف المغربية.
التنكيل: لعبد الرحمن بن يحيى المعلمي/ عناية الألباني ومحمد عبد الرزاق حمزة/ ط دار الكتب السلفية.
تهذيب الكمال: للحافظ المزي/ ط مؤسسة الرسالة.
توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: للأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني/ عناية محمد محي الدين.
الثقات: لابن حبان البستي.
جامع الأصول في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لمجد الدين بن الأثير/ عناية عبد القادر الأرنؤوط.
جامع بيان العلم وفضله: للحافظ ابن عبد البر/ ط المكتبة السلفية، بالمدينة النبوية.(1/85)
الجامع الصحيح: للإمام البخاري/ ط دار إحياء التراث العربي، بيروت.
الجامع الصحيح: للإمام مسلم/ عناية محمد فؤاد عبد الباقي.
الجامع لأحكام القرآن: للإمام القرطبي/ ط دار الشعب، مصر.
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: للخطيب البغدادي/ عناية د/محمود الطحان، مكتبة المعارف، الرياض.
الجرح والتعديل: لابن أبي حاتم/ ط مجلس دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد، الهند.
جزء فيه طرق حديث(من كذب عليّ متعمداً): للطبراني/ عناية: علي حسن عبد الحميد.
جمع الجوامع: لتاج الدين السبكي/ مطبعة مصطفى الحلبي.
خلاصة أصول الحديث: للطيبي/ عناية صبحي السامرائي.
الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: للحافظ ابن حجر/ عناية سالم الكرنكوي/ مطبعة دائرة المعارف، الهند.
الرحلة في طلب الحديث: للخطيب البغدادي/ عناية د. نور الدين عتر.
الرسالة المستطرفة: لمحمد بن جعفر الكتاني/ طبعة دار البشائر.
الرفع والتكميل: للكنوي/ عناية الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
السنن: للدار قطني/ طبعة الدار السلفية، الهند.
السنن: لأبي داود/ عناية محيي الدين عبد الحميد.
السنن: لابن ماجه / عناية الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي.
السنن الكبرى: للنسائي/ عناية عبد الغفار البنداري وآخر.
السنن الكبرى: للبيهقي/ دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، الهند.
سير أعلام النبلاء: للإمام الذهبي/ عناية شعيب الأرنؤوط وآخرين.
الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح: للأبناسي/ عناية صلاح فتحي.
شذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي/ ط دار الآفاق الجديدة.
شرح ألفية العراقي في الحديث: لجلال الدين السيوطي.
شرح النووي على صحيح مسلم/ طبعة دار الفكر.
شرح علل الترمذي: لابن رجب/ عناية د.نور الدين عتر.
شروط الأئمة الخمسة: للحازمي.
شروط الأئمة الخمسة: لابن القيسراني.
الضعفاء الكبير: للعقيلي/ عناية د. عبد المعطي قلعجي.
طبقات الشافعية الكبرى: لتاج الدين السبكي/ عناية د. عبد الفتاح الحلو.(1/86)
الطبقات الكبرى: لابن سعد.
ظفر الأماني: للكنوي/ عناية تقي الدين الندوي، ط دار القلم.
العبر: للإمام الذهبي/ ط دار الكتب العلمية.
العلل: لابن المديني/ عناية د/ محمد مصطفى الأعظمي.
علل الحديث: لابن أبي حاتم، مكتبة المثنى، بغداد.
العلل ومعرفة الرجال: للإمام أحمد برواية ابنه عبدالله/عناية د. وصي الله عباس.
علوم الحديث: لابن الصلاح/ عناية د. نور الدين عتر.
فتح الباري: للحافظ ابن حجر/ مصورة الطبعة السلفية.
فتح الباقي على ألفية العراقي: زكريا الأنصاري.
فتح المغيث شرح ألفية الحديث: للسخاوي/عناية عبد الرحمن عثمان.
فتح الباب فيمن اشتهر من المحدثين بالألقاب: للشيخ حماد الأنصارى/ ط مؤسسة الرسالة.
الفوائد البهية في تراجم الحنفية: للكنوي/ ط مكتبة دائرة المعارف، الهند.
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت: لعبد العلي الأنصاري.
