سبيل، أو غارمًا لإصلاح ذات بين(1) ويجزئُ إلى من تبرع بنفقته، بضمه إلى عياله(2) أو تعذرت نفقته من زوج، أو قريب، بنحو غيبة أو امتناع(3) (ولا) تجزئُ (إلى عبد) كامل رق(4) غير عامل أو مكاتب(5) (و) لا إلى (زوج) فلا يجزئها دفع زكاتها إليه، ولا بالعكس(6)
__________
(1) فتجزئ، لا تختلف الرواية في ذلك، لأنه يعطى لغير النفقة الواجبة، وتقدم أن عمودي النسب يعطون لذلك، فهؤلاء أولى.
(2) كيتيم غير وارث، اختاره الأكثر، منهم الموفق، والشارح، والشيخ وغيرهم، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، لوجود المقتضي، ولدخوله في العمومات، ولا نص ولا إجماع يخرجه، وفي الصحيح أن امرأة عبد الله سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن بني أخ لها، أيتام في حجرها، أفتعطيهم زكاتها؟ قال «نعم» ولهذا لو دفع إليه شيئًا في غير مؤنته التي عوده إياها، جاز وفاقًا.
(3) كمن غصب له مال وفاقًا، وكذا من تعطلت منافع عقاره، جاز له الأخذ، لوجود المقتضي مع عدم المانع.
(4) من قن ومدبَّرٍ، ومعلق عتقه بصفة، وقال أبو محمد: لا أعلم فيه خلافًا، لأن نفقته واجبة على سيده، فهو غني بغناه. وظاهره: ولو كان سيده فقيرًا، وذكره في الإنصاف الصحيح من المذهب، ومفهومه أن من بعضه حر يأخذ بقدر حريته، بنسبته من كفايته.
(5) لأن المكاتب في الرقاب، والعامل يأخذ أجرة عمله.
(6) أي ولا يجزئ دفع زكاته إليها، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا، لأنها مستغنية بنفقتها عليه، كما لو دفعها إليها على سبيل الإنفاق عليها، وحكاه
الأصحاب قولاً واحدًا فيهما، لأن كل واحد منهما يتبسط في مال الآخر، وعنه: يجوز؛ اختاره القاضي، وأصحابه، وأبو محمد، وهو مذهب الشافعي، لدخولها في عموم { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } ولحديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تصدقن يا معشر النساء، ولو من حليكن» قالت: فرجعت إلى عبد الله، فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله: إن كان ذلك يجزئ عني، وإلا صرفتها إلى غيركم. قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت. قالت: فانطلقت، فإذا امرأة من الأنصار، حاجتها حاجتي، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة؛ قالت: فخرج علينا بلال، فقلنا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن امرأتين بالباب، يسألانك أتجزئ الصدقة عنهما، على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما، ولا تخبر من نحن. قالت: فدخل بلال، فسأله فقال له «من هما؟» قال: امرأة من الأنصار، وزينب. قال «أي الزينبات؟» قال: امرأة عبد الله. فقال «لها أجران، أجر القرابة، وأجر الصدقة» متفق عليه، وقال مالك: إن كان يصرفه في غير نفقتها، لأولاد فقراء عنده من غيرها، أو نحو ذلك جاز.(5/305)
.
وتجزئ إلى ذوي أرحامه، من غير عمودي النسب(1).
__________
(1) ممن لا يرثه بفرض، أو تعصيب، بنسب أو ولاء، كأخ، وابن عم، لأن الوارث منهما تلزمه مؤنته، فلا يدفع زكاته إليه، وغير الوارث يجوز بلا نزاع، قال ابن عباس: إذا كان ذو قرابة لا يعولهم، يعطيهم من زكاة ماله، وإلا فلا يعطهم. اهـ. ومن سواهم يجوز إعطاؤه، كعمته وبنت أخيه، ولو ورثه، لضعف قرابتهم، وعنه: يجوز ولو لعمودي نسبه، لعموم قوله «الصدقة على المسكين صدقة، وهي لذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» رواه أحمد، والترمذي وغيرهما، والصدقة والرحم عامان، ولأحمد وغيره عن أبي أيوب «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح».(5/306)
(إن أعطاها لمن ظنه غير أهل) لأخذها (فبان أهلاً) لم تجزئه، لعدم جزمه بنية الزكاة، حال دفعها لمن ظنه غير أهل لها(1) (أو بالعكس) بأن دفعها لغير أهلها، ظانًا أنه أهلها (لم تجزئه)(2) لأنه لا يخفى حاله غالبًا(3) وكدين الآدمي(4) (إلا) إذا دفعها (لغني ظنه فقيرًا) فتجزئه(5).
__________
(1) كما لو هجم وصلى، فبان في الوقت، وفي الفروع: ويتوجه تخريج من الصلاة، إذا أصاب القبلة، ولأن العبرة المواساة وقد حصلت.
(2) بأن دفعها لهاشمي، أو عبده، أو وارثه، أو كافر، وهو لا يعلم، لم تجزئه، وتقدم، وأما الكافر فحكى ابن المنذر وغيره: أنها لا تجزئ الكافر إجماعًا، وفي الصحيحين «أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقةـ تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» والكافر ليس منهم، لأنها مواساة تجب للمسلم على المسلم، فلم تجب للكافر كالنفقة، ويستثنى منه ما إذا كان مؤلفًا، أو عاملاً، على رواية، زاد في المستوعب: أو غارمًا لذات البين، أو غازيًا، وذلك بخلاف صدقة التطوع، لقصة أسماء.
(3) ولا يعذر بالجهالة، قال الشارح: رواية واحدة، ولأنه ليس بمستحق لها، ولأنه لا يبرأ بالدفع إلى من ليس من أهلها، فاحتاج إلى العلم به، لتحصل البراءة، والظن يقوم مقام العلم، لتعذره، أو عسر الوصول إليه.
(4) إذا دفع مدِينُه دَيْنَه الذي عليه، إلى غير ربه، ظانًا أنه ربه، فبان أنه غيره، ضمن، لاشتراط تمليك المعطى.
(5) وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين عن الشافعي، واختاره أكثر الأصحاب، وجزم به في الوجيز، للمشقة، ولخفاء ذلك عادة.(5/307)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين الجلدين، وقال «إن شئتما أعطيتكما منها، ولاحظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب»(1) (وصدقة التطوع مستحبة)(2)
__________
(1) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي وغيرهم، من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر، ورآهما جلدين، الحديث، وللنسائي، في الذي وضعها في يد غني قال «قد تقبلت» وتقدم حديث الذي أخذ ولده صدقته، فقال صلى الله عليه وسلم «لك ما نويت، وله ما أخذ» قال ابن رجب وغيره: ولهذا لو دفع صدقته إلى من يظنه فقيرًا، وكان غنيًا في نفس الأمر، أجزأته على الصحيح، لأنه إنما دفع إلى من يعتقد استحقاقه، والفقر أمر خفي، لا يكاد يطلع على حقيقته، وعنه: لا تجزئه، اختاره الآجري، والمجد وغيرهما، وفاقًا لمالك والشافعي، كما لو بان عبده ونحوه. وكحق الآدمي، ولبقاء ملكه، لتحريم الأخذ، ويرجع على الغني، بها أو بقيمتها ذكره القاضي وغيره رواية واحدة، لأن الله حصرها في الفقراء، وللترمذي وأبي داود، عن عمر مرفوعًا «لا تحل الصدقة لغني ولا للذي مرة سوي»، وفي رواية له «ولا لذي مرة قوي» وللنسائي عن أبي هريرة قال «لاحظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب» وتقدم: «لا تحل لغني إلا لخمسة عامل، أو غاز، أو غارم، أو مشتريها بماله، أو مهداة إليه» قال الباجي: فإن دفعها لغني غير هؤلاء، عالمًا بغناه، لم تجزئه بلا خلاف، وقال أحمد: الغني المانع من أخذ الزكاة، أن يكون له كفاية على الدوم، بتجارة، أو صناعة، أو أجرة عقار وغيره، وإلا فلا، وإن ملك نصبًا.
(2) إجماعًا، بل سنة كل وقت، لإطلاق الحث عليها في الكتاب والسنة، وقال غير واحد: هي أفضل من الجهاد، لا سيما إذا كان زمن مجاعة، على
المحاويج، خصوصًا صاحب العائلة، خصوصًا القرابة، ومن الحج، لأنه متعد، والحج قاصر، وهو ظاهر كلام المجد وغيره، وصوبه في تصحيح الفروع وغيره، وأفضل من العتق، لقوله لميمونة «لو أعطيتها أخوالكِ، كان أعظم لأجركِ» متفق عليه.(5/308)
.
حث الله عليها في كتابه العزيز، في آيات كثيرة(1) وقال عليه السلام «إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء» رواه الترمذي وحسنه(2).
__________
(1) ورغب فيها، فقال تعالى { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } الآية، وعده من البر وقال { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وغير ذلك من الآيات في الحث على الصدقة. وقال { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } .
(2) وفي الصحيحين «سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله» وذكر منهم «رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» ولابن حبان وغيره «كل امرئ في ظل صدقته، حتى يقضي بين الناس» وفي الصحيحين «من تصدق بعدل تمرة، من كسب طيب – ولا يصعد إليه إلا الطيب – فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، حتى تكون مثل الجبل» وغير ذلك مما هو معلوم، وسرًا أفضل، لقوله { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، والكل مقبول إذا كانت النية صادقة، وبطيب نفس أفضل منها بدونه، لخبر «طيبة بها نفسه» وفي الصحة أفضل منها في غيرها، لقوله: «وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر».(5/309)
(و) هي (في رمضان) وكان زمان ومكان فاضل، كالعشر، والحرمين أَفضل(1) لقول ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَجود الناس، وكان أَجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبرئيل. الحديث، متفق عليه(2) (و) في (أوقات الحاجات أفضل)(3) وكذا على ذي رحم(4) لا سيما مع عداوة، وجار(5).
__________
(1) لأجل مضاعفة الحسنات، وهذا مما لا نزاع فيه، ويأتي «ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» وفضل الحرمين الشريفين مشهور، ويأتي.
(2) أي: كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس في خصال الخير، وأكثرهم جودًا، وكان أجود ما يكون في رمضان، فإن الحسنة فيه بسبعين حسنة فيما سواه، وللترمذي عن أنس مرفوعًا: أي الصدقة أفضل؟ أي أعظم أجرًا، قال «صدقة في رمضان» وفيه إعانة على أداء الصوم المفروض، ومن فطر صائمًا كان له مثل أجره، وكذا الصدقة.
(3) لقوله تعالى { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } ولأبي سعيد مرفوعًا «من أطعم مؤمنًا جائعًا، أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمنًا على ظمأ، سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة».
(4) قرابة، وهم عشيرتك الأدنون، ويشمل الأصول، والفروع، والحواشي، والصدقة عليهم أفضل، إجماعًا.
(5) لقوله «أن تصل من قطعك، وتعطي من منعك، وتعفو عمن ظلمك» ولقوله «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» أي العدو، المظهر للعداوة.(5/310)
لقوله تعالى { يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } (1) ولقوله عليه السلام «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان، صدقة وصلة»(2) (وتسن) الصدقة (بالفاضل عن كفايته و) كفاية (من يمونه)(3) لقوله عليه السلام «اليد العليا، خير من اليد السفلى، وابدأْ بمن تعول،
__________
(1) أي أطعم يتيمًا ذا قرابة بينه وبينه، أو فقيرًا مدقعًا، لقد لصق بالتراب، { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } أي برحمة الناس، والشفقة عليهم، ولقوله تعالى { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } وقوله { وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } وغير ذلك.
(2) رواه الخمسة وغيرهم، والصدقة هي ما دفع لمحض التقرب إلى الله، فرضًا كانت أو تطوعًا، وهي واحدة على المساكين، وعلى ذي القرابة ثنتان، صدقة، وصلة، إحسان، وعطف، ورفق، وفي الصحيحين «أجران، أجر القرابة، وأجر الصدقة» ولأنه أولى الناس بالمعروف، ويسن أن يفرقها فيهم، على قدر حاجتهم، ويبدأ بالأحوج فالأحوج، وإن كان الأجنبي أحوج، فلا يعطي القريب، ويمنع البعيد، بل يعطي الجميع، والجار أولى من غيره، والعالم، وذو العيلة كما تقدم.
(3) بسبب متجر، أو غلة ملك، أو وقف، أو صنعة، أو عطاء من بيت المال، ونحو ذلك، قال تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } ، يعني الفضل عن حاجته، وحاجة عياله، وذلك أن لا يجهد مالك، ثم تقعد تسأل الناس، وفي الخبر «ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسك شر لك، ولا تلام على كفاف».(5/311)
وخير الصدقة عن ظهر غنى» متفق عليه(1) (ويأْثم) من تصدق (بما ينقصها) أي ينقص مؤنة تلزمه(2) وكذا لو أَضر بنفسه، أَو غريمه، أَو كفيله(3) لقوله عليه السلام «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت»(4).
__________
(1) من حديث حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «اليد العليا» وهي المعطية «خير من اليد السفلى» وهي السائلة «وابدأ» أيها المتصدق «بمن تعول» أي تمون، ممن تلزمك نفقته، فقدمه على التصدق على غيرهم، تقديمًا للواجب، على المندوب، فيبدأ بنفسه، وعياله، لأنهم الأهم، «وخير الصدقة، ما كان عن ظهر غنى» أي عفوًا، فقد فضل عن غنى، أو فضل عن العيال، والظهر قد يزاد في مثل هذا، إشباعًا للكلام، وتمكينًا، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قوي من المال، فأفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعد إخراجها مستغنيًا، بقي له ما يستظهر به على حوائجه، ومصالحه.
(2) لتركه الواجب، ولأبي داود عن جابر مرفوعًا «يأتي أحدكم بما يملك، فيقول: هذه صدقة! ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى».
(3) في مال أو بدن، فالاختيار للمرء أن يبقي لنفسه قوتًا، فلا يضر بها، ويترك واجبًا لمندوب، مع اليسار، فكيف مع ترك حق واجب لنفسه، أو غريمه، أو كفيله، وإذا لم يضر فالأصل الاستحباب.
(4) رواه أبو داود وغيره، وله عن أبي هريرة قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال رجل: يا رسول الله عند دينار. فقال «تصدق به على نفسك» فقال: عندي آخر. قال «تصدق به على ولدك» قال: عندي آخر. قال «تصدق به على زوجتك» قال: عندي آخر. قال «تصدق به على خادمك» قال: عندي آخر. قال «أنت أبصر» ولمسلم «أفضل دينار ينفقه الرجل، دينار ينفقه على عياله» وقال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجرًا، من رجل ينفق على عيال صغار، يعفهم، أو ينفعه الله بهم، ويغنيهم؟(5/312)
ومن أَراد الصدقة بماله كله، وله عائلة، لهم كفاية، أو يكفيهم بمكسبه، فله ذلك(1) لقصة الصديق(2) وكذا لو كان وحده، ويعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر عن المسأَلة، وإلا حرم(3)
__________
(1) قال في الإنصاف: بلا نزاع. لقوله تعالى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } وقوله «أفضل الصدقة جهد المقل» رواه أبو داود، وخبر «سبق درهم ألف درهم» لدلالة المقل على الثقة بالله، والزهد في الدنيا، فصدقته أفضل الصدقة.
(2) وهي أنه جاء بجميع ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما أبقيت لأهلك؟» فقال: الله ورسوله. وكان تاجرًا، ذا مكسب، وظاهر عبارته الإباحة فقط، وقصة الصديق تقتضي الاستحباب.
(3) أي وكذا من أراد الصدقة بماله كله، ولا عيال له، ويعلم من نفسه حسن التوكل، يعني الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس، والصبر عن المسألة مما في أيديهم، استحب له ذلك، وقال القاضي: جوزه جمهور العلماء، وأئمة الأمصار، وقوله { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } وخبر «خير الصدقة جهد المقل» وقصة الصديق، وغير ذلك، يدل على الأفضلية، مع قوة اليقين، وكمال الإيمان، وإن لم يعلم من نفسه حسن التوكل، والصبر على الضيق، أو مما لا عادة له به، حرم عليه ذلك، ويمنع منه، ويحجر عليه، لتبذيره، ويقويه خبر جابر: أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة من ذهب،
وقال: خذها، ما أملك غيرها. فحذفه بها.
وقال «يأتي أحدكم بما يملك، فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر عنى» ولا ريب أنه يختلف باختلاف أحوال الناس، في الصبر على الفاقة والشدة، والاكتفاء بأقل الكفاية، وقال ابن عقيل: أقسم بالله لو عبس الزمان في وجهك مرة، لعبس في وجه أهلك وجيرانك، ثم حث على إمساك المال.
وقال ابن الجوزي: الأولى أن يدخر لحاجة تعرض، وأنه قد يتفق له مرفق، فيخرج ما في يده، فينقطع مرفقه، فيلاقي من الضراء، ومن الذل، ما يكون الموت دونه، فلا ينبغي لعاقل أن يعمل بمقتضى الحال، بل يصور كل ما يجوز وقوعه، وأكثر الناس لا ينظر في العواقب، وقد تزهد خلق كثير، فأخرجوا ما بأيديهم، ثم احتاجوا، فدخلوا في مكروهات، والحازم من يحفظ ما في يده، والإمساك في حق الكريم جهاد، كما أن إخراج ما في يد البخيل جهاد.
وقال غير واحد: نحن في زمان من احتاج فيه فأول ما يبذل دينه، والحازم يحفظ ما في يده، وإذا صدقت نية العبد وقصده، رزقه الله، وحفظه، من الذل، ودخل في قوله { وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } .
(تتمة)
وفي المال حقوق سوى الزكاة، نحو مواساة قرابة، وصلة إخوان، وإعطاء سائل، وإعارة محتاج لنحو دلو أو ركوب ظهر، أو إطراق فحل، أو سقي منقطع، أو من حضر حلاب نعم، وهو قول جماعة من أهل العلم، وقال شيخ الإسلام: وإعطاء السائل فرض كفاية إن صدق، ولهذا جاء في الحديث «لو صدق لما أفلح من رده» واستدل أحمد بهذا الحديث، وأجاب بأن السائل إذا قال: أنا جائع. وظهر صدقه، وجب إعطاؤه، وهذا من تأويل قوله { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وإن ظهر كذبهم، لم يجب إعطاؤهم، ولو سألوا مطلقًا، لغير معين، لم يجب إعطاؤهم. اهـ.
وقال القرطبي: اتفق العلماء على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة، بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها، وقال مالك: يجب على الناس فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم. وحكاه غير واحد إجماعًا.
وفي الإقناع وغيره: وإطعام الجائع ونحوه واجب إجماعًا، مع أنه ليس في المال حق واجب سوى الزكاة وفاقًا، وقوله { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } هي الزكاة عند الجمهور، وما جاء غير ذلك حمل على الندب، ومكارم الأخلاق، لا راتبًا، وما يعرض لجائع وعار ونحوهما، فيجب عند وجود سببه.(5/313)
.
كتاب الصيام(1)
__________
(1) هو أحد أركان الإسلام، وفرض من فروض الله، المعلوم من الدين بالضرورة، وإجماع المسلمين، بل من العلم العام، الذي توارثته الأمة، خلفًا عن سلف، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وأجمعوا على أن من أنكر وجوبه كفر، قال تعالى { كُتِبَ } أي فرض { عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فهو وصلة إلى التقوى، لما فيه من قهر النفس، وترك الشهوات، وقال { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } والأمر للوجوب، لما في من تزكية النفس، وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة.
وقال صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس» وذكر منها صوم رمضان، والأحاديث كثيرة في الدلالة على فرضيته وفضله.
وفي الحديث «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به» ويأتي، وقال «والصوم جنة».
وقال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم» فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات، وضعفت إرادتها، ومحبتها للعبادات، ولما فيه من التزهيد في الدنيا، وشهواتها، والترغيب فيما عند الله، والرحمة، والعطف على المساكين، وموافقتهم، يتحمل ما يتحملون أحيانًا.(5/314)
لغة مجرد الإمساك(1) يقال للساكت: صائم؛ لإمساكه عن الكلام(2).
__________
(1) والكف، والامتناع، والترك، من «صام يصوم صومًا» أمسك، وفي اللسان، والمحكم: الصوم ترك الطعام، والشراب، والنكاح، والكلام. وكان معقولاً عندهم أن الصيام هو الإمساك عن هذه، لقوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } قال الشيخ: كانوا يعرفونه قبل الإسلام، ويستعملونه كما في الصحيحين: يوم عاشوراء كان يومًا تصومه قريش في الجاهلية.
(2) وامسك عن الشيء، وكف عنه، وتركه، فهو صائم، وقال ابن قتيبة: كل ممسك عن طعام، أو كلام، أو سير، فهو صائم. ويقال: صام النهار إذا وقف سير الشمس، وصام الفرس، أمسك عن العلف وهو قائم، أو عن الصهيل في موضعه، قال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي ممسك عن الصهيل.(5/315)
ومنه (إني نذرت للرحمن صومًا)(1) وفي الشرع: إمساك بنية(2) عن أشياء مخصوصة(3) في زمن معين(4) من شخص مخصوص(5) وفرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة(6).
__________
(1) أي سكوتًا وإمساكًا عن الكلام، وأشار بـ«مِنْهُ» فصلاً له عما قبله، للخلاف في ذلك، وقد قرئ به (صيامًا)، وكانوا لا يتكلمون في صيامهم.
(2) فلا يجزئ بدون النية إجماعًا، وكذا سائر العبادات، والأولى «وشرعًا» للمناسبة.
(3) هي مفسداته الآتية في الباب بعده، من أكل، وشرب، وجماع، وغيرها مما ورد به الشرع، ويتبع ذلك الإمساك عن الرفث، والفسوق.
(4) وهو: من طلوع الفجر الثاني، إلى غروب الشمس، قال تعالى { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } يعني بياض النهار، من سواد الليل، فالخيط الأبيض هو الصباح، ولا يكون السحور إلا قبله إجماعًا، { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } وهذا مجمع عليه، قال ابن نصر الله: فظاهره أنه لا يجب إمساك جزء من الليل في أوله، والمذهب وجوبه، وكذا في آخره، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(5) وهو المسلم، البالغ، العاقل، القادر، المقيم، غير الحائض والنفساء، فلا يتحتم فعله مع قيام العذر، بل يجب القضاء مع زوال العذر، كما سيأتي، والصوم خمسة أنواع، المفروض بالشرع، وهو صوم شهر رمضان أداء، وقضاء، والصوم الواجب في الكفارات، والصوم الواجب بالنذر، وصوم التطوع.
(6) إجماعًا، حكاه غير واحد من أهل العلم.(5/316)
قال ابن حجر في شرح الأربعين: في شعبان. انتهى(1) فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات إجماعًا(2) (يجب صوم رمضان برؤية هلاله)(3) لقوله تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (4).
__________
(1) أي انتهى كلام ابن حجر، وصوبه في الإمداد، وفيه: أركانه ثلاثة: صائم، ونية، وإمساك عن المفطرات. اهـ. يعني حقيقة وحكما، وحكمه الأخروي نيل الثواب، والدنيوي سقوط الواجب إن كان لازمًا.
(2) حكاه غير واحد من أهل العلم بالأخبار والسير، لفرضه في السنة الثانية في شعبان، وأكثر صيامه تسعًا وعشرين، والشهر ينقص أحيانًا، ويكمل، وثوابهما واحد، في الفضل المرتب على رمضان، لا المترتب على كل يوم، فيفوق الكامل.
(3) بإجماع المسلمين، ويستحب ترائي الهلال، ليلة الثلاثين من شعبان، احتياطًا لصومهم، وحذارًا من الاختلاف، وعن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان، ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه، عد ثلاثين، ثم صام. رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح. ويستحب قول ما ورد إذا رآه، ومنه «الله أكبر» ثلاثًا «اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربي وربك الله، هلال رشد وخير» الحمد لله الذي جاء بشهر رمضان، وذهب بشهر شعبان.
(4) وهذا إيجاب من الله حتم، على من شهد شهر رمضان كله، فليصم الشهر كله، وقبله قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } أي فرض عليكم وأوجب { كَمَا } فرض { عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } إلى قوله { شَهْرُ رَمَضَانَ } أي كتب عليكم صيام شهر رمضان، ولا نزاع في ذلك.(5/317)
ولقوله عليه السلام «صوموا لرؤْيته، وأَفطروا لرؤْيته»(1) والمستحب قول: شهر رمضان؛ كما قال الله تعالى(2) ولا يكره قول: رمضان(3) (فإن لم ير) الهلال (مع صحوٍ، ليلة الثلاثين) من شعبان (أَصبحوا مفطرين)(4) وكره الصوم، لأَنه يوم الشك المنهي عنه(5)
__________
(1) أي صوموا لرؤية هلال شهر رمضان، فيجب صومه برؤيته، بإجماع المسلمين «وأفطروا لرؤيته» أي هلال شوال إجماعًا، هو حديث متواتر، قاله الطحاوي وغيره، ولانعقاد الإجماع على وجوبه بالرؤية، وللعلم بدخوله ثلاث طرق، الرؤية، والشهادة عليها أو الإخبار، وإكمال شعبان ثلاثين.
(2) أي في كتابه العزيز { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ } .
(3) لوروده في السنة الصحيحة، ولم يثبت فيه نهي، وما روي «لا تقولوا رمضان، فإنه اسم من أسماء الله تعالى» موضوع، قاله الشيخ وغيره، ولا يسمى به إجماعًا، وسمي شهر الصوم رمضان، قيل: لحر جوف الصائم فيه ورمضه، والرمضاء: شدة الحر. وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام شدة الحر ورمضه. وقيل: لأنه يحرق الذنوب. وروي مرفوعًا، وقيل غير ذلك، وثبت «رمضان سيد الشهور».
(4) بلا نزاع، وهو ما يلي التاسع والعشرين من شعبان، لأنه لا يعلم كونه من رمضان، وسمي شعبان من تشعب القبائل، وتفرق اللغات، ويقال لأول ليلة وثانية وثالثة هلال، ثم هو قمر، وقيل: الأولى والثانية. وقيل: إلى أن يستدير بخطة دقيقة، وقيل: إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل، والصحو ذهاب الغيم.
(5) وهو مذهب مالك، والشافعي، وجمهور أهل العلم، وقال عمار:
من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وقال: العمل عليه عند أكثر أهل العلم. ورواه البخاري تعليقًا، وروي – من غير وجه النهي عن صومه – مرفوعًا عن حذيفة، وابن عباس، وغيرهما، قال أبو عمر: نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الشك، اطراحًا لأعمال الشك. وهذا أصل عظيم من الفقه أن لا يدع الإنسان ما هو عليه، من الحال المتيقنة، إلا بيقين في انتقالها.
وقال الشيخ: هو يوم شك أو يقين من شعبان، ينهى عن صومه بلا توقف، لأن الأصل والظاهر عدم الهلال، فصومه تقدم لرمضان بيوم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره، فإن المشكوك في وجوبه لا يجب فعله، ولا يستحب، بل يستحب ترك فعله احتياطًا، فلم تحرم أصول الشريعة الاحتياط، ولم توجبه بمجرد الشك. اهـ. وكذا إن كان غير يوم شك، فقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم فقال «لا تقدموا رمضان بيوم ولا بيومين، إلا أن يكون صوم يصومه رجل، فليصم ذلك الصوم» رواه الجماعة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم وله عن ابن عباس – وصححه، من غير وجه - «لا تصوموا قبل رمضان» ولأبي داود وغيره، عن حذيفة مرفوعًا «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة» وللترمذي وصححه «إذا بقي نصف من شعبان فلا تصوموا» وذلك لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه، ويستثنى النذر، والورد، كمن عادته صوم الخميس، فوافق آخر الشهر، وصوم يوم وفطر يوم، للخبر، ومن عليه قضاء، وكره الشافعي وأحمد صومه قضاء، فتطوع أولى.(5/318)
.
(وإن حال دونه) أَي دون هلال رمضان(1).
بأن كان في مطلعه ليلة الثلاثين من شعبان (غيم(2) أَو قتر) بالتحريك أَي غبرة، وكذا دخان(3) (فظاهر المذهب يجب صومه)(4)
__________
(1) أيُّ حائل، ومرادهم المانع الذي يمتنع مع وجوده رؤية الهلال، صغيرًا كان أو كبيرًا.
(2) وهو السحاب، وجمعه غيوم وغيام، وكذلك الضباب، وقيل: أن لا يرى شمسًا من شدة الدجن.
(3) أي حال بين الأبصار وبين رؤية الهلال دخان، وهو معروف، ويقال له: العثان، والغبرة في الهواء، وقال أبو زيد: القترة ما ارتفع من الغبار، فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض، وذكر بعضهم أن البعد مانع كالغيم، وكمن بينه وبينه شيء يحول، كالجبل ونحوه، وكالمسجون.
(4) أي الظاهر البائن، الذي ليس يخفى أنه المشهور في المذهب، أنه يجب صومه، وعنه: لا يجب صومه قبل رؤية هلاله، أو إكمال شعبان ثلاثين، نص عليه وجزم به صاحب الإقناع وغيره وفاقًا، وقال الشيخ: هي المذهب الصريح، المنصوص عنه، وذهب إليها المحققون في مذهب أحمد وغيرهم، بل يكره أو يحرم، ورواية حنبل تحريمه، وفاقًا للأئمة الثلاثة واختاره القاضي، وأبو الخطاب، وابن عقيل، وابن رزين، وابن مندة، والشيخ، وجميع أصحابه، وهو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة المتواترة.
واختاره إمام هذه الدعوة، ومن أخذ عنه، ونهوا عن صيامه، لوجوه، منها أن تلك الليلة من شعبان، بحسب الأصل، ولا تكون من رمضان إلا بيقين، ومنها النهي الصحيح الصريح عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، ومن صامه فقد تقدم رمضان، ومنها الأحاديث الصحيحة الصريحة بالنهي عن صيامه، كقوله «فإن غم عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين» من غيره وجه، والأمر بالشيء نهي عن ضده، ومنها حديث عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
ونحوه عن حذيفة، وابن عباس، وغيرهما، ومنها رواية المروذي: إن يوم الثلاثين من شعبان إذا غم الهلال، يوم الشك؛ وهو قول جمهور أهل العلم والأئمة الأربعة وغيرهم، وجزم به شيخ الإسلام وغيره، والأصحاب كرهوا صومه كما ترى، واستدلوا بفعل صحابي، خالفه غيره من الصحابة، وقوله إنما هو حجة مع عدم المخالف، فكيف إذا خالف نصوص السنة.(5/319)
.
أَي صوم يوم تلك الليلة، حكمًا ظنيًا، احتياطيًا، بنية رمضان(1) قال في الإنصاف: وهو المذهب عند الأصحاب، ونصروه، وصنفوا فيه التصانيف(2).
__________
(1) للخروج من عهدة الوجوب، بنية أنه من رمضان، وقال ابن عقيل وغيره: لا يجوز تقديم يوم لا يتحقق من رمضان، للنهي عنه، وقيل: للتحريم. نقله حنبل، وهو مذهب مالك، والشافعي. وقال الشيخ: قولهم «احتياطًا» بناء على ما تأولوه من الحديث، وبناء على أن الغالب على شعبان هو النقص، فيكون الأظهر طلوع الهلال، كما هو الغالب، فيجب بغالب الظن، وقالت طائفة: لا يجوز. كابن عقيل، والحلواني، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، استدلالاً بما جاء من الأحاديث، وبناء على أن الوجوب لا يثبت، بل نهي عن صوم يوم الشك، لما يخالف، من الزيادة في الفرض.
(2) من ذلك «إيجاب الصوم ليلة الغمام» للقاضي أبي يعلى و«رد اللوم والضيم، في صوم يوم الغيم» لابن الجوزي و«درء اللوم» ليوسف بن عبد الهادي وغيرهم، وقابلهم آخرون، فصنفوا أيضًا في كراهته وتحريمه، منهم محمد بن عبد الهادي، ولا تترك الأحاديث الصحيحة لقول مقلد بلا حجة ولا برهان، ولا يحتج بقول على قول، بل يتعين الأخذ بالحجج الشرعية، وقال شيخ الإسلام: يجوز صومه، ويجوز فطره، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو مذهب أحمد المنصوص الصريح
عنه، وهو مذهب كثير من الصحابة، والتابعين أو أكثرهم، وأصول الشريعة كلها متقررة على أن الاحتياط ليس بواجب، ولا محرم، وتحريمه، وإيجابه فيه بعد عن أصول الشريعة، والأحاديث المأثورة في الباب إذا تؤملت، إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم بعد إكمال العدة، ولو قيل بجواز الأمرين، واستحباب الفطر، لكان أولى.(5/320)
وردوا حجج المخالف، وقالوا: نصوص أَحمد تدل عليه انتهى(1) وهذا قول عمر وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس، ومعاوية، وعائشة، وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم(2)
__________
(1) قال في الفروع: كذا قالوا، ولم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب ولا أمر به، فلا تتوجه إضافته إليه، ولهذا قال شيخنا: لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ولا في كلام أحد من الصحابة. واحتج الأصحاب بحديث ابن عمر وفعله، وليس بظاهر في الوجوب، وإنما هو احتياط قد عورض بنهي، واحتجوا بأقيسة تدل على الاحتياط فيما ثبت وجوبه، أو كان الأصل، كثلاثين من رمضان، وفي مسألتنا لم يثبت الوجوب، والأصل بقاء الشهر. وقال: ولكن الثابت عن أحمد، أنه كان يستحب صيامه، اتباعًا لعبد الله بن عمر، وغيره من الصحابة، ولم يكن عبد الله بن عمر يوجبه على الناس، بل كان يفعله احتياطًا، وكان الصحابة فيهم من يصوم احتياطًا، ومنهم من لا يصوم، مثل كثير من الصحابة، ومنهم من كان ينهى عنه، كعمار وغيره، فأحمد كان يصومه احتياطًا، وأما إيجابه فلا أصل له.
(2) قال الشيخ: وقد روي عنهم وعن غيرهم النهي عن صوم يوم الشك،
والأمر بإكمال العدة، وذكره عن عمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي سعيد، وأنس، وأبي هريرة، وحذيفة، وعمار، وعائشة، رضي الله عنهم، فيقابل ما روي عنهم بما ذكر الشارح، وتبقى النصوص التي لا دافع لها، وما عليه جماهير العلماء، وعمرو بن العاص، هو ابن وائل، بن هاشم، بن سعيد، بن سهم، بن عمرو، بن هصيص، بن كعب بن لؤي، القرشي، السهمي، أحد دهاة العرب، وأمير مصر، أسلم قبل الفتح، وتوفي سنة 43هـ، وله 99، ومعاوية هو ابن أبي سفيان، بن صخر، بن حرب، بن أمية، بن عبد شمس، بن عبد مناف، القرشي الأموي، أمير المؤمنين، كاتب الوحي، ولد قبل البعثة بخمس، وتأمر عشرين سنة، وعشرينًا خليفة، حلمه، وفقهه، وفصاحته مشهورة، مات سنة ستين، وأسماء بنت أبي بكر، كانت تحت الزبير، وهي ذات النطاقين، توفيت بعد قتل ابنها عب دالله بيسير، ولها مائة سنة.(5/321)
.
لقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الشهر تسعة وعشرون يومًا، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليك فاقدروا له»(1) قال نافع: كان عبد الله بن عمر إذا مضى من الشهر تسعة وعشرون يومًا، يبعث من ينظر له الهلال، فإن رؤي فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر؛ أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحاب
أو قتر أصبح صائمًا(2). ومعنى «اقدروا له» أي ضيقوا، بأن يجعل شبعان تسعًا وعشرين، وقد فسره ابن عمر بفعله، وهو راويه، وأعلم بمعناه، فيجب الرجوع إلى تفسيره(3)
__________
(1) بكسر الدال وضمها، يقال: قدرت الشيء، أقدره، وأقدره، بكسر الدال وضمها؛ وقدرته، وأقدرته؛ كلها بمعنى، «وغم» أي حال بينكم وبينه سحاب ونحوه، وفي لفظ غبي وغمي، وهو بمعنى «غم» من: غممت الشيء؛ إذا غطيته.
(2) رواه أحمد، وأبو داود، وعبد الرازق، وغيرهم، قال الشيخ: ثبت أن ابن عمر روى أن الشهر يكون مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين، والفارق بينهما هو الرؤية فقط.
(3) بل يجب الرجوع إلى روايته، وثبت عنه مرفوعًا، من غير وجه «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه» فنهى صلى الله عليه وسلم عن الصوم قبل رؤيته، وعن الفطر قبل رؤيته، ورؤيته إحساس الأبصار به، فمتى لم يره المسلمون: كيف يجوز ذلك؟ وذهب جماهير أهل العلم، من السلف والخلف، إلى أن معنى «اقدروا له» إتمام العدد ثلاثين، أو: احسبوا تمام ثلاثين، وثبت من غير وجه، من حديث أبي هريرة وغيره «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فعدوا ثلاثين» وصححه الترمذي وغيره، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام، قبل دخول رمضان، لمعنى رمضان، وإن كان يصوم صومًا، فوافق صيامه، فلا بأس به عندهم, وله عن ابن عباس مرفوعًا «لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال دونه غيابة، فأكملوا ثلاثين يومًا» وصححه، وذكر أنه روي من غير وجه.
وقال الحافظ الزركشي: السنة الصحيحة ترد تأويلهم. اهـ. فتفسير الشارع وبيانه، أولى من رجوع إلى ظن تفسير، بفعل ثبت عنه تفسيره بخلافه، مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز خلاف ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فأكملوا شعبان ثلاثين» «فاقدروا له» معناه، احسبوا له قدره، وذلك ثلاثون، من: قدر الشيء. ليس من الضيق في شيء، وصرح الراوي بمعناه، عن أفصح العرب صلى الله عليه وسلم، تصريحًا لا يقبل التأويل، وأيضًا فليس قول أحدهم، حجة على الآخر بالاتفاق، بل يجب الرد إلى الشرع، وقوله «فإن غم عليكم فأكملوا العدة» فاصل في المسألة، وابن عمر رضي الله عنه له أفعال انفرد بها، لم يتابع عليها، كغسل داخل عينيه في الوضوء، وتتبع المواضع التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ليصلي فيها، وغير ذلك، وكذلك لغيره من الأفاضل، وكل يؤخذ من قوله، وكذا فعله، ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/322)
.
ويجزئ صوم ذلك اليوم، إن ظهر منه(1) وتصلى التراويح تلك الليلة(2).
__________
(1) أي من رمضان، بأن ثبتت رؤيته بموضع آخر، لأن صومه وقع بنية رمضان، لمستند شرعي، أشبه الصوم، وقال الشيخ: إن صام بنية مطلقة، أو معلقة، بأن ينوي: إن كان غدًا من رمضان، كان عن رمضان، وإلا فلا، فإن ذلك يجزئه، في مذهب أبي حنيفة، وأحمد، والقول الثاني: لا يجزئه إلا بنية أنه من رمضان، وأصلها أن تعيين النية لشهر رمضان، هل هو واجب؟ فيه ثلاثة أقوال «احدها» لا يجزئه إلا أن ينوي رمضان، فإن صام بنية مطلقة، أو معلقة، أو بنية النفل، أو النذر لم يجزئه، كالمشهور من مذهب الشافعي وأحمد، وتحقيق المسألة أن النية تتبع العلم، فإن علم أن غدًا من رمضان، فلا بد من التعيين في هذه الصورة، فإن نوى نفلاً، أو صومًا مطلقًا لم يجزئه، لأن الله تعالى أمره أن يقصد أداء الواجب عليه، فإذا لم يفعل الواجب، لم تبرأ ذمته، وأما إذا كان لا يعلم أن غدًا من رمضان، فهنا لا يجب عليه التعيين، ومن أوجب التعيين مع عدم العلم، فقد أوجب الجمع بين الضدين.
(2) احتياطًا، لأنه عليه الصلاة والسلام وعد من صامه وقامه بالغفران، ولا
يتحقق قيامه كله إلا بذلك، وتثبت سائر أحكامه، كوجوب كفارة، ونحو ذلك، ما لم يتحقق أنه من شعبان، واختار أبو حفص والتميميون وغيرهم: لا تصلي التراويح، ولا تثبت بقية الأحكام، اقتصارًا على النص، قال في الفروع: وهو الأشهر، عملاً بالأصل.(5/323)
ويجب إمساكه على من لم يبيت نيته(1) لا عتق أو طلاق معلق برمضان(2) (وإن رؤي) الهلال (نهارًا) ولو قبل الزوال (فهو لليلة المقبلة)(3) كما لو رؤي آخر النهار(4).
__________
(1) أي يجب إمساك يوم الغيم ونحوه، في اليوم الذي يلي التاسع والعشرين من شعبان، قالوا: وكذا يجب على الواطئ فيه الكفارة، ما لم يتحقق أنه من شعبان، والأولى العمل بالأصل، ولا يخرج عنه إلا بيقين، فلا إمساك، كما أنه لا يصام لأنه يوم شك.
(2) ولا تثبت بقية الأحكام الشهرية بالغيم، فلا يحل دين مؤجل به، ولا تنقضي به عدة، ولا عدة إيلاء به ونحوه، عملاً بالأصل.
(3) إجماعًا، ولعل إتيان الشارح هنا بـ«لو» إشارة إلى الخلاف عن أحمد، أنه إذا رؤي قبل الزوال، فهو لليلة الماضية، ولا أثر لرؤية الهلال نهارًا، وإنما يعتد بالرؤية بعد الغروب، أول الشهر، أو آخره، فلا يجب به صوم، ولا يباح به فطر، وروى الدارقطني عن أبي وائل قال: جاءنا كتاب عمر: إن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا، فلا تفطروا حتى تمسوا، أو يشهد رجلان مسلمان، أنهما رأياه بالأمس عشية.
(4) قال الزركشي: أما بعد الزوال فللمقبلة، بلا نزاع نعلمه، لقربه منها، ولقصة عمر. اهـ. وقد صرحت أئمة المذاهب الأربعة، بأن الصحيح أنه لا عبرة برؤية الهلال نهارًا، وإنما المعتبر رؤية الهلال ليلاً.(5/324)
وروى البخاري في تأْريخه مرفوعًا «من أَشراط الساعة، أَن يروا الهلال، يقولون: هو ابن ليلتين»(1) (وإذا رآه أهل بلد) أي متى ثبتت رؤْيته ببلد (لزم الناس كلهم الصوم)(2)
__________
(1) مرادهم بإيراده أنها تكبر الأهلة، وإن صح، فمن أجل ظنون المتأخرين، وتقدم قول عمر: إن الأهلة بعضها أكبر من بعض. ولا شك أن الله أجرى العادة بسير الشمس والقمر، وإن ثبت ما رواه البخاري، فقولهم راجع إلى كبره المعهود المتعارف، لا إلى تغير المنازل، فقد قال تعالى { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ*لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } وكبر الهلال، لتقدم سير الشمس عنه، فيظهر نورها عليه أكثر، قال الشيخ: وقول من يقول: إن رؤي الهلال صبيحة ثمان وعشرين، فالشهر تام، وإن لم ير فهو ناقص؛ هذا بناء على أن الاستسرار لا يكون إلا ليلتين، وليس بصحيح، بل قد يستسر ليلة تارة، وثلاث ليال أخرى.
(2) لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، أو كان قريبًا منه، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا رؤي بالليل، رؤية فاشية، فإنه يجب الصوم على أهل الدنيا. وظاهره: ولو اختلفت المطالع، وهو الصحيح من المذهب، والصواب أنه إنما يلزم من قرب مطلعهم، ولأصحاب أبي حنيفة قول، فيما يختلف فيه المطالع، حكاه الوزير، وقال الشافعي: إذا كانت البَلَدانِ متقاربتين. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن الرؤية لا تراعى مع البعد، كالأندلس من خراسان، وخولف، وصحح النووي وغيره اعتبار اختلاف المطالع، فإن اختلاف المنازل لا نزاع فيه، بحيث أنه يطلع في إحدى البلدتين دون الأخرى، بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم، وشمس لآخرين، وغروب لبعض، ونصف ليل لغيرهم، وقدر بمسيرة شهر فأكثر.
وذكر شيخ الإسلام أن المطالع تختلف، باتفاق أهل المعرفة بهذا، وقال: إن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا. اهـ. وقطع به غير واحد، وصححوه، وتأخر سير القمر عن الشمس، معلوم بالحس، فإنه يطلع خلفها، ويغرب بعدها، في أخر نصف كرة الأرض، فضلاً عن كلها، فرؤية أهل المغرب، لا تكون لأهل المشرق، بخلاف عكسه.(5/325)
.
لقوله صلى الله عليه وسلم «صوموا لرؤْيته وافطروا لرؤيته» وهو خطاب للأُمة كافة(1) فإن رآه جماعة ببلد، ثم سافروا لبلد بعيد، فلم ير الهلال به في آخر الشهر أفطروا(2)
__________
(1) وكذا قوله «لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه» خطاب عام، ولأنه إذا رآه أهل بلد، فقد رآه المسلمون، ولا يشترط رؤية كل إنسان إجماعًا، ولأن الشهر في الحقيقة ما بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في جميع الأحكام، وهذا مع اتفاق المطالع كما تقدم، وإذا أخبر عدلان عن أهل بلد أنهم أفطروا، وفيهم قاض، اعتمد هذا الخبر، وكذا جرت العادة، على الاعتماد على كتاب القاضي، وتقرر فيه قبول شهادة الفرع عن الأصل.
(2) لتعلق الحكم بهم، وأما أهل تلك البلد فباعتبار المطالع كما يأتي، وكذلك إذا رآه جماعة ببلد، ثم سارت بهم ريح، في سفينة أو نحو ذلك، فوصلوا آخر الليل إلى بلد بعيدة لم ير الهلال به، لم يلزمهم الصوم أول الشهر، ولم يحل لهم الفطر آخره، ولمسلم عن كريب، قال: قدمت الشام، واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام، فرأيناه ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس. فأخبرته، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم، حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقال: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم.
والمناظر تختلف، باختلاف المطالع والعروض، فكان اعتبارها أولى، ونبه غير واحد على أنه يلزم من الرؤية في البلد الشرقي، الرؤية في البلد الغربي، من غير عكس، وعليه يحمل حديث كريب، وجزم الشيخ وغيره، بأن الشمس تطلع على أهل المشرق، قبل أهل المغرب بنصف يوم، وهو نصف منزلة للقمر، وانفصال الهلال من شعاع الشمس، بخروجه من تحتها، يجعل الله فيه النور، ثم هو يزداد كلما بعد، حتى يقابلها، فيختلف باختلاف الأقطار، وكل قوم مخاطبون بما عندهم، كما في أوقات الصلاة، وأجمعوا على أنه لا اعتبار بالحساب، لقوله «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» ولم يقل: للحساب.
وقال الشيخ: المعتمد على الحساب في الهلال، كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل، وعلم الحساب، فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم، إذا عدل، أن يعرف كم بين الهلال والشمس، درجة، وقت الغروب مثلاً، لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدودة، فإنها تختلف باختلاف حدة النظر، وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال، وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو، وكدره، وقد يراه بعض الناس لثمان درجات، وآخرون لا يرونه لثنتي عشرة درجة، فيجب طرحه، والمعول بما عول عليه الشرع.(5/326)
.
(ويصام) وجوبًا (برؤْية عدل) مكلف(1) ويكفي خبره بذلك(2).
لقول ابن عمر: ترائى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود(3)، (ولو) كان (أُنثى) أو عبدًا أو بدون لفظ الشهادة(4) ولا يختص بحاكم(5) فيلزم الصوم من سمع عدلاً يخبر برؤيته(6).
__________
(1) لا صغير ولا مستور، فيعتبر كونه عدلاً باطنًا وظاهرًا، والعدالة ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة.
(2) أي بدون لفظ الشهادة، لأنه من باب الرواية، فيصام بقوله: رأيت الهلال. ولو لم يقل: أشهد أو شهدت. وإن رجع المخبر فهل يقال: إن كان بعد ما شرعوا في الصيام لم يقبل، وإلا قبل كالشهادة. أو يقبل مطلقًا، كما إذا أقر الراوي أنه كاذب؟.
(3) ورواه غيره، وصححه ابن حبان، والحاكم، وابن حزم، وغيرهم، ولأبي داود وغيره عن ابن عباس: جاء أعرابي فقال: إني رأيت الهلال. يعني رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «تشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: نعم. قال «وتشهد أني رسول الله؟» قال: نعم. قال «قم يا بلال فناد في الناس فليصوموا» وأقره المنذري، وقال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قالوا: تقبل شهادة رجل واحد في الصيام وبه يقول الشافعي وأحمد، وأهل الكوفة، وقال النووي: وهو الأصح، ولأنه خبر ديني، لا تهمة فيه، بخلاف آخر الشهر، ولأنه الأحوط.
(4) أي: ولو كان المخبر به أنثى، أو عبدًا، كالرواية، أو كان إخبار الأنثى والعبد بدون لفظ الشهادة، كسائر الأخبار، ولا يجوز لمن لم يره الشهادة برؤيته، أو بما يفيدها، وإن أخبره بها عدد متواتر.
(5) أي ولا يختص ثبوته بحكم حاكم.
(6) لأنه من باب الرواية، ويلزم الإمساك، إن كان أهلاً للوجوب، قال بعضهم: ولو رد الحاكم قوله، لجواز أن يكون لعدم علمه بحال المخبر، وقد يجهل الحاكم من يعلم غيره عدالته. وجزم به الموفق وغيره، ويأتي أن الصوم يوم يصوم الناس.(5/327)
وتثبت بقية الأحكام(1) ولا يقبل في شوال وسائر الشهور إلا ذكران، بلفظ الشهادة(2) ولو صاموا ثمانية وعشرين يومًا، ثم رأوه، قضوا يومًا فقط(3) (وإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يومًا، فلم ير الهلال) لم يفطروا(4) لقوله صلى الله عليه وسلم «وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا»(5).
__________
(1) إذا ثبت رؤيته بواحد، من حلول ديون ونحوها تبعًا، وكذا توابع الصوم، من تراويح، واعتكاف ونحوهما.
(2) لقول ابن عمر وابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين. وقال الترمذي وغيره: لم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل إلا بشهادة رجلين، أي عدلين يشهدان، لأنه مما يطلع عليه الرجال غالبًا، وإنما اجتزي بواحد في الصوم احتياطًا للعبادة اهـ. إلا أبا ثور جوزه بعدل. وقال الوزير: أجمعوا أنه لا يقبل في شوال إلا عدلين ولأنه ليس بمال، ولا يقصد به المال، ولا احتياط فيه، أشبه الحدود، و«شوال» بوزن صوام، مصروف، سمي بذلك لأن الإبل فيه حال التسمية شوالاً.
(3) احتج بقول علي، ولأنه يبعد الغلط بيومين، وثبت من غير وجه، عنه صلى الله عليه وسلم: «الشهر تسعة وعشرون»، أي الشهر اللازم الثابت، الذي لا بد منه، تسعة وعشرون. وقال «ثلاثون» وزيادة اليوم عن التسعة والعشرين، قد تدخل فيه، وقد تخرج منه، وهذا معلوم بالشرع والحس.
(4) كما أنه لا يعتبر عند الفطر، احتياطًا للعبادة.
(5) رواه النسائي، ولحديث: شهد أعرابيان، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يفطروا. صححه ابن المنذر وغيره، ولأن الفطر لا يستند إلى شهادة واحد،
كما لو شهد بهلال شوال، بالإجماع، بخلاف غروب الشمس ونحوه، لما عليه من القرائن التي تورث غلبة الظن، فإذا انضم إليها إخبار الثقة قوي، وربما أفاد العلم.(5/328)
(أو صاموا لأجل غيم) ثلاثين يومًا، ولم يروا الهلال (لم يفطروا)(1) لأن الصوم إنما كان احتياطًا، والأصل بقاء رمضان(2) وعلم منه أنهم لو صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يومًا ولم يروه أفطروا، صحوا كان أو غيمًا، لما تقدم(3).
__________
(1) وجهًا واحدًا، قال الشارح وغيره، لاستناده إلى غير بينة، والأصل كونه من شعبان.
(2) فموافقة الأصل أولى، فلو غم لشعبان ولرمضان، وجب تقدير رجب وشعبان ناقصين، فلا يفطروا قبل اثنين وثلاثين بلا رؤية، وكذا الزيادة، لو غم رمضان وشوال، وأكملنا شعبان ورمضان، وكانا ناقصين، وكذا لو غم رجب، ولا يقع النقص متواليًا في أكثر من أربعة أشهر، ذكره النووي عن أهل العلم، وقال الشيخ: قد يتوالى شهران وثلاثة وأكثر، ثلاثين ثلاثين، وقد يتوالى شهران وثلاثة وأكثر تسعة وعشرين يومًا. وقال: قول من يقول: إن رؤي الهلال صبيحة ثمان وعشرين، فالشهر تام، وإن لم ير فهو ناقص. هذا بناء على أن الإستسرار لا يكون إلا ليلتين، وليس بصحيح، بل قد يستسر ليلة تارة، وثلاث ليال أخرى، وتقدم.
(3) من قوله صلى الله عليه وسلم «وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» وحكاه في المستوعب وجهًا واحدًا، ولأن شهادة العدلين يثبت بها الفطر ابتداء، فتبعًا لثبوت الصوم أولى، ولأن شهادتهما بالرؤية السابقة إثبات إخبار به، عن يقين ومشاهدة، فكيف يقابلها الإخبار بنفي وعدم، ولا يقين معه، وذلك أن الرؤية يحتمل حصولها بمكان آخر.(5/329)
(ومن رأى وحده هلال رمضان، ورد قوله) لزم الصوم، وجميع أحكام الشهر، من طلاق وغيرة، معلق به(1) لعلمه أنه من رمضان(2)
__________
(1) أي الطلاق ونحوه، وكعتق، وظهار معلق بهلال رمضان، يعني إذا لم ير الحاكم الصيام بشهادة واحد، ونحو ذلك.
(2) وفاقًا، للعموم، وكعلم فاسق بنجاسة، فلزمه حكمه، وإنما جعل من شعبان في حق غيره ظاهرًا، لعدم علمهم، ويلزمه إمساكه لو أفطر فيه، والكفارة إن جامع فيه، وإذا لم يجب صومه، وجب عليه أداء الشهادة، وإن لم يسألها، هذا المذهب، ونقل حنبل: لا يلزمه الصوم. وروي عن الحسن وابن سيرين، لأنه محكوم أنه من شعبان، أشبه التاسع والعشرين، واختاره الشيخ وغيره، وقال: لا يلزمه الصوم، ولا الأحكام المعلقة بالهلال، من طلاق وغيره.
وقال: يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، وهذا أظهر الأقوال، لقوله صلى الله عليه وسلم «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون» وقال: فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة، وعظم الناس، وأنه لو رأى هلال النحر وحده، لم يقف دون سائر الحاج، وأصل هذه المسألة أن الله علق أحكامًا شرعية، بمسمى الهلال والشهر، كالصوم والفطر والنحر، فقال { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } وقال { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } إلى قوله { شَهْرُ رَمَضَانَ } أنه أوجب شهر رمضان، وهذا متفق عليه بين المسلمين. وذكر تنازع الناس في الصوم، ثم قال: لكن النحر ما علمت أن أحدًا قال: من رآه يقف وحده، دون سائر الحاج. وذكر تنازعهم في الصوم وتناقضهم. ثم قال: وتناقض هذه الأقوال، يدل على أن الصحيح صنعه مثل في ذي الحجة، وحينئذ فشرط كونه هلالاً وشهرًا:
شهرته بين الناس، واستهلال الناس به، حتى لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد، لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فلذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، فكما لا يقفون، ولا ينحرون، ولا يصلون العيد إلا من المسلمين، فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، وهذا معنى قوله صومكم يوم تصومون ونحركم وأضحاكم الحديث. ولهذا قال أحمد: يصوم مع الإمام، وجماعة المسلمين، في الصحو والغيم. وقال: يد الله على الجماعة.
قال الشيخ: وعلى هذا تفترق أحكام الشهر، هل هو شهر في حق أهل البلد كلهم، أو ليس شهرًا في حقهم كلهم، يبين ذلك قوله تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فإنما أمر بالصوم من شهد الشهر، والشهود لا يكون إلا لشهر اشتهر بين الناس، حتى يتصور شهوده والغيبة عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا» و «صوموا من الوضح، إلى الوضح» ونحو ذلك: خطاب للجماعة، لكن من كان في مكان ليس فيه غيره، إذا رآه صامه. فإنه ليس هناك غيره، وعلى هذا فلو أفطر، ثم تبين أنه رؤي في مكان آخر، وثبت نصف النهار، لم يجب عليه القضاء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، فإنه إنما صار شهرًا في حقهم، من حين ظهر واشتهر، ومن حينئذ وجب الإمساك، كأهل عاشوراء، الذين أمروا بالصوم في أثناء اليوم، ولم يؤمروا بالقضاء على الصحيح. اهـ. ولا يلزم طلاقه وعتقه، المعلق بهلال رمضان، وغير ذلك من خصائص الرمضانية، واختاره وفاقًا لأبي حنيفة، وذكر ابن عبد البر: أنه قول أكثر العلماء.(5/330)
.
(أَو رأَي) وحده (هلال شوال صام) ولم يفطر(1).
لقوله صلى الله عليه وسلم «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس» رواه الترمذي وصححه(2)
__________
(1) نقله الجماعة، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وقاله عمر وعائشة وغيرهما، قال الموفق: ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما، فكان إجماعًا. وقال الشيخ: هو أصح القولين، ولاحتمال خطئه وتهمته، فوجب الاحتياط، وعند مالك يفطر سرًا، وحكى بعضهم الإجماع أنه لا يجوز له إظهار الفطر، وقال الشيخ: باتفاق العلماء إلا أن يكون له عذر يبيح الفطر، كمرض وسفر.
(2) قال الشيخ: أي هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم والفطر والأضحى، فإذا لم تعلموه لم يترتب عليه حكم، والأصل أن الله علق الحكم بالهلال والشهر، والهلال اسم لما يستهل به، أي يعلن به، ويجهر به، فإذا طلع في السماء،ولم يعرفه الناس، ويستهلوا، لم يكن هلالاً، وكذا الشهر، مأخوذ من الشهرة، فإن لم يشتهر بين الناس، لم يكن الشهر قد دخل، ولأبي داود نحو حديث أبي هريرة، عن عائشة وأبي موسى، أن رجلين قدما المدينة، وقد رأيا الهلال، وقد أصبح الناس صيامًا، فأتيا عمر فذكرا ذلك له، فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال للآخر، قال: أنا صائم. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام. فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا، لأوجعت رأسك. ثم نودي في الناس: أن أخرجوا. رواه سعيد. وهو وإن اعتقده من شوال يقينًا، فلا يثبت به اليقين في نفس الأمر، لجواز أنه خيل إليه، فينبغي أن يتهم في رؤيته، احتياطًا للصوم، وموافقة للجماعة.
وتقدم قول الشيخ في صومه؛ ففي فطره أولى، ولأنه لا يسمى هلالاً إلا بالظهور والاشتهار، كما دل عليه الكتاب والسنة، وقال: والسبب أن الفطر يوم يفطر الناس، وهو يوم العيد، والذي صامه، المنفرد برؤية الهلال، ليس هو يوم العيد، الذي نهي عن صومه، والمنفرد بمفازة يبني على يقين رؤيته، لأنه لا يتيقن مخالفة الجماعة، وإن رآه عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، جاز لمن سمع شهادتهما الفطر، إذا عرف عدالتهما، ولكل واحد منهما أن يفطر بقولهما، إذا عرف عدالة الآخر، هذا كلامهم، وهو واضح فيمن كان بمكان ليس فيه غيره، وإلا فمع الجماعة، وإن شهدا عند الحاكم، فرد شهادتهما، لجهله بحالهما، فلمن علم عدالتهما الفطر، كما لو ثبتت عدالتهما بعد ذلك، وإن ردت فلا. وقال في الفروع: إن رآه عدلان، ولم يشهدا عند الحاكم، أو شهدا فردهما، لجهله بحالهما، لم يجز لأحدهما، ولا لمن عرف عدالتهما الفطر بقولهما، في قياس المذهب، قاله المجد؛ ولما فيه من الاختلاف، وتشتيت الكلمة، وجعل مرتبة الحكم لكل إنسان؛ قال الشيخ: وما ثبت من الحكم، لا يختلف الحال فيه، مجتهدًا، مصيبًا كان أو مخطئًا أو مفرطًا، فإنه إذا لم يظهر الهلال ويشتهر، لم يصر هلالاً.(5/331)
.
وإن اشتبهت الأَشهر، على نحو مأْسور، تحرى وصام(1) وأَجزأَه إن لم يعلم أنه تقدمه(2) ويقضي ما وافق عيدًا أو أيام تشريق(3).
__________
(1) أي اجتهد في معرفة شهر رمضان، وصام ما غلب على ظنه أنه رمضان بأمارة، لأنه غاية جهده، ونحو المأسور من طمر، أو أسلم بدار كفر، ومن بمفازة، ونحوهم.
(2) وفاقًا، كمن تحرى في غيم وصلى، وشك هل صلى قبل الوقت، أو بعده؛ كما لو وافقه وما بعده، وإن علم أنه تقدمه، كصومه شعبان مثلاً، لم يجزئه وفاقًا، لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها، وإن ظن أن الشهر لم يدخل، فصام لم يجزئه، ولو أصاب، قال الوزير: أجمعوا على أن الأسير إذا اشتبهت عليه الشهور، واجتهد وصام، أجزأه إن وافق صومه أو ما بعده، سوى أيام العيد والتشريق، لا ما قبله فلا.
(3) يعني لو صام ذا الحجة باجتهاده، قضى تلك، لعدم صحة صومها.(5/332)
(ويلزم الصوم) في شهر رمضان (لكل مسلم) لا كافر(1) ولو أَسلم في أَثنائه قضى الباقي فقط(2) (مكلف) لا صغير ومجنون(3).
__________
(1) إجماعًا، لقوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } والضمير عائد إلى المسلم، دون الكافر إجماعًا، فلا يجب عليه الصوم ولو مرتدًا، لأنه عبادة بدنية محضة تفتقر إلى نية، فكان من شرطه الإسلام، ولا يصح صوم كافر، بأي كفر كان إجماعًا، والردة تمنع صحته إجماعًا، لأن الصوم عبادة محضة، فنافاها الكفر، كالصلاة، بلا خلاف، ويقضي ما فاته زمن الردة، لأنه التزم الوجوب بالإسلام، دون الكفر الأصلي إجماعًا، وترغيبًا في الإسلام.
(2) أي فلا يلزمه قضاء ما مضى من الأيام، وهو إجماع، لحديث وفد ثقيف: قدموا في رمضان، وضرب عليهم قبة في المسجد، فلما أسلموا، صاموا ما بقي من الشهر، فمن أسلم فيه صام بلا خلاف، ويلحق به من كلف أو أفاق، عند الجمهور، أو زال عذره المانع له من الصوم إجماعًا، ولأن كل يوم عبادة مفردة، وما قبله لا يلحق به، ومراد الشارح: لو أسلم الكافر في أثناء اليوم، أمسك بقية يومه، وقضى ذلك اليوم الذي أسلم فيه، جزم به الموفق وغيره، وفي عبارته غموض، وقال شيخ الإسلام وغيره: يمسك بقية يومه، ولا يقضي، وهو مذهب أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن الشافعي. وهذا أصل عند الشيخ وغيره، وهو: أن العبادات لا تلزم قبل بلوغها المكلف.
(3) باتفاق الأئمة، حكاه الوزير وغيره، لحديث «رفع القلم عن ثلاثة، مجنون حتى يفيق، وصغير حتى يبلغ» ولأنهما غير مخاطبين، ولا يصح من المجنون، لعدم إمكان النية منه، ويصح من مميز كصلاته، ولا يجب حتى يبلغ عند أكثر أهل العلم.(5/333)
(قادر) لا مريض يعجز عنه، للآية(1) وعلى ولي صغير مطيق، أمره به، وضربه عليه، ليعتاده(2) (وإذا قامت البينة في أَثناء النهار) برؤْية الهلال تلك الليلة (وجب الإمساك، والقضاء) لذلك اليوم الذي أَفطره (على كل من صار في أثنائه أهلاً لوجوبه) أي وجوب الصوم(3).
__________
(1) وهي قوله تعلى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فإطاقته معتبرة، حسًا وشرعًا، وكذا يجب على مقيم إجماعًا، فدخل في عبارته المقيم والمسافر، والصحيح، والمريض، والطاهر، والحائض، والنفساء، والمغمى عليه، فإن هؤلاء كلهم يجب عليهم الصوم في ذممهم، بحيث أنهم يخاطبون بالصوم، ليعتقدوا الوجوب في الذمة، والعزم على الفعل، إما أداء، وإما قضاء، ثم منهم من يخاطب بالفعل في نفس الشهر أداء، وهو الصحيح المقيم، إلا الحائض والنفساء، ومنهم من يخاطب بالقضاء فقط، وهو الحائض، والنفساء، والمريض الذي لا يقدر على الصوم أداء، وهو يقدر عليه قضاء، ومنهم من يخير بين الأمرين، وهو المسافر، والمريض الذي يمكنه الصوم بمشقة شديدة، من غير خوف التلف، وهذا مما لا نزاع فيه.
(2) وينشأ عليه، كالصلاة، وذلك إصلاح، لا عقوبة، إلا أن الصوم أشق، فاعتبرت له الطاقة، لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصوم، ولا يتقيد بسن، وقال المجد: لا يؤاخذ به، ويضرب عليه فيما دون العشر كالصلاة، وهو قول أكثر أهل العلم. قال: واعتباره بالعشر أولى للخبر.
(3) وفاقًا، لثبوته من رمضان، ولم يأتوا فيه بصوم صحيح، فلزمهم قضاؤه، وإمساك بقية اليوم من خواص رمضان، وقال الموفق وغيره: كل من أفطر لغير عذر، ومن ظن أن الفجر لم يطلع، وقد طلع، أو أن الشمس قد غابت ولم تغب، والناسي للنية، ونحوهم، يلزمهم الإمساك بغير خلاف بين أهل العلم. وتقدم قول الشيخ في القضاء، وكذا إن لم يعلم بالرؤية إلا بعد الغروب، ومن شرط صحة الصوم الإمساك عن الأكل والشرب والجماع إجماعًا.(5/334)
وإن لم يكن حال الفطر من أَهل وجوبه(1) (وكذا حائض ونفساءُ طهرتا) في أَثناء النهار، فيمسكان ويقضيان(2) (و) كذا (مسافر قدم مفطرًا) يمسك، ويقضي(3).
__________
(1) بأن أسلم كافر، أو أفاق مجنون، أو بلغ صغير، لزمهم إمساك ذلك اليوم وقضاؤه، لحرمة الوقت، ولقيام البينة فيه بالرؤية، ولإدراكه جزءًا منه كالصلاة، وقال الشيخ: يمسك ولا يقضي. والقضاء في حقهم من المفردات.
(2) أما الإمساك فعلى الأصح، وفاقًا لأبي حنيفة، واختاره الشيخ وغيره، وأما القضاء فحكي إجماعًا، وحكاه الوزير وغيره اتفاقًا، وقال الموفق وغيره: لا خلاف فيه. لقوله تعالى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والتقدير: فأفطر. وفي الصحيحين عن عائشة: كنا نؤمر بقضاء الصوم. ويحرم فعله إجماعًا، قال الشيخ: ثبت بالسنة واتفاق المسلمين، أنه ينافي الصوم، فلا يحل مع الحيض أو النفاس ومن فعله منهن حاله، لم يصح منه، قال: وهو فق القياس، فإن الشرع جاء بالعدل في كل شيء، فصيامها وقت خروج الدم، يوجب نقصان بدنها، وضعفها، وخروج صومها عن الاعتدال، فأمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض، فيكون صومها في ذلك صومًا معتدلاً، لا يخرج فيه الدم، الذي يقوي البدن، الذي هو مادته، بخلاف المستحاضة، ومن ذرعه القيء، مما ليس له وقت محدد، يمكن الاحتراز منه، فلم يجعل منافيًا للصوم.
(3) لإدراكه جزءًا من الوقت مقيمًا، فلزمه الإمساك، والقضاء، كالصلاة، وكمقيم تعمد الفطر، وفاقًا.(5/335)
وكذا لو برئَ مريض مفطرًا(1) أَو بلغ صغير في أثنائه مفطرًا، أَمسك وقضى(2) فإن كانوا صائمين أَجزأَهم(3) وإن علم مسافر أنه يقدم غدًا، لزمه الصوم(4) لا صغير علم أنه يبلغ غدًا، لعدم تكليفه(5).
__________
(1) يلزمه الإمساك، على الأصح، وهو مذهب أبي حنيفة، ويلزمه القضاء إجماعًا، وكذا كل من أفطر في صوم يجب عليه، فإنه يلزمه الإمساك، والقضاء، كالفطر لغير عذر.
(2) أي وإن بلغ صغير – ذكرًا كان أو أنثى في أثناء نهار رمضان، بسن أو احتلام – صائمًا أتم صومه بلا نزاع، وقضى عند أبي الخطاب، وهو مذهب أبي حنيفة، لأنه مَعْنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام، فإذا طرأ أوجب الإمساك، وقال في الإقناع وغيره: لا قضاء عليه إن نوى من الليل وأجزأه، كالبالغ، ولا يمتنع أن يكون أوله نفلاً، وباقيه فرضًا، كنذر إتمام نفل.
(3) أي المسافر، والمريض، إذا كانوا صائمين، ونووه من الليل، أجزأهم وفاقًا، كمقيم صائم مرض، ثم لم يفطر حتى عوفي وفاقًا، وأما الصغير فمشكل على ما تقدم، وعلى ما في الإقناع وغيره فظاهر، لعدم امتناع ذلك.
(4) أي غلب على ظنه ذلك، وإلا فالعلم بالشيء قبل حصوله متعذر، لأنه قد يخطئ بعائقة قد تحصل له، تمنعه من القدوم في ذلك اليوم، وقال المجد، إن علم بمقتضى الظاهر.
(5) يعني قبل دخول الغد، وقيل: يستحب وفاقًا؛ لوجود سبب الرخصة، قال المجد: وهو أقيس.(5/336)
(ومن أفطر لكبر، أو مرض لا يرجى برؤُه(1) أطعم لكل يوم مسكينًا)(2) ما يجزئ في كفارة: مدبُرًّ، أو نصف صاع من غيره(3) لقول ابن عباس – في قوله تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } -: ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم. رواه البخاري(4) والمريض الذي لا يرجى برؤُه، في حكم الكبير(5).
__________
(1) كشيخ هرم، وعجوز يجهدهما الصوم، ويشق عليهما مشقة شديدة، وكسل، وله ذلك إجماعًا، لعدم وجوبه عليه، لأنه عاجز عنه، فلا يكلف به، لقوله تعالى { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا } .
(2) وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وجمهور العلماء، وصححه ابن كثير وغيره، وقال: وعليه أكثر العلماء، كما قاله ابن عباس وغيره. وفي الإنصاف: بلا نزاع. ولا قضاء عليه، لأنه ليس له حال يصير إليها، يتمكن فيها من القضاء، وقال ابن القيم: ولا يصار إلى الفدية إلا عند اليأس من القضاء.
(3) تمر، أو زبيب، أو شعير، أو أقط.
(4) ومعناه عن ابن أبي ليلى عن معاذ، رواه أحمد وغيره، ولأنه صوم واجب، فجاز أن ينوب عنه المال، كالصوم في كفارة الظهار، ولا يجزئ أن يصوم عنه غيره، لأنه عبادة بدنية محضة، وجبت بأصل الشرع، فلم تدخله النيابة، كالصلاة إجماعًا، وقال الشيخ: وإن تبرع إنسان بالصوم عمن لا يطيقه، لكبر ونحوه، أو عن ميت – وهما معسران – توجه جوازه، لأنه أقرب إلى المماثلة من المال، ويأتي.
(5) أي فيطعم لكل يوم مسكينًا، ما يطعم كبير عاجز عن صوم، ويقضي عدد ما أفطره من الأيام، لقوله تعالى { َعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .(5/337)
لكن إن كان الكبير، أو المريض الذي لا يرجى برؤُه مسافرًا، فلا فدية، لفطره بعذر معتاد، ولا قضاء، لعجزه عنه(1) (وسن) الفطر (لمريض يضره) الصوم(2) (ولمسافر يقصر)(3).
__________
(1) فيعايا بها، فيقال: مسلم مكلف، أفطر في رمضان، لم يلزمه قضاء، ولا كفارة؛ وجوابه: كبير، عاجز عن الصوم، كان مسافرًا. وكذا نذر، وقضاء، وكفارة. لأنه جاء عن جمع من الصحابة، ولا مخالف لهم، وإن أطعم، ثم قدر على القضاء، فكمعضوب.
(2) وهذا بالإجماع في الجملة، وقال الوزير: أجمعوا على أن المريض، إذا كان الصوم يزيد في مرضه، أنه يفطر ويقضي، وإذا احتمل وصام أجزأ. ولم يذكروا خلافًا في الإجزاء، وفي الإنصاف: إن خاف المريض زيادة مرضه، أو طوله، أو صحيح مرضًا في يومه، أو خاف مرضًا لأجل العطش، استحب له الفطر، وكره صومه وإتمامه إجماعًا، وإن خاف التلف وصام أجزأ، وقيل: بلا خلاف. وكره، وقيل: يحرم. واختار الشيخ الفطر للتقوي على الجهاد.
(3) قال أحمد: الفطر للمسافر أفضل، وإن لم يجهده الصوم. وقاله ابن حبيب المالكي، وثبت في السنن أن من الصحابة من يفطر إذا فارق عامر قريبته، ويذكر أن ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبارة المقنع: والمريض إذا خاف الضرر، والمسافر استحب لهما الفطر. وأما كونه جائزًا، فبالنصوص، وإجماع المسلمين، وقال الشيخ: سواء كان سفر حج، أو جهاد، أو تجارة، ونحو ذلك من الأسفار، التي لا يكرهها الله ورسوله، وتنازعوا في سفر المعصية، فأما السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فإنه يجوز فيه الفطر باتفاق الأمة. وقال: يجوز في كل ما يسمى سفرًا، ولو كان قصيرًا.(5/338)
ولو بلا مشقة(1) لقوله تعالى { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (2)
__________
(1) فإن شق، بأن جهده، كره له فعله، وكان الفطر أفضل، وصومه صحيح حكاه الوزير وغيره اتفاقًا، وذهب مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، والأكثرون إلى أن الصوم أفضل لمن أطاقه، بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر، فالفطر أفضل من الصوم، لصوم النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه، ولأنه يحصل به براءة الذمة في الحال، وأما جوازه، فقال الشيخ: باتفاق الأئمة، سواء كان قادرًا على الصيام، أو عاجزًا، وسواء شق عليه الصوم، أو لم يشق، ومن قال: إن الفطر لا يجوز إلا لمن عجز عن الصيام. فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك من أنكر على المفطر، فإنه يستتاب من ذلك، ومن قال: إن المفطر عليه إثم، فإنه يستتاب من ذلك، فإن هذه الأقوال خلاف كتاب الله، وخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلاف إجماع الأئمة.
وقال: الشارع أطلق السفر، ولم يقيد، فما عد سفرًا جاز فيه القصر، والفطر، إذا ترك البيوت وراء ظهره، فإنه ما لم يتجاوزها، فهو حاضر، غير مسافر، فيدخل في قوله { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وقال: ويفطر من عادته السفر، إذا كان له بلد يأوي إليه، كالتاجر والجلاب، والمكاري، والبريد، ونحوهم، وكذلك الذي له مكان في البر يسكنه، وأما من كان في السفينة، ومعه أهله، وجميع مصالحه، ولا يزال مسافرًا، فلا يقصر ولا يفطر، وأهل البادية، الذي يشتون في مكان، ويصيفون في آخر، يفطرون في حال ظعنهم، لا في حال نزولهم، ويتتبعون المراعي.
(2) أي فليفطر، وليقض عدد ما أفطره { يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وقال صلى الله عليه وسلم «ما خيرت بين أمرين، إلا اخترت أيسرهما» وفي الصحيحين «ليس من البر الصيام في السفر» ويذكر أنه متواتر، وفي المسند
وغيره «إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» وفي الحديث «خياركم الذين في السفر يقصرون ويفطرون» وفي الصحيح أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني رجل أكثر الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال «إن أفطرت فحسن، وإن صمت فلا بأس» وفي صحيح مسلم «هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم، فلا جناح عليه» ومن كمال حكمة الشارع، أن خفف أداء فرض الصوم في السفر، فإنه قطعة من العذاب، وهو في نفسه مشقة وجهد، ولو كان المسافر من أرفه الناس، فإنه فيه مشقة، وجهد بحسبه، واتفق أئمة المسلمين على أنه يجوز للمسافر أن يصوم ويفطر، واستحباب الفطر مقيد برمضان، لأن له { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فأما صيام عاشوراء، فنص أحمد على استحبابه، وهو قول طائفة من السلف، وقياسه يوم عرفة لغير حاج بها، وكل ما يفوت محله لعدم المانع.(5/339)
.
ويكره لهما الصوم(1) ويجوز وطء لمن به مرض ينتفع به فيه(2).
__________
(1) أي يكره الصوم وإتمامه، لمريض يضره الصوم، أو يخاف زيادة مرضه، أو طوله، أو لصحيح مرض في يومه، أو خاف مرضًا بعطش، أو غيره، ويكره الصوم وإتمامه لمسافر يقصر، وعلة الكراهة إضرارهما بأنفسهما، وترك تخفيف الله تعالى، ورخصته، المطلوب إتيانها، ولأن بعض العلماء لا يصحح صومه، كما نقل عن أبي هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، لكن لو فعل أجزأ إجماعًا، لإتيانه بالأصل الذي هو العزيمة، وصار كمن أبيح له ترك القيام في الصلاة، فتكلف وقام، وقال المجد: وعندي لا يكره لمسافر قوي عليه، واختاره الآجري، وفاقًا للجمهور، ولا يفطر مريض لا يتضرر بالصوم وفاقًا، فيشترط أن يخاف زيادة المرض، أو بطء البرء، قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع. قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟.
(2) أي ينتفع بالجماع في مرضه.(5/340)
أو به شبق، ولم تندفع شهوته بدون وطء(1) ويخاف تشقق أنثييه(2) ولا كفارة ويقضي(3) ما لم يتعذر لشبق، فيطعم كالكبير(4) وإن سافر ليفطر حرما(5) (وإن نوى حاضر صوم يوم، ثم سافر في أَثنائه فله الفطر)(6).
__________
(1) كالإستمناء بيد زوجته، أو بوطء فيما دون الفرج، فله الفطر، لأنه يخاف على نفسه، فهو كالمريض، «والشبق» بفتح الشين المعجمة، والباء الموحدة، شدة الشهوة.
(2) فإن اندفعت شهوته بدونه لم يجز، لعدم الحاجة إليه.
(3) أي بدل ما وطيء فيه، ولا كفارة، لإمكان القضاء، ومتى لم يمكنه إلا بإفساد صوم موطوءة، جاز للضرورة، وصائمة أولى من حائض، وتتعين من لم تبلغ.
(4) أي ما لم يتعذر عليه القضاء، لدوام شبقه فيطعم، كما يطعم الكبير العاجز عن الصوم، ولا قضاء، إلا مع عذر معتاد، كمرض أو سفر.
(5) أي السفر والإفطار، حيث لا علة للسفر إلا الفطر، فأما الفطر فلعدم العذر المبيح، وهو السفر المباح، وأما السفر فلأنه وسيلة إلى الفطر المحرم، قال عثمان: ومنه يعلم أنه لو أراد السفر لتجارة مثلاً، فأخر السفر إلى رمضان ليفطر أنه يجوز له ذلك.
(6) حكي اتفاقًا، ولما في السنن وغيرها عن بعض الصحابة أنه السنة، وقال ابن القيم: جاءت الآثار عن الصحابة، في الفطر لمن أنشأ السفر في أثناء يوم وبما شاء، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، من أكل، أو جماع أو غيره، لأن من له الأكل فله الجماع، ولا كفارة، لحصول الفطر بالنية قبل الفعل، وعدم لزوم الإمساك، وكذا مريض يباح له الفطر، وكما يفطر بعد سفره إجماعًا.(5/341)
إذا فارق بيوت قريته ونحوها(1) لظاهر الآية، والأخبار الصحيحة(2) والأفضل عدمه(3) (وإن أفطرت حامل، أو) أفطرت (مرضع، خوفًا على أنفسهما) فقط، أو مع الولد (قضتاه) أي قضتا الصوم (فقط) من غير فدية(4).
__________
(1) مما تقدم في قصر الصلاة، لأنه قبله لا يسمى مسافرًا، وتقدم قول الشيخ قريبًا، فلا يفطر قبل خروجه وفاقًا.
(2) فالآية هي قوله تعالى { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } والأخبار منها ما روى عبيد بن جبير، قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري، من الفسطاط، في شهر رمضان، ثم قرب غداءه، فقال: اقترب. قلت: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكل. رواه أبو داود وغيره، وعن أنس أنه رحلت له راحلته، فدعا بطعام فأكل، وقال: سنة، ثم ركب، رواه الترمذي وغيره، وقال ابن العربي: صحيح. فصرح هذان الصحابيان أنه سنة، ولأن السفر مبيح للفطر، كالمرض الطارئ، واستظهر الشيخ وغيره جوازه، وقال: كما ثبت في السنن أن من الصحابة من كان يفطر إذا خرج من يومه، ويذكر أن ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نوى الصوم في السفر، ثم إنه دعا بماء، فأفطر، والناس ينظرون إليه. وأما اليوم الثاني، فيفطر بلا ريب، وإن كان مقدار سفره يومين، في مذهب جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم.
(3) أي والأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صومه، إتمام صوم ذلك اليوم، خروجًا من خلاف من لم يبح له الفطر، وهو قول أكثر العلماء، وحكاه الوزير وغيره اتفاق الأئمة إلا أحمد في رواية عنه.
(4) وفاقًا، وحكاه الوزير وغيره، مع اختلاف عن مالك، وفي المبدع:
بغير خلاف نعلمه، كالمريض إذا خاف على نفسه، ولقدرتهما عليه، بخلاف الكبير.(5/342)
لأنهما بمنزلة المريض، الخائف على نفسه(1) (و) إن أفطرتا خوفًا (على ولديهما) فقط (قضتا) عدد الأيام(2) (وأطعمتا) أي وجب على من يمون الولد أن يطعم عنهما(3) (لكل يوم مسكينًا) ما يجزئُ في كفارة(4).
__________
(1) فإنه يقضي من غير إطعام، وكره صومهما مع خوف الضرر وفاقًا، وذكر ابن عقيل: إن خافت حامل ومرضع، على حمل وولد، حال الرضاع، لم يحل الصوم، وعليها الفدية، وإن لم تخف لم يحل الفطر. اهـ. وإن صامتا أجزأ، كالمريض والمسافر.
(2) أي عدد أيام فطرهما فورًا، لقدرتهما على القضاء، ولا يؤخران القضاء كالمريض.
(3) على الفور، لأنه مقتضى الأمر، كسائر الكفارات، ولا يؤخر إلى القضاء، ويجزئ فيه ما يجزئ في كفارة، ولا يسقط هذا الإطعام بالعجز، وكذا عن الكبير، والمأيوس منه.
(4) وظاهره الوجوب على من يمون الولد من ماله، لأن الإفطار لأجله، وعبارة الماتن توهم أن الإطعام عليها نفسها، فلأجل ذلك صرفها الشارح، وفي الفروع: والإطعام على من يمونه. وفي الفنون: يحتمل أنه على الأم، وهو أشبه لأنه تبع لها، ويحتمل أنه بينها وبين من تلزمه نفقته من قريب، أو من ماله. لأن الإرفاق لهما.(5/343)
لقوله تعالى { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } (1) قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير، والمرأَة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام، أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكينًا(2) والمرضع والحبلى، إذا خافتا على أولادهما، أَفطرتا وأَطعمتا. رواه أبو داود(3) وروي عن ابن عمر(4) وتجزئ هذه الكفارة إلى مسكين واحد جملة(5).
__________
(1) قال الشيخ: تفطر وتقضي، عن كل يوم يومًا، وتطعم عن كل يوم مسكينًا، رطلاً من خبز بأدمه.
(2) أي إذا أفطر، والحامل والمرضع يطيقان الصوم، فدخلا في الآية الكريمة، لا يقال: إنها منسوخة بما بعدها من قوله { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هكذا في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع، قال ابن عباس: أثبتت للحبلى والمرضع. وظاهره نسخ الحكم في حق غير الحامل والمرضع، وبقاء الحكم فيهما، وقوله الآتي: إنها محكمة غير منسوخة، وإنها إنما أريد بها هؤلاء؛ من باب إطلاق العام، وإرادة الخاص، وهو أولى من ادعاء النسخ، فإنه خلاف الأصل، فالواجب عدمه، أو تقليله مهما أمكن.
(3) ورواه غيره من غير وجه، بألفاظ متقاربة.
(4) أي نحو ما روى أبو داود وغيره عن ابن عباس، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة، وقال ابن القيم: أفتى ابن عباس وغيره من الصحابة في الحامل والمرضع، إذا خافتا على ولديهما، أن تفطرا، وتطعما كل يوم مسكينًا، إقامة للإطعام مقام الصيام.
(5) واحدة، لظاهر الآية، وقال غير واحد: بلا نزاع.(5/344)
ومتى قبل رضيع ثدي غيرها وقدر أن يستأْجر له، لم تفطر(1) وظئر كأُم(2) ويجب الفطر على من احتاجه لإنقاذ معصوم من هلكة كغرق(3)
__________
(1) أي أمه، لعدم الحاجة إليه، واستؤجر له، قال في الإنصاف: ولعله مراد من أطلق.
(2) أي وحكم ظئر مرضعة لغير ولدها، كأم في إباحة فطر، إن خافت على نفسها، أو الرضيع، وعدمه، وفدية، وعدمها، فإن لم تفطر، وتغير لبنها، أو نقص، فلمستأجر الفسخ، وتجبر على فطر، إن تأذى الرضيع، جزم به الخطابي وغيره، لإمكان تداركه بالقضاء، وإن قصدت الإضرار أثمت، وللحاكم إلزامها بطلب مستأجر.
(3) جزم به غير واحد من أهل العلم، وصوبه في تصحيح الفروع وغيره، ومثله من ذهب في طلب تائه، من مال، أو إنسان، أو مغصوب ليدركه، والحشاش والرعاة، ونحوهم، إذا اشتد بهم العطش، فلهم الفطر، فإن الضرورة تبيح مثل هذا، ولا يترك التكسب من أجل خوف المشقة، وقال الآجري: من صنعته شاقة. وتضرر بتركها، وخاف تلفًا، أفطر وقضى، وإن لم يضره تركها أثم، وإلا فلا. وقال: هذا قول للفقهاء رحمهم الله تعالى، وذكر الحنفية وغيرهم أنه لو ضعف عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة، فله أن يفطر ويقضي، إن أدرك عدة من أيام أخر، وإلا أطعم عن كل يوم نصف صاع، وأنه لا شك في الحصاد ونحوه، إذا لم يقدر عليه مع الصوم، ويهلك الزرع بالتأخر مثلاً، جاز له الفطر، وعليه القضاء. اهـ. وكذا البناء ونحوه إذا خاف على المال إن صام، وتعذر العمل ليلاً، جزم به غير واحد.
قال ابن القيم: وأسباب الفطر أربعة، السفر، والمرض، والحيض، والخوف
على هلاك من يخشى عليه بصوم، كالمرضع، والحامل، ومثله مسألة الغريق، وأجاز شيخ الإسلام الفطر للتقوى على الجهاد، وفعله، وأفتى به لما نزل العدو دمشق في رمضان، وأنكر عليه بعض المتفقهة، وقال: ليس ذلك بسفر. فقال الشيخ: هذا فطر للتقوى على جهاد العدو، وهو أولى من الفطر للسفر، والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام، لم يمكنهم النكاية فيهم، وربما أضعفهم الصوم عن القتال، فاستباح العدو بيضة الإسلام، وهل يشك فقيه أن الفطر ههنا، أولى من فطر المسافر؟ وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح بالإفطار، للتقوى على عدوهم. قال ابن القيم: إذا جاز فطر الحامل والمرضع، لخوفهما، وفطر من يخلص الغريق، ففطر المقاتلين أولى بالجواز، وهذا من باب قياس الأولى، ومن باب دلالة النص وإيمائه. اهـ. فإن أفطر لضرر العطش فزال بالشرب، لزمه الإمساك حتى يضربه ثانيًا، ولا يجوز أن يعمل عملاً يصل به إلى الضعف.(5/345)
.
وليس لمن أُبيح له فطر رمضان، صوم غيره فيه(1) (ومن نوى الصوم ثم جن، أَو أُغمي عليه، جميع النهار، ولم يفق جزءًا منه، لم يصح صومه)(2).
__________
(1) أي لا يجوز لمن أبيح له الفطر في رمضان – مريضًا كان، أو مسافرًا، أو حاملاً، أو مرضعًا يضرهما، ونحوهم – صوم غير رمضان في رمضان، وفاقًا لمالك والشافعي، لأن الفطر أبيح تخفيفًا ورحمة، فإذا لم يؤده لزمه الإتيان بالأصل، كالمقيم الصحيح، ولأنه لا يسع غير ما فرض فيه، ولو من رمضان آخر، أو عن يوم من رمضان، في يوم ثان منه، وينكر على من أكل في رمضان ظاهرًا، وإن كان هناك عذر.
(2) وهذا مذهب مالك والشافعي.(5/346)
لأَن الصوم الشرعي الإمساك مع النية(1) فلا يضاف للمجنون، ولا للمغمى عليه(2) فإن أفاق جزءًا من النهار، صح الصوم(3) سواءً كان من أول النهار، أو آخره(4) (لا إن نام جميع النهار) فلا يمنح صحة صومه(5) لأن النوم عادة، ولا يزول به الإحساس بالكلية(6).
__________
(1) ومتى لم يوجد إمساك ولا نية، لم يصر صائمًا.
(2) يعني الصوم لعدم حصول الإمساك من المجنون والمغمى عليه، فلم يجزئهما، والنية وحدها لا تجزئ، لما في الصحيحين وغيرهما: يقول الله تعالى «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي» فأضاف ترك الطعام والشراب إليه، ومن جن، أو أغمى عليه جميع النهار، لم يضف إليه إمساك البتة، فلا يصح صومه، إذ المركب ينتفي بانتفاء جزئه.
(3) أي فإن أفاق المجنون، أو المغمي عليه، جزءًا من النهار الذي بيت النية له، صح الصوم منه، حيث بيت النية، للخبر، ولوجود الإمساك في الجملة، ولصحة إضافة الترك إليه.
(4) أي سواء كانت إفاقة المجنون أو المغمى عليه من أول النهار، أو آخره، قال الوزير: اتفقوا على أن من وجد منه إفاقة في بعض النهار، ثم أغمي عليه باقيه، فإن صومه صحيح، وقليل الإغماء لا يفسد الصوم وفاقًا، والجنون كالإغماء وفاقًا، ومن جن في صوم قضاء، أو كفارة ونحوهما، قضاه بالوجوب السابق، كالصلاة.
(5) وهو إجماع قبل الإصطخري من الشافعية، وإن استيقظ لحظة منه صح إجماعًا.
(6) لأنه متى نبه انتبه، فهو كذاهلٍ وساهٍ.(5/347)
(ويلزم المغمى عليه القضاءُ) أي قضاءُ الصوم الواجب زمن الإغماء(1) لأَن مدته لا تطول غالبًا، فلم يزل به التكليف(2) (فقط) بخلاف المجنون، فلا قضاء عليه، لزوال تكليفه(3) (ويجب تعيين النية)(4) بأَن يعتقد أنه يصوم من رمضان، أو قضائه، أو نذر، أو كفارة(5).
__________
(1) على الأصح وفاقًا، وقال الشارح: لا نعلم فيه خلافًا، لأنه نوع مرض، وهو مغط على العقل.
(2) وقال الزركشي وغيره: ولا نزاع في ذلك، لأن الولاية لا تثبت عليه، فلم يزل به التكليف كالنوم، ولهذا جاز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
(3) سواء فات بالجنون الشهر أو بعضه، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وليس في الشرع ما يوجب القضاء عليه، من نص، ولا قياس، بخلاف الصرع، وهو الخنق ثم يصحو منه وقتا، فصفاه ملحق بالإغماء، بخلاف الجنون، فإنه يزيل العقل خاصة، فيلحق بالبهائم، وينبغي تقييده بما إذا لم يتصل جنونه بشرب محرم، كما تقدم في الصلاة.
(4) في كل صوم واجب، وفاقًا لمالك والشافعي.
(5) وهذا مذهب مالك، والشافعي، والجماهير، فإن لم يعين لم يجزئه، وكذا إن نوى صوما مطلقًا، أو تطوعًا، لم يجزئه، قال الشيخ: لا بد من نية رمضان، فلا يجزئ نية مطلقة، ولا معينة بغيره، وهو قول الشافعي وأحمد في إحدى روايتيه. وقال: إنه مع العلم يجب عليه تعيين النية، ومع عدم العلم كمن لم يعلم.(5/348)
لقوله عليه السلام «وإنما لكل امرئ ما نوى»(1) (من الليل)(2) لما روى الدارقطني بإسناده عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر، فلا صيام له» وقال: إسناده كلهم ثقات(3) ولا فرق بين أول الليل، ووسطه، وآخره(4).
__________
(1) فالعامل لا يحصل له إلا ما نواه، ولأن التعيين مقصود في نفسه، فلا بد من حصوله، وأما أصل النية في الصوم وإن كان تطوعًا، فبإجماع المسلمين، لقوله تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ولهذا الخبر وغيره، فلا يصح صوم إلا بنية، كالصلاة، والزكاة، والحج، وسائر العبادات إجماعًا.
(2) أي يجب تعيين نية الواجب من الليل، لا من النهار، لأن النية لا تنعطف على الماضي، فإذا فات جزء من النهار لم توجد فيه، لم يصح صوم ذلك اليوم، الذي فات جزء منه.
(3) وللخمسة عن ابن عمر عن حفصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر، فلا صيام له» وفي لفظ «من لم يجمع» أي يعزم الصيام من الليل، فلا صيام له، وروي موقوفًا على ابن عمر، وصححه الترمذي، وهو مذهب جمهور أهل العلم، أن من لم يجمع الصيام من الليل، لم يجزئه إلا في التطوع، ولأن النية عند ابتداء الصيام، كالصلاة، والحج، وحكى الشيخ ثلاثة أقوال، ثالثها أن الفرض لا يجزئ إلا بتبييت النية من الليل، كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر، لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم، والنية لا تنعطف على الماضي، وقال: هذا أوسط الأقوال.
(4) فأي جزء نواه فيه أجزأ، قال الوزير: قال مالك، والشافعي، وأحمد:
يجوز في جميع الليل، وأول وقتها بعد غروب الشمس، وآخره طلوع الفجر الثاني، واتفقوا على أنه ما ثبت في الذمة من الصوم، كقضاء رمضان، وكقضاء النذور والكفارات، لا يجوز صومه إلا بنية من الليل.(5/349)
ولو أتى بعدها ليلاً بمناف للصوم، من نحو أكل ووطء(1) (لصوم كل يوم واجب)(2) لأن كل يوم عبادة مفردة، لا يفسد صومه بفساد صوم غيره(3) (لا نية الفرضية) أي لا يشترط أن ينوي كون الصيام فرضًا، لأن التعيين يجزئ عنه(4) ومن قال: أنا صائم غدًا إن شاء الله. مترددًا، فسدت نيته(5).
__________
(1) لم تبطل نيته وفاقًا، لإطلاق الحديث، ولأن الله أباح الأكل، والشرب، والجماع إلى آخر الليل، فلو بطلت به فات محلها، لا إن أتى بما ينافي النية كالردة، والشك فيها، فإنها تزيل التأهل للعبادة من كل وجه، ولا بد في صحة النية من إتيانه بشرطها الذي هو الإسلام، وأما المجنون فبمجرد إفاقته تصح عبادته.
(2) أي نية مفردة، وفاقًا لمالك، والشافعي.
(3) أي فيجب التعيين لصوم كل يوم، وعنه: تكفي النية أول الشهر، ما لم يقطعها. وكذا قال مالك وغيره: يجزئه بنية واحدة لجميع الشهر، ما لم يفسخها. ولو خطر بقلبه ليلاً: أنه صائم غدًا. فقد نوى.
(4) فلا يتعين نية الفرضية، ولأن الواجب لا يكون إلا فرضًا، فأجزأ التعيين عنه، وكذا لا يجب تعيين الوجوب في واجبه.
(5) لعدم الجزم بها.(5/350)
لا متبركًا، كما لا يفسد إيمانه بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله. غير متردد في الحال(1) ويكفي في النية الأكل والشرب بنية الصوم(2) (ويصح) صوم (النفل بنية من النهار، قبل الزوال وبعده)(3) لقول معاذ، وابن مسعود، وحذيفة(4) وحديث عائشة: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات
__________
(1) لم تفسد نيته، إذ قصده أن فعله للصوم بمشيئة الله، وتوفيقه، وتيسيره، وكذا في سائر العبادات، لا تفسد بذكر المشيئة في نيتها، وقولهم «غير متردد في الحال» جرى على طريقة الأشاعرة، لأن الاستثناء عندهم في الإيمان لأجل الموافاة، والذي عليه السلف أن الاستثناء للتقصير في بعض خصال الإيمان.
(2) أي بدل نية الصوم، قال الشيخ: هو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم، ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد، وعشاء ليالي رمضان. وقال: كل من علم أن غدًا من رمضان، وهو يريد صومه، فقد نوى صومه، وهو فعل عامة المسلمين.
(3) أي بعد الزوال، اختاره أكثر الأصحاب، وقال الوزير: اتفقوا على أن صوم النفل كله يجوز بنية من النهار قبل الزوال، إلا مالكًا، فقال: لا يصح إلا بنية من الليل. والجمهور على خلافه. وقال الشيخ: وأما النفل فيجزئ بنية من الزوال، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «إني صائم» كما أن الصلاة المكتوبة، يجب فيها من الأركان كالقيام، والاستقرار على الأرض، ما لا يجب في التطوع، توسيعًا من الله على عباده طرق التطوع، فإن أنواع التطوعات دائمًا أوسع من أنواع المفروضات، وهذا أوسط الأقوال.
(4) وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وفعله أبو طلحة، وأبو هريرة، وابن عباس، وغيرهم.(5/351)
يوم، فقال «هل عندكم من شيء؟» فقلنا: لا. قال «فإني إذًا صائم» رواه الجماعة إلا البخاري(1) وأمر بصوم يوم عاشوراء في أَثنائه(2) ويحكم بالصوم الشرعي، المثاب عليه، من وقتها(3).
__________
(1) وله ألفاظ، منها أنه يقول «هل من غداء؟» فإن قالوا: لا. قال «فإني صائم» وقاله أبو الدرداء وغيره، ومنها: أنه إن قلنا: نعم. تغدى. وفيه دليلان، أحدهما طلبه الأكل، ويظهر منه أنه كان مفطرًا، والثاني قوله «إذا» التي هي للاستقبال، فخص عموم الحديث السابق، وأثبت جواز تأخير نية الصوم، إذا كان تطوعًا، وشرطه أن لا يوجد مناف، غير نية الإفطار، اقتصارًا على مقتضى الدليل، ونظرًا إلى أن الإمساك هو المقصود الأعظم، فلا يعفى عنه أصلاً، قال الشارح: فإن فعل قبل النية ما يفطره، لم يجز الصيام، بغير خلاف. اهـ.
ولا يصح صوم من أكل، ثم نوى بقية يومه وفاقًا، لعدم حصول حكمة الصوم، ولأن من عادة المفطر الأكل بعض النهار، وإمساك بعضه، وأجمع المسلمون على أنه يدخل فيه بالفجر الثاني، وينقضي ويتم بتمام الغروب.
(2) فدل على جوازه أثناء النهار بشرطه.
(3) أي النية: إذ ليس للمرء إلا ما نوى، بنص الشرع، قال الشيخ: وهو نص أحمد، أن الثواب من حين النية، ولأن ما قبله لم يوجد فيه قصد القربة، فلا يقع عبادة. اهـ. فيصح تطوع حائض طهرت، وكافر أسلم في يوم، ولم يأكلا، بصوم بقية اليوم.(5/352)
(ولو نوى: إن كان غدًا من رمضان فهو فرضي؛ لم يجزئه)(1) لعدم جزمه بالنية(2) وإن قال ذلك ليلة الثلاثين من رمضان، وقال: وإلا فأَنا مفطر. فبان من رمضان، أَجزأَه(3) لأَنه بنى على أصل، لم يثبت زواله(4) (ومن نوى الإفطار أَفطر)(5) أي صار كمن لم ينو، لقطعه النية(6).
__________
(1) أي التعيين، «وغدًا» بالنصب، أي إن كان الصيام غدًا، دل على تقديره قوة الكلام «وفرضي» بياء المتكلم، أي الذي فرض الله علي.
(2) وكذا لو قال: إن كان غدًا من رمضان فهو عنه، وإلا فعن واجب غيره. وكذا إن عينه عن واجب، من قضاء، أو نذر، أو كفارة بنية، لم يجزئه، إن بان من رمضان، أو غيره، لعدم جزمه بالنية لأحدهما، وعنه: إن كان غدًا من رمضان فهو فرضي. أجزأه، بناء على أنه لا يجب تعيين النية لرمضان، وتقدم تحقيق المسألة.
(3) ولا يقدح تردده في النية.
(4) وهو حكم صومه مع الجزم، بخلاف ما لو قاله ليلة الثلاثين من شعبان.
(5) نص عليه، وفاقًا للشافعي ومالك.
(6) أي قطع نية الصوم، بنية الإفطار، فكأنه لم يأت بها ابتداء، أو نوى: إن وجد طعامًا، أكل، وإلا أتم ونحوه، بطل، كصلاته، وأما ما يخالف فيه الصوم الصلاة، ففيما إذا عزم على فعل محظور في الصوم، كالأكل ونحوه، فإنه يبطل صومه، بخلاف ما إذا عزم على مبطل للصلاة، فإنها لا تبطل، ما لم يفعله.(5/353)
وليس كمن أكل، أو شرب، فيصح أن ينويه نفلاً بغير رمضان(1) ومن قطع نية نذر، أو كفارة، ثم نواه نفلاً أو قلب نيتهما إلى نفل صح(2) كما لو انتقل من فرض صلاة إلى نفلها(3).
باب ما يفسد الصوم(4)
ويوجب الكفارة(5)
__________
(1) فلا يصح أن ينوبه نفلاً في رمضان، أما بغير رمضان ونوى الإفطار، ثم عاد فنوى صومه نفلاً، صح نفلاً، جزم به في الفروع والتنقيح، وكره لغير غرض صحيح، أما إن قلب صومه رمضان إلى النفل، فسد صومه، ولزمه الإمساك.
(2) بأن ينوي الانتقال من أحدهما إلى النفل، وهو صائم صح، جزم به في الفروع، لأن التابع يغتفر فيه، ما لا يغتفر في الاستقلال.
(3) فيصح نقلاً كما تقدم، إلا أنه يكره، لغير غرض صحيح.
(4) وهو كل ما ينافيه، من أكل، وشرب، وجماع، ونحوها، والإفساد الإبطال، وضد الإصلاح.
(5) كالوطء في نهار رمضان، والكفارة عقوبة، أو زاجر، وتكفير لجرم الفاعل، واستدراك لفرطه.(5/354)
وما يتعلق بذلك(1) (من أكل، أو شرب(2).
__________
(1) مما يحرم فيه، أو يكره، أو يجب، أو يسن، أو يباح.
(2) صحيحًا مقيمًا، عامدًا، ذاكرًا لصومه، فسد صومه، بالكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } .قال الشيخ وغيره: فعقل منه أن المراد الصيام من الأكل والشرب، فإنه تعالى أباحه إلى غاية، ثم أمر بالإمساك عنهما إلى الليل، وقال { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وكان معقولاً عندهم أن الصيام هو الإمساك عنهما، وفي الحديث «يدع طعامه وشرابه من أجلي» وحكى الشيخ، والوزير والموفق، وغير واحد الإجماع على ذلك، ولا فرق بين القليل والكثير، ولا بين المعذور وغيره، والأكل إيصال جامد إلى الجوف من الفم، ولو بغير مضغ، ولو لم يتناول عادة، والشرب إيصال مائع إلى الجوف من الفم، ولو وجورًا، وأما أكل ما لا يتغذى به، فيحصل به الفطر، قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، إلا ما روي عن الحسن بن صالح أنه يأكل البرد، ويقول: ليس بطعام، ولا شراب. ودلالة الكتاب والسنة على العموم، فلا يلتفت إلى خلافه.(5/355)
أَو استعط) بدهن، أَو غيره، فوصل إلى حلقه، أو دماغه(1) (أَو احتقن، أَو اكتحل بما يصل) أَي بما يعلم وصوله (إلى حلقه)(2) لرطوبته، أَو حدته(3).
__________
(1) أفطر بوصوله إلى حلقه وفاقًا، وكذا إلى دماغًا، إلا عند مالك، وفي الكافي: إلى خياشيمه؛ «واستعط» مطاوع «سعط»، إذا جعل في أنفه سعوطًا، بفتح السين، وهو دواء يجعل في الأنف، والمارد هنا: ما يجعل في الأنف من دواء وغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم «وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا» فلولا أنه يؤثر، لم ينه عنه، وكما لو دخل إلى الحلق، وعنه: لا يفطر، وهو مذهب مالك، واختاره الشيخ، ولعل المراد: بغير مغذ.
(2) يعني من حقنة، أو كحل؛ فسد صومه، ولا يكفي الظن، بل لا بد من العلم بذلك، وفي الإنصاف: يتحقق الوصول إليه، وهذا الصحيح من المذهب. وإلا فلا، لعدم تحقق ما ينافي الصوم، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطر. حكاه الوزير وغيره، وفي الترمذي وغيره – وضعفه – عن أنس مرفوعًا: أنه كان يكتحل وهو صائم. وروى عبد الرزاق، عن الحسن، بإسناد صحيح: لا بأس بالكحل للصائم. وروى سعيد، عن إبراهيم: أيكتحل الصائم؟. قال: نعم. وروى أبو داود عن الأعمش: ما رأيت أحدًا من أصحابنا يكره الكحل للصائم؛ واختار الشيخ أنه لا يفطر، لأنها ليست منفذًا، فلم يفطر به، كما لو دهن رأسه، وإن اكتحل ليلاً فوجده في حلقه نهارًا، لم يفطر، لأنه لم يتسبب إليه في النهار، والحقنة ما يحقن به المريض من الدواء، «وقد احتقن الرجل» أي استعمل ذلك الدواء من الدبر، لأنه يصل إلى الجوف، وغير المعتاد كالمعتاد في الواصل، بل قد يكون أبلغ.
(3) أي رطوبة ما يحتقن به، أو يكتحل به، من دواء أو غيره، أو حدة ذلك، وهي سورته وشدته.(5/356)
من كحل، أَو صبر(1) أو قطور أو ذرور(2) أو إثمد كثير، أو يسير مطيب، فسد صومه(3) لأن العين منفذ، وإن لم يكن معتادًا(4) (أَو أَدخل إلى جوفه شيئًا من أي موضع كان(5).
__________
(1) فيصل إلى حلقه أفطر، والكحل بضم الكاف الإثمد وكل ما يوضع في العين يستشفى به، والصبر بفتح الصاد، وكسر الباء، عصارة شجر مر، كثيرًا ما تداوى به العين.
(2) فيصل إلى حلقه أفطر، والقطور بالفتح، ما يقطر في العين، وكذا «الذرور» بفتح الذال، ما يذر فيها، من أي شيء كان، من الأدوية وغيرها.
(3) نص عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، «وإثمد» بكسر الهمزة، حجر الكحل، معروف، و«مطيب» بالكسر نعت ليسير فقط، وفي الفروع: أو إثمد مطيب؛ وقال ابن أبي موسى: لا يفطر الإثمد غير المطيب إذا كان يسيرًا، نص عليه.
(4) أي من المنفذ، لأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل، فكذا في المنفذ، وفساد الصوم متعلق بهما، بخلاف المسام، كدهن رأسه.
(5) ينفذ إلى معدته أفطر، سواء كان بمائع ويغذي أو غير مغذ، كحصاة، وقطعة حديد، ورصاص، ونحوها، ولو كان خيطًا ابتلعه كله، وسواء كان من مداواة جائفة أو مأمومة، أو قطر في أذنه بما يصل إلى دماغه، لأنه أحد الجوفين، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، لأنه في الجميع أوصل إلى جوفه مأكولاً، وكذا إذا وجد طعم علك – مضغه – بحلقه، أو وصل إلى فمه نخامة مطلقًا، ويحرم بلعها، أو قيء ونحوه، أو تنجس ريقه، فابتلع شيئًا من ذلك، فسد صومه.(5/357)
غير إحْليله) فلو قطر فيه، أو غيب فيه شيئًا، فوصل إلى المثانة، لم يبطل صومه(1)
__________
(1) لعدم المنفذ، وإنما يخرج البول رشحًا، كمداواة جرح عميق، لم يصل إلى جوفه، والإحليل مخرج البول من ذكر الإنسان، «وقطر» بتخفيف الطاء، قال الجوهري: قطر الماء وغيره يقطر، وقطرته أنا، يتعدى ولا يتعدى، «والمثانة» الموضع الذي يجتمع فيه البول، قال شيخ الإسلام، الإمام العادل، فارس المعقول والمنقول، أبو العباس، قدس الله روحه: وأما الكحل، والحقنة، وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة، والجائفة، فمما تنازع الناس فيه، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بشيء دون شيء، والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين، الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة، وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا، ولا ضعيفًا، ولا مسندًا، ولا مرسلاً، علم أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر شيئًا من ذلك، والحديث المروي في الكحل ضعيف،وقد عورض بحديث ضعيف، وقال الترمذي: لا يصح فيه شيء.
والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر. لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوى ما احتجوا به قوله «وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا» قالوا: فدل ذلك على أن كل ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله، ومن حقنة وغيرها،وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها، لم يجز إفساد الصوم بهذه الأقيسة، لوجوه.
«أحدها» أن القياس، وإن كان حجة، فالأحكام الشرعية، بينتها النصوص،
فإذا علمنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرم الشيء، ولم يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام، ولا واجب، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب، ولا في السنة، ما يدل على الإفطار بهذه.
«الثاني» أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم، بيانًا عامًا، ولا بد أن تنقله الأمة، فإذا انتفى هذا علمنا أن هذا ليس من دينه، ولو كان مما يفطر لبينه، كما بين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك، علمنا أنه من جنس الطيب، والبخور، والدهن؛ والبخور قد يتصاعد إلى الدماغ، والدهن يشربه البدن، ويدخل إلى الجوف، ويتقوى به البدن، وكذلك يتقوى بالطيب، فلما لم ينه الصائم عن ذلك، دل على جوازه، وقد كان المسلمون في عهده يجرح أحدهم مأمومة، وجائفة؛ فلو كان يفطر لبينه لهم، فلما لم ينه عنه، علم أنه لم يجعله مفطرًا.
«الثالث» إثبات التفطير بالقياس، يحتاج إلى أن يكون صحيحًا،وليس في الأدلة ما يقتضي: أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطرًا، هو ما كان واصلاً إلى دماغ، أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ، أو واصلاً إلى الجوف، ونحو ذلك، من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله، ويقولون: إن الله ورسوله إنما جعل الطعام والشراب مفطرًا لهذا المعنى المشترك، من الطعام والشراب، ومما يصل إلى الدماغ والجوف، من دواء المأمومة والجائفة، وما يصل إلى الجوف من الكحل، ومن الحقنة، والقتطير في الإحليل، ونحو ذلك، وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل، كان قول القائل: إن الله ورسوله إنما جعل هذا مفطرًا لهذا؛ قولاً بلا علم، وكان قوله: إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا؛ قولاً بأن (هذا حلال، وهذا حرام) بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز.
«الرابع» أن القياس إنما يصح، إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم، إذا سبرنا أوصاف الأصل، فلم يكن فيها ما يصلح للعلة، إلا الوصف المعين، وحيث أثبتنا علة، فلا بد من السبر، فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان، لم يجز أن نقول: الحكم بهذا دون هذا.
ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والنبي صلى الله عليه وسلم نهى المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائمًا، وقياسهم على الاستنشاق، أقوى حججهم، وهو قياس ضعيف، وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه، ينزل الماء إلى حلقه، وإلى جوفه، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه، ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش، ويطبخ الطعام في معدته، كما يحصل بشرب الماء، وليس كذلك الكحل، والحقنة، ومداواة الجائفة، والمأمومة، فإن الكحل لا يغذي البتة، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه، لا من أنفه، ولا من فمه، وكذلك الحقنة، لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئًا من المسهلات، أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة (*)، والدواء الذي يصل إلى المعدة، في مداواة الجائفة، والمأمومة، لا يشبه ما يصل إليها من غذائه، بل ليس فيه تغذية، والله تعالى يقول { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وقال صلى الله عليه وسلم «الصوم جنة»، وقال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع والصيام» فالصائم نهي عن الأكل والشرب، لأن ذلك سبب التقوى، فترك الأكل والشرب، الذي يولد الدم الكثير، الذي يجري فيه الشيطان، إنما يتولد من الغذاء، لا عن حقنة، ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة، فإذا كانت هذه المعاني وغيرها، موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع، فدعواهم أن الشارع علق الحكم
ـــــــــــــ
(*) كلامه رحمه الله على المعروف في عصره، ويوجد الآن حقن أخر، وهو إيصال المواد الغذائية للأمعاء وغيرها، يغذي بها المرضى وغيرهم، فالإعتبار بما كان في عصره، وما سواه يعطي حكمه.
بما ذكروه من الأوصاف، معارض بهذه الأوصاف، والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه، هو العلة دون هذا.
«الخامس» أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل، أو شرب، اتسعت مجاري الشياطين، وإذا ضاقت، انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات، وصفدت الشياطين، فهذه المناسبة، ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب، والحكم ثابت على وفقه، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف، وتأثيره، وهذا المنع منتف في الحقنة، والكحل، ونحو ذلك، فإن قيل: بل الكحل قد ينزل إلى الجوف، ويستحيل دما. قيل: هذا كما يقال في البخار، الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ، فيستحيل دمًا، وكالدهن الذي يشربه الجسم، والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة، فيستحيل دمًا، ويتوزع على البدن، ونجعل هذا وجهًا سادسًا فنقيس الكحل والحقنة، ونحو ذلك، على البخور، والدهن، ونحو ذلك، لجامع ما يشتركان فيه، من أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن، ويستحيل في المعدة دمًا، وهذا الوصف هو الذي أوجب أن لا تكون هذه الأمور مفطرة.(5/358)
.
(أو استقاء) أي استدعى القيء فقاء، فسد أيضًا(1).
لقول عليه السلام «من استقاء عمدًا فليقض» حسنه الترمذي(2) (أو استمنى) فأمنى أو أمذى(3) (أو باشر) دون الفرج، أو قبل، أو لمس (فأمنى، أو أمذى(4)
__________
(1) أي فسد صومه، وفاقًا لمالك والشافعي، سواء كان القيء طعامًا، أو مرارًا، أو غيرهما، ولو قل، وعنه: بملء الفم. اختاره ابن عقيل وغيره، وهو إجماع، وإن عاد بنفسه فلا، وقال الخطابي وغيره: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم، في أن من استقاء عامدًا فعليه القضاء. وقال عامة أهل العلم: ليس عليه إلا القضاء «واستقاء، وتقيأ» تكلف القيء.
(2) فرواه من حديث أبي هريرة وله شواهد، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، ورواه أبو داود، والدارقطني، وغيرهم، وقال: إسناده كلهم ثقات. وعن ابن عمر نحوه موقوفًا، ويؤيده حديث أبي الدرداء: أنه صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، رواه أحمد، والترمذي، وقال: هو أصح شيء في هذا الباب. قال الشيخ: فنهى عن إخراج ما يقويه، ويغذيه، من الطعام، والشراب، الذي به يتغذى، لما يوجب إخراجه من نقصان بدنه، وضعفه، فإنه إذا مكن منه ضره، وكان متعديًا في عبادته، لا عادلاً فيها.
(3) «استمنى» استدعى خروج المني، بيده، أو يد زوجته، أو غير ذلك، فأمنى، أو أمذى، أفطر وفاقًا، ووجب عليه القضاء، فإن لم ينزل، فقد أتى محرمًا، ولم يفسد صومه، وإن أنزل بغير شهوة فلا، كالبول، لأنه يخرج من غير اختيار منه، ولا سبب.
(4) فسد صومه، أما الإمناء فوفاقًا، لمشابهته الإمناء بجماع، لأنه إنزال بمباشرة، وأما الإمذاء فلتحلل الشهوة له، وخروجه بالمباشرة، فيشبه المني، وهذا الصحيح من المذهب، نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب، وعنه: لا يفطر بالمذي. اختاره الآجري، وأبو محمد، والشيخ، واستظهره في الفروع، وصوبه في الإنصاف، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، عملاً بالأصل، وقياسه على المني لا يصح، لظهور الفرق، وأما من هاجت شهوته، فأمنى، أو أمذى، ولم يمس، لم يفطر، جزم به صاحب الإنصاف وغيره ومفهومه أن القبلة، أو المباشرة لا تفطر، إذا خلت عن إنزال، ولا ريب في ذلك، ولا نزاع، لما في
الصحيحين وغيرهما: كان يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه. والمباشرة هنا المس باليد، وهو من التقاء البشرة، وقال «أرأيت لو تمضمضت بالماء؟» وهذا فقه بديع، وهو أن المضمضة لا تنقض، وهي أول الشرب، ومفتاحه، فكذلك القبلة، وهي من دواعي الجماع، وأوائله، التي تكون مفتاحًا له، وفيه إثبات القياس، والجمع بين الشيئين في الحكمة.(5/359)
.
أو كرر النظر فأنزل) منيًا، فسد صومه(1) لا إن أَمذى(2) (أو حجم، أَو احتجم، وظهر دم، عامدًا ذاكرًا) في الكل (لصومه فسد) صومه(3).
__________
(1) لأنه إنزال بفعل يتلذذ به، يمكن التحرز عنه، أشبه الإنزال بالمس، وعليه القضاء، وأجمعوا على أن القضاء يوم، مكان يوم، لا خلاف بينهم في ذلك، وظاهر كلام أحمد: لا يفطر، ولا قضاء عليه. وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، لأنه من غير مباشرة، أشبه الإنزال بالفكر، وإن كان يمكن صرفه، لكن لما في المؤاخذة به من الحرج.
(2) يعني بتكرار النظر، فلا يفطر بذلك على الصحيح، وفاقًا، لأنه إنزال لا عن مباشرة، فلم يلتحق بالمني لضعفه، أو لم يكرر النظر فأنزل، لعدم إمكان التحرز، ولا إثم بفكر غالب وفاقًا، وقال الشيخ: ولا يفطر بمذي بسبب قبلة، أو لمس، أو تكرار نظر، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، ومنصوص أصحابنا.
(3) في كل ما تقدم من «أكل» وما بعده، وتقدم مفصلاً، وإن لم يظهر دم لم يفطر، لأنها لا تسمى إذًا حجامة، اختاره الشيخ، وضعف خلافه، وقال في الفروع: وهو متجه، وأنه ظاهر كلام أحمد والأصحاب. والحجامة: شرط ظاهر الجلد المتصل قصدًا، لإخراج الدم من الجسد، دون العروق. ولا يفطر إلا بشرط أن يكون عامدًا، قاصدًا للفعل، لأن من لم يقصد فهو غافل غير مكلف، ولا يلزم تكليف ما لا يطاق، وأن يكون ذاكرًا، غير ناس لصومه، في الصور السابقة كلها، ويجب القضاء إن كان واجبًا.(5/360)
لقوله عليه السلام «أَفطر الحاجم والمحجوم» رواه أحمد والترمذي(1) قال ابن خزيمة: ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك(2)
__________
(1) من حديث رافع بن خديج، وقال أحمد والبخاري وغيرهما: إنه أصح حديث في الباب. ولأبي داود وأحمد وصححه من حديث ثوبان نحوه، وعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم، لثمان عشرة خلت من رمضان فقال «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه أهل السنن، والحاكم وأحمد وصححاه، وإسحاق وابن المديني والدارمي وغيرهم، وقال: إنه وحديث ثوبان أصح شيء في الباب. ولابن ماجه من حديث أبي هريرة مثله، رواه أحمد. وله من حديث عائشة وأسامة، ومصعب وبلال، وصفية وأبي موسى، وعمرو بن شعيب، اثني عشر صحابيًا، قال الطحاوي وغيره: متواتر عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم.
(2) وقال الشيخ: الأحاديث الواردة فيه كثيرة، قد بينها الأئمة الحفاظ. وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، وكان أهل البصرة يغلقون حوانيت الحجامين، والقول بأنها تفطر، مذهب أكثر فقهاء الحديث، كأحمد وإسحاق، وابن خزيمة وابن المنذر، وأهل الحديث، الفقهاء فيه، العاملون به، أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وفق الأصول والقياس؛ والذين لم يروه احتجوا بما في صحيح البخاري: أنه احتجم صلى الله عليه وسلم
وهو صائم محرم. وأحمد وغيره: طعنوا في هذه الزيادة وهي قوله: وهو صائم. وقالوا: الثابت أنه احتجم وهو محرم. قال أحمد: «وهو صائم» ليس بصحيح. وأنكره يحيى بن سعيد، وقال أحمد: هو خطأ من قبل قبيصة. وقال أيضًا، عن حديث ابن عباس: ليس فيه «صائم» وقال رحمه الله: أصحاب ابن عباس، لا يذكرون «صائم».
قال الشيخ: وهذا الذي ذكره أحمد، هو الذي اتفق عليه الشيخان، ولهذا أعرض مسلم عنه، ولم يثبت إلا حجامة المحرم. قال: وأما الحاجم، فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم، ودخل في حلقه وهو لا يشعر، والحكمة إذا كانت خفية أو مستترة، علق الحكم بالمظنة، كالنائم تخرج منه الريح ولا يدري، يؤمر بالوضوء فكذلك الحاجم، يدخل شيء من الدم مع ريقه، إلى بطنه وهو لا يدري، والدم من أعظم المفطرات، فإنه حرام في نفسه، لما فيه من طغيان الشهوة، والخروج من العدل، والصائم مأمور بحسم مادته، والدم يزيد الدم، فهو من جنس المحظور، فيفطر الحاجم لهذا، وأما الشارط فليس بحاجم، وهذا المعنى منتف فيه، وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة، بل يمتص غيره، أو يأخذ الدم بطريق أخرى لم يفطر، والنبي صلى الله عليه وسلم خرج كلامه على الحاجم المعتاد المعروف.(5/361)
.
ولا يفطر بفصد، ولا شرط، ولا رعاف(1).
__________
(1) هذا المذهب وفاقًا، «والفصد»: شق العرق لاستخراج الدم «والشرط»: بضع الجلد وبزغه، لاستفراغ الدم. وكذا جرح بدل حجامة للتداوي، ولا خروج دم يقطر على وجه القيء. «والرعاف» كغراب: خروج الدم مع الأنف، وتقدم، لأن القياس عندهم لا يقتضيه، وعن أحمد: يفطر بالفصد ونحوه، اختاره صاحب الفائق، والرعايتين، وصححه الزركشي وغيره، وجزم الوزير وغيره: أنه
مذهب أحمد. قال الشيخ: وقد بينا أن الفطر بالحجامة، على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض، والإستقاءة وبالإستمناء، وإذا كان كذلك، فبأي وجه أراد إخراج الدم، بفصاد أو شرط، أو رعاف أفطر، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر، فتلك طرق لإخراج القيء، وهذه طرق لإخراج الدم، والمعنى الموجود في الحجامة، موجود في الفصاد ونحوه، ويدل عليه كلام العلماء قاطبة، وصوبه أبو المظفر الوزير العالم العادل وغيره، ولهذا كان إخراج الدم، بهذا وهذا، سواء في باب الطهارة، فتبين بذلك كمال الشرع، واعتداله وتناسبه.
وقال: إن احتاج إليه لمرض افتصد، وعليه القضاء، وإلا أخره، في أحد قولي العلماء. اهـ. قالوا: ولا يفطر إن جرح نفسه، أو جرحه غيره بإذنه، ولو كان بدل الحجامة. وهو كالشرط، والفصد، لأنه إخراج دم، ومعناه موجود في الحجامة، فيفسد به الصوم، كالحجامة، ويفسد الصوم بالردة مطلقًا، وكل عبادة أشرك فيها، لقوله تعالى { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } ولمنافاتها له كالصلاة، قال الموفق وغيره: بلا خلاف.(5/362)
(لا) إن كان (ناسيًا أو مكرهًا)(1) ولو بوجور مغمى عليه معالجة(2).
__________
(1) أي لا إن فعل شيئًا مما تقدم، ناسيًا لصومه فلا يؤاخذ بنسيانه، أو مكرهًا على فعل أحد تلك الأمور فعفو، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وسواء أكره على الفعل حتى فعله، أو فعل به، بأن صب في حلقه الماء، مكرهًا أو نائمًا، أو أدخل فيه ماء المطر كالناسي، بل أولى، بدليل الإتلاف.
(2) أي ولو كان إكراهه بوجور مغمى عليه، معالجة لإغمائه، والوجور: الدواء يوجر في الفم. «وعالجه» زاوله وداواه.(5/363)
فلا يفسد صومه، وأَجزأَه(1) لقوله عليه السلام «عفي لأُمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»(2) ولحديث أبي هريرة مرفوعًا «من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أَطعمه الله وسقاه» متفق عليه(3) (أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار) من طريق أو دقيق أو دخان، لم يفطر(4)
__________
(1) لعدم تعمده المفسد، كالناسي، ولا ينازع فيه من تأمل الأصول الشرعية، ويدخل فيه النائم، إذا فعل به شيء، فهو كالناسي أيضًا، لعدم قصده.
(2) وقال تعالى { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وفي صحيح مسلم «قد فعلت» وقال { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا } .
(3) وفي لفظ «من أكل أو شرب ناسيًا، فإنما هو رزق رزقه الله إياه» وللدارقطني، معناه، وزاد: «ولا قضاء» وللحاكم – وقال: على شرط مسلم - «من أكل في رمضان ناسيًا، فلا قضاء عليه، ولا كفارة». وهذا من لطف الله في حق عباده، تيسيرًا عليهم، ودفعًا للحرج، ففي قوله «فليتم صومه» دليل أن ثم صوم يتم، وقوله «إنما أطعمه الله وسقاه» إضافة الفعل إلى الرب تعالى، أنه سبحانه هو الذي أطعمه إياه، فدل على أنه لا أثر لذلك الأكل والشرب، بالنسبة إلى الصائم، وللدارقطني «إنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه» وفي لفظ «ولا قضاء عليه، لأن الله أطعمه وسقاه» ويقاس عليه ما عداه، لأنه في معناه، ولأن النسيان والخطأ ضرورة، والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى فاعلها، ولا هو مؤاخذ بها، كما جاء به الكتاب، والسنة، وحينئذ: يكون بمنزلة من لم يفعل، فلا تبطل عبادته.
(4) وفاقًا، كالنائم يدخل حلقه شيء، وقال الوزير: أجمعوا على أن الغبار، والدخان، والذباب، والبق، إذا دخل حلق الصائم، فإنه لا يفسد صومه.(5/364)
لعدم إمكان التحرز من ذلك أشبه النائم(1) (أو فكر فأنزل) لم يفطر(2) لقوله عليه السلام «عفي لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم به»(3) وقياسه على تكرار النظر غير مسلم، لأَنه دونه(4) (أَو احتلم) لم يفسد صومه(5).
__________
(1) في عدم إمكان التحرز، وهو لا يفطر بشيء من ذلك، فكذا من طار إلى حلقه، من غير قصد، فإن قصد ذلك أفطر، ومثلوا بقصد الطيب، لعالم بالصوم، ولو جهل أنه يفطر به. وقال الشيخ: وشم الروائح الطيبة، لا بأس به للصائم.
(2) وفاقًا، وأطلق بعضهم حكاية الإجماع، بأن الإنزال بالفكر لا يفطر، ونوزع فيه، وكذا لو أمنى من وطء ليل، وفاقًا، أو أمنى ليلاً، من مباشرته نهارًا، لم يفطر، وفاقًا. وقال الوزير: أجمعوا على أن من لمس فأمذى، أن صومه صحيح إلا أحمد. والفكر: إعمال الخاطر في الشيء.
(3) متفق عليه، من حديث عائشة، فدل على أنه لا يفطر إن فكر فأنزل، ولأنه لا نص فيه، ولا إجماع. وبغير مباشرة، ولا نظر، فأشبه الاحتلام، والفكرة الغالبة.
(4) أي دون التكرار، في استدعاء الشهوة، وإفضائه إلى الإنزال، ويخالفه في التحريم.
(5) قال الشيخ: باتفاق الناس. «واحتلم» أي أنزل في نومه منيًا، والحلم – بالضم وبفتحتين – ما يراه النائم، لكن غلب اسم الرؤيا على الخير، والحلم على الشر.(5/365)
لأن ذلك ليس بسبب من جهته(1) وكذا لو ذرعه القيء: أَي غلبه(2) (أو أصبح في فيه طعام فلفظه) أي طرحه، لم يفسد صومه(3) وكذا لو شق عليه أَن يلفظه، فبلعه مع ريقه، من غير قصد، لم يفسد، لما تقدم(4).
__________
(1) وما كان من غير جهته فغير مؤاخذ به، وكذا لو أنزل بنظرة واحدة، أو لهيجان شهوة بلا مس ذكره، أو لغير شهوة، كمرض وسقطة، أو أنزل بعد يقظة بغير اختياره لم يفسد صومه بلا نزاع.
(2) لم يفسد صومه وفاقًا، لخروجه بغير اختياره، أشبه المكره، وقال الخطابي وغيره: لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه. وحكاه الوزير وغيره إجماعًا، لحديث أبي هريرة «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه» ولسبق القيء، وانتفاء الاختيار، ويلحق به ما في معناه، ولقوله «عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولو عاد إلى جوفه بغير اختياره، لأنه لا يمكنه التحرز منه، فلم يجعل منافيًا للصوم، ولأن من لم يقصد غافل، والغافل غير مكلف، «وذرعه» بالذال المعجمة، أي سبقه وغلبه في الخروج، كما قال الشارح، أي قهره، فليس في وسعه، ولو أعاده عمدًا، ولو لم يملء الفم، أو قاء ما لا يفطر به ثم أعاده عمدًا أفطر، كبلعه بعد انفصاله عن الفم وفاقًا، وقال ابن رشد: إن رده متعمدًا وهو قادر على طرحه، فلا ينبغي أن يختلف في فساد صومه. وقال غير واحد: إن أعاده أفطر إجماعًا.
(3) قال في الإنصاف: بلا نزاع. ولا يخلو منه صائم غالبًا، «وطرح الشيء» رمى به وأبعده.
(4) أي من مجموعه، لمشقة التحرز منه وفاقًا، وحكاه ابن المنذر إجماعًا، أو بلع ريقه ببقية طعام تعذر رميه، أو بلغ ريقه عادة، لم يفطر وفاقًا.(5/366)
وإن تميز عن ريقه، وبلعه باختياره أَفطر(1) ولا يفطر إن لطخ باطن قدميه بشيء، فوجد طعمه في حلقه(2) (أَو اغتسل أَو تمضمض، أَو استنثر) يعني استنشق(3) (أَو زاد على الثلاث) في المضمضة، أَو الاستنشاق(4) (أَو بالغ) فيهما (فدخل الماءُ حلقه، لم يفسد) صومه، لعدم القصد(5).
__________
(1) نص عليه، وهو قول الجمهور، لأنه يمكنه لفظه باختياره، فكما لو بلعه ابتداء من خارج، بخلاف ما يجري به ريقه، فإنه لا يمكنه لفظه.
(2) أشبه ما لو دهن رأسه، فوجد طعمه في حلقه، فمجرد الطعم لا يفطر، كمن لطخ باطن قدميه بحنظل إجماعًا، والمراد بالمنفذ ماله شكل مفتوح، والقدم غير نافذ للجوف.
(3) فوصل الماء حلقه بلا قصد، أو بلع ما بقي من أجزاء الماء بعد المضمضة، لم يفطر إجماعًا، لما ثبت من اغتساله بعد الصبح، ولأن الله أباح الجماع وغيره إلى طلوع الفجر، فيلزم جواز الإصباح جنبًا، ولو كان السنة أن يغتسل قبله، ولخبر عمر سأله عن القبلة للصائم، قال «أرأيت لو تمضمضت بالماء وأنت صائم؟» قلت: لا بأس. قال «فمه؟» وكذا العموم في المضمضة والاستنشاق، لأنه واصل بغير قصد.
(4) لم يفسد صومه، وكره له، ما لم يكن لنجاسة ونحوها فكوضوء.
(5) ومن لم يقصد غافل، فهو غير مكلف، أشبه الذباب، وغبار الدقيق، إذا دخل حلقه، وصححه غير واحد، وهو مذهب الشافعي وغيره.(5/367)
وتكره المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم، وتقدم(1) وكرهًا له عبثًا أو إسرافًا، أَو لحر، أو عطش(2) كغوصه في ماء لغير غسل مشروع، أَو تبرد(3) ولا يفسد صومه بما دخل حلقه من غير قصد(4) (ومن أَكل) أَو شرب، أَو جامع (شاكًا
__________
(1) أي في باب سنن الوضوء، وثبت بالسنة من حديث لقيط «وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا» قال الشيخ: وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه، ينزل الماء إلى حلقه، وإلى جوفه فيحصل له ما يحصل للشارب بفمه، ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش بشرب الماء. وتقدم.
(2) نص عليه، لأنهما مظنة وصول الماء إلى الجوف، وقال أحمد: يرش على صدره أعجب إلي. ولأبي داود: أنه صب على رأسه الماء بالعرج، وهو صائم، من العطش، أو من الحر. وهذا مذهب الجمهور.
(3) من حر، أو عطش، أي فيكره، والتشبيه لا من كل وجه، بل من جهة العبث والإسراف، ولا يكره أن يغتسل من الجنابة نهارًا، لخبر عائشة وغيرها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج احتلم فاغتسل. ولأنه يصبح جنبًا، ثم يغتسل ويصوم، وكذا التبرد ونحوه. قال المجد: لأن فيه إزالة الضجر من العبادة، كجلوسه في الظل البارد، واختار أن غوصه في الماء كصب الماء عليه، وهو مذهب الشافعي ونقل حنبل: لا بأس به، إذا لم يخف أن يدخل الماء حلقه، أو مسامعه. ويستحب لمن لزمه الغسل ليلاً أن يغتسل قبل طلوع الفجر الثاني، خروجًا من الخلاف، واحتياطًا للصوم.
(4) وحكمه حكم الداخل من الزائد على الثلاث، من أنه مكروه، وقال المجد: إن فعله لغرض صحيح، فكالمضمضة المشروعة، وإن كان عبثًا فكمجاوزة.(5/368)
في طلوع الفجر) ولم يتبين له طلوعه (صح صومه)(1) ولا قضاء عليه، ولو تردد، لأَن الأَصل بقاءُ الليل(2) (لا إن أَكل) ونحوه (شاكًا في غروب الشمس) من ذلك اليوم الذي هو صائم فيه(3) ولم يتبين بعد ذلك أنها غربت، فعليه قضاءُ الصوم الواجب(4).
__________
(1) ولو طرأ شكه، لأن الله أباح الأكل، والشرب، والجماع بالاتفاق. ولا جناح عليه إذا استمر الشك، وله الأكل، حتى يتيقن طلوع الفجر، وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي، والله تعالى جعل الفجر غاية لإباحة الجماع، والطعام، والشراب، لمن أراد الصيام، وهو دليل على أن من أصبح جنبًا فليغتسل، وليتم صومه، ولا حرج عليه، قال ابن كثير وغيره: وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء، سلفًا وخلفًا، وحكاه الوزير وغيره إجماعًا، لما في الصحيحين: كان يصبح جنبًا، من جماع، ثم يغتسل، ويصوم. ولمسلم «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم» والآثار في ذلك متواترة، ومن ضرورة حل الرفث في جميع الليل أن يصبح صائمًا جنبًا، وأجمعوا على أنه إذا انقطع دم الحائض والنفساء قبل الفجر، ثم طلع الفجر قبل أن يغتسلا، فصومهما صحيح.
(2) بعد، فيكون الشك منه، ما لم يعلم يقين زواله، لظاهر الآية، ولو أكل بعد الأذان، وهو شاك: هل طلع الفجر، أو لم يطلع؟ لأن الأصل بقاء الليل، فله أن يأكل ويشرب، حتى يتبين الطلوع.
(3) ودام شكه قضى، لأن الأصل بقاء النهار، وقال الزركشي: اتفقوا على وجوب القضاء فيما إذا أكل شاكًا في غروب الشمس، لا في طلوع الفجر، نظرًا للأصل فيهما.
(4) نص عليه، وفي الإنصاف: عليه القضاء إجماعًا، وإن أكل يظن بقاء
النهار قضى إجماعًا، والفرق بين الشك والظن، أن الشك التردد بين أمرين لا يترجح أحدهما على الآخر، والظن أن يترجح أحد الأمرين على الآخر.(5/369)
لأَن الأَصل بقاءُ النهار(1) (أو) أَكل ونحوه (معتقدًا أَنه ليل، فبان نهارًا) أي فبان طلوع الفجر(2) أو عدم غروب الشمس قضى(3) لأنه لم يتم صومه(4) وكذلك يقضي إن أَكل ونحوه يعتقده نهارًا، فبان ليلاً، ولم يجدد نية لواجب(5).
__________
(1) فوجب القضاء، عملاً بالأصل، فإن بان ليلاً فيهما لم يقض.
(2) قضى، لقوله { حَتَّى يَتَبَيَّنَ } وقد تبين، وهذا المشهور في مذاهب الفقهاء الأربعة، واختار الشيخ أنه لا قضاء على من أكل أو جامع معتقدًا أنه ليل، فبان نهارًا، وقال به طائفة من السلف والخلف.
(3) أي فإن أكل ونحوه معتقدًا أنه ليل، فبان عدم غروب الشمس قضى، وحكي وفاقًا.
(4) والله أمر بإتمام الصوم، وعنه: لا قضاء عليه. اختاره الشيخ وغيره، وقال: ثبت في الصحيح أنهم أفطروا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس، ولم يذكر في الحديث أنهم أمروا بالقضاء، ولو أمرهم لشاع ذلك، كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل، دل على أنه لم يأمرهم به، وقول هشام: أوَ بُدٌّ من قضاء. برأيه، وثبت عن عمر أنه أفطر، ثم تبين النهار، فقال: لا نقضي، فإنا لم نتجانف لإثم. قال: وهذا القول أقوى أثرًا ونظرًا، وأشبه بدلالة الكتاب، والسنة، والقياس.
(5) لأنه أكل أو شرب ونحوه بنية فطر، وهو فطر بالفعل، وقطع لنية
الصوم، فإذا لم يجدد النية، وطلع الفجر، لم يصح صومه، لأنه صدق عليه أنه لم يبيت النية، إذ النية السابقة انقطعت حقيقة، فإن جدد نية قبل الفجر صح، ومفهومه: تجزئه عن غير الواجب، فإنه لو جَدَّدَها في غير ذلك الوقت، ولو جزءًا من النهار، وهو لم يأكل، صح وأثيب عليه من ذلك الوقت، ويقضي إن أكل ناسيًا، فظن أنه قد أفطر فأكل عامدًا.(5/370)
لا من أَكل ظانًا غروب الشمس ولم يتبين له الخطأُ(1).
فصل(2)
(ومن جامع في نهار رمضان)(3)
__________
(1) فلا قضاء عليه، لأنه لم يوجد يقين يزيل ذلك الظن، كما لو صلى بالاجتهاد، ثم شك في الإصابة بعد صلاته، ولأن الأصل براءته، ولو شك في غروب الشمس بعد الأكل ونحوه، ودام شكه، فلا قضاء عليه، لأنه لم يوجد يقين أزال ذلك الظن الذي بني عليه، لجواز الفطر بغلبة الظن.
(2) فيما يتعلق بالجماع في نهار رمضان، وهو مفسد للصيام، بالكتاب، والسنة، والإجماع، لقوله تعالى { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ } الآية فدلت على أن الصيام المأمور بإتمامه، ترك الوطء، والأكل، فإذا وجد فيه الجماع، لم يتم، فيكون باطلاً، وأما السنة فمشهورة، وكذا الإجماع في الجملة.
(3) حضرا، في قبل أو دبر، فعليه القضاء والكفارة وفاقًا، وقال الشيخ: لا يقضي متعمد بلا عذر صومًا ولا صلاة، ولا يصح منه، وأنه ليس في الأدلة ما يخالف هذا، بل يوافقه. وضعف أمر المجامع بالقضاء، لعدول البخاري ومسلم عنه، وفي الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت. قال «وما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، قال «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا؟» قال: لا، ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال «تصدق بهذا» فقال: أعلى أفقر منا؟، فما بين لأبتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال «اذهب فأطعمه أهلك».
ولما ذكر الشيخ انقسام المفطرات بالنص والإجماع، قال: وأما الجماع فاعتبار أنه سبب إنزال المني، يجري مجرى الاستقاءة، والحيض، والاحتجام، فإنه من نوع الاستفراغ، ومن جهة أنه إحدى الشهوتين، فجرى مجرى الأكل والشرب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «يدع طعامه وشرابه من أجلي» فترك
الإنسان ما يشتهيه لله، هو عبادة مقصودة، يثاب عليها، والجماع من أعظم نعيم البدن، وسرور النفس، وانبساطها، وهو يحرك الشهوة والدم والبدن، أكثر من الأكل.
فإذا كان الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم، والغذاء يبسط الدم، فتنبسط نفسه إلى الشهوات، فهذا المعنى في الجماع أبلغ، فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات؛ ويضعف إرادتها عن العبادة أعظم، بل الجماع هو غاية الشهوات، وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب، ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار، فوجب عليه العتق، أو ما يقوم مقامه، بالسنة والإجماع، لأن هذا أغلظ، ودواعيه أقوى، والمفسدة به أشد، فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع، وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ، فذاك حكمة أخرى، فصار فيها كالإستقاء والحيض، وهو في ذلك أبلغ منهما، فكان إفساده الصوم، أعظم من إفساد الأكل والحيض. وذكر عدل الشرع في العبادات، وأن الصائم نهي عن أخذ ما يقويه، وإخراج ما يضعفه، ولو مكن ضره، وكان متعديًا في عبادته لا عادلاً.(5/371)
.
ولو في يوم لزمه إمساكه(1) أو رأى الهلال ليلته، وردت شهادته، فغيب حشفة ذكره الأصلي (في قبل) أصلي (أو دبر)(2) ولو ناسيًا(3).
__________
(1) أي ولو كان جامع في يوم من نهار رمضان لزمه إمساكه، لنحو ثبوته نهارًا، وعدم تبييت النية، لأنه يحرم عليه تعاطي ما ينافي الصوم.
(2) فعليه القضاء والكفارة وفاقًا، حكاه الوزير وغيره، لجماعه في يوم من رمضان، ولا يتهم في حق نفسه.
(3) فعليه القضاء والكفارة، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يستفصل، وعنه:
لا قضاء عليه، ولا كفارة. وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، قال النووي: وهو قول جمهور العلماء، والصحيح من مذاهبهم، لأنه صح الحديث أن أكل الناسي لا يفطر، والجماع في معناه، والأحاديث في العامد، لقوله: هلكت. وهذا لا يكون إلا في العامد، فإن الناسي لا إثم عليه بالإجماع. وقال في الإنصاف: لو أكل ناسيًا، واعتقد الفطر، ثم جامع، فحكمه حكم الناسي والمخطئ، إلا أن يعتقد وجوب الإمساك، فيكفر على الصحيح، يعني على المذهب، والجمهور على خلافه.(5/372)
أو مكرهًا، أو جاهلاً (فعليه القضاءُ والكفارة)(1).
__________
(1) كأن اعتقده ليلاً فبان نهارًا، أو قامت البينة أنه من رمضان، صرح به في المغني، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المواقع عن حاله، ولأن الوطء يفسد الصوم، فأفسده على كل حال كالحج، وفي الفروع: والمكره كالمختار، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، ونقل ابن القاسم: كل أمر غلب عليه الصائم، فليس عليه قضاء ولا كفارة. قال أكثر الأصحاب: وهذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة، وقال ابن عبد البر: الصحيح في الأكل والوطء، إذا غلب عليهما، لا يفطرانه، وكذا قال غير واحد من أهل العلم: الجماع كالأكل، فيما مر فيه، من الشك، والإكراه، والجهل. وفي المبدع: وعنه لا يكفر، وعليه أكثر العلماء. قال الوزير: وإن وطيء ظانًا أن الشمس قد غربت، أو أن الفجر لم يطلع، فبان بخلافه، فالقضاء واجب، ولم يوجب الكفارة الثلاثة، وإنما أوجبها أحمد، وعنه: لا قضاء على من جامع جاهلاً بالوقت، اختاره الشيخ، وقال: هو قياس أصول أحمد وغيره. وكذا لو كان جاهلاً بالحكم، لأن الكفارة ماحية، ومع النسيان، والإكراه، والجهل، لا إثم يمحى.
وقال أيضًا: فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة أن من فعل محظورًا، مخطئًا،
أو ناسيًا، لم يؤاخذه الله، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومن لا إثم عليه، لم يكن عاصيًا، ولا مرتكبًا لما نهي عنه، ومثل هذا لا تبطل عبادته. وفي الإنصاف – في الناسي – وعنه: لا يكفر. اختاره ابن بطة، قال الزركشي: ولعله مبني على أن الكفارة ماحية، ومع النسيان لا إثم يمحى. وعنه: لا يقضي، اختاره الآجري، وأبو محمد الجوزي، والشيخ، وصاحب الفائق، وعنه: كل أمر غلب عليه الصائم، فليس عليه قضاء، ولا غيره، وقاله أكثر الأصحاب، فدل على إسقاط القضاء، والكفارة مع الإكراه والنسيان، وهو اختيار الشيخ.(5/373)
أَنزل أولاً(1) ولو أَولج خنثى مشكل ذكره في قبل خنثى مشكل، أَو قبل امرأة(2) أَو أَولج رجل ذكره في قبل خنثى مشكل، لم يفسد صوم واحد منهما(3) إلا أَن ينزل، كالغسل(4) وكذا إذا أَنزل مجبوب، أو امرأتان بمساحقة(5).
__________
(1) فلا فرق بين أن ينزل أو لا، لأنه في مظنة الإنزال.
(2) أي أو أولج خنثى مشكل ذكره في قبل امرأة.
(3) لاحتمال الزيادة، اختاره وصححه غير واحد.
(4) فإن أنزل وجب عليه القضاء فقط.
(5) أي وكذا إن أنزل مجبوب، أي مقطوع الذكر، أو الخصيتين، يقال: جب الرجل، فهو مجبوب، إذا استؤصلت مذاكيره، أو أنزل ممسوح بمساحقة، فعليه القضاء والكفارة، أو أنزلت امرأتان بمساحقة، والسحق السهك، أو الدق، أو دون الدق، فعليهما القضاء والكفارة، وعنه: لا كفارة على واحد منهم، وهو المشهور، وصرح به في الإقناع وغيره، وفي حاشية التنقيح: حكمه حكم الواطئ دون الفرج، فإنه لا كفارة عليه من الإنزال، كما صححه المنقح وغيره، وحكاه في الإنصاف عن الأصحاب، ولأنه لا كفارة بغير الوطء، أطلقه الأصحاب، فما ذكر الشارح خلاف المذهب، لأن ذلك مباشرة دون الفرج، وليس بوطء حقيقة، وحقيقة الوطء إيلاج الذكر في الفرج، فليس فيه غير القضاء، وهو قول الجمهور.(5/374)
(وإن جامع دون الفرج) ولو عمدًا (فأَنزل) منيًا أَو مذيًا(1) (أو كانت المرأة) المجامعة (معذورة) بجهل، أَو نسيان، أَو إكراه، فالقضاءُ، ولا كفارة(2).
__________
(1) فالقضاء، ولا كفارة، اختاره وصححه غير واحد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، لأن قوة النص تقتضي أنه جامع في الفرج وكنى عن ذلك بالمواقعة، والأصل براءة الذمة من الكفارة، وأما القضاء فيجب، باتفاق الأئمة، حكاه الوزير وغيره، وإن لم ينزل فلا قضاء، ولا كفارة عليه، إذ مع عدم الإنزال ضعف اعتباره، فصار بمنزلة اللمس ونحوه، وإن وطئ بهيمة في الفرج أفطر، لأنه وطء في فرج، أشبه وطء الآدمية في فرجها، ولم يقيده الموفق بالإنزال، لإقامة المظنة مقام الحقيقة، واختار أنه لا كفارة عليه.
(2) وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، في أحد قوليه، واختاره الموفق، والمجد، وجماعة، واستظهره في الفروع، وصححه في تصحيحها، قال في المبدع: لأنها معذورة. قال في الشرح: وعليها القضاء، بغير خلاف نعلمه. وهذه الشروط، معتبرة في وجوب الكفارة، فإن كانت جاهلة، أو ناسية، أو مكرهة، أو نائمة، فلا كفارة، حكاه الوزير وغيره اتفاقًا، إلا في إحدى الروايتين عن أحمد، وذكر أن الرواية الأخرى عنه، في إسقاط الكفارة أصح وأظهر، والفرق بينها وبين الرجل في الإكراه، أن الرجل له نوع اختيار، يدل على الرغبة، بخلافها فأما النسيان فإن جهة الرجل في المجامعة لا تكون إلا منه غالبًا، بخلاف المرأة، فكان الزجر في حقه أقوى، فوجبت عليه في حالة النسيان دونها، وتقدم.(5/375)
وإن طاوعت عامدة عالمة فالكفارة أيضًا(1) (أَو جامع من نوى الصوم في سفره) المباح فيه القصر(2)، أَو في مرض يبيح الفطر (أَفطر، ولا كفارة)(3) لأنه صوم لا يلزم المضي فيه، أَشبه التطوع(4) ولأَنه يفطر بنية الفطر، فيقع الجماع بعده(5).
__________
(1) وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحد القولين للشافعي، لأنها هتكت حرمة صوم رمضان، بالجماع مطاوعة، فهي كالرجل، ولأن تمكينها كفعله في حد الزنا، ففي الكفارة أولى، وعنه: لا كفارة عليها، لأن الشارع لم يأمرها بها، واتفقوا على أن عليها القضاء، وتدفعه إذا أكرهها، بالأسهل، وإن أدى إلى قتله، ولو طاوعته أمته كفرت بالصوم، ولو استدخلت ذكر نائم، أو صبي، أو مجنون، بطل صومها، ووجب عليها القضاء والكفارة.
(2) فله الفطر، لفعله صلى الله عليه وسلم، ولا كفارة عليه، وقال الوزير: أجمعوا أنه إذا أفطر في السفر يباح له الجماع، وإذا صام وجامع، فقال أبو حنيفة والشافعي: لا كفارة عليه. وعن مالك وأحمد روايتان، لكن ينبغي أن يفطر بنية الفطر، فيقع الجماع بعده.
(3) أي أو جامع من نوى الصوم في مرض يبيح له الفطر، أفطر بالجماع، ولا كفارة، كالمسافر، عند الجمهور، إلا أنه ينبغي أن يقع الجماع بعد نية الفطر.
(4) ويأتي «أن المتطوع أمير نفسه».
(5) أي بعد نية الفطر، إن نواه قبل فعل الجماع، وهو أولى.(5/376)
(وإن جامع في يومين) متفرقين، أو متواليين(1) (أو كرره) أي كرر الوطء (في يوم، ولم يكفر) للوطء الأول(2) (فكفارة واحدة في الثانية) وهي ما إذا كرر الوطء في يوم، قبل أَن يكفر(3) قال في المغني والشرح: بغير خلاف(4) (وفي الأولى) وهي ما إذا جامع في يومين (اثنتان) لأن كل يوم عبادة مفردة(5).
__________
(1) من رمضان واحد، أو رمضانين.
(2) من اليومين المتفرقين، أو المتواليين، ولا من الوطء الأول، المتكرر في يوم.
(3) لتداخلهما.
(4) وحكي الإجماع فيه غير واحد لأن الكفارات زواجر، بمنزلة الحدود، فتتداخل كالحدود، فلو كفر بالعتق، للوطء الأول، ثم به للثاني، ثم استحقت الرقبة الأولى، لم يلزمه بدلها، وأجزأته الثانية عنهما، ولو استحقت الثانية وحدها، لزمه بدلها، ولو استحقتا جميعًا، أجزأته رقبة واحدة، لأن محل التداخل وجود السبب الثاني، قبل أداء موجب الأول.
(5) تعلق الكفارة بفساده، فإذا عمهما الفساد، وجب أن تتعلق بكل منهما كفارة، وكون كل يوم بمنزلة عبادة مفردة، بدليل أن فساد بعضها، لا يسري إلى بقيتها، واحتياج كل يوم إلى نية، وكيومين من رمضانين، وهو مذهب مالك، والشافعي، وصححه في تصحيح الفروع وغيره، وكما لو كفر عن اليوم الأول، فإنه يلزمه لليوم الثاني كفارة ثانية، ذكره ابن عبد البر وغيره إجماعًا.(5/377)
(وإن جامع ثم كفر، ثم جامع في يومه، فكفارة ثانية)(1) لأَنه وطءٌ محرم، وقد تكرر، فتكرر هي، كالحج(2) (وكذلك من لزمه الإمساك)(3) كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر(4) أَو نسي النية، أَو أَكل عامدًا (إذا جامع)(5) فعليه الكفارة، لهتكه حرمة الزمن(6).
__________
(1) هذا المذهب، نص عليه في رواية حنبل والميموني.
(2) أي فتكرر الكفارة، كما لو كرر المحظور في الحج، قبله وبعده، فالتشبيه معتبر في المسألتين، ولأنه وطء محرم لحرمة رمضان، فوجب أن تتعلق به الكفارة، كالوطء الأول، وعبادة يجب بالجماع بها كفارة، فجاز أن تتكرر الكفارة مع الفساد، وعنه: لا كفارة عليه. لأنه عبادة واحدة، وهو قول الجمهور، وقال الوزير: أجمعوا أنه إذا وطيء وكفر، ثم عاد فوطيء ثانيًا في يومه ذلك، أنه لا يجب عليه كفارة ثانية، وإن أخرج بعض الكفارة، ثم وطيء في يومه، دخلت بقية الأولى في الثانية.
(3) أي وكذا حكم كل مفطر يلزمه الإمساك، إذا جامع، فعليه الكفارة وفاقًا.
(4) إذا جامع فعليه الكفارة.
(5) في نهار رمضان، وظاهره: ولو ناسيًا، أو جاهلاً؛ وتقدم.
(6) أي بالجماع، ولأنها تجب على المستديم الوطء ولا صوم هناك، وكذا هنا، فمراده بالتشبيه وجوب الكفارة، لا التكرار، لكن نص أحمد – في مسافر قدم مفطرًا ثم جامع -: لا كفارة عليه، لأنه سنة عند أكثر العلماء، وحمله بعضهم على رواية عدم لزوم الإمساك.(5/378)
(ومن جامع وهو معافى، ثم مرض، أو جن(1) أو سافر: لم تسقط) الكفارة عنه، لاستقرارها(2) كما لو لم يطرأ العذر(3) (ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان)(4) لأَنه لم يرد به نص(5) وغيره لا يساويه(6).
__________
(1) أو حاضت، أو نفست، لم تسقط الكفارة، لأمره عليه الصلاة والسلام الأعرابي بالكفارة، ولم يسأله، وهذا مذهب مالك، وأحد أقوال الشافعي.
(2) أي الكفارة عليه وفاقًا، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأعرابي: هل طرأ له بعد وطئه مرض أو غيره؟ بل أمره بالكفارة، ولو اختلف الحكم لسأله عنه، ولأنه أفسد صيامًا واجبًا من رمضان بجماع، فاستقرت كفارته.
(3) يعني من مرض، أو جنون، أو سفر، أو حيض، أو نفاس ونحو ذلك، ولو مات في أثناء النهار بطل صومه، فإن كان نذرًا، وجب الإطعام من تركته، وإن كان صوم كفارة تخيير، وجبت في ماله.
(4) إجماعًا، فلا كفارة بمباشرة، أو قبلة ونحوها، ولو مع الإنزال وفاقًا، ولو كرر النظر، ولا بالجماع في قضائه أو نذر، أو كفارة، لأن الكفارة لهتك حرمة شهر رمضان.
(5) ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يثبت شغلها إلا بدليل من نص، أو إجماع، أو قياس، ولم يوجد واحد منها، وإنما ورد النص وثبت الإجماع في الجماع، في نهار رمضان.
(6) أي غير رمضان لا يساوي رمضان، لاحترامه، وتعينه للعبادة، وليس في معناه، فلا يقاس عليه.(5/379)
والنزع جماع(1).
__________
(1) يتلذذ به كالإيلاج، فلو طلع عليه الفجر وهو مجامع، فنزع في الحال، قضى وكفر، وقال في تصحيح الفروع: الصواب أنه إن تعمد الوطء قريبًا من طلوع الفجر، مع علمه بذلك فعليه القضاء والكفارة. اهـ. وعنه: عليه القضاء فقط وفاقًا، وقال المجد: يقضي فقط، وهو أصح عندي. وقال ابن أبي موسى: يقضي قولاً واحدًا. وعنه: لا قضاء عليه، ولا كفارة. وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، واختاره أبو حفص، وصاحب الفائق، والشيخ، وغيرهم، وقال: هذا قول طوائف من السلف، كسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وإسحاق، وداود، وأصحابه، والخلف، وهؤلاء يقولون: من أكل معتقدًا عدم طلوع الفجر، ثم تبين أنه طلع، فلا قضاء عليه. وهذا القول أصح الأقوال، وأشبهها بأصول الشريعة، ودلالة الكتاب والسنة، وهو قياس أصول أحمد وغيره، فإن الله رفع المؤاخذة عن الناسي والمخطئ، وهذا مخطئ، وقد أباح الله الأكل، والوطء، حتى يتبين { الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } واستحب تأخير السحور، ومن فعل ما ندب إليه، وأبيح له، لم يفرط، فهذا أولى بالعذر من الناسي. اهـ.
وقال غير واحد: إنما النزع ترك للجماع. وقال ابن القيم: من طلع عليه الفجر، وهو مجامع، فالواجب عليه النزع عينًا، ويحرم عليه استدامة الجماع واللبث، ولا شيء عليه، اختاره شيخنا، وهو الصواب، والحكم في حقه وجوب النزع، والمفسدة في حركة النزع، مغمورة في مصلحة إقلاعه ونزعه. اهـ. وإن استدام، فعليه القضاء والكفارة، وهو مذهب مالك، والشافعي وغيرهم، لأنه جماع في نهار رمضان باختيار، فلا فرق بين ابتدائه ودوامه، ولا يحرم وطء قبل كفارة رمضان، ولا في ليالي صيامها، عكس كفارة الظهار.(5/380)
والإنزال بالمساحقة كالجماع، على ما في المنتهى(1) (وهي) أي كفارة الوطء في نهار رمضان(2) (عتق رقبة) مؤمنة، سليمة من العيوب الضارة بالعمل(3) (فإن لم يجد) رقبة، (فصيام شهرين متتابعين(4) فإن لم يستطع) الصوم (فإطعام ستين مسكينًا)(5).
__________
(1) يعني من وجوب القضاء، والكفارة، وجزم في الإقناع: أنه ليس فيه غير القضاء، وهو قول الجمهور وكذا الإنزال بها من مجبوب أو امرأة، وتقدم.
(2) على الترتيب، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ورواية عن مالك.
(3) على ما يأتي في الظهار، وكون الكفارة عتق رقبة، لا نزاع فيه.
(4) أي فإن لم يجد رقبة، ولا ثمنها، وجب عليه، صيام شهرين متتابعين، إجماعًا، لحديث أبي هريرة المتقدم، فإنه نص فيه على الثلاثة بقوله «فهل تستطيع؟» «فهل تجد؟» وهو ظاهر في الترتيب، وجاء بلفظ «أو يصوم» «أو يطعم» واللفظ الأول، رواه أكثر من ثلاثين، ولأنه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ومشتمل على زيادة، وأنص منه، ما رواه ابن ماجه في الحديث، أنه قال «أعتق رقبة» قال: لا أجدها، قال «صم شهرين متتابعين» قال لا أطيق، قال «أطعم ستين مسكينًا» فأمره بالعتق أولاً، وظاهر الأمر الوجوب، ولم ينقله إلى الصيام، إلا عند العجز، ثم أمره في صيام الشهرين، بالتتابع، ويشترط التتابع في أربعة مواضع، في كفارة الوطء في نهار رمضان، وكفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة اليمين، وحكى الوزير وغيره: الإجماع على وجوب التتابع فيها.
(5) قال النووي: أجمع عليه العلماء، في الأعصار المتأخرة، وهو اشتراط إطعام ستين مسكينًا. اهـ. فلو قدر لا بعد شروع فيه لزمته، لأنه عليه الصلاة والسلام: سأل المواقع عما يقدر عليه، حال المواقعة، وهي حالة الوجوب، والمعتبر وقت الوجوب، شرع فيه أولاً.(5/381)
لكل مسكين مدبر، أَو نصف صاع من تمر، أَو زبيب، أو شعير، أو أقط(1) (فإن لم يجد) شيئًا يطعمه للمساكين، (سقطت) الكفارة(2) لأن الأعرابي لما دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم التمر ليطعمه للمساكين، فأخبره بحاجته قال «أطعمه اهلك» ولم يأمره بكفارة أخرى، ولم يذكر له بقاءها في ذمته(3) بخلاف كفارة حج(4) وظهار ويمين ونحوها(5) ويسقط الجميع، بتكفير غيره عنه بإذنه(6).
باب ما يكره ويستحب في الصوم
وحكم القضاء
__________
(1) مما يجزئ في فطرة، ولما يأتي في الظهار.
(2) قال الوزير: أجمعوا على أنه إذا عجز عن كفارة الوطء، حين الوجوب، سقطت، إلا الشافعي، في أحد قوليه. اهـ. وكذا كفارة الوطء في الحيض، تسقط بالعجز، دون ما عداهما.
(3) فدل الحديث، على أنه لما لم يجد شيئًا، يطعمه المساكين، سقطت عنه الكفارة.
(4) أي فدية تجب في الحج، على ما سيأتي، فتبقى في الذمة.
(5) ككفارة قتل، فإنها تبقى في الذمة، لعموم أدلتها للوجوب حال الإعسار، ولأنه القياس، خولف في رمضان للنص، قال القاضي وغيره: وليس الصوم سببًا، وإن لم تجب إلا بالصوم والجماع، لأنه لا يجوز اجتماعهما.
(6) إن كان حيًا، وبدونه إن كان ميتًا، ولا يفتقر إلى إذن وليه، أو فعله، سواء كان عن كفارة وطء نهار رمضان أو حج، أو ظهار أو يمين، أو قتل، وإن كفر عنه غيره بإذنه فله أكلها، إن كان أهلاً، وكذا لو ملكه ما يكفر به.(5/382)
أي قضاء الصوم(1) (يكره) لصائم (جمع ريقه فيبتلعه)(2) للخروج من خلاف من قال بفطره(3) (ويحرم) على الصائم (بلع النخامة)، سواءً كانت من جوفه أو صدره أو دماغه(4).
__________
(1) لرمضان أو غيره، وما يتعلق بذلك، ويقع القضاء بمعنى الأداء، ممن أفطر بسبب مباح، أو محرم، كمن أبطل صومه، بجماع أو غيره، وقال الشيخ وغيره: وقولهم: بطل صومه، ونحو ذلك، بمعنى وجب القضاء، لا بمعنى أنه لا يثاب عليه بشيء، وجاءت السنة بثوابه على ما فعله، وعقابه على ما تركه، وأنه لو كان باطلاً كعدمه، ولا ثواب فيه، لم يجبر بالنوافل شيء وقوله { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ليس بطلان جميعه، بل قد يثاب على ما فعله، فلا يكون مبطلاً لجميع عمله.
(2) فرضًا كان الصوم، أو نفلاً، لإمكان التحرز منه، والريق: الرضاب، وهو ماء الفم.
(3) يشير إلى خلاف أبي حنيفة، وأقل أحوال المختلف فيه، أن يكون مكروهًا؛ وقال في الفروع: وقيل: يفطر؛ فيحرم ذلك كعوده وبلعه من بين شفتيه، ولا يفطر ببلعه مجموعًا، وفاقًا، لأنه إذا لم يجمعه، وابتلعه قصدًا، لا يفطر إجماعًا، فكذا إن جمعه ثم بلعه قصدًا، لأنه يصل إلى جوفه من معدنه، أشبه ما لو لم يجمعه.
(4) إذا حصلت في فيه، للاختلاف في الفطر بها، فانبنى التحريم، وينبغي أن يقيد بالفرض، والنخامة: النخاعة، حكاه الجوهري وغيره، وفي المطالع:
النخامة؛ في الصدر، وهو البلغلم اللزج. وقال غيره: النخاعة من الصدر، والنخامة من الرأس.(5/383)
(ويفطر بها فقط) أي لا بالريق(1) (إن وصلت إلى فمه) لأنها من غير الفم(2) وكذلك إذا تنجس فمه بدم، أو قيء، ونحوه فبلعه، وإن قل(3) لإمكان التحرز منه(4) وإن أخرج من فمه حصاة، أو درهمًا، أو خيطًا ثم أعاده، فإن كثر ما عليه أفطر(5) وإلا فلا(6) ولو أخرج لسانه ثم أعاده لم يفطر بما عليه(7).
__________
(1) فلا يفطر ببلع ريقه إجماعًا، لأن النخامة تنزل من الرأس، أو تخرج من الجوف، والريق من الفم.
(2) كالقيء وتقدم، وذلك لإمكان التحرز منها، وهذا مذهب الشافعي وغيره، لا إن بلع نخامة لم تصل إلى فمه.
(3) أفطر إن تحقق كونه بلع شيئًا نجسًا، نص عليه، لا إن بالغ في تفله، ثم بلع ريقه بعد، لم يضر.
(4) ولأن الفم في حكم الظاهر، فيقتضي الفطر بكل ما يصل منه، وإن تنجس فمه فبصق النجاسة، وبقي الفم نجسًا، فابتلع ريقه لم يفطر، قطع به أبو البركات، لأنه لا يتحقق ابتلاعه لشيء من أجزاء النجاسة، وإن استقصى في البصق، ثم وجد طعمه في حلقه لم يفطر، وإلا أفطر على الصحيح من المذهب، قاله في الإنصاف.
(5) لأنه واصل من خارج، لا يشق التحرز منه.
(6) أي وإن لم يكثر، فلا إفطار، لعدم تحقق انفصاله، والأصل بقاء الصوم.
(7) وفاقًا.(5/384)
ولو كثر، لأنه لم ينفصل عن محله(1) ويفطر بريق أخرجه إلى ما بين شفتيه ثم بلعه(2) (ويكره ذوق طعام بلا حاجة)(3) قال المجد: المنصوص عنه أنه لا بأْس به لحاجة ومصلحة(4) وحكاه هو والبخاري عن ابن عباس(5) (و) يكره (مضغ علك قوي)(6).
__________
(1) بخلاف ما على الدرهم، ونحوه.
(2) وكذا لو خرج ريقه إلى ثوبه، أو بين أصابعه، ثم عاد فابتلعه، لكونه فارق معدنه، مع إمكان التحرز منه عادة، أشبه الأجنبي، لا ما قل عن درهم، أو حصاة، أو خيط ونحوه، إذا عاد إلى فمه، كما على لسانه.
(3) إلى ذوقه لأنه لا يأمن أن يصل إلى حلقه فيفطره، وقال أحمد: أحب أن يجتنب ذوق الطعام، فإن فعل فلا بأس، وظاهره الإطلاق، وهو مذهب مالك.
(4) ككون زوجها أو سيدها سيء الخلق، فتذوقه لذلك، أو لا تجد من يمضغ لصبيها، ممن لا يصوم، وهو مفهوم ما في المتن.
(5) أي حكى المجد والبخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما، جواز ذوق الطعام لحاجة ومصلحة، واختاره في التنبيه،وابن عقيل، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي. وقال الشيخ: أما إذا ذاق طعامًا ولفظه، أو وضع في فيه عسلاً ومجه، فلا بأس به للحاجة، كالمضمضة، والاستنشاق. وعلى قول المجد ومن تابعه، إذا استقصى في البصق، ثم وجد طعمه في حلقه لم يفطر، وإن لم يستقص أفطر، قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب.
(6) لا يتحلل منه أجزاء، نص عليه وفاقًا، وهو أنواع، أقواه أبيض، ممضوغ ملتئم، ويطلق على كل ما يمضغ ويبقى في الفم، كالمصطكى واللبان، وقال ابن
سيده: ضرب من صمغ الشجر. وفي القاموس: بالكسر، صمغ الصنوبر، والأرزة، والفستق، والسرو، والينبوت، والبطم، وهو أجودها.(5/385)
وهو الذي كلما مضغه صلب وقوي(1) لأنه يحلب البلغم، ويجمع الريق، ويورث العطش(2) (وإن وجد طعمهما) أي طعم الطعام، والعلك (في حلقه أفطر)(3) لأنه أوصله إلى جوفه(4) (ويحرم) مضغ (العلك المتحلل) مطلقًا، إجماعًا، قاله في المبدع(5) (إن بلع ريقه) وإلا فلا(6).
__________
(1) ولم يتحلل منه أجزاء، وقال أحمد – في الرجل يفتل الخيط: - يعجبني أن يبزق.
(2) فكره له ذلك، و«حلب الشيء» استخرج ما فيه؛ و«البلغم» خلط من أخلاط البدن، وهو أحد الطباع الأربع.
(3) صوبه في تصحيح الفروع، وغيره، لإطلاق الكراهة، ومقتضاه: أنه لا فطر إذا قلنا بعدم الكراهة، للحاجة، كما صرح به في شرح المنتهى، وذلك لأنه لا ينزل منه شيء، أشبه ما لو لطخ باطن رِجْلِه بحنظل، ومجرد الطعم لا يفطر.
(4) أشبه ما لو تعمد الأكل.
(5) وقاله في الفروع وغيرهما، لأنه يكون قاصدًا لإيصال شيء من خارج، إلى جوفه مع الصوم، وهو حرام، وتعريض لفساد صومه، وإطلاقه مخالف لقوله «إن بلع ريقه» وإن كان مراده به؛ على الصحيح من المذهب، فمحله القول الثاني أنه يحرم ولو لم يبتلعه، فمعنى الإطلاق هنا أنه سواء ابتلع ريقه أو لا.
(6) أي وإن لم يبتلع ريقه، لم يحرم.(5/386)
هذا معنى ما ذكره في المقنع والمغني والشرح(1) لأَن المحرم إدخال ذلك إلى جوفه، ولم يوجد(2) وقال في الإنصاف: والصحيح من المذهب أَنه يحرم مضغ ذلك، ولو لم يبتلع ريقه، وجزم به الأكثر. اهـ. وجزم به في الإقناع والمنتهى(3) ويكره أن يدع بقايا الطعام، بين أسنانه(4) وشم ما لا يؤمن أن يجذبه نفسه، كسحيق مسك(5) (وتكره القبلة) ودواعي الوطء (لمن تحرك شهوته)(6).
__________
(1) وغيرهما، بل تابعهما الشراح، وهو ظاهر الوجيز وغيره.
(2) أي الإيصال إلى الجوف، فلم يحرم، لأن القاعدة أنه إذا انتفت العلة، انتفى المعلول.
(3) وهو مقتضى إطلاق صاحب المبدع، والفروع وغيرهما.
(4) خشية خروجه، فيجري به ريقه إلى جوفه.
(5) وكافور، ودهن، وبخور بنحو عود، خشية وصوله مع نفسه إلى جوفه، ولا يكره شم نحو ورد، وقطع عنبر، ومسك غير مسحوق.
(6) قال الوزير وغيره: أجمعوا على كراهة القبلة، لمن تحرك شهوته، وإلا فلا، إلا رواية عن مالك. اهـ. وعنه: تحرم لمن تحرك شهوته وجزم به في المستوعب وغيره، وفاقًا لمالك، والشافعي، ومرادهم: قبلة من تباح قبلته في الفطر، كزوجته، وسريته تلذذًا، لا رحمة وتوددًا، فأما من تحرم قبلته في الفطر، ففي الصوم أشد تحريمًا، وكذا دواعي الوطء كمعانقة ولمس، وتكرار نظر للتلذذ، والشهوة، وأما اللمس لغير شهوة، كلمس اليد ليعرف مرضها ونحوه، فلا يكره وفاقًا.(5/387)
لأَنه عليه السلام «نهى عنها شابًا ورخص لشيخ» رواه أبو داود، من حديث أبي هريرة(1) ورواه سعيد عن أبي هريرة، وأبي الدرداء(2) وكذا عن ابن عباس، بإسناد صحيح(3) وكان صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، لما كان مالكًا لإربه(4) وغير ذي الشهوة في معناه(5) وتحرم إن ظن إنزالاً(6).
__________
(1) وذلك أن رجلاً شابًا، سأل النبي صلى الله عليه وسلم، عن التقبيل وهو صائم، فنهاه، خشية أن تغلبه الشهوة، فلذلك ذهب قوم إلى تحريمه، على من تحرك شهوته، والشاب مظنة لذلك، بخلاف الشيخ، فإنه لما سأله عن المباشرة للصائم، رخص له، والتعبير بالشيخ والشاب: جري على الغالب، فلو انعكس الأمر، انعكس الحكم.
(2) والبيهقي: أنه سأله شاب، فنهاه، وسأله شيخ، فرخص له. وقال: «الشيخ يملك إربه».
(3) أي وكذا روى سعيد في سننه، عن ابن عباس نحو ما تقدم، وقد أقام الشارع المظنة، مقام الحقيقة في مواضع، وتقدم.
(4) ولفظه: كان يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه. متفق عليه. أي أملككم لنفسه، وآمنكم من الوقوع في قبلة، يتولد منها إنزال، أو شهوة، أو هيجان نفس، ورواه أكثر المحدثين، بفتح الهمزة والراء، وبعضهم بكسر الهمزة، وسكون الراء، حاجة النفس ووطرها، وقيل بالتسكين: العضو، وبالتحريك: الحاجة.
(5) أي غير ذي الشهوة، يباح له، لفعله صلى الله عليه وسلم.
(6) قال المجد: بغير خلاف، لتعريضه للفطر، ثم إن أنزل أفطر، وتقدم، وإن لم ينزل، لم يفطر، ذكره ابن عبد البر إجماعًا.(5/388)
(ويجب) مطلقًا(1) (اجتناب كذب وغيبة) ونميمة (وشتم) ونحوه(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أَن يدع طعامه وشرابه» رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، وغيرهم(3)
__________
(1) أي في كل وقت، وكل مكان، وفي رمضان، ومكان فاضل آكد، لأن الحسنات والسيئات، تتضاعف بالزمان والمكان الفاضل.
(2) كفحش، إجماعًا في الجملة، والمراد: اجتناب الكذب إذا كان محرمًا، لأن من الكذب ما هو واجب، كتخليص مسلم من قتل، وما هو مباح، كإصلاح بين الزوجين، والكذب: هو الإخبار بما لا يطابق المخبر عنه، خلاف الصدق؛ «والغيبة» هي ذكر الإنسان بما فيه مما يكره، سواء ذكره بلفظه، أو كتابة أو إشارة إليه بعينه، أو يده أو رأسه، وضابطها: كل ما أفهم به غيره نقصان مسلم، فهو غيبة محرمة بالإجماع، وكما تحرم على المغتاب، يحرم استماعها، وإقرارها، واستثنى منها ما نظمه الجوهري:
تظلم واستعن واستفت حذر
وعرف واذكرن فسق المجاهر
لأن تلك أغراض صحيحة شرعية، لا يمكن الوصول إليها إلا بذكره بما فيه، «والنميمة» اسم من «نم الحديث» أظهره على وجه الإشاعة، والإفساد، وزينه بالكذب «والشتم» السب، والكلام القبيح، ويقال: هو رمي أعراض الناس بالمعايب، وثلبهم، وذكرهم بقبيح القول، حضرًا وغيبًا.
(3) ومعناه الزجر، والتحذير من قول الزور، وهو الكذب. ولأحمد «والجهل» وهو السفه «والعمل به» أي بمقتضاه، لما يحصل من الإثم، المقاوم للصوم، ولأنه لم يحصل منه مقصود الصائم، أو أنها قد تذهب بأجر الصوم،
ويأتي حديث «فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم» وقال تعالى: { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } وفي الصحيحين «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام» الحديث. وحديث: عرج به، فمر على قوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم، وصدورهم؛ فقال «يا جبرئيل من هؤلاء؟» قال: الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم. وحديث «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» وغير ذلك.(5/389)
.
قال أحمد: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه، ولا يماري، ويصون صومه(1) وكانوا إذا صاموا، قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا، ولا نغتاب أحدًا(2) ولا يعمل عملاً يجرح به صومه(3).
__________
(1) فلا يرفث، ولا يفسق، ولا يجادل، ولا يغتب أحدًا، وإن كان ذلك لا ينبغي كل وقت، ففي حالة الصوم آكد.
(2) صيانة لصيامهم.
(3) من المعاصي، فيسقط أجره، ولا يفطر بغيبة ونحوها، وفاقًا، وقال أحمد: لو كانت الغيبة تفطر، ما كان لنا صوم. وذكره الموفق إجماعًا، لأن فرض الصوم بظاهر القرآن، الإمساك عن الأكل، والشرب، والجماع، وظاهره صحته، إلا ما خصه دليل ولم يأمر صلى الله عليه وسلم من اغتاب بترك صيامه، ولكن قد يكثر، فيزيد على الصوم، وقد يقل، وقد يتساويان، قال الشيخ: وهذا مما لا نزاع فيه. وقال الوزير: اتفقوا على أن الكذب والغيبة يكرهان للصائم، ولا يفطرانه، وإن صومه صحيح في الحكم.(5/390)
(وسن) كثرة قراءة، وذكر، وصدقة(1) وكف لسانه عما يكره(2) وسن (لمن شتم قوله) جهرًا (إني صائم)(3) لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن شاتمه أحد، أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم»(4) (و) سن (تأْخير سحور)(5).
__________
(1) لتضاعف الحسنات به، وكان مالك يترك الحديث فيه، ويقبل على تلاوة القرآن، وكان الشافعي يختم ستين ختمة، وقال إبرهيم:تسبيحة في رمضان خير من ألف تسبيحة فيما سواه وأخبار مضاعفة الأعمال الصالحة، في رمضان، متظاهرة، والصدقة فيه أفضل، للأخبار الواردة في ذلك.
(2) فيسن له أن يسعى في حفظ لسانه، عن جميع الكلام، إلا ما ظهرت فيه مصلحته، قال عليه الصلاة والسلام «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت» وعن المباح لقوله «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
(3) أي قول الصائم جهرًا، في رمضان وغيره: إني صائم؛ وهو ظاهر المنتهى، واختاره الشيخ، لأن القول المطلق باللسان، وفي الفرض لا نزاع فيه، حكاه ابن العربي وغيره، وإنما الخلاف في التطوع بعدًا عن الرياء.
(4) متفق عليه، من حديث أبي هريرة، ولفظه «إذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث يومئذ، ولا يصخب فإن شاتمه» الحديث، وظاهره أنه يجهر بذلك، واختار المجد: في رمضان، لبعده عن الرياء، وليس مختصًا بالصائم، لكنه في حقه آكد، «والرفث» هو السخف، وفاحش الكلام، «والجهل» قريب منه، وهو خلاف الصواب. «وشاتمه» أي شتمه، متعرضًا لمشاتمته، «وقاتله» نازعه ودافعه.
(5) إجماعًا، حكاه الوزير وغيره، وجزم الشيخ وغيره: أن السنة للصائم،
أن يؤخر السحور، والسحور – بفتح السين – اسم لما يؤكل في السحر، وبالضم: اسم للفعل على الأشهر، وقيل: في اسم الفعل الفتح أيضًا، والمراد هنا الفعل فيكون بالضم على الصحيح الأشهر، وكل ما حصل من أكل، أو شرب، حصل به فضيلة السحور، لقوله «ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء» ولأبي داود «نعم سحور المؤمن التمر».(5/391)
إن لم يخش طلوع فجر ثان(1) لقول زيد بن ثابت: تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة. قلت: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسين آية. متفق عليه(2)
__________
(1) ذكره أبو الخطاب، والأصحاب، ويحرم الأكل وغيره: بطلوع الفجر وفاقًا، بل في قول عامة الفقهاء، للآية والأخبار، وما بعد الفجر من النهار، لا من الليل إجماعًا.
(2) ولقوله «كلوا واشربوا، حتى يعترض لكم الأحمر» رواه الترمذي وغيره، وقال: العمل عليه عند أهل العلم. ولقوله «كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم»، وفيه الاعتماد على صوت المؤذن، وجواز الأكل بعد النية، ولأحمد عن أبي ذر: «لا تزال أمتي بخير، ما أخروا السحور، وعجلوا الفطر» ولأنه أقوى على الصوم، وما كان أقرب إلى الفجر، كان أعون عليه، ولا نزاع في مطلوبيته.
وفي الحديث: «كلوا واشربوا حتى يستطير الفجر» ينتشر بياض الأفق معترضًا، وقال تعالى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ } والخيط اللون، وفي الحديث «سواد الليل وبياض النهار» وهل العبرة أول طلوعه، أو الاستطارة، أو الانتشار؟ استظهر الأكثر الانتشار، لتعريفهم الصادق به، قال ابن كثير، والنووي وغيرهما: فيه دليل على استحباب السحور، وتأخيره، لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب، ووردت السنة بالحث عليه وفي الصحيحين وغيرهما: «تسحروا، فإن في السحور بركة» ولأحمد «السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين» ولأنه يقوي على الصيام، وينشط له، وتحصل بسببه الرغبة في الازدياد من الصيام، لخفة المشقة فيه على المتحسر، ولمسلم «فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب آكلة السحر» لأن الله أباح لنا الطعام، وحرمه عليهم بعد أن يناموا،ومخالفتنا إياهم تقع موقع الشكر، لتلك النعمة، وفيه «إن هذا الدين يسر». فحكمته التقوى، أو مخالفة أهل الكتاب، وأحاديث الأمر بالتسحر، والحث عليه وتأخيره، وتعجيل الفطر، متواترة، حكاه الطحاوي وغيره. ولا يجب السحور، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا.(5/392)
.
وكره جماع مع شك في طلوع فجر، لا سحور(1) (و) يسن (تعجيل فطر)(2).
__________
(1) لما في الجماع مع الشك من التعرض لوجوب الكفارة، ولأنه ليس مما يتقوى به، ولا يستحب وفاقًا، وأما السحور مع الشك فلا يكره، وظاهر كلام الموفق: يستحب. قال أحمد: يأكل حتى يتيقن. وقال ابن عباس: كل، ما شككت، حتى لا تشك. وقال الصديق: يا غلام أجف الباب، لا يفجأنا الفجر. ولا يعرف لهما مخالف، بخلاف الجماع، وفي الصحيحين «حتى يؤذن ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر»، وفي لفظ «حتى يقال له: أصبحت، أصبحت» ولأبي داود «إذا سمع أحدكم النداء، والإناء في يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» والمراد – والله أعلم – ما لم يعلم طلوع الفجر، ولإمكان سرعة أكله وشربه، لتقارب وقته، واستدراك حاجته، واستشراف نفسه، وقوة نهمته، وتوجه شهوته، بجميع همته، مما يكاد يخاف عليه أنه لو منع منه لما امتنع، فأجازه الشارع رحمة عليه، وأما إذا علم انتشار الصبح، فيحرم اتفاقًا.
(2) إجماعًا، حكاه الوزير وغيره، وجزم به الشيخ وغيره.(5/393)
لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يزال الناس بخير، ما عجلوا الفطر» متفق عليه(1)
__________
(1) أي مدة فعلهم ذلك، امتثالاً للسنة، ولحديث عائشة: كان يعجل الإطار، صححه الترمذي، ولحديث أبي هريرة مرفوعًا «يقول الله تعالى إن أحب عبادي إلي، أعجلهم وفطرًا» رواه أحمد، والترمذي؛ ولأبي داود «لا يزال الدين ظاهرًا، ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون» ونحوه في الصحيحين، أي لا يزال أمر هذه الأمة معظمًا، وهم بخير، ما داموا محافظين على هذه السنة، وقوام الدين على مخالفة الأعداء، ولمسلم في رجلين، أحدهما يعجل الإفطار، ويعجل المغرب، والآخر بالعكس، قالت عائشة – في الذي يعجلهما -: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحافظ: ومن البدع المنكرة ما أحدث الناس من إيقاع الأذان الثاني، وطفي الأنوار، قبل ثلث ساعة لتحريم الأكل والشرب، للاحتياط، وجرهم إلى أنهم لا يؤذنون المغرب إلا بعد الغروب بدرجة، فأخروا الفطور، وعجلوا السحور، وخالفوا السنة، فلذلك قل عنهم الخير، وكثر فيهم الشر.
وقال ابن عبد البر وغيره: أحاديث تعجيل الفطور، وتأخير السحور، صحيحة متواترة. وقوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } يقتضي الإفطار عند غروب الشمس، حكمًا شرعيًا، لما في الصحيحين وغيرهما «إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم» أي دخل في وقت الفطر، وجاز له أن يفطر، أو انقضى صومه وتم، ولا يوصف بأنه صائم، فإن بغروب الشمس خرج النهار، وليس الليل محلاً للصوم.
وقال النووي: هي متلازمة، وإنما جمع بينهما لأنه قد يكون في واد ونحوه، بحيث لا يشاهد غروبها، فيعتمد إقبال الظلام، وإدبار الضياء، وأجمعوا على أن
الصوم ينقضي ويتم، بتمام الغروب، وأنه يدخل فيه بالفجر الثاني، وقال الشيخ: إذا غاب جميع القرص، أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة، الباقية في الأفق، وإذا غاب جميع القرص، ظهر السواد من المشرق، كما قال صلى الله عليه وسلم «إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا، فقط أفطر الصائم». ويعرف في العمران بزوال الشعاع، وإقبال الظلام من المشرق، للنهي عن الوصال، ومن أحب أن يمسك إلى السحر فله ذلك، لما في الصحيحين «فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر».(5/394)
.
والمراد إذا تحقق غروب الشمس(1) وله الفطر بغلبة الظن(2).
__________
(1) إجماعًا، فإن شك كره.
(2) وفاقًا، إقامة له مقام اليقين، ولأن الناس أفطروا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، وكذلك أفطر عمر والناس في عهده كذلك، ولأن ما عليه أمارة، يدخله التحري كالوقت، والاحتياط إلى أن يتيقن، قال الشيخ: ومع الغيم المطبق، لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك، إلا بعد أن يذهب وقت طويل من الليل، يفوت المغرب، ويفوت تعجيل الفطور، والمصلي مأمور بصلاة المغرب، وتعجيلها، وثبت في صحيح البخاري، عن أسماء: أفطرنا يومًا من رمضان في غيم، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس. فدل على أنه لا يستحب التأخير مع الغيم، إلى أن يتيقن الغروب، فإنهم لم يفعلوا ذلك، ولم يأمرهم به، والصحابة مع نبيهم أعلم، وأطوع لله ورسوله، والفطر قبل صلاة المغرب أفضل، بالاتفاق، ولخبر عائشة، رواه مسلم، ولخبر أنس: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى يفطر، ولو على شربةٍ من ماء. رواه ابن عبد البر، وقد يستثنى ما لو أقيمت الجماعة، وكان بحيث لو أفطر على نحو تمر، بقي بين أسنانه، ولو اشتغل به فاتته الجماعة، أو فضيلة الإحرام مع الإمام، ما لم يكن بحضرة طعام.(5/395)
وتحصل فضيلته بشرب، وكمالها بأَكل(1) ويكون (على رطب)(2) لحديث أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات، قبل أن يصلي، فإن لم تكن فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات، حسا حسوات من ماء. رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن غريب(3).
__________
(1) أي وتحصل فضيلة الفطر بشرب، لقوله «ولو أن يجرع جرعة من ماء» وكمال الفضيلة بأكل، من أي نوع من المأكولات.
(2) أي ويسن أن يكون الفطور على رطب، نضيج البسر قبل أن ييبس، جمع «رطبة» بضم ففتح.
(3) أي قال الترمذي: حسن باعتبار سنده، غريب باعتبار كونه من طريق واحد، ويجوز تشديد النون من «تكن» وتخفيفها، فالتشديد على معنى: فإن لم يكنَّ رطبات. والتخفيف على معنى: فإن لم يكن رطب. واستظهر التشديد ابن نصر الله وغيره، وفيه سنية تعجيل الفطور، وأنه على رطب، قدمه على اليابس، فيقدم عليه إن وجد، فإن لم يوجد فيفطر على تمرات، ولفظ الطبراني: وإذا لم يكن رطب، لم يصل حتى يأتيه بتمر وماء. لأن التمر حلو، وكل حلو يقوي البصر، وله وصححه «إذا أفطر أحدكم، فليفطر على تمر، فإن لم يجد فعلى ماء فإنه طهور» ولو كان بمكة، لأنه صلى الله عليه وسلم صام بمكة عام الفتح أيامًا من رمضان، ولم ينقل عنه في ذلك ما يخالف عادته المستقرة، من تقديم التمر، وفي معنى الرطب والتمر كل حلو لم تمسه النار، لأنه يرد للبصر ما زاغ منه بالصوم «وحسا حسوات» أي شرب شربات من ماء.
وقال ابن القيم: هذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، ونصحه
لهم، فإن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو، مع خلو المعدة، أدعى إلى قبوله، وانتفاع القوى به، لا سيما القوى الباصرة، فإنها تقوى به، وأما الماء، فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإن رطبت بالماء، كمل انتفاعها بالغذاء وبعده، هذا مع ما في التمر والماء من الخاصية، التي لها تأثير في صلاح القلب، لا يعلمها إلا أطباء القلوب.(5/396)
(فإن عدم) الرطب (فتمر(1) فإن عدم فـ) على (ماء) لما تقدم(2) (وقول ما ورد) عند فطره(3) ومنه «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبل مني، إنك أنت السميع العليم»(4).
__________
(1) أي فإن عدم الرطب، أفطر على تمر، وهو يابسه.
(2) من قوله: وتحصل فضيلته بشرب. وقوله في حديث أنس: فإن لم تكن تمرات، حسا حسوات من ماء. وفي صحيح مسلم «فاجدح لنا» وهو خلط السويق بالماء، فنزل فجدح له، فشرب، وروي عن جماعة من الصحابة آثار تدل على أن الإفطار بما ذكر سنة.
(3) فإن للصائم دعوة لا ترد، كما في الحديث «للصائم عند فطره دعوة لا ترد» رواه ابن ماجه، وللترمذي وحسنه «ثلاثة لا ترد دعوتهم» منهم «الصائم حتى يفطر».
(4) رواه الدارقطني وغيره من حديث أنس، وابن عباس، وأوله «إذا أفطر أحدكم، فليقل» فدل على أنه قبل الفطر، وعن ابن عمر: اللهم إني أسألك رحمتك التي وسعت كل شيء، أن تغفر لي ذنوبي. وإن شاء قال بعد «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت»: فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت،وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت،
اللهم إنك عفو، تحب العفو، فاعف عني. ويستحب تفطير الصائم، لحديث «من فطر صائمًا فله مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء» رواه الترمذي وغيره وصححه، قال الشيخ: المراد أن يشبعه.(5/397)
(ويستحب القضاء) أي: قضاء رمضان، فورًا (متتابعًا)(1) لأن القضاء يحكي الأداء(2) وسواء أفطر بسبب محرم، أو لا(3) وإن لم يقض على الفور، وجب العزم عليه(4).
__________
(1) وفاقًا، مسارعة لبراءة ذمته، ولا بأس أن يفرقه وفاقًا، وقاله البخاري عن ابن عباس، لقوله { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وعن ابن عمر مرفوعًا «قضاء رمضان إن شاء فرق، وإن شاء تابع» رواه الدارقطني، وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن تقطيع قضاء رمضان، قال «ذاك إليك، أرأيت لو كان على أحد دين، فقضاه الدرهم والدرهمين، ألم يكن قضى؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر» رواه الدارقطني، وحسن إسناده، ولأنه لا يتعلق بزمان معين، فلم يجب فيه التتابع، كالنذر المطلق. إلا إذا لم يبق من شعبان إلا قدر ما عليه، فيجب التتابع إجماعًا، لضيق الوقت، كأداء رمضان، في حق من لا عذر له، ولا يكره في عشر ذي الحجة، لأنها أيام عبادة، كعشر المحرم، ,واستحبه ابن عمر، ويقدم رمضان على نذر لا يخاف فوته، لتأكد القضاء، فإن خاف فوت النذر قدمه، ومن فاته رمضان، قضاه عدد أيامه، تامًا كان، أو ناقصًا إجماعًا.
(2) أي يساويه، وفيه خروج من الخلاف.
(3) أي أو أفطر بسبب غير محرم، يستحب القضاء على الفور متتابعًا.
(4) قال النووي: الصحيح عند محققي الفقهاء وأهل الأصول فيه، وفي كل واجب موسع، أنه يجوز تأخيره، بشرط العزم عليه، وأجاز جماعة من الصحابة وغيرهم الأمرين، وقال المجد: يجوز تأخير قضاء رمضان بلا عذر، ما لم يدرك
رمضان ثان، ولا نعلم فيه خلافًا. وكذا ذكر غير واحد، مذهب الأئمة، وجماهير السلف والخلف، أن القضاء يجب على التراخي، ولا يشترط المبادرة به في أول الإمكان، وتقدم قول الشيخ: إنه لا يأثم بتأخير قضاء رمضان ولو مات، لأنه وقت موسع.(5/398)
(ولا يجوز) تأخير قضائه (إلى رمضان آخر، من غير عذر)(1) لقول عائشة: كان يكون على الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه(2) فلا يجوز التطوع قبله، ولا يصح(3).
__________
(1) نص عليه وفاقًا، «ورمضان آخر» مصروف، لأنه نكرة، لوصفه بـ«آخر» وكذا كل معرفة وصفت بـ«آخر» فإنها تنكر.
(2) أي من كونها مهيئة نفسها له صلى الله عليه وسلم، متربصة لاستمتاعه في جميع أوقاتها، إن أراد ذلك، وهذا من الأدب، ولا ريب في إطلاعه على ذلك، واتفق أهل العلم أنها لا يحل لها صوم التطوع وزوجها حاضر، إلا بإذنه، وإنما كانت تصومه في شعبان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم معظم شعبان، فلا حاجة له فيها حينئذ في النهار، ولأنه إذا جاء شعبان، يضيق قضاء رمضان، فلا يجوز تأخيره عنه.
(3) نص عليه لخبر «من أدرك رمضان، وعليه من رمضان شيء لم يقضه، لم يتقبل منه صومه» لكن قال الموفق وغيره: متروك. ونقل حنبل: لا يجوز، بل يبدأ بالفرض حتى يقضيه. ولأن المبادرة إلى إبراء الذمة، من أكبر العمل الصالح، وعنه: يجوز، ويصح وفاقًا، وصوبه في تصحيح الفروع وغيره، للعموم، وكالتطوع بصلاة في وقت فرض متسع قبل فعله، فالأوجه أن يصوم العشر ونحوها تطوعًا وقضاء، والتطوع أفضل، كالسنن الراتبة، في أول وقت الصلاة، واستظهر صاحب التنقيح وغيره الجواز مع سعة الوقت، وصححه في تصحيح الفروع.(5/399)
(فإن فعل) أي: أَخره بلا عذر، حرم عليه(1) وحينئذ (فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم)(2) ما يجزئ في كفارة، رواه سعيد، بإسناد جيد، عن ابن عباس(3) والدارقطني بإسناد صحيح، عن أبي هريرة(4) وإن كان لعذر، فلا شيء عليه(5).
__________
(1) لأن مقتضاه وجوب القضاء على الفور، وكما لا تؤخر الصلاة الأولى إلى الثانية، خولف في المعذور، فيبقى ما عداه على الأصل.
(2) وجوبًا، وفاقًا، لمالك والشافعي، وقال الوزير: أجمعوا أنه إن أخره لغير عذر يقضي، وعليه الفدية. وقال الشيخ: إن ترك الأداء لغير عذر وجبت، وإلا فلا.
(3) ولفظه: فإذا قضى أطعم.
(4) ورواه مرفوعًا من حديث أبي هريرة، لكن فيه ضعف، وروي نحوه عن ابن عمر، وذكره غيره عن جماعة من الصحابة، وقال يحيى بن أكثم: لا أعلم لهم مخالفًا. والمجزئ من البرمُدُّ، ومن غيره مُدَّانِ، ويجوز قبل القضاء وبعده، وقال المجد: الأفضل عندنا تقديمه، مسارعة إلى الخير، وتخلصًا من آفات التأخير.
(5) أي وإن كان التأخير إلى رمضان آخر لعذر، كمرض، أو سفر، أو ضيق وقت، ونحو ذلك فيقضي فقط، بلا إطعام وفاقًا، ومن دام عذره بين الرمضانين، ثم زال، صام الرمضان الذي أدركه، ثم قضى ما فاته، ولا إطعام وفاقًا.(5/400)
(وإن مات) بعد أَن أَخره لعذر، فلا شيء عليه(1) ولغير عذر أَطعم عنه، لكل يوم مسكين، كما تقدم(2) (ولو بعد رمضان آخر)(3) لأَنه بإخراج كفارة واحدة زال تفريطه(4) والإطعام من رأس ماله، أَوصى به أو لا(5).
__________
(1) أي لا شيء عليه، وذكره النووي اتفاق أهل العلم، ولو مضى عليه أحوال، لأنه حق لله تعالى، وجب بالشرع، ومات من وجب عليه، قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل، كالحج، وأما الحي، فتسقط الكفارة، دون القضاء، لإمكانه.
(2) أي من خبر ابن عباس، وأبي هريرة، ولفظ أبي داود: قال ابن عباس: إذا مرض الرجل في رمضان، ثم مات ولم يصم، أطعم عنه، ولم يكن عليه قضاء، وإن نذر قضى عنه وليه، وللترمذي عن ابن عمر مرفوعًا «من مات وعليه صيام شهر رمضان، فليطعم عنه كل يوم مسكين» وقال: الصحيح أنه موقوف، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقال ابن القيم – في قول ابن عباس: يطعم عن الفرض، ويقضى عن النذر -: هذا أعدل الأقوال، وعليه يدل كلام الصحابة، وبه يزول الإشكال.
(3) فأكثر، لم يلزمه لكل سنة فدية.
(4) بالتأخير، أشبه ما لو مات من غير تفريط، ولأنه إنما لزمه للتأخير عن وقته، وكثرة التأخير لا يزاد بها الواجب، كما لو أخر الحج لسبب، لم يكن عليه أكثر من فعله.
(5) أي أو لم يوص به، يخرج من رأس ماله، كسائر الديون.(5/401)
وإن مات وعليه صوم كفارة، أطعم عنه،كصوم متعة(1) ولا يقضى عنه ما وجب بأَصل الشرع، من صلاة وصوم(2)
__________
(1) أي أطعم عنه لكل يوم مسكين، كما يطعم عنه فيما إذا مات وعليه صوم متعة حج، ولا يجزئ صوم كفارة عن ميت، وإن أوصى به، وفاقًا.
(2) لأنه لا تدخله النيابة في الحياة، فكذا بعد الموت، وكذا الاعتكاف، ولا فدية، لعدم ورود ذلك، ونقل جميع الإجماع، والمراد إجماع الأكثر، والنسائي وغيره «لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصومن أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه» وعن ابن عمر نحوه، رواه عبد الرزاق، قال مالك: ولم أسمع عن أحد من الصحابة، ولا من التابعين أمر بصوم، أو صلاة عن أحد، ونقل الجماعة: لا تفعل عنه. وفاقًا، وأجمعوا على أن الصلاة المفروضة، من الفروض التي لا تصح فيها النيابة، بنفس، ولا مال، لأنها عبادة بدنية، محضة، لا يخلفها مال، ولا يجب بإفسادها، ونقل القاضي وغيره الإجماع على أنه لا يصلى عنه صلاة فائتة، وأنه لا يصام عن أحد في حياته.
وقال ابن القيم: يصام عنه النذر، دون الفرض الأصلي، وهذا مذهب أحمد وغيره، والمنصوص عن ابن عباس، وعائشة؛ ولا تعارض بين روايتهما ورأيهما، وبهذا يظهر اتفاق الروايات، وموافقة فتاوى الصحابة، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأن النذر ليس واجبًا بأصل الشرع، وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدين، ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدين، وأما الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداء، فهو أحد أركان الإسلام، فلا تدخله النيابة بحال، كما لا تدخل الصلاة والشهادتين، فإن المقصود منهما طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحق العبودية التي خلق لها، وأمر بها، وهذا لا يؤديه عنه غيره، ولا يصلي عنه غيره، وهكذا من ترك الحج عمدًا، مع القدرة عليه حتى
مات، أو ترك الزكاة، فلم يخرجها حتى مات، فإن مقتضى الدليل، وقواعد الشرع إن فعلها عنه أحد بعد الموت، لا يبرئ ذمته، ولا تقبل منه، والحق أحق أن يتبع.
وقال الشيخ: يطعم عنه كل يوم مسكين، وبذلك أخذ أحمد وإسحاق، وغيرهما، وهذا مقتضى النظر، كما هو موجب الأثر، فإن النذر كان ثابتًا في الذمة، فيفعل عنه بعد الموت، وأما صوم رمضان، فإن الله لم يوجبه على عاجز عنه، بل أمر العاجز بالفدية، طعام مسكين، والقضاء إنما يجب على من قدر عليه، لا على من عجز عنه، فلا يحتاج أن يقضي أحد عن أحد، وأما الصوم وغيره من المنذورات، فيفعل عنه بلا خلاف، للأحاديث الصحيحة، والواجب بالشرع، أيسر من الواجب بالنذر. وقال: وأما الصلاة فلا يصلي أحد عن أحد، ولكن إذا صلى عن الميت أحد أبويه تطوعًا، وأهداه له، أو صام عنه تطوعًا، وأهداه له، نفعه ذلك. وقال في حديث «من مات وعليه صوم، صام عنه وليه» إنه إن تبرع بصوم عمن لا يطيقه، لكبر ونحوه، أو عن ميت، وهما معسران، يتوجه جوازه، لأنه أقرب إلى المماثلة من المال.(5/402)
.
(وإن مات وعليه صوم) نذر(1) (أو حج) نذر(2).
(أو اعتكاف) نذر(3) (أو صلاة نذر، استحب لوليه قضاؤه)(4) لما في الصحيحين: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أُمي ماتت وعليها صوم نذر، أَفأَصوم عنها؟، قال «نعم»(5) ولأن النيابة تدخل في العبادة بحسب خفتها، وهو أخف حكمًا من الواجب بأصل الشرع(6) والولي: هو الوارث(7).
__________
(1) استحب لوليه قضاء نذر الصوم عنه، نص عليه، وعليه الأصحاب، وتقدمت الأدلة عليه، مع ما يأتي، قال الموفق: ولا إطعام فيه بعد الموت، بخلاف رمضان، وقال هو والشيخ وغيرهما: ولا كفارة مع الصوم عنه، ولا إطعام.
(2) استحب لوليه حج النذر عنه، وهو مذهب الشافعي، لصريح خبر ابن عباس فيمن نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت؛ أفأحج عنها؟ قال «نعم، حجي عنها» رواه البخاري وغيره، من غير وجه، قال في الفروع: ومن اعتذر عن ترك القول بذلك هنا، أو في الصوم، باضطراب الأخبار، فهو عذر باطل، لصحة ذلك عن أئمة الحديث.
(3) استحب لوليه الاعتكاف عنه، نقله الجماعة، وهو قول الشافعي، وقال سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه. فقال «اقضه عنها» رواه أبو داود، والنسائي، بسند صحيح، ومعناه في الصحيحين، ولأنه يروى عن عائشة، وابن عباس، وابن عمر، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة.
(4) نص عليه، وعليه الأصحاب.
(5) أي صومي عنها، وفيه: فقال «أفرأيت لو كان على أمك دين، فقضيتيه عنها، أكان ذلك يؤدي عنها؟» قالت: نعم. قال «فصومي عن أمك» وفي الباب أحاديث أخر.
(6) أي والنذر أخف من الواجب بأصل الشرع في الحكم، لكونه لم يجب بأصل الشرع، وإنما أوجبه الناذر على نفسه، فصحت النيابة فيه.
(7) فإن لم يخلف الناذر ونحوه تركة، لم يلزم الولي شيء اتفاقًا، لكن يسن فعله عنه، لتفرغ ذمته، كقضاء دينه، قال النووي وغيره: الولي القريب، عصبة أو نسبًا، وارثًا، أو غير وارث.(5/403)
فإن صام غيره جاز مطلقًا، لأنه تبرع(1) وإن خلف تركة وجب الفعل(2) فيفعله الولي، أو يدفع إلى من يفعله عنه(3) ويدفع في الصوم عن كل يوم مسكين(4) وهذا كله فيمن أَمكنه صوم ما نذره فلم يصمه(5).
__________
(1) أي وإن صام عن الميت – الذي وجب عليه النذر – غير ولي الميت، جاز مطلقًا، بإذن الولي والورثة وعدمه، لأن ذلك الصيام من الأجنبي تبرع، فجاز منه، كقضاء الدين، لأنه عليه الصلاة والسلام شبهه بالدين.
(2) أي فعل النذر على ما تقدم، وكقضاء الدين.
(3) أي يفعل الولي ذلك النذر، وكذا حجة الإسلام، بنفسه استحبابًا، أو يدفع من تركته إلى من يفعل عنه ذلك، ويجوز أن يحج عنه بإذن وليه، بلا نزاع، وبدونه على الصحيح من المذهب، ويجزئ صوم جماعة عنه في يوم واحد، عن عدتهم من الأيام، إلا فيما يشترط فيه التتابع، فلا تصح النيابة إلا من واحد، لا من جماعة، اختاره المجد، والنووي، واستظهره في الفروع، وصححه في تصحيحها.
(4) أي فإن لم يفعل الولي، فعليه أن يدفع في الصوم، عن كل يوم طعام مسكين، لأنه فدية الصوم، ولا كفارة مع الصوم عنه، أو الإطعام، وكذا اختار الشيخ وغيره أن الصوم عنه بدل، يجزئ بلا كفارة.
(5) أي كل ما تقدم لا يلزم إلا في حق شخص أمكنه صوم ما نذره، بأن مضى ما يتسع لفعله قبل موته فلم يصمه، فيفعل عنه، لثبوته في ذمته، كقضاء دينه من تركته.(5/404)
فلو أمكنه بعضه قضي ذلك البعض فقط(1) والعمرة في ذلك كالحج(2).
باب صوم التطوع(3)
__________
(1) أي دون البعض الآخر، كمن نذر صوم شهر، ومات قبل ثلاثين يومًا، فيصام عنه ما مضى منه، دون الباقي، لأنه لم يثبت في ذمته، بخلاف المقدار الذي أدركه، فإنه يثبت في ذمته، وإن كان مريضًا، لأن المرض لا ينافي ثبوت الصوم في ذمته، بدليل وجوب قضاء رمضان مع المرض ونحوه، وكذا لو نذر صوم شهر معين، فمات في أثنائه، فعل عنه ما مضى من الشهر، إذا لم يفعله لمرض ونحوه، وكذا لو مات وعليه حج منذور، فعل عنه، ولو لم يمكنه فعله في حياته، لجواز النيابة فيه حال الحياة، فبعد الموت أولى، ومن مات قبل دخول شهر نذر صومه، لم يصم، ولم يقض عنه، قال المجد: هذا مذهب سائر الأئمة، ولا أعلم فيه خلافًا.
(2) أي العمرة، في أنها تلزم بالنذر، كالحج في لزومه، لكن لا يعتبر تمكنه في حياته، على الصحيح من المذهب، ومن مات عليه صوم من كفارة، أو متعة، أو قران، ونحوه، أطعم عنه من رأس ماله.
(3) وما نهي عن صومه، وذكر ليلة القدر، وما يتعلق بذلك، «وتطوع بالشيء» تبرع به، وتقدم.(5/405)
وفيه فضل عظيم(1) لحديث «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة، ضعف، فيقول الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به»(2).
__________
(1) كما دلت عليه الآيات والأحاديث، وقال أحمد: الصوم أفضل ما تطوع به.
(2) فإنه أحب العبادات إليه، ولا ينحصر تضعيفه، ومن الصبر، والصبر ثوابه الجنة،وخصه تعالى بإضافته إليه، قال «يدع طعامه، وشرابه من أجلي» وله من الفضائل والمثوبة، ما لا يحصيه إلا الله، لأنه سر بين الله وبين عبده، لا يطلع عليه سواه، فلا يكون العبد صائمًا حقيقة، إلا وهو مخلص في الطاعة، وقيل: لأنه لا يدخله الرياء، وقيل: جميع العبادات، عبد المشركون بها آلهتهم، إلا الصوم. فلذلك قال الله تعالى «إلا الصوم فإنه لي» لأنه يدع طعامه، وشرابه، وشهواته، من أجل ربه في صورة من لا حاجة له في الدنيا إلا رضى الله «وأنا أجزي به» لأنه لم يشاركني فيه أحد، ولا عبد به غيري، لأنه ليس يظهر من ابن آدم بلسانه، ولا يفعل فتكتبه الحفظة، إنما هو نية في القلب، وإمساك عن حركة المطعم، والمشرب، والجماع، فأنا أتولى الجزاء عليه بنفسي، على قدر اختصاصه بي، فدل على عظم فضل الصوم، والحث عليه، وكثرة ثوابه، لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء، اقتضى عظم قدر الجزاء، وسعة العطاء.(5/406)
وهذه الإضافة للتشريف والتعظيم(1) (يسن صيام) ثلاثة أيام من كل شهر(2) والأفضل أن يجعلها (أيام) الليالي (البيض)(3) لما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له «إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر» رواه الترمذي وحسنه(4).
__________
(1) كبيت الله، وما أضيف إليه تعالى، كان أشرف وأعظم.
(2) وفاقًا، وفي الشرح والمبدع وغيرهما: بغير خلاف نعلمه. ويحصل له بصيامها أجر صوم الدهر، الحسنة بعشر أمثالها، من غير حصول ما في صوم الدهر من المشقة، لما في الصحيحين أنه قال لعبد الله بن عمرو «صم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر» قال الشيخ: مراده أن من فعل، هذا، حصل له أجر صيام الدهر، بتضعيف الأجر. ولمسلم «يصوم من كل شهر ثلاثة أيام» وللبخاري من حديث أبي هريرة «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر» الحديث. ولأبي داود، والنسائي وغيرهما «ثلاثة من كل شهر أول اثنين وخميسين» ولمسلم «ما يبالي من أي الشهر صام» فيحصل أصل السنة بصوم ثلاثة من أيام الشهر.
(3) وهو قول أكثر أهل العلم، وحكاه الوزير اتفاقًا، وفي الإنصاف: بلا نزاع. ويشير بأن «البيض» صفة لمضاف محذوف، أقيم مقام موصوفها، وفي الإنصاف كغيره، ما يشير إلى أن الإضافة بيانية، وهي الليالي التي لياليهن مقمرة، وهي ليلة البدر، وما قبلها وما بعدها، خصت لتعميم لياليها بالنور المناسب للعبادة، والشكر على ذلك.
(4) ورواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم، من طرق
متعددة، وفي رواية «هو كصوم الدهر» وللنسائي بسند صحيح «صيام ثلاثة أيام من كل شهر، صيام الدهر، أيام البيض» وقيل: من داوم على صيامها، لم يعتل. لأن الفضلات تهيج في البدن في كل شهر، وهذه الليالي أشد، لقوة القمر، والصوم يذهب فضلات البدن، فمن صامها سلم.(5/407)
وسميت بيضًا لبياض(*) لياليها كلها بالقمر(1) (و) يسن صوم (الاثنين والخميس)(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «هما يومان تعرض فيهما الأَعمال، على رب العالمين, وأُحب أَن يعرض عملي وأنا صائم» رواه أحمد والنسائي(3).
(و) صوم (ست من شوال)(4)
__________
(1) وهو قول أكثر أهل اللغة والحديث، وذكر أبو الحسين التميمي: أن الله تاب فيها على آدم، وبيض صحيفته. والثلاثة الأولى من الشهر تسمى: الغرر، والتي تليها النفل، والتي تليها التسع، والتي تليها العشر، والتي تليها البيض، والتي تليها الدرع، والتي تليها الظلم، والتي تليها الحنادس، والتي تليها الدآدي، والتي تليها المحاق، ونظمها بعضهم فقال:
الشهر لياليه قسم
فلكل ثلاث خص سُمُ
منها غرر ونفل وتسع
عشر بيض درع ظلم
فحنادسها فدآدؤها
فمحاق ثم فتختتم
(2) بغير خلافة، «والاثنين» بهمزة الوصل، سمي بذلك لأنه ثاني الأسبوع، ولا يثنى، لأنه مثنى، وجمعه أثانين، «والخميس» لأنه خامس الأسبوع، وجمعه: أخمساء وأخمسة.
(3) ولفظ أبي داود: وكان يصومهما فسئل عن ذلك، فقال: «إن أعمال الناس
ـــــــــــ
(*) وفي نسخة: لا بيضاض.
تعرض يوم الاثنين، والخميس»، وقال له رجل: أرأيت الاثنين؟، قال «فيه ولدت، وفيه أنزل علي القرآن»، رواه مسلم. فينبغي تعظيمهما بصومهما، والتقرب إلى الله بالعبادة فيهما، شكرًا لله.
(4) قال الموفق: بغير خلاف. وقال النووي وغيره: وكرهه مالك وغيره، وعللوه بأنه ربما ظن وجوبها، وهو باطل، في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة، ولا تترك السنة لترك بعض الناس، أو أكثرهم أو كلهم لها، ويلزم ذلك في سائر أنواع الصوم وغيره، المرغب فيه، ولا قائل به. اهـ. وصائمها مع رمضان كأنما صام الدهر.
وسمي «شوال» من: شالت الإبل بأذنابها للطراق، «وست» أصله «سدس» لأن تصغيره سديسة، وجمعها أسداس، وورد في الحديث الصحيح هكذا بغير تاء، والمراد الأيام لأن العرب تغلب في التأريخ الليالي على الأيام، ويحتمل أنه على حذف مضافين، التقدير: «وأتبعه بصيام أيام ست ليال».(5/408)
لحديث «من صام رمضان، وأَتبعه بست من شوال، فكأنما صام الدهر» أخرجه مسلم(1).
__________
(1) ورواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، من ثلاثة أوجه، حتى قيل إنه متواتر، وروى سعيد عن ثوبان مرفوعًا «من صام رمضان، شهر بعشرة، وصام ستة أيام بعد الفطر، وذلك سنة» يعني أن الحسنة بعشر أمثالها، فذلك سنة كاملة، كما جاء مفسرًا في رواية، سندها حسن «صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام من شوال بشهرين، فذلك صيام السنة» أي مثل صيامها، والمراد التشبيه في حصول العبادة به، على وجه لا مشقة فيه، وإنما كره صوم الدهر، لما فيه من الضعف، والتشبه بالتبتل، ولولا ذلك لكان فيه فضل عظيم، لاستغراق الزمان بالطاعة والعبادة.(5/409)
ويستحب تتابعها(1) وكونها عقب العيد، لما فيه من المسارعة إلى الخير(2) (و) صوم (شهر المحرم)(3) لحديث «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم» رواه مسلم(4).
__________
(1) أي صوم ستة الأيام من شوال متتابعة، وهو ظاهر الخرقي وغيره، قال في الفروع: ويحصل فضلها متتابعة ومتفرقة، ذكره جماعة، وهو ظاهر كلام أحمد، وقال: في أول الشهر وآخره. واختاره الشيخ وغيره، لظاهر الخبر، وذكره قول الجمهور، وذكر بعض أهل العلم أنها تحصل الفضيلة بصومها في غير شوال، كما في خبر ثوبان، وغيره «وصام ستة أيام بعد الفطر» ولعل تقييده بشوال، لسهولة الصوم فيه لاعتياده.
(2) واستحبه الشافعي وغيره، واستظهره في الفروع، وقال: ولعله مراد أحمد والأصحاب. قال الشيخ: وسمى بعض الناس الثامن عيد الأبرار، ولا يجوز اعتقاده عيدًا، فإنه ليس بعيد إجماعًا، ولا شعائره شعائر العيد.
(3) وهو أفضل الصيام بعد شهر رمضان، وهو أول شهور العام، وسمي المحرم، لكونه شهرًا محرمًا، تصريحًا بفضله، وتأكيدًا لتحريمه، لأن العرب كانت تتقلب فيه، فتحله عامًا، وتحرمه عامًا.
(4) من حديث أبي هريرة، ورواه أهل السنن وغيرهم، أي: أفضل شهر تطوع به كاملاً، بعد شهر رمضان، شهر الله المحرم، لأن بعض التطوع قد يكون أفضل من أيامه، كعرفة، وعشر ذي الحجة، فالتطوع المطلق، أفضله المحرم، كما أن أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يكثر فيه الصوم، إما لعذر، أو لم يعلم فضله إلا أخيرًا، وإضافته إلى الله تعالى تفخيمًا وتعظيمًا، كقولهم: بيت الله. قال بعض الفقهاء: وهو أفضل الأشهر، يعني بعد رمضان.(5/410)
(وآكده العاشر، ثم التاسع)(1) لقوله صلى الله عليه وسلم «لئن بقيت إلى قابل لأَصومن التاسع والعاشر» احتج به أحمد(2) وقال: إن اشتبه عليه أول الشهر، صام ثلاثة
__________
(1) وعبارة غيره: وأفضله العاشر. وسمي عاشوراء، بالمد في الأشهر، وهو اسم إسلامي، لا يعرف في الجاهلية, وهو العاشر من المحرم، رواه الترمذي مرفوعًا وصححه، وأجمعوا على سنية صيام عاشوراء، وأنه ليس بواجب، وقال القاضي: حصل الإجماع على أنه ليس بفرض، وإنما هو مستحب، وعن أحمد: وجب ثم نسخ، اختاره الموفق، والشارح، والشيخ، وغيرهم، وفاقًا لأبي حنيفة، وبقي استحبابه إجماعًا، والأخبار فيه مستفيضة، أو متواترة.
وسئل بن عباس عن صيامه فقال: ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرًا إلا هذا الشهر. يعني رمضان، رواه مسلم.
(2) ورواه هو، والخلال, وغيرهما: بإسناد جيد عن ابن عباس، ولفظ مسلم عنه «لئن بقيت إلى عام المقبل، لأصومن التاسع» وفي رواية «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله، صمت اليوم التاسع» واستحب جمهور العلماء: الجمع بينهما، لأنه صلى الله عليه وسلم، صام العاشر، ونوى صيام التاسع، وهما أفضل الشهر، وقال بعض أهل العلم: لعل السبب في صوم التاسع مع العاشر، أن لا يتشبه باليهود. وفي الحديث إشارة إليه، ولأحمد بسند ضعيف «صوموا يومًا قبله، ويومًا بعده» والمذهب كراهة إفراده، قال الشيخ: وهو مقتضى كلام أحمد، وقول ابن عباس رضي الله عنهما، وقال في موضع: لا يكره إفراده بالصوم، مع مبالغته في مخالفة المشركين.(5/411)
أيام ليتيقن صومهما(1) وصوم عاشوراء كفارة سنة(2)، ويسن فيه التوسعة على العيال(3)
__________
(1) أي التاسع والعاشر، وليس من صوم الشك المنهي عنه في شيء، فإن صوم الشك المنهي عنه، في أول رمضان، ومتى شك في أول الشهر، فليعتبر القمر ليلة اثني عشر، فإن غاب مع الفجر فذاك، أو تقدم عليه بنحو عشر درج، فهو ليلة أحد عشر.
(2) أي ماضية، للحديث الآتي، «إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله».
(3) وسأل ابن منصور أحمد عنه فقال: نعم، رواه سفيان، عن ابن المنتشر – وكان أفضل أهل زمانه – أنه بلغه «من وسع على عياله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر سنته» وقال أحمد، أيضًا: لا أصل له، وليس له إسناد ثابت. وقال الشيخ: موضوع، مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال – فيما نقل عن سفيان بن عيينة، أنه قال: جربناه منذ ستين عامًا، فوجدناه صحيحًا -: إنه لا حجة فيه، فإن الله أنعم عليه برزقه، وليس في إنعام الله بذلك أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء، وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه، وذكر أنه لا يتبع أحد في شيء، إلا أن يكون موافقًا لأمر الله ورسوله، وأن لا تعبد إلا بما شرع.
وقال: ما يفعل من الكحل، والاغتسال، والحنا، والمصافحة، وطبخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك، لم يرد في ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة، بل من البدع التي لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه، وإن كان يورد بعض أتباع الأئمة فيها آثارًا، ويقولون: إن بعض ذلك صحيح. فهم مخطئون، غالطون بلا ريب، عند أهل المعرفة بحقائق الأمور. وقال: وقوم يستحبون الاكتحال، والاغتسال، والتوسعة على العيال، واتخاذ أطعمة غير معتادة، وهو بدعة، وأصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين رضي الله عنه، «وكل بدعة ضلالة» ولم يستحب ذلك أحد من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولا عند من استحب ذلك حجة شرعية، بل المستحب يوم عاشوراء الصيام، عند جمهور أهل العلم.(5/412)
.
(و) صوم (تسع ذي الحجة)(1) لقوله عليه السلام «ما من أَيام العمل الصالح فيهن، أَحب إلى الله من هذه الأَيام العشر» قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل؟ قال «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء» رواه البخاري(2)
__________
(1) أي ويسن صوم تسع ذي الحجة، وهو قول جمهور أهل العلم، وقال في الإنصاف: بلا نزاع. واتفقوا على فضلهن «وذي الحجة» - بكسر الحاء وتفتح – الشهر الثاني عشر من السنة، سمي بذلك لأن الحج فيه.
(2) وأهل السنن وغيرهم، والمراد بالعشر ههنا: الأيام التسعة من أول ذي الحجة، وللنسائي وغيره: كان يصوم تسع ذي الحجة. وللبيهقي عن ابن عباس «صيام يوم منها يعدل صيام سنة» وفي لفظ «ما العمل الصالح في أيام، أفضل منه في هذه العشر» فدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من العمل في غيرها، ومن العمل فيها صيامها، وفي رواية القاسم بن أبي أيوب «ما من عمل أزكى عند الله،
ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحى»، وأيام ذي الحجة أفضل الأيام، وليالي العشر أفضل الليالي، وقد يقال: مجموع عشر ذي الحجة، أفضل من مجموع العشر الأخير.
قال الشيخ: وهو الأظهر. وهن الأيام المعلومات، في قول أكثر أهل العلم، وأكثر المفسرين في قوله { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } سميت بذلك للحرص على علمها بحسابها، من أجل وقت الحج في آخرها، وآخرهن يوم النحر، في قول أكثر أهل العلم، وإنما سميت التسع عشرًا من إطلاق الكل على الأكثر، لأن العاشر لا يصام، فإطلاق العشر تغليبًا، وفيه فضل الجهاد، ويأتي إن شاء الله تعالى، وقوله «إلا رجل» لأكثر رواه البخاري أي: إلا عمل رجل. وللمستملي «إلا من خرج بماله ونفسه، فلم يرجع من ذلك بشيء» أي فيكون من لم يرجع بشيء من ذلك أفضل من العامل في أيام العشر، أو مساويًا له، فدل على فضيلة أيام العشر على غيرها من السنة، وتخصيصها بهذه المزاياـ والعمل فيها لا ينحصر.(5/413)
.
(و) آكده (يوم عرفة(1) لغير حاج بها)(2).
__________
(1) إجماعًا، وهو التاسع، سمي بذلك للوقوف بعرفة، وتعارفهم فيها، أو لأن جبرئيل حج بالخليل، فلما أتى عرفة قال: قد عرفت. وقيل: لتعارف آدم وحواء بها. وغير ذلك.
(2) أي فلا يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة بعرفة، وفاقًا لمالك والشافعي، وجمهور أهل العلم، وهو قول الصديق، والفاروق، وذي النورين، وغيرهم، وعن أبي هريرة مرفوعًا «نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة» رواه أبو داود، ولفطره بها صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس، متفق عليه، وفي خبر ابن عمر: أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلم يصمه أحد منهم. وليتقوى على العبادة، والدعاء، في ذلك اليوم، وكرهه جماعة، وقال الشيخ: لأنه يوم عيد. ويشهد له ما رواه عقبة بن عامر مرفوعًا «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل، وشرب، وذكر لله» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي، قال المجد وغيره: والمراد إلا المتمتع والقارن عدما الهدي، فيستحب أن يجعل آخر صيام الثلاثة يوم عرفة ويأتي.(5/414)
وهو كفارة سنتين(1) لحديث «صيام يوم عرفة أَحتسب على الله أَن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده»(2) وقال في صيام عاشوراء «إني أَحتسب على الله أَن يكفر السنة التي قبله» رواه مسلم(3).
__________
(1) أي صوم يوم عرفة يكفر سنتين، الماضية، والآتية، لفضله وشرفه.
(2) أي قبل وقوع المكفر، أو يلطف به بسبب صيامه، فلا يأتي بذنب، أو يوفق لما يكفره، وجعل على الضعف من عاشوراء، فقيل: لأن يوم عرفة محمدي، وعاشوراء موسوي، وأعمالنا على الضعف، ولو رأى أهل بلد هلال ذي الحجة، ولم يثبت عند الحاكم، فقال الشيخ: لهم أن يصوموا اليوم الذي هو التاسع ظاهرًا، وإن كان في الباطن العاشر، لحديث «صومكم يوم تصومون» الحديث وتقدم، وقال: وصوم اليوم الذي يشك فيه هل هو التاسع أو العاشر، جائز بلا نزاع، لأن الأصل عدم العاشر، كليلة الثلاثين من رمضان.
(3) من حديث أبي قتادة، مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم الإجماع على سنيته، ولو قال قائل: إذا كفرت الصلاة، فماذا تكفير الجمعات، ورمضان، وعاشوراء، وعرفة، ونحو ذلك؟ قيل: كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة، ولا كبيرة، كتبت به حسنات، ورفعت به درجات، وإن صادف كبيرة، أو كبائر، ولم يصادف صغيرة، رجونا أن يخفف من الكبائر، وقال النووي وغيره: المراد الصغائر للآية، فإن لم تكن رجي التخفيف من الكبائر، فإن لم تكن، رفعت له به درجات. وقيل: إطلاق القول أنه يكفر، لا يوجب أن يكفر الكبائر بلا توبة لقوله إذا اجتنبت الكبائر ويأتي قول الشيخ: إن إطلاق التكفير بالعمرة، متناول الكبائر، فكذا هو الخبر ونحوه.(5/415)
ويلي يوم عرفة في الآكدية يوم التروية، وهو اليوم الثامن(1) (وأَفضله) أَي أَفضل صوم التطوع (صوم يوم، وفطر يوم)(2) لأمره عليه السلام عبد الله بن عمرو وقال «هو أفضل الصيام» متفق عليه(3)
__________
(1) لحديث «صوم يوم التروية كفارة سنة» رواه أبو الشيخ، وابن النجار، عن ابن عباس مرفوعًا، وسمي ثامن عشر ذي الحجة يوم التروية، لكون الحاج يتروون الماء من مكة ويأتي.
(2) أي أفضل الصيام صوم يوم بين يومين، والزيادة عليه مفضولة.
(3) ولفظه «صم يومًا، وأفطر يومًا، فذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام» فقال إني أطيق أفضل من ذلك؛ فقال «لا أفضل من ذلك» وقال «لا صام من صام الأبد» مرتين وقال «لا صام ولا فطر» ونهى من يسرد الصوم، وقال «لا صوم فوق صوم داود» رفقًا بأمته، وشفقة عليهم. وإرشادًا لهم إلى مصالحهم، وحثًا لهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيًا لهم عن التعمق، والإكثار من العبادات التي يخاف عليهم الملل بسببها، أو تركها، أو ترك بعضها، كما قال «عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وأحب العمل إلى الله ما داوم صاحبه عليه» وقال تعالى في أهل الرهبانية { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } .
وقال ابن مسعود – لما قيل له: إنك تقل الصيام. قال -: إني أخاف أن تضعف نفسي عن القراءة، والقرآن أحب إلي من الصيام، وقال عليه الصلاة والسلام «إن لنفسك عليك حقًا» الحديث، ويحرم صيام الدهر إن أدخل فيه العيدين، وأيام التشريق، وإن أفطرها جاز، نص عليه، واختاره المجد وغيره؛ وفاقًا لمالك، والشافعي، وذكر مالك أنه يسمع أهل العلم يقولونه، لقول حمزة بن عمرو: يا رسول الله إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ قال «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» متفق عليه، ولأن أبا طلحة وغيره من الصحابة وغيرهم فعلوه، ولأن الصيام أمر مطلوب للشارع، إلا ما استثناه، وأجابوا عن حديث ابن عمرو: أنه خشية عليه، حتى تمنى أنه قبل الرخصة، ولا يبعد لو أن شخصًا لا يفوته من الأعمال الصالحة شيء بالصيام أصلاً، ولا يصوم يومي العيدين، وأيام التشريق، ولا يفوته حق من الحقوق التي خوطب بها، أن يكون أفضل في حقه، وظاهر مجموع النصوص أنه يختلف باختلاف الأحوال.(5/416)
.
وشرطه أن لا يضعف البدن، حتى يعجز عما هو أفضل من الصيام، كالقيام بحقوق الله تعالى، وحقوق عباده اللازمة(1) وإلا فتركه أفضل(2).
__________
(1) أي شرط فضيلة صوم يوم، وفطر يوم، أن لا يضعف عما هو أفضل منه، واجبًا كان أو سنة، فإن تقديم المفضول على الفاضل لا يحسن إلا في أشياء معدودة، وفي بعض الأوقات، أو الحالات.
(2) أي وإن كان يضعف البدن، حتى يعجز عما هو أفضل منه، فترك ذلك أفضل، اختاره الشيخ وغيره وقال: الصواب قول من جعله تركًا للأولى، أو كرهه، ولهذا أشار الشارع إلى ذلك، فإن من حق النفس اللطف بها، حتى توصل صاحبها إلى المنزل، ويحرم إذا دخل فيه يوما العيد، وأيام التشريق.(5/417)
(ويكره إفراد رجب) بالصوم(1) لأَن فيه إحياء لشعار الجاهلية(2) فإن أَفطر منه، أَو صام معه غيره، زالت الكراهة(3)
__________
(1) قال أحمد: من كان يصوم السنة صامه، وإلا فلا يصمه متواليًا، بل يفطر فيه، ولا يشبهه برمضان. وروى ابن ماجه عن ابن عباس مرفوعًا «نهى عن صيام رجب» قال الشيخ: وكراهية إفراد رجب، وكذا الجمعة بصوم، سدًا للذريعة اتخاذ شرع لم يأذن به الله، من تخصيص زمان، أو مكان لم يخصه الله به، كما وقع من أهل الكتاب، وسمي رجبًا من الترجيب، وهو التعظيم، لأن العرب كانت تعظمه في الجاهلية، ولا تستحل فيه القتال، ويقال له: رجب مضر. لأنهم كانوا أشد تعظيمًا له، وهو الشهر الفرد من الأشهر الحرم، وقيل: هو أفضلها، وله فضل على غيره من الأشهر التي ليست بحرم، وقيل: المحرم؛ وقيل: ذو الحجة؛ واختاره ابن رجب، وليس رجب أفضل الشهور عند الله، بل شهر رمضان أفضل منه إجماعًا، وقال الشيح: يكفر من فضل رجب على رمضان.
(2) يعني بتعظيمه، ولأحمد عن خرشة بن الحر، قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين، حتى يضعوها في الطعام، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية. وله عن ابن عمر، أنه إذا رأى الناس، وما يعدونه لرجب كرهه، وقال: صوموا منه وأفطروا. وثبت عنه أنه كان يضرب فيه، ويقول: كلوا، إنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية. وقال الشيخ: وكل حديث يروى في فضل صومه، أو الصلاة فيه، فكذب باتفاق أهل العلم بالحديث. وقال: من صامه يعتقد أنه أفضل من غيره من الأشهر، أثم وعزر، وحمل عليه قول عمر.
(3) أي أفطر من رجب بعضه، أو صام شهرًا آخر معه، - قال المجد: وإن لم يله – زالت كراهة صومه. وقال الشيخ: من نذر صومه كل سنة، أفطر بعضه وقضاه. ولا يكره إفراد شهر بالصوم غير شهر رجب، قال في المبدع:
اتفاقًا؛ وقال المجد: لا نعلم فيه خلافًا؛ للأخبار، منها أنه كان يصوم شعبان ورمضان، ولم يداوم إلا على رمضان، ولم يستحب الأكثر صيام شعبان، ولم يستكمل غيره، كما ثبت عن عائشة، وغيرها، وقال: «ترفع فيه أعمال الناس، فأحب أن لا يرفع عملي إلا وأنا صائم» وسنده صحيح، وصومه كالراتبة مع الفرائض.(5/418)
.
(و) كره إفراد يوم (الجمعة)(1) لقوله عليه السلام «لا تصوموا يوم الجمعة، إلا وقبله يوم، أو بعده يوم» متفق عليه(2).
__________
(1) يعني إفراد صومه وفاقًا، إلا ما روي عن مالك، وقال النووي: السنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة، فيتعين القول به، ومالك معذور، فإنه لم يبلغه، قال الداودي: لم يبلغ هذا الحديث مالكًا، ولو بلغه لم يخالفه. وفي الإنصاف: لا خلاف في كراهة إفراد الجمعة. وقال الشيخ: لا يجوز. اهـ. فإن صام الجمعة والسبت لم يكره، لحديث أبي هريرة، ويكره إفراد قيام ليلتها، باتفاق أهل العلم، حكاه النووي وغيره، وقلما كان صلى الله عليه وسلم يفطر يوم الجمعة، واستحب قوم صيامه وقبله يوم، أو بعده يوم، وإن لم يقصده بعينه، وكان يصوم يومًا، ويفطر يومًا، فإنه يصومه دون ما قبله، وما بعده، لكن في جملة أيام، أو أراد أن يصوم يوم عرفة، أو يوم عاشوراء، فكان ذلك يوم جمعة ونحوه لم يكره، قال الوزير: اتفقوا على كراهته إلا أن يوافق عادة.
(2) ولمسلم «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بيان الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصوم من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم» وعن جابر مرفوعًا: نهى أن يفرد بصوم. ودخل على جويرية وهي صائمة، فقال لها «أصمت أمس؟» قالت: لا. قال «أتصومين غدًا؟» قالت: لا. قال «فأفطري» رواهما
البخاري، قال النووي وغيره: والحكمة أنه يوم دعاء، وذكر، وعبادة، فاستحب الفطر فيه، ليكون أعون عليها، ولأنه عيد الأسبوع.(5/419)
(و) كره إفراد يوم (السبت)(1) لحديث «لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم» رواه أحمد(2).
__________
(1) يعني بصوم، ما لم يوافق عادة، أو يصمه عن قضاء، أو نذر، أو نحوه، مأخوذ من «السبت» وهو القطع، والسبت الراحة، سمي بذلك لانتهاء العدد عنده، وكانت العرب تسمي الأيام «أول» ثم «أهون» ثم «جبار» ثم «دبار» ثم «مؤنس» ثم «العروبة» ثم «شيار».
(2) ورواه الترمذي وحسنه، والحاكم، وقال النووي: صححه الأئمة. ولأن اليهود تعظمه، وتخصه بالإمساك، وهو ترك العمل فيه، فيصير صومه تشبهًا بهم، وتخصيصه أيضًا بالإمساك عن الاشتغال والكسب، من عادتهم، فيشبه تعظيمهم ولو بالفطر، ومن ثم كره إفراد الأحد إلا لسبب، لأن النصارى تعظمه، بخلاف ما لو جمعهما بالصوم.
وقال الشيخ: حديث «لا تصوموا يوم السبت» شاذ، أو منسوخ، واختار هو وغيره أنه لا يكره صوم يوم السبت منفردًا، وأنه قول أكثر العلماء، وحملوا الحديث على الشذوذ، أو أنه منسوخ. وقال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت، أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بشر، منها حديث أم سلمة: أنه كان يصوم السبت والأحد، ويقول «هما عيدان للمشركين، فأنا أحب أن أخالفهم» وإسناده جيد، وصححه جماعة، فإن صام معه غيره لم يكره إجماعًا، لهذا الخبر، وخبر جويرية، وغيرهما، وسبب تعظيم اليهود يوم السبت لما كان تمام الخلق فيه، ظنت أن ذلك يوجب فضيلة، وعظمت النصارى يوم الأحد لما كان بدء الخلق فيه، بحكم عقولهم، وهدى الله هذه الأمة المحمدية، فعظمت ما عظمه الله.(5/420)
وكره صوم يوم النيروز والمهرجان(1) وكل عيد للكفار، أو يوم يفردونه بالتعظيم(2)
__________
(1) لئلا يوافق الكفار في تعظيمهما، وقاله الشيخ وغيره، لأن العادة لها أثر في ذلك «والمهرجان» معرب «مهركان» «ونيروز» اليوم الجديد، تحل فيه الشمس برج الحمل «والمهرجان» أول حلولها الميزان، وهو أول السنة القبطية، وهو وقت الاعتدال الخريفي، «والنيروز» وقت الاعتدال الربيعي، أول يوم تنتهي فيه الشمس إلى أول برج الحمل، وقيل الرابع منه، وقيل التاسع عشر منه، وهما عيدان للكفار، فيكره صومهما، لما فيه من موافقة الكفار في تعظيمهما، وقال عبد الله بن عمر: من صنع ببلاد الأعاجم نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت، حشر معهم.
(2) قال الشيخ وغيره؛ ما لم يوافق عادة، أو يصمه عن نذر ونحوه؛ قال: وكذلك يوم الخميس الذي يكون في آخر صومهم يوم عيد المائدة، ويوم الأحد يسمونه يوم عيد الفِصْح، وعيد النور، والعيد الكبير، ونحو ذلك، ليس للمسلم أن يشابههم في أصله ولا في وصفه. وقال: لا يحل للمسلمين يتشبهون بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعام، ولا لباس، ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة، من معيشة، أو عبادة، أو غير ذلك، ولا يحل فعل وليمة، ولا الإهداء، ولا الصنع بما يستعان به على ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب التي في الأعياد، ولا إظهار زينة، وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام، لا يخصه المسلمون بشيء من خصائصهم، وتخصيصه بما تقدم، لا نزاع بين العلماء في كفر من يفعل هذه الأمور، لما فيها من تعظيم شعائر الكفر.
وقد اشترط عمر، والصحابة، وسائر أئمة المسلمين أن لا يظهروا أعيادهم في
ديار المسلمين، فكيف إذا أظهرها المسلمون، قال عمر: لا تتعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم، يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم. وإذا كان كذلك فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم، مما هو من شعائر دينهم، قال غير واحد من السلف – في قوله تعالى { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قالوا -: أعياد الكفار. وفي المسند والسنن «من تشبه بقوم فهو منهم» «ليس منا من تشبه بغيرنا» وإن كان في العادة، فكيف بما هو أبلغ من ذلك.(5/421)
.
(و) يوم (الشك)(1) وهو يوم الثلاثين من شعبان، إذا لم يكن غيم ولا نحوه(2) لقول عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود،
__________
(1) أي ويكره صوم يوم الشك تطوعًا، نص عليه، وجزم به الأصحاب، وقال الترمذي: هو قول أكثر أهل العلم. وتقدم، وكذا تقدم كراهة استقبال رمضان بيوم أو يومين، في قول عامة أهل العلم، وظاهر نص أحمد التحريم، وكذا تقدمه بيوم أو يومين، أولى عنده بالتحريم، لئلا يتخذ ذريعة إلى أن يلحق بالفرض ما ليس منه.
(2) الأولى: وهو اليوم الذي يلي التاسع والعشرين من شعبان، لأنه اليوم الذي يشك فيه، هل هو من شعبان، أو من رمضان؟ إذا كان صحوًا، فإن كان غيم، أو قتر، فعندهم لا يكره، بل عندهم يجب صيامه، وليس مقصورًا على الكراهية فحسب، كما تقدم في أوائل كتب الصيام، وإن وافق عادة فلا يكره وفاقًا، أو كان موصولاً بصيام أيام قبله لم يكره، لخبر أبي هريرة «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه» أو يكون قضاء، أو نذرًا أو كفارة، فيصومه لوجوبه.(5/422)
والترمذي وصححه البخاري تعليقًا(1) ويكره الوصال، وهو أَن لا يفطر بين اليومين أو الأيام(2) ولا يكره إلى السحر(3) وتركه أولى(4) (ويحرم صوم) يومي (العيدين) إجماعًا(5) للنهي المتفق عليه(6).
__________
(1) المعلق – في اصطلاح المحدثين – هو ما كان سقوطه من مبادئ السند، سواء كان واحدًا، أو أكثر، والمراد: من صام اليوم الذي يشك فيه، هل هو من رمضان، أو من شعبان؟ كأن يحول بينهم وبينه قتر ونحوه، ويتحدث الناس برؤيته، ولم تثبت رؤيته؛ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ: وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره، فإن المشكوك في وجوبه لا يجب فعله ولا يستحب، بل يستحب تركه احتياطًا، وتقدم.
(2) في قول أكثر أهل العلم، لحديث ابن عمر: واصل النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فواصل الناس، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل. قال: «إني لست مثلكم، إني أطعم وأسقى» متفق عليه، ولم يحرم، لأن النهي وقع رفقًا ورحمة، وقيل: يحرم. حكاه ابن عبد البر عن الأئمة الثلاثة وغيرهم، ولا يبطل الصوم، قال المجد: بلا خلاف.
(3) لحديث أبي سعيد مرفوعًا «فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر» رواه البخاري وغيره.
(4) أي ترك الوصال إلى السحر أولى، للنهي عنه، وللمحافظة على الإتيان بالسنة، وهو تعجيل الفطر.
(5) حكاه جماعة ممن يحكي الإجماع، منهم ابن المنذر، والنووي.
(6) من حديث أبي سعيد «نهى عن صيام يومين، يوم الفطر، ويوم النحر»
وفي لفظ للبخاري «لا صوم في يومين» ولمسلم «لا يصح الصوم في يومين» وفيهما أيضًا عن أبي عبيد قال: شهدت العيد مع عمر رضي الله عنه، فصلى، ثم انصرف، فخطب الناس، فقال: إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما، يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم.(5/423)
(ولو في فرض(1) و) يحرم (صيام أيام التشريق)(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر الله» رواه مسلم(3).
__________
(1) حكاه الوزير وغيره إجماعًا، إلا ما روي عن أبي حنيفة من الإجزاء عن النذر، فإن قصد صيامهما كان عاصيًا إجماعًا، لقصده ارتكاب ما نهى الشارع عنه، ولم يجزئه عن فرض، وهو مذهب مالك، والشافعي، لارتكابه النهي المقتضي للفساد، وهو لا يجامع الإجزاء، وحكم التطوع كذلك، أما عيد الفطر فحرم تمييزًا لوقت العبادة عن غيره، لئلا يكون ذريعة إلى الزيادة في الواجب، كما فعلت النصارى، وأكده بتعجيل الفطر، وتأخير السحور، واستحباب تعجيل الفطر يوم العيد قبل الصلاة، وعيد النحر للأكل من النسك المتقرب بذبحه، ولو شرع صومه لم يكن لمشروعية الذبح فيه معنى، فعبر عن علة التحريم بقوله «تأكلون فيه من نسككم» وهو يستلزم النحر، ولما في صومهما من الإعراض عن ضيافة الله تعالى لعباده.
(2) تطوعًا، وقال الوزير: أجمعوا على كراهة صيام أيام التشريق، ومن قصده نقلاً فقد عصى الله ورسوله، إلا أبا حنيفة فقال: ينعقد مع الكراهة.
(3) من حديث نبيشة الهذلي، وأعقبها بالذكر، لئلا يستغرق العبد حظوظ نفسه، وينسى حق الله عليه، ولأحمد نحوه من حديث أبي هريرة، وسعد، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن أنادي أيام منى إنها أيام أكل،
وشرب، ولا صوم فيها» وروى الشافعي وأحمد النهي من حديث علي بإسناد جيد، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم خمسة أيام في السنة، يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق؛ رواه الدارقطني وغيره، وحكي أنه متواتر، ولعل من صامها، أو رخص في صيامها، لم يبلغه النهي، قال المجد: أو تأوله على إفرادها كيوم الشك، وسميت أيام التشريق، لتشريق الناس لحوم الأضاحي فيها، وهو تقديرها، ونشرها في الشمس، ويقال لها الأيام المعدودات.(5/424)
(إلا عن دم متعة وقران) فيصح صوم أيام التشريق لمن عدم الهدي(1) لقول ابن عمر وعائشة: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري(2) (ومن دخل في فرض موسع) من صوم أَو غيره (حرم قطعه) كالمضيق(3).
فيحرم خروجه من الفرض بلا عذر(4)
__________
(1) فيصوم الثلاثة فيها إذا لم يصمها قبل، وحكي عن مالك في البدل عن دم المتعة فقط.
(2) أي لم يجد هديًا، ولم يصم قبل أيام التشريق، «ويرخص، ويُصَمْنَ» بالبناء للمفعول، أي لم يرخص صلى الله عليه وسلم، فيصوم الثلاثة فيها إذا لم يصمها قبل، رخصة لمن كان متمتعًا أو قارنًا أو محصرًا، لإطلاق الحديث، وعموم الآية، وهو مذهب مالك، والشافعي في القديم، وعن أحمد: لا يجوز. وحكي اتفاقًا، لخبر «هي أيام أكل وشرب» وهذا الحديث يدل على الجواز، فإن حمل المطلق على المقيد واجب، وكذا بناء العام على الخاص، وأخرج الدارقطني والطحاوي بلفظ: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق. وإن كان فيه مقال، فأصله متفق على صحته، والقول به أقوى، فيصح صوم أيام التشريق لمن عدم الهدي، إذا لم يصمها قبل.
(3) بغير خلاف، وذلك كقضاء رمضان، ومكتوبة في أول وقتها، ونذر مطلق، وكفارة، أو فرض كفاية، كصلاة جنازة.
(4) قال المجد وغيره: لا نعلم فيه خلافًا. وقال في الفروع: من دخل في واجب موسع، كقضاء رمضان، والمكتوبة أول وقتها، وغير ذلك، كنذر مطلق، وكفارة – إن قلنا: يجوز تأخيرها – حرم خروجه منها بلا عذر وفاقًا.
قال الشيخ: وإن شرعت في قضاء رمضان وجب عليها إتمامه، ولم يكن لزوجها تفطيرها، وإن أمرها أن تؤخره كان حسنًا، لحقه عليها.(5/425)
لأَن الخروج من عهدة الواجب متعين(1) ودخلت التوسعة في وقته رفقًا، ومظنة للحاجة(2) فإذا شرع تعينت المصلحة في إتمامه(3) (ولا يلزم) الإتمام (في النفل) من صوم، وصلاة، ووضوء، وغيرها(4). لقول عائشة: يا رسول الله أُهدي لنا حيس؛ فقال: «أَرنيه، فلقد أصبحت صائمًا» فأَكل. رواه مسلم وغيره(5).
__________
(1) فحرم قطعه بلا عذر، ولو خالف وخرج فلا شيء عليه.
(2) قاله المجد وغيره، وذلك ما لم يشرع فيه.
(3) ذكره الناظم، ويسن إتمامه خروجًا من الخلاف، ولأن به تكمل العبادة، وذلك مطلوب، وقد يجب قطع الفرض لرد معصوم عن هلكة، وإنقاذ غريق ونحوه، ولهرب غريم، وله قلبها نفلاً وتقدم.
(4) وهو مذهب الشافعي، بل يستحب إتمامه خروجًا من خلاف من أوجبه، ولعموم قوله { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وفي المبدع: ولا يلزم في الصدقة، والقراءة، والأذكار، بالشروع فيها وفاقًا، ولا يقضي من أفطر لعذر لا صنع له فيه إجماعًا.
(5) فرواه الخمسة وغيرهم. والحيس – بفتح الحاء المهملة، وسكون الياء – تمر، مخلوط بسمن وأقط.(5/426)
وزاد النسائي بإسناد جيد «إنما مثل صوم التطوع، مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها»(1) وكره خروجه منه بلا عذر(2) (ولا قضاءُ فاسده) أي لا يلزم قضاءُ ما فسد من النفل(3) (إلا الحج) والعمرة، فيجب إتمامهما(4) لانعقاد الإحرام لازمًا(5).
__________
(1) وفي لفظ: قال طلحة: فحدثت مجاهدًا بهذا الحديث، فقال: تلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها، وإن شاء أمسكها. وفي لفظ قال «إنما منزلة من صام في غير رمضان – أو في التطوع – بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله، فجاد منها بما شاء فأمضاه» قال الموفق وغيره: لو نوى الصدقة بمال مقدر، وشرع في الصدقة، فأخرج بعضه، لم يلزمه الصدقة بباقيه إجماعًا، وكذا القراءة، والأذكار بلا نزاع، ولأحمد عن أم هانئ، أنه صلى الله عليه وسلم قال لها «إن شئت فاقضي، وإن شئت فلا تقضي».
(2) لما روى أبو داود عن عائشة، قالت أهدي لحفصة طعام، وكنا صائمتين فأفطرنا، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أهدي لنا هدية واشتهيناها فأفطرنا؛ فقال «لا عليكما» أي لا بأس عليكما، أو لا حرج، ويسن إتمام التطوع، خروجًا من الخلاف.
(3) نص عليه، لأن القضاء يتبع المقضي عنه، فإن لم يكن واجبًا لم يكن القضاء واجبًا بل يسن، لهذا الخبر، وقصة أم هانئ، وخروجًا من الخلاف، والخروج من الخلاف مستحب، بلا خلاف.
(4) وفاقًا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
(5) لظاهر آية الاحصار، ولأن نفله كفرضه في الكفارة إجماعًا، ولعدم الخروج منهما بالمحظورات.(5/427)
فإن أفسدهما أو فسدا، لزمه القضاء(1) (وترجى ليلة القدر في العشر الأَخير) من رمضان(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» متفق عليه(3). وفي الصحيحين «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه»(4)
__________
(1) أي إن أفسد الحج أو العمرة، أو فسد الحج أو العمرة، لزمه القضاء وفاقًا، قاله في الفروع وغيره، وقال المجد وغيره: بغير خلاف نعلمه.
(2) هذه الصحيح من المذهب، وقول جمهور العلماء، من الصحابة وغيرهم، ومذهب مالك، والشافعي، وأكثر الأحاديث الصحاح تدل عليه، وعلى هذا لو نذر الاعتكاف، أو الطلاق في ليلة القدر، لزمه اعتكاف العشر كلها، ووقع الطلاق في آخر ليلة منها، هذا إن صدر قبل مضي شيء منها، فإذا نذر أو علق بعد أن مضى ليلة، لم تطلق إلا بمضي العشر كلها من العام الآتي، ولم يف بالنذر إلا باعتكاف ما بقي، مع عشر الآتي أيضًا، وليلة القدر في رمضان وفاقًا، فتطلب فيه، لشرفها وعظمها، وبركتها، صرح به الموفق وغيره.
(3) من حديث عائشة، أي اطلبوها في العشر الأواخر، ولهما من حديث أبي سعيد «قيل لي: إنها في العشر الأواخر» قال ابن عباس: دعا عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر «من كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» ولمسلم قال «التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يغلب على السبع البواقي».
(4) أخرجاه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من
قام ليلة القدر» بالتهجد فيها، والصلاة، والذكر والدعاء، والفكر، وهذا صيغة ترغيب، وندب، دون إيجاب، وأجمعت الأمة على استحبابه، ويحصل بمطلق ما يصدق عليه القيام «إيمانًا» تصديقًا بأنه حق، قصد فضيلته «واحتسابًا» لثوابها عند الله وحده، لا يريد رؤية الناس، ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص «غفر له ما تقدم من ذنبه».(5/428)
.
زاد أحمد «وما تأخر»(1) وسميت بذلك لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة(2) أو لعظم قدرها عند الله(3) أو لأن للطاعات فيها قدرًا عظيمًا(4) وهي أفضل الليالي(5).
__________
(1) أي من ذنبه، وله من عبادة «من قامها ابتغاءها، ثم وقعت له، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» وللنسائي من حديث قتيبة «غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»، قال الحافظ: وإسناده على شرط الصحيح، وقيامها يكفر الذنوب لمن وافقت له، شعر بها أو لم يشعر.
(2) أي لما تكتبه فيها الملائكة من الأقدار، والأرزاق، والآجال، وما يكون في تلك السنة، إلى مثلها من السنة المقبلة، لقوله تعالى { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وهو قول أكثر المفسرين، والمراد التقدير الخاص، لا التقدير العام، فإنه متقدم على خلق السموات والأرض، كما صحت به الأخبار.
(3) وشرفها، فهي شريفة معظمة.
(4) يضاعف فيها الثواب، فسميت به.
(5) إجماعًا، ذكره الخطابي وغيره، لقوله تعالى { خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } أي قيامها، والعمل فيها، خير من العمل في ألف شهر خالية منها، وتقدم أن من قامها غفر له، ولأحمد من حديث أبي هريرة «فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم
خيرها فقد حرم» وأفضل الأيام يوم الجمعة، قال الشيخ: أفضل أيام الأسبوع يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وأفضل أيام العام يوم النحر، كما في الحديث «إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر» رواه أبو داود. قال ابن القيم: وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه. اهـ. وقيل: أفضل الأيام يوم عرفة.(5/429)
وهي باقية، لم ترفع للأخبار(1) (وأوتاره آكد)(2) لقوله عليه السلام «اطلبوها في العشر الأواخر، في ثلاث بقين، أو سبع بين، أو تسع بقين»(3).
__________
(1) المتواترة بطلبها وقيامها، ونقل جمع من أهل المذاهب أنها خاصة بهذه الأمة، ولم تكن في الأمم قبلهم، وأمارتها ما في حديث أبي وغيره: أن الشمس تطلع في صبيحتها كالطشت، وهذا أشهر علاماتها، ولأحمد عن عبادة: إنها صافية، بالجة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية، ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى يصبح، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية، ليس فيها شعاع، مثل القمر ليلة البدر، لا يحل لشيطان أن يخرج معها حينئذ، قال الشيخ: وقد يكشف الله لبعض الناس في المنام، أو اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له: هذه ليلة القدر، وقد يفتح الله على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر.
(2) أي أوتار العشر الأخير من رمضان، آكد من الشفع، وأبلغ من بقية ليالي الشهر، وهو مذهب جمهور العلماء، وهي الحادية، والثالثة، والخامسة، والسابعة، والتاسعة والعشرون.
(3) صححه الترمذي، ونحوه في الصحيحين، وفي الصحيح «فالتمسوها في العشر الأواخر، في الوتر منها» قال الشيخ: فعلى هذا إن كان الشهر تامًا فكل ليلة من العشر وتر، إما باعتبار الماضي، كإحدى وعشرين، وإما باعتبار الباقي
كالثانية، وإن كان ناقصًا فالأوتار باعتبار الباقي، موافقة لها باعتبار الماضي، وإذا كان الأمر هكذا، فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأخير جميعه، كما قال صلى الله عليه وسلم «تحروها في العشر الأواخر» وتكون في السبع الأواخر أكثر.(5/430)
(وليلة سبع وعشرين أبلغ) أي أرجاها(1) لقول ابن عباس وأبي بن كعب وغيرهما(2) وحكمة إخفائها ليجتهدوا في طلبها(3) (ويدعو فيها) لأن الدعاء مستجاب فيها(4) (بما ورد) عن عائشة، قالت: يا رسول الله إن وافقتها فبم أدعو؟ قال «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني»(5).
__________
(1) أي أكثر، وأشد رجاء يقال: ثناء أبلغ. أي مبالغ فيه «وأرجى» بغير همز، وكلاهما أفعل تفضيل.
(2) كزر بن حبيش، وكان أبي بن كعب يحلف أنها ليلة سبع وعشرين، فقيل له: بأي شيء علمت ذلك؟ قال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الشمس تطلع في صبيحتها كالطشت. وللترمذي عنه وصححه: إنها في ليلة سبع وعشرين، ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا، ولأبي داود عن معاوية مرفوعًا «ليلة القدر ليلة سبع وعشرين».
(3) ويجدوا في العبادة، طمعًا في إدراكها، بإحياء جميع ليالي العشر، كما أخفي ساعة الإجابة يوم الجمعة، واسم الله الأعظم، وغير ذلك.
(4) والاستغفار، والتوبة، لشرفها.
(5) أي تجاوز عني، فلا تؤاخذني بجرمي، واستر على ذنبي، واكفني عذابك، واصرف عن عقابك.(5/431)
رواه أحمد وابن ماجه، وللترمذي معناه وصححه(1) ومعنى العفو: الترك(2) وللنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعًا «سلوا الله العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، فما أُوتي أحد بعد يقين خيرًا من معافاة»(3) فالشر الماضي يزول بالعفو، والحاضر بالعافية، والمستقبل بالمعافاة، لتضمنها دوام العافية(4).
__________
(1) ولفظه عنها: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ أي من الدعاء، قال «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني» ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) وترك الشيء ودعه، وفي القاموس: العفو عفو الله عن خلقه، والصفح، وترك عقوبة المستحق. اهـ. وزنه فعول، من «العفو» وهو بناء المبالغة، والعفو الصفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسيء، والمحو، من «عفت الريح الأثر» إذا درسته، فكأن العافي عن الذنب يمحوه بصفحه عنه.
(3) ففيه مشروعية سؤال العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، كل وقت، فما يتحرى فيه ليلة القدر آكد لشرفها.
(4) فهو من أجمع الدعاء، وينبغي الإكثار فيها من الدعاء والاستغفار، لأن الدعاء فيها مستجاب، ويذكر حاجته في دعائه الذي يدعو به تلك الليلة.(5/432)
باب الاعتكاف(1)
__________
(1) الاعتكاف سنة وقربة، بالكتاب والسنة والإجماع، وهو من الشرائع القديمة، وفيه من القرب المكث في بيت الله، وحبس النفس على عبادة الله، وقطع العلائق، عن الخلائق، للاتصال بخدمة الخالق، وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله، والتحلي بأنواع العبادات المحضة من الفكر، والذكر، وقراءة القرآن، والصلاة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، إلى غير ذلك من أنواع القرب، وفي الحديث «المعتكف يعكف الذنوب، ويجرى له من الحسنات كعامل الحسنات كلها» وأعقبه الصوم اقتداء بالكتاب العزيز، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم، وفي ذكره بعده إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام، أو في آخر شهر الصيام، كما هو ثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وأتباعهم.(5/433)
(هو) لغة لزوم الشيء(1) ومنه (يعكفون على أصنام لهم)(2) واصطلاحًا: (لزوم مسجد)(3).
__________
(1) والاحتباس، والمكث، والوقوف، والمقام، والإقبال عليه، يقال: عكف على الشيء، يعكُف ويعكِف، عكوفًا، وربما قيل: عكفًا. إذا لزمه وأقبل عليه مواظبًا «واعتكف» لزم المكان، والعكوف الإقامة في المسجد.
(2) بضم الكاف وفتحها، قراءتان، أي لفظة (يعكفون) من الاعتكاف اللغوي وقال تعالى { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } .
(3) المراد الاصطلاح الشرعي لا العرفي، وعبر الأكثر بـ«شرعًا»، قال الشيخ وغيره: وفي لسان الشرع عند الإطلاق، مختصًا بالعكوف لله وعليه في بيته. وقال الوزير: وهو في الشرع عبارة عن اللبث في المسجد بنية الاعتكاف، والتاء في الاعتكاف تفيد ضربًا من المعالجة والمزاولة، لأنه فيه كلفة، ولما كان المرء لا يلازم ويحتبس إلا على من يحبه ويعظمه، شرع الله لأهل الإيمان أن يعكفوا على ربهم، وأخص البقاع بذكر اسمه، والعبادة له، بيوته المبنية لذلك، ولذلك طهر الله المساجد لعبادته، وليس شيء من العبادات مختص بالمسجد بأصل الشرع إلا الاعتكاف، والطواف، وتحية المسجد.(5/434)
أي لزوم مسلم، عاقل ولو مميزًا، لا غسل عليه، مسجدًا، ولو ساعة(1) (لطاعة الله تعالى)(2) ويسمى جوارًا(3).
__________
(1) فلا يصح من كافر، ومجنون، وطفل، كصلاة وصوم، قال المجد وغيره: لا نعلم فيه خلافًا. فإن كان عليه غسل لم يصح، قال عثمان: لعله ما لم يحتج إلى الليث، لجواز الليث إذًا «ومسجدًا» مفعول لزوم، وأقل الاعتكاف عند جماعة «ساعة»، وعند الشافعية «ولو لحظة» من ليل أو نهار، وظاهره أن اللحظة لا تسمى اعتكافًا، وجزم به الموفق وغيره، فلو نذر اعتكافًا وأطلق أجزأته الساعة، , وهي لبث قدر يسمى عكوفًا عرفًا، لأن مادة لفظ الاعتكاف تقتضيه، ويأتي قول الشيخ: من قصد المسجد لصلاة أو غيرها، لا ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه، ويستحب أن لا ينقص الاعتكاف عن يوم وليلة، خروجًا من خلاف من يقول أقله ذلك.
(2) متعلق بـ«لزوم» ولو قال: لعبادة الله تعالى. لكان أصوب، وأركانه معتكف، ومعتكف فيه، ولبث، ونية.
(3) لا خلوة، لما في الصحيحين عن عائشة: وهو مجاور في المسجد. ولهما عن أبي سعيد «جاورت هذه العشر، ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر» وقال الوزير: لا يحل أن يسمى هذا الاعتكاف خلوة، واستظهر في الفروع الكراهة.(5/435)
ولا يبطل بالإغماء(1) وهو (مسنون) كل وقت إجماعًا(2) لفعله عليه السلام، ومداومته عليه(3) واعتكف أزواجه بعده، ومعه(4) وهو في رمضان آكد(5) لفعله عليه السلام(6).
__________
(1) كنوم، لبقاء التكليف، ولو ارتد أو سكر بطل، ولو طرأ جنون، أو إغماء لم يبطل، إن لم يخرج، وحيض ونفاس، وجب الخروج.
(2) حكاه غير واحد من أهل العلم، وقال أحمد: لا أعلم عن أحد من أهل العلم خلافًا أنه مسنون. اهـ. فلا يختص بزمان، إلا ما نهي عن صيامه، للاختلاف في جوازه بغير صوم.
(3) ففي الصحيحين عن عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله. ولهما عن ابن عمر نحوه، وإنما لم يجب لأنه لم يأمر به أصحابه، بل ورد في الصحيحين وغيرهما «من أحب أن يعتكف فليعتكف».
(4) ففي الصحيحين عن عائشة قالت: ثم اعتكف أزواجه من بعده. واعتكفن معه، واستترن بالأخبية، وقال تعالى { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فعمت الآية الرجال والنساء، ولا نزاع في ذلك.
(5) إجماعًا، ولم يفرق بعضهم بين الثغر وغيره.
(6) الثابت من اعتكافه: العشر الأواخر من رمضان؛ في الصحيحين وغيرهما، من غير وجه، قال نافع: أراني عبد الله المكان الذي يعتكف فيه، وهو معروف الآن.(5/436)
وآكده في العشر الأخير(1) (ويصح) الاعتكاف (بلا صوم)(2) لقول عمر: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أَن أَعتكف ليلة بالمسجد الحرام؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أوف بنذرك» رواه البخاري(3) ولو كان الصوم شرطًا لما صح اعتكاف الليل(4) (ويلزمان) أي الاعتكاف والصوم (بالنذر)(5).
__________
(1) إجماعًا، لأنه داوم عليه إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله. وتقدم قوله «ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان معتكفًا معي فليثبت في معتكفه» ولغيرهما من الأحاديث، ولأن ليلة القدر تطلب فيها، ولعل الحكمة فيها طلبها.
(2) هذا المذهب، وهو مذهب الشافعي، واشترطه أبو حنيفة ومالك، والمذهب أسعد بالدليل.
(3) ولمسلم نحوه، وزاد البخاري «فاعتكف ليلة» ولحديث ابن عباس «ليس على المعتكف صوم، إلا أن يجعله على نفسه» رواه الدارقطني «والجاهلية» ما كان قبل الإسلام، وتقدم تعريفها.
(4) لأنه لا صيام فيه، ولأنه عبادة تصح في الليل، فلم يشترط له الصيام كالصلاة، ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع، ولم يصح فيه نص ولا إجماع، وقال المجد، والشيخ، والشارح، وغيرهم: ليس في اشتراط الصوم في الاعتكاف نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس صحيح، وما روي عن عائشة: لا اعتكاف إلا بصوم. فموقوف، ومن رفعه فقدوهم، ثم لو صح فالمراد به الاستحباب، فإن الصوم فيه أفضل.
(5) إجماعًا حكاه الوزير وغيره، وإن علقه أو غيره بشرط، نحو: لله علي
أن أعتكف شهر رمضان إن كنت مقيمًا، أو معافي، فصادفه مريضًا، أو مسافرًا، فله شرطه، لظاهر الآية والخبر، والمراد نذر التبرر، لا إن كان نذر لجاج، أو غضب، فيخير بين الفعل والكفارة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(5/437)
فمن نذر أن يعتكف صائمًا، أو يصوم معتكفًا، لزمه الجمع(1) وكذا لو نذر أن يصلي معتكفًا ونحوه(2) لقوله عليه السلام «من نذر أَن يطيع الله فليطعه» رواه البخاري(3) وكذا لو نذر صلاة بسورة معينة(4).
__________
(1) أي بين الاعتكاف والصيام، لحديث «ليس على المعتكف صوم، إلا أن يجعله على نفسه» فإن لم يجعله على نفسه لم يشترط له، وفي حاشية ابن فيروز: والنكتة في التعبير بما هنا – مع أن المؤدى واحد – رد على من يقول: إنه إن نذر أن يعتكف صائمًا ونحوه لزمه الجمع، وإن نذر أن يصوم ونحوه معتكفًا لم يلزمه، لأن الصوم من شعار الاعتكاف، وليس الاعتكاف من شعار الصوم، يرشحه الخلاف في أنه: هل هو شرط لصحته أم لا؟، وأنت خبير بأن الحال قيد لصاحبها المتصف بالصفة المذكورة، والقيد معتبر.
(2) قياسًا على الصوم، لأن كلا منهما صفة مقصودة في الاعتكاف، فلزمت بالنذر، ولا يلزمه أن يصلي جميع الزمان، بل يكفيه ركعة، أو ركعتان.
(3) من حديث عائشة رضي الله عنها، والأمر يقتضي الوجوب، وتقدم سؤال عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن نذره في الجاهلية، وقوله «أوف بنذرك» وظاهره الوجوب.
(4) من القرآن، فلا يجوز غيرها، ولو أفضل، كـ(الإخلاص) مع (تبت) ولا يجوز تفريقها، ولو فرقها، أو اعتكف وصام من رمضان ونحوه لم يجزئه،
ومتى قطعه فعليه قضاؤه، قال ابن عبد البر: لا يختلف في ذلك الفقهاء. لكن قال الموفق وغيره: لا يعرف هذا القول عن غيره. ولم يقع الإجماع على لزوم نافلة بالشروع فيها، سوى الحج والعمرة.(5/438)
ولا يجوز لزوجة اعتكاف بلا إذن زوجها(1) ولا لقن بلا إذن سيده(2) ولهما تحليلهما من تطوع مطلقًا(3) ومن نذر بلا إذن(4).
__________
(1) وفاقًا، لوجوب حقه عليها، وهي مقصورة على طاعته، والاعتكاف يفوت حقه ويمنع استيفاءه، وليس واجبًا بأصل الشرع، فلم يجز إلا بإذن مالك المنفعة وهو الزوج.
(2) لتفويت حقه عليه، ومنافعه مملوكة لسيده، والعكوف ليس بواجب بأصل الشرع، فلم يجز إلا بإذنه وفاقًا، وفي الإنصاف: لا يجوز لهما بلا إذن بلا نزاع. و«مدين» و«أجير» كهما قياسًا عليهما.
(3) أي وللزوج والسيد تجريد وإخراج زوجة وعبد من تطوع مطلقًا، سواء أذنا لهما فيه أو لم يأذنا، شرعًا فيه، أو لم يشرعا، بلا نزاع، لأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة وحفصة وزينب في الاعتكاف، ثم منعهن بعد أن دخلن فيه، متفق عليه، ولأن حق الزوج والسيد واجب، والتطوع لا يلزم بالشروع فيه ولأن لهما المنع ابتداء، فكان لهما المنع دوامًا.
(4) لحديث «لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يومًا من غير رمضان إلا بإذنه» رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، ولما فيه من تفويت حقهما، فكان لرب الحق المنع منه، كمنع مالك غاصبًا، وإن لم يحللاهما صح وأجزأ، وليس لهما تحليلهما من منذور شرعًا فيه بالإذن، لتعينه بالشروع فيه، ووجوب إتمامه كالحج، وظاهره: لا فرق بين أن يكون مقيدًا أو مطلقًا، واختار المجد في النذر المطلق. الذي يجوز تفريقه، كنذر عشرة أيام متفرقة، أو متتابعة إذا اختار فعله متتابعًا،
وأذن لهما، يجوز تحليلهما، ولو رجعا بعد الإذن، وقبل الشروع، جاز إجماعًا، والإذن في العقد، إذن في الفعل، ولمكاتب اعتكاف وحج بلا إذن، ما لم يحل عليه نجم، لأن السيد لا يستحق منافعه، فلا يملك إجباره.(5/439)
(ولا يصح) الاعتكاف (إلا) بنية(1) لحديث «إنما الأعمال بالنيات»(2) ولا يصح إلا (في مسجد)(3) لقوله تعالى { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } (4) (يجمع فيه) أي تقام فيه الجماعة(5).
__________
(1) وفاقًا، وتقدم أن العبادات لا تصح إلا بالنية، وما لم ينو فليس بعبادة إجماعًا.
(2) متفق عليه، وفي رواية «لا عمل إلا بنية» والاعتكاف عمل، وعبادة محضة، كالصوم، والصلاة، وإن كان منذورًا لزمه نية الفرضية، وإن نوى خروجه منه بطل، كصوم وصلاة، صححه في تصحيح الفروع، وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب.
(3) إجماعًا، حكاه ابن عبد البر وغيره، وجوزه بعض المالكية، وبعض الشافعية في مسجد بيته، ولم يفعل في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه، ولو جاز لفعلته أزواجه صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهن، لحاجتهن إلى التستر.
(4) فوصف المعتكف بكونه في المسجد، فلو صح في غيرها لم يختص تحريم المباشرة فيه، إذ هي محرمة في الاعتكاف مطلقًا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في مسجده، قالت عائشة: وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، ولأنه كان يدخل رأسها إليها وهو معتكف، فترجله، وفعله خرج بيانًا للمشروع، وتقدم قولها: لا اعتكاف إلا في مسجد جامع.
(5) ولو من معتكفين، وفاقًا لأبي حنيفة، لما روى سعيد بسند صحيح، أنه
قال لابن مسعود: لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة» أو قال «في مسجد جماعة» ولأبي داود عن عائشة «ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» وروي عن علي وغيره، قال الوزير: أجمعوا على أن كل مسجد تقام فيه الجماعات، فإنه يصح فيه الاعتكاف.(5/440)
لأن الاعتكاف في غيره يفضي إما إلى ترك الجماعة(1) أو تكرار الخروج إليها كثيرًا، مع إمكان التحرز منه(2) وهو مناف للاعتكاف(3) (إلا) من لا تلزمه الجماعة كـ(المرأَة) والمعذور، والعبد، (ف) يصح اعتكافهم (في كل مسجد) للآية(4).
__________
(1) والجماعة واجبة كما تقدم، ويحرم تكرها، ولا يترك واجب لمندوب.
(2) أي من الخروج إلى الجماعة بالاعتكاف في مسجد جماعة.
(3) أي الخروج مناف للاعتكاف، إذ الاعتكاف لزوم المسجد للعبادة.
(4) وهي قوله تعالى { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } إذ لو صح في غيرها لم تختص بتحريم المباشرة، إذ هي محرمة في الاعتكاف مطلقًا كما تقدم، وخص من تجب عليه الجماعة بالمسجد التي تقام فيه، لما ذكره قبل، ولا يقال: إنه يصح الاعتكاف في مسجد البيت بلا ريب، لانتفاء حكم المسجد عنه في سائر الأحكام، فكذلك هنا، وحكى الوزير وغيره الإجماع على أنه لا يصح اعتكاف المرأة في بيتها، إلا ما روي عن أبي حنيفة، وحكوا الإجماع على أنه يصح الاعتكاف في كل مسجد، إلا أحمد فإنه قال: لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، والمراد هنا من تلزمه الجماعة، وأما من تلزمه ففي مسجد يجمع فيه كما تقدم، ومن تدبر النصوص في وجوب الجماعة، علم رجحان قول الإمام أحمد رحمه الله.(5/441)
وكذا من اعتكف من الشروق إلى الزوال مثلاً(1) (سوى مسجد بيتها)(2) وهو الموضع الذي تتخذه لصلاتها في بيتها، لأَنه ليس بمسجد حقيقة ولا حكمًا(3)، لجواز لبثها فيه حائضًا وجنبًا(4) ومن المسجد ظهره(5) ورحبته المحوطة(6).
__________
(1) لأنه لا يلزمه منه محذور، فصح منه في كل مسجد، وإلا فلا.
(2) حكاه الوزير وغيره إجماعًا، إلا أن أبا حنيفة جوزه، والسنة الصحيحة أولى بالإتباع.
(3) إذ لا يطلق عليه اسم مسجد إلا بقيد الإضافة، ولو كان حقيقة، وفيه أفضل – كما زعمت الحنفية – لنبه صلى الله عليه وسلم أزواجه على زواجه على ذلك، ولو أغنى عن المسجد لاعتكفت أمهات المؤمنين فيه دون المسجد، ولو مرة، تبينًا للجواز، ولا يقال: له حكمه من تحريم المكث فيه وهي جنب، أو هي حائض، من غير ما يبيحه.
(4) وعدم صونه عن نجاسة، وروى حرب وغيره، بإسناد جيد، عن ابن عباس، أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد نفسها، في بيتها، فقال: بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله البدع. فلا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة، وسن استتار معتكفة بخباء، في مكان لا يصلي فيه الرجال، ويباح لرجل، لفعله وفعل أزواجه.
(5) وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، لعموم قوله { فِي الْمَسَاجِدِ } وفي الإنصاف: ظهره منه بلا نزاع.
(6) منه وفاقًا «والرحبة» بالتحريك متسع يجعل أمام باب المسجد، وفي الصحاح: ساحته؛ وإن لم تكن محوطة فليست منه، وإن كانت محوطة بحيطانه وعليها باب فمنه.(5/442)
ومنارته التي هي أو بابها فيه(1) وما زيد فيه(2) والمسجد الجامع أَفضل لرجل تخلل اعتكافه جمعة(3).
__________
(1) منه، وعبارة غيره «بالواو» بدل «أو» إلا ما في المنتهى، وقال الخلوتي: صوابه العطف بالواو. وقال في الفروع: إن كان بابها خارجًا منه، بحيث لا يستطرق إليها إلا خارج المسجد، أو كانت خارج المسجد، والمراد: وهي قريبة منه؛ فخرج للأذان بطل اعتكافه. ونحوه في الإنصاف.
(2) أي من المسجد في الثواب، لعموم الخبر، وهو قول بعض السلف، واختاره الشيخ، وقال: حكم الزيادة حكم المزيد، في جميع الأحكام. وكذا قال الخلوتي، وعثمان، وغيرهما: وفي المسجد ما زيد فيه، فيثبت له جميع أحكامه، حتى حكم المضاعفة في الثواب في المسجد الحرام، وعن أبي هريرة مرفوعًا «لو بني هذا المسجد إلى صنعاء، كان مسجدي» وقال عمر – لما زاد في المسجد -: لو زدنا فيه حتى يبلغ الجبانة، كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن رجب: وقد قيل: إنه لا يعلم عن السلف خلاف في المضاعفة، وإنما خالف بعض المتأخرين، منهم ابن الجوزي، وابن عقيل.
(3) لئلا يحتاج إلى الخروج إليها فيترك الاعتكاف، مع إمكان التحرز منه، ولا يلزمه، وفاقًا لأكثر العلماء، منهم أبو حنيفة، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وحكاه النووي عن مالك، لأن الخروج إليها لا بد له منه، كالخروج لحاجة، والخروج إليها معتاد، فكأنه مستثنى، وأجمعوا على أنه يجب على المعتكف الخروج إلى الجمعة، وأن المستحب له أن يعتكف في المسجد الذي تقام فيه الجمعة، لئلا يخرج عن معتكفه لها، حكاه الوزير وغيره، ولا يصح – إن وجبت الجماعة – بالاعتكاف فيما تقام فيه الجمعة وحدها.(5/443)
(ومن نذره) أي الاعتكاف (أو الصلاة، في مسجد غير) المساجد (الثلاثة) مسجد مكة، والمدينة، والأَقصى(1) (وأَفضلها) المسجد (الحرام(2) فمسجد المدينة، فالأقصى)(3) لقول صلى الله عليه وسلم «صلاة من مسجدي هذا، خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام» رواه الجماعة إلا أَبا داود(4).
__________
(1) المفضلة – بالشرع – على غيرها من سائر المساجد.
(2) وهو مسجد مكة، الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه.
(3) فمسجده صلى الله عليه وسلم بالمدينة، المؤسس على التقوى، والصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه، فمسجد بيت المقدس، وهو بالشام، والصلاة فيه بخمسمائة صلاة، رواه البيهقي وغيره، وسمي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام، وإضافة المسجد إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة.
(4) أي رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، وأهل السنن الأربعة، من حديث أبي هريرة، إلا أبا داود، وله وأحمد من حديث جابر مثله، وزاد «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» قال ابن عبد البر: هو أحسن حديث روي في ذلك.
ولأحمد من حديث ابن الزبير مثل حديث أبي هريرة، والمراد بالمسجد جميع الحرم، وصححه النووي وغيره، وقيل: يختص بالموضع الذي يصلى فيه، دون البيوت، وغيرها من أجزاء الحرم، ويتأيد بقوله «مسجدي هذا».(5/444)
(لم يلزمه) جواب «من» أي لم يلزمه الاعتكاف أو الصلاة (فيه) أي في المسجد الذي عينه(1) إن لم يكن من الثلاثة(2). لقوله عليه السلام «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»(3) فلو تعين غيرها بتعيينه لزمه المضي إليه، واحتاج لشد الرحل.
__________
(1) هذا الصحيح من المذهب، وظاهر كلام أكثر الأصحاب، واستظهره في الفروع، وقال الحافظ وغيره: وإن نذر إتيان غيرها لصلاة أو غيرها، لم يلزمه غيرها بلا خلاف، وحكاه النووي وغيره، واختار الشيخ في موضع: يتعين ما امتاز بمزية شرعية، كقدم وكثرة جمع، والمراد: بدون شد رحل, القياس لزومه، لكن ترك للخبر، واختاره ابن عقيل وغيره، وهو مذهب مالك وغيره، لأن الله تعالى لم يعين لعبادته موضعًا، فلم يتعين بالنذر.
(2) فيلزمه، لأنها تتعين، لفضل العبادة فيها على غيرها، قال في المبدع: ولعل المراد: إلا مسجد قباء، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيه كل سبت راكبًا وماشيًا، ويصلي في ركعتين، وكان ابن عمر يفعله، متفق عليه.
(3) متفق عليه من غير وجه ولمسلم في رواية «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد» وذكرها، وفيه فضيلة هذه المساجد الثلاثة، ومزيتها على غيرها، لكونها مساجد الأنبياء، ولأن الأول قبلة الناس، وإليه حجهم، والثاني أسس على التقوى، والثالث كان قبلة الأمم السالفة فلا يستقيم أن يقصد بالزيارة غيرها، وإن نذره لصلاة أو غيرها لم يلزمه، قال الشيخ والجويني وغيرهما: يحرم شد الرحال إلى غيرها، عملاً بظاهر هذا الحديث.(5/445)
إليه(1) لكن إن نذر الاعتكاف في جامع لم يجزئه في مسجد لا تقام فيه الجمعة(2) (وإن عين) لاعتكافه أو صلاته (الأفضل) كالمسجد الحرام (لم يجز) اعتكافه أو صلاته (فيما دونه) كمسجد المدينة أو الأقصى(3) (وعكسه بعكسه)(4) فمن نذر اعتكافًا، أو صلاة بمسجد المدينة، أو الأقصى أجزأه بالمسجد.
__________
(1) أي فلو كان تعين غيرها بتعيينه، للزم شد الرحال إليه، واللازم باطل، لدخوله في المنهي عنه، ولأن الله لم يعين لعبادته مكانًا في غير الحج، ثم إن أراد الناذر الاعتكاف فيما عينه غيرها، فإن كان قريبًا فهو أفضل، جزم به في الواضح، واستظهره في الفروع، وظاهر المغني وغيره: لزومه ما لم يحتج إلى شد رحل. والمذهب: يخير، فإن احتاج لشد رحل فلا، للنهي، وحكاه النووي عن الجمهور، ومنعه ابن عقيل، والشيخ، وغيرهما، للخبر.
(2) استدراك في عموم قوله: ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة، في مسجد غير الثلاثة الخ. يريد رفع إبهام كون: أن نذر الاعتكاف في مسجد جامع، يكفي في غيره؛ وبيان أنه لا يجزئه إلا في مسجد تقام فيه، ولو لم يتخلل اعتكافه جمعه، لأنه ترك لبثًا مستحقًا التزمه بنذره، وإن تخلله جمعة ولم يعين، فأجمعوا على أنه إذا وجب عليه بالنذر اعتكاف أيام، يتخللها يوم الجمعة، أن المستحب له، أن يعتكف في المسجد الذي تقام فيه الجمعة، لئلا يخرج عن معتكفه لها.
(3) لأن المسجد الحرام أفضلها، الحسنة فيه بمائة ألف حسنة فيما سواه، لما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك.
(4) أي وإن عين المفضول منها أجزأ فيما هو أفضل منه.(5/446)
الحرام(1) لما روى أحمد، وأبو داود، عن جابر: أن رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة، أَن أُصلي في بيت المقدس؛ فقال «صل ههنا» فسأله فقال «صل ههنا» فسأله فقال «شأْنك إذًا»(2) (ومن نذر) اعتكافًا (زمنًا معينًا) كعشر ذي الحجة(3) (دخل معتكفه قبل ليلته الأُولى)(4) فيدخل قبيل الغروب، من اليوم الذي قبله(5).
__________
(1) وإن عين الأقصى أجزأ في كل من المساجد الثلاثة، لأفضليتهما عليه.
(2) فأمره بالصلاة في المسجد الحرام، لفضله على ما سواه من المساجد، فدل على أنه يجزئ في الأفضل، وأنه الأفضل لمزيد فضله.
(3) وكعشر رمضان الأخير مثلاً، وكشهر بعينه، تعين عليه، لتعيينه له، ولم يجز فيما سواه بلا نزاع.
(4) منه وفاقًا، لرؤياه عليه الصلاة والسلام ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين.
(5) أي قبل ذلك الزمن المنذور اعتكافه، لأن أوله غروب الشمس، إذ الشهر يدخل بدخول الليلة، بدليل ترتيب الأحكام المعلقة به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وخبر عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر دخل معتكفه. لم يكن نذره، والتطوع يشرع فيه متى شاء، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بهذا الحديث. ونوزع بقول الأوزاعي والليث وإسحاق، فيما إذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر تطوعًا، فإنه يدخل بعد صلاة الفجر أول يوم منه، وحمل على الجواز، والمنصوص: يدخل قبل ليلته الأولى.(5/447)
(وخرج) من معتكفه (بعد آخره) أي بعد غروب الشمس آخر يوم منه(1) وإن نذر يومًا، دخل قبل فجره، وتأخر حتى تغرب شمسه(2) وإن نذر زمنًا معينًا تابعًا ولو أطلق(3).
__________
(1) وفاقًا، ويخرج بعد مدة الاعتكاف إجماعًا، وإن اعتكف رمضان، أو العشر الأخير منه، استحب أن يبيت ليلة العيد في معتكفه، ويخرج منه إلى المصلى نص عليه، وقال: هكذا حديث عمرة عن عائشة. وقاله مالك، وذكر أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بلغه عن أهل الفضل الذين مضوا، وعن إبراهيم: كانوا يستحبون ذلك. قال المجد وغيره: ليصل طاعة بطاعة. ولما ورد من الترغيب في قيام ليلة العيد، وقال ابن الماجشون: إنه السنة المجمع عليها.
وإن نذر اعتكاف العشر الأواخر، فنقص أجزأه وفاقًا، بخلاف ما لو نذر عشرة أيام من آخر الشهر فنقص، يقضي يومًا وفاقًا، وإن فاته العشر فقضاه خارج رمضان جاز وفاقًا، لفعله صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من شوال، متفق عليه، وعنه: مثله من قابل، لا سيما فيه ليلة القدر. ذكره المجد وغيره، وجزم به غير واحد، ويكفي شهر هلالي ناقص بلياليه، أو ثلاثون يومًا بلياليها، لأن الشهر اسم لما بين الهلالين.
(2) ليستوفي جميعه، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، فإن اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس، وإن نذر يومين أو ليلتين، أو أكثر، أو أطلق، وقلنا: يجب التتابع. لزمه ما بينهما من يوم أو ليلة، وفاقًا للشافعي، ومذهب أبي حنيفة ومالك: يلزمه ما لفظ به مع الإطلاق، لقوله (ثلاث ليال). وأجيب بأن الله نص عليها، كما يعمل باللزوم وعدمه وفاقًا.
(3) أي فلم يقيد بالتتابع، لا بلفظه، ولا بنيته وجوبًا، وفاقًا لمالك وأبي حنيفة، لاقتضائه ذلك، سواء كان صومًا أو اعتكافًا ونحوه، كما لو حلف لا يكلم زيدًا شهرًا ونحوه، ولو أطلق فلم يقيده بالتتابع، لا بلفظه ولا بنيته، لفهمه من التعيين.(5/448)
«وعددًا» فله تفريقه(1) ولا تدخل ليلة يوم نذره(2) كيوم ليلة نذرها(3) (ولا يخرج المعتكف) من معتكفه(4) (إلا لما لا بد) له (منه)(5).
__________
(1) أي العدد، ولو ثلاثين يومًا، لأنه مقتضى اللفظ، والأيام المطلقة توجد بدون تتابع، ما لم ينو تتابعًا فيلزمه، وإن نذر شهرًا متفرقًا، فله تتابعه، وفاقًا للشافعي، وقياس قول أهل الرأي، ولأنه الأفضل.
(2) أي إن كان نذر أن يعتكف، يوم الخميس مثلاً، فلا تدخل ليلته في ذلك، وهو إجماع، إلا ما روي عن مالك: أنه لا بد أن يضيف إليه ليلته. وقال الخليل: «اليوم» اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس.
(3) أي وعدم دخول ليلة ذلك اليوم نذر اعتكافه، كعدم دخول ذلك اليوم الذي نذر اعتكاف ليلته.
(4) إذا عين مدة، أو شرط التتابع في عدد، حرم خروجه، مختارًا، ذاكرًا، لا ناسيًا أو مكرهًا بلا حق.
(5) يعني فإنه لا يحرم ولا يبطل، بل ربما تعين، وليس المراد من نفي الحرمة ثبوت الإثم من الإباحة والكراهة، قالت عائشة: السنة للمعتكف، أن لا يخرج إلا لما لا بد له منه. وكان صلى الله عليه وسلم لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، متفق عليه، قال الشارح: وإلا لم يصح اعتكاف لأحد، لأنه لا يسلم من ذلك أحد.(5/449)
كإتيانه بمأْكل ومشرب لعدم من يأْتيه بهما(1) وكقيء بغته، وبول، وغائط(2) وطهارة واجبة(3) وغسل متنجس يحتاجه(4) وإلى جمعة وشهادة لزمتاه(5) والأولى أن لا يبكر لجمعة(6).
__________
(1) وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، من غير أن يأكل أو يشرب في بيته، ولا يجوز خروجه لأكله وشربه في بيته، اختاره الموفق والمجد، وهو مذهب أبي حنيفة وغيره، لعدم الحاجة، لإباحته في المسجد، وعند الشافعي: يجوز، لما فيه من ترك المروءة، ويستحي أن يأكل وحده.
(2) إجماعًا، حكاه الوزير وغيره.
(3) إجماعًا، سواء كانت لصغرى، ولو قبل دخول وقت صلاة، أو لكبرى، لأن الجنب يحرم عليه اللبث في المسجد، والمحدث لا تصح صلاته بدون وضوء، وكذا غسل جمعة إن وجب، وإلا لم يجز وفاقًا، كتجديد الوضوء.
(4) لأنه في معنى البول والغائط، ويجب غسله عند إرادة الصلاة.
(5) إن كانت الجمعة واجبة عليه، والشهادة متعينة، لأداء الواجب، ووجوب الخروج إلى الجمعة إجماع، وكذا الشهادة المتعينة، والمعتاد من هذه الأعذار: حاجة الإنسان، وطهارة الحدث، والطعام والشراب إجماعًا، والجمعة منه، وكما لا يبطل الاعتكاف، فلا ينقص مدته، فلا يقضى شيئًا منه، لأن الخروج له كالمستثنى عادة، وبقية الأعذار إن لم تبطل لا يقضي الوقت الفائت بذلك، لكونه يسيرًا مباحًا، أو واجبًا، كحاجة الإنسان، وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب، واختاره الموفق والشارح، وصححه في تصحيح الفروع وغيره.
(6) وعبارة المنتهى: وسن أن لا يبكر لجمعة، اقتصارًا على قدر الحاجة،
وهو ظاهر كلام أحمد. وفي الإقناع وغيره: له التبكير إليها، لأنه خروج جائز فجاز تعجيله، كالخروج لحاجة الإنسان. وهو مذهب أبي حنيفة، وفي منتهى الغاية: احتمال تبكيره أفضل.(5/450)
ولا يطيل الجلوس بعدها(1) وله المشي على عادته(2) وقصد بيته لحاجة، إن لم يجد مكانًا يليق به بلا ضرر ولا منة(3) وغسل يده بمسجد في إناء، من وسخ ونحوه(4) لا بول، وفصد، وحجامة بإناء فيه أو في هوائه(5).
__________
(1) وفي المنتهى: وسن أن لا يطيل المقام بعدها، اقتصارًا على قدر الحاجة. وفي الإقناع وغيره: له إطالة المقام بعدها، ولا يكره، لصلاحية الموضع للاعتكاف. اهـ. ويستحب له سرعة الرجوع بعد الجمعة وغيرها.
(2) من غير عجلة لأن عليه فيها مشقة، ولا يبطل بدخوله لحاجة تحت سقيفة وفاقًا.
(3) كسقاية، ولا يحتشم مثله منها، ولا نقص عليه، وإن بذل له صديق أو غيره منزله القريب، لقضاء حاجته، لم يلزمه، للمشقة بترك المروءة، والاحتشام، ويقصد أقرب منزلية وجوبًا، لدفع حاجته به.
(4) كزفر، وكغسل يدي القائم من نوم ليل، ويفرغ الإناء خارج المسجد، وذكر المجد: في غير إناء، ولعله ما لم يتأذ به أحد.
(5) أي المسجد، وعبارة الفروع وغيره: ويحرم بوله في المسجد في إناء، وكذا فصد وحجامة، لعموم قول صلى الله عليه وسلم: «إن المساجد لم تبن لهذا، إنما هي لذكر الله، وقراءة القرآن، والصلاة» ويجوز للمستحاضة وفاقًا، مع أمن تلويثه، وإنما لم تمنع المستحاضة إذا أمنت التلويث، لأنها لا يمكنها ذلك إلا بترك
الاعتكاف، والفرق بينها وبين الحائض، أن الاستحاضة لا تمنع من الصلاة، بخلاف الحيض إجماعًا.(5/451)
(ولا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة)(1) حيث وجب عليه الاعتكاف متتابعًا(2) ما لم يتعين عليه ذلك، لعدم من يقوم به(3).
__________
(1) ولا يزور قريبًا، ولا يحتمل شهادة، ولا يؤديها ولا يغسل ميتًا، ونحو ذلك، فلا يخرج لكل قربة لا تتعين عليه وفاقًا، لقول عائشة: كان لا يعرج للسؤال عن المريض. رواه أبو داود. وثبت عنها أنها كانت لا تسأل عن المريض إلا وهي مارة، ولأنه منه بد كغيره، ولأنه لا يجوز ترك فريضة – وهي النذر – لفضيلة، قال في الفروع وغيره: ويخرج لمرض يتعذر معه القيام فيه، أو لا يمكنه إلا بمشقة شديدة، بأن يحتاج إلى خدمة أو فراش وفاقًا، وإن كان خفيفًا، كالصداع والحمى الخفيفة، لم يجز وفاقًا.
وتخرج المرأة لحيض ونفاس وفاقًا، ويستحب في الرحبة، فإن لم يكن رحبة رجعت إلى بيتها، فإذا طهرت، رجعت إلى المسجد وفاقًا، وتخرج لعدة الوفاة في منزلها، وحكاه الوزير إجماعًا، لوجوبه شرعًا ويلزم الخروج إذا احتيج إليه لجهاد تعين، بلا نزاع، ولا يبطل، وكذا إن تعين لإطفاء حريق، أو إنقاذ غريق ونحوه، ولا يبطل بذلك، لأنه عذر في ترك الجمعة، فهنا أولى، ومن أكرهه السلطان أو غيره على الخروج، لم يبطل اعتكافه، ولو بنفسه، وإن أخرج لاستيفاء حق عليه، فإن أمكنه الخروج منه بلا عذر بطل وفاقًا، وإلا فلا، ومتى زال العذر رجع وقت إمكانه، وإن خرج ناسيًا لم يبطل، للآية والأخبار.
(2) إما لتقييده بالنذر بالتتابع، أو نيته له، أو إتيانه بما يدل عليه، كشهر.
(3) فله الخروج له، لتعينه كجمعة وشهادة لزمتاه، لوجوبهما بأصل الشرع.(5/452)
(إلا أن يشترطه)، أي يشترط في ابتداء اعتكافه الخروج إلى عيادة مريض، أو شهود جنازة(1) وكذا كل قربة لم تتعين عليه(2) وماله منه بد، كعشاء ومبيت في بيته(3) لا الخروج للتجارة(4) ولا التكسب بالصنعة في المسجد(5) ولا الخروج لما شاء(6).
__________
(1) فيجوز له بالشرط، قال في المبدع: وهو قول جماعة من الصحابة، ومن بعدهم. وكذا قاله الشافعي وغيره، وقال الوزير: وهو الصحيح عندي. ولأن الاشتراط يصيره كالمستثنى، قال إبراهيم: كانوا يستحبون للمعتكف هذه الخصال.
(2) كزيارة صديق، وصلة رحم، فله شرطه.
(3) فيجوز له اشتراطه، جزم به الموفق وغيره، وكذا جزم به في المنتهى، لتأكد الحاجة إليهما، وامتناع النيابة فيهما.
وعنه: له ذلك من غير شرط، لما روي عن علي قال: المعتكف يعود المريض، ويشهد الجنازة، والجمعة، وليأت أهله، وليأمرهم بالحاجة، وهو قائم. قال في المبدع: إسناده صحيح وهو محمول. على التطوع، لكن الأفضل مقامه على اعتكافه، لفعله صلى الله عليه وسلم.
(4) أي فلا يصح اشتراطه ذلك، قولاً واحدًا، وهو مذهب مالك وغيره، لأنه ينافيه، قال أحمد: إن كان يحتاجه فلا يعتكف.
(5) أي فلا يجوز اشتراطه.
(6) لأنه ينافيه صورة ومعنى.(5/453)
وإن قال: متى مرضت، أَو عرض لي عارض خرجت، فله شرطه(1) وإذا زال العذر، وجب الرجوع إلى اعتكاف واجب(2) (وإن وطئ) المعتكف (في فرج)(3).
__________
(1) كما في الإحرام، وفائدته: أنه يجوز له التحلل، إذا حدث عائق، من مرض أو غيره، ولو لم يكن المرض ونحوه شديدًا. وقال المجد: الشرط هنا سقوط القضاء في العدة المعينة، فأما المطلقة كنذر شهر متتابع، لا يخرج منه إلا لمرض، فإنه يقضي زمن المرض، لإمكان حمل الشرط هنا على انقطاع التتابع فقط، ويكون الشرط هنا أفاد سقوط الكفارة.
(2) لأن الحكم يدور مع علته، فإن أخر رجوعه عن وقت إمكانه فكما لو خرج لما له منه بد، وله ثلاثة أحوال: نذر اعتكاف أيام غير متتابعة، ولا معينة، كعشرة أيام، فيلزمه إتمام الباقي من الأيام، محتسبًا بما مضى، بأن يقضي ما بقي، وعليه كفارة يمين، أو الاستئناف بلا كفارة، أو نذر أيامًا معينة، كالعشر الأخير من رمضان، فعليه قضاء ما ترك، ليأتي بالواجب، وكفارة يمين لفوات المحل.
(3) فسد اعتكافه، منذورًا كان أو مسنونًا، إجماعًا، للآية، والنهي فيها للفساد، ولما روى حرب عن ابن عباس: إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه. وسنده صحيح، وظاهر إطلاقهم: ولو ناسيًا كالحج؛ وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والوطء في الاعتكاف: محرم بالإجماع، قال تعالى { وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } أي ما دمتم عاكفين، في المسجد ولا في غيره، قال ابن كثير وغيره: هو الأمر المتفق عليه عند العلماء، أن المعتكف يحرم عليه النساء، ما دام معتكفًا في مسجد، ولو ذهب إلى منزله لحاجة، فلا يحل له أن يلبث فيه، إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك، وليس له أن يقبل امرأته، ولا أن يضمها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه.(5/454)
أو أنزل بمباشرة دونه (فسد اعتكافه)(1) ويكفر كفارة يمين إن كان الاعتكاف منذورًا(2)، لإفساد نذره، لا لوطئه(3) ويبطل أيضًا اعتكافه بخروجه لما له منه بد، ولو قل(4)
__________
(1) أي أو أنزل المعتكف بمباشرة دون الفرج فسد اعتكافه وفاقًا، إلا في أحد قولي الشافعي، وإن لم ينزل لم يفسد، ولا تحرم المباشرة في غير الفرج بلا شهوة وفاقًا، وذكر القاضي احتمالاً: تحرم كشهوة وفاقًا، وحكى الوزير عن أبي حنيفة وأحمد، فيمن قيل، أو لمس بشهوة: أنه قد أساء، لأنه قد أتى ما يحرم عليه، ولا يفسد اعتكافه.
(2) وهي أظهر الروايات عن أحمد، وعنه: لا تجب، وفاقًا لمالك والشافعي، حكاه الوزير وغيره في المنذور المعين، إذا نوى يمينًا وغير المنذور، اتفاقًا إلا رواية عن أحمد.
(3) أي ليست الكفارة لوطئه، بل لإفساده نذره، فلو كان التكفير للوطء نفسه – لا لأجل النذر – للزمته الكفارة به، ولو كان الاعتكاف غير منذور، والصحيح من المذهب – واختاره الموفق وغيره – أنه لا يجب عليه كفارة بالوطء في الاعتكاف مطلقًا وفاقًا، وجزم به المجد وغيره، وأجمعوا على وجوب القضاء.
(4) يعني زمن خروجه وفاقًا، لترك اللبث بلا حاجة، أشبه ما لو طال، لأنه لم يبق عاكفًا في المسجد، لا إن خرج لما لا بد منه فباع، أو اشترى، أو سأل عن مريض أو غيره، ولم يعرج أو يقف لذلك، فيجوز وفاقًا، أو دخل مسجدًا يتم اعتكافه فيه، أقرب إلى محل حاجته من الأول جاز، وإن كان أبعد، أو خرج إليه ابتداء بلا عذر، بطل اعتكافه وفاقًا، لتركه لبثًا مستحقًا، فإن وقف لمسألة بطل اعتكافه وفاقًا، لأنه لا يجوز ما يزاد به زمانه مما منه بد، لأنه يفوت به جزءًا مستحقًا
من اللبث بلا عذر، كما لو خرج له، ويجوز معه ما لا يزاد به زمانه، غير المباشرة، وإن أخرج بعض جسده لما له منه بد، لم يبطل وفاقًا، لفعل عائشة في ترجيله صلى الله عليه وسلم. وإن خرج جميعه مختارًا عمدًا بطل وإن قل وفاقًا، وإن خرج لغير معتاد في المنذور المتابع، وتطاول خروجه، خير بين استئنافه، وإتمامه مع كفارة يمين، وإن فعله في متعين قضى، وإن خرج لماله منه بد في التتابع لزمه استئنافه، وإن فعل في متعين لزمه الكفارة، رواية واحدة.(5/455)
.
(ويستحب اشتغاله بالقرب)(1) من صلاة، وقراءة، وذكر، ونحوها(2) (واجتناب ما لا يعنيه) بفتح الياء أَي يهمه(3).
__________
(1) القرب جمع قربة وهي: كل ما يتقرب به إلى الله تعالى أي يطلب به القرب عنده.
(2) كصيام وصدقة، وليس له ذكر مخصوص، ولا فعل آخر، سوى اللبث في المسجد بنية الاعتكاف، قال الوزير: أجمعوا على أنه يستحب للمعتكف ذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن؛ ونقل عن مالك وأحمد: لا يستحب إقراء القرآن والفقه. ثم قال: والذي عندي أن مالكًا وأحمد لم يريا استحباب أن لا يقرأ المعتكف غير القرآن في حال اعتكافه، إلا أنه من حيث أن إقراءه غيره يصرف همه عن تدبر القرآن إلى حفظ على القراء، فيكون قد صرف فهمه عن تدبر أسراره لنفسه، إلى حفظ ظاهر نطقه لغيره، وإلا فلا يظن بهما أنهما كانا يريان شيئًا من عمل اللسان للمعتكف يعدل قراءة القرآن في تدبر له، وهذا كله يشير إلى أن الاعتكاف حبس النفس، وجمع الهمة على نفوذ البصيرة في تدبر القرآن، ومعاني التسبيح، والتحميد، والتهليل، وذكر الله، فيكون كل جمع من الفكر يناسب هذه العبادة، وكل ما يسقط من الفكر ويكثر من الهم ينافيها.
(3) من جدال، ومراء، وكثرة كلام وغيره، لأنه مكروه في غيره، ففيه أشد كراهة، حتى كره بعض أهل العلم تعليم القرآن كما تقدم.(5/456)
لقوله عليه السلام «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»(1) ولا بأْس أَن تزوره زوجته في المسجد، وتتحدث معه(2) وتصلح رأسه، أو غيره(3) ما لم يتلذذ بشيء منها(4) وله أن يتحدث مع من يأْتيه ما لم يكثر(5).
__________
(1) من قول أو فعل، والعناية بالشيء شدة الاهتمام به، فما لا تتعلق عنايته به، ولا يكون من قصده ومطلوبه، فمن حسن إسلامه تركه، وإذا حسن الإسلام، اقتضى ترك ما لا يعنيه كله من المحرمات، والشبهات، والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني المسلم، إذا كمل الإسلام، وبلغ إلى درجة الإحسان.
(2) لأن صفية رضي الله عنها زارته صلى الله عليه وسلم، فتحدثت معه.
(3) أي تغسل رأسه وترجله، فإن عائشة رضي الله عنها رجلت رأسه صلى الله عليه وسلم، أو تصلح شيئًا غير رأسه من بدنه كمداواة ونحوها.
(4) من مس أو كلام يتلذذ به، أو مباشرة ونحو ذلك فلا، لمنافاته حال المعتكف.
(5) لخبر صفية، وله أن يأمر بما يريد خفيفًا، ولا يشغله وفاقًا، لأمره عليه الصلاة والسلام أهله بذلك، ولا بأس أن يتزوج، ويشهد النكاح، لنفسه ولغيره، ويصلح بين القوم، ويعود المريض، ويعزي، ويصلي على الجنازة، ويهنئ، ويؤذن ويقيم، كل ذلك في المسجد، وفاقًا للشافعي وأبي حنيفة، إلا في الصلاة على الجنازة، لكراهتها في المسجد عندهم، ولا بأس أن يتنظف، ولا يكره التطيب وفاقًا كالتنظف، استظهره في الفروع، ويستحب له ترك رفيع الثياب والتلذذ بما يباح له قبل الاعتكاف، ولا يكره.(5/457)
ويكره الصمت إلى الليل(1) وإن نذره لم يف به(2) وينبغي لمن قصد المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه، لا سيما إن كان صائمًا(3).
__________
(1) إجماعًا، إلا أنه لا يتكلم إلا بخير، ولأنه ليس من شريعة الإسلام، وظاهر الأخبار تحريمه، حكاه الموفق وغيره، ورأى أبو بكر امرأة لا تتكلم، فقال: تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية. رواه البخاري وقال الشيخ: يحرم إذا تضمن ترك واجب، أو تعبد به عن الكلام المستحب، ويجب عن الكلام المحرم، ويسن عن المفضول، ويكره عن المستحب.
(2) لحديث علي «لا صمات إلى الليل» رواه أبو داود بسند حسن، وفي الصحيح، في الذي نذر أن لا يتكلم «مروه فليتكلم» وقال الشافعي: لو نذر الصمت في اعتكافه، ثم تكلم، فلا كفارة عليه. ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام، لأنه استعمال له في غير ما هو له، كقوله لمن جاء: { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } ، وقال الشيخ: إن قرأ به عند الحكم الذي أنزل له، أو ما يناسبه فحسن، كقوله لمن دعاه لذنب تاب منه (ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) وقوله عندما أهمه { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ } وقال النووي – عند حديث الشفاعة – وفيه: وقال { خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } : فيه جواز الاستشهاد بالقرآن في مثل هذا الحديث، وفي الصحيح مثله من فعله صلى الله عليه وسلم، لما طرق فاطمة وعليا، ثم انصرف وهو يقول { وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } ونظائره كثيرة.
(3) سواء كان لصلاة أو غيرها، لا لإقراء قرآن وعلم ونحوه إذا قيل: يكره للمعتكف؛ وقال الشيخ: من قصد المسجد لصلاة أو غيرها لا ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه.(5/458)
ولا يجوز البيع ولا الشراء فيه للمعتكف وغيره، ولا يصح(1).
كتاب المناسك(2)
__________
(1) قال الوزير: أجمعوا على أنه ليس للمعتكف أن يتجر ويكتسب بالصنعة على الإطلاق، ومنع منه مالك على الإطلاق في رواية. اهـ. والإجارة كالبيع، وقطع جمع من الأصحاب بالكراهة، وفاقًا لمالك والشافعي، لما روى أحمد، وأبو داود، وغيرهما. «نهى عن البيع والشراء في المسجد».
وروى الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا «إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك» وصحت الأخبار بالمنع من إنشاد الضالة، فالبيع في الاعتكاف أولى، ويكره فيه اليسير كالكثير وفاقًا.
(2) الحج أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، ودعائمه الخمس، وقواعده، قال الله تعالى { وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } أي: ولله على الناس فرض واجب حج البيت، فحرف (علي) للإيجاب، لا سيما إذا ذكر المستحق، واتبعه بقوله (ومن كفر) فسمى تعالى تاركه كافرًا فدل على كفره، وحيث دل على كفره، فقد دل على آكدية ركنيته، وأما من لم يعتقد وجوبه فهو كافر إجماعًا. وقال { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } فأذن فيهم الخليل عليه السلام: إن لربكم بيتًا فحجوه. وللترمذي وغيره – وصححه – عن علي مرفوعًا «من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا».
وورد فيه أحاديث كثيرة (منها) «بني الإسلام على خمس» وذكر الحج، ولأحمد وغيره بسند حسن عن عياش مرفوعًا «إن هذه الأمة لا تزال بخير، ما عظموا هذه الحرمة» يعني الكعبة «حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا».
وأجمع المسلمون على أنه ركن من أركان الإسلام، وفرض من فروضه، إجماعًا ضروريًا،وهو من العلم المستفيض، الذي توارثته الأمة خلفًا عن سلف، والحكمة والله أعلم،أنه إنما وضع البيت، وأوجب حجه { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } كما ذكر الله في كتابه، لا لحاجة به تعالى إلى الحجاج، كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه { فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } وأخر الحج عن الصلاة، والزكاة، والصوم، لأن الصلاة عماد الدين، ولشدة الحاجة إليها، ولتكررها كل يوم خمس مرات، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، ثم الزكاة لكونها قرينة لها، في أكثر المواضع
من الكتاب والسنة، ولشمولها المكلف وغيره، ثم الصوم، لتكرره كل سنة، لكن البخاري قدم الحج على الصوم، للتغليظ في تركه، ولعدم سقوطه بالبدل، وترجم المصنف كالمقنع وغيره «بالمناسك» وترجم غيرهم بـ«الحج».(5/459)
جمع منسك، بفتح السين وكسرها(1) وهو التعبد(2) يقال: تنسك تعبد(3) وغلب إطلاقها على متعبدات الحج(4) والمنسك في الأَصل من النسيكة وهي الذبيحة(5) (الحج) بفتح الحاء في الأشهر(6) عكس شهر ذي الحجة(7) فُرض سنة تسع من الهجرة(8).
__________
(1) فبالفتح مصدر، وبالكسر اسم لموضع العبادة. فيقال للعابد: ناسك. والكسر على خلاف القياس، وقد روي مفتوحًا على القياس.
(2) أي التنسك هو التعبد.
(3) «ونسك» ينسك أي تعبد، «ونسك» بالضم أي صار ناسكًا.
(4) لكثرة أنواعها، لما تضمنته من الذبائح المتقرب بها، وفي المطالع: المناسك مواضع متعبدات الحج. فالمناسك إذًا المتعبدات كلها، وقد غلب إطلاقها على أفعال الحج، لكثرة أنواعها.
(5) يعني المتقرب بها، ثم اتسع فيها فصار اسمًا للعبادة.
(6) لا بكسرها في الأشهر، وبالفتح هو المصدر، وبالفتح والكسر جميعًا هو الاسم منه.
(7) فالأشهر فيه الكسر.
(8) عند أكثر أهل العلم، وجزم به غير واحد من أهل التحقيق، وقيل: سنة عشر، قال ابن القيم: تأخر فرضه إلى سنة تسع، أو عشر، عام تبوك، وهو
قول جمهور المفسرين، ولم يحج صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلا حجة واحدة، وهي حجة الوداع، وكانت سنة عشر من الهجرة، بلا نزاع، وحج قارنا، لسوقه الهدي، وإنما سميت حجة الوداع لأنه ودع الناس فيها، وقال «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» واعتمر أربع عمر، وكلها في أشهر الحج، وقال ابن إسحاق: لم يبعث الله نبيًا بعد إبراهيم إلا حج هذا البيت. وقال غيره: ما من نبي إلا حج.(5/460)
وهو لغة القصد(1) وشرعًا: قصد مكة لعمل مخصوص(2) في زمن مخصوص(3) (والعمرة) لغة الزيارة(4) وشرعًا: زيارة البيت، على وجه مخصوص(5)
__________
(1) أي إلى من تعظمه، أو كثرة القصد إليه، ويطلق على العمل أيضًا، وعلى الإتيان مرة بعد أخرى، قال الجوهري: ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك، وقال الشيخ: الحج في اللغة قصد الشيء وإتيانه، ومنه سمي الطريق محجة، ومنه في الاشتقاق الأكبر: الحاجة، وهو ما يقصد ويطلب للمنفعة به.
(2) فالمعنى الشرعي يجب اشتماله على اللغوي، بزيادة المناسبة بين المعنيين، فالحج شرعًا: قصد، وهو النية، وزيادة الأفعال، كالصلاة، دعاء، وزيادة الأفعال.
(3) هو يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، ويقال: الحج عبارة عن قصد البيت العتيق، بإحرام مخصوص، مشتمل على وقوف وغيره، على وجه مخصوص.
(4) يقال: اعتمره. إذا زاره، وتسمى «حجًا أصغر» لمشاركتها له في الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق، أو التقصير.
(5) بإحرام، وطواف، وسعي، وتحلل، ولم يقل: بزمن مخصوص
لأنها تجوز كل وقت، وقال الشيخ: ثم غلب – في الاستعمال الشرعي والعرفي – على حج بيت الله وإتيانه، فلا يفهم عند الإطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد، لأنه هو المشروع، الموجود كثيرًا، وذلك لقوله { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ } والمقصود من الحج والعمرة عبادة الله وحده، في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها، وقال صلى الله عليه وسلم «إنما جعل رمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، لإقامة ذكر الله» بل الحج خاصة هذا الدين الحنيف، وسر التوحيد، قال بعض المفسرين – في قوله { حُنَفَاءَ للهِ } – أي حجاجًا. وجعل تعالى بيته قيامًا للناس، فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه، فلو ترك الحج خرت السماء على الأرض،كما قال ابن عباس: لا يزال الناس قيامًا، ما زال هذا البيت محجوجًا. فهو خاصة الحنيفية، وزيارة المحب لمحبوبه، وإجابة دعوته، ومحل كرامته، ولهذا كان شعارهم «لبيك لبيك».(5/461)
.
وهما (واجبان)(1) لقوله تعالى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ } (2).
__________
(1) أي الحج والعمرة، أما وجوب الحج فبإجماع المسلمين، بل هو ركن من أركان الإسلام، المشار إليها في حديث «بني الإسلام على خمس» فذكر حج البيت وتقدم، وفرض كفاية كل عام، على من لم يجب عليه عينًا، وأما وجوب العمرة فالمذهب وجوبها، وفاقًا للجديد من قولي الشافعي، وقول في مذهب مالك، وهو قول أكثر العلماء من الصحابة وغيرهم، قاله في الفروع، والبغوي وغيرهما وتجب بالشروع فيها، باتفاق أهل العلم، حكاه ابن كثير وغيره، وأجمعوا على أن العمرة مشروعة، بأصل الإسلام، وأن فعلها في العمر مرة واحدة كالحج.
(2) احتج بالآية على وجوب العمرة، وسبب نزولها: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وهو بالجعرانة، فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فنزلت { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ } والسائل قد أحرم، وإنما سأل كيف يصنع؟ وتقدم أنه قد انعقد الإجماع على وجوب إتمامها، قال ابن القيم: وليس في الآية فرضها، وإنما فيها إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء وورد في فضلها أحاديث كثيرة.(5/462)
ولحديث عائشة: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ قال «نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة» رواه أحمد، وابن ماجه، بإسناد صحيح، وإذا ثبت ذلك في النساء، فالرجال أَولى(1).
__________
(1) أي إذا ثبت وجوب الحج والعمرة على النساء في الخبر، فالرجال أولى بثبوتها في حقهم، وللبخاري عنها، أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال «لكن أفضل الجهاد حج مبرور» ولمسلم عن ابن عباس «دخلت العمرة في الحج، إلى يوم القيامة» وعن أبي رزين العقيلي، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير، لا يستطيع الحج والعمرة، ولا الظعن، فقال «حج عن أبيك واعتمر» رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وفي حديث عمر، عند ابن خزيمة وغيره «وتحج البيت وتعتمر».
وقال الشافعي: العمرة سُنة، لا نعلم أحدًا رخص في تركها، وليس فيها شيء ثابت بأنها تطوع. وعنه: سنة، وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، وأحد قولي الشافعي، واختاره الشيخ وغيره، لحديث جابر مرفوعًا: سئل عن العمرة، أواجبة هي؟ قال «لا، وأن تعتمر خير لك» رواه الترمذي وصححه، وقال: وهو قول بعض أهل العلم، قالوا: العمرة ليست بواجبة. ولأن الأصل عدم الوجوب، والبراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف، ولا دليل يصلح لذلك، مع اعتضاد الأصل بالأحاديث، القاضية بعدم الوجوب، ويؤيده اقتصاره تعالى على الحج في قوله تعالى { وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } واقتصار الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث «بني الإسلام على خمس» على الحج، وقال للذي قال: لا أزيد عليهن، ولا أنقص. «لئن صدق ليدخلن الجنة» وحديث «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» ولفظ «التمام» في الآية مشعر بأنه إنما يجب بعد الإحرام، لا قبله، للخبر في سبب النزول، وأما أهل مكة فالقول بوجوبها عليهم ضعيف، مخالف للسنة الثابتة، وهو الأصح عند أحمد، قاله الشيخ وغيره.(5/463)
إذا تقدر ذلك فيجبان (على المسلم، الحر، المكلف، القادر) أي المستطيع(1) (في عمره مرة) واحدة(2) لقوله عليه السلام «الحج مرة، فمن زاد فهو مطَّوَّع» رواه أحمد وغيره(3).
__________
(1) لقوله تعالى { وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } (مَنْ) بدل من (الناس) فتقديره: ولله على المستطيع. وللسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين، ولانتفاء تكليف ما لا يطاق عقلاً وشرعًا.
(2) قال الوزير وغيره: أجمعوا على أن الحج يجب على كل مسلم، عاقل، حر، بالغ، صحيح، مستطيع، في العمر مرة واحدة، وأن المرأة في ذلك كالرجل، وأن الشرائط في حقها كالرجل. اهـ. وإذا فقد من هذه الشروط المذكورة واحد لم يجب أصلاً، ولا يجب على من قام به واحد من أضداد هؤلاء، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن من فعل العمرة مرة واحدة كالحج، وتقدم الكلام في وجوبها.
(3) فرواه النسائي بمعناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولأحمد عن علي نحوه، وفيه: أفي كل عام؟ قال «لا» وفي صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا «أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجوا» فقال رجل: أكل عام؟ فقال «لو قلت: نعم. لوجبت، ولما استطعتم» وفي الصحيحين عن سراقة: مُتعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ قال «لا، بل لأبد الأبد» «والمطَّوَّع»
بتشديد الطاء المهملة، وكسر الواو المشددة، أي متنفِّل، غير مفترض، فإنه لم يفرض في العمر إلا مرة واحدة.(5/464)
فالإسلام والعقل، شرطان للوجوب والصحة(1) والبلوغ وكمال الحرية، شرطان للوجوب والإجزاء، دون الصحة(2)
__________
(1) فلا يجبان على كافر أصلي إجماعًا، ولا على مرتد وفاقًا، ويعاقب عليه، وعلى سائر فروع الإسلام، كما تقدم، ولا يجبان عليه باستطاعته في حال ردته فقط، وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك، ولا تبطل استطاعته بردته، وإن حج ثم ارتد، ثم أسلم وهو مستطيع لم يلزمه، وفاقًا للشافعي، ولا يصحان منه إجماعًا، لأنهما عبادة من شرطها النية، وهي لا تصح من كافر، ولأنه ممنوع من دخول الحرم، وهو مناف له، وينعقد إحرامه معه ابتداء، بخلاف الردة إجماعًا، ولا يبطل إحرامه، ويخرج منهما بها، وهو مذهب أبي حنيفة، لعموم { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } ولا يجبان على مجنون إجماعًا، ولا يصحان منه إن عقده بنفسه إجماعًا، لأنه لا قصد له، وقصد الفعل شرط، وكذا لو عقده له وليه، وقيل: يصح. وهو مذهب مالك والشافعي، ولا تبطل استطاعته بجنونه، ولا إحرامه به، قياسًا على الصوم اتفاقًا، ولا يبطل الإحرام بالإغماء، والسكر، والموت.
(2) فلا يجبان على الصغير وفاقًا، للخبر، لأنه غير مكلف، ولاشتمال الحج على المال والبدن، وفي نيته قصور، ولا يجبان على القن وفاقًا، لأن مدتهما تطول، فلم يجبا عليه، لما فيه من إبطال حق السيد، والمشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم شرعًا، ولأنه لا مال له، وكذا مكاتب، ومدبر، وأم ولد، ومعتق بعضه وفاقًا، وحكاه ابن الهمام إجماعًا، وإن فعلا انعقد وفاقًا، لحديث ابن عباس: أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًا، فقالت: ألهذا حج؟ قال «نعم، ولك أجر» رواه مسلم، ولأن العبد من أهل العبادة، فصحا منه كالحر، ولا يجزئ عن حجة الإسلام وعمرته بعد زوال المانع، وعليهما الحج والعمرة بعد البلوغ والعتق، لقول ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى» رواه أحمد، والشافعي والبيهقي، وغيرهم، والحاكم وصححه، ولأنهم فعلوا قبل وجوبه، فلم يجزئهم إذا صاروا من أهله، حكاه ابن عبد البر وغيره إجماعًا، وهو قول عامة أهل العلم إلا شذوذًا.(5/465)
.
والاستطاعة شرط للوجوب، دون الإجزاء(1) فمن كملت له الشروط وجب عليه السعي (على الفور)(2) ويأْثم إن أخره بلا عذر(3) لقوله عليه السلام «تعجلوا إلى الحج – يعني الفريضة – فإن أَحدكم لا يدري ما يعرض له» رواه أحمد(4)
__________
(1) فلو حج كبير، أو مريض، أو فقير أجزأ إجماعًا، وحج خلق من الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا شيء لهم، ولم يأمرهم بالإعادة.
(2) أي فمن كملت له الشروط الخمسة، الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، وجب عليه السعي للحج والعمرة على الفور، وهو الشروع في الامتثال عقب الأمر، من غير فصل، ولا يجوز له تأخيره، عند أحمد، وأبي حنيفة، وأكثر الشافعية، قال الشيخ: والحج على الفور، عند أكثر العلماء، وإذا خاف العنت من يقدر على الحج قدم النكاح، وحكي إجماعًا، وإلا قدم الحج.
(3) لأن الأمر يقتضي الفورية، ولما ورد في التأخير من التأثيم، ومع العذر فلا تأثيم.
(4) وله من حديث الفضل «من أراد الحج فليتعجل» وليست الإرادة هنا على التخيير، لانعقاد الإجماع على خلافه، بل كقوله: من أراد الصلاة فليتوضأ. وكقوله { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } وعن عبد الرحمن بن سابط يرفعه «من مات ولم يحج حجة الإسلام، لم يمنعه مرض حابس، أو سلطان جائر، أو حاجة ظاهرة، فليمت على أي حال، يهوديًا أو نصرانيًا» رواه سعيد، وله طرق توجب أن له أصلاً، وعن الحسن، عن عمر: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. رواه البيهقي وغيره، ولأنه أحد مباني الإسلام، فلم يجز تأخيره إلى غير وقت معين، كبقية المباني، بل أولى.
وأما تأخيره صلى الله عليه وسلم، هو وأصحابه، بناء على أنه فرض سنة تسع، فيحتمل أنه كان في آخرها، أو لعدم استطاعته، أو حاجة خوف في حقه، منعه وأكثر أصحابه، أو لأن الله كره له الحج مع المشركين عراة، أو لاستدارة الزمان، أو غير ذلك، ومن جملة الأقوال أنه فرض سنة عشر، فلا تأخير، وقال ابن القيم: لما نزل عليه فرض الحج بادر، فإن فرضه تأخر إلى سنة تسع، أو عشر، عام تبوك. وإرداف الصديق بعلي ينادي بذلك مؤذن به، وهو قول جمهور المفسرين، ولم ير أحمد بالغزو قبل الحج بأسًا، قال الشيخ: هذا مع أن الحج واجب على الفور عنده، لكن تأخيره لمصلحة الجهاد، كتأخير الزكاة الواجبة، لانتظار قوم أصلح من غيرهم، أو تضرر أهل الزكاة، وتأخير الفوائت، للانتقال عن مكان الشيطان، وهذا أجود ما ذكروه إن كان وجب عليه متقدمًا، والتقديم أفضل إجماعًا، ولو حج في آخر عمره ليس عليه إثم بالإجماع، ولو مات ولم يحج مع القدرة أثم إجماعًا.(5/466)
.
(فإن زال الرق) بأَن عتق العبد محرمًا(1) (و) زال (الجنون) بأَن أَفاق المجنون، وأَحرم إن لم يكن محرمًا(2).
(و) زال (الصبا) بأَن بلغ الصغير وهو محرم، (في الحج) وهو (بعرفة) قبل الدفع منه، أَو بعده إن عاد فوقف في وقته(3) ولم يكن سعى بعد طواف القدوم(4) (وفي) أي أَو وجد ذلك في إحرام (العمرة قبل طوافها صح) أي الحج والعمرة فيما ذكر (فرضًا)(5) فتجزئه عن حجة الإسلام وعمرته(6) ويعتد بإحرام ووقوف موجودين إذًا(7).
__________
(1) سواء كان قنا، أو مكاتبًا، أو مدبرًا، أو أم ولد، أو معتقًا بعضه، أو معلقًا بصفة.
(2) قبل جنونه، لا فيه، إذ المجنون لا يصح إحرامه.
(3) صح فرضه، وهو مذهب الشافعي، وكذا إن أسلم الكافر، ثم أحرم، قبل الدفع من عرفة أو بعده وعاد فوقف في وقته، صح فرضه، كما لو أحرم إذًا، ولأنه أتى بالنسك حال الكمال، فأجزأه، كما لو وجد قبل الإحرام.
واستدل أحمد بأن ابن عباس قال: إذا عتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته، وإن عتق بجمع لم تجز وعنه، ويلزمه العود إن أمكنه، لوجوب الحج على الفور مع الإمكان، كالبالغ الحر.
(4) يعني من عتق وأفاق وبلغ.
(5) وفاقًا لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال، فأجزأ عنهما، كما لو وجد قبل الإحرام.
(6) أي ممن زال رقه وجنونه وصباه في الحج بعرفة، وفي العمرة قبل طوافها، ولا تجزئه العمرة بعد طوافها، ولا في أثنائه، ولا أثر لإعادته وفاقًا في الكل.
(7) بالتنوين أي وقت البلوغ، والحرية، وزوال الجنون.(5/467)
وما قبله تطوع، لم ينقلب فرضًا(1) فإن كان الصغير أَو القن سعى بعد طواف القدوم قبل الوقوف لم يجزئه الحج، ولو أَعاد السعي، لأَنه لا يشرع مجاوزة عدده، ولا تكراره(2) بخلاف الوقوف، فإنه لا قدر له محدود(3) وتشرع استدامته(4) وكذا إن بلغ أَو عتق في أَثناء طواف العمرة، لم تجزئه ولو أَعاده(5) (و) يصح (فعلهما) أَي الحج والعمرة (من الصبي) نفلاً(6).
__________
(1) ولا اعتداد به، قاله الموفق ومن تابعه، وقدمه في التنقيح، والمنتهى، والإقناع، وقال المجد وجماعة: ينعقد إحرامه موقوفًا، فإذا تغير حاله تبينت فرضيته، كزكاة معجلة. وقال مرعي: لو حج وفي ظنه أنه صبي، أوقن، فبان بالغًا، أو حرًا أجزأ.
(2) أي السعي وقلنا: هو ركن. كما هو المذهب، وقال غير واحد: يجزئه إذا أعاد السعي، ولو كان قد سعى مع طواف القدوم، لحصول الركن الأعظم وهو الوقوف، فلا فرق في وجود ذلك قبل السعي أو بعده.
(3) يعني الوقوف، فإنه يكفي ولو لحظة، فلا تقدير بساعة أو نحوها.
(4) أي الوقوف، لأن من وقف نهارًا وجب عليه أن لا يدفع إلا بعد الغروب، مع أنه يكفي لو دفع قبله.
(5) لمضي بعض الركن حال الصغر والرق، وهو لا يشرع مجاوزة عدده، ولا تكراره.
(6) وفاقًا، إلا أن أبا حنيفة قال: لا يتعلق به وجوب الكفارة، قال الوزير:
أي يكتب له. وكذلك أعمال البر كلها، فهي تكتب له، ولا تكتب عليه، ومعنى قول أبي حنيفة: لا يصح منه. لا يصح صحة يتعلق بها وجوب الكفارات عليه، إذا فعل محظورات الإحرام.(5/468)
لحديث ابن عباس: أَن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًا، فقالت: أَلهذا حج؟ قال «نعم، ولك أَجر» رواه مسلم(1) ويحرم الولي في مال، عمن لم يميز(2).
__________
(1) ورواه الترمذي وغيره وصححه، وعن السائب بن يزيد، قال: حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن سبع، وغير ذلك من الأخبار، قال الترمذي، وابن عبد البر، والوزير، وغيرهم: أجمع أهل العلم أن الصبي إذا حج قبل أن يبلغ، فعليه الحج إذا وجد وبلغ، ولا تجزئه تلك الحجة عن حجة الإسلام، وكذا عمرته، لقول ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما صبي حج ثم بلغ، فعليه حجة أخرى» رواه الشافعي والبيهقي، ولأنه فعله قبل وجوبه، فلم يجزئه إذا صار مع أهله.
(2) أي يعقد الإحرام ولي الصبي في المال – وهو الأب، أو وصيه، أو الحاكم – عن الصبي غير المميز، حيث لم يمكنه الإحرام بنفسه، ويقع لازمًا، وحكمه كالمكلف عند الجمهور، لا الولي في النكاح، كالعم، وابن العم، فإنه لا ينعقد إحرامه بهم، وإذا عدم الولي في المال، يقوم غيره مقامه، كما في قبول الزكاة له، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم «ولك أجر» حيث لم يستفصل، فيسأل: هل له أب حاضر، أو لا؟ ولقول جابر: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا النساء، والصبيان، فأحرمنا عن الصبيان. رواه سعيد، فيعقد له الولي – أو من يقوم مقامه – الإحرام، ويصير الصغير بذلك محرمًا، دون الولي، ولا يحرم الولي عن مميز، وفاقًا لمالك، والشافعي، لعدم الدليل.(5/469)
ولو محرمًا، أَو لم يحج(1)، ويحرم مميز بإذنه(2) ويفعل ولي ما يعجزهما(3) لكن يبدأ الولي في رمي بنفسه(4).
__________
(1) أي ولو كان الولي محرمًا لنفسه، أو نائبًا عن غيره، أو لم يحج عن نفسه، ولا عن غيره.
(2) أي ويحرم المميز عن نفسه بإذن وليه، لأنه يصح وضوءه، فيصح إحرامه، ولا يصح بغير إذن وليه، لأنه يؤدي إلى لزوم مال، فلم ينعقد بنفسه، كالبيع، واختار المجد: يصح كصوم وصلاة.
(3) كرمي وتلبية، لحديث جابر: لبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم؛ رواه أحمد، وابن ماجه، وعن عمر في الرمي، وأبي بكر، أنه طاف بابن الزبير في خرقة، رواهما الأثرم، وعن عائشة، أنها كانت تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم، وقال عطاء: يفعل به كما يفعل بالكبير، ويشهد المناسك كلها، إلا أنه لا يصلي عنه، وكل ما أمكن الصغير – مميزًا كان أو دونه – فعله بنفسه، كالوقوف، والمبيت، لزمه فعله، بمعنى أنه لا يصح أن يفعل عنه، لعدم الحاجة إليه، ويجتنب في حجة ما يجتنب الكبير من المحظورات، والوجوب متعلق بالولي، لأن الصغير لا يخاطب بخطاب تكليفي، وزيادة نفقته في السفر عن نفقة الحضر في مال وليه، عند جمهور الأصحاب.
(4) أي عن نفسه، لا عن غيره، كما في النيابة في الحج، وهذا استدراك من قوله: ويفعل ولي. الخ، لدفع توهم: أنه يبدأ في رمي بموليه، فإنه لو بدأ برمي عن موليه وقع عن نفسه هو، وقيده بعضهم بما إذ كان حجه فرضًا، وإن أمكن الصبي أن يناوله النائب الحصى ناوله، وإن أمكن أن يضعها في كفه فيجعل يده كالآلة فحسن، ليوجد من الصبي نوع عمل.(5/470)
ولا يعتد برمي حلال(1)، ويطاف به لعجز راكبًا أَو محمولاً(2). (و) يصحان من (العبد نفلاً) لعدم المانع(3).
__________
(1) لأنه لا يصح لنفسه رمي، فلا يصح عن غيره، إلا الطواف لوجوده من الصبي، كمحمول مريض، ولم يوجد من الحامل إلا النية.
(2) كالمريض، ولفعل أبي بكر، قال الشيخ: وإن لم يمكنه الطواف ماشيًا، فطاف راكبًا، أو محمولاً، أجزأ بالاتفاق. وتعتبر نية طائف به، لتعذر النية منه، إن لم يكن مميزًا، فإن لم يمكن الطواف به راكبًا، ولا محمولاً، طاف عنه وليه، قال الزركشي: لا يخلو من ثمانية أحوال «أحدها» نويا جميعًا عن الحامل فقط، فيصح له بلا ريب «الثاني» نويا جميعًا عن المحمول، فتختص الصحة به أيضًا «الثالث» نوى كل منهما عن نفسه، فيصح الطواف للمحمول، دون الحامل، جعلا للحامل كالآلة، وأخذ الأجرة عن المحمول يدل على أنه قصده به، وحسن أبو محمد صحة الطواف منهما كل لنفسه، لأنه لا يصرفه عن نفسه، ولأن كلا منهما طائف بنية صحيحة، كالحمل بعرفات، وذكر ذلك ابن الزاغوني احتمالاً، وصاحب الفروع قولاً، وهو مذهب أبي حنيفة. قال «والرابع، والخامس» نوى أحدهما عن نفسه، ولم ينو الآخر شيئًا، فيصح للناوي، دون غيره، «السادس، والسابع، والثامن» لم ينو أحد منهما، أو نوى كل منهما عن صاحبه، فلا يصح لواحد منهما، والسعي كالطواف، صرح به الشافعية، وقال غير واحد: هو كالعبادات المتنوعة، لتعلقه بأماكن، وأزمان، فيفتقر كل جزء منه إلى نية، وذكر القاضي وغيره أن نية الحج تشمل أفعاله كلها، إلا البدل وهو الهدي.
(3) ولكونه من أهل العبادة، فصحا منه إجماعًا، وإن عتق فعليه الحج إن استطاع، وقال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن المملوك إذا حج في حال رقه ثم عتق، فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلاً، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقه.(5/471)
ويلزمانه بنذره(1) ولا يحرم به، ولا زوجة، إلا بإذن سيد وزوج(2) فإن عقداه فلهما تحليلهما(3) ولا يمنعها من حج فرض كملت شروطه(4).
__________
(1) أي يلزم الحج والعمرة العبد بنذره بلا خلاف، لأنه مكلف، فصح نذره كالحر، ولا يجوز له تحليله منه، لوجوبه، كما لو أحرم بواجب بأصل الشرع، وفي رواية: إن كان نذره بإذنه.
(2) وفاقًا، لتفويت حق الزوج والسيد بالإحرام.
(3) أي فإن عقد قن، أو امرأة الإحرام بلا إذن سيد وزوج، ولم يكن منذورًا، فللسيد والزوج منعهما منه وفاقًا، لأن حقهما لازم، فملكا إخراجهما منه، كالاعتكاف، وإن لم تقبل تحليله أثمت، وله مباشرتها، ويكونان كالمحصر، لأنهما في معناه، فإن نذره بإذن سيد فليس له تحليله، ولا لزوج تحليلها من منذور، ولو لم يأذن فيه، ومفهومه أنهما إن فعلاه انعقد إحرامهما، لأنه عبادة بدنية، فصحت بغير إذن كالصوم.
(4) أي ولا يمنع الزوج زوجته، من حج فرض كملت شروطه، ولا يحللها منه، وفاقًا، لأنه واجب بأصل الشرع، أشبه الصوم والصلاة، وقال الشيخ: ليس للزوج منع زوجته من الحج الواجب، مع ذي رحم، عليها أن تحج وإن لم يأذن في ذلك، حتى إن كثيرًا من العلماء أو أكثرهم يوجبون لها النفقة عليه مدة الحج. وهذا مستدرك مما أجمله الشارح قبل، وأفردها بالفرض دون العبد، لأنه لا يجب عليه حج بحال بخلافها، ولو لم تستكمل شروطه فله منعها، وإن أحرمت به بلا إذنه لم يملك تحليلها، ويستحب أن تستأذنه.(5/472)
ولكل من أَبوي حر بالغ منعه من إحرام بنفل، كنفل جهاد(1) ولا يحللانه إن أَحرم(2) (والقادر) المراد فيما سبق(3) (من أَمكنه الركوب(4)
__________
(1) أي لهما منعه من نفل الحج، كما أن لهما منعه من نفل الجهاد، مع أنه فرض كفاية، لأن بر الوالدين فرض عين، واستغربه ابن مفلح وغيره، وقالوا: المعروف اختصاص الجهاد بهذا الحكم، والمراد – والله أعلم – أنه لا يسافر لمستحب إلا بإذنهما كسفر الجهاد، وأما ما يفعله في الحضر نحو ذلك فلا يعتبر فيه إذن، وإن لم يعتبره أحد، ولا وجه له، والعمل على خلافه، كصلاة النافلة.
(2) أي بالحج والعمرة، لوجوبه بالشروع فيهما، ولا يجوز للولد طاعتهما في ترك الحج الواجب، أو التحلل منه، وكذا كل ما وجب من صلاة وصوم، وكالجماعة والجمع، والسفر للعلم الواجب، لأنه فرض عين، وهذا المستحب مقدم على فرض الكفاية، وتلزم طاعتهما في غير معصية فيحرم، ولو كانا فاسقين في ظاهر كلام أحمد، قال الشيخ: فيما نفع فيه لهما ولا ضرر عليه، فإن شق عليه ولم يضره وجب. وفي رواية: لا طاعة لهما إلا في البر، وفي رواية: لا طاعة لهما في مكروه، أو ترك مستحب. وقال: ليس للأبوين منع ولدهما من الحج الواجب، لكن يستطيب أنفسهما، فإن أذنا له وإلا حج. وقال: إذا وجب على المحجور عليه، لم يكن لوليه منعه منه على الوجه الشرعي. اهـ. وليس لولي سفيه مبذر منعه من حج الفرض، ولا يحلله، ويدفع نفقته إلى ثقة ينفق عليه في الطريق، ويتحلل بصوم إذا أحرم بنفل إن زادت نفقته على نفقة الإقامة.
(3) أي المستطيع كما تقدم في قوله عند قول الماتن: المكلف القادر.
(4) من غير ضرر يلحقه لكبر أو زمانه، أو مرض لا يرجى برؤه، أو ثقل لا يقدر معه أن يركب إلا بمشقة شديدة، أو كان معضوبًا كما سيأتي.(5/473)
ووجد زادًا وراحلة) بآلتهما(1) (صالحين لمثله)(2) لما روى الدارقطني بإسناده عن أَنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } قال: قيل يا رسول الله ما السبيل؟ قال «الزاد والراحلة»(3)
__________
(1) أي آلة الراحلة من رحل، وقتب، ومحمل، ونحوها، حيث اعتبرت في حقه، بكراء، أو شراء، لذهابه وعودته، ويعتبر الزاد مع قرب المسافة وبعدها، إن احتاج إليه، فإن وجده في المنازل، لم يلزمه حمله، إن وجده يباع بثمن مثله، والزاد ما يحتاج إليه من مأكول، ومشروب، وكسوة، وتعتبر الراحلة مع بعد المسافة فقط – ولو قدر على المشي – وهو ما تقصر فيه الصلاة، لا فيما دونها من مكي وغيره، ويلزمه المشي إلا مع عجز لكبر ونحوه.
(2) فالمعتبر شرعًا في حق كل أحد ما يليق بحاله، عرفًا وعادة، لاختلاف أحوال الناس، فإن كان ممن يكفيه الرحل والقتب، ولا يخشى السقوط، اكتفي بذلك، وإلا اعتبر وجود محمل، وهو «الهودج»، وفي معناه الشقدف المتعارف «ومحارة» يركب فيها الواحد والاثنان، وما أشبه ذلك مما لا يخشى سقوطه عنه، ولا مشقة فيه، وإن لم يكن يقدر على خدمة نفسه اعتبر من يخدمه، ومن أمكنه من غير ضرر يلحق بغيره، مثل من يكتسب بصناعة كالخراز، أو مقارنة من ينفق عليه، أو يكتري لزاده، ولا يسأل الناس استحب له الحج، ويكره لمن حرفته المسألة، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأكثر أهل العلم، وقال مالك: ليس الزاد والراحلة من شروط وجوبه، فإذا قدر راجلا، وله صنعة، أو من عادته السؤال فهو مستطيع.
(3) ورواه البيهقي وغيره، وسنده إلى الحسن صحيح، ورواه الحاكم من
طريق آخر وثقه أحمد، وعن ابن عباس عند ابن ماجه والدارقطني نحوه، وعن جماعة من الصحابة، يقوي بعضها بعضًا للاحتجاج بها، ومنها حديث ابن عمر: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما يوجب الحج؟ قال «الزاد والراحلة» قال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم. وقال شيخ الإسلام بعد سرد الآثار فيه: هذه الأحاديث مسندة من طرق حسان، ومرسلة، وموقوفة، تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة. ولأن الخطاب إنما هو للمستطيع، لأن (من) بدل من (الناس)، فتفيد الآية: ولله على المستطيع. ولانتفاء تكليف ما لا يطاق عقلاً وشرعًا، ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فكان ذلك شرطًا كالجهاد، ومتى وصل وفعل أجزأه بلا نزاع، فليس شرطًا في الصحة والإجزاء كما تقدم.(5/474)
.
وكذا لو وجد ما يحصل به ذلك(1) (بعد قضاء الواجبات) من الديون، حالة أَو مؤجلة(2) والزكوات، والكفارات، والنذور(3) (و) بعد (النفقات الشرعية) له ولعياله(4).
__________
(1) أي القادر من أمكنه الركوب، ووجد من نقد أو عرض، أو غيرهما ما يحصل به الزاد والراحلة، لأن ملك الثمن كملك المثمن، ونقل ابن الجوزي الإجماع على أن اكتساب الزاد والراحلة لا يجب، فتقرر أن تحصيل سبب الوجوب لا يجب.
(2) لأن ذمته مشغولة به، وهو محتاج لبراءتها، فتجب مقدمة على الحج، وإن ترك حقًا يلزمه من دين وغيره حرم وأجزأه، لتعلقه بذمته.
(3) أي الواجبة لله، فلا فرق بين حق الله وحق الآدمي.
(4) إلى أن يعود، بلا خلاف، لقوله «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول» وقوله «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» ولأن ذلك مقدم على الدين، فلأن يقدم على الحج بطريق الأولى.(5/475)
على الدوام(1) من عقار، أَو بضاعة، أَو صناعة(2) (و) بعد (الحوائج الأصلية) من كتب، ومسكن، وخادم، ولباس مثله(3) وغطاء، ووطاء، ونحوها(4) ولا يصير مستطيعًا ببذل غيره له(5).
__________
(1) أي عامه، والدوام مصدر: دام يدوم. إذا ثبت واستمر، والمراد هنا مدة ذهابه ورجوعه، وقال جمهور الأصحاب: طريق التصحيح أن يحمل قوله هنا على ذلك، ويمكن أن يحمل علىظاهره صرح به في الهداية، حيث قال: وأن يكون له إذا رجع ما يقوم بكفايته، من عقار، أو بضاعة أو صناعة. ومشى عليه في الإقناع، والمنتهى وشرحه وغيرهم، لتضرره بذلك كالمفلس، قال في الإنصاف: والصحيح من المذهب أنه يعتبر أن يكون له إذا رجع ما يقوم بكفايته، وكفاية عياله، على الدوام، وعليه أكثر الأصحاب.
(2) أي من أجور عقار، أو ربح بضاعة، أو من صناعة ونحوها، وكثمار، وعطاء من ديوان ونحو ذلك، لكن إن فضل عن حاجته، وأمكن بيعه وشراؤه قدر الكفاية منه، ويفضل له ما يحج به لزمه.
(3) لأن المفلس يقدم به على غرمائه، والمراد: ومسكن للسكنى، أو يحتاج إلى أجرته لنفقته، أو نفقة عياله.
(4) كأوانٍ، وما لا بد له منه، وإلا لم يلزمه، لتضرره بإنفاق ما في يده إذًا.
(5) مالاً أو مركوبًا، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، ولو كان الباذل له قريبه كأبيه ونحوه، لأجل المنة، كبذل إنسان نفسه ليحج عن نحو مريض مرضًا لا يرجى برؤه، وليس له ما يستنيب به، قال الشيخ: وكل عبادة اعتبر فيها المال، فإنما المعتبر ملكه، لا القدرة على ملكه، كتحصيله بصنعة، أو قبول هبة، أو مسألة،
أو أخذ من صدقة، أو بيت مال. اهـ. ومذهب الشافعي: يلزمه ببذل ولده، إذا كان قد أدى عن نفسه، فإن قبل المال المبذول، وقدر به، وجب عليه الحج إجماعًا.(5/476)
ويعتبر أَمن الطريق(1) بلا خفارة(2).
__________
(1) للنفس والمال، من ظالم، أو عدو، أو سبع، أو غير ذلك، لأن عدم أمن ذلك ضرر، وهو منفي شرعًا، ولا يتأتى الحج بدونه، قال ابن الجوزي: العاقل إذا أراد سلوك طريق يستوي فيها احتمال السلامة والهلاك، وجب عليه الكف عن سلوكها. واختاره الشيخ، وقال: أعان على نفسه، فلا يكون شهيدًا. وإن غلب لم يلزمه السلوك، وذكره المجد إجماعًا في البحر، قال أحمد: روي مرفوعًا «من ركب البحر حال ارتجاجه فمات، برئت منه الذمة» وإن كان غالبه السلامة وجب، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، وعن الشافعي رواية كالجماعة، وهل يستنيب لعدم أمن الطريق وغيره، قال سليمان بن علي: القادر على حج الفرض لا يستنيب، ولو مع خوف الطريق.
(2) بتثليث الخاء، والفتح أشهر، اسم لجعل الخفير، يقال: خفرت الرجل. حميته، وأجرته من طالبه، فأنا خافره، لقوله تعالى { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فإن الخائف غير مستطيع، فإن لم يمكنه سلوكه إلا بها لم يجب، وظاهره: ولو يسيرة. كظاهر المنتهى وغيره، لأنها نكرة في سياق النفي، وعليه الجمهور، زاد الموفق وغيره: إذا أمن الغدر من المبذول له. ولعله مراد من أطلق، واستظهر بعضهم أنها ليست من قبيل المنهي عنه، لأنه إنما يبذلها ليتوصل بها إلى واجب، فهي جائزة اتفاقًا، وإذا جازت، وتوقف الواجب عليها، وجبت كثمن الزاد، وقال الشيخ: الخفارة تجوز عند الحاجة إليها، إلا في الدفع عن المستخفر، ولا يجوز مع عدمها، كما يأخذه السلطان من الرعايا، وقاله أبو الخطاب وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.(5/477)
يوجد فيه الماء والعلف على المعتاد(1) وسعة وقت، يمكن فيه السير على العادة(2) (وإن أعجزه) عن السعي (كبر، أو مرض لا يرجى برؤه)(3).
__________
(1) أي بالمنازل في الأسفار، لأنه لو كلف حمل مائه وعلف بهائمه فوق المعتاد من ذلك لأدى إلى مشقة عظيمة، فإن وجد على العادة، ولو بحمل الماء من منهل إلى منهل، والعلف من موضع إلا آخر لزمه، لأنه المعتاد، واستمر عمل المسلمين عليه.
(2) أي ويشترط للوجوب سعة وقت، لتعذر الحج مع ضيق وقته، كما يعتبر أمن الطريق، وقاله أبو الخطاب وغيره؛ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وعنه: أن سعة الوقت، وأمن الطريق، وقائد الأعمى، ودليل الجاهل، ونحو ذلك من شروط لزوم الأداء، اختاره الأكثر، وفاقًا للمالكية، وصححه في الفروع، فيأثم إن لم يعزم على الفعل، ولو مات قبل وجود هذين الشرطين أخرج من ماله من ينوب عنه، دون القول أنهما من شرائط الوجوب، والمراد: من كملت له الشروط سوى هذين، والفرق بنيهما أن ما كان شرطًا في الوجوب، إذا مات لم يجب في ماله، وما كان شرطًا في الأداء وجب.
(3) كالسَّل، لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر فورًا، من حيث وجبا، قال الزركشي وغيره: هذان شرطان لوجوب المباشرة بلا ريب، وإذا عدمهما، وبقيت الشروط موجودة فيه، ووجد مالاً فاضلاً عن حاجته المعتبرة، وافيًا بنفقة راكب، وجب عليه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من بلده، للخبر، أو من الموضع الذي أيسر منه، وظاهره أن المرجو برؤه ليس له أن يستنيب كالمحبوس، وفي الإنصاف: لو رجي زوال علته لم يجز أن يستنيب وهو صحيح، فإن فعل لم يجزئه بلا نزاع.(5/478)
أو ثقل لا يقدر معه على ركوب إلا بمشقة شديدة(1) أو كان نضو الخلقة(2) لا يقدر أَن يثبت على راحلة إلا بمشقة غير محتملة(3) (لزمه أَن يقيم من يحج ويعتمر عنه) فورًا(4) (من حيث وجبا) أَي من بلده(5).
__________
(1) غير محتملة، لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه على الفور، «والثقل» بكسر ففتح، ضد الخف، وأصله في الأجساد، ثم يقال في المعاني.
(2) بكسر النون والخاء، وهو المهزول، ويسمى العاجز عن السعي لزمانة ونحوها «المعضوب» من «العضب» وهو القطع، كأنه قطع من كمال الحركة والتصرف، ويقال: بالصاد كأنه ضرب على عصبه، فانقطعت أعضاؤه.
(3) فإن كانت مشقة خفيفة تحتمل فلا، «وحمل، وتحمل، واحتمل»، بمعنى.
(4) ومن أمكنه السعي لزمه ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كالسعي إلى الجمعة، ومن وجد الاستطاعة وهو معذور، أو طرأ عليه العذر وجب عليه، باتفاق أهل العلم، ووجه جواز دفع المال أن الحج واجب على المستطيع بماله، فلا بد أن يخرج هذا المال في الحج.
(5) أو من الموضع الذي أيسر منه إن كان غير بلده، فتعتبر الجهة، فلو حج عنه من غير جهة بلده – ولو كانت أبعد مسافة – لم يصح، وقيل: يجزئ من ميقاته، وهو مذهب مالك، والشافعي، ويقع الحج عن المحجوج عنه، ويؤخذ منه جواز نيابة اثنين في حجة واحدة، كل واحد يأتي ببعضها، ولا بد لفاعل ما بقي من إحرام.(5/479)
لقول ابن عباس: إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال «حجي عنه» متفق عليه(1) (ويجزئ) الحج والعمرة (عنه) أي عن المنوب عنه إذًا(2) (وإن عوفي بعد الإحرام) قبل فراغ نائبه من النسك أَو بعده(3).
__________
(1) ولحديث أبي رزين المتقدم، ولأنه عبادة تجب الكفارة بإفسادها، فجاز أن يقوم غيره فيه، كالصوم، سواء وجب عليه حال العجز أو قبله، وهو مذهب الشافعي، ولو كان النائب امرأة عن رجل، ولا كراهة، قال الشيخ: يجوز للرجل الحج عن المرأة، باتفاق أهل العلم، وكذا العكس، على قول الأئمة الأربعة، وخالف فيه بعض الفقهاء. اهـ. وتصح الاستنابة عن المعضوب، والميت في النفل اتفاقًا، وقال الترمذي: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث، والعمل عليه عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، وبه يقول الشافعي، وأحمد. وقال مالك: إذا أوصى أن يحج عنه حج عنه، ولأنه عبادة تجب الكفارة بإفسادها فجاز أن يقوم غيره فيه كالصوم، سواء وجب عليه حال العجز أو قبله، ولا تشترط العدالة في النائب، إن كان متبرعًا، أو عينه الموصي، ولا يستنيب الوصي إلا عدلاً ولو ظاهرًا، فلا يحتاج لتزكيته، قال في الفروع: ويجزئ بلا مال، وفاقًا لمالك، والشافعي، وقول للحنفية، للخبر، ولشبهه بالدين.
(2) حيث أعجزه عن السعي إلى الحج كبر، أو مرض لا يرجى برؤه ونحوه.
(3) كما لو لم يبرأ، وكالمتمتع إذا شرع في الصوم، ثم قدر على الهدي، قال الشيخ: إذا أحج عن نفسه ثم برأ لا يلزمه إعادة الحج، من غير خلاف أعلمه.(5/480)
لأنه أتى بما أمر به، فخرج من العهدة(1) ويسقطان عمن لم يجد نائبًا(2) ومن لم يحج عن نفسه، لم يحج عن غيره(3).
__________
(1) ولا يرجع عليه بما أنفق قبل أن عوفي، بل بعده، لعزله إذًا، فإن لم يعلم النائب بزوال عذر مستنيبه، فهل يقع النسك عن النائب، أو عن المستنيب؟ رجح ابن نصر الله وقوعه عن المستنيب، ولزوم النفقة عليه، ومفهوم عبارته: أنه لو عوفي بعد إحرام أجزأه، ولو كان قبل الميقات. قال الحجاوي: وهو كذلك. وذكر غير واحد أنهم اتفقوا على أنه إن عوفي قبل إحرام النائب عن المعضوب، لم يجزئه حج النائب عن المعضوب، للقدرة على المبدل، قبل الشروع في البدل، كالمتيمم يجد لماء، وكما لو استناب من يرجى زوال علته، والجمهور أيضًا على أنه لا يجزئه ولو عوفي بعد الإحرام، لأنه تبين أنه لم يكن مأيوسًا منه، قال في المبدع: وهو الأظهر عند الشيخ تقي الدين. وقال الموفق: الذي ينبغي أن لا يجزئه. قال الشيخ: وهو أظهر الوجهين.
(2) فإذا وجد النائب بعد لم تلزم الاستنابة إلا أن يكون مستطيعًا إذ ذاك، وإلا أن يقال: هو شرط للزوم الأداء، فيبقى في ذمته إلى أن يجد نائبًا.
(3) وهذا مذهب الشافعي، وكرهه أبو حنيفة، ومالك، وكذا من عليه حج قضاء أو نذر لم يصح أن يحج عن غيره، ولا عن نذره، ولا نافلته، فإن فعل انصرف إلى حجة الإسلام، وفاقًا للشافعي، لحديث ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة؛ قال «حججت عن نفسك؟» قال: لا. قال «حج عن نفسك» أي استدمه «ثم حج عن شبرمة» وإسناده جيد، وصححه البيهقي وغيره، واحتج به أحمد وغيره، ولأنه حج عن غيره، قبل حجه عن نفسه، فلم يجزئه، كما لو كان صبيًا، والعمرة كالحج، ويرد النائب ما أخذه، لوقوعه عن نفسه، ومن أتى بواجب أحدهما فله فعل نذره ونفله قبل الآخر، والنائب كالمنوب عنه، ويصح أن ينوب في الحج من حج عن نفسه مفردًا، مع بقاء العمرة في ذمته.(5/481)
ويصح أن يستنيب قادر وغيره، في نفل حج أَو بعضه(1) والنائب أَمين فيما يعطاه ليحج منه(2)
__________
(1) كالصدقة، ولأنها لا تلزم القادر، ولا غير القادر بنفسه، فجاز أن يستنيب فيها، كالمعضوب، وعنه: لا يستنيب. قال في المبدع: ومحلها إذا أدى حجة الإسلام، وهو قادر على الاستنابة عليها بنفسه، أما لو كان قادرًا، ولم يؤد الفرض، لم يصح أن يستنيب في التطوع، لأنه ممنوع بنفسه، فنائبه أولى، ذكره الموفق والشارح.
(2) فيركب وينفق بالمعروف، ويضمن ما زاد على ذلك، أو على نفقة طريق أبعد من الطريق القريب، إن لم يكن عذر، وفي الفروع وغيرها: يركب وينفق بالمعروف منه، أو مما اقترضه أو استدانه لعذر، ويرد ما فضل، إلا أن يؤذن له فيه، لأنه لا يملكه، وله صرف نقد بآخر لمصلحة، وشراء ماء لطهارته، وقال ابن قندس: من ضمن الحج بأجرة أو بجعل فلا شيء له، ويضمن ما تلف بلا تفريط، يعني إن لم يتفق له إتمامها، إما لكونه أحصر أو ضل، أو تلف ما أخذه، أو مات قبل تمام الحج، ولا شيء له. اهـ.
وكرهت الإجارة، لأن ذلك بدعة، لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على عهد السلف، وقال صلى الله عليه وسلم لمن استؤجر بدراهم يغزو بها، «ليس لك من دنياك وآخرتك إلا هذا» وقال تعالى { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } الآيات. والأجير يبيع عمله لمن استأجره، والحج: عَمَلٌ من شرطه أن يكون قربة لفاعله، فلا يجوز الاستئجار عليه، كغيره من القرب، وهذا لأن دخوله في عقد الإجارة، يخرجه عن أن يكون قربة، لأنه قد وقع مستحقًا للمستأجر،
وإنما كان من شرطه أن يقع قربه، لأن الله أوجب على العبد أن يعمل مناسكه كلها، وتعبده بذلك، فلو أنه عملها بعوض من الناس، لم يجزئه إجماعًا، كمن صام أو صلى بالكراء، فإذا عجز عن ذلك بنفسه، جعل الله عمل غيره، قائمًا مقام عمل نفسه، وسادًا مسده، رحمة منه تعالى ولطفًا، فلا بد أن يكون مثله، ليحصل به مقصوده، لأنه صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين في الذمة، وإنما تبرأ ذمة المدين إذا قضي عنه الدين، من جنس ما عليه، فإذا كان هذا العامل إنما يعمل للدنيا، ولأجل العوض الذي أخذه، لم يكن حجه عبادة لله وحده، فلا يكون من جنس ما كان على الأول، وإنما تقع النيابة المحضة، ممن غرضه نفع أخيه المسلم، لرحم بينهما، أو صداقة، أو غير ذلك، وله قصد في أن يحج بيت الله الحرام، ويزور تلك المشاعر العظام، فيكون حجة لله، فيقام مقام حج المستنيب، والجعالة بمنزلة الإجارة، إلا أنها ليست لازمة، ولا يستحق الجعل حتى يعمل، والحج بالنفقة كرهه أحمد مرة، لأنه قد يكون قصده الإنفاق على نفسه مدة الحج، فلا يكون حجه لله، وإن كان شيئًا مقدرًا، مثل وصية ونحوها، فقد يكون قصده استفضال شيء لنفسه، فيبقى عاملاً لأجل الدنيا.(5/482)
.
ويحتسب له نفقة رجوعه(1) وخادمه إن لم يخدم مثله نفسه(2) (ويشترط لوجوبه) أَي الحج والعمرة (على المرأة وجود محرمها)(3).
__________
(1) أي بعد أداء النسك، إن لم يقم بمكة، فوق مدة قصر بلا عذر، قال في الفروع: ويتوجه احتمال: ولا عادة به. فمن ماله، وإن اتخذها دارًا سقطت.
(2) لأنه من المعروف، وإن مات أو ضل أو مرض، أو تلف بلا تفريط لم يضمن.
(3) أي ويشترط لوجوب الحج على المرأة شرط آخر، زيادة على ما يشترط لوجوبه على الرجل. وأما الشروط المتقدمة، فأجمعوا على أنها في ذلك كالرجل، وأخر في حقها هذا الشرط، لاستيفاء الكلام عليه، وهو قول إسحاق، وابن المنذر، ومذهب أبي حنيفة، ولم يره مالك والشافعي، قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث، واشترط كل واحد ما لا حجة معه عليه، والمراد بقولهم: يشترط؛ لمن لعورتها حكم، تخاف أن ينالها الرجال.(5/483)
لحديث ابن عباس «لا تسافر امرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم» رواه أحمد بإسناد صحيح(1) ولا فرق بين الشابة والعجوز(2).
__________
(1) وفيه إني أريد أن أخرج في جيش كذا، وامرأتي تريد الحج، فقال «اخرج معها» وفي الصحيحين: إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا، قال «انطلق فحج معها» وفي الصحيح وغيره «لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم» سدًا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع، وأجمعوا عليه، مع عدم الرفقة، والنساء الثقات، وأجمعوا على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم، في غير الحج والعمرة، والخروج من بلد الشرك، ويستثنى مواضع الضرورة، بأن يجد أجنبية منقطعة في برية، ونحو ذلك، فيباح له استصحابها، بل يجب عليه ذلك، إذا خاف عليها لو تركها بلا خلاف، لحديث عائشة في قصة الإفك، وقال أحمد: المحرم من السبيل، فمن لم يكن لها محرم، لم يلزمها الحج بنفسها، ولا بنائبها.
(2) فيعتبر المحرم لكل من لعورتها حكم، وهي بنت سبع سنين فأكثر، لأنها محل الشهوة، ومن السفهاء من لا يرتفع عن الفاحشة، بالعجوز وغيرها، لغلبة شهوته، وقلة دينه ومروءته، وخيانته، وعند الشيخ: تحج كل امرأة آمنة، مع عدم المحرم، لزوال العلة، وقال: هذا متجه في سفر طاعة. وصحح في الفتاوى المصرية: أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع رفقاء، أو ذي محرم.(5/484)
وقصير السفر وطويله(1) (وهو) أَي محرم السفر (زوجها(2) أَو من تحرم عليه على التأْبيد(3) بنسب) كأَخ مسلم مكلف(4) (أو سبب مباح) كأَخ من رضاع كذلك(5).
__________
(1) ولا فرق بين حج الفرض والتطوع في ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل عن حجها. وعنه: لا يعتبر المحرم إلا في مسافة القصر، وفاقًا لأبي حنيفة، كما لا يعتبر في أطراف البلد، مع عدم الخوف وفاقًا، وأما إماؤها فيسافرن معها، قال الشيخ: ولا يفتقرن إلى محرم، لأنهن لا محرم لهن في العادة الغالبة، وظاهر إطلاقهم اعتباره في حقهن.
(2) وفاقًا، ويسمى محرمًا لها مع حلها له، لحصول المقصود، من صيانتها وحفظها، مع إباحة الخلوة بها بسفره معها.
(3) الأبد الدهر، والأبد أيضًا الدائم، والتأبيد التخليد، لأن غير المؤبد لا يؤمن انقطاعه.
(4) وفاقًا، فلا يجب بوجود كافر، لأنه لا يؤمن عليها، خصوصًا المجوسي وفاقًا، لأنه يعتقد حلها، وابن وأب وعم وخال، من باب أولى، وفي الفروع: ويتوجه أن مثله مسلم لا يؤمن، وأنه لا يعتبر إسلامه إن لم يؤمن عليها، ولا يجب بوجود صغير ومجنون، لعدم حصول المقصود من حفظها، وفي المنتهى: ولو عبدًا. قال الخلوتي: ولو كان رقيقًا للغير، وأما عبدها فليس محرمًا بالملك، وعلله شيخنا بأنها لا تحرم عليه أبدًا، وبأنه لا يؤتمن عليها، وكذا زوج أختها ونحوه، واشترط ابن عطوة في محرم المرأة أن يكون بصيرًا.
(5) أو مصاهرة، كزوج أمها وفاقًا، وابن زوجها، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، لما في صحيح مسلم وغيره «لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تسافر سفرًا إلا ومعها أبوها أو ابنها، أو زوجها أو ذو محرم منها».(5/485)
وخرج من تحرم عليه بسبب محرم، كأُم المزني بها وبنتها(1) وكذا أُم الموطوءة بشبهة وبنتها(2) والملاعن ليس محرمًا للملاعنة(3) لأَن تحريمها عليه أبدًا عقوبة وتغليظ عليه، لا لحرمتها(4) ونفقة المحرم عليها(5) فيشترط لها ملك زاد وراحلة لهما(6) ولا يلزمه مع بذلها ذلك سفر معها(7) ومن أَيست منه استنابت(8).
__________
(1) فلا يكون الزاني بها محرمًا للبنت، ولا الزاني بالبنت محرمًا لأمها.
(2) لأن المحرمية نعمة، فاعتبر إباحة سببها كسائر الرخص، واختار الشيخ ثبوت المحرمية بوطء الشبهة، وذكره قول أكثر العلماء، لثبوت جميع الأحكام، وذكر هو وأبو الخطاب أن الوطء في نكاح فاسد كالوطء بشبهة.
(3) من حين تمام تلاعنهما، وستأتي صفته إن شاء الله تعالى.
(4) التي هي المقصود فلا يكون محرمًا لها.
(5) أي المرأة، ولو كان زوجها، فيجب عليه لها بقدر نفقة الحضر، وما زاد عليها، لأنه من سبيلها.
(6) أي المرأة ومحرمها، لوجوب النسك عليها، وأن يكون الزاد والراحلة صالحين لمثلهما على ما تقدم.
(7) أي لا يلزم المحرم – مع بذلها له الزاد والراحلة الصالحين لمثلهما – سفر معها، للمشقة، كحجه عن نحو كبير وعاجز، وتكون كمن لا محرم لها، وأمره عليه الصلاة والسلام الزوج، إما بعد الخطر، أو أمر تخيير، لعلمه بحاله.
(8) أي من أيست من وجود محرم ظاهر، وعادة، لزيادة سن، أو مرض
أو غيره، مما يغلب على ظنها عدمه، بعد أن وجدته وفرطت بالتأخير حتى فقد، ونحوه استنابت من يحج عنها، ككبير عاجز، وإن تزوجت فكمعضوب، ومن لم تجده فلا يلزمها الحج، ولا يجب عليها أن تتزوج لتحج، فلا استنابة، إلا على القول بأنه شرط للزوم الأداء، قال ابن نصر الله: فإن كان حاجًا، فهل يلزمه صحبتها؟ ظاهر كلامهم هنا لزومه، لأنه إنما منع السفر، وهذا سفر حاصل، ولم يبق إلا الصحبة، وليس فيها مشقة غالبًا.(5/486)
وإن حجت بدونه حرم وأجزأ(1) (وإن مات من لزماه) أي الحج والعمرة (أُخرجا من تركته) من رأس المال(2) أوصى به أو لا(3) ويحج النائب من حيث وجبا على الميت(4).
__________
(1) وفاقًا، كمن حج وترك واجبًا يلزمه من دين وغيره، فإنه يحرم عليه ذلك، ويجزئه الحج، وإن مات في الطريق مضت، لأنها لا تستفيد بالرجوع، لكونها بغير محرم، ومحله إذا تباعدت، وقال ابن نصر الله: لا إن اختارت، وجوبًا، وإذا كان حج تطوع، وأمكنها المقام في بلد، فهو أولى من سفرها بلا محرم، وهذا والله أعلم إنما يترجح إذا كان فيه من تأمن به على نفسها دون رفقتها.
(2) لا من الثلث، وهو مذهب الشافعي، قال الشيخ: ومن وجب عليه، وخلف مالا، يحج عنه، في أظهر قولي العلماء. وفي الإنصاف: من وجب عليه، فتوفي قبله، أخرج عنه من جميع ماله، حجه وعمرته بلا نزاع، سواء فرط أو لا.
(3) أي أو لم يوص به، كالزكاة والدين.
(4) أي من الموضع الذي وجبا عليه، بخلاف النفل، إلا إن ضاق ماله، جاز ولو من غير مكانه، وليس بمعارض لما سيأتي، من أنه إذا مات في أثناء الطريق، حج عنه من حيث مات، لأن المراد هنا إذا مات غير قاصد للحج.(5/487)
لأن القضاء يكون بصفة الأداء(1) وذلك لما روى البخاري عن ابن عباس، أن امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال «نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته، اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء»(2) ويسقط بحج أجنبي عنه(3) لا عن حي بلا إذنه(4).
__________
(1) كصلاة وصوم.
(2) وأداء الواجبات، فدل على أن من مات وعليه حج، وجب على ولده، أو وليه أن يحج، أو يجهز من يحج عنه من رأس ماله، كما أن عليه قضاء ديونه، وقد أجمعوا على أن دين الآدمي من رأس ماله، فكذا ما شبه به في القضاء، وله نحوه، وفيه: إن أختي نذرت أن تحج. وللدارقطني: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام. وظاهره: أنه لا فرق بين الواجب بأصل الشرع، أو بإيجابه على نفسه، أوصى به، أو لا، ولأنه حق استقر عليه، فلم يسقط بموته كالدين، ولأنه صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين، فوجب مساواته له، وقال في الفروع: من ناب بلا إجازة ولا جعل جاز، نص عليه وفاقًا كالغزو.
(3) أي عن الميت بدون مال، وبدون إذن وارث، لأنه صلى الله عليه وسلم شبهه بالدين.
(4) أي لا يسقط الحج عن الحي بحج غيره، بلا إذنه إذا ساغ، ولو معذورًا، كأمره بحج فيعتمر، وعكسه، كدفع زكاة مال غيره بلا إذنه، بخلاف الدين، فإنه ليس بعبادة، ويقع عن نفسه، ولو كان الحج نفلاً عن محجوج عنه بلا إذنه، وقياس ما سبق في الجنائز صحة جعل ثواب لحي وميت.(5/488)
وإن ضاق ماله حج به من حيث بلغ(1) وإن مات في الطريق حج عنه من حيث مات(2)
__________
(1) أي ومن وجب عليه نسك، ومات قبله، وضاق ماله عن أدائه من بلده، استنيب به من حيث بلغ، أو لزمه دين، أخذ لحج حصته، وحج عنه من حيث بلغ، لحديث «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
(2) هو أو نائبه، مسافة، وقولاً، وفعلاً، لأن الاستنابة من حيث وجب القضاء، وإن صُدَّ فعل ما بقي، وإن وصى بنفل وأطلق، جاز من ميقاته، ما لم تمنع قرينة، قال الشيخ وغيره: الحج يقع عن المحجوج عنه، كأنه فعله بنفسه، سواء كان من جهة المنوب مال أو لم يكن، ويكون الفاعل بمنزلة الوكيل والنائب، لأنه ينوي الإحرام عنه، ويلبي عنه، ويتعين النائب بتعيين وصي، ويكفيه أن ينوي النسك عنه، ولا تعتبر تسميته لفظًا، وإن جهل اسمه، أو نسيه، لبى عمن سلم إليه المال ليحج به عنه، وقيل: إذا لم يعلم النائب حتى أحرم، توجه وقوع الحج من مستنيبه، ولزوم نفقته عليه، وثبوت ثوابه له، لأنه إن فات إجزاء ذلك عنه لم يفت وقوعها عنه نفلاً، لوقوعها عن إذن.
قالوا: ويستحب أن يحج عن أبويه، إن كانا ميتين، أو عاجزين أن يحجا، ويقدم أمه، لأنها أحق بالبر، ويقدم واجب أبيه لإبراء ذمته، وعن زيد بن أرقم مرفوعًا «إذا حج الرجل عن والديه يقبل عنه وعنهما، واستبشرت أرواحهما في السماء، وكتب عند الله برًا»، وعن جابر نحوه، رواهما الدارقطني وغيره. وقال ابن عطوة: وحجه عن نفسه يضاعف، وعن غيره ثواب بلا مضاعفة، فهو عن نفسه أفضل، ولا نزاع في وصول ثوابه إليهم، ولكن كما قال ابن القيم وغيره: تخصيص صاحب الطاعة نفسه أفضل، ويدعو كما ورد في الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة.
وللترمذي وصححه، عن ابن مسعود مرفوعًا «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة»، وفي الصحيح عن عائشة قالت: نرى الجهاد أفضل العمل. يعني لما سمعت من فضائله، في الكتاب والسنة، فقالت: أفلا نجاهد؟ قال «لكن أفضل الجهاد حج مبرور» وهذا الخبر حجة لمن فضل نفل الحج، على نفل الصدقة، وجاء: «إن النفقة فيه، كالنفقة في سبيل الله، بسبعمائة ضعف» والمبرور الذي لا يخالطه شيء من الإثم، قد وفيت أحكامه، فوقع على الوجه الأكمل، وقيل المتقبل وإن الحج يهدم ما كان قبله، ومن وقف في تلك المشاعر العظام، وتجلت له الأنوار الإلهية، علم فضله.
قال الشيخ: والحج على الوجه المشروع، أفضل من الصدقة التي ليست واجبة، لأنه عبادة بدنية مالية، لكن بشرط أن يقيم الواجب في الطريق، ويترك المحرمات، ويصلي الصلوات الخمس، ويصدق الحديث، ويؤدي الأمانة، ولا يتعدى على أحد.
تتمة
إذا لم يكن حجه فرضًا، ولم يعزم على الحج أو العمرة، وكذا غيرهما من الأمور المباحة، فينبغي أن يستشير من يثق به، ويستخير الله تعالى – فيصلي ركعتين، يدعو في آخرها أو بعد الفراغ، قبل العزم على الفعل – هل يحج هذا العام أو غيره إن كان نفلاً، أو لا يحج، قال الشيخ: وقبل السلام أفضل، وإذا استقر عزمه فليبادر فعل كل خير، ويبدأ بالتوبة من جميع المعاصي، والمكروهات، ويخرج من المظالم، بردها لأربابها، وكذا الودائع والعواري والديون، ويستحل من له عليه ظلامة، ومن بينه وبينه معاملة في شيء، أو مصاحبة، ويستمهل من لا يستطيع الخروج من عهدته، ويكتب وصيته، ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه، ويترك لمن تلزمه نفقته نفقتهم، إلى حين رجوعه، ويرضي والديه، ومن يتوجه عليه بره وطاعته، ويحرص أن تكون نفقته حلالاً، ويستكثر من الزاد والنفقة، قال بعضهم في قوله { وَتَزَوَّدُوا } أي اتخذوا الزاد في الحج، ليغنيكم عن الحاجة إلى أزواد الناس { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } أي التعفف عن أزواد الناس، وليكن زاده طيبًا لقوله { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } والمراد الجيد، ويكون طيب النفس بما ينفقه، ليكون أقرب إلى قبوله.
قال الشيخ: ومن جرد مع الحاج من الجند المقطعين وجمع له ما يعينه على كلفة الطريق، أبيح له أخذه، ولا ينقص أجره، وله أجر الحاج بلا خلاف.
ويجتهد في رفيق صالح، يكون عونًا له على نصبه، وأداء نسكه، يهديه إذا ضل، ويذكره إذا نسي. وإن تيسر أن يكون الرفيق عالمًا، فليتمسك بغرزه، ليكون سببًا في بلوغه رشده، ويجب تصحيح النية، فيريد وجه الله، ويخرج يوم الخميس أو الاثنين أول النهار، لفعله عليه الصلاة والسلام، ويصلي في منزله ركعتين، ثم يقول: اللهم هذا ديني، وأهلي ومالي، وديعة عندك، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال والولد، اللهم اصحبنا في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى.
ويودع أهله وجيرانه، وسائر أحبابه، ويودعونه، ويقول كل منهم: أستودعك الله الذي لا يضيع ودائعه. أو: استودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك، زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير، حيثما كنت، للأخبار، ويدعو له من يودعه، ويطلب منه الدعاء، فيقول: لا تنسنا يا أخي من دعائك. أو: أشركنا في دعائك. ويتصدق بشيء عند خروجه، ويدعو بما صح عن أم سلمة «بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أظلم أو أُظلم، أو أجهل، أو يجهل علي» وعن أنس «بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله» وإذا أراد ركوب دابته، قال «بسم الله الرحمن الرحيم» وإذا استوى عليها قال «سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون» ويرافق جماعة، لما في الوحدة من الوحشة، ولما ورد من النهي عنها.
وقد اشتهر عن خلائق من الصالحين الوحدة في السفر. قال النووي: إنما تكره لمن استوحش، فيخاف عليه من الإنفراد والضرر، بسبب الشياطين وغيرهم، أما الصالحون فإنهم أنسوا بالله، واستوحشوا من الناس، في كثير من أوقاتهم، فلا ضرر عليهم في الوحدة، بل مصلحتهم وراحتهم فيها، ولا يستصحب كلبًا، ولا يعلق على دابته جرسًا، ولا قلادة من وتر ونحوها، للأخبار. ولا يحمل دابته فوق طاقتها، ويريحها بالنزول عنها غدوة، وعشية، ولا يمكث على ظهرها، واقفة من غير حاجة، للأخبار، ويجوز الإرداف إذا كانت تطيق، ويجوز الاعتقاب عليها، لفعله صلى الله عليه وسلم، ويراعي مصلحة الدابة في المرعى، والسرعة والتأني، بحسب الأرفق بها، للخبر، وفيه «وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق، فإنها طريق للدواب، ومأوى لهوام الليل» ويستحب السير في آخر الليل. فإن الأرض تطوى فيه، ولا ينبغي أوله، لانتشار الشياطين، إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة العشاء، ولا يكره أوله، ويسن مساعدة الرفيق، وإعانته وخدمته، ومن معه فضل ظهر، عاد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد، عاد به على من لا زاد معه، ويستعمل الرفق، وحسن الخلق، ويجتنب المخاصمة، والمخاشنة، ومزاحمة الناس في الطرق، وموارد الماء، إذا أمكنه ذلك. ويصون لسانه من الشتم، والغيبة، ولعن الدواب وغيرها، وجميع الألفاظ القبيحة، ويرفق بالسائل والضعيف ولا ينهر أحدًا منهم، ولا يوبخه على خروجه بلا زاد وراحلة، بل يواسيه بما تيسر،
فإن لم يفعل رده ردًا جميلاً. قال النووي وغيره: ودلائل هذا، في الكتاب والسنة، وأجمع المسلمون عليها.
ويستحب أن يكبر إذا صعد الثنايا ونحوها، ويسبح إذا هبط الأودية ونحوها، لخبر: إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا. وإذا أشرف على قرية يريد دخولها، قال «اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها»، وفي لفظ: «اللهم رب السموات السبع، وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها، وشر أهلها وشر ما فيها». ويستحب أن يدعو في سفره في كثير من الأوقات، فإن دعوته مجابة.
وينبغي الحداء والزجر في السير، وتنشيط الدواب والنفوس، وترويحها وتيسير السير، للأخبار. وإذا جنه الليل قال «يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر ما يدب عليك» الخ. وإذا نزل منزلاً قال: «أعوذ بكلمات الله التامة، من شر ما خلق» للخبر، وفيه «لم يضره شيء حتى يرحل من منزله» وينبغي للرفقة الاجتماع في المنزل، ويكره تفرقهم لغير حاجة، لقوله «إن تفرقكم في هذه الشعاب إنما ذلكم من الشيطان»، رواه أبو داود. والسنة للمسافر – إذا قضى حاجته – أن يعجل الرحلة إلى أهله، لحديث: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره، فليعجل إلى أهله» متفق عليه. ويقول في رجوعه ما ورد في الصحيحين: أنه إذا قفل من الحج أو العمرة، كلما أوفى على ثنية أوفَدْ فَد كبر ثلاثًا، ثم قال «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له» إلى آخره، ويأتي.(5/489)
.
........................................................................
باب المواقيت(1)
الميقات لغة: الحد(2) واصطلاحًا: موضع العبادة وزمنها(3). (وميقات أهل المدينة: ذو الحليفة) بضم الحاء وفتح اللام(4).
__________
(1) جمع ميقات، كمواعيد وميعاد، وهو: الزمان والمكان المضروب للفعل، أو هو الوقت المعين، استعير للمكان المعين.
(2) فالتوقيت التحديد، وبيان مقدار المدة، وأصله أن يجعل للشيء وقت يختص به، ثم اتسع فيه، فأطلق على المكان، والمراد هنا: التحديد، أو تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن، بالشروط المعتبرة.
(3) وهو أشهر الحج، والمواقيت: المكانية المنصوص على توقيتها، أو ما حاذاها، و«زمنُ» بالرفع عطف على المضاف، لا المضاف إليه، وليس من قبيل استعمال المشترك، بل من قبيل جمع ألفاظ المشترك، ولما كان بيت الله الحرام معظمًا مشرفًا، جعل الله له حصنًا، وهو مكة، وحمى،وهو الحرم، وللحرم حرم، وهو المواقيت، حتى لا يجوز لمن دونه، أن يتجاوزه إلا بالإحرام، تعظيمًا لبيت الله الحرام.
(4) تصغير الحلفة، بفتح أوليه، واحدة الحلفات، نبات معروف، وهي قرية خربة، وفيها اليوم عشش قليلة، تعرف الآن بـ«أبيار علي» قال الشيخ: وتسمى وادي العقيق، ومسجدها يسمى مسجد الشجرة، وفيها بئر تسميها العامة بئر علي، لظنهم أن عليًا قاتل الجن بها، وهو كذب، فإن الجن لم يقاتلهم أحد من الصحابة، وعلى أرفع قدرًا من أن يثبت الجن لقتاله، ولا فضيلة لهذه البئر، ولا مذمة، ولا يستحب أن يرمى بها حجر ولا غيره.(5/490)
بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة. وهي أَبعد المواقيت من مكة. بينها وبين مكة عشرة أيام(1) (و) ميقات (أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة(2) قرب «رابغ»(3) بينها وبين مكة ثلاث مراحل(4).
__________
(1) وقاله الشيخ وغيره، ولفظه: عشر مراحل، أو أقل، أو أكثر؛ بحسب اختلاف الطرق، فإن منها إلى مكة عدة طرق.
(2) وقاله أيضًا الشيخ وغيره. وقال: كانت قرية قديمة، كبيرة، معمورة، جامعة، وكانت تسمى «مهيعة» فجحف السيل بأهلها، فسميت الجحفة، بقرب «رابغ» على يسار الذاهب إلى مكة، وهي اليوم خراب، ولهذا صار الناس يحرمون قبلها، من المكان الذي يسمى رابغًا، ومن أحرم منه فقد أحرم قبل محاذاة الجحفة، وليس الإحرام منه مفضولاً، لأنه لضرورة انبهام الجحفة على أكثر الحاج، ولعدم مائها.
(3) وادٍ عند الجحفة، يقطعه الحاج، بين الحرمين، قرب البحر، بين البزوى والجحفة، دون عزور. قال ابن ظهير: منهل حسن، والآن هو بلدة مشهورة.
(4) قال النووي وغيره: فيه نظر ظاهر، وإنما بينهما خمس مراحل أو ست، وهذا الواقع بلا ريب، وستة أميال من البحر، وست أو خمس مراحل من المدينة. قال الشيخ: وهذا ميقات لمن حج من ناحية المغرب، كأهل الشام، ومصر، وسائر المغرب، لكن إذا اجتازوا بالمدينة النبوية، كما يفعلونه اليوم، أحرموا من ميقات أهل المدينة، فإن هذا هو المستحب لهما بالاتفاق، فإن أخروا الإحرام إلى الجحفة ففيه نزاع.(5/491)
(و) ميقات (أهل اليمن: يلملم)(1). بينه وبين مكة ليلتان(2) (و) ميقات (أَهل نجد) والطائف (قرن) بسكون الراء(3) ويقال: قرن المنازل، وقرن الثعالب(4) على يوم وليلة من مكة(5) (و) ميقات (أهل المشرق) أي العراق، وخراسان، ونحوهما(6).
(ذات عرق) منزل معروف(7) سمي بذلك لأَن فيه عرقًا، وهو الجبل الصغير(8) وبينه وبين مكة نحو مرحلتين(9)
__________
(1) ويقال: ألملم. لغتان، وغلب على البقعة، فلا ينصرف، وهو جبل من جبال تهامة، ويقال «يرمرم» على البدل، وقيل: واد هناك يحرم منه أهل اليمن وفيه مسجد معاذ، واليمن: ما كان عن يمين الكعبة، كما أن الشام بالعكس، والنسبة إلى اليمن يماني ويمان، وإلى الشام شامي.
(2) وكذا قال الشيخ وغيره، بينهما مرحلتان، فإذا أتى من سواكن إلى جدة، فإن رابغ ويلملم يكونان أمامه، فيصل جدة قبل محاذاتهما، فيحرم منها، لأنها على مرحلتين من مكة.
(3) بلا خلاف، إلا ما غلط فيه الجوهري، فقال: بفتح الراء؛ والمراد نجد اليمن، ونجد الحجاز، وهو ما بين جرش إلى سواد الكوفة، ويقال: أوله من ناحية العراق ذات عرق، وآخره سواد العراق.
(4) هو قرن المنازل، بلدة، أو اسم الوادي، «وقرن» الجبل الصغير المنفرد، وبه جبل صغير منفرد، فلعل القرية سميت به، وفي القاموس وغيره: أو اسم الوادي، ويعرف الآن بالسيل، لكثرة ممر السيل والغيول به، «وقرن الثعالب» كما في المصباح: جبل مطل على عرفات.
(5) وقال الشيخ: مرحلتان. وهو كذلك.
(6) مما يليهما من البلدان، وعلى جهتهما.
(7) قرية قديمة، من علاماتها المقابر القديمة، ثبت بالنص، وقيل: سنه عمر رضي الله عنه، وتبعه عليه الصحابة، واستمر العمل عليه، وقال ابن عبد البر: ميقات بالإجماع.
(8) المشرف على العقيق، وقيل: عرق الأرض السبخة، تنبت الطرفاء، ويعرف اليوم بريع الضريبة.
(9) قاله الشيخ، وقال: فالثلاثة متساوية، أو متقاربة، وهذه المواقيت كلها ثبتت بالنص والإجماع، وقال بعضهم:
عرق العراق يلملم اليمني
وذو الحليفة يحرم المدني
والشام جحفة إن مررت بها
ولأهل نجد قرن فاستبن(5/492)
(وهي) أَي هذه المواقيت (لأَهلها) المذكورين(1) (ولمن مر عليها من غيرهم) أَي من غير أَهلها(2) ومن منزله دون هذه المواقيت يحرم منه لحج وعمرة(3).
__________
(1) يعني الذين تقدم ذكرهم.
(2) ممن يريد حجًا أو عمرة، ويجب عليه الإحرام منها بالإجماع، ويحرم تأخيره عنها بلا نزاع، لمن أراده، فإن مر الشامي أو المدني أو غيرهما، على غير ميقات بلده، كالشامي يمر بذي الحليفة، فإنه يحرم من الميقات الذي مر عليه، لأنه صار ميقاتًا له، وحكاه النووي إجماعًا، ونوزع بخلاف أبي ثور، وعطاء، وبعض المالكية، ولا يلتفت إلى خلافهم، لاستفاضة النصوص بالتوقيت.
(3) أي يحرم من موضعه، ولو من غير أهلها، كأهل عسفان، لا من الحرم، فلا يجوز دخوله إلا محرمًا لمن قصد النسك، فإن كان له منزلان جاز أن يحرم من أقربهما إلى مكة، والأولى أن يحرم من البعيد.(5/493)
(ومن حج من أهل مكة فـ) إنه يحرم (منها)(1) لقول ابن عباس: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأَهل الشام الجحفة، ولأَهل نجد قرنًا، ولأَهل اليمن يلملم، «هن لهن(2) ولمن أَتى عليهن، من غير أَهلهن، ممن يريد الحج والعمرة(3) ومن كان دون ذلك فمهلُّه من أَهله(4) وكذلك أهل مكة يهلون منها» متفق عليه(5).
__________
(1) أي من مكة، وكذا من كان بها من غير أهلها، وسواء كان بمكة أو في الحرم، فقوله: من أهل مكة. ليس بقيد، إذ من كان بها من غير أهلها فحكمه كذلك إجماعًا.
(2) مقتضاه «لهم»، لكن عدل عن ذلك للتشاكل، أي لأهلها، الذين تقدم ذكرهم «ووقت» حد، بمعنى: أوجب.
(3) أي وهذه المواقيت، مواقيت لمن مر بهن، من غير أهلهن، أي أهل تلك البلدان المذكورة، ممن يريد الحج والعمرة، فيجب أن لا يجاوزها إلا محرمًا بالاتفاق.
(4) أي يهل بالحج أو العمرة، أو بهما من دويرة أهله، وفي رواية «ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ» أي فميقاته من حيث أنشا الإحرام، إذ السفر من مكانه إلى مكة، قال الحافظ: وهذا متفق عليه.
(5) أي يهلون من مكة، فلا يحتاجون إلى الخروج إلى الميقات للإحرام منه، بل منها، كالآفاقي الذي بينها وبين الميقات، وقال جابر: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نحرم، فأهللنا من الأبطح. رواه مسلم. وظاهره: لا ترجيح لموضع على آخر، وعن ابن عمر نحو حديث ابن عباس؛ ولمسلم عن جابر نحوه، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق، رواه أبو داود، والنسائي، وثبت بتوقيت عمر، ولعله خفي النص، فوافقه برأيه، فإنه موفق للصواب، والصواب أن هذه الخمسة منصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم، للأحاديث الجياد والحسان، التي يجب العمل بمثلها، وقال الخطابي: معنى التحديد في هذه المواقيت، أن لا تتعدى، ولا تتجاوز إلا باستصحاب الإحرام.(5/494)
ومن لم يمر بميقات، أَحرم إذا علم أَنه حاذى أَقربها منه(1). لقول عمر: انظروا إلى حذوها من طريقكم. رواه البخاري(2) ويسن أَن يحتاط(3) فإن لم يحاذ ميقاتًا أَحرم عن مكة بمرحلتين(4) (وعمرته) أي عمرة من كان بمكة، يحرم لها (من الحل)(5).
__________
(1) أي ومن كان طريقه بين ميقاتين مثلاً، أحرم إذاغلب على ظنه أنه حاذى أقربهما منه، بحيث أنه إذا حاذى أحدهما، يبقى بينه وبينه يوم، وإذا حاذى الآخر يبقى بينه وبينه يومان، وهو عند محاذاة أحدهما غير محاذ للآخر، فيحرم إذا حاذى الأقرب إليه، ولو كان الآخر أبعد.
(2) ولفظه: فانظروا حذوها من طريقكم.
(3) مع جهل المحاذاة، فيحرم من حذو الأبعد، لأن هذا من باب التقدير، ليخرج من العهدة، وكذا من أول كل ميقات، وهو الطرف الأبعد عن مكة، ويتعين الاحتياط عند المحاذاة، إذا لم يظهر له، والاحتياط: أن يجعل المعدوم كالموجود، والموهوم كالمحقق، وإن أحرم من الطرف الأقرب جاز، لإحرامه من الميقات، وصدق الاسم عليه، والعبرة بالبقعة.
(4) لأنه لا ميقات دونهما، والمرحلتان ثلاثون ميلاً.
(5) ومن التنعيم أفضل، وهو أدناه.(5/495)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أَن يعمر عائشة من التنعيم، متفق عليه(1). ولا يحل – لحر مسلم مكلف أَراد مكة أَو الحرم – تجاوز الميقات بلا إحرام(2)
__________
(1) فدل على أن من كان بمكة يحرم منه، وهو أقرب الحل من الحرم، فالتنعيم من الحل، بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة، سمي بالتنعيم، لأن جبلاً عن يمينه اسمه نعيم، وآخر عن شماله اسمه ناعم، والوادي نعمان بفتح النون، وإن أحرم من مكة، أو من الحرم انعقد للخبر، ويأتي الكلام على الاعتمار من مكة، إن شاء الله تعالى.
(2) لأنه صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت، وللشافعي قول: يجب، صححه جماعة، لإطباق الناس عليه. ولأن الإحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة، فإن الله جعل البيت معظمًا، وجعل المسجد الحرام فناء له، وجعل مكة فناء للمسجد الحرام، وجعل الميقات فناء للحرم، والشرع ورد بكيفية تعظيمه، وهو الإحرام على هيئة مخصوصة، فلا يجوز تركه، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم تجاوزوها بغير إحرام، وعن ابن عباس مرفوعًا – وفيه ضعف - «لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام» وصح من قوله رضي الله عنه، واختاره الأكثر، لأنه من أهل فرض الحج، ولعدم تكرر حاجته، وأما من أراد النسك فباتفاق الأئمة، حكاه الوزير وغيره.
وقال الشيخ: ليس لأحد أن يجاوز الميقات، إذا أراد الحج والعمرة إلا بإحرام، وإن قصد مكة لتجارة أو لزيارة، فينبغي له أن يحرم، وفي الوجوب نزاع. اهـ. وظاهر مذهب الشافعي الجواز، وعن أحمد نحوه، صححه ابن عقيل، وهو ظاهر الخرقي، واستظهره في الفروع، للخبر، وحكاه أحمد عن ابن عمر، وأنه ينبني على عموم المفهوم، قال الزركشي: وهو ظاهر النص، والأصل عدم الوجوب، ومن قال بجوازه – لمن لم يقصد النسك – كره تركه، إلا أن يتكرر دخوله، وأما من لا يجب عليه كالعبد والصبي، فلا يلزمه الإحرام منه، لأنه لا يلزمه الحج، فلأن لا يلزمه الإحرام بطريق الأولى، واحترز بقوله: أراد مكة أو الحرم. عمن تجاوزه غير مريد له، فلا يحرم بغير خلاف، ولأنه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، أتوا بدرًا مرتين، وكانوا يسافرون للجهاد، فيمرون بذي الحليفة بغير إحرام، ولو تجاوزه الحر المسلم المكلف بلا إحرام، وهو مريد مكة، لم يلزمه قضاء الإحرام، جزم به وصححه غير واحد، من الأصحاب وغيرهم، ولأنه قد ثبت بالاتفاق أن الحج والعمرة – عند من أوجبها – إنما تجب مرة واحدة، فلو وجب على كل من دخل مكة أن يحج ويعتمر، لوجب أكثر من مرة.(5/496)
.
إلا لقتال مباح أَو خوف(1) أو حاجة تتكرر، كحطاب، ونحوه(2).
__________
(1) كقتال كفار بمكة، وبغاة، لدخوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعلى رأسه المغفر، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه الإحرام يومئذ، ولا خلاف في ذلك، وألحق الخوف بالقتال المباح.
(2) كرسول سلطان، وبريد، وناقل ميرة، ولصيد، واحتشاش، ونحو ذلك، لقول ابن عباس: لا يدخل إنسان مكة إلا محرمًا، إلا الجمالين، والحطابين، وأصحاب منافعها، احتج به أحمد، وكذا مكي يتردد إلى قريته بالحل، إذ لو وجب لأدى إلى ضرر ومشقة، وهو منفي شرعًا، ثم إن بدا له، أو لمن لم يرد الحرم، أحرم من موضعه، لأنه حصل دون الميقات، على وجه مباح، وحاصله أن المار على الميقات، أو ما يحاذيه، لا يجوز له تجاوزه بلا إحرام، بسبعة شروط، أربعة وجودية، الإسلام والحرية، والتكليف، وإرادة مكة أو الحرم؛ وثلاثة عدمية: القتال المباح، والخوف، والحاجة المتكررة، وإن دخل من لا يجوز له تجاوز الميقات من غير إحرام، طاف وسعى، وحلق أو قصر، وقد حل.(5/497)
فإن تجاوزه لغير ذلك(1) لزمه أن يرجع ليحرم منه(2) إن لم يخف فوت حج(3) أو على نفسه(4) وإن أحرم من موضعه فعليه دم(5). وإن تجاوزه غير مكلف(6).
__________
(1) أي من الأعذار المتقدمة: القتال والخوف، والحاجة المتكررة.
(2) تداركًا لإثمه أو تقصيره، لأنه واجب، أمكنه فعله، فلزمه، كسائر الواجبات، ووجوبه بالسبعة الشروط المتقدمة، فإن أحرم منه فلا دم عليه، لأنه أتى بالواجب عليه، كما لو لم يتجاوزه.
(3) فإن خاف لم يلزمه رجوع، ويحرم من موضعه، وعليه دم.
(4) أو على أهله، أو ماله، ونحو ذلك، فإن خاف ذلك أو شيئًا منه، أحرم من موضعه، وعليه دم.
(5) أي موضعه الذي دون الميقات، لعذر أولا وفاقًا، لحديث ابن عباس مرفوعًا «من ترك نسكًا فعليه دم» ولتركه الواجب، وإن رجع محرمًا إلى الميقات، لم يسقط الدم برجوعه، وفاقًا لمالك، وعنه: يسقط، لإتيانه بالواجب. وإن أفسد نسكه هذا، لم يسقط دم المجاوزة، ومن مر في الحرم، قبل مضيه إلى عرفة فلا دم، لإحرامه قبل ميقاته، كمحرم قبل المواقيت، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
(6) فلا دم عليه، لأنه ليس من أهل فرض الحج، وكذا رقيق، أو كافر، قال الشيخ: إنما يجب الإحرام على الداخل، إذا كان من أهل وجوب الحج، وأما العبد، والصبي، والمجنون، فيجوز لهم الدخول بغير إحرام، لأنه إذا لم تجب عليهم حجة الإسلام وعمرته، فلأن لا يجب عليهم ما هو من جنسه، بطريق الأولى.(5/498)
ثم كلف أَحرم من موضعه(1) وكره إحرام قبل ميقات(2) ويحج قبل أشهره، وينعقد(3)
__________
(1) لأنه حصل دون الميقات، على وجه مباح، فكان له أن يحرم منه، كأهل ذلك الموضع، وكذا رقيق أو كافر.
(2) أي كره أن يحرم بالحج أو العمرة، قبل الميقات الذي وقته الشارع، وروى الحسن أن عمران بن حصين: أحرم من مصر، فبلغ عمر، فغضب، وقال: يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من مصره، وقال: إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم على عثمان، لامه فيما صنع، وكرهه له. رواهما سعيد والأثرم. وقال البخاري: كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان، ولأبي يعلى عن أبي أيوب مرفوعًا «يستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» وهو أفضل، لموافقته الأحاديث الصحيحة، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أخر إحرامه من المدينة إلى الحليفة، إجماعًا في حجة الوداع، وكذا في عمرة الحديبية، وقال ابن عباس: من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره. وفيه حديث مرفوع «لا ينبغي أن يحرم بالحج إلا في أشهره» وسنده لا بأس به. قاله ابن كثير وغيره؛ ولما فيه من المشقة، وعدم الأمن من المحظور.
(3) أي ويكره: أن يحرم بالحج قبل أشهر الحج، قال في الشرح: بغير خلاف علمناه. لقول ابن عباس: من السنة أن لا يحرم بالحج، إلا في أشهر الحج. رواه البخاري. وقال تعالى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } أي وقت الحج أشهر معلومات، أو: أشهر الحج أشهر معلومات. فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ولأنه أحرم بالعبادة قبل وقتها، فأشبه ما لو أحرم قبل الميقات المكاني، وينعقد الإحرام قبل الميقات المكاني، وينعقد أيضًا الإحرام بالحج قبل أشهره، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وحكى ابن المنذر وغيره الصحة في تقدمه على الميقات المكاني، إجماعًا، لأنه فعل جماعة من الصحابة والتابعين، ولم يقل أحد قبل داود: إنه لا يصح. ولكنه مكروه، وقوله { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } أي معظمه في أشهره، كقوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة».
وميقات العمرة الزماني جميع العام، ولا يكره الإحرام بها، يوم عرفة، والنحر، والتشريق، وهو مذهب مالك، والشافعي، وداود وغيرهم، والمذهب: في رمضان أفضل، لخبر «عمرة في رمضان تقضي حجة» أو قال «حجة معي» وفي رواية «تعدل» ولأحمد «تجزئ حجة» وقيل: وفي غير أشهر الحج، لأنه يكثر القصد إلى البيت في كل السنة، والنبي صلى الله عليه وسلم. إنما اعتمر في أشهر الحج، مخالفة لهدي المشركين.
وقال ابن سيرين: ما أحد من أهل العلم يشك أن عمرة في أشهر الحج، أفضل من عمرة في غير أشهر الحج. قال ابن القيم: وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج، أفضل من سائر السنة، بلا شك، سوى رمضان، لخبر أم معقل، ولكن لم يكن الله ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا أولى الأوقات، وأحقها بها، فكانت في أشهر الحج، نظير وقوع الحج في أشهره، وهذه الأشهر، قد خصها الله بهذه العبادة، وجعلها وقتًا لها، والعمرة حج أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج.(5/499)
.
(وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة)(1).
منها يوم النحر، وهو يوم الحج الأَكبر(2).
باب الإحرام(3)
__________
(1) بكسر الحاء على الأشهر، وتفتح، وذو القعدة، بالفتح، وتكسر، والحديث، رواه ابن عمر مرفوعًا، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وقاله جمع من الصحابة، منهم عمر وعلي وابن مسعود، وابن الزبير وابن عباس وابن عمر. وقال مالك: وذو الحجة جميعه، وفائدة الخلاف عنده: تعلق الدم، بتأخير طواف الإفاضة، عن أشهر الحج، وعند الشافعي: جواز الإحرام فيها، وعندنا وأبي حنيفة: تعلق الحنث، وقال الوزير وغيره: ليس له فائدة تخصه
حكمية. وتقدم أن «شوال»، من: شالت الإبل بأذنابها للطراق؛ وذو القعدة، لقعودهم فيها عن القتال والترحال. وذو الحجة، لإقامتهم الحج فيه.
(2) الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم حين خطب الناس بمنى، «وأي يوم هذا؟» ثم قال «أليس يوم الحج الأكبر؟» قالوا: بلى. ولحديث ابن عمر مرفوعًا: «يوم النحر يوم الحج الأكبر»، وإنما فات الحج بفجر يوم النحر بخروج وقت الوقوف، لا لخروج وقت الحج.
(3) والتلبية، وما يتعلق بهما.(5/500)
لغة: نية الدخول في التحريم(1) لأَنه يحرم على نفسه بنيته ما كان مباحًا له قبل الإحرام، من النكاح، والطيب، ونحوهما(2) وشرعًا: (نية النسك) أي نية الدخول فيه(3) لا نية أَن يحج أَو يعتمر(4).
__________
(1) كأن الرجل يحرم على نفسه النكاح والطيب، وأشياء من اللباس، كما يقال «أشتى» دخل في الشتاء، و«أربع» إذا دخل في الربيع، حكاه ابن فارس وغيره، ومنه – في الصلاة - «تحريمها التكبير» وقال الجوهري وغيره: الحرم بالضم الإحرام، وأحرم بالحج.
(2) كتقليم الأظفار، وحلق الرأس، وأشياء من اللباس، ونحو ذلك مما سيأتي بيانه.
(3) فلا ينعقد بدونها، وهو مذهب مالك، والشافعي، وقيل: مع التلبية، أو سوق الهدي، وهو مذهب أبي حنيفة، واختاره الشيخ وغيره، وقاله الشافعي، وجماعة من المالكية.
(4) فإن ذلك لا يسمى إحرامًا، وكذا التجرد، وسائر المحظورات، ليس داخلاً في حقيقته، بدليل كونه محرمًا بدون ذلك، ولا يصير محرمًا بترك المحظورات، عند عدم النية، فذات الإحرام مع النية، وجودًا وعدمًا، قال
الشيخ: ولا يكون الرجل محرمًا بمجرد ما في قلبه، من قصد الحج ونيته، فإن القصد ما زال في القلب منذ خرج من بلده، بل لا بد من قول، أو عمل يصير به محرمًا، هذا هو الصحيح من القولين.(6/1)
(سن لمريده) أي لمريد الدخول في النسك، من ذكر وأُنثى (غسل)(1) ولو حائضًا ونفساء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس – وهي نفساء – أَن تغتسل. رواه مسلم(2).
__________
(1) فإنه صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه، رواه الترمذي وحسنه، وكان ابن عمر يتوضأ أحيانًا، ويغتسل أحيانًا، والغسل أفضل، وللحاكم وغيره عنه: من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم؛ ولأنه أعم، وأبلغ في التنظيف، والمراد منه تحصيل النظافة، وإزالة الرائحة، قال الشيخ: ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه في الحج، إلا ثلاثة أغسال، عند الإحرام، والغسل عند دخول مكة، والغسل يوم عرفة، وما سوى ذلك – كالغسل لرمي الجمار، والطواف. والمبيت بمزدلفة – فلا أصل له، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، ولا استحبه جمهور الأئمة، لا مالك، ولا أبو حنيفة، ولا أحمد، وإن كان قد ذكره طائفة من متأخري أصحابه، بل هو بدعة، إلا أن يكون هناك سبب يقتضي الاستحباب، مثل أن يكون عليه رائحة يؤذي الناس بها، فيغتسل لإزالتها.
وقال: فتركه الاغتسال للمبيت، والرمي، والطواف سنة، والقول بخلاف ذلك خلاف السنة. اهـ. واستحب بعض الحنفية أن يجامع أهله، أو جاريته، إن كان تحصينًا للفرج، وحفظًا للنظر، ولا خلاف أن الجماع مباح قبل الإحرام بطرفة عين، وينعقد الإحرام بلا خلاف.
(2) وغيره، فدل على سنية غسلها، وسنية الاغتسال مطلقًا، لأن النفساء إذا أمرت به، مع أنها غير قابلة للطهارة، فغيرها أولى، ولا يضر حدث بين غسل
وإحرام، بل يحصل له المسنون، وفيه صحة إحرام النفساء، ومثلها الحائض، وأولى منهما الجنب، وهو إجماع، ولفظه: أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ فقال «اغتسلي، واستثفري بثوب، وأحرمي».(6/2)
وأَمر عائشة أَن تغتسل لإهلال الحج وهي حائض(1) (أَو تيمم لعدم) أي عدم الماء(2) أو تعذر استعماله لنحو مرض(3) (و) سن له أيضًا (تنظف) بأخذ شعر، وظفر، وقطع رائحة كريهة(4) لئلا يحتاج إليه في إحرامه، فلا يتمكن منه(5). (و) سن له أيضًا (تطيب) في بدنه(6).
__________
(1) متفق عليه، ولأبي داود عن ابن عباس مرفوعًا «النفساء، والحائض، تغتسل وتحرم، وتقضي المناسك كلها، غير أن لا تطوف بالبيت» والحكمة فيه التنظف، وقطع الرائحة الكريهة، وتخفيف النجاسة.
(2) ولو قال: لعذر. لكان أشمل.
(3) وخوف وعطش وتقدم، وقيل: لا يستحب له التيمم؛ اختاره الموفق، والشارح، وغيرهما، وصوبه في الإنصاف.
(4) لقول إبراهيم: كانوا يستحبون ذلك. رواه سعيد.
(5) أي مما يحتاج إليه، من نحو ظفر، لأن الإحرام يمنع من ذلك، ولأنه عبادة، فسن فيه، كالجمعة، وقال الشيخ: إن احتاج إليه فعل، وليس من خصائص الإحرام، ولم يكن له ذكر، فيما نقله الصحابة، لكنه مشروع بحسب الحاجة.
(6) ولو امرأة، سواء كان بما تبقى عينه كالمسك، أو أثره كالعود، والبخور، وماء الورد، وهو مذهب مالك، والشافعي، وقال الشيخ: إن شاء المحرم أن
يتطيب في بدنه فهو حسن، ولا يؤمر المحرم قبل الإحرام بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ولم يأمر به الناس، وظاهره: كراهة تطييب ثوبه كما سيأتي، وهو المذهب، قاله في المبدع.(6/3)
بمسك، أَو بخور(1) أو ماء ورد، ونحوها(2) لقول عائشة: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أَن يحرم، ولحله قبل أَن يطوف بالبيت(3). وقالت: كأني أنظر إلي وبيص المسك، في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. متفق عليه(4).
__________
(1) بفتح الموحدة: ما يتبخر به من الألوَّة وغيرها. وإن كان يبقى أثره، أو تبقى عينه، كالمسك، طيب معروف.
(2) من أنواع الطيب الذي يبقى أثره أو عينه، وهذا مذهب مالك، والشافعي.
(3) رواه البخاري وغيره، والمراد أنها كانت تطيبه عند إرادته فعل الإحرام، لأجل دخوله فيه، ولهما عنها: عند إحرامه، قبل أن يحرم. أي يدخل في الإحرام، والمراد بدنه، لا ثيابه، لما يأتي من النهي عنه.
(4) فدل على تخصيص البدن بالطيب، واستحبابه، واستدامته، ولو بقي لونه ورائحته، بلا نزاع، «والوبيص» بفتح الواو، وكسر الموحدة، آخره صاد مهملة، البريق واللمعان، يقال: وبص وبيصًا. برق ولمع، وقيل: الوبيص زيادة على البريق. والمراد به التلألؤ، فدل على وجود عين باقية، لا الريح فقط، قال ابن القيم: ومذهب الجمهور: جواز استدامة الطيب، للسنة الصحيحة: أنه كان يرى وبيص الطيب في مفارقه بعد إحرامه. اهـ. ولأنه غير متطيب بعد الإحرام، وحديث صاحب الجبة عام حنين، سنة ثمان، وحديث عائشة عام حجة الوداع، سنة عشر، فهو ناسخ، ويستحب لها خضاب بحناء، لحديث ابن عمر: من السنة أن تدلك المرأة يديها في حناء.(6/4)
وكره أن يتطيب في ثوبه(1) وله استدامة لبسه(2)، ما لم ينزعه، فإن نزعه فليس له أَن يلبسه قبل غسل الطيب منه(3) ومتى تعمد مس ما على بدنه من الطيب(4) أَو نحاه من موضعه، ثم رده إليه(5) أو نقله إلى موضع آخر فدى(6) لا إن سال بعرق أَو شمس(7) (و) سن له أيضًا (تجرد من مخيط)(8).
__________
(1) أي كره لمريد الإحرام أن يتطيب – بأي نوع من أنواع الطيب – في ثوبه، إزاره، أو ردائه، وحرمه الآجري.
(2) ولو بقي لونه ورائحته، عند جمهور العلماء، من الصحابة، والتابعين، قال ابن القيم: للسنة الصحيحة.
(3) أي من الثوب المطيب، لأن الإحرام يمنع الطيب ولبس المطيب، دون الاستدامة، لقوله «لا تلبسوا شيئًا من الثياب مسه ورس أو زعفران».
(4) فعلق الطيب بها فدى، لاستعماله الطيب.
(5) يعني بعد إحرامه فدى.
(6) لأنه ابتداء للطيب، فحرم فعله، ووجبت الفدية.
(7) فلا فدية، لحديث عائشة قالت: كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهاها. رواه أبو داود.
(8) قبل نية إحرام، ليحرم عن تجرد، ويجوز أن يعقد إحرامه قبل تجرده، لكن إن استدام لبس المخيط – ولو لحظة فوق المعتاد من وقت خلعه – فدى، لأن الاستدامة كالابتداء، قال الشيخ: والتجرد من اللباس واجب في الإحرام، وليس شرطًا فيه، فلو أحرم وعليه ثياب، صح ذلك، بسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وباتفاق أئمة أهل العلم، وعليه أن ينزع اللباس المحظور. اهـ. ويخلعه ولا يشقه، ولا فدية، لأن يعلى بن أمية أحرم في جبة، فأمره صلى الله عليه وسلم بخلعها، متفق عليه، ولأبي داود: فخلعها من رأسها. ولم يأمره بشق، ولا فدية.(6/5)
وهو كل ما يخاط على قدر الملبوس عليه(1) كالقميص، والسراويل(2) لأنه صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله، رواه الترمذي(3) (و) سن له أيضًا أن (يحرم في إزار ورداء أبيضين) نظيفين، ونعلين(4)
__________
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم «لا يلبس القميص» ويأتي.
(2) والبرنس، والقباء، والدرع، ونحوه مما يصنع – من لبد ونحوه – على قدر الملبوس عليه، وإن لم يكن فيه خياطة، والحكمة أن يبعد عن الترفه، ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت، فيكون أقرب إلى استذكاره، وأبلغ في مراقبته، وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات، وليتذكر الموت، ولباس الأكفان، ويتذكر به البعث يوم القيامة، والناس حفاة عراة، مهطعين إلى الداعي، بل تعظيمًا لبيت الله الحرام، وإجلالاً وإكرامًا، كما تراه في الشاهد من ترجل الراكب، القاصد إلى عظيم من الخلق، إذا قرب من ساحته، خضوعًا له، فكذا لزم القاصد إلى بيت الله، أن يحرم قبل الحلول إجلالاً، متخليًا عن نفسه، فارغًا من اعتبارها.
(3) أي تجرد من لباسه لإحرامه، ولأمره بنزع الجبة كما تقدم.
(4) سواء كان الإزار والرداء جديدين، أو لبيسين، وكونهما نظيفين، لأنا أحببنا له التنظف في بدنه، فكذلك في ثيابه، فالرداء على كتفه، والإزار في وسطه، ويجوز في ثوب واحد، والإزار هو هذا اللباس المعروف، الذي يشد على الحقوين فما تحتهما، وهو «الميزر» والرداء ما يرتدي به على المنكبين، وبين
الكتفين، من برد، أو ثوب ونحوه، يجعل نصفه على كتفيه، قال الشيخ: يجوز أن يحرم في جميع أجناس الثياب المباحة، من القطن، والكتان، والصوف، ويستحب في ثوبين نظيفين، فإن كانا أبيضين فهو أفضل، لحديث «خير ثيابكم البياض» وقال: السنة أن يحرم في إزار ورداء، سواء كانا مخيطين أو غير مخيطين، باتفاق الأئمة، ولو أحرم في غيرهما جاز، إذا كان مما يجوز لبسه، ويجوز أن يحرم في الأبيض، وغير الأبيض من الألوان الجائزة، وإن كان ملونًا. وقال الموفق: ولو لبس إزارًا موصلاً، أو اتشح بثوب مخيط، كان جائزًا.(6/6)
.
لقوله عليه اسلام «وليحرم أحدكم في إزار، ورداء، ونعلين» رواه أحمد(1). والمراد بالنعلين: التاسومة(2). ولا يجوز له لبس السرموزة، والجمجم، قاله في الفروع(3) (و) سن (إحرام عقب ركعتين) نفلاً، أَو عقب فريضة(4).
لأنه عليه السلام أَهل دبر الصلاة، رواه النسائي(5)
__________
(1) وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي ما في معناه إن شاء الله تعالى.
(2) بالمثناة فوق، فسين مهملة فواو، مشهورة، وتعرف – بنجد والحجاز – بالنعال ذوات السيور.
(3) السرموزة، هو البابوج معرب، والجمجم بضم الجيمين هو المداس، معرب أيضًا.
(4) نص عليه، وفاقًا لأبي حنيفة، قال ابن بطال: هو قول جمهور العلماء، وقال البغوي: عليه العمل عند أكثر العلماء، وذكر النووي استحبابه قول عامة العلماء، وقال الترمذي: والذي يستحبه أهل العلم أن يحرم دبر الصلاة.
(5) وعن أنس: صلى الظهر ثم ركب راحلته، وعن ابن عباس: صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين. وقال الشيخ: إذا كان وقتها، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه.
وقال ابن القيم: ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. اهـ. وإن لم يتفق له بعد فريضة، وأراد أن يصلي، فلا يركعهما وقت نهي، للنهي عنه، وليستا من ذوات الأسباب.(6/7)
(ونيته شرط)(1) فلا يصير محرمًا بمجرد التجرد، أو التلبية، من غير نية الدخول في النسك(2) لحديث «إنما الأعمال بالنيات»(3).
(ويستحب قول: اللهم إني أُريد نسك كذا) أَي أَن يعين ما يحرم به، ويلفظ به(4)
__________
(1) كالنية في الوضوء وغيره، فإن قيل: تقدم أن الإحرام نية النسك، فكيف يقال: النية شرط في النية؟ قيل: لما كان التجرد هيئة تجامع نية النسك، ربما أطلق عليها، فاحتيج إلى التنبيه على أن تلك الهيئة ليست كافية بنفسها، بل لا بد معها من النية، فينوي بها نسكًا، كما تقدم.
(2) بل لا بد من النية، ونية النسك كافية نص عليه، وهو مذهب مالك، والشافعي، وعنه: لا بد من النية مع التلبية، كما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو سوق الهدي، وفاقًا لأبي حنيفة وغيره، واختاره الشيخ وغيره، وتقدم، وحكي وجوبه عن الشافعي، وحكي اشتراطه مع التلبية عن مالك وغيره، «والتجرد» يعني من المخيط «والتلبية» يعني بالحج أو العمرة.
(3) أي: إنما العمل بحسب ما نواه العامل. وتقدم، والاعتبار بما نواه، لا بما سبق لسانه إليه وفاقًا، وقال ابن المنذر: أجمع عليه كل من يحفظ عنه من أهل العلم.
(4) أي يعين ما يحرم به من عمرة وحج، أو عمرة، أو حج، ويلفظ بالنية بما أراد من حج، أو عمرة، أو تمتع بعمرة إلى الحج، أو قرن بين الحج والعمرة، فيقول: لبيك حجًا؛ أو عمرة؛ أو: أوجبت حجًا، أو عمرة. ومهما قال أجزأ بالاتفاق، ولا يجب شيء من هذه العبارات ونحوها بالاتفاق.
قال شيخ الإسلام: تنازع العلماء: هل يستحب أن يتكلم بذلك؟ كما تنازعوا: هل يستحب التلفظ بشيء من ذلك؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع شيئًا من ذلك، ولا كان يتكلم بشيء من ذلك، ولا كان يتكلم بشيء من ألفاظ النية، لا هو، ولا أصحابه، وذكر قصة ضباعة، وكان يقول في تلبيته «لبيك عمرة وحجًا» وكان يقول للواحد من أصحابه «بم أهللت؟» وقال «مهل أهل كذا من كذا» والإهلال هو التلبية، وقال: بل متى لبى، قاصدًا للإحرام، انعقد إحرامه، باتفاق المسلمين، ولا يجب عليه أن يتكلم قبل التلبية بشيء.
وقال: ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أحدًا بعبارة بعينها، وإنما يقال: أهل بالحج؛ أهل بالعمرة، أو يقال: لبى بالحج؛ لبى بالعمرة، وهذا تأويل قوله تعالى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } الآية فقوله: إني أريد. لا ينبغي، لأنه يكون كذبًا، إن لم يكن أراد، ويقع إخبارًا عن المحقق أنه أراده من غير حاجة، وإن نوى بعد النية، فقد أخبر الله بما في ضميره، مع أنه عالم به، فيكون مستفهمًا.(6/8)
وأَن يقول (فيسره لي) وتقبله مني(1).
وأَن يشترط فيقول (وإن حبسني حابس، فمحلي حيث حبستني)(2) لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير حين قالت له: إني أُريد الحج، وأَجدني وجعة. فقال «حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني» متفق عليه(3) زاد النسائي في رواية إسنادها جيد «فإن لكِ على ربك ما استثنيت»(4).
__________
(1) أي يسر لي هذا النسك، لأني محتاج في أداء أركانه، وواجباته، ومستحباته إلى تحمل المشقة، وتقبله مني، كما قال الخليل { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فيطلب التيسير، لأن سؤال التيسير يكون في العسير، لا في اليسير، وسؤال القبول في العمل الذي هو الطريق إلى الوصول.
(2) أي يستحب أن يشترط إن كان خائفًا خاصة، قاله شيخ الإسلام وغيره، وهو ظاهر نص حديث ضباعة، وإن لم يكن خائفًا لا يشترط، جمعًا بين الأدلة. قال الشيخ: ولم يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تقول قبل التلبية شيئًا، لا اشتراطًا ولا غيره، ولا أمر بذلك كل من حج، وإنما أمرها أن تشترط على ربها، لما كانت شاكية، فخاف أن يصدها المرض عن البيت، وإن اشترط على ربه خوفًا من العارض فقال: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. كان حسنًا. اهـ. ونقل أبو داود: إن اشترط فلا بأس، وعند مالك وأبي حنيفة لا فائدة للاشتراط، لأن ابن عمر كان ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، إنه لم يشترط. رواه النسائي، وصححه الترمذي، «ومحل» بكسر الحاء المهملة، أي الموضع الذي اتحلل فيه، وفي المطلع: بفتح الحاء وكسرها، فالفتح مقيس، والكسر سماع.
(3) وفي السنن قال «قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث تحبسني» وصححه الترمذي وغيره، قال الشيخ: المقصود بهذا اللفظ أنه أمرها بالاشتراط في التلبية.
(4) أي تحللين بدون هدي ونحوه.(6/9)
فمتى حبس بمرض، أَو عدو، أَو ضل عن الطريق، حل ولا شيء عليه(1). ولو شرط: أَن يحل متى شاء(2) أو إن أفسده لم يقضه؛ لم يصح الشرط(3) ولا يبطل الإحرام بجنون، أو إغماء، أَو سكر كموت(4) ولا ينعقد مع وجود أحدها(5) والأنساك: تمتع، وإفراد، وقران(6) (وأَفضل الأنساك التمتع) فالإفراد، فالقران(7)
__________
(1) إذا قال ذلك، إلا أن يكون معه هدي، فيلزمه نحره، فاستفاد باشتراطه شيئين «أحدهما» أنه إذا عاقه عائق فله التحلل «والثاني» متى حل فلا دم عليه، ولا صوم، وإن نوى الاشتراط، ولم يتلفظ به لم يفد، لقوله «قولي محلي» والقول لا يكون إلا باللسان.
(2) لم يصح الشرط، لوجوب الإتمام.
(3) لأنه لا عذر له في ذلك.
(4) لخبر المحرم الذي وقصته راحلته.
(5) أي الجنون، وما عطف عليه.
(6) وهو مخير بينها، ذكره جماعة إجماعًا، لحديث عائشة «من أراد منكم أن يهل بحج فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج وعمرة، فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل» قالت: وأهل بالحج، وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بالعمرة. متفق عليه.
(7) فأما التمتع فهو أفضل، لأن الله نص عليه في كتابه العزيز، وقال عمران: نزلت آية التمتع في كتاب الله، وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخها، ولم ينه عنها، حتى مات، أخرجاه، وأحاديث التمتع متواترة، رواها عنه صلى الله عليه وسلم أكابر الصحابة، وهو قول عمر، وابن عباس، وجمع، وهو المذهب، ومذهب الشافعي.
وقال الترمذي: أهل الحديث يختارون التمتع بالعمرة في الحج وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق ولإتيانه بأفعالهما كاملة، على وجه اليسر والسهولة، والتمتع مأخوذ من المتاع أو المتعة، وهو الانتفاع والنفع، وأما القران فهو أفضل لمن ساق الهدي، اختاره الشيخ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارنًا، وقال: «من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا».
وقال ابن القيم: محال أن يكون حج أفضل من حج خير القرون، وأفضل العالمين مع نبيهم، وقد أمرهم أن يجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فمن المحال أن يكون غيره أفضل منه إلا حج من قرن، وساق الهدي، كما اختاره الله لنبيه، فأي حج أفضل من هذين، وقد ذهب طائفة من السلف والخلف إلى إيجاب القران على من ساق الهدي، والتمتع على من لم يسقه، منهم ابن عباس، لفعله، وأمره صلى الله عليه وسلم، وأما الإفراد فلأن فيه إكمال النسكين، وهو أفضلها عند مالك، والشافعي، فهو أفضل بهذا الاعتبار.
قال الشيخ: والتحقيق أنه يتنوع باختلاف حال الحاج، فإن كان يسافر سفرة للعمرة، وللحج سفرة أخرى، أو يسافر إلى مكة قبل أشهر الحج، ويعتمر، ويقيم بها، فهذا: الإفراد له أفضل، باتفاق الأئمة، وأما إذا فعل ما يفعله غالب الناس، وهو أن يجمع بين العمرة والحج، في سفرة واحدة، ويقدم مكة في أشهر الحج، فهذا إن ساق الهدي فالقران أفضل له، وإن لم يسق الهدي فالتحلل من إحرامه بعمرة أفضل.
فإنه قد ثبت بالنقول المستفيضة، التي لم يختلف في صحتها أهل العلم بالحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع هو وأصحابه، أمرهم جميعهم أن
يحلوا من إحرامهم، ويجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي، هو وطائفة من أصحابه، وقرن هو بين الحج والعمرة.
ولم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عائشة وحدها، لأنها كانت قد حاضت، فلم يمكنها الطواف، فأمرها أن تهل بالحج، وتدع أفعال العمرة، لأنها كانت متمتعة، ثم إنها طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها، فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن، فاعتمرت من التنعيم.
ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر، لا في رمضان، ولا في غيره، والذين حجوا معه، ليس فيهم من اعتمر بعد الحج من مكة إلا عائشة، ولا كان هذا من فعل الخلفاء الراشدين، والذين استحبوا الإفراد من الصحابة، إنما استحبوا أن يحج في سفره، ويعتمر في أخرى، ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر بعد ذلك عمرة مكية، بل هذا لم يكونوا يفعلونه قط، إلا أن يكون شيئًا نادرًا، وتنازع السلف هل تجزئه عن عمرة الإسلام أو لا؟(6/10)
.
قال أحمد: لا أَشك أنه عليه السلام كان قارنا، والمتعة أحب إلي. انتهى(1) وقال: لأنه آخر ما أَمر به النبي صلى الله عليه وسلم(2).
ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم «أمر أصحابه – لما طافوا وسعوا – أن يجعلوها عمرة إلا من ساق هديًا»(3)
__________
(1) وقال: إذا دخل بعمرة، يكون قد جمع الله له حجة وعمرة ودمًا.
(2) أي أمر به أصحابه، الذين كانوا معه في حجة الوداع، لما طافوا طواف القدوم.
(3) فليبق على إحرامه، وإن لم يسق الهدي يجعل الحج عمرة، ويصير حلالاً بعد فراغه من أفعال العمرة، ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل، وقال «انظروا ما آمركم به فافعلوا» وأخبرهم «أنه لأبد الأبد» فلم ينسخ، ومن ساق الهدي فالأفضل له البقاء على إحرامه، كما فعله صلى الله عليه وسلم، وأمر به، وفضل سوق الهدي مشهور.
وزمن إشعار الهدي إذا وصل إلى الميقات، إن كان ساقه مسافرًا به، وإن أرسله مع غيره فمن بلده. وعن ابن عباس: قلد نعلين، وأشعر الهدي في الشق الأيمن، بذي الحليفة، وأماط عنه الدم. صححه الترمذي، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
قال وكيع: لا تنظروا إلى قول أهل العراق في هذا، فإن الإشعار سنة، وقولهم بدعة. وقال أحمد: لا ينبغي أن يسوقه حتى يشعره، ويجلله بثوب أبيض، ويقلده نعلاً، أو علاقة قربة، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وتقليد الغنم مذهب العلماء، إلا مالكًا، ولعله لم يبلغه الحديث، فعن عائشة: كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها غنمًا. صححه الترمذي وقال: العمل عليه عند بعض أهل العلم. واتفقوا على أنها لا تشعر، لضعفها عن الجرح, ولاستتاره بالصوف.
وأما البقر فيستحب عند الشافعي ومن وافقه الجمع بين الإشعار والتقليد كالإبل، والمذهب أنه إن كان لها أسنمة أشعرت، وإلا فلا، لأنه تعذيب لها، وللترمذي فيما عطب «انحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم خل بين الناس وبينها فيأكلوها» وصححه وقال: العمل عليه عند أهل العلم.(6/11)
.
وثبت على إحرامه لسوقه الهدي. وتأَسف بقوله «لو استقبلت من أَمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولأَحللت معكم»(1) (وصفته) أَي التمتع (أَن يحرم بالعمرة في أشهر الحج(2) ويفرغ منها(3) ثم يحرم بالحج في عامه) من مكة، أَو قربها، أَو بعيد منها(4).
__________
(1) بفتح الهمزة، وسكون الحاء، وفي لفظ «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة» ولا يتحلل إلا بالطواف والسعي والتقصير أو الحلق إجماعًا، ولا يتأسف إلا على الأفضل، فدل على أنه الأفضل إلا لمن ساق الهدي، وهو مذهب الجمهور.
(2) لأنه لو لم يحرم بها في أشهر الحج، لم يجمع بين النسكين فيه، ولم يكن متمتعًا.
(3) أي يتحلل بعد فراغه من أعمالها، لأنه لو أحرم بالحج قبل التحلل من العمرة لكان قارنا، فإذا فرغ منها، ولم يكن معه هدي، أقام بمكة حلالاً، وتجزئه هذه العمرة بلا خلاف.
(4) لقول عمر: إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع، وإن خرج ورجع فليس بمتمتع. وعن ابن عمر نحوه، ولأنه لو أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج، ثم رجع من عامه، لا يكون متمتعًا، فلأن لا يكون متمتعًا إذا لم يحج من عامه، بطريق الأولى، ويشترط أن يحج في عامه اتفاقًا، لقوله { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } وظاهره في عامه، وجزم بعدم التقييد في المنتهى وغيره، وعليه أكثر الأصحاب.(6/12)
والإفراد أن يحرم بحج، ثم بعمرة بعد فراغه منه(1) والقران أن يحرم بهما معًا(2) أو بها ثم يدخله عليها قبل شروعه في طوافها(3) ومن أحرم به، ثم أدخلها عليه لم يصح إحرامه بها(4)
__________
(1) أي يحرم بالحج وحده من الميقات، ثم يقف بعرفة، ويفعل أفعال الحج، فإذا تحلل فقالوا: يخرج إلى التنعيم، فيحرم بالعمرة، ويفعل أفعالها، إن لم يكن أتى بها قبل. وقال المجد: لا يأتي في أشهر الحج بغيره. قال الزركشي: وهو أجود. وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يعتمروا بعد الحج، إلا ما كان من عائشة، وأن الذين استحبوا الإفراد من الصحابة، إنما استحبوا أن يحج في سفرة، ويعتمر في أخرى، ولم يستحبوا أن يحج ويعتمر بعد ذلك، حتى تنازعوا: هل تجزئه أو لا؟
(2) أي جميعًا، ينوي بالحج والعمرة من الميقات، ويطوف لهما، ويسعى، لفعله صلى الله عليه وسلم، كما هو مستفيض في بضعة وعشرين حديثًا، صحيحة، صريحة في ذلك، ومن ذكر أنه متمتع، فالمراد متعة القران، وهو لغة القرآن، والقران مصدر من: قرنت بين الشيئين.
(3) أي العمرة قبل شروعه في طوافها، إلا لمن معه هدي، فيصح ولو بعده، وسواء كان في أشهر الحج، أولا، لقول عائشة: أهللنا بالعمرة، ثم أدخلنا عليها الحج. وفي الصحيح أنه أمرها بذلك، وفعله ابن عمر، وقال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه، ويقتصر على أفعال الحج وحده، وهذا مذهب مالك، والشافعي.
(4) أي ومن أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم يصح إحرامه بها، لأنه لم يرد به أثر، ولم يستفد به فائدة، ولم يصر قارنا، بل مفردًا، لأنه لا يلزمه
بالإحرام الثاني شيء، وعمل القارن، كعمل المفرد في الإجزاء، ويسقط ترتيب العمرة، ويصير الترتيب للحج، وتندرج أفعال العمرة في الحج، قال الشيخ، وابن القيم وغيرهما: إذا التزم المحرم أكثر مما كان لزمه جاز، باتفاق الأئمة، فلو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، جاز بلا نزاع، وإذا أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم يجز عند الجمهور، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجوزه أبو حنيفة، بناء على أن القارن يطوف ويسعى مرتين، أما لو أراد أن يفسخ الحج إلى عمرة مفردة، لم يجز بلا نزاع، وإنما الفسخ جائز، لمن نيته أن يحج بعد العمرة، والمتمتع من حين يحرم بالعمرة فهو داخل في الحج.(6/13)
.
(و) يجب (على الأٌفقي) وهو من كان مسافة قصر فأكثر من الحرم(1) إن أَحرم متمتعًا، أَو قارنا (دم) نسك(2) لاجبران(3).
__________
(1) والأفقي بضمتين نسبة إلى الأفق، وهو الناحية من الأرض أو السماء، وقال ابن خطيب الدهشة: لا يقال: آفاقي؛ فلا ينسب إلى الجمع، بل إلى الواحد.
(2) إجماعًا في المتمتع، ونص عليه أحمد في القارن، ولا يجب على المفرد إجماعًا، قال الوزير وغيره: أجمعوا على أن المفرد إذا تم حجه بشرائطه، وتوقي محظوراته، لم يجب عليه دم، واتفقوا على استحباب التطوع بالهدي إذا لم يجب عليه.
(3) أي لا نقص في التمتع يجبر به، لما تقدم من أفضلية التمتع على غيره، وإلا لما أبيح له التمتع بلا عذر، لعدم جواز إحرام ناقص، يحتاج أن يجبره بدم، قال أحمد: إذا دخل بعمرة يكون الله قد جمع له بين عمرة وحجة ودم. قال ابن القيم: الهدي في التمتع عبادة مقصودة، وهو من تمام النسك، وهو دم هدي، لا دم جبران، وهو بمنزلة الضحية للمقيم، ومن تمام عبادة هذا النسك، ولو كان دم جبران لما جاز الأكل منه، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أكل من هديه، وفي الصحيحين أنه أرسل لنسائه من الهدي الذي ذبحه عنهن، وقال تعالى { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا } وهو متناول هدي التمتع والقران قطعًا.(6/14)
بخلاف أهل الحرم(1) ومن هو منه دون المسافة، فلا شيء عليه(2) لقوله تعالى { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (3). ويشترط أن يحرم بها من ميقات(4) أو مسافة قصر فأكثر من مكة(5).
__________
(1) فلا شيء عليهم إجماعًا، لكونهم من حاضري المسجد الحرام المنصوص عليهم.
(2) لأن من دون المسافة من حاضره، إذ حاضر الشيء من حل فيه، أو قرب منه، وهذا مذهب الشافعي، وقال مالك: هم أهل مكة؛ وقال أبو حنيفة: من كان دون المواقيت. وكذا عند الموفق ومن تبعه.
(3) أي الحرم، فلا متعة لهم، وقيل: ومن دون مسافة القصر؛ لأنه لا يعد مسافرًا، فلا شيء عليهم، وإن استوطن مكة أفقي فحاضر، فإن دخلها متمتعًا، ناويًا الإقامة بها، بعد فراغ نسكه، أو بعد فراغه منه، لزمه دم وفاقًا، وإن استوطن مكي بلدًا بعيدًا، ثم عاد مقيمًا متمتعًا لزمه دم، جزم به الموفق وغيره، لأنه حال الشروع فيه لم يكن من حاضرها.
(4) أي فيشترط في وجوب دم على متمتع سبعة شروط «أحدها» أن يحرم بالحج والعمرة من ميقات بلده، قال ابن المنذر، وابن عبد البر، وغيرهما: أجمع أهل العلم على أن من أحرم بعمرة في أشهر الحج، وحل منها، وليس من حاضري المسجد الحرام، ثم أقام بمكة حلالاً، ثم حج من عامه، أنه متمتع، عليه دم.
(5) فلو أحرم من دون مسافة القصر من مكة، لم يكن عليه دم تمتع، ويكون حكمه حكم حاضري المسجد الحرام، واختار الموفق وغيره أنه ليس بشرط، وصححه في الإقناع وغيره، وعليه، فيلزمه دم التمتع، وإن سافر، قال في شرح الإقناع: وهذا غير ناهض، لأنه لم يلزم من تسميته متمتعًا وجوب الدم.(6/15)
وأن لا يسافر بينهما(1) فإن سافر مسافة قصر فأحرم فلا دم عليه(2). وسن لمفرد وقارن فسخ نيتهما بحج(3) وينويان بإحرامهما ذلك عمرة مفردة(4) لحديث الصحيحين السابق(5).
__________
(1) أي بين الحج والعمرة، وهو «الشرط الثاني».
(2) أي وليس بمتمتع، وهو مذهب الشافعي، لقول عمر: إذا اعتمر في أشهر الحج، ثم أقام، فهو متمتع، وإن خرج فليس بمتمتع. وعن ابن عمر نحوه، ولأنه مسافر، لم يترفه بترك أحد السفرين، كمحل الوفاق، وقال أبو حنيفة ومالك: إن رجع إلى أهله فلا دم عليه، «والشرط الثالث» أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام إجماعًا، للآية «والرابع» أن يحج من عامه وفاقًا، لأن ظاهر الآية الموالاة، ولأنه أولى لو اعتمر في غير أشهر الحج، ثم حج من عامه، وخالف بعض الحنفية «والخامس» أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج، وإلا صار قارنًا «والسادس» أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، وقال أحمد: عمرته في الشهر الذي أهل فيه، وهو قول للشافعي، والقول الثاني يكون متمتعًا إذا طاف لها في شوال، وفاقًا لأبي حنيفة، ومالك «والسابع» نية التمتع في ابتداء العمرة، أو أثنائها، وعليه أكثر الأصحاب، واختار الموفق والشيخ وغيرهما: لا تعتبر، لظاهر الآية، وهو مذهب الشافعية، ولا يعتبر وقوع النسكين عن واحد، ولا كونه متمتعًا، فإن المتعة تصح من المكي لغيره، مع أنه لا دم عليه.
(3) حيث قد نوى حجًا، مفردًا أو قارنًا أولاً، فينقض نيته بالحج، سواء طاف وسعى أو لا، وقال الشيخ: يجب على من اعتقد عدم مساغه.
(4) لا مقرونة بحج، ويفرغ من أعمالها.
(5) أنه صلى الله عليه وسلم، أمر أصحابه لما طافوا وسعوا، أن يجعلوها عمرة، إلا من ساق هديًا، وثبت على إحرامه.(6/16)
فإذا حلا أحرما به ليصيرا متمتعين(1) ما لم يسوقا هديًا(2) أو يقفا بعرفة(3) وإن ساقه متمتع لم يكن له أَن يحل(4) فيحرم بحج إن طاف وسعى لعمرته قبل حلق(5). فإذا ذبحه يوم النحر حل منهما(6) (وإن حاضت المرأة) المتمتعة قبل طواف العمرة (فخشيت فوات الحج أحرمت به) وجوبًا(7).
__________
(1) أي فإذا فرغا من عمرتهما، أحرما بالحج يوم التروية، ليصيرا متمتعين، منتفعين بإقامتهما حلالاً، إلى يوم التروية.
(2) فإن ساق القارن أو المفرد هديًا، لم يكن لهما فسخه، لما تقدم من قوله «إلا من كان معه هدي» ولعدم ورود ما يدل على إباحة ذلك.
(3) فإن وقفا بعرفة، لم يكن لهما فسخه، فإن من وقف بها أتى بمعظم الحج، وأمن من فوته، ولو فسخا في الحالتين فلغو.
(4) أي من عمرته، لحديث ابن عمر: تمتع الناس بالعمرة إلى الحج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم عليه، حتى يقضي حجه».
(5) أي قبل تحلله بالحلق.
(6) أي من الحج والعمرة معًا، لخبر ابن عمر وغيره، ولأن التمتع أحد نوعي الجمع بين الإحرامين، كالقران، والمعتمر غير المتمتع يحل بكل حال، إذا فرغ من عمرته في أشهر الحج وغيرها، وإن كان معه هدي نحره عند المروة إن أمكن، وحيث نحره من الحرم جاز.
(7) لأنه لم يكن لها أن تدخل المسجد وتطوف بالبيت، لما تقدم في الحيض، ولما سيأتي، ولا تمنع من شيء من مناسك الحج، إلا الطواف وركعتيه إجماعًا، حكاه ابن جرير وغيره، وليس كونها خشيت فوات الحج شرطًا، لجواز إدخال
الحج على العمرة، بل لوجوبه، لأن الحج واجب فورًا، ولا سبيل إليه إلا ذلك، فتعين، وكالصورة الثانية من القران، إدخال الحج على العمرة، قبل الشروع في طوافها، وإن لم يخف فوت الحج.(6/17)
(وصارت قارنة)(1) لما روى مسلم: أَن عائشة كانت متمتعة فحاضت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم «أَهلي بالحج»(2) وكذا لو خشيه غيرها(3). ومن أَحرم وأَطلق صح، وصرفه لما شاء(4)
__________
(1) نص عليه، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: ترفض العمرة. قال أحمد: لم يقله غيره. ومراد النبي صلى الله عليه وسلم: دعي أفعال العمرة. ولأنه لا يجوز رفض نسك يمكن بقاؤه، ثم قال لها صلى الله عليه وسلم «طوافك وسعيك يكفيك لحجك وعمرتك» فأثبت لها عمرة، وإعمارها من التنعيم تطيبًا لخاطرها.
(2) لأنها معذورة، محتاجة إلى ذلك، وحديثها أصل في سقوط طواف القدوم عن الحائض، وكانت متمتعة فصارت قارنة، قال ابن القيم:وهو أصح الأقوال، والأحاديث لا تدل على غيره، ولأن إدخال الحج على العمرة، يجوز من غير خشية فوات الحج، فمعه أولى، لأنها ممنوعة من دخول المسجد. وفي الإنصاف: إذا دخلت متمتعة، فحاضت، فخشيت فوات الحج أحرمت به، وصارت قارنة، ولم تقض طواف القدوم، بلا نزاع فيه كله.
(3) أي وكالحائض – إذا خشيت فوات الحج – غيرها إذا خشي فواته، أحرم بالحج لتعينه، وصار قارنًا، وهو مذهب مالك والشافعي، ولم يقض طواف القدوم، ويجب دم قران، وتسقط عنه العمرة لاندراجها في الحج للخبر.
(4) وفاقًا: قال الشيخ: ولو أحرم إحرامًا مطلقًا جاز، فلو أحرم بالقصد للحج من حيث الجملة، ولا يعرف هذا التفصيل جاز، ولو أهل ولبى كما يفعل الناس قاصدًا للنسك، ولم يسم شيئًا بلفظه، ولا قصده بقلبه، لا تمتعًا، ولا إفرادًا،
ولا قرانًا، صح حجه أيضًا، وفعل واحدًا من الثلاثة، وإن أحرم بنسك ونسيه، صرفه إلى أي الأنساك شاء.(6/18)
وبمثل ما أَحرم فلان. انعقد بمثله(1) وإن جهله جعله عمرة، لأَنها اليقين(2) ويصح: أَحرمت يومًا(3) أو بنصف نسك(4) لا: إن أَحرم فلان؛ فأَنا محرم. لعدم جزمه(5).
__________
(1) أي انعقد إحرامه، بمثل ما أحرم به فلان وفاقًا، علم به قبل الإحرام أو بعده، لحديث علي، لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم «بم أحرمت؟» قال: بما أحرمت به يا رسول الله. وفي خبر أنس: أهللت بإهلاك كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي موسى أنه أحرم كذلك، ولم يكن ساق هديًا، فأمره أن يحل، ولأنه قصد الإحرام بصفة خاصة، حتى لو بطل بقي أصل الإحرام، «وفلان» مصروف، كناية عن الذكر من الناس.
(2) أي وإن استمر الجهل به، جعل نسكه عمرة استحبابًا، لأن العمرة اليقين، والتمتع أفضل، وله صرف الحج والقران إليها مع العلم، فمع الإبهام أولى، ويجوز صرفه إلى غيرها.
(3) وهذا مذهب الشافعي، لأنه إذا أحرم زمنًا لم يصر حلالاً فيما بعده، حتى يؤدي نسكه، ولو رفض إحرامه.
(4) صح وهو مذهب الشافعي، لأنه إذا دخل في نسك لزمه إتمامه، فيقع إحرامه مطلقًا، ويصرفه لما شاء.
(5) أي بالإحرام، قال في الفروع: فيتوجه أن لا يصح وفاقًا. وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بواحدة، وهو مذهب مالك والشافعي، وفي الإنصاف: بلا نزاع. ولا ينعقد بهما كبقية أفعالهما، وكنذرهما في عام واحد، وفاقًا، فتجب إحداهما، لأن الوقت لا يصلح لهما، وإن أحرم عن اثنين، وقع عن نفسه
بلا نزاع، لأنه لا يمكن عنهما، وكذا لو أحرم عن نفسه وغيره، وإن استنابه اثنان، فأحرم عن واحد معين، ثم نسيه وتعذرت معرفته، فإن كان فرط أعاد الحج عنهما، وإن فرط الموصى إليه غرم، وإلا فمن تركه الموصيين، إن كان النائب من غير جعل، وإلا لزمه، وإن لم ينسه صح، ويؤدب من أخذ عن اثنين ليحج عنهما عامًا واحدًا.(6/19)
(وإذا استوى على راحلته قال)(1) قطع به جماعة(2) والأصح عقب إحرامه(3) (لبيك اللهم لبيك)(4).
__________
(1) أي قال: لبيك، الخ، حال استوائه على راحلته، والتلبية سنة مؤكدة، وأوجبها مالك، وأبو حنيفة في ابتداء الإحرام.
(2) وجزم به في المقنع وغيره، وتبعهم الماتن.
(3) أي والأصح: أن السنة ابتداء التلبية عقب إحرامه، قدمه وجزم به في الإقناع، وصححه في شرحه. وعن سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: عجبًا لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله. فقال إني لأعلم الناس بذلك، إنما كانت منه حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا، لما صلى في مسجد ذي الحليفة أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام، فحفظوا عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، فأدرك ذلك أقوام، فحفظوا عنه، وذكر لما علا على البيداء، وايم الله لقد أوجبه في مصلاه. فأزال الإشكال رضي الله عنه. قال الشيخ: يلبي من حين يحرم، سواء ركب دابته أو لم يركبها، وإن أحرم بعد ذلك جاز.
(4) إجابة لدعوته، قال ابن القيم: ولهذا كان للتلبية موقع عند الله، وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه، وأحظى عنده، فهو لا يملك نفسه أن يقول: لبيك لبيك. حتى ينقطع نفسه.(6/20)
أي: أنا مقيم على طاعتك وإجابة أَمرك(1) (لبيك لا شريك لك لبيك(2) إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)(3).
__________
(1) أي إقامة على طاعتك بعد إقامة، وإجابة لأمرك لنا بالحج بعد إجابة، «ولبيك» مصدر مثنى، قصد به التكثير، مأخوذ من «لب بالمكان» إذا لزمه، وقيل: اتجاهي وقصدي إليك. والأجود في اشتقاقها، هو العطف على الشيء، والإقبال عليه، والتوجه نحوه، وأصل «لبيك» لببتك، فاستثقلوا الجمع بين ثلاث باءات، فأبدلوا من الثالثة ياء، وقيل: لبيك. محبتي لك، وقيل: إخلاصي لك، وقيل معناها: الخضوع، فالتلبية جواب دعاء، والداعي هو الله تعالى، قال جل وعلا { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل إجابة دعوة الخليل حين نادى بالحج: أيها الناس أجيبوا ربكم. فأجابوه: لبيك، الخ، وفي لفظ: إن ربكم اتخذ بيتًا، وأمركم أن تحجوه. وقطع به البغوي وغيره.
قال الشيخ: والتلبية إجابة دعوة الله تعالى لخلقه، حين دعاهم إلى حج بيته، على لسان خليله إبراهيم، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبته، والمعنى: إنا مجيبوك لدعوتك، مستسلمون لحكمك، مطيعون لأمرك، مرة بعد مرة، لإنزال على ذلك. اهـ. وفي مشروعية التلبية، تنبيه على إكرام الله لعباده، بأن وفودهم على بيته، إنما كان باستدعاء منه سبحانه.
(2) كرر التلبية لأنه أراد إقامة بعد إقامة، ولم يرد حقيقة التثنية، وإنما هو التكثير كحنانيك.
(3) قال القرطبي والطحاوي وغيرهما: أجمع العلماء على هذه التلبية، وكسر همزة «إن» أولى عند جماهير العلماء، وهو كذلك عند الحنفية والشافعية، وحكي الفتح عن أبي حنيفة وآخرين. وقال ثعلب: من كسر فقد عم، يعني حمد الله على كل حال، ومن فتح فقد خص، أي: لبيك لأن الحمد لك «والملك» بالنصب والرفع، النصب عطف على الحمد والنعمة، والرفع بالابتداء، وينبغي الوقف هنا وقفة لطيفة، لئلا يوصل بالنفي بعده فيوهم.(6/21)
روي ذلك عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث متفق عليه(1). وسن أَن يذكر نسكه فيها(2).
__________
(1) وقال الترمذي وغيره: ثبتت عن ابن عمر وغيره، والعمل عليه عند بعض أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول سفيان، والشافعي, وأحمد، وإسحاق. اهـ. ولا تستحب الزيادة عليها، لأنه صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته فكررها، ولم يزد عليها، قال الشيخ: كان صلى الله عليه وسلم يداوم على تلبيته. وللنسائي «لبيك إله الحق» وإن زاد «لبيك ذا المعارج» أو «لبيك وسعديك»، ونحو ذلك جاز، كما كان الصحابة يزيدون، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعهم، ولم ينههم، وكذا جزم به ابن القيم وغيره.
ولا تكره الزيادة وفاقًا، لما في الصحيحين أن ابن عمر كان يلبى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزيد: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل. وزاد عمر: لبيك ذا النعماء والفضل، لبيك لبيك مرغوبًا ومرهوبًا إليك لبيك. رواه الأثرم، وروي عن أنس أنه كان يزيد: لبيك حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا. وروي عن بعض السلف: لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة. وعن ابن عمر: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة. وقال الشافعي: وإن زاد شيئًا من تعظيم الله، فلا بأس، ولأن المقصود الثناء على الله، وإظهار العبودية له، فلا مانع من الزيادة، واستحبها أبو حنيفة.
(2) فيقول: لبيك عمرة. أو: لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج. أو: لبيك عمرة وحجًا. لحديث أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لبيك عمرة وحجًا» وعن جابر وابن عباس نحوه، متفق عليه، ويقول النائب: لبيك عن فلان. وتجزئ النية، قال أحمد: إذا حج عن رجل، يقول أول ما يلبي، عن فلان. ثم لا يبالي أن لا يقول بعد.(6/22)
وأَن يبدأَ القارن بذكر عمرته(1) وإكثار التلبية(2) وتتأكد إذا علا نشزًا(3) أو هبط واديًا(4) أو صلى مكتوبة(5) أو أقبل ليل أو نهار(6).
__________
(1) أي يسن أن يبدأ القارن الحج بالعمرة بذكر العمرة، فيقول: لبيك عمرة وحجًا. للخبر المتفق على صحته.
(2) بالرفع عطفًا على سابقه باعتبار سبكه، أي وسن إكثار التلبية، لخبر سهل ابن سعد «ما من مسلم يلبي، إلا لبى ما عن يمينه وشماله، من شجر، أو حجر، أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ههنا ومن ههنا» رواه الترمذي وغيره، بسند جيد.
(3) أي وتتأكد التلبية والإكثار منها «إذا علا نشزًا» بالتحريك: المكان المرتفع، باتفاق الأئمة، للخبر الآتي، وخبر: إذا علونا سبحنا، والتلبية حال الإحرام: تقال مكان التسبيح.
(4) تأكد التلبية وفاقًا، للخبر.
(5) أي وتتأكد التلبية دبر الصلاة المكتوبة وفاقًا، ولو في غير جماعة، لما روي عن جابر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم «يلبي في حجته إذا لقي راكبًا، أو علا أكمة، أو هبط واديًا، وفي أدبار الصلاة المكتوبة، وفي آخر الليل. وقال إبراهيم: كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة، وفي آخر الليل، وإذا هبط واديًا، وإذا علا نشزًا، وإذا لقي راكبًا، وإذا استوت به راحلته. قال أحمد: يجزئ بعد الصلاة مرة، ولا يستحب تكرارها في حالة واحدة، وثلاث أحسن».
(6) وبالأسحار، واختلاف الأحوال.(6/23)
أو التقت الرفاق(1) أو سمع ملبيًا(2) أو فعل محظورًا ناسيًا(3) أو ركب دابته، أو نزل عنها(4) أو رأى البيت(5) (يصوت بها الرجل) أي يجهر بالتلبية(6) لخبر السائب بن خلاد مرفوعًا «أتاني جبرئيل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية» صححه الترمذي(7)
__________
(1) اتفاقًا، و«التقت» بـ«القاف» قبلها تاء، وبعدها تاء، فوقيتان، وهو الصحيح كما في الإقناع والمنتهى وغيرهما. وفي بعض النسخ بـ«الفاء» قبلها تاء فوقية، وبعد الفاء فوقيتان.
(2) لبى، فإنه كالمذكر له.
(3) إذا ذكره، لتدارك الحج، واستشعار إقامته عليه، ورجوعه إليه.
(4) لتغير حاله بالركوب أو النزول.
(5) أي الكعبة المشرفة، وفي المستوعب: تستحب عند تنقل الأحوال به. اهـ. وتستحب في مكة والبيت، وسائر مساجد الحرم، كمسجد منى، وعرفات، وسائر بقاع الحرم، لأنها مواضع النسك، وذكر شيخ الإسلام وغيره استحباب الإكثار من التلبية، عند اختلاف الأحوال، كما تقدم، إلا بوقوفه بعرفة ومزدلفة، لعدم نقله، وقال: قد روي «أن من لبى حتى تغرب الشمس، فقد أمسى مغفورًا له» وقال النخعي: كانوا يستحبون التلبية في هذه الأحوال. ولأن التلبية كالتكبير في الصلاة، فيأتي بها عند الانتقالات من حال إلى حال، وإذا رأى شيئًا يعجبه، قال: لبيك إن العيش عيش الآخرة.
(6) باتفاق أهل العلم.
(7) وأصل الإهلال في اللغة: رفع الصوت. ومنه: استهل المولود. صاح، وقال أنس: سمعتهم يصرخون بها صراخًا. رواه البخاري، ولأحمد من رواية
ابن إسحاق إن جبرئيل قال للنبي صلى الله عليه وسلم «كن عجاجًا ثجاجًا» وللترمذي عن أبي بكر، وقال غريب: سئل أي الحج أفضل؟ قال «العج والثج» وقال أحمد وابن معين: أصل الحديث معروف. ولأنها شعار الحج، وليقتدى به.
قال الشيخ وغيره: التلبية شعار الحج، فأفضل الحج العج والثج، والعج: رفع الصوت بالتلبية «والثج» إراقة دماء الهدي، ولهذا يستحب رفع الصوت بها للرجل، بحيث لا يجهد نفسه، وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يبلغون الروحاء، حتى تبح حلوقهم من التلبية.(6/24)
.
وإنما يسن الجهر بالتلبية، في غير مساجد الحل وأَمصاره(1) وفي غير طواف القدوم، والسعي بعده(2) وتشرع بالعربية لقادر، وإلا فبلغته(3).
ويسن بعدها دعاء(4) وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم(5)
__________
(1) أي أمصار الحل، قال أحمد: إذا أحرم في مصره، لا يعجبني أن يلبي حتى يبرز، لقول ابن عباس – لمن سمعه يلبي بالمدينة -: إن هذا لمجنون، إنما التلبية إذا برزت. واحتج القاضي وأصحابه، بأن إخفاء التطوع أولى، خوف الرياء على من لا يشاركه أحد في تلك العبادة، بخلاف البراري: وعرفات، والحرم، ومكة.
(2) أي فيكره رفع الصوت بها حينئذ، لئلا يخلط على الطائفتين، ولا بأس فيهما سرًا، قال الأصحاب: لا يظهرها في الحرم وفاقًا. وأما المتمتع والمعتمر، فيقطعانها إذا شرعا في الطواف، كما سيأتي، إلا عند مالك، فإذا دخل الحرم قطعها، وإن أحرم من أدنى الحل، فإذا رأى البيت. قال الشيخ: ويستحب أن يلبي عن أخرس، ومريض، وصغير، ومجنون، ومغمى عليه، تكميلاً لنسكهم كالأفعال.
(3) أي وتشرع التلبية بالعربية لقادر عليها، لأنه ذكر مشروع، فلم يشرع
بغير العربية مع القدرة، كسائر الأذكار، وإن لم يكن قادرًا على العربية، لبى بلغته، كالتكبير في الصلاة.
(4) بما أحب بلا نزاع، لأنه مظنة إجابة الدعاء، ويسأل الله الجنة، ويعوذ به من النار، لما رواه الدارقطني وغيره: كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته، واستعاذ برحمته من النار.
(5) أي ويسن – عقب التلبية والدعاء – صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه موضع يشرع فيه ذكر الله، فشرعت فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، كالصلاة والأذان، ولا يرفع بذلك صوته.
قال الشيخ: وإن دعا عقب التلبية وصلى على رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من سخطه والنار فحسن. وكذا قال غير واحد من أهل العلم، ويسأل ما شاء لنفسه، ولمن أحبه من المسلمين.(6/25)
(وتخفيها المرأة) بقدر ما تسمع رفيقتها(1) ويكره جهرها فوق ذلك، مخافة الفتنة(2).
ولا تكره التلبية لحلال(3).
آخر المجلد الثالث من حاشية الروض المربع
ويليه المجلد الرابع
وأوله «باب محظورات الإحرام»
فهرس المجلد الثالث
من حاشية الروض المربع
الموضوع ... الصفحة
كتاب الجنائز ... 3
هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي ... 3
يسن الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له ... 4
لا يكره تمني الموت لضرر في الدين أو وقوع فتنة ... 7
يباح التداوي بمباح إجماعا ولا يجب عند جمهور العلماء ولو ظن نفعه ... 8
السنة تدل على أن عيادة المريض واجبة أو مندوبة مؤكدة ... 11
يسن التذكير بالتوبة وتتأكد في حق المريض ... 14
يسن لقنه لا إله إلا الله ولا يكثر التكرار لئلا يضجره ... 16
القراءة على الميت بعد موته بدعة بخلاف المحتضر فتستحب ... 18
يوجه إلى القبلة، وإذا مات سن تغميض عينيه وشد لحييه وتليين مفاصله ... 19
يسن الإسراع في تجهيزه إن مات غير فجأة ... 23
يجب الإسراع في قضاء دينه، وما فيه إبراء ذمته قبل الصلاة عليه ... 25
فصل في غسل الميت وما يتعلق به ... 27
يغسل الميت المسلم أو ييمم عند تعذره ... 27
__________
(1) ويعتبر أن تسمع نفسها وفاقًا، فإنها لا تكون متلفظة بذلك إلا كذلك، وأجمع أهل العلم: أنه لا يلبي عنها غيرها، هي تلبي عن نفسها.
(2) أي يكره رفع صوتها بالتلبية فوق ما تسمع رفيقتها، مخافة الفتنة بصوتها إذا رفعته، قال ابن المنذر وغيره: أجمع أهل العلم، على أن السنة في المرأة، أن لا ترفع صوتها. اهـ. والكراهة مقيدة بما إذا لم يتحقق سماع أجنبي لها، وإلا فيحرم.
(3) وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وجمهور أهل العلم، لأنها ذكر مستحب للمحرم، فلم تكره لغيره، كسائر الأذكار، قال في الفروع: ويتوجه احتمال: يكره؛ وفاقًا لمالك، لعدم نقله، وتكره في خلاء، ومحل نجس، كسائر الأذكار.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(6/26)
أولى الناس بغسل الرجل وصيه ثم الأقرب فالأقرب والأنثى وصيتها ثم القربى فالقربى ... 29
يحرم أن يغسل مسلم كافرا بل يواريه ... 34
كيفية الشروع في غسل الميت ... 36
كيف ينجيه، وحكم مس عورته والنظر إليها ... 39
يوضئه بعد نية الغسل ... 40
ما يغسل به الميت، وكيفية الغسل وعدده ... 42
لا يؤخذ من الميت شيء ... 46
إن خرج منه شيء بعد سبع غسلات الجم المحل ثم غسل ويوضأ وجوبا ... 48
تجهيز المحرم إذا مات ... 50
لا يغسل شهيد معركة ومقتول ظلما ... 52
الشهداء كثيرون منهم المطعون والمبطون.... إلخ ... 55
الشهيد بغير قتل يغسل ويصلى عليه ... 57
يغسل كل عاص ويصلى عليه إلا الغال وقاتل نفسه ... 59
يغسل السقط ويصلى عليه ... 60
من تعذر غسله ييمم ... 61
ثناء الناس على الميت جائز ... 63
فصل في الكفن ... 64
تكفين الميت من ماله مقدم على الدين وغيره ... 64
يكفن الرجل في ثلاث لفائف بيض ... 67
تطييب الأكفان وكيفية وضع الميت فيها ... 69
تحل العقد في القبر ... 72
تكفن المرأة في خمسة أثواب ... 74
الواجب في الكفن ثوب يستر جميع الميت ... 76
فصل في الصلاة على الميت وهي فرض كفاية ومن أكبر القربات ... 78
تسن جماعة ويقف الإمام عند صدر رجل ووسط امرأة ... 79
إذا اجتمعت جنائز قدم إلى الإمام أفضلهم ... 82
كيفية الصلاة على الميت ... 83
ما يدعو به في الصلاة وتوضيح ذلك ... 86
ما يقوله في الصلاة على الصغير ... 89
لا يقول شيئا بعد الرابعة ويسلم واحدة عن يمينه ... 91
المطلوب في صفتها ستة أشياء ... 93
يشترط لها ما يشترط للمكتوبة إلا لوقت ... 96
لا يصلي على من علم منه نفاقا أو زندقة ... 97
من فاتته الصلاة عليه صلى على القبر ... 99
يصلي على الغائب إذا لم يكن صلى عليه ... 101
إن وجد بعض ميت لم يصل عليه فككله، إلا الشعر والظفر والسن ... 103
لا يصلي الإمام الأعظم على الغال وقاتل نفسه ... 104(6/27)
ثواب المصلي على الجنازة والمشيع لها ... 107
فصل في حمل الميت ودفنه ... 108
كيفية السير بها وكون المشاة أمامها، والركبان خلفها ... 111
كره جلوس تابعها حتى توضع ... 114
اللحد أفضل من الشق ... 117
مقدار تعميق القبر ... 119
ذكر من يقدم لدفن الرجل والمرأة وكيفية وضعه في القبر ... 121
تلقينه بعد الدفن مكروه بل يستحب الدعاء له ... 124
يكره رفع القبر فوق شبر ويكون مسنمًا ... 126
تجصيص القبر والبناء عليه من وسائل الشرك ... 127
يكره الجلوس على القبر والوطء عليه ... 129
تحريم إسراج القبور واتخاذ المساجد عليها وتعين إزالتها ... 131
يحرم دفن اثنين فأكثر معا إلا للحاجة ... 132
يستحب الدفن قريبا من الشهداء والصالحين ... 135
أحاديث القراءة على القبر كلها ضعيفة ... 137
إهداء القرب إلى الميت والتحقيق فيها ... 138
لم يكن من عادة السلف إهداء الصلاة أو الصيام لموتاهم بل هو بدعة ... 140
يصلح لأهل الميت طعام ويكره لهم فعله للناس ... 141
يحرم الذبح عند القبر ... 143
فصل: في زيارة القبور وكونها شرعية وبدعية ... 144
تحرم زيارة النساء للقبور بلا استثناء ... 146
ما يقول إذا زار القبور أو مر بها ... 147
علم المزور بزائره وسروره أو تألمه ... 149
تعزية المصاب ووقتها ... 150
البكاء على الميت والصبر والرضى، والاسترجاع، وتفصيل ذلك ... 153
كره لمصاب تغيير حاله ... 157
حكم الندب والنياحة وتأذي الميت بذلك ... 158
كتاب الزكاة ... 162
حكمها، وتعريفها لغة وشرعا ... 162
تجب في تسعة أشياء بشروط خمسة ... 164
من شروط الزكاة تمام الملك ... 168
النتاج أو الربح حولهما حول أصليهما ... 171
إذا كان له دين على معسر زكاة لسنة ... 174
إن نقص النصاب أو باعه أو أبدله انقطع الحول ... 178
تجب في عين المال ... 181
لا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء ولا بقاء المال ... 182
باب زكاة بهيمة الأنعام ... 186(6/28)
نصاب زكاة الإبل وما يجب فيما دون النصاب ... 189
أسنان زكاة الإبل ... 192
في الأربعين من الإبل الكثيرة بنت لبون وفي الخمسين حقة ... 194
فصل في زكاة البقر ... 198
نصاب زكاة البقر وسنها وما يتفق فيه الفرضان ... 199
فصل في زكاة الغنم ... 202
الضأن والمعز سواء والسوم شرط ... 202
يجوز إخراج القيمة للحاجة والمصلحة ... 207
الخلطة ضربان ... 208
لا أثر لخلطة من ليس من أهل الزكاة ... 212
باب زكاة الحبوب والثمار ... 214
ما تجب فيه من الحبوب والأبازير والثمار ... 214
ليس في الخضروات والبقول صدقة ... 219
اشتراط النصاب وبيان مقداره ... 220
فصل في قدر الواجب في الحبوب والثمار ... 226
إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة ... 228
يجب العشر أو نصفه على مستأجر الأرض وما يجب في الأرض الخراجية ... 233
يصاب العسل ومقدار زكاته ... 235
الزكاة إنما تتكرر في الأموال النامية ... 236
متى تجب الزكاة في المعدن ... 237
الركاز وما يجب فيه ... 238
باب زكاة النقدين وحكم المصوغ منهما ... 241
قدر نصاب الذهب بالجنيه والفضة بالريال العربي ... 244
ما يباح للرجال لبسه واستعماله من الذهب والفضة ... 247
يباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه ... 254
حكم زكاة الحلي ... 256
باب زكاة العروض ... 260
تقوم عند الحول ولا يعتبر ما اشتريت به ... 264
باب زكاة الفطر ... 269
الحكمة من شرعيتها وبيان من تجب عليه ... 269
لا يعتبر لوجوبها ملك نصاب ... 272
لا يمنعها الدين إلا بطلبه ... 273
ذكر من يجب الإخراج عنهم والبداءة بالأقرب فالأقرب ... 275
تجب بغروب الشمس ليلة العيد ... 279
متى يجوز إخراجها ومتى يستحب ... 280
فصل في قدر الواجب ونوعه ومستحقه ... 284
الأفضل تمر فزبيب.... إلخ ... 286
يعطى الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه ... 288
يجوز الرجوع في الصدقة في ثلاث صور ... 290
باب إخراج الزكاة ... 291(6/29)
إن منعها جحدا لوجوبها كفر ... 293
تجب في مال صبي ومجنون ... 296
الأفضل أن يفرقها بنفسه ويجوز دفعها للإمام ... 297
ما يقول هو وآخذها عند دفعها ... 298
حكم نقل الزكاة إلى ما تقصر فيه الصلاة ... 300
بعث السعادة زمن الوجوب لقبضها وتعجيلها وما يشترط له ... 304
ما أخذ العامل باسم الزكاة اعتد به ... 307
باب أهل الزكاة وصدقة التطوع وحكم السؤال ... 308
أهلها ثمانية أصناف لا يجوز صرفها إلى غيرهم ... 308
من لا يصلي لا يعطي منها حتى يتوب ... 309
الغنى في باب الزكاة نوعان ... 311
ثبوت حق المؤلفة قلوبهم عند الحاجة ... 314
الغارمون نوعان ... 317
من أهل الزكاة (في سبيل الله) وهم: الغزاة المتطوعة ... 319
المراد بـ "ابن السبيل" وما يعطى منها ... 320
أهل الزكاة قسمان ... 322
من ادعى عيالا أو فقرا والتحقيق في ذلك ... 323
يجوز صرفها إلى صنف واحد ... 324
الذي عليه الدين لا يعطيه ليستوفي دينه ... 326
فصل فيمن لا يجزئ دفع الزكاة إليه وفضل صدقة التطوع ... 328
الأصح إباحة الزكاة لبني المطلب ومواليهم ... 329
شرط دفع الزكاة إلى الوالدين والولد ... 332
حكم دفع الزكاة إلى الزوج أو الزوجة ... 334
حد الغنى المانع من أخذ الزكاة ... 337
فضل صدقة التطوع ... 337
الصدقة على اليتيم والمسكين وذي الرحم ... 340
من أراد الصدقة بماله كله ... 342
تتمة وفي المال حقوق سوى الزكاة ... 343
كتاب الصيام ... 344
كونه أحد أركان الإسلام وفرضا من فروض الله ... 344
يجب صوم رمضان برؤية هلاله ... 347
لا يجب صومه قبل رؤية هلاله بل يكره أو يحرم ... 350
لا أصل لوجوب صوم يوم الثلاثين في كلام أحمد ... 352
قوله: فإن غم عليكم فأكملوا العدة، فاصل في المسألة ... 355
تعيين النية لشهر رمضان فيه ثلاثة أقوال ... 355
تصحيح اعتبار اختلاف المطالع ... 357(6/30)
إذا رآه جماعة ببلد فوصلوا آخر الليل إلى بلد آخر بعيدة لم ير الهلال به لم يلزمهم الصوم ... 358
تقبل شهادة الواحد في الصيام ... 359
من رأى وحده هلال رمضان أو شوال والتفصيل في ذلك ... 363
الأصل أن الله علق الحكم بالهلال والشهر ... 365
إن اشتبهت الأشهر على نحو مأسور تحرى وصام ... 366
شروط من يلزمه الصوم ... 367
إذا قامت البينة أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء ... 368
من أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكينا ... 371
الصوم في السفر بلا مشقة أفضل عند الجمهور ... 373
يفطر المسافر إذا فارق بيوت قريته ... 376
ما يجب على الحامل والمرضع إذا أفطرتا ... 376
أسباب الفطر أربعة ... 379
الصوم الشرعي: الإمساك مع النية ... 381
يجب تعيين النية من الليل للصوم الواجب ... 382
يصح صوم النفل بنية من النهار إذا لم يفعل قبلها ما يفطره ... 385
باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة ... 389
التحقيق في الكحل والحقنة والمداواة ... 392
حكم من استقاء أو استمنى فأمنى أو أمذى ... 395
القول بأن الحجامة تفطر وفق الأصول والقياس ... 398
إخراج الدم بفصد أو رعاف ونحو ذلك يفطر كالحجامة ... 399
من نسى فأكل أو شرب أو فكر فأنزل أو احتلم لم يفسد صومه ... 401
حكم من أكل أو شرب أو جامع وهو شاك في طلوع الفجر أو غروب الشمس ... 405
فصل فيما يتعلق بالجماع في نهار رمضان ... 409
كل أمر غلب الصائم عليه فلا قضاء ولا كفارة ... 411
إن جامع دون الفرج أو كانت المرأة معذورة فالقضاء ولا كفارة ... 413
إذا كرر الوطء في يوم قبل أن يكفر فكفارة واحدة ... 415
يجب النزع من الجماع بطلوع الفجر ولا شيء عليه ... 418
ذكر كفارة الوطء في نهار رمضان ... 419
باب ما يكره ويستحب في الصوم وحكم القضاء ... 421
قولهم: بطل صومه، بمعنى وجب القضاء لا بمعنى أنه لا يثاب على شيء ... 421
حكم بلع الريق والنخامة ... 421
حكم ذوق الطعام ومضغ العلك القوي ... 423(6/31)
حكم قبلة من تباح قبلته إذا كانت بشهوة ... 425
تأكد اجتناب كذب وغيبة وشتم في كل زمان ومكان فاضل ... 427
يسن كثرة قراءة وذكر وكف لسان وتأخير سحور وتعجيل فطر ... 429
يسن أن يفطر على رطبان ويقول ما ورد ... 434
يستحب القضاء فورا متتابعا ويجوز تأخيره بشرط العزم عليه ... 436
إن أخر القضاء لعذر فلا شيء عليه وإن مات ... 438
لا يقضي عنه ما وجب بأصل الشرع من صلاة وصوم ... 440
إن مات من نذر صوما أو حجا أو اعتكافا لوليه فضاؤه ... 441
باب صوم التطوع، وما نهي عن صومه وذكر ليلة القدر ... 445
يسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والاثنين والخميس، والحكمة في ذلك ... 446
صيام ست من شوال مع رمضان كصيام الدهر ... 448
أفضل شهر تطوع بصيامه بعد رمضان شهر الله المحرم ... 449
حديث «من وسع عليه عياله يوم عاشوراء» موضوع ... 451
يسن صوم تسع ذي الحجة وآكدها التاسع لغير حاج ... 452
إذا كفرت الصلاة ذنوب العبد فماذا تكفر الجمعات ورمضان.... إلخ ... 454
أفضل صوم التطوع صوم يوم وفطر يوم إذا لم يضعف البدن ... 455
كل حديث يروى في فضل صوم رجب أو الصلاة فيه فكذب ... 457
ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة وحديث «لا تصوموا يوم السبت» شاذ أو منسوخ ... 458
كره صوم يوم النيروز والمهرجان وكل عيد للكفار ... 460
يكره الوصال وقيل يحرم ويحرم صوم العيدين ... 462
حكم صيام أيام التشريق ... 463
من دخل في فرض موسع حرم قطعه، ويكره لنفل إلا الحج والعمرة فيجب إتمامهما ... 464
ترجى ليلة القدر في العشر الأخير وهي أفضل الليالي ... 467
باب الاعتكاف سنيته وحكمته وأقل مدته ... 472
مسنون كل وقت وفي رمضان في العشر الأخير آكد ويصح بلا صوم ... 474
لا يصح إلا بنية وفي مسجد يجمع فيه، إلا المرأة والمعذور ففي كل مسجد ... 478
من نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة لم يلزمه فيه ... 482
من نذر زمنا معينا دخل قبل ليلته الأولى ... 385(6/32)
لا يخرج المعتكف إلا لما لابد له منه ... 487
لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه ... 490
إن وطئ فسد اعتاكفه ... 492
يستحب اشتغاله بالقرب واجتناب ما لا يعنيه ... 494
يكره الصمت إلى الليل ... 496
كتاب المناسك ... 498
أهمية الحج وفضله والحكمة في وجوبه ومتى فرض ... 498
تعريف الحج والعمرة لغة وشرعا وحكمهما ... 500
شروط الوجوب والإجزاء والصحة ... 504
من كملت له الشروط وجب عليه السعي على الفور ... 505
يحرم الولي عن الصغير دون المميز، ولا تجزئهما عن حجة الإسلام، ويفعل الولي ما يعجزها ... 509
نية الحج تشمل أفعاله إلا البدل ... 511
حج العبد والزوجة بإذن أو عدمه ... 511
تعريف القادر على الحج والعمرة وبيان المعتبر في ذلك ... 513
يلزم العاجز أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من حيث وجبا ... 518
متى تجوز الاستنابة في الحج وما يلزم النائب ... 522
اشتراط المحرم للمرأة في الحج ... 523
من يصلح أن يكون محرما للمرأة ... 525
يحج النائب من حيث وجبا ... 527
استحباب حجة عن أبويه وتخصيص نفسه أفضل ... 529
تتمة فيما يفعله من أراد الحج أو غيره قبل العزم وبعده ... 530
باب المواقيت ... 534
تعريفها وبيان أماكنها ومقدار ما بينها وبين مكة ... 534
من مر على المواقيت من غير أهلها، ومن منزله دونها، ومن لم يمر بميقات ... 537
عمرة المكي من أدنى الحل ... 539
حكم تجاوز الميقات بلا إحرام والتفصيل في ذلك ... 540
ما يلزمه إذا تجاوز الميقات ... 542
كره إحرام قبل ميقات وبحج قبل أشهره ... 443
ذكر وقت العمرة وتعيين أشهر الحج ... 544
باب الإحرام والتلبية وما يتعلق بهما ... 546
تعريفه لغة وشرعا ... 546
ذكر استحباب الغسل وعدمه وأخذ الشعر ونحوه والتطيب ... 547
التجرد من المخيط وحكمته وما يلبسه المحرم ... 550
الإحرام عقب نفل أو فريضة ... 552
ليس للإحرام صلاة تخصه ... 553
التلفظ بالنية والاكتفاء بالتلبية لقصد الإحرام ... 554(6/33)
له أن يشترط عند الإحرام إذا كان خائفا ... 555
ذكر أفضل الأنساك مع التحقيق في ذلك ... 556
لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه أحد يخرج من مكة ليعتمر إلا لعذر ... 558
وقت إشعار الهدي إذا بلغ الميقات، وإن أرسله فمن بلده ... 559
صفة التمتع والإفراد والقرآن ... 560
على الأفقي المتمتع دم نسك بشروط سبعة ... 562
ما تحرم به الحائض إن خشيت فوات الحج ... 565
من أحرم وأطلق أو علقه على ما أحرم به فلان ... 566
ابتداء التلبية عقب إحرامه ... 568
تفسير التلبية وألفاظها ... 569
مواضع تأكد التلبية ... 571
حكم رفع الصوت بالتلبية في حق الرجل والمرأة ... 572(6/34)
جمع
الفقير إلى الله تعالى
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي
الحنبلي رحمه الله
1312-1392هـ
المجلد الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
باب محظورات الإحرام(1)
أي المحرمات بسببه(2) و(هي) أي محظوراته (تسعة)(3) أحدها (حلق الشعر) من جميع بدنه بلا عذر(4).
__________
(1) الممنوع فعلهن في الإحرام شرعًا، وكفارات المحظورات، وما يتعلق بذلك، والمحظورات جمع محظور، صفة لمحذور، تقديره: الخصلات، أو الفعلات المحظورات والمحظور المحرم، والمحظور الممنوع.
(2) أي بسبب الإحرام، والممنوع فعلهن فيه، قال ابن نصر الله: وفي ثبوت الإثم عليها تردد عندي، إذ يحتمل أن معنى حظرها، وجوب الكفارة والفدية بها، لا تحريمها، وترتيب الإثم عليها، كاليمين تجب بفعل المحلوف عليه، ولا إثم إذ لم ينقل عن أحد أن من فعل محظورًا يأثم ولا أنهم أمروه بالاستغفار اهـ وهذا والله أعلم إذا كان فعل المحظور لحاجة، كحلق الشعر لمن آذته هو أم رأسه، فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم وأما مع عدم الحاجة فلا، لارتكابه المنهي عنه عمدًا.
(3) بالاستقراء.
(4) من مرض أو قمل، أو قروح، أو صداع، أو شدة حر، لكثرته، مما يتضرر بإبقائه إجماعًا، ولو من أنفه، إذ حلق الشعر يؤذن بالرفاهية، وهي تنافي الإحرام، لكون المحرم أشعث أغبر، والقص في معنى الحلق فثبت حظره بدلالة النص.(7/1)
يعني إزالته بحلق، أو نتف، أو قلع(1) لقوله تعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلهُ } (2).
(و) الثاني (تقليم الأظفار)(3) أو قصها، من يد أو رجل بلا عذر(4) فإن خرج بعينه شعر، أو انكسر ظفره فأزالهما، أو زالا مع غيرهما فلا فدية(5).
__________
(1) قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه، فقيس النتف والقلع، على الحلق المنصوص لأنهما في معناه، وإنما عبر به في النص، لأنه الغالب ولأن فيه إزالة الشعث وقضاء التفث.
(2) أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه، ويفرغ الناسك من أفعال المناسك ونص تعالى على حلق الرأس، وعدي إلى سائر شعر البدن وفاقا، لأنه في معناه، ولحصول الترفه به، بل أولى، لأن الحاجة لا تدعو إليه، وشعر الرأس والبدن واحد، كسائر البدن، وكلبسه قميصًا، وسراويل، وعنه: لكل منهما حكم يخصه وفاقا، لأنهما كجنسين.
(3) لأنه يحصل به الرفاهية، فأشبه إزالة الشعر، وذكره ابن المنذر إجماعًا، وقال الموفق: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره، قال في المطالع: القلم يستعمل في الأخذ من الجوانب.
(4) فيباح عند العذر كالحلق، فتقليم الأظفار أو تقصيصها أو قلعها محظور بغير خلاف، لكونه مؤذنًا بالرفاهية، وهي منافية لحال المحرم.
(5) أي أزالهما هو أو زالا، يعني الشعر والظفر، ومع غيرهما كأن قطع جلدًا عليه شعر، أو أنملة بظفرها، فلا فدية في ذلك إجماعًا، أما في إزالتهما فقط
فلأذاهما، كالصيد الصائل عليه، وأما زوالهما مع غيرها، فلكونهما بالتبعية
والتابع لا يفرد بحكم، كما لو قطعت أشفار عيني إنسان، فإنها تضمن دون أهدابها، بخلاف ما إذا حلق شعره لقمل، أو صداع، أو شدة حر، فإنها تجب الفدية، كما يأتي لأن الأذى من غير الشعر.(7/2)
وإن حصل الأذى بقرح أو قمل ونحوه(1) فأزال شعره لذلك فدى(2) ومن حلق رأسه بإذنه(3) أو سكت ولم ينهه فدى(4)
__________
(1) كصداع أو شدة حر، لكثرة ما يتضرر بإبقاء الشعر.
(2) أي أزال شعره للقرح والقمل فدي، قولا واحدا، لقوله تعالى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ولحديث كعب بن عجرة قال: كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى الجهد يبلغ بك ما أرى تجد شاة؟ قلت: لا فنزلت { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال: هو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، نصف صاع، طعاما لكل مسكين، أو ذبح شاة متفق عليه، وكأكل صيد لضرورة، واستيعاب الحلق ليس بمعتبر في وجوب الفدية إجماعًا.
(3) فدى المحلوق، ولا شيء على الحالق، وهو مذهب مالك، والشافعي وحلق بالبناء للمفعول.
(4) أي المحلوق لأنه غير ذلك بإذنه أشبه ما لو باشره، ولأنه تعالى أوجب الفدية عليه، مع علمه أن غيره يحلقه، ولأنه فرَّط بالسكوت، وعدم نهيه، كما لو أتلف ماله وهو ساكت، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين للشافعي، ولا شيء على الحالق، وإن كان مكرها بيد غيره، ولو نائما، فعلى الحالق، نص عليه ومن طيب غيره فكحالق، وإن حلق محرم حلالا، أو قلم أظفاره فلا فدية عليه.(7/3)
ويباح للمحرم غسل شعره بسدر ونحوه(1) (فمن حلق) شعرة واحدة، أو بعضها فعليه طعام مسكين(2).
__________
(1) كخطمي وكأشنان، وصابون، ما لم يقطع شعرا، لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته دابته «اغسلوه بماء وسدر»، مع بقاء الإحرام، وله غسله في حمام وغيره بلا تسريح، وروي عن عمر، وعلي، وابن عمر، وجابر، وغيرهم، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه غسل رأسه وهو محرم، ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، واغتسل عمر، وقال: لا يزيد الماء الشعر إلا شعثا، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ورجح في الفروع أن الأولى تركه، لأنه مزيل للشعث والغبار، مع الجزم بالنهي عن النظر في المرآة لإزالة شعثه وغباره، مع أن الحجة «انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا»، ويحمل ما سبق على الحاجة أو أنه لا يكره، وقال الشيخ: له أن يغتسل من الجنابة بالاتفاق، وكذا لغير الجنابة، وقال النووي وغيره: أجمع العلماء على جوازه في الرأس وغيره، إذا كان له عذر، وأشار أبو أيوب بيديه، فأقبل بهما وأدبر ليريه كيف يغسل المحرم رأسه، لأنه المقصود بالسؤال، وخص ابن عباس الرأس بالسؤال، لأنه موضع الإشكال.
وقال ابن القيم: يجوز للمحرم أن يمشط رأسه، ولا دليل من كتاب ولا سنة، ولا إجماع على منعه من ذلك، ولا تحريمه وليس في ذلك ما يحرم على المحرم تسريح شعره، فإن أمن من تقطيع الشعر، لم يمنع من تسريح رأسه، وإلا ففيه نزاع، والدليل يفصل بين المتنازعين، فإنه لم يدل كتاب، ولا سنة، ولا إجماع على منعه فهو جائز.
(2) نص عليه، لأنه أقل ما وجب شرعا فدية، وعنه: قبضة طعام، لأنه لا تقدير فيه، فدل على أن المراد يتصدق بشيء، وهو ظاهر مذهب مالك، وأبي حنيفة، وثلث درهم عند الشافعي.(7/4)
وشعرتين أو بعض شعرتين، فطعام مسكينين(1) وثلاث شعرات، فعليه دم(2) (أو قلم) ظفرا فطعام مسكين(3) وظفرين فطعام مسكينين(4) و(ثلاثة فعليه دم) أي شاة(5) أو إطعام ستة مساكين(6)
__________
(1) وفي بعض النسخ فطعاما مسكينين بالتثنية وتقدم أن المثنى إذا أضيف أفرد.
(2) شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، وخصت بالثلاث لأنها جمع، وهذا مذهب الشافعي، واعتبرت الثلاث في مواضع، كمحل الوفاق، وقال في الفروع: وسواء كان عامدا، أو مخطئا أو ناسيا، وعنه: لا يجب إلا في أربع شعرات فصاعدا، نقله الجماعة، واختارها الخرقي، لأن الأربع كثير، وعند أبي حنيفة: في ربع الرأس، وعند مالك، فيما يماط به الأذى، ويحصل به الترفه، وإزالة التفث قال في الفائق: والمختار تعليق الحكم به، وأنكر ابن القيم أنه يستفاد وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربعا من قوله تعالى: { ولا تحلقوا رءوسكم } .
(3) كما في شعرة لأنه أقل ما وجب شرعا فدية.
(4) نص عليه وفي قص بعض الظفر ما في جميعه، كالشعرة لأنه غير مقدر بمساحة سواء طالا أو قصرا، بل هي كالموضحة مع كبرها وصغرها.
(5) ما يجزئ في أضحية.
(6) لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير، وكذا قال الشيخ: لكل مسكين نصف صاع من تمر، أو شعير، أو مد بر، وإن أطعمه خبزا جاز، ويكون رطلين بالعراقي، تقريبا من نصف رطل بالدمشقي، وينبغي أن يكون مأدوما، وإن أطعمه مما يأكل كالبقسماط، والرقاق، ونحو ذلك جاز، وهو
أفضل من أن يعطيه قحما أو شعيرا، وكذلك في سائر الكفارات، إذا أعطاه مما يقتات به مع أدمه، فهو أفضل من أن يعطيه حبا مجردا، إذا لم يكن عادتهم أن يطحنوا بأيديهم، ويخبزوا بأيديهم، والواجب في ذلك كله ما ذكره الله بقوله { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } فأمر بإطعام المساكين من أوسط ما يطعم الناس أهليهم، ورجح أنه يرجع إلى العرف فيه، فيطعم كل مما يطعمون أهليهم،وذكر قصة كعب بن عجرة لما كانوا يقتاتون التمر أمره أن يطعم منه.(7/5)
.
أو صيام ثلاثة أيام(1) وإن خلل شعره، وشك في سقوط شيء به استحبت(2).
__________
(1) سواء كان حرم في الإحرام لأجل الرفه، أو كفارة ثبت فيها التخيير، وحكم الرأس والبدن في إزالة الشعر، وفي الطيب، وفي اللبس واحد، لأنه جنس واحد، وعنه: لكل منهما حكم منفرد، نقلها الجماعة، ونصرها جماعة، وفاقا للأئمة الثلاثة، لأنهما كجنسين لتعلق النسك بالرأس وحده، فهو كحلق ولبس فإن حلق شعر رأسه وبدنه، أو تطيب، أو لبس فيهما ففدية واحدة.
(2) يعني الفدية له احتياطا، ولا تجب، وقال أحمد وغيره: لا شيء عليه، وإن تيقن أنه بان بالمشط أو التخليل فدى، وله حك بدنه ورأسه برفق ولا يقطع شعره، وقال الشيخ: إذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك لم يضره، وإن تيقن أنه قطع بالغسل، وقال فيمن احتاج إلى قطعه بحجامة، أو غسل لم يضر، وقال: وله أن يحك بدنه، ويحتجم في رأسه، وغير رأسه، وإن احتاج أن يحلق شعرا لذلك جاز، فإنه قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه وهو محرم، ولا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر، وله أن يفتصد إذا احتاج إلى ذلك، وفي المبدع: يخلل لحيته، ولا فدية بقطعه بلا تعد.(7/6)
الثالث تغطية رأس الذكر إجماعا(1) وأشار إليه بقوله (ومن غطى رأسه بملاصق فدى)(2) سواء كان معتادا كعمامة، وبرنس(3) أم لا كقرطاس، وطين، ونورة، وحناء(4) أو عصبه بسير(5).
__________
(1) حكاه الوزير وجمع، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم والبرانس وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته: لا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا متفق عليهما، ولنقل الخلف عن السلف، وقال ابن القيم وغيره، كل متصل ملامس يراد لستر الرأس، كالعمامة والقبع والطاقية والخوذة وغيرها، ممنوع بالاتفاق، وكان ابن عمر يقول: إحرام الرجل في رأسه، والأذنان منه للأخبار وتقدم، فما كان منه، حرم على ذكر تغطيته.
(2) عند جمهور أهل العلم، لارتكابه النهي.
(3) بالضم قلنسوة طويلة، أو كل ثوب رأسه منه، دراعة كان أو جبة أو ممطرا.
(4) يعني أو ملاصق غير معتاد، كقرطاس فيه دواء أو غيره، أولا دواء فيه فعليه الفدية بلا نزاع، والقرطاس بكسر القاف وضمها، وهو الذي يكتب فيه، وفي المطالع، تسمى الصحيفة قرطاسا، من أي نوع كان والطين معروف وسواء طلاه به، أو بحناء، أو غيره لعذر أو غيره، والحناء بالتشديد والمد هو هذا المعروف، ويقال له الرقون، والرقان، والرنا، فعليه فدية وفاقا.
(5) من جلود، أو غيرها، لصداع، أو رمد، أو نحوهما، أولا، لأنه فعل
محرما في الإحرام، يقصد به الترفه، أشبه حلق الرأس، ويفدي وفاقا،
ويجوز تلبيد رأسه بعسل، وصمغ، ونحوهما، لئلا يدخله غبار أو دبيب
أو يصيبه شعث، ولا شيء عليه، لما في الصحيحين عن ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يهل ملبدا، واتفقوا على أنه يجوز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب، ولا فدية في ذلك.(7/7)
أو استظل في محمل، راكبا أو لا(1) ولو لم يلاصقه(2) ويحرم ذلك بلا عذر(3).
__________
(1) وكذا هودك، وعمارية، ومحارة وفاقا للشافعي، وأبي حنيفة، وكذا لو استظل بثوب ونحوه، راكبا أو نازلا حرم وفدى، والمحمل بكسر الميم قاله ابن مالك وغيره، وهو مركب يركب عليه على البعير، وقال الجوهري: كمجلس شقتان على البعير، يحمل فيهما العديلان، ويقال: لمحمل الهودج: وفي معنى المحمل الشقدف المعروف بالحجاز، والهودج مركب للنساء، معروف عند العرب، والمحفة كالهودج، إلا أنها ليس لها قبة كقبة الهودج والعمارية نحوها، ويقال: رقعة مزينة تخاط في المظلة والمحارة يؤتى بها من جهة الشام، تقطر بين بعيرين، يركب فيها واحد أو اثنان.
(2) أي ما تقدم من التغطية، ويفدي وهو مذهب مالك، لأنه قصد ما يقصد به الترفه، أو لأنه ستره بما يستدام ويلازمه غالبا، أشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه، ولما روي عن ابن عمر من طرق: النهي عنه، واحتج به أحمد.
(3) ورأى ابن عمر رجلا ظلل عليه، فقال: أيها المحرم أضح لمن أحرمت له، ولهذا كان السلف يكرهون القباب على المحامل التي لها رأس، وقال الشيخ: وأما الاستظلال بالمحمل كالمحارة التي لها رأس، في حال السير، فهذا فيه نزاع، والأفضل للمحرم أن يضحي لمن أحرم له، كما كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحرمون، وذكر أثر ابن عمر لما رأى على رجل عودا يستره من الشمس، فنهاه واحتج به، وعنه: يكره الاستظلال بالمحمل، ولا يحرم، اختاره الموفق
والشارح وصححه المجد، وعنه: يجوز وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، ولأن أسامة رفع ثوبه يستر به النبي صلى الله عليه وسلم من الحر، حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم.(7/8)
لا إن حمل عليه(1) أو استظل بخيمة أو شجرة أو بيت(2) الرابع لبس المخيط(3)
__________
(1) أي على رأسه شيئا، كطبق ونحوه، لا لقصد التغطية، وكذا لو وضع يده عليه، لأنه لا يستدام، وما فيه فدية فلا أثر للقصد فيه ولا عدمه.
(2) أو جدار، أو نصب حياله ثوبا، لحر أو برد، أمسكه إنسان، أو رفعه على عود لخبر جابر، فأتى عرفة، فوجد الخيمة قد ضربت له، فنزل بها واستمر عمل الناس عليه، ولخبر أسامة المتقدم، ولو قصد به الستر فلا شيء عليه، قال الشيخ وابن القيم وغيرهما باتفاق أهل العلم، ولأنه لا يقصد به الترفه في البدن عادة، وحكي عن مالك المنع من وضع ثوبه على الشجرة يستظل به، وخالفه الجمهور، وكذا لو غطى الرجل وجهه، وهو مذهب الشافعي، فقد
روي عن عثمان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن الزبير، وغيرهم واتفق البخاري ومسلم وغيرهما على رواية «لا تخمروا رأسه»، واختلف في تخمير الوجه، وقالوا: رواية النهي عنه غير محفوظة،وعدم تخميره أولى خروجا من الخلاف.
(3) في بدنه ، أو بعضه، بما عمل على قدره، إجماعا، قل، أو كثر، من قميص، وعمامة، وسراويل، وبرنس، ونحوها، ولو درعا منسوجا، أو لبدا معقودا، ونحوه مما يعمل على شيء من البدن.
وفي الإنصاف: ما عمل على قدر العضو إجماعا، وكالخفين، والقفازين
ولو غير معتاد، كجورب في كف، وخف في رأس، وكران، لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل : ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس القميص ولا
العمامة ولا البرنس، ولا السروايل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين، الحديث قال الترمذي وغيره، والعمل عليه عند أهل العلم.
فيلحق بالقميص الجبة والدراعة ونحوها، وبالعمامة كل ملاصق، أو ساتر معتاد، وبالسراويل التبان، وما في معناها، سواء كان مخيطا، أو درعا منسوجا، أو لبدا معقودا، ولا فرق بين قليل اللبس وكثيره، لظاهر الآية والخبر، ولأنه استمتاع، فاعتبر فيه مجرد الفعل، كالوطء في الفرج، وهو مذهب الشافعي.
وقال شيخ الإسلام وغيره: النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن يلبس القميص، والبرنس، والسراويل، والخف، والعمامة، ونهاهم أن يغطوا رأس المحرم بعد الموت، وأمر من أحرم في جبة أن ينزعها عنه، فما كان من هذا الجنس فهو ذريعة، في معنى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فما كان في معنى القميص فهو مثله، وليس له أن يلبس القميص، بكم ولا بغيركم وسواء أدخل يديه أو لم يدخلهما، وسواء كان سليما أو مخروقا، وكذلك لا يلبس الجبة، ولا القباء الذي يدخل يديه فيه، وكذلك الدرع الذي يسمى عرق جبن يعني الفنيلة، وأمثال ذلك باتفاق الأئمة.
وأما إذا طرح القباء على كتفيه، من غير إدخال يديه، ففيه نزاع، وهذا معنى قول الفقهاء: لا يلبس المخيط، والمخيط ما كان من اللباس على قدر العضو، ولا يلبس ما كان في معنى السراويل، وكالتبان ونحوه.(7/9)
.
وإليه الإشارة بقوله: (وإن لبس ذكر مخيطا فدى)(1).
ولا يعقد عليه رداء ولا غيره(2) إلا إزاره(3) ومنطقة وهميانا فيهما نفقة، مع حاجة لعقد(4).
__________
(1) عالم بالتحريم، ذاكر لإحرامه، مستديم لبسه فوق المعتاد في خلعه،
وأجمعوا على اختصاص النهي بالرجل دون المرأة، واتفقوا على جواز ستر بدنه بغير المخيط.
(2) كمنطقة وهميان، لقول ابن عمر: ولا يعقد عليه شيئا، رواه النسائي، ويباح الهميان، قال ابن عبد البر: أجازه فقهاء الأمصار، متقدموهم ومتأخروهم وليس له أن يجعل لذلك زرًّا وعروة، ولا يخله بشوك، أو إبرة، أو خيط، ولا يغرز أطرافه في إزاره، وقال الشيخ: والرداء لا يحتاج إلى عقده، فلا يعقده، فإن احتاج إلى عقده ففيه نزاع، والأشبه جوازه حينئذ وهل المنع من عقده منع كراهة، أو تحريم؟ فيه نزاع، وليس على تحريم ذلك دليل، إلا ما نقل عن ابن عمر، واختلف متبعوه فيه.
(3) أي فله عقده لحاجة ستر عورته فأبيح، كاللباس للمرأة، قال في الإنصاف، إذا لم يثبت إلا بالعقد فله بلا نزاع.
(4) أي وإلا منطقة وهميانا جعل فيهما نفقة، فله عقدهما إذا لم تثبت المنطقة والهميان إلا بالعقد، لقول عائشة: أوثق عليك نفقتك، وروي عن ابن عباس وابن عمر معناه، ورفعه بعضهم، ولأن الحاجة تدعو إلى عقدهما، فجاز كعقد الإزار فإن ثبت بغير عقد أو بأن أدخل السيور بعضها في بعض لم يعقده لعدم الحاجة ، وجوز الشيخ عقده مطلقا، لأنه ليس بلبس مخيط، ولا في معناه، وكذا السيف والسلاح، فلا يكره والمنطقة بكسر الميم، وفتح الطاء، كل ما شددت به وسطك والهميان بكسر الهاء، معرب يشبه تكة السراويل، وتوضع فيه الدراهم والدنانير ويشد على الحقو ويجوز شد وسطه بمنديل وحبل ونحوهما، إذا لم يعقده، قال أحمد في محرم حزم عمامته على وسطه: لا يعقدها ويدخل بعضها في بعض وقاله الشيخ وغيره: قال طاوس فعله ابن عمر، وقيل: لا بأس احتياطا للنفقة، ويتقلد بسيف لحاجة وفاقا، لقصة الحديبية.(7/10)
وإن لم يجد نعلين لبس خفين(1) أو لم يجد إزارًا لبس سراويل، إلى أن يجد ولا فدية(2)
__________
(1) ونحوهما من ران وسرموزة، وزربول، إلى أن يجد ولا فدية، سواء احتاج إلى لبس أولا، بأن يمكنه المشي حافيًا، أو لا يحتاج إلى شيء، لأن الرخصة في ذلك لمظنة المشقة، فلا تعتبر حقيقتها كالمشقة في السفر، وفي المنتهى، ويحرم قطعهما ونص عليه أحمد، وقال: هو إفساد، واحتج الموفق وغيره، بالنهي عن إضاعة المال، وهذا هو المختار، عملاً بإطلاق حديثي ابن عباس وجابر، فإنه لم يأمر فيهما بقطع، بل ثبت عن ابن عباس أنه قال: لم يقل: ليقطعهما ولو كان القطع واجبا لبينه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الجمع العظيم.
قال الشيخ: فإن لم يجد نعلين لبس خفين، وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقطع أولا، ثم رخص في ذلك في عرفات، في لبس الخفين، لمن لم يجد نعلين، وإنما رخص في المقطوع أولا، لأنه يصير بالقطع كالنعلين، وهذا أحسن من ادعاء النسخ، قال: ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يلبس ما دون الكعبين، مثل الخف المكعب، والجمجم، والمداس ونحو ذلك، سواء كان واجدًا للنعلين أو فاقدا لهما، وإذا لم يجد نعلين، ولا ما يقوم مقامهما مثل الجمجم والمداس ونحو ذلك، فله أن يلبس الخف ولا يقطعه هذا أصح قولي العلماء.
(2) فإذا وجد إزارا نزع السراويل ولبسه، لخبر ابن عباس: سمعته يخطب بعرفات يقول: «السراويل لمن لم يجد الإزار» متفق عليه، قال الشيخ: وإن لم يجد إزارا فإنه يلبس السراويل ولا يفتقه، هذا أصح قولي العلماء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في عرفات في لبس السراويل لمن لم يجد إزارا، كما رواه ابن
عباس، وكذا يجوز أن يلبس كل ما كان من جنس الإزار والرداء، فله أن يلتحف بالقباء والجبة، والقميص، ونحو ذلك ويتغطى به باتفاق الأئمة عرضا ويلبسه
مقلوبا، يجعل أسفله أعلاه، ويتغطى باللحاف وغيره، ولكن لا يغطي رأسه إلا لحاجة اهـ.
وإن اتزر بقميص فلا بأس، ولا يجوز لبسه ولو عدم الإزار اتفاقا، لأنه يمكن أن يتزر به وسروايل أعجمي مفرد معرب ممنوع من الصرف وجها واحدا لشبهه بمفاعيل.(7/11)
.
(الخامس الطيب(1) وقد ذكره بقوله: (وإن طيب) محرم (بدنه أو ثوبه) أو شيئا منهما(2) أو استعمله في أكل أو شرب(3).
__________
(1) يعني من محظورات الإحرام، فيحرم على المحرم إجماعا، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر يعلى بن أمية بغسل الطيب، وقال في المحرم الذي وقصته راحلته «ولا تحنطوه» متفق عليهما ولمسلم «ولا تمسوه بطيب»، ولأبي داود والترمذي وغيرهما قال رجل: من الحاج يا رسول الله؟ قال «الشعث التفل»، والحكمة أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها، ويجمع همه لمقاصد الآخرة، ولكونه من أسباب دواعي الوطء فتحريمه من باب سد الذرائع.
(2) فدى لأنه يعد متطيبا بواحد منهما، ولو من غيره بإذنه، أو سكت ولم ينهه، ويحرم عليه لبس ما صبغ بزعفران، أو ورس لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «ولا ثوبا مسه ورس أو زعفران»، ولبس ما غمس في ماء ورد، أو بخر بعود ونحوه، والجلوس والنوم عليه، فإن فرش فوق الطيب ثوبا صفيقا، يمنع الرائحة والمباشرة غير ثياب بدنه فلا، وإذا تطيب ناسيا أو عامدا لزمه إزالته مهما أمكن، من الماء وغيره من المائعات، وإلا فمن الجامدات كحكه بخرقة وتراب، وله غسله بنفسه، ولا شيء عليه، لملاقاة الطيب ببدنه والأفضل والاستعانة على غسله بحلال.
(3) يظهر فيه طعمه أو ريحه فدى، لأن الطعم مستلزم الرائحة والرائحة هي المقصود منه، ولو مطبوخا أو مسته النار، قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه
لأنه استعمال للطيب، أشبه شمه، حتى ولو ذهبت رائحته، وبقي طعمه، لبقاء المقصود منه، فمن فعل شيئا من ذلك فدى، لفعل ما حرم بالإحرام، فإن بقي اللون فقط فلا بأس بأكله، ومذهب أبي حنيفة ومالك: لا فدية.(7/12)
(أو ادهن) أو اكتحل، أو استعط (بمطيب(1) أو شم) قصدا (طيبا(2) أو تبخر بعود ونحوه)(3).
__________
(1) أثم وفدى، لأنه استعمال للطيب، أشبه شمه.
(2) كمسك وكافور، وعنبر، وغالية، وماء ورد، وزعفران ونحوها مما يأتي ونحوه، أو شم الأدهان المطيبة كدهن ورد، وبنفسج وخيري ونحوها، اختاره القاضي والموفق وغيرهما، وصححه غير واحد، لأنها تقصد رائحتها وتتخذ للطيب أشبهت ماء الورد، وقال ابن القيم: تحريم شمه بالقياس، ولفظ النهي لا يتناوله بصريحه، ولا إجماع معلوم فيه، يجب المصير إليه، ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل، فيمنع منه للترفه واللذة اهـ.
وفي رواية: يباح شم الريحان، والنرجس، والبنفسج، والورد، والبرم ونحوها، قال في المبدع: اختاره أكثر الأصحاب، وهو قول عثمان، وابن عباس لأنه إذا يبس ذهبت رائحته اهـ ويحرم الادهان بها «وقصدًا» وقع حالا، أي حال كونه قاصدًا الشم، ومفهومه أن الشم إذا لم يكن قصدًا لم يكن عليه إثم ولا فدية كما صرح به غير واحد.
وقال ابن القيم وغيره: فأما من غير قصد، أو قصد الاستعلام عند شرائه، لم يمنع منه، ولم يجب عليه سد أنفه، ولمشتريه حمله، وتقليبه إذا لم يمسه، ولو ظهر ريحه، لأنه لم يقصد الطيب، وإن علق الطيب بيده كالسحوق والغالية وماء الورد فدى.
(3) كعنبر وند فدى لأنها هكذا تستعمل على وجه التطيب.(7/13)
أو شمه قصدًا(1) ولو بخور الكعبة، أثم و(فدى)(2) ومن الطيب مسك، وكافور، وعنبر(3) وزعفران، وورس(4) وورد، وبنفسج(5).
__________
(1) أي شم البخور بعود ونحوه قاصدًا الشم فدى، لأنه قصد للطيب المنهي عنه، قال الشيخ، ومما ينهى عنه المحرم أن يتطيب بعد الإحرام في بدنه، أو ثيابه، أو يتعمد لشم الطيب.
(2) لأنه شمه قاصدًا، أشبه ما لو باشره، وإن جلس عند عطار، أو في موضع كقصد الكعبة، حال تجميرها ليشم الطيب فشمه، أوحمل عقدة فيها مسك ليجد ريحها فشمها فدى.
(3) المسك بكسر الميم، فارسي معرب، وهو طيب من دم دابة كالظبي، يدعى، غزال المسك، وتقدم، وكانت العرب تسميه المشموم والكافور نبت طيب، نوره أبيض، كنور الأقحويان، وطيب معروف يؤخذ منه، أو أخلاط من الطيب، ويقال: من شجر بجبال الهند والصين، وتقدم، والعنبر طيب معروف، قيل: روث دابة بحرية، والمشموم رجيعها، أو نبع عين في البحر يكون جماجم، أو شمع عسل ببلاد الهند، يجمد وينزل البحر، وقيل غير ذلك، وأجوده الأبيض.
(4) نبات أصفر كالسمسم باليمن، يزرع فيبقى عشرين سنة، يتخذ منه، الحمرة للوجه، نافع للكلف طلاء، وللبهق شربا، والزعفران من الطيب، وهو هذا الصبغ المعروف وتقدم.
(5) الورد من كل شجرة نورها، وقد غلب على نوع الحوجم، وهو الأحمر المعروف الذي يشم، واحدته وردة ويقال إنه معرب والبنفسج بفتح الموحدة والنون، وسكون الفاء، وفتح السين، قيل معرب، وهو نبات زهره أزرق، طيب الرائحة، ينفع من السعال.(7/14)
والينوفر(1) وياسمين(2) وبان(3) وماء ورد(4) وإن شمها بلا قصد(5) أو مس ما لا يعلق كقطع كافور(6) أو شم فواكه(7) أو عودا(8) أو شيحا(9).
__________
(1) بلام التعريف، وفتح المثناة والنون، وسكون الواو، وفتح الفاء، ضرب من الرياحين، طيب الرائحة ينبت في المياه الراكدة.
(2) ويقال: ياسمون نبات زهره طيب الرائحة، نوعان، أبيض، وأصفر يقال: شممت الياسمين.
(3) شجر معروف، ينمو ويطول في استواء، مثل نبات الأثل، وورقه له هدب كهدب الأثل، وثمرته تشبه قرون اللوبيا، واحدته بانة،ولحب ثمره دهن طيب معروف.
(4) عصارته معروف، وهو نوع من الطيب، قال الحافظ: وكل ما يتخذ منه الطيب يحرم بلا خلاف.
(5) فلا فدية، وتقدم أنه لا يجب عليه سد أنفه، وأن له حمله، ولو ظهر ريحه، لأنه لم يقصد الطيب.
(6) ومسك غير مسحوق، وعنبر، ونحوه، فلا فدية عليه بذلك بلا نزاع، لأنه غير مستعمل للطيب.
(7) من الأترج، والتفاح، والسفرجل، ونحوها، فلا فدية وفاقا.
(8) من غير تبخير وفاقا، لأنه لا يتطيب به إلا بالتبخير.
(9) أو خزامي، أوقيصوما أو إذخر ونحوه مما لا يتخذ طيبا وفاقا، وكذا ما ينبته الآدمي لغير قصد الطيب، كحناء، وعصفر، وقرنفل ، ودار صيني ونحوه، والشيح بكسر الشين، نبت سهلي من الأمرار، له رائحة طيبة، منبته القيعان والرياض، ترعاه الخيل والنعم.(7/15)
أو ريحانا فارسيا(1) أو نماما(2) أو ادهن بدهن غير مطيب فلا فدية(3) السادس: قتل صيد البر واصطياده(4).
__________
(1) وهو الحبق: نبت طيب الرائحة، معروف بالحجاز، والشام، والعراق، والريحان عند العرب هو الآس ولا فدية في شمه، وكذا ماء ريحان، وفواكه وعصفر، وقرنفل ونحوها.
(2) بفتح النون، وتخفيف الميم، نبت طيب الرائحة مدر، يخرج الجنين الميت والدود، ويقتل القمل، وكذا نرجس وبرم ومرنجوش، وهو السمق، وقاله عثمان، وذكر البخاري قول ابن عباس، وذكر القاضي أنه يحتمل أن المذهب رواية واحدة لا فدية.
(3) لأنه صلى الله عليه وسلم فعله، رواه أحمد، والترمذي وكذا لو ادهن بدهن زيت، وشيرج، وسمسم، ودهن بان، وساذج، ونحوها، قال الشارح: فأما الدهن الذي لا طيب فيه، فنقل ابن المنذر الإجماع على أن له أن يدهن بدنه بالشحم، والزيت، والسمن وعنه: لا يدهن رأسه، لأنه يزيل الشعث وأجمعوا على إباحته في اليدين، وقال شيخ الإسلام: وأما الدهن في رأسه وبدنه، بالزيت والسمن ونحوه، إذا لم يكن فيه طيب، ففيه نزاع مشهور، وتركه أولى، ولم يحرم الله إزالة الشعث بالاغتسال، وليس السدر من الطيب في شيء، وقد أمر به في غسل المحرم.
(4) أي السادس من محظورات الإحرام قتل صيد البر المأكول، وذبحه، عمدا
أو خطأ وعليه جزاؤه إجماعا لقوله تعالى: { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }
أي يحرم عليكم الاصطياد من صيد البر، ما دمتم محرمين، ويحرم أذاه
ولو لم يقتله أو يجرحه، قال الشيخ: ولا يصطاد صيدا بريا ولا يعين
على صيد ولا يذبح صيدا، ولا يصطاد بالحرم صيدا، وإن كان من الماء كالسمك على الصحيح، بل ولا ينفر صيده مثل أن يقيمه ليقعد مكانه، وفي الإنصاف: لو نفر صيدا فتلف أو نقص في حال نفوره ضمنه، بلا خلاف فيهما اهـ، فأما صيد البحر كالسمك ونحوه فله أن يصطاده ويأكله، والصيد هو الحيوان الممتنع المتوحش بأصل الخلقة.(7/16)
وقد أشار إليه بقوله (وإن قتل صيدًا مأكولاً بريًّا أصلاً)(1) كحمام وبط، ولو استأنس(2) بخلاف إبل، وبقر أهلية، ولو توحشت(3) (ولو تولد منه) أي من الصيد المذكور(4) (ومن غيره) كالمتولد بين المأكول وغيره(5).
__________
(1) فعليه جزاؤه إجماعا لقوله تعالى: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } ويعتبر كونه أصلا لا وصفا فلو تأهل وحشي ضمنه لا إن توحش أهلي، وأما ما ليس بمأكول، كسباع البهائم، والمستخبث من الحشرات والطير، فيباح قتله، لحديث خمس فواسق يقتلن، إلخ، ويقاس عليها ما شابهها.
(2) أي الحمام والبط وهو الأوز، اعتبار بأصله، فيجب فيه الجزاء إجماعا.
(3) أي الإبل والبقر، اعتبارا بأصلهما، والأصل فيهما الإنسية قال أحمد في بقرة صارت وحشية: لا شيء فيها، لأن الأصل فيها الإنسية.
(4) تغليبا للتحريم، كما غلبوا تحريم أكله، ويفديه إذا قتله، لتحريم قتله، قال الموفق: هو قول أكثر العلماء.
(5) فيحرم أكله واصطياده.(7/17)
أو بين الوحشي وغيره، تغليبًا للحظر(1) (أو تلف) الصيد المذكور (في يده) بمباشرة(2) أو سبب كإشارة ودلالة، وإعانة ولو بمناولة آلة(3) .
__________
(1) وهو الجانب الذي من جهة صيد البر، والوحشي من دواب البر ما لا يستأنس غالبا، والجمع الوحوش، وقال الجوهري: الوحوش حيوان البر.
(2) فعليه جزاؤه لأنه تحت يد عادية، أشبه ما لو أتلفه، إذ الواجب إما إرساله أو رده على مالكه.
(3) أو إعارة ليقتله أو ليذبحه، سواء كان مع الصائد ما يقتله أو يذبحه أو لا، لأنه وسيلة إلى الحرام فكان حراما، كسائر الوسائل وفاقا، لحديث أبي قتادة لما صاد الحمار الوحشي، فأبصرته ثم ركبت ونسيت الرمح، قال: فقلت لهم: ناولوني فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيء، إنا محرمون قال: فتناولته فأتيت الحمار فعقرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشار إليه إنسان منكم أو أمره بشيء؟ قالوا: لا فعلق الحكم بالإشارة أو الأمر، وكان أمرا معلوما متقررا عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قالوا: «لا والله، لا نعينك عليه بشيء، إنا محرمون»، فيضمن المحرم الصيد بالدلالة والإشارة والإعانة ونحو ذلك.
قال القاضي: «لا خلاف أن الإعانة توجب الجزاء فكذا الإشارة والدلالة» خلافا لمالك، والشافعي، ولأن المحرم قد التزم بالإحرام أن لا يتعرض للصيد بما يزيل أمنه، والأمر به، والدلالة عليه، والإشارة إليه يزيل الأمن عنه فيحرم ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالإثاية، إذا ظبي حاقف، في ظل فيه سهم، فأمر رجلا أن يقف عنده، لا يريبه أحد من الناس، حتى يجاوزوه وأما الآلة فمقصودة هنا، بخلاف ما يأتي من: أن من دفع لشخص آلة، فقتل بها شخصا انفرد
القاتل بالضمان، والفرق أن الآدمي لما كان من شأنه الدفع عن نفسه، ولا يقدر عليه إلا بمزيد قوة، تقدمت المباشرة فلم يلحق بها السبب بخلاف الصيد، فإن من شأنه أن لا يدفع عن نفسه، فضعفت المباشرة، فألحق بها السبب.(7/18)
أو بجناية دابة هو متصرف فيها (فعليه جزاؤه)(1) وإن دل ونحوه محرم محرما فالجزاء بينهما(2) ويحرم على المحرم أكله مما صاده، أو كان له أثر في صيده(3).
__________
(1) سواء كان بيدها، أو فمها، لا برجلها أو ذنبها، وسواء كان راكبا، أو سائقا، أو قائدا، فلا ضمان عليه، وإن أمسك صيدا حتى حل ضمنه بتلفه، لتحريم إمساكه، وكذا بذبحه، وكذا إن أمسك صيد حرم، وخرج به إلى الحل.
(2) بأن أشار ، أو أعان، وإن دل ونحوه حلال محرما على صيد، فقتله المحرم وحده، فلا ضمان على الحلال، لأنه ليس محلا للضمان، ويضمنه المحرم كله، تغليبا للإيجاب، كشركة نحو سبع، إلا أن يكون في الحرم، فيشتركان في الجزاء، كالمحرمين، وهو أحد قولي الشافعي، وعنهما: على كل واحد جزاء كامل، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وإن جرحه محرم، ثم قتله حلال، ضمن المحرم أرش جرحه فقط، وإن جرحه محرم، ثم قتله محرم، فعلى الأول أرش جرحه، وعلى الثاني تتمته.
(3) أي يحرم على المحرم ما صاده هو وغيره من المحرمين إجماعا، لأنه كالميتة إلا أنه حكي فيه قول للشافعي أنه يباح، وكذا لو كان له أثر في صيده كما لو أعان الصائد بإعارة آلة، أو مناولة وفاقا، كما تقدم، وإن ذبح المحرم صيدا، أو قتله فميتة وفاقا، ومثله صيد حرم ذبحه محل، وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في أحد قوليه، وأحمد: له أن يأكل من الميتة ما يدفع به ضرورته ولا يأكل الصيد، ومن اضطر إليه أبيح له، بغير خلاف لقوله: { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } .(7/19)
أو ذبح أو صيد لأجله(1) وما حرم عليه لنحو دلالة، أو صيد له، لا يحرم على محرم غيره(2).
__________
(1) بالبناء للمفعول نقله الجماعة، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، لما في الصحيحين من حديث الصعب بن جثامة، أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده إليك إلا أنا حرم، ولمسلم نحوه من حديث ابن عباس، ولأحمد: «لحم الصيد للمحرم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم»، وهو في السنن وحسنه الترمذي، وقال الشافعي: هذا أحسن حديث في هذا الباب، وأقيس، والعمل على هذا، وقال عثمان لأصحابه: كلوا فقالوا: ألا تأكل؟ قال: إني لست كهيئتكم إنما صيد لأجلي، رواه مالك والشافعي، وعليه الجزاء إن أكل كقتله، وإن أكل بعضه ضمنه بمثله، وإن قتله المحرم ثم أكله، ضمنه لقتله، لا لأكله، لأنه ميتة، وفاقا لمالك، والشافعي، وصاحبي أبي حنيفة، ولا يضمنه محرم آخر وفاقا.
(2) بالجر صفة لمحرم، أي غير الدال والمعين، والذي صيد أو ذبح له، لما سبق، وكحلال وفي خبر أبي قتادة هو حلال فكلوه وأكل منه وهو في الصحيحين وغيرهما من طرق بألفاظ كثيرة، وأمر أبا بكر فقسمه بين الرفاق، وفيه دلالة واضحة على جواز أكل المحرم من صيد الحلال، إذا لم يصد لأجله والحاصل أن ما صاده الحلال للمحرم ومن أجله، فلا يجوز للمحرم أكله، وما لم يصد من أجله، بل صاده الحلال لنفسه أو الحلال، لم يحرم على المحرم أكله وهذا قول الجمهور، وقال ابن عبد البر: وعليه تصح الأحاديث وإذا حملت عليه لم تختلف، وعلى هذا يجب أن تحمل السنن، ولا يعارض بعضها ببعض، ما وجد إلى استعمالها سبيل، وقال ابن القيم: وآثار الصحابة في هذا الباب إنما تدل على هذا التفصيل، ولا تعارض بين أحاديثه صلى الله عليه وسلم بحال.(7/20)
ويضمن بيض صيد(1) ولبنه إذا حلبه بقيمته(2) ولا يملك المحرم ابتداء صيدا بغير إرث(3) وإن أحرم وبملكه صيد لم يزل(4) ولا يده الحكمية(5).
__________
(1) أي يضمن المحرم بيض صيد أتلفه، أو نقله إلى موضع ففسد، بقيمته ولو باض على فراشه فنقله برفق، لخبر الأنصاري في بيض نعامة، قال صلى الله عليه وسلم: «عليه بكل بيضة صوم يوم، أو إطعام مسكين»، حديث حسن، وعن عائشة نحوه، وللشافعي عن ابن مسعود، وأبي موسى، ونحوه موقوفا، ولقول ابن عباس: في بيض النعام قيمته، ولخبر أبي هريرة عند ابن ماجه في بيض النعامة ثمنه وقال الوزير: اتفقوا على أن بيض النعام مضمون.
(2) أي قيمة حليب الصيد مكان الإتلاف وفاقا، لأنه لا مثل له من بهيمة الأنعام والأولى بقيمتهما إذ العاطف الواو.
(3) أي لا يملك ابتداءً ملكا تجدد بشراء، أو هبة، أو نحوهما، ولا بوكيله ولا باتهاب ولا باصطياد وفاقا، لخبر الصعب بن جثامة، فإنه ليس محلا للتمليك لأن الله حرمه عليه كالخمر، غير إرث وفاقا، لأنه أقوى من غيره ولا فعل منه، بدليل أنه يدخل في ملك الصبي، والمجنون ومثله لو أصدقها وهو حلال صيدا، ثم طلق قبل الدخول، عاد إليه نصفه، قال الشيخ: ولا يصيد صيدا بريا، ولا يتملكه بشراء، ولا اتهاب، ولا غير ذلك اهـ فإن أخذه بأحد هذه الأسباب الممنوع منها ثم تلف، فعليه جزاؤه لعموم الآية.
(4) بضم الزاي أي لم يزل ملكه عنه لقوة الاستدامة.
(5) بأن يكون الصيد في ملكه، ولا يكون معه، أو بيده بل في بلده مودعا عند غيره، بحيث لا يشاهده، أو في يد نائبه الغائب عنه، ونحو ذلك، ولا يضمنه لأنه لم يفعل في الصيد فعلا فيلزمه شيء، كما لو كان في ملك غيره، والياء مشددة ياء النسب، والتاء للتأنيث، لأنها صفة لليد، أي اليد الحكمية.(7/21)
بل تزال يده المشاهدة بإرساله(1) (ولا يحرم) بإحرام أو حرم (حيوان إنسي)(2) كالدجاج وبهيمة الأنعام(3) لأنه ليس بصيد(4) وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح البدن في إحرامه بالحرم(5).
__________
(1) إلى موضع يمتنع فيه، وتخليته وهو مذهب أبي حنيفة، والمشاهدة بفتح الهاء، اسم مفعول من شوهد، مثل ما إذا كان في قبضته، أو خيمته، أو رحله، أو قفصه، أومربوطا بحبل معه، لأن ذلك إمساك للصيد المحرم إمساكه، وقال مالك والشافعي: لا يلزمه إرساله لأن الشارع إنما نهى عن تنفير صيد مكة ولم يبين مثل هذا الحكم الخفي مع كثرة وقوعه، ولأنه إنما نهى عن فعله في الصيد ولم يفعل بخلاف المشاهدة فإنه فعل الإمساك، وفرق أحمد بين اليد الحكمية والمشاهدة، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحد القولين للشافعي.
ومن أمسكه في الحل، فأدخله الحرم، لزمه إرساله فإن أتلفه ضمنه كمحرم، وفاقا لأبي حنيفة، وفي الفروع: يتوجه لا يلزمه ونظر قياسه على صيد الحرم، وإن أمسكه في الحرم، فأخرجه إلى الحل، لزمه إرساله، فإن تلف في يده ضمنه ولا ضمان على مرسله من يده قهرا، وفاقا لمالك، والشافعي، وصاحبي أبي حنيفة لأنه واجب في هذه الحالة، بخلاف أخذه في حال الإحرام، فإنه لم يملكه فلا يضمنه مرسله إجماعًا.
(2) إجماعا والاعتبار في أهلي ووحشي بأصله وفاقا.
(3) الإبل والبقر والغنم.
(4) ولو توحش وتقدم أن الاعتبار بالأصل.
(5) كما هو مستفيض مشهور، وقال: أفضل الحج العج والثج، والثج: إرسال الدماء بالذبح والنحر، والبدن، بضم الموحدة، جمع بدنة بفتحها، وفدى عن نسائه بالبقر، وذبح البقر والغنم، ونحر الإبل بالحرم، مما لا نزاع فيه.(7/22)
(ولا) يحرم (صيد البحر) إن لم يكن بالحرم(1) لقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } (2) وطير الماء بري(3) (ولا) يحرم بحرم ولا إحرام (قتل محرم الأكل)(4) كالأسد، والنمر، والكلب(5).
__________
(1) إجماعا، والبحر جميع المياه المالحة والحلوة والأنهار، والآبار، والعيون وفاقا، فإن كان مما لا يعيش إلا في الماء، فلا خلاف فيه، وإن كان مما يعيش فيهما كالسلحفاة والسرطان فإن كان بالحرم حرم صيده جزم به غير واحد، وصححه في التصحيح وغيره، والشارح، والشيخ، وغيرهما، لأن التحريم فيه للمكان ولا جزاء فيه.
(2) صيده ما يصاد منه طريا وطعامه ما يتزود منه مليحًا يابسًا.
(3) لأنه يبيض ويفرخ في البر، فيحرم على محرم صيده وفيه الجزاء، في قول عامة أهل العلم، وقال الشارح: لا نعلم فيه مخالفًا إلا عطاء.
(4) وهو ثلاثة أقسام.
(5) والفهد وما في معناه، مما فيه أذى للناس، لأنها أشد ضررا من الفواسق، وكالبازي، والصقر، والشاهين، والعقاب، والحشرات المؤذية، والزنبور، والبق، والبعوض، والبراغيث، والقسم الثاني الفواسق، وهي الحدأة والغراب والأبقع، وغراب البين والفأرة والحية، والعقرب، والثالث، ما لا يؤذي بطبعه كالرخم، والبوم والديدان، ولاجزاء في ذلك، واستحبه بعضهم، وقيل: يكره جزم به في المحرر وغيره.
ويكره قتل النمر ونحوه، إلا من أذية شديدة، وقيل: يحرم، قال ابن كثير وغيره: وعليه الجمهور وحكى الوزير اتفاقهم على أنه لا يجوز أن يقتل المحرم الصيد على الإطلاق، ولا يقتل ما لا يؤكل لحمه ولا يصيده، ولا يدل عليه حلالا، ولا محرما، ولا يشير إليه، ويكره قتل ما لا يضر، كنمل وهدهد، إلا من أذى.(7/23)
إلا المتولد كما تقدم(1) (ولا) يحرم قتل الصيد (الصائل) دفعا عن نفسه، أو ماله(2) سواء خشي التلف أو الضرر بجرحه أولا(3) لأنه التحق بالمؤذيات، فصار كالكلب العقور(4) ويسن مطلقا قتل كل مؤذ غير آدمي(5)
__________
(1) قريبا في قوله: تولد منه ومن غيره، تغليبا للحظر.
(2) فعن نفسه خشية تلفها، أو مضرة كجرحه، ولا يضمنه وفاقا، أو ماله خشية تلفه، أو تلف بعض حيواناته، ولا يضمنه أيضا، لأنه قتله لدفع شره، وقد أذن الشارع في قتل الفواسق، لدفع أذى متوهم، فالمتحقق أولى، وكذا لو تلف بتخليصه من سبع، أو شبكة ونحوها ليطلقه، أو أخذه ليخلص من رجله خيطا ونحوه فتلف بذلك، لم يضمنه وفاقا، كقتله لحاجة أكله وفاقا، وظاهر كلامه أنه لو دفع عن غير نفسه، مما يجوز له الدفع عنه، أنه يضمنه، وليس كذلك، بل هو كالصائل عليه، والصائل عليه: هو القاصد الوثوب عليه.
(3) أي أو لم يخش التلف أو الضرر بجرحه ونحوه، قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا عدا السبع على المحرم، فقتله المحرم، فلا ضمان عليه، وإن قتله ابتداء فقال مالك، والشافعي، وأحمد: لا ضمان عليه.
(4) وليس المحرم صيدا حقيقة، وفي الصحيحين «خمس فواسق، يقتلن في الحل والحرم».
(5) فلا يحل قتله إلا بإحدى ثلاث، والمراد غير الحربي، وما سوى الآدمي من كل مؤذ يستحب قتله، عدا عليه، أو لم يعد، وهو مذهب مالك، والشافعي، وكذا روي عن أبي حنيفة، العقور وغير العقور، والمستأنس والمستوحش، منهما سواء، والفأرة الوحشية، والأهلية، والإطلاق يقتضي ذلك، سواء كان
بالحرم أو لا، وجده دنا منه أو لا، محرما كان أو غير محرم آذى بالفعل أو لا
قال الشيخ وغيره: وللمحرم وغيره أن يقتل ما يؤذي بعادته الناس، كالحية، والعقرب، والفأرة، والغراب، والكلب العقور، وله أن يدفع ما يؤذيه من الآدميين والبهائم، حتى لو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد» وكذلك ما يتعرض له من الدواب، فينهى عن قتله وإن كان في نفسه محرما، كالأسد والفهد فإذا قتله فلا جزاء عليه، في أظهر قولي العلماء، واختاره أنه لا يجوز قتل نحل، ولو بأخذ كل عسله، وقال هو وغيره: إن لم يندفع ضرر نمل إلا بقتله جاز.(7/24)
.
ويحرم بإحرام قتل قمل وصئبانه(1) ولو برميه(2) ولا جزاء فيه(3) لا براغيث وقراد، ونحوهما(4).
ويضمن جراد بقيمته(5)
__________
(1) لأنه يترفه بإزالته، كإزالة الشعر، وصئبانه بيضه وحكاه الوزير اتفاقا، ومفهومه أنه لا يحرم بغير إحرام، قال في المبدع: بغير خلاف، لأنه إنما حرم في حق المحرم لما فيه من الرفاهية، فأبيح في الحرم كغيره.
(2) وفي مغني ذوي الأفهام، يكره رميه حيا، وصرح في الإقناع بحرمة رميه مقتولا في المسجد.
(3) أي في قمل وصئبانه إذا قتله أو رماه، لأنه ليس بصيد، ولا قيمة له، جزم به الشيخ وغيره.
(4) كبعوض ففي الفروع: قال الصحابة: ولا شيء في بعوض، وبراغيث وقراد، لأنها ليست بصيد، ولا متولدة من البدن، ومؤذية بطبعها، وقال شيخ الإسلام: وإذا قرصته البراغيث والقمل، فله إلقاؤها عنه، وله قتلها، ولا شيء عليه، وإلقاؤها أهون من قتلها، وقال أيضا: إن قرصه ذلك قتله مجانا، وإلا فلا يقتله، وقال غير واحد، لم يحرم الله قتله، وأما التفلي بدون التأذي فهو من الترفه، فلا يفعله، ولو فعله فلا شيء عليه اهـ ولا يكره أن يقرد بعيره، روي عن ابن
عمر وغيره، كسائر المؤذي، ولا يقتل بنار قمل، ولا نمل، ولا برغوث، ولا غيرها، وصحح في الفروع التحريم، ولا يكره إذا لم يزل ضرره إلا بذلك.
(5) يضمن بالبناء للمفعول، وجراد اسم جنس، الواحدة منه جرادة، فإذا تلف بمباشرة أو سبب ضمن، لأنه بري يشاهد طيرانه في البر، وهذا مذهب الشافعي، وذكره الموفق قول أكثر العلماء، لأنه طير في البر، وقال عمر لكعب -لما حكم في جرادة بدرهم-: إنك لتجد الدراهم، لتمرة خير من جرادة. وقال مرة: قبضة من طعام، وعند الحنفية: يتصدق بما شاء، وقال مالك: عليه جزاؤه.
وعنه: يتصدق بتمرة عن جرادة، قال القاضي، هذه الرواية تقويم لا تقدير، فتكون المسألة رواية واحدة وقيل: يضمن حتى لو انفرش في طريقه بمشيه فقتله، وأن مثله دابته المتصرف فيها، وقيل: لا لأنه اضطره إلى إتلافه كصائل وعنه: لا ضمان في الجراد، لما رواه الترمذي عن أبي هريرة: استقبلنا رجل من جراد، فجعلنا نضربه بسياطنا وعصينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلوه فإنه من صيد البحر»، قال: وقد رخص فيه قوم من أهل العلم، وعن أبي سعيد أن كعبا أفتى بأخذه وأكله.(7/25)
ولمحرم احتاج لفعل محظور فعله ويفدي(1)، وكذا لو اضطر إلى أكل صيد، فله ذبحه وأكله(2) كمن بالحرم(3).
ولا يباح إلا لمن له أكل الميتة(4).
__________
(1) لقوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } الآية وللخبر وتقدم، وظاهره العموم حتى في الوطء إلا أن يقال: إن الكلام في المحظور غير المفسد، كما استظهره غير واحد.
(2) ما لم يجد ميتة وتقدم، ويفدي لأنه ذبحه لمصلحته.
(3) أي كمضطر بالحرم، فله ذبح صيد الحرم وأكله لاضطراره إليه.
(4) أي ولا يباح الصيد الذي ذبحه المحرم المضطر إلى أكله إلا لمن يباح له أكل الميتة، وهو المضطر.(7/26)
السابع: عقد النكاح(1) وقد ذكره بقوله (ويحرم عقد نكاح) فلو تزوج المحرم، أو زوج محرمة(2) أو كان وليًّا، أو وكيلاً في النكاح حرم (ولا يصح)(3) لما روى مسلم عن عثمان مرفوعًا لا ينكح المحرم ولا يُنكح(4)
__________
(1) أي السابع من محظورات الإحرام عقد النكاح، قال الوزير وغيره: أجمعوا على أن المحرم لا يعقد عقد نكاح لنفسه، ولا لغيره.
(2) أو غير محرمة، فلا مفهوم له، بل المحرمة وغيرها سواء، يحرم عليه ولا يصح، وهو مذهب مالك، والشافعي، سواء تعمد أولا، لصريح الخبر، والآثار الآتية وغيرها، ولأن الإحرام يمنع الوطء ودواعيه، فمنع صحة عقده، ولأنه من دواعيه، فمنعه الإحرام منه كالطيب، فيقع فاسدًا.
(3) أي النكاح، وفاقا لمالك والشافعي، والاعتبار بحالة العقد، لا بحالة الوكالة فلو وكل محرم حلالا، فعقده بعد أن حل صح، ولو وكل حلاً حلالا، فعقده بعد أن أحرم هو أو موكله فيه لم يصح، ولا يصح أن يقبل له النكاح، ولو وكله ثم أحرم، فللوكيل عقده إذا حل لزوال المانع.
(4) الأول: بفتح الياء وكسر الكاف، أي: لا يعقد لنفسه والثاني بضم الياء وكسر الكاف، أي: لا يتولى العقد لغيره، وفيه ولا يخطب ولأبي داود وغيره عن عمر مرفوعا مثله، وعن عمر أنه كان يقول: لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب على نفسه، ولا على غيره، رواه الشافعي وغيره، ولأحمد عنه مرفوعا، أن رجلا أراد أن يتزوج فنهاه وما في الصحيحين عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، فقال ابن المسيب، وأحمد ، وغيرهما وَهِمَ رضي الله عنه.
والصواب ما رواه مسلم عن ميمونة، أنه تزوجها وهو حلال، ولأبي داود: بسرف ولأحمد والترمذي، عن أبي رافع: تزوج ميمونة حلالا، وبني بها حلالا، وكنت السفير بينهما وإسناده جيد، ورواية الجل أولى، وفيها صاحب القصة، ولا مطعن فيها، بل ذكر بعضهم أنها متواترة ويوافقها ما سبق، وابن عباس إذ ذاك صغير.
وروي مالك، والشافعي، وغيرهما : أن رجلاً تزوج امرأة وهو محرم، فرد عمر نكاحه، وعن علي، وزيد معناه، رواهما أبو بكر النيسابوري، وفي المبدع: وعليه عمل الخلفاء ولأن الإحرام يمنع الوطء ودواعيه، وعقد النكاح يراد به الوطء غالبا، فحرم مبالغة في حسم مواد النكاح عن المحرم.(7/27)
.
(ولا فدية) في عقد النكاح كشراء الصيد(1) ولا فرق بين الإحرام الصحيح والفاسد(2) ويكره للمحرم أن يخطب امرأة(3) كخطبة عقده(4).
__________
(1) أي لا فدية عليه في عقد النكاح، لأنه عقد فسد لأجل الإحرام، فلم يجب به فدية، كشراء صيد فسد عقده لأجل الإحرام.
(2) فالإحرام الفاسد كالصحيح، في منع النكاح، وسائر المحظورات لأن حكمه باقٍ في وجوب ما يجب بالإحرام، فكذلك فيما يحرم به.
(3) على نفسه أو غيره، لأن الوسائل لها حكم الغايات.
(4) أي كما يكره للمحرم أن يقرأ خطبة عقد النكاح بضم الخاء، وهي قوله: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه.. إلخ، لما تقدم في حديث عثمان، وحرمها ابن عقيل وغيره.(7/28)
أو حضوره، أو شهادته فيه(1) (وتصح الرجعة) أي لو راجع المحرم امرأته، صحت بلا كراهة، لأنه إمساك(2) وكذا شراء أمة للوطء(3) الثامن: الوطء(4) وإليه الإشارة بقوله (وإن جامع) المحرم، بأن غيب الحشفة في قبل أو دبر، من آدمي أو غيره حرم(5).
__________
(1) بالرفع عطف على المصدر المنسبك من أن ومدخولها أي: ويكره حضور المحرم عقد النكاح، أو شهادته فيه، من محلين، لا من محرمين لأن شهادته في الفاسد حرام مطلقا، وما روي ولا يشهد فلا يصح قاله في المبدع.
(2) ولأنها مباحة قبل الرجعة، فلا إحلال، واختاره الخرقي وجماعة، وهو مذهب مالك، والشافعي، وروى المنع جماعة، ونصره القاضي وأصحابه كالنكاح.
(3) وغيره، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، لأنه ليس بعقد نكاح، لورود العقد على منفعة البضع وغيره، بخلاف عقد النكاح، فإنه على البضع خاصة، ولا فدية عليه في شيء من ذلك كله، كشراء الصيد.
(4) أي الثامن من محظورات الإحرام الوطء في قبل يفسد به النسك في الجملة إجماعا، والمراد الموجب للغسل، فإن كان بحائل لم يفسد.
(5) أي وإن جامع المحرم، بأن غيب حشفته الأصلية، وإنما ترك التقييد بذلك لتعريفها باللام المفيد لذلك، في قبل، أصلي، وتقييده بذلك أولى، أو دبر من آدمي حي أو ميت، أو غير الآدمي لوجوب الحد والغسل، قال الشيخ: ويحرم على المحرم الوطء ومقدماته، ولا يطأ شيئا، سواء كان امرأة أو غير امرأة، ولا يتمتع بقبلة، ولا مس بيد، ولا نظر بشهوة اهـ، والحكمة أن يبعد عن ملاذ الدنيا وشهواتها، ويجمع همه لمقاصد الآخرة.(7/29)
لقوله تعالى: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ } قال ابن عباس: هو الجماع(1) وإن كان الوطء (قبل التحلل الأول فسد نسكهما)(2) ولو بعد الوقوف بعرفة(3) ولا فرق بين العامد والساهي(4) لقضاء بعض الصحابة رضي الله عنهم بفساد الحج، ولم يستفصل(5)
__________
(1) أي الرفث المذكور في الآية هو الجماع لقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } يعني الجماع وقال الشيخ: الرفث اسم للجماع قولا وعملا.
(2) وحكى ابن المنذر والوزير وغيرهما إجماع العلماء، وأنه لا يفسد النسك إلا به، أنزل أو لم ينزل، وقال الشيخ: ليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث، فلهذا ميز بينه وبين الفسوق، وقال: فإن جامع فسد حجه، وأما سائر المحظورات كاللباس والطيب، فإنه وإن كان يأثم بها فلا تفسد الحج، عند أحد من الأئمة المشهورين اهـ والتحلل الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة، ورمي وطواف وحلق ويأتي.
(3) وهذا مذهب مالك والشافعي، لأنه صادف إحراما تاما، كقبل الوقوف، ولو إشارة إلى خلاف أبي حنيفة، وحديث «من وقف بعرفة تم حجه»، أي قارب، وأمن فواته، وذكر أبو بكر في السنة: أن من وطئ في الحج قبل الطواف فسد حجه، وحمله بعضهم على ما قبل التحلل.
(4) هذا المذهب المشهور، وقول جمهور العلماء.
(5) وهو ابن عمر رضي الله عنهما، وعليه بدنة، لقول ابن عباس: أهد ناقة وهو مذهب مالك، والشافعي، ولو كان قارنا فدم واحد، وفاقا لهما أيضا، وعنه: لا يفسد حج الناسي، والجاهل، والمكره، ونحوهم، وهو جديد قولي الشافعي، واختاره صاحب الفائق، والشيخ: وغيرهما وأنه لا شيء عليه ولما
حكى الأقوال في المجامع في رمضان ناسيًا أو جاهلا، ورجح أن لا قضاء عليه، ولا كفارة لما قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة، قال: وطرد هذا أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسيًا، ولا مخطئا لا الجماع ولا غيره، وهو أظهر قولي الشافعي، قال في الفروع: وهو متجه.(7/30)
.
(ويمضيان فيه) أي يجب على الواطئ والموطوءة المضي في النسك الفاسد(1) ولا يخرجان منه بالوطء(2) روي عن عمر وعلي، وأبي هريرة وابن عباس(3) فحكمه كالإحرام الصحيح(4).
__________
(1) إجماعا، حجا كان أو عمرة.
(2) حكاه الوزير وغيره إجماعا، وقال: اتفقوا على أنه إذا أفسد الحج، لم يتحلل منه بالإفساد، ومعنى ذلك أنه متى أتى بمحظور من محظورات الإحرام، فعليه فيه ما على المحرم في الحج الصحيح، ويمضي في فاسده، ويلزمه ذلك ثم يقضي فيما بعد، لكن إن حل من أفسد حجه لإحصار، ثم زال وفي الوقت سعة قضى في ذلك العام، قال جماعة: وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد الحج فيه في غير هذه المسألة، وقيل للقاضي، لو جاز طوافه في النصف الأخير لصح أداء حجتين في عام واحد، ولا يجوز إجماعًا.
(3) فأثر عمر، وعلي، وأبي هريرة رواه مالك، والبيهقي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وغيرهم، وأثر ابن عباس رواه البيهقي وغيره.
(4) في فعل ما يفعل بعد الإفساد، كما كان يفعل قبله، من الوقوف وغيره، وفي اجتناب ما يجتنب قبل الإفساد من الوطء وغيره، وعليه الفدية إذا فعل محظورا بعد نقله الجماعة، وذكره القاضي وغيره عن جماعة من الفقهاء.(7/31)
لقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ } (1) (ويقضيانه) وجوبا (ثاني عام)(2) روي عن ابن عباس، وابن عمر، وابن عمرو(3).
__________
(1) ووجه الدلالة ما يفصح به عموم الآية، وقد روي مرفوعا أنه أمر المجامع بذلك، ولأنه معنى يجب به القضاء، فلم يخرج منه كالفوت.
(2) أي بعد حجة الإسلام على الفور، إن كان ما أفسده حجا واجبا فبلا نزاع في وجوب القضاء، وكذا لو كان نذرًا أو نفلاً، لأنه لزم بالدخول فيه، ولأن الصحابة لم يستفصلوا قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن عليهما القضاء، سواء كان الحج تطوعا أو واجبا، أو كانت مطاوعة أو مكرهة، واتفقوا على أنه إذا وطئ في العمرة أفسدها وعليه القضاء.
(3) بسند جيد أن رجلاً أتى عبد الله بن عمرو، فسأله عن محرم واقع امرأته فأشار إلى عبد الله بن عمر فقال: اذهب إلى ذلك فاسأله قال شعيب: فلم يعرفه الرجل، فذهبت معه، فسأل ابن عمر، فقال: بطل حجك، فقال الرجل، أفأقعد؟ قال: لا بل تخرج مع الناس، وتصنع ما يصنعون، فإذا أدركت الحج قابلا، فحج وأهد، فرجع إلى عبد الله بن عمرو فأخبره، فقال: اذهب إلى ابن عباس فاسأله، فقال شعيب: فذهبت معه، فسأله فقال له مثل ما قال ابن عمر، فرجع إلى عبد الله بن عمرو فأخبره، ثم قال: ما تقول أنت؟ قال: أقول مثل ما قالا ونحوه عند أحمد، والدارقطني، والحاكم، وغيرهم، ورواه الأثرم وزاد، وحلا إذا حلوا، فإذا كان العام المقبل، فاحجج أنت وامرأتك، وأهديا هديا، فإن لم تجد فصوما ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتما.
وفي حاشية المقنع: لما روى ابن وهب بإسناده عن سعيد بن المسيب، أن رجلا جامع امرأته وهما محرمان، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما «أتما
حجكما ثم ارجعا، وعليكما حجة أخرى، من قابل، حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتها فأحرما وتفرقا ولا يؤاكل واحد منكما صاحبه، ثم أتما مناسككما وأهديا» والمذهب لا يسقط الدم، وهو مذهب مالك، والشافعي.(7/32)
وغير المكلف يقضي بعد تكليفه، وحجة الإسلام، فورا(1) من حيث أحرم أولا إن كان قبل ميقات، وإلا فمنه(2) وسن تفرقهما في قضاء، من موضع وطء، إلا أن يحلا(3).
__________
(1) أي يقضي غير المكلف، بعد تكليفه وبعد حجة الإسلام، ما أفسده فورا، لأن الحج الأصلي يجب على الفور، فهذا أولى لأنه قد تعين عليه بالدخول فيه.
(2) أي يقضي من حيث أحرم، وهو الموضع الذي أحرم منه بما فسد، إن كان ما أحرم منه قبل ميقات، وإن لم يكن أحرم إلا من الميقات لم يلزمه إلا منه، وفاقا للشافعي، لما سبق من السنة، ولأن القضاء بصفة الأداء، وعند أبي حنيفة ومالك: من الميقات، لأنه المعهود، ولكراهة تقدم الإحرام، وفي الإنصاف: ويحرمانه من الميقات بلا نزاع.
(3) أي يحل الواطئ والموطوءة من الإحرام، وفاقا للشافعي، لقوله: «أتما حجكما، ثم ارجعا، وعليكما حجة أخرى من قابل، حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتها فيه، فأحرما وتفرقا، ولا يؤاكل أحدكم صاحبه، ثم أتما نسككما وأهديا» وإن ضعفه بعضهم فقد عضدته الآثار عن الصحابة، وروى الأثرم عن ابن عمر، وابن عباس معناه، وعنه: من حيث يحرمان، وفاقا لمالك وزفر، لأن التفريق خوف المحظور، فجميع الإحرام سواء، ويحصل التفرق بحيث لا يركب معها على بعير، ولا يجلس معها في خباء، وما أشبه ذلك، بل يكون قريبا منها، يراعي أحوالها، لأنه محرمها، وعلم منه أن الواطئ يصلح محرما لها في حجة القضاء، ومن أفسد القضاء قضى الواجب، لا القضاء وفاقًا.(7/33)
والوطء بعد التحلل الأول لا يفسد النسك(1) وعليه شاة(2) ولا فدية على مكرهة(3) ونفقة حجه قضائها عليه، لأنه المفسد لنسكها(4) التاسع: المباشر دون الفرج(5) وذكرها بقوله (وتحرم المباشرة) أي مباشرة الرجل المرأة(6) (فإن فعل) أي باشرها (فأنزل لم يفسد حجه)(7).
__________
(1) وفاقا لقوله «الحج عرفة» بل يفسد الإحرام.
(2) فدية لفعله المحظور في الإحرام، وأما العمرة فكالحج، يفسدها الوطء قبل الفراغ من السعي، لا بعده، وقبل حلق، ويجب المضي في فاسدها، والقضاء فورا كالحج، والدم شاة كما في الإقناع وغيره.
(3) نص عليه، كالصوم، والمطاوعة كالرجل، لوجود الجماع منها بدليل الحد، والاشتراك في السبب، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ولما تقدم من الأخبار.
(4) أي نفقة حجة قضاء المكرهة على الزوج، لأنه هو المفسد لنسكها، فكانت عليه نفقتها، كنفقة نسكه، ولو طلقها، أو تزوجت بعد طلاقها، وإن كانت مطاوعة فعليها بلا نزاع، لقول ابن عمر: وأهديا هديا، وقول ابن عباس: أهد ناقة، ولتهد ناقة.
(5) أي فيما دون الفرج بوطء في غيره، ولو تقبيل أو لمس أو نظر، لشهوة وفاقا.
(6) لأنه وسيلة إلى الوطء المحرم، فكان حراما، وقال الجوهري وغيره: مباشرة المرأة ملامستها.
(7) لعدم الدليل، ولأنه استمتاع لم يجب بنوعه الحد فلم يفسده وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي.(7/34)
كما لو لم ينزل(1) ولا يصح قياسها على الوطء، لأنه يجب به الحد دونها(2) (وعليه بدنة) إن أنزل بمباشرة أو قبلة، أو تكرار نظر، أو لمس لشهوة(3).
__________
(1) قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إذا وطئ فيما دون الفرج، فلم ينزل وكان ذلك قبل الوقوف بعرفة، أن عليه دمًا، ولا يفسد حجه، وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وكذا لو لم يكن الإنزال لشهوة، والفرق بين الحج والصوم، أنه يفسده كل واحد من محظوراته، بخلاف الحج، فلا يفسده إلا الجماع، والرفث مختلف فيه، فلم نقل بجميع ما فسر به، مع أنه يلزم القول به في الفسوق والجدال.
(2) أي المباشرة، فلم يفسد بها الحج، كما أنه لا يجب بها الحد.
(3) لأنها مباشرة، اقترن بها الإنزال، فأوجبت الفدية، كما لو وطئ في الفرج والبدنة والبدن، يختص بالإبل، وهو قول الجمهور، من المفسرين وغيرهم، بل إطلاقها على البعير إجماع.
وسميت بدنة لعظم بدنها وضخامتها، يقال: بدن الرجل بدنا وبدانة، إذا ضخم وإطلاق البدنة على البقرة على الأصح، لأنها تطلق عليها شرعا، وإذا أطلقت في كتب الفقه، فالمراد بها البعير، ذكرا كان أو أنثى.
ويشترط عند الجمهور في جزاء الصيد ونحوه، أن تكون قد دخلت في السنة السادسة، وأن تكون بصفة ما يجزئ في الأضحية، وعنه: شاة وفاقا، إلا في تكرار النظر، فقال أبو حنيفة والشافعي: لا شي عليه، وتكرار الفكر من غير خروج مني ولا مذي، لا يجب به شيء إجماعا، لقوله: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تكلم»، متفق عليه، ولأنه دون النظر، وإن أمذى بنظر من غير تكرار، لم يجب عليه شيء.(7/35)
أو أمنى باستمناء، قياسا على بدنه الوطء(1) وإن لم ينزل فشاة كفدية أذى(2) وخطأ في ذلك كعمد(3) وامرأة مع شهوة كرجل في ذلك(4) (لكن يحرم) بعد أن يخرج (من الحل) ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم (لطواف الفرض) أي ليطوف طواف الزيارة محرما(5) وظاهر كلامه: أن هذا في المباشرة دون الفرج، إذا أنزل وهو غير متجه، لأنه لم يفسد إحرامه، حتى يحتاج لتجديده فالمباشرة كسائر المحرمات، غير الوطء، هذا مقتضى كلامه في الإقناع كالمنتهى والمقنع، والتنقيح، والإنصاف، والمبدع وغيرها، وإنما ذكروا هذا الحكم فيمن وطئ بعد التحلل الأول(6).
إلا أن يكون على وجه الاحتياط، مراعاة للقول بالإفساد(7) (وإحرام المرأة) فيما تقدم (كالرجل(8) إلا في اللباس) أي لباس المخيط، فلا يحرم عليها(9) ولا تغطية الرأس(10).
__________
(1) أي وعليه بدنة إن أمنى باستمناء، قياسا على وجوب بدنة عليه بالوطء، وقال الوزير وغيره: إذا لم يفسد حجه، فمذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي: عليه شاة.
(2) وفاقا لأبي حنيفة ومالك، ويخير بين الدم والصيام والإطعام، وقال الشافعي: لا شيء عليه.
(3) أي وخطأ في مباشرة دون الفرج في التحريم، ووجوب الدم كعمد، وهو مذهب الجمهور.
(4) إن باشرت أو قبلت.
(5) أي للزيارة سمي بذلك، لأنهم يزورونها من منى،ومقتضاه أنه لو طاف قبل الوطء لا إحرام عليه, وجزم به في المغني.
(6) يعني الإحرام من الحل.
(7) فهو متجه، من هذه الحيثية.
(8) فيحرم عليها ما يحرم على الرجل، من إزالة الشعر، وتقليم الأظافر، والطيب، وقتل الصيد، وغير ذلك مما تقدم، لدخولها في عموم الخطاب.
(9) إجماعا حكاه ابن المنذر وغيره، لحاجتها إلى الستر وكعقد الإزار للرجل.
(10) ولا تظليل محمل ولا غيره، إجماعا للخبر، وحاجة الستر.(7/36)
(وتجتنب البرقع والقفازين)(1) لقوله عليه السلام «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين» رواه البخاري وغيره(2).
__________
(1) بلا خلاف يعتد به والبرقع بضم الباء وسكون الراء وضم القاف، لباس تغطي به المرأة وجهها، فيه نقبان على العينين، تنظر المرأة منهما «والقفازين» بالضم والتشديد.
(2) وقال ابن المنذر: كراهية البرقع ثابتة عن سعيد، وابن عمر، وابن عباس وعائشة، ولا نعلم أحدا خالف فيه، وتحريم القفازين هو مذهب مالك وغيره قال ابن القيم: وخالف فيه أبو حنيفة، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع اهـ وكالنقاب، وكالرجل وفاقا وقال الشيخ: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن تنتقب أو تلبس القفازين، كما نهى المحرم أن يلبس القميص ونحوه مع أنه يجوز له أن يستر يديه ورجليه، باتفاق الأئمة، والبرقع أقوى من النقاب، فلهذا ينهى عنه باتفاقهم، ولهذا كانت المحرمة لا تلبس ما يصنع لستر الوجه، كالبرقع ونحوه لأنه كالنقاب.
وقال ابن القيم: نهيه أن تنتقب وتلبس القفازين، دليل على أن وجهها كبدن الرجل، لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفصل على قدر الوجه، كالنقاب والبرقع، لا على سترة بالمقنعة والجلباب ونحوهما وهذا أصح القولين.(7/37)
والقفازان، شيء يعمل لليدين، يدخلان فيه، يسترهما من الحر(1) كما يعمل للبزاة(2) ويفدي الرجل والمرأة بلبسهما(3).
(و) تجتنب (تغطية وجهها) أيضًا(4) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها»(5).
__________
(1) قاله الشيخ وغيره: وهو ما تلبسه النساء في أيديهن، يغطي الأصابع والأكف والساعد، وقال الجوهري: شيء يعمل لليدين، يحشى بقطن، ويكون له أزرار تزر على الساعدين من البرد، تلبسه المرأة في يديها، وفي المطالع، غشاء الأصابع مع الأكف ، معروف يكون من الجلد وغيره.
(2) بضم الموحدة نسبوا لها، وهم الذين يحملون البزاة، جمع باز، ضرب من الصقور، وكذلك الصقور، والشواهين، على أيديهم عند الصيد.
(3) أي القفازين الذين يعملان لليدين، ومثلهما لو لفت على يديها خرقة وشدتها على حناء أو لا، كشده على جسده شيئا، لا تغطية ذلك منها أو منه، جزم بذلك في الإقناع وغيره، ثم قال: وظاهر كلام الأكثر، لا يحرم، وبلا شد فلا بأس.
(4) كذا قاله بعض الأصحاب، وفي الإنصاف: إحرام المرأة في وجهها بلا نزاع.
(5) كذا أوردوه عفا الله عنهم، وإنما رواه الدارقطني عن ابن عمر موقوفا، وقال ابن القيم: ما روي في إحرام المرأة في وجهها لا أصل له ولا تقوم به حجة، ولا يترك له الحديث الصحيح الدال على أن وجهها كبدنها، وقال شيخ الإسلام
لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إحرام المرأة في وجهها»، وإنما قال هذا القول بعض السلف، وقال ابن القيم: وإنما يحرم ستره بما أعد للعضو، كالنقاب ونحوه، لا مطلق الستر كاليدين، وليس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرف واحد، في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام.(7/38)
فتضع الثوب فوق رأسها(1) وتسدله على وجهها، لمرور الرجال قريبا منها(2).
__________
(1) ويجب عليها تغطية رأسها كله، ولا يمكنها تغطية جميعه إلا بجزء من الوجه، ولا كشف جميع الوجه إلا بجزء من الرأس، فستر الرأس كله أولى، لأنه آكد لوجوب ستره مطلقا إجماعا في الجملة، قال الشيخ: فإنها عورة فلذلك جاز لها أن تلبس الثياب التي تستتر بها، وتستظل بالمحمل اهـ وكذا غير المحمل، كالهودج والمحفة، لحاجتها إلى الستر، وحكاه ابن المنذر وغيره إجماعا.
(2) وفاقا، لقول عائشة: كان الركبان يمرون بنا، ونحن محرمات، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذوا بنا، سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه، رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما، ولا يضر مس المسدول بشرة وجهها، وإنما منعت من البرقع والنقاب، لأنه معد لستر الوجه، قال شيخ الإسلام: ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه، جاز بالاتفاق، وإن كان يمسه، فالصحيح أنه يجوز أيضا.
ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعود ولا بيدها، ولا غير ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوَّى بين وجهها ويديها، وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه، وأزواجه صلى الله عليه وسلم يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، وقال: يجوز لها تغطية وجهها بملاصق، خلا النقاب والبرقع، وقال الموفق: المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، ولو كان شرطا لبين.(7/39)
(ويباح لها التحلي) بالخلخال، والسوار والدملج، ونحوها(1) ويسن لها خضاب عند إحرام(2) وكره بعده(3) وكره لهما اكتحال بإثمد لزينة(4) ولها لبس معصفر وكحلي(5).
__________
(1) كالقلادة والخاتم والقرط وغير ذلك من الحلي والخلخال حلية معروفة عند العرب، تلبس فوق الكعبين، كالسوار في اليد والسوار هو حلية تلبسه المرأة في زندها أو معصمها والدملج، هو المعضد من الحلي وغيره، يجعل في العضد، قال نافع: كن نساء ابن عمر يلبسن الحلي، والمعصفر، وهن محرمات، رواه الشافعي، قال المجد: ويلبسن بعد ذلك ما أحببن ولا دليل للمنع، ولا يحرم عليهن لباس زينة، ما لم تظهر لغير محرم.
(2) يعني بالحناء وتقدم، ويستحب في غير الإحرام لزوجه، لأن فيه زينة، ويكره لأيم، لعدم الحاجة، مع خوف الفتنة، وأما الرجل، فلا بأس به، فيما لا تشبه فيه النساء، ولهما النظر في المرآة، روي عن ابن عمر وغيره، ولم يرد فيه ما يقتضي المنع منه.
(3) أي بعد الإحرام، لأنه من الزينة.
(4) أي وكره للرجل والمرأة اكتحال بإثمد لزينة لا لغيرها، رواه الشافعي عن ابن عمر، ولا يكره غير الإثمد، لأنه لا زينة فيه، إذا لم يكن مطيبا وإلا حرم.
(5) المعصفر: ما صبغ بالعصفر وتقدم والـ «كحلي» بالضم، نوع أسود من الثياب، ولها لبس كل مصبوغ، بغير ورس وزعفران، لأن الأصل الإباحة إلا ما ورد الشرع بتحريمه، وقال صلى الله عليه وسلم في المحرمة، «ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من معصفر، أو خز، أو كحلي» رواه أبو داود، وكانت عائشة وأسماء يحرمان في المعصفر، ويكره لبسه للرجل في غير إحرام وتقدم، ففي الإحرام أولى.(7/40)
وقطع رائحة كريهة بغير طيب(1) واتجار وعمل صنعة ما لم يشغلا عن واجب، أو مستحب(2) وله لبس خاتم(3) ويجتنبان الرفث والفسوق والجدال(4)
__________
(1) لأنه ليس من المحظورات بل مطلوب فعله.
(2) فإن شغلا عن واجب حرما، أو مستحب كرها قال ابن عباس: كانت عكاظ، ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في المواسم، فنزلت { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } في مواسم الحج، رواه البخاري، ولأبي داود عن أبي أمامة قال: كنت رجلا أكري في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون، ليس لك حج، فقال ابن عمر: أليس تحرم وتلبي، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي الجمار؟ فقلت: بلى، قال: فإن لك حجا، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله مثل ما سألتني فلم يجبه حتى نزلت { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } الآية، فقرأها عليه، وقال: «لك حج» ونحوه لأحمد وغيره وسنده جيد.
(3) من فضة أو عقيق ونحوهما، لما روى الدارقطني عن ابن عباس: لا بأس بالهميان، والخاتم للمحرم، وله بط جرح ، وختان وقطع عضو، عند الحاجة إليه، وأن يحتجم لأنه لا رفاهية فيه، وفي الصحيحين أنه احتجم وهو محرم.
(4) قال تعالى: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } وأجمعوا على أن المراد من (فرض) ههنا: الإيجاب والإلزام، أي أوجب على نفسه بإحرامه حجا أو عمرة، فليجتنب الرفث، وهو الجماع،
كما تقدم ويطلق على التعريض به، وعلى الفحش في القول، وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما: الجماع، والجمهور على أن المراد به في الآية، الجماع، ويحرم تعاطي دواعيه، من المباشرة والتقبيل والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام .
وقال الأزهري: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة والفسوق هو المعاصي لم يفسق، أي لم يأت بسيئة ولا معصية، وهو في حالة الإحرام أشد وأقبح، لأنها حالة التضرع، وهجر المباحات، والإقبال على طاعة الله، والجدال وهو المماراة فيما لا يعني، والخصام مع الرفقة، والمنازعة والسباب، بخلاف الجدال على وجه النظر في أمر من الأمور الدينية، وأما الأمر بالمعروف فواجب، وقال الشيخ: الجدال هو المراء في أمر الحج، فإن الله قد وضحه وبينه، وقطع المراء فيه، كما كانوا في الجاهلية، يتمارون في أحكامه، ولم ينه المحرم عن الجدال مطلقا، بل قد يكون واجبا مستحبا، وقد يكون محرما في الحج وغيره.(7/41)
.
وتسن قلة الكلام إلا فيما ينفع(1).
باب الفدية(2)
أي أقسامها، وقدر ما يجب، والمستحق لأخذها(3) (يخير بفدية) أي في فدية (حلق) فوق شعرتين(4) (وتقليم) فوق ظفرين(5) (وتغطية رأس، وطيب، ولبس مخيط، بين صيام ثلاثة أيام)(6).
__________
(1) لا بما لا يعنيه، والمراد العدم، لا حقيقة القلة، وكان شريح إذا أحرم كأنه الحية الصماء، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا، «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت»، وعنه مرفوعا، «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، حديث حسن، ولأحمد عن علي مثله، ويستحب للمحرم، أن يشتغل بالتلبية، وذكر الله، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل، ونحو ذلك.
(2) مصدر فداه، يقال: فداه وأفداه، أعطى فداه، وفداه بنفسه إذا قال: جعلت فداك، والفدية والفداء والفدى: ما يعطى في افتكاك الأسير، وإنقاذ من هلكة، وإطلاق الفدية في محظورات الإحرام، إشعار بأن من أتى محظورا منها، فكأنه صار في هلكة، يحتاج إلى إنقاذه منها، بالفدية التي يعطيها استعير هذا الاسم في محظورات الإحرام، وإنقاذا لمن تلبس بشيء منها، من تلك الهلكة بالفدية التي يعطيها لعظم شأنه، وتأكد حرمته، وسببه تعظيم أمر الإحرام، بأن محظوراته من المهلكات.
(3) وهي دم أو إطعام ستة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام، والفدية على ضربين أحدهما على التخيير وهو نوعان والثاني على الترتيب وهو ثلاثة أنواع ومنها ما لم يرد فيه ترتيب ولا تخيير، كفدية الفوات، وعده بعضهم ضربا ثالثا.
(4) فيتناول شعرتين وبعض الثالثة، قال في الفروع: وبعض شعرة كهي، وما دون ذلك تقدم حكمه.
(5) فيتناول ظفرين وبعض الثالث.
(6) هذا المذهب، وعليه الأصحاب، أن من فعل محظورا مما ذكر يخير
بين صيام ثلاثة أيام، وكلها سوء في كونها حرم في الإحرام، لأجل الرفه، وكل كفارة ثبت فيها التخيير مع العذر ثبت مع عدمه.(7/42)
أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من تمر أو شعير(1) أو ذبح شاة(2) لقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة «لعلك آذاك هوام رأسك؟» قال: نعم يا رسول الله فقال: «احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة» متفق عليه(3).
__________
(1) قال الشيخ: لكل مسكين نصف صاع من تمر، أو شعير، أو مد بر، وإن أطعمه خبزا جاز، ويكون رطلين بالعراقي، تقريبا من نصف رطل بالدمشقي، وينبغي أن يكون مأدوما، وإن أطعمه مما يأكل كالبقسماط، والرقاق، ونحو ذلك جاز، وهو أفضل من أن يعطيه قمحا، أو شعيرا، وكذلك في سائر الكفارات، إذا أعطاه مما يقتات به، مع أدمه فهو أفضل من أن يعطيه حبًّا مجردا، إذا لم يكن عادتهم أن يطحنوا بأيديهم، ويخبزوا بأيديهم، والواجب في ذلك كله ما ذكره الله بقوله: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ورجح أيضا أنه يرجع إلى العرف فيه، فيطعم كل مما يطعمون أهليهم، وذكر قصة كعب لما كانوا يقتاتون التمر، أمره أن يطعم منه.
(2) فدية عن فعل المحظور، والتخيير بين فعل أحد الثلاث مذهب الجمهور.
(3) وقد روي بألفاظ متعددة، وقال البخاري: خير النبي صلى الله عليه وسلم كعبا في الفدية: ولقوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وانسك: أي اذبح، وفي رواية أتجد شاة؟ قلت: لا فنزلت الآية، ولا نزاع في أن النسك المأمور به شاة سواء
كان حلقه لقمل أو صداع، أو شدة حر، وقد جاءت بروايات متفقة في المعنى، وله تقديم الفدية على فعل المحظور بعد وجود السبب المبيح.(7/43)
و «أو» للتخيير(1) وألحق الباقي بالحلق(2) (و) يخير (بجزاء صيد بين) ذبح (مثل إن كان) له مثل من النعم(3) (أو تقويمه) أي المثل بمحل التلف أو قربه(4) (بدراهم يشتري بها طعاما) يجزي في فطره(5).
__________
(1) أي في الآية والحديث، وهما حجة لمن ذهب إلى التخيير، وغير المعذور مثله، وهو مذهب مالك، والشافعي، لأنه تبع للمعذور، والتبع لا يخالف أصله، وفائدة التعبير بها، أن هذا الدم دم تخيير.
(2) أي باقي المحظورات، من تقليم الأظافر، واللبس، والطيب، بالقياس الشبهي، لأن تحريمها فيه للترفه، فأشبهت الحلق، وثبت الحكم في غير المعذور بطريق التنبيه تبعا له.
(3) وحكاه الوزير وغيره إجماعا، إلا ما روي عن أبي حنيفة، والآية والآثار حجة عليه، فله ذبحه، وإعطاؤه لفقراء الحرم، أي وقت شاء، فلا يختص بأيام النحر، ولأنه يجزئ أن يتصدق به حيا، وهذا هو النوع الثاني من نوعي التخيير.
(4) أي قرب محل التلف نص عليه.
(5) وهو إما مد بر، أو نصف صاع، تمرا، أو زبيبا ، أو شعيرا وفاقا للشافعي، لأن كل متلف وجب بمثله إذا قوم، وجب مثله، كالمثلى من مال الآدمي، ومنه يعلم أنها ليست كالفطرة من كل وجه، والأفضل في الإخراج مما يأكل.(7/44)
أو يخرج بعدله من طعامه(1) (فيطعم كل مسكين مدا) إن كان الطعام برا(2) وإلا فمدين(3) (أو يصوم عن كل مد) من البر (يوما)(4) لقوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)(5).
__________
(1) أي بقدر قيمة المثل من طعامه، برا كان أو تمرا، أو غيرهما، متحريا العدل، لحصول المقصود، ولا يتصدق بالدراهم.
(2) نص عليه، والماتن أطلق العبارة، كالموفق في المقنع وغيرهما، وصرفها الشارح كغيره، قال في المبدع: وبالجملة فيعتبر كل مذهب على أصله، فعندنا من البر مد، ومن غيره مدان.
(3) أي وإن لم يكن الطعام برًا فمدين، لكل مسكين من مساكين الحرم، من تمر أو زبيب أو شعير، أو أقط، أو غيرها.
(4) ويكون المساكين بقدر الأمداد، أو أنصاف الآصع، وهذا مذهب مالك والشافعي، وفقهاء الحجاز، في المد مطلقا، إلا أن أبا حنيفة اعتبر نصف صاع، وأيام الصوم بقدر المساكين، فكفارة جزاء الصيد على التخيير وفاقا، كفدية حلق للآية و (أو) حقيقة في التخيير، كأنه فدية الأذى، بخلاف هدي المتعة وفي الإنصاف، لا يجب التتابع في هذا الصيام بلا نزاع أعلمه للآية.
(5) وتمامها { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي من ملتكم ودينكم، يكون المثل (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) أي يساق إلى الكعبة، والمراد كل الحرم { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } أي أو ما ساوى ذلك، فعطف هذه الخصال بعضها على بعض بأو المقتضية للتخيير، كفدية الأذى بخلاف هدي المتعة.(7/45)
وإن بقي دون مد صام يوما(1) (و) يخير (بما لا مثل له) بعد أن يقومه بدراهم لتعذر المثل، ويشتري بها طعاما كما مر(2) (بين إطعام) كما مر (وصيام) على ما تقدم(3) (وأما دم متعة وقرآن فيجب الهدي) بشرطه السابق(4) لقوله تعالى: { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } (5).
__________
(1) يعني إذا اختار الصيام عن الإطعام، فبقي ما لا يعدل طعام مسكين، صام يوما كاملا وفاقا، كما لو كان الطعام عشرة أمداد بر ونصف، فيصوم أحد عشر يوما، أما لو وجب الإطعام في الصورة المذكورة فيخرج ما معه، ولا يجب عليه تكميل ولا صيام، وقال في الإقناع: ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء، ويطعم عن بعضه، وقال في الإنصاف: لا أعلم فيه خلافا.
(2) في قوله: أو تقويمه.
(3) في حكم الصيام، لأن النص بالتخيير بين الثلاثة، فإذا عدم أحدها فالتخيير ثانيا بين الباقيين أيضا، فإذا اختار الإطعام قوم الصيد، لأنه متلف غير مثلي، فلزمه قيمته، كمال الآدمي فيشتري بها طعاما، فيطعمه المساكين ، وإذا اختار الصيام، صام عن كل مد من قيمة المتلف يوما، ويجب التتابع وفاقا، للآية.
(4) بلا خلاف، وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج عن عامة ، وأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام، وأن لا يسافر بينهما، إلى آخر الشروط المذكورة سابقا، وهذا النوع الأول من الضرب الثاني.
(5) أي فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج، فليذبح ما قدر عليه من الهدي، ولا خلاف في وجوبه على المتمتع، وعلم منه أنه دم نسك وسع الله به على عباده، وأباح لهم بسببه التحلل في أثناء الإحرام، لما في استمراره عليهم من المشقة، فهو بمنزلة القصر والفطر، في السفر.(7/46)
والقارن بالقياس على المتمتع(1) (فإن عدمه) أي عدم الهدي(2) أو عدم ثمنه ولو وجد من يقرضه(3) (فصيام ثلاثة أيام) في الحج(4) (والأفضل كون آخرها يوم عرفة )(5)
__________
(1) أي في ترفهه بترك أحد السفرين، بل أولى، لأن أفعال المتمتع أكثر من أفعال القارن.
(2) في موضعه، صام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع.
(3) لأن الظاهر استمرار عسرته، فجاز له الانتقال إلى الصوم، قبل زمن الوجوب، ولو قدر على الشراء بثمن في ذمته، وهو موسر في بلده، لم يلزمه ويعمل بظنه في عجزه عن الهدي.
(4) أي في وقت الحج، لأنه لا بد من إضمار، لأن الحج أفعال لا صوم فيها، وإنما يصام في أشهرها، أو وقتها، ووقت وجوب صومها: طلوع الفجر يوم النحر، لأنه وقت وجوب الهدي، ويجوز تقديمها بعد إحرام المتمتع بالعمرة، قال الشيخ: في أشهر أقوال العلماء، وهو الأرجح، فإنه في تلك الحال في الحج، وقيل: يصومها بعد التحلل من العمرة، فإنه حينئذ شرع في الحج، ولكن دخلت العمرة في الحج، كما دخل الوضوء في الغسل، وأما إحرامه بالحج بعد ذلك، فكما يبدأ الجنب بالوضوء، ثم يغتسل بعده، ويجوز تأخيرها إلى أيام منى، وإن أوجب الصوم وشرع فيه، ثم وجد هديا، لم يلزمه، وأجزأه الصوم وهذا مذهب مالك والشافعي، وإن وجده قبل الشروع، ففيه روايتان والمذهب الإجزاء، صححه في تصحيح الفروع وغيره.
(5) هذا المشهور، وعليه الأصحاب، ليكون إتيانه بها أو بعضها بعد إحرامه بالحج، فيصومه هنا استحبابا، للحاجة إلى صومه، ونظره في المبدع، وعنه: الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية، وفي المجرد وغيره: أنه المذهب وهو قول:
ابن عمر وعائشة لأن صوم يوم عرفة غير مستحب له، قال في المبدع: ولعله في الأولى أظهر، ووقت جوازها إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ولا يجوز قبله، وما نقل عن أحمد في جوازه، فقال الموفق: ليس بشيء وأحمد منزه عن هذا لمخالفته لأهل العلم اهـ ووجوبها وقت وجوب الهدي، لأنه بدل منه، وقال القاضي: لا خلاف أن الصوم يتعين، قبل يوم النحر، بحيث لا يجوز تأخيره إليه بخلاف الهدي.(7/47)
.
وإن أخرها عن أيام منى صامها بعد(1) وعليه دم مطلقا(2).
(و) صيام (سبعة) أيام (إذا رجع إلى أهله)(3) قال تعالى: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ(4)
__________
(1) لوجوبه فقضاه بفواته كرمضان، وأيام منى هي أيام التشريق، أضيفت إلى منى، لإقامة الحج بها.
(2) أي سواء أخره لعذر، أولا، صححه في تصحيح الفروع وغيره وعنه: لا يلزمه مع العذر، اختارها القاضي وغيره وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو الخطاب: لا يلزمه مع الصوم دم بحال، لأنه صوم واجب، يجب القضاء بفواته، وكذا إن أخر الصوم عن أيام النحر لغير عذر فعليه دم، لتأخيره الواجب عن وقته، وعنه: لا كالتي قبلها وأما إن أخر الهدي لعذر فلا، لاتساع وقتها، فيندر استغراق العذر له، بخلاف أيام النحر.
(3) وهو الأفضل، لحديث ابن عمر، «وسبعة إذا رجع إلى أهله»، متفق عليه ولا يصح صوم شيء منها أيام منى لبقاء زمن الحج، ولا قبل طواف الزيارة، لأنه قبل ذلك لم يرجع من عمل الحج.
(4) أي { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } الهدي أو لم يجد ثمنه (فصيام ثلاثة أيام في الحج) # أي قبل التروية، ويوم التروية ويوم عرفة، وإن صام قبلها بعدما يحرم بالحج، جاز كما تقدم.(7/48)
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } (1) وله صومها بعد أيام منى، وفراغه من أفعال الحج(2) ولا يجب تتابع ولا تفريق في الثلاثة، ولا السبعة(3) (والمحصر) يذبح هديا، بنية التحلل(4) لقوله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (5).
__________
(1) أي إلى أهلكم، وقال عليه الصلاة والسلام «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله»، موافقا لنص القرآن، شاهدا بذلك وفي الإنصاف: إذا رجعتم يعني من عمل الحج.
(2) لأن كل صوم واجب جاز في وطن فاعله، جاز في غيره، كسائر الفروض، فيجوز بعد أيام التشريق، نص عليه، وذلك إذا طاف للزيارة فيكون المراد من الآية إذا رجعتم، من عمل الحج لأنه المذكور.
(3) فلا يلزمه التتابع إذا شرع في صوم الثلاثة، أو السبعة، وفاقا، لإطلاق الأمر، ولا يلزمه التفريق بين العشرة، إذا أخر الثلاثة إليه، ولذا إذا لم يصم الثلاثة قبل يوم النحر صام أيام منى.
(4) أي يلزمه ما لم يشترط فمحلي حيث حبستني إجماعا، وهذا هو النوع الثاني وإنما اعتبرت فيه دون غيرها لأن من أتى بأفعال النسك، أتى بما عليه فحل بإكماله، فلم يحتج إلى نية، بخلاف المحصر، فإنه يريد الخروج من تلك العبادة قبل إكمالها فافتقر إلى نية.
(5) أي { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } دون تمام الحج والعمرة فحللتم فعليكم { مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } أي ما يهدى إلى البيت، وأعلاه بدنة، وأدناه شاة ويأتي.(7/49)
و(إذا لم يجد هديا صام عشرة) أيام بنية التحلل (ثم حل) قياسا على المتمتع(1) (ويجب بوطء في فرج في الحج) قبل التحلل الأول (بدنة)(2) وبعده شاة(3) فإن لم يجد البدنة، صام عشرة أيام، ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، لقضاء الصحابة(4) (و) يجب بوطء (في العمرة شاة )(5).
__________
(1) أي على هدي التمتع يخير فيه بين صيام أو صدقة، أو نسك ووجه القياس، كون وجوب الهدي فيها بالنص، فلما كان كذلك قاسوا ما يقوم مقامه، على ما نص عليه هناك، ولأنه دم واجب، فكان ذلك بدله، كدم المتعة.
(2) قارنا كان أو مفردا، نص عليه، كسائر المحظورات وقال القاضي وغيره: إن لم يجد بدنة أخرج بقرة، فإن لم يجد، فسبعا من الغنم، لقيامها مقامها في الأضاحي.
(3) أي ويجب بوطء في فرج في الحج، بعد التحلل الأول شاة قارنا كان أو مفردا.
(4) قاله ابن عمر وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، رواه عنهم الأثرم وغيره، ولم يظهر لهم مخالف في الصحابة، فيكون إجماعا، وقال بعض الشافعية، لقضاء جميع الصحابة بها، ولم يعرف لهم مخالف فيكون بدله، مقيسا على بدل دم المتعة.
(5) وهو مذهب أبي حنيفة ومالك كفدية الأذى أو صدقة أو نسك، ولأنها أحد النسكين، فوجبت شاة، لأن حكم العمرة أخف، وذكرها ههنا والله أعلم بطريق التبعية، لا لكونها من هذا القسم.(7/50)
وتقدم حكم المباشرة(1) (وإن طاوعته زوجته لزمها) أي ما ذكر، من الفدية في الحج والعمرة، وفي نسخة: لزماها أي البدنة في الحج، والشاة في العمرة(2) والمكرهة لا فدية عليها(3) وتقدم حكم المباشر دون الفرج(4) ولا شيء على من فكر فأنزل(5) والدم الواجب لفوات(6) أو ترك واجب كمتعة(7).
فصل(8)
__________
(1) أنه يجب شاة إذا لم ينزل فإن أنزل فبدنة.
(2) روي عن ابن عباس وجمع، لوجود الجماع منها، بدليل الحد، ولأنهما اشتركا في السبب الموجب.
(3) نص عليه لقوله: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهو عليه» ولأنه لا يضاف إليها الفعل، وكالصوم.
(4) أي في الباب قبله موضحا.
(5) كما تقدم وأنه إجماع.
(6) أي فوات الحج، يجب به بدنة في الأصح، وهذا هو الضرب الثالث، عند البعض وتقدم.
(7) أي أو الدم الواجب لترك واجب، كدم متعة، يذبح هديا إن وجده، وإلا صام عشرة أيام، إلا أنه لا يمكن في الفوات صوم ثلاثة أيام، قبل يوم النحر، لأن الفوات بطلوع فجره قبل الوقوف، وقال القاضي: ما وجب لترك واجب ملحق بدم متعة، وما وجب للمباشرة ملحق بفدية الأذى.
(8) أي في حكم فدية من كرر محظورا وما يسقط بالنسيان، ونحوه ومن تدفع له الفدية، وفي أي موضع نحر هدي وغير ذلك.(7/51)
(من كرر محظورًا من جنس) واحد بأن حلق، أو قلم، أو لبس مخيطا، أو تطيب، أو وطئ ثم أعاده(1) (ولم يفد) لما سبق(2) (فدى مرة) سواء فعله متتابعا، أو متفرقا(3) لأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس فدية واحدة، ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات(4).
وإن كفَّر عن السابق ثم أعاده، لزمته الفدية ثانيا(5) (بخلاف صيد) ففيه بعدده، ولو في دفعة(6) لقوله تعالى: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } (7).
__________
(1) أي الحلق، أوالتقليم، أو اللبس، أو التطيب، أو الوطء، ولو بغير الموطوءة، مرة بعد أخرى، ومثله مقدماته.
(2) من حلق وما عطف عليه.
(3) أي سواء فعل جنسًا من المحظور متتابعا، بأن حلق رأسه، وسائر جسده، أو قلم أظفار يديه ورجليه، أو لبس عمامة وخفا، أو وطئ ونحوه، وذكر الزركشي وغيره، إذا لبس وغطى رأسه، ولبس الخفّ ففدية واحدة، لأن الجميع جنسه واحد، بل عموم كلامهم يقتضي: أن تغطيه الرأس بجميع أنواعها، حتى بالتظليل بمحمل متحدة مع لبس المخيط، وكذا لو فعل الجنس الواحد من المحظورات متفرقا.
(4) وكالحدود، لأن ما تداخل متتابعا تداخل متفرقا، كالأحداث، قال الشيخ: وإذا لبس ثم لبس مرارا، ولم يكن أدى الفدية أجزأته فدية واحدة، في أظهر قولي العلماء.
(5) لعدم ما يسقطها، ولأنه صادف إحراما، فوجب كالأول، وكما لو حلف وحنث، ثم كفَّر، ثم حلف ثانيا وحنث فإنه يكفَّر.
(6) وفاقا، وقال البغوي: في قول عامة أهل العلم.
(7) أي فعليه جزاء من النَّعم، مثل ما قتل، فدلت على أن من قتل صيدا لزمه مثله، ومن قتل أكثر لزمه مثل ذلك، ولأنه لو قتل أكثر، تعدد الجزاء، فمتفرقا أولى، لأن حال التفريق ليس بأنقص، وكقتل آدمي، وبدل متلف.(7/52)
(ومن فعل محظورًا من أجناس) بأن حلق وقلم أظفاره، ولبس المخيط(1) (فدى لكل مرة) أي لكل جنس فديته الواجبة فيه(2) سواء (رفض إحرامه أو لا)(3).
__________
(1) وتطيب وباشر، ونحوه.
(2) وفاقا، تفرقت أو اجتمعت لأنها محظورات مختلفة، فتتعدد الفدية بتعدد المحظورات، من أجناس، وإن كانت متحدة الكفارة وفاقا، كحدود مختلفة، وأيمان مختلفة.
(3) أي سواء نوى فاعل المحظور الخروج من إحرامه، أو لم ينوه، لأن حكم الإحرام باق، لأنه لا يفسد بالرفض وفاقا، وقال الوزير: أجمعوا على أن المحرم إذا قال: أنا أرفض إحرامي، أو نوى الرفض لإحرامه، لم يخرج بذلك، كما لا يخرج منه بالإفساد له، و رفضه يرفضه، بضم الفاء وكسرها رفضا أي: تركه.(7/53)
إذ التحلل من الحج لا يحصل إلا بأحد ثلاثة أشياء: كمال أفعاله(1) أو التحلل عند الحصر(2) أو بالعذر إذا شرطه في ابتدائه(3) وما عدا هذه لا يتحلل به(4) ولو نوى التحلل لم يحل(5) ولا يفسد إحرامه برفضه، بل هو باق، يلزمه أحكامه(6) وليس عليه لرفض الإحرام شيء(7) لأنه مجرد نية(8) ويسقط بنسيان أو جهل أو إكراه، فدية لبس ، وطيب وتغطية رأس(9).
__________
(1) بالجر بدل من ثلاثة، أو بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي أحدها كمال أفعاله، ومن وقوف ورمي، وطواف، وسعي، وسائر ما يكمل به.
(2) أي عن الحج بما يأتي في بابه.
(3) بأن قال: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
(4) أي وما عدا ثلاثة الأشياء، من نحو حلق، ولبس، ووطء، لا يتحلل به.
(5) إجماعا لقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ } .
(6) أي أحكام الإحرام، من اجتناب المحظورات، والفدية إن فعل ما تجب فيه، وغير ذلك مما تقدم، وفاقا، لأنه لا يخرج منه بالإفساد له.
(7) أي ليس عليه لذلك دم ولا غيره.
(8) فلم يلزمه شيء، لعدم تأثير مجرد النية فيه، ولأن حكم الإحرام باق، وهذا مذهب مالك والشافعي.
(9) اختاره الخرقي وغيره، وهو مذهب الشافعي، وقال ابن القيم: الراجح من الأقوال أن الفدية في ذلك لا تجب مع النسيان والجهل.(7/54)
لحديث: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»(1)، ومتى زال عذره أزاله في الحال(2) (دون) فدية (وطء وصيد، وتقليم وحلق) فتجب مطلقا(3) لأن ذلك إتلاف، فاستوى عمده وسهوه، كمال الآدمي(4).
__________
(1) رواه ابن ماجه، والطبراني والدارقطني، والبيهقي، وجوَّد إسناده وقال ابن حزم: حديث مشهور، ولحديث الجبة، والخلوق، ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بفدية، وقال تعالى عن المؤمنين: { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال: قد فعلت، رواه مسلم.
(2) أي ومتى زال عذره من نسيان، أو جهل أو إكراه بأن ذكر، أو علم أو ارتفع الإكراه أزال المحظور عليه في الحال.
(3) سواء كان ذاكرًا أو ناسيًا، أو جاهلاً، أو مكرهًا، وفاقا، لأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق لأذى به، وهو معذور، فدل على وجوبها على معذور آخر.
(4) أي كإتلاف مال آدمي، وقال ابن كثير وغيره: كالعمد في قتله والخطأ سواء عند جمهور العلماء، إلا أن المتعمد آثم، والمخطئ غير آثم، وقال غير واحد: تجب بقتل الصيد مطلقا لظاهر الخبر والأثر، في جزاء الصيد وبيضه، قال الزهري: على المتعمد بالكتاب، وعلى المخطئ بالسنة، وقال عطاء: نعم يعظم حرمات الله، ومضت به السنن.
ولما ذكر شيخ الإسلام، عدم مؤاخذة الجاهل والناسي، وقال: وأما الكفارة والفدية، فتلك وجبت لأنها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله كما لو أتلفه صبي ضمنه، وجزاء الصيد وجب على الناسي والمخطئ، فهو من هذا الباب، بمنزلة دية المقتول خطأ، والكفارة الواجبة بقتله خطأ، بنص القرآن
وإجماع المسلمين وأما سائر المحظورات فليست من هذا الباب، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والترفه المنافي للتفث، كالطيب واللباس، ولو فدى كانت فديته من جنس فدية المحظورات، ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل، فأظهر الأقوال في الناسي والمخطئ إذا فعل محظورا، أن لا يضمن من ذلك إلا الصيد.(7/55)
وإن استدام لبس مخيط فيه، ولو لحظة، فوق المعتاد من خلعه فدى(1) ولا يشقه(2) (وكل هدي أو إطعام) يتعلق بحرم أو إحرام(3) كجزاء صيد، ودم متعة وقران، ومنذور(4) وما وجب لترك واجب(5) أو فعل محظور في الحرم(6).
__________
(1) أي لاستدامت عالمًا ذاكرًا، كابتدائه، ولو إشارة إلى خلاف أبي حنيفة حيث قيده بيوم.
(2) أي اللباس، إذا كان مخيطا، بل ينزعه، وإن غطى رأسه لأن شقه إتلاف مال لم يحتج إليه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم يعلى بن أمية ولم يأمره بشقه.
(3) أي بجناية بحرم، أو جناية بإحرام، فهو لمساكين الحرم، إن قدر يوصله إليهم، ويجب نحره بالحرم وفاقا لقوله تعالى: { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي واصلا إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم، بأن يذبح هناك، ويفرق لحمه على المساكين، قال ابن كثير: وهذا أمر متفق عليه، ولقوله: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ويجزئ بجميع الحرم، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
(4) أي أنه يجب نحره بالحرم.
(5) من واجبات الحج أو العمرة، فإنه يلزمه ذبحه في الحرم.
(6) كحلق وتقليم، ولبس مخيط، وتغطية رأس، وطيب، ومباشرة وغير ذلك.(7/56)
(فـ)ـإنه يلزمه ذبحه في الحرم(1) قال أحمد: مكة ومنى واحد(2) والأفضل نحر ما بحج بمنى(3) وما بعمرة بالمروة(4) ويلزمه تفرقة لحمه، أو إطلاقه لمساكين الحرم(5) لأن القصد التوسعة عليهم(6) وهم المقيم به(7) والمجتاز، من حاج وغيره(8) ممن له أخذ الزكاة لحاجة(9).
__________
(1) لقوله تعالى: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، وقوله في جزاء الصيد: { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } وقيس عليه الباقي.
(2) لما روى أحمد وغيره، عن جابر مرفوعا، «كل فجاج مكة طريق ومنحر».
(3) كهدي لفعله صلى الله عليه وسلم.
(4) خروجًا من خلاف مالك، فإنه يوجب ذلك.
(5) لقوله تعالى: { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ولظاهر قوله: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، والمقصود أنه يلزمه تفرقة لحم الهدي، بعد ذبحه، على مساكين الحرم، أو يلزمه إطلاقه إن لم يذبحه، لمساكين الحرم، ليذبحوه وظاهر تعبيرهم بالجمع، أنه لا يجزئ الدفع لواحد، إلا أن يقال المراد الجنس، وقال منصور: إلحاقه بالكفار أشبه.
(6) ولأنه نسك، يتعدى نفعه إلى المساكين فاختص بهم كالهدي.
(7) أي مساكين الحرم، هم المقيمون بالحرم.
(8) أي المجتاز بالحرم، من حاج وغيره، من غير أهل الحرم.
(9) كالفقراء والمساكين لا العاملين على الزكاة، ولا المؤلفة وغيرهم ممن له الأخذ من الزكاة مع الغنى، وله الدفع لمحتاج، ولو تبين غناه بعد، كالزكاة لا إلى فقراء الذمة، وهو مذهب مالك، والشافعي، ولا إلى حربي وفاقًا.(7/57)
وإن سلمه لهم حيا فذبحوه أجزأ(1) وإلا رده وذبحه(2) (وفدية الأذى) أي الحلق (واللبس ونحوهما) كطيب وتغطية رأس(3) وكل محظور فعله خارج الحرم(4) (ودم الإحصار، حيث وجد سببه) من حل أو حرم(5) لأنه صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه بالحديبية، وهي من الحل(6) ويجزئ بالحرم أيضًا(7).
__________
(1) لتعينه عما في ذمته.
(2) أي وإن لم يذبحوه استرده منهم وجوبا، وذبحه، لأن الله سماه هديا، والهدي يجب ذبحه، فإن أبى، أو عجز ضمنه، والطعام كالهدي، قال ابن عباس: الهدي والإطعام بمكة، وإن منع مانع من إيصاله إلى فقراء الحرم جاز ذبحه في غيره، جزم به الشارح وغيره، وصححه في تصحيح الفروع، لقوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } .
(3) وتقليم فيفرقه حيث وجد سببه.
(4) حيث وجد سببه، ووقت ذبحه حين فعله، وله الذبح قبله لعذر ككفارة قتل الآدمي والظهر واليمين.
(5) أي يجوز ذبحه حيث وجد السبب.
(6) ولا نزاع في ذلك، وأمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية وهي من الحل، واشتكى الحسين بن علي رأسه فحلقه علي، ونحر عنه جزورًا بالسقيا رواه مالك وغيره، ولأنه موضع تحلله، فكان موضع ذبحه، كالحرم.
(7) لما تقدم من الآيات، والأخبار، في الهدي، وغيره، وأنه قيس عليه الباقي.(7/58)
(ويجزئ الصوم)(1) والحلق (بكل مكان)(2) لأنه لا يتعدى نفعه لأحد فلا فائدة لتخصيصه(3) (والدم) المطلق كأضحية (شاة)(4) جذع ضأن، أو ثني معز(5) (أو سبع بدنة) أو بقرة(6) فإن ذبحها فأفضل(7) وتجب كلها(8).
(وتجزئ عنها) أي عن البدنة (بقرة)(9) ولو في جزاء صيد، كعكسه(10) وعن سبع شياه بدنة، أو بقرة مطلقًا(11).
__________
(1) بكل مكان وفاقا، وفي المبدع: لا نعلم فيه خلافا، لقول ابن عباس: الصوم حيث شاء.
(2) وفاقا.
(3) أي بمكان بخلاف الهدي ولعدم الدليل على التخصيص بمكان.
(4) بلا خلاف، والمراد غير المقيد، إذ المقيد بحيث يعينه.
(5) وفاقا.
(6) يعني أو سبع بقرة لقوله تعالى: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } وصح عن ابن عباس: شاة أو شرك في دم، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم النسك في خبر كعب بذبح شاة،والباقي مقيس.
(7) أي فإن ذبح البدنة أو البقرة عن الدم الذي عليه، فهو أفضل من غيره، لأنها أوفر لحما، وأنفع للفقراء من الشاة.
(8) أي البدنة أو البقرة لأنه اختار الأعلى لأداء فرضه، فكان حكمه واجبا كأعلى خصال الكفار إذا اختاره، ولا يقال: إن سبعها واجب، والباقي تطوع له أكله وهديته اختاره ابن عقيل، وصححه في تصحيح المحرر، والوجه الثاني: لا يلزمه إلا سبعها، قال ابن رزين: هذا أقيس وصوبه في تصحيح الفروع وقال: لها نظائر.
(9) وبالعكس لقول جابر: كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل له: والبقرة؟ فقال: وهل هي إلا من البدن؟ رواه مسلم، وهذا مذهب الجمهور.
(10) أي كما تجزئ البدنة عن بقرة وجبت، وعنه: لا تجزئ عنها في غير النذر، إلا لعدمها، واستظهره في المغني والشرح.
(11) أي سواء وجد الشياه أو عدمها، في جزاء الصيد وغيره، لإجزائهما عن سبعة، ومن لزمته بدنة أجزأه سبع شياه بلا نزاع، لأن الشاة معدولة بسبع بدنة، وهي دم كامل، وأطيب لحمًا فهي أعلى منها.(7/59)
باب جزاء الصيد(1)
أي مثله في الجملة إن كان(2) وإلا فقيمته(3) فيجب المثل من النعم فيما له مثل(4).
__________
(1) أي باب حكم جزاء الصيد، وهو ما يستحق بدله على من أتلفه، بمباشرة أو سبب، وهو واجب، لقوله تعالى: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } وتقدم قول الزهري: تجب الفدية على قاتل الصيد متعمدا بالكتاب، وعلى المخطئ بالسنة، وجزاء بالمد والهمز، مصدر: جزيته، جزاء بما صنع، ثم أوقع موقع المفعول، تقول: الكبش جزاء الضبع، وجزي الشيء عنك وأجزأ إذا قام مقامك.
(2) أي مثليا، فلا يقال: لا بد من المماثلة بالجملة، بل تكفي ولو أدنى مشابهة أو مقاربة، ليس المراد حقيقة المماثلة، فإنها لا تتحقق بين الأنعام والصيد وإنما أريد بها من حيث الصورة ويعتبر الشبه خلقة لا قيمة، كفعل الصحابة، وتقدم أن مرادهم في الجملة بعض الصور، وبالجملة جميع الصور.
(3) أي وإن لم يكن له مثل فعليه قيمته، وهو مخير بين ذبح المثل، أو تقويمه بدراهم يشتري بها طعاما فيدفعه، إلى مساكين الحرم، أو يصوم عن كل مد بر يوما، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحد قولي الشافعي ، والثاني على الترتيب.
(4) نص عليه، وهو نوعان، ما قضت فيه الصحابة، ففيه ما قضت، وما لم تقض فيه، فيرجع فيه إلى قول عدلين وأما الضبع فحكم فيه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.(7/60)
لقوله تعالى: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } (1) وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشا(2) ويرجع فيما قضت فيه الصحابة إلى ما قضوا به(3) فلا يحتاج أن يحكم عليه مرة أخرى، لأنهم أعرف(4) وقولهم أقرب إلى الصواب(5).
__________
(1) { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } (فَجَزَاءٌ) مبتدأ منون، خبره محذوف و(مثل) صفة أو بدل، { مِنَ النَّعَمِ } صفة لـ (جزاء) و { يَحْكُمُ بِهِ } صفة له أيضا أي يجب على المحرم جزاء مثل ما قتله، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي، وهو مذهب مالك، والشافعي، وخالف أبو حنيفة، وما حكم به الصحابة، وذهب إليه الجمهور، أولى بالاتباع، وقرئ بالإضافة والعطف، وفي كل منهما دليل لما ذهب إليه الجمهور.
(2) رواه أبو داود وغيره، بسند صحيح، عن جابر قال: هو صيد ويجعل فيه كبش، وعن ابن عباس نحوه، ويأتي ذكر بعض قضايا الصحابة، وقال الأصحاب، هو إجماع منهم، وليس على وجه القيمة، ولأن اختلاف القيمة بالزمان والمكان جار.
(3) لقوله: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي يحكم بالجزء في المثل، أو بالقيمة في غير المثل والمراد ولو بعضهم فـ «أل» للجنس.
(4) بمراد الله ورسوله، شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وهم أعدل الأمة.
(5) وأعرف بمواقع الخطاب، فحكمهم حجة على غيرهم، ولا يقتضي تكرار الحكم، فكل ما تقدم لهم فيه حكم فهو على ذلك، قال أحمد وغيره: يتبع ما جاء عنهم، قد حكم فيه، وفرغ منه.(7/61)
ولقوله عليه السلام، «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم»(1) ومنه (في النعامة بدنة)(2) روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، وابن عباس ومعاوية(3) لأنها تشبهها(4) (و) في (حمار الوحش) بقرة روي عن عمر(5) (و) في (بقرته) أي الواحدة من بقر الوحش بقرة روي عن ابن مسعود(6).
__________
(1) هذا الأثر لا يصح، وقال ابن حزم: كذب موضوع، وإنما الحجة في قول الصحابي إذا لم يخالفه غيره، ولا يجوز أن يستدل به في تصويب الاختلاف ولا بالأخذ بكل قول، إلا ما شهد له الشرع، وقال عليه الصلاة والسلام «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور» صححه الترمذي وقال: اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر حسنه الترمذي.
(2) أي: ومما في جزاء الصيد عن الصحابة في النعامة بفتح النون، من الطير، تذكر وتؤنث، والنعام اسم جنس، وقد يقع على الواحد، طير معروف، يشبه البدنة، ففيه بدنة، والمراد بالبدنة هنا البعير، ذكرا كان أو أنثى.
(3) ومالك والشافعي، وصاحبي أبي حنيفة، وأكثر العلماء.
(4) في كثير من صفاتها، فكان مثلا لها فدخل في عموم النص.
(5) وعروة ومجاهد والشافعي لأنها تشبهه.
(6) وعطاء، وعروة وقتادة والشافعي.(7/62)
(و) في الإيَّل على وزن قنب، وخلب وسيد بقرة، روي عن ابن عباس(1) (و) في الثيتل بقرة(2) قال الجوهري: الثيتل الوعل المسن(3) (و) في (الوعل بقرة) يروى عن ابن عمر أنه قال: في الأروى بقرة(4) قال في الصحاح: الوعل هي الأروى(5).
__________
(1) أخرجه ابن جرير وغيره، والإيَّل هو الذكر من الأوعال، ويقال الثيتل وقنب بكسر القاف، وتشديد النون المفتوحة ضرب من الكتان، وخلب بضم الخاء المعجمة، وتشديد اللام المفتوحة، البرق لا مطر فيه، وسيد بفتح السين وكسر الياء.
(2) هو والوعل كالإيَّل والثيتل بفتح المثلثة، وسكون المثناة من تحت وفتح التاء المثناة من فوق، وفي المحكم تقديم المثناة، وقال: هو الوعل عامة.
(3) الجوهري هو أبو نصر إسماعيل بن نصر بن حماد الجوهري نسبة إلى بيع الجوهر، أو لحسن خطه، الفارابي ارتحل إلى بلاد ربيعة ومضر، ثم عاد إلى خراسان، وأقام بنيسابور فبرز في اللغة، حتى كان من أذكياء العالم، وأعاجيب الزمان، توفي سنة ثلاث وتسعين وثلاث مائة، والثيتل بالمثلثة فمثناة الوعل، وقيل: المسن منها، وقيل: ذكر الأروى وفي المصباح، الأروية تقع على الذكر والأنثى من الوعول، وجنس من بقر الوحش ينزل الجبال.
(4) وهو من أولاد البقر ما بلغ أن يقبض على قرنه، ولم يبلغ أن يكون ثورا قال في القاموس: الأروى أنثى الوعول.
(5) وفي العباب: ذكر الأروى والصحاح، بفتح الصاد اسم مفرد، بمعنى الصحيح، يقال: صححه الله، فهو صحيح، وصحاح بالفتح، والجاري على الألسنة كسر الصاد، على أنه جمع صحيح، قال التبريزي: وهو المشهور وقدمه
في المزهر وبعضهم ينكره بالنسبة إلى تسمية هذا الكتاب وقال الدماميني: والمعنيان مستقيمان فيه، إلا أن يثبت عن مصنفه أنه سماه الصحاح بالفتح، فيصار إليه، واسمه تاج اللغة، وصحاح العربية قال فيه: أودعته ما صح عندي من هذه اللغة، بعد تحصيلها رواية، وإتقانها دراية، ومشافهتي بها العرب العاربة.(7/63)
وقال في القاموس: الوعل بفتح الواو، مع فتح العين، وكسرها، وسكونها: تيس الجبل(1) (و) في (الضبع كبش)(2) قال الإمام: حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش(3) (و) في (الغزالة عنز)(4).
__________
(1) له قرنان منحنيان وجمعه أوعال ووعول يقال: استوعلت الأوعال ذهبت في قلل الجبال، وتوعل الجبل علاه.
(2) بلا نزاع والضبع، بفتح الضاد، وضم الباء، ويجوز إسكانها جمعها أضبع، في القليل: وضباع، وضبع بضمتين وبضمة والذكر: ضبعان بالكسر، والأنثى ضبعة، كالذئب إلا أنه إذا مشى كأنه أعرج.
(3) رواه أبو داود بسند صحيح، وابن ماجه والشافعي، والدارقطني وغيرهم، وقضى به عمر، رواه مالك وغيره ورواه الدارقطني، عن ابن عمر: أنه قضى على جماعة في ضبع بكبش، والكبش فحل الضأن في أي سن كان، وقيل: إذا أثنى، وإذا أربع، والجمع أكبش، وأكباش.
(4) هي أنثى المعز، وفيها شبه الغزال، لأنه أجرد الشعر، منقطع الذنب، وكذا العنز من الظباء، والأوعال، والغزال من الظباء الشادن إلى طلوع قرنه، وقيل: قبل الإثناء، من حين تتحرك وتمشي، ثم هو ظبي، وهذا مذهب الشافعي وكذا الثعلب إن أكل وفاقا للشافعي، ومالك، وإذا كان الغزال الصغير من الظباء فالعنز الواجبة فيه صغيرة مثله.(7/64)
روي عن جابر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في الظبي شاة»(1) في (الوبر) وهو دويبة كحلاء، دون السنور، لا ذنب لها، جدي(2) (و)في الضب جدي قضى به عمر، وأربد(3) والجدي: الذكر من أولاد المعز، له ستة أشهر(4) (و) في (اليربوع جفرة) لها أربعة أشهر(5).
__________
(1) رواه مالك، وقضى به عمر، وابن عباس، وروي عن علي ، وقاله عطاء، وقال ابن المنذر، لا يعرف عن غيرهم خلافهم، ويقال له أيضا: تيس الجبل، وذلك اسمه إذا أثنى، ولا يزال ثنيا حتى يموت، والأنثى ظبية.
(2) قياسا على الضب، وهو مذهب الشافعي، وهذا التعريف للجوهري، وتمامه: ترجن في البيوت، وجمعها: وبر بفتح الباء، ووبار وعن ابن الأعرابي: الوبر الذكر، والأنثى وبرة، وهي في عظم الجرذ، إلا أنها أنبل، وأكرم وهي كحلاء، ولها أطباء، وهي من جنس بنات عرس.
(3) براء مهملة بعدها باء موحدة مفتوحة، تميمي مفسر تابعي وقضى به عبد الرحمن بن عوف، وهو مذهب الشافعي، وقيل: فيه شاة، روي عن جابر وعطاء والجدي أقرب شبها إلى الضب من الشاة، والضب بفتح الضاد حيوان صغير، ذو ذنب، شبيه بالجرذون، بكسر الجيم، وقيل: الجرذون ذكر الضب، حكاه الجوهري وغيره.
(4) فأكثر، ما لم تسقط ثناياه.
(5) وهو مذهب الشافعي، قال ابن الزبير، فطمت ورعت، أي فصلت عن أمها، فأخذت في الرعي، وذلك بعد أربعة أشهر غالبًا، سميت بذلك لأنها جفرت جنباها، أي عظمتا، «واليربوع» هو الحيوان المعروف المشهور، رجلاه أطول من يديه والعامة تبدل ياءه جيمًا.(7/65)
روي عن ابن عمر، وابن مسعود(1) (و) في (الأرنب عناق) روي عن عمر(2) والعناق الأنثى من أولاد المعز، أصغر من الجفرة(3) (و) في (الحمامة شاة)(4) حكم به عمر، وعثمان وابن عمر، وابن عباس(5) ونافع بن عبد الحارث: في حمام الحرم(6).
__________
(1) وروي مرفوعا، والموقوف عن عمر وغيره أصح، وروى أثر ابن مسعود الشافعي وغيره، ورواه الشافعي عن جابر، ولمالك عن جابر أن عمر قضى في اليربوع بجفرة، وقال مالك: قيمة الوبر واليربوع كالضبِّ.
(2) رواه مالك عن جابر عنه، وللدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة، وهو مذهب الشافعي، والأرنب حيوان معروف، شهرته تغني عن وصفه، وهو مصروف، ليس بصفة، بل اسم جنس.
(3) تسمَّى: عناقا من حين تولد، إلى أن ترعى والصواب أنها فوق الجفرة لها ما بين ثلث سنة ونصفها، قبل أن تصير جذعة، والجمع أعنق وعنوق.
(4) وهو مذهب الشافعي، ومالك، وجمهور أهل العلم، لشبهها بها في كرع الماء.
(5) وغيرهم ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة، وحكم عمر، وابنه، وعثمان، رواه الشافعي، وحكم ابن عباس، رواه الشافعي وغيره، واشتهر قضاؤهم فيها، ورواه الشافعي أيضا عن جابر.
(6) وقال الأصحاب: هو إجماع الصحابة، وليس ذلك على وجه القيمة، ونافع ابن عبد الحارث بن خالد الخزاعي، صحابي فتحي، أمَّره صلى الله عليه وسلم على مكة، وأقام بها إلى أن مات رضي الله عنه.(7/66)
وقيس عليه حمام الإحرام(1) والحمام كل ما عب الماء، وهدر(2) فيدخل فيه الفواخت والوراشين(3) والقطا، والقمري، والدبسي(4).
وما لم تقض فيه الصحابة يرجع فيه إلى قول عدلين
__________
(1) وقد روي عن ابن عباس أنه قضى في حمامة حال الإحرام بشاة، لأنها حمامة مضمونة لحق الله، فضمنت بشاة، كحمامة الحرم، وهذا مذهب الشافعي.
(2) أي شرب الماء مرة واحدة من غير مص، كما تعب الدواب، وإنما يضع منقاره في الماء، فيكرع كما تكرع الشاة، ولا يأخذ قطرة قطرة، كالدجاج، والعصافير قال في الصحاح: الحمام يشرب الماء عبا كما تعب الدواب، وقال الكسائي: كل مطوق وهدر صوت وقيل: غرد، ورجع صوته كأنه يسجع فأوجبوا فيه شاة، لشبهه بها في كرع الماء.
(3) الفواخت جمع فاختة، طيور معروفة، ضرب من الحمام المطوق قال ابن بري: مشتقة من الفخت الذي هو ضوء القمر، والوراشين جمع ورشان بالتحريك، طائر يشبه الحمام، وحشي، لحمه أخف من الحمام، كنيته أبو الأخضر.
(4) القطا طائر مشهور، ومنه المثل: إنه لأصدق من قطاة: سميت بصوتها حيث تقول: قطا قطا، والقمري بضم القاف، ضرب من الحمام، واحدته قمرية، وجمعه قماري، قال الجوهري: منسوب إلى طير قمر، جبل أو موضع وقيل: الياء للمبالغة والدبسي بالضم اسم ضرب من الحمام، يقرقر والأنثى منه دبسية أدكن لونه بين السواد والحمرة، وفي كتاب غريب الحمام والأدبس الأخضر، وفيه حمرة وسواد، وهي الدبسة، قيل: إنه منسوب إلى طير دبس، أو دبس الرطب، قال أحمد: كل طير يعب الماء كالحمام، فيه شاة، فيدخل فيه الفواخت، والقمري والقطا، ونحوها لأن العرب تسميها حماما، وعلى قول الكسائي: كل مطوق حمام، فيدخل فيه الحجل لأنه مطوق إلا أنه لا يعب الماء ففيه خلاف.(7/67)
خبيرين(1) وما لا مثل له كباقي الطيور(2) ولو أكبر من الحمام فيه القيمة(3).
وعلى جماعة اشتركوا في قتل صيد جزاء واحد(4).
__________
(1) فيحكمان فيه بأشبه الأشياء به من حيث الخلقة، لا القيمة، كقضاء الصحابة لقوله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } ولأنه لا يتمكن من الحكم بالمثل إلا بها، ولا يشترط كونهما أو أحدهما فقيها، لظاهر الآية، ويجوز كون القاتل أحدهما أو هما لقول عمر، لأربد لما وطئ ظبيا: احكم يا أربد فيه، فحكم وأمضاه عمر رضي الله عنه، ولأنه حق لله كتقويم الزكاة، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، والمراد: لا عن عمد، لأجل العدالة.
(2) أما ما دون الحمام كسائر الطير، فيضمنه وفاقا بالقيمة، قال ابن عباس: ما أصيب من الطير دون الحمام ففيه الدية، أي يضمنه بقيمته في موضعه الذي أتلفه فيه، وهذا هو الضرب الثاني.
(3) وفاقا للشافعي، وفي الإنصاف: بلا نزاع، لأنه القياس خولف في الحمام، لقضاء الصحابة، والوجه الثاني: يجب شاة، وروي عن ابن عباس، وعطاء وكالحمام وأولى، وعلى الأول فيشتري بالقيمة طعاما، يفرقه على مساكين الحرم، أو يصوم عن كل مد يوما، وفاقا، كما تقدم إلا في أحد قولي الشافعي، ويضمن كبير وصغير، وصحيح ومعيب، وما خض بمثله، وذكر بأنثى وعكسه
لظاهر الآية، والهدي فيها مقيد بالمثل، ويجوز فداء أعور بأعرج، وعكسه لعدم المماثلة.
(4) سواء كفروا بالصيام أو غيره، للآية، فإنما أوجب تعالى المثل بقتله، فلا يجب غيره، وهو ظاهر في الواحد والجماعة.
والقتل هو الفعل المؤدي إلى خروج الروح، وهو فعل الجماعة، لا كل واحد، ولأنه صلى الله عليه وسلم جعل في الضبع كبشًا، ولم يفرق وهو قول عمر، وابنه وابن عباس، ولم يعرف لهم مخالف، بخلاف ما إذا اشتركوا في قتل آدمي.
وإن أتلف بيض صيد ضمنه وفاقا، وكل ما يضمن في الإحرام يضمن في الحرم إلا القمل.(7/68)
باب حكم صيد الحرم(1)
أي حرم مكة(2) (يحرم صيده على المحرم والحلال) إجماعا(3).
__________
(1) أي وما يجب فيه، وحكم نباته، وحكم صيد حرم المدينة، ونباته، وما يتعلق بذلك والحرم قد يكون الحرام كزمن، وزمان، والحرم ما لا يحل انتهاكه ومكة حرم الله، والمدينة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) دفع به توهم أن المراد حرم مكة والمدينة، ودائرة حرم مكة قد نصبت عليها أعلام، في جهاتها الأربع، فحده من طريق المدينة من جهة التنعيم ثلاثة أميال، عند بيوت السقيا، ويقال: بيوت نفار، وتسمى إضاءة بني غفار، دون التنعيم، تعرف بمساجد عائشة، ومن جهة اليمن سبعة ، عند إضاءة لبن، ومن جهة العراق كذلك، على ثنية رجل، جبل بالمقطع، قطع منه حجارة الكعبة زمن ابن الزبير، ومن جهة الطائف وبطن نمرة كذلك، في شعب عبد الله بن خالد بن أسيد، ومن جهة جدة عشرة، عند منقطع الأعشاش، دون الشميسي وهو الحديبية وليست داخلة فيه، ومن جهة بطن عرنة، على طريق عرفة، أحد عشر ميلا وعلى تلك أنصاب مشهورة، ترى من بعد لارتفاعها، لم تزل معلومة نصبها الخليل عليه السلام، ثم قصي وقيل: ثم النبي صلى الله عليه وسلم ثم عمر، ثم عثمان، ثم معاوية، ثم عبد الملك، ثم الراضي للذي بالتنعيم، ثم المظفر بجهة عرفة، ثم صاحب اليمين، ثم العثماني.
(3) حكاه غير واحد، وقال بعض الأصحاب وغيرهم: ويحرم على دال لا يتعلق به ضمان، وهو مذهب مالك والشافعي، والكرخي من الحنفية، وكذا يحرم أكله، وتقدم أن له أن يأكل من الميتة ما يدفع به ضرورته، ولا يأكل الصيد عند الجمهور.(7/69)
لحديث ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة(1): «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله، إلى يوم القيامة»(2) (وحكم صيده كصيد المحرم) فيه الجزاء(3).
__________
(1) سنة ثمان من الهجرة، ومن خصوصيته أن يعاقب المريد للمعصية فيه، إذا كان عازما عليها، وإن لم يوقعها لقوله: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ومن يهم فيه بمعصية من المعاصي الكبائر، عالما، عامدا، قاصدا أنه ظلم ليس بمتناول قاله ابن عباس وغيره، وقال: هو أن تستحل من الحرم ما حرم عليك.
(2) أي حكم تعالى بتحريمه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بتحريمه، والمراد البقعة لا يقاتل أهلها، ولا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتفظ لقطتها، إلا من عرفها، ولا يحدث فيها حدثا، إلى يوم القيامة، أي مستمر تحريمها إلى قيام الساعة، فقال العباس: إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: إلا الإذخر متفق عليه، فمكة وما حولها كانت حرما قبل الخليل عليه الصلاة والسلام، في قول أكثر أهل العلم، لهذا الخبر المتفق عليه، وما جاء أن الخليل حرم مكة، فالمراد أظهر تحريمها وبينه.
(3) على المسلم المكلف وفاقا، كصيد الإحرام إن كان مثليا ضمنه بمثله وإلا بقيمته، والحرمتان تساوتا في المنع منه، سواء كان عمدا، أو خطأ إجماعا وكل ما يضمن في الإحرام، يضمن في الحرم، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه وفي الفروع وغيره: وإن قتل المحل صيدا في الحرم، بسهم أو كلب أو قتله على غصن في الحرم، أصله في الحل ضمنه وفاقا، لأن الشارع لم يفرق بين من هو
في الحل أوالحرم، ولأنه معصوم في الحرم كالملتجئ وعكسه بعكسه وفاقا، لأن الأصل الإباحة، وإن دخل سهمه أو كلب الحرم ثم خرج فقتله، لم يضمنه، وفاقا، ولو جرحه في الحل، فمات في الحرم حل ولم يضمنه.(7/70)
حتى على الصغير والكافر(1) لكن بحريه لا جزاء فيه(2) ولا يملك ابتداء بغير إرث(3) ولا يلزم المحرم جزاءان(4) (ويحرم قطع شجره) أي شجر الحرم(5) (وحشيشه الأخضرين)(6).
__________
(1) أي يحرم صيد الحرم، ويضمن حتى في حق الصغير، ويحرم ويضمن حتى في حق الكافر، والحرمة عامة، ولم ير أبو حنيفة ضمان الصغير والكافر، فـ حتى إشارة إلى خلافه، والحرمة قد تعلقت بمحله، بالنسبة إلى الجميع، فوجب ضمانه كمال الآدمي، بل هو آكد من المال، لأن حرمة الحرم مؤبدة، فلزمها الجزاء.
(2) استدراك من قوله: وحكم صيده كصيد الحرم، قيد استبداد الحرم بتحريم صيد بحريه، بخلاف المحرم، لكن لا جزاء فيه، وتقدم.
(3) أي لا يملك صيد الحرم ابتداء، ببيع أو هبة ونحوهما بغير إرث وفاقا، لدخوله في ملكه بالإرث، كما تقدم في المحرم.
(4) أي جزاء من جهة الحرم، وجزاء من جهة الإحرام، لدخول أحدهما في الآخر لعموم الآية.
(5) البري إجماعا.
(6) لا اليابسين، من الشجر، أو الحشيش لخروجهما بموتهما من الاسم الداخل في النهي، وقال الجوهري وغيره: الحشيش ما يبس من الكلأ ولا يقال له رطب، حشيش، والهشيم كالحشيش والعشب الرطب، والكلأ والخلا، يطلق على الجميع.(7/71)
اللذين لم يزرعهما آدمي(1) لحديث «ولا يعضد شجرها ولا يحش حشيشها»(2) وفي رواية «ولا يختلي شوكها»(3) ويجوز قطع اليابس، والثمرة(4) وما زرعه الآدمي(5) والكمأة والفقع(6).
__________
(1) فأما ما زرعه آدمي من البقول، والزروع، والرياحين فيباح أخذه، لأن في تحريمه ضررا على من زرعه، وهو منتفٍ شرعا، ولا جزاء فيه.
(2) ولقوله ولا يختلى خلاها قال أحمد: لا يحش الحرم، ويعم الأراك والورق، ويعضد بالبناء للمفعول، أي يقطع بالمعضد وهو آلة كالفأس.
(3) أي لا يحصد يقال: اختليته إذا قطعته وذكر الشوك دال على أن منع قطع غيره من باب أولى، وفي رواية ولا يعضد شوكه، فيحرم ولو كان فيه ضرر كعوسج، اختاره وصححه غير واحد من الأصحاب.
(4) وما انكسر ولم يبن كظفر منكسر.
(5) كقطع بقل،ورياحين وزرع إجماعا، وشجر غرس من غير شجر الحرم فإنه يباح أخذه، والانتفاع به، لأنه أنبته آدمي كزرع، ومملوك الأصل، وعليه عمل المسلمين، واختار في المغنى وغيره أن ما أنبته الآدمي من جنس شجرهم لا يحرم، كجوز، ونخل قياسا على ما أنبتوه من الزرع.
(6) لأنهما لا أصل لهما، فليسا بشجر، ولا حشيش، وقيل: ليستا نباتا، وإنما هما مودعتان، فيجوز أخذهما والكمأة نبت معروف، ينفض الأرض قال الطيبي أبيض من شحم، ينبت من الأرض، يقال له: شحم الأرض وفي الحديث «الكمأة من المن، والفقع ضرب من الكمأة»، قال أبو عبيد: هي البيضاء الرخوة، والجبأة إلى الحمرة، وفي القاموس: الفقع من الكمأة.(7/72)
وكذا الإذخر(1) كما أشار إليه بقوله: { إلا الإذخر } قال في القاموس: حشيش طيب الرائحة(2) لقوله عليه الصلاة والسلام «إلا الإذخر»(3) ويباح انتفاع بما زال، أو انكسر بغير فعل آدمي، ولو لم يبن(4) وتضمن شجرة صغيرة عرفا بشاة(5) وما فوقها ببقرة(6).
__________
(1) أي يجوز أخذه لاستثناء الشارع له.
(2) وذكره غير واحد، وهو بكسر الهمزة والخاء، الواحدة، إذخر نبت معروف عند أهل مكة، طيب الرائحة، له أصل مندفن، وقضبان دقاق، ينبت في السهل والحزن، كان يسقف به أهل مكة بيوتهم، من بين الخشب، ويسددون به الخلل، بين اللبنات في القبور.
(3) وذلك لما قال صلى الله عليه وسلم «لا يختلي خلاها» قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم، وبيوتهم، قال «إلا الإذخر»، متفق عليه.
(4) بفتح المثناة التحتية، وكسر الموحدة، أي ينفصل من خشب ونحوه، وحشيش ونحوه، قال الموفق، لا نعلم فيه خلافا، لأن الخبر في القطع، وفي الإنصاف وغيره: ولا يحرم عود وورق زالا من شجرة أو زالت هي بلا نزاع، ويباح رعي حشيش ونحوه، وفاقا للشافعي، واختاره وصححه غير واحد، لأن الهدي كانت تدخل الحرم فتكثر فيه، ولم ينقل سد أفواهها، فإباحة رعية كالمستفيض وللحاجة إليه أشبه قطع الإذخر، بخلاف الإحشاش لها منه فيحرم.
(5) وهذا مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة: بالقيمة.
(6) وهو مذهب الشافعي، وإن قطع غصنا في الحل، وأصله في الحرم ضمنه بلا نزاع.(7/73)
روي عن ابن عباس(1) ويفعل فيها كجزاء صيد(2) ويضمن حشيش وورق بقيمته(3) وغصن بما نقص(4) فإن استخلف شيء منها، سقط ضمانه(5) كرد شجرة فتنبت(6) لكن يضمن نقصها(7).
__________
(1) وابن الزبير، قال ابن عباس: في الدوحة بقرة، وفي الجزلة شاة، وقاله عطاء وغيره، وعمر أمر بقطع شجر كان بالمسجد، يضر بأهل الطواف، وفدى، والدوحة الشجرة العظيمة، والجزلة الصغيرة، فالمتوسطة بقدرها، وكالصيد يضمن بمقدر وجزم به وصححه غير واحد من الأصحاب.
(2) أي يفعل في الشجرة الصغيرة أو الكبيرة كما يفعل في جزاء الصيد، بأن يذبح الشاة أو البقرة، ويفرقها أو يطلقها لمساكين الحرم، كما مر، أو يقوم الشاة أوالبقرة، ويفعل بتلك القيمة كما يفعل بقيمة جزاء الصيد، بأن يشتري بها طعاما يجزئ في فطرة، فيطعم كل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوما.
(3) وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال الموفق، لا أعلم فيه خلافا، لأن الأصل وجوب القيمة ترك فيما تقدم لقضاء الصحابة فبقي ما عداه على مقتضى الأصل.
(4) يعني من الشجرة، كأعضاء الحيوان، ولأنه نقص بقلعه، فوجب فيه ما نقصه.
(5) أي الشجر والحشيش ونحوه، نص عليه، كما لو قطع شعر آدمي ثم نبت، .
(6) أي المردود لرجوعها كما هي، ويبقى الإثم، إن كان تعمد القطع للنهي عنه.
(7) أي الشجرة المردودة، إذا نقصت بالرد، كشعر الآدمي.(7/74)
وكره إخراج تراب الحرم، وحجارته، إلى الحل(1) لاماء زمزم(2) ويحرم إخراج تراب المساجد، وطيبها للتبرك وغيره(3) (ويحرم صيد) حرم (المدينة)(4) لحديث علي «المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا
يصلح أن تقطع منها شجرة، إلا أن يعلف رجل بعيره» رواه أبو داود(5).
__________
(1) المراد بالحرم هنا: غير المسجد، لتخصيص المسجد بالتحريم، كما هو ظاهر كلام جماعة واستظهره في الفروع وغيره، وقال ابن عباس وغيره: ولا يدخل من الحل، وقال أحمد: الخروج أشد، لكراهة ابن عمر، وابن عباس تعظيما لشأنه.
(2) فلا يكره إخراجه، قال أحمد: أخرجه كعب، ولخبر عائشة أنها كانت تحمله، وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، ورواه الترمذي، وقال: غريب حسن.
(3) وهو بدعة ولا أصل له في السنة.
(4) وهو مذهب مالك والشافعي، وكذا شجرها، وحشيشها والمدينة علم على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالغلبة لا بالوضع، وتواتر اسمها بالمدينة من الدين، ولهما «طابة» ولمسلم «إن الله سمى المدينة طابة»، وله إنها طيبة وإنها تنفي الخبث، سميت بذلك لأنها طهرت من الشرك، ولهما «تقولون يثرب، وهي المدينة»، قال أبو عبيد: يثرب أرض والمدينة بين ناحيتيها.
(5) زاد أحمد «ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها»، وفي الصحيحين «لا يقطع شجرها»، ولمسلم: «إني حرمت ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها.
ولمسلم أيضاً « لا يختلى خلاها، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين » وفي الصحيح « المدينة حرم، ما بين عائر إلى كذا » وفي لفظ « من عير إلى كذا » ولمسلم «من عير إلى ثور » ولهما « ما بين لابتيها حرام » زاد مسلم: وجعل اثني عشر ميلاً حول المدينة حمى. ولهما « إن إبراهيم حرم مكة، ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة، كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت في صاعها ومدها، بمثلي ما دعا إبراهيم لأهل مكة " وفي تحريمها أخبار كثيرة(7/75)
(ولا جزاءَ) فيما حرم من صيدها، وشجرها، وحشيشها.
قال أَحمد في رواية بكر بن محمد: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحداً من أصحابه حكموا فيه بجزاء(1)
(ويباح الحشيش) من حرم المدينة (للعلف) لما تقدم(2)
__________
(1) قال في الفروع: واختاره غير واحد، وفاقاً للأئمة الثلاثة، وأكثر العلماء، لأنه يجوز دخولها بغير إحرام، ولا تصلح لأداء النسك، وذبح الهدايا، وقال الشيخ: إذا دخل عليه صيد، لم يكن عليه إرساله، لخبر أنس « يا أبا عمير، ما فعل النغير ؟ » و النغير قيل: هو عصفور. وقيل: بلبل صغار العصافير كان يلعب به. متفق عليه، وفي الإنصاف: له إمساكه، لا أعلم فيه نزاعاً. ولأنه لا يلزم من الحرمة، الضمان.
(2) أي في حديث علي ولفظه « إلا أن يعلف رجل بعيره » قال الشيخ: ويؤخذ من حشيشه ما يحتاج إليه للعلف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، رخص لأهل المدينة في هذا، لحاجتهم إلى ذلك، إذ ليس حولهم ما يستغنون به عنه. وعنه: يسلب من العادي، ويتصدق به على فقراء المدينة، وسلب سعد عبداً يقطع شجراً ويخبطه، وأبى أن يرده عليهم،رواه مسلم. و«العلف» بفتح اللام، ما تأكله البهائم، يقال: علف الدابة، وأعلفها.(7/76)
(و) يباح اتخاذ (آلة الحرث ونحوه) كالمساند، وآلة الرحل، من شجر حرم المدينة (1) لما روى أَحمد، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة، قالوا: يا رسول الله، إِنا أصحاب عمل، وأَصحاب نضح، وإِنا لا نستطيع أَرضاً غير أرضنا، فرخص لنا. فقال " القائمتان، والوسادة، والعارضة، والمسند، فأَمَّا غير ذلك فلا يعضد، و لا يخبط منها شيءٌ "(2) والمسند: عود البكرة.(3)
ومن أدخلها صيداً فله إمساكه، وذبحه(4) (وحرمها ) بريد في بريد(5).
__________
(1) وآلته: هي ما يعمل من الخشب له، وهو ـ بالحاء المهملة ـ ما يجعل على البعير كالسرج، وهو أصغر من القتب.
(2) لا يعضد. أي لا يقطع، عطف تفسير، والقائمتان فسرا بقائمة الرحل، التي تكون في مقدمه. ومؤخره: والوسادة ؛ جمعها وسائد، وهي التي يكون محور البكرة عليها، والعارضة: التي يسقف بها المحمل، قال الشيخ: ولا يقطع شجره إلا لحاجة كآلة الركوب والحرث.
(3) وعود البكرة: محورها الذي تجرى عليه، والبكرة المحالة.
(4) نص عليه، لحديث « يا أبا عمير، ما فعل النغير ؟ » وهو طائر صغير، كان يلعب به، فدل على جواز الإمساك، لأن إمساكه يفضي إلى تلفه، بغير فائدة، فذبحه المفضي إلى جواز أكله أولى.
(5) من جهاتها الأربع، والبريد: أربع فراسخ.(7/77)
وهو (ما بين عير) جبل مشهور بها(1) (إلى ثور) جبل صغير، لونه إلى الحمرة، فيه تدوير، ليس بالمستطيل، خلف أحد من جهة الشمال(2)
__________
(1) عند الميقات، في الجنوب الغربي منها، قال الشيخ وغيره: جبل عند الميقات يشبه العير، وهو الحمار.
(2) قاله الشيخ وغيره: وقد أنكره غير واحد، منهم مصعب الزبيري، والحازمي، وجماعة، وقال عبد السلام بن مزروع البصري، صحبت طائفة من العرب، من بني هيثم، فمررنا بجبل خلف أحد، فقلت: ما يقال لهذا الجبل؟ قالوا: هذا جبل ثور، فقلت: ما تقولون؟ قالوا: هذا ثور، معروف من زمن آبائنا، وأجدادنا، وقال الحافظ، عن شيخه المراغي، نزيل المدينة: إن خلف أهل المدينة ينقلون عن سلفهم، أن خلف أحد من جهة الشمال، جبل صغير، إلى الحمرة
بتدوير، يسمى ثورًا، قال: وقد تحقق بالمشاهدة وقال المحب الطبري: علمنا أن ذكر ثور، في الحديث صحيح ، وأن عدم علم أكابر العلماء به، لعدم شهرته، وعدم بحثهم عنه اهـ، وحتى جاء في رواية الحديث إلى كذا، إشارة إلى عدم علمهم به.(7/78)
وما بين عير إلى ثور هو ما بين لابتيها(1) واللابة الحرة، وهي أرض تركبها حجارة سود(2).
__________
(1) وهو حد لحرمها من جهة المشرق والمغرب، وما بين جبليها حد لحرمها من جهتي الجنوب والشمال، قال الشيخ: وحرم المدينة هو ما بين لابتيها.
(2) وقاله الشيخ وغيره: وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حول المدينة اثنى عشر ميلاً حمى، رواه مسلم قال الشيخ: بعد ذكر حرم مكة، وأما المدينة فلها حرم عند الجمهور، كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في الدنيا حرم لا بيت المقدس ولا غيره، إلا هذان الحرمان، ولا يسمى غيرهما حرمًا، كما يسمى الجهال فيقولون: حرم القدس، وحرم الخليل، فإن هذين وغيرهما ليس بحرم، باتفاق المسلمين، ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث، إلا في وج، وهو واد بالطائف، وهو عند بعضهم حرم، وعند الجمهور ليس بحرم، قال الوزير: اتفقوا أنه غير محرم الاصطياد، ولا القطع إلا الشافعي، فقال: يمنع من صيدها وقتله، ولم يثبت فيه شيء.(7/79)
وتستحب المجاورة بمكة(1) وهي أفضل من المدينة(2) قال في الفنون: الكعبة أفضل من مجرد الحجرة، فأما والنبي صلى الله عليه وسلم فيها فلا والله(3).
__________
(1) وهو مذهب مالك والشافعي، إذا قدر على إظهار دينه، ولو كان يرى المنكر بها، وقال مالك: إن كان يرى المنكر بها ظاهرًا وجبت الهجرة.
(2) وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة وجماهير العلماء، وأحب البلاد إلى الله، وللترمذي وغيره وصححه «إنك لأحب البقاع إلى الله، وإنك لأحب البقاع إلي»، ولأن العمل فيها أفضل، فقد تظاهرت الأخبار أن الصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وعنه المدينة وفاقا لمالك، لأنها مهاجر المسلمين، ولترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في المجاورة فيها، وأنه يشفع لمن مات بها، وقال في الإرشاد وغيره، الخلاف في المجاورة فقط، وجزموا بأفضلية الصلاة وغيرها في مكة، واختاره الشيخ، واستظهره في الفروع، وقال الشيخ، المجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه، أفضل حيث كان.
(3) أي الحجرة أفضل، في رأيه رحمه الله، ويقسم على ذلك اجتهادًا منه، وليس كل مجتهد مصيبًا فإن الحق واحد.(7/80)
ولا العرش وحملته، ولا الجنة (1) لأَن بالحجرة جسداً لو وزن به لرجح اهـ (2). وتضاعف الحسنة والسيئة بمكان وزمان فاضل(3).
باب ذكر دخول مكة
وما يتعلق به من الطواف والسعي (4)
__________
(1) أي الحجرة أفضل منها، ومفهومه: تفضيل الأرض على السماء.
(2) أي كلام ابن عقيل، قال الشيخ: لم أعلم أحداً فضل التربة على الكعبة، غير القاضي عياض، ولم يسبقه أحد، ولا وافقه أحد اهـ. وحاشا أن يكون بيت المخلوق، أفضل من بيت الخالق جلا وعلا، وكذا عرشه، وملائكته وجنته، أما رسول الله صلى الهل عليه وسلم أفضل الخلق على الإطلاق، بإجماع المسلمين، والنسبة إلى المدينة: مدني. ومدينة المنصور، وهي بغداد: مديني.ومدائن كسرى: مدائني، ومدين مدْيَني.
(3) ذكره القاضي، والشيخ، وغيرهما، فالحسنات بالكمية بالإجماع، والسيئات بالكيفية، واختاره الشيخ وغيره، وحمل كلام ابن عباس عليه، واستدل بقوله (فلا يجزى مثلها ) أي: واحدة. وإن كانت عظيمة، «وتضاعف» أصلها: تتضاعف. حذفت التاء الأولى، أو الثانية.
(4) أي وصفة الطواف، والسعي، وما يتعلق بذلك، "ومكة» علم على جميع البلدة، وهي البلدة المعروفة، المعظمة المحجوجة، غير مصوفة، سميت "مكة": لأنها كانت تمك من ظلم فيها، أي: تهلكه. وقيل: لقلة مائها، وقيل: لأنها تمك المخ من العظم، مأخوذ من قولهم: مك الفصيل ضرع أمه وأمكه. إذا شرب ما فيه من اللبن، وتسمى "بكة» من البك وهو الإزدحام، ودق الأعناق لأنها تدق أعناق الجبابرة، إذا ألحدوا فيها، "وأم القرى"، ولها أسماء أخر، ويستحب الغسل لدخول مكة وفاقاً.
قال الشيخ: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يغتسل لدخول مكة، كما كان يبيت بذي طوى، وهو عند الآبار، التي يقال لها آبار الزاهر، فمن تيسر له المبيت بها والإغتسال، ودخول مكة نهاراً، وإلا فليس عليه شيء من ذلك.
وقال الترمذي: الصحيح ما روى نافع عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم،اغتسل لدخول مكة. وفي الإختيارات: ولا يستحب الغسل لدخول مكة، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، ولا لطواف الوداع، ولو قلنا باستحبابه لدخول مكة، كان نوع عبث للطواف، لا معنى له.(7/81)
(يسن ) دخول مكة (من أعلاها ) (1).
والخروج من أسفلها(2) (و) يسن دخول (المسجد) الحرام (من باب بني شيبة)(3) لما روى مسلم وغيره، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة، ارتفاع الضحى، وأناخ راحلته، عند باب بني شيبة، ثم دخل(4)
__________
(1) من ثنية كداء، بفتح الكاف والدال، ممدود، ومهموز، مصروف، وغير مصروف، طريق بين جبلين، يقال له «الحجون» المشرف على المقبرة، والدخول معه سنة، باتفاق أهل العلم، لما روى ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، دخل من الثنية العليا. وعن عائشة نحوه، متفق عليهما، وظاهره الإطلاق ليلاً أو نهارًا، ورواه النسائي في عمرة الجعرانة، وفي الإنصاف: دخولها نهارا مستحب بلا نزاع.
(2) من كدى بضم الكاف، والتنوين المعروف الآن بباب الشبيكة، عند ذي طوى، بقرب شعب الشافعيين.
(3) هو المعلم عليه بالكمر، يدخل معه بين المقام وزمزم، وهو باب السلام، والمسجد من قبل، هو المرصوف الآن بالرخام عليه صف من الأعمدة المصنوعة من نحاس محيطة به، فيها المصابيح، أهبط مما يليه بنحو درجة، وما سواه مزيد ، وتقدم أن الزيادة لها حكم المزيد.
(4) أي دخل المسجد من باب بني شيبة، المشهور اليوم، عليه عقد منصوب، علم عليه، فيسن دخول المسجد منه، باتفاق أهل العلم، وإن لم يكن على طريقه لهذا الخبر وغيره، أنه صلى الله عليه وسلم دخل منه، والدوران إليه لا يشق، ومن ثم لم يجر خلاف في سنيته، بخلاف التعريج على ثنية كدا، ولأنه جهة باب الكعبة، والبيوت تؤتى من أبوابها، ومن ثم كانت جهة باب الكعبة، أشرف جهاتها الأربع، وفيه الحجر الأسود، وصح أنه يمين الله في الأرض، ونسبة باب البيت إليه، كنسبة وجه الإنسان إليه، وأماثل الناس يقصدون من جهة وجوههم ومن قصد ملكًا، أم بابه وقبل يمينه.
وقال الشيخ: إذا أتى مكة جاز أن يدخل مكة، والمسجد من جميع الجوانب، لكن الأفضل، أن يأتي من وجه الكعبة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه
دخلها من وجهها، من الناحية العليا، من ثنية كداء المشرفة على المقبرة، ودخل المسجد من الباب الأعظم، الذي يقال له باب بني شيبة، ثم ذهب إلى الحجر الأسود، فإن هذا أقرب الطرق إلى الحجر الأسود، لمن دخل من باب المعلاة.
وفي الصحيحين عن عائشة: أول شيء بدأ به حين قدم مكة، أن توضأ ثم طاف بالبيت ثم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان كذلك، ثم معاوية، وعبد الله بن عمر، ثم ابن الزبير ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ولأن مقصوده بسفره زيارة البيت وهو في المسجد الحرام فلا يشتغل بغيره.(7/82)
.
ويسن أن يقول عند دخوله: بسم الله، وبالله ومن الله، وإلى الله(1) اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: افتح لي أبواب فضلك، ذكره في أسباب الهداية(2) (فإذا رأى البيت رفع يديه)(3).
__________
(1) وورد في دخول المسجد ما تقدم، فمسجد الحرام أولى.
(2) لابن الجوزي، وإن قال ما ورد في دخول المسجد بسم الله أعوذ بالله العظيم، إلى قوله: وافتح لي أبواب رحمتك، كان أولى.
(3) وكبر جزم به في المقنع والخرقي والرزكشي وغيرهم، وفي مراسيل مكحول، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة، فرأى البيت، رفع يديه وكبر، وقال: اللهم أنت السلام، إلى آخره ذكره البيهقي، والطبري، وابن القيم، وغيرهم، وهو مذهب الحنفية وبعض المالكية، والشافعية، وروي عن عمر وغيره، قال في المبدع: وهو قول الأكثر، قال الشيخ: ولم يكن قديمًا بمكة بناء يعلو البيت، فكان البيت يرى قبل دخول المسجد اهـ أو وصل نحو أعمى إلى محل يراه منه لو كان بصيرًا.(7/83)
لفعله عليه السلام، رواه الشافعي عن ابن جريج (1) (وقال ما ورد ) ومنه «اللهم أَنت السلام، ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام » (2)« اللهم زد هذا البيت تعظيماً، وتشريفاً، وتكريماً ومهابة، وبراً (3) وزد من عظمه وشرفه، ممن حجه واعتمره، تعظيماً وتشريفاً وتكريماً، ومهابة، وبراً » (4)
__________
(1) وقد ذكر ابن جرير وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال « اللهم زد هذا البيت تشريفاً » إلخ، قال الشيخ: فمن رأى البيت، قبل دخول المسجد فعل ذلك، وقد استحب ذلك من استحبه عند رؤية البيت، ولو كان بعد دخول المسجد، في حال سيره إلى البيت.
(2) لأن عمر كان يقول ذلك، رواه الشافعي، واستحباب الدعاء عند رؤية البيت لا نزاع فيه. «والسلام» اسم من أسماء الله تعالى، فهو سبحانه السالم من كل عيب ونقص، ومنه السلام تعالى لمن أكرمه بالسلامة، أي التحية، ورفع الدرجة، أو السلامة من الآفات «حينا ربنا بالسلام » أي: الأمْنِ مما جنيناه، والعفو عما اقترفناه، أو بالسلام من الآفات، وقيل: التحية. لتعلقه بها.
(3) بكسر الموحدة، اسم جامع للخير، وأصله الطاعة، «وتشريفاً» أي رفعة، وعلواً، «وتعظيماً» أي تبجيلاً، «وتكريماً » أي تفضيلاً، «ومهابة» أي تقديراً وإجلالاً.
(4) رواه الشافعي وغيره مرسلاً، ونحوه عند الطبراني، وسمعه سعيد ابن المسيب عن عمر، وفي بعض سياق الحديث، بدل «من عظمه»: من كرمه.
وتقديم، «تكريماً»، على «تعظيماً»، ورواه البيهقي عن عمر بسند لين. قالوا: وحكمة تقديم التعظيم على التكريم، في البيت، وعكسه في قاصديه، أن المقصود بالذات في البيت: إظهار عظمته في النفوس، حتى تخضع لشرفه، وتقوم بحقوقه ثم كرامته بإكرام زائريه، بإعطائهم ما طلبوه، وإنجازهم ما أملوه، وفي زائريه، وجود كرامتهم عند الله، بإسباغ رضاه عليهم، وعفوه عما جنوه، واقترفوه، ثم عظمته بين أبناء جنسه، بظهور تقواه وهدايته، ويرشد إليه ختم دعاء البيت بالمهابة، الناشئة عن تلك العظمة، إذ هي: التوقير والإجلال. ودعاء الزائر بالبر الناشئ عن ذلك التكريم، إذ هو الإتساع في الإحسان.(7/84)
.
« الحمد لله رب العالمين، كثيراً، كما هو أهله (1) وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله » (2) والحمدلله الذي بلغني بيته، ورآني لذلك أهلاً (3) والحمد لله على كل حال (4) اللهم إنك دعوت إِلى حج بيتك الحرام (5) وقدجئتك لذلك (6).
__________
(1) أي أهل للحمد الكثير جل وعلا، فهو المحمود على كل حال، وفي كل حال، وله الحمد كله.
(2) أي وكما ينبغي الحمد لكرم وجهه، وكما ينبغي الحمد لعز جلاله، وعظمته، وكبريائه، فالحمد لله حمداً كثيراً.
(3) أي جعلني لتبليغ بيته أهلاً فالحمد لله على ذلك.
(4) وفي كل حال، لا في حال دون حال، بل له الحمد كله، أولاً و آخراً، وظاهراً وباطناً.
(5) أي المحرم، وسمي البيت «محرماً» لأن حرمته انتشرت، فلا يصاد عنده ولا حوله، ولا يختلى ما عنده من الحشيش، وأريد بتحريم البيت: سائر الحرم.
(6) أي لحج بيتك الحرام، متوسلاً بمجيئي إليك.(7/85)
«اللهم تقبل مني، واعف عني(1) وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت»(2) ويرفع بذلك صوته(3) (ثم يطوف مضطبعا)(4) في كل أسبوعه استحبابا(5) وإن لم يكن حامل معذور بردائه(6).
__________
(1) أي: تقبل: مني ما عملته في مجيئي إليك، واعف عني ما قصرت فيه من حقك، والعفو المحو مع الستر، وتقدم.
(2) ذكره الأثرم، وإبراهيم الحربي، وهو دعاء لائق بالمحل، وإن قال غيره فلا بأس، والشأن الأمر والحال، ثم ختمه بكلمة التوحيد، اعترافا له بالألوهية وحده، ويمكنه هذا الدعاء إذا دخل مع باب المسجد، أما إذا وصل البيت فقال الشيخ وغيره: لا يشتغل بدعاء.
(3) جزم به في المحرر والوجيز وغيرهما، لأنه ذكر مشروع، فاستحب رفع الصوت به كالتلبية.
(4) نصبا على الحال، والاضطباع سنة، باتفاق الأئمة، سواء كان معتمرا أو قارنا، أو مفردا، وهو هيئة تعين على إسراع المشي، ويكون في جميع طوافه، لما رواه أبوداود وغيره، طاف مضطبعا، وهو قول عمر، وكثير من العلماء، وقيل: حال رمله، والطواف من قولهم: طاف به، أي: ألم يقال: طاف يطوف طوافا، وطوفانا، وتطوف واستطاف كله بمعنى.
(5) أي يضطبع في كل الأشواط السبعة، استحبابا، عند جمهور أهل العلم لفعله صلى الله عليه وسلم.
(6) متعلق بمضطبعا، أي يضطبع بردائه، إن لم يكن حال طوافه حامل معذور، أي حامل شخص معذور، كان فوق عاتقه، كمريض وصغير، فلا يستحب في حق حامل المعذور اضطباع ولا رمل كما سيأتي.(7/86)
والاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر(1) وإذا فرغ من الطواف أزال الاضطباع(2) (يبتدئ المعتمر بطواف العمرة)(3) لأن الطواف تحية المسجد الحرام، فاستحبت البداءة به(4).
__________
(1) فيكون الأيمن مكشوفًا، على هيئة أرباب الشجاعة، إظهارا للجلادة في ميدان تلك العبادة، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لما روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسر، قال الشيخ وغيره: فإن تركه فلا شيء عليه.
(2) لأنه زمنه فقط، وليس بمستحب في الصلاة، ولا يسعى مضطبعا عند جماهير العلماء، لتركه عليه الصلاة والسلام للاضطباع حالة السعي بين الصفا والمروة، وكذا الخلفاء بعده.
(3) لأن الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ نسكهم إليها، أمرهم أن يطوفوا للعمرة، بدليل أنه أمرهم بالحل، ولم يحتج إلى طواف قدوم.
(4) أي بالطواف قبل تحية المسجد لمن طاف وإن لم يطف، كأن دخل في وقت منع الناس فيه من الطواف، أو كان عليه فائتة مكتوبة أو خاف فوت المكتوبة أو الوتر أو سنة راتبة، أو فوت الجماعة في المكتوبة، أو دخل المسجد غير مريد الطواف، لم يجلس حتى يصلي الركعتين، فإن الطواف تحية الكعبة، وتحية المسجد الصلاة، وتجزئ منها الركعتان بعد الطواف، ولا ينافي أن تحية المسجد الحرام: الطواف: لشرف الكعبة، وتحية الكعبة مقدمة على تحية المسجد، وبخلاف السلام على النبي صلى الله عليه وسلم لتقديم حق الله على حق الأنبياء.(7/87)
ولفعله عليه السلام(1) (و) يطوف (القارن والمفرد للقدوم)(2) وهو الورود(3) (فيحاذي الحجر الأَسود بكله) أَي بكل بدنه(4) فيكون مبدأَ طوافه(5).
__________
(1) كما في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول شيء بدأ به، حين قدوم مكة، أنه توضأ، ثم طاف بالبيت ؛ وعن عطاء: لما دخل مكة، لم يلو على شيء، ولم يعرج، ولا بلغنا أنه دخل بيتاً، ولا لها بشيء، حتى دخل المسجد، فبدأ بالبيت، فطاف به.
(2) أي قدوم مكة، وهو إتيانها من سفره.
(3) أي الدخول إليها، فيطوف للقدوم، لفعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا كذلك، واتفق الأئمة على أنه سنة من سنن الحج، وشدد فيه مالك، ويأتي.
(4) بأن يقف مقابل الحجر، حتى يكون مبصراً لضلعي البيت، الذي عن أيمن الحجر وأيسره، احترازاً من أن يقف في ضلع الباب، وإذا حاذى الحجر الأسود بجميع بدنه أجزأ، قولاً واحداً، قال الشيخ: فيبتدئ من الحجر الأسود، يستقبله استقبالاً، وذكر أنه هو السنة، وقال: وليس عليه أن يذهب إلى ما بين الركنين، ولا يمشي عرضاً، ثم ينتقل للطواف، بل ولا يستحب ذلك، وفي الخلاف: لا يجوز أن يبتدئه غير مستقبل له، ومن قال: يستقبل البيت، بحيث يصير الحجر عن يمينه. فهو خلاف السنة، وما عليه الأئمة، فلا يكون داخلاً في الخروج من الخلاف، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني، ولو فعله لنقل، وابتداء الطواف مما بين الركنين مخالف للإجماع.
(5) أي فيكون الحجر مبدأ طوافه إجماعاً، فإن بدأ من اليماني لم يعتد بما بينهما، وإن بدأ من دون الحجر الأسود، لم يعتد بذلك الشواط.(7/88)
لأَنه عليه السلام كان يبتدئُ به(1) (ويستلمه) أَي يمسح الحجر بيده اليمنى(2).
وفي الحديث «إنه نزل من الجنة، أَشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم» رواه الترمذي وصححه(3).
(ويقبله)(4) لما روى عمر أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر، ووضع شفتيه عليه، يبكي طويلاً، ثم التفت، فإِذا بعمر بن الخطاب يبكي، فقال « يا عمر ههنا تسكب العبرات»رواه ابن ماجه(5)
__________
(1) أي بالحجر اٍلأسود، لما ثبت أنه بدأ به، فاستلمه، وقال الشيخ: هو السنة.
(2) قاله الشيخ وغيره، «واستلم» افتعل، من السلام وهو التحية، وأهل اليمن يسمون الحجر الأسود «المحيا» لأن الناس يحيونه بالسلام، وقيل: افتعل. من المسالمة، كأنه فعل ما يفعل المسالم، واستلامه سنة بالإتفاق، لحديث جابر وغيره: فاستلم الحجر، ثم مضى عن يمينه. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، وفي الخبر «والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بها، ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق ».
(3) وله عن عبد الله بن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن الركن والمقام ياقوتتان، من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما، لأضاء لهما ما بين المشرق والمغرب » و«بياضاً» منصوب على الحال.
(4) إن أمكن، بلا صوت يظهر للقبلة، ولا يؤذي أحداً بالمزاحمة عليه، قاله الشيخ وغيره.
(5) فدل الحديث على سنية تقبيله، وثبت من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبله، وكان عمر يقبل الحجر، ويقول: إني لأعلم أنك حجر، لا تضر
ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، رواه الجماعة وإنما قاله عمر، لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي أن يظن الجاهل أن تقبيل الحجر من ذلك، فبين أنه لا يقصد به إلا تعظيم الله عز وجل، وفي الصحيحين عن ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، يستحبون تقبيل الحجر. فإن لم يمكنه ولم يصل إليه استلمه بيده وإن لم يصل إليه استقبله إذا(7/89)
.
نقل الأثرم: ويسجد عليه(1) وفعله ابن عمر وابن عباس(2) (فإن شق) استلامه، وتقبيله لم يزاحم، واستلمه بيده، و(قبل يده)(3).
__________
(1)
( ) أي نقل الأثرم صاحب الإمام أحمد، عن الإمام أحمد رحمه الله، أنه كان يقبله، ويسجد عليه، وعمر سجد عليه، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هكذا.
(2) أي السجود عليه، وقال ابن عباس: رأيت عمر، وإنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابن المنذر، والحاكم وصححه وللحاكم وصححه، ويضع جبهته عليه، وتقبيله والسجود عليه، مذهب الجمهور، وانفرد مالك ببدعة السجود عليه، واعترف القاضي بشذوذه عنهم.
(3) لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر «إنك رجل قوي، فلا تزاحم على الحجر، فتؤذي الضعيف، وإن وجدت خلوة فاستلم» رواه أحمد، ولأن الاستلام سنة، وترك الإيذاء واجب، فالإتيان بالواجب أولى، وتقبيل اليد بعد الاستلام مذهب الجمهور والأئمة، إلا في أحد قولي مالك، ويلاحظ جلالة البقعة، ويتلطف بمن يزاحم، ويعذره، ويرحمه، لأن الرحمة ما نزعت إلا من شقي.(7/90)
لما روى مسلم عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبل يده(1) (فإن شق) استلمه بشيء وقبله(2) روي عن ابن عباس(3) فإن شق ( اللمس أشار إليه) أي إلى الحجر، بيده أو بشيء ولا يقبله(4) لما روى البخاري عن ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الحجر أشار إليه بشيء في يده وكبر(5).
__________
(1) لملامسته بها الحجر، فدل على استحباب تقبيل اليد المستلم بها، اقتداء به صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين قال نافع: رأيت ابن عمر استلم الحجر بيده، ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وورد في فضل تقبيله واستلامه أحاديث كثيرة، منها: أنه يحط الخطايا، ويكتب له الطواف كذا وكذا، وكعدل رقبة، وغير ذلك، وخص الحجر بالتقبيل لما ثبت في فضله، وأنه من الجنة.
(2) أي الشيء المستلم به الحجر، وهذا على الترتيب فإن أمكنه تقبيل الحجر قبله، وإلا استلمه بيده وقبلها، وإلا استلمه بشيء، وقبل ذلك الشيء.
(3) أي أنه كان يستلمه بشيء، ويقبل ذلك الشيء، وأجود من ذلك ما في صحيح مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم يستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن، فدل على سنية ذلك، ولا يستحب للنساء تقبيل، ولا استلام، وإلا عند خلو المطاف ليلا أو نهارا.
(4) أي ولا يقبل ما أشار به إليه، وقال الشيخ وغيره، لأن التقبيل إنما جاء للماس للحجر.
(5) أي ولم يقبله، فالسنة ترك تقبيل ما أشار به إليه، اقتداء به صلى الله عليه وسلم وفي لفظ: كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر، فإذا لم يتمكن من التقبيل، أو اللمس، أشار إليه كلما أتى عليه، ولأن أشواط الطواف كركعات الصلاة، والاستلام أو الإشارة والتكبير كالتكبير في الصلاة، فيفتتح به كل شوط، كما يفتتح كل ركعة بالتكبير.(7/91)
(ويقول) مستقبل الحجر بوجهه كلما استلمه (ما ورد)(1) ومنه: بسم الله والله أكبر(2) اللهم إيمانا بك(3) وتصديقا بكتابك(4) ووفاء بعهدك(5).
__________
(1) أي من الأدعية اللائقة بالمقام، وسواء قبله أو أشار إليه، ويكون مستقبلا له حال الاستلام أو الإشارة إليه، قال الشيخ: استقباله بوجهه، هو السنة، ولأحمد من حديث عمر، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر.
(2) قطع به الأكثر، وقاله الشيخ وغيره، وقال بعضهم يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، لحديث ابن عباس، وحديث عمر وإلا فاستقبله وهلل وكبر، وبسم الله، أي أطوف والله أكبر، أي من كل شيء، ولا يرفع يديه، كما يكبر للصلاة، كما يفعله من لا علم عنده، بل هو البدع، جزم به ابن القيم وغيره.
(3) أي: أؤمن أو أطوف إيمانا بك، أي لأجل إيماني أنك حق، فعلت ذلك.
(4) حيث قال تعالى: { وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
(5) في قوله تعالى: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } فأجابوا وفاء لذلك العهد، وأصل الوفاء في اللغة التمام، يقال: وفى بالعهد وأوفى ووفَّى، وعن علي لما أخذ الله الميثاق، كتب كتابا فألقمه الحجر، فهو يشهد للمؤمن بالوفاء، وعلى الكافر بالجحود، ذكره أبو الفرج وغيره.(7/92)
واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم(1) لحديث عبد الله بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك عند استلامه(2) (ويجعل البيت عن يساره)(3) لأنه عليه السلام طاف كذلك، وقال: «خذوا عني مناسككم»(4) ويطوف سبعا(5).
__________
(1) حيث أمر بذلك، وفعله صلوات الله وسلامه عليه.
(2) أي الحجر الأسود، وللعقيلي نحوه، من حديث ابن عمر، والبيهقي وغيره، عن علي، وهو قول أكثر الفقهاء، قال الشيخ: وإن شاء قال: اللهم إيمانا بك إلخ.
(3) إجماعًا، فيقرب جانبه الأيسر إليه، وقاله الشيخ وغيره.
(4) أي: وحجوا كما رأيتموني أحج فيستلزم وجوب كل فعل فعله في حجه، إلا ما خصه دليل، ففي حديث جابر، أنه مشى على يمينه، فيجب أن يجعل البيت عن يساره، ويأخذ على يمينه بلا نزاع.
قال الشيخ: لكون الحركة الدورية تعتمد فيها اليمنى على اليسرى، فلما كان الإكرام في ذلك للخارج، جعل لليمنى، وأول ركن يمر به يسمى الشامي، وهو جهة الشام، ثم يليه الركن الغربي، وهو جهة الغرب، ثم اليماني جهة اليمن، وهو آخر ما يمر عليه من الأركان.
(5) قال في المطالع: بفتح السين أي سبع مرات، ويجوز ضمها، ويجوز سبوع وأسبوع،وجمعه: أسابيع اهـ، والمعروف سبعا بضم السين، والتاء محذوفة يريد الطوفات، وقال الوزير: اتفقوا على أن طواف القدوم سنة لمن قدم إلى مكة، وشدد فيه مالك، وقال: يعيده إذا رجع، وقال: اتفقوا على أنه سنة على أهل مكة، وعلى من أهل منها، إلا أبا حنيفة فقال: لا يسن لهم.(7/93)
يرمل الأفقي أي المحرم من بعيد من مكة (في هذا الطواف) فقط(1) إن طاف ماشيا، فيسرع المشي، ويقارب الخطا(2) (ثلاثا) أي في ثلاثة أشواط(3) (ثم) بعد أن يرمل الثلاثة أشواط(4).
__________
(1) أي طواف القدوم، مع الاضطباع دون غيره من الأطوفة، وقال الشيخ: ويستحب أن يرمل من الحجر إلى الحجر، في الأطواف الثلاثة، وقال الوزير وغيره: هو سنة باتفاق الأئمة، وقال في المبدع: لا نعلم خلافا في سنيته لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعا، رمل ثلاثة أطواف، ومشي أربعا، ورواه جابر وابن عباس وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم وهذا كان لسبب زال، وبقي المسبب، ويرمل من الحجر، إلى الحجر، قول الأكثر اهـ ويرمل بضم الميم مضارع، ورمل، بفتحها، قال الجوهري: الرمل بالتحريك، الهرولة قال ابن القيم: يسرع مشيه، ويقارب خطاه، وقال الشيخ: الرمل مثل الهرولة وهو مسارعة المشي مع تقارب الخطا.
(2) بلا نزاع ولا يثب وثبا، لأن ذلك ليس بمشي، فإذا فعله لم يكن آتيا بالرمل المشروع، ومفهومه، لا يكره طوافه راكبا بلا عذر، قال النووي: وهو قول الجمهور، لكنه خلاف الأولى، وفي المبدع: يجزئ مع العذر، بغير خلاف، لخبر ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بعير، ولحديث أم سلمة، ولغير عذر يجزئ في رواية لأن الله أمرنا بالطواف مطلقا، والثانية: لا لتشبيهه بالصلاة، وعلم منه، أن الطواف راجلاً أفضل بغير خلاف.
(3) جمع شوط، وهو جري مرة إلى الغاية، والمراد به هنا: الطوفة الواحدة حول الكعبة من الحجر إلى الحجر للأخبار.
(4) الأولى بالتعريف قال أبو البقاء: أجمعوا أنه لا يجوز إضافة ما فيه الألف واللام إلى النكرة.(7/94)
(يمشي أربعًا) من غير رمل(1) لفعله عليه السلام(2) ولا يسن رمل لحامل معذور ونساء(3).
__________
(1) أي يمشي أربع طوفات بلا رمل، لأن هيئاتها السكينة فلا تغير، قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها، إلا الإبقاء عليهم متفق عليه.
(2) في طواف القدوم، وليس في شيء من الأحاديث أنه طافه راكبا، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وابن عباس أنه رمل من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع، أي ابتدأ من الحجر الأسود، وأسرع حتى وصل إليه، وعن جابر، ثم مشى على يمينه، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، رواه مسلم، قال الترمذي وغيره: والعمل عليه عند أهل العلم، فإن قيل: رمل صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه لإظهار الجلد للمشركين، ولم يبق ذلك المعنى، إذ نفى الله المشركين، فلم أبقيتم الحكم بعد زوال علته؟ قيل: قد رمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حجة الوداع بعد الفتح، فثبت أنها سنة ثابتة.
وقال ابن عباس: رمل في عمره كلها، وفي حجه، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، والخلفاء بعده، رواه أحمد وغيره، وفي الصحيحين عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد، وهنتهم حمى يثرب، فأمر أصحابه أن يرملوا الثلاثة الأول، وكان هذا أصل الرمل، وسببه إغاظة المشركين، وكان في عمرة القضية ثم صار سنة، ففعله في حجة الوداع، مع زوال سببه، كالسعي والرمي، ولعل فعله باعث لتذكر سببه.
(3) أي: غير حامل شخص معذور، كمريض وصغير، فلا يسن في حق الحامل الطائف اضطباع، ولا رمل، ولا يسن لنساء، حكاه ابن المنذر إجماعا، لأنه إنما شرع لإظهار الجلد، وهو معدوم في حقهن.(7/95)
ومحرم من مكة أو قربها(1) ولا يقضي الرمل إن فات في الثلاثة الأول(2) والرمل أولى من الدنو من البيت(3) ولا يسن رمل ولا اضطباع في غير هذا الطواف(4) ويسن أن (يستلم الحجر والركن اليماني) في (كل مرة) عند محاذاتهما(5).
__________
(1) لعدم وجود المعنى الذي لأجله شرع، وهو إظهار الجلد والقوة لأهل البلد.
(2) لأنه هيئة فات محلها، ولا قياس يقتضيه ، وإن تركه في شيء من الثلاثة، أتى به فيما بقي منها، قال الشيخ: وإن تركه فلا شيء عليه.
(3) لأن المحافظة على فضيلة تتعلق بذات العبادة، أهم من فضيلة تتعلق بمكانها، قال الشيخ: فإن لم يمكن الرمل للزحمة، كان خروجه إلى حاشية المطاف والرمل، أفضل من قربه إلى البيت بدون الرمل، وأما إذا أمكن القرب من البيت، مع إكمال السنة فهو أولى، وإن حصل التزاحم في الأثناء فعل ما قدر عليه قال: ويجوز أن يطوف من وراء قبة زمزم، وما وراءها من السقائف، المتصلة بحيطان المسجد.
(4) أي طواف القدوم، وهو طواف العمرة للمعتمر، والقدوم للقارن والمفرد، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما فعلوا ذلك في الطواف الأول.
(5) بلا نزاع إن تيسر له استلام الحجر، وأما اليماني فعلى الصحيح، ويقبل يده عند استلامه الحجر، لما تقدم، دون اليماني، والاستلام، المسح، كما تقدم وعبارة الخرقي وغيره: ويقبل الحجر، فإن شق استلمه بيده وقبل يده، أو استلمه بشيء وقبله، كما تقدم، وهذا إجماع، وأما استلام اليماني فاتفقوا أنه مسنون إلا أبا حنيفة، فقال: ليس بسنة، وأما تقبيله فقال شيخ الإسلام: لا يقبل، وفي البدائع: لا خلاف أن تقبيله ليس بسنة، وجمهور أهل العلم، أنه لا يقبل، ولم يفعله صلى الله عليه وسلم كما قبل الحجر الأسود، فعلم أن ترك تقبيله هو السنة.(7/96)
لقول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني، والحجر في طوافه، قال نافع: وكان ابن عمر يفعله، رواه أبو داود(1) فإن شق استلامهما أشار إليهما(2) لا الشامي، وهو أول ركن يمر به(3).
__________
(1) ولمسلم عنه: ما تركت استلام هذين الركنين، منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما وعنه مرفوعا «إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا»، وقال: سمعته يقول: «إن مسحهما كفارة للخطايا»، ولأنهما بنيا على قواعد إبراهيم، فسن استلامهما وللطبراني بسند جيد: أنه كان إذا استلم الركن اليماني، قال: بسم الله، والله أكبر، وكلما أتى على الحجر الأسود قال: الله أكبر.
(2) أما الإشارة إلى الحجر الأسود إن شق عليه التقبيل، أو الاستلام بيده أو شيء فهو إجماع، وأما اليماني فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير إليه، ولو فعله لنقل، كما نقل الإشارة إلى الحجر الأسود، فالسنة ترك ما تركه صلى الله عليه وسلم كما أن السنة فعل ما فعله صلى الله عليه وسلم.
وما أحدثه بعض الموسوسة حين يستلم يرجع وراءه القهقري فيؤذي من خلفه، ويتأذى هو بدفعه فبدعة ومن أراد الخروج من العهدة وقف في محله واستلمه ورجع على حال طوافه، من غير عود إلى خلفه.
وما يفعله بعض الظلمة، يدفعون الناس، ولا يراعون الأول فالأول، ضرره كبير لا سيما عند الحجر، فربما استقبل البيت في سيره، أو استدبره فخرج عن حكم التيامن في الطواف المجمع عليه.
(3) فلا يستلمه ولا يقبله ولا يشير إليه إجماعًا.(7/97)
ولا الغربي ، وهو ما يليه(1) ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود { رَبَّنَا آَتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (2)
__________
(1) أي يلي الشامي فلا يستلمه، ولا يقبله، ولا يشير إليه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستلمهما، ولم يقبلهما، ولم يشر إليهما، بل ذلك بدعة، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وفي الصحيحين لم أره يمس من الأركان إلا اليمايين، وقال الشيخ: لا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمايين دون الشاميين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استلم اليمايين خاصة، لأنهما على قواعد إبراهيم، والآخران هما في داخل البيت، قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
فالركن الأول يستلم ويقبل، واليماني يستلم ولا يقبل، والآخران لا يستلمان ولا يقبلان، وأما سائر جوانب البيت، ومقام إبراهيم وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها ومقابر الأنبياء والصالحين كحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم ومغارة إبراهيم، ومقام نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه، وغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت المقدس، فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة، وذكر نحو ذلك ابن الملقن وغيره، وزاد، وإن التقبيل والاستلام تعظيم والتعظيم خاص بالله، ولا يجوز إلا فيما أذن فيه، قال الشيخ: وأما الطواف بذلك، فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه دينا، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
(2) لما رواه عبد الله بن السائب، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك، وقال شيخ الإسلام: كان صلى الله عليه وسلم يختم طوافه بذلك، كما كان يختم سائر دعائه بذلك اهـ.
ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم في الطواف غيره، وإن قال: اللهم
إني أسألك العفو والعافية، في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا إلخ فحسن
رواه أحمد عن أبي هريرة مرفوعا، «إن الله وكل بالركن اليماني سبعين ألف ملك، فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية، في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قالوا: آمين»، والدنيا من الدنو، أي: القرب، سميت بذلك لقربها من الأخرى، وقيل: لدنوها.(7/98)
.
وفي بقية طوافه: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا(1) رب اغفر وارحم، واهدني السبيل الأقوم(2) وتجاوز عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم(3)
__________
(1) أي اجعل حجي حجا مبرورا، أي: خالصا لا يخالطه مأثم، وقيل: متقبلا، وأصله من البر وهو اسم جامع لكل خير، واجعل سعيي سعيا مشكورا وعملا متقبلا يزكو ثوابه، ومساعي الرجل: أعماله الصالحة، واحدتها مسعاة واجعل ذنبي ذنبا مغفورا، والغفر العفو مع الستر: وذكره بعضهم حال الرمل.
(2) فيه تلويح لسلوك سبيل من سعى قبل، فكان سنة لمن بعده كالرمل.
(3) لأنه لائق بالمحل، فاستحب ذكره، كسائر الأدعية اللائقة بمحالها، وإن قال قبل ذلك: اللهم إن هذا البيت بيتك، يعني الكامل الواصل لغاية الكمال اللائق به من بين البيوت هو بيتك هذا لا غيره، والحرم حرمك أي الحرم الواصل إلى غاية الكمال اللائق به، هو حرمك وهذا مقام العائذ بك من النار يعني الخليل عليه السلام اللهم أعذني من النار، أي أجرني من عذاب النار، «ومن الشيطان الرجيم، أن يضرني، ومن أهوال يوم القيامة التي تذهل فيه المرضعة عما أرضعت واكفني مؤنة الدنيا والآخرة، رب قني شح نفسي» ولابن ماجه عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من طاف بالبيت سبعا، ولم يتكلم إلا بـ سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، محي عنه عشر سيئات، وكتب له عشر حسنات، ورفع له عشر درجات».
وقال الشيخ: ويستحب له في الطواف أن يذكر الله، ويدعوه بما شرع، وليس فيه ذكر محدود قد استحبه صلى الله عليه وسلم لا بأمره ولا بقوله، ولا بتعليمه بل يدعو فيه بسائر الأدعية الشرعية، وما يذكره كثير من الناس، من دعاء معين تحت الميزاب، ونحو ذلك، فلا أصل له، وليس في ذلك ذكر واجب، باتفاق الأئمة، وقال ابن القيم، لم يدع عند الباب بدعاء معين، ولا تحت الميزاب، ولا عند ظهر الكعبة، وأركانها، ولا وقت للطواف ذكرًا معينا لا بفعله ولا بتعليمه.(7/99)
.
وتسن القراءة فيه(1).
__________
(1) أي في الطواف لأنها أفضل الذكر، قال الشيخ: ولا يجهر بها، وقال أيضا: وإن قرأ القرآن سرا، فلا بأس به، وقال في موضع: جنس القراءة أفضل من الطواف اهـ والدعاء والذكر هو المتوارث عن السلف، فكان أولى، ومأثور الدعاء أفضل من القراءة، لأنها لم تحفظ عنه صلى الله عليه وسلم فيه وحفظ في غيرها، فدل على أنه ليس محلها بطريق الأصالة، وفي المبدع: وظاهره أنه لا يقرأ وهو رواية لتغليطه المصلين، والمذهب لا يقرأ اهـ والقراءة أفضل من دعاء غير مأثور.
ويستحب ترك الكلام، وكل عمل ينافي الخشوع، كالالتفات والتخصر وينبغي صون النظر عن كل ما يشغله، ويتأكد عما لا يحل كالنساء، والمرد، بشهوة فينزه طوافه عن كل ما لا يرتضيه الشرع، من القول والفعل، ولا يحتقر من فيه رثاثة أو جهل بالمناسك، أو غير ذلك، ولا ينبغي السلام على من يكون مشغولا بذكر، فكيف به حال الطواف؟ لاعتذار ابن عمر ممن يسلم عليه، لاستغراقه في حضوره، وقال الترمذي: أكثر أهل العلم يستحبون أن لا يتكلم في الطواف، إلا لحاجة، أو بذكر الله، أو من العلم.(7/100)
(ومن ترك شيئًا من الطواف) ولو يسيرًا من شوط من السبعة لم يصح(1) لأنه صلى الله عليه وسلم طاف كاملاً، وقال: «خذوا عني مناسككم»(2) (أو لم ينوه) أي ينوي الطواف، لم يصح(3) لأنه عبادة، أشبه الصلاة(4).
__________
(1) لأنه لم يأت بالعدد المعتبر، المستفاد من فعله صلى الله عليه وسلم، وإن أحدث في بعض طوافه، أو قطعه بفصل طويل عرفًا، ابتدأه، وإن كان يسيرا بنى لأنه يتسامح بمثله، لما في الاتصال من المشقة فعفي عنه، فلو أقيمت الصلاة، أو حضرت جنازة، صلى في قول أكثر أهل العلم، وروي عن ابن عمر وغيره، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، وبنى على طوافه، قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف فيه، إلا الحسن فإنه قال: يستأنف والأول أصح لأنه فعل مشروع، فلم يقطعه كاليسير، قال غير واحد: والموالاة سنة، لأن الحسن غشي عليه، فلما أفاق أتم، وعن أحمد: ليس بشرط مع العذر.
(2) أي أحكام حكم، وافعلوا كما أفعل، فيجب أن يطوف كاملا، اقتداء به صلى الله عليه وسلم وإن شك في عدد الطواف، بنى على اليقين، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك، لأنها عبادة، فمتى شك فيها وهو فيها، بنى على اليقين كالصلاة، فإن أخبره ثقة عن عدد طوافه قبل قوله، وإن شك في عدده بعد الفراغ منه، لم يلتفت إليه.
(3) أي لم ينو الطواف نية حقيقية ولا حكمية، كقصده ملازمة غريم، أو هضم طعام ونحوه، وإن نوى الطواف، ثم عرض ذلك له، لم يضره إلا أنه ينقص ثوابه.
(4) قال الشيخ: لا ريب أنه يشبه الصلاة من بعض الوجوه، ولأنه لا عمل إلا بنية إجماعًا.(7/101)
ولحديث: «إنما الأعمال بالنيات»(1) (أو) لم ينو (نسكه) أن أحرم مطلقا، وطاف قبل أن يصرف إحرامه لنسك معين، لم يصح طوافه(2) (أو طاف على الشاذروان) بفتح الذال، وهو ما فضل عن جدار الكعبة(3) لم يصح طوافه لأنه من البيت(4) فإذا لم يطف به، لم يطف بالبيت جميعه(5).
__________
(1) «وإنما لكل امرئ ما نوى»، وفي لفظ «لا عمل إلا بنية»، فالنية: هي الأساس في العبادة، ولأنه عبادة محضة تتعلق بالبيت، فاشترطت له النية كالصلاة وذهب أبو حنيفة وجمهور الشافعية إلى أنه لا يفتقر شيء من أفعال الحج مطلقا إلى نية، لأن نية الحج تشملها كلها، كما أن نية الصلاة تشمل جميع أفعالها، ولأنه لو وقف بعرفة ناسيًا أجزأه بالإجماع.
(2) لعدم التعيين، وقال الموفق: أو منكسا، بكسر الكاف وتفتح أي جعل البيت على يمينه، لم يصح نسكه إجماعا.
(3) وهو المرتفع عن وجه الأرض، قدر ثلثي ذراع، كان ظاهرا في جوانب البيت، كالذي عند الملتزم، وبالحجر، ثم صفح باجتهاد من المحب الطبري في تسنيمه.
(4) أي الشاذروان، زعموا أنه ترك من نفس البيت، وإنما جعل حمى له وعمادًا، وقال الشيخ: ليس من البيت، بل جعل عمادًا للبيت، فيصح الطواف عليه.
(5) أي إذا لم يطف بالشاذروان، بل دار عليه، لم يكن طاف بالبيت جميعه، بناء على أنه من البيت، وقال الشيخ: لو وضع يده على الشاذروان، الذي يربط فيه أستار الكعبة، لم يضره ذلك، في أصح قولي العلماء.(7/102)
(أو) طاف على (جدار الحجر) بكسر الحاء المهملة(1) لم يصح طوافه(2) لأنه صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر والشاذروان وقال «خذوا عني مناسككم»(3) (أو) طاف وهو (عريان أو نجس) أو محدث ( لم يصح ) طوافه(4)
__________
(1) سمي بالحجر، لتحجيره بالجدار، ليطاف من ورائه، وإن كان بعضه ليس من البيت، ويسمى الحطيم، كما يأتي لأنه محطوم من البيت، والأشهر أن الحطيم ما بين الحجر الأسود والمقام.
(2) لتركه جزءا من البيت، المجمع على الطواف على جميعه، فمتى ترك شيئا منه، لم يكن طاف به جميعه.
(3) لا نزاع أنه طاف من وراء الحجر، وقال لعائشة لما أرادت دخول البيت «عليك بالحجر، فإنه من البيت» فيجب أن يطوف من وراء الحجر إجماعًا، لأنه من أصل البيت الذي بناه الخليل إبراهيم عليه السلام، ومن لم يطف به لم يعتد بطوافه عند الجمهور، لفعله صلى الله عليه وسلم وإطباق المسلمين عليه، وشذ أبو حنيفة وقال: إن خرج أراق دما وإلا أعاده.
(4) قال الوزير: اتفقوا أن من شرائطه الطهارة، وستر العورة، إلا أبا حنيفة، فقال: سنة، إلا أنه يجب بتركهما دم، وعنه يجزئه، لأن الطواف عبادة، لا يشترط فيها الاستقبال، فلم يشترط فيها ذلك، كالسعي قاله في المبدع، ويجبره بدم، وظاهره صحته من حائض بدم، وهو ظاهر كلام جماعة، واختاره الشيخ وقال: ما يعجز عنه من واجبات الطواف، مثل من كان به نجاسة لا يمكنه إزالتها كالمستحاضة، ومن به سلس البول، فإنه يطوف ولا شيء عليه، باتفاق الأئمة.
وقال: وكذلك لو لم يمكنه الطواف إلا عريانا، وكذلك المرأة الحائض، إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا حائضًا، بحيث لا يمكن التأخر بمكة، في أحد قولي
العلماء الذين يوجبون الطهارة على الطائف، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا، فتطوف بالبيت والحالة، هذه، وتكون هذه ضرورة، مقتضية لدخول المسجد مع الحيض، والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة، بل يوافقها، إذ غايته سقوط الواجب، أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع العجز، ولا حرام مع ضرورة، وتتلجم، كما أبيح للمستحاضة دخول المسجد للطواف، إذا تلجمت اتفاقا لأجل الحاجة، وحاجة هذه أولى فلا يمتنع الإذن لها في دخول المسجد، لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة هذا إذا قيل: إنها ممنوعة من المسجد، وأما أن عبادة الطواف لا تصح مع الحيض كالصلاة فغايته، أن تكون الطهارة شرطًا من شروط الطواف، فإذا عجزت عنه سقط، كما لو انقطع دمها، وتعذر عليها الاغتسال، والتيمم، فإنها تطوف على حسب حالها، كما تصلي بغير طهور لقوله: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وهذه قد اتقت الله ما استطاعت فليس عليها غيره، بالنص وقواعد الشريعة، والأشبه: لا يجب عليها دم، لأن الطهارة واجب يؤمر به مع القدرة، لا مع العجز، وأحمد يقول: لا دم عليها، كما صرح به فيمن طاف جنبا وهو ناسٍ.
وقال ابن القيم: بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج، ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا.
وذكر أنه لم يدل على اشتراط الطهارة للطواف نص ولا إجماع، وإذا لم يمكنها إلا على غير طهارة، فليس عليها غيره، بالنص، وقواعد الشريعة.
وقال: لم تفرط ولم تترك ما أمرت به، فإنها لم تؤمر بما لا تقدر عليه، وقد لا يمكنها السفر مرة ثانية، فإذا قيل: تبقى محرمة إلى أن تموت، فهذا لا يكون مثله في دين الإسلام، فتطوف وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض، والطواف معه.(7/103)
.
.........................................................
لقوله عليه السلام «الطواف بالبيت صلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه» رواه الترمذي والأثرم عن ابن عباس(1)
__________
(1) قال النووي وغيره: رفعه ضعيف، والصحيح أنه موقوف، وقال الشيخ: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن هو ثابت عن ابن عباس، وقد روي مرفوعا، ولا ريب أنه يشبه الصلاة من بعض الوجوه، ليس المراد أنه نوع من الصلاة، التي يشترط لها الطهارة، وهذا كقوله: «إن العبد في الصلاة، ما دامت الصلاة تحبسه» «وما دام ينتظر الصلاة» «وإذا أتى المسجد، فلا يشبك بين أصابعه، فإنه في صلاة» ونحو ذلك.
وقال: والطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير، ولهذا يؤمر الطائف أن يكون متطهرا الطهارة الصغرى والكبرى، مستور العورة، مجتنبا النجاسة التي يجتنبها المصلي، وفي وجوب الطهارة في الطواف نزاع بين العلماء، فإنه لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالطهارة للطواف، ولا نهى المحدث أن يطوف ويمتنع أن يكون واجبا ولا يبينه للأمة، وتأخير البيان عن وقته ممتنع، إلا أنه طاف طاهرا، وثبت عنه أنه نهى الحائض عن الطواف ويأتي.(7/104)
ويسن فعل باقي المناسك كلها على طهارة(1) وإن طاف المحرم لابس مخيط صح وفدى(2) (ثم) إذا تم طوافه (يصلي ركعتين) نفلا(3).
__________
(1) لأنها أكمل وكذا سائر الأوقات، ينبغي أن يكون فيها على طهارة، وتقدم .
(2) أي حال كونه لابس مخيط، وتقدم.
(3) قال الشيخ: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفاق السلف والأئمة، وحكي وجوبها عن أبي حنيفة، وفي المبدع: وعنه وجوبها، وهي أظهر، وحكاه الوزير عن مالك، ورواية عن الشافعي، واتفقوا على مشروعيتهما ولما أتى صلى إلى المقام قرأ { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } بيانا منه لتفسير القرآن، ومراد الله منه، بفعله صلى الله عليه وسلم ويصح السعي قبل صلاة الركعتين، باتفاق الأئمة، وفي أسباب الهداية، يأتي الملتزم قبل الركعتين.(7/105)
يقرأ فيهما بـ«الكافرون»، و«الإخلاص» بعد «الفاتحة»(1) وتجزئ مكتوبة عنهما(2) وحيث ركعهما جاز(3) والأفضل كونهما (خلف المقام) لقوله تعالى: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (4)
__________
(1) أي سورة الإخلاص، وبـ«الكافرون» على الحكاية، لما رواه مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيهما { قل هو الله أحد } و { قل يا أيها الكافرون } وتقدم أن مشروعية قراءتهما لما اشتملتا عليه من التوحيد، واستحباب قراءتهما مجمع عليه، وإن قرأ غيرهما جاز.
(2) كركعتي الإحرام، وعند أبي حنيفة ومالك والشافعي، لا تجزئ كما لا تجزئ المنذورة وعنه: أنه يصليهما بعد المكتوبة قال أبو بكر: وهو أقيس، كركعتي الفجر.
(3) أي وفي أي مكان صلاهما جاز، ولو خارج المسجد، قال غير واحد: أجمع أهل العلم على أن الطائف، تجزئه ركعتا الطواف حيث شاء، وصلاهما عمر وغيره خارج الحرم، وفي المنتهى، والمبدع وغيرهما، وله جمع أسابيع بركعتين لكل أسبوع، وعليه، فلا تعتبر الموالاة بين الطواف وركعتيه، كما لا يكره الفصل بين الفرض وراتبته، بخلاف سجدة التلاوة ونحوها، فإنه يكره لأنه يؤدي إلى فواته.
(4) أي لصلاة الطواف، على وجه الاستحباب، عند جمهور المفسرين والفقهاء المعتبرين قال البغوي وغيره: وهو الحجرالذي يصلي إليه الأئمة اهـ وهو حجر تقدم أنه نزل من الجنة، قام عليه الخليل، لبناء البيت، وكان إسماعيل يناوله الحجارة، وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جدار الكعبة، وأثر قدمي الخليل فيه، قال أنس: رأيت فيه أصابعه، وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، ثم صفح بالفضة، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ملتصقا بالبيت، يمنة الداخل، ثم أخره عمر وأقره المسلمون، وهو نحو شبر ونصف طولا وعرضا، وضع عليه قبة من خشب، ثم من حديد، وعليه قبة عالية من خشب، قائم على أربعة أعمدة دقيقة من حجارة، بينها شبابيك من حديد، نصبت في القرن التاسع، فيصلي خلفه، لفعله صلى الله عليه وسلم متفق عليه، وما حوله مما يطلق عليه اسم المقام عرفا، ثم ما قرب من البيت خصوصا ما قرب من الملتزم والباب، ثم الحجر ثم ما قرب من سائر جوانب البيت، ويجوز في غير ذلك، لأن عمر ركعهما بذي طوى، رواه البخاري، ولا يشرع تقبيله ولا مسحه إجماعًا، ولا سائر المقامات وتقدم.
قال الشيخ وغيره: ولو صلى المصلي في المسجد والناس يطوفون أمامه لم يكره، سواء مر أمامه رجل أو امرأة، وهذا من خصائص مكة اهـ، ولا خلاف أنه يأتي الملتزم إن شاء، متضرعا كما سيأتي في موضعه، ويشرب من ماء زمزم، ويتضلع منه، وحاصل كلامه أنه يشترط لصحة الطواف عشرة أشياء، النية وستر العورة والطهارة من الحدث، والخبث وتكميل السبع، وجعل البيت عن يساره، وأن لا يمشي على شيء منه، ولا يخرج من المسجد، وأن يوالي بينه، وأن يبتدئ من الحجر الأسود فيحاذيه وكذا في الإنصاف وغيره، وزاد عثمان وغيره: إسلام وعقل، والمشي مع القدرة، وفي الرعاية وغيرها، وله شرب الماء فيه، وجوز بعضهم الأكل، وله الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وسننه عشر، استلام الحجر، وتقبيله أو ما يقوم مقامه، واستلام الركن اليماني، واضطباع ورمل في مواضعه، ودعاء، وذكر ودنو من البيت، وركعتا الطواف، ولو ترك شيئا من ذلك صح بالاتفاق، وكان تاركًا للسنة.(7/106)
.
..............................................................
فصل(1)
(ثم) بعد الصلاة يعود و(يستلم الحجر)(2) لفعله عليه السلام(3) ويسن الإكثار من الطواف كل وقت(4)
__________
(1) في السعي بين الصفا والمروة، والتحلل من العمرة، وما يتعلق بذلك، قال الشيخ: ولو أخر ذلك إلى ما بعد طواف الإفاضة جاز، فإن الحج فيه ثلاثة أطوفة، طواف عند الدخول، وهو يسمى طواف القدوم، والدخول والورود، والطواف الثاني هو بعد التعريف، ويقال له طواف الإفاضة، والزيارة وهو طواف الفرض الذي لا بد منه كما قال تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } والطواف الثالث هو لمن أراد الخروج من مكة وهو طواف الوداع، وإذا سعى عقب واحد منها أجزأه اهـ ولو لم يكن السعي متوقفا على تقدم الطواف عليه لما أخرته عائشة رضي الله عنها.
(2) قال الشيخ وغيره: هو سنة إجماعا.
(3) رواه مسلم وغيره، من حديث جابر وغيره، صلى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت ثم أتى الحجر بعد الركعتين، واستلمه، ثم خرج إلى الصفا، ورواه أحمد، وأهل السنن وغيرهم، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، فكل طواف بعده سعي، يسن أن يعود إلى الحجر فيستلمه إن أمكن لأن الطواف لما كان يفتتح بالاستلام، فكذا السعي، بخلاف ما إذا لم يكن بعده سعي.
(4) ليلاً ونهارًا، كلما بدا له، لأنه يشبه الصلاة، والصلاة خير موضوع، وطواف التطوع للغرباء أفضل من صلاة التطوع اتفاقا، لأنهم لا يمكنهم الطواف في بلدانهم، فكان الاشتغال به أولى، قال ابن عباس: من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وقال ابن عمر: من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه كان كعتق رقبة، وقال: لا يضع قدمًا، ولا يرفع أخرى إلا حط الله بها عنه خطيئة وكتب له بها حسنة.
قال الشيخ: والإكثار من الطواف من الأعمال الصالحة، فهو أفضل من أن يخرج الرجل من الحرم ويأتي بعمرة مكية، فإن هذا لم يكن من أعمال السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، ولا رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم أمته، بل كرهه السلف اهـ حتى قال أحمد: النظر إلى البيت عبادة، قال شيخنا: وأما في الصلاة فمأمور بنظره إلى موضع سجوده.(7/107)
.
(ويخرج إلى الصفا من بابه) أي باب الصفا ليسعى(1) (فيرقاه) أي الصفا(2) (حتى يرى البيت) فيستقبله(3).
__________
(1) أي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ويخرج إليه من أي باب شاء، لأن المقصود يحصل به، وإنما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من باب بني مخزوم وهو الذي يسمى باب الصفا، لأنه أقرب الأبواب إليه، فكان اتفاقا لا قصدا.
(2) أي يصعد عليه استحبابًا بلا نزاع، لفعله صلى الله عليه وسلم ورواه مسلم وغيره، وهو بالقصر الحجارة الصلبة واحدتها صفاة كحصاة والمراد به هنا: المكان المعروف عند المسجد، في طرف المسعى الجنوبي أسفل جبل أبي قبيس ورقي يرقى، صعد، بكسر القاف في الماضي، وفتحها في المضارع، وحكي فتحها وكسرها مع الهمز، قال الشيخ: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقى على الصفا والمروة، وهما في جانبي جبلي مكة، واليوم قد بني فوقهما دكتان، فمن وصل إلى أسفل البناء أجزأه السعي، وإن لم يصعد فوق البناء، وذكر الأزرقي وغيره أنه اثنتا عشرة درجة، وقال ابن بطوطة: وللصفا أربع عشرة درجة علياهن كأنه مصطب ومن تأمل علو الوادي اليوم، تيقن كثرة المدفون من درج الصفا.
(3) ولو لم يره، وليس بواجب، لأنه لو ترك صعوده فلا شيء عليه إجماعًا.(7/108)
(ويكبر ثلاثا(1) ويقول ما ورد) ثلاثا(2) ومنه «الحمد لله على ما هدانا(3) لا إله إلا الله وحده لا شريك له(4) له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير(5) وهو على كل شيء قدير(6) لا إله إلاالله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده»(7)
__________
(1) لما رواه مسلم وغيره، وفي لفظ «فوحد الله وكبره»، فيستحب توحيد الله وتكبيره، وتهليله.
(2) أي يكرر ما ورد من الأدعية على الصفا والمروة ثلاث مرات، لفعله صلى الله عليه وسلم.
(3) أن بلغنا مشاعر الحج.
(4) في ربوبيته ولا في إلهيته، ولا في أسمائه وصفاته.
(5) يحيي إلى آخره رواه النسائي وغيره، بسند صحيح.
(6) ولابن عمر من رواية إسماعيل، عن أيوب عن نافع: «لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون».
(7) زاد مسلم، «أنجز وعده» إلخ وأنه قاله ثلاث مرات، فيسن الدعاء بما دعابه صلى الله عليه وسلم ولا نزاع في ذلك، لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم وصدق الله وعده، يعني في إظهار الدين، «ونصر عبده» يعني محمدًا على أعدائه، والأحزاب الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء، والإشارة بالأحزاب هنا إلى الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الخندق، وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة والنضير وغيرهم.
وقال أحمد: يدعو بدعاء ابن عمر، وهو «اللهم اعصمني بدينك، وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك، وأنبياءك ورسلك، وأولياءك وعبادك الصالحين، اللهم يسرني لليسرى، وجنبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى، واجعلني من أئمة المتقين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين اللهم قلت (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم إذ هديتنا للإسلام فلا تنزعه مني، ولا تنزعني منه، حتى توفاني وأنا على الإسلام، اللهم لا تقدمني للعذاب، ولا تؤخرني لسوء الفتن».(7/109)
.
ويدعو بما أحب، ولا يلبى(1) (ثم ينزل) من الصفا (ماشيا إلي) أن يبقى بينه وبين (العلم الأول) وهو الميل الأخضر في ركن المسجد، نحو ستة أذرع(2).
(ثم يسعى) ماشيًا سعيًا (شديدا إلى) العلم (الآخر)(3)
__________
(1) لعدم فعله عليه الصلاة والسلام ولمسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلا عليه، حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه، فجعل يحمد الله، ويدعو بما شاء، ولأنه موضع ترجى فيه الإجابة.
(2) قول الماتن قاله جماعة وقدم غير واحد أنه يمشي حتى يأتي العلم، وما صرفه إليه الشارح، وهو أنه يمشي إلى أن يصير بينه وبينه ستة أذرع قاله آخرون، واختاروه واستظهره في الفروع، وصححه في التصحيح، وخرج بقوله: ماشيًا الراكب، وحامل المعذور، والمرأة، والصحيح من المذهب أن السعي راكبًا، كالطواف راكبًا، فإنه صح عنه أنه صلى الله عليه وسلم سعى ماشيًا، فلما كثروا عليه أتمه راكبًا، وقطع الموفق، والشارح، وغيرهما بجواز السعي راكبًا، لعذر وغيره، لأن المعنى الذي منع من أجله الطواف راكبًا غير موجود فيه، وقال أحمد: لا بأس به على الدواب لضرورة.
(3) فإنه صلى الله عليه وسلم نزل من الصفا يمشى، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا جاوز الوادي وأصعد مشي، وعليه الجماهير واستظهره في الفروع، وصححه في التصحيح، وسبب مشروعية السعي والله أعلم أن إبراهيم لما ترك هاجر وإسماعيل هناك، عطش فصعدت الصفا تنظر: هل بالموضع ماء؟ فلم تر شيئا فنزلت فسعت في بطن الوادي، حتى خرجت منه إلى جهة المروة، لأنها توارت بالوادي عن ولدها، فسعت شفقة عليه، فجعل ذلك نسكًا، إظهارًا لشرفها، وتفخيمًا لأمرها.
وعن ابن عباس: إنما سعى بين الصفا والمروة ليرى المشركين جلده وقوته، صححه الترمذي: وقال: وهو الذي يستحبه أهل العلم، وإن سعى ومشى رأوه جائزا، وله عن ابن عمر، لئن سعيت لقد رأيته يسعى، ولئن مشيت لقد رأيته يمشي، وأنا شيخ كبير، أي يشق عليه السعي، والسعي الشديد مشروط بأن لا يؤذي.(7/110)
وهو الميل الأخضر بفناء المسجد، حذاء دار العباس(1).
__________
(1) أي ركن المسجد، وإنما عبر به في الأول، وهنا بالفناء تفننا ودار العباس رباط معروف، منسوب إليه، والعلم في الأصل العلامة، والعلمان هنا هما ما عرفهما به، وفي مجمع البحرين، شيئان منحوتان من نفس جدار الحرم، علامتان لموضع السعي، وقال المطرزي وغيره: الميلان علامتان بموضع الهرولة في ممر بطن الوادي.
وقال ابن القيم وغيره: بطن الوادي هو ما بينهما لم يتغير، واستمر عمل المسلمين عليه، خلفًا عن سلف اهـ والسعي بينهما وإن لم يكن اليوم هو بطن الوادي باعتبار ما كان سابقًا، فإن ما بينهما كان منخفضًا، وطرفا المسعي من جهة الصفا والمروة مرتفعان.(7/111)
(ثم يمشي ويرقى المروة(1) ويقول ما قاله على الصفا(2) ثم ينزل) من المروة (فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، إلى الصفا(3) يفعل ذلك) أي ما ذكر من المشي والسعي (سبعًا(4) ذهابه سعية، ورجوعه سعية)(5).
__________
(1) وهي الحجارة البيضاء، البراقة أو الرخوة جمعها مروات، وجمع الكثير مرو، سمي بها المكان الذي في طرف المسعى الشمالي، واتفقوا على أن العقد الكبير المشرف، الذي بوجهها، هو حدها، علامة على أولها، وقال المحب الطبري وغيره: المروة في وجهها عقد كبير مشرف، قد تواتر كونه حدا، بنقل الخلف عن السلف، وكذا في مسالك الأبصار، وذكر الأزرقي وغيره أن على المروة خمس عشرة درجة، كحلت بالنورة في خلافة المأمون، وذلك قبل أن يعلو الوادي، ويتغطى أكثر الدرج، وعمارة العقد من جهة الملك الظاهر، سنة 880 هـ ضمن عمارة المنصور
(2) من التكبير، والتهليل، والدعاء مستقبلا القبلة، لما رواه مسلم وغيره، أنه صلى الله عليه وسلم فعل على المروة ما فعله على الصفا، فيسن اتفاقًا.
(3) كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إلى بطن الوادي، ثم يسعى فيه، وهو ما بين العلمين، ثم يمشي إلى المروة، قال الشيخ: وإن لم يسع في بطن الوادي بل مشى على هيئته، جميع ما بين الصفا والمروة، أجزأه باتفاق العلماء، ولا شيء عليه.
(4) لأن رواة نسك النبي صلى الله عليه وسلم اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم طاف بينهما سبعة أشواط.
(5) باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، قال الوزير وغيره: اتفق الأئمة أنه يستحب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية، وغلطوا الطحاوي وغيره مما قال الذهاب والرجوع شوط، وقال ابن القيم: لم ينقله أحد، ولا قاله أحد من الذين اشتهرت أقوالهم، فلا خلاف أنه بدأ بالصفا، وختم بالمروة.(7/112)
يفتتح بالصفا، ويختم بالمروة(1) ويجب استيعاب ما بينهما في كل مرة(2) فيلصق عقبه بأصلهما إن لم يرقهما(3) فإن ترك مما بينهما شيئًا ولو دون ذراع، لم يصح سعيه(4) (فإن بدأ بالمروة سقط الشوط الأول) فلا يحتسبه(5).
__________
(1) أي يفتتح سعيه بالصفا لقوله صلى الله عليه وسلم «ابدءوا بما بدأ الله به» وهو قوله تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ } فبدأ تعالى بالصفا، ولا يبدأ إلا بالأهم، وعن ابن عباس أنه قرأ الآية: وقال: نبدأ بالصفا، اتبعوا القرآن، فما بدأ به القرآن فابدءوا به، ويختم بالمروة، لقول جابر: فلما كان آخر طوافه يعني عند المروة قال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، ولجعلتها عمرة».
(2) فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رقى الصفا والمروة.
(3) أي أصل الصفا والمروة، بأول الدرج، والراكب يفعل ذلك بدابته.
(4) لتركه جزءا من المسعى الذي يجب استيعابه بالسعي.
(5) لمخالفة فعل النبي صلى الله عليه وسلم المستفيض عنه، ولأمره صلى الله عليه وسلم بالبداءة بالصفا، كما رواه النسائي وغيره، أنه قال: «ابدءوا بما بدأ الله به» وعن جابر «نبدأ بما بدأ الله به» فبدأ بالصفا، وقرأ { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ } بيانا لمراد الله، وتقريرا وصححه الترمذي، وقال: والعمل على هذا عند أهل العلم، أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزئه، وبدأ بالصفا.(7/113)
ويكثر من الدعاء والذكر في سعيه(1) قال أبو عبد الله: كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: «رب اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم»(2) ويشترط له النية وموالاة(3) وكونه بعد طواف نسك ولو مسنونًا(4) (وتسن فيه الطهارة) من الحدث، والنجس(5) (والستارة) أي ستر العورة(6).
__________
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم «إنما جعل السعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى».
(2) وروي أنه كان يقوله بين الميلين، وأبو عبد الله هو الإمام أحمد رحمه الله.
(3) أي بين أشواطه، اختاره الأكثر، فإن فصل يسيرًا أو أقيمت مكتوبة أو حضرت جنازة صلى وبنى وأما النية فالجمهور أنها شرط، لأنه عبادة قطعًا، فاعتبرت له، صححه غير واحد، وصوبه في تصحيح الفروع والإنصاف.
(4) كطواف القدوم، لأنه يصدق عليه أنه مسنون، وطواف نسك وتقدم،ولأنه الوارد عنه صلى الله عليه وسلم وحكي فيه الإجماع، لخبر عائشة وغيره، فلا يجوز بدونه، ولا بعد طوف نفل، وإن سعى قبل أن يطوف لم يجزئه السعي إجماعًا.
(5) كبقية المناسك، في قول أكثر أهل العلم، وفي الإنصاف: سنة بلا نزاع لأنه أكمل، ولا تجب لأنه عبادة لا تتعلق بالبيت، بل كالوقوف بعرفة، فاستحب له الطهارة ولم تجب فيه.
(6) لأنه إذا لم تشترط له الطهارة مع آكديتها فغيرها أولى.(7/114)
فلو سعى محدثًا، أو نجسًا، أو عريانًا أجزأه(1) (و) تسن (الموالاة) بينه وبين الطواف(2) والمرأة لا ترقى الصفا ولا المروة(3) ولا تسعى سعيا شديدا(4) وتسن مبادرة معتمر بذلك(5) (ثم إن كان متمتعا لا هدي معه قصر من شعره)(6).
__________
(1) لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالطهارة فيه، وليس بصلاة، فيشترط له ما يشترط لها، من طهارة وستارة ونحو ذلك.
(2) في ظاهر كلام أحمد، قال في المبدع: وهو الأصح، ورجحه الموفق وغيره، لأنه لا تعلق له بالبيت، فلم تشترط، فلو فصل بينهما بطواف أو غيره، أو طاف أول النهار، وسعى آخره أجزأه.
(3) لئلا تزاحم الرجال، وهو أستر، وقال ابن عمر: لا تصعد المرأة فوق الصفا والمروة، ولا ترفع صوتها بالتلبية رواه الدارقطني.
(4) وفاقا وحكى ابن المنذر الإجماع على أنها لا ترمل، لأنه يقصد لها التستر وقال ابن عمر: ليس على النساء رمل بالبيت، ولا بين الصفا والمروة فالمطلوب منها التستر، وفي هذا، وفي الصعود على الصفا والمروة تعرض للانكشاف والقصد بشدة السعي إظهار الجلد، وليس ذلك مطلوبا في حقها.
(5) أي بالطواف والسعي، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يلو على شيء، ولا دخل بيتًا، ولا اشتغل بشيء، بل بدأ بالبيت فطاف به، ثم خرج إلى الصفا والمروة، فسعى بينهما كما مر.
(6) إن كان له شعر، والمعتمر لا يتحلل إلا بالطواف والسعي، والتقصير أو الحلق، والقص هو الأخذ من الشعر بمقص أو غيره، وهو هنا أفضل من الحلق، لأمره صلى الله عليه وسلم به في حديث جابر وغيره.(7/115)
ولو لبده(1) ولا يحلقه ندبًا ليوفره للحج(2) (وتحلل) لأنه تمت عمرته(3)
__________
(1) أي يقصر من مجموع شعره، لا من جميعه، ولو كان لبده، لقوله «ولبدت رأسي» والتلبيد هو: جعل نحو خطمي وصمغ في شعر رأسه، لينضم الشعر، ويلتصق بعضه ببعض، احترازًا عن تمعطه وتقميله.
(2) ولأنه أكمل، ولقوله صلى الله عليه وسلم وليقصر وليحلل، فلم يأمره بالحلق ليبقى له شعر يحلقه في الحج، فإن الحلق في تحلل الحج، أفضل منه في تحلل العمرة، وقوله: «ويحلقوا، أو يقصروا» إن كان بحيث يطلع شعره، فإن الأولى له الحلق، وإلا فالتقصير، ليقع له الحلق، قال الشيخ: ويستحب له أن يقصر من شعره، ليدع الحلاق للحج، وكذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم اهـ ولا يحلق بعضه في أحدهما، وباقيه في الآخر، لأنه من القزع المنهي عنه.
(3) وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في غير ما حديث لما طافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، أن يحلوا، إلا من كان معه هدي، فيبقى على إحرامه حتى يتم حجه، وقاله الشيخ وغيره: ونزل عليه القضاء بين الصفا والمروة أن يأمرهم بالإحلال، ولما توقفوا من جعلها متعة قال: انظروا ما أمركم به فافعلوه.
قال الشيخ وغيره: وهو مذهب أهل الحديث، وإمامهم أحمد بن حنبل، وأهل الظاهر، لبضعة عشر حديثًا صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها «من تطوف بالبيت، وسعى ولم يكن معه هدي حل» ومنها أنهم لما راجعوه قال: «انظروا ما آمركم به فافعلوه» فردوا عليه فغضب، وأقسم طائفة من أصحابه أنه ما نسخ، ولا صح حرف واحد يعارضه، وأنهم لم يخصوا به، بل أجرى الله على لسان سراقة أن يسأله، فقال: «بل للأبد» وفي لفظ «بل لأبد الأبد» .
وتواتر عن حبر الأمة عبد الله بن عباس أنه قال: ما طاف بالبيت حاج، ولا غير حاج، إلا حل، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم لما تم سعيه أمر من لا هدي معه أن يحل حتما، ولا بد قارنا كان أو مفردًا، وأمرهم أن يحلوا الحل كله، من رداء وطيب وغيرهما، وأن يبقوا إلى يوم التروية.
وقال رجل لابن عباس: ما هذه الفتيا؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رغمتم، قال ابن القيم: صدق ابن عباس، كل من طاف بالبيت وسعى، ممن لا هدي معه، من مفرد أو قارن، أو متمتع فقد حل إما وجوبا، وإما حكما، هذه هي السنة التي لا راد لها، ولا مدفع، وقال أحمد لسلمة: عندي أحد عشر حديثا صحاحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتركها لقولك؟ ويقال أيضا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة المشركين، تعين مشروعيته إما وجوبا، وإما استحبابًا، وإذا حل حل له ما حرم عليه بالإحرام.(7/116)
.
(وإلا) بأن كان مع المتمتع هدي لم يقصر(1) و(حل إذا حج) فيدخل الحج على العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا(2) والمعتمر غير المتمتع يحل، سواء كان معه هدي أو لم يكن، في أشهر الحج أو غيرها(3).
(والمتمتع) والمعتمر (إذا شرع في الطواف قطع التلبية)(4) لقول ابن عباس يرفعه: كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر(5) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح(6) ولا بأس بها في طواف القدوم سرا(7).
__________
(1) ولم يحل حتى ينحر هديه والمفرد والقارن لا يحلان إلا يوم النحر.
(2) يوم النحر، لحديث ابن عمر وعائشة المتفق عليهما، قال الشيخ: ولو أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة لم يجز، على الصحيح، ويجوز العكس بالاتفاق.
(3) لفراغه من نسكه، واعتمر صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، سوى عمرته التي مع حجه، وكان يحل إذا سعى بلا نزاع، وقال ابن رشد: اتفقوا على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، قال ابن القيم: ومن هديه ذبح هدي العمرة عند المروة.
(4) وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، ونص أحمد كما ذكر الموفق وغيره أنه إذا استلم الحجر قطع التلبية.
(5) أي إذا شرع في الطواف، لأن التلبية إجابة إلى العبادة، وشعار الإقامة عليها، والأخذ في التحلل منافٍ، وهو يحصل بالطواف والسعي، فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل، فيقطعها، كما يقطع الحاج التلبية إذا شرع في رمي جمرة العقبة، لحصول التحلل به.
(6) ورواه أبو داود وغيره: قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قالوا: لا يقطع المعتمر التلبية حتى يستلم الحجر، وقال بعضهم: إذا انتهى إلى البيوت، والعمل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
(7) أي لا بأس بالتلبية حال طواف القدوم سرًّا، وكذا في السعي بعده، ويكره الجهر بها، لئلا يخلط على الطائفين، وقال النووي: الصحيح أنه لا يلبي في الطواف والسعي، لأن لهما أذكارا مخصوصة.(7/117)
باب صفة الحج والعمرة(1)
(يسن للمحلين بمكة) وقربها، حتى متمتع حل من عمرته (الإحرام بالحج(2) يوم التروية) وهو ثامن ذي الحجة(3) سمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه الماء لما بعده(4) (قبل الزوال)(5).
__________
(1) أي كيفيتهما،وبيان ما شرع فيهما من أقوال وأفعال، والأصل فيه حديث جابر، رواه مسلم وغيره.
(2) من مكة أو من الحرم، على ما سيأتي وحل من إحرامه فهو حال وأحل فهو محل.
(3) نص عليه، قال الوزير: اتفقوا على أنه يحرم بالحج يوم التروية وقبله، وقال مالك وأحمد: الأفضل يوم التروية، واستحب تقديمه أبو حنيفة، وفعله يوم التروية هو السنة، لفعله صلى الله عليه وسلم وأمره.
(4) إذ لم يكن بمنى ولا عرفات ماء، فيتزودون من الماء ما يكفيهم أيام منى وعرفات، وأما الآن فكثر الماء، واستغنوا عن حمله، أو لأنهم كانوا يروون إبلهم فيه، وقيل: لأن إبراهيم رأى في تلك الليلة أنه يذبح ابنه، فلما أصبح روى أي: تفكر في النهار إنما رآه من الله، فلما رأى الليلة الثانية، عرف أنه من الله، فمن ثم سمي يوم عرفة، فلما رأى الليلة الثالثة، هم بنحره فسمي يوم النحر، وقيل: لأن الإمام يروي مناسكهم.
(5) لحديث جابر: توجه قبل صلاة الظهر يوم التروية إلى منى، رواه مسلم وغيره.(7/118)
فيصلي بمنى الظهر مع الإمام(1) ويسن أن يحرم (منها) أي من مكة(2) والأفضل من تحت الميزاب(3) (ويجزئ) إحرامه (من بقية الحرم) ومن خارجه(4) ولا دم عليه(5).
__________
(1) إن أمكنه، لحديث ابن عمر، صلى الفجر يوم التروية بمكة، فلما طلعت الشمس راح إلى منى، فصلى بها الظهر، الحديث، واتفقت الرواة، أنه صلى الظهر بمنى، ومنى فرسخ من مكة.
(2) بلا نزاع، وظاهره، أنه لا ترجيح لمكان على غيره، والجمهور من منزله وحكي أنه لا نزاع فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم، فأهللنا من الأبطح، وكان منزلهم وقال الشيخ: السنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه، وكذلك المكي يحرم من أهله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «ومن كان منزله دون الميقات، فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون من مكة» وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرموا كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأهلوا من البطحاء، وكان منزلهم إذ ذاك، وقال ابن القيم، وأحرموا من منزلهم، ومكة خلف ظهورهم، ولم يدخلوا المسجد ليحرموا منه اهـ ويستحب أن يفعل عند إحرامه هذا ما يفعله عند الإحرام من الميقات، من الغسل، والتنظيف ويتجرد من المخيط.
(3) لم يذكره الأصحاب في الإيضاح، ولا المبهج، وقيل: من المسجد، والسنة من منزله كما فعل صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو الأفضل بلا ريب.
(4) قال الشيخ: هذا هو الصواب، لأن الأبطح خارج البلد، ولم يرد ما يوجب قصر الإحرام على الحرم.
(5) لعدم ورود وجوبه.(7/119)
والمتمتع إذا عدم الهدي وأراد الصوم سن له أن يحرم يوم السابع، ليصوم الثلاثة محرما(1) (ويبيت بمنى)(2) ويصلي مع الإمام استحبابا(3) (فإذا طلعت الشمس) من يوم عرفة (سار) من منى (إلى عرفة)(4).
__________
(1) يعني السابع والثامن والتاسع، فيكون آخرها يوم عرفة.
(2) يصلي بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، لحديث جابر: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، فركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء والفجر، وكل من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم، وسمي مني لأنه يمنى فيه الدم، أي: يصب.
(3) لصلاة الحاج معه صلى الله عليه وسلم بها الفروض الخمسة، قصرا بلا جمع، قال الشيخ: والإيقاد بمنى بدعة، مكروهة باتفاق العلماء.
(4) قال الشيخ: والسنة أن يبيت الحاج بمنى، فيصلون بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، لا يخرجون منها حتى تطلع الشمس، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فالمبيت بها، والمسير إذا طلعت الشمس، سنة باتفاق العلماء، قال: ويسيرون منها على طريق ضب، من يمين الطريق اهـ وهو المعروف الآن بطريق القناطر، والسنة في وصوله إلى عرفة أن يكون عليه، وافتراقه من مزدلفة، ينعطف على اليمين، قرب المشعر الحرام، وضب اسم للجبل الذي حذاء مسجد الخيف، قال ابن القيم: ومن أصحابه الملبي والمكبر، ولم ينكر على أحد منهم، وفيه حديث مرفوع، وقال الشيخ: ولا يزال يلبي في ذهابه من مشعر
إلى مشعر، مثل ذهابه إلى عرفات، وذهابه منها إلى مزدلفة حتى يرمي جمرة العقبة اهـ، وعرفة: اسم لموضع الوقوف، سميت: «عرفة»؛ لأن جبرئيل
حج بالخليل حتى إذا أتاها قال: عرفت روي عن علي وعطاء وغيرهما، وقيل: لعلو الناس على جباله، والعرب تسمى ما علا عرفة، وقيل: لأن الناس يتعارفون في ذلك اليوم، ويسمَّى، المشعر الحرام، والمشعر الأقصى، قال أبو طالب.
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له……إلا إلى تلك الشراج القوابل.(7/120)
فأقام بنمرة إلى الزوال(1) يخطب بها الإمام أو نائبه(2).
__________
(1) أي زوال الشمس عن كبد السماء إلى جهة المغرب، قال الشيخ: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهي: قرية كانت خارجة عن عرفات من جهة اليمين اهـ، وموضعها أكمة، عليها أنصاب الحرم، على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة، تريد الموقف، فهي شرقي شمالي عرفة، خراب اليوم، قال ابن الهمام: ونزول النبي صلى الله عليه وسلم بنمرة لا نزاع فيه، ولأبي داود وغيره عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة، وهو منزل الإمام الذي ينزل بعرفة، حتى إذا كانت عند صلاة الظهر، راح مهجرًا، فجمع بين الظهر والعصر، وفي حديث جابر: وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له.
(2) أي يخطب الإمام أو نائبه بعرنة، كما خطب النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم من حديث جابر، وروى الحاكم وغيره عن المستورد نحوه، قال عبد الحق: خطبته قبل الصلاة مشهورة،وعمل به الأئمة والمسلمون وقال الشيخ: يسير إليها من بطن الوادي: وهو موضع النبي صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه الظهر والعصر، وخطب وهو في حدود عرفة ببطن عرنة، وهناك مسجد يقال له، مسجد إبراهيم، يعني ابن محمد العباسي، لا الخليل وإنما بني في أول دولة بني العباس اهـ ثم زيد فيه من عرفة، والزيادة في نفس المسجد معلمة
بصخرات كبار فرشت هناك، فصدر المسجد من عرنة، وآخره من عرفة، وبين المسجد والحرم نحو ألف ذراع.(7/121)
خطبة قصيرة(1) مفتتحة بالتكبير(2) يعلمهم فيها الوقوف، ووقته،والدفع منه والمبيت بمزدلفة(3) (وكلها) أي كل عرفة (موقف(4) إلا بطن عرنة)(5).
__________
(1) قال سالم للحجاج: إن كنت تريد أن تصيب السنة، فقصر الخطبة وعجل الصلاة، قال ابن عمر: صدق، رواه البخاري، قال الشيخ: خطبة نسك لا خطبة جمعة.
(2) وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يفتتح خطبه بالحمد، وقال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع».
(3) فيذكر العالم، ويتعلم الجاهل، ثم ينزل فيصلي بهم الظهر والعصر قصرا، يجمع بينهما، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه.
(4) إجماعا فمن وقف في أي جزء كان من عرفات صح وقوفه، وحدها، من الجبل المشرف على عرنة، إلى الجبال المقابلة، إلى ما يلي حوائط بني عامر ويقال: قصور آل مالك، يبلغ طولها ميلين وكذا عرضها، قال الوزير: اتفقوا على أن عرفات وما قارب الجبل كله موقف، لقوله صلى الله عليه وسلم «وقفت ههنا، وعرفة كلها موقف» وأرسل للناس، أن يكونوا على مشاعرهم، ويقفوا بها، فإنها من إرث أبيهم إبراهيم، إلا ما كان من الحمس.
(5) بضم العين وفتح الراء والنون، الوادي الذي يقال له مسجد عرنة، وهي مسايل، يسيل فيها الماء إذا كان المطر، فيقال لها الجبال، وهي ثلاثة جبال أقصاها مما يلي الموقف، ذكره البكري وغيره.(7/122)
لقوله عليه السلام «كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة» رواه ابن ماجه(1) (وسن أن يجمع) بعرفة من له الجمع(2).
__________
(1) ولأنه لم يقف بعرفة، فلم يجزئه، كما لو وقف بمزدلفة، وحكاه ابن المنذر وغيره، إجماع الفقهاء، وقال الوزير وغيره: بطن عرنة لا يجزئ الوقوف به باتفاق الأئمة.
(2) يعني المسافر ومن له عذر، ممن تقدم في بابه، بخلاف المكي، وقال في الشرح الكبير، والصحيح أن الإمام يجمع، وكل من صلى معه، وقال الشيخ: فيصلي الإمام، ويصلي خلفه جميع الحاج، أهل مكة وغيرهم، قصرًا وجمعًا، كما جاءت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذهب أهل المدينة، وأحد الأقوال في مذهب الشافعي وغيره، ومن قال: لا يجوز القصر إلا لمن كان منهم على مسافة القصر، فهو مخالف للسنة.
وقال: ويصلي بعرفة ومزدلفة ومنى قصرًا، ويقصر أهل مكة، وغير أهل مكة، وكذلك يجمعون الصلاة بعرفة ومزدلفة، وكذلك كانوا يفعلون خلف أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه أحدا من أهل مكة أن يتموا الصلاة ولا قالوا لهم بعرفة ومزدلفة ومنى: أتموا الصلاة فإنا قوم سفر، ومن حكى ذلك عنهم فقد أخطأ وغلط غلطا بينا، ووهم وهما قبيحا وقال قولا باطلا، باتفاق أهل الحديث، ولكن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك في غزوة الفتح، لما صلى بهم بمكة، وأما في حجه فإنه لم ينزل بمكة، ولكن كان نازلا خارج مكة، وهناك كان يصلي بأصحابه، ثم لما خرج إلى منى وعرفة، خرج معه أهل مكة وغيرهم، ولما رجع من عرفة رجعوا معه، ولما صلى بمنى أيام منى صلوا معه، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ولم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم السفر بمسافة، ولا بزمان، وفيه أوضح دليل على أن سفر القصر، لا يتحدد بمسافة معلومة، ولا بأيام معلومة.(7/123)
(بين الظهر والعصر) تقديما(1) (و) أن (يقف راكبا)(2).
__________
(1) ليتفرغ للدعاء، قال الشيخ وغيره: فيصلي الظهر والعصر قصرا، إذا قضى الخطبة أذن ثم أقام، كما جاءت السنة بذلك، واستفاض النقل به، وفي حديث جابر: بأذان واحد وإقامتين.
وفي لفظ: ثم أذن بلال، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، لم يصل بينهما شيئا، ويشمل كل واقف بعرفة من مكي وغيره، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل بهم ذلك ولا يجهر بالقراءة.
(2) أي ويسن بعد الصلاة بعرنة، أن يذهب إلى عرفات إجماعًا، لقول جابر: ثم ركب حتى أتى الموقف، وأن يقف راكبا للخبر، ولأنه أعون على الدعاء إلى غروب الشمس، لكن لا يكاد يذهب أحد إلى نمرة، ولا إلى مصلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا القليل، بل يدخلون عرفات بطريق المأزمين ويدخلونها قبل الزوال، ومنهم من يدخلها ليلاً، ويبيتون بها، قبل التعريف، كما قاله الشيخ وغيره، وكما هو الواقع اليوم، قال: وهذا الذي يفعله الناس كله مجزئ معه الحج، لكن فيه نقص عن السنة.
قال ويجوز الوقوف ماشيا وراكبا، وأما الأفضل فيختلف باختلاف أحوال الناس، فإن كان ممن إذا ركب رآه الناس لحاجتهم إليه، أو كان يشق عليه الوقوف، وقف راكبا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكبا، وهكذا الحج فإن من الناس من يكون حجه راكبا أفضل، ومنهم من يكون حجه ماشيا أفضل، وقال ابن القيم: التحقيق أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة، من تعليم المناسك، والاقتداء به، وكان أعون له على الدعاء، ولم يكن فيه ضرر على الدابة.(7/124)
مستقبل القبلة(1) (عند الصخرات وجبل الرحمة)(2) لقول جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة(3) ولا يشرع صعود جبل الرحمة(4).
__________
(1) لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف كذلك، ولأبي نعيم عن ابن عمر مرفوعا «خير المجالس ما استقبل به القبلة».
(2) أي ويسن أن يقف عند الصخرات المنفرشة عند الجبل الذي هو بوسط أرض عرفات.
(3) رواه مسلم وغيره، فدل على سنية الموقف هناك، والقصواء هي التي كان يركبها في أسفاره، و«حبل المشاة» بالحاء المهملة، والحبل: المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه؛ وهو هنا اسم موضع فيه رمال مجتمعة، وإنما أضيف إلى الماشي، لأنه لا يقدر أن يصعد عليه إلا الماشي، وهو طريق المشاة، ومجتمعهم الذي يسلكونه، ويقفون فيه، والرمل باق فيه إلى الآن، وقد أجريت معه العين.
فموضع موقفه صلى الله عليه وسلم هو الفجوة المستعلية، التي عند الصخرات المفروشات، السود الكبار وبه مسجد، جداره فوق ذراع عند جبل الرحمة بحيث يكون أمامك إلى اليمين قليلا إذا استقبلت القبلة، وينبغي أن يقرب من موقف النبي صلى الله عليه وسلم بحسب الإمكان، وفي الفائق: المسنون تحري موقفه صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، واستقبالها مستحب في كل طاعة إلا لدليل ، وسواء كان جبل الرحمة بين يديه حال استقباله القبلة، أو خلفه، فإنه لم يرد في الشرع استقباله دون القبلة.
(4) إجماعًا قاله الشيخ وغيره، وقال: وأما صعود الجبل الذي هناك فليس من السنة، وكذلك القبة التي فوقه، التي يقال لها قبة آدم لا يستحب دخولها، ولا الصلاة فيها، والطواف بها من الكبائر.(7/125)
ويقال له: جبل الدعاء(1) (ويكثر الدعاء مما ورد)(2) كقوله «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير،(3) اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، ويسر لي أمري»(4).
__________
(1) لدعاء الناس هناك، ويقال له «إلال» على وزن «هلال»
(2) من الأدعية في ذلك اليوم العظيم، والموقف الكبير، والدعاء في مشاعر الحج بعرفة، ومزدلفة، ومنى، والصفا، والمروة، أفضل من القراءة، بالنص والإجماع، قال الشيخ: ولم يعين النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة دعاء، ولا ذكرا، بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية، ويكبر ويهلل، ويذكر الله تعالى، حتى تغرب الشمس.
(3) رواه أحمد والترمذي وغيرهما، وفيه: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله»، إلخ وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»، وقيل لسفيان بن عيينة: هذا ثناء، وليس بدعاء، فقال: أما سمعت قول الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني… حباؤك إن شيمتك الحباء؟
إذا أثنى عليك المرء يوما…كفاه من تعرضه الثناء
كيف وهي أعلى وأرفع مقامات الذكر والدعاء.
(4) رواه البيهقي وغيره وكقوله: «اللهم لك الحمد كالذي تقول وخيرا مما نقول» إلخ.. «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر» إلخ رواه الترمذي وغيره: «اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي» إلخ رواه الطبراني وغيره.(7/126)
ويكثر الاستغفار ، والتضرع، والخشوع، وإظهار الضعف والافتقار(1) ويلح في الدعاء(2).
__________
(1) والتذلل، وتفريغ الباطن والظاهر من كل مذموم، وليكن على طهارة في هذا المشعر العظيم، ويوم الحج الأكبر، فإنه موقف تسكب فيه العبرات، وتقال فيه العثرات، وهو أعظم مجامع الدنيا، فإذا فرغ قلبه، وطهره وطهر جوارحه، واجتمعت الهمم وتساعدت القلوب، وقوي الرجاء، وعظم الجمع كان جديرا بالقبول، فإن تلك أسباب نصبها الله مقتضية لحصول الخير، ونزول الرحمة ويجتهد أن يقطر من عينه قطرات، فإنها دليل الإجابة، وعلامة السعادة كما أن خلافه علامة الشقاوة، فإن لم يقدر على البكاء، فليتباك بالتضرع، والدعاء { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * } .
(2) لأنه يوم ترجى فيه الإجابة، ويرفع يديه، قال ابن عباس: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات يدعو، ويداه إلى صدره، كاستطعام المسكين، رواه أبو داود قال الشيخ: ويجتهد في الذكر والدعاء هذه العشية فإنه ما رؤي إبليس في يوم هو فيه أصغر، ولا أحقر، ولا أغيظ، ولا أدحض من عشية عرفة، لما يرى من تنزيل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رؤى في يوم بدر، وروى أبو ذر الهروي عن أنس مرفوعا، «إن الله يباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثا، غبرا، أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق، فاشهدوا أني قد غفرت لهم، إلا التبعات التي بينهم»، وقال: وأما التلبية في وقوفه بعرفة ومزدلفة، فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، وقد نقل عن الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم كانوا يلبون يوم عرفة.(7/127)
ولا يستبطئ الإجابة(1) (ومن وقف) أي حصل بعرفة(2) (ولو لحظة) أو نائما، أو مارا، أو جاهلا أنها عرفة(3) (من فجر يوم عرفة(4) إلى فجر يوم النحر(5)).
__________
(1) لقوله عليه الصلاة والسلام «ليدع أحدكم، ولا يستبطئ الإجابة فيقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي، فإن الله تعالى قال: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } » وإذا صادف يوم الجمعة يوم عرفة اجتمع فضيلتان، وفي آخر الجمعة ساعة الإجابة على الراجح، فيكون له مزية على سائر الأيام، قال ابن القيم: «وأما ما استفاض على ألسن العوام، أنها تعدل اثنتين وسبعين حجة، فباطل لا أصل له.»
(2) وقت الوقوف، وهو أهل له، صح حجه، فلا يقال: لا بد من الإرادة.
(3) صح حجه، صححه صاحب التلخيص، وجزم به الموفق، وهو مذهب الجمهور، ولو كان حصوله فيها لحظة لطيفة للخبر.
(4) هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وعنه: الوقوف من الزوال يوم عرفة، وفاقا للأئمة الثلاثة، واختاره الشيخ وغيره، وحكاه ابن المنذر وابن عبد البر إجماعا، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يقفوا إلا بعد الزوال وما قبله لا يعتد به، في قول أكثر الفقهاء، فإنه لم ينقل عن أحد أنه وقف قبله، فكأنهم جعلوا هذا الفعل مقيدا لمطلق خبر «من ليل أو نهار».
(5) إجماعا لقوله صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة» ثلاثا «فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك» رواه أحمد، وأهل السنن، بإسناد صحيح، وفي لفظ «الحج عرفة، فمن وقف ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه» رواه بمعناه أبو داود وغيره، وصححه الترمذي وغيره، وقال وكيع: هذا الحديث أم المناسك.(7/128)
وهو أهل له أي للحج، بأن يكون مسلمًا، محرمًا بالحج(1) ليس سكرانًا، ولا مجنونًا، ولا مغمى عليه (صح حجه)(2) لأنه حصل بعرفة في زمن الوقوف(3) (وإلا) يقف بعرفة(4) أو وقف في غير زمنه(5) أو لم يكن أهلا للحج (فلا) يصح حجه(6).
__________
(1) فالكافر لا يصح منه، وغير المحرم لا يعتبر وقوفه، لأنه لم يكن أهلاً للحج، فلا يعتبر وقوفه بعرفة.
(2) لانتفاء الموانع، وإن أفاق من ذكر، وحصل منه الوقوف، ولو لحظة صح حجه، ولا تشترط له الطهارة، فلو وقفت حائض، أو نفساء صح حجها إجماعًا لقصة عائشة وأسماء، وغيرهما.
(3) وهو أهل للحج، فصح حجه بالإجماع للأخبار.
(4) وقد تقدم ذكر حدودها لم يصح حجه، لقوله: «الحج عرفة» وقوله «وقد وقف بعرفة» لتركه ركنا من أركان الحج المجمع عليها، فلم يصح حجه.
(5) لم يصح حجه إجماعًا، لقوله: «من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر» الحديث قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أن من لم يقف بعرفات قبل طلوع الفجر فقد فاته الحج، ولا يجزئ عنه بعد طلوع الفجر، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل، وهو قول أهل العلم.
(6) سواء كان كافرا، أو غير محرم، أو سكرانًا أو مجنونًا بلا خلاف أو مغمى عليه لعدم أهليته.(7/129)
لفوات الوقوف المعتد به(1) (ومن وقف) بعرفة (نهارا، ودفع) منها (قبل الغروب(2) ولم يعد) إليها (قبله) أي قبل الغروب ، ويستمر بها إليه (فعليه دم) أي شاة(3) لأنه ترك واجبا(4) فإن عاد إليها، واستمر للغروب(5) أو عاد بعده قبل الفجر، فلا دم عليه(6) لأنه أتى بالواجب، وهو الوقوف بالليل والنهار(7).
__________
(1) ومن فاته الوقوف المعتد به فاته الحج، قال في المبدع وغيره: بغير خلاف نعلمه، لقوله: «الحج يوم عرفة، ومن جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد تم حجه» رواه أبو داود، ولأنه ركن للعبادة فلم يتم بدونه، كسائر أركان العبادة وتقدم أن من كان بينه وبين الموقف مقدار صلاة صلاها صلاة خوف، واختاره الشيخ.
(2) خالف السنة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينصرف حتى غابت الشمس وغاب القرص.
(3) وفاقا لأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وشدد مالك فقال: إن لم يرجع فاته الحج، والنص حجة عليه، وقال ابن عبد البر: لا نعلم أحدًا من العلماء قال بقوله.
(4) أي ومن ترك واجبا فعليه دم عند الجمهور.
(5) فلا دم عليه إجماعًا، لإتيانه بالواجب.
(6) كمن تجاوز الميقات بلا إحرام، ثم عاد إليه فأحرم منه.
(7) ومن أتى بالواجب فلا دم عليه، وتقدم قوله: وقد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه.(7/130)
(ومن وقف ليلا فقط فلا) دم عليه(1) قال في شرح المقنع: لا نعلم فيه خلافا(2) لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من أدرك عرفات بليل، فقد أدرك الحج»(3) (ثم يدفع بعد الغروب) مع الإمام أو نائبه(4) على طريق المأزمين(5).
__________
(1) لأنه لم يتصور منه انصراف قبل الغروب، وأجزأه الوقوف ليلاً، بالنص والإجماع، وأشبه من منزله دون الميقات.
(2) وكذا قاله الموفق وغيره، وفي الإنصاف: بلا نزاع.
(3) وللخمسة «من جاء ليلة جمع، قبل طلوع الفجر، فقد أدرك الحج»، وتقدم قوله: «من وقف بعرفة، ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه».
(4) لحديث علي «دفع حين غابت الشمس» رواه أبو داود، وقال: صحيح وفي حديث جابر: «لم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا»، رواه مسلم، ولأن فيه إظهار مخالفة المشركين، فإنهم كانوا يدفعون قبل أن تغيب الشمس، فقال: «وإنا ندفع بعد أن تغيب، مخالفا هدينا هديهم» وقال في المزدلفة عكسه، والأفضل أن يقف في مكانه، كيلا يؤذي ويخالف السنة
(5) بالهمزة، وكسر الزاي، مضيق بين الجبلين الذين بين عرفة ومزدلفة وكل طريق بين جبلين يقال له «مأزم» فالسنة في رجوعه من عرفة أن يكون على على طريق المأزمين، قال الشيخ: وهو طريق الناس اليوم، وإنما قال الفقهاء: على طريق المأزمين، لأنه إلى عرفة طريق أخرى، تسمى طريق ضب، ومنها دخل إلى عرفات، وخرج على طريق المأزمين، وكان في الأعياد والمناسك يذهب من طريق ويرجع من أخرى، وقال: إذا غربت الشمس يخرجون إن شاءوا بين العلمين وإن شاءوا من جانبيها، والعلمان الأولان حدود عرفة، فلا يجاوزونهما حتى تغرب الشمس، والميلان بعد ذلك حد الحرم، وما بينهما بطن عرنة.(7/131)
(إلى مزدلفة) وهي ما بين المأزمين، إلى وادي محسر(1) ويسن كون دفعه (بسكينة)(2) لقوله عليه السلام «أيها الناس السكينة السكينة»(3) (ويسرع في الفجوة)(4).
__________
(1) وكذا ما على يمين ذلك، وشماله من الشعاب، ونبهوا على ذلك، ليعلم أن أي موضع وقف الحاج منها أجزأ لأنه صلى الله عليه وسلم وقف بجمع،وقال: «ارفعوا عن بطن محسر» ومحسر بضم الميم، وفتح الحاء، وكسر السين المشددة بعدها راء، واد معروف، بين مزدلفة ومنى، ويأتي «ومزدلفة» سميت بذلك من الزلف، وهو التقرب ، لأن الحاج إذا أفاضوا من عرفة ازدلفوا إلى منى، أي تقربوا منها،ومضوا إليها، وتسمى جمعا، لاجتماع الناس بها، قال البغوي وغيره: هي ما بين جبلي المزدلفة، وليس المأزمان، ولا المحسر من المشعر الحرام.
وسئل عليه الصلاة والسلام عن المشعر، فسكت حتى هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة، فقال: «هذا المشعر الحرام» وكلها موقف إجماعا، قال الشيخ: يقال لها المشعر الحرام، وهي ما بين مأزمي عرفة إلى بطن محسر، وكلها موقف، لكن الموقف عند قزح أفضل، وهو جبل الميقدة،وهو المكان الذي يقف فيه الناس اليوم، وقد بني عليه بناء، وهو المكان الذي يخصه كثير من الفقهاء بالمشعر الحرام.
(2) أي تؤدة ووقار، وخضوع مستشعرًا فضل تلك المشاعر والوقت، مستغفرًا ذاكرا لله تعالى، وملبيا، لقوله: «ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة».
(3) بالنصب على الإغراء، أي الزموا السكينة، ألزموا السكينة، لما يرى من شدة انزعاجهم كما هو الواقع.
(4) بفتح الفاء وسكون الجيم، الفرجة بين الشيئين والمتسع أي سعة الطريق، قال الشيخ وغيره: ولا يزاحم الناس.(7/132)
لقول أسامة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص، أي أسرع(1) لأن العنق انبساط السير(2) والنص فوق العنق(3) (ويجمع بها) أي بمزدلفة، (بين العشائين)(4) أي يسن لمن دفع من عرفة أن لا يصلي المغرب حتى يصلي إلى مزدلفة، فيجمع بين المغرب والعشاء، من يجوز له الجمع(5) قبل حط رحله(6).
__________
(1) أي أسرع سيره فوق المعتاد، متفق عليه، ولمسلم عن جابر «أيها الناس السكينة السكينة»، كلما أتى حبلا أرخى لها قليلا حتى تصعد، والعنق بفتحات آخرها قاف.
(2) وأعنقت الدابة، سارت سيرا واسعا فسيحا ممتدا.
(3) نص الدابة استحثها شديدا.
(4) بلا نزاع، وقال ابن المنذر وغيره: لا اختلاف بين العلماء، أن السنة الجمع بينهما، لفعله صلى الله عليه وسلم رواه جابر وابن عمر وأسامة، والسنة أن لا يتطوع بينهما بلا نزاع.
(5) أي فالسنة بالإجماع لمن دفع من عرفة إلى المزدلفة، أي لا يصلي المغرب حتى يصل إلى المزدلفة، فيجمع بين المغرب والعشاء، بأذان واحد، وإقامتين لفعله صلى الله عليه وسلم وقالوا: لمن يجوز له الجمع، وتقدم أنه كان يصلي معه صلى الله عليه وسلم جميع الحجاج أهل مكة وغيرهم، قصرا وجمعا، كما جاءت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن من قال: لا يجوز إلا لمن كان منهم على مسافة قصر فهو مخالف للسنة.
(6) وتبريك الجمال، فإذا صلى المغرب حط عن رحله ثم أقام الصلاة
ثم صلى العشاء، لما في الصحيح: ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها، وقال الشيخ: فإذا وصل إلى المزدلفة صلى المغرب قبل تبريك الجمال إن أمكن، ثم إذا بركوها صلوا العشاء، وإن أخر العشاء لم يضره ذلك.(7/133)
وإن صلى المغرب بالطريق ترك السنة وأجزأه(1) (ويبيت بها) وجوبا(2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، وقال «خذوا عني مناسككم»(3).
__________
(1) أي فعلها، لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز التفريق، كالظهر والعصر بعرفة، والسنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الجمع بينهما ومن فاتته الصلاة مع الإمام بمزدلفة، أو بعرفة جمع ولو وحده، لفعل ابن عمر، ولأن كل جمع جاز مع الإمام جاز منفردا.
(2) أي بمزدلفة، قال الوزير وغيره: أجمعوا أنها تجب البيتوتة جزءا من الليل في الجملة، إلا مالكا، فقال: سنة، وهو قول للشافعي، ويتأكد المبيت والوقوف بمزدلفة بأمور، منها قول: «من صلى صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وكان وقد وقف بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه» صححه الترمذي وغيره، وقوله تعالى: { فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج مخرج البيان لهذا الذكر المأمور به، وينبغي أن يجتهد تلك الليلة في الدعاء والتضرع، فإنها ليلة عيد، جامعة لأنواع الفضل، من الزمان والمكان، وأمر الله بذكره فيها، وليس بركن لحديث «الحج عرفة».
(3) فيجب المبيت بها، لفعله صلى الله عليه وسلم المستفيض، وفي الحديث: ثم رقد بعد الصلاة، ولم يحي تلك الليلة، ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء، كما حكاه ابن القيم وغيره، وقال الشيخ: السنة أن يبيت بها إلى أن يطلع
الفجر، فيصلي بها الفجر في أول الوقت، ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يسفر جدًّا قبل طلوع الشمس.(7/134)
(وله الدفع) من مزدلفة قبل الإمام (بعد نصف الليل)(1) لقول ابن عباس: كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله، من مزدلفة إلى منى متفق عليه(2) (و) الدفع (قبله) أي قبل نصف الليل (فيه دم)(3).
__________
(1) قال الوزير: اتفقوا على جوازه، إلا أبا حنيفة، وقال: عليه دم، ولا يلزمه الرجوع إليها.
(2) قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، لم يروا بأسا أن يتقدم الضعفة من المزدلفة بليل، يصيرون إلى منى، لما فيه من الرفق بهم، ودفع المشقة عنهم، رموا قبل الزحمة، وقال: أكثر أهل العلم بالحديث إنهم لا يرمون حتى تطلع الشمس، ورخص بعض أهل العلم في أن يرموا بليل، والعمل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يرمون، وهو قول الشافعي، ولفظه: وقال: «لا ترموا حتى تطلع الشمس» والضعفة بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة والفاء جمع ضعيف: النساء والصبيان، والمشايخ العاجزون، وأصحاب الأمراض، قال الشيخ وغيره: فإن كان من الضعفة، كالنساء والصبيان ونحوهم، فإنه يتعجل من مزدلفة إلى منى، إذا غاب القمر، ولا ينبغي لأهل القوة أن يخرجوا من مزدلفة حتى يطلع الفجر فيصلون بها الفجر، ويقفون بها، قال ابن القيم: وقول جماعة أهل العلم، الذي دلت عليه السنة، جواز التعجيل بعد غيبوبة القمر، لا نصف الليل، وليس مع من حده بنصف الليل دليل.
(3) وهو مذهب الشافعي، إلا أنه يجزئ جزء من الليل، وكذا قال مالك، مع أنه سنة عنده، وقال أبو حنيفة: لا دم عليه.(7/135)
على غير سقاة ورعاة(1) سواء كان عالما بالحكم أو جاهلا، عامدا أو ناسيا(2) (كوصوله إليها) أي إلى مزدلفة (بعد الفجر) فعليه دم(3) لأنه ترك نسكا واجبا(4) (لا) إن وصل إليها (قبله) أي قبل الفجر، فلا دم عليه(5) وكذا إن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل، وعاد إليها قبل الفجر، لا دم عليه(6) (فإذا) أصبح بها (صلى الصبح) بغلس(7) ثم (أتى المشعر الحرام) وهو جبل صغير بالمزدلفة(8).
__________
(1) ونحوهم فإن لهم السقي، والرعي، وغير ذلك مما يماثله، ولا يلزمهم المبيت كليالي منى.
(2) أي إن دفع قبل نصف الليل، لأنه فعل مأمور به، فلم يعذر بتركه.
(3) قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(4) وهو المبيت بمزدلفة، لفعله صلى الله عليه وسلم وتقدم: أنه يجب جزء من الليل في الجملة، عند الجمهور.
(5) لقوله: «من صلى صلاتنا هذه»، يعني الفجر «ووقف معنا حتى ندفع فقد تم حجه» وتقدم.
(6) لأنه حصل منه الوقوف المشروع في الوقت المنصوص.
(7) وهو اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل، والمراد في أول الوقت، لقول جابر صلى الصبح بها، حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة، وليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام.
(8) يقال له: «قُزح» عليه بناء، وبه الميقدة، مشهور، يقف به الناس.(7/136)
سمي بذلك لأنه من علامات الحج(1) (فيرقاه أو يقف عنده(2) ويحمد الله ويكبره) ويهلله(3) (ويقرأ { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } الآيتين)(4).
__________
(1) مأخوذ من الشعيرة، وهي العلامة، وسميت المزدلفة، المشعر الحرام لأنها داخل الحرم، والحرام يعني: المحرم فيه الصيد وغيره، أو ذا الحرمة الأكيدة، وأصله: من المنع، فهو ممنوع أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه.
(2) لفعله صلى الله عليه وسلم ولمسلم: فصلى الفجر، ثم ركب، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، لأنها أشرف الجهات، ويستحب استقبالها في كل طاعة إلا لدليل، والوقوف عند المشعر الحرام، مشروع إجماعا، ومذهب مالك وأحد القولين للشافعي وأحمد وجوبه.
(3) وفي صحيح مسلم: فدعا الله، وكبره، وهلله، ووحده، أي قال: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» ونحو ذلك.
(4) ويكثر من الدعاء، ومنه: اللهم كما وفقتنا للوقوف فيه، وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك، كما هديتنا ، واغفر لنا، كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * } وقوله: { أَفَضْتُمْ } أي: دفعتم، فالإفاضة دفع بكثرة، من «أفاض الماء» أي صبه (واذكروه) أي بالتوحيد والتعظيم (كَمَا هَدَاكُمْ) أي أنعم عليكم: من الهداية، والإرشاد إلى مشاعر الحج، على ما كان عليه الخليل عليه السلام، و { النَّاسُ } يعني سائر العرب سوى الحمس.(7/137)
(ويدعو حتى يسفر)(1) لأن في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفا عند المشعر الحرام حتى أسفر جدا(2) فإذا أسفر سار قبل طلوع الشمس بسكينة(3) (فإذا بلغ محسرا) وهو واد بين مزدلفة ومنى سمي بذلك لأنه يحسر سالكه(4).
__________
(1) أي إسفارا بليغا، وهو مذهب الجمهور، وما روي عن مالك من الدفع قبل الإسفار، لا يدفع به ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم والضمير في يسفر للصبح، أو الداعي، ويكثر الدعاء، ويبالغ في الابتهال والتضرع، وإظهار الضعف والافتقار، وتقدم ما رواه أبو ذر الهروي، مباهاة الله بهم في عرفة ، وفيه ثم قال: «إن القوم أفاضوا من عرفات إلى جمع، فقال: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي، وقوفا وعادوا في الطلب، والرغبة، والمسألة، اشهدوا أني قد وهبت مسيئهم لمحسنهم، وتحملت التبعات التي بينهم».
(2) أي لم يزل قائما راكبا على ناقته، حتى أسفر جدًّا رواه مسلم وغيره، وحكى الطبري وغيره الإجماع على أن من لم يقف بها حتى طلعت الشمس فاته الوقوف.
(3) وقاله الشيخ وغيره، ولا خلاف في استحبابه، لفعله صلى الله عليه وسلم وقال ابن القيم: الإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة باتفاق المسلمين، وعن ابن عباس: أفاض قبل طلوع الشمس، حسنه الترمذي: وللبخاري عن عمر أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، وكانوا يقولون: أشرق ثبير، كيما نغير، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفهم فأفاض قبل طلوع الشمس.
(4) أي يعييه، وقيل: لأن أصحاب الفيل حسروا فيه، أو الفيل، أي أعيي
وانقطع عن الذهاب، وحسر من باب نصر، ويسميه أهل مكة: وادي النار، ومحسر برزخ بين منى ومزدلفة، لا من هذه ولا من هذه كما أن عرنة برزخ بين عرفة والمشعر الحرام، فبين كل مشعرين برزخ ليس منهن، فمنى من الحرم، وهي مشعر، ومحسر من الحرم، وليس بمشعر ومزدلفة حرم ومشعر وعرنة ليست مشعرا، وهي من الحل، وعرفة حل ومشعر.(7/138)
(أسرع) قدر (رمية حجر)(1) إن كان ماشيا، وإلا حرك دابته(2) لأنه صلى الله عليه وسلم لما أتى بطن محسر حرك قليلا، كما ذكره جابر(3) (وأخذ الحصى) أي حصى الجمار، من حيث شاء(4).
__________
(1) قال ابن القيم: وغيره: والإسراع في وادي محسر سنة، نقلها طوائف عنه صلى الله عليه وسلم.
(2) قال بعضهم: وعليه السكينة والوقار، ويلبي مع ذلك.
(3) رواه مسلم وغيره، ولفظه: حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلا وللخمسة عنه: أوضع في وادي محسر، يعني أسرع السير فيه، وهذه عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل بها بأس الله بأعدائه، فإن هناك أصاب أصحاب الفيل ما قص الله علينا، ولذلك سمي الوادي محسرا، لأن الفيل حسر فيه، كما ذكره غير واحد من أهل العلم، قال النووي في قوله: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين» فيه الحث على المراقبة عند المرور بدار الظالمين ومواضع العذاب، ومراده بالإسراع بوادي محسر، لأن أصحاب الفيل هلكوا هناك، فينبغي للمار في مثل هذه المواضع المراقبة، والخوف، والبكاء، والاعتبار بمصارعهم وأن يستعيذ بالله من ذلك.
(4) وقاله الشيخ وغيره وقال أحمد: لا خلاف في الإجزاء، لقوله لابن عباس
غداة العقبة وهو على ناقته القصواء «القط» فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف رواه ابن ماجه وغيره، وهو في صحيح مسلم عن الفضل، ولفظه: حتى إذا دخل منى، قال: «عليكم بحصى الخذف» وهو الجمار، واحدتها جمرة وهي في الأصل الحصاة، ثم يسمى الموضع الذي ترمى فيه الحصيات السبع جمرة وتسمى الحصيات السبع جمرة أيضا، تسمية للكل باسم البعض.(7/139)
وكان ابن عمر يأخذ الحصى من جمع(1) وفعله سعيد بن جبير، وقال: كانوا يتزودون الحصى من جمع(2) والرمي تحية منى(3) فلا يبدأ قبله بشيء(4).
__________
(1) اسم للمزدلفة،سميت به لاجتماع الناس بها ، وتقدم.
(2) أي الصحابة رضي الله عنهم، ولم يثبت أخذه صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه من غير منى، وإن لم يرد التصريح به، فهو كالظاهر، بل ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما كان في طريقه إلى منى أمر ابن عباس أن يلتقطها له، ولم يلتقطها بالليل، حال نزوله بمزدلفة، كما يثابر عليه بعض العوام قبل الصلاة، ولا أمر أصحابه، ولم ينقل أنه التقط سبعين منها، كما يفعله كثير من العوام اليوم، وفيه استعارة تبعية مكنية وذلك أنه شبه الأخذ الذي هو مصدر المستعار له، بالتزويد الذي هو مصدر المستعار منه، ثم اشتق منه الفعل، فسرت الاستعارة إليه، ثم شبه الحصى بالزاد فحذف المشبه، وأبقى المشبه به.
(3) لفعله صلى الله عليه وسلم وبداءته به قبل كل شيء، واستمر العمل عليه، وكتحية الكعبة بالطواف، والمسجد بتحيته.
(4) لا بحلق، ولا ذبح، ولا طواف، اتباعا لسنته صلى الله عليه وسلم حيث بدأ به قبل كل شيء.(7/140)
(وعدده) أي عدد حصى الجمار (سبعون) حصاة(1) كل واحدة (بين الحمص والبندق)(2) كحصى الخذف(3) فلا تجزئ صغيرة جدًّا(4) ولا كبيرة(5) ولا يسن غسله(6) (فإذا وصل إلى منى، وهي من وادي محسر، إلى جمرة العقبة)(7)
__________
(1) يرمي يوم النحر بسبع، وأيام التشريق بثلاث وستين إن لم يتعجل، وذكر الرافعي أن أخبار رميه صلى الله عليه وسلم الجمار بسبعين متواترة.
(2) قاله الشيخ وغيره، دون الأنملة طولا وعرضا، قدر حبة الباقلا المعتدلة وقيل: كقدر النواة، «والحمص» حب معروف يؤكل، بفتح الميم وكسرها، أعجمي معرب، والعامة تقول له: الحنبص، و«البندق» بضم الباء والدال، الذي يرمى به، الواحدة بندقة، بهاء، والجمع بنادق، وثمر شجر.
(3) بالخاء والذال المعجمتين، الرمي بنحو حصاة، أو نواة بين السبابتين يحذف بها، لحديث جابر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار بمثل حصى الخذف، رواه الترمذي وغيره، وصححه، وقال: وهو الذي اختاره أهل العلم، أن تكون الجمار مثل حصى الخذف، ولابن ماجه: قال لي «القط» فلقطت له سبع حصيات، من حصى الخذف، ويكره بهيئة الخذف، للنهي الصحيح عنها، الشامل للحج وغيره.
(4) لخروجها بالصغر عن الحد المعتاد المتعارف الخذف به، لما مر.
(5) لقوله صلى الله عليه وسلم «بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو» وقال «عليكم بحصى الخذف» وهو يشير بيده، كما يخذف الإنسان، قال الشيخ: وإن كسره جاز، والتقاط الحصى أفضل من تكسيره من الجبل.
(6) أي حصى الجمار، ما لم يكن عليه نجاسة.
(7) فليسا من منى، لأن الحد غير المحدود، وجمرة العقبة هي آخر الجمرات
من ناحية منى، وأقربهن من مكة، وهي الجمرة الكبرى، والجمع العقبات، وقد صارت علما على العقبة التي ترمى عندها الجمرة، وتعريفها بالعلمية بالغلبة، لا باللام، وامتازت عن الأخريين بأربعة أشياء، اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمى ضحى يوم النحر، ومن أسفلها، ويجزئ من فوقها، لفعل عمر، والأول أفضل، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخروجا من الخلاف، ويستحب سلوك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى.(7/141)
.
بدأ بجمرة العقبة(1) فـ (رماها بسبع حصيات متعاقبات) واحدة بعد واحدة(2) فلو رمى دفعة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة(3).
__________
(1) لبداءته صلى الله عليه وسلم منها، ولأنها تحية منى، فلم يتقدمها شيء كالطواف بالبيت.
(2) أي ترمى واحدة بعد واحدة، لما في الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر وغيره، أنه صلى الله عليه وسلم رماها بسبع حصيات، وقال الوزير وغيره: أجمعوا على وجوب رمي جمرة العقبة يوم النحر خاصة بسبع حصيات، وقال ابن الماجشون: هو ركن، لا يتحلل إلا به، كسائر الأركان، وقال صلى الله عليه وسلم «إنما جعل رمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، لإقامة ذكر الله» صححه الترمذي وغيره، وذكر غير واحد من أهل التفسير أنها من شعائر الله، وسئل سعيد بن منصور عنها فقال: الله ربكم تكبرون، وملة أبيكم تتبعون، ووجه الشيطان ترمون، وسببه: رمي الخليل الشيطان الذي كان يراه في تلك المواضع، ثم بقي بعده كسبب السعي والرمل.
(3) عند جمهور أهل العلم، لفعله صلى الله عليه وسلم قال في الإنصاف: بمنزلة حصاة، لا أعلم فيه خلافا، ودفعة بفتح الدال المرة وبالضم، اسم لما يدفع بمرة.(7/142)
ولا يجزئ الوضع(1) (يرفع يده) اليمنى حال الرمي (حتى يرى بياض إبطه)(2) لأنه أعون على الرمي(3) (ويكبر مع كل حصاة)(4) ويقول: «اللهم اجعله حجا مبرورا، وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا»(5) (ولا يجزئ الرمي بغيرها) أي غير الحصا(6) كجوهر، وذهب، ومعادن(7).
__________
(1) أي من غير رمي أو طرح، قولا واحدا، لأنه خلاف الوارد، ولا يسمى رميا، ولا في معنى الرمي الذي هو مجاهدة الشيطان، بالإشارة إليه بالرمي الذي يجاهد به العدو، كما يدل عليه ما تقدم عن سعيد بن منصور، قال: ووجه الشيطان ترمون، والأولى أن يكون بينه وبين المرمى خمسة أذرع، وإن طرحه طرحا أجزأ، جزم به الموفق وغيره، ولو رمى بها، فذهبت بها ريح عن المرمى لم يجزئه، أو وقعت على ثوب إنسان فنفضها، لم يجزئه، لأن حصولها في المرمى بفعل غيره.
(2) مبالغة في الرفع «ويرى» بالبناء للمجهول.
(3) وأمكن لحصولها في المرمى.
(4) أي يستحب أن يكبر مع كل حصاة، وفي صحيح مسلم: رماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة.
(5) لأن ابن عمر، وابن مسعود كانا يقولان، ذلك «ومبرورا» أي متقبلا يقال: بر الله حجك أي قبله.
(6) أي غير جنس الحصا، لفعله صلى الله عليه وسلم وأمره به.
(7) قال في الإنصاف: قولا واحدا، وخشب، وعنبر، ولؤلؤ، لأنها ليست من جنس الأرض، ولأنه نثار وليس برمي.(7/143)
(ولا) يجزئ الرمي (بها ثانيا)(1) لأنها استعملت في عبادة، فلا تستعمل ثانيا، كماء الوضوء(2) (ولا يقف) عند جمرة العقبة بعد رميها(3) لضيق المكان(4) وندب أن يستبطن الوادي(5) وأن يستقبل القبلة(6).
__________
(1) أي بحصاة رمى بها، قال الشيخ: ولا يرمى بحصى قد رمي به.
(2) أي كما لا يجزئ استعمال ماء الوضوء مرة ثانية، فكذا حصى الرمي.
(3) حكاه غير واحد إجماعا، لفعل ابن عمر وغيره، وقوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وقد تظافرت به الأخبار.
(4) وعدم مشروعية الوقوف عندها، وانتهاء العبادة.
(5) أي يدخله من بطنه، وبعضهم يرى وجوبه، وأنه لا يجوز من أعلى الجبل، والأكثر أنه جائز، وخلاف السنة، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، يختارون أن يرمي الرجل من بطن الوادي، وقد رخص بعض أهل العلم: إن لم يمكنه أن يرمي من بطن الوادي، رمي من حيث قدر عليه، وقال ابن الهمام: ثبت أنه رمى خلق كثير من الصحابة من أعلاها، ولم يؤمروا بالإعادة.
(6) فتكون الجمرة عن يمينه، وعنه: يستقبلها، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يرميها من بطن الوادي، مستقبلا لها، البيت عن يساره، ومنى عن يمينه وفي لفظ: حتى إذا حاذى بالشجرة اعترضها
وقال الشيخ: يرميها مستقبلا لها، يجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، هذا هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها: وفي الصحيحين عن ابن مسعود: انه انتهى إلى جمرة العقبة، فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه ورمى بسبع، وقال: هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة، ولا تكون منى
عن يمينه، ومكة عن يساره، إلا وهو مستقبل للجمرة، وفيهما عنه أنه استقبل الجمرة حالة الرمي، فهو السنة المتبعة.(7/144)
وأن يرمي على جانبه الأيمن(1) وإن وقعت الحصاة خارج المرمى، ثم تدحرجت فيه أجزأت(2).
__________
(1) لفعل ابن عمر، صححه الترمذي، ولفظ المبدع: على حاجبه الأيمن.
(2) أي فإن وقعت خارج مجتمع الحصى، وهو الجمرة، والشاخص المرتفع منه، وإنما وضع علما على الجمرة، فهو ثلاثة أذرع من سائر الجوانب، إلا جمرة العقبة، فليس لها إلا جهة واحدة من بطن الوادي، وإذا وقع الرمي قريبا من الجمرة جاز، لأن هذا القدر مما لا يمكن الاحتراز عنه، وقال النووي وغيره: المراد مجتمع الحصى في موضعه المعروف، وهو الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم وحده الطبري وغيره بأنه ما كان بينه وبين الجمرة ثلاثة أذرع، والمشاهدة تؤيده فإن مجتمعه غالبا لا ينقص عن ذلك.
ومن مجتمع الحصى موضع الشاخص، ولم يقل أحد: إنه لا يجوز قصد الشاخص بالرمي، ولا يبعد أن يكون في موضع الشاخص أحجار موضوعة أصلا، أو بأمره صلى الله عليه وسلم ، بني الشاخص عليها، والناس في زمنه صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يرمون حوالي محله، ويتركون محله، ولو وقع ذلك لنقل.
ولو فرش جميع المرمى بأحجار كفى الرمي عليه، لأن المرمى وإن كان هو الأرض، فالأحجار عليه تعد منه، ويعد الرمي عليها رميا على تلك الأرض، فالشاخص المبني يكفي الرمي عليه، واتفق الناس عليه خلفا عن سلف، ولم ينقل عن أحد طعن في ذلك، والناس لا يقصدون إلا فعل الواجب، والرمي إلى المرمى، وقد حل بفعل الرامي، وهو الذي يسع الناس، ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، فلا يضر تدحرجه، بعد وقوعه في المرمى، لحصول اسم الرمي.(7/145)
(ويقطع التلبية قبلها)(1) لقول الفضل بن العباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، أخرجاه في الصحيحين(2) (ويرمي) ندبا (بعد طلوع الشمس)(3) لقول جابر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر، وحده أخرجه مسلم(4).
__________
(1) أي قبل رمي الجمرة، وعند الشروع فيه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وجماهير العلماء، لأنه شرع فيما يحصل به التحلل.
(2) قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يرمى الجمرة، ولهما عن ابن عباس أن أسامة والفضل كلاهما قالا: لم يزل يلبي حتى رمي جمرة العقبة، أي حتى شرع في رمي جمرة العقبة، وروى حنبل: قطع عند أول حصاة، وقال الطحاوي وغيره: جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار متواترة بتلبيته بعد عرفة، إلى أن رمى جمرة العقبة، وقال الشيخ: فإذا شرع في الرمي قطع التلبية، فإنه حينئذ يشرع في التحلل، وهكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ولا يزال يلبي في ذهابه إلى عرفات، وذهابه منها إلى مزدلفة حتى يرمي جمرة العقبة.
(3) هذا هو الأفضل وحكاه ابن عبد البر وغيره إجماعا.
(4) فدل على أفضلية رميها بعد طلوع الشمس يوم النحر لا غير، فوحده راجع ليوم النحر، وليس هو راجعا لقول جابر: رأيت... إلخ، فجمرة العقبة يندب أن ترمى ضحى يوم العيد وحده، وما بعد يوم العيد بعد الزوال، ويأتي
وعن ابن عباس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة ماشيا، رواه الترمذي وحسنه، وقال: العمل عليه عند بعض أهل العلم، ويجوز راكبا، والأكثر ماشيا.(7/146)
(ويجزئ) رميها (بعد نصف الليل) من ليلة النحر(1) لما روى أبو داود عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر، فرمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم مضت، فأفاضت(2).
__________
(1) وهذا مذهب الشافعي، وقال غير واحد: بعد الفجر، وأبو حنيفة وطوائف لا يجوزونه إلا بعد طلوع الفجر.
(2) أي طافت طواف الإفاضة، ولأن أسماء نزلت بجمع، عند المزدلفة فقامت تصلي، ثم قالت: هل غاب القمر؟ قال مولاها عبد الله: نعم قالت: فارتحلوا فارتحلنا، ومشينا، حتى رمينا الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت: يا هنتاه، ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن متفق عليه، وقال ابن القيم: أنكره أحمد وغيره، وما روى هو وغيره عن ابن عباس أنهم رموها قبل الفجر، قد روى هو وغيره حديثا أصح منه، ولفظه «أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» رواه الخمسة وفيه انقطاع.
وعلى كل تقدير فلا تعارض، فإنه أمر الصبيان أن لا يرموا حتى تطلع الشمس، فإنه لا عذر لهم في تقديم الرمي، أما من قدمه من النساء، فإن قيل: رمين قبل طلوع الشمس، للعذر، والخوف عليهن من مزاحمة الناس، لأجل الرمي فقد يسوغ وأما القادر فلا يجوز له ذلك، وقول جماعة أهل العلم، الذي دلت عليه السنة رمي القادر بعد طلوع الشمس، قال ابن المنذر وغيره: السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز قبل طلوع الفجر، لأن فاعله مخالف للسنة، ومن رماها بعده فلا إعادة عليه إذ لا أعلم أحدا قال: لا يجزئه.(7/147)
فإن غربت شمس يوم الأضحى قبل رميه، رمى من غد، بعد الزوال(1) (ثم ينحر هديا إن كان معه) واجبا كان أو تطوعا(2).
__________
(1) جزم به في الإنصاف وغيره، وتقدم أن وقت الرمي بعد طلوع الشمس، وإن أخره إلى آخر النهار جاز، وأما الليل فرخص فيه للرعاة خاصة.
(2) لحديث أنس أتى منى، فأتى الجمرة، فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر: الحديث رواه مسلم، وعليه إجماع المسلمين، قال ابن القيم: ولم ينحر هديه إلا بعد أن حل، ولم ينحره قبل يوم النحر، ولا أحد من أصحابه ألبتة، وقال صلى الله عليه وسلم «ونحرت ههنا، ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم» أي فلا تتكلفوا النحر في موضع نحري، بل يجوز لكم النحر في منازلكم وظاهره أن نحره في ذلك المكان وقع عن اتفاق، لا لشيء يتعلق بالنسك، ومنزله بين منحره ومسجد الخيف، ومنحره عند الجمرة الأولى.
قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه أي موضع نحر فيه من الحرم أجزأه إلا مالكا فقال: لا ينحر في الحج إلا بمنى، ولا في العمرة إلا بمكة، قال الشيخ: وكل ما ذبح بمنى، وقد سيق من الحل إلا الحرم فإنه هدي، سواء كان من الإبل، أو البقر، أو الغنم، ويسمى أيضا أضحية، بخلاف ما يذبح يوم النحر بالحل، فإنه أضحية، وليس بهدي، وليس بمنى ما هو أضحية وليس بهدي، كما في سائر الأمصار.
وقال هو وابن القيم: هدي الحاج بمنزلة الأضاحي للمقيم، ولم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه جمعوا بين الهدي والأضحية، بل كان هديهم هو أضاحيهم، فهو هدي بمنى، وأضحية بغيرها، قال: فإذا اشترى الهدي من عرفات، وساقه إلى منى، فهو هدي باتفاق العلماء وكذلك إن اشتراه من الحرم فذهب به إلى التنعيم، وأما إذا اشترى الهدي من منى، وذبحه فيها، ففيه نزاع، فمذهب مالك أنه ليس بهدي، وهو منقول عن ابن عمر، ومذهب الثلاثة أنه هدي، وهو منقول عن عائشة.(7/148)
فإن لم يكن معه هدي، وعليه واجب اشتراه(1) وإن لم يكن عليه واجب سن له أن يتطوع به(2) وإذا نحر الهدي فرقه على مساكين الحرم(3) (ويحلق)(4) ويسن أن يستقبل القبلة(5).
__________
(1) وذبحه والأفضل بمنى، للخبر.
(2) لقوله تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } إلى قوله: { لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ * } ولا نزاع في سنيته.
(3) لقوله: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا } الآية، ولا يتعين ذبحه، فلو أطلقه لهم أجزأ، كما تقدم.
(4) أي ثم بعد النحر يحلق، على هذا الترتيب، لثبوته في صحيح مسلم وغيره، فـ «الواو» هنا بمعنى «ثم» لأنه رمى جمرة العقبة، ثم عاد إلى منى، فذبح بدنة، ثم دعا بالحلاق فحلق رأسه، صلاة الله وسلامه عليه، وروي في الحديث «لكل من حلق رأسه بكل شعرة سقطت نور يوم القيامة» قال ابن الهمام: ومقتضى الدليل في الحلق وجوب الاستيعاب، كما هو قول مالك، وهو الذي أدين الله به قال مالك: ولا يخرج منه إلا بالاستيعاب، وحكى النووي الإجماع على حلق الجميع، والمراد إجماع الصحابة والسلف، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه الاكتفاء بحلق بعض شعر الرأس، وتقدم النهي عنه.
(5) لما تقدم من استحباب استقبال القبلة في كل طاعة إلا لدليل.(7/149)
ويبدأ بشقه الأيمن(1) (أو يقصر من جميع شعره)(2) لا من كل شعرة بعينها(3).
__________
(1) للأمر بالبداءة باليمين، ولقوله صلى الله عليه وسلم للحلاق «خذ» وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، رواه مسلم وغيره، ولأبي داود، فأخذ شقه الأيمن فحلقه، فجعل يقسمه بين من يليه، ثم حلق شق رأسه الأيسر، وذكر جماعة: ويدعو وقت الحلق، لأنه نسك، وذكر الموفق وغيره، ويكبر، لأنه نسك، ولا يشارط على أجرة، ونقل عن بعض الأئمة أنه قال: أخطأت في حلق رأسي في خمسة أحكام، علمنيها حجام بمنى، قلت: بكم تحلق؟ قال: النسك لا يشارط عليه، فجلست، فقال: حول وجهك إلى القبلة، وقال: أدر الأيمن، وكبر فلما فرغت قال: صل ركعتين، فقلت: من أين لك؟ قال: رأيت عطاء يفعله والأربعة الأول هي فعل السلف.
(2) نص عليه، لدعائه صلى الله عليه وسلم للمحلقين والمقصرين، ولقوله: { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } ويعمه لذلك لأنه بدل عن الحلق، فاقتضى التعميم للأمر بالتأسي، وظاهره التخيير بين الحلق والتقصير، لأن بعضهم حلق، وبعضهم قصر، ولم ينكر، والحلق أفضل من التقصير إجماعا، لما في الصحيحين أنه دعا للمحلقين ثلاثا، ثم قال: «والمقصرين» قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، يرون أن يحلق رأسه، وإن قصر يرون ذلك يجزئ عنه، ولأن المقصود قضاء التفث، وهو بالحلق أتم، فكان أولى، ولأنه أبلغ في العبادة، وأدل على صدق النية، لقوله: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } مرتبا على الذبح، وعن أنس: أتى جمرة العقبة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر،ثم قال للحلاق «خذ»فقدم الذبح عليه لأن الذبح ليس بمحلل على سبيل العموم، فقدمه على الحلق، ليقع في الإحرام.
(3) وقال شيخ الإسلام، وفي الإنصاف: هذا لا يعدل عنه، ولا يسع الناس غيره، وقال الشيخ: وإذا قصر جمع شعره، وقص منه بقدر الأنملة، أو أقل أو أكثر.(7/150)
ومن لبد رأسه، أو ضفره أو عقصه فكغيره(1) وبأي شيء قصر الشعر أجزأ(2) وكذا إن نتفه(3) أو أزاله بنورة(4) لأن القصد إزالته(5) لكن السنة الحلق أو التقصير(6) (وتقصر منه المرأة) أي من شعرها(7) (قدر أنملة) فأقل(8).
__________
(1) يقصر من مجموعه، و«لبده» بالتشديد: ألزقه بصمغ ونحوه حتى يتلبد، وضفره، أي: جعله ضفائر، وعقصه: لواه وعقده، فكغيره في التقصير .
(2) سواء كان بموسي أو غيره.
(3) أجزأ، وهو خلاف السنة.
(4) أو غيرها أجزأ
(5) بعد أن منعه الإحرام من الترفه بأخذه.
(6) للأمر به، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه له، وذكر بعض أهل العلم فيمن عدم الشعر، إمرار الموسي على رأسه، وحكى اتفاقا، وذكره الهيتمي إجماعا، تشبها بالحالقين، وقال غير واحد: إذا سقط ما وجب الحلق لأجله، سقط الحلق، وإمرار الموسي عبث وقد حل، وينبغي أن يأخذ من شاربه ليكون قد وضع من شعره شيئا لله.
(7) أي تقصر المرأة من شعرها، وهو واجب إجماعا.
(8) بلا خلاف، لعدم التقدير الشرعي، فيجب ما يقع عليه الاسم، وأجمعوا أنه لا يجب عليها حلق، وإنما شرع لهن التقصير، قال الشيخ: ولا تقصر أكثر من ذلك وأما الرجل فله أن يقصر ما شاء اهـ ونقل أبو داود، تجمع شعرها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من أطرافه قدر أنملة.(7/151)
لحديث ابن عباس يرفعه «ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير» رواه أبو داود(1) فتقصر من كل قرن قدر أنملة أو أقل(2) وكذا العبد(3) ولا يحلق إلا بإذن سيده(4) وسن لمن حلق أو قصر أخذ ظفر، وشارب، وعانة، وإبط(5) (ثم) إذا رمى وحلق أو قصر فـ (قد حل له كل شيء) كان محظورا بالإحرام (إلا النساء) وطأ(6).
__________
(1) وللترمذي وغيره عن علي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحلق المرأة رأسها، قال: والعمل عليه عند أهل العلم، لا يرون على المرأة حلقا، ويرون أن عليها التقصير، ولأن الحلق مثلة في حقهن.
(2) من الأنملة، قال في المبدع، بعد حكاية ابن الزاغوني، يجب أنملة، والأشهر يجزئ أقل منها، إذ لم يرد فيه تقدير.
(3) أي حكمه حكم المرأة أنه يقصر قدر أنملة.
(4) لأن الشعر ملك للسيد ويزيد في قيمته، ولم يتعين زواله، فلم يكن له ذلك كغير حالة الإحرام، فإن أذن له جاز ، إذ الحق له.
(5) قال ابن المنذر: صح أنه صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه قص أظفاره، ولأنه من التفث، فيستحب قضاؤه.
(6) وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، لأن تحريم المرأة ظاهر في وطئها، ولأنه أغلظ المحرمات، ويفسد النسك، بخلاف غيره، قال الشيخ: فإذا فعل ذلك فقد تحلل، باتفاق المسلمين، التحلل الأول، فيلبس الثياب، ويقلم أظفاره، وكذلك له على الصحيح أن يتطيب ويتزوج، ويصطاد، يعني خارج الحرم، ولا يبقى عليه من المحظورات إلا النساء، وحكى الوزير وغيره: اتفاقهم على أن للمحرم تحللين، أولهما رمي جمرة العقبة، وآخرهما طواف الإفاضة.(7/152)
ومباشرة، وقبلة، ولمسا لشهوة، وعقد نكاح(1) لما روي سعد عن عائشة مرفوعا، «إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم الطيب، والثياب، وكل شيء إلا النساء»(2) (والحلاق والتقصير) ممن لم يحلق (نسك)(3).
__________
(1) وهو أحد قولي الشافعي، وظاهر كلام جماعة حله، اختاره شيخ الإسلام وذكره رواية عن أحمد.
(2) ورواه الأثرم وغيره، ولأحمد عن ابن عباس مرفوعا معناه، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، يرون أن المحرم إذا رمى جمرة العقبة يوم النحر، وذبح، وحلق أو قصر، فقد حل له كل شيء حرم عليه، إلا النساء، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وروي عن عمر وغيره: والطيب، وهو قول أهل الكوفة، وعن عائشة طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت، بطيب فيه مسك.
(3) وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وقال النووي وغيره: عند جماهير العلماء، والنسك العبادة فيثاب على فعله، ويعاقب على تركه، قال تعالى: { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } فوصفهم ومنَّ عليهم بذلك، فدل على أنه من العبادة مع قوله: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قيل: المراد به الحلق، ولو لم يكن نسكا لم يتوقف الحل عليه، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين والمقصرين، وفاضل بينهم، فلولا أنه نسك لما استحقوا لأجله الدعاء منه لهم، والحلاق بكسر الحاء، مصدر : حلق حلقا وحلاقا، والواو هنا بمعنى «أو» وعلم من كونهما نسكا أنه لا بد من نيتهما كنية الطواف.(7/153)
في تركهما دم(1) لقوله صلى الله عليه وسلم «فليقصر ثم ليتحلل»(2) (ولا يلزم بتأخيره) أي الحلق أو التقصير عن أيام منى (دم(3) ولا بتقديمه على الرمي والنحر)(4) ولا إن نحر أو طاف قبل رميه، ولو عالما(5) لما روى سعيد، عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قدم شيئا قبل شيء فلا حرج»(6).
__________
(1) أي ترك جميعهما لا مجموعهما، لأنه لو حلق ولم يقصر، أو عكس، لا شيء عليه، لأنه فعل الواجب.
(2) ووجه الدلالة منه: أنه رتب الحل على التقصير، فلو لم يكن نسك لم يرتب ذلك عليه.
(3) لقوله تعالى: { وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلهُ } فبين أول وقته دون آخره، فلا آخر لوقته، فمتى أتى به أجزأ كالطواف.
(4) أي ولا يلزم بتقديم الحلق على الرمي والنحر دم، عند أكثر أهل العلم.
(5) لو إشارة إلى الرواية الثانية أنه يلزمه دم، بدليل قوله: لم أشعر والأكثر وصححه وجزم به غير واحد، واستظهره في المبدع، أنه لا دم عليه للإطلاق ونفي الحرج كما يأتي.
(6) وللترمذي وصححه: حلقت قبل أن أذبح؟ قال: «اذبح ولا حرج» وقال آخر: نحرت قبل أن أرمي؟ قال: «ارم ولا حرج» وقال: والعمل عليه عند أهل العلم، وهو قول أحمد، وإسحاق، وقال الشارح: لا نعلم خلافا أن الإخلال بالترتيب لا يخرج هذه الأفعال عن الأجزاء، وإنما الخلاف في وجوب الدم اهـ وجمهور أهل الحديث والفقهاء على الجواز، وعدم وجوب الدم، لأن قوله: «ولا حرج» مقتض لرفع الإثم والفدية.(7/154)
ويحصل التحلل الأول باثنين من حلق، ورمي، وطواف(1) والتحلل الثاني بما بقي مع سعي(2) ثم يخطب الإمام بمنى يوم النحر، خطبة يفتتحها بالتكبير(3).
يعلمهم فيها النحر، والإفاضة، والرمي(4)
__________
(1) حكاه الوزير وغيره اتفاق الأئمة، وذكروا أنه يتحلل التحلل الأول بالرمي والحلاق، أو بالرمي والطواف، أو بالطواف والحلاق، ويحصل التحلل الثاني بما بقي منها اتفاقا، ويبيح جميع محظورات الإحرام، ويعيد المحرم حلالا، وفي المبدع: والأكثر على أنه لا يحصل التحلل إلا بالرمي والحلق أو التقصير، لأمره صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي أن يطوف ويقصر، ثم يحل وتقدم أن الأنساك ثلاثة، رمي وحلق، وطواف وقال ابن القيم: والمحفوظ جواز تقديم الرمي، والنحر، والحلق، بعضها على بعض اهـ والسنة أن يرمي، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يطوف، يرتبها رواه أبو داود وغيره، عن أنس: أنه فعل هكذا صلى الله عليه وسلم.
(2) من متمتع مطلقا، وقارن لم يسع مع طواف القدوم، لأنه ركن، وعليه فالتحلل الأول باثنين من ثلاثة كما مر، والتحلل الثاني باثنين من أربعة،وفاقا.
(3) وفاقا للشافعي، لقول ابن عباس: خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم النحر، رواه البخاري، وعن نافع، عن ابن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحى، على بغلة شهباء، وعلي بعيد عنه، والناس بين قائم وقاعد.
(4) لقول عبد الرحمن بن معاذ: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، فطفق يعلمهم مناسكهم، حتى بلغ الجمار، رواه أبو داود، ولأن الحاجة تدعو إليه وقال الشيخ: وليس بمنى صلاة عيد، بل رمي الجمرة لهم، صلاة العيد لأهل الأمصار.
وهذا اليوم هو يوم الحج الأكبر، قاله غير واحد من أهل العلم، واختاره ابن جرير وغيره، لأن فيه تمام الحج، ومعظم أفعاله، وقال عليه الصلاة والسلام عند الجمرات، هذا يوم الحج الأكبر، ولابن جرير وغيره بسند صحيح قال: «أليس هذا يوم الحج الأكبر؟» وأصله في الصحيح.(7/155)
.
فصل(1)
(ثم يفيض إلى مكة(2) ويطوف القارن والمفرد بنية الفريضة ، طواف الزيارة )(3) ويقال طواف الإفاضة(4) فيعينه بالنية(5).
__________
(1) أي في حكم طواف الإفاضة، والسعي، وأيام منى، والوداع، وغير ذلك.
(2) لفعله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه، واستمر عمل المسلمين عليه «وأفاض الحاج» أسرعوا في دفعهم من عرفة إلى المزدلفة، وأيضا رجعوا من منى إلى مكة يوم النحر.
(3) سمي بذلك لأنهم يأتون من منى، زائرين البيت، ويعودون في الحال، أو لأنه يفعل عند زيارة البيت، قال الشيخ: إن إمكنه فعله يوم النحر، وإلا فعله بعد ذلك.
(4) سمي بذلك لإتيانهم به عقب الإفاضة من منى، وهذه التسمية عند أهل العراق، ويقال: «طواف الفرض» لتعينه، (وطواف الركن) عند أهل الحجاز، ويقال: طواف يوم النحر، وطواف النساء، لأنهن يبحن بعده، و «طواف الصدر» لأنه يصدر إليه من منى.
(5) لحديث «إنما الأعمال بالنيات» ولأن الطواف بالبيت صلاة، وهي لا تصح إلا بنية معينة، فإن طاف للقدوم، أو الوداع، أو بنية النفل، وكان ذلك كله بعد دخول وقت الطواف المفروض، لم يقع عنه، وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، لا يجب تعيينها.(7/156)
وهو ركن، لا يتم حج إلا به(1) وظاهره أنهما لا يطوفان للقدوم، ولو لم يكونا دخلا مكة قبل(2) وكذا المتمتع، يطوف للزيارة فقط(3) كمن دخل المسجد وأقيمت الصلاة، فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد(4) واختاره الموفق، والشيخ تقي الدين، وابن رجب(5) ونص الإمام واختاره الأكثر أن القارن والمفرد، وإن لم يكونا دخلاها قبل يطوفان للقدوم برمل، ثم للزيارة(6).
__________
(1) وتقدم لقوله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } فإن آخر المناسك الطواف، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم ولقوله: «أطافت يوم النحر؟» قالوا: نعم. قال: «فانفري» وفي لفظ «أحابستنا هي؟» فثبت أن من لم يطف يوم النحر لم يحل له أن ينفر حتى يطوف، وأنه حابس لمن لم يأت به، ووصفه صلى الله عليه وسلم بالتمام، لأنه لم يبق من أركان الحج سواه، فإذا أتى به حصل تمام الحج.
(2) أي ظاهر كلام المصنف، حيث لم ينبه إلا على طواف الزيارة، أنهما لا يطوفان للقدوم، والأطوفة ثلاثة بالإجماع، طواف القدوم، والوداع والإفاضة بعد الرمي، وأجمعوا على أنه يفوت الحج بفواته، وهو المعني بالآية ولا يجزئ عنه دم، والجمهور أنه يجزئ عن طواف الوداع.
(3) أي وكالقارن والمفرد المتمتع، في الكفاية بطواف الزيارة، وإنما فصله عما قبله لعدم الصراحة به في كلامه.
(4) أي فطواف الزيارة يكتفي به المتمتع عن طواف القدوم.
(5) قال الشيخ: ولا يستحب للمتمتع ولا لغيره أن يطوف للقدوم بعد التعريف.
(6) بلا رمل، لأنه رمل قبل، قال الموفق: لا أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على
هذا الطواف، بل المشروع طواف واحد للزيارة، كمن دخل المسجد وأقيمت الصلاة، وحديث عائشة دليل على هذا، فلم تذكر طوافا آخر، ولو كان الذي ذكرته طواف القدوم، لكانت أخلت بذكر الركن الذي لا يتم الحج إلا به، وذكرت ما يستغنى عنه.(7/157)
وأن المتمتع يطوف للقدوم، ثم للزيارة بلا رمل(1) (وأول وقته) أي وقت طواف الزيارة (بعد نصف ليلة النحر) لمن وقف قبل ذلك بعرفات(2) وإلا فبعد الوقوف(3) (ويسن) فعله (في يومه)(4) لقول ابن عمر: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، متفق عليه(5).
__________
(1) قال الشيخ: لا يستحب للمتمتع أن يطوف طواف القدوم، بعد رجوعه من عرفة، قبل الإفاضة، وصوبه وقال: هو قول جمهور الفقهاء، وقال ابن القيم: لم يذكر أحد أن الصحابة لما رجعوا من عرفة طافوا للقدوم وسعوا، ثم طافوا للإفاضة بعده، ولا النبي صلى الله عليه وسلم هذا لم يقع قطعا.
(2) لأن أم سلمة رمت، ثم طافت، ثم رجعت، فوافت النبي صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة، وبينها وبين مكة فرسخان:.
(3) أي وإن لم يكن وقف قبل ذلك، فوقت طواف الإفاضة في حقه بعد الوقوف، وآخر وقت الوقوف إلى فجر يوم النحر، ولا آخر لوقته لأنه لم يرد فيه توقيت، وكذا السعي كما سيأتي.
(4) أي يسن فعل طواف الإفاضة في يوم النحر بعد الرمي، والنحر، والحلق .
(5) ولقول جابر: ثم أفاض النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر إلى البيت، ونحوه عن عائشة، وابن عمر، ولم يرجع صلى الله عليه وسلم بعد أن طاف للإفاضة إلى حين الوداع.(7/158)
ويستحب أن يدخل البيت(1) فيكبر في نواحيه(2) ويصلي فيه ركعتين بين العمودين، تلقاء وجهه(3) ويدعو الله عز وجل(4).
__________
(1) لفضله وشرفه، وفعله صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة: كنت أحب أن أدخل البيت، فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأدخلني الحجر، فقال: صلي في الحجر إن أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت، قال الشيخ: والحجر أكثره من البيت من حيث ينحني حائطه، فمن دخله فهو كمن دخل الكعبة، وقال هو وابن القيم: لم يدخل صلى الله عليه وسلم البيت في حجته، ولا في عمرته، وإنما دخله عام الفتح. وقال في الفنون، تعظيم دخوله فوق الطواف يدل على قلة العلم، وللترمذي وغيره وصححه عن عائشة: خرج من عندي قرير العين طيب النفس، فرجع إليَّ وهو حزين، فقلت له، فقال: «إني دخلت الكعبة، ووددت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون أعتبت أمتي من بعدي».
(2) لخبر أسامة عند أحمد، والنسائي، أنه صلى الله عليه وسلم قام إلى ما بين يديه من البيت، فوضع صدره عليه، وخده ويديه، ثم هلل ، وكبر، ودعا، ثم فعل ذلك بالأركان كلها.
(3) قال الشيخ: فإذا دخل مع الباب، تقدم حتى يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع، والباب خلفه، فذلك المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وللترمذي وصححه عن بلال، أنه صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة، قال: والعمل عليه عند أهل العلم، لا يرون بالصلاة في الكعبة بأسًا، وكره صلاة المكتوبة فيه الشافعي، وقال مالك: لا بأس بالصلاة النافلة.
(4) ويذكره قاله الشيخ وغيره، فإن لم يدخله فلا بأس ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخله في حجه ولا في عمرته، وإنما دخله عام الفتح، ويكثر النظر إليه لأنه عبادة إلا في الصلاة فإن المطلوب فيها النظر إلى موضع سجوده، لأنه أجمع لقلبه على العبادة.(7/159)
(وله تأخيره) أي تأخير الطواف عن أيام منى(1) لأن آخر وقته غير محدود كالسعي(2) (ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا)(3) لأن سعيه أولا كان للعمرة فيجب أن يسعى للحج(4)
__________
(1) لأنه تعالى أمر بالطواف مطلقا، فمتى أتى به صح، قال الشارح: بغير خلاف، وظاهره أنه لا دم عليه بتأخيره.
(2) قال في الإنصاف: وإن أخره عنه، وعن أيام منى جاز بلا نزاع وقال الشيخ: ينبغي أن يكون في أيام التشريق، فإن تأخيره عن ذلك فيه نزاع اهـ فالمذهب كقول الشافعي، أن آخره غير موقت، وعند أبي حنيفة: أيام التشريق ومالك: ذي الحجة، والتعجيل أفضل، فإن أخره فعليه دم.
(3) هذا المذهب وهو إحدى الروايات عن أحمد، ومذهب أبي حنيفة.
(4) وقال أحمد: إن طاف طوافين بين الصفا والمروة فهو أجود وإن طاف طوافا واحدا فلا بأس، وقال: وإن طاف طوافين فهو أعجب إلي، قال الشيخ وهذا منقول عن غير واحد من السلف، وعنه: يجزئه سعي واحد، قال ابن عباس: المفرد والمتمتع يجزئه طواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، واختاره الشيخ، وقال، هو أصح أقوال جمهور العلماء، وأصح الروايتين عن أحمد، فإن الصحابة الذين تمتعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة قبل التعريف ، وأكثرهم متمتعون وحلف على ذلك طاوس، وثبت مثله عن ابن عمر، وابن عباس وجابر، وغيرهم وهم أعلم الناس بحجه صلى الله عليه وسلم وذكر ابن القيم رواية أبي داود، ولم يطف بين الصفا والمروة، وفيه اكتفاء المتمتع بسعي واحد.
وقال الشيخ: لم ينقل أحد منهم أن أحدا منهم طاف وسعى، ثم طاف وسعى.
ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقله أحد علم أنه لم يكن، وعمدة من قال بالطوافين ما روى أهل الكوفة عن علي، وابن مسعود، وعن علي: أن القارن يكفيه طواف واحد، وسعي واحد، خلاف ما رواه عنه أهل الكوفة، قال ابن حزم: وما روي في ذلك عن الصحابة لم يصح منه ولا كلمة واحدة، قال الشيخ: فإذا اكتفى المتمتع بالسعي الأول أجزأه، كما يجزئ المفرد والقارن، وهو الذي ثبت في صحيح مسلم عن جابر: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا، طوافه الأول.
وقد روي في حديث عائشة أنهم طافوا مرتين، لكن هذه الزيادة قيل: إنها من قول الزهري، وقال ابن القيم: قيل: من كلام عروة اهـ قال الشيخ: وقد احتج بها بعضهم على أنه يستحب طوافان بالبيت، وهذا ضعيف، والأظهر ما في حديث جابر، ويؤيده «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» فالمتمتع من حيث أحرم بالعمرة دخل بالحج، لكنه فصل بتحلل، ليكون أيسر على الحاج، وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة.(7/160)
.
(أو) كان (غيره) أي غير متمتع بأن كان قارنا، أو مفردا (ولم يكن سعي مع طواف القدوم)(1).
__________
(1) فيسعى لأنه إما ركن، وإما واجب، أو سنة، ولم يأت به، لأنه لا يكون إلا بعد طواف، لفعله صلى الله عليه وسلم وأمره بمتابعته فإن كان سعى مع طواف القدوم لم يسع، لقول جابر: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا، طوافه الأول فأجزأه سعي واحد، قال الشيخ عند جمهور العلماء إلا أبا حنيفة في القارن، وأما جواز تقديمه فقال الوزير: أجمعوا على أن السعي بين الصفا والمروة، يجوز تقديمه على طواف الزيارة ، بأن يفعل عقب طواف القدوم، ويجزئ، فلا يحتاج إذا طاف طواف الزيارة إلى السعي بين الصفا والمروة، ولا خلاف بينهم في ذلك.(7/161)
فإن كان سعى بعده لم يعده(1) لأنه لا يستحب التطوع بالسعي، كسائر الأنساك(2) غير الطواف، لأنه صلاة(3) (ثم قد حل له كل شيء) حتى النساء(4) وهذا هو التحلل الثاني(5) (ثم يشرب من ماء زمزم لما أحب(6) ).
__________
(1) لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يسعوا إلا بعد طواف القدوم، رواه مسلم وغيره.
(2) قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه، وقال النووي: يكره.
(3) أي حكمه حكم الصلاة.
(4) وأجمعت الأمة على ذلك، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن التحلل الثاني يبيح محظورات الإحرام جميعها، ويعود المحرم حلالا، لقول عمر: لم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر فأفاض بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وعن عائشة نحوه، متفق عليهما، و«النساء» بالرفع عطف على «كل»
(5) وفاقا، حيث رمى، ونحر، وحلق، وطاف، وبها تمت أركان الحج الثلاثة، ولم يبق من أعمال الحج إلا المبيت بمنى، والرمي، وهما من الواجبات.
(6) أي يستحب أن يشرب من ماء زمزم، لقول جابر: ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب، وهم يسقون فناولوه، فشرب، وينوي بشربه لما أحب أن يعطيه الله منه من خيري الدنيا والآخرة، فعن ابن عباس مرفوعا «ماء زمزم لما شرب له» رواه أحمد وابن ماجه والحاكم، وغيرهم بسند حسن، أي لما أحب من خيري الدنيا والآخرة، وفي الصحيحين أنه قال لأبي ذر، «إنها مباركة إنها طعام طعم»، ولمسلم عن ابن عباس مرفوعا، «ماء زمزم طعام طعم»
أي تشبع شاربها كالطعام، زاد الطيالسي (وشفاء سقم) وفي قوله صلى الله عليه وسلم «لولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» استحباب شرب مائها، وفضيلة الاستقاء، والعمل فيه، وسميت «زمزم» لكثرة مائها، وقيل: لضم هاجر لمائها حين انفجرت، وزمها إياه، وقيل: لزمزمة جبريل وكلامه عند فجره لها، وقال علي: «هي خير بئر في الأرض».(7/162)
ويتضلع منه(1) ويرش على بدنه وثوبه(2) ويستقبل القبلة(3) ويتنفس ثلاثا(4) (ويدعو بما ورد)(5) فيقول: «بسم الله، اللهم اجعله لنا علما نافعا، ورزقا واسعا، وريا، وشبعا، وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك وحكمتك»(6).
__________
(1) أي يملأ أضلاعه منه بلا نزاع في الجملة، بأن يروي، أو يزيد على الري، ويكره نفسه عليه، لما روى ابن ماجه وغيره «آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم» وقال ابن عباس لرجل: تضلع منها، وذكر الخبر.
(2) صرح به في التبصرة، وذكر الواقدي وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم لما شرب صب على رأسه.
(3) لقول ابن عباس: إذا شربت منها فاستقبل القبلة، واذكر اسم الله، ولا بأس بالشرب قائما للحاجة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شرب منها قائما للحاجة.
(4) لأنه أهنى ، وأمرى، وأروى، قال ابن عباس: إذا شربت من زمزم فاستقبل القبلة، واذكر اسم الله، وتنفس وتضلع منه، فإذا فرغت فاحمد الله.
(5) من الأدعية الشرعية، ولا يستحب الاغتسال منها، قاله الشيخ وغيره.
(6) روي عن عكرمة وغيره، ولأنه لائق به، وشامل لخيري الدنيا والآخرة، فيرجى له حصوله، وروي عن ابن عباس أنه كان إذا شرب منه يقول: اللهم
إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء، و«الري» بكسر الراء وفتحها، ضد الظمأ «والشبع» بكسر الشين المعجمة وفتح الموحدة «والداء» المرض.(7/163)
(ثم يرجع) من مكة بعد الطواف والسعي(1) (فـ) يصلي ظهر يوم النحر بمنى(2) (ويبيت بمنى ثلاث ليال) إن لم يتعجل(3) وليلتين إن تعجل في يومين(4) ويرمى الجمرات أيام التشريق(5).
__________
(1) ولا يبيت بمكة ليالي منى، بلا نزاع في الجملة، بل بمنى، ليتم ما بقي عليه من أعمال الحج، ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا العباس، من أجل سقايته.
(2) لقول ابن عمر: أفاض النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى، متفق عليه، قال الشيخ، والسنة أن يصلي بالناس بمنى، ويصلي خلفه أهل الموسم، ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى، وهو مسجد الخيف، مع الإمام فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، وعمر، كانوا يصلون بالناس قصرا بلا جمع بمنى، ويقصر الناس خلفهم، أهل مكة، وغير أهل مكة، فإن لم يكن للناس إمام عام صلى الرجل بأصحابه، والمسجد بني بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على عهده.
(3) قال الوزير وغيره: هو مشروع إجماعًا، إلا في حق سقاة ورعاة، وهو واجب عند أحمد، في رواية وقول للشافعي اهـ وعنه: سنة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والقول الثاني للشافعي.
(4) أي ويبيت بمنى غير سقاة ورعاة ونحوهم ليلتين إن تعجل في يومين ولا نزاع في جوازه.
(5) وجوابًا إجماعًا وهي الثلاثة بعد يوم النحر، وقال الوزير: اتفقوا على
وجوبه كل جمرة بسبع حصيات، قال الشيخ: ويستحب أن يمشي إليها اهـ، ولأن بعده وقوف ودعاء، فالمشي أقرب إلى التضرع، وقال ابن القيم: لما زالت الشمس مشى من رحله إلى الجمار ولم يركب.(7/164)
(فيرمي الجمرة الأولى(1) وتلي مسجد الخيف(2) بسبع حصيات) متعاقبات(3) يفعل كما تقدم في جمرة العقبة(4) (ويجعلها) أي الجمرة (عن يساره)(5).
__________
(1) إجماعا، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدأ بها، وسميت الأولى، والدنيا لقربها من مسجد الخيف، وهي أبعدهن من مكة، ويرميها بعد الزوال كما سيأتي، ويسن قبل الصلاة.
(2) وهو المسجد المعروف، وأول من بناه المنصور العباسي، وهو محل خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وصلواته «والخيف» ما انحدر من غلظ الحبل وارتفع عن مسيل الماء.
(3) واحدة بعد واحدة يكبر مع كل حصاة، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان للصفة المشروعة، وثبت رميه بسبع، من حديث عمر، وابن مسعود، وعائشة وغيرهم، وثبت التساهل عن بعض الصحابة في البعض، قال سعد: رجعنا من الحجة بعضنا يقول: رميت بست وبعضنا يقول: بسبع، فلم يعب بعضنا على بعض، رواه الأثرم، وعن ابن عمر معناه، قال الموفق: الظاهر عن أحمد لا شيء في حصاة ولا حصاتين.
(4) بأن يرميها بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، يرفع يده، حتى يرى بياض إبطه، ويكبر مع كل حصاة، قاله الشيخ وغيره، قال: وإن شاء قال: اللهم اجعله حجًّا مبرورًا إلخ.
(5) لما في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم تقدم أمامها فوقف
مستقبل القبلة، وفي لفظ: ثم يتقدم حتى يسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ولا يكون كذلك إلا بجعلها عن يساره.(7/165)
ويتأخر قليلاً) بحيث لا يصيبه الحصى(1) (ويدعو طويلاً) رافعا يديه(2) (ثم) يرمي (الوسطى مثلها) بسبع حصيات ويتأخر قليلاً، ويدعو طويلاً(3) لكن يجعلها عن يمينه(4) (ثم) يرمي (جمرة العقبة) بسبع كذلك(5).
__________
(1) وعبارة الموفق وغيره: ثم يتقدم قليلاً، كما في الصحيح وغيره، فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه تقدم أمامها، حتى أسهل فقام مستقبل القبلة.
(2) بقدر سورة البقرة، وقاله الشيخ، وتلميذه وغيرهما، لما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما: فيقوم مستقبل القبلة، قيامًا طويلاً ويدعو ويرفع يديه وقيده بعضهم بقدر سورة البقرة.
(3) بلا نزاع، وظاهر كلام غيره، يتقدم قليلاً ويدعو لما في الصحيحين وغيرهما، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم مستقبل القبلة، ويدعو، ويرفع يديه ويقوم طويلاً، يحمد الله، ويثني عليه، ويهلل ويكبر، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو بحاجته، ويرفع يديه، وقال ابن القيم: ثم انحدر ذات اليسار مما يلي الوادي، فوقف مستقبل القبلة، رافعًا يديه يدعو قريبًا من وقوفه الأول، فتضمن حجه ست وقفات للدعاء، على الصفا، والمروة وبعرفة، ومزدلفة وعند الجمرتين، وإن ترك الوقوف عندها والدعاء فقد ترك السنة ولا شيء عليه.
(4) لما تقدم ولا يكون كذلك إلا بجعلها عن يمينه.
(5) أي بسبع حصيات متعاقبات يرفع يده حتى يرى بياض إبطه ويكبر ويدعو إلى آخره، وقال الموفق وغيره: لا نعلم مخالفا لما تضمنه حديث ابن عمر، إلا ما روي عن مالك في رفع يديه، والسنة متظاهرة بذلك.(7/166)
(ويجعلها عن يمينه(1) ويستبطن الوادي(2) ولا يقف عندها(3) يفعل هذا) الرمي للجمار الثلاث، على الترتيب والكيفية المذكورين(4) (في كل يوم من أيام التشريق(5) بعد الزوال) فلا يجزئ قبله(6)
__________
(1) فيكون مستقبل القبلة،وعنه: يستقبلها لما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرميها من بطن الوادي، مستقبلاً لها، ويكون البيت عن يساره، وقال الشيخ: هذا هو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم.
(2) لما تقدم من الأخبار، والعمل عليه عند أهل العلم، وبعضهم يرى وجوبه.
(3) قال الحافظ وغيره: لا نعلم فيه خلافا، لما في الصحيحين وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم لا يقف عندها، وحكمة الوقوف عندهما دونها والله أعلم تحصيل الدعاء لكونه في وسط العبادة، بخلاف جمرة العقبة، لأن العبادة قد انتهت بفراغ الرمي، والدعاء في صلب العبادة قبل الفراغ منها، أفضل منه بعد الفراغ منها، كالصلاة.
(4) أي في «المتن» وذلك باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وبنقل الخلف عن السلف.
(5) فيرمي في اليوم الثاني من أيام منى، مثل ما رمى في الأول، ثم إن شاء رمى في اليوم الثالث، وهو الأفضل، وإن شاء تعجل في اليوم الثاني بنفسه، قبل غروب الشمس.
(6) عند جمهور العلماء فعن عائشة: مكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمار،
إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة
يقف عند الأولى، والثانية، فيطيل القيام والتضرع، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندها، رواه أبو داود، ولمسلم عن جابر، رأيته يرمي على راحلته يوم النحر، وأما بعد ذلك، فبعد زول الشمس، وللترمذي وحسنه: عن ابن عباس كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس، قال: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، أنه لا يرمي بعد يوم النحر إلا بعد الزوال، فوقت الزوال للرمي، كطلوع الشمس لرمي يوم النحر، وله عن ابن عمر مرفوعًا: أنه كان يمشي إلى الجمار، وله عنه أيضا وصححه: كان إذا رمى الجمار مشى إليها، ذاهبًا وراجعًا، وقال: العمل عليه عند أكثر أهل العلم.(7/167)
.
ولا ليلاً لغير سقاة ورعاة(1) والأفضل الرمي قبل صلاة الظهر(2) ويكون (مستقبل القبلة) في الكل(3) (مرتبًا) أي يجب ترتيب الجمرات الثلاث على ما تقدم(4).
__________
(1) فهم يرمون ليلاً ونهارًا «والسقاة» جمع ساق، اسم فاعل والسقاية: مصدر، كالحماية والرعاية، مضاف إلى المفعول: وليس المراد الذين يأتون بالماء للحاج، إنما الرخصة لسقاة زمزم خاصة، لأنها إنما وقعت للعباس، وهو صاحب زمزم، كما قاله المجد وغيره، والرعاة: هم رعاة الإبل خاصة، بضم الراء، جمع راع، ويجمع على رعيان.
(2) لفعله صلى الله عليه وسلم.
(3) أي حال الرمي، وآخر وقت كل يوم: المغرب، وتقدم: أنه يرمي جمرة العقبة مستقبلاً لها، والكعبة عن يساره.
(4) قريبًا، بأن يرمي الأولى، وتلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، وهو شرط، إلا عند أبي حنيفة، فلو نكسه فبدأ بغير الأولى، لم يحتسب له إلا بها، ويعيد رمي الأخيرتين مرتين، وإن أخل بحصاة من الأولى لم يصح رمي.
الثانية، وإن جهل محلها بنى على اليقين، والموالاة ليست بشرط، جزم به مرعي وغيره، قال الخلوتي، يدل عليه قول: وإن جهل من أيها ترك، بنى على اليقين، أي فيجعلها من الأولى فيذهب إليها، فيرميها بحصاة واحدة فقط، ثم يعيد رمي ما بعدها، فإنها لو كانت الموالاة غير معتبرة، لما أعاد رمي الأولى.
وقال في قوله: وفي ترك حصاة ما في إزالة شعرة، بشرط أن تكون الأخيرة وأن يكون سائر ما قبلها من الجمرات وقع تاما، وأن تكون أيام التشريق قد مضت، فإنه لو كان الترك من غير الأخيرة، لم يصح رميه، ولم يصح رمي ما بعدها بالمرة، ولو كان جميع الترك من الأخيرة، ولم تمض أيام التشريق، وجب عليه أن يعيد، ولم يجزئه الإطعام، لبقاء وقت الرمي، وفي حاشيته، قوله: ومن له عذر، من نحو مرض، وحبس جاز أن يستنيب من يرمي عنه، هذا فيما إذا كان فرضًا، وأما إن كان نفلا جاز أن يستنيب ولو لغير عذر.(7/168)
(فإن رماه كله) أي رمى حصى الجمار السبعين كله (في) اليوم (الثالث) من أيام التشريق (أجزأه) الرمي أداءً(1) لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي(2) (ويرتبه بنيته) فيرمي لليوم الأول بنيته(3) ثم للثاني مرتبا، وهلم جرا(4).
كالفوائت من الصلاة(5) (فإن أخره) أي الرمي (عنه) أي عن ثالث أيام التشريق فعليه دم(6) (أو لم يبت بها) أي بمنى (فعليه دم)(7) لأنه ترك نسكًا واجبًا(8) ولا مبيت على سقاة ورعاة(9)
__________
(1) قال في الإنصاف: بلا نزاع، كتأخير وقوف بعرفة إلى آخر وقته.
(2) لأنه عليه الصلاة والسلام جوزه للرعاة، فلزم تجويزه لغيرهم.
(3) فيرمي الأولى، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة.
(4) أي يرمي لليوم الثاني مرتبًا بنيته، يبتدئ بالأولى، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة وهلم جرا، فيرمي للثالث كذلك، ويوالي بين الرمي.
(5) أي يرتبه بنيته، كما يرتب الفوائت من الصلاة بنيته.
(6) أي فيستقر عليه الدم شاة.
(7) وهو مذهب مالك، وقول للشافعي، وعنه: لا شيء عليه، وفاقا لأبي حنيفة.
(8) فاستقر عليه الدم، لقول ابن عباس: من ترك نسكًا فعليه دم، والمبيت نسك عند الجمهور.
(9) أي أهل سقاية الحج، القائمين بها، قولاً واحدًا، لما روي عن ابن عمر: أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته فأذن له، متفق عليه، وكذا الرعاة، قال في الإنصاف: بلا نزاع، لما روى الترمذي وصححه: رخص لرعاة الإبل في البيتوتة، في أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر، يرمونه في أحدهما، ولأنهم يشتغلون بإسقاء الماء والرعي، فرخص لهم في ذلك، وكان العباس يلي السقاية، في الجاهلية والإسلام فمن قام بذلك بعده إلى الآن، فالرخصة له، وهم أهل سقاية زمزم.
ولما نزلت { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } الآية قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال صلى الله عليه وسلم «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرًا» ورواه البغوي بلفظ «اعملوا فإنكم على عمل صالح» وقال الموفق وغيره: أهل الأعذار كالمرضى ونحوهم، ومن له مال يخاف ضياعه، أو فواته، أو موت مريض، حكمه حكم الرعاة والسقاة، في ترك البيتوتة، وجزم به جمع، وصوبه في الإنصاف .
وقال ابن القيم: يجوز للطائفتين ترك المبيت بالسنة، وإذا كان قد رخص لهم، فمن له مال يخاف ضياعه، أو مريض يخاف من تخلفه عنه، أو كان مريضًا لا تمكنه البيتوتة، سقطت عنه، بتنبيه النص على السقاة والرعاة اهـ، وإن أدرك الليل الرعاة بمنى، لزمهم المبيت إلا أن تكون إبلهم في المرعى، ونحوه، فلهم الخروج لها إن خافوا عليها، وأهل السقاية يسقون ليلاً ونهارًا فلا يلزمهم.(7/169)
.
ويخطب الإمام ثاني أيام التشريق، خطبة يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير والتوديع(1) (ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب)(2) ولا إثم عليه(3) وسقط عنه رمي اليوم الثالث(4).
__________
(1) لما روي أبو داود عن رجلين من بنى بكر قالا: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بمنى، أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، ليذكر العالم، ويعلم الجاهل.
(2) قال في الإنصاف: بلا نزاع، وهو النفر الأول.
(3) قال تعالى: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } أي أن يصيب في حجه شيئا نهاه الله عنه، خيرَّه تعالى ونفى الحرج، وظاهره، يشمل مريد الإقامة بمكة وغيره، قال في المبدع: وهو قول أكثر العلماء اهـ والأفضل أن يمكث ويرمي لفعله صلى الله عليه وسلم ونفي الإثم لا يقتضي المساواة، لنزولها بسب أن أهل الجاهلية منهم من يؤثِّم المتقدم، ومنهم من يؤثِّم المتأخر، فنفى الإثم تعالى عنهما لأخذ أحدهما بالرخصة، والآخر بالأفضل، وقيل: معناه: يغفر لهما بسبب تقواهما، فلا يبقى عليهما ذنب، كما روي عن ابن عباس وغيره.
(4) حيث تعجل، ولا نزاع في ذلك ، سوى الإمام، فالسنة بقاؤه، ليقيم لمن تأخر من الحاج نسكهم.(7/170)
ويدفن حصاه(1) (وإلا) يخرج قبل الغروب (لزمه المبيت، والرمي من الغد) بعد الزوال(2) قال ابن المنذر: وثبت عن عمر أنه قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني، فليقم إلى الغد، حتى ينفر مع الناس(3)
__________
(1) لا حاجة لدفنه، ولا يتعين عليه، بل له طرحه، أو دفعه إلى غيره.
(2) لأن الشارع إنما جوز التعجيل في اليومين ، واليوم : اسم لبياض النهار، فإذا غربت الشمس لزمه المبيت، والرمي من الغد بلا نزاع.
(3) رواه مالك، وقال الشافعي، ليس له أن ينفر بعد غروب الشمس، وهو رواية عن أبي حنيفة وقاله الشيخ وغيره؛ وقال: ولأن الشارع جوز التعجيل في اليوم وهو اسم لبياض النهار، فإذا غربت الشمس خرج من أن يكون في اليوم فهو ممن تأخر، فلزمه المبيت بمنى، والرمي بعد الزوال، ونص عليه جمهور أهل العلم، وقال: ولا ينفر الإمام الذي يقيم للناس المناسك، بل السنة أن يقيم إلى اليوم الثالث، وقال أيضا: ليس له التعجيل لأجل من يتأخر اهـ، ثم إن نفر في اليوم الثاني، ثم رجع في اليوم الثالث، لم يضره رجوعه، وليس عليه رمي، لحصول الرخصة.
قال الشيخ: ثم إن نفر من منى، فإن بات بالمحصب، وهو الأبطح، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة، ثم نفر بعد ذلك فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بات به وخرج، ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى، لكنه ودع البيت، وقال: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت.
وقال ابن القيم: اختلف السلف في التحصيب، هل هو سنة أو منزل اتفاق؟
فقالت طائفة: هو من سنن الحج، لما في الصحيحين: «نحن نازلون غدا إن شاء الله، بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» فقصد إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر، والعداوة لله ورسوله، ولمسلم: أن أبا بكر وعمر كانوا ينزلونه ، وابن عمر يراه سنة.
وذهبت طائفة منهم ابن عباس وعائشة، إلى أنه ليس بسنة، وإنما هو منزل اتفاق، وقال أبو رافع: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أنا ضربت قبته فيه، ثم جاء فنزل، فأنزل الله فيه بتوفيقه، تصديقًا لقوله صلى الله عليه وسلم قال في المبدع: ولا خلاف في عدم وجوبه.(7/171)
.
(فإذا أراد الخروج من مكة) بعد عوده إليها(1) (لم يخرج حتى يطوف للوداع)(2) إذا فرغ من جميع أموره(3).
__________
(1) من منى، وظاهره: طال عوده إليها أو قصر؛ طال عهده بالبيت أو لا؛ ومفهومه أيضا أنه لو سافر لبلده من منى، ولم يأت مكة، ولم يكن عليه وداع، وصرح به شيخ الإسلام وغيره، وقال في الفروع: فإن ودع ثم أقام بمنى، ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه اهـ ورجحه شيخنا.
(2) لوجوبه عليه، ولم يصرحوا به، ويؤخذ من قولهم: من ترك طواف الزيارة ولم يقولوا: من اكتفى به، وقال الشيخ وغيره: هو واجب عند الجمهور وقال الوزير وغيره: واجب عند أبي حنيفة، وأحمد، والمشهور عند أصحاب الشافعي، وقال القاضي والأصحاب، إنما يستحق عليه عند العزم على الخروج، واحتج به الشيخ على أنه ليس من الحج، وهو مذهب الشافعي، وفي الإنصاف: يستحب أن يصلي ركعتين بعد الوداع، ويقبل الحجر.
(3) حتى يكون آخر عهده بالبيت، وهذا مما لا نزاع في مشروعيته.(7/172)
لقول ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. متفق عليه(1) ويسمى طواف الصدر(2) (فإن أقام) بعد طواف الوداع(3) (أو اتجر بعده أعاده) إذاعزم على الخروج، وفرغ من جميع أموره(4).
__________
(1) «أمر الناس» على البناء للمجهول، والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم وكذا «خفف» ولمسلم: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال صلى الله عليه وسلم «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» وفيه دليل على وجوبه، وقال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم، ومن حديث الحارث، «من حج هذا البيت أو اعتمر، فليكن آخره عهده بالبيت» وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ارتحل من الأبطح، فمر بالبيت فطاف به، ثم سار متوجها إلى المدينة، من أسفل مكة من ثنية كدى.
(2) بفتح الصاد والدال المهملتين، وهو: رجوع المسافر من مقصده صححه في الإنصاف وغيره، وقيل: طواف الصدر، هو الإفاضة كما تقدم لأنه يصدر إليه من منى.
(3) لغير شد رحل ونحوه أعاده نص عليه للأخبار.
(4) ليكون آخر عهده بالبيت قولاً واحدًا، كما ثبت من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم لكن لو اتجر من غير تعريج لم تلزمه الإعادة، وصرح في المغني والشرح وغيرهما أنه: إن قضى حاجة في طريقه، أو اشترى زادًا، أو شيئًا لنفسه في طريقه، لم يعده بلا خلاف، لأن ذلك ليس باتجار، ولا إقامة وقال الشيخ فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها، ولكن إن قضى حاجته أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل على دابته، ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل، فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده.(7/173)
ليكون آخر عهده بالبيت(1) كما جرت العادة في توديع المسافر أهله وإخوانه(2) (وإن تركه) أي طواف الوداع (غير حائض رجع إليه) بلا إحرام، إن لم يبعد عن مكة(3) ويحرم بعمرة إن بعد عن مكة، فيطوف ويسعى للعمرة، ثم للوداع(4) (فإن شق) الرجوع على من بعد عن مكة دون مسافة قصر(5).
__________
(1) كما أنه أول مقصود له عند قدومه إليه.
(2) يودعهم عند خروجه، فكذا يكون آخر عهده بالبيت طواف الوداع، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه، بإجماع من أوجبه، إلا ما حكي عن أبي حنيفة فيمن نواه بعد ما حل له النفر الأول، وإن خرج غير حاج فظاهر كلام الشيخ لا يودع، ولو خرج من عمران مكة لحاجة فطرأ له السفر، لم يلزمه دخولها لأجل طواف الوداع، لأنه لم يخاطب به حال خروجه.
(3) لقرب المسافة، ما لم يخف على نفس، ولا مال، ولا فوات رفقة، ولأنه رجوع لإتمام نسك مأمور به، أشبه من رجع لطواف الزيارة، ويأتي بالواجب من غير مشقة تلحقه.
(4) واستشكله ابن نصر الله، لأنه إذا أحرم بعمرة مع أنه في بقية إحرام الحج، يكون قد أدخل عمرة على حجة، وقال: الصحيح عدم جوازه، وقال الشيخ: ليس الوداع من الحج ولا يتعلق به.
(5) فعليه دم، لتركه الواجب في الحج، وظاهره، لا يلزمه الرجوع، لما فيه من المشقة، أشبه ما لو وصل إلى بلده.(7/174)
أو بعد عنها مسافة قصر فأكثر، فعليه دم(1) ولا يلزمه الرجوع إذا(2) (أو لم يرجع) إلى الوداع (فعليه دم)(3) لتركه نسكًا واجبًا(4) (وإن أخر طواف الزيارة)(5) ونصه: أو القدوم (فطافه عند الخروج أجزأ عن) طواف (الوداع)(6) لأن المأمور به: أن يكون آخر عهده بالبيت، وقد فعل(7).
__________
(1) رجع أو لا.
(2) دفعا للحرج، سواء تركه عمدا، أو خطأ، لعذر أو غيره، وحاصله أن من خرج قبل الوداع إما أن يرجع قبل مسافة قصر من مكة، أو بعدها، ففي الأول لا شيء عليه، ويعود بلا إحرام، وفي الثاني يحرم بعمرة، ولا يسقط عنه الدم كمن لم يرجع.
(3) قال النووي وغيره: في قول أكثر العلماء اهـ يوصله إلى الحرم إن أمكن وإلا فرقه في مكانه، أو بلده.
(4) في قول أكثر أهل العلم، فوجب بتركه دم، وقال ابن المنذر وغيره: هو واجب، للأمر به، إلا أنه لا يجب بتركه شيء، وهو ظاهر كلام الشيخ.
(5) فطافه عند الخروج أجزأ عن الوداع.
(6) قطع به الأكثر، وظاهره، ولو لم ينو طواف الوداع.
(7) أي كان آخره عهده بالبيت الطواف، ولأن ما شرع، كتحية المسجد، يجزئ عنه الواجب من جنسه، كركعتي الطواف، تجزئ عنها المفروضة، فيجزئ طواف الزيارة عن طواف الوداع.(7/175)
فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة(1) ولا وداع على حائض ونفساء(2) إلا أن تطهر قبل مفارقة البنيان(3) (ويقف غير الحائض) والنفساء بعد الوداع في الملتزم(4) وهو أربعة أذرع(5).
__________
(1) لعدم نيته طواف الزيارة، وهو ركن من أركان الحج، لا يتم إلا به، فلا بد من نيته لتعينه.
(2) في قول عامة الفقهاء، وفي الإنصاف، بلا نزاع، لقول ابن عباس: إلا أنه خفف عن الحائض، متفق عليه، وتقدم، وهو أصل في سقوط الوداع عنها، والنفساء مثلها فيما يجب، ويسقط، ولا فدية لذلك، قال في المبدع: وألحق الطبري وغيره بهن من خاف نحو ظالم، وغريم وهو معسر، وفوت رفقة.
(3) أي فعليها أن ترجع، وتغتسل وتودع، لأنها في حكم الحاضرة، فإن لم تفعل، ولو لعذر فعليها دم، لتركها نسكًا واجبًا، وإن كان بعد مفارقة البنيان لم يلزمها الرجوع، لخروجها عن حكم الحضر.
(4) وهو مذهب الشافعي وغيره، وكان ابن عباس يلتزم ما بين الركن والباب، وكان يقول: لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، والملتزم اسم مفعول من : التزم ويقال له المدعى، والمتعوذ سمي بذلك بالتزامه للدعاء والتعوذ، ويسمى الحطيم، لأن الناس يزدحمون على الدعاء فيه، ويحطم بعضهم بعضًا.
(5) أي الملتزم ذرعه أربعة أذرع بذراع اليد.(7/176)
(بين الركن) أي الذي به الحجر الأسود (والباب)(1) ويلصق به وجهه، وصدره ، وذراعيه، وكفيه مبسوطتين(2) (داعيا بما ورد)(3) ومنه «اللهم هذا بيتك، وأنا عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك(4) حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك، حتى بلغتني بنعمتك إلى
__________
(1) أي باب الكعبة المشرفة، قال النووي: وهذا متفق عليه، فيلتزم ذلك الموضع.
(2) وجميعه، لقول عبد الرحمن بن صفوان، وافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة، وأصحابه قد استلموا البيت، من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا صدورهم على البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم رواه أبو داود، وله عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: طفت مع عبد الله، فلما جاء دبر الكعبة، قلت: ألا تتعوذ؟ قال: أعوذ بالله من النار، ثم مضى، حتى استلم الحجر، فقام بين الركن والباب، فوضع صدره، وذراعيه وكفيه، هكذا وبسطهما بسطًا، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه موضع تجاب فيه الدعوات.
(3) وقال الشيخ وغيره، والمراد إن أحب ذلك، قال: وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة، قال: ولو وقف عند الباب، ودعا هنالك، من غير التزام للبيت كان حسنًا، وإن شاء قال في دعائه الدعاء المأثور عن ابن عباس.
(4) اعترافا لله بالعبودية التي هي أشرف مقامات العبد.(7/177)
بيتك(1) وأعنتني على أداء نسكي(2) فإن كنت رضيت عني، فازدد عني رضى(3) وإلا فمن الآن(4) قبل أن تنأى عن بيتك داري(5) وهذا أوان انصرافي(6) إن أذنت لي، غير مستبدل بك، ولا ببيتك(7) ولا راغب عنك، ولا عن بيتك(8) اللهم فأصحبني العافية في بدني(9) والصحة في جسمي(10)»
__________
(1) يعني الكعبة المشرفة، وسخرت لي أي ذللت لي من مخلوقك ما أسير عليه، و«بلَّغتني» بتشديد اللام، أي أوصلتني «بنعمتك» أي بإنعامك علي «إلى بيتك» الذي لا أصل إليه إلا بتيسيرك.
(2) يعني من الحج، والعمرة «وأداء» بالمد اسم للتأدية.
(3) طلبا لزيادة الرضى من الله، وهي صفة من صفاته جل وعلا.
(4) أي الوقت الحاضر علي، «وُمنَّ» بضم الميم، وتشديد النون، من: منَّ يمنُّ فعل دعاء، ويروى بكسر الميم، وتخفيف النون، فيصير حرفًا لابتداء الغاية.
(5) و «تنأى» مضارع «نأت» أي تبعد.
(6) أي وقت منقلبي.
(7) أي إن أذنت لي في الانصراف، غير متخذ عوضًا ولا خلفًا بك ولا ببيتك.
(8) أي معرض، يقال: رغب عنه، أعرض عنه وتركه.
(9) إذ لم يعط أحد بعد الإسلام خيرًا من العافية، «وأصحبني» بقطع الهمزة.
(10) وفي الخبر: «اثنتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ».(7/178)
والعصمة في ديني(1) وأحسن منقلبي(2) وارزقني طاعتك ما أبقيتني(3) واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير(4) ويدعو بما أحب(5) ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم(6)، ويأتي الحطيم أيضا، وهو تحت الميزاب فيدعو(7).
ثم يشرب من ماء زمزم(8) ويستلم الحج، ويقبله، ثم يخرج(9)
__________
(1) العصمة منع الله عبده من المعاصي.
(2) أي منصرفي و«أحسن» بقطع الهمزة.
(3) فمن رزقه الطاعة فقد فاز.
(4) روي عن ابن عباس، وأورده في المحرر، وفي الشرح حكاه عن بعض الأصحاب وهو لائق بالمحل.
(5) فأي شيء دعا به فحسن من خيري الدنيا والآخرة.
(6) لأن الدعاء لا يرد إذا اقترن به.
(7) فهو من المواضع التي تستجاب فيها الدعوات، قال ابن القيم: الصحيح أن الحطيم الحجر نفسه اهـ سمي الحجر «حطيمًا» لما حطم من جداره، وكانت قريش قصرت بها النفقة عن إتمام البيت، وأتمه ابن الزبير على قواعد إبراهيم، لما بلغه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخرجه الحجاج، ولم يسوه ببناء البيت، وتركه خارجا منه، محطوم الجدار.
وأصل الحطم الكسر، وإنما سمي حجرا لأنه «حجر» أي اقتطع من الأرض، بما أدير عليه من البنيان، وليس كله من البيت كما تقدم، بل ستة أذرع وثلث، وأكثر أهل اللغة على أن الحطيم هو ما بين الباب وزمزم.
(8) قال الشيخ وغيره: لما أحب، ويدعو بما ورد؛ كما تقدم، قال الشيخ: ومن حمل من ماء زمزم جاز، فقد كان السلف يحملونه.
(9) ذكره الشيخ، ورواه منصور، عن مجاهد، فإذا ولى لا يقف، ولا يلتفت، حتى قيل: إن التفت رجع وودع استحبابًا، ذكره جماعة وفي الفائق وغيره: لا يستحب له المشي قهقرى بعد وداعه.
قال الشيخ: بدعة مكروهة فإذا ولى لا يقف، ولا يلتفت، ولا يمشي القهقرى وهي مشية الراجع إلى خلف، بل يخرج كما يخرج الناس من المساجد عند الصلاة، وكذلك عند سلامه عليه صلى الله عليه وسلم.(7/179)
(وتقف الحائض) والنفساء (ببابه) أي باب المسجد(1) (وتدعو بالدعاء) الذي سبق(2) (وتستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه) رضي الله عنهما(3)
__________
(1) ولا تدخله لأنها ممنوعة من دخوله، لخبر «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» وقال ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن الحائض، متفق عليه، والنفساء في منزلتها، فيتناولها النص دلالة، وقال لما حاضت صفية «أحابستنا هي؟» قالوا: إنها قد أفاضت، فهما أصل في سقوط طواف الوداع، وقال: والعمل عليه عند أهل العلم، أن المرأة إذا طافت طواف الزيارة، ثم حاضت، أنها تنفر وليس عليها شيء، وهو قول الشافعي وأحمد.
(2) أو بغيره، إذ لا محذور من ذلك، ولمشاركتها الرجل فيه.
(3) أي ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه، وهو مراد من أطلق من الأصحاب، فإن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم خير من ألف
صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، قال الشيخ: فإذا دخل المدينة قبل الحج، أو بعده، فإنه يأتي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي فيه، والصلاة فيه خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، ولا تشد الرحال إلا إليه، وإلى المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، هكذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد وهو مروي من طرق أُخر، قال: ومسجده كان أصغر مما هو اليوم، وكذلك المسجد الحرام، لكن زاد فيهما الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم وحكم الزيادة حكم المزيد في جميع الأحكام.
قال: والنية في السفر إلى مسجده وزيارة قبره مختلفة، فمن قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه، فهذا مشروع، بالنص والإجماع، وكذا إن قصد السفر إلى مسجده وقبره معًا، فهذا قصد مستحبًّا مشروعًا بالإجماع، وإن لم يقصد إلا القبر، ولم يقصد المسجد ، فهذا مورد النزاع، فمالك والأكثرون: يحرمون هذا السفر، وكثير من الذين يحرمونه، لا يجوزون قصر الصلاة فيه، وآخرون يجعلونه سفرا جائزا، وإن كان السفر غير جائز، ولا مستحب، ولا واجب بالنذر.
ولم يعرف عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا تستحب، ونحو ذلك، ولا علق بهذا الاسم حكمًا شرعيًّا، وقد كره كثير من العلماء التكلم به، وذلك اسم لا مسمى له، ولفظ لا حقيقة له، وإنما تكلم به من تكلم من بعض المتأخرين، ومع ذلك لم يريدوا ما هو المعروف من زيارة القبور، فإنه معلوم أن الذاهب إلى هناك، إنما يصل إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والمسجد نفسه يشرع إتيانه، سواء كان القبر هناك أو لم يكن.(7/180)
.
لحديث «من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي» رواه الدارقطني(1).
فيسلم عليه مستقبلاً له(2)
__________
(1) قال الشيخ: هذا الحديث ضعيف، باتفاق أهل العلم، ليس في شيء
من دواوين الإسلام التي يعتمد عليها، ولا نقله إمام من أئمة المسلمين، والدارقطني وأمثاله يذكر هذا ونحوه ليبين ضعف الضعيف من ذلك، وقال ابن عبد الهادي: منكر المتن ساقط الإسناد، لم يصححه أحد من الحفاظ، ولا احتج به أحد من الأئمة بل ضعفوه وطعنوا فيه، وذكر بعضهم أنه من الأحاديث الموضوعة، والأخبار المكذوبة، وقال: منكر جدًّا.
(2) وذلك بأن يستقبل مسمار الفضة، في الرخامة الحمراء، ويسمى الآن الكوكب الدري، وظهره إلى القبلة بعد تحية المسجد، فيقول: السلام عليك يا رسول الله، لما رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة مرفوعا «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام» وظاهره، أن هذه الفضيلة تحصل لكل مسلم، قريبًا كان أو بعيدًا، وكان ابن عمر لا يزيد على ذلك، ثم يتقدم قليلاً، ويسلم على أبي بكر رضي الله عنه، ثم يتقدم قليلا فيسلم على عمر رضي الله عنه.
قال الشيخ: يسلمون عليه مستقبلي الحجرة، مستدبري القبلة، عند أكثر العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة قال: يستقبل القبلة، ومن أصحابه من قال: يستدبر الحجرة ومنهم من قال: يجعلها عن يساره، وقال: ويسلم عليه، وعلى صاحبيه، فإنه قال: «ما من رجل يسلم علي، إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام» قال: وإذا قال: السلام عليك يا نبي الله، يا خيرة الله من خلقه، يا أكرم الخلق على ربه، يا إمام المتقين، فهذا كله من صفاته يأبى هو وأمي صلى الله عليه وسلم وكذلك إذا صلى عليه مع السلام، فهذا مما أمر الله به اهـ.
وإن قال: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه، ورحمة الله وبركاته اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرًا (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ *) اللهم لا تجعله آخر العهد بقبر نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا من مسجدك، يا أرحم الراحمين فلا بأس.(7/181)
.
ثم يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، ويدعو بما أحب(1) ويحرم الطواف بها(2).
__________
(1) هكذا ذكره بعض الأصحاب، وغيرهم مجردًا عن الدليل، قال الشيخ: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، فإنه منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الناس كراهة لذلك، ولا يقف عند القبر للدعاء لنفسه، فإن هذا بدعة، ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده يدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة، ويدعون في مسجده، فإنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» وقال «لا تجعلوا قبري مسجدًا وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» فأخبر أنه يسمع الصلاة والسلام من القريب، وأنه يبلغ ذلك من البعيد، وقال «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا، أخرجاه.
فدفنته الصحابة في موضعه الذي مات فيه، من حجرة عائشة، وكانت هي وسائر الحجر خارج المسجد، من قبليه وشرقيه، لكن لما كان في زمن الوليد، أمر عمر بن عبد العزيز، أن تشترى الحجر، ويزاد في المسجد، فدخلت الحجرة في المسجد، وبنيت منحرفة عن القبلة، مسنمة لئلا يصلي إليها أحد، فإنه قال صلى الله عليه وسلم «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» رواه مسلم.
(2) بإجماع المسلمين، وقال الشيخ وغيره: يحرم الطواف بغير البيت العتيق اتفاقا.(7/182)
ويكره التمسح بالحجرة(1) ورفع الصوت عندها(2)
__________
(1) وتقبيلها والمراد كراهة التحريم، قال الشيخ: اتفقوا على أنه لا يقبل جدار الحجرة ولا يتمسح به، فإنه من الشرك، والشرك لا يغفره الله، وإن كان أصغر إلا بالتوبة منه.
(2) أي يكره رفع الصوت، عند حجرته صلى الله عليه وسلم كما لاترفع فوق صوته لأنه في التوقير والحرمة كحياته، قال الشيخ: ورفع الصوت في المساجد منهي عنه، وهو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أشد، وقد ثبت: أن عمر رأى رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد، فقال: لو أعلم أنكما من أهل البلد، لأوجعتكما ضربا، إن الأصوات لا ترفع في مسجده صلى الله عليه وسلم، فما يقوله بعض جهال العامة، من رفع الصوت عقب الصلاة، من قولهم: السلام عليك يا رسول الله، بأصوات عالية، أو منخفضة، بدعة محدثة، بل ما في الصلاة من قول المصلين: السلام عليك أيها النبي هو المشروع، كما أن الصلاة مشروعة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان، وقد ثبت أنه قال «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرًا».
وفي الفنون: قدم أبو عمران، فرأى ابن الجوهري يعظ، قد علا صوته، فقال: ألا، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم في التوقير، والحرمة، بعد موته كحال حياته، وكما لا ترفع الأصوات بحضرته حيًّا، ولا من وراء حجرته، فكذا بعد موته؛ انزل فنزل ابن الجوهري، وفزع الناس لكلام أبي عمران قال ابن عقيل: لأنه كلام صدق وعدل، وجاء على لسان محق، فتحكم على سامعه اهـ وأوجبه بعضهم وكذا عند حديثه يعدونه كرفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: ويستحب أن يأتي مسجد قباء، ويصلي فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تطهر في بيته وأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء لا يريد
إلا الصلاة، غفرت له ذنوبه» في أحاديث كثيرة، وأما زيارة المساجد، التي بنيت بمكة، غير المسجد الحرام، كالمسجد الذي تحت الصفا، وما في سفح أبي قبيس، ونحو ذلك، من المساجد التي بنيت على آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كمسجد المولد وغيره، فليس قصد شيء من ذلك من السنة، ولا استحبه أحد من الأئمة ومثل جبل حراء، والجبل الذي عند منى، الذي كان يقال فيه، إنه قبة الفداء، ونحو ذلك، فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك، بل هو بدعة، وكذلك ما يوجد في الطرقات، من المساجد المبنية.
قال: وقبر الخليل كان مسدودًا، بمنزلة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأحدث عليه المسجد، وكان أهل العلم والدين، العالمون العاملون بالسنة، لا يصلون هناك، وأما التمر الصيحاني، فلا فضيلة فيه، بل غيره من البرني والعجوة خير منه، والأحاديث إنما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، كما في الصحيح «من تصبح بسبع تمرات عجوة، لم يصبه ذلك اليوم سم ولا سحر» وكذا قول بعض الجهال، إن عين الزرقاء جاءت معه من مكة، ولم يكن بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عين جارية، لا الزرقاء، ولا عيون حمزة، ولا غيرها، بل كل ذلك مستخرج بعده.(7/183)
.
وإذا أدار وجهه إلى بلده، قال: «لا إله إلا الله(1) آئبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون(2)»
صدق الله وعده، ونصر عبده،وهزم الأحزاب وحده(3) (وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات)(4) إن كان مارا به(5) (أو من أدنى الحل) كالتنعيم(6) (من مكي ونحوه) ممن بالحرم(7) و(لا) يجوز أن يحرم بها (من الحرم) لمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم(8).
وينعقد وعليه دم(9)
__________
(1) أي إذا توجه إليها قال ذلك، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما رأى المدينة راجعًا من حجة الوداع، كبر ثلاث مرات، وقال: «لا إله إلا الله آئبون..» إلخ.
(2) «آئبون» راجعون من سفرنا، تائبون لربنا، عابدون لربنا، حامدون له أن بلغنا بيته، وقضينا مناسكنا، فله الحمد.
(3) ويخبرهم، لئلا يقدم بغتة، ويكره أن يطرقهم ليلا لغير عذر، ويبدأ بالمسجد فيصلي ركعتين، ويستحب أن يقال للقادم من الحج، قبل الله حجك، وغفر ذنبك، وأخلف نفقتك، وكانوا يغتنمون أدعية الحاج، قبل أن يتلطخوا بالذنوب.
(4) الذي وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل كل جهة من جهات الأرض، وتقدم تفصيلها.
(5) أي بميقاته الموقت له، أو محاذيا له على ما تقدم.
(6) موضع معروف، بينه وبين مكة، فرسخان، وكذا «الجعرانة» بكسر فسكون، وتخفيف الراء، على الأفصح، وهي على طريق الطائف، على ستة فراسخ من مكة، عذبة الماء، والأفضل منها، لاعتماره منها عام حنين، ثم الحديبية بئر قريب جدة، بالمهملة بينها وبين مكة، كما بين الجعرانة إليها.
(7) وكان ميقاتا له، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه، ولا فرق بين المكي وغيره.
(8) يعني لعائشة رضي الله عنها، حيث أمرها أن تخرج إلى التنعيم، فتأتي بعمرة منه.
(9) أي وينعقد إحرامه بالعمرة من الحل وفاقا، كما لو أحرم بعد أن جاوز الميقات الواجب، لإرساله عائشة، قالوا: ولو لم يجب، لما أرسلها لضيق الوقت.
قال ابن القيم: والعمرة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها: نوعان، لا ثالث لهما، عمرة التمتع، وهي التي أذن فيها عند الميقات، وندب إليها في أثناء الطريق، وأوجبها على من لم يسق الهدي، عند الصفا والمروة، والثانية العمرة المفردة التي ينشئ لها سفرًا، كعمره صلى الله عليه وسلم ولم يشرع عمرة مفردة غيرهما، وفي كليهما المعتمر داخل إلى مكة، وأما عمرة الخارج منها إلى أدنى الحل فلم تشرع، وأما عمرة عائشة فزيادة محضة، وإلا فعمرة قرانها قد أجزأت عنها بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الشيخ: يكره الخروج من مكة لعمرة تطوع، وذلك بدعة، لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه على عهده، لا في رمضان، ولا في غيره، ولم يأمر عائشة، بل أذن لها بعد المراجعة، تطييبًا لقلبها، وطوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقا، وخروجه عند من لم يكرهه، على سبيل الجواز، وإنما اعتمر صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر: عمرة الحديبية في ذي الحجة، سنة ست، وعمرة القضية سنة سبع، وعمرة الجعرانة سنة ثمان، والرابعة مع حجة الوداع سنة عشر.(7/184)
(فإذا طاف وسعى، و) حلق أو (قصر حل )(1) لإتيانه بأفعالها(2).
(وتباح) العمرة (كل وقت) فلا تكره بأشهر الحج(3) ولا يوم النحر أو عرفة(4) ويكره الإكثار(5) والموالاة بينها باتفاق السلف، قاله في المبدع(6).
__________
(1) أي من العمرة، لأنها أحد النسكين فيحل بفعل ما ذكر، كحله من الحج بأفعاله.
(2) من طواف وسعي، وحلق أو تقصير، وهذا مما لا نزاع فيه.
(3) قال الوزير وغيره: أجمعوا أن فعلها في جميع السنة جائز، فقد ندب صلى الله عليه وسلم عليها، وفعلها في أشهر الحج، وقال «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» ويكفي كون النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم، سوى عمرتها التي كانت أهلت بها مع الحج، قال ابن القيم: هو أصل في جواز العمرتين في سنة في سنة بل في شهر اهـ فثبت الاستحباب من غير تقييد، خلافًا لمالك، وأبى حنيفة، فاستثنى أبو حنيفة الخمسة الأيام، ومالك لأهل منى، وكراهة أحمد على الإطلاق، قال الشيخ وغيره: ولا وجه لمن لم يتلبس بأعمال الحج.
(4) أي ولا تكره العمرة يوم النحر، أو يوم عرفة، لمن لم يكن متلبسًا بالحج باتفاق الأئمة.
(5) أي من العمرة، وتكرارها في غير رمضان وكره مالك والحسن العمرة في كل شهر مرتين، وقال مالك: يكره في السنة مرتين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في سنةمرتين.
(6) والموفق وقدمه في الفروع، وقال: اختاره الموفق وغيره، وقال أحمد: إن شاء كل شهر وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة، ولم يأت نص بالمنع من العمرة ولا بالتقرب إلى الله بشيء من الطاعات، ولا من الازدياد من الخير، وهذا قول الجمهور، وقوله: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما» دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار، وتنبيه على ذلك إذ لو كانت لا تفعل في السنة إلا مرة، لسوى بينهما ولم يفرق.(7/185)
ويستحب تكرارها في رمضان، لأنها تعدل حجة(1) (وتجزئ) العمرة من التنعيم(2).
__________
(1) فإنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر أم معقل لما فاتها الحج معه، أن تعتمر في رمضان، وأخبرها أنها تعدل حجة وورد أمره بها لغيرها، ولاجتماع فضل الزمان والمكان، ولكن كانت عمره صلى الله عليه وسلم كلها، في أشهر الحج، مخالفة لهدي المشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج، ويقولون: هي من أفجر الفجور.
قال ابن القيم: وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضل من سائر السنة بلا شك، سوى رمضان، لخبر أم معقل، ولكن لم يكن الله ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا أولى الأوقات، وأحقها بها، فكانت في أشهر الحج، نظير وقوع الحج في أشهره، وهذه الأشهر قد خصها الله بهذه العبادة، وجعلها وقتًا لها والعمرة حج أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج، وقد يقال: إنه يشتغل في رمضان من العبادات، بما هو أهم منها، فأخرها إلى أشهر الحج، مع ما فيه من الرحمة لأمته، فإنه لو فعله لبادرت إليه.
(2) وكره الشيخ وابن القيم الخروج من مكة لعمرة تطوعًا كما تقدم، وأنه بدعة لم يفعله صلى الله عليه وسلم هو ولا أصحابه على عهده، إلا عائشة تطييبًا لنفسها، وكانت طلبت منه أن يعمرها، وقد أخبرها أن طوافها وسعيها قد أجزأها عن حجها وعمرتها، فأبت عليه إلا أن تعتمر عمرة مفردة، وكانت لا تسأله شيئا إلا فعله، فلم يخرج لها في عهده غيرها، لا في رمضان، ولا في غيره اتفاقا، ولم يأمر عائشة، بل أذن لها بعد المراجعة ليطيب قلبها، وتقدم قوله: طوافه وعدم خروجه لها أفضل اتفاقًا، وقال ابن القيم: وأما عمرة الخارج إلى الحل، فلم تشرع، وعمرة عائشة زيادة محضة، ولم يشرع إلا عمرة مع الحج أو مفردة بسفر، لا من الحرم، وفي إجزاء العمرة من التنعيم نزاع.(7/186)
وعمرة القارن (عن) عمرة (الفرض) التي هي عمرة الإسلام(1) (وأركان الحج) أربعة(2) (الإحرام) الذي هو نية الدخول في النسك(3) لحديث «إنما الأعمال بالنيات»(4) (والوقوف) بعرفة(5) لحديث «الحج عرفة»(6).
__________
(1) قال في المبدع وغيره: وهي الأصح أنها تجزئ عنها، لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لما قرنت وطافت «قد حللت من حجك وعمرتك» رواه مسلم ولأن الواجب عمرة واحدة، وقد أتى بها صحيحة، فأجزأت كعمرة المتمتع وهي لا نزاع في إجزائها، ولأن عمرة القارن أحد النسكين للقارن، فأجزأت كالحج، وأما عمرة عائشة فتطييب لقلبها، كما جزم به الشيخ وغيره، ولو كانت واجبة لأمرها بها قبل سؤالها.
(2) حكاه الوزير وغيره اتفاقا، إلا السعي فعند أبي حنيفة أنه واجب، ينوب عنه الدم، واختاره القاضي.
(3) مع تلبية، أو سوى الهدي، لا تجرد من مخيط فقط لأن ذلك واجب كما يأتي، وهو عبادة، ولا يتم إلا بنية كالصلاة، وركن من أركان الحج بالإجماع.
(4) فلا عمل إلا بنية كما تقدم في غير موضع.
(5) أي هو ركن من أركان الحج إجماعًا، وتقدم أنه يجزئ منه ساعة من ليل أو نهار، من فجر يوم عرفة،إلى فجر يوم النحر، وأن الأرجح من الزوال.
(6) أي أنه صلى الله عليه وسلم أمر مناديه «الحج عرفة» أي الحج الصحيح حج «من أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج» رواه الخمسة، وقال سفيان: العمل عليه عند أهل العلم فالوقوف بها ركن، من أركان الحج، لا يتم إلا به إجماعًا، قال في الإنصاف: من طلع عليه الفجر يوم النحر، ولم يقف بها فاته الحج بلا نزاع، لعذر حصر أو غيره أو لغير عذر.(7/187)
(وطواف الزيارة)(1) لقوله تعالى: { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (2) (والسعي)(3) لحديث «اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي» رواه أحمد(4) (وواجباته) سبعة(5).
__________
(1) فهذه الثلاثة هي، أركان الحج، المجمع عليها، قال ابن القيم وغيره: باتفاق المسلمين.
(2) أي الطواف الواجب، الذي لا يحصل التحلل من الإحرام، مالم يأت به، وهو طواف الإفاضة، وآخر المناسك، وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة، ثم نحر، ثم حلق، ثم أفاض فطاف به، وقال لصفية وقد حاضت «أحابستنا؟»، فأخبروه أنها طافت يوم النحر، فمن لم يطف هذا الطواف لا يجوز أن ينفر.
(3) أي هو ركن أيضًا، وهو مذهب الشافعي، والمشهور عن مالك، واختاره جمع، ورجحه ابن كثير.
(4) ولمسلم عن عائشة قالت: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاف المسلمون -يعني بين الصفا والمروة- ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة، وطاف بهما، وقال «لتأخذوا عني مناسككم» فكل ما فعله في حجته تلك واجب، لا بد له من فعله، في الحج، إلا ما خرج بدليل، وقال تعالى: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ } أي أعلام دينه، والمراد المناسك التي جعلها الله أعلاما لطاعته، لا يتم الحج إلا بها، ولأنه نسك في الحج والعمرة، فكان ركنًا فيهما كالطواف ، واختار القاضي أنه واجب، ليس بركن، قال الموفق: وهو أقرب إلى الحق إن شاء الله تعالى، وفي الشرح: وهو أولى، لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب، لا على أنه لا يتم الحج إلا به، فيجبره بدم.
(5) بالاستقراء، وهي عبارة عما يجب فعله، ولا يجوز تركه إلا لعذر، وإذا تركه كان عليه دم يجبر به حجه.(7/188)
(الإحرام من الميقات المعتبر له) وقد تقدم(1) (والوقوف بعرفة إلى الغروب) على من وقف نهارًا(2) (والمبيت لغير أهل السقاية والرعاية بمنى) ليالي أيام التشريق على ما مر(3) (و) المبيت بـ (مزدلفة إلى بعد نصف الليل) لمن أدركها قبله على غير السقاة والرعاة(4) (والرمي) مرتبًا(5) (والحلاق) أو التقصير(6).
__________
(1) أي في المواقيت، لقوله صلى الله عليه وسلم «هن لهن، ولمن مرَّ عليهن من غير أهلهن» وفي لفظ : وقت لأهل كذا كذا وكذا، فدل على وجوب الإحرام منه، ولا نزاع في ذلك.
(2) لأن من أدركها نهارًا، يجب عليه أن يجمع بينه وبين جزء من الليل. لفعله صلى الله عليه وسلم وهو مذهب الجمهور.
(3) من الرخصة لهم على الأصح، وعليه الجمهور للأخبار.
(4) كما تقدم لأن من أدرك مزدلفة أول الليل، يجب عليه المبيت بها معظم الليل، بخلاف السقاة والرعاة، فلا يجب عليهم، وكذا نحوهم عند الجمهور.
(5) أي هو واجب إجماعًا مرتبًا، يوم النحر، ثم أيام التشريق، الأول فالأول، وما تركه من اليوم الأول أو الثاني، يرتبه بنية في آخرها على ما تقدم.
(6) أي أحدهما من واجبات الحج، على ما تقدم، وعند بعضهم: نسك لا يتحلل بدونه.(7/189)
(والوداع(1) والباقي) من أفعال الحج وأقواله السابقة (سنن)(2) كطواف القدوم(3) والمبيت بمنى ليلة عرفة(4) والاضطباع، والرمل في موضعهما(5) وتقبيل الحجر(6) والأذكار، والأدعية(7) وصعود الصفا والمروة(8) (وأركان العمرة) ثلاثة(9) (إحرام وطواف وسعي) كالحج(10).
__________
(1) أي طواف الوداع في الأصح، ويسمَّى طواف الصدر، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت» رواه مسلم، وفي الترغيب والمستوعب، لا يجب على غير الحاج، واختاره الشيخ.
(2) لا يجب بتركه شيء.
(3) عند الجمهور.
(4) قطع به الأكثر، لأنها استراحة والدفع مع الإمام.
(5) فالاضطباع في الأشواط السبعة، والرمل في الثلاثة الأول منها.
(6) كلما حاذاه للأخبار.
(7) في مواضعها المندوب إليها فيها كما تقدم.
(8) للرجال دون النساء، وتقدم ذكر عدد درجه.
(9) بالاستقراء وهو إجماع.
(10) أما الطواف فكالحج، والإحرام كذلك، جزم به المجد وغيره، وقال الوزير: أجمعوا على أن أفعال العمرة، من الإحرام، والطواف، والسعي، أركان لها كلها، وفي الفصول، السعي فيها ركن، بخلاف الحج، لأنها أحد النسكين فلا يتم إلا بركنين كالحج.(7/190)
(وواجباتها الحلاق) أو التقصير(1) (والإحرام من ميقاتها) لما تقدم(2) (فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه) حجًّا كان أو عمرة(3) كالصلاة لا تنعقد إلا بالنية(4) (ومن ترك ركنا غيره) أي غير الإحرام(5) (أو نيته) حيث اعتبرت(6) (لم يتم نسكه) أي لم يصح (إلا به) أي بذلك الركن المتروك هو أو نيته المعتبرة(7).
__________
(1) عند الجمهور، يجب بتركه دم، والأفضل الحلاق لغير المتمتع، إن لم يطل الوقت، فوفر الشعر للحج، وإلا فالتقصير في حقه أفضل، كما تقدم ليحلقه في الحج.
(2) يعني في صفة العمرة، وهو أنه يحرم بها من الميقات، إن كان مارا به، أو من الحل عندهم لمن بالحرم، وتقدم كلام الشيخ وتلميذه، وسننها الغسل، والذكر والدعاء، والحاصل : أنه يجب للعمرة ما يجب للحج، ويسن لها ما يسن له، وبالجملة فهي كالحج في الإحرام، والفرائض، والواجبات والسنن والمحرمات، والمكروهات، والمفسدات، والإحصار، وغير ذلك، إلا أنها تخالفه في أنه ليس لها وقت معين، ولا تفوت، ولا وقوف بعرفة، ولا نزول بمزدلفة وليس فيها رمي جمار، ولا خطبة، ولا طواف قدوم.
(3) أي إلا بالإحرام وهو نية النسك، فلو ترك النية لم يصح نسكه إلا بها.
(4) إجماعا وكذا كل عبادة.
(5) لم يصح نسكه إلا به.
(6) كالطواف، والسعي، بخلاف الوقوف بعرفة، فلا تعتبر له النية.
(7) أي الركن غير الإحرام، لأن الإحرام هو نفس النية، وغير الوقوف لأنه لا يحتاج إليها، لقيام الإحرام عنها، ولا تجبر الأركان ولا بعضها، بدم ولا غيره، لانعدام الماهية بانعدامها أو بعضها.(7/191)
وتقدم أن الوقوف بعرفة يجزئ، حتى من نائم، وجاهل أنها عرفة(1) (ومن ترك واجبًا) ولو سهوًا (فعليه دم)(2) فإن عدمه فكصوم المتعة(3) (أو سنة) أي ومن ترك سنة (فلا شيء عليه)(4) قال في الفصول وغيره: ولم يشرع الدم عنها(5) لأن جبران الصلاة أدخل(6) فيتعدى إلى صلاته من صلاة غيره(7).
باب الفوات والإحصار(8)
__________
(1) لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «وكان وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار» فلا تعتبر له نية، ولا يضر جهله بها، لكن لا بد من حصوله فيها.
(2) سواء كان من حج أو عمرة، ولا إثم مع سهو، وكذا جهل أو نسيان وقال في الفروع: وفي الخلاف وغيره: الحلاق والتقصير لا ينوب عنه، ولا يتحلل إلا به على الأصح.
(3) عشرة أيام، فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
(4) أي هدر، لأنها ليست واجبة، فلم يجب جبرها، كسنن سائر العبادات جزم به الشارح وغيره.
(5) لعدم استحباب سجود السهو لترك مسنون، فالأولى عدم استحباب الدم لترك مسنون، وصاحب الفصول، هو: أبو الوفاء بن عقيل، صاحب الفنون وغيرها، وله الفصول، عشرة مجلدات.
(6) أي لأن جبران الصلاة وهو سجود السهو، أدخل من جبران الحج، وهو الدم.
(7) كما لو سها إمامه فإنه يتعدى إلى صلاة المأموم.
(8) أي بيان أحكامهما، وما يتعلق بذلك.(7/192)
الفوات كالفوت، مصدر «فات» إذا سبق فلم يدرك(1) والإحصار مصدر «أحصره»(2) مرضًا كان أو عدوًّا(3) ويقال: حصره أيضا(4) (من فاته الوقوف) بأن طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة (فاته الحج)(5) لقول جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع، قال أبو الزبير: فقلت له: أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: نعم، رواه الأثرم(6).
__________
(1) وهو هنا كذلك لغة واصطلاحًا، ولا يتأتى إلا في الحج، إذ العمرة لا تفوت إلا تبعًا لحج القارن.
(2) إذا حبسه، وأصل الحصر المنع والحبس عن السفر وغيره.
(3) أي مرضًا كان الحاصر يعني الحابس، أو كان الحاصر عدوًّا، وشرعًا: المنع عن إتمام أركان الحج، أو العمرة، أو هما، لا الواجبات.
(4) أي ورد مزيدًا، ومجردًا، وحصره أي منعه عن المضي في مقصده، دون الرجوع أو معه.
(5) إجماعا، وسقط عنه توابع الوقوف، كمبيت بمزدلفة ومنى، ورمي جمار، وظاهره، ولو كان الجمهور وتقدم.
(6) أي فمفهومه فوت الحج بخروج ليلة جمع، لحديث «الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر، فقد أدرك الحج» ولا نزاع في ذلك.(7/193)
(وتحلل بعمرة)(1) فيطوف ويسعى، ويحلق أو يقصر(2)، إن لم يختر البقاء على إحرامه ليحج من قابل(3) (ويقضي) الحج الفائت(4).
__________
(1) جزم به في المحرر والوجيز، واختاره ابن حامد، لأن قلب الحج عمرة جائز بلا حصر، فمعه أولى، وتجزئه عن عمرة الإسلام.
(2) فقد اتفقوا على أنه لا يخرج من إحرامه، إلا بالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ولا بد فيحل بعمرة، واتفقوا على أن من فاته الحج لا يبقى محرما إلى العام القابل.
(3) فإن اختار البقاء على إحرامه، فله استدامة الإحرام لأنه رضي بالمشقة على نفسه، ويحتمل أن يتحلل بطواف وسعي،وهو قول للشافعي لظاهر الخبر، وقول الصحابة، وصححه الشارح، وزاد: وحلقٍ لأن إحرامه انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى الآخر، كما لو أحرم بالعمرة، وعنه: ينقلب قال في المبدع: اختاره الأكثر، وهو المذهب واستدل بقول عمر لأبي أيوب.
(4) إن كان فرضًا إجماعًا، لأنه لم يأت به على وجهه، فلم يكن بد من الإتيان به، ليخرج من عهدته، وإن كان نفلا فلأن الحج يلزم بالشروع فيه، وهو قول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي لقوله: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ } ولتفريطه ولإجماع الصحابة، ولأنه يلزم بالشروع فيه، فيصير كالمنذور، بخلاف غيره من التطوعات، والصغير والبالغ في وجوب القضاء سواء إلا عند أبي حنيفة لكن لا يصح قضاء الصغير إلا بعد بلوغه، والحج الصحيح والفاسد في ذلك سواء، فإن حل، ثم زال الحصر، وفي الوقت سعة، فله أن يقضي في ذلك العام، قال الموفق وغيره، وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد حجه فيه، في غير هذه المسألة.(7/194)
(ويهدي) هديًا يذبحه في قضائه(1) (إن لم يكن اشترط) في ابتداء إحرامه(2) لقول عمر لأبي أيوب -لما فاته الحج- اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد تحللت(3) فإن أدركت الحج قابلا فحج، وأهد ما استيسر من الهدي، رواه الشافعي(4) والقارن وغيره سواء(5) ومن اشترط بأن قال: في ابتداء إحرامه وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فلا هدي عليه ولا قضاء(6).
__________
(1) أي يجب من حين الفوات، ويؤخره إلى القضاء، وهو الصحيح من المذهب وقول الموفق، والجماهير من الأصحاب، وغيرهم.
(2) فلا قضاء ولا هدي، ما لم يكن واجبًا قبل في ذمته.
(3) أي إذا طفت بالبيت وسعيت بين الصفا والمروة، وحلقت أو قصرت، فقد تحللت، كالمعتمر.
(4) وروى النجاد عن عطاء مرفوعًا نحوه، وروى الأثرم أن هبار بن الأسود، حج من الشام، فقدم يوم النحر، فقال عمر: انطلق إلى البيت، فطف به سبعا، وإن كان معك هدي فانحره، ثم إذا كان عام قابل فاحجج، فإن وجدت سعة فأهد، فإن لم تجد، فصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعت، وللدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا: «من فاته عرفات، فاته الحج، وليتحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل» ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات، فمعه أولى، وعموم الآثار يشمل الفرض والنفل، بخلاف المحصر.
(5) لأن عمرته لا تلزمه أفعالها، وإنما يمنع من عمرة على عمرة، إذا لزمه المضي في كل منهما.
(6) لقوله: «فإن لك على ربك ما استثنيت» رواه أبو داود، ولأحمد «فإن
حبست أو مرضت فقد حللت من ذلك، بشرطك على ربك،» ولأن للشرط تأثير في العبادات فتستفيد التحلل وسقوط الدم.(7/195)
إلا أن يكون الحج واجبا فيؤديه(1) وإن أخطأ الناس، فوقفوا في الثامن، أو العاشر أجزأهم(2) وإن أخطأ بعضهم فاته الحج(3) (ومن) أحرم فـ (صده عدو عن البيت) ولم يكن له طريق إلى الحج (أهدى) أي نحر هديًا في موضعه(4).
__________
(1) وفاقًا، إلا رواية عن مالك، واستحسنها الوزير، واتفقوا أنه لا يلزمه مع الحج عمرة، إلا أبا حنيفة، فقال: يلزمه، وإن كان تطوعًا، لم يلزمه القضاء للشرط.
(2) إجماعًا والعاشر هو يوم عرفة في حقهم، والحادي عشر، هو العيد شرعًا، في حق كل من أحرم بالحج، أو أحرم في ذلك اليوم، ولا يجزئ تضحية في اليوم التاسع، وإذا وقفوا في الثامن، وعلموا قبل فوت الوقت، وجب الوقوف في الوقت، وإن لم يعلموا أجزأ لقوله صلى الله عليه وسلم «الحج يوم يحج الناس» ولمشقة القضاء عليهم مع كثرتهم مشقة عظيمة، ولأنهم لا يأمنون وقوع مثله في القضاء، والمقصود أنه لا لغلط في العدد أو الطريق، فقد قال الشيخ: الهلال اسم لما يراه الناس، يدل عليه لو أخطئوا لغلط في العدد، أو في الطريق ونحوه، فوقفوا العاشر لم يجزئهم إجماعا .
(3) وظاهر عبارته -كالمقنع والتنقيح- ولو كان الجمهور، والمذهب إن كان الخطأ من الجمهور أجزأهم أيضًا كالناس، فقد ألحق الأكثر بالكل في مواضع، فكذا هنا، وعبارة المنتهى، وإن وقف الكل إلا يسيرًا الثامن أو العاشر خطأ أجزأ نصًّا فيهما، وفي الانتصار، عدد يسير، قال الشيخ: والوقوف مرتين بدعة، لم يفعله السلف.
(4) قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه، وقال في الشرح وغيره: بلا خلاف للآية، ولفعله صلى الله عليه وسلم وينوي بذبحه التحلل به.(7/196)
(ثم حل)(1) لقوله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } (2) سواء كان في حج أو عمرة أو قارنًا(3) وسواء كان الحصر عاما في جميع الحاج، أو خاصا بواحد، كمن حبس بغير حق(4)
__________
(1) إن شاء، ولا يجب عليه، قال الوزير: اتفقوا على أن الإحصار بالعدو يبيح التحلل، وقال أبو حنيفة والشافعي، يجب عليه الهدي ، ولا يتحلل إلا بهدي، ينحره وقت حصره في محله، وقال أبو حنيفة: في الحرم، وإذا أمكنه سلوك طريق آخر غلبت فيه السلامة، ووجدت شروط الاستطاعة لزمه سلوكه، وإن علم الفوت وتحلل بعمرة، والأولى لمعتمر وحاج، -اتسع زمن إحرامه- الصبر إن غلب على ظنه انكشاف العدو وإمكان الحج.
(2) أي: وأردتم التحلل، إذ الإحصار بمجرده، لا يوجب هديًا، قال الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير، أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صلح الحديبية، لما فرغ من قضية الكتاب، لأصحابه «قوموا فانحروا ثم احلقوا» ولأن الحاجة داعية إلى الحل، لما في تركه من المشقة العظيمة، وهي منتفية شرعًا، والآية ظاهرة في حصر العدو، وحملها غير واحد على العموم في حق كل من أحصر، سواء كان قبل الوقوف، أو بعده، وبمكة أو غيرها، طاف بالبيت أو لم يطف لأن الله أطلق ولم يخص، اختاره الشيخ وغيره.
(3) لأن الصحابة حلوا في الحديبية، وكانت عمرة ولا فرق بين الحج الصحيح والفاسد ولا قبل الوقوف ولا بعده.
(4) أو أخذته اللصوص، يهدي ثم يحل، لعموم النصوص ووجود المعنى
في الكل، وأما من حبس بحق يمكنه الخروج منه، فلا يجوز له التحلل في الحبس، فإن كان عاجزًا فبغير حق، ولا قضاء على المحصر المتطوع، بحصر عام أو خاص، وإن اقترن به فوات الحج، إذ لم يرد الأمر به، وقد أحصروا عام الحديبية، ولم يعتمر منهم معه في عمرة القضية إلا البعض، فعلم أنها لم تكن قضاء، ولم ينقل أنه أمر الباقين بالقضاء، ولأنه تطوع جاز التحلل منه، مع صلا ح الزمان له، فلم يجب قضاؤه، وفارق الفوات، لأنه مفرط، بخلاف المحصر، وقال ابن القيم: لا يلزم المحصر هدي، ولا قضاء، لعدم أمر الشارع به اهـ ومعنى القضية: الصلح الذي وقع في الحديبية، ولا يرد عليه أن المحصر يلزمه القضاء، إذا أخر التحلل مع إمكانه حتى فاته، أو فاته ثم أحصر، أو زال الحصر والوقوف باق ولم يتحلل ومضى في النسك ففاته، أو سلك طريقا آخر ففاته، وذلك لأن القضاء في هذه الصور للفوات لا للحصر.(7/197)
.
(فإن فقده) أي فقد الهدي(1) (صام عشرة أيام) بنية التحلل (ثم حل)(2) ولا إطعام في الإحصار(3) وظاهر كلامه كالخرقي وغيره: عدم وجوب الحلق أو التقصير(4).
__________
(1) فلم يكن معه، ولا قدر عليه.
(2) وهو أحد قولي الشافعي، والثاني: له التحلل قبل الإتيان بالبدل، من غير توقف على الصوم، لتضرره ببقاء إحرامه إلى فراغ الصوم، وقال: أحب أن لا يحل حتى يصوم إن قدر، فإن صعب عليه حل ثم صام بالنية عن الهدي، ولأنه دم واجب للإحرام فكان له بدل ينتقل إليه، كدم المتعة.
(3) لعدم وروده وقال الآجري: إن عدم الهدي قومه طعاما، وصام عن كل مد يوما وحل، فإن شق عليه حل ثم صام.
(4) لأنه من توابع الوقوف، كالرمي.(7/198)
وقدمه في المحرر، وشرح ابن رزين(1) (وإن صد عن عرفة) دون البيت (تحلل بعمرة)(2) ولا شيء عليه(3) لأن قلب الحج عمرة، جائز بلا حصر، فمعه أولى(4) وإن أحصر عن طواف الإفاضة فقط، لم يتحلل حتى يطوف(5)
__________
(1) والمغني والشرح وغيرهم، لأن الله ذكر الهدي وحده، ولم يشترط سواه، وقال أكثر الأصحاب، يجب عليه الحلق أو التقصير وفاقا، واختاره القاضي وغيره، وقال في تصحيح الفروع: على الصحيح، لأن الصحيح من المذهب أنه نسك فكذا يكون هنا، وابن رزين هو عبد الرحمن بن رزين بن عبد الله الغساني الحوراني ثم الدمشقي، له شرح على الخرقي قتل سنة 656 هـ شهيدا بسيف التتار.
(2) مجانًا، لتمكنه من وصوله إلى البيت، فيفسخ نية الحج، ويجعله عمرة، وإن كان قد طاف للقدوم وسعى، ثم حصر أو مرض، أو فاته الحج، تحلل بطواف وسعي آخرين لأن الأولين لم يقصدهما للعمرة، وليس عليه أن يجدد إحرامًا.
(3) أي لا دم عليه، لأنه في معنى الفسخ.
(4) جزم به في الشرح وغيره، ولأنه يمكنه أن يأتي بعمل العمرة، فعلي هذا يتحلل بطواف وسعي وحلق.
(5) بأن رمى وحلق بعد وقوفه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والقديم من قولي الشافعي، ويبقى محرمًا أبدًا، حتى يطوف طواف الزيارة، وقال الإمام العادل أبو المظفر، الصحيح عندي ما ذهب إليه الشافعي في قوله الجديد، وأحمد فإن قوله تعالى: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } محمول على العموم في حق كل من أحصر سواء كان قبل الوقوف أو بعده، وبمكة أو غيرها وسواء كان طاف بالبيت أو لم يطف، وأن له أن يتحلل، كما قال الله تعالى، أطلق ذلك في قوله ولم يخصصه.
في الكل، وأما من حبس بحق يمكنه الخروج منه، فلا يجوز له التحلل في الحبسن فإن كان عاجزا فبغير حق، ولا قضاء على المحصر المتطوع، بحصر عام أو خاص، وإن اقترن به فوات الحج، إذ لم يرد الأمر به، وقد أحصروا عام الحديبية ولم يعتمر منهم معه في عمرة القضية إلا البعض، فعلم أها لم تكن قضاء، ولم ينقل أنه أمر الباقين بالقضاء، ولأنه تطوع جاز التحلل منه، مع صلاح الزمان له، فلم يجب قضاؤه، وفارق الفوات، لأنه مفرط، بخلاف المحصر، وقال ابن القيم: لا يلزم المحصر هدي، ولا قضاء لعدم أمر الشارع به اهـ ومعنى القضية: الصلاح الذي وقع في الحديبية، ولا يرد عليه أن المحصر يلزمه القضاء، إذا أخر التحلل ومضي في النسك ففاته، أو سلك طريقا آخر ففاته، وذلك لأن القضاء في هذه الصور الفوات لا للحصر.(7/199)
.
وإن أحصر عن واجب، لم يتحلل، وعليه دم(1) و(إن حصره مرض(2) أو ذهاب نفقة)(3).
__________
(1) لأنه متمكن منه بالطواف والحلق كرمي، فلم يجز له التحلل، والتحلل مباح لحاجته في الدفع إلى قتال أو بذل مال، فإن كان البذل يسيرا فقياس المذهب وجوبه، ومع كفر العدو يستحب قتاله إن قوي المسلمون عليه.
(2) بقي على إحرامه، حتى يبرأ لأن المرض لا يمنع الإتمام، وفي شرح الإقناع، ومثله حائض تعذر مقامها، أو رجعت ولم تطف، لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو لعجزها عنه، أو لذهاب الرفقة، وقال أبو حنيفة: المحصر بالمرض كمن أحصر بالعدو سواء، وهو رواية عن أحمد، اختاره الشيخ، وقال: يجوز له التحلل، قال الزركشي، ولعلها أظهر، لظاهر قوله: { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } ، ولما روى الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل» قال سمعته يقول ذلك فسألت ابن عباس وأبا هريرة عما قال فصدقاه، رواه الخمسة وحسنه الترمذي، ولفظ الإحصار إنما هو للمرض، يقال: أحصره المرض إحصارًا فهو محصور قال الأزهري: هو كلام العرب.
وقال ابن قتيبة في الآية: هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج، من مرض أو كسر أو عدو، اهـ واستفيد حصر العدو بطريق التنبيه، فيكون حكمه كمن حصره العدو، على ما تقدم، واختار الشيخ: أن الحائض لها التحلل، كمن حصره عدو، فإن الله لم يوجب على المحصر أن يبقى محرمًا حولاً بغير اختياره ولتحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما حصروا عن إتمام العمرة، مع إمكان رجوعهم محرمين، إلى العام القابل.
(3) أي وإن حصره ذهاب نفقة بقي محرمًا، وهذا مذهب مالك والشافعي
وعنه: له التحلل، وهو مذهب أبي حنيفة، وجماعة من السلف، للخبر المتقدم ولعموم { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } .(7/200)
أو ضل الطريق (بقي محرمًا) حتى يقدر على البيت(1) لأنه لا يستفيد بالإحلال التخلص من الأذى الذي به(2) بخلاف حصر العدو(3) فإن قدر على البيت بعد فوات الحج، تحلل بعمرة(4) ولا ينحر هديًا معه إلا بالحرم(5) هذا (إن لم يكن اشترط) في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني(6) وإلا فله التحلل مجانًا في الجميع(7).
باب الهدي والأضحية والعقيقة(8)
__________
(1) هذا المذهب عند بعض الأصحاب، وعنه: له التحلل لعموم الآية.
(2) ولا يستفيد بالإحلال، الانتقال من حاله، لمفهوم خبر ضباعة.
(3) فإنه يفيد التخلص، والانتقال من حاله.
(4) فيطوف ويسعى، ويحلق أو يقصر.
(5) فليس كالمحصر فيبعث الهدي.
(6) لتأثير الشرط كما تقدم.
(7) أي وإن كان اشتراط في ابتداء إحرامه، أن محله حيث حبس، فله التحلل بلا هدي، ولا قضاء في جميع ما تقدم، وهو مذهب الشافعي، فإن له شرطه، ويستفيد به التحلل إذا وجد الشرط، سواء كان الحصر بمرض، أو عدو أو غيره، فيستفيد بالشرط عند المرض والخطأ التحلل، وإسقاط الهدي، وعند العدو إسقاط الدم، لأن للشرط تأثيرًا في العبادات، بدليل قوله: إن شفي الله مريضي صمت شهرًا، فيلزمه بوجود الشرط، ويعدم بعدمه، ولأنه صار بمنزلة من أكمل أفعال الحج.
(8) أي بيان أحكامها، وما يتعلق بذلك، قال ابن القيم: والذبائح التي هي قربة إلى الله وعبادة، هي الهدي والأضحية والعقيقة، وقال: القربان للخالق، يقوم مقام الفدية عن النفس المستحقة للتلف وقال تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } فلم يزل ذبح المناسج وإراقة الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدع الهدي ولا الأضحية وحث عليهما.(7/201)
الهدي ما يهدى للحرم، من نعم وغيرها(1) سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله سبحانه وتعالى(2) والأُضحية بضم الهمزة وكسرها، واحدة الأضاحي(3) ويقال: ضحية(4) وأجمع المسلمون على مشروعيتهما(5).
__________
(1) وقال ابن المنجا: هو ما يذبح بمنى، وأصل الهدي التشديد، من : هديت الهدي أهديه، وكلام العرب: أهديت الهدي إهداء.
(2) قربانا لله تعالى، وفداء عن النفس، وسوقه مسنون ولا يجب إلا بالنذر، ويستحب أن يقفه بعرفة، ويجمع فيه بين الحل والحرم بلا نزاع، فلو اشتراه في الحرم، ولم يخرجه إلى عرفة وذبحه كفاه.
(3) والجمع ضحايا، وأضحاة، والجمع أضحى، كأرطاة وأرطى.
(4) بفتح الضاد المعجمة كسوية، وبتشديد الياء والتخفيف.
(5) أي الهدي والأضحية، وحكاه غير واحد ممن يحكي الإجماع لقوله
تعالى { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قال المفسرون: المراد به الأضحية بعد صلاة العيد، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، وأهدى في حجته مائة بدنة، ولم يكن يدعهما وأوجبها أبو حنيفة على كل حر مسلم مقيم، مالك لنصاب، وروي عن مالك، والجمهور: أنها سنة مؤكدة، على كل من قدر عليها، من المسلمين المقيمين والمسافرين إلا الحجاج بمنى، فقال مالك: لا أضحية عليهم، واختاره شيخ الإسلام، اكتفاء بالهدي، ولم يعد الضمير إلى الجميع، لعدم الإجماع في مشروعية العقيقة، فإن أبا حنيفة لا يراها.(7/202)
(أفضلها إبل ثم بقر) إن أخرج كاملاً(1) لكثرة الثمن، ونفع الفقراء(2) (ثم غنم)(3).
وأفضل كل جنس أسمن، فأغلى ثمنًا(4) لقوله تعالى: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * } (5).
__________
(1) من إبل أو بقر، قال في الإنصاف، بلا نزاع.
(2) فكانت أفضل من غيرها، ولحديث أبي هريرة يرفعه في «من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، وفي الثانية بقرة، وفي الثالثة كبشا» قربتها على قدر الفضيلة، وسألت امرأة ابن عباس: أي النسك أفضل؟ قال: إن شئت فناقة أو بقرة، قالت: أي ذلك أفضل؟ قال: انحري ناقة.
(3) ولا نزاع في جواز كل منها لا من غيرها، ولو كان أحد أبويه وحشيًّا، وذلك فيما إذا قوبل الجنس بالجنس، وإلا فسيأتي أن سبع شياه أفضل من البدنة والبقرة.
(4) إجماعًا إلا ما روي عن بعض أصحاب مالك، وعند الشيخ: الأجر على قدر القيمة مطلقًا.
(5) أي ومن يعظم أعلام دينه، والهدي والأضاحي من أعلام دين الإسلام
قال ابن عباس: تعظيمها استسمانها، واستعظامها، واستحسانها (فإنها) أي فإن تعظيمها (من) فعال ذوي (تقوى القلوب) وخصَّ القلوب لأنها مراكز التقوى، ومن تمكن الإخلاص من قلبه، بالغ في أداء الطاعات، على سبيل الإخلاص وقال تعالى: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ } أي تهدى إلى بيته الحرام (مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) أي من أعلام دينه، سميت شعائر لأنها تشعر، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم أنها هدي، ومن شعائر الله تعظيمها، وروي «استفرهوا ضحاياكم فإنها في الجنة مطاياكم» وفي الصحيح عن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة وكان المسلمون يسمنون.(7/203)
فأشهب وهو الأملح أي الأبيض(1) أو ما بياضه أكثر من سواده(2) فأصفر، فأسود(3).
__________
(1) قاله ابن الأعرابي وغيره، وهذا تفريع على التفضيل بين أنواع الغنم، وفي الصحيح عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ولأحمد عن أبي هريرة مرفوعًا «دم عفراء أحب إلى الله من دم سوادين» والعفراء البيضاء بياضًا ليس بالشديد وقال أحمد: يعجبني البياض.
(2) قاله الكسائي وغيره.
(3) أي بعد الأبيض، أو ما بياضه أكثر من سواده، والأصفر يعني ما لونه أصفر، فأسود لما في السنن، ضحى بكبش أقرن كحيل، يأكل في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد، والذكر والأنثى سواء، لقوله تعالى: { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أهدى جملاً لأبي جهل في أنفه برة فضة، وقيل: اتفقوا على أن الضأن من الغنم أفضل من المعز، وفحول كل جنس أفضل من إناثه، وقال في المبدع: المقصود هنا اللحم، ولحم الذكر أوفر، ولحم الأنثى أرطب، فيتساويان، بخلاف الزكاة، وفي الإنصاف: جذع ضأن أفضل من ثني معز.(7/204)
(ولا يجزئ فيها إلا جذع ضأن) ماله ستة أشهر كما يأتي(1) (وثني سواه) أي سوى الضأن، من إبل، وبقر، ومعز(2) (فالإبل) أي السن المعتبر لإجزاء إبل (خمس) سنين(3) (والبقر سنتان(4) والمعز سنة(5) والضأن نصفها) أي نصف سنة(6) لحديث «الجذع من الضأن أضحية» رواه ابن ماجه(7).
__________
(1) أي قريبا ، وقال الجوهري وغيره: الجذع من الضأن، هو ماله ستة أشهر، وقال الوزير: اتفقوا أنه لا يجزئ من الضأن إلا الجذع، وهو ماله ستة أشهر، وقد دخل في السابع، ويعرف بنوم الصوف على ظهره، قاله الخرقي عن أبيه عن أهل البادية.
(2) لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يذبحون لهما، قال الوزير: اتفقوا أنه لا يجزئ مما سوى الضأن إلا الثني على الإطلاق، من المعز، والإبل، والبقر، وذكره كما صرحوا به فيما يأتي.
(3) ودخل في السادسة، قال الأصمعي والجوهري وغيرهما: سمي بذلك لأنه حينئذ يلقى ثنيته.
(4) قاله الجوهري أيضا وغيره.
(5) وهو كذلك عند أهل اللغة وغيرهم، وقد سبق في الزكاة.
(6) قال الوزير: اتفقوا على أنه من ذبح الأضحية من هذه الأجناس، بهذه الأسنان، فما زاد فإن أضحيته مجزئة صحيحة، وأن من ذبح منها ما دون هذه الأسنان، من كل جنس منها، لم تجزئه أضحية.
(7) وللترمذي وأحمد من حديث أبي هريرة، «نعمت الأضحية الجذع من الضأن» وله عن هلال نحوه، وكذا لأبي داود عن مجاشع، والنسائي عن عقبة
وما رواه مسلم عن جابر مرفوعا «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن» فعلى الاستحباب عند أهل العلم بالأخبار، واتفقوا على أنه يجزئ من الضأن، الجذع، وهو ما له ستة أشهر، حكاه الوزير وغيره، وتقدم عن بعضهم: أنه أفضل من ثني معز.(7/205)
(وتجزئ الشاة عن واحد) وأهل بيته وعياله(1) لحديث أبي أيوب: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه، وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، قال: في شرح المقنع، حديث صحيح(2) (و) تجزئ (البدنة والبقرة عن سبعة)(3).
لقول جابر: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة في واحد منهما» رواه مسلم(4)
__________
(1) أي وتجزئ الشاة في الهدي، والأضحية، عن واحد لحصول الوفاء به، والخروج عن الأمر المطلق، وتجزئ عن أهل بيته، وعن عياله ولو كثروا.
(2) ورواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وغيرهم وصححه، وضحى صلى الله عليه وسلم بكبشين، أحدهما عن محمد وآل محمد، والآخر عن أمة محمد، ولمسلم عن عائشة مرفوعا «اللهم تقبل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد».
(3) يعني الواجب، إذ الإجزاء يشعر بذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وأكثر أهل العلم، سواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم، وبعضهم اللحم، لأن الجزء المجزئ لا ينقص بإرادة الشريك غير القربة، فجاز، كما لو اختلفت جهات القرب، فأراد بعضهم المتعة، وبعضهم القران، وأما عنه، وعن أهل بيته، ونحو ذلك في التطوع، فتقدم أن جنس الإبل والبقر أفضل من جنس الغنم، وإجزاء الواحدة من الغنم لا نزاع فيه، فالبدنة والبقرة أولى.
(4) وفي لفظ: نحرنا بالحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، يرون الجزور عن سبعة، والبقرة عن سبعة، وفي لفظ: فنذبح البقرة عن سبعة، نشترك فيها، وحينئذ فيعتبر ذبحها عنهم، قال الوزير: اتفقوا على أن الاشتراك في الأضحية على سبيل الازدياد من البعض للبعض جائز وأجازه بالأثمان والأعراض أبو حنيفة، والشافعي وأحمد، وقال: أجاز الشافعي وأحمد الاشتراك مطلقًا.
وقال الزركشي وغيره: الاعتبار أن يشترك الجميع دفعة واحدة، فلو اشترك ثلاثة في بقرة ضحية، وقالوا: من جاء يريد أضحية أشركناه، فجاء قوم فشاركوهم، لم تجز إلا عن ثلاثة، وقال الشيرازي: والمراد إذا أوجبوها على أنفسهم، كما يفهم من كلامه في الإنصاف وغيره، وصرح به في الإقناع، ولو ذبحوها على أنهم سبعة فبانوا ثمانية ذبحوا شاة وأجزأتهم، على الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، ولو اشترك اثنان في شاتين على الشيوع أجزأ على الصحيح، ولو اشترى سبع بقرة، أو سبع بدنة ذبحت للحم، على أن يضحى به لم يجزئه، قال أحمد: هو لحم اشتراه، وليس بأضحية، صرح به في الإنصاف وغيره.
وأما التشريك في السبع منها، فمفهوم هذا الحديث وحديث «تجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته» أنه لا يجزئ شرك في سبع من بدنة أو بقرة، وجزم به شيخنا وغيره، وتعبير الشارع بجواز البدنة عن سبعة لأن الأصل أنه لا يضحي بالدم إلا عن شخص، فإن أصل الأضحية، هي فداء إسماعيل بكبش كامل فخص الشارع الشاة عن الرجل وأهل بيته، وضحى بكبش عن محمد وآل محمد، وبكبش عن أمة محمد، والبدنة والبقرة أولى، دون التشريك في سبع بدنة أو بقرة.(7/206)
.
وشاة أفضل من سبع بدنة أو بقرة(1) (ولا تجزئ العوراء) بينة العور(2) بأن انخسفت عينها(3) في الهدي ولا في الأضحية(4) ولا العمياء(5) (و) لا (العجفاء) الهزيلة التي لا مخ فيها(6) (و) لا (العرجاء) التي لا تطيق مشيًا مع صحيحة(7).
__________
(1) أي أو سبع بقرة، وسبع بضم الباء، وزيادة العدد من جنس أفضل، قال أحمد: بدنتان سمينتان بتسعة، وبدنة بعشرة، البدنتان أعجب إلي،ورجح الشيخ تفضيل البدنة وفي سنن أبي داود، وحديث علي ما يدل عليه، والجواميس في الهدي والأضحية كالبقر، ومن جنس في الزكاة.
(2) أي في هدي، ولا في أضحية ولا عقيقة، قال في الإنصاف: بلا نزاع فإذا لم تكن بينة العور، بل كانت عينها قائمة لم تنخسف، إلا أنها لا تبصر بها، أجزأت وكذا إن كان عليها بياض وهي قائمة لم تذهب، أجزأت وصرح في المنتهى، بأن قائمة العينين لا تجزئ فمفهومه إجزاء قائمة العين الواحدة.
(3) أي ذهب جرمها، لا القائمة، أو عليها بياض.
(4) حكاه الوزير وغيره اتفاقًا، ومثلهما العقيقة، ورجح أهل الحديث عدم الإجزاء، إذا ذهبت إحدى عينيها بأي حال من الأحوال، سواء فقدت الحدقة، أو بقيت، لفوات المقصود وهو النظر، وجاء النهي عن البخقاء، وهي التي تبخق عينها، فيذهب بصرها، والعين صحيحة الصورة في موضعها.
(5) من باب أولى، لأن في النهي عن العور تنبيهًا على العمى، وإن لم يكن عماهما بينًا إجماعًا.
(6) أي ذهب مخ عظامها، وشحم عينها لهزالها، وفاقا، والمخ: الودك الذي في العظم، وخالص كل شيء، وقد سمي الدماغ مخًّا.
(7) قولا واحدا في الجملة، وقيده بذلك، لما في كلام الماتن من إطلاق
العرج، وليس كذلك، قال غير واحد: لا تجزئ العرجاء البين عرجها وفاقا، والمراد أن فيها عرجا فاحشا، يمنعها مما ذكر، لأنه ينقص لحمها بسبب ذلك فإن كان عرجها لا يمنعها أجزأت، وعلم منه: أن الكسيرة لا تجزئ من باب أولى.(7/207)
(و) لا (الهتماء) التي ذهبت ثناياها من أصلها(1) (و) لا (الجداء) أي ما شاب ونشف ضرعها(2) (و) لا (المريضة) بينة المرض(3) لحديث البراء بن عازب: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أربع لا تجوز في الأضاحي، العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقي» رواه أبو داود والنسائي(4)
__________
(1) قاله جماعة، وفي التلخيص: هو قياس المذهب، وقال الشيخ: هي التي سقط بعض أسنانها، وتجزئ في أصح الوجهين.
(2) جد الضرع يبس فهو أجد «وشاب» أي أبيض ضرعها ونشف، فانقطع منه اللبن، فالجداء اسم لما لم يكن في ضرعها لبن، ولو كان لا يزيد في ثمنها، فإذا وجد فيه شيء فليست بجداء، وتجزئ لو جدَّ فيها شطر، وسلم الآخر.
(3) وهو المفسد للحمها، والمقلص له وفاقًا، وكذا جرب وغيره، ومفهومه أنه إذا لم يكن بينا أنها تجزئ، لأنها قريبة من الصحيحة، وذكر الخرقي أنها التي لا يرجى برؤها لأن ذلك ينقص قيمتها ولحمها.
(4) ونحوه للترمذي وصححه، قال النووي: أجمعوا على أن التي فيها العيوب المذكورة في حديث البراء لا تجزئ التضحية بها،وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها، كالعمي وقطع الرجل ونحوه، اهـ، وهذه العيوب تنقص اللحم
لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي، فلا تجزئ كما هو ظاهر الحديث، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه لا يجزئ في الأضحية ذبح معيب ينقص، و«ظلعها» بفتح الظاء المشالة، وسكون اللام وتفتح الغمز والعرج، والعجفاء، والمصفرة، والهزيلة بمعنى، وأنقت الإبل وغيرها، إذا سمنت وصار فيها نقي، وهو مخ العظم، وشحم العين من السمن، ويقال: ناقة منقية وهذه لا تنقي بضم التاء.
وعن علي قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة، ولا شرقاء، ولا خرقاء» رواه أحمد، وأهل السنن، وصححه الترمذي، ولهم عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن، وفي الإنصاف: وكره بعضهم معيبة الأذن بخرق، أو شق، أو قطع لأقل من النصف.(7/208)
.
(و) لا (العضباء) التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها(1) (بل) تجزئ (البتراء) التي لا ذنب لها (خلقه) أو مقطوعا(2) .
__________
(1) لا النصف فأقل، قال أحمد: لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن، لحديث علي، صححه الترمذي، وظاهره التحريم والفساد، وذكر الخلال أنهم اتفقوا على ذلك، ولأبي داود عن عتبة «نهي عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء، والمشيعة والكسيرة» فهذه العيوب كلها مانعة من الإجزاء عند الجمهور، وصحح في الفروع الإجزاء مطلقًا، وهو مذهب الشافعي، لأن في صحة الخبر نظر، ولأن الأذن والقرن لا يقصد أكلها غالبا، ثم هي كقطع الذنب وأولى بالإجزاء، وصوبه في الإنصاف.
(2) دفع ما في كلام الماتن من الإيهام، والبتراء بوزن حمراء، وقال الموفق وغيره في التي انقطع منها عضو كالألية: لا تجزئ.(7/209)
والصمعاء، وهي صغيرة الأذن(1) (والجماء) التي لم يخلق لها قرن(2) (وخصي غير مجبوب) بأن قطع خصيتاه فقط(3) (و) يجزئ مع الكراهة (ما بأذنه أو قرنه) خرق أو شق(4) أو (قطع أقل من النصف)(5) أو النصف فقط، على ما نص عليه في رواية حنبل وغيره(6).
__________
(1) فتجزئ لعدم النهي والإخلال بالمقصود.
(2) لعدم النهي، ولأنه لا يخل بالمقصود، بخلاف التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها كما تقدم.
(3) ولم يقطع ذكره، أجزأ بلا خلاف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين وعن عائشة نحوه، رواه أحمد، وسواء رضت، أو سلت أو قطعت لأنه إذهاب عضو غير مستطاب، بل يطيب اللحم بزواله، ويسمن، قال أحمد: والخصي أحب إلينا من النعجة، لأن لحمه أوفر وأطيب، فإن قطعت خصيتاه أو سلت، أو رضت وقطع ذكره، فهو الخصي المجبوب، ولا يجزئ نص عليه، وجزم به غير واحد.
(4) أقل من النصف.
(5) كيلا يقع فيها نقص وعيب.
(6) لما تقدم من حديث علي: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء وحمل على الكراهة، لأن ذلك لا ينقص لحمها، ولا يوجد سالم منها.(7/210)
قال في شرح المنتهى: وهذا هو المذهب(1) (والسنة نحر الإبل قائمة(2) معقولة يدها اليسرى(3) فيطعنها بالحربة) أو نحوها(4) (في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر)(5) لفعله عليه السلام، وفعل أصحابه(6) كما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن سابط(7).
__________
(1) أي إجزاء ما بأذنه أو قرنه قطع أقل من النصف، لأنه لا يقصد أكلها غالبًا وتقدم أنها أولى بالجواز من قطع الذنب.
(2) لقوله تعالى: { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } أي قياما على ثلاث قوائم، قد صفت رجليها وإحدى يديها، ولفعله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عمر -وقد رأى رجلاً أناخ بدنة ينحرها- ابعثها قيامًا مقيدة، سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه، وقوله تعالى: { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } دال على ذلك، وهو مذهب الجمهور مالك، والشافعي، وغيرهم، وقال الموفق وغيره: لا خلاف في استحباب نحر الإبل، وذبح ما سواها.
(3) أي مربوطة قائمتها اليسرى، مشدود وظيفها مع ذراعها بالعقال ونحوه.
(4) كسكين «ويطعن» بضم العين، في الطعن الحسي، وبفتحها في المعنوي، كالطعن في العرض ونحوه، هذا الأكثر، وقيل: بضمها وفتحها فيهما.
(5) الوهدة بسكون الهاء، المكان المطمئن والجمع وهد ووهاد، والعنق بضم العين والنون وسكونها، الرقبة والجمع أعناق.
(6) ينحرون الإبل قائمة بالحربة ونحوها في الوهدة، لأنه أسهل لخروج روحها.
(7) عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون
البدن معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها، في الوهدة، فتطعن بين أصل العنق والصدر لأن عنق البعير طويل، فلو طعن بالقرب من رأسه لحصل له تعذيب عند خروج روحه، وكيفما نحر أجزأ وعبد الرحمن بن سابط هو ابن عبد الله بن سابط الجمحي المكي، ثقة كثير الإرسال، قاله الحافظ وغيره.(7/211)
(و) السنة أن (يذبح غيرها) أي غير الإبل(1) على جنبها الأيسر(2) موجهة إلى القبلة(3) (ويجوز عكسها) أي ذبح ما ينحر، ونحر ما يذبح(4) لأنه لم يتجاوز محل الذبح(5).
__________
(1) لقوله تعالى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } ولفعله صلى الله عليه وسلم.
(2) عند الذبح ، يضع رجله على صفحته، ليكون أثبت له، وأمكن، لئلا يضطرب فيمنعه من كمال ذبحه أو يؤذيه، وأجمع المسلمون على إضجاع الغنم والبقر في الذبح، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر بكبش فأضجعه، ثم قال: «بسم الله، والله أكبر» ثم ضحى به، ولأنه أسهل على الذابح.
(3) استحبابًا إجماعًا، لما رواه أبو داود وغيره، أنه صلى الله عليه وسلم وجهها إلى القبلة، وفي خبر الكبشين حين وجههما إلى القبلة، وقال لعائشة: «ما من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة إلا كان دمها ، وقرنها، وصوفها، حسنات في ميزانه يوم القيامة» ولأنها أشرف الجهات، وتستحب في كل طاعة إلا بدليل، وكره ابن عمر، وابن سيرين الأكل من الذبيحة الموجهة إلى غير القبلة.
(4) أي من البقر والغنم، بأن تطعن في الوهدة كالإبل، وذبح الإبل كما تذبح البقر والغنم، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن محل الذبح الحلق واللبة، وأنه لا يجوز في غيرهما.
(5) فجاز هذا المذهب والأولى فعل السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عامة المسلمين.(7/212)
ولحديث «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكل»(1) (ويقول) حين يحرك يده بالنحر أو الذبح(2) (بسم الله) وجوبا(3) (والله أكبر) استحباب(4) (اللهم هذا منك ولك)(5)
__________
(1) وإن كان عند الحاجة، فما جاز فيها جاز في غيرها، وقالت أسماء: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه، وقال بعضهم: يكره، قال ابن القيم: والمستحب في الإبل النحر، وفي البقر والغنم الذبح، لموافقة السنة المتواترة، ويكره العكس لمخالفة السنة.
(2) أي فيما السنة فيه النحر، أو السنة فيه الذبح.
(3) لقوله: { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } أي إنما شرعت لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عنه ذبحها ولقوله { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } من البدن، والذبائح والتجارات، ورضى الله في الآخرة { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } وقال الغزالي: الأخبار متواترة فيها واتفقوا على استحبابها، أي وتسقط سهوا، كما يأتي في الذبائح، وقال مالك: إن تعمد ترك التسمية لم يجز أكلها، والمشروع عند الذبح الاقتصار على (بسم الله) بخلاف الأكل والشرب، فالسنة زيادة (الرحمن الرحيم).
(4) إجماعا لقوله { وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } وقاله ابن المنذر: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك، واختير التكبير هنا اقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام حين أتى بفداء إسماعيل عليه السلام.
(5) وقاله الشيخ وغيره، أي من فضلك ونعمتك علي، لا من حولي ولا من قوتي، ولك التقرب به، لا إلي من سواك، ولا رياء، ولا سمعة وكره مالك، قول: اللهم هذا منك ولك، وقال بدعة، وقد جاء من غير وجه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال حين وجهها إلى القبلة «بسم الله ، والله أكبر، اللهم هذا
منك ولك» رواه أبو داود وغيره، وفي لفظ: «بسم الله، والله أكبر، لا إله إلا لله، اللهم منك ولك»، قال الشيخ: ويقول: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض» إلخ.(7/213)
.
ولا بأس بقوله: اللهم تقبل من فلان(1) ويذبح واجبًا قبل نفل(2) (ويتولاها) أي الأضحية (صاحبها) إن قدر(3) (أو يوكل مسلما ويشهدها) أي يحضر ذبحها إن وكل فيه(4).
__________
(1) لقوله صلى الله عليه وسلم «اللهم تقبل من محمد، وآل محمد، وأمة محمد» ثم ضحى، رواه مسلم، وقال الشيخ: يقول اللهم تقبل مني، كما تقبلت من إبراهيم خليلك، قال الخرقي: وليس عليه أن يقول عند الذبح: عن فلان، قال الشارح: بغير خلاف.
(2) استحبابًا، مع سعة الوقت، وتقدم فيمن عليه زكاة، له الصدقة تطوعا قبل إخراجها، ولا فرق.
(3) أي يتولى ذبحها بيده، إن قدر على ذلك، استحبابًا وفاقا لأنه صلى الله عليه وسلم نحر هديه ثلاثا وستين، وضحى بكبشين ذبحهما بيده الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، وقال في الإنصاف: وإن ذبحها بيده كان أفضل بلا نزاع ولأن فعل القرب أولى من الاستنابة فيها، واتفقوا على أن ذبح العبد من المسلمين في الجواز كالحر، والمرأة من المسلمين والمراهق في ذلك كالرجل.
(4) أي الذبح، لأنه قال لفاطمة «احضري أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها» وعن ابن عباس نحوه، وتعتبر نيته حال التوكيل في الذبح، لا نية وكيل، ولا تعتبر النية إن كانت الأضحية معينة، ولا تسمية المضحى عنه، ولا المهدي عنه، اكتفاء بالنية ، قال الوزير: إذا ذبح أضحية غيره بغير إذنه، ونواه بها، أجزأت عن صاحبها، ولا ضمان عليه واتفقوا على أنها لا تكون بهذا الذبح ميتة.(7/214)
وإن استناب ذميًّا في ذبحها أجزأت مع الكراهة(1) (ووقت الذبح) لأضحية وهدي نذر، أو تطوع، أو متعة، أو قران (بعد صلاة العيد) بالبلد(2) فإن تعددت فيه فبأسبق صلاة(3) فإن فاتت الصلاة بالزوال ذبح بعده(4) (أو) إن كان بمحل لا تصلى فيه العيد فالوقت بعد (قدره) أي قدر زمن صلاة العيد(5) ويستمر وقت الذبح (إلى) آخر (يومين بعده) أي بعد يوم العيد(6).
__________
(1) لأنها قربة وطاعة، فلا يتولاها غير أهل القرب، وإن استنابه جاز، كغير الأضحية، لكن تعتبر نية المسلم اتفاقا.
(2) الذي هو فيه، قال ابن القيم: والاعتبار بنفس فعل الصلاة والخطبة، لا بوقتهما، وما ذبح قبل الصلاة ليس من النسك، وإنما هو لحم قدمه لأهله، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في نحر الهدي قبل طلوع الشمس ألبتة فحكمه حكم الأضحية إذا ذبحت قبل الصلاة.
(3) لتعلق الحكم بالصلاة لا بالوقت.
(4) أي بقية يومه بعد الزوال، سواء كان لعذر أو لا.
(5) في حق من لم يصل، جزم به الأكثر، ومنه منى، فإنه لا يصلى فيه العيد، فيجوز الذبح من بعد أسبق صلاة، وإذا اجتمع عيد وجمعة، وصليت الجمعة قبل الزوال، واكتفى بها عن صلاة العيد، جاز الذبح بعد صلاة الجمعة، لقيامها مقام صلاة العيد.
(6) وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.(7/215)
قال أحمد: أيام النحر ثلاثة، عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(1) والذبح في اليوم الأول عقب الصلاة والخطبة وذبح الإمام أفضل(2) ثم ما يليه(3) (ويكره) الذبح (في ليلتهما) أي ليلتي اليومين بعد يوم العيد، خروجا من خلاف من قال بعدم الإجزاء فيهما(4).
__________
(1) وفي رواية عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وروي عن أنس، وعنه إلى آخر اليوم الثالث من أيام التشريق، وهو مذهب الشافعي وغيره، واختاره ابن المنذر، والشيخ وغيرهما، لقوله صلى الله عليه وسلم «كل أيام التشريق ذبح»، وقال علي: أيام النحر يوم الأضحى، وثلاثة أيام بعده، قال ابن القيم: ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى،وأيام التشريق، ويحرم صيامها، فهي إخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح؟ بغير نص، ولا إجماع؟ وروي من وجهين مختلفين يشد أحدهما الآخر «كل أيام التشريق ذبح» وروي من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع، ومن حديث أسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر.
(2) أي مما يليه، وكان صلى الله عليه وسلم يذبح بعد الصلاة، ولا نزاع في ذلك.
(3) أي ما يلي اليوم الأول، يعني الثاني، ثم الثالث، كذلك ما بادر به فهو أفضل مما تأخر.
(4) ومنهم مالك رحمه الله، والخرقي من أصحابنا، وجماعة وقال الوزير: اتفقوا على أنه يجوز ذبح الأضحية ليلا، وفي وقتها المشروع لها، كما يجوز في نهاره إلا مالكًا وأبو حنيفة يكرهه مع جوازه.(7/216)
(فإن فات) وقت الذبح (قضي واجبه)(1) وفعل به كالأداء(2) وسقط التطوع لفوات وقته(3) ووقت ذبح واجب بفعل محظور من حينه(4) فإن أراد فعله لعذر فله ذبحه قبله(5) وكذا ما وجب لترك واجب،وقته من حينه(6).
فصل(7)
__________
(1) كالمنذور والمعين، وكذا الموصى به، لأن حكم القضاء كالأداء، ولا يسقط بفواته، لأن الذبح أحد مقصودي الأضحية، فلا يسقط بفوات وقته كما لو ذبحها ولم يفرقها حتى خرج الوقت.
(2) أي وفعل بالواجب المقضي كما يفعل بالمذبوح في وقته، وليس المراد أن القضاء في وقت الأداء من العام القابل.
(3) لأن المحصل للفضيلة الزمان وقد فات، فلو ذبحه وتصدق به كان لحما تصدق به، لا أضحية في الأصح، قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا خرج وقت الأضحية على اختلافهم فقد فات وقتها، وأنه إن تطوع به متطوع لم يصح إلا أن تكون منذورة، فيجب عليه ذلك وإن خرج الوقت.
(4) أي حين فعل المحظور.
(5) أي فإن أراد فعل المحظور لعذر من الأعذار المتقدمة، فله ذبح ما يجب به قبل فعل ذلك المحظور الذي يريد فعله، لوجود سببه، كحر وبرد وقمل.
(6) أي ومثل ذبح واجب بفعل محظور، ما وجب لترك واجب من واجبات الحج المتقدمة، وقته الذي يذبح فيه من حين ترك ذلك الواجب، فـ «وقت» مبتدأ خبره «من حينه» والجملة سيقت لبيان ما قبلها، فلا محل لها.
(7) في أحكام التعيين، والمنع من بيع شيء منها، وأحكام الأكل والصدقة وغير ذلك، وبيان ما يتعلق بذلك.(7/217)
(ويتعينان) أي الهدي والأضحية (بقوله: هذا هدي أو أضحية) أو لله(1) لأنه لفظ يقتضي الإيجاب، فترتب عليه مقتضاه(2) وكذا يتعين بإشعاره، أو بتقليده بنيته(3) (لا بالنية) حال الشراء أو السوق(4).
__________
(1) أي الهدي أو الأضحية، ونحو ذلك، لا بالنية فقط، فإذا تلفظ بأحد هذه الثلاثة مشيرا إلى بدنة، أو بقرة، أو شاة بعينها، وجبت بذلك، وإن عين معيبا لم يجزئه عما في ذمته.
(2) لأنه دال عليه، وقال ابن نصر الله: الهدي منه واجب، وليس في هذا اللفظ ما يقتضي الوجوب، إذ يجوز أن يريد: هذا هدي تطوعت به، وقال الحجاوي: أو تطوع بأن ينوي هديًا ولا يوجبه بلسانه،ولا بتقليده وإشعاره وقدوم نية فيه، قبل ذبحه، فإن فسخ نيته فعل به ما شاء.
(3) لأن الفعل مع النية كاللفظ، إذا كان الفعل دالاًّ على المقصود، كمن بنى مسجدًا وأذن للناس بالصلاة فيه، والإشعار هو أن يشق جانب سنامه الأيمن، والتقليد أن يعلق نعالاً أو آذان قربة ونحوها، وكان ابن عمر وغيره يجللها، ويدع السنام ليرى الإشعار، فيعرف أنها هدي.
(4) وهو مذهب مالك والشافعي، قال الوزير: لا يوجبها عندهم إلا القول، لأن التعيين إزالة ملك على وجه القربة، فلم يؤثر فيه مجرد النية، كالعتق، والوقف.(7/218)
كإخراجه مالاً للصدقة(1) (وإذا تعينت) هديًا أو أضحية (لم يجز بيعها، ولا هبتها)(2) لتعلق حق الله تعالى بها(3) كالمنذور عتقه نذر تبرر(4) (إلا أن يبدلها بخير منها) فيجوز(5) وكذا لو نقل الملك فيها(6) واشترى خيرًا منها جاز نصًّا، واختاره الأكثر(7).
__________
(1) فإنه لا يتعين بذلك، وفي الإنصاف، يحتمل أن يتعين الهدي والأضحية بالنية حال الشراء، وهو رواية عن أحمد، ومذهب أبي حنيفة، واختاره الشيخ، وقال المجد، ظاهر كلام أحمد أنه يصير أضحية إذا اشتراها بنيتها، كما يتعين الهدي بالإشعار.
(2) بل يلزمه ذبحها متى أتت، ولو بعد وقت الأضحية، لوجوبها بالتعيين لأنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يعطى الجزار شيئا منها، فلأن يمنع من بيعها من باب أولى، قال أحمد: كيف يبيعها وقد جعلها لله تعالى؟
(3) فلم يجز بيعها،وإذا عينها ثم مات وعليه دين لم يجز بيعها فيه مطلقا.
(4) وكما لو نذر أن يذبحها بعينها بخلاف نذر اللجاج.
(5) نظرا لمصلحة الفقراء لحصول مقصودهم ، ولأنه عدول عن المعين إلى خير منه من جنسه كما لو أخرج حقه عن بنت لبون، ويجوز بمثلها، ما لم يكن أهزل.
(6) ببيع أو هبة.
(7) ونقله الجماعة عن أحمد، وفي المبدع: والمذهب كما نقله الجماعة أنه يجوز نقل الملك فيه، وشراء خير منه،وذكر ابن الجوزي أيضًا أنه المذهب، لأنه صلى الله عليه وسلم أشرك عليًّا في هديه، وهو نوع منها ولأنه إذا اشترى أضحية لم يزل ملكه عنها.(7/219)
لأن المقصود نفع الفقراء، وهو حاصل بالبدل(1) ويركب لحاجة فقط بلا ضرر(2) (ويجزُّ صوفها ونحوه) كشعرها ووبرها (إن كان) جزه (أنفع لها(3) ويتصدق به)(4) وإن كان بقاؤه أنفع لها لم يجز جزُّه(5).
__________
(1) سواء كان ببيعها بخير منها، أو بنقد أو غيره، ثم يشتري به خيرًا منها، وكذا إبدال لحم بخير منه، لا بمثل ذلك لعدم الفائدة، ودونه لأنه تفويت جزء منها فلم يجز بلا خلاف.
(2) لما في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال:«اركبها» قال: إنها بدنة، قال: «اركبها ويلك» في الثانية أو في الثالثة، ولمسلم «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهرًا» وذلك ما لم يضرها.
(3) بلا نزاع مثل كونه في زمن الربيع، فإنه يخف بجزء ويسمن لأنه لمصلحتها.
(4) كما بعد الذبح، ولا يتعين التصدق به، بل له الانتفاع به كالجلد لجريانه مجراه في الانتفاع به دوامًا، وإذا قيد العلماء بذكر الصدقة فإنها تختص بالفقراء والمساكين، لأن تعبيرهم لغير الفقير بالهدية، وعلى هذا لا يهدى جلد الأضحية ونحوه، ولا يتصدق به على غني وإذا أعطيه قريب أو صديق غني على طريق الإباحة والانتفاع، لا على طريق التمليك، فإنه يجوز أن ينتفع به مع غناه، لكون المعطي إقامة مقامه، ويمنع مما يمنع منه المعطي، كالبيع ونحوه من المعاوضات.
(5) ككونه يقيها الحر أو البرد، أو كان لا يضر بها لقرب مدة الذبح لم يجز.(7/220)
ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها(1) (ولا يعطي جازرها أجرته منها)(2) لأنه معاوضة(3) ويجوز أن يهدى له أو يتصدق عليه منها(4) (ولا يبيع جلدها ولا شيئا منها) سواء كانت واجبة أو تطوعًا(5).
__________
(1) إجماعًا لأن شرب الفاضل لا يضر بها، ولا بولدها ، فكان كالركوب فإن أضر بها أو نقص لحمها حرم، قال الوزير، اتفقوا على أن ما فضل عن حاجة الولد من لبن الأضحية يجوز شربه، إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا يجوز اهـ وإن ولدت المعينة ذبح ولدها معها، قال في الإنصاف: بلا نزاع، وعن علي أن رجلا سأله عن بقرة اشتراها ليضحي بها وإنها وضعت عجلاً، فقال: لا تحلبها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها، رواه سعيد وغيره.
(2) لا من اللحم، ولا من الجلد، في نظير أجرته، باتفاق الأئمة، وأمر صلى الله عليه وسلم عليًّا أن لا يعطي الجزار في جزارتها شيئا منها، وقال: «نحن نعطيه من عندنا».
(3) وهي غير جائزة فيها، وقد يفهم من إطلاق الشارع منع الصدقة على الجازر، لئلا تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذ، فيرجع إلى المعاوضة.
(4) بالبناء للمجهول، لأنه ساوى غيره، وزاد عليه بمباشرتها، وتتوق نفسه إليها، قال الزركشي، وبهذا يتخصص عموم حكم الحديث.
(5) وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا أن يقسم بدنه كلها، لحومها، وجلودها، وجلالها قال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز بيع شيء من الأضاحي بعد ذبحها إلا جلدها، عند أبي حنيفة، فيجوز بآلة البيت، قال ابن رجب وغيره: لو أبدل جلود الأضاحي بما ينتفع به في البيت من آلة جاز، نص عليه، لأن ذلك يقوم مقام الانتفاع بالجلد نفسه في متاع البيت.
وقال بعض الأصحاب: لو دبغه بجزء منه، أو بصوفه صح كما يجوز إصلاح الوقف ببعضه، وإن اشترى نصيب الدباغ صح، وعنه يجوز بيع جلدها، ويشتري بالثمن ماعونًا لبيته، وعنه: يبيعه ويشتري به أضحية أخرى.(7/221)
لأنها تعينت بالذبح(1) (بل ينتفع به) أي بجلدها أو يتصدق به استحبابًا(2) لقوله عليه السلام «لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي، وتصدقوا واستمتعوا بجلودها»(3) وكذا حكم جلها(4).
(وإن تعيبت) بعد تعينها(5) (ذبحها وأجزأته)(6) وإن تلفت، أو عابت بفعله أو تفريطه لزمه البدل، كسائر الأمانات(7).
__________
(1) فلم يجز بيع شيء منها لتعينها به.
(2) لا نزاع في الانتفاع بجلدها، وروي عن علقمة، ومسروق أنهما كانا يدبغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه، وكذا الصدقة به، لأنه جزء من الأضحية كلحمها، ونقل ما لم تكن واجبة.
(3) روي من حديث قتادة بن النعمان.
(4) بضم الجيم : كساء من كتان أو غيره، يطرح على ظهر الدابة.
(5) بقوله: هذا هدي، أو أضحية، أو لله ونحو ذلك.
(6) أي التي حدث بها عيب من نحو عمى وعرج، لأنه عيب حدث بها، فلم يمنع الإجزاء، لحديث أبي سعيد قال: ابتعنا كبشا نضحي به، فأصاب الذئب من أليته، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نضحي به، رواه ابن ماجه.
(7) أي إذا تلفت ونحوه بفعله أو تفريطه لزمه بدلها، واستظهر في حاشية
المنتهى أن المراد المعين عن واجب، أما إذا كان معينًا ابتداء فلا، لعدم وجوب بدله، وفي الإنصاف: وإن تلفت بغير تفريطه لم يضمنها، بلا نزاع عند الأكثر، قبل ذبحها أو بعده، وإذا ذبحها فسرقت فلا شيء عليه، وإن ذبحها ذابح في وقتها، بغير إذن، أجزأت ولا ضمان على ذابحها لأنه وقعت موقعها.(7/222)
(إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين)(1) كفدية ومنذور في الذمة، عين عنه صحيحًا فتعيب، وجب عليه نظيره مطلقا(2) وكذا لو سرق أو ضل ونحوه(3).
__________
(1) يعني الهدي أو الأضحية لتعلقها بذمته.
(2) سواء كان مساويًا لما في ذمته أولا، وسواء فرط أو لا، وسواء تعيب بفعل الله أو فعل غير الله فعليه بدله، لأن عليه دمًا سليمًا، ولم يوجد ذلك، فلم يجزئه، وكما لو كان الرجل عليه دين فاشترى منه مكيلاً، فتلف قبل قبضه انفسخ البيع، وعاد الدين في ذمته، وفي الإنصاف: لا خلاف في ضمان صاحبها إذا أتلفها مفرطًا، فإن ضمنها بمثلها وأخرج فضل القيمة جاز، ويشتري بها شاة أو سبع بدنة بلا نزاع.
(3) كما لو غصب ونحوه فيجب عليه نظيره، وكذا قال غير واحد: يلزمه نظيره ولو زاد عما في ذمته، وإن أتلفها أجنبي فعليه قيمتها، قال في الإنصاف: بلا نزاع، وإن عطب الهدي في الطريق نحره في موضعه، وصبغ نعله في دمه، وضرب به صفحته، ليعرفه الفقراء فيأخذوه، ولا يأكل هو ولا أحد من رفقته، لحديث ابن عباس رواه مسلم، والعلة أن لا يقصر في حفظها، فيعطبها ليتناول هو ورفقته منها، وقال أحمد: ما كان من واجب فعطب أو مات فعليه البدل، وإن شاء باعه أو نحره يأكل منه، ويطعم، وإن كان تطوعًا فعطب فلينحره ولا يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته، وليخله للناس.(7/223)
وليس له استرجاع معيب وضال ونحوه وجده(1) (والأضحية سنة) مؤكدة على المسلم(2) وتجب بنذر(3) (وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها)(4).
__________
(1) أي ليس لمن نحر بدل ما ذكر استرجاعه وإبقاؤه على ملكه، بل يلزمه ذبحه إذا وجده، ويتعين للفقراء ولو ذبح بدله، في أصح الروايتين لفعل عائشة لما أهدت هديين فأضلتهما، فبعث إليها ابن الزبير بهديين فنحرتهما ثم عاد الضالان فنحرتهما، وقالت: هذا سنة الهدي، رواه الدارقطني وروي عن عمر، وابنه، وابن عباس.
(2) وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، وأكثر أهل العلم، وصرح به ابن القيم، وابن نصر الله، لفعله صلى الله عليه وسلم وفعل خلفائه وعنه: واجبة ذكرها جماعة، واختارها أبو بكر، وغيره من الأصحاب، وذهب أبو حنيفة، ومالك، وغيرهما إلى القول بوجوبها على من ملك نصابا، وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة، لحديث «من وجد سعة فلم يضح، فلا يقربن مصلانا» رواه أحمد وغيره، وقال ابن عمر: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي وقال الشيخ: الأضحية من النفقة بالمعروف، فتضحي المرأة من مال زوجها عن أهل البيت بلا إذن ومدين لم يطالبه رب الدين، وقال في الرعاية وغيرها: يكره تركها مع القدرة نص عليه.
(3) كالهدي يجب بنذره، كقوله لله علي كذا لقوله صلى الله عليه وسلم «من نذر أن يطيع الله فليطعه».
(4) لأنه صلى الله عليه وسلم وخلفاءه بعده واظبوا عليها، وعدلوا عن الصدقة بثمنها، وهم لا يواظبون إلا على الأفضل، وهي عن ميت أفضل، لعجزه، واحتياجه للثواب، ويعمل بها كأضحية الحي، قال الشيخ وابن القيم وغيرهما، التضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها.(7/224)
كالهدي والعقيقة(1) لحديث «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة الدم»(2).
(وسن أن يأكل) من الأضحية (ويهدي ويتصدق أثلاثا)(3) فيأكل هو وأهل بيته الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث،حتى من الواجبة(4)
__________
(1) ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، لفعله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، والتابعين، وقال أحمد وغيره: إحياء السنن واتباعها أفضل.
(2) «وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها، وأظلافها، وأشعارها، وإن الدم ليقع عند الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسًا» رواه ابن ماجه، والترمذي وحسنه وللطبراني «ما أنفق الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد»، وقال تعالى لما أخبر أنه الغني فلا تناله: { لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } أي يرفع إليكم منكم التقوى، والأعمال الصالحة الخالصة.
(3) لقوله تعالى: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } والقانع السائل، والمعتر المتعرض لك تطعمه، فتقسم أثلاثا، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كلوا وادخروا وتصدقوا» وفي رواية «فكلوا وأطعموا وتصدقوا» وهو أحد قولي الشافعي، ولم يقدر أبو حنيفة ومالك ذلك، وإنما قالا: يأكل ويتصدق، ويهدي وقال ابن عمر: الهدايا والضحايا ثلث لك، وثلث لأهلك، وثلث للمساكين وهو قول ابن مسعود، ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة وقيل: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف، لقوله: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } ومن أهدي له أوتصدق عليه بجلد الأضحية أو الهدي جاز التصرف فيه بما شاء، من بيع وغيره.
(4) أي بنذر، أو تعيين ، أو وصية، أو وقف على أضحية ونحو ذلك
وقال الشيخ: مما عينه، لا عمَّا في ذمته، وجمهور الأصحاب أنه لا يأكل من الأضحية المنذورة وصرح بعضهم بعدم جواز أكل الوكيل من أضحية موكله بلا نص، ومال الشيخ أبا بطين إلى الجواز، واختار أبو بكر، والقاضي، والموفق والشارح الجواز.(7/225)
.
وما ذبح ليتيم، أو مكاتب لا هدية ولا صدقة منه(1) وهدي التطوع ، والمتعة، والقران، كالأضحية(2) والواجب بنذر أو تعيين لا يأكل منه(3).
(وإن أكلها) أي الأضحية (إلا أوقية تصدق بها جاز)(4) لأن الأمر بالأكل والإطعام مطلق(5).
__________
(1) بل يوفر لهم وجوبًا كما يأتي في الحجر، لأن الصدقة لا تحل من ماله تطوعًا، جزم به الموفق وغيره، وقال في الإنصاف: لو قيل بجواز الصدقة والهدية منها باليسير عرفًا لكان متجهًا.
(2) يأكل ويتصدق ويهدي ولا ريب في هدي التطوع وفي الإنصاف: بلا نزاع، ودم المتعة والقران سببه غير محظور، فأشبها هدي التطوع.
(3) ظاهره الإطلاق، وهو غير مراد، بل مقيد بما إذا كان واجبًا في الذمة ثم عينه، لا ما عين ابتداءً، قال الموفق وجماعة: أن يأكل من هدي التطوع وسواء في ذلك ما أوجبه بالتعيين من غير أن يكون واجبًا في ذمته، وما نحره تطوعًا من غير أن يوجبه، قال الشيخ: مما عينه، لا عمَّا في ذمته.
(4) عند جمهور أهل العلم، وقيل: أدنى جزء، وهو المشهور عن الشافعي، وأجازها مطلقًا، وقد حمل الجمهور الأمر بالصدقة على الاستحباب في أضحية التطوع.
(5) أي من غير تقييد، فيعم القليل والكثير ويخرج عن العهدة بصدقته
بالأقل وللترمذي وصححه، كان الرجل من الصحابة يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون ويجوز الادخار، إلا في مجاعة لأنه سبب تحريمه، واختاره الشيخ، قال في الإنصاف: وهو ظاهر في القوة.(7/226)
(وإلا) يتصدق منها بأوقية بأن أكلها كلها (ضمنها) أي الأوقية بمثلها لحمًا(1) لأنه حق يجب عليه أداؤه مع بقائه، فلزمته غرامته إذا أتلفه كالوديعة(2) (ويحرم على من يضحي) أو يضحى عنه(3)(أن يأخذ في العشر) الأول من ذي الحجة (من شعره) أوظفره (أو بشرته شيئا) إلى الذبح لحديث مسلم عن أم سلمة مرفوعا «إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئًا حتى
يضحي(4) وسن حلق بعده(5).
فصل(6)
__________
(1) للأثر بالإطعام منها، لا بقيمتها، هذا مذهب جمهور العلماء.
(2) في أنه يضمنها بإتلافها، قال في المبدع: ويتوجه، لا يكفي التصدق بالجلد والقرن.
(3) أي من يضحي لنفسه، أو يضحي عنه غيره في قول، ولم يدل عليه الأثر، والوجه الثاني: يكره نص عليه واختاره القاضي وجماعة، قال في الإنصاف: وهو أولى وأما إذا ضحى عن غيره فلا يحرم عليه حلق ونحوه، ولا يكره.
ولو بواحدة كمن يضحي بأكثر منها، لعموم (حتى يضحي) قال الوزير اتفقوا على أنه يكره لمن أراد الأضحية أن يأخذ من شعره وظفره من أول العشر، إلى أن يضحي وقال أبو حنيفة: لا يكره.
(4) وفي رواية «لا يمس من شعره أو بشرته شيئًا» والحكمة أن يبقى كامل الأجزاء ، ليعتق من النار، فإن فعل شيئا من ذلك استغفر الله، ولا فدية عليه، عمدًا كان أو سهوًا إجماعًا.
(5) أي بعد الأضحية، وقيل: وإن لم يضح، لقوله لمن لم يجد «ولكن تأخذ من شعرك ، وتقلم أظفارك، وتقص شاربك» رواه أبو داود وغيره، وعنه: ليس بسنة، ولا مستحب مطلقا، اختاره الشيخ.
(6) في العقيقة، وبيان مشروعيتها، -وهي في الأصل- صوف الجذع وشعر كل مولود من الناس والبهائم، الذي يولد وهو عليه، وقال الوزير: هي في اللغة أن يحلق عن الغلام أو الجارية شعرهما الذي ولدا به، ويقال لذلك عقيقة وإنما سميت الشاة عقيقة لأنها تذبح في اليوم السابع، وهو اليوم الذي يعق فيه شعر الغلام الذي ولد وهو عليه، أي يحلق.(7/227)
(تسن العقيقة) أي الذبيحة عن المولود في حق أب(1) ولو معسرًا ويقترض(2) قال أحمد: العقيقة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عقَّ عن الحسن والحسين(3) وفعله أصحابه(4).
__________
(1) أي فلا يعق غيره إلا إن تعذر بموت أو امتناع، وقالوا: فلو تركها الأب لم يسن للمولود أن يعقَّ عن نفسه، سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، وبعد بلوغه فلا تسمى عقيقة، واستحب جمع أن يعق عن نفسه إذا بلغ، قال في الرعاية: تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأنها مشروعة عنه، ومرتهن بها، فينبغي أن يشرع له فكاك نفسه، وقال الشيخ: يعق عن اليتيم كالأضحية وأولى، لأنه مرتهن بها.
(2) قال أحمد: إن استقرض رجوت أن يخلف الله عليه، أحيا سنة، وقال الشيخ: محله لمن له وفاء.
(3) رواه أبو داود وغيره.
(4) وكذا التابعون، وهو مذهب الشافعي، وقال مالك: وهو الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، وعن أحمد: واجبة: اختارها أبو بكر وغيره، وقال الحسن
عن سمرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته» وفي الصحيح «مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى» وقال «كل غلام رهين بعقيقته» صححه الترمذي، وقال أحمد: مرتهن عن الشفاعة لوالديه، وقال ابن القيم: في حسن أخلاقه وسجاياه ، إن عق عنه صار سببا في ذلك.
ودل الحديث على أنها لازمة لا بد منها، فإنه شبه لزومها بالرهن، فهي سنة مؤكدة، ولو بعد موت المولود، مشروعة في قول الجمهور، وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها، لأنها سنة، ونسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين، وفيها معنى القربان، والشكران، والصدقة والفداء، وإطعام الطعام عند السرور، فإذا شرع عند النكاح، فلأن يشرع عند الغاية المطلوبة، وهو وجود النسل أولى.(7/228)
(عن الغلام شاتان) متقاربتان سنا وشبها(1) فإن عدم فواحدة(2).
(وعن الجارية شاة)(3) لحديث أم كرز الكعبية، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة»(4).
__________
(1) وهذا مذهب الشافعي، وللنسائي: عق النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين، كبشين كبشين، ولأبي داود وغيره، كبشًا كبشًا، ولكن تضمنت رواية النسائي الزيادة فكان أولى، إذ قد صح من قوله صلى الله عليه وسلم كما يأتي، وحكي تواتره، وهو أعم، والله فضله على الأنثى، فتلحق العقيقة به، ويدل القول على الاستحباب، والفعل على الجواز، وتتفق السنة قال ابن القيم: والتفضيل تابع لشرف الذكر، وما ميزه الله به على الأنثى، ولما كانت النعمة به على الوالد أتم، والسرور والفرحة به أكمل، فكان الشكران عليه أكثر، فإنه كلما كثرت النعمة كان شكرها أكثر.
(2) أي فإن عدم الشاتين فشاة واحدة ، أي لكل واحدة شاة، ولو ولدا في بطن، فلكل حكمه، قال ابن عبد البر: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافه، وتجزئ كما يأتي.
(3) وفاقًا، قال ابن القيم: سنة عن الجارية، كما هي سنة عن الغلام، وهو قول جمهور أهل العلم من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم.
(4) رواه أحمد والترمذي وصححه، من حديث عائشة ولأنها على النصف من أحكام الذكر، و«متكافئتان» أي متساويتان سنا وشبها، وفي الشمائل: بأن تكون هذه نظيرة هذه، ولعله للتفاؤل بتناسب أخلاقه، فإنه يعجبه الفأل «وأم كرز» بضم الكاف، وسكون الراء بعدها زاي، المكية صحابية لها أحاديث.(7/229)
(تذبح يوم سابعه) أي سابع المولود(1) ويحلق فيه رأس ذكر(2) ويتصدق بوزنه ورقا(3) ويسمى فيه(4).
__________
(1) وفاقا، والتقييد بذلك استحباب، فلو ذبح في الثالث، أو التاسع، أو غيرها أجزأ، والحكمة والله أعلم أن الطفل حين يولد متردد فيه بين السلامة والعطب، إلى أن يأتي عليه ما يستدل به على سلامة بنيته وأقل مقداره أيام الأسبوع.
(2) أي في يوم سابعه استحباب وفاقا، قال ابن عبد البر: كانوا يستحبون ذلك، وقد ثبت أنه قال «ويحلق رأسه»
(3) أي فضة لقصة فاطمة وغيرها، وأما الأنثى فيكره.
(4) أي في اليوم السابع، وفي السنن وغيرها «يذبح عنه يوم سابعه ويسمى» وفي الشرح: وإن سماه قبله فحسن، وفي قوله تعالى: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } دليل على جوازه يوم الولادة، وفي الصحيحين «ولد لي الليلة ولد، سميته باسم أبي إبراهيم
وفيهما عن أنس أنه ذهب بأخيه إليه صلى الله عليه وسلم حين ولدته أمه، فحنكه وسماه عبد الله، وسمى المنذر، وسمى غيره، وقال لرجل «سم ابنك عبد الرحمن» وذلك يوم الولادة، وقال البيهقي : باب تسمية المولود يوم يولد اهـ وهو أصح من السابع، وحقيقة التسمية تعريف الشيء المسمى، فتعريف المولود يوم الولادة أولى، ويجوز إلى يوم العقيقة، وقبله وبعده.
قال ابن القيم: والأمر فيه واسع، والتسمية للأب، فلا يسمِّى غيره مع وجوده، والتسمية واجبة، وقال ابن حزم: اتفقوا على أن التسمية للرجال والنساء فرض».(7/230)
ويسن تحسين الاسم(1) ويحرم بنحو عبد الكعبة، وعبد النبي، وعبد المسيح(2) ويكره بنحو حرب ويسار(3)
__________
(1) وفاقا لحديث «إنكم تدعون بأسمائكم، وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم» رواه أبو داود: أي تدعون على رءوس الأشهاد بالاسم الحسن، والوصف المناسب له، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن، ولما جاء سهيل يوم الحديبية قال: «سهل أمركم» وفي تحسين الأسماء تنبيه على تحسين الأفعال.
(2) وعبد علي، وعبد الحسين، وعبد النور، وروى ابن أبي شيبة عن شريح ابن هانئ، أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قوم، فسمعهم يسمون رجلا عبد الحجر، فقال: «إنما أنت عبد الله» وقال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب، لأنه إخبار، كبني عبد الدار، وعبد شمس، ليس من باب إنشاء التسمية بذلك،ويحرم بنحو مالك الأملاك، ففي الصحيحين «إن أخنع اسم
عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله» وكذا قاضي القضاة وسيد الناس.
(3) كالعاص، وكلب، وشيطان، وعتلة، وحباب، وشهاب، وحنظلة، ومرة، وحزن، وحية، وثبت «أقبحها حرب ومرة» وكره صلى الله عليه وسلم
مباشرة الاسم القبيح من الأشخاص والأماكن، وذلك لأنه لما كانت الأسماء قوالب للمعاني، ودالة عليه، فتضمنت الحكمة الإلهية أن يكون بينها ارتباطا وتناسبا، وأن لا تكون معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة أحكم الحاكمين تأبى ذلك، والواقع يشهد بخلافه، بل لها تأثير في المسميات وللمسميات تأثر عن أسمائها في الحسن، والقبح، والخفة، والثقل، واللطافة، والكثافة.
وثبت «لا تسمين غلامك يسارا، ولا رباحا، ولا نجاحا، ولا أفلح، فإنك تقول: أثمة هو. فلا يكون، فيقال: لا» أي فتوجب تطيرا تكرهه النفوس، ويصدها عما هي بصدده، فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن يمنعهم من أسماء توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تحصل المقصود من غير مفسدة، أو لئلا يسمى يسارا من هو أعسر الناس، ونجيحًا من لا نجاح عنده، ورباحا من هو من الخاسرين، فيكون قد وقع في الكذب، أو يطالب بمقتضى اسمه فلا يوجد عنده، فيجعل سببا لذمه، أو يعتقد في نفسه أنه كذلك فيقع في تزكية نفسه وتعظيمها، فيكره بالتقيف، والمتقي والراضي، والمحسن، والمرشد، ونهى الشارع أن يسمى «برة»
ويكره أن يستعمل الاسم الشريف المصون، في حق من ليس كذلك، والمهين في حق من ليس من أهله، وإن لقب بما يصدقه فعله جاز، ويحرم ما لم يقع على مخرج صحيح، ولا يكره بأبي القاسم بعد موته صلى الله عليه وسلم وقد وقع من الأعيان ولم ينكر، والجمع بين اسمه وكنيته ممنوع، جزم به في الغنية، ويجوز بأي فلان، وفلانة كبيرًا كان أو صغيرًا، إجماعًا، ويجوز التصغير مع عدم الأذى.
وقال أبو جعفر النحاس: لا نعلم بين العلماء خلافا أنه لا ينبغي أن يقول أحد
لأحد من المخلوقين: مولاي، ولا يقول: عبدك ولا عبدي، وإن كان مملوكا، ولمسلم «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله وإماؤه، ولا ربي ومولاي، فإن مولاكم الله» وقد حظر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم على المملوكين، فيكف بالأحرار، ومنهم من كره أن يقال: يا سيدي. أدبًا مع الله عز وجل، وأجازه بعضهم لغير منافق للخبر،وينبغي أن لا يرضى المخاطب بذلك، وأن ينكره، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «السيد الله تبارك وتعالى» الذي يستحق السيادة ، وأحب التواضع.(7/231)
.
وأحب الأسماء عبد الله وعبد الرحمن(1)
__________
(1) لحديث «إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله، وعبد الرحمن» رواه مسلم وغيره، وقال «يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسمكم، واسم أبيكم» لتعبيدهم لله، وقال ابن حزم: اتفقوا على استحسان الأسماء المضافة إلى الله تعالى، قال ابن القيم: ولما كان الاسم مقتضيًا لمسماه، ومؤثرا فيه، كان أحب الأسماء إلى الله ما اقتضى أحب الأوصاف إليه، كعبد الله، ضد ملك الأملاك ونحوه، فإن ذلك ليس لأحد سوى الله، فتمسيته بذلك من أبطل الباطل، ويليه قاضي القضاة وسيد الناس، ولأبي داود «تسموا بأسماء الأنبياء» لأن الاسم يذكر بمسماه ويقتضي التعلق بمعناه.
ويسن الأذان في يمنى أذني المولود، والإقامة في اليسرى، لحديث «من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، لم تضره أم الصبيان» أي التابعة من الجن، رواه البيهقي وغيره، وأذن عليه الصلاة والسلام في أذن الحسين، حين ولدته فاطمة صححه الترمذي، وليكن التوحيد أول شيء يقرع سمعه حين خروجه إلى الدنيا، كما يلقن عند خروجه منها، ولما فيه من طرد الشيطان، فإنه ينفر عن سماع الأذان، ويسن تحنيكه، لما في الصحيحين من حديث أبي موسى، وأنس: وحنكه بتمرة زاد البخاري: ودعا له.
ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي من حرد، وغضب ولجاجة، وعجلة ، وخفة مع هواه، وطيش، وحدة وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له، فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته، ولا بد يوما ما يعاودها، ولهذا تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من التربية التي نشئوا عليها، وكذلك يجب أن يجتنب الصبي إذا عقل مجالس الباطل واللهو، فإنه إذا علق سمعه عسر عليه مفارقته في الكبر وعزَّ على وليه استنقاذه منها، وتغيير العوائد من أصعب الأمور، يحتاج صاحبها إلى استحداث طبيعة ثانية، والخروج عن حكم الطبع عسر جدًّا.(7/232)
.
(فإن فات) الذبح يوم السابع (ففي أربعة عشر(1) فإن فات ففي إحدى وعشرين) من ولادته، روي عن عائشة(2) ولا تعتبر الأسابيع بعد ذلك(3) فيعق في أي يوم أراد(4).
__________
(1) ليأتي عليه أسبوع ثان، وهو مذهب الجمهور.
(2) رضي الله عنها، قال الميموني: قلت لأبي عبد الله: متى يعق عنه؟ قال: أما عائشة فتقول: سبعة أيام، وأربع عشرة، وإحدى وعشرين، وقال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم، يستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع، فإن لم يتهيأ يوم السابع فيوم الرابع عشر، فإن لم يتهيأ عق عنه يوم إحدى وعشرين.
(3) أي بعد الأيام التي ذكرها ولا آخر لوقتها.
(4) ولو بعد بلوغ ولده، لأنه قضاء، فلا يتوقف على وقت معين، وإن اتفق وقت عقيقة وأضحية فعق أو ضحى أجزأ عن الآخر، كما لو ولد له أولاد في يوم أجزأت عقيقة واحدة، أو ذبح أضحية يوم النحر وأقام سنة الوليمة في
عرسه أجزأت، لحصول المقصود، كالجمعة والعيد إذا اجتمعا، وصوبه في تصحيح الفروع، قال أحمد: أرجو أن تجزئ الأضحية عن العقيقة لمن لم يعق، وكر أنه قال به غير واحد من التابعين، وقال ابن القيم: ووجه الإجزاء حصول المقصود منها بذبح واحد.
والأضحية عن المولود مشروعة كالعقيقة عنه، فإذا ضحى ونوى أن تكون عقيقة وأضحية واقع عنهما، كما لو صلى ركعتين ينوي بهما تحية المسجد وسنة المكتوبة، أو صلى بعد الطواف فرضًا أو سنة وقع عن ركعتي الطواف، وكذا لو ذبح المتمتع والقارن شاة يوم النحر أجزأت عن دم المتعة والأضحية وصرح به شيخ الإسلام.(7/233)
(تنزع جدولاً) جمع جدل بالدال المهملة أي أعضاء(1) (ولا يكسر عظمها) تفاؤلا بالسلامة(2) كذلك قالت عائشة رضي الله عنها(3) وطبخها أفضل(4) ويكون منه بحلو(5) (وحكمها) أي حكم العقيقة فيما يجزئ ويستحب ويكره(6).
__________
(1) كاليد وحدها، أو الرجل وحدها، ونحو ذلك.
(2) قاله الوزير وغيره، وقال مالك: ليس فعل ذلك بمستحب ولا بممنوع، ولا بأس به، وقال الزرقاني: لا يلتفت إلى قول من يقول: فائدته التفاؤل بسلامة الصبي وبقائه، إنه لا أصل له من الكتاب، ولا سنة، ولا عمل.
(3) تطبخ جدولا لا يكسر لها عظم.
(4) نص عليه للخبر.
(5) تفاؤلا بحلاوة أخلاقه، ويستحب أن تعطى القابلة فخذ العقيقة.
(6) أي حكم العقيقة كالأضحية فيما يجزئ من إبل وبقر وغنم وفيما
يستحب، كالسلامة من كل عيب مما مر ونحوه، وكاستسمان، واختيار الأفضل، وفيما يكره، كمعيبة الأذن والألية، ونحو شق أو قطع.(7/234)
والأكل، والهدية، والصدقة (كالأضحية)(1) لكن يباع جلد ورأس وسواقط، ويتصدق بثمنه(2) (إلا أنه لا يجزئ فيها) أي في العقيقة (شرك في دم) فلا تجزئ بدنة ولا بقرة إلا كاملة(3) قال في النهاية: وأفضلها شاة(4) (ولا تسن الفرعة) بفتح الفاء والراء: نحر أول ولد الناقة(5).
__________
(1) وفاقا لأنها نسيكة مشروعة، أشبهت الأضحية، بل بسبب تجدد نعمة الله على الوالدين، وفداء يفديه عند ولادته بذبح يذبح عنه، كما فدى الخليل، وصار سنة بعده، ونفس الذبح، وإراقة الدم عبادة مقرونة بالصلاة ، فأما الأكل فقال أحمد: يأكل ويطعم جيرانه، لكن لا يعتبر فيها تمليك بخلاف هدي وأضحية.
(2) استدراك من قوله: وحكمها إلخ، يفيد جواز بيع ما ذكر من العقيقة دون الأضحية، لأن الأضحية أدخل منها في التعبد، وهذا عند بعض أهل العلم، ولم يرد عن السلف بيع ما ذكر منها بخصوصها.
(3) نص عليه، لكونها فدية عن النفس، فلا تقبل التشريك ولم يرد الاجتزاء فيها بشرك، ولم يفعله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولا التابعون.
(4) يعني أن الشاة أفضل من البدنة والبقرة، لأنه لم يرد أنه عق بهما، ويقول: «باسم الله والله أكبر، اللهم لك وإليك»، هذه عقيقة فلان، لحديث عائشة رواه ابن المنذر وحسنه.
(5) كانوا يذبحونه في الجاهلية لآلهتهم، رجاء البركة في نسلها، ويأكلون لحمه، ويلقون جلده على شجرة.(7/235)
(ولا) تسن (العتيرة) أيضا وهي ذبيحة رجب(1) لحديث أبي هريرة مرفوعًا «لا فرع ولا عتيرة» متفق عليه(2) ولا يكرهان(3) والمراد بالخبر نفي كونهما سنة(4).
__________
(1) بوزن عظيمة، كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب، ويسمونها الرجبية، ومنهم من ينذرها، تذبح للصنم، فيصب دمها على رأسه، وجعلوا ذلك في رجب سنة فيما بينهم، كالأضحية في الأضحى.
(2) قال ابن المنذر: فانتهى الناس عنهما لنهيه إياهم عنهما، ومعلوم بأن لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، ولا نعلم أن أحدا من أهل العلم يقول: نهى عنهما ثم أذن فيهما، ولأنهما من أعمال الجاهلية، وفي الحديث: «من تشبه بقوم فهو منهم» وشرع الله الأضحية بدل ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من الفرع والعتير، وورد في المسند وغيره «من شاء أفرع ومن شاء لم يفرع، ومن شاء عتر ومن شاء لم يعتر، وفي الغنم أضحية» وجاء في السنن ما يدل على إباحتها إذا كانت على غير الوجه الذي كانت عليه في الجاهلية، بإدخالها في عموم الصدقة، وهذا ولا شك مع إجماع عوام علماء الأمصار على عدم استعمالهم ذلك، وقوف عن الأمر بهما، مع ثبوت النهي عن ذلك.
(3) أي الفرعة والعتيرة عند جمهور العلماء، إذا لم يكن على وجه التشبه، بما كان عليه أهل الجاهلية، لأخبار النهي عن التشبه بهم، وللطبراني من حديث أبي «أعقر كعقر الجاهلية».
(4) أي بقوله «لا فرع ولا عتيرة» وفي رواية (في الإسلام) فلو ذبح شاة في رجب على وجه الصدقة، من غير تشبه بالجاهلية، أو ذبح ولد الناقة لحاجة إلى ذلك، أو للصدقة به وإطعامه، لم يكن ذلك مكروهًا.(7/236)
كتاب الجهاد(1)
مصدر: جاهد، أي بالغ في قتال عدوه(2) وشرعا: قتال الكفار(3).
__________
(1) ختم به العبادات لأنه أفضل تطوع البدن، ولا يخفى أن له مناسبة خاصة بالعبادات، وعده بعضهم ركنًا سادسًا لدين الإسلام، فلذا أوردوه بعد أركان الإسلام الخمسة، وإن كان أتبعه بعض المصنفين بالحدود لإخلاء العالم من الفساد، وقال الوزير: وحيث أن الصلاة، والزكاة ، والصوم، والحج تحتاج إلى طمأنينة وظهور يد لإقامة ذلك، والمدافعة لمن نهى عنه من المشركين، كان الجهاد لازما فتعين ذكر علمه عقبه، وهو مشروع بالكتاب، والسنة، والإجماع، قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } وفعله صلى الله عليه وسلم وأمر به، وقال «من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق».
(2) فهو لغة: بذل الطاقة والوسع، وغلب في عرفهم على جهاد الكفار، وهو دعوتهم إلى الدين الحق، وقتالهم إن لم يقبلوا.
(3) خاصة، بخلاف المسلمين من البغاة، وقطاع الطريق، وغيرهم، فبينه وبين القتال عموم مطلق، ويأتي حكم قتال البغاة وغيرهم، وجنس الجهاد كما قال ابن القيم وغيره، فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، وقال الحافظ: الجهاد شرعا، بذلك الجهد في قتال الكفار، ويطلق أيضا على مجاهدة النفس، والشيطان، والفساق، فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم تعليمها، وأما مجاهدة الشيطان، فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه
من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد، والمال، واللسان، والقلب، وأما مجاهدة الفساق فباليد، ثم اللسان، ثم القلب.(7/237)
(وهو فرض كفاية)(1) إذا قام به من يكفي سقط عن سائر الناس(2) وإلا أثم الكل(3) ويسن بتأكد مع قيام من يكفي به(4).
__________
(1) إجماعا لقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } مالم يحضر العدو فيتعين على كل أحد، وفرض الكفاية ما قصد حصوله من غير شخص معين، فإن لم يوجد إلا واحد تعين عليه، ومعنى الكفاية هنا: نهوض قوم يكفون في قتالهم جندا، كان لهم دواوين أو أعدوا أنفسهم له تبرعًا، بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة به، ويكون بالثغور من يدفع العدو عن أهلها.
(2) أي سقط فرض الجهاد عن باقي الناس الذين لا يقومون به لقوله { فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } وقوله: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا، ويقيم هو وأصحابه، ولم يخرج قط للغزو إلا ترك بعض الناس، فاقتضى كونه فرض كفاية، إذا قام به البعض يكون سنة في حق الباقين، وإذا فعله الجميع كان كله فرضا، قال الشيخ: لعله إذا فعلوه جميعًا، فإنه لا خلاف فيه.
(3) أي وإن لم يقم بجهاد الكفار أحد من المسلمين أثم كل المسلمين بتركه.
(4) باتفاق الأئمة، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه يجب على أهل الثغر أن يقاتلوا من يليهم من الكفار، فإن عجزوا ساعدهم من يليهم، ويكون ذلك على الأقرب فالأقرب ممن يلي ذلك الثغر، وصار فرض عين إن لم يكن عذر، والأمر في ذلك مبني على غلبة الظن أن الغير يقوم به.(7/238)
وهو أفضل متطوع به(1)
__________
(1) قال أحمد: لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد، وقال الشيخ: اتفق العلماء فيما أعلمه أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد، وفي الصحيحين «لغدوة في سبيل الله أو روحة، خير من الدنيا وما فيها» وفيهما «إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» فهذا ارتفاع خمسين ألف سنة في الجنة لأهل الجهاد، وقيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: «مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» والأحاديث متظاهرة بذلك.
وهو سنام العبادة، وذروة الإسلام، وهو المحك، والدليل المفرق بين المحب والمدعي، فمن صدق المحب بذل مهجته وماله لربه، حتى يود لو أن له بكل شعرة نفسًا بذلها في مرضاته، ويود أن لو قتل ثم أحيى، ثم قتل ثم أحيي، قد سلم نفسه لمشتريها، وعلم أن لا سبيل إلى أخذ تلك السلعة الغالية إلا ببذل ثمنها { إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } الآية، ففيه خير الدنيا والآخرة، وفي تركه خسارة الدنيا والآخرة، وفيه إحدى الحسنين، إما النصر والظفر، وما الشهادة والجنة.
وفضله عظيم، كيف وحاصله بذل أعز المحبوبات، وإدخال أعظم المشقات على النفس، ابتغاء مرضاة الله، وتقربا إليه، ونفعه يعم المسلمين كلهم، وغيره لا يساويه في نفعه وخطره، فلا يساويه في فضله، والشهادة فيه تكفر الذنوب غير الدين، لقوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله: أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتبسا في سبيل الله؟ قال: «نعم إلا الدين».
وقال الآجري: هذا إنما هو لمن تهاون في قضاء دينه، أما من استدان دينا وأنفقه في واجب عليه، أو في مشروع، من غير سرف ولا تبذير، ثم لم يمكنه قضاؤه بعد ذلك، فإن الله يقضيه عنه، مات أو قتل، قال الشيخ: وغير مظالم العباد
كقتل، وظلم، وزكاة، وحج، وغيرها، ولا يسقط حق الآدمي من دم، أو مال، أو عرض، بالحج إجماعًا، ولا بالجهاد.(7/239)
.
ثم النفقة فيه(1) (ويجب) الجهاد(2).
__________
(1) أي في الجهاد، وفي الاختيارات، من عجز عنه ببدنه، وقدر عليه بماله، وجب عليه الجهاد بماله، نص عليه وقطع به القاضي في أحكام القرآن، عند قوله: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ } فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله، وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل، وكذلك في أموال الصغار إذا احتيج إليها، كما تجب النفقات والزكاة.
قال الشيخ: سئلت عمن عليه دين وله ما يوفيه، وقد تعين الجهاد؟ فقلت: من الواجبات ما يقدم على وفاء الدين، كنفقة النفس، والزوجة، والولد الفقير، ومنها ما يقدم وفاء الدين عليه، كالعبادات من الحج والكفارات، ومنها ما يقدم عليه إلا إذا طولب به، كصدقة الفطر، فإن كان الجهاد المتعين لدفع الضرر كما إذا حضره العدو، أو حضر الصف، قدم على وفاء الدين، كالنفقة وأولى، وإن كان استنفار الإمام، فقضاء الدين أولى، إذ الإمام لا ينبغي له استنفار المدين مع الاستغناء عنه، ولذلك قلت: لو ضاق المال عن إطعام جياع، والجهاد الذي يتضرر بتركه، قدمنا الجهاد، وإن مات الجياع، وقلت أيضا: إذا كان الغرماء يجاهدون بالمال الذي يستوفونه، فالواجب وفاؤهم، لتحصيل المصلحتين، الوفاء والجهاد، ونصوص أحمد توافق ما كتبته.
(2) أي عينا على ذكر، مسلم، حر ، مكلف ، صحيح، ولو أعشى أو أعور، واجد -بملك، أو بذل إمام- ما يكفيه وأهله في غيبته، ومع مسافة قصر ما يحمله بلا خلاف، لقوله تعالى: { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ } وقال: { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ
مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ } لأن هذه الأعذار تمنع من الجهاد، ولا يجب على أنثى بلا نزاع، ويلزم العاجز ببدنه في ماله، اختاره الشيخ وغيره.(7/240)
(إذا حضره) أي حضر صف القتال (أو حضر بلده عدو)(1) أو احتيج إليه(2) (أو استنفره الإمام) حيث لا عذر له(3).
__________
(1) أي يجب عليه الجهاد عينًا إن لم يكن عذر بلا نزاع، وإن كانت المقاتلة أقل من النصف، فإنهم لو انصرفوا استولوا على الحريم، وهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، قال الشيخ: جهاد الدفع للكفار متعين على كل أحد.
وقال: إذا هجم العدو، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة، واجب إجماعا وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا، وهو خير مما في المختصرات، لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية أولا؟
(2) أي في القتال والمدافعة، تعين عليه ولو بعد، إن لم يكن عذر، لدعاء الحاجة إليه، وقتال الدفع، مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين، فهنا يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا.
(3) أي طلبه الإمام أو نائبه للخروج للقتال تعين عليه، ولم يجز لأحد أن يتخلف إلا من يحتاج إليه لحفظ أهل أو مال ونحو ذلك، بلا نزاع، وذكر الشيخ حديث عبادة «على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وأثره عليه»، قال: فأوجب الطاعة التي عمادها الاستنفار في العسر واليسر، وهذا نص في وجوبه مع الإعسار، بخلاف الحج، وهذا في قتال الطلب، وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا
فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب من دفعه بعد الإيمان فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان.(7/241)
لقوله تعالى: { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } (1) وقوله: { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ } (2) وإذا نودي: الصلاة جامعة(3) لحادثة يشاور فيها، لم يتأخر أحدٌ بلا عذر(4)
__________
(1) أي ( { إِذَا لَقِيتُمْ } ) أيها المسلمون { فئة } أي جماعة كافرة { فَاثْبُتُوا } لقتالهم ووطنوا أنفسكم للقائهم، { وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا } أي ادعوه بالنصر والظفر بهم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي كونوا على رجاء الفلاح { وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ } يعني في أمر الجهاد والثبات { وَلا تَنَازَعُوا } أي لا تختلفوا { فَتَفْشَلُوا } تجبنوا وتضعفوا { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } جرأتكم وجدكم وحدتكم { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * } وهذه تعليم من الله لعباده آداب اللقاء، وطريق الشجاعة عند مواجهة العدو.
(2) { انْفِرُوا } أي اخرجوا { فِي سَبِيلِ اللهِ } لجهاد عدوكم { اثَّاقَلْتُمْ } أي تثاقلتم، وتباطأتم، وتكاسلتم، وملتم (إِلَى) المقام في { الأَرْضِ } في الدعة والخفض وطيب الثمار، وكانت في غزوة تبوك، حين طابت الثمار والظلال { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ * } كزاد الراكب، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، فهو في سبيل الله، ويجب النفير مع كل أمير، برا كان أو فاجرا بلا نزاع، بشرط أن يحفظ المسلمين.
(3) بنصبهما على الإغراء والحال، ويرفعهما مبتدأ وخبر، أي قيل في الجيش: الصلاة جامعة.
(4) لوجوب الجهاد بغاية ما يمكن من بدن، ورأي، وتدبير لا سيَّما العرفاء، ورجال النجدة والرأي، قال الشيخ: الجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو
بالدعوة، والحجة، واللسان، والرأي، والتدبير، والصناعة، فيجب بغاية ما يمكنه
ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم، قال: ولا غنى لولي الأمر من المشاورة فقد أمر بها تعالى فقال: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ } وقال قتادة: ما شاور قوم قط يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى رشدهم، وما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره، ولم يكن أحد أكثر مشاورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قيل: إن الله أمر بها لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وإذا استشارهم فبين له ما يجب اتباعه من الكتاب والسنة، وإجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك، وإن كان عظيما في الدين والدنيا، وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يكون مستخرج رأيه ووجهه ما كان أشبه بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتى أمكن معرفة ما دل عليه كان هو الواجب، فإن لم يمكن لضيق الوقت، أو عجزا لطالب أو تكافئ الأدلة عنده، فله أن يقلد من يرتضي عمله ودينه ، هذا أقوى الأقوال.(7/242)
.
(وتمام الرباط أربعون يومًا)(1) لقوله عليه السلام «تمام الرباط أربعون يوما»(2).
__________
(1) أي كماله المستحق عليه الأجر الجزيل، وإلا فيؤجر على ما دون الأربعين كما سيأتي، والرباط من توابع الجهاد في سبيل الله، ولزوم الثغور من أفضل الأعمال.
(2) وعن أبي هريرة مرفوعًا، «من رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط» رواه سعيد، ونص عليه أحمد، وجزم به غير واحد، وفي السنن «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» ولمسلم «رباط يوم وليلة» وفي لفظ: «ليلة» خير من صيام شهر وقيامه، فإن مات أجري عليه عمله ورزقه، وأمن من الفتان، وفي الصحيح «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها».
وقال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر عند الحجر الأسود، وفضائل الرباط في سبيل الله كثيرة، وتظاهرت الأحاديث بالترغيب فيه، وكثرة الثواب، وهو أفضل من المجاورة بمكة، حكاه الشيخ إجماعًا، وقال: المقام في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة، بلا نزاع، لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج، وقال تعالى: { لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ } وكذا الحرس في سبيل الله، ثوابه عظيم للأخبار ولعظيم نفعه.(7/243)
رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب(1) والرباط لزوم ثغر(2) لجهاد مقويا للمسلمين(3) وأقله ساعة(4) وأفضله بأشد الثغور خوفا(5) وكره نقل أهله إلى مخوف(6)
__________
(1) أبو الشيخ هو الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن حبان الأصبهاني.
(2) وفي النهاية: الرباط في الأصل: الإقامة على جهاد العدو بالحرب وارتباط الخيل وإعدادها. اهـ والثغر كل مكان يخيف أهله والعدو أو يخيفهم وسمي المقام بالثغر رباطا، لأن هؤلاء يربطون خيولهم، وهؤلاء يربطون خيولهم.
(3) فمن أقام فيه بنية دفع العدو فهو مرابط، والأعمال بالنيات.
(4) أي أقل ما يقع عليه اسم الرباط ساعة، قال أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط، والأجر بحسب ذلك.
(5) لأنه مقامه به أنفع، وأهله به أحوج.
(6) أي نقل ذريته ونسائه إلى ثغر مخوف، مخافة الظفر بهم، وإلا فلا يكره، كأهل الثغر به بأهليهم، وإن كان مخوفًا، لأنه لا بد لهم من السكنى بهم، وإلا لخربت الثغور، وتعطلت ويجب على عاجز عن إظهار دينه، بمحل يغلب فيه حكم الكفر أو البدع المضلة، الهجرة، إحرازا لدينه وقال الوزير وغيره
اتفقوا على وجوب الهجرة عن ديار الكفر لمن قدر على ذلك، وسن لقادر على إظهار دينه بنحو دار كفر، ولا تجب من بين أهل المعاصي لقوله صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده» الحديث.
والهجرة الخروج من تلك الدار إلى دار الإسلام، وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، متوعد من تركها، بل فرضها الله على رسوله قبل فرض الصوم والحج، قال الشيخ: لا يسلم أحد من الشرك إلا بالمباينة لأهله لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } أي في أي فريق كنتم، في فريق المسلمين، أو فريق المشركين؟ { قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } الآيات، وقال: { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ* } والمهاجرة مصادمة الغير، ومقاطعته ومباعدته، ولأبي داود وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين».(7/244)
.
(وإذا كان أبواه مسلمين) حرين أو أحدهما كذلك(1) (لم يجاهد تطوعًا إلا بإذنهما)(2) لقوله عليه السلام «ففيهما فجاهد» صححه الترمذي(3).
__________
(1) أي مسلم حر عاقل.
(2) قال الوزير وابن رشد وغيرهما: باتفاق العلماء، إلا أن يكون عليه فرض عين، مثل أن لا يكون هناك من يقوم بالفرض إلا بقيام الجميع به.
(3) وروي البخاري معناه من حديث ابن عمر، ولأبي داود من حديث أبي سعيد «إن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما» يعني بطاعتهما بعدم الخروج في الجهاد، وذلك لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية، وجمهور العلماء أنه يحرم إذا منعاه أو أحدهما يشرط كونهما مسلمين حرين، قال الوزير: ولا تصح الاستنابة في الجهاد بجعل، ولا بتبرع، ولا بأجرة عند أبي حنيفة،والشافعي، وأحمد، سواء تعين المستنيب، أو لم يتعين.(7/245)
ولا يعتبر إذنهما لواجب(1) ولا إذن جد وجدة(2) وكذا لا يتطوع به مدين آدمي(3) لا وفاء له(4) إلا مع إذن(5) أو رهن محرز(6) أو كفيل مليءٍ(7).
(ويتفقد الإمام) وجوبا (جيشه عند المسير)(8).
__________
(1) كما إذا استنفره الإمام، أو حصر العدو البلد، وإن استويا فمصلحة الجهاد أعم، إذ هي لحفظ الدين، والدفاع عن المسلمين.
(2) لظاهر الأخبار، ولا للكافرين، لفعل الصحابة، ولا لرقيقين لعدم الولاية، ولا لمجنونين لأنه لا حكم لقولهما.
(3) بالإضافة احترازا ممن عليه دين لله، كحج وزكاة.
(4) بالاتفاق ، لقوله صلى الله عليه وسلم، وقد سأله رجل: أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتبسا في سبيل الله؟ قال: «نعم إلا الدين، كذلك قال لي جبرئيل آنفا» والجمهور على الجواز إذا خلف وفاء، كما لو كان الدين لله.
(5) أي إذن رب الدين، فيجوز لرضاه.
(6) أي يمكن وفاء منه، لقصة عبد الله بن حرام، وعدم ضياع حق الغريم.
(7) أي بالدين، أو وكيل يقضيه متبرعا فيجوز، لأنه لا ضرر على رب الدين، فإن تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه، لتعلق الجهاد بعينه، فيقدم على ما في ذمته، كسائر فروض الأعيان.
(8) فيعرض جيشه، ويتعاهد الخيل والرجال، ويلزم كل أحد من إمام ورعية
إخلاص النية لله تعالى في الطاعات كلها، من جهاد وغيره، لقوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ، ويلزم كل أحد بذل وسعه في ذلك، ويستحب أن يدعو سرا بحضور قلب، وكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: «اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» رواه أبو داود.(7/246)
ويمنع) من لا يصلح لحرب من رجال وخيل(1) كـ (المخذل) الذي يفند الناس عن القتال، ويزهدهم فيه(2).
(والمرجف) كالذي يقول: هلكت سرية المسلمين(3)
ومالهم مدد أو طاقة(4) وكذا من يكاتب بأخبارنا(5) أو يرمي بيننا بفتن(6)
__________
(1) كفرس حطيم، وشيخ هرم، ونحو ذلك، لكونه كلاًّ على الجيش، ومضيقًا عليهم، وربما كان سببًا للهزيمة.
(2) كالقائل: الحر شديد، أو البرد شديد، والمشقة شديدة، أو لا تؤمن هزيمة الجيش، فلا يصحبهم ولو لضرورة، قال تعالى: { وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } .
(3) وتشتت أمرهم، وضعفوا.
(4) أي بالكفار، ونحو ذلك، ويحدث بقوة الكفار، وكثرتهم، وضعفنا وقلتنا، وغير ذلك، مما يوهن عزائم الجيش، ويفت في أعضادهم.
(5) أي ويمنع أيضا من يكاتب بأخبارنا ويفشي أسرارنا.
(6) ومعروف بنفاق وزندقة، ويمنع صبي لم يشتد، ونساء إلا لمصلحة.
ولا يغزى مع مخذل ومرجف، ومعروف بهزيمة، أو تضييع المسلمين، ويمنع جيشه من المعاصي والفساد، ويقدم الأقوى، لحديث «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» ويحرم أن يستعين بمشرك، اختاره الشيخ وغيره، وقال غير واحد: لا تختلف الرواية أنه لا يستعان بهم، لقوله «ارجع فلن أستعين بمشرك» رواه مسلم، ولأن الكافر لا يؤمن مكره وغائلته، لخبث طويته إلا لضرورة، لما روى الزهري أنه صلى الله عليه وسلم استعان بناس من المشركين في حرب خيبر، وشهد صفوان حنينًا.
والضرورة مثل كون الكفار أكثر عددًا أو يخاف منهم، وإن جوز اشترط أن يكون حسن الرأي في المسلمين، قال الشيخ: وتحرم الاستعانة بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين، لأن فيه أعظم الضرر، ولأنهم دعاة بخلاف اليهود والنصارى، ويحرم أن يعينهم المسلمون على عدوهم إلا خوفا من شرهم، لقوله تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ } الآية.(7/247)
.
ويعرف الأمير عليهم العرفاء(1) ويعقد لهم الألوية والرايات(2).
__________
(1) جمع عريف وهو القائم بأمر القبيلة أو الجماعة من الناس، كالمقدم عليهم ينظر في حالهم ويتفقدهم ، ويتعرف الأمير منه أحوالهم، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل على كل عشرة عريفًا يوم خيبر، و«يعرف» بضم المثناة التحتية مضارع «عرف» المشدد ويؤمر في كل ناحية أميرًا يقلده أمر الحرب، وتدبير الجهاد، ويكون من له رأي، وعقل، وخبرة بالحرب ومكائد العدو، مع أمانة، ورفق بالمسلمين، ونصح لهم، ومدار القتال على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به.
(2) اللواء هو العلم الذي يحمل في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، والراية بمعنى اللواء، وصرح جماعة بترادفهما، لكن روى أحمد والترمذي عن ابن عباس: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض
وينبغي أن يغاير بين ألوانها ليعرف كل قوم رايتهم، ويجعل لكل طائفة شعارًا يتداعون به عند الحرب، قال سلمة: تمرونا مع أبي بكر،وشعارنا: أمت أمت.(7/248)
ويتخير لهم المنازل(1) ويحفظ مكامنها(2) ويبعث العيون، ليتعرف حال العدو(3) (وله أن ينفل) أي يعطي زيادة على السهم(4)
__________
(1) أي أصلحها لهم كالخصبة، وأكثرها ماءً ومرعى.
(2) جمع مكمن وهو المكان الذي يختفي فيه العدو، ليأمنوا هجوم العدو عليهم، ولا يغفل الحرس والطلائع، لئلا يأخذهم العدو بغتة.
(3) ويتجسسون أخباره، ويكونون ممن لهم خبرة بالفجاج، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث الزبير يوم الأحزاب، وحذيفة أيضا وغيرهما، وينبغي أن يبتدئ الإمام بترتيب قوم في أطراف البلاد، يكفون من بإزائهم، من المشركين، ويأمر بعمر حصونهم، وحفر خنادقهم، وجميع مصالحهم، لأن أهم الأمور الأمن، ويجوز أن يجعل مالا لمن يعمل ما فيه غناء، أو يدل على طريق، أو قلعة أو ماء ونحوه، وبلا شرط، ويعد الصابر في القتال بأجر ونفل، ويف الجيش، لقوله تعالى: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ * } .
ولأن فيه ربط الجيش بعضه ببعض، ويجعل في كل جنبة كفوا، فقد جعل صلى الله عليه وسلم خالدا عن إحدى الجنبتين، والزبير على الأخرى، وأبا عبيدة على الساقة، ولأنه أحوط في الحرب، وأبلغ في إرهاب العدو.
(4) أي المستحق مع سائر الجيوش، لعنايته، وقتاله، وغير ذلك، مأخوذ من النفل وهو الزيادة، ومنه نفل الصلاة، وجمهور العلماء على جوازه قال:
الشيخ: وعلى القول الصحيح أن يقول: من أخذ شيئا فهو له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وكما قال ذلك في غزوة بدر، لمصلحة راجحة على المفسدة، وكل ما دل على الإذن كهو، وأما إذا لم يأذن، أو أذن إذنا غير جائر، فللإنسان أن يأخذ مقدار ما يصيبه بالقسمة، متحريا للعدل في ذلك.
ومن حرم على المسلمين جميع الغنائم، والحالة هذه، أو أباح للإمام أن يفعل فيها ما يشاء، فقد تقابل الطرفان، ودين الله وسط، واستمر فعله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده على قسمة الغنائم، والإذن قد يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال، وظفر العدو بهم، ولأن الغزاة إذا اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فقسمتها بينهم هي العدل والإنصاف.(7/249)
.
(في بدايته) أي عند دخوله أرض العدو(1) ويبعث سرية تغير، ويجعل لها (الربع) فأقل (بعد الخمس(2) وفي الرجعة) أي إذا رجع من أرض العدو(3) وبعث سرية(4) ويجعل لها (الثلث) فأقل (بعده) أي بعد الخمس(5).
ويقسم الباقي في الجيش كله(6) لحديث حبيب بن مسلمة: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم «نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة» رواه أبو داود(7) (ويلزم الجيش طاعته)(8)
__________
(1) وذلك أنه إذا دخل أمير دار حرب، بعث سرية تغير وإذا رجع بعث سرية أخرى، فما أتت به أخرج خمسه، وأعطى السرية ما وجب لها، وقسم الباقي في الكل.
(2) مما غنموا، ويقسم الباقي في الجيش كله، للخبر الآتي.
(3) الثلث مما غنموا بعد الخمس، إذا أوقعوا بالعدو مرة ثانية، وزيد في الرجعة على البدأة لمشقة الرجعة، لأجل ما لحق الجيش من الكلال، وعدم الرغبة في القتال.
(4) بعد القفول تغير على العدو.
(5) وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
(6) أي يقسم ما بقي بعد الخمس والتنفيل في الجيش كله، ومنهم السرية
المنفلة.
(7) وغيره، ورواه ابن ماجه بمعناه وعن عبادة بن الصامت مرفوعًا نحوه رواه الترمذي وغيره.
وقال شيخ الإسلام: كان صلى الله عليه وسلم ينفل السرية الربع، وإذا رجعوا الثلث بعد الخمس، وقال: ويجوز أن ينفل السرية من أربعة الأخماس، وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض، ويأتي حديث ابن عمر وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض السرايا، قال: ويجوز أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية، كسرية تسري من الجيش، أو رجل صعد على حصن ففتحه، أو حمل على مقدم العدو فقتله ، ونحو ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه يفعلون ذلك.
(8) أي طاعة ولي أمرهم، والطاعة والانقياد، وهو امتثال أمره، ما لم يأمر
بمعصية.(7/250)
والنصح (والصبر معه)(1).
__________
(1) في اللقاء، وأرض العدو لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا التقى الزحفان، وجب على المسلمين الحاضرين الثبات، وحرم عليهم الانصراف والفرار، إذ قد تعين عليهم إلا أن يكون متحرفًا لقتال، أو متحيزًا إلى فئة، أو يكون الواحد مع ثلاثة، أو المائة مع ثلاثمائة.
وقال ابن رشد: لا يجوز الفرار عن الضعف إجماعًا لقوله: { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } وذهب مالك إلى أن الضعف إنما يعتبر في القوة،
لا في العدد، وأنه يجوز أن يفر الواحد عن واحد، إذا كان أعتق جوادًا منه، وأجود سلاحًا وأشد قوة، وهو مع ظن تلف أولى من الثبات، ويسن الثبات مع عدم ظن التلف، والقتال مع ظنه، فهما أولى من الفرار، وكذا قال الشيخ وغيره.
وقال الشيخ: لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب، فالأول بأن يكون العدو كثيرا لا يطيقهم المسلمون، ويخافون إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين، فهنا صرح الأصحاب بوجوب بذل مهجهم في الدفع حتى يسلموا، ومثله لو هجم عدو على بلاد المسلمين، والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم، والثاني لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة، أو قبلها فقبلها وبعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقا، إلا لمتحرف أو متحيز وقال: يسن انغماسه في العدو لمنفعة المسلمين، وإلا
نهي عنه، وهو من الهلكة وإن ألقي في مركبهم نار فعلوا ما يرون السلامة فيه بلا نزاع.(7/251)
لقوله تعالى: { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (1).
__________
(1) أي وأطيعوا أولي الأمر منكم، وهم أمراء المسلمين، في عهده صلى الله عليه وسلم وبعده، ولقوله صلى الله عليه وسلم «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني» رواه النسائي، ولا نزاع في وجوب طاعته ما لم يأمر بمعصية، ولا نزاع في وجوب الغزو معه، برًّا كان أو فاجرًا، لحديث أبي هريرة مرفوعًا «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برًّا كان أو فاجرًا» رواه أبو داود، وفي الصحيح «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» .
وفي الصحيحين من حديث عبادة: بايعناه على السمع والطاعة، في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروًا كفرًا بواحًا، عندكم، فيه من الله برهان، ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى تركه مطلقًا، وإلى ظهور الكفار على المسلمين، واستئصالهم وإعلاء كلمة الكفر.(7/252)
(ولا يجوز) التعلف والاحتطاب و (الغزو إلا بإذنه(1) إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه) بفتح اللام أي شره وأذاه(2) لأن المصلحة تتعين في قتاله إذًا(3) ويجوز تبييت الكفار(4).
ورميهم بالمنجنيق(5)
__________
(1) وكذا خروج من عسكر، وتعجيل، وبراز، وإحداث أمر إلا بإذنه، لأنه أعرف بحال الناس، وحال العدو، وقوتهم لقوله تعالى: { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } قال ابن رشد: اتفقوا على محاربة جميع المشركين، لقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ } وقال: شرط الحرب بلوغ الدعوة باتفاق، أي لا تجوز حرابتهم حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة، وذلك شيء مجمع عليه بين المسلمين لقوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } وقال: «فادعهم إلى الإسلام».
(2) فلا يحتاجون إلى الإذن إذًا، لأن دفع الصائل عن الحرمة والدين واجب إجماعًا.
(3) لا يشترط فيه الإذن ولا غيره، بل يجب الدفع بحسب الإمكان، ولا شيء بعد الإيمان أوجب من دفع الصائل الذي يفسد الدين والدنيا.
(4) بلا نزاع، وهو كبسهم، وقلتهم وهم غارون، وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبيت العدو، ويغير عليهم مع الغدوات.
(5) فإنه صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف، ونصبه عمرو بن العاص على الإسكندرية، ويجوز رميهم بنار، وقطع سابلة، وماء، وهدم عامر، وقال الشيخ: اتفقوا على جواز إتلاف الشجر والزرع الذي للكفار، إذا فعلوا بنا مثل ذلك، ولم نقدر عليهم إلا به، وقال: اتفقوا على جواز قطع الشجر، وتخريب العامر، عند الحاجة إليه، وليس ذلك بأولى من قتل النفوس، وما أمكن غير ذلك، وفي الإنصاف، ولا يجوز عقر دابة، ولا شاة إلا لأكل يحتاج إليه، وذكره الموفق وغيره إجماعا في دجاجة وطير، واختار جواز عقر دواب قتالهم، إن عجز المسلمون عن سوقه، ولا يدعها لهم.
وفي البلغة: يجوز قتل ما قاتلوا عليه في تلك الحال، جزم به الموفق وغيره، وقال: لأنه يتوصل به إلى قتلهم، وهزيمتهم، وليس فيه خلاف، وإن أحرزنا دوابهم إلينا لم يجز إلا للأكل، وإن تعذر حمل متاع، ولم يشتر، فللأمير أخذه لنفسه وإحراقه، وإلا حرم، ويجوز إتلاف كتبهم المبدلة، وقيل: يجب إتلاف كفر وتبديل.
والزرع والشجر ثلاثة أصناف، ما تدعو الحاجة إلى إتلافه لغرض ما، فيجوز قطعه وحرقه، قال الموفق: بلا خلاف نعلمه، والثاني ما يتضرر المسلمون بقطعة، فيحرم قطعه وما عداهما فقيل: يجوز, وهو المذهب، وقيل: لا إلا أن لا يقدر عليهم إلا به، أو يكونوا يفعلونه بنا، قال أحمد: يكافئون على فعلهم، وكذا رميهم بالنار، وفتح الماء ليغرقهم، وهدم عامرهم، وجزم الموفق وغيره بالجواز إذا عجزوا عن أخذه بغير ذلك وإلا لم يجز.(7/253)
ولو قتل بلا قصد صبيا ونحوه(1).
__________
(1) كنساء وشيوخ ورهبان، لجواز النكاية بالإجماع في جميع المشركين،
وقال ابن رشد: النكاية جائزة بطريق الإجماع، في جميع أنواع المشركين
ذكرانهم، وإناثهم، شيوخهم، وصبيانهم، صغارهم وكبارهم، إلا الرهبان، فإن قوما رأوا أن يتركوا، ولا يؤسروا، بل يتركون دون أن يعرض لهم، لا بقتل ولا استعباد، لقوله عليه الصلاة والسلام «ذرهم وما حبسوا أنفسهم عليه» واتباعا لفعل أبي بكر، وفي الإنصاف: وإن تترسوا بمسلم لم يجز رميهم، إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم، ويقصد الكفار، وهذا بلا نزاع، قال القاضي: يجوز رميهم حال قيام الحرب، لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد.(7/254)
ولا يجوز قتل صبي، ولا امرأة وخنثى، وراهب(1) وشيخ فإن(2) وزمن وأعمى لا رأي لهم(3) ولم يقاتلوا أو يحرضوا(4).
__________
(1) لا رأي لهم ولم يقاتلوا، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن النساء ما لم يقاتلن فإنهن لا يقتلن، إلا أن يكون ذوات رأي فيقتلن، ولأنهم يصيرون أرقاء بنفس السبي، ففي قتلهم إتلاف المال، ونبه بذكر الخنثى لاحتمال أن يكون امرأة، وأما الرهبان فقال الشيخ: هم قوم منقطعون عن الناس، محبوسون في الصوامع، يسمَّى أحدهم حبيسًا، لا يعاونون أهل دينهم على أمر فيه ضرر على المسلمين أصلا، ولا يخالطونهم في دنياهم، ولكن يكتفي أحدهم بقدر ما يتبلغ به، والجمهور على أنه لا يقتل، ولا تؤخذ منه جزية.
(2) لا رأي له، ولم يقاتل، أو يحرض على القتال، وإلا فيقتل اتفاقًا.
(3) فإن شاركوا العدو في الرأي قتلوا اتفاقًا.
(4) أي على القتال، فيقتلون، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إذا كان الأعمى والمقعد، والشيخ الفاني، وأهل الصوامع لهم رأي وتدبير وجب قتلهم، وإن تترس الكفار بهم جاز رميهم، قال الشيخ: والمثلة حق لهم، فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر، ولهم تركها، والصبر عنها أفضل، وهذا حيث لا يكون في التمثيل
بهم زيادة في الجهاد، أو يكون نكالا لهم عن نظيرها، وأما إذا كان فيه دعاء لهم إلى الإيمان، وزجر لهم عن العدوان فإنه هنا نوع من إقامة الحدود، والجهاد المشروع، والمندوب إليه، وكذا قال الخطابي وغيره.(7/255)
ويكونون أرقاء بسبي(1).
__________
(1) أي الصبي وما عطف عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يسترق النساء والصبيان إذا سباهم، وأجمعت الصحابة على استعباد أهل الكتاب، ذكرانهم وإناثهم حكاه أبو عبيد وغيره، ويجوز استرقاق من لا تقبل منهم جزية عند بعض أهل العلم، ومن أسر أسيرا لم يجز قتله حتى يأتي به الإمام وإن قتله فلا شيء عليه، ويخير الإمام بين قتل لقوله: { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } واسترقاق لقوله صلى الله عليه وسلم «أعتقيها» ومنٍّ، وفداء لقوله تعالى: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } ولفعله صلى الله عليه وسلم بمنه على ثمامة وغيره، وفدائه الرجلين بالرجل.
قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الإمام مخير في الأسرى بين القتل والاسترقاق وبين المن والفداء، واختار الشيخ: يعمل المصلحة في المال وغيره، كما فعل صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، ومن أسلم منهم قبل حكمه فكمسلم قبل القدرة عليه، فيعصم نفسه، وولده الصغير، وماله، وحمل امرأته، لا هي ولا ينفسخ نكاحه برقها، ومن أسلم بعده لزمه حكمه.
ويجب هدم الأوثان، لقصة وفد ثقيف، وسؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم اللات ولو شهرا، فأبى وكذلك جميع القباب على القبور، وفي الإنصاف: وإن سألوا الموادعة بمال أو غيره جاز، إن كانت المصلحة فيه، وإذا نزلوا على حكم حاكم جاز، ولا يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين، من القتل والسبي، والفداء بلا نزاع، وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا ، عصموا دماءهم، بلا نزاع، وإن سألوا أن ينزلوا على حكم الله لزمه أن ينزلهم، ويجري فيهم كالأسرى.(7/256)
والمسبي غير بالغ منفردًا أو مع أحد أبويه مسلم(1) وإن أسلم أو مات أحد أبوي غير بالغ بدارنا فمسلم(2) وكغير البالغ من بلغ مجنونًا(3) (وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب)(4).
__________
(1) ولو مميزًا إن سباه مسلم تبعًا، لحديث «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه» رواه مسلم، وقد انقطعت تبعيته لأبويه، لانقطاعهما عنه، أو أحدهما وإخراجه من دارهما إلى دار الإسلام.
(2) وظاهره أن الحربي والذمي في ذلك سواء، وقال ابن القيم: الراجح في الدليل قول الجمهور أنه لا يحكم بإسلامه بذلك، وهي رواية عن أحمد، اختارها الشيخ، والفرق بينهما وبين مسألتي السبي أن المسبي قد انقطعت تبعيته لمن هو على دينه، وصار تابعًا لسابيه المسلم، بخلاف من مات أبواه أو أحدهما، فإنه تابع لأقاربه، أو وصي أبيه، فإن انقطعت تبعيته لأبويه، فلم تنقطع لمن يقوم مقامهما من أقاربه، وأوصيائه، ويدل عليه العمل المستمر من عهد الصحابة إلى اليوم، بموت أهل الذمة وتركهم الأطفال، ولم يتعرض أحد من الأئمة وولاة الأمور لأطفالهم، ولم يقولوا: هؤلاء مسلمون.
(3) أي فحكمه حكمه فيما ذكر.
(4) وفي الانتصار باستيلاء تام، لا في فور الهزيمة، للبس الأمر، هل هو حيلة أو ضعف؟ وقال ابن القيم في قصة حنين: إن الغنيمة لا تملك بالاستيلاء عليها، إنما تملك بالقسمة لا بمجرد الاستيلاء، إذ لو ملكها المسلمون بمجرد الاستيلاء لم يستأن بهم ليردها عليهم، فلو مات أحد من الغانمين قبل القسمة أو إحرازها بدار الإسلام رد نصيبه على بقية الغانمين دون ورثته، وهو مذهب أبي حنيفة.(7/257)
وتجوز قسمتها فيها(1) لثبوت أيدينا عليها(2) وزوال ملك الكفار عنها(3) والغنيمة ما أخذ من مال حربي قهرًا بقتال، وما ألحق به(4).
__________
(1) أي قسمة الغنيمة في دار الحرب، وهذا مذهب مالك والشافعي وجماهير العلماء، وقال أصحاب أبي حنيفة، إن لم يجد الإمام حمولة جاز له قسمتها فيها، وقول الجمهور أولى، قال الأوزاعي، ما قفل صلى الله عليه وسلم عن غزاة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسَّه وقسمه قبل أن يقفل، واتفقوا على أنه إذا قسمها الإمام بها نفذت قسمته.
(2) بالاستيلاء عليها، وطرد الكفار عنها وقهرهم.
(3) بأخذها من أيديهم، وحصولها في أيدي المسلمين، فزال ملكهم بذلك، والملك لا يزول إلى غير مالك، فصارت ملكًا للمسلمين، وأما أموال المسلمين فنص أحمد أنهم لا يملكونها إلا بالحيازة إلى دارهم، وقال الشيخ: الصواب أن الكفار يملكون أموال المسلمين، بالقهر ملكًا مقيدًا، لا يساوي ملك المسلمين من كل وجه، سواء اعتقدوا تحريمه أو لا، وإذا أسلموا وفي أيديهم أموال المسلمين فهي لهم، نص عليه، وقال في رواية أبي طالب: ليس بين المسلمين اختلاف في ذلك.
قال الشيخ: وهذا يرجع إلى أن كل ما قبضه الكفار من الأموال، قبضًا يعتقدون جوازه، فإنه يستقر لهم بالإسلام، كالعقود الفاسدة، والأنكحة والمواريث وغيرها، ولهذا لا يضمنون ما أتلفوه على المسلمين بالإجماع اهـ وما لم يملكوه فإن ربه يأخذه مجانا، ولو بعد إسلام من هو معه، أو قسمته، وشرائه منهم، وإن جهل ربه وقف أمره، ولا يملك الكفار حرًّا مسلمًا، ولا ذميًا بالاستيلاء عليه، ويلزم فداؤهم لحفظهم من الأذى، ولا يملكون وقفا ونحوه.
(4) مما أخذ فداء، أو أهدي للأمير، أو نوابه ونحوه وخرج بحربي
ما يؤخذ من أموال أهل الذمة، من جزية، وخراج ونحوه، و«قهرا بقتال» خرج به ما رحلوا وتركوه فزعا، وما يؤخذ من العشر، إذا اتجروا إلينا ونحوه.(7/258)
مشتقة من الغنم وهو الربح(1) (وهي لمن شهد الوقعة) أي الحرب (من أهل القتال) بقصده(2) قاتل أو لم يقاتل(3) حتى تجار العسكر وأجرائهم المستعدين للقتال(4).
__________
(1) لحله للمسلمين بقهرهم العدو عنه، واستيلائهم عليه قال تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا } وقال صلى الله عليه وسلم «وجعل رزقي تحت ظل رمحي» والغنم بضم الغين فالغنيمة فعيلة بمعنى مفعولة أي مغنومة، ولم تحل لغير هذه الأمة، لحديث «وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي» وكانت قبل أن تنزل عليها نار فتأكلها.
(2) أي بقصد الجهاد، بخلاف من لم يكن قاصدًا له.
(3) وفاقا حكاه الوزير وغيره، وقال ابن رشد: الأكثر على أنه إذا شهد القتال وجب له السهم وإن لم يقاتل، وأنه إذا جاء بعد القتال فليس له سهم في الغنيمة، وبهذا قال الجمهور، وقال: إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد شرطين، إما أن يكون ممن حضر القتال، وإما أن يكون ردءا لمن حضر القتال، ويسهم لدليل وجاسوس، ومن بعثهم الأمير لمصلحة وشبههم، وإن لم يشهدوا لفعله صلى الله عليه وسلم.
(4) ومعهم السلاح، لأنهم ردء للمقاتل، لاستعدادهم، أشبه المقاتل، ولإسهام النبي صلى الله عليه وسلم لمسلمة، وكان أجيرا لطلحة، رواه مسلم، بخلاف من لم يكن قاصدا للقتال، كتاجر ونحوه، خرج بلا استعداد، ولا هو من العسكر، لأنهم لا نفع فيهم.(7/259)
لقول عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة(1) (فيخرج) الإمام أو نائبه (الخمس) بعد دفع سلب لقاتل(2) وأجرة جمع، وحفظ، وحمل(3) وجعل من دل على مصلحة(4).
__________
(1) رواه الشافعي وسعيد عن طارق أن عمر قاله.
(2) حال الحرب أو انهزم والحرب قائمة فأدركه وقتله، فسلبه له لما في الصحيحين «من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه» قال الشافعي: قد حفظ هذا الحكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة اهـ، أو قتله منفردًا لقصة ابن الأكوع، فإن المقتول كان منفردًا ولا قتال هناك، والسلب بالتحريك: ما كان على المقتول، من ثياب وحلي وسلاح، والدابة وما عليها بآلتها، والمراد بالدابة التي قاتل عليها، هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، قال ابن رشد: وعليه جماعة السلف.
(3) أي للغنيمة، فالخمس بعد ذلك، لاستحقاقهم لها من جميع الغنيمة.
(4) أي ودفع جعل، بضم الجيم، لمن دل على مصلحة، من ماء أو قلعة ونحوهما لتقديم حقهم، وكذا ما أخذ من مال مسلم، أو معاهد، فأدركه صاحبه قبل قسمه، لم يقسم ورد إلى صاحبه بغير شيء، لما روى البخاري: أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده النبي صلى الله عليه وسلم وذهب فرس له فرده عليه خالد.
قال الشيخ: وإذا كان المغنوم مالاً، قد كان للمسلمين قبل، من عقار ومنقول، وعرفه صاحبه قبل القسمة، فإنه يرد إليه، بإجماع المسلمين، اهـ فإن قسم بعد العلم أنه مال مسلم، لم تصح قسمته، وإن أدركه مقسومًا فهو أحق به بثمنه لخبر ابن عباس مرفوعًا، «إن أصبته قبل القسمة فهو لك، وإن أصبته بعد ما قسم، أخذته بالقيمة»، وكذا بعد بيعه وقسم ثمنه، وما لم يملكوه، فلا يغنم بحال.(7/260)
ويجعله خمسة أسهم(1) منها سهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم(2) مصرفة كفيء(3) وسهم لبني هاشم وبني المطلب(4) حيث كانوا، غنيهم وفقيرهم(5) وسهم لفقراء اليتامى(6).
__________
(1) متساوية لقوله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } والذي عليه الجمهور: أنه لا يتعدى الخمس تلك الأصناف المنصوص عليها.
(2) في حياته صلوات الله وسلامه عليه، واليوم هو لمصالح المسلمين، وذكر اسمه تعالى للتبرك، لأن الدنيا والآخرة له، قال تعالى: { للهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } له الملك كله جل وعلا، وبيده الخير كله.
(3) قال ابن رشد: وهو قول مالك وعامة الفقهاء، وكان صلى الله عليه وسلم يصنع بهذا السهم ما شاء، قال الشيخ: يتصرف فيه الإمام كالفيء، وهو قول مالك وأكثر السلف، وهو أصح الأقوال.
(4) وهو ثابت بعد موته صلى الله عليه وسلم لم ينقطع، ولأحمد من حديث جبير بن مطعم قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى لبني هاشم وبين المطلب، وقال: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد».
(5) يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين حيث كانوا حسب الإمكان، غنيهم وفقيرهم فيه سواء.
(6) خص فقراء اليتامى لأنه قد يكون يتيمًا ويكون غنيًّا فلا حظ له فيها، و«اليتيم» في العرف للرحمة، ومن أعطي لذلك اعتبرت فيه الحاجة، واليتيم في الأصل، من لا أب له ولم يبلغ.(7/261)
وسهم للمساكين(1) وسهم لأبناء السبيل(2) يعم من بجميع البلاد حسب الطاقة(3) (ثم يقسم باقي الغنيمة) وهو أربعة أخماسها(4) بعد إعطاء النفل والرضخ(5).
__________
(1) أي أهل الحاجة، فيدخل فيهم الفقير، فهما صنفان في الزكاة فقط، وفي سائر الأحكام صنف واحد، ويجب أن يعطوا كالزكاة، واختار الشيخ إعطاء الإمام من شاء منهم للمصلحة كالزكاة، وقال: لا يختلف اثنان من المسلمين، أنه لا يجوز أن يعطي الأغنياء الذين لا منفعة لهم، ويحرم الفقراء، فإن هذا مضاد لقوله تعالى: { كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } واختار أن الخمس والفيء واحد، يصرف في المصالح، كمذهب مالك، وهو رواية عن أحمد.
(2) وهم المسافرون، البعيدون من مالهم، المحتاجون، كما في الزكاة لا الأغنياء.
(3) يعني ممن ذكر، وحسب: بفتح السين، ويشترط في إعطاء ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، أن يكونوا مسلمين، فلا حق فيها لكافر ولا قن.
(4) قال ابن رشد وغيره، اتفق المسلمون على أن الغنيمة التي تؤخذ من أيدي الروم، ما عدا الأرضين، أن خمسها للإمام، وأربعة أخماسها للذين غنموها لقوله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } لأن الله لما جعل لنفسه الخمس فهم منه أربعة الأخماس للغانمين قال: وأجمع جمهور العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، إذا خرجوا بإذن الإمام لعموم الآية.
(5) وبعد الخمس على ما تقدم، والنفل بالتحريك هو الزائد على السهم لمصلحة، لما روى أبو داود «لا نفل بعد الخمس» والرضخ بالضاد، والخاء المعجمتين هو ما دون السهم لمن لا سهم له من الغنيمة.(7/262)
لنحو قن ومميز على ما يراه(1) (للراجل سهم) ولو كافرًا(2) (وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له سهمان لفرسه) إن كان عربيًّا(3).
__________
(1) أي الإمام أو نائبه فيفضل ذا البأس، والأنفع من العبيد، والصبيان المميزين، والنساء، قال الوزير: اتفقوا على أن من حضرها من مملوك، أو امرأة، أو ذمي، أو صبي رضخ له، على ما يراه الإمام، ولا يسهم لهم، وقال: اتفقوا على أن للإمام أن يفضل بعض الغانمين على بعض، فمن لا سهم له أحق، وقال عمر: ليس أحد إلا وله في هذا المال حق، إلا ما ملكت أيمانكم وانتشر في الصحابة، فلا سهم للغلمان إجماعًا، وإنما يرضخ لهم والجمهور أن المرأة لا سهم لها، ويرضخ لها لحديث أم عطية، وكان يرضخ لنا من الغنيمة.
وقال ابن القيم: نص أحمد على أن النفل يكون من أربعة أخماس الغنيمة، والعطاء الذي أعطاه رسول الله لقريش والمؤلفة هو من النفل، نفل به النبي صلى الله عليه وسلم رءوس القبائل، والعشائر، ليتألفهم به وقومهم، على الإسلام، فهو أولى بالجواز من تنفيل الثلث بعد الخمس، والربع بعده، لما فيه من تقوية الإسلام وشوكته، وأهله، واستجلاب عدوه إليه، وهكذا وقع سواء، وللإمام أن يفعل ذلك، لأنه نائب عن المسلمين إذا دعت الحاجة، فيتصرف لمصالحهم وقيام الدين، وإن تعين للدفع عن الإسلام والذب عن حوزته، واستجلاب رءوس أعدائه إليه، ليأمن المسلمون شرهم، تعين عليه، ومبنى الشريعة على دفع أعلى المفسدتين.
(2) إذا خرج بإذن الأمير، والمراد المكلف، وأجمعوا على أن حكم الردء حكم المباشر في الجهاد، لا يشترط في الغنيمة مباشرة كل واحد في القتال.
(3) أي العتيق، وهو ما أبوه وأمه عربيَّان، لخلوصه ونفاسته فخرج
الهجين، وهو ما أبوه عربي فقط، والمقرف عكسه، وهو ما أمه عربية فقط، والبرذون وهو ما أبواه نبطيان.(7/263)
لأنه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه، وسهم له، متفق عليه عن ابن عمر(1) وللفارس على فرس غير عربي سهمان فقط(2) ولا يسهم لأكثر من فرسين، إذا كان مع رجل خيل(3) ولا شيء لغيرها من البهائم(4).
__________
(1) ولأبي داود من حديث أبي عميرة نحوه وذلك سنة سبع، وقيل: كان أسهم كذلك يوم بني قريظة، وقال الحذاء لا يختلف فيه عن الصحابة، وهو قول جمهور العلماء، ولأن سهم الفارس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس، وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل.
(2) لما روى مكحول أنه صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهما رواه سعيد وأبو داود مرسلا.
(3) للخبر ولما رواه الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين، ولأن حاجته إلى الثاني لكون إدامة ركوب واحد يضعفه، ويمنع القتال عليه، بخلاف ما فوق ذلك، فإنه مستغنى عنه، فيعطى صاحبها خمسة أسهم، سهم له، وأربعة لفرسيه العربيين، وهذا رواية عن أحمد، والجمهور أنه لا يسهم لغير فرس واحد، لظاهر الخبر، ولو أسهم لفرسين لاستفاض ذلك.
(4) كفيل وبغل وبعير ونحوها، ولو عظم غناؤها، وقامت مقام الخيل،
ولم تخل غزاة منها، ولم يسهم لها صلى الله عليه وسلم وكذا أصحابه لم ينقل
أنهم أسهموا لغير الخيل، ولا خلاف في ذلك، ولأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفارس من الكلفة، قال الشيخ وغيره: ويرضخ للبغال، والحمير، وهو قياس الأصول، كما يرضخ لمن لا سهم له من النساء، والعبيد والصبيان.(7/264)
لعدم وروده عنه عليه السلام(1) (ويشارك الجيش سراياه) التي بعثت منه من دار الحرب (فيما غنمت(2) ويشاركونه فيما غنم)(3) قال ابن المنذر: روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وترد سراياهم على قعدهم»(4).
__________
(1) أي أنه أسهم لغير الخيل، وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيرا، وغيرها من الغزوات، ولم يسهم لها.
(2) قال ابن رشد: الجمهور أن العسكر يشاركونهم فيما غنموا، وإن لم يشهدوا الغنيمة ولا القتال، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «وترد سراياهم على قعدهم» رواه أبو داود، ولأن لهم تأثيرا أيضا في أخذ الغنيمة.
(3) أي شارك السرايا الجيش فيما غنم الجيش، فأيهما غنم شاركه الآخر، نص عليه، وإذا لحق بالجيش مدد، أو صار الفارس راجلا، أو عكسه ونحوه، قبل تقضي الحرب، جعلوا كمن كان فيها كلها، وبعد تقضي الحرب، ولو لم تحرز الغنيمة لا شيء له.
(4) ورواه أبو داود وغيره، ولأنها في مصلحة الجيش، قال الشيخ: كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير، يوم بدر، لأنه بعثهما في مصلحة الجيش، فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم، وذكر حديث ابن عمر وهو في سرية، وأنهم نفلوا بعيرًا بعيرًا، وعنه: كان ينفل بعض من يبعث من السرايا، لأنفسهم خاصة، سوى قسمة عامة الجيش، قال: ولم يرد ما يدل على الاقتصار على نوع معين، ولا مقدار معين، فيفوض إلى رأي الإمام، وهو قول الجمهور.(7/265)
وإن بعث الإمام من دار الإسلام جيشين، أو سريتين، انفردت كل بما غنمت(1) (والغال من الغنيمة)(2).
__________
(1) لانفراد كل منهما بما تعانيه.
(2) قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب إجماعًا، للنهي الأكيد، والوعيد الشديد قال تعالى: { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } حاملا له على عنقه، وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد، والأحاديث في تحريم الغلول مستفيضة متعددة، منها قوله صلى الله عليه وسلم، «أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عار ونار على أهله يوم القيامة» رواه أحمد وغيره، ومنها قوله: «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة بكذا، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا، قد بلغتك» وقوله: «إن الشملة لتلتهب عليه نارًا» متفق عليهما.
واتفق المسلمون على تحريم الغلول للآية والأحاديث، وأجمعوا على أن على الغال رد ما غله، ويؤخذ للمغنم، ومن ستر على غال، أو أخذ مما أهدي له منها، أو باعه إمام أو جاب فهو غال، وقال الشيخ: وما أخذه العمال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق، فلولي الأمر العاد استخراجه منهم، كالهدايا التي يأخذونها بسب العمل، قال أبو سعيد: هدايا العمال غلول، وروي مرفوعًا، ويشهد له قصة ابن اللتبية، وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك هو من نوع الهدية، ولهذا شاطرهم عمر، لما خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، لأنه إمام عادل يقسم بالسوية.
وقال الشيخ: وعمال الفيء إذا خانوا فيه، وقبلوا هدية أو رشوة، فمن فرض له دون أجرته، أو دون كفايته عياله بالمعروف، لم يستخرج منه ذلك القدر، وإن قلنا: لا يجوز لهم الأخذ خيانة، فإنه يلزم الإمام الإعطاء.(7/266)
وهو من كتم ما غنمه أو بعضه، لا يحرم سهمه(1) (يحرق) وجوبا (رحلة كله) ما لم يخرج عن ملكه(2) (إلا السلاح، والمصحف ، وما فيه روح) وآلته ونفقته(3) وكتب علم(4) وثيابه التي عليه(5) وما لا تأكله النار فله(6).
قال يزيد بن يزيد بن جابر(7): السنة في الذي يغل أن يحرق رحله، رواه سعيد في سننه(8).
__________
(1) أي من الغنيمة، لوجود السبب الذي استحقه به، ولم يثبت حرمان سهمه في خبر، ولا دل عليه قياس، فبقي بحاله.
(2) ببيع ونحوه، ولا يحرق سهمه، لأنه ليس من رحله، واتفقوا على أنه لا يقطع إذا كان له فيها سهم.
(3) أي نفقة الغال، والآلة هي كسرجه ولجامه، وحبله ونحوه وعلفه.
(4) أي وإلا كتب علم، فلا تحرق.
(5) أي فلا تحرق، نص عليه.
(6) لبقاء ملكه عليه، ولا تأثير للنار فيه.
(7) عالم أهل دمشق، وتلميذ مكحول، وثقه غير واحد من الحفاظ.
(8) ولأحمد ، وأبي داود، عن ابن عمر: سمعت أبي يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه، واضربوه» فيعزر ولا ينفي وعنه: يعزر بما يراه الإمام، ولا يحرق، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والشافعي، وجمهور العلماء، وأئمة الأمصار، ومن لا يحصى من الصحابة والتابعين، واختار الشيخ وتلميذه، أن تحريق رحل الغال من باب التعزير
لا الحد، فيجتهد الإمام بحسب المصلحة، واستظهره في الإقناع، وصوبه في الإنصاف، وقال البخاري: قد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على الغال، ولم يحرق متاعه، وقال الدارقطني: هذا الخبر لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم.(7/267)
(وإذا غنموا) أي المسلمون (أرضًا) بأن (فتحوها) عنوة (بالسيف)(1) فأجلوا عنها أهلها (خير الإمام بين قسمها) بين الغانمين(2) (ووقفها على المسلمين) بلفظ من ألفاظ الوقف(3).
__________
(1) أي غلبة وقهرا، وهذا أحد أصناف الأرضين بالاستقراء.
(2) تخيير مصلحة، كالتخيير في الأسرى، فيفعل ما يراه أصلح، لأنه نائب المسلمين، فلا يفعل إلا الأصلح لهم، قال الشيخ: ومذهب الأكثرين أن الإمام يفعل ما هو الأصلح للمسلمين، من قسمها، أو حبسها، ولأنه صلى الله عليه وسلم قسم نصف خيبر، ووقف نصفها لنوائبه، رواه أبو داود، فتملك بقسمتها، ولا خراج عليها، لأنها ملك للغانمين.
(3) لأن الوقف لا يثبت بنفسه، فحكمها قبل الوقف حكم المنقول، وعنه: تصير وقفا بنفس الاستيلاء، قال في الإنصاف: هذا المذهب وعليه الأصحاب، وجزم به في الإقناع، وقال ابن القيم: معنى وقفها إقرارها على حالها، وضرب الخراج عليها، مستمرا في رقبتها، وقال: جمهور الصحابة والأئمة بعدهم على أن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي تجب قسمتها ، وهذه كانت سيرة الخلفاء ولما قال بلال وذووه لعمر: اقسمها قال: اللهم اكفينهم فما حال عليهم الحول، ثم وافق سائر الصحابة عمر، وكذلك جرى في سائر البلاد التي فتحت عنوة، لم يقسم منها الخلفاء قرية واحدة، وكان الذي رآه وفعله عين الصواب، فجعلها وقفا على المقاتلة تجرى عليهم، حتى يغزو منها آخر المسلمين.(7/268)
(ويضرب عليها خراجًا مستمرًّا يؤخذ ممن هي بيده)(1) من مسلم وذمي ، يكون أجرة لها في كل عام(2) كما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتحه من أرض الشام، والعراق، ومصر(3) وكذا الأرض التي جلوا عنها خوفا منا(4).
__________
(1) يتصرف فيها بنفسه أو يؤجرها، فالخراج في رقبتها.
(2) تتكرر الجزية بتكرر الأعوام، بلا نزاع في الجملة.
(3) ضرب عليها خراجًا مستمرًّا يؤخذ ممن هي بيده، وقال: أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ببَّانا، أي لا شيء لهم، ما فتحت عليَّ قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، ولكني أتركها لهم خزانة يقتسمونها رواه البخاري، قال الشيخ: وجمهور الأئمة رأوا أن ما فعله عمر بن جعل الأرض مفتوحة عنوة فيئًا حسن جائز، وإن حبسها بدون استطابة الغانمين ولا نزاع أن كل أرض فتحها لم يقسمها.
وقال ابن القيم: إن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها، وإن كان الأصلح قسمة البعض، ووقف البعض فعل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الأقسام الثلاثة، وقال الشارح: ولم نعلم أن شيئا مما فتح عنوة قسم بين الغانمين إلا نصف خيبر، فصار لأهله، لا خراج عليه، وسائر ما فتح عمر، ومن بعده لم يقسم منه شيء، قال الشيخ: وتنقلت أحوالها كالعراق، فإن خلفاء بني العباس نقلوه إلى المقاسمة، ومصر رفع عنها الخراج من مدة لا أعلم ابتداءها، وصارت الرقبة للمسلمين، وهذا جائز في أحد قولي العلماء.
(4) أي كالعنوة في تخيير الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين، وضرب خراج مستمر عليها، وهذا الصنف الثاني.(7/269)
أو صالحناهم على أنها لنا ونقرها معهم بالخراج(1) بخلاف ما صولحوا على أنها لهم ولنا الخراج عنها، فهو كجزية تسقط بإسلامهم(2) (والمرجع في) مقدار (الخراج والجزية) حين وضعهما (إلى اجتهاد الإمام) الواضع لهما(3) فيضعه بحسب اجتهاده لأنه أجرة، يختلف باختلاف الأزمنة(4) فلا يلزم الرجوع إلى ما وضعه عمر رضي الله عنه(5).
__________
(1) فيضرب عليها خراج ، وهذا الصنف الثالث، وهو «نوعان» هذا أحدهما وهي كالعنوة في التخيير، ولا يسقط خراجها بإسلامهم، وعنه: تصير وقفا كالثانية، ويضرب عليها الخراج، ولا يغير إذا ضربه أحد الأئمة، لأنه نقض للحكم اللازم، ما لم يتغير السبب، فيغير المسبب لتغير سببه.
(2) أي فإن ما يؤخذ من خراجها كجزية، كما ذكر، إن أسلموا ، أو انتقلت إلى مسلم يسقط بإسلامهم، ويقرون فيها بغير جزية، لأنها ليست بدار إسلام، بخلاف ما قبلها، فلا يقرون فيها سنة بلا جزية، وهذا هو النوع الثاني.
(3) فيرجع في قدر الخراج في ابتداء الوضع إلى تقدير الإمام من زيادة ونقص، على قدر حسب ما يؤدي إليه اجتهاده وتطيقه الأرض.
(4) فرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، قال الشيخ: ويجتهد الإمام في الخراج والجزية، فيزيد وينقص بقدر الطاقة.
(5) بل يستأنف الوضع فيما استؤنف فتحه، وما وضعه عمر رضي الله عنه على كل جريب درهما وقفيزا، وهو ثمانية أرطال، قيل بالمالكي، والجريب عشر قصبات في مثلها، والقصبة ستة أذرع، بذراع عمر، وهو ذراع متوسط ، وقبضة وإبهام قائمة فيكون الجريب ثلاثة آلاف ذراع وست مائة مكسرًا.(7/270)
وما وضعه هو أو غيره من الأئمة ليس لأحد تغييره(1) ما لم يتغير السبب(2) كما في الأحكام السلطانية(3) لأن تقديره ذلك حكم(4).
__________
(1) لأنه حكم من الإمام، ولا نقض لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من وقف أو قسمة، أو فعله الأئمة بعده، ولا تغيير، لأنه نقض للحكم اللازم، وإنما التخيير والاستئناف فيما استؤنف فتحه، قال الوزير وغيره: الزيادة مع عدم الاحتمال لا تجوز، ولا النقصان، ومدار الباب أن تحمل الأرض ما تطيقه، وأن لا يتبع غيره مما لم يأذن فيه الشرع بحال، وأكد بالضمير البارز المنفصل لصحة العطف عليه، على المذهب الراجح.
(2) كما لو تغيرت حال الأرض بأن غلت، أو رخصت، فيغير المسبب لتغيير سببه، قال الشيخ: ولو يبست الكروم بجراد أو غيره أو بعضها، سقط من خراجها بقدر ذلك، وإذا لم يمكن الانتفاع بها ببيع، أو إجارة، أو غيرها لم تجز المطالبة بخراجها.
(3) للقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، عالم زمانه، المتوفى ببغداد، سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وله مصنفات كثيرة منها الأحكام، ذكر فيها ما وضعه عمر وغيره، وأنه يختلف بما يختص بالأرض من جودة وبالزرع من اختلاف أنواعه، وبالسقي والشرب فلا بد لواضع الخراج من اعتبار ما وصف، من اختلاف الأرض، والزرع، والشرب، ليعلم ما تحمله الأرض من خراجها، فيقصد العدل فيما بين أهلها وأهل الفيء.
(4) أي ما وضعه عمر ومن بعده حكم لازم، وليس لأحد تغييره، ولا نقضه، وإنما التغيير فيما استؤنف فتحه، ما لم يتغير السبب كما تقدم.(7/271)
والخراج على أرض لها ماء تسقى به، ولو لم تزرع(1) لا على مساكن(2) (ومن عجز عن عمارة أرضه) الخراجية(3) (أجبر على إجارتها(4) أو رفع يده عنها ) بإجارة أو غيرها(5) لأن الأرض للمسلمين فلا يجوز تعطيلها عليهم(6) (ويجري فيها الميراث) فتنتقل إلى وارث من كانت بيده، على الوجه الذي كانت عليه في يد مورثه(7).
__________
(1) كالمؤجرة ، وواجبها والحال ما ذكر خراج أقل ما يزرع، وهو درهم وقفيز، ولا خراج على ما لا يناله ماء، ولو أمكن زرعه، وإحياؤه ولم يفعل، وما لم ينبت، أو لم ينله إلا عاما بعد عام، نصف خراجه في كل عام، وهو على المالك، لأنه على رقبة الأرض كما تقدم.
(2) فليس عليها خراج بالاتفاق، وإن حولت مزارع ونحوها فعليها.
(3) وهي ما فتحت عنوة.
(4) لئلا يتعطل خراجها على المسلمين.
(5) أي أو غير الإجارة، كدفعها لمن يعمرها ويقوم بخراجها.
(6) بسبب عجزه عن عمارتها، ويجوز شراء أرض الخراج استنقاذا، وذلك أن تنتقل إليها بما عليها من خراج، لامتناع الشراء الحقيقي، ويكره شراؤها للمسلم، لما في دفع الخراج من الذل، وإن رأى الإمام المصلحة في إسقاط الخراج عن إنسان، أو تخفيفه جاز، وسيأتي في المساقاة أن القائم في الكلف بالعدل كالمجاهد في سبيل الله.
(7) كالملك ينتقل من مورث إلى وارث، إلا أنه ليس مثله من كل وجه.(7/272)
فإن آثر بها أحدًا صار الثاني أحق بها، كالمستأجرة(1) ولا خراج على مزارع مكة والحرم(2) (وما أخذ) بحق بغير قتال(3) (من مال مشرك) أي كافر(4) (كجزية وخراج، وعشر) تجارة من حربي(5) أو نصفه من ذمي اتجر إلينا(6).
__________
(1) أي فإن آثر بالأرض الخراجية من كانت بيده أحدًا، صار المؤثر أحق بها، كالأرض المستأجر، إذا آثر بها المستأجر أحدًا، بإجارة ونحوها، كان الثاني أحق بها، لقيامه مقام الأول.
(2) وإن كانت فتحت عنوة، كما هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، ويحرم، بيعها، وإجارتها، وفاقًا لهما، كبقاع المناسك واختار الشيخ جواز البيع فقط، وتابعه ابن القيم، لأنه إنما يستحق التقدم على غيره بهذه المنفعة، واختص بها لسبقه وحاجته فهي كالرحاب، والطرق، من سبق إليها، فهو أحق بها، وإنما جاز البيع لوروده على المحل الذي كان البائع أحق به من غيره.
(3) أي بحق الكفر لا من ذمي غصبًا ونحوه، أو ببيع ونحوه، و «بلا قتال» أخرج الغنيمة.
(4) والفرق بين المشرك والكافر، أن المشرك هو المتخذ مع الله إلهًا آخر، والكافر هو الجاحد.
(5) وكخراج وزكاة تغلبي، ولا يؤخذ في السنة إلا مرة واحدة.
(6) أي نصف عشر تجارة من ذمي اتجر إلينا ففيء.(7/273)
(وما تركوه فزعًا) منا(1) أو تخلف عن ميت لا وارث له(2) (وخمس خمس الغنيمة(3) فـ ) هو (فيء) سمي بذلك لأنه رجع من المشركين إلى المسلمين(4) وأصل الفيء الرجوع(5)
__________
(1) وهربوا أو بذلوه فزعًا منا في الهدنة وغيرها، وهذا إذا لم نقصدهم بقتال، وإلا كان غنيمة.
(2) مسلمًا كان أو كافرًا، يستخرج جميع ماله، فيصرف في مصالح المسلمين، قال الشيخ وغيره: اتفق المسلمون على أنه من مات ولا وارث له معلوم، فماله يصرف في مصالح المسلمين.
(3) سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فإنه يصرف في مصالح المسلمين، قال الشيخ: يقسمه الإمام بنفسه في طاعة الله ورسوله، كما يقسم الفيء وهذا قول أكثر السلف، وهو قول عمر بن عبد العزيز، ومذهب أهل المدينة والرواية الأخرى عن أحمد، وهو أصح الأقوال، وعليه يدل الكتاب والسنة، اهـ وكذا ما يهدى لأمير الجيش، وبعض الغانمين، وغير ذلك مما سيأتي بيانه وغيره.
(4) لأن المشركين لما أشركوا مع الله غيره، لم يبقوا مستحقين لتلك الأموال، التي إنما جعلها الله للاستعانة بها على عبادته، فأرجعها الله لعباده المسلمين، ليستعينوا بها على عبادته وحده.
(5) قاله الشيخ وغيره، قال: والله خلق الخلق لعبادته، وأعطاهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فالكفار لما كفروا بالله، وعبدوا معه غيره، لم يبقوا
مستحقين للأموال، فأباح الله لعباده قتلهم، وأخذ أموالهم فصارت فيئا أعاده الله على عباده المؤمنين، لأنهم هم المستحقون له، وكل مال أخذ من الكفار
قد يسمى فيئًا، حتى الغنيمة، لقوله في حنين «ما يحل لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود عليكم» لكن لما قال الله { مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ } الآيات، صار اسم الفيء عند الإطلاق، لما أخذ من الكفار بغير قتال.
وجمهور العلماء على أن الفيء لا يخمس، كقول مالك وأبي حنيفة، وأحمد، وهو قول السلف قاطبة، وهو الصواب، فإن السنة الثابتة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، تقتضي أنهم لم يخمسوا فيئًا قط، ومنشأ الخلاف، أنه لما كان لفظ آية الخمس، وآية الفيء واحدًا، اختلف فهم الناس للقرآن، وصوب: أن مال الخمس والفيء سواء.(7/274)
.
(يصرف في مصالح المسلمين)(1)
__________
(1) وقاله الشيخ وغيره، قال: وسائر الأموال السلطانية لجميع المصالح اتفاقًا، وقال: وما اجتمع من بيت المال، ولم يرد إلى أصحابه، فصرفه في مصالح أصحابه والمسلمين، أولى من صرفه فيما لا ينفع أصحابه، أو فيما يضر قال: ومثله المظالم المجهول أربابها، والواجب على من حصلت بيد أموال، ردها إلى مستحقها، فإذا تعذر ذلك، فالمجهول كالمعدوم، وقد دل على ذلك قوله في اللقطة «فإن وجدت صاحبها فارددها إليه».
وذكر أن من مات لا وارث له، ففي المصالح، ثم قال: فإن ما لم يعلم بحال، أو لا يقدر عليه بحال، هو في حقنا كالمعدوم، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه، وهذا النوع ونحوه، إنما حرم لتعلق حق الغير به، فإذا كان الغير معدومًا، أو مجهولاً بالكلية، أو معجوزًا عنه بالكلية سقط حق تعلقه به مطلقا،
والإعدام ظاهر، والإعجاز مثل الأموال التي قبضها الملوك، كالمكوس وغيرها من أصحابها، فهذان قياسان قطعيان من السنة، والدليل الثاني، القياس،
وهو إما أن تحبس إلى أن تتلف، وإتلافها حرام، وحبسها أشد فتعين إنفاقها.
وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر، والثواب الذي يتقرب به إلى الله، فتصرف في سبيل الله.
قال: والغنيمة والخراج لمصالح المملكة، فيفتقر إلى اجتهاد الإمام، لعدم تعيين مصرفه، ولأن به يجتمع الجند على باب السلطان، فينفذ أحكام الشرع، ويحمي البيضة ، ويمنع القوي من ظلم الضعيف، ويوصل كل ذي حق حقه، فلو فرقه غيره تفرقوا عنه، وزالت حشمته وهيبته وطمع فيه، فجر ذلك إلى الفساد، قال: وبيت المال ملك للمسلمين، يضمنه متلفه، ويحرم الأخذ منه إلا بإذن الإمام، ولا يجوز الصدقة به، ويسلمه إلى الإمام.
قال: ولا تتم رعاية الخلق إلا بالحق الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك، ولذلك من لم يقم بها سلب الأمر ونقل إلى غيره، وذكر آيات في الإنفاق والشجاعة، ثم قال: فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء، والقتال الذي هو الشجاعة،، وأن هذا مما اتفق عليه أهل الأرض.
وذكر أنه افترق الناس أربع فرق، فريق صاروا نهابين، وهابين، وفريق عندهم خوف ودين، يمنعهم عما يعتقدونه قبيحًا، لكن لا يعتقدون أن السياسة لا تتم بما يفعله أولئك من الحرام، فينهون أحيانا عن ترك واجب يكون النهي عنه من الصد عن سبيل الله، فيقاتلون المسلمين كما فعلت الخوارج، والفريق الثالث الأمة الوسط، دين محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وهو إنفاق المال في المنافع للناس، فإن كانوا رؤساء فبحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال، وإقامة الدنيا والدين ولا يأخذون ما لا يستحقونه، فيجمعون بين التقوى والإحسان، ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا، والفريق الرابع يأخذ ولا يعطي غيره، فلا يصلح به دين ولا دنيا.(7/275)
.
........................................................
ولا يختص بالمقاتلة ، ويبدأ بالأهم فالأهم(1)
__________
(1) قاله الشيخ وغيره، وقال: يبدأ بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين، المقاتلة الذين هم للنصرة والجهاد، وهم أولى الناس بالفيء لأنه لا يحصل إلا بهم، حتى قيل: إن مال الفييء مختص بهم ، ولا يجب عطاء إلا لبالغ، عاقل، حر، صحيح يطيق القتال، ومن مات بعد حلوله، دفع لورثته حقه، وصغار أولاده كفايتهم، فإذا بلغ ذكرهم أهلا فرض له إن طلب، وإلا ترك ، قال عمرك ما أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب الله، الرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وغناؤه، والرجل وحاجته.
قال الشيخ: «بلاؤه» هو الذي يجتهد في قتال الأعداء، «وغناؤه» هو الذي يغني عن المسلمين في مصالحهم، كولاة أمورهم، ومعلميهم، وأمثال هؤلاء، والرجل وسابقته، وهو من كان من السابقين الأولين، فإنه كان يفضلهم في العطاء على غيرهم، والرجل وفاقته، فإنه كان يقدم الفقراء على الأغنياء، وذكر نحوه ثم قال: وإذا عرفت أن العطاء بحسب منفعة الرجل، وبحسب حاجته في حال المصالح، وفي الصدقات أيضا، علمت أنه يبدأ بالأهم فالأهم.
قال: فإنه مع وجود المحتاجين، كيف يحرم بعضهم، ويعطي لغني لا حاجة له، ولا منفعة به، لا سيَّما إذا ضاقت أموال بيت المال عن إعطاء كل المسلمين، غنيهم وفقيرهم فكيف يعطى الغني الذي ليس فيه نفع عام،ويحرم الفقير المحتاج، بل الفقير النافع أولى.
قال: ولا يجوز لولي الأمر أن يعطي أحدًا ما لا يستحقه، لهوى نفسه، من قرابة، أو مودة أو نحو ذلك، وليس لولاة الأمور أن يقسموها بحسب أهوائهم، كما يقسم المالك ملكه، فإنما هم أمناء، ونواب، ووكلاء، ونص العلماء أنه يجب أن يقدم في مال الفيء والمصالح أهل المنفعة العامة، وإذا كان العطاء لمنفعة
المسلمين لم ينظر إلى الآخذ، هل هو صالح النية أو فاسدها؟ وإنما العطاء بحسب مصلحة دين الله.
قال: فأقوام من ذوي الحاجات، والدين، والعلم، لا يعطى أحدهم كفايته، ويتمزق جوعًا، وهو لا يسأل، ومن يعرفه فليس عنده ما يعطيه، وأقوام يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، وأقوام لهم رواتب فوق حاجاتهم، وقوم لهم رواتب مع غناهم، وعدم حاجتهم، ولا يستريب مسلم أن السعي في تمييز الحق من غيره، والعدل بين الناس بحسب الإمكان، من أفضل أعمال ولاة الأمور، بل ومن أوجبها عليهم.(7/276)
.
من سد بثق(1) وتعزيل نهر(2) وعمل قنطرة(3) ورزق نحو قضاة(4) ويقسم فاضل بين أحرار المسلمين، غنيهم وفقيرهم(5).
..........................................................
فصل(6)
__________
(1) وهو الخرق في أحد حافتي النهر، وقدم في الإقناع، من سد ثغر، وكفاية أهله، وحاجة من يدفع عن المسلمين.
(2) أي تنحية ترابه، وإفرازه عنه إلى جانبيه.
(3) أي جسر وهو آزج يبنى بالآجر ونحوه، أو بالحجارة وغيرها، على الماء يعبر عليه.
(4) كمفتين ، وفقهاء، ومؤذنين، ومن يحتاج إليه المسلمون، وكل ما يعود نفعه للمسلمين.
(5) أي يقسم فاضل بيت المال عمن ذكر بين أحرار المسلمين، دون رقيقهم، قال عمر: ما أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب إلا العبيد وقرأ { مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ } حتى بلغ { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } فقال: هذه استوعبت
المسلمين عامة، غنيهم وفقيرهم، وقال: والله لئن بقيت لهم لأوتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال، وهو يرعى مكانه، وقال مالك وأحمد: لاحظ للرافضة فيه، واختاره الشيخ، وقال: ليس لولاة الأمور أن يستأثروا منه فوق الحاجة، كالإقطاع يصرفونه فيما لا حاجة إليه، وقال: لو قدر أنه لم يحصل للفقراء من الزكاة ما يكفيهم ، وأموال بيت المال مستغرقة بالمصالح العامة، كان إعطاء العاجز منهم عن الكسب فرض كفاية، فعلى المسلمين جميعًا أن يطعموا الجائع ، ويكسوا العاري ولا يدعوه بينهم محتاجًا.
(6) أي في الأمان ضد الخوف، ذكره الشارح، والأصل في الأمان قوله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } قال الأوزاعي: هي إلى يوم القيامة، فمن طلب أمان ليسمع كلام الله، ويعرف شرائع الإسلام، لزم إجابته، ثم يرد إلى مأمنه، وفي الصحيحين: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم».(7/277)
ويصح الأمان من مسلم، عاقل، مختار(1)، غير سكران(2) ولو قنا أو أنثى(3).
__________
(1) أي يشترط أن يكون الأمان من مسلم، فلا يصح من كافر ولو ذميا، للخبر، عاقل، لا طفل ولا مجنون، فإن كلامه غير مفيد، مختار، فلا يصح، من مكره عليه، ويصح من أسير غير مكره، للعموم، ويصح من هرم، وسفيه، لعموم ما سبق، ولا ينقض الإمام أمان المسلم، إلا أن يخاف خيانة من أعطيه.
(2) لأنه لا يعرف المصلحة.
(3) أي ولو كان الأمان من قن، فإذا أمن العبد المسلم شخصًا أو مدينة يمضي أمانه، وهو مذهب مالك والشافعي، سواء أذن له سيده في القتال، أو لم يأذن قال عمر: العبد المسلم رجل من المسلمين، يجوز أمانه، رواه سعيد، وللخبر المتقدم، ولأنه مسلم عاقل، أشبه الحر، وكذا لو كان الأمان من أنثى، لما في الصحيحين «قد أجرنا من أجرت، يا أم هانئ» ولقصة زينب، وذكر الإجماع على صحة أمانها غير واحد.(7/278)
بلا ضرر(1) في عشر سنين فأقل(2) منجزًا ومعلقًا(3)
__________
(1) أي علينا من تأمين الكفار.
(2) أي لا أزيد، قال الوزير: اتفقوا على أن الإمام يجوز له مهادنة المشركين عشر سنين فما دونها، وقال الشيخ وابن القيم: تجوز ما شئنا لقوله: «نقركم ما أقركم الله» واختار الشيخ صحته، وقال ابن القيم: في غزوة الحديبية جواز صلح أهل الحرب على وضع القتال عشر سنين، ويجوز فوقها، للحاجة، والمصلحة الراجحة، كما إذا كان بالمسلمين ضعف، وعدوهم أقوى منهم، وفي العقد لما زاد عن العشر مصلحة للإسلام ، وأخذ ابن القيم من قوله: «نقركم ما شئنا» جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام، إذا استغني عنهم، كما أجلاهم عمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قول قوي، يجوز للمصلحة، وفي قصة هوازن دليل على أن المتعاقدين إذا جعلا بينهما أجلا غير محدود جاز.
(3) أي يصح الأمان منجزًا، بغير تعليق، كقوله: أنت آمن، ويصح معلقًا بشرط، نحو إن فعلت كذا أو: من فعل كذا فهو آمن، لقوله صلى الله عليه وسلم «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ويصح بكل ما يدل عليه من قول، كـ لا «بأس عليك» أو «أجرتك» أو «لا تخف» ونحو ذلك، وبرسالة، وكتاب وبإشارة مفهومة، قال عمر: «لو أن أحدكم أشار بإصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل بأمانه فقتله، لقتلت به» رواه سعيد، وقال أحمد: إذا أشير إليه بشيء غير الأمان، فظنه أمانًا، فهو أمان، وكل شيء يرى العدو أنه أمان فهو أمان، ويصح لرسول ومستأمن، لقوله: «لو كنت قاتلاً أحدًا، لقتلتكما» فمضت السنة أن لا تقتل الرسل
ومن جاء بلا أمان، وادعى أنه رسول، أو تاجر وصدقته عادة قبل،
وإلا فكأسير، وإن أسر مسلم فأطلق بشرط أن يقيم عندهم، لزمه الوفاء إلا
المرأة، وبلا شرط، وكونه رقيقا، فإن أمنوه فله الهرب، وإلا فيقتل ويسرق، قال الشيخ: لو سرق أولادهم، وخرج بهم إلى بلاد المسلمين ملكهم، ويجوز عقد الأمان للرسول، والمستأمن، ويقيمون مدة الهدنة بلا جزية، وعند أبي الخطاب: لا يجوز سنة فصاعدا إلا بجزية، واختاره الشيخ.(7/279)
.
من إمام لجميع المشركين(1) ومن أمير لأهل بلدة جعل بإزائهم(2) ومن كل أحد لقافلة وحصن صغيرين عرفا(3) ويحرم به قتل، ورق ، وأسر(4).
__________
(1) ولبعضهم، ولأهل جهة، ومحلة وعدد، وفرد، رجل، أو امرأة لأن ولايته عامة، ويصح من إمام وأمير لأسير كافر، بعد الاستيلاء عليه، وليس ذلك لآحاد الرعية إلا أن يجيزه الإمام، وعنه: يصح لآحادهم قطع به في المنتهى لقصة زينب.
(2) لعموم ولايته وقتالهم، وفي حق غيرهم هو كآحاد الرعية.
(3) أي يصح أمان كل واحد من آحاد الرعية لقافلة صغيرة، وحصن صغير عرفًا، وقدره بعضهم مائة فأقل، لأن عمر أجاز أمان العبد لأهل الحصن، ولا يصح لأهل بلدة كبيرة كرستاق، ولا جمع كبير، لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد، والإفتيات على الإمام.
(4) وكذا أخذ مال، أو التعرض لهم، لعصمتهم بالأمان، وإذا أودع المستأمن ماله مسلمًا، أو أقرضه إياه، ثم عاد إلى دار الحرب، بقي الأمان في ماله، ويبعث به إليه إن طلبه، وإن مات بعث به إلى ورثته، ومن دخل منا دارهم بأمان، حرمت عليه خيانتهم، ومعاملتهم بالربا، فإن خانهم، أو سرق منهم أو اقترض شيئا، وجب رده إلى أربابه.(7/280)
ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله(1) ويعرف شرائع الإسلام، لزم إجابته(2) ثم يرد إلى مأمنه(3) والهدنة عقد الإمام أو نائبه(4) على ترك القتال مدة معلومة(5) ولو طالت، بقدر الحاجة(6) وهي لازمة(7).
__________
(1) لزمت إجابته لقوله تعالى: { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ } الآية، وتقدم قول الأوزاعي هي إلى يوم القيامة.
(2) ليعلم أمر الدين، وما له من الثواب إن آمن، وما عليه من العقاب إن أصر على الكفر.
(3) لقوله تعالى: { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } أي إلى الموضع الذي يأمن فيه، وهو دار قومه.
(4) وهي في اللغة الدعة والسكون، وتسمى مهادنة، وموادعة ومعاهدة، ومسالمة، ولا يعقدها إلا الإمام الذي بيده الحل والعقد، أو نائبه، لأنها تتعلق بنظرهما واجتهادهما، وليس غيرهما محلا لذلك، لعدم ولايته، وصلاحيته لترك القتال، والأصل فيها قوله تعالى: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * } وقوله: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } .
(5) والجمهور: ومجهولة. لفعله صلى الله عليه وسلم ذلك في صلح الحديبية كما في الصحيحين وغيرهما، من غير ذكر مدة.
(6) فإن زادت على عشر عندهم بطل الزائد فقط.
(7) قال الشيخ: ويجوز عقدها مطلقا وموقتا، والموقت لازم من الطرفين يجب الوفاء به، ما لم ينقضه العدو، ولا ينقض بمجرد الخيانة، في أظهر قولي العلماء، وأما المطلق فهو عقد جائز، يعمل الإمام فيه بالمصلحة ومتى مات الإمام، أو عزل لزم من بعده الوفاء بعقده.(7/281)
يجوز عقدها لمصلحة، حيث جاز تأخير الجهاد، لنحو ضعف بالمسلمين(1) ولو بمال منا ضرورة(2) ويجوز شرط رد رجل جاء منهم مسلما للحاجة(3) وأمره سرا بقتالهم، والفرار منهم(4) ولو هرب قن فأسلم لم يرد، وهو حر(5) ويؤخذون بجنايتهم على مسلم من مال، وقود، وحد(6).
__________
(1) أي عن القتال، أو لمشقة الغزو، أو مانع بالطريق، ونحو ذلك، أو في أداء الجزية، فإن لم تكن حاجة، كظهور المسلمين وقوتهم، لم يصح ذلك.
(2) لدعاء المصلحة لها، ولا تصح إلا حيث جاز تأخير الجهاد لمصلحة.
(3) مثل أن يخاف على المسلمين الهلاك، أو الأسر، وكذا بمال منهم، وبغير عوض، بحسب المصلحة، لفعله صلى الله عليه وسلم.
(4) لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في صلح الحديبية، ولا يمنعهم الإمام أخذه، ولا يجبره على العود معهم، لقصة أبي بصير، ولأنه رجوع إلى الباطل، فكان له الأمر بعدمه، وله لمن أسلم معه أن يتحيزوا ناحية، ويقتلوا من قدروا عليه من الكفار، ويأخذوا أموالهم، ولا يدخلون في الصلح، وإذا عقدها من غير شرط، لم يجز رد من جاء مسلما أو بأمان.
(5) لأنه لم يدخل في الصلح، ولأنه ملك نفسه بإسلامه لقوله تعالى: { وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً * } وكلمة «هو حر» جملة مستأنفة سيقت لبيان حكم لا حالية.
(6) أي حد قذف مسلم، وحد سرقة، لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم، وأمانهم من المسلمين، في النفس، والمال، والعرض، ولا يحدون لحق الله، لأنهم لم يلتزموا حكمنا.(7/282)
ويجوز قتل رهائنهم إن قتلوا رهائننا(1) وإن خيف نقض عهدهم أعلمهم أنه لم يبق بينه وبينهم عهد قبل الإغارة عليهم(2).
باب عقد الذمة وأحكامها(3)
__________
(1) على الأصح، جزم به في الإقناع، والمنتهى، وغيرهما.
(2) والقتال، فيقول: قد نبذت عهدكم، وصرتم حربا، ونحو ذلك، لقوله تعالى: { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي أعلمهم بنقض العهد، حتى تصير أنت وهم سواء في العلم، قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا عوهد المشركون عهدا وفي لهم به، إلا أبا حنيفة، فشرط بقاء المصلحة، واتفقوا على أنه لا يجوز نقضه إلا بعد نبذه في مدة العهد، ولا يصح نقضه إلا من إمام، ومتى حارب أهل العهد من هم في ذمة الإمام أو جواره وعهده، صاروا حربا له بذلك، وله أن يبيتهم في ديارهم، ولا يحتاج أن يعلمهم على سواء، كما في قصة الفتح، وإنما الإعلام إذا خاف منهم خيانة، فإذا تحققها صاروا نابذين لعهده، وأما الذمة فليس له نبذها، لأنها مؤبدة.
(3) وما يتعلق بذلك، وصيغة عقدها: أقررتكم بالجزية، والاستسلام، أو يبذلون ذلك فيقول لهم: أقررتكم على ذلك، أو نحوهما.(7/283)
الذمة لغة العهد، والضمان، والأمان(1) ومعنى عقد الذمة: إقرار بعض الكفار على كفرهم، بشرط بذل الجزية(2) والتزام أحكام الملة(3) والأصل فيه قوله تعالى: { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (4).
__________
(1) فعله من: أذم يذم، إذا جعل له عهدا، قال صلى الله عليه وسلم «يسعى بذمتهم أدناهم» والفرق بين المعاهد، والمستأمن، والذمي، أن المعاهد هو من أخذ عليه العهد من الكفار، والمستأمن هو من دخل دارنا منهم بأمان، والذمي من استوطن دار الإسلام بتسليم الجزية.
(2) بدلا عن قتلهم، وإقامتهم بديارنا، كما يأتي، لا إقرارا منا لهم على دينهم الباطل، وقال الشيخ: وجبت عقوبة وعوضا عن حقن الدم، عند أكثر العلماء، وليس للإمام نقض عهدهم، وتجديد الجزية عليهم، لأن عقد الذمة مؤبد، وقد عقده عمر معهم.
(3) من إقامة الحد عليهم فيما يعتقدون تحريمه كالزنا، لا السرقة، وأخذهم بالقصاص من قتل نفس، أو أخذ مال أو غيره.
(4) أي يؤدوا الخراج المضروب عليهم إن لم يسلموا، على وجه الصغار كل عام، أو جزاء على أماننا لهم، لأخذها منهم رفقا، واختاره الشيخ، ويأتي ما في
الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وصالح أكيدر دومة على الجزية، رواه أبو داود وغيره، وبعث معاذا إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دنيارا، رواه الخمسة.(7/284)
(لا يعقد) أي لا يصح عقد الذمة (لغير المجوس)(1) لأنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع، فصارت لهم بذلك شبهة(2) ولأنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف(3) (وأهل الكتابين) اليهود والنصارى، على اختلاف طوائفهم(4).
__________
(1) هذا المذهب، وقول بعض العلماء، وكانوا عربا، فاعتنقوا المجوسية لمجاورتهم فارس.
(2) قال الشيخ: إنما وقعت الشبهة فيهم لما اعتقد بعض أهل العلم أنها لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، وقد أخذت منهم بالنص والإجماع، قال: وإذا كان أهل الكتاب لا تجوز مهادنتهم إلا مع الجزية والصغار، فغيرهم أولى بذلك.
(3) ورواه الترمذي وغيره عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وعن المغيرة أنه قال لعامل كسرى، أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، ورواه البخاري، وقال ابن رشد: اتفق عامة الفقهاء على أخذها من المجوس، لقوله صلى الله عليه وسلم «سنوا بهم سنة أهل الكتاب».
(4) كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن اليهود إحدى وسبعون فرقة والنصارى
اثنتان وسبعون فرقة، واليهود: قيل لأنهم هادوا عن عبادة العجل، أي تابوا أو نسبة إلى يهوذا، بالمعجمة، ثم عرب بالمهملة وقيل غير ذلك، والنصارى نسبة إلى قرية بالشام يقال لها ناصرة.(7/285)
(ومن تبعهم) فتدين بأحد الدينين(1) كالسامرة والفرنج والصابئين(2) لعموم قوله تعالى: { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } (3)
__________
(1) أي دين اليهودية أو النصرانية.
(2) التابعين لليهودية أو النصرانية، فالسامرة: قبيلة من قبائل بني إسرائيل وهم طائفة من اليهود، إليهم نسب السامري، ويقال لهم: «السمرة» والفرنج: هم الروم، ويقال لهم «بنو الأصفر» والأشبه أنها مولدة، ولعل ذلك نسبة إلى فرنجة، بضم أوله وثانيه، وسكون ثالثه، جزيرة من جزائر البحر، والنسبة إليها فرنجي ثم حذفت الياء، والصائبين جمع صابئ، وهم الخارجون من دين إلى غيره، وأصل الصبو الخروج، فيعقد لهؤلاء، وقاله شيخ الإسلام وغيره، وتنوخ وبهرا، وبنو تغلب، نصارى، لمجاورتهم للروم، وقبائل من اليمن تهودوا لمجاورتهم ليهود اليمن، قال ابن القيم: فأجرى الجزية ولم يعتبر آباءهم ولا متى دخلو في دين أهل الكتاب.
(3) فشملت الآية من تدين باليهودية أو النصرانية، فمن اختار اليهودية أو النصرانية من هؤلاء أو غيرهم، أقر وعقدت له، قال الوزير وابن رشد وغيرهما: اتفقوا على أن الجزية تضرب على أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وكذلك اتفقوا على ضربها على المجوس، واختلفوا فيمن لا كتاب له ولا شبهة ، فقال مالك: تؤخذ من كل كافر، عربيا كان أو عجميا ، إلا من مشركي قريش، وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا من العجم، وهو رواية عن أحمد، واختار أبو العباس أخذ الجزية من جميع الكفار، وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد، بل كانوا قد أسلموا.
وقال: ومذهب الأكثرين: أنه يجوز مهادنة جميع الكفار، بالجزية والصغار، قال: وإذا عرفت حقيقة السنة، تبين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين عربي وغيره، وأن أخذ الجزية، كان أمرا ظاهرا مشهورا، وقدوم أبي عبيدة بمال البحرين معروف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخص العرب بحكم في الدين، لا بمنع الجزية ولا منع الاسترقاق، ولا تقديمهم في الإمامة، ولا بجعل غيرهم ليس كفوا لهم في النكاح، ولا بحل ما استطابوه دون ما استطابه غيرهم، بل إنما علق الأحكام، بالأسماء المذكورة في القرآن، كالمؤمن والكافر، والبر والفاجر.(7/286)
.
(ولا يعقدها) أي لا يصح عقد الذمة (إلا) من (إمام أو نائبه)(1) لأنه عقد مؤبد فلا يفتات على الإمام فيه(2) ويجب إذا اجتمعت شروطه(3) (ولا جزية) وهي مال يؤخذ منهم، على وجه الصغار، كل عام(4).
__________
(1) ويحرم عقدها من غيرهما ولا يصح.
(2) ولأن ذلك يتعلق بنظر الإمام، وما يراه من المصلحة.
(3) وهي بذل الجزية والتزام أحكامنا، قالوا: وكون المعقود له كتابيا، وتقدم اختيار أخذها، من جميع الكفار، وأما نصارى العرب، ويهودهم ومجوسهم، من بني تغلب وغيرهم، فلا جزية عليهم، ولو بذلوها، ويؤخذ عوضها زكاتان من أموالهم مما فيه الزكاة لأن عمر أضعفها عليهم، وقاله الشيخ وغيره، وإذا عقدها كتب أسماءهم وأسماء آبائهم، وخلاهم ودينهم، وجعل لكل طائفة عريفا يكشف حال من تغير حاله.
(4) أي كل سنة هلالية، وتجب بآخره، تتكرر بتكرر السنين، فإن انقضت سنون استوفيت كلها، وإن مات في أثناء السنة فقال مالك، والشافعي وأحمد:
تؤخذ جزية ما مضى، وإن لم يؤدها حتى أسلم، سقطت، والصغار بالفتح: الذل والهوان.(7/287)
بدلا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا(1) (على صبي، ولا امرأة) ومجنون(2) وزمن وأعمى، وشيخ فان(3) وخنثى مشكل(4) (ولا عبد، ولا فقير يعجز عنها)(5).
__________
(1) فإن لم يبذلوها لم يكف عنهم.
(2) لأنهم ليسوا من أهلها، لما رواه الخمسة وغيرهم، وصححه ابن حبان والحاكم، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينار أي بالغ، ومفهومه: أنها لا تؤخذ من غير بالغ.
(3) ولا أهل الصوامع، قال الشيخ: إلا من يخالط الناس، ويتخذ المتاجر، فكالنصارى بالاتفاق، و«فان» بالفاء والنون، أي ضعيف، لأنهم لا يقتلون قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الجزية، لا تضرب على نساء أهل الكتاب، ولا على صبيانهم حتى يبلغوا، ولا على عبيدهم، ولا على مجنون، ولا ضرير، ولا شيخ فان، ولا أهل الصوامع، وقال الشيخ: تؤخذ من راهب بصومعة ما زاد على بلغته، ويؤخذ منهم ما لنا كالرزق للديورة، والمزارع إجماعا، قال: والرهبان الذين يخالطون الناس، ويتخذون المتاجر والمزارع، فكسائر النصارى، تؤخذ منهم الجزية باتفاق المسلمين.
(4) لأن الأصل براءته منها، لكونه لا يعلم أنه رجل.
(5) لقوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } .(7/288)
وتجب على عتيق ولو لمسلم(1) (ومن صار أهلا لها) أي للجزية(2) (أخذت منه في آخر الحول) بالحساب(3) (ومتى بذلوا الواجب عليهم) من الجزية (وجب قبوله) منهم(4) (وحرم قتالهم) وأخذ مالهم(5) ووجب دفع من قصدهم بأذى(6) ما لم يكونوا بدار حرب(7).
__________
(1) أي ولو أعتقه المسلم، لأنه حر، مكلف، موسر، من أهل القتال، فلم يقر بدارنا بلا جزية، كحر الأصل، وتجب على مبعض بحسابه.
(2) كتابيا كان أو مجوسيا، واختار الشيخ وغيره، أخذها من كل كافر، كما تقدم.
(3) أي بمقدار ما بقي من الحول، إن نصفا فنصف، أو ربعا فربع، ونحو ذلك، ولا يترك حتى يتم له حول، لئلا يحتاج إلى إفراده بحول، ولا يصح شرط تعجيلها، ولا يقتضيه الإطلاق.
(4) لقوله تعالى: { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } فجعل إعطاء الجزية غاية لكف القتال عنهم ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة «فاسألهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم».
(5) أي بعد إعطاء الجزية، لأن الله تعالى جعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم بعد إجابتهم، فحرم قتالهم، وأخذ مالهم، بعد بذلهم ما وجب عليهم.
(6) ولو انفردوا ببلد، ولو شرطنا أن لا نذب عنهم لم يصح.
(7) أي فلا يجب الدفع عنهم، لبقائهم بدار الحرب، فحكمهم حكمهم.(7/289)
ومن أسلم بعد الحول سقطت عنه(1) (ويمتهنون عند أخذها) أي أخذ الجزية(2) (ويطال وقوفهم(3) وتجر أيديهم) وجوبا لقوله تعالى: { وَهُمْ صَاغِرُونَ } (4) ولا يقبل إرسالها(5).
فصل في أحكام أهل الذمة(6)
__________
(1) أي سقطت الجزية عن الذمي، ودخل في قوله تعالى: { إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وقوله صلى الله عليه وسلم «من أسلم على شيء فهو له» وإن أسلم في أثناء الحول فبطريق الأولى.
(2) يعني من أهل الذمة.
(3) حتى يألموا ويتعبوا، وتؤخذ منهم وهم قيام، والآخذ جالس.
(4) أي أذلاء مقهورون، ولا يعذبون في أخذها، ولا يشطط عليهم، قال عمر: بلا سوط ولا نول.
(5) أي مع رسول، لفوات الصغار، ويمتهنون عند كل جزية، ويصح أن يشرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، ودوابهم، ويصح أن يكتفي بها عن الجزية، بشرط أن تقابل ما عليهم، ويعتبر بيان قدرها، وأيامها، وعدد من يضاف، ولا تجب الضيافة بلا شرط.
(6) أي فيما يجب عليهم ولهم، بعقد الذمة، مما يقتضيه عقدها لهم.(7/290)
(ويلزم الإمام أخذهم) أي أخذ أهل الذمة (بحكم الإسلام في) ضمان (النفس(1) والمال والعرض(2) وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه) كالزنا(3) (دون ما يعتقدون حله) كالخمر(4) لأن عقد الذمة لا يصح إلا بالتزام أحكام الإسلام كما تقدم(5).
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بيهوديين قد فجرا، بعد إحصانهما، فرجمهما(6) (ويلزمهم التميز عن المسلمين)(7) بالقبور، بأن لا يدفنوا في مقابرنا(8) والحلي بحذف مقدم
__________
(1) فمن قتل أو قطع طرفا، أخذ بموجب ذلك كالمسلم، لما في الصحيحين، أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها، فقتله صلى الله عليه وسلم.
(2) فلو أتلف مالا لغيره ضمنه، أو قذف إنسانا، أو سبه ونحوه، أقيم عليه ما يقام على المسلم.
(3) والسرقة كما تقدم على المسلم إذا زنا أو سرق، ونحو ذلك.
(4) وأكل لحم خنزير، ونكاح محرم، ولأنهم يقرون على ذلك، وهو أعظم جرما، إلا أنهم يمنعون من إظهار ذلك بين المسلمين، لتأديهم به، وكذا دون ما يرون صحته من العقود، ولو رضوا بحكمنا، ما لم يرتفعوا إلينا، قال الشيخ: وإذا تزوج اليهودي بنت أخيه، أو بنت أخته، كان ولده منها يلحقه، ويرثه باتفاق المسلمين، وإن كان هذا النكاح باطلا باتفاق المسلمين لاعتقادهم حله.
(5) أي قريبا فيشترطه الإمام عليهم لاشتراط أهل الجزية ذلك على أنفسهم
حيث قالوا: وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين، في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا فرق شعر، إلخ، وأمضاه عمر رضي الله عنه.
(6) وهو في الصحيحين، ولمسلم من حديث جابر: أنه صلى الله عليه وسلم رجم رجلا من اليهود، وامرأة يعني من جهينة وقال تعالى: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ } .
(7) فقد شرط عليهم عمر رضي الله عنه، والخلفاء بعده، وملوك المسلمين أن لا يتشبهوا بالمسلمين.
(8) بل تميزا ظاهرا كالحياة وأولى، بل ينبغي مباعدة مقابرهم عن مقابر المسلمين، وكلما بعدت كان أصلح.(7/291)
رءوسهم(1) لا كعادة الأشراف(2) ونحو شد زنار(3) ولدخول حمامنا جلجل(4).
أو نحو خاتم رصاص برقابهم(5) (ولهم ركوب غير خيل) كالحمير (بغير ساج) فيركبون (بإكاف) وهو البرذعة(6) لما روى الخلال أن عمر أمر بجز نواصي أهل الذمة(7) وأن يشدوا المناطق(8) وأن يركبوا الأكف بالعرض(9) (ولا يجوز) تصديرهم في المجالس(10) ولا القيام لهم(11) ولا بداءتهم بالسلام(12).
__________
(1) أي حلق مقدمها، بأن يجزوا نواصيهم.
(2) فلا يتخذوا شوابين، ولا يفرقوا شعورهم، بل تكون جمة.
(3) فوق ثياب نصراني وتحت ثياب نصرانية، وكخرج بقلانسهم، وعمائمهم، وثوب أدكن، وبين لون خف، وعمامة صفراء، وزرقاء وبما يحصل به التميز.
(4) بالضم: الجرس الصغير، الذي يجعل في الأعناق، وغيرها، والجلجلة صوته.
(5) ونحو ذلك كحديد، وطوق من ذلك، لا من ذهب ونحوه، ليتميزوا عنا في الحمام، ولا يجوز لهم جعل مكانه صليبا، لمنعهم من إظهاره، ويلزمهم التميز عنا بكناهم، وبألقابهم، حكاه الشيخ وغيره، وقال: فلا يتكنون بكناية المسلمين، كأبي عبد الله، ولا بألقابهم، كزين العابدين.
(6) كساء يلقى على ظهر الدابة، وقاية تحت الراكب.
(7) فدل على وجوب تميزهم بنحو ذلك.
(8) وهي ما يشد به الوسط، وتسمى الحياصة.
(9) بأن تكون رجلاه إلى جانب، وظهره إلى آخر، قال الشيخ: ويمنعون من حمل السلاح والعمل به، وتعلم المقاتلة، بالدقاق ونحوه، والرمي وغيره.
(10) لأن فيه تعظيما لهم، وقد حكم عليهم بالصغار.
(11) لأنه في معنى التصدير، ولا لمبتدع كرافضي يجب هجره، ولا يوقرون كما يوقر المسلم.
(12) إجماعا، وحكى النووي وغيره تحريمه عن عامة السلف، وأكثر العلماء، وفي الصحيحين «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» واتفق أهل العلم على أنه يرد كذلك، واختلف كلام الشيخ: هل ترد مثلها، أو «وعليكم» فقط للخبر؟ وجوز طائفة من العلماء ابتداءهم للضرورة والحاجة.(7/292)
أو بكيف أصبحت، أو أمسيت، أو حالك(1) ولا تهنئتهم ، وتعزيتهم، وعيادتهم(2) وشهادة أعيادهم(3) لحديث أبي هريرة مرفوعا «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها» قال الترمذي حديث حسن صحيح(4)
__________
(1) أي ولا يجوز أن يقال لهم: كيف أنت وكيف حالك؟ قال أحمد: هذا عندي أكبر من السلام، وجوز الشيخ أن يقال: أهلا وسهلا، وكيف أصبحت وكيف حالك؟ ويجوز بأكرمك الله، وهداك الله، يعني للإسلام ويجوز: أطال الله بقاءك، وأكثر مالك وولدك، قاصدا بذلك كثرة جزيته، وكره الشيخ الدعاء بالبقاء ونحوه، لأنه شيء فرغ منه، وذكره النووي اتفاقا وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأنس بطول العمر، وتكره مصافحة الذمي، وتشميته والتعرض لما يوجب المودة.
(2) وهو مذهب الجمهور ، وعنه: يجوز إن رجي إسلامه، لأنه صلى الله عليه وسلم عاد يهوديا، وعرض عليه الإسلام فأسلم، رواه البخاري، وجوز الشيخ عيادتهم وتهنئتهم، وتعزيتهم، ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة، كرجاء الإسلام، وقال العلماء: يعاد الذمي، ويعرض عليه الإسلام.
(3) قال الشيخ: يحرم شهود عيد اليهود، والنصارى، وغيرهم من الكفار، وبيعه لهم فيه، ومهادتهم لعيدهم، لما في ذلك من تعظيمهم وتعظيم أعيادهم.
(4) نهى صلى الله عليه وسلم عن بداءتهم بالسلام، لما فيه من تعظيمهم وقد حكم عليهم بالصغار، وأمر باضطرارهم إلى أضيق الطريق إذلالا لهم وإهانة، وشهادة أعيادهم أولى بالتحريم، قال الشيخ: ويحرم بيعهم ما يعملونه كنيسة
أو تمثالا ونحوه، وكل ما فيه تخصيص كعيدهم، وتمييز لهم، وهو من التشبه بهم، والتشبه بهم منهي عنه إجماعا، للخبر، وتجب عقوبة فاعله وأصل دروس الدين والشرائع التشبه بالكفار، كما أن أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم.
قال: والكنائس ليست ملكا لأحد، وأهل الذمة ليس لهم منع من يعبد الله فيها، لأنا صالحناهم عليه، والعابد بينهم، وبين الغافلين أعظم أجرا، ودل أيضا على وجوب تميزهم عن المسلمين في اللباس، والشعور، والمراكب وغيرها لئلا يعاملوا معاملة المسلم، قال ابن القيم: فالشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين، في اللباس، والشعور، والمراكب، وغيرها، لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يعامل الكافر معاملة المسلم، فسدت هذه الذريعة بإلزامهم التميز عن المسلمين.(7/293)
.
(ويمنعون من إحداث كنائس وبيع)(1) ومجتمع لصلاة في دارنا(2) (و) من (بناء ما انهدم منها ولو ظلمًا)(3) لما روى كثير بن مرة قال سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تبنى الكنيسة في الإسلام ،
ولا يجدد ما خرب منها»(4)
__________
(1) بدار الإسلام، وبناء صومعة لراهب، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه لا يجوز إحداث كنائس، ولا بيعة في المدن، والأمصار، في بلاد الإسلام، والكنائس والبيع معابد اليهود والنصارى.
(2) لتأذي المسلمين بذلك.
(3) وهذا اختيار أكثر الأصحاب، والاصطخري، وغيره من أصحاب الشافعي.
(4) لأنها بعد الهدم كأنها لم تكن، كما يمنعون من زيادتها، ورم شعثها وقال ابن عباس: أيما مصر مصرته العرب، فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة رواه أحمد، واحتج به، ولأبي داود عن ابن عباس مرفوعًا: «لا يجتمع قبلتان بأرض» وفي أثر آخر «لا يجتمع بيت رحمة، وبيت عذاب» ولهذا أقرهم المسلمون في أول الفتح على ما في أيديهم من أرض العنوة، بأرض مصر، والشام، وغير ذلك، فلما كثر المسلمون، وبنيت المساجد في تلك الأرض، أخذ المسلمون تلك الكنائس، فأقطعوها، وبنوها مساجد، وغير ذلك.
وقال: اتفق المسلمون أن ما بناه المسلمون من المدائن، لم يكن لأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة، وإذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة، فبنى المسلمون مدينة عليها، فإن لهم أخذ تلك الكنيسة، ولو هدم ولي الأمر كل كنيسة بأرض العنوة كمصر، والسواد بالعراق، وبر الشام ونحو ذلك، مجتهدًا في ذلك، ومتبعًا في ذلك لمن يرى ذلك، لم يكن ظلما منه، بل تجب طاعته ومساعدته في ذلك.
قال: والمدينة والقرية التي يسكنها المسلمون، وفيها مساجدهم، لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر، لا كنائس ولا غيرها، إلا أن يكون لهم عهد، فيوفى لهم بعهدهم، فلو كان بأرض القاهرة ونحوها كنيسة قبل بنائها، لكان للمسلمين أخذها، لأن الأرض عنوة، فكيف وهذه الكنائس أحدثها لهم النصارى، قال: والكنائس العتيقة إذا كانت بأرض العنوة، فلا يستحقون إبقاءها، ويجوز هدمها مع عدم الضرر علينا، وإذا كانت في مكان قد صار فيه مسجد للمسلمين يصلى فيه، وهو أرض عنوة فإنه يجب هدم الكنيسة التي به.(7/294)
(و) يمنعون أيضًا (من تعلية بنيان على مسلم) ولو رضي(1).
لقوله عليه السلام: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»(2) وسواء لاصقه أو لا، إذا كان يعد جارًا له(3) فإن علا وجب نقضه(4) و(لا) يمنعون من (مساواته) أي البنيان (له) أي لبناء المسلم، لأن ذلك لا يقتضي العلو(5) وما ملكوه عاليًا من مسلم لا ينقض(6).
__________
(1) أي المسلم بذلك.
(2) بل يظهر، ويرفع على سائر الأديان، قال تعالى: { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } ولاطلاعهم على عوراتنا، ولأنه حق لله تعالى، ويدوم على دوام الأوقات، ورضاه يسقط حق من يأتي بعده، ولأن فيه ترفعا على المسلمين، فمنعوا منه، كالتصدير في المجالس، قال العلماء: ولو في ملك مشترك بين مسلم وذمي، حكاه الشيخ وغيره، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
(3) فيمنع من تعلية بنائه على المسلم.
(4) أي إن علا بنيان الكتابي، على بنيان المسلم، وجب نقض بنيان الكتابي .
(5) ولا إطلاعهم على عورات المسلم.
(6) وهذا والله أعلم اعتبار منهم بتعلية البناء بعد الملك، ولا فرق بين تعليته بعده أو قبله، فلو احتال مبطل بأن يعليه مسلم، ثم يشتريها الكافر فيسكنها فقال ابن القيم: هذه أدخلت في المذهب غلطًا محضًا، ولا توافق أصوله، ولا فروعه، فالصواب المقطوع به، عدم تمكينه من سكناها، فإن المفسدة لم تكن في نفس البناء، وإنما كانت في ترفع الذمي على المسلمين، ومعلوم قطعا أن هذه المفسدة في الموضعين واحدة، ولو وجدنا دار ذمي عالية ، ودار مسلم أنزل منها، وشككنا في السابقة، فقال ابن القيم: لا تقر دار الذمي عالية، لأن التعلية مفسدة، وقد شككنا في شرط الجواز، والأصل عدمه.(7/295)
ولا يعاد عاليًا لو انهدم(1) (و) يمنعون أيضا (من إظهار خمر وخنزير) فإن فعلوا أتلفناهما(2) (و) من إظهار (ناقوس(3) وجهر بكتابهم) ورفع صوت على ميت(4) ومن قراءة قرآن(5) ومن إظهار أكل، وشرب بنهار رمضان(6).
__________
(1) لأنها بعد الانهدام كأن لم تكن موجودة قبل.
(2) أي أتلفنا الخمر والخنزير إذا أظهروهما، في أسواق المسلمين وغيرها، لتأذي المسلمين بذلك وسببية فشوه فيهم، وإن لم يظهروهما لم نتعرض لهم، قال الشيخ: وإذا كثر منهم بيع الخمر لآحاد المسلمين، استحقوا العقوبة التي تردعهم وأمثالهم عن ذلك.
(3) لأن في شروطهم، وأن لا نضرب ناقوسًا، إلا ضربًا خفيفًا في جوف كنائسنا، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، فيمنعون من إظهار المنكر كنكاح محارم، وإظهار عيد، وصليب ونحو ذلك.
(4) لأنه من شعارهم، وقال الشيخ: وليس لهم إظهار شيء من شعار دينهم، في دار الإسلام، لا وقت استسقاء، ولا عند لقاء الملوك.
(5) لئلا ينالوه فلا يمسه إلا المطهرون، قال الشيخ: ويمنعون من شراء مصحف، وكتاب فقه، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ارتهان ذلك، ولا يصحان لقوله تعالى: { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ولما يؤدي إليه ذلك من امتهان كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6) قال الشيخ: فإن هذا من المنكر في دين الإسلام، ومن إظهار بيع مأكول فيه كشوي.(7/296)
وإن صولحوا في بلادهم على جزية، أو خراج، لم يمنعوا شيئا من ذلك(1) وليس لكافر دخول مسجد، ولو أذن له مسلم(2).
__________
(1) لأنهم في بلادهم أشبهوا أهل الحرب زمن الهدنة، ولأن بلدهم ليست بلد إسلام، لعدم ملك المسلمين لها، فلا يمنعون من إظهار دينهم فيه كمنازلهم.
(2) لأن أبا موسى دخل على عمر ومعه كتاب فيه حساب عمله، فقال له عمر: ادع الذي كتبه ليقرأه، قال: إنه لا يدخل المسجد، قال: ولم لا يدخله؟ قال: إنه نصراني، فانتهره عمر، ولأن عليا بصر بمجوسي وهو على المنبر فنزل وضربه، وأخرجه، وهذا يدل على اتفاقهم على أن الكفار لا يدخلون المساجد، ولأن حدث الجنابة والحيض يمنع، فالشرك أولى.
وقال مالك ، وأحمد: لا يجوز لهم دخول المساجد بحال، وقال الوزير: اتفقوا على أنه يمنع الكافر من دخول الحرم، ويمنع هو والذمي من استيطان الحجاز، ومن دخل منهم تاجرا أقام ثلاثة أيام، ثم ارتحل، ولم ير أبو حنيفة المنع في الكل، وصحح في الشرح وغيره أنه يجوز، لإنزاله صلى الله عليه وسلم وفد الطائف في المسجد، والجمهور يرون المنع.
ويرون المنع أيضا من المقام في الحجاز، وهو مكة، والمدينة، واليمامة، والينبع، وفدك، وتبوك ونحوها، وما دون المنحنى، وهو عقبة الصوى من الشام كمعان، لقوله صلى الله عليه وسلم «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» صححه الترمذي.
ولأحمد: آخر ما تكلم به «اخرجوا اليهود من أرض الحجاز» وقال تعالى في حق مكة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } والمراد حرم مكة، سواء أذن له أو لا، بالإقامة أو غيرها ولو غير مكلف، فإن قدم رسول من الكفار لا بد له من لقاء الإمام وهو به، خرج إليه ولم يأذن له، فإن دخل عالما، عزر وأخرج.(7/297)
وإن تحاكموا إلينا فلنا الحكم والترك(1) لقوله تعالى: { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } (2) وإن اتجر إلينا حربي(3) أخذ منه العشر(4) وذمي نصف العشر(5) لفعل عمر رضي الله عنه، مرة في السنة فقط(6).
__________
(1) هذا المذهب، وكذا لو استعدى بعضهم على بعض، خير الحاكم بين الحكم وتركه.
(2) فيحكم لأحدهما على الآخر إن شاء، ولا يحكم إلا بحكم الإسلام، ويلزمهم حكمنا لا شريعتنا، وقال بعض أهل العلم: إنها منسوخة بقوله: { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ } وإن لم يتحاكموا إلينا فليس للحاكم أن يتبع شيئا من أمورهم، ولا يدعوهم إلى حكمنا، وإن تحاكموا إلى حاكمنا مع مسلم ألزم الحكم بينهم لما فيه من إنصاف المسلم من غيره، أورده عن ظلمهم، وذلك واجب، وإن تبايعوا بيوعًا فاسدة، وتقابضوا من الطرفين، ثم أتونا أو أسلموا لم ينقض فعلهم وإن لم يتقابضوا فسخه الحاكم، وإن تبايعوا بربا في سوقنا منعوا.
(3) ذكرا أو أنثى، أعمى أو بصيرًا، كبيرًا أو صغيرًا.
(4) دفعة واحدة، سواء عشروا أموال المسلمين أو لا، لأن عمر أخذ من أهل الحرب العشر، واشتهر ولم ينكر، وعمل به الخلفاء بعده، وكذا حكم المستأمن إذا اتجر إلى بلد الإسلام.
(5) فليس كالحربي من كل وجه.
(6) وذلك أن نصرانيا جاء إلى عمر فقال: إن عاملك عشرني في السنة
مرتين، فكتب إلى عامله أن لا يعشر في السنة إلا مرة، رواه أحمد، ومتى أخذه كتب له به حجة.(7/298)
ولا تعشر أموال المسلمين(1) (وإن تهود نصراني(2) أو عكسه) بأن تنصر يهودي (لم يقر) لأنه انتقل إلى دين باطل، قد أقر ببطلانه أشبه المرتد(3) (ولم يقبل منه إلا الإسلام أو دينه) الأول(4) فإن أباهما هدد، وحبس، وضرب(5).
قيل للإمام: أنقتله؟ قال: لا(6).
__________
(1) فليس يجب عليهم في أموالهم سوى الزكاة المشروعة، وكذا تحرم الكلف التي ضربها الملوك على الناس بغير طريق شرعي إجماعًا، ولا يسوغ فيها اجتهاد.
(2) لم يقر على اليهودية لأنه انتقل إلى دين باطل، قد أقر ببطلانه، أشبه المرتد هذا المذهب.
(3) فلا يقر على النصرانية، لأن الإسلام دين الحق، والدين الذي كان عليه دين صولح عليه، فلم يقبل منه غيرهما، قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافًا، قال الشيخ: اتفقوا على التسوية بين اليهود والنصارى، لتقابلهما، وكانوا يسمون بها قبل النسخ والتبديل، وكانوا يسمون مؤمنين، أو مسلمين.
(4) وهو اليهودية ، أو النصرانية.
(5) ولم يقتل، لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب، فلم يقتل كالباقي على دينه ولأنه مختلف فيه فلا يقتل للشبهة.
(6) أي قيل للإمام أحمد رحمه الله فيمن انتقل من اليهودية إلى النصرانية وبالعكس، أنقتله؟ فقال: لا للشبهة في قتله، وإن انتقل إلى دين المجوس، أو إلى غير دين أهل الكتاب، لم يقر، ولم يقبل منه إلا الإسلام، أو السيف وإن انتقل غير الكتابي إلى دين أهل الكتاب أقر.
قال الشيخ: ومن كان من أهل الذمة زنديقًا يبطن جحود الصانع، أو جحود الرسل، أو الكتب المنزلة، أو الشرائع، أو المعاد ويظهر التدين بموافقة أهل الكتاب، فهذا يجب قتله بلا ريب، كما يجب قتل من ارتد من أهل الكتاب إلى التعطيل، فإن أراد الدخول في الإسلام فهل يقال: إنه يقتل أيضا، كما يقتل منافق المسلمين، لأنه ما زال يظهر الإقرار بالكتب والرسل؟ أو يقال: بل دين الإسلام فيه ما يزيل شبهته؟ هذا فيه نظر.(7/299)
فصل فيما ينقض العهد(1).
(فإن أبى الذمي بذل الجزية)(2) أو الصغار(3) (أو التزام حكم الإسلام)(4) أو قاتلنا(5).
__________
(1) وما يتعلق بنقضه، من مخالفة شيء مما صولحوا عليه، لما في كتاب أهل الجزية، وإن نحن غيرنا، أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الإمام عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لك من أهل المعاندة والشقاق، وأمره عمر أن يقرهم على ذلك.
(2) من مجيئه بها، ووقوفه،ونحوه، لأن الله تعالى أمر بقتالهم { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
(3) أي الذلة، والامتهان من بذل الجزية، أو التزام أحكامنا.
(4) في ضمان النفس، والمال، والعرض، وإقامة الحدود كما تقدم انتقض عهده، لعدم وفائه بمقتضى الذمة من أمن جانبه، قاله الشيخ وغيره، ولأنها نسخت كل حكم يخالفها، فلا يجوز بقاء العهد مع الامتناع بذلك.
(5) أي منفردا أو مع أهل الحرب، أو لحق بدار الحرب مقيمًا بها، انتقض عهده، لأنه صار حربا لنا بدخوله في جملة أهل الحرب، ولو لم نشترط عليهم أنهم إذا فعلوا شيئا من ذلك انتقض عهدهم، لأن ذلك هو مقتضى العقد، وقال ابن القيم: أهل العهد إذا حاربوا من في ذمة الإمام وعهده، وصاروا بذلك أهل الحرب، نابذين لعهده، فله أن يبيتهم وإنما يعلمهم إذا خاف منهم الخيانة، وأنه ينتقض عهد الجميع، إذا لم ينكروا عليهم، وينتقض عهد النساء والذرية بذلك.(7/300)
(أو تعدى على مسلم بقتل(1) أو زنا) بمسلمة(2) وقياسه اللواط(3) (أو) تعدى بـ (قطع طريق(4) أو تجسيس أو إيواء جاسوس)(5).
__________
(1) عمدًا، أو فتنة عن دينه، انتقض عهده، وحل دمه وماله، لعدم وفائه بمقتضى الذمة من أمن جانبه.
(2) قال الشيخ: ولا يعتبر في الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم، بل يكفي استفاضة ذلك، واشتهاره، لما روي عن عمر، أنه رفع إليه ذمي أراد استكراه امرأة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم، وأمر به فصلب في بيت المقدس، وكذا لو أصابهما باسم نكاح.
(3) أي قياس الزنا بجامع الحد اللواط فينتقض عهد بذلك.
(4) أي على المسلمين.
(5) أي تعدى على المسلمين بتجسيس للكفار، أو إيواء جاسوسهم، وهو عين الكفار، انتقض عهده، لما فيه من الضرر على المسلمين، قال ابن القيم: وفي غزوة الفتح جواز قتل الجاسوس، وإن كان مسلمًا لقوله «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر» فمنع من القتل بشهوده بدرًا، اهـ.
قال الشيخ: ومن قطع الطريق على المسلمين، أو تجسس عليهم، أو أعان أهل الحرب على سبي المسلمين، أو أسرهم وذهب بهم إلى دار الحرب، ونحو ذلك مما فيه مضرة على المسلمين، فهذا يقتل، ولو أسلم، ولو قال الذمي هؤلاء المسلمون الكلاب، أبناء الكلاب، ينغصون علينا، إن أراد طائفة معينين، عوقب عقوبة تزجره وأمثاله، وإن ظهر منه قصد العموم، ينتقض عهده، ويجب قتاله.
قال: وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتب أهل دينه في طلب فتح الكنائس ولا يخبرهم بشيء من أخبار المسلمين، ولا يطلب من رسولهم أن يكلف ولي أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين، ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته باتفاق المسلمين، وفي أحد القولين، يكون قد نقض عهده، وحل دمه وماله.(7/301)
أو ذكر الله، أو رسوله(1) أو كتابه أو دينه (بسوء انتقض عهده) لأن هذا ضرر يعم المسلمين(2) وكذا لو لحق بدار حرب(3) لا إن أظهر منكرًا(4) أو قذف مسلمًا(5) وينتقض بما تقدم عهده (دون) عهد (نسائه ، وأولاده) فلا ينتقض عهدهم تبعا له(6).
لأن النقض وجد منه فاختص به(7) (وحل دمه) ولو قال: تبت(8) فيخير فيه الإمام -كأسير حربي- بين قتل، ورق، ومن وفداء بمال، أو أسير مسلم(9).
__________
(1) بسوء، انتقض عهده، قيل لابن عمر: إن راهبًا يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لو سمعته لقتلته إنا لم نعط الأمان على هذا.
(2) أشبه الامتناع من الصغار، وأشبه ما لو لطمه.
(3) انتقض عهده، وحل دمه وماله.
(4) أو رفع الصوت بكتابه، أو ركب الخيل، ونحوه مما تقدم أنهم ينهون عنه، لم ينقض عهده بذلك، لأن العقد لا يقتضيه، ولا ضرر على المسلمين في ذلك، يوجب نقض عهده، وحل دمه ، وماله.
(5) بالزنا، أو اللواط، أو آذاه بسحر، في تصرفه فلا ينتقض عهده.
(6) أي لا ينتقض عهد نسائه وأولاده، بانتقاض عهده سواء لحقوا بدار الحرب أو لا.
(7) ولو لم ينكروا عليه النقض، قال ابن القيم: إذا كان الناقض واحدًا من طائفة لم يوافقه بقيتهم، لم يسر النقض إلى زوجته، وأولاده كما أن من أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم ممن كان يسبه، لم يسب نساءهم، وذريتهم وهذا هديه، وهو لا محيد عنه.
(8) لانتفاض عهده بما تقدم ونحوه.
(9) وقال الشيخ: وإذا نقضوا العهد، لم يجب على المسلمين أن يعاهدوهم ثانيًا، بل لهم قتالهم، وإن طلبوا أداء الجزية، وللإمام أن يقتلهم حتى يسلموا وأن يجليهم من ديار الإسلام، وإذا رأى ذلك مصلحة، بل يجوز قتل كل من نقض العهد وقتاله، وإن بذل الجزية ثانيا قال تعالى: { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ } الآية فأمر بقتال الناكثين مطلقا.(7/302)
(و) حل (ماله) لأنه لا حرمة له في نفسه، بل هو تابع لمالكه، فيكون فيئا(1) وإن أسلم حرم قتله(2).
كتاب البيع(3)
__________
(1) أي حكمه حكم الفيء، لأن المال لا حرمة له في نفسه، إنما هو تابع لمالكه حقيقة، وقد انتقض عهد المالك في نفسه فكذا في ماله.
(2) وكذا رقه، لا إن رق ثم أسلم، وفي الفروع، يقتل سابه صلى الله عليه وسلم وإن أسلم، قال الشيخ: وهو الصحيح من المذهب، وقال: إن سبه حربي ثم تاب بإسلامه، قبلنا توبته إجماعًا.
(3) تقدم ذكر أركان الإسلام التي لا يستقيم إلا بها، وحيث أنه لا يتصور منها صدورها إلا بقوة يخلقها الله في أبداننا، وقد أجري العادة بأن تلك القوة لا تدوم إلا بمادة، تحصيلها عن الكسب فيما أباحه الله، من السعي في وجوه المعاملات، من البيع وغيره، وقد حكي الإجماع، على أنه لا يجوز لمكلف أن يقدم على فعل، حتى يعلم حكم الله فيه، أتبعه بالأركان وقدمه على الأنكحة وما بعدها، لشدة الحاجة إليه، وقد بعث عمر من يقيم من الأسواق من ليس بفقيه.(7/303)
جائز بالإجماع(1) لقوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ } (2) (وهو) في اللغة أخذ شيء وإعطاء شيء؛ قاله ابن هبيرة(3).
__________
(1) بل بالكتاب والسنة، وبالقياس، والإتيان بأصول الدين الأربعة أكمل إذا اتفقت.
(2) أي أحل الله لكم الأرباح في التجارة، بالبيع والشراء، ويشمل بيع المنافع كالإجارة، وكذا بقية البيوع، كالسلم ونحوه، فـ «أل» فيه للاستغراق، وقال تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } وغير ذلك من الآيات، الدالة على جواز البيع، ومن السنة «البيعان بالخيار» وغيره والإجماع معلوم في الجملة ، والقياس معلوم أن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، ولا يبذله غالبًا ففي تجويز البيع حصول لغرضه، ودفع لحاجته.
(3) أي دفع عوض، وأخذ ما عوض عنه، وابن هبيرة هو الوزير، عون الدين، أبو المظفر، يحيى بن محمد بن هبيرة، بن سعد بن الحسن بن أحمد الشيباني
الدوري ثم البغدادي الحنبلي، العامل العادل، صاحب المصنفات الكثيرة
منها الإفصاح عدة مجلدات لما بلغ: «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين» ذكر ما اتفق عليه الأئمة في الفقه، وما اختلفوا فيه، توفي سنة ستين وخمسمائة.(7/304)
مأخوذ من الباع، لأن كل واحد من المتبايعين، يمد باعه للأخذ والإعطاء(1) وشرعا (مبادلة مال ولو في الذمة)(2) بقول أو معاطاة(3) والمال عين مباحة النفع بلا حاجة(4) (أو منفعة مباحة) مطلقًا(5) (كممر) في دار أو غيرها(6) (بمثل أحدهما) متعلق بمبادلة، أي بمال أو منفعة مباحة(7).
__________
(1) هذا قول الأكثر، وقيل من المبايعة في العهد، مصدر باع يبيع إذا ملك، ولفظ البيع والشراء، كل منهما يطلق على ما يطلق عليه الآخر، وما دخلت عليه الباء فهو الثمن.
(2) كعبد وثوب صفته كذا، والمبادلة: جعل شيء في مقابلة شيء آخر، وأتى بصيغة المفاعلة لأن البيع لا يكون إلا بين اثنين، حقيقة أو حكما، كتولي طرفي العقد.
(3) وهما صورتا البيع الآتي ذكرهما.
(4) احترازًا من كلب الصيد ونحوه، فإنه لا يباح إلا لحاجة.
(5) أي لا تختص إباحتها بحال دون أخرى، بل في كل حال.
(6) كبقعة تحفر بئرًا.
(7) نحو بيع كتاب بكتاب، أو بممر في دار، أو بيع نحو ممر في دار بكتاب أو بممر في دار أخرى.(7/305)
فتناول تسع صور، عين بعين(1) أو دين، أو منفعة(2) دين بعين أو دين(3) بشرط الحلول والتقابض قبل التفرق(4) أو بمنفعة(5) منفعة بعين، أو دين، أو منفعة(6) وقوله: (على التأبيد) يخرج الإجارة(7) (غير ربا وقرض) فلا يسميان بيعًا، وإن وجدت فيهما المبادلة(8) لقوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (9).
__________
(1) كهذا الكتاب بهذا الدينار.
(2) أي أو عين بدين، كهذا الكتاب بدينار في الذمة، أو عين بمنفعة. كهذا الثوب بعلو بيت، ليضع عليه بنيانًا ونحوه.
(3) فالدين بعين كعبد موصوف، بهذا الدينار، والدين بالدين: كعبد موصوف، بعبد موصوف ونحوه.
(4) أي لأحدهما إذا باع دينًا بدين.
(5) أي أو دين بمنفعة، كجارية موصوفة بموضع بحائطه يفتحه بابًا.
(6) فالمنفعة بعين: كممر دار بهذا الدرهم، والمنفعة بدين: كممر دار بدرهم في الذمة، والمنفعة بمنفعة: كممر دار بممر دار.
(7) وإن لم تقيد مبادلة المنفعة بمدة، أو عمل معلوم، وتخرج الإعارة وإن لم تقيد بزمن، لأن المستأجرات والعواري مردودة.
(8) فقد أخرجا من حكم البيع، أما الربا فمحرم.
(9) فرد تعالى قول المشركين، لما اعترضوا على أحكام الله في شرعه و { قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أي نظيره مع علمهم بتفريق الله بين البيع والربا حكما
وأخبر أن الذين يعاملون فيه { لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } .(7/306)
والمقصود الأعظم في القرض الإرفاق، وإن قصد فيه التملك أيضًا(1) (وينعقد) البيع (بإيجاب وقبول) بفتح القاف، وحكي ضمها(2) (بعده) أي بعد الإيجاب(3) فيقول البائع: بعتك أو ملكتك أو نحوه بكذا(4) ويقول المشتري: ابتعت أو قبلت ونحوه(5) (و) يصح القبول أيضا (قبله) أي قبل الإيجاب بلفظ أمر(6).
__________
(1) أي وإن قصد بالقرض التملك، فهو غير مسمَّى بيعًا، وإنما هو عقد إرفاق.
(2) حكاه في اللباب، والفتح أشهر وإيجاب الشيء، جعله واجبًا وقبوله التزامه والرضى به.
(3) بأي لفظ دال على الرضا.
(4) كوليتكه، أو أشركتك فيه، أو وهبتكه بكذا من الثمن، وكأعطيتكه بكذا.
(5) كاشتريته، أو أخذته فليست منحصرة في لفظ بعينه، بل بكل ما أدى معنى البيع، لأن الشارع لم يخصه بصيغة معينة، وفي الإنصاف: بعتك أو قبلت إن شاء الله، صح بلا نزاع أعلمه.
(6) نحو: بعني كذا بكذا، وينعقد الإيجاب بلفظ الأمر نحو: خذه ونحوه: لا بنحو ابتعه واشتره.(7/307)
أو ماض مجرد عن استفهام ونحوه(1) لأن المعنى حاصل به(2) ويصح القبول (متراخيًا عنه) أي عن الإيجاب ما داما (في مجلسه)(3) لأن حالة المجلس كحالة العقد(4) (فإن تشاغلا بما يقطعه) عرفًا(5) أو انقضى المجلس قبل القبول (بطل)(6) لأنهما صارا معرضين عن البيع(7) وإن خالف القبول الإيجاب لم ينعقد(8).
__________
(1) كترج وتمن، فالمجرد نحو: اشتريته بكذا، أو ابتعته أو أخذته، بخلاف: أبعتني؟ أتبيعني؟ لعلك بعتني، ليتك بعتني، أو تبيعني، إذ ليس بقبول.
(2) أي معنى البيع حاصل، بنحو بعني: فيقول: بعتك.
(3) أي مجلس البيع، وكذا إن تراخى الإيجاب عن القبول، في نحو بعني كذا بكذا.
(4) لعموم ما لم يتفرقا، ولأنه يكتفى بالقبض فيه لما يعتبر قبضه.
(5) من كلام أجنبي أو سكوت طويل، أو أكل، ونحو ذلك بطل.
(6) أي البيع للخبر.
(7) أشبه ما لو صرحا بالرد وإن كان المشتري غائبًا عن المجلس، فكاتبه البائع أو راسله، إني بعتك داري بكذا، فلما بلغه الخبر قبل البيع، صح العقد، لأن التراخي مع غيبة المشتري لا يدل على إعراضه عن الإيجاب، واختار الشيخ صحة البيع بكل ما عده الناس بيعًا، من متعاقب أو متراخ، من قول أو فعل.
(8) أي البيع سواء كانت المخالفة في قدر الثمن، أو صفته أو غيرهما، كما لو قال: بألف صحيحة، فقال: اشتريته بألف مكسرة، لم يصح ولو قال
بعتك بكذا، فقال: أنا آخذه بكذا، لم يصح، فإن قال: أخذته بكذا، أو: منك صح.(7/308)
(وهي) أي الصورة المذكورة أي الإيجاب والقبول (الصيغة القولية) للبيع(1) (و) ينعقد أيضا (بمعاطاة وهي) الصيغة (الفعلية)(2) مثل أن يقول: أعطني بهذا خبزًا، فيعطيه ما يرضيه(3) أو يقول البائع: خذ هذا بدرهم، فيأخذه المشتري(4) أو وضع ثمنه عادة وأخذه عقبه(5).
__________
(1) فإن له صيغتين يوجد عقده بكل واحدة منهما، والإيجاب والقبول إحدى الصيغتين.
(2) يعني الحالة بين العاقدين لعموم الأدلة، ولأن الله أحل البيع، ولم يبين كيفيته، فرجع فيه إلى العرف، ولم يزل المسلمون على البيع بالمعاطاة.
(3) وهو ساكت والفاء للترتيب، فإن تراخى لم يصح البيع.
(4) وهو ساكت أيضًا، وكذا لو ساومه سلعة بثمن، فيقول البائع: خذها فيأخذها المشتري وهو ساكت، أو: هي لك، أو أعطيتكها، فيأخذها.
(5) أو قال: كيف تبيع الخبز، فيقول: كذا بدرهم، فيقول خذ درهمًا، قال الشيخ: بيع المعاطاة له صور أحدها: أن يصدر من البائع إيجاب لفظي فقط، ومن المشتري أخذ كقوله: خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه، وكذلك لو كان الثمن معينًا، مثل أن يقول: خذ هذا الثوب بثوبك فيأخذ، ولا بد أن يميز هذا الأخذ عن أخذ المستام، الثانية: أن يصدر من المشتري لفظ، والبائع إعطاء سواء كان الثمن معينًا أو مضمونًا في الذمة، الثالثة: لا يلفظ واحد منهما، بل هناك
عرف بوضع الثمن، وأخذ المثمن اهـ وظاهره اعتبار الترتيب في بيع المعاطاة، قال ابن قندس، وهو أولى منه في الصيغة القولية، وظاهره أيضا: ولو لم يكن المالك حاضرًا، للعرف، ولو ضاع الثمن، فمن ضمان المشتري، لعدم قبض البائع له.(7/309)
فتقوم المعاطاة مقام الإيجاب، والقبول(1) للدلالة على الرضا(2) لعدم التعبد فيه(3) وكذا حكم الهبة، والهدية، والصدقة(4) ولا بأس بذوق المبيع حال الشراء(5) (ويشترط) للبيع سبعة شروط(6).
__________
(1) لأن المعاطاة لا تتضمن الصيغة، والصواب، أن جميع هذه الصور تسمى إيجابا وقبولا، لأن إيجاب الشيء جعله واجبًا، وقبول ذلك التزامه، كما تقدم، وقال الشيخ: عبارة أصحابنا وغيرهم أن المعاطاة ونحوها ليست من الإيجاب والقبول، وهذا تخصيص عرفي، فالصواب الاصطلاح الموافق للغة، وكلام المتقدمين أن لفظ الإيجاب والقبول، يشتمل على صور العقد، قولية أو فعلية.
(2) أي من غير لفظ، اكتفاء بالقرائن، والأمارات الدالة على الرضى، الذي هو شرط في صحة البيع.
(3) أي في البيع، وهو عدم تعليل المعنى، بل المعنى الذي شرع له متعقل، وهو الإرفاق بالناس، والمصلحة لهم، فتقوم المعاطاة مقامه للعرف.
(4) أي تنعقد بالمعاطاة، قال الشيخ: تجهيز المرأة بجهاز إلى بيت زوجها تمليك .
(5) ظاهره ولو لم يستأذن، لجريان العادة به.
(6) إذا فقد شرط منها لم يصح البيع، وهي معروفة بالاستقراء.(7/310)
أحدها (التراضي منهما) أي من المتعاقدين(1) (فلا يصح) البيع (من مكره بلا حق)(2) لقوله عليه السلام «إنما البيع عن تراض» رواه ابن حبان(3) فإن أكرهه الحاكم على بيع ما له، لوفاء دينه صح(4) لأنه حمل عليه بحق(5) وإن أكره على وزن مال، فباع ملكه، كره الشراء منه وصح(6).
__________
(1) بأن يأتيا به اختيارا، ظاهرا وباطنا، فإن لم يقصدا البيع باطنا، بل أظهراه تلجئة خوفًا من ظالم ونحوه لم يصح، وكذا بيع هازل، وبيع الأمانة الذي هو في معنى القرض بعوض.
(2) سواء أكرها أو أحدهما، والمكره: هو المضطهد، الملجأ بأي نوع من أنواع الإكراه وقال الشيخ: من استولى على ملك إنسان بلا حق، ومنعه إياه حتى يبيعه له، فهو كبيع المكره بلا حق، فلا يصح البيع، لأنه ملجأ إليه اهـ ويقبل من البائع أن البيع وقع تلجئة أو هزلاً، بقرينة دالة على ذلك، لاحتمال كذبه، فإن لم توجد فلا يقبل إلا ببينة.
(3) وابن ماجه وغيرهما، وأصرح منه قوله تعالى: { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أي عن طيب نفس كل واحد منكم، وحقيقة البيع: المبادلة الصادرة عن تراض، فدلت الآية والحديث على اشتراط التراضي من المتعاقدين.
(4) يعني البيع، سواء رضي بذلك أو لم يرض، ولا بأس بالشراء منه.
(5) أي إلزام له بقضاء واجب عليه.
(6) أي وإن أكره على دفع مقدار من المال، كأسير يقال له: ما نفك إسارك إلا بكذا وكذا فباع ملكه لذلك، كره الشراء منه، أو لبيعه بدون ثمن مثله في
الغالب، وهو بيع المضطر، وصح الشراء منه، لأنه غير مكره على البيع، واختار الشيخ: الصحة من غير كراهة، لأن الناس لو امتنعوا من الشراء منه، كان أشد ضررا عليه، وسئل أحمد عن رجل مقر بالعبودية، حتى يباع فقال: يؤخذ البائع والمقر بالثمن، فإن مات أحدهما أو غاب، أخذ الآخر بالثمن، واختاره الشيخ: وصوبه في الإنصاف، وفي الفروع، يتوجه في كل غار، ولو أقرأنه عبده فرهنه فكبيع.(7/311)
(و) الشرط الثاني (أن يكون العاقد) وهو البائع والمشتري (جائز التصرف) أي حرًا مكلفًا رشيدًا(1) (فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي)(2) فإن أذن صح، لقوله تعالى (وابتلوا اليتامى) أي اختبروهم(3) وإنما يتحقق بتفويض البيع والشراء إليه(4).
__________
(1) لأن العبد محجور عليه من قبل سيده، وغير المكلف -وهو الصبي والسفيه- محجور عليه خوف ضياع ماله قال تعالى: { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا } أي صلاحا في المال { فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .
(2) لأنه قول يعتبر له الرضا، فلم يصح من غير رشيد، ولو تعارضت بينة السفه والرشد، فأفتى ابن رجب وغيره ببينة الرشد، ولا يصح من مجنون مطلقا، ولا من سكران، ونائم، ومبرسم، وأما الهبة، والوصية، فاختار الموفق والشارح وغيرهما صحة قبول المميز والسفيه، وصوبه في الإنصاف، وتقبل الهدية من مميز أرسل بها، ومن كافر إجماعًا.
(3) أي في عقولهم، وحفظ أموالهم، فدلت على جوازه مع الإذن.
(4) أي إنما يتحقق الصلاح بالإذن وإذا كان لا بد منه وقد أمر الله به، فيصح التصرف معه.(7/312)
ويحرم الإذن بلا مصلحة(1) وينفذ تصرفهما في الشيء اليسير بلا إذن(2) وتصرف العبد بإذن سيده(3) (و) الشرط الثالث: (أن تكون العين) المعقود عليها، أو على منفعتها (مباحة النفع من غير حاجة)(4) بخلاف الكلب، لأنه إنما يقتنى لصيد، أو حرث، أو ماشية(5) وبخلاف جلد ميتة ولو مدبوغًا لأنه إنما يباح في يابس(6) والعين هنا مقابل المنفعة، فتتناول ما في الذمة(7) (كالبغل، والحمار)(8).
__________
(1) لما فيه من إضاعة المال، ويضمن كما في الحجر.
(2) أي ينفذ تصرف الصبي والسفيه في الشيء اليسير، كرغيف وحزمة بقل ونحوهما بلا إذن، واشترى أبو الدرداء عصفورًا من صبي فأرسله.
(3) أي وينفذ تصرف العبد فيما أذن له سيده فيه، لزوال الحجر عنه.
(4) أو ضرورة ، فخرج ما لا نفع فيه كالحشرات، وما فيه منفعة محرمة كالخمر، وما فيه منفعة مباحة للحاجة كالكلب، وما فيه منفعة تباح للضرورة كالميتة ويأتي مفصلاً.
(5) فلا يصح بيعه، للنهي عن ذلك، ولأنه لا ينتفع به إلا لحاجة.
(6) بناء على عدم طهارته بالدبغ، وتقدم أنه يطهر بالدبغ، للأخبار ويجوز بيعه عند الجمهور، واختاره الشيخ وغيره.
(7) أي والعين في قول المصنف: وأن تكون العين مباحة النفع.
(8) والعقار، والمأكول، والمشروب، والملبوس، والمركوب، وغير ذلك، فالكاف للتمثيل، لأن ما بعدها جزء ما قبلها.(7/313)
لأن الناس يتبايعون ذلك في كل عصر، من غير نكير(1) (و) كـ (دود القز) لأنه حيوان طاهر، يقتنى لما يخرج منه(2) (و) كـ (بزره) لأنه ينتفع به في المآل(3) (و) كـ (الفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد)(4) كالفهد، والصقر(5) لأنه يباح نفعها، واقتناؤها مطلقا(6) (إلا الكلب) فلا يصح بيعه(7) لقول ابن مسعود: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، متفق عليه(8).
__________
(1) أي فكان إجماعا، وقياسا لما لم يرد به النص من ذلك على ما ورد.
(2) وهو الحرير الذي هو أفخر الملابس.
(3) «بزرة» بفتح الباء وكسرها ولد الدود قبل أن يدب، أي يجوز بيعه، لأنه ينتفع به في المآل، يحصل منه الدود الذي يستخرج منه الحرير.
(4) أما الفيل فلأنه يباح نفعه واقتناؤه، فجاز بيعه، أشبه البغل، وسباع البهائم التي تصلح للصيد، بشرط أن تكون معلمة، أو تقبل التعليم.
(5) والبازي، وولدها، وفرخها وبيضها.
(6) أي مع الحاجة وعدمها، وقيل: والهر، لأنه طاهر العين، مباح النفع،وعن أحمد: لا يجوز بيعه، وقد ثبت النهي عن ثمنه، واختاره ابن القيم: وابن رجب وغيرهما.
(7) ولو كان مباح الاقتناء معلمًا كان أو غير معلم، عند جمهور العلماء.
(8) والنص على تحريم ثمنه يدل باللزوم على تحريم بيعه، ولأنه لا ينتفع به، إلا لحاجة، ويحرم اقتناؤه، كما يحرم اقتناء خنزير إجماعًا، ولو لحفظ البيوت
إلا كلب صيد، أو ماشية، أو حرث، فيباح للخبر، وكره أحمد بيع قرد، وشراءه وحرم اقتناؤه للعب.(7/314)
ولا بيع آلة لهو، وخمر، ولو كانا ذميين(1) (والحشرات) لا يصح بيعها، لأنه لا نفع فيها(2) إلا علقًا لمص الدم(3) وديدانًا لصيد سمك(4) وما يصاد عليه كبومة شباشا(5) (والمصحف) لا يصح بيعه(6) ذكر في المبدع أن الأشهر: لا يجوز بيعه(7) قال أحمد: لا نعلم في بيع المصحف رخصة(8).
__________
(1) أي ولا يصح بيع آلة لهو، كمزمار، وطنبور، ونرد وشطرنج ولا يصح بيع خمر للخبر، ولو لإتلافها، لأنه لا نفع فيها، قال أحمد ومالك وغيرهما: لا يجوز بيعها، ولا ضمان على متلفها.
(2) الحشرات كفأر، وحيات، وعقارب، وخنافس، ونحوها.
(3) لأنه نفع مقصود، فجاز بيعها لذلك.
(4) وهو نفع مقصود أيضا، فجاز بيعها، ولأن الأصل في الأشياء الإباحة وإنما اعتنى الشارع بتوضيح البياعات الفاسدة.
(5) مفعول لفعل محذوف، أي: تجعل شباشا، أو مفعول لأجله، أي خيالا. تخاط عيناها، وتربط لينزل عليها الصيد، وكره فعل ذلك، لما فيه من تعذيبه، ويجوز بيع صيد لأجل صوته كبلبل.
(6) ولو في دين أو غيره، لما فيه من ابتذاله، وترك تعظيمه.
(7) ومقتضى كلام الإنصاف أنه المذهب.
(8) واختاره الموفق وغيره.(7/315)
قال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيعها(1) ولأن تعظيمه واجب، وفي بيعه ابتذال له(2) ولا يكره إبداله(3) وشراؤه استنقاذًا(4) وفي كلام بعضهم، يعني من كافر(5) ومقتضاه أنه إن كان البائع مسلمًا حرم الشراء منه، لعدم دعاء الحاجة إليه(6) بخلاف الكافر(7).
__________
(1) أي المصاحف، وروي عن عمر: لا تبيعوا المصاحف، وكرهه ابن مسعود، وجابر، وغيرهما، وتخصيص المصحف يدل على الإباحة في كتب العلم، ولكن قال الشيخ: وكذا المعاوضة على المنافع الدينية، من العلم ونحوه، إذ لا فرق بين الأعيان الدينية، والمنافع.
(2) وابتذاله ضد الصيانة المأمور بها، فتجب صيانته عن الابتذال، وكثرة إيجاده اليوم بالطبع والنشر بذل له، وتسهيل للراغب فيه.
(3) ولو مع أحدهما دراهم زيادة،ولو كانت المبادلة بيعا، فإنما أجازها أحمد لأنها لا تدل على الرغبة عنه، ولا عن الاستبدال به بعوض دنيوي، بخلاف أخذ ثمنه، ويجوز وقفه، وهبته، والوصية به، لأنه لا اعتياض في ذلك عنه.
(4) أي ولا يكره شراؤه من كافر، أو ممن هو مستخف به، لأن الاستنقاذ شراؤه ممن لا يكرمه فيعم.
(5) أي في البيع بشرط الاستنقاذ لا مطلقًا، ويدخل المصحف في ملك الكافر ابتداء بالإرث، والرد عليه لنحو عيب، وبالقهر، وغير ذلك.
(6) يعني إلى الاستنقاذ، وأما الحاجة إلى اقتنائه فالواقع أن الحاجة داعية إليه، فلو منع من بيعه، وشرائه لعز وجوده.
(7) أي فلا يحرم، قال الحجاوي، وقد يفهم من كلام المنقح أنه يصح بيعه للمسلم مع التحريم، وليس بمراد، لكن الشراء استنقاذا جائز للمسلم فقط.(7/316)
ومفهوم التنقيح، والمنتهى يصح بيعه لمسلم(1) (والميتة) لا يصح بيعها(2) لقوله عليه السلام: «إن الله حرم بيع الميتة، والخمر، والأصنام» متفق عليه(3) ويستثنى منها السمك، والجراد(4) (و) لا (السرجين النجس) لأنه كالميتة(5).
__________
(1) وعن أحمد: لا يكره، وقال الوزير: كرهه أحمد وحده، وأجازه الباقون من غير كراهة، واتفقوا على جواز شرائه اهـ والعمل عليه في سائر الأقطار، من غير نكير، قال في تصحيح الفروع: عليه العمل، ولا يسع الناس غيره، ولما ذكر الشيخ: والمنافع الدينية من العلم ونحوه، قال: ويتوجه في هذا وأمثاله أنه يجوز للحاجة، كالرواية المذكورة في التعليم، فينبغي أن يفرق في الأعيان بين المحتاج وغيره، كما فرق في المنافع.
(2) بالإجماع ، ولو اضطر، ولو طاهرة كميتة آدمي.
(3) وفيه «والخنزير» ولأبي داود «حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير وثمنه» والصنم ما كان مصورا، وسماها تعالى رجسا، لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب النجس، وعبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات.
(4) أي يستثنى من الميتة ميتة السمك، والجراد، ونحوهما من حيوانات البحر التي تعيش إلا فيه، لحديث «أحلت لنا ميتتان، ودمان، أما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان، فالطحال والكبد» وسمي جرادًا لأنه يجرد بأكل نباتها.
(5) وللإجماع على نجاسته، ويقال له السرقين، وهو الزبل، وتحريم بيعه مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة، ويجوز بيع السرجين والنجس، وأهل الأمصار يتبايعونه من غير نكير، وحكي إجماعًا، واختار الشيخ جواز الانتفاع بالنجاسات.(7/317)
وظاهره، أنه يصح بيع الطاهر منه قاله في المبدع(1) (و) لا (الأدهان النجسة ولا المتنجسة)(2) لقوله عليه السلام «إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه»(3) وللأمر بإراقته(4) (ويجوز الاستصباح بها) أي بالمتنجسة، على وجه لا تتعدى نجاسته(5) كالإنتفاع بجلد الميتة المدبوغ(6) (في غير مسجد) لأنه يؤدي إلى تنجيسه(7) ولا يجوز الاستصباح بنجس العين(8) ولا يجوز بيع سم قاتل(9).
__________
(1) والطاهر منه كروث الإبل، والبقر، والغنم، والحمام.
(2) النجسة كدهن شحم الميتة، والمتنجسة كدهن زيت، وشيرج متنجس.
(3) متفق عليه، وهو حجة في تحريم بيع النجس، وعلى تحريم بيع ما حرم على العباد، إلا ما خصه الدليل.
(4) يعني النجس، كما في قصة لحوم الحمر، ودنان الخمر، فدل على أنه لا يجوز بيع النجس.
(5) لأنه أمكن الانتفاع بها من غير ضرر، واختاره الشيخ وغيره، وهو مذهب الجمهور، لأنه يجري مجرى الإتلاف بلا ضرر.
(6) يعني في يابس، على ما تقدم لعد تعدي نجاسته.
(7) فلا يجوز الاستصباح بها فيه مطلقًا.
(8) باستصباح ولا غيره، لحديث «أرأيت شحوم الميتة، فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟» فقال: «لا هو حرام» متفق عليه.
(9) كسم الأفاعى، لخلوه من نفع مباح، وأما سم النبات، فإن أمكن النفع به، والتداوي بيسيره جاز، ويصح بيع ترياق خال من لحوم الحيات، ومن الخمر، لأنه مباح، كسائر المعاجين.(7/318)
(و) الشرط الرابع (أن يكون) العقد (من مالك) للمعقود عليه(1) (أو من يقوم مقامه) كالوكيل، والولي(2) لقوله عليه السلام لحكيم بن حزام «لا تبع ما ليس عندك» رواه ابن ماجه، والترمذي، وصححه(3) وخص منه المأذون له، لقيامه مقام المالك(4) (فإن باع ملك غيره) بغير إذنه لم يصح(5) ولو مع حضوره وسكوته(6) ولو أجازه المالك(7).
__________
(1) وقت العقد، وكذا الثمن، ملكا تاما، لا يحتاج لحق توفية.
(2) وذلك أن يكون مأذونًا له في البيع وقت العقد، من مالكه، أو من الشارع كالوكيل، وولي الصغير ونحوه، وناظر الوقف، وإن ظن عدم الإذن لأن الاعتبار بما في نفس الأمر.
(3) أي لا تبع ما ليس في ملكك من بيوع الأعيان، وقال الوزير، اتفقوا على أنه لا يجوز بيع ما ليس عنده، ولا في ملكه، ثم يمضي فيشتريه له، وأنه باطل.
(4) أي خص بالبناء للمفعول، أو الفاعل، من قوله «لا تبع ما ليس عندك» المأذون له في البيع من المالك، أو من الشارع، لقيامه مقام المالك في التصرف.
(5) بالاتفاق لفوات الشرط.
(6) لأن السكوت ليس دالاًّ على الرضا، إلا في مسائل مستثناة، وليس هذا منها.
(7) بعد، لفوات شرطه، وهو الإذن وقت العقد، وعن أحمد: يقف على الإجازة، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، لحديث عروة بن الجعد، فإنه أعطاه دينارًا ليشتري به شاة، فاشتري به شاتين، فباع إحداهما بدينار، ثم عاد بالدينار والشاة، رواه البخاري.(7/319)
ما لم يحكم به من يراه(1) (أو اشترى بعين ماله) أي مال غيره (بلا إذنه لم يصح)(2) ولو أجيز لفوات شرطه(3) (وإن اشترى له) أي لغيره ( في ذمته بلا إذنه، ولم يسمه في العقد صح) العقد(4) لأنه متصرف في ذمته، وهي قابلة للتصرف(5) ويصير ملكًا لمن اشتري (له) من حين العقد (بالإجازة)(6) لأنه اشتري لأجله، ونزل المشتري نفسه منزلة الوكيل، فملكه من اشتري له، كما لو أذن(7) (ولزم) العقد (المشتري بعدمها) أي عدم الإجازة(8).
__________
(1) فإن حكم به حنفي لم ينقض، لقوة الدليل، وارتفاع الخلاف.
(2) أي العقد بالاتفاق، لفوات شرطه.
(3) وهو كونه من مالكه، أو مأذونا له فيه.
(4) وذلك بأن قال: اشتريت هذا، ولم يقل: لفلان، سواء نقد الثمن من مال الذي اشترى له، أو من مال نفسه، أو لم ينقده، فصح تصرفه بشرطين، أن يشتري في ذمته، وأن لا يسمي المشتري له، وعنه: يصح تصرفه، ويقف على الإجازة، قال الشيخ وغيره: المقاصد معتبرة في التصرفات، وتغير أحكامها، فإذا اشترى لموكله، كان له، وإن لم يتكلم به في العقد، وإن لم ينوه له وقع للعاقد، عند الجمهور، إلا النكاح، فلا بد من تسميته الموكل.
(5) وما نقده عوض عما فيها.
(6) ومنافعه ونماؤه له.
(7) أي بالشراء، ولا يصح مع عدم الإذن إلا في هذه الصورة.
(8) فيقع الشراء له من حين العقد.(7/320)
لأنه لم يأذن فيه، فتعين كونه للمشتري (ملكًا) كما لو لم ينو غيره(1) وإن سمي في العقد من اشترى له لم يصح(2) وإن باع ما يظنه لغيره، فبان وارثًا، أو وكيلاً صح(3).
(ولا يباح غير المساكن مما فتح عنوة(4) كأرض الشام، ومصر، والعراق)(5) وهو قول عمر،وعلي، وابن عباس، وابن عمر، رضي الله عنهم(6)، لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين(7)
__________
(1) أي غير نفسه، ومتى لم ينو غير نفسه وقع الملك له، عند الجمهور كما تقدم.
(2) لفوات شرطه، وهو الملك أو الإذن، وإن أذن له، ولم يسمه في العقد ضمن ، قال الشيخ: ومن وكل في بيع، أو استئجار، أو شراء، فلم يسم الموكل في العقد فضامن، ومن ادعى بعد البيع أن المبيع لغيره، وأنه فضولي، أو غاصب لم يقبل منه، ولا تسمع بينته على ذلك، فإن أقام المقر له البينة بالملك سمعت، فإن لم تكن له بينة، حلف المشتري أنه لا يعلم مالكا سوى البائع.
(3) وذلك كموت أبيه وهو وارثه، أو توكيله، لأن الاعتبار في المعاملات بما في نفس الأمر، لا بما في ظن المكلف.
(4) أي فتحه المسلمون قهرًا وغلبة ولم يقسم.
(5) وغيرها مما فتحه المسلمون عنوة.
(6) وغيرهم، وهو مذهب الأكثر، وأحد قولي الشافعي.
(7) وأقرها في أيدي أربابها بالخراج، إلا إذا باعها الإمام لمصلحة، أو باعها غيره، وحكم به من يرى صحته، وفي الاختيارات، يصح بيع ما فتح عنوة ولم
يقسم، من أرض الشام، ومصر، والعراق، ويكون في يد مشتريه بخراجه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وأحد قولي الشافعي، والمؤثر بها أحق بلا خلاف، وقال: لا يجوز رفع أيدي المسلمين الثابتة على حقوقهم كأرض السواد، وذكر أنها نتنقل إلى ورثتهم وغيرهم من بعدهم بالإرث، والوصية، والهبة وكذا البيع تنتقل في أصح قولي العلماء، وليس هذا بيعًا للوقف ، كما غلط في ذلك من منع بيع أرض السواد، معتقدا أنها كالوقف الذي لا يجوز بيعه.
وقال: معنى وقفها إقرارها على حالها، وضرب الخراج عليها، مستمرًّا في رقبتها، وليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة، بل يجوز بيعها كما هو عمل الأمة، وإجماعهم على أنها تورث، والوقف لا يورث ونقل الملك في رقبته إبطال لحق البطون الموقوف عليهم، من منفعته، والمقاتلة حقهم في خراج الأرض، فمن اشتراها صارت عنده خراجية.(7/321)
.
وأما المساكن فيصح بيعها(1) لأن الصحابة اقتطعوا الخطط في الكوفة، والبصرة، في زمن عمر، وبنوها مساكن، وتبايعوها من غير نكير(2) ولو كانت آلتها من أرض العنوة(3) أو كانت موجودة حال الفتح(4) وكأرض العنوة في ذلك ما جلوا عنه فزعًا منا(5).
وما صولحوا على أنه لنا، ونقره معهم بالخراج(6) بخلاف ما صولحوا على أنه لهم كالحيرة(7) وأليس وبانقيا(8) وأرض بني صلوبا(9) من أراضي العراق، فيصح بيعها(10) كالتي أسلم أهلها عليها، كالمدينة(11) (بل) يصح أن (تؤجر) أرض العنوة، ونحوها(12).
__________
(1) أي يصح بيع المنازل ما زالت عامرة، وإن عادت مزارع فلها حكمها.
(2) أي فكان كالإجماع على جواز بيع المساكن، وكبيع غرس محدث فيها.
(3) أي يصح بيع المساكن، ولو كانت آلتها التي بنيت بها من أرض العنوة.
(4) يعني المساكن، لجريان ذلك في زمن الصحابة من غير نكير.
(5) أي وكأرض العنوة في الأحكام المتقدمة ما تفرقوا عنه خوفًا من المسلمين، فالضمير عائد إلى «ما» باعتبار لفظها.
(6) أي حكمه حكم أرض العنوة، من عدم جواز بيع المزارع، وجواز بيع المساكن وغير ذلك.
(7) بكسر الحاء المهملة، مدينة قرب الكوفة، فإنها فتحت صلحًا، على أنها لأهلها.
(8) أليس بضم الهمزة، وتشديد اللام المفتوحة، بعدها ياء ساكنة، ثم سين مهملة، مدينة بالجزيرة، وبانقيا بالباء الموحدة فنون مكسورة، ناحية بالنجف، دون الكوفة.
(9) بفتح الصاد، وضم اللام.
(10) أي هذه الأماكن المذكورة من أراضي العراق، فإنها فتحت صلحًا، على أنها لهم، فيصح بيعها عند الجمهور، وعمل الناس عليه.
(11) فإنها ملك لأربابها، وكذا ما فتح عنوة، وقسم بين الغانمين، كنصف خيبر ، يصح بيعه.
(12) كالأرض التي جلا عنها أهلها، أو صولحوا على أنها لهم، ولنا الخراج عنها، وتكون الإجارة مدة معلومة بأجر معلوم.(7/322)
لأنها مؤجرة في أيدي أربابها، بالخراج المضروب عليها في كل عام(1) وإجارة المؤجر جائزة(2) ولا يجوز بيع رباع مكة(3) ولا إجارتها(4) لما روى سعيد بن منصور، عن مجاهد مرفوعًا «رباع مكة حرام بيعها ، حرام إجارتها»(5) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا «مكة لا تباع رباعها، ولا تكرى بيوتها» رواه الأثرم(6)
__________
(1) لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين، وأقرها في أيدي أربابها، بالخراج الذي ضربه أجرة لها في كل عام، ولم يقدر مدة الإجارة.
(2) علل صحة إجارتها بأنها مؤجرة في أيدي أربابها، وهو كذلك، وأن إجارة المؤجر جائزة، وهو مذهب الجمهور كما سيأتي.
(3) جمع ربع، وهو المنزل والدار الذي يربع به الإنسان ويستوطنه لأنها فتحت عنوة، ولم تقسم بين الغانمين، فصارت وقفا على المسلمين، ولا الحرم كله ، وبقاع المناسك، كالمسعى، والمرمى، والموقف ونحوها، بل بقاع المناسك أولى بعدم الصحة، إذ هي كالمساجد، لعموم نفعها.
(4) أي ولا تجوز إجارة رباع مكة، وبقاع المناسك.
(5) وهذا على تقدير صحته، وهو مرسل.
(6) وقالت عائشة: ألا تبني لك بيتًا، أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: «لا إنما هو مناخ من سبق إليه» رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه، وقال ابن القيم: مثل هذا الحديث حسن عند أهل الحديث، وعن أحمد: يجوز بيعها وإجارتها، وهو أظهر في الحجة، واختار الشيخ وابن القيم جواز البيع #
لأنه إنما يستحق التقدم على غيره بهذه المنفعة، واختص بها لسبقه وحاجته، فهي كالرحاب، والطرق الواسعة، وغيرها، من سبق إليها فهو أحق بها، وإنما جاز البيع لوروده على المحل، الذي كان البائع اختص به عن غيره، وهو البناء.
وما روي من الأحاديث في خلاف ذلك فضعيف، لا تقوم به حجة، وكانوا يتبايعونها قبل الإسلام وبعده، كما اشترى معاوية دار الندوة، من عكرمة ابن عامر، فما أنكر بيعها أحد من الصحابة، وابتاع عمر وعثمان ما زاده في المسجد، وتملك أهلها أثمانها، ولو حرم ذلك لما بذلاه من أموال المسلمين، فكان إجماعًا متبوعًا وفعلاً مشروعًا، لورودها على المنفعة، وهي مشتركة، قال في الإنصاف: ويستثنى بقاع المناسك بلا نزاع.(7/323)
.
فإن سكن بأجرة، لم يأثم بدفعها، جزم به في المغني وغيره(1) (ولا يصح بيع نقع البئر) وماء العيون(2) لأن ماءها لا يملك(3) لحديث «المسلمون شركاء في ثلاث، في الماء، والكلأ والنار» رواه أبو داود، وابن ماجه(4).
__________
(1) وصححه في الإنصاف، وقال ابن القيم: ليس له أن يعاوض على منفعة السكنى بعقد الإجارة، فإن هذه المنفعة إنما يستحق أن يقدم فيها على غيره، ويختص بها لسبقه وحاجته.
(2) وهو كل ماء عد، له مادة لا تنقطع.
(3) يعني نفس النقع، هذا المذهب.
(4) وللنهي عن بيع فضل الماء، وسئل عن الذي لا يحل منعه قال: «الماء» فليس لأحد بيع ماء نبع، ولا كلأ ونحوه، ما لم يجزه، ولا يدخل ما في الأرض من ذلك في بيعها، لأن البائع لم يملكه، فلم يتناوله البيع، كما لو كان في أرض مباحة.(7/324)
بل رب الأرض أحق به من غيره(1) لأنه صار في ملكه(2) (ولا) يصح بيع (ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك) لما تقدم(3) وكذا معادن جارية، كنفط، وملح(4) وكذا لو عشش في أرضه طير(5).
__________
(1) قاله الموفق وغيره، وقال ابن القيم: بل يكون أولى به من كل أحد، وما فضل منه لزمه بذله لبهائم غيره وزرعه.
(2) فلا يلزمه أن يبذل إلا الفاضل عن حوائجه، ولا ريب أن الماء يملك بالعمل فيه لا نفس النقع، فإنه لا يملك إذا لم يكن نبع في ملكه، والعمل هو احتفار السواقي وإصلاحها وبعث الآبار وعمارتها، فبهذا تكون مملوكة، وفي الاختيارات، ومن ملك ماء نابعًا كبئر محفورة في ملكه، أو عين ماء في أرضه، فله بيع البئر والعين جميعًا، ويجوز بيع بعضها مشاعًا، وإن كان أصل القناة في أرض مباحة، فكيف إذا كان أصلها في أرضه؟ قال الشيخ: وهذا لا أعلم فيه نزاعا، وإنما تنازعوا لو باع الماء دون القرار، وفي الصحة قولان، ومذهب مالك والحنفية الصحة ونص الشافعي على أنه يملك.
(3) أي في قوله: «الناس شركاء في ثلاث، في الماء، والكلأ ، والنار» بل يكون أولى به من غيره، ولو سبق غيره، وعن أحمد: يجوز وهو مذهب مالك، والشافعي، إذا كان في أرض عادة ربها ينتفع بها، وفي الاختيارات، يجوز بيع الكلأ ونحوه الموجود في أرضه، إذا قصد استنباته، والكلأ بإثبات الهمزة: العشب، رطبًا كان أو يابسًا، و«الشوك» واحدته شوكة.
(4) أي ولا يصح بيع معادن جارية، وهي ما إذا أخذ منه شيء خلفه غيره، كنفط وهو دهن معدني، وملح جار، وكقار، لأن نفعه يعم، فلم يملك كالماء العد، فإن كان جامدا ملك بملك الأرض.
(5) أو نضب الماء عن سمك في أرضه، لم يصح بيعه، ما لم يجزه.(7/325)
لأنه لا يملكه به، فلم يجز بيعه(1) (ويملكه آخذه) لأنه من المباح(2) لكن لا يجوز دخول ملك غيره بغير إذنه(3) وحرم منع مستأذن بلا ضرر(4) (و) الشرط الخامس (أن يكون) المعقود عليه (مقدورًا على تسليمه)(5).
__________
(1) أي لا يملكه بمجرد وجوده في أرضه، قبل حيازته، فلم يصح بيعه للخبر.
(2) أي يملك آخذ ما نبت في أرض الغير، من كلأ، وشوك، ونحوه، بحوزه، لأنه من المباح أخذه بالشرع، ومضت العادة بذلك من غير نكير.
(3) استدراك من قوله: ويملكه آخذه فإنه أفاد المنع من دخول أرض الغير، لأجل ما ذكر، بلا إذنه، وهو مقيد بما إذا كانت الأرض محوطة لتعديه، أما إذا لم تكن محوطة، جاز الدخول بلا إذنه، بلا ضرر على رب الأرض، قال ابن القيم: يجوز دخول الأرض المملوكة لأخذ الماء والكلأ لأنه له حقا في ذلك، ويحرم منعه، ولا يتوقف دخول على الإذن، إنما يحتاج إليه في الدار، إذا كان فيها سكن اهـ وطلول بأرض تجنى منها النحل ككلأ وأولى، ونحل رب الأرض أحق به، لأنه في ملكه، قال الشيخ: ولا حق على أهل النحل لأهل الأرض، لأنه لا ينقص من ملكهم شيئًا.
(4) للخبر: ويدخل قهرًا والحالة هذه، قال في القواعد: ومتى تعذر الاستئذان بغيبة مالكه أو غيرها، أو استئذن فلم يأذن سقط الإذن، كما في الولي في النكاح.
(5) أي تسليم المبيع حال العقد، وكذا الثمن المعين لخبر «نهى عن بيع الغرر» وهو أصل من أصول الشرع، ولغيره من الأحاديث.(7/326)
لأن ما لا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم، فلم يصح بيعه(1) (فلا يصح بيع آبق) علم خبره أو لا(2) لما روى أحمد عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن شراء العبد وهو آبق»(3) (و) لا بيع (شارد(4) و) لا (طير في هواء) ولو ألف الرجوع(5) إلا أن يكون بمغلق، ولو طال زمن أخذه(6).
__________
(1) إذ المعدوم لا يصح بيعه بالإجماع في الجملة، فكذا شبيهه، ولأن عدم القدرة على التسليم غرر، فيحرم البيع ولا يصح.
(2) أي سواء علم المشتري مكان الآبق أو جهله، ولو قدر على تحصيله.
(3) وللنهي عن بيع الغرر، وبيع ما ليس عندك، ومنه بيع الآبق.
(4) كجمل، وكفرس غائر ونحوهما، علم مكانهما أو لا، ولو لقادر على تحصيله كالآبق، لأنه ظن مجرد، لا ينافي تحقق عدمه، ولا ظنه.
(5) لأنه غير مقدور على تسليمه، فبيعه غرر، وقد نهى الشارع عن بيع الغرر ، وأجمعوا على النهي عنه لأنه إن قدر عليه كان المشتري قد قمر البائع، حيث أخذ ما له بدون قيمته، وإن لم يقدر عليه، كان البائع قد قمر المشتري ، وفي كل منهما أكل مال بالباطل، فهو قمار، وفي الإنصاف: يجوز إذا كان يألف الرجوع، قال في الفنون: هو قول الجماعة، وقال الموفق: يجوز بيع النحل في كوراته، ومنفردًا عنها، إذا رئي وعلم قدره قال الشيخ: وهذا يقتضي أنه اشتراط العلم فقط، وأنه يصح بيعه طائرا كالعبد الخارج من المنزل، وهو أصح اهـ وعلى قياسه الطائر الذي له منزل يرجع إليه في العادة.
(6) أي إلا أن يكون الطير في مكان مغلق، فيصح بيعه، ولو طال زمن أخذه، لأنه مقدور على تسليمه.(7/327)
(و) لا بيع (سمك في ماء) لأنه غرر(1) ما لم يكن مرئيا بمحوز يسهل أخذه منه(2) لأنه معلوم، يمكن تسليمه(3) (ولا) يصح بيع (مغصوب من غير غاصبه، أو قادر على أخذه) من غاصبه(4) لأنه لا يقدر على تسليمه(5) فإن باعه من غاصبه، أو قادر على أخذه صح، لعدم الغرر(6).
__________
(1) وقد نهى الشارع عن بيع الغرر، والنهي يقتضي الفساد، والغرر ما طوي عنك علمه، وخفي عليك باطنه، أو ما كان مترددا بين الحصول وعدمه، فكل بيع كان المقصود منه مجهولا، أو معجوزا عنه، غير مقدور عليه غرر، وقال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز بيع الغرر، كالضالة، والآبق، والطير في الهواء، والسمك في الماء.
(2) أي ما لم يكن السمك مرئيا في ماء محوز، في نحو بركة، وحوض، يشاهده فيه، غير متصل بنهر، يسهل أخذه من ذلك الموضع فيصح بيعه.
(3) يعني إذا كان في نحو بركة يشاهده، وسهل أخذه، فيصح بيعه، لانتفاء الغرر، ولو طال زمن تحصيله، فإن لم يسهل، بحيث يعجز عن تسليمه لم يصح البيع.
(4) وعبارة غيره: ولا يصح بيع مغصوب إلا لغاصبه، لانتفاء الغرر، أو لقادر على أخذه منه، فيصح وإلا فلا، والمراد: إذا باعه راضيا، ولم يمنعه حتى باعه، فيصير حكمه حكم بيع المكره بلا حق.
(5) أي لأن البائع، لا يقدر على تسليم المغصوب، فلم يصح البيع.
(6) وإمكان القبض الذي هو أحد شروط البيع.(7/328)
فإن عجز بعد فله الفسخ(1) (و) الشرط السادس: (أن يكون ) المبيع (معلوما) عند المتعاقدين(2) لأن جهالة المبيع غرر(3) ومعرفة المبيع إما (برؤية) له(4) أو لبعضه الدال عليه(5) مقارنة أو متقدمة بزمن لا يتغير فيه المبيع ظاهرًا(6)
__________
(1) أي فإن طرأ العجز عن تحصيل المغصوب بعد العقد، خير بين الإمضاء والفسخ، لأنه إذا ظن القدرة ثم تبين عدمها حال العقد، فالبيع غير صحيح، فإن اختلفا في العجز حال البيع أو طروئه بعده، فالقول قول المشتري.
(2) أي الشرط السادس، من شروط البيع، التي لا يصح إلا بها، أن يكون المبيع معلومًا عند المتعاقدين، البائع والمشتري، معروفًا بينهما.
(3) والغرر منهي عنه، وتقدم أن من الغرر: كل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ويفسر بما لا تعلم عاقبته، وبالخداع الذي هو مظنة أن لا يرضى به عند تحققه، فيكون من أكل المال بالباطل.
(4) أي ومعرفة المبيع، تحصل بأحد شيئين، إما برؤية لجميع المبيع، إن لم تدل بقيته عليه، كالثوب المنقوش.
(5) أي أو تحصل معرفة المبيع برؤية لبعضه، الدال على بقيته، كرؤية أحد وجهي ثوب غير منقوش وظاهر الصبرة المتساوية، ووجه الرقيق، وما في ظروف أعدال من جنس واحد، متساوي الأجزاء، لحصول العلم بالمبيع بذلك، وانتفاء الغرر، ويستثنى ما يدخل تبعًا، وما يتسامح بمثله، إما لحقارته، أو للمشقة، في تمييزه، أو تعيينه، كأساسات البنيان، والقطن المحشو في الجبة وذلك بالإجماع.
(6) مقارنة أو متقدمة بالجر، صفتان لرؤية، ويصح نصبهما أي: ويحصل
معرفة المبيع برؤية مقارنة العقد، بأن لا تتأخر عنه، أو برؤية متقدمة العقد، بزمن لا يتغير فيه المبيع، تغيرًا ظاهرًا، لحصول العلم بالمبيع بتلك الرؤية، ولا حد لذلك الزمن، إذ المبيع منه ما يسرع تغيره، وما يتباعد وما يتوسط فيعتبر كل بحسبه وقال الوزير: اتفقوا على أن العين إذا كانا رأياها وعرفاها، ثم تبايعا بعد ذلك، أن البيع جائز، ولا خيار للمشتري، إن رآها على الصفة التي عرفها فإن تغيرت فله الخيار.(7/329)
.
ويلحق بذلك ما عرف بلمسه، أو شمه أو ذوقه(1) (أو صفة) تكفي في السلم(2) فتقوم مقام الرؤية، في بيع ما يجوز السلم فيه خاصة(3).
__________
(1) أي ويلحق بمعرفته بالرؤية ما عرف من المبيع بلمسه، أو عرف بشمه، أو عرف بذوقه، لحصول معرفته بذلك، كرؤيته ولانتفاء الجهالة.
(2) أي: أو يكون المبيع معلومًا بصفة تكفي في السلم، بأن يذكر ما يختلف به الثمن غالبًا، وفي الإقناع، نوعان بيع عين معينة غائبة، كعبدي التركي، ويذكر صفاته، أو حاضرة مستورة كأمتعة في ظروفها، والثاني موصوف غير معين، كعبد تركي، ويصفه بشرط قبض المبيع، أو ثمنه في مجلس العقد، وقال الشيخ: تارة يصفه بقوله، وهذا هو المعروف، وتارة يقول: هو مثل هذا فيجعل له مثالا يرد إليه، فإن هذا كما لو وصفه، وأولى اهـ ومعرفة الشيء بمثله أتم.
(3) أي تقوم صفة المبيع مقام الرؤية، في بيع ما يجوز السلم فيه خاصة، كالمكيل، والموزون والمعدود، والمذروع الذي يمكن وصفه، وهذا مذهب الجمهور، قال الشيخ: وجوازه مع الصفة أعدل الأقوال، ويصح تقدم الوصف على العقد.(7/330)
ولا يصح بيع الأنموذج(1) بأنه يريه صاعا مثلا، ويبيعه الصبرة على أنها من جنسه(2) ويصح بيع الأعمى وشراؤه بالوصف(3) واللمس، والشم، والذوق فيما يعرف به كتوكيله(4) (فإن اشترى ما لم يره) بلا وصف(5) (أو رآه وجهله) بأن لم يعلم ما هو(6) (أو وصف له بما لا يكفي سلمًا(7) لم يصح) البيع، لعدم العلم بالمبيع(8) (ولا يباع حمل في بطن(9)
__________
(1) بضم الهمزة، وهو ما يدل على صفة الشيء.
(2) فلا يصح، لعدم رؤية المبيع وقت العقد، وقيل: ضبط الأنموذج كذكر الصفات، فإذا جاء على صفته ليس له رده، وصوبه في الإنصاف.
(3) لما تمكن معرفته بوصفه، فيما يصح فيه السلم، لحصول العلم بحقيقة البيع، وله الخيار في الخلف في الصفة كالبصير.
(4) أي ويصح بيعه وشراؤه باللمس، والشم، والذوق، فيما يمكن معرفته به، بغير حاسة البصر، كما يصح توكيله في بيع وشراء مطلقا اتفاقا.
(5) يكفي في السلم، لم يصح البيع، لجهالة المبيع.
(6) لم يصح البيع للجهالة أيضا، وإن كان رآه قبل.
(7) كأن يذكر ما يختلف به الثمن، على ما يأتي في السلم.
(8) وتقدم أن جهالة المبيع غرر منهي عنه، وحكم ما لم يره بائع حكم مشتر فيما تقدم.
(9) إجماعًا، للنهي عن بيع حبل الحبلة، وبيع المضامين، والملاقيح، وبيع المجر، وهو ما في بطن الناقة.(7/331)
ولبن في ضرع منفردين) للجهالة(1) فإن باع ذات لبن، أو حمل دخلا تبعا(2) (ولا) يباع (مسك في فأرته)(3) أي الوعاء الذي يكون فيه، للجهالة(4) (ولا نوى في تمره) للجهالة(5) (و) لا (صوف على ظهر)(6) لنهيه عليه السلام عنه في حديث ابن عباس(7).
__________
(1) ولكونه معدومًا، وغير مقدور على تسليمه ، ولا يصح بيع الحمل مع أمه، بأن يعقد عليه معها، للعموم، ولا يصح بيع شاة وما في ضرعها من لبن، وقال الشيخ: إن باع لبنًا موصوفا في الذمة، واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة صح، واستدل بخبر: نهى أن يسلم في حائط، إلا أن يكون قد بدا صلاحه.
(2) أي فإن باع شاة، أو بقرة، أو غيرهما ذات لبن، أو ذات حمل ، ولم يتعرض للبن، ولا للحمل في العقد، ودخل اللبن والحمل تبعا للأم، ويغتفر في التبعية، ما لا يغتفر في الاستقلال.
(3) المسك طيب معروف، وفأرته بالهمز ودونه، دم ينعقد في سرة حيوان يسمى غزال المسك، وهو نوع من الظبا، يتميز بهذا الكيس.
(4) أي فأرة المسك، هي الوعاء الذي يكون فيه المسك، ويسمى النافجة، لا يباع المسك فيها للجهالة، كاللؤلؤ في الصدف، ما لم يفتح ويشاهد، فيصح، لعدم الجهالة، واختار ابن القيم وغيره صحة بيعه فيها، لأنها وعاء له يصونه ويحفظه، أشبه ما مأكوله في جوفه، وتجاره يعرفونه، فانتفى الغرر.
(5) بلا خلاف، كبيض في طير ونحوه، إلا إذا بيعا تبعا، ومفهومه، أنه إذا شاهده صح.
(6) هذا المذهب عند بعض الأصحاب.
(7) ولفظه: «نهى أن يباع صوف على ظهر، أو لبن في ضرع» رواه ابن ماجه.(7/332)
ولأنه متصل بالحيوان، فلم يجز إفراده بالعقد، كأعضائه(1) (و) لا بيع (فجل ونحوه)(2) مما المقصود منه مستتر بالأرض (قبل قلعه) للجهالة(3) (ولا يصح بيع الملامسة)(4) بأن يقول: بعتك ثوبي هذا، على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا(5) أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا(6).
__________
(1) فإنه لا يجوز إفرادها بالبيع، وعنه: يصح بيع الصوف على الظهر، بشرط القطع في الحال، وهو مذهب مالك.
(2) كلفت، وجزر ، وقلقاس، وبصل، وثوم ونحوه، والفجل بالضم أرومة معروفة تؤكل.
(3) أي بما يراد منه، وقال الشيخ: يجوز بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه، كاللفت ، والجزر، والقلقاس، والفجل ،والبصل، وشبه ذلك، وهو رواية عن أحمد، وقول بعض الأصحاب، وأصحاب مالك، وغيرهم، قال: وهو الصواب لوجوه، منها أنه ليس من التغرير، وأهل الخبرة يستدلون بظواهره على بواطنه.
(4) للغرر المنهي عنه والجهالة.
(5) وفسرها أبو هريرة بأن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك، ولا ينظر أحدهما إلى ثوب الآخر، ولكنه يلمسه، وفسرت بغير ذلك قال الحافظ: وتفسير أبي هريرة أقعد بلفظ الملامسة، لأنها مفاعلة فتستدعي وجود الفعل، وأجمعوا على تحريمه.
(6) وفسرت بأن يلمس الثوب بيده، ولا ينشره، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن بيع الملامسة والمنابذة باطل، وهو أن ينبذ الثوب أو يلمسه فيجب البيع.(7/333)
(و) لا بيع (المنابذة)(1) كأن يقول: أي ثوب نبذته إلي –أي طرحته- فعليك بكذا(2) لقول أبي هريرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الملامسة والمنابذة» متفق عليه(3) وكذا بيع الحصاة(4) كارمها فعلى أي ثوب وقعت فلك بكذا، ونحوه(5) (ولا) بيع (عبد) غير معين (من عبيده ونحوه)(6).
__________
(1) أي ولا يصح بيع المنابذة، من النبذ وهو الطرح، للجهالة والغرر.
(2) أو: إن نبذت هذا الثوب ونحوه فلك بكذا، أو: متى نبذت هذا الثوب ونحوه فعليك بكذا، وأجمع العلماء على تحريمه.
(3) وفسر أبو هريرة المنابذة، فقال: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، لم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه، وكذا فسرهما أبو سعيد، وقال: ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض، والعلة الغرر، واتفقوا على أنه بيع باطل.
(4) أي وكبيع الملامسة والمنابذة بيع الحصاة محرم، ولا يصح بيعه، لخبر «نهى عن بيع الحصاة»، لما فيه من الجهالة، والغرر، وأفردت لكونها مما يبتاعه أهل الجاهلية، وأضيف البيع إليها لاعتبارها فيه.
(5) كبعتك من هذه الأرض قدر ما تبلغ الحصاة إذا رميتها بكذا، أو يعترض القطيع من الغنم، فيأخذ حصاة ويقول: أي شاة أصابتها فهي لك بكذا، أو هذا بكذا على أني متى رميت هذه الحصاة فقد وجب البيع، وكل هذا ونحوه متضمن لبيع الغرر.
(6) كعبد من عبدين، أو عبد من عبيد، إن لم يوصف بما يكفي في السلم.(7/334)
كشاة من قطيع، وشجرة من بستان، للجهالة، ولو تساوت القيم(1) (ولا) يصح (استثناؤه إلا معينًا)(2) فلا يصح: بعتك هؤلاء العبيد إلا واحدًا، للجهالة(3) ويصح: إلا هذا ونحوه(4) لأنه عليه السلام نهى عن الثنيا إلا أن تعلم؛ قال الترمذي: حديث صحيح(5) (وإن استثنى) بائع (من حيوان يؤكل رأسه، وجلده، وأطرافه صح)(6).
__________
(1) أي قيم العبيد، والشياه، والأشجار، فلا يصح البيع، للغرر المنهي عنه، والقطيع الطائفة من البقر أو الغنم، والغالب أنه من العشرة إلى الأربعين.
(2) أي العبد، أو الشاة أو الشجرة، ونحو ذلك، لينتفي الغرر والجهالة وضابطه أنه لا يصح استثناء ما لا يصح بيعه منفردًا.
(3) أي جهالة الواحد من العبيد، غير معين، وكذا الشاة من القطيع، غير معينة، أو شجرة من بستان مبهمة، وكشيء مثلاً بعشرة دراهم ونحوها إلا ما يساوي درهمًا، لأن استثناء المجهول من المعلوم يصيره مجهولاً، أو صبرة إلا قفيزًا، وعنه: يصح قال في الإنصاف: وهو قوي، ومحل الخلاف، إذا لم يعلما قفزانها وإلا صح.
(4) أي ويصح: بعتك هؤلاء العبيد إلا هذا العبد، لأن اسم الإشارة معينة ومميزة، ونحو ذلك كـ «إلا سالما» ولم يكن ثم غير هذا الاسم.
(5) أي نهى عن الاستثناء المجهول، إلا أن تعلم الثنيا، فيصح البيع، واتفقوا على أنه متى كان المستثنى معلومًا، يعرفانه صح البيع، لانتفاء الغرر.
(6) أي الاستثناء والبيع، في هذه الصورة.(7/335)
لفعله عليه السلام في خروجه من مكة إلى المدينة، ورواه أبو الخطاب(1) فإن امتنع المشتري من ذبحه لم يجبر بلا شرط(2) ولزمته قيمته على التقريب(3) وللمشتري الفسخ بعيب يختص هذا المستثنى(4) (وعكسه) أي عكس استثناء الأطراف في الحكم استثناء (الشحم والحمل) ونحوه(5) مما لا يصح إفراده بالبيع، فيبطل البيع باستثنائه(6).
__________
(1) ولفظه: اشترى أبو بكر وعامر من راعي غنم شاة، وشرطا له سلبها، وفي الفروع: اشترطا له رأسها، وجلدها، وسواقطها، وكذلك كان أصحابه يتبايعون، ولأن الاستثناء استبقاء، وهو يخالف ابتداء العقد، ولو باع ذلك منفردًا لم يصح.
(2) أي فإن امتنع المشتري من ذبح الحيوان المستثنى منه رأسه وجلده، وأطرافه، لم يجبر على ذبحه، لتمام ملكه عليه، وللبائع الفسخ، بلا شرط ذبحه في العقد، لأن الذبح ينقصه، فإن كان اشترط لزم ذبحه، ودفع المستثنى للبائع.
(3) أي ولزمت المشتري قيمة المستثنى من الحيوان على التقريب للبائع، وقال ابن القيم: إذا اشترى رأس المبيع، ولم يذبحه، فإن الصحابة قضوا بشرائه أي برأس مثله في القيمة.
(4) لأن الجسد شيء واحد، يتألم كله بتألم بعضه، فلو وجد في رأسه قرحة مثلاً، فضررها يتعدى لسائر الجسد.
(5) أي استنثاء الشحم من حيوان مبيع مأكول، والحمل من أمة، أو بهيمة مأكولة أو لا، لأنهما مجهولان، وكالكبد، والقلب، ونحوهما، لا يصح استثناؤهما ولا بيعهما منفردتين.
(6) للجهالة، وتقدم النهي عن الثنيا إلا أن تعلم.(7/336)
وكذا لو استثنى منه رطلاً من لحم ونحوه(1) (ويصح بيع ما مأكوله في جوفه، كرمان ، وبطيخ) وبيض(2) لدعاء الحاجة لذلك(3) ولكونه مصلحة، لفساده بإزالته(4) (و) يصح بيع (الباقلا ونحوه) كالحمص، والجوز، واللوز (في قشره)(5) يعني ولو تعدد قشره، لأنه مفرد مضاف فيعم(6) وعبارة الأصحاب: في قشريه(7).
__________
(1) أي وكالشحم واللحم في عدم الصحة استثناء الرطل من اللحم والشحم من مأكول، لجهالة ما يبقى بعده،وفي الإنصاف: يصح بيع حيوان مذبوح، ويصح بيع لحمه فيه، ويصح بيع جلده وحده، هذا المذهب وقدمه في الفروع، واختاره الشيخ وغيره، وقال: يجوز بيعه وجلده، كما قبل الذبح، وكذلك يجوز بيع اللحم وحده، والجلد وحده.
(2) والعمل على ذلك في أسواق المسلمين، من غير نكير.
(3) أي لبيعه كذلك، والحاجة هي الحكمة في مشروعية البيع.
(4) أي ولكون الساتر بما ذكر مصلحة للرمان، والبيض، ونحوه، لفساد ذلك المستتر بإزالة الساتر له.
(5) سواء كان مقطوعًا أو في شجرة، وهو مذهب الجمهور، لعموم النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فإنه دل على الجواز بعد بدو الصلاح، سواء كانت مستورة بغيرها أولا.
(6) أي يعم ما ذكر من الباقلا ونحوه.
(7) أي فلا تنافي لصدق ما ذكر المصنف على ذلك.(7/337)
لأنه مستور بحائل من أصل خلقته أشبه الرمان(1) (و) يصح بيع (الحب المشتد في سنبله)(2) لأنه عليه السلام جعل الاشتداد غاية للمنع(3) وما بعد الغاية يخالف ما قبلها(4) فوجب زوال المنع(5) (و) الشرط السابع (أن يكون الثمن معلومًا) للمتعاقدين أيضا كما تقدم(6).
__________
(1) أي والبيض، ونحوهما، مما مأكوله في جوفه مستتر بقشره، ويصح بيع طلع قبل تشققه، إذا قطع من شجره.
(2) أي المتقوي، المتصلب، في سنبله، مقطوعًا، أو في شجره، والمراد بعد بدو صلاحه، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وغيرهما، وكذا الأرز في قشره، والدخن في غلافه.
(3) يعني في قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أنس: «نهى عن بيع الحب حتى يشتد» متفق عليه، فدل على صحة بيعه بعد اشتداده.
(4) أي ما بعد الغاية، وهو الاشتداد ، يخالف ما قبلها، وهو غايته، فإن قيل: المقرر دخول ما بعد حتى، قيل: ليس على الإطلاق، بل إذا عدمت القرينة، وهنا القرينة قائمة على عدم دخول المشتد في النهي.
(5) وهو عدم صحة البيع، وثبتت صحة بيع الحب المشتد في سنبله ونحوه.
(6) أي في المثمن، وهو إما رؤيته لجميعه مقارنة، أو متقدمة على البيع بزمن لا يتغير معها تغيرا ظاهرًا، أو صفة تكفي في السلم، أو بعضه الدال عليه، أو شم أو ذوق أو مس.(7/338)
لأنه أحد العوضين، فاشترط العلم به كالمبيع(1) (فإن باعه برقمه) أي ثمنه المكتوب عليه(2) وهما يجهلانه أو أحدهما، لم يصح للجهالة(3) (أو) باعه (بألف درهم ذهبًا وفضة) لم يصح(4) لأن مقدار كل جنس منهما مجهول(5).
__________
(1) أي كما يشترط العلم بالمبيع، وكرأس مال السلم.
(2) أي فإن باع الثوب ونحوه برقمه، أي ختمه لفظا ومعنى، وفسره بثمنه المكتوب عليه، وهو من بيع التولية، فعليه: لا بد أن يكون هو الراقم، أو رقم وهو ينظره.
(3) والغرر لأنه لا بد أن يكون الثمن معلومًا للمتعاقدين، فإن علم المتعاقدان الرقم، صح البيع بلا خلاف، واختار الشيخ: صحة بيع السلعة برقمها، وجوزه أحمد في روايات عنه فيه، وفي معناه قال الشيخ: وقول أحمد: كل ذلك جائز دليل على أنه ذكر صورتين إحداهما: أن يعين الرقم كذا وكذا، والثانية: أن يقول: بزيادة على الرقم كذا وكذا، ولا يعينه، فقال: كل ذلك جائز، ولولا أن الرقم غير معين، لم يكن لسؤالهم وجه، ولا يقول أبو داود: كان لم ير به بأسًا.
(4) وكذا إن باعه بألف، بعضها ذهب، وبعضها فضة، أو قال بألف ذهبًا وفضة، ولم يقل درهما ولا دينارا، لم يصح البيع، وقيل: قوله بألف درهم ذهبا وفضة، لا جهالة فيه، لأنه يئول الأمر إلى أن البيع وقع بألف درهم، وهو المعلوم من الفضة، إلا أن يكون استعمله في المقدار من الذهب أيضا.
(5) فلم يصح البيع مع الجهالة، لما تقدم من النهي عن الغرر، وقال الشيخ: الذي يقتضيه كلام أحمد أنه إذا باعه بكذا درهما صح، وله نقد الناس، وإن كانت النقود مختلفة فأوسطها، وفي رواية: أقلها ، وكلامه نص لمن تأمله، أن البيع بالنقد المطلق يصح بكل حال.(7/339)
(أو) باعه (بما ينقطع به السعر) أي بما يقف عليه، من غير زيادة لم يصح، للجهالة(1).
(أو) باعه (بما باع) به (زيد وجهلاه(2) أو) جهله (أحدهما لم يصح) البيع للجهل بالثمن(3) وكذا لو باعه كما يبيع الناس(4) أو بدينار أو درهم مطلق، وثم نقود متساوية رواجا(5).
__________
(1) هذا المذهب ، ومنصوص أحمد: يصح اختاره الشيخ، وقال: هو أطيب لنفس المشتري من المساومة، يقول: لي أسوة بالناس، آخذ بما يأخذ به غيري، قال ابن القيم: وهو الصواب المقطوع به، وهو عمل الناس في كل عصر ومصر، وليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب، ولا قياس صحيح، ما يحرمه والمانعون منه يفعلونه، ولا يجدون بدا منه، ولا تقوم مصالح الناس إلا به اهـ والبيع بالسعر له صور إما أن يقول: يعني بالسعر، وقد عرفاه فلا ريب فيه، أو يكون عرف عام أو خاص، أو قرينة تقتضي البيع بالسعر، وهما عالمان فقياس ظاهر المذهب صحته، كبيع المعاطاة، والثالث: إن تبايعا بالسعر لفظا وعرفا، وهما أو أحدهما لا يعلمه صح، ووجه الصحة، إلحاقه بقيمة المثل في الإجارة، إذا دخل الحمام ونحوه.
(2) لم يصح البيع، للجهل بالثمن.
(3) وتقدم أنه لا بد أن يكون الثمن معلوما كالمبيع، سواء جهلاه أو أحدهما.
(4) أي لم يصح البيع، والفرق بينه وبين قوله: أو ما ينقطع به السعر.
أن ما يبيع الناس قد شرعوا في البيع فيه، وما ينقطع به السعر لم يشرع فيه، وأجازهما الشيخ وتلميذه كما مر، وفي الاختيارات، ولو باع ولم يسم الثمن، صح بثمن المثل كالنكاح.
(5) أي أو باعه بدينار أو درهم، مطلق غير معين ولا موصوف وهناك
في البلد نقود من المسمى المطلق متساوية رواجا بفتح الراء، أي نفاقا يعني كلها رائجة لم يصح البيع، لتردد المطلق بينهما لأن الثمن غير معلوم حال العقد.(7/340)
وإن لم يكن إلا واحدًا(1) أو غلب صح، وصرف إليه(2) ويكفي علم الثمن بالمشاهدة، كصبرة، من دراهم أو فلوس(3) ووزن صنجة، وملء كيل، مجهولين(4) (وإن باع ثوبا أو صبرة) وهي: الكومة المجموعة من الطعام(5) (أو) باع (قطيعا كل ذراع) من الثوب بكذا(6).
__________
(1) أي وإن لم يكن في البلد المعقود فيه إلا نقد واحد، صح البيع وانصرف إليه لأنه تعين بانفراده.
(2) لدلالة القرينة الحالية على إرادته، قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا أطلق البيع بالثمن، ولم يعين النقد، انصرف إلى غالب نقد البلد.
(3) أو بر، ولو لم يعلما عددها، ولا وزنها.
(4) عرفا، وعرفهما المتعاقدان بالمشاهدة، كبعتك ونحوه، هذه الدار، بوزن هذا الحجر فضة أو بملء هذا الوعاء، أو الكيس دراهم، صح البيع، ولو كان في موضع فيه كيل معروف، اكتفاء بالمشاهدة، والصنج: شيء يتخذ من صفر، يضرب أحدهما بالآخر.
(5) بلا كيل ولا وزن، جمعها صبار وصبر، وسميت صبرة، لإفراغ بعضها على بعض، وروى الأوزاعي مرفوعًا «من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافًا».
(6) أي بدرهم ونحوه، صح البيع (وكل) بالنصب: بدل من مفعول مقدر، والقطيع: الطائفة من البقر والغنم، وقال ابن سيده: من العشرة إلى الأربعين وقيل: ثلاثون.(7/341)
(أو) كل (قفيز) من الصبرة بكذا(1) (أو) كل (شاة) من القطيع (بدرهم صح) البيع(2) ولو لم يعلما قدر الثوب والصبرة والقطيع(3) لأن المبيع معلوم بالمشاهدة(4) والثمن معلوم، لإشارته إلى ما يعرف مبلغه، بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين(5) وهي الكيل والعد والذرع(6) (وإن باع من الصبرة كل قفيز بدرهم) لم يصح(7) لأن «من» للتبعيض و«كل» للعدد فيكون مجهولا(8).
__________
(1) أي بدرهم ونحوه، صح البيع، والقفيز: ثمانية أرطال بالمكي، ستة عشر بالعراقي، وقيل: ثمانية بالعراقي، وعليه: فهو قفيز الحجاز، وصاع عمر، والقفيز الهاشمي مكوكان، ثلاثون رطلاً عراقيًا.
(2) لمشاهدة البيع، والعلم به.
(3) فإنه لا يضر جهلها، ويحرم على بائع، جعل صبرة على نحو ربوة مما ينصبها، ويثبت لمشتر الخيار إن لم يعلم، لأنه عيب، وإن كان تحتها حفرة لم يعلمها بائع، فله الفسخ.
(4) فانتفت الجهالة وصح البيع.
(5) فصح البيع، للعلم بالثمن والمثمن.
(6) أي كيل الصبرة وذرع الثوب، وعد القطيع، فانتفى الغرر.
(7) البيع، لأنه لم يبعها كلها، ولا قدرًا معلومًا.
(8) لتناوله القليل والكثير، فإن قصدا بـ «من» ابتداء الغاية، أو أنها للبيان صح، بخلاف ما إذا لم يتفقا على قصد ذلك، ويحتمل أن يصح، بناء على قولهم، إذا آجر الدار كل شهر بدرهم، قال ابن عقيل: وهو الأشبه.(7/342)
بخلاف ما سبق، لأن المبيع الكل، لا البعض، فانتفت الجهالة(1) وكذا لو باعه من الثوب كل ذراع بكذا(2) أو من القطيع كل شاة بكذا، لم يصح لما ذكر(3) (أو) باعه (بمائة درهم إلا دينارا) لم يصح(4) (وعكسه) أن باع بدينار أو دنانير إلا درهما، لم يصح(5) لأن قيمة المستثنى مجهولة، فيلزم الجهل بالثمن(6).
__________
(1) يعني في بيع ما سبق، من قوله: وإن باع ثوبا أو صبرة، إلخ، لإسقاطه «من» التبعيضية.
(2) لم يصح البيع لأن «من» للتبعيض.
(3) بالبناء للمجهول، من أن «من» للتبعيض و«كل» للعدد فيكون مجهولا، وفي المحرر وغيره: وإن باع ذراعًا مبهما من أرض، أو ثوب، لم يصح، باتفاق الأئمة، ويصح بيع ما بوعاء مع وعائه موازنة، كل رطل بكذا، ودونه مع الاحتساب بزنته، إن علما مبلغ كل منهما، ويصح جزافا، مع ظرفه ودونه.
(4) قال في الفروع: وفاقا: لأنه قصد استثناء قيمة الدينار مع المائة الدرهم، وذلك غير معلوم، لأنه من غير جنسه، والاستثناء من غير الجنس لا يصح.
(5) وكذا لو باعه سلعة بمائة درهم إلا قفيزا من حنطة، أو غيره مما فيه المستثنى من غير جنس المستثنى منه، لم يصح البيع، ونقله أبو طالب وفاقا.
(6) وإذا كان الثمن مجهولا، لم يصح البيع كما تقدم.(7/343)
إذ استثناء المجهول من المعلوم يصيره مجهولا(1) (أو باع معلوما ومجهولا يتعذر علمه)(2) كهذه الفرس، وما في بطن أخرى(3) (ولم يقل كل منهما بكذا، لم يصح) البيع(4) لأن الثمن يوزع على المبيع بالقيمة(5) والمجهول لا يمكن تقويمه(6) فلا طريق إلى معرفة ثمن المعلوم(7) وكذا لو باعه بمائة ورطل خمر(8).
__________
(1) أي يصير المعلوم مجهولا، بعد أن كان معلومًا، وهذه قاعدة مطردة وإذا تقرر أن ثمن المعلوم مجهول لم يصح البيع.
(2) وتجهل قيمته مطلقا، بحيث لا يتمكن الإطلاع عليها، لم يصح البيع.
(3) وهو المجهول مطلقا، فلا يطمع في قيمته، وقال الموفق وغيره: بغير خلاف نعلمه.
(4) فيهما لعدم اتحاد الصفقة وجهالة الثمن في الحال، حيث لم يقل حال العقد في كل من المعلوم والمجهول، هذا بكذا وهذا بكذا.
(5) أي في نحو ما مثل به ولا بد، والحمل لا يمكن تقويمه، فالمعلوم مجهول الثمن، فلم يصح بيعه.
(6) ولا نزاع في أنه لا يصح بيعه.
(7) لجهالة ثمن المجهول، وقيل: يصح في المعلوم، صوبه في تصحيح الفروع.
(8) لم يصح البيع، لأن الخمر لا قيمة له في حقنا اتفاقا، وما لا قيمة له، ولا ينقسم عليه الثمن، لا يصح مع البيع، وكذا لو باع شيئًا بثمن معلوم وكلب، أو جلد ميتة نجس، لم يصح البيع.(7/344)
وإن قال: كل منهما بكذا، صح في المعلوم بثمنه، للعلم به(1) (فإن لم يتعذر) علم مجهول بيع مع معلوم(2) (صح في المعلوم بقسطه) من الثمن لعدم الجهالة(3) وهذه إحدى مسائل تفريق الصفقة الثلاث(4) والثانية أشير إليها بقوله (ولو باع مشاعًا بينه وبين غيره كعبد) مشترك بينهما(5) (أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء) كقفيزين متساويين لهما(6).
__________
(1) مما سماه للمعلوم من الثمن، بخلاف بيعه الفرس وحملها بكذا، فلا يصح، ولو بين ثمن كل منهما، وتقدم.
(2) كما لو قال: بعتك هذا الثوب وثوبا صبغته كذا، موجودًا عنده، يقدر أن يريه إياه، وكهذا العبد وثوب غير معين.
(3) وبطل في المجهول، لأن المعلوم صدر فيه البيع بشرطه، ومعرفة ثمنه ممكنة بتقسيط الثمن على كل منهما وهو ممكن.
(4) والصفقة في الأصل: المرة من صفق له بالبيع، ضرب بيده على يده، ثم نقلت للبيع، لفعل المتعاقدين ذلك، وفي الاصطلاح أن يجمع بين ما يصح بيعه، وما لا يصح بيعه، في عقد واحد، وتفريقها هو: تفريق ما اشتراه في عقد واحد.
(5) أي بين البائع وشريكه، بغير إذن شريكه، صح البيع في نصيبه، بقسطه من الثمن.
(6) أي للبائع وشريكه، صفقة واحدة، بثمن واحد.(7/345)
(صح) البيع (في نصيبه بقسطه) من الثمن لفقد الجهالة في الثمن، لانقسامه على الأجزاء(1) ولم يصح في نصيب شريكه، لعدم إذنه(2) والثالثة، ذكرها بقوله: (وإن باع عبده وعبد غيره بغير إذنه(3) أو) باع (عبدًا وحرًّا(4) أو) باع (خلاًّ وخمرًا صفقة واحدة) بثمن واحد(5) (صح) البيع (في عبده) بقسطه(6) (وفي الخل بقسطه) من الثمن(7).
__________
(1) ويوزع الثمن عليها، وهو مذهب الجمهور.
(2) أي من شريكه في البيع، وتقدم أنه لا بد أن يكون العقد من مالك أو مأذونًا له فيه، ولمشتر الخيار إن لم يعلم الحال، لتفريق الصفقة عليه.
(3) صفقة واحدة، بثمن واحد.
(4) صفقة واحدة بثمن واحد.
(5) لا بعقدين، ولا بثمنين، فيخرج عن حكم تفريق الصفقة، فمعنى تفريق الصفقة، تفريق ما اشتراه في عقد واحد، وهو أن يجمع بين ما يصح بيعه وما لا يصح بيعه، صفقة واحدة، بثمن واحد، في هذه الصور الثلاث.
(6) دون عبد غيره، ودون الحر، لأن العقد يتعدد بتعدد المبيع، وهذا الفرق بين هذه والتي قبلها فتكون بمنزلة عقدين، ويعطي كل عقد حكم نفسه، وهذا بخلاف حكم الثمن، فإنه لا يتعدد بتعدده إلا إن فصل.
(7) على قدر قيمة المبيعين، ليعلم ما يخص كل منهما، فيؤخذ ما يصح التصرف فيه بقسطه.(7/346)
لأن كل واحد منهما له حكم يخصه(1) فإذا اجتمعا بقيا على حكمهما(2) ويقدر خمر خلا(3) وحر عبدًا، ليتقسط الثمن(4) (ولمشتر الخيار إن جهل الحال) بين إمساك ما يصح فيه البيع بقسطه من الثمن(5) وبين رد المبيع، لتبعيض الصفقة عليه(6) وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه(7) أو باع عبديه لاثنين(8).
__________
(1) لأنه يصح بيعه مفردا، فلم يبطل بانضمام غيره إليه، وتسمية ثمن في مبيع، وسقوط بعضه، لا يوجب جهالة تمنع الصحة.
(2) أي من الصحة فيما تناط به، والفساد فيما يتعلق به.
(3) ليقسط الثمن عليهما، والمراد إذا لم يعلم.
(4) لكون الحر والخمر لا يمكن تقسيط الثمن عليهما، لعدم صحة بيعهما، فيقدر الخمر خلا، والحر عبدا.
(5) لإمكان العلم بالثمن، وانتفاء الغرر.
(6) وإن علم فلا خيار له، لدخوله على بصيرة، ويتجه بطلان البيع مع العلم، كما لو باعه شاة وكلبًا بدينار، أو اشترى بمائة درهم ورطل خمر، ولا خيار لبائع مطلقا، على الصحيح من المذهب، وفي الفائق عن الشيخ: أنه يثبت له الخيار، وإن علما بالخمر ونحوه لم يصح.
(7) بثمن واحد، صح البيع، لأن جملة الثمن معلومة، كما لو كانا لواحد، ويقسط الثمن على قدر القيمة، فيأخذ قدر ما يقابل عبده.
(8) بثمن واحد، لكل واحد منهما عبد، صح البيع، ويقسط الثمن على قيمة العبدين، ويؤدي كل مشتر ما يقابل عبده.(7/347)
أو اشترى عبدين من اثنين(1) أو وكيلهما بثمن واحد صح، وقسط الثمن على قيمتهما(2) وكبيع إجارة، ورهن، وصلح، ونحوها(3).
فصل(4)
(ولا يصح البيع) ولا الشراء (ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني)(5)
__________
(1) بثمن واحد صح البيع، ويأخذ كل ما قابل عبده.
(2) أي على قيمة العبدين، ليعلم ثمن كل منهما، وكذا لو كان لاثنين عبدان فباعاهما لرجلين بثمن واحد، صح وقسط الثمن.
(3) كالهبة والسلم، وغير ذلك من سائر العقود، فيما سبق تفصيله، لأن الإجارة ونحوها بيع للمنافع، فلو آجر داره ودار غيره بإذنه، بأجرة واحدة صحت وقسطت الأجرة على الدارين، وكذا باقي الصور، وقال الموفق وغيره: الحكم في الرهن، والهبة وسائر العقود، إذا جمعت ما يجوز وما لا يجوز، كالحكم في البيع، إلا أن الظاهر فيها الصحة، ولو لم نصحح البيع، لأنها ليست عقود معاوضة فلا توجد جهالة العوض فيها.
(4) أي فيما نهي عنه من البيوع ونحوها.
(5) أي لا يصح ممن تلزمه بنفسه، كالحر، المكلف، المقيم، وقيل: أو بغيره، كالمسافر المقيم مدة لا يقصر فيها، بعد الشروع، في النداء الثاني، الذي عند الخطبة، ولو لم يعلم به، وهو مذهب مالك وغيره، واتفقوا على كراهته، واحترز بقوله: ممن تلزمه، عن المسافر، والمقيم في قرية لا جمعة فيها عليهم، والعبد، والمرأة، ونحوهم، لأن غير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي.
ولو وكل في بيع أو شراء، من لا تلزمه فعقد بعد النداء مع من لا تلزمه جاز، وكره منه مع من تلزمه، لما فيه من الإعانة على الإثم، وتحرم الصناعات، ممن تلزمه، بعد ندائها الثاني، لأنها تشغل عنها، وذريعة إلى فواتها.(7/348)
أي الذي عند المنبر عقب جلوس الإمام على المنبر(1) لأنه الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختص به الحكم(2).
لقوله تعالى: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } (3) والنهي يقتضي الفساد(4) وكذا قبل النداء، لمن منزله بعيد، في وقت وجوب السعي عليه(5) وتحرم المساومة، والمناداة إذًا(6) لأنها وسيلة للبيع المحرم(7) وكذا لو تضايق وقت مكتوبة(8).
__________
(1) لخطبة الجمعة، ولو أذن بعيدًا منه، أو في المكان الذي يؤذن فيه الأول.
(2) أي لأن النداء الثاني، الذي عند المنبر، هو الذي كان على عهده صلى الله عليه وسلم لا النداء الأول، لأنه حادث بعد، أحدثه عثمان رضي الله عنه لما كثر الناس، فاختص الحكم بما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) أي اتركوا البيع، إذا نودي للصلاة، نهى تعالى عن البيع وقت نداء الجمعة، لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها، وخص البيع لأنه من أهم ما يشتغل به المرء من أسباب المعاش، والنهي يقتضي التحريم، وعدم صحة البيع، وكذا الشراء لأن اسم البيع يتناولهما جميعًا، ثم قال تعالى: { ذَلِكُمْ } يعني الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع (خير لكم) من المبايعة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) مصالح أنفسكم.
(4) أي فساد البيع، وهو ظاهر الآية، فلا يصح البيع بعد ندائها الثاني، على الصحيح من المذهب.
(5) وهو الوقت الذي يمكنه إدراكها فيه، وإن كان في البلد جامعان تصح الجمعة فيهما فبسبق أحدهما.
(6) أي وقت وجوب السعي، ويستمر التحريم إلى انقضاء الصلاة، وتحرم أيضًا الصناعات كلها.
(7) يعني المساومة وسيلة للبيع المحرم، الذي هو ذريعة إلى فواتها، والوسائل لها حكم الغايات.
(8) أي ولا يصح البيع إذا تضايق وقت مكتوبة ولو وقت الاختيار، وإن كان متسعًا لم يحرم.(7/349)
(ويصح) بعد النداء المذكور البيع لحاجة، كمضطر إلى طعام، أو سترة ونحوهما، إذا وجد ذلك يباع(1) ويصح أيضا (النكاح ، وسائر العقود)(2) كالقرض، والرهن، والضمان، والإجارة، وإمضاء بيع خيار(3) لأن ذلك يقل وقوعه(4) فلا تكون إباحته ذريعة إلى فوات الجمعة، أو بعضها(5) بخلاف البيع(6) (ولا يصح بيع عصير) ونحوه (ممن يتخذه خمرا)(7).
__________
(1) أي الطعام، أو السترة المضطر إليهما أو المحتاج لهما، ونحوهما كوجود أبيه ونحوه يباع، مع من لو تركه معه لذهب به، أو يبيعه لغيره، وكشراء كفن، لميت خيف عليه، أو مركوب لعاجز ونحو ذلك.
(2) لأن النهي ورد في البيع وحده.
(3) أو فسخه.
(4) ولا يساوي البيع في التشاغل المؤدي لفواتها.
(5) ولو وقت الاختيار.
(6) فلا يصح لأنه ذريعة لتركها، وتقييده بالجمعة يفهم منه صحته لغيرها، ويحرم إذا فاتته الجماعة، وتعذر عليه جماعة أخرى.
(7) أي ولا يصح بيع ما قصد به الحرام، كعصير، وعنب، وزبيب، ونحو ذلك ممن يتخذه خمرا، علم ذلك ولو بالقرائن، أو غلب على ظنه، قال الشيخ وغيره: كمن يؤجر أمة لزنا، أو دارًا لمعصية، قال ابن القيم: القصود في العقود معتبرة، فعصر العنب بنية أن يكون خمرا معصية، وخلاًّ ودبسًا جائز.(7/350)
لقوله تعالى: { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } (1) (ولا) بيع (سلاح في فتنة) بين المسلمين(2) لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه، قال أحمد(3) قال: وقد يقتل به، وقد لا يقتل به(4) وكذا بيعه لأهل حرب(5).
__________
(1) وبيع ما قصد به الحرام من التعاون على الإثم والعدوان، ولحديث «من حبس العنب أيام القطاف، حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا، فقد تقحم النار على بصيرة» وهو مع القصد محرم إجماعًا ويكره مع عدم القصد.
(2) أي ولا يصح بيع سلاح لمن يقتل به، وكذا ترس،ودرع، ونحوه من آلة القتال، في حال فتنة بين المسلمين، وهو من التعاون على الإثم والعدوان.
(3) ولقوله تعالى: { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وقال ابن القيم: قد تظاهرت أدلة الشرع على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده، وفي حله وحرمته، وذكر السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلما، حرام باطل، لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل الله فهو طاعة وقربة.
(4) وإنما هو ذريعة للقتل به، وتعطى الوسائل أحكام المقاصد، في غالب الأحكام فلا يتوقف المنع على القتل به، والتحريم منوط بالعلم، ولو بقرائن، لا بالظن على الصحيح، فإن ظن ولم يتحقق كره وصح، واختار الشيخ: لا يصح ولو ظنا، وهو ظاهر نص أحمد، وصوبه في الإنصاف.
(5) أي وكما أنه لا يصح بيع سلاح ونحوه في فتنة لا يصح بيعه لأهل حرب للمسلمين لأنه إعانة على معصية.(7/351)
أو قطاع طريق، لأنه إعانة على معصية(1) ولا بيع مأكول ومشموم لمن يشرب عليهما المسكر(2) ولا قدح لمن يشرب به خمرا(3) ولا جوز، وبيض لقمار(4) ويحرم أكله ونحو ذلك(5) (ولا) بيع (عبد مسلم لكافر، إذا لم يعتق عليه)(6) لأنه ممنوع من استدامة ملكه عليه(7) لما فيه من الصغار(8).
__________
(1) أي وكذا لا يصح بيع سلاح ونحوه لقطاع طريق، لأن بيعه لهم إعانة على معصية الله، وقد قال تعالى: { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ } والمراد إذا علم ذلك ممن يشتريه، ولو بقرائن.
(2) قال أحمد: إذا كان عندك يريده للنبيذ فلا تبعه اهـ لأن ذلك إثم وعدوان.
(3) لأنه إعانة على المعصية، وإثم وعدوان.
(4) أي ولا يصح بيع جوز، ولا بيع بيض، وبندق، ونحوه لقمار، وهو من الميسر، المنهي عنه في الكتاب والسنة، وكذا بيع غلام لمن عرف بالوطء في الدبر، أو بيع أمة للغناء، للنهي عن بيع المغنيات، ولأن ذلك إثم وعدوان.
(5) كشرائه ممن اكتسبوه لأنه لم ينتقل إلى ملك المكتسب.
(6) ولو كان الكافر وكيلاً لمسلم، لأنه لا يصح أن يشتريه لنفسه، فلم يصح أن يتوكل فيه، و«عبد» بالإضافة، ليعم المسلم والكافر إن كان عبدًا لمسلم، فإن بيع العبد الكافر للكافر لا يجوز على المشهور، لرجاء إسلامه، وصنيع الشارح يقضي بقراءته بالتنوين.
(7) لما يأتي من الآية والخبر.
(8) وإذلال المسلم تحت الرق للكافر.(7/352)
فمنع من ابتدائه(1) فإن كان يعتق عليه بالشراء صح(2) لأنه وسيلة إلى حريته(3) (وإن أسلم) قن (في يده) أي يد كافر(4) أو عند مشتريه منه، ثم رده لنحو عيب(5) (أجبر على إزالة ملكه) عنه(6) بنحو بيع، أو هبة، أو عتق(7) لقوله تعالى: { وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } (8) (ولا تكفي مكاتبته)(9).
__________
(1) أي ابتداء ملك الكافر للمسلم، وهو أولى بالمنع من الاستدامة فلم يصح البيع.
(2) أي الشراء واغتفر هذا الزمن اليسير لأجل العتق.
(3) ولأن ملكه لا يستقر عليه، وهذا قول أكثر الأصحاب، وهو مذهب أبي حنيفة، ومن يعتق عليه هو كل ذي رحم محرم منه.
(4) أجبر على إزالة ملكه عنه.
(5) أي أو أسلم قن عند مشتريه من كافر، ثم رد على الكافر بنحو عيب في القن، أوجب الرد، كغبن، أو نجش، وكذا لو وجد الثمن المعين معيبا فرده ، وكان قد أسلم.
(6) أي عن العبد المسلم من حين القدرة، وإنما ثبت الملك لأن الاستدامة أقوى من الابتداء.
(7) مما يرفع يد الكافر عن المسلم.
(8) فدلت على أنه لا يجوز إبقاء المسلم تحت يد الكافر، ولقوله صلى الله عليه وسلم «الإسلام يعلو ولا يعلى» وغير ذلك.
(9) لأن له تعجيزه، وهو قن ما بقي عليه درهم.(7/353)
لأنها لا تزيل ملك سيده عنه(1) ولا بيعه بخيار، لعدم انقطاع علقه عنه(2) (وإن جمع) في عقد (بين بيع وكتابة) بأن باع عبده شيئًا وكاتبه، بعوض واحد، صفقة واحدة(3) (أو) جمع بين (بيع وصرف)(4) أو إجارة، أو خلع(5) أو نكاح، بعوض واحد(6) (صح) البيع وما جمع إليه(7).
__________
(1) بل يبقى إلى الأداء، ولأنه قد يعجز نفسه.
(2) أي ولا يكفي في إزالة ملك الكافر عن القن المسلم بيعه بخيار، لعدم انقطاع علق الكافر عن الرقيق المسلم، ويدخل أيضًا في ملك الكافر ابتداء بالإرث، وإفلاس المشتري ، وإذا رجع في هبة لولده، وفيما إذا ملكه الحربي، وغير ذلك، ويجبر على إزالة ملكه عنه.
(3) أي بعقد واحد، وبثمن واحد، بطل البيع.
(4) كأن باعه دينارا بثوب وستة دراهم صح، فإن اشترى الثوب بنصف دينار، واشترط عليه أن يصرف النصف الآخر بستة دراهم لم يصح، قال الشيخ: ولا بد أن يكون الثمن من غير جنس ما مع المبيع، مثل أن يبيعه ثوبا ودراهم بذهب، فإن كان من جنسه فهي مثل مسألة (مد عجوة).
(5) بأن باعه عبده، وآجره داره بعوض واحد، أو اشترت منه دارا أو غيرها، واختلعت نفسها بعوض واحد.
(6) كبعتك عبدي، وزوجتك بنتي بألف درهم.
(7) أي صح البيع وما معه من صرف، وإجارة وخلع، ونكاح، وغير ذلك، قال الشيخ: في أظهر قولي العلماء، لأن اختلاف العقدين لا يمنع الصحة، كما لو جمع بين ما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه، ويقسط الثمن على قيمتهما.(7/354)
(في غير الكتابة) فيبطل البيع(1) لأنه باع ماله لماله(2) وتصح هي(3) لأن البطلان وجد في البيع فاختص به(4) (ويقسط العوض عليهما) أي على المبيع وما جمع إليه بالقيم(5) (ويحرم بيعه على بيع أخيه) المسلم(6) (كأن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة)(7).
__________
(1) أي في صورة: ما إذا كاتبه وباعه صفقة واحدة، كبعتك عبدي هذا ، وكاتبتك بمائة درهم.
(2) فالعبد المكاتب ماله، والعبد ونحوه الذي باعه إياه مع الكتابة مال السيد، فلم يصح البيع، ومفهومه أنه لو كاتبه ثم باعه شيئا صح، لأن تصرفه إذا مع سيده كالأجنبي.
(3) أي تصح الكتابة بقسطها من الثمن، لعدم المانع.
(4) ولم يسر إلى الكتابة، لأن اختلاف العقدين لا يمنع الصحة، كما تقدم.
(5) أي وما جمع إلى المبيع من إجارة وصرف، وخلع ونكاح، وكتابة ونحوها، بالقيم، ليعرف عوض كل منهما تفصيلاً، وذلك بأن ينظر إلى قيمة العبد لو بيع وحده، وإلى أجرة الدار ونحوها سنة، لو أجرت وحدها، ويجمع بين عوضيهما، وينسب كل واحد من العوضين إلى مجموع العوضين، ويؤخذ له من المسمَّى بقسطه.
(6) قال الحافظ: لا خلاف في التحريم اهـ واتفق أهل العلم على كراهته، وأبطله مالك،والمذهب عدم صحته.
(7) أو أعطيك خيرًا منها بثمنها، أو يعرض عليه سلعة يرغب فيها المشتري، ليفسخ البيع ويعقد معه.(7/355)
لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يبع بعضكم على بيع بعض»(1) (و) يحرم أيضا (شراؤه على شرائه(2) كأن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة)(3) لأنه في معنى البيع المنهي عنه(4) ومحل ذلك إذا وقع في زمن الخيارين(5).
__________
(1) متفق عليه، ولهما أيضًا لا يبع الرجل على بيع أخيه، والنهي يقتضي الفساد.
(2) أي شراؤه على شراء مسلم، بلا خلاف، ولا يصح ، قال الشيخ: يحرم الشراء على شراء أخيه، وإذا فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة، وأخذ السلعة أو عوضها اهـ، وكذا اقتراضه على اقتراضه، واتهابه على اتهابه، وطلبه العمل من الولايات، ونحو ذلك، لما فيه من الإضرار بالمسلم، والإفساد عليه.
(3) لإدخاله الضرر على أخيه المسلم، بما بذل من الزيادة بنحو ما ذكر.
(4) يعني في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يبع بعضكم على بيع بعض» «ولا يبع الرجل على بيع أخيه» والبيع: يشمل البيع والشراء، كما تقدم، فيدخل في عموم النهي.
(5) أي خيار المجلس، وخيار الشرط، واختار الشيخ، وابن القيم، وابن رجب، وغيرهم، التحريم،ولو فات زمن الخيار، لأن ذلك يورث عداوة بين المسلمين.
وذكر الشيخ: أن كلام أحمد، وقدماء أصحابه يدل عليه، لأنه يتسبب إلى ردها بأنواع من الطرق، المقتضية لضرره، وأما قبل العقد فهو سومه على سومه.(7/356)
(ليفسخ) المقول له العقد (ويعقد معه)(1) وكذا سومه على سومه(2) بعد الرضا صريحا لا بعد ردٍّ(3).
__________
(1) أي ليفسخ المقول له العقد في صورة ما إذا قيل للمشتري، أنا أعطيك مثلها بتسعة؛ وفي صورة ما إذا قيل للبائع، عندي فيها عشرة، ونحو ذلك ويعقد هذا القائل مع المشتري والبائع، ويدخل الضرر على أخيه المسلم.
(2) أي وكما يحرم بيعه على بيع أخيه، يحرم سومه على سومه، لقوله «ولا يسم على سومه» وفصله عما قبله بكلمة «كذا» تنبيهًا على عدم اتصافه بكل ما اتصف به ما قبله، والسوم: أن يتفق مالك السلعة، والراغب فيها، على البيع، ولم يعقداه، فيقول الآخر للمالك: استرده، فأنا أشتريه بأكثر، وللمستام: رده، لأبيعك خيرا منه بثمنه؛ أو مثله بأرخص وإن كان تصريحًا فقال الحافظ: لا خلاف في التحريم، وليس المراد السوم في السلعة التي تباع في سوق من يزيد، فلا يحرم بالاتفاق، لما في السنن، «من يزيد على درهم؟» وفي الصحيحين، في قصة المدبر «من يشتريه مني؟» عرضه للزيادة، ولم يزل المسلمون يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة.
وقال الشيخ: لو قيل إنه في بيوع المزايدة: ليس لأحدهما أن يفسخ، لما فيه من الضرر بالآخر، كان متوجهًا، لأنه لو لم يقبل أمكنه أن يبيع الذي قبله، فإذا قبل ثم فسخ كان قد غر البائع، بل يتوجه، كقول مالك إنه في بيع المزايدة إذا زاد أحدهما شيئا لزمه، ألا ترى أنه في النجش إذا زاد غر المشتري، فكذلك هنا إذا زاد فقد غر البائع، وقد نهي عن أنواع من العقود، لما فيها من الضرر بالغير، فعلى قياسه ينهى عن الفسوخ التي فيها ضرر للبائع.
(3) أي يحرم سومه على سوم أخيه بعد الرضا صريحًا، من المالك والمستام، وركون أحدهما إلى الآخر، واستقرار الثمن، لا بعد رد من المالك أو المستام
فلا يحرم، لعدم المحذور، قال الشيخ: يفرق فيه بين الركون وعدمه، ولهذا جاز بيع المزايدة، لأن البائع طلب المزايدة فلم يركن.(7/357)
(ويبطل العقد فيهما) أي في البيع على بيعه(1) والشراء على شرائه(2) ويصح في السوم على سومه(3) والإجارة كالبيع في ذلك(4) ويحرم بيع حاضر لبادٍ(5).
__________
(1) وهو إعطاء مشتري سلعة بعشرة، مثلها بتسعة.
(2) وهو أخذ السلعة المشتراة بتسعة بعشرة، وتقدم أنه لا يصح، وأبطله مالك في الصورتين ونحوهما، وقال الشيخ: للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة، وأخذها أو عوضها.
(3) أي ويصح العقد مع التحريم، في مسألة السوم على سوم أخيه، لأن المنهي عنه السوم لا البيع.
(4) وسائر العقود، وطلب الولايات ونحوها، بحيث تختلف جهة المالك ونحوه، لأنه ذريعة إلى التباغض والتعادي، فيحرم أن يؤجر أو يستأجر على مسلم، ولا يصح، ولا يسوم على سومه للإجارة وغيرها، بعد الرضا صريحًا، للإيذاء.
(5) الحاضر المقيم في المدن، والقرى، والبادي المقيم بالبادية، لقوله «ولا يبع حاضر لباد» وفسره ابن عباس بقوله: لا يكون له سمسارًا، أي دلاَّلاً يتوسط بين البائع والمشتري، وفي لفظ: «وإن كان أخاه لأبيه وأمه» وفي لفظ «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» وكما أنه لا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي، كذلك، لا ينبغي أن يشتري له، وفي لفظ «أن تبيعوا وتبتاعوا» ولفظ البيع يتناول الشراء، وليس كالبيع له في التضييق على الناس.(7/358)
ويبطل إن قدم لبيع سلعته، بسعر يومها(1) جاهلاً بسعرها(2) وقصده الحاضر(3) وبالناس حاجة إليها(4) (ومن باع ربويا بنسيئة) أي مؤجل(5) وكذا حال لم يقبض(6) (واعتاض عن ثمنه ما لا يباع به نسيئة)(7).
__________
(1) أي ويبطل البيع بشروط خمسة: أحدها إن قدم البادي والمراد به الغريب، سواء كان من البادية أو غيرها، لبيع سلعة، لا لخزنها أو أكلها وأن يكون بسعر يومها، لأنه إذا قصد بيعها بزائد على ذلك، كان المنع من جهته.
(2) لأنه إذا علمه لم يزده الحاضر على ما عنده.
(3) أي العارف بالسعر، أما إذا كان جاهلاً أولاً، أو كان القاصد البادي فلا محذور.
(4) أي وأن يكون بالناس حاجة إلى تلك السلعة، وهو الخامس، فإن فقد شيء مما ذكر، لم يوجد الذي من أجله نهى الشارع، وهو التضييق، وصح البيع ومفهومه أنه إن لم يباشر له البيع، بل أشار إليه عدمت الحرمة، فإن استشاره جاهل بالسعر، وجب بيانه، لوجوب النصح لكل مسلم.
(5) ويقال: باعه بنسيئة بآخرة، ونسأه أخره، والربوي: كل مكيل وموزون ويأتي.
(6) أي ومثل من باع ربويًّا بنسيئة في الحكم، من باع بثمن حال لم يقبض، واستنكر بعضهم القبض، وقال: ليس بشرط، وفي الإنصاف وغيره، بثمن حال.
(7) لم يجز، وقال ابن القيم: إما أن يواطئه على الشراء منه لفظا، أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك، أو لا يكون، فإن كان الأول فباطل، وإن لم تجر بينهما مواطأة، لكن قد علم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه ربويًّا بربوي
فكذلك، وإن قصد البائع الشراء منه بعد البيع، ولم يعلم المشتري، فكرهه أحمد وغيره، والمتقدمون حملوا المنع على التحريم.(7/359)
كثمن بُرٍّ اعتاض عنه برًّا، أو غيره من المكيلات لم يجز(1) لأنه ذريعة لبيع ربوي بربوي نسيئة(2) وإن اشترى من المشتري طعامًا بدراهم، وسلمها إليه، ثم أخذها منه وفاء(3) أو لم يسلمها إليه، لكن قاصه جاز(4).
__________
(1) وكذا لو اشترى بثمن الموزون موزونًا لم يجز، قال الشيخ: لا يجوز أن يبتاع منه بالثمن ربويًّا لا يباع بالأول نسأ، لأن أحكام العقد الأول لا تتم إلا بالتقابض، فإذا لم يحصل صار ذريعة إلى الربا، وقال: الأظهر أنه إذا كان أرفق بالمشتري، مثل أن لا يكون عنده إلا حنطة يحتاج أن يبيعها ويوفيه بثمنها،وإعطاؤه الحنطة أرفق به، جاز، وإلا فلا، والمراد والله أعلم ولم يكن مواطأة لما تقدم.
(2) ويكون الثمن المعوض عنه بينهما كالمعدوم، لأنه لا أثر له، والطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة، المشروعة، التي لا خداع فيها، ولا تحريم، ولا يصح أن يلحق بها صورة عقد لم تقصد حقيقته، وإنما قصد التوصل به إلى استحلال ما حرم الله، بتسمية ثمن تلبيسا وخداعا، ووسيلة إلى الربا.
(3) أي عن ثمن الربوي الأول جاز.
(4) حيث سقط عن كل واحد منهما ما يلزمه للآخر، ولا يحتاج لرضاهما كأن يشتري منه صاعا بدرهم مؤجلا، ثم يشتري البائع من المشتري صاعا بدرهم مثلا، فيكون لكل واحد منهما على صاحبه درهم، فيتقاصان، بأن يقول أحدهما: أسقط الذي علي من الذي عليك، وإن عين الدرهم، بأن قال: اشتريت منك صاعًا بالدرهم الذي عندك لم يصح.(7/360)
(أو اشترى شيئًا) ولو غير ربوي (نقدًا بدون ما باع به نسيئة)(1) أو حالا لم يقبض، (لا بالعكس لم يجز)(2) لأنه ذريعة إلى الربا، ليبيع ألفًا بخمس مائة(3) وتسمى مسألة العينة(4) وقوله: لا بالعكس ، يعني: لا إن اشتراه بأكثر مما باعه به، فإنه جائز(5).
__________
(1) لم يجز للأحاديث والآثار المتظاهرة، في المنع من عود السلعة إلى البائع، وإن لم يتواطأ على الربا، سدًّا للذريعة، ويأتي أنه معنى البيعتين في بيعة المنهي عنه.
(2) أي البيع بدون ما باع به نسيئة، وعبارة الإنصاف: بثمن حال، أي: قبض أو لم يقبض، فليس القبض شرطًا.
(3) ويتحيل إلى الربا بما هو في الصورة ليس بربا، وجزم جمهور العلماء بالتحريم، وعدم الصحة مطلقا، وقالت عائشة في قصة أم ولد زيد بن أرقم وأمه : بئس ما اشتريت قال الشيخ: متى قال صاحب الدين للغريم: إما أن تقلب وإما أن تقوم معي إلى الحاكم، وهو معسر، فقلب على هذا الوجه، كانت المعاملة حرامًا، غير لازمة باتفاق المسلمين، فإن الغريم مكره عليها بغير حق.
(4) لأن مشتري السلعة إلى أجل، يأخذ بدلها عينًا، نقدًا حاضرًا، والآثار المتظاهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم العينة، تدل على المنع، منها قوله: «إذا تبايعتم بالعينة» وقوله «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» والعينة عند من يستعملها إنما يسميها بيعًا، وهو حيلة ومكر، وخبر «إنما الأعمال بالنيات» أصل في إبطال الحيل.
(5) كأن باعه بمائة فاشتراه بمائتين.(7/361)
كما لو اشتراه بمثله(1) وأما عكس مسألة العينة، بأن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة فنقل أبو داود: يجوز بلا حيلة(2) ونقل حرب أنها مثل مسألة العينة(3) وجزم به المصنف في الإقناع(4) وصاحب المنتهى(5) وقدمه في المبدع، وغيره(6) قال في شرح المنتهى: وهو المذهب(7) لأنه يتخذ وسيلة للربا، كمسألة العينة(8).
وكذا العقد الأول فيهما، حيث كان وسيلة إلى الثاني، فيحرم ولا يصح(9)
__________
(1) أي فإنه جائز، جزم به في الفروع وغيره، لانتفاء الربا المتوسل إليه به.
(2) ونقل المروذي، بأكثر لا بأس، والحيلة في ذلك هو التوصل إلى الربا، بما هو في الصورة ليس بربا.
(3) أي إن اشتراه بأكثر مما باعه به نسيئة، لأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا، قال ابن القيم: فهو كمسألة العينة سواء، وهي عكسها صورة، وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقدًا، لكن في إحدى الصورتين: البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى المشترى هو الذي اشتغلت ذمته فلا فرق بينهما.
(4) ولفظه: وعكسها مثلها، أي عكس مسألة العينة، وهو أن يبيع السلعة أولا بنقد يقبضه، ثم يشتريها من مشتريها بأكثر من الأول من جنسه نسيئة، أو لم يقبض ، مثلها في الحكم، لأنه يتخذ وسيلة إلى الربا.
(5) وعبارته كعبارة صاحب الإقناع، وهي قوله: وعكسها مثلها.
(6) كالفروع.
(7) أي على ما اصطلحوه.
(8) أي إذا اشتراه بأكثر، فهو مثل مسألة العينة إذا اشتراه بأقل، لأنه ذريعة إلى بيع مائة بمائة وخمسين مثلاً.
(9) أي وكذا العقد الأول، في مسألة العينة وعكسها، حيث كان الأول وسيلة إلى العقد الثاني، يحرم ولا يصح إذا أوقع الأول، ليتوصل به إلى الثاني وذكر الشيخ أنه يصح الأول، إذا كان بتاتًا بلا مواطأة، وإلا بطلا، وذكر أنه قول أحمد، ومذهب أبي حنيفة، ومالك، قال في الفروع: ويتوجه أنه مراد من أطلق.
ولما ذكر ابن القيم الصورتين، وصورة التورق، قال: وللعينة صورة رابعة وهي أخت صورها، وهي أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة، ونص أحمد على كراهة ذلك، فقال: العينة أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس، قال ابن عقيل: إنما كره ذلك لمضارعته الربا وعلله الشيخ، بأنه يدخل في بيع المضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة؛ وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرًا من التجار.
قال: وللعينة، صورة خامسة وهي أقبح صورها، وأشدها تحريمًا، وهي أن المترابيين يتواطآن على الربا، ثم يعمدان إلى رجل عنده متاع، فيشتريه منه المحتاج، ثم يبيعه للمربي بثمن حال، ويقبضه منه ثم يبيعه إياه للمربي بثمن مؤجل، وهو ما اتفقا عليه، ثم يعيد المتاع إلى ربه، ويعطيه شيئا، وهذه تسمى الثلاثية وإن كانت بينهما خاصة فهي الثنائية.(7/362)
(وإن اشتراه) أي اشترى المبيع في مسألة العينة أو عكسها (بغير جنسه)(1).
بأن باعه بذهب، ثم اشتراه بفضة(2) أو بالعكس(3) (أو) اشتراه (بعد قبض ثمنه(4) أو بعد تغير صفته)(5) بأن هزل العبد، أو نسي صنعته، أو تخرق الثوب(6) (أو) اشتراه (من غير مشتريه)(7) بأن باعه مشتريه، أو وهبه ونحوه(8) ثم اشتراه بائعه ممن صار إليه جاز(9) (أو اشتراه أبوه) أي: أبو بائعه (أو ابنه) أو مكاتبه، أو زوجته (جاز) الشراء(10).
ما لم يكن حيلة على التوصل إلى فعل مسألة العينة(11)
__________
(1) أي بغير جنس ثمنه، سواء كان بأقل أو أكثر، واختار الموفق وغيره: لا يجوز لأنهما كالشيء الواحد، في معنى الثمنية وصوبه في الإنصاف، وإن كان حيلة فقياس المذهب البطلان.
(2) أو بعرض صح، أو باعه بعرض، ثم اشتراه بنقد، صح البيع.
(3) بأن باعه بفضة، ثم اشتراه بذهب أو بعرض، وفي الإنصاف: لو اشتراها بعرض، أو كان بيعها الأول بعرض، فاشتراها بنقد جاز، قال الموفق: لا أعلم فيه خلافًا، وإن كان بنقد، واشتراها بنقد آخر، فاختار الموفق أنه لا يجوز وصوبه في الإنصاف.
(4) أي باع السلعة، وقبض ثمنها، ثم اشتراها صح، لأنه لا توسل به إلى الربا.
(5) بما ينقصها ولا حيلة جاز.
(6) ونحو ذلك، كأن قطعت يد العبد.
(7) أي اشترى المبيع بائعه بنسيئة، ولم يقبض الثمن من غير مشتري المبيع منه بنسيئة.
(8) أو ورث عنه، ونحو ذلك من أي سبب من أسباب الانتقال.
(9) ولو بنقد أقل من ثمنه الأول.
(10) أي لهم،وصح، لأن كل واحد منهم كالأجنبي، بالنسبة إلى الشراء.
(11) أي ما لم يكن شراء الأب، وما عطف عليه حيلة، بأن يكون شراؤهم له، وقال ابن القيم: ومن الحيل المحرمة الباطلة: التحيل على جواز مسألة العينة، مع أنها حيلة في نفسها على الربا، وجمهور الأئمة على تحريمها.
وقد ذكر أرباب الحيل لاستباحتها عدة حيل، منها: أن يحدث المشتري في السلعة حدثًا تنقص به، فحينئذ يجوز لبائعها أن يشتريها بأقل مما باعها به، ومنها: أن تكون السلعة قابلة للتجزؤ، فيمسك منها جزءًا ويبيعه بقيمتها، أو يضم إلى السلعة منديلاً ونحوه، فيملكه المشتري، ويبيعه السلعة بما يتفقان عليه من الثمن، أو يبيعه السلعة ويضم إلى ثمنها خاتما ونحوه.
ولا ريب أن العينة على وجهها أسهل من هذا التكليف، وأقل مفسدة، وإن كان الشارع قد حرم مسألة العينة لمفسدة فيها، فإن المفسدة لا تزول بهذه الحيل، بل هي بحالها، وانضم إليها مفسدة أخرى أعظم منها، وهي مفسدة المكر والخداع، واتخاذ أحكام الله هزوا.(7/363)
ومن احتاج إلى نقد، فاشترى ما يساوي مائة بأكثر، ليتوسع بثمنه فلا بأس(1).
وتسمى مسألة التورق(2) ويحرم التسعير(3)
__________
(1) بأن يشتري ما يساوي مائة بأكثر قليلا، وقدره بعضهم بخمسين، إلى سنة مثلا، ويختلف باختلاف الأحوال والأوقات، قيل لأحمد: إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك قال: إذا كان ذلك أجل إلى سنة أو أقل بقدر الربح، فلا بأس به، وقال: بيع النسيئة إذا كان مقاربًا فلا بأس، قال الشيخ: وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل، لأنه شبه بيع المضطر
الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص، وينبغي أن لا يربح عليه إلا كما يربح على غيره، وله أن يأخذ بالقيمة المعروفة بغير اختياره.
(2) من الورق وهي الفضة، لأن مشتري السلعة يبيعها بها، فإن مقصوده أخذ الورق، فينظر السلعة كم تساوي نقدا، فيشتريها إلى أجل، ثم يبيعها في السوق نقدا، قال الشيخ: وهذا مكروه في أظهر قولي العلماء، وفي الإنصاف: وعنه يحرم: اختاره الشيخ، وقال: إذا لم يكن للمشتري إلى السلعة حاجة، بل حاجته في الذهب والورق، فيشتريها ليبيعها بالعين الذي احتاج إليها، فإن أعادها إلى البائع فهو الذي لا يشك في تحريمه، وإن باعها لغيره بيعا تاما، ولم تعد إلى الأول بحال، فقد اختلف السلف في كراهته، ويسمونه التورق.
(3) وهو أن يأمر الوالي الناس بسعر لا يجاوزونه، وحكي الوزير الاتفاق على كراهته، ويكره الشراء به، وقال ابن القيم: التسعير منه ما هو محرم، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس، وإكراههم بغير حق، على البيع بشيء لا يرضونه، أو منعهم مما أباح الله لهم، فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة على عوض المثل فهو جائز بل واجب.
فالأول مثل ما روى أنس قال: غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: سعر لنا، فقال: «إن الله هو المسعر، القابض ، الباسط» الحديث فإذا كانوا يبيعون سلعهم على الوجه المعروف، من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء، أو لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الناس أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق.
والثاني مثل: أن يمتنع أرباب السلع من بيعها، مع ضرورة الناس إليها
بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، والتسعير هنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به، ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم: لا تبيعوا إلا بكذا وكذا، ربحتم أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به، ومنع الجمهور أن يحد لأهل السوق حد لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب.
قال: وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير، سعر عليهم، تسعير عدل، لا وكس، ولا شطط، وإذا اندفعت حاجتهم، وقامت مصلحتهم بدونه، لم يفعل، وأوجب الشيخ المعاوضة بثمن المثل، وأنه لا نزاع فيه، لأنه مصلحة عامة لحق الله تعالى، ولا تتم مصلحة الناس إلا بها.(7/364)
.
والاحتكار في قوت آدمي(1) ويجبر على بيعه كما يبيع الناس(2).
__________
(1) أي ويحرم الاحتكار في قوت آدمي، نحو تمر، وبر، لا خل، وعسل، وجبن، ونحوه، لخبر «لا يحتكر إلا خاطئ» والاحتكار: هو الشراء للتجارة وحبسه مع حاجة الناس إليه، والمحتكر هو الذي يتلقى القافلة، فيشتري الطعام منهم ويريد إغلاءه على الناس، وهو ظالم لعمومهم، وقيل: لا فرق بين القوت وغيره.
(2) أي يجبر المحتكر طعام الآدمي أن يبيع طعام الآدميين، كما يبيع الناس ، دفعا للضرر، قال ابن القيم: فيمن يشتري الطعام يريد إغلاءه، هو ظالم لعموم الناس، ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم، بقيمة المثل، عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه، والناس في مخمصة أو سلاح لا يحتاج إليه، والناس محتاجون إليه للجهاد، أو غير ذلك، واختاره الشيخ وغيره، وقال: إذا اتفق أهل السوق على أن لا يتزايدوا في السلعة، وهم محتاجون إليها، ليبيعها صاحبها بدون قيمتها، فإن ذلك فيه من غش الناس ما لا يخفي، وإن كان ثم من يزيد فلا بأس، قال: ويكره أن يتمنى الغلاء.(7/365)
ولا يكره إدخار قوت أهله ودوابه(1) ويسن الإشهاد على البيع(2).
باب الشروط في البيع(3)
__________
(1) سنة أو سنتين، ولا ينوي التجارة، وروي أنه صلى الله عليه وسلم ادخر قوت أهله سنة، ومن ضمن مكانا ليبيع ويشتري فيه وحده، كره الشراء منه بلا حاجة، كجالس على طريق، ويحرم عليه أخذ زيادة بلا حق، قاله الشيخ وغيره.
(2) لقوله تعالى: { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } والأمر فيه للندب لقوله: { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } إلا في قليل الخطر فلا يستحب الإشهاد، للمشقة، قال بعض السلف: التجارة رزق من رزق الله، لمن طلبها بصدق، وفي الحديث «أفضل الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» وقال أحمد: الزم السوق تصل به الرحم، وتعود به على نفسك؛ وقال: لا ينبغي أن يدع العمل، وينتظر ما بيد الناس، وقال عمن فعل هذا ، هم مبتدعة، قوم سوء، يريدون تعطيل الدنيا، قال الشيخ: كسب الإنسان يقوم بالنفقة الواجبة على نفسه وعياله، واجب عليه.
(3) وهي غير الشروط السابقة، فتلك لصحة البيع.(7/366)
والشرط هنا: إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ماله فيه منفعة(1) ومحل المعتبر منها صلب العقد(2) وهي ضربان(3) ذكر الأول منهما بقوله (منها صحيح)(4) وهو ما وافق مقتضى العقد(5).
وهو ثلاثة أنواع:
«أحدها» شرط مقتضى البيع(6) كالتقابض، وحلول الثمن، فلا يؤثر فيه(7) لأنه بيان، وتأكيد لمقتضى العقد، فلذلك أسقطه المصنف(8).
__________
(1) أي غرض صحيح، وتأتي أمثلته.
(2) أي مقارنته له، فلا يصح قبله، وفي الفروع، ويتوجه كنكاح، وقال ابن نصر الله: فلا يضر تقدم الشرط، وكذا نيته، أو اتفقا عليه قبله، على الأصح، وقيل: زمن الخيارين كحالة العقد، فلو ألحق به شرط فاسد لحق به، وترتب عليه حكمه، من إفساد العقد، وفساده.
(3) أي الشروط في البيع وشبهه، مما يشترطه أحد المتعاقدين صنفان، صحيح وفاسد.
(4) لازم ليس لمن اشترط عليه فكه، فإن عدم فالفسخ أو أرش فقد الصفة.
(5) وترتب عليه، ولم يبطله الشرع، ولم ينه عنه، فلازم لخبر «المسلمون على شروطهم» وقال ابن القيم: الأصل في العقود والشروط الصحة، إلا ما أبطله الشارع، ونهى عنه.
(6) بأن يشترطا شيئا يطلبه البيع بحكم الشرع.
(7) أي لا يؤثر الشرط الذي يقتضيه البيع فيه، قال في الإنصاف: بلا نزاع فوجوده من حيث الاشتراط كعدمه، وكذا تصرف كل من متبايعين فيما يصير إليه من ثمن ومثمن، وكرد مبيع بعيب قديم.
(8) لعدم تأثيره في البيع.(7/367)
«الثاني» شرط ما كان من مصلحة العقد(1) (كالرهن) المعين(2) أو الضامن المعين(3) (و) كـ (تأجيل الثمن) أو بعضه إلى مدة معلومة(4).
__________
(1) أي مصلحة تعود على المشترط له، ويصح معه البيع.
(2) بالثمن أو ببعضه، فيصح الشرط، ويدخل في اشتراط الرهن، لو باعه وشرط عليه رهن المبيع على ثمنه فيصح، وقال ابن القيم: هو الصواب في مقتضى قواعد الشرع وأصوله.
(3) بالثمن أو ببعضه وكذا شرط كفيل ببدن مشتر، فيصح الشرط، وليس للبائع طلب الرهن، والضمين، والكفيل بعد العقد، لأنه إلزام للمشتري بما لم يلتزمه.
(4) فيصح الشرط، وإن وفى به لزم البيع، قال ابن القيم: والأمة مجمعة على جواز اشتراط الرهن، والكفيل، والضمين، والتأجيل، والخيار ثلاثة أيام، ونقد غير نقدا لبلد، وقال الشيخ: إن باعه نساء، وشرط إن باعه فهو أحق به بالثمن، جاز البيع والشرط، وبشرط أن يتسرى بها، لا للخدمة، قال أحمد: لا بأس به.
قال الشيخ: وروي عنه نحو العشرين نصا على صحة هذا الشرط، وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط على البائع فعلا أو تركا في المبيع، مما هو مقصود للبائع، أو للمبيع نفسه، صح البيع والشرط، كاشتراط العتق، واختار الشيخ صحة هذا الشرط، بل اختار صحة العقد والشرط في كل عقد، وكل شرط لم يخالف الشرع، لأن إطلاق الاسم يتناول المنجز والمعلق، والصريح، والكناية، كالنذر، وكما يتناوله بالعربية والعجمية.(7/368)
(و) كشرط صفة في المبيع كـ (كون العبد كاتبا(1) أو خصيا، أو مسلما) أو خياطا مثلا(2) (والأمة بكرا) أو تحيض(3) والدابة هملاجة(4) والفهد أو نحوه صيودا فيصح(5).
__________
(1) أي يحسن الكتابة، ويحمل على المتعارف في محل العقد.
(2) أي فلا يقتصر على ما ذكر فقط، بل يصح شرط ذلك وغيره، ككونه فحلا، أو راميا، ونحو ذلك.
(3) أي وكشرط كون الأمة المشتراة بكرا لم تفتض أو تحيض لأنها إن لم تحض طبعا ففقده يمنع النسل، أو ذات صنعة بعينها، ونحو ذلك.
(4) أي وكشرط كون الدابة هملاجة، أي ذات مشية سهلة في سرعة، فيصح الشرط وكذا كونها حاملا.
(5) أي أو شرط كون الفهد ونحوه -كالبازي والصقر- صيودا، أي معدا للصيد فيصح الشرط، وكذا لو شرط أن الأرض خراجها كذا، ونحو ذلك، صح الشرط في كل ما ذكر، لأن الرغبات تختلف باختلاف ذلك، فلو لم يصح اشتراط ذلك ونحوه لفاتت الحكمة التي لأجلها شرع البيع، ويؤيده قوله «المسلمون على شروطهم».(7/369)
فإن وفى بالشرط(1) وإلا فلصاحبه الفسخ(2) أو أرش فقد الصفة(3) وإن تعذر رد تعين أرش(4) وإن شرط صفة فبان أعلى منها فلا خيار(5) (و) الثالث: شرط بائع نفعا معلوما في مبيع، غير وطء ودواعيه(6).
__________
(1) «وفى» بالتخفيف، أي وإن حصل للمشترط شرطه، فلا فسخ، ولزم البيع.
(2) أي وإلا يحصل لصاحب الشرط شرطه، فله الفسخ، لفوات الشرط، ويدخل فيه: شرط الرهن المعين، والضمين المعين، إلا الحيض في الأمة الصغيرة فإنه يرجى مجيئه.
(3) أي فيخير من فات شرطه، بين الفسخ، وبين الإمساك مع أرش فقد الصفة التي شرطها فيقوم المبيع بما يساوي حال وجودها، ثم يقوم بعد فقدها وينزل قيمة فقدها.
(4) أي وإن تعذر على المشتري رد ما وجده فاقد الصفة، بنحو تلف، تعين له أرش فقد الصفة، كالمعيب إذا تلف عند المشتري، ولم يرض بعيبه.
(5) كأن شرط الأمة ثيبا أو كافرة، أو سبطة أو حاملا، فبانت أعلى بأن كانت بكرا أو مسلمة أو جعدة، أو حائلا فلا خيار لمشتر، لأنه زاده خيرا، كما لو شرط العبد كاتبا فبان عالما، ولا يصح اشتراط كون الأمة مغنية، أو الحامل تلد في وقت بعينه، ونحو ذلك مما هو إما محرم، أو لا يمكن الوفاء به.
(6) كمباشرة دون فرج، وقبلة، فلا يصح شرطه، لأنه لا يحل إلا بملك يمين، أو عقد نكاح وقد انتفيا.(7/370)
(نحو أن يشترط البائع سكنى الدار) أو نحوها (شهرا(1) وحملان البعير) أو نحوه المبيع (إلى موضع معين)(2) لما روى جابر: أنه باع النبي صلى الله عليه وسلم جملا، واشترط ظهره إلى المدينة، متفق عليه(3) واحتج في التعليق والانتصار وغيرهما بشراء عثمان من صهيب أرضا، وشرط وقفها عليه وعلى عقبه، ذكره في المبدع(4).
__________
(1) أو أقل أو أكثر، أو البيت شهرا أو سنة، فيصح كما لو باعه دارا مؤجرة ونحوها.
(2) فيصح الشرط، وكذا اشتراط خدمة العبد المبيع مدة معلومة، فإن لم يكن معينا، لم يصح الشراء، وكذا لو شرط بائع نفع غير مبيع، ويفسد البيع، والمبيع بالجر: نعت البعير.
(3) وفي لفظ: واستثنيت حملانه إلى أهلي، وورد بألفاظ أخر، وفيه دليل على جواز البيع، مع استثناء الركوب إلى موضع معين، وهو مذهب جمهور أهل العلم.
(4) أي احتج على صحة هذا الشرط في التعليق، للقاضي أبي يعلى، وفي الانتصار لأبي الخطاب رحمهما الله تعالى، وكذا في عيون المسائل وغيرها، بشراء عثمان بن عفان رضي الله عنه من صهيب أرضا، وشرط وقفها عليه، وعلى عقبه، ذكره في المبدع، والفروع وغيرهما، وقال ابن القيم: لو باع دارا أو عبدا أو سلعة واستثنى منفعة المبيع، مدة معلومة جاز، كما دلت عليه النصوص والآثار، والمصلحة ، والقياس الصحيح.(7/371)
ومقتضاه صحة الشرط المذكور(1) ولبائع إجارة وإعارة ما استثنى(2) وإن تعذر انتفاعه بسبب مشتر فعليه أجرة المثل له(3) (أو شرط المشتري على البائع) نفعا معلوما في مبيع كـ (حمل الحطب) المبيع إلى موضع معلوم (أو تكسيره(4)
__________
(1) أي مقتضى شراء عثمان صحة شرط الوقف ونحوه، والمذهب: عدم جواز ذلك، وذكر الشيخ: أنه يلزم تسليمه، ثم يرده لبائعه، لتستوفي المنفعة قال: وإن شرط تأخير قبضه بلا غرض صحيح لم يجز.
(2) لملكه النفع، كالعين المؤجرة، لمستأجرها إجارتها، وإعارتها لا لمن هو أكثر منه ضررا ومفهومه أن غير البائع إذا شرط له النفع لا يؤجر، ولا يعير، ويفهم منه أنه لو باع مشتر مستثنى نفعه مدة معلومة صح البيع، وكان في يد المشتري الثاني مستثنى النفع، وله الخيار إن لم يعلم.
(3) أي وإن تعذر انتفاع بائع بسبب مشتر، بأن أتلف العين المذكورة أو أعطاها لمن أتلفها، أو باعها، أو الدار هدمها، فعليه أجرة مثله لبائع، لتفويته المنفعة المستحقة، وإن تلفت بغير فعله، ولا تفريطه، لم يضمن شيئا، كما لو تلفت نخلة يستحق البائع ثمرتها، وإن شرط البائع نفع المبيع لغيره مدة معلومة جاز، فإن أم سلمة أعتقت سفينة، وشرطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش واستثناء خدمة غيره في العتق كاستثنائها في المبيع.
(4) أي الحطب المبيع، فيصح الشرط والبيع، فإن لم يعلم لم يصح الشرط، وله الخيار، فلو شرط الحمل إلى منزله، وهو لا يعرف منزله، لم يصح الشرط، وكذا لو شرط بائع نفع غير مبيع، أو مشتر نفع بائع في غير مبيع، لم يصح وفسد البيع.(7/372)
أو خياطة الثوب) المبيع (أو تفصيله)(1) إذا بين نوع الخياطة أو التفصيل(2) واحتج أحمد لذلك بما روى أن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي جرزة حطب، وشارطه على حملها(3) ولأنه بيع وإجارة(4) فالبائع كالأجير(5).
__________
(1) أو جز رطبة مبيعة، أو حصاد زرع ونحوه، بشرط علمه النفع المشروط، وهذا ونحوه من مقتضى البيع، والذي من مصلحته اشتراط رهن، وضمين معين، ونحوه.
(2) فإن لم يبين لم يصح الشرط، وله الخيار، وإن شرط ما ليس في نفس المبيع كأن يشتري منه ثوبا، ويشترط عليه خياطة ثوب آخر لم يصح.
(3) روى بفتح الراء أي روى الإمام أحمد أن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي، والأنباط جيل من الناس، يسكنون العراق «جرزة»بضم الجيم، وإسكان الراء، أي حزمة حطب، وشارطه على حملها، فدل على جواز بيع وشرط، وما روي: نهى عن بيع وشرط، فقال ابن القيم: لا يعلم له إسناد، مع مخالفته للسنة الصحيحة، والقياس، والإجماع، وقال أحمد: إنما النهي عن شرطين في بيع، وهذا بمفهومه يدل على جواز الشرط الواحد، والمراد غير الشرط الفاسد فيبطل، وإن كان واحدا، نص عليه وهو قول أكثر العلماء.
(4) أي باعه الحطب، وأجره نفسه لحمله، أو باعه الثوب، وأجره نفسه لخياطته، وكل من البيع والإجارة يصح إفراده بالعقد، فجاز الجمع بينهما كالعينين.
(5) أي فحكم البائع والحالة هذه حكم الأجير، فلو مات، أو تلف المبيع، قبل عمله فيه ما شرط عليه، أو استحق نفعه، بأن أجر نفسه إجارة خاصة، فلمشتر عوض ذلك النفع، لفوات ما وقع عليه العقد.(7/373)
وإن تراضيا على أخذ أجرته ولو بلا عذر جاز(1) (وإن جمع بين شرطين) من غير النوعين الأولين(2) كحمل حطب وتكسيره، وخياطة ثوب وتفصيله.
(بطل البيع)(3) لما روى أبو داود، والترمذي عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لايحل سلف وبيع(4) ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» قال الترمذي: حديث حسن صحيح(5)
__________
(1) أي وإن تراضيا على أخذ أجرته، أي أخذ العوض، ولو بلا عذر، كتلف المبيع ونحوه جاز، لجواز أخذ العوض عنها مع عدم الاشتراط، فكذا معه، وصورته أن يشتري زيد من عمرو ثوبا، ويشترط زيد على عمرو خياطته، ثم يقول عمرو لزيد: أريد أن أعطيك أجرة الخياطة التي شرطت علي ، وتراضيا على أخذ الأجرة المذكورة جاز.
(2) وهما شرط ما كان من مقتضى البيع، وشرط ما كان من مصلحته، فالأول كاشتراط حلول الثمن، والثاني كرهن وضمين.
(3) إذا كان الجمع بين الشرطين من أحد المتعاقدين، وأما إذا اشترط كل منهما شرطا فلا تأثير، وذكر الخلوتي أنه ظاهر كلام الأصحاب، وقال أحمد: إذا قال: بعتك ثوبي بكذا، وعلي قصارته وخياطته، يصح البيع، وعليه العمل.
(4) أي لا يحل قرض وبيع، بأن يكون أحدهما مشروطا في الآخر، قال أحمد: أن يقرضه قرضا ثم يبايعه بيعا يزايده عليه، وهو فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن، «وكل قرض جر نفعا فهو ربا ويأتي».
(5) «ما ليس عندك» أي في ملكك، والشاهد من الحديث قوله «ولا شرطان
في بيع» فلا يصح الجمع فيه بين شرطين، واتفقوا على عدم صحة ما فيه شرطان ليسا من مقتضى البيع، ولا من مصلحته، وقيل: هو أن يقول: بعتك هذا العبد بألف نقدا، أو بألفين نسيئة، فهذا بيع واحد تضمن شرطين، يختلف المقصود فيه باختلافهما، وهو البيعتان في بيعة.
وقال ابن القيم: عامل عمر الناس على أنهم إن جاءوا بالبذر فلهم كذا، وإلا فلهم كذا، قال: وهذا صريح في جواز: بعتك بعشرة نقدا، أو بعشرين نسيئة، قال: والصواب جواز هذا كله، للنص، والآثار والقياس، وكان ذكر أمثلة يصح تعليقها بالشروط، قال: والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنا ليس عند كثير من الفقهاء، ثم قال: فالصواب الضابط الشرعي، الذي دل عليه النص، أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف حكمه فهو لازم، والشرط الجائز بمنزلة العقد، بل هو عقد وعهد، وكل شرط قد جاز بذله بدون الاشتراط لزم بالشرط اهـ.
والذي عليه العمل أن الشرطين الصحيحين لا يؤثران في العقد، اختاره الشيخ وغيره، وإن كان الشرطان المجموعان من مقتضى البيع، كاشتراط حلول الثمن، مع تصرف كل منهما فيما يصير إليه، صح بلا خلاف، أو أن يكونا من مصلحته، كاشتراط رهن وضمين معينين بالثمن صح.(7/374)
.
والضرب الثاني من الشروط أشار إليه بقوله (ومنها فاسد)(1) وهو ما ينافي مقتضى العقد(2).
وهو ثلاثة أنواع:
«أحدها» (يبطل العقد) من أصله(3) (كاشتراط أحدهما على الآخر عقدا آخر كسلف) أي سلم (وقرض(4) وبيع، وإجارة، وصرف) للثمن أو غيره، وشركة(5) وهو «بيعتان في بيعة» المنهي عنه، قاله أحمد(6)
__________
(1) يحرم اشتراطه في الجملة.
(2) أي حكمه، ووجه المنافاة: أن حكم العقد يقتضي ترف كل بما آل إليه، وشرط ذلك ينافيه.
(3) وحكمه البطلان أنه إذا فسد الشرط وجب رد ما يقابله من الثمن، وهو مجهول، فيصير الثمن مجهولا.
(4) لما تقدم أنه «لا يحل سلف وبيع» وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه لا يجوز بيع وسلف، وهو أن يبيع الرجل السلعة على أنه يسلفه سلفا، أو يقرضه قرضا، وقال ابن القيم: «نهى عن سلف وبيع» لأنه ذريعة إلى أن يقرضه ألفا، ويبيعه سلعة تساوي ثمانمائة بألف أخرى، فيكون قد أعطاه ألفا وسلعة بثمانمائة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو عين الربا.
(5) فالبيع والإجارة كبعتك كذا، على أن تؤجرني دارك بكذا، والبيع والصرف للثمن أو غيره كبعتك هذه الأمة بعشرة دنانير، على أن تصرفها بمائة درهم، وبعتك هذا الثوب، على أن تصرف لي هذه الدنانير بدراهم، والبيع والشركة كبعتك كذا، على أن تشاركني في كذا، فاشتراط ذلك يبطل البيع.
(6) أي ما تضمنه البيع من الشروط المذكورة هو «بيعتان في بيعة» المنهي عنه أي في حديث «نهى عن بيعتين في بيعة» وفيه «فله أوكسهما أو الربا» وفسره أحمد بما تقدم، ورجح غير واحد أنه بيع بثمن واحد بأحد ثمنين مختلفين كما تقدم.
وقال ابن القيم: البيعتان في بيعة هو الشرطان في البيعة، فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة، ثم اشتراها منه بثمانين حالة، فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن
الزائد أخذ بالربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا، بخلاف : بمائة مؤجلة، أو خمسين حالة، فليس هنا ربا، ولا جهالة ولا غرر، ولا ضرر، وإنما خيره بين أي الثمنين شاء.(7/375)
.
«الثاني» ما يصح معه البيع(1) وقد ذكره بقوله (وإن شرط أن لا خسارة عليه(2) أو متى نفق المبيع وإلا رده(3) أو) شرط أن (لا يبيع) المبيع (ولا يهبـ) ـه (ولا يعتقد) ـه(4) (أو) شرط (إن أعتق فالولاء له) أي للبائع(5).
__________
(1) أي ويبطل الشرط المنافي لمقتضى البيع.
(2) أي شرط مشتر على بائع أن لا يخسر في مبيع، وكذا إن شرط ضمان المبيع من بلد إلى بلد، فالبيع صحيح، والشرط باطل، لمخالفته لمقتضى العقد، إذ مقتضاه ملكه واستقلاله، فإن تلف فمن ضمان المشتري، يحط ما زاد به الثمن لأجل الشرط.
(3) أي وإن شرط أنه متى «نفق» بالفتح أي راج المبيع، فربح فيه، وإلا رد المبيع على البائع، بطل الشرط، وصح البيع.
(4) أي لا يفعل واحدا من هذه الأشياء، فالواو بمعنى «أو» وعبر في المنتهى بـ «أو» فمتى شرط ذلك بطل الشرط وحده، والبيع صحيح، إذ مقتضى العقد التصرف المطلق، ويزيد العتق بترغيب الشارع فيه، وفي الاختيارات -فيما إذا شرط أن لا يتسرى بها- قال: لا بأس ومثله: أن لا يبيعه أو لا يهبه، فإذا امتنع المشتري من الوفاء فهل يجبر عليه، أو ينفسخ المبيع؟ على وجهين، وهذا قياس قولنا: إذا شرط في النكاح أن لا يسافر بها، أو لا يتزوج، إذ لا فرق في الحقيقة بين الزوجة والمملوكة.
(5) بطل الشرط وحده، لقصة بريرة، فإنهم أبوا إلا أن يكون لهم الولاء
فقال: «خذيها واشترطي لهم الولاء» قاله زجرا وتوبيخا، يعلم منه أنه قد بين لهم بطلانه، ثم قال: «فإنما الولاء لمن أعتق»(7/376)
(أو) شرط البائع على المشتري (أن يفعل ذلك) أي أن يبيع المبيع، أو يهبه ونحوه(1) (بطل الشرط وحده)(2) لقوله عليه السلام «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط» متفق عليه(3) والبيع صحيح(4) لأنه صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة أبطل الشرط، ولم يبطل العقد(5).
__________
(1) كأن يؤجره، أو يقفه.
(2) وصار وجوده كعدمه، كأن يشترط ضمان المبيع من بلد إلى بلد، والبيع صحيح بشرطه في تلك الصور، وإن تلف المبيع فمن ضمان المشتري، ويحط ما زاد به الثمن لأجل الشرط.
(3) أي من اشترط شرطا ليس في حكم الله وشرعه فهو باطل، ولو شرط مائة شرط، لمخالفته للحق، قال ابن القيم: ليس المراد به القرآن قطعا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، بل علمت من السنة، فعلم أن المراد بكتاب الله حكمه، فإنه يطلق على كلامه،وعلى حكمه، الذي حكم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله، فهو مخالف له، فيكون باطلا، والصواب إلغاء كل شرط خالف حكم الله، واعتبار كل شرط لم يحرمه الله، ولم يمنع منه.
(4) لمفهوم الخبر، ولعود الشرط على غير العاقد.
(5) بل أقره، وقال «اشتريها» مع تصريحه ببطلان الشرط.(7/377)
(إلا إذا شرط) البائع (العتق) على المشتري فيصح الشرط أيضا(1) ويجبر المشتري على العتق إن أباه، والولاء له(2) فإن أصر أعتقه حاكم(3) وكذا شرط رهن فاسد، كخمر، ومجهول(4) وخيار أو أجل مجهولين، ونحو ذلك(5) فيصح البيع، ويفسد الشرط(6).
__________
(1) لخبر بريرة، وهو مذهب جمهور العلماء، ولبنائه على السراية، وتشوف الشرع له، ولو شرط أنه متى دخل ملكه فهو عتيق، ولم يصح الشرط، لأنه ينافي ملك المشتري، بل يشتريه ثم يعتقه، فإن أبى أجبر، لحديث «المسلمون على شروطهم».
(2) أي للمشتري وهذا بناء على أنه حق لله كالنذر، وهو المشهور، ومذهب الجمهور.
(3) أي فإن امتنع المشتري من عتقه أعتقه حاكم عليه، لأنه عتق مستحق عليه، لكونه قربة التزمها كالنذر، وكما يطلَّق على المولي.
(4) أي ومثل الشروط الباطلة شرط رهن فاسد، كخمر، أو خنزير، أو شرط رهن مجهول لم يصح الشرط.
(5) كشرط ضمين، أو كفيل غير معين، وكشرط تأخير تسليمه بلا انتفاع بائع به، وتقدم أنه إن شرط تأخير قبضه بلا غرض صحيح لم يجز، أو كشرط: إن باعه فهو أحق به بالثمن.
(6) لما تقدم من حديث بريرة وغيره، وهو المذهب، ولأن العقد لا يفتقر إلى التأجيل، فلم يبطل البيع، ولجاهل فساد الشرط، وفات غرضه الخيار، وفي الاختيارات: وتصح الشروط التي لم تخالف الشرع، وفي جميع العقود، فلو باعه جارية، وشرط على المشتري أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، صح البيع والشرط.(7/378)
(و) إن قال البائع (بعتك) كذا بكذا (على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث) ليال مثلا(1) أو على أن ترهننيه بثمنه (وإلا) تفعل ذلك (فلا بيع بيننا) وقبل المشتري (صح) البيع والتعليق(2) كما لو شرط الخيار(3) وينفسخ إن لم يفعل(4) (و) «الثالث» ما لا ينعقد معه بيع(5).
__________
(1) وإلا تفعل فلا بيع بيننا، وقبل المشتري، صح التعليق، والبيع، فإن أعطاه الثمن عند الأجل،وإلا فله الفسخ، وإن شرط الإحالة بثمنها، أو شرط المشتري على البائع أن أحيلك بثمنها، والمحال عليه معروف عند العقد صح، فإن لم يف بالشرط، فله خيار الفسخ.
(2) قال في الفروع: يصح شرط رهن المبيع على ثمنه، في المنصوص فيقول: بعتك على أن ترهننيه بثمنه، وكذا إن قال المشتري: اشتريت على أن تسلمني المبيع إلى ثلاث، أو أقل أو أكثر صح.
(3) أي يصح البيع بشرط رهنه على ثمنه، كما يصح لو شرط الخيار المتفق على جوازه.
(4) أي إن لم يعطه أو يرهنه، ولا يحتاج لفسخ، وإن لم يقل: وإلا تفعل فلا بيع بيننا، وفات شرطه، لم ينفسخ البيع إلا بفسخه، فإن باع، وقبض الثمن، واشترط إن رده إلى وقت كذا، فلا بيع صح، حيث لم يقع حيلة ليربح في قرض.
(5) أي النوع الثالث من الشروط في البيع، وهو تعليق البيع، لأن البيع في تلك الصور لم ينعقد من أصله، ولم تدخل السلعة في ملك المشتري والفرق بينه وبين الأول أنه شرط عقد في عقد، والثاني تعليق عقد على شيء فهما شيئان وإن اتفقا في إبطالهما للعقد من أصله.(7/379)
نحو (بعتك إن جئتني بكذا(1) أو) إن (رضي زيد) بكذا(2) وكذا تعليق القبول(3).
(أو يقول) الراهن (للمرتهن: إن جئتك بحقك) في محله (وإلا فالرهن لك، لا يصح البيع)(4) لقوله عليه السلام «لا يغلق الرهن من صاحبه» رواه الأثرم، وفسره أحمد بذلك(5)
__________
(1) لم يصح البيع، لعدم نقل الملك، ولأنه عقد غير مجزوم به، بل معلق، على شرط، أو متردد في ثبوته وعدمه، لأن مجيئه بكذا قد يجيء به، وقد لا يجيء به.
(2) لم يصح البيع، لتعليقه بشرط، بخلاف: على أن أستأمر فلانا وذكر ابن رجب أن أحمد نص على صحة بيع الغائب إن كان سالما، قال: فإن هذا مقتضى إطلاق العقد، فلا يضر تعليق البيع عليه.
(3) كقبلت إن رضي زيد، أو: إن جئتني بكذا، ونحو ذلك، فلا يصح البيع، لأن مقتضى البيع نقل الملك حال التبايع، والشرط هنا يمنعه، وقال الشيخ: يصح البيع والشرط، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
(4) محله بكسر الحاء، أي أجله، أي إن جاء الغريم بحق المرتهن عند الأجل، وإلا فالرهن للمرتهن، مبيعا بما للمرتهن من الدين، لم يصح البيع، لأنه بيع معلق على شرط مستقبل، فلم يصح، هذا المذهب وهو غلق الرهن عندهم رحمهم الله، قال شيخنا: ودلالة الحديث الآتي على صحته، أقرب من الدلالة على البطلان، لأنه لا ينتفع به المالك، فيكون مغلوقا.
(5) أي فسر الإغلاق بما في المتن، وفي النهاية: غلق الرهن غلوقا، إذا بقي في يد المرتهن، لا يقدر راهنه على تحصيله، والمعنى أنه لا يستحقه المرتهن إذا عجز صاحبه عن فكه، أو غلق الرهن استحقاق المرتهن له بوضع العقد، وكان هذا من فعل الجاهلية، أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين، ملكه المرتهن
فأبطله الإسلام، وأما إذا شرطه فالأولى الصحة، فأحمد رهن نعليه عند خباز، وقال: إن جئتك بحقك إلا فهما لك.
قال ابن القيم: وليس في الأدلة الشرعية، ولا القواعد الفقهية، ما يمنع تعليق البيع بالشرط، والحق جوازه، فإن المسلمين على شروطهم إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا،وهذا لم يتضمن واحدا من الأمرين، فالصواب جواز هذا العقد، وهو اختيار شيخنا، وعلى عادته حمل ذلك وفعل إمامنا.(7/380)
.
وكذا كل بيع علق على شرط مستقبل(1) غير : إن شاء الله(2) وغير بيع العربون(3) بأن يدفع بعد العقد شيئا(4).
__________
(1) أي لا يصح، لبقاء العقد متردد فيه، ولما تقدم، وفي الاختيارات: تصح الشروط التي لم تخالف الشرع، في جميع العقود، وعن أحمد نحو العشرين نصا على صحة الشرط، سواء اشترط على البائع فعلا أو تركا في البيع، مما هو مقصود للبائع، أو المبيع نفسه، فيصح البيع والشرط، وتقدم معناه لابن القيم وغيره، ومفهومه أن غير المستقبل صحيح، كبعتك هذا الثوب إن كان ملكي؛ وهو يملكه ويعلمانه لعدم التردد ها.
(2) أي غير قول بائع: بعتك إن شاء الله، وكذا: قبلت إن شاء الله، لأن القصد منه التبرك، لا التردد غالبا، قال شيخنا: فإن هنامشيئة كونية قدرية لا وصول إلى العلم بها، والشرعية إذا نظرنا إليها فهو تنجيز البيع، فأمضاه، فصح.
(3) بالضم وبالتحريك، ويقال: أربون، وأربان، وعربان، سمي بذلك لأنه فيه إعرابا بالعقد، يعني اصطلاحا وإزالة فساد لئلا يملكه غيره.
(4) متعلق بمحذوف وقع خبرا لمحذوف، أي: وذلك حاصل بدفع، والجملة مفسرة.(7/381)
ويقول: إن أخذت المبيع أتممت الثمن،وإلا فهو لك(1) فيصح، لفعل عمر رضي الله عنه(2) والمدفوع للبائع، إن لم يتم البيع(3) والإجارة مثله(4).
(وإن باعه) شيئا (وشرط) في البيع (البراءة من كل عيب مجهول)(5)
__________
(1) أي ما قبضته أيها البائع، سواء عين وقتا أو لا، عند الأكثر، بدل ما فاته من ترك البيع، واشترط بعضهم المدة.
(2) فروي عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان، فإن رضي عمر وإلا فله كذا وكذا، قيل لأحمد: تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر، وعن ابن عمر أنه أجازه، وعن أحمد: لا يصح، وهو مذهب مالك،والشافعي، واختاره أبو الخطاب، قال الموفق: وهو القياس، ولابن ماجه «نهى عن بيع العربون».
(3) وإن تم العقد فالدرهم من الثمن، وإن دفع لبائع قبل العقد درهما، وقال: لا تعقد مع غيري، فإن لم آخذه فالدرهم لك، فإن عقد معه، واحتسب الدرهم من الثمن صح، وإلا رجع بالدرهم، لأنه بغير عوض، ولا يصلح جعله عوضا عن انتظاره ، وتأخيره لأجله، لأنه لا تجوز المعاوضة عنه.
(4) أي مثل البيع، بأن يعقد معه إجارة، ويقول: إن أخذت المؤجر احتسبت بما دفعت من أجرة، وإلا فما قبضته لك، وإن دفع إليه قبل العقد فكبيع أيضا.
(5) لم يبرأ منه، لأنه غرر وغش إن كان يعلمه، وإلا لما فيه من التدليس والتعمية، فإنه قد يفهم من قوله: أنه إنما قاله على وجه الاحتياط لئلا يرجع عليه، فلا يبرأ من عيب لم يبينه، بل حتى يسمى العيب، ويوقفه عليه، قال أحمد:
حتى يضع يده على العيب ، فيقول: أبرأ إليك من ذا، فأما إذا لم يعمد إلى الداء، ولم يوقفه عليه، فلا أراه يبرأ، يرده المشتري بعيبه، لأنه مجهول، فالشرع أقام الشرط العرفي كاللفظي، وذلك السلامة من العيب، حتى يسوغ له الرد بوجود العيب، تنزيلا لاشتراط سلامة المبيع عرفا، منزلة اشتراطها لفظا، قال ابن القيم: ولا يقول: بشرط البراءة من كل عيب، وليقل: وإنك رضيت بها بجملة ما فيها من العيوب التي توجب الرد، أو يبين عيوبا، يدخله في جملتها، وأنه رضي بها كذلك.(7/382)
.
أو من عيب كذا إن كان (لم يبرأ) البائع(1) فإن وجد المشتري بالمبيع عيبا فله الخيار، لأنه إنما يثبت بعد البيع، فلا يسقط بإسقاطه قبله(2).
__________
(1) لأن هذا شرط مجهول، ولو أراه العيب وشاهده لم يبرأ منه، إذا كان ظاهره لا يستلزم الإحاطة بباطنه، وباطنه فيه فساد آخر، كإباق بعبد، وسرقة عظيمة، والمشتري يظنه يسيرا، لم يبرأ حتى يبين له ذلك، قال ابن القيم: إذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه، فأدخله في جملة عيوب ليست موجودة، وتبرأ منها كلها، لم يبرأ حتى يفرده بالبراءة، ويعين موضعه، وجنسه، ومقداره بحيث لا يبقى للمبتاع فيه قول.
قال ابن رشد: وحجة من لم يجز البراءة على الإطلاق أن ذلك من باب الغرر فيما لم يعلمه البائع، ومن باب الغبن والغش فيما يعلمه، وظاهره لا تأثير له في البيع، وأنه صحيح ، قال في الإنصاف، وهو المذهب.
(2) كالشفعة، ولأن البراءة قبل ثبوت الحق لا تجدي شيئا، وسواء كان العيب ظاهرا ولم يعلمه المشتري، أو باطنا، لقصة عبد الله بن عمر في عبد باعه على زيد
بشرط البراءة، فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم هذا العيب؟ قال. لا، فرده عليه.
وقال الشيخ: البراءة من كل عيب باطل، والصحيح الذي قضى به الصحابة، وعليه أكثر أهل العلم أنه إذا لم يكن علم بالعيب فلا رد للمشتري، لكن إن ادعى علمه به، فأنكر البائع، حلف أنه لم يعلم، فإن نكل قضي عليه، قال ابن القيم: وإذا أبطلنا الشرط، فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن السلعة، بالشرط الذي لم يسلم له، فإنه إنما باعها بذلك الثمن، بناء على أن المشتري لا يردها عليه بعيب، وإلا لم يبعها بذلك الثمن، فله الرجوع بالتفاوت، وهذا هو العدل، وقياس أصول الشريعة.(7/383)
وإن سمى العيب(1) أو أبرأه المشتري بعد العقد برئ(2) (وإن باعه دارا) أو نحوها(3) مما يذرع (على أنها عشرة أذرع، فبانت أكثر) من عشرة (أو أقل) منها (صح) البيع(4).
__________
(1) أي سمى بائع لمشتر العيب بأن قال: فيه جرب. مثلا، لا مجرد تسمية فقط، برئ منه لدخوله على بصيرة، ورضاه به بعد علمه به.
(2) أي أبرأ المشتري البائع بعد عقد البيع من العيب، برئ منه، لأنه قد أسقطه بعد ثبوته بالعقد، ولصحة البراءة من المجهول، قال في الاختيارات عللوه بأنه خيار يثبت بعد البيع، فلا يسقط قبله، ومقتضاه صحة البراءة من العيوب بعد عقد البيع، قال الشيخ أبا بطين: لم يذكر هذه العبارة في الفروع، ولا الإنصاف، ولا الإقناع، وإنما قاله ابن نصر الله، ومراده -والله أعلم- إذا لم يكن البائع عالما بالعيب، ويحلف إذا أنكر علمه على نفي العلم.
(3) كبيت وحانوت وثوب.
(4) لأن ذلك نقص على المشتري فلم يمنع صحة البيع كالعيب(7/384)
والزيادة للبائع، والنقص عليه(1) (ولن جهله) أي الحال من زيادة أو نقص (وفات غرضه الخيار)(2) فلكل منهما الفسخ(3) ما لم يعط البائع الزيادة للمشتري مجانا في المسألة الأولى(4) أو يرض المشتري بأخذه بكل الثمن في الثانية(5) لعدم فوات الغرض(6) وإن تراضيا على المعاوضة، عن الزيادة أو النقص جاز(7) ولا يجبر أحدهما على ذلك(8).
وإن كان المبيع نحو صبرة على أنها عشرة أقفزة، فبانت أقل أو أكثر، صح البيع ولا خيار(9) والزيادة للبائع والنقص عليه(10).
باب الخيار
__________
(1) أي الزائد عن العشرة للبائع، لأنه لم يبعه مشاعا في الدار ونحوها والنقص عليه، لأنه التزامه بالعقد.
(2) من بائع ومشتر، ففي البائع ما نقص، وفي المشتري ما زاد.
(3) أي فلكل من بائع ومشتر فسخ المبيع، دفعا لضرر الشركة.
(4) أي بلا عوض، فيما إذا بانت الدار ونحوها أكثر، فيسقط خيار مشتر، لأن البائع زاده خيرا.
(5) وهي ما إذا بانت أقل، ويسقط خيار بائع.
(6) ولانتفاء الضرر عن بائع برضى مشتر به.
(7) لأن الحق لا يعدوهما، وكحالة الابتداء، ولأن الثمن يقسط على كل جزء من أجزاء المبيع، فإذا فات جزء استحق ما قابله من الثمن.
(8) أي لا يجبر بائع ولا مشتر على المعاوضة.
(9) أي لبائع ولا مشتر، لأنه لا ضرر في رد الزائد إن زاد، ولا في أخذ الناقص بقسطه، وهذا بخلاف الأرض ونحوها مما ينقصه التفريق.
(10) أي فيما إذا بانت أكثر من عشرة أقفزة، والنقص عليه إذا بانت أقل من عشرة مثلا، بقدره من الثمن، والمقبوض بعقد فاسد لا يملك به، ولا ينفذ تصرفه فيه، ويضمنه كالغصب، ويلزمه رد النماء المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة بقائه في يده، وإن نقص ضمن نقصه، وإن تلف فعليه ضمانه بقيمته.(7/385)
وقبض المبيع والإقالة(1)
الخيار اسم مصدر اختار(2) أي: طلب خير الأمرين، من الإمضاء والفسخ(3) (وهو) ثمانية (أقسام(4) الأول خيار المجلس) بكسر اللام موضع الجلوس(5).
__________
(1) أي الخيار في البيع، والتصرف في المبيع قبل قبضه، وما يحصل به قبض المبيع، وحكم الإقالة، وما يتعلق بذلك، واقتصر الماتن على الخيار في الترجمة، لأنه معظم ما في الباب، وقبض المبيع، والإقالة زاده الشارح، لأن الماتن ذكر فيه أحكامهما.
(2) يختار اختيارا لا مصدره لعدم جريانه على الفعل، والفرق بين المصدر واسم المصدر، أن المصدر ما لاقى عامله بعد الحروف، وجرى معه في جريانه الخاص، في الحركات، والسكنات، واسم المصدر ما لا قاه من حروفه، ولم يجر معه الجريان الخاص.
(3) أي إمضاء البيع، والتزام عقده أو فسخه بحاكم، أو دونه، وهذا اصطلاح الفقهاء.
(4) باعتبار أسبابه، تعلم بالاستقراء، ذكر الماتن سبعة، وذكر الشارح الثامن، والأصل في مشروعيته حديث ابن عمر وغيره.
(5) أي أصله موضع الجلوس، وإضافته إليه من إضافة الشيء إلى سببه، أي أن سببه في حقهما المجلس، أو الإضافة بمعنى «في» أي خيار في المجلس
والمراد بالمجلس هنا مكان الجلوس، وإن لم يكن متخذا للجلوس بل موضع التبايع كائنا ما كان.(7/386)
والمراد هنا مكان التبايع(1) (يثبت) خيار المجلس (في البيع)(2) لحديث ابن عمر يرفعه «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار(3) ما لم يتفرقا، وكانا جميعا(4)
__________
(1) أي على أي حال كانا.
(2) ولو لم يشترطه العاقد، وهو مذهب جمهور العلماء.
(3) أي إذا أوقعا العقد بينهما، لا إن تساوما بغير عقد، وفي لفظ «البيعان بالخيار».
(4) أي ما لم يتفرق المتعاقدان ببدنيهما، فيثبت لهما خيار المجلس، وكانا جميعا أي وقد كانا جميعا، والمراد أن الخيار ممتد زمن عدم تفرقهما، وللبيهقي «ما لم يتفرقا عن مكانهما» وهو صريح في الدلالة قال أبو برزة وابن عمر: والتفرق بالأبدان، قال الحافظ: ولا يعلم لهما مخالف من الصحابة، وهو قول الجمهور من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، قال النووي: ومن قال بعدمه ترد عليه الأحاديث الصحيحة والصواب ثبوته، كما قال الجمهور.
وقال ابن القيم: أثبت الشارع خيار المجلس في البيع، حكمه ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضى الذي شرطه تعالى فيه بقوله: { عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فإن العقد قد يقع بغتة، من غير ترو، ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة، أن يجعل للعقد حريما، يتروى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما.(7/387)
أو يخير أحدهما الآخر(1) فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع» متفق عليه(2) لكن يستثنى من البيع الكتابة(3) وتولي طرفي العقد(4) وشراء من يعتق عليه(5) أو اعترف بحريته قبل الشراء(6).
__________
(1) أي يشترط أحدهما الخيار مدة معلومة، أو شرطاه معا، وحكاه الوزير اتفاقا، قال الشيخ: يثبت في كل العقود، ولو طالت المدة، وقيل: أو اختار أحدهما إمضاء البيع قبل التفرق، لزم البيع حينئذ وبطل اعتبار التفرق، قال ابن القيم: إذا أسقطا الخيار قبل التفرق سقط على الصحيح، ودل عليه النص.
(2) أي لزم، وتم، ونفذ وفيه «وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع».
(3) أي فلا خيار فيها، لأنها وسيلة للعتق، أو تراد له.
(4) كأن يوكله إنسان على بيع سلعة، ويوكله آخر على شرائها، فلا خيار له، لأنه المتولي للبيع والشراء، وكذا متولي طرفي عقد هبة بعوض، أو متولي طرفي صلح بمعنى البيع، وسائر صور البيع، إذا تولى طرفيها واحد لا خيار فيها، لانفراده بالعقد، كهذه السلعة بكذا، قد اشتريتها من زيد لعمرو بكذا، فلا يمكن أن يفسخ في المجلس، بل يتم العقد لضرورة أن لا مجلس يتفرق فيه، إذ هو شخص واحد، لا يمكن افتراقه فنفذ ولا خيار.
(5) لقرابة، أو تعليق لعتقه بمجرد الانتقال، فكما لو باشر عتقه.
(6) بأن أقر بأنه حر، أو شهد بذلك فردت شهادته، ثم اشتراه، لم يثبت له خيار المجلس، لأنه صار حرا باعترافه السابق، وشراؤه له افتداء واستنقاذ.(7/388)
(و) كالبيع (الصلح بمعناه)(1) كما لو أقر بدين أو عين، ثم صالحه عنه بعوض(2) وقسمة التراضي(3) والهبة على عوض، لأنها نوع من البيع(4) (و) كبيع أيضا (إجارة) لأنها عقد معاوضة، أشبهت البيع(5) (و) كذا (الصرف والسلم) لتناول البيع لهما(6) (دون سائر العقود)(7).
__________
(1) أي الذي بمعنى البيع، وهو ما كان بعوض، فيثبت فيه خيار المجلس.
(2) ثبت في خيار المجلس، لأنه بيع كما يأتي في بابه، وكالشركة فيما إذا أشركه في ملكه بالنصف ونحوه، بقسطه من ثمنه المعلوم، لأنها صورة من صور البيع بتخبير الثمن.
(3) أي هي بمعنى البيع، يثبت فيها خيار المجلس.
(4) إذا كان العوض فيها معلوما، يثبت فيها خيار المجلس، وكل منهما له الإمضاء والفسخ ما داما في المجلس.
(5) فيثبت فيها خيار المجلس، سواء كانت على عين كدار وحيوان، أو نفع في الذمة، كأن استأجره لخياطة ثوب، أو بناء حائط.
(6) أي ويثبت خيار المجلس، في ما قبضه شرط لصحته، كالصرف والسلم والربوي بجنسه، لتناول اسم البيع لذلك، ولأن موضوعه النظر في الأحظ، وهو موجود هنا.
(7) فلا يثبت فيها خيار المجلس، للاستغناء بجوازها، والتمكن من فسخها بأصل وضعها.(7/389)
كالمساقاة، والحوالة، والوقف، والرهن، والضمان(1) (ولكل من المتبايعين) ومن في معناهما ممن تقدم (الخيار(2) ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما) من مكان التبايع(3)فإن كانا في مكان واسع، كصحراء، فبأن يمشي أحدهما مستدبرا لصاحبه خطوات(4).
__________
(1) وكذا المزارعة والأخذ بالشفعة، والإقالة والجعالة، والشركة، والوكالة، والمضاربة ، والعارية والمسابقة، والهبة بغير عوض، والوديعة، والوصية قبل الموت، لأنه لا أثر لرد الموصى له، ولا لقبوله، ولا في النكاح، والخلع والطلاق، والإبراء، والعتق على مال، والكفالة، والصلح عن نحو دم، لأن ذلك ليس بيعا، ولا في معناه، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن خيار المجلس لا يثبت في العقود، التي هي غير لازمة، كالشركة، والوكالة والمضاربة واتفقوا على أنه لا يثبت في العقود اللازمة التي لا يقصد فيها العوض، كالنكاح والخلع والكتابة.
(2) أي خيار المجلس، وفي معنى المتبايعين، المتصالحان، والمتقاسمان، والمؤجر والمستأجر ونحوهم.
(3) بما يعده الناس تفرقا، لإطلاق الشارع التفرق وعدم بيانه، فدل على أنه أراد ما يعرفه الناس، وتقدم أن العرف ما قبلته العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
(4) ثلاثا فأكثر، وقيده في الإقناع بما إذا لم يسمع كلامه المعتاد، وهو أحوط، وعلى القول بلزوم المساقاة والمزارعة، يثبت فيهما خيار المجلس، وقدمه في الإنصاف، وإن اختلفا في التفرق فقول منكر عدمه.(7/390)
وإن كانا في دار كبيرة، ذات مجالس وبيوت، فبأن يفارقه من بيت إلى بيت(1) أو إلى نحو صفة(2) وإن كانا في دار صغيرة فإذا صعد أحدهما السطح، أو خرج منها، فقد افترقا(3) وإن كانا في سفينة كبيرة، فبصعود أحدهما أعلاها، إن كانا أسفل، أو بالعكس(4) وإن كانت صغيرة فبخروج أحدهما منها(5) ولو حجز بينهما بحاجز كحائط(6) أو ناما لم يعد تفرقا، لبقائهما بأبدانهما بمحل العقد(7) ولو طالت المدة(8).
(وإن نفياه) أي: الخيار، بأن تبايعا على أن لا خيار بينهما، لزم بمجرد العقد(9) (أو أسقطاه) أي الخيار بعد العقد (سقط)(10) لأن الخيار حق للعاقد، فسقط بإسقاطه(11).
__________
(1) أو من مجلس إلى مجلس، اختيارا لا إكراها، فلا يسقط اختيارهما، لأن فعل المكره لا يعتبر به شرعا، وكذا لو افترقا فزعا من سيل ونحوه.
(2) أي أو أن يفارقه إلى نحو صفة، أو من صفة إلى بيت ونحوه، بحيث يعد مفارقا له في العرف.
(3) ولو خرج من الباب قريبا، وبعضهما يرى صاحبه.
(4) أي وإن كانا أعلى فبنزول أحدهما أسفل، وإن كان بها نحو مجالس، فمن مجلس إلى مجلس.
(5) ويمشي حيث يعد مفارقا لصاحبه.
(6) لم يعد تفرقا، أو أرخيا بينهما سترا في المجلس، لم يعد تفرقا.
(7) وخيارهما باق، وكذا لو قاما جميعا، ولم يتفرقا فالخيار باق بحاله.
(8) أو أقاما كرها لعدم التفرق فلا يلزم البيع لقوله : «ما لم يتفرقا وكانا جميعا» وخيار المجلس بحاله حتى يتفرقا.
(9) لما تقدم من حديث ابن عمر «فقد وجب البيع» أي لزم، فمتى اختارا أو أحدهما، إمضاء البيع قبل التفرق، لزم البيع حينئذ، وبطل اعتبار التفرق لكل منهما أو أحدهما.
(10) مثل أن يقول كل منهما بعد العقد: اخترت إمضاء العقد، أو التزامه، سقط خيارهما للخبر، قال ابن القيم: إذا أسقطا الخيار قبل التفرق، سقط على الصحيح، ودل عليه النص، ولأنهما عقدا على هذا الوجه.
(11) كالشفعة، والتخاير، في ابتداء العقد، وبعده في المجلس واحد.(7/391)
(وإن أسقطه أحدهما) أي أحد المتبايعين(1) أو قال لصاحبه: اختر سقط خياره(2).
و(بقي خيار الآخر) لأنه لم يحصل منه إسقاط لخياره(3) بخلاف صاحبه(4) وتحرم الفرقة خشية الفسخ(5).
وينقطع الخيار بموت أحدهما لا بجنونه(6) (وإذا مضت مدته) بأن تفرقا كما تقدم(7) (لزم البيع) بلا خلاف(8) القسم (الثاني) من أقسام الخيار، خيار الشرط(9) بـ (أن يشترطاه) أي يشترط المتعاقدان الخيار (في) صلب العقد(10).
__________
(1) سقط خياره وحده.
(2) أي خيار القائل: اختر، لظاهر الخبر السابق.
(3) فلم يبطل حقه من خيار المجلس، كخيار الشرط.
(4) أي الذي أسقط خياره، فسقط بإسقاطه له.
(5) أي تحرم الفرقة من موضع التبايع، بغير إذن صاحبه، خشية فسخ البيع، لحديث عمرو بن شعيب: «ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله» أي يفسخ
البيع، فإن المراد بالاستقالة: فسخ النادم، ويسقط الخيار ويأثم، وما روي عن ابن عمر أنه يمشي هنيهه: فمحمول على أنه لم يبلغه النهي.
(6) أي وينقطع خيار المجلس بموت أحد المتعاقدين لأن الموت أعظم الفرقتين ويبطل بهرب أحدهما من الآخر، ولا يبطل خيارهما بجنون أحدهما، لأن الجنون لا يخرج الملك عن مالكه، بل المال له، وهو على خياره إذا أفاق من جنونه، وظاهره ولو قنا فيما أذن له فيه، ولا يثبت الخيار لولي من جن ، لأن الرغبة لا تعلم إلا من جهته.
(7) أي بأن تفرقا عرفا بأبدانهما.
(8) لقوله: «وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع» وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا وجب البيع، وتفرقا من المجلس من غير خيار، فليس لأحدهما الرد إلا بعيب.
(9) أضيف إليه لأنه سببه، فيثبت للأخبار ولعموم (أوفوا بالعقود) وقال الوزير: اتفقوا على أنه يجوز شرط الخيار للمتعاقدين معا، ولأحدهما بانفراده إذا شرطه.
(10) يعني مع الإيجاب والقبول، لا قبله مدة معلومة، ويصح الشرط بالاتفاق.(7/392)
أو بعده في مدة خيار المجلس، أو الشرط(1) (مدة معلومة ولو طويلة)(2) لقوله عليه السلام «المسلمون على شروطهم»(3).
ولا يصح اشتراطه بعد لزوم العقد(4) ولا إلى أجل مجهول(5) ولا في عقد حيلة ليربح في قرض، فيحرم، ولا يصح البيع(6)
__________
(1) أي أو أن يشترطا الخيار مدة خيار المجلس، قبل التفرق منه، ومدة خيار الشرط، كأن يشترطاه يومين مثلا، فإذا كان في آخر اليومين، اشترطاه أيضا صح، لأنه بمنزلة حال العقد.
(2) فيثبت الخيار فيها، إذا كانت معلومة ويعتبر الطول والقصر بالعرف، قال ابن القيم: يجوز اشتراط الخيار فوق ثلاث، في أصح قولي العلماء، وهو مذهب أحمد ومالك، والقياس المحض: جوازه وفي الاختيارات: يثبت خيار الشرط، في كل العقود، ولو طالت المدة، وللبائع الفسخ في مدة الخيار، إذا رد الثمن وإلا فلا.
(3) أي ثابتون عليها، لا يرجعون عنها، ولعموم (أوفوا بالعقود).
(4) ونفوذه بانقضاء زمن الخيارين، خيار المجلس، وخيار الشرط، فيلغو الشرط ويصح البيع.
(5) فلا يصح الخيار المجهول، سواء كان أبدا، أو مدة مجهولة، أو أجلا مجهولا، أو تعليقا على مشيئة أو نزول مطر ونحوه، ويصح البيع مع فساد الشرط، كما تقدم وفي الاختيارات إن أطلقا الخيار، ولم يوقتاه بمدة، توجه أن يثبت ثلاثا، لخبر حبان بن منقذ.
(6) أي ولا يصح اشتراطه الخيار في عقد حيلة، كأن يبيعه دارا ونحوها بمائة مقبوضة، لينتفع بالدار ونحوها، على أنه متى أتى بالمائة فسخا البيع، وإنما
توصل بالعقد ليربح في قرض، يعني بصورة مقرض حقيقة، وربحه انتفاعه بالمبيع زمن الخيار، فكأنه أقرضه الدراهم التي سميت ثمنا، وشرط عليه الانتفاع بالدراهم مدة القرض، فهو قرض جر نفعا، فيحرم، ولا يصح البيع، لأن حقيقته أن يقول أحدهما: أعطني مائة درهم قرضا وأنتفع بها، وأردها عليك، وأعطيك هذا ونحوه، تنتفع به، وترده علي فيقول الآخر: هذا لا يصح، ولكن
بعني هذا النخل بمائة الدرهم، ولنا الخيار، فإذا انتفعا فسخا البيع، وفي الإنصاف: وأكثر الناس يستعملونه في هذه الأزمنة، ويتداولونه بينهم فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال الشيخ: نص أحمد على أنه إذا كان المقصود باشتراط الخيار أن يستوفي المشتري منافعها، ثم يفسخ البائع العقد ، ويرد الثمن، ويسترجع الدار لم يجز، لأنه بمنزلة أن يدفع إليه المشتري، دراهم قرضا، ثم يأخذها منه ومنفعة الدار اهـ؛ وأما إن أراد أن يقرضه شيئا، وهو يخاف أن يذهب بما أقرضه له، فاشترى منه شيئا وجعل له الخيار مدة معلومة، ولم يرد الحيلة، فقال أحمد: جائز: ولا يصح تصرفهما في ثمن ولا مثمن، كسائر الحيل التي يتوصل بها لمحرم.(7/393)
.
(وابتداؤها) أي ابتداء مدة الخيار (من العقد) إن شرط في العقد(1) وإلا فمن حين اشترط(2) (وإذا مضت مدته) أي مدة الخيار ولم يفسخ، لزم البيع(3).
(أو قطعاه) أي قطع المتعاقدان الخيار (بطل) ولزم البيع، كما لو لم يشترطاه(4) (ويثبت) خيار الشرط (في البيع(5) والصلح) والقسمة والهبة (بمعناه) أي بمعنى البيع(6) كالصلح بعوض عن عين أو دين مقر به(7) وقسمة التراضي(8) وهبة الثواب(9) لأنها أنواع من البيع(10).
__________
(1) كأجل الثمن، لا من حين التفرق.
(2) أي وإن شرطاه بعد العقد زمن الخيارين، فابتداء مدة الخيار من حين اشترط ويبقى إلى أن تنقضي مدته، لقوله صلى الله عليه وسلم«إلا بيع الخيار» أي فإنه يبقى إلى أجله.
(3) لئلا يفضي إلى بقاء الخيار أكثر من مدته المشروطة، وهو لا يثبت إلا بالشرط، وتقدم الاتفاق على لزوم البيع بالتفرق من المجلس من غير خيار وأنه
ليس لأحدهما الرد إلا بالعيب، فكذا إذا انقضت مدة اشتراطه، ليس لأحدها الرد إلا بعيب.
(4) أي الخيار، لأن اللزوم موجب البيع، وإنما تخلف بالشرط، وحيث قطعا الخيار وبطل، لزم العقد بموجبه، لخلوه عن المعارض.
(5) ويبقى حتى تنقضي مدته التي شرطاها أو أحدهما وحكي اتفاقا، ومفهومه أنه لا يثبت فيما سواه، سوى ما استثناه، وقال الشيخ: يثبت خيار الشرط في كل العقود، ولو طالت المدة.
(6) أي يثبت فيها خيار الشرط، جزم به في الفروع وغيره.
(7) أي الدين أو العين وصالحه بمال، بشرط الخيار مدة معلومة، صح الخيار.
(8) وهي ما كان فيها ضرر، أو رد عود لأنها نوع من البيع، فيقول: قبلت ولي الخيار يومين مثلا، لا إجبار، لأنها إفراز لا بيع.
(9) أي الهبة التي فيها الثواب، يعني العوض، كأن يقول: وهبتك هذا الثوب على أن تهبني هذا الدينار.
(10) أي الصلح بعوض، وقسمة التراضي، وهبة الثواب، فصح الخيار فيها كالبيع.(7/394)
(و) في (الإجارة في الذمة) كخياطة ثوب(1).
(أو) في إجارة (على مدة لا تلي العقد)(2) كسنة ثلاث، في سنة اثنتين إذا شرطه مدة تنقضي قبل دخول سنة ثلاث(3) فإن وليت المدة العقد ، كشهر من الآن، لم يصح شرط الخيار، لئلا يؤدي إلى فوات بعض المنافع المعقود عليها(4) أو استيفائها في مدة الخيار(5) وكلاهما غير جائز(6) ولا يثبت خيار الشرط في غير ما ذكر(7) كصرف، وسلم، وضمان، وكفالة(8).
__________
(1) وبناء حائط، بشرط الخيار، لأنه استدراك لغبن، أشبه خيار المجلس.
(2) أي ويثبت خيار الشرط في إجارة عين، مدة لا تلي العقد، إن انقضى أجل الخيار، قبل دخول تلك المدة.
(3) وشرط الخيار نصف سنة مثلا، صح خيار الشرط فيها، لأنها نوع من البيع .
(4) من أجل الشرط.
(5) أي ولئلا يؤدي الشرط إلى استيفاء بعض المنافع في مدة الخيار.
(6) أي فوات بعض المنافع المعقود عليها أو استيفاؤها في مدة الخيار.
(7) أي من البيع، والصلح بعوض، وقسمة التراضي، وهبة الثواب، والإجارة في الذمة، أو على مدة لا تلي العقد، بخلاف خيار المجلس.
(8) أي فلا يصح خيار الشرط في مثل صرف وسلم، وإن صح فيهما خيار المجلس، وإن كانا بيعا فإن من شرط صحتهما التقابض في المجلس، وكذا بيع مكيل بمكيل، وموزون بموزون، لأن موضع هذه العقود على أن لا يبقى بين المتعاقدين علقة بعد التفرق، بدليل اشتراط القبض، وثبوت خيار الشرط فيها
يبقى بينهما علقا، فلا يصح شرطه فيها، وكالوقوف والضمان، والكفالة، ونحو ذلك مما ليس بيعا، ولا في معنى البيع، وعند الشيخ يثبت خيرا الشرط في كل العقود.(7/395)
ويصح شرطه للمتعاقدين(1) ولو وكيلين(2) (وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه صح) الشرط(3) وثبت له الخيار وحده(4) لأن الحق لهما فكيفما تراضيا به جاز(5) (و) إن شرطاه (إلى الغد أو الليل) صح(6).
__________
(1) ويكون على ما شرطاه، لأنه حق لهما، جوز رفقا بهما، فكيفما تراضيا به جاز، ويصح ولو متفاوتا، بأن شرطاه للبائع، يوما وللمشتري يومين مثلا.
(2) أي وكيل بائع ووكيل مشتر، لأن النظر في تحصيل الأحظ مفوض إلى الوكيل، ويكون لكل واحد من المشتري أو وكيله، الذي شرط له الخيار، الفسخ، ومنه: على أن استأمر فلانا يوما، وله فسخه قبله، وإن شرط وكيله لنفسه، دون موكله لم يصح، وإن شرط لنفسه ثبت لهما.
(3) أي لبائع أو مشتر، وكان الخيار على ما شرطاه.
(4) دون صاحبه.
(5) ولأن الحظ لهما، ويصح شرطه في مبيعين، ومعين من مبيعين، بعقد واحد.
(6) أي الشرط أو إلى طلوع الشمس، أو إلى رجب مثلا صح، لأنه معلوم، ولزم البيع.(7/396)
و(يسقط بأوله) أي أول الغد أو الليل(1) لأن «إلى» لانتهاء الغاية، فلا يدخل ما بعدها، فيما قبلها(2) وإلى صلاة، يسقط بدخول وقتها(3) (و) يجوز (لمن له الخيار الفسخ(4) ولو مع غيبة) صاحبه (الآخر(5) و) مع (سخطه) كالطلاق(6).
__________
(1) ففي: أول الغد. بطلوع فجره، و: أول الليل. بإقباله، عند غروب الشمس، و: إلى طلوعها بأول طلوع القرص، وإلى رجب، عند أوله، وإن شك فالخيار باق، حتى يتيقن طلوع الفجر، وغروب الشمس، ودخول الشهر، ونحو ذلك.
(2) أي فلا يدخل الغد ونحوه في المدة، لأن الأصل لزوم العقد، وإنما خولف فيما اقتضاه الشرط، فيثبت ما تيقن منه، دون الزائد.
(3) أي أول وقت صلاة الظهر مثلا، وهو الزوال.
(4) أي فسخ المبيع مدة الخيار، سواء المالك أووكيله، لأن وكيل الشخص يقوم مقامه، غائبا كان الموكل أو حاضرا.
(5) أي العاقد معه، لأن الفسخ حل عقد جعل إليه، فجاز مع غيبة صاحبه، ولا يقبل ممن له الخيار منهما إن اختار أو رد إلا ببينة.
(6) في أن له الطلاق،ولو مع غيبة الزوجة، أو سخطها، كذا أطلقه الأصحاب، وعنه: إنما يملك الفسخ برد الثمن إن فسخ البائع، وجزم به الشيخ كالشفيع، وقال: وكذا التملكات القهرية، قال في الإنصاف: هذا الصواب الذي لا يعدل عنه، خصوصا في زمننا هذا،وقد كثرت الحيل، ويحتمل أن يحمل كلام من أطلق على ذلك.(7/397)
(والملك) في المبيع (مدة الخيارين) أي خيار الشرط، وخيار المجلس (للمشتري)(1) سواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما(2) لقوله عليه السلام «من باع عبدا وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» رواه مسلم(3) فجعل المال للمبتاع باشتراطه(4) وهو عام في كل بيع، فشمل بيع الخيار(5) (وله) أي للمشتري (نماؤه) أي نماء المبيع (المنفصل) كالثمرة(6).
__________
(1) ينتقل إليه بالعقد، وكذا الثمن إلى بائع بالعقد.
(2) أي سواء كان الخيار للمتعاقدين معا أو كان لأحدهما، أيهما كان، إذ المشتري فقط يجوز له بيعه، ولا يؤخذ بالشفعة مدة خيار، وإن قلنا: الملك للمشتري لقصوره، ولمنعه التصرف فيه باختياره فلا يؤخذ ، حتى تنتهي مدة الخيار.
(3) وهو في الصحيحين من حديث ابن عمر، وقال في -الثمرة المؤبرة- «للبالغ إلا أن يشترطها المبتاع» وكل شرط لا ينافي مقتضى العقد، لا ينافي البيع بالاتفاق.
(4) أي اشتراط البائع مال العبد، والثمرة، حصلا للمبتاع بالشرط، فدل على أن المبيع دخل في ملك المشتري بمجرد العقد، ثم هو بعمومه شامل بيع الخيار، دال على جواز الشرط فيه.
(5) ولأن البيع تمليك، بدليل صحته بقوله: ملكتك فيثبت به الملك في بيع الخيار، كسائر البيع.
(6) أي ثمرة الشجرة يشتريها، ثم تثمر بعد عقد البيع، والولد، واللبن، ونحو ذلك.(7/398)
(وكسبه) في مدة الخيارين(1) ولو فسخاه بعد(2) لأنه نماء ملكه، الداخل في ضمانه(3) لحديث «الخراج بالضمان» صححه الترمذي(4) وأما النماء المتصل كالسمن(5) فإنه يتبع العين مع الفسخ، لتعذر انفصاله(6).
__________
(1) أي وكسب العبد المبيع ونحوه للمشتري، ولو حصل في يد بائع قبل قبضه، في مدة خيار المجلس، وخيار الشرط، وهو أمانة عند البائع.
(2) لأن الفسخ رفع للعقد من حين الفسخ، لا من أصله.
(3) أي لأن النماء المنفصل نماء ملك المشتري، الداخل في ضمان المشتري.
(4) أي الخراج مستحق بالضمان وذلك أن المشتري استعمل المبيع، ووجد فيه عيبا فرده، فقال البائع: يا رسول الله خراجه؟ فقال: «الخراج بالضمان» فما يحصل من غلة العين المبتاعة للمشتري، كأن يشتري عينا، ويستغلها زمانا، ثم يفسخ لخيار، أو يعثر على عيب قديم، لم يطلعه البائع عليه، أو لم يعرفه، فله رد العين، وأخذ الثمن، وللمشتري مستغله، فلو كان المبيع تالفا في يده صار من ضمانه ولم يكن على البائع رد.
(5) وتعلم الصنعة، والحمل الموجود وقت العقد، ونحو ذلك.
(6) وقيل: الحمل الموجود وقت العقد مبيع لا نماء، فإذا ردها على البائع بخيار الشرط، لزم رده، لأن تفريق المبيع ضرر على البائع، وبعيب بقسطها، وقال القاضي وابن عقيل: قياس المذهب حكمه حكم الأجزاء، لا الولد المنفصل، فيرد معها، قال ابن رجب: وهو أصح، وجزم به في الإقناع ؛ وقيل: لتحريم التفريق على القولين.(7/399)
(ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في المبيع(1) و) لا في (عوضه المعين فيها) أي في مدة الخيارين (بغير إذن الآخر)(2) فلا يتصرف المشتري في المبيع بغير إذن البائع إلا معه(3) كأن آجره له(4) ولا يتصرف البائع في الثمن المعين زمن الخيارين إلا بإذن المشتري أو معه(5).
__________
(1) أي في مدة الخيارين، خيار المجلس، وخيار الشرط، بغير إذن الآخر، لأنه ليس ملكا للبائع، فيتصرف فيه، ولم تنقطع علقه عنه، فيتصرف فيه المشتري، قال في الإنصاف: نفوذ التصرف ممنوع على الأقوال كلها، صرح به الأكثر لأنه لم يتقدمه ملك.
(2) أي ويحرم ولا يصح تصرف أحدهما في عوض المبيع المعين، في مدة الخيارين، بغير إذن الآخر، أو في ثمن كان في الذمة، ثم صار إلى البائع، في مدة الخيارين، بغير إذن، لأنه ليس ملكا للمشتري فيتصرف فيه، ولم تنقطع علقه عنه، فيتصرف فيه البائع، وتصرفه فيه يدل على اختياره البيع، نظير تصرف المشتري في المثمن، وقال جمع: يحرم التصرف في الثمن كالمثمن، ولم يحكوا في ذلك خلافا، وسواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما.
(3) أي إلا مع البائع، فيصح تصرفه فيه ببيع أو غيره زمن الخيارين ويكون إمضاء له منهما.
(4) أي كأن آجر المشتري المبيع للبائع فيصح، أو باعه السلعة اشتراها منه بشرط الخيار لهما، أو لأحدهما، فيصح، ويكون إمضاء للبيع منهما، وإن تصرف مشتر بإذن بائع نفذ، لأن الحق لا يعدوهما.
(5) أي مع المشتري فيصح، وهو أقوى من الرضى، ويكون إمضاء له منهما
وكذا لو كان الثمن غير معين وقت عقد، ثم قبضه البائع، أو تصرف بإذن صح، وهذا كله فيما إذا كان الإذن ونيته حادثين بعد العقد، لم ينوياه، ولم يريداه في العقد، بل دخلا في البيع على أصله الشرعي، ثم حدث هذا الإذن، وإلا فإن أراده قبل العقد، ودخلا في البيع عليه، وعلى انتفاع المشتري بغلة المبيع، وحرم وبطل البيع لأن الذي يقبضه البائع قرضا، فكان هذا الخيار حيلة ليربح في قرض.(7/400)
كأن استأجر منه به عينا(1) هذا إن كان التصرف (بغير تجربة المبيع)(2) فإن تصرف لتجربته، كركوب دابة لينظر سيرها(3) وحلب دابة ليعلم قدر لبنها ، لم يبطل خياره، لأن ذلك هو المقصود من الخيار(4) كاستخدام الرقيق(5).
__________
(1) أي كأن استأجر البائع عينا من المشتري، بالثمن المعين، أو غير المعين، وقد قبض فيصح.
(2) أي هذا الحكم فيما مر إذا كان التصرف بغير تجربة المبيع وأما ما تحصل به تجربة المبيع كعرضه على البيع وشبهه فلا يحرم ، ولا يتعلق به نفوذ ولا استئذان بل هو مأذون فيه، لدعاء الحاجة إليه.
(3) لم يبطل خياره، لأنه المقصود منه.
(4) يعني الإشراف على حقيقة المبيع، وتأمل أحواله، فلم يبطل به، ولهذا ثبت خيار المصراة، وكالطحن على الرحى، ليعلم كيف طحنها، ونحو ذلك مما تحصل به تجربة المبيع.
(5) أي كما لا يسقط الخيار باستخدام الرقيق، ولو لغير تجربة المبيع، لأن الخدمة لا تختص بالملك، فلم يبطل الخيار بها كالنظر، وحده سبعة أيام على المعروف تجربة، ومشتريه أحوج شيء إلى تجربته باستخدامه فافتقر إلى التجربة.(7/401)
(إلا عتق المشتري) لمبيع زمن الخيار، فينفذ مع الحرمة(1) ويسقط خيار البائع حينئذ(2) (وتصرف المشتري) في المبيع بشرط الخيار له زمنه، بنحو وقف(3) أو بيع، أو هبة(4) أو لمس لشهوة (فسخ لخياره) وإمضاء للبيع، لأنه دليل الرضى به(5).
__________
(1) لقوته، وسرايته ، وتصرف المشتري بما يقتضي لزوم المبيع، وهو العتق، لتشوف الشرع للعتق، ابتداء وتكميلا، فيعتق، ويبطل الخيار ، مع حرمة التصرف على المشتري لما للبائع من الحقوق.
(2) وملكه الفسخ لا يمنع العتق، ولا ينفذ عتقه لمبيع، ولا شيء من تصرفاته فيه، لزوال ملكه عنه، قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا كان المبيع عبدا، والخيار للمشتري خاصة، فأعتقه نفذ، وإن كان للبائع فإنه لا ينفذ.
(3) كإجارة فسخ لخياره، وإمضاء للبيع لأنه دليل رضاه، وإن كان الخيار لهما لم ينفذ من أحدهما إلا بإذن الآخر كالبيع.
(4) أي وتصرف المشتري في المبيع ببيع أو هبة فسخ لخياره، وكذا برهن أو مساقاة ونحو ذلك من أنواع التصرف الذي ليس للتجربة، ولو قال: أنا أجهل أن البيع ونحوه يبطل الخيار، فلايقبل، لأنه دليل الرضى، لعمله أعمالا لا تصدر إلا عن رضى.
(5) أي بإمضاء البيع، وكذا عرضه للبيع، فسخ لخياره، لأنه دليل الرضى به ملكا، أو لينظر قيمته، لأنه تصرف فيه، ورضي به، فكأنه يقول