قاعدة في الجرح والتعديل: لتاج الدين السبكي/ ضمن مجموعة رسائل حققها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
القاموس المحيط: للفيروزآبادي/ ط مؤسسة الحلبي وشركاه.
الكاشف لمن له رواية في الكتب الستة: للذهبي.
الكامل في الضعفاء: لابن عدي/ ط دار الفكر.
الكفاية: للخطيب البغدادي/ عناية محمد الحافظ التيجاني/ ط مطبعة السعادة، مصر.
لسان العرب: لابن منظور/ نشر دار صادر، بيروت.
لسان الميزان: للحافظ ابن حجر.
المجروحين: لابن حبان/ عناية محمد إبراهيم زايد.
المحدث الفاصل: للرامهرمزي/ عناية د. محمد عجاج الخطيب/ ط دار الفكر.
معالم السنن: للخطابي/ الطبعة العلمية.
معجم البلدان: لياقوت الحموي/ طبعة دار صادر.
معجم مقاييس اللغة: لابن فارس/ عناية عبد السلام هارون، ط دار الفكر.
معرفة علوم الحديث: للحاكم، ط دار الآفاق الجديدة، بيروت.
المقنع في علوم الحديث: لابن الملقن، عناية عبد الله بن يوسف الجديع.
منهج النقد عند المحدثين: د. نور الدين عتر، ط دار الفكر، بيروت.(1/87)
الموقظة: للإمام الذهبي/ عناية الشيخ عبد الفتاح أبي غدة.
ميزان الاعتدال: للإمام الذهبي/ عناية علي محمد البجاوي/ ط دار المعرفة، بيروت.
نزهة النظر شرح نخبة الفكر: للحافظ ابن حجر/ عناية علي حسن الحلبي.
النكت على نزهة النظر: للحافظ ابن حجر.
النكت على كتاب ابن الصلاح: للحافظ ابن حجر، عناية د. ربيع المدخلي.
نهاية السول شرح منهاج الأصول: للإسنوي/ ط عالم الكتب، بيروت.
النهاية في غريب الحدث: لابن الأثير الجزري/ عناية أحمد طاهر الزاوي وآخر.
هدي الساري مقدمة فتح الباري: للحافظ ابن حجر/ عناية الشيخ عبد العزيز بن باز.
الوافي بالوفيات: لابن الصفدي، ط2.
وفيات الأعيان: لابن خلكان/ عناية إحسان عباس، ط دار صادر، بيروت.
فهرس الموضوعات
المقدمة…1
الفصل الأول: أقسام الحديث…9
توطئة:…9
تمهيد: وفيه بيان نشأة مصطلحي المتواتر والآحاد.…10
وخلاصة هذا التمهيد:…18
المتواتر…19
تعريفه في اللغة:…19
وفي الاصطلاح:…19
شروط المتواتر:…20
أقسام المتواتر:…21
وجود الحديث المتواتر:…22
ما يفيده الحديث المتواتر من العلم:…25
حكم العمل بالحديث المتواتر:…27
الآحاد…29
تعريفه:…29
القسم الأول: المشهور.…30
أقسام الحديث المشهور:…31
أولاً: من أمثلة المشهور الاصطلاحي:…31
ثانياً: المشهور غير الاصطلاحي:…34
القسم الثاني: العزيز…37
تعريفه:…37
حكم الحديث العزيز:…39
القسم الثالث: الغريب " أو الفرد ":…40
أنواعه:…40
ثانياً: الفرد:…43
أنواع الحديث الفرد:…43
العلاقة بين الغريب والفرد:…46
الفصل الثاني: في شروط قبول حديث الآحاد…49
شروط قبول خبر الآحاد بأنواعه الثلاثة:…49
المبحث الأول: قبول حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد:…53
1- القائلون به:…53
2- أدلة القائلين بوجوب قبول خبر الآحاد في الأحكام والعقائد:…59
الدليل الأول: القرآن:…59
الدليل الثالث: الإجماع:…84
الدليل الرابع: القياس:…89(1/88)
المبحث الثاني: قبول خبر الآحاد مطلقاً إذا احتفت به القرائن…91
المبحث الثالث: قول القائلين بعدم حجية حديث الآحاد مطلقاً في الأحكام والعقائد وأدلتهم والرد عليها.…98
الخاتمة…111
فهرس المصادر والمراجع…113
فهرس الموضوعات…119(1/89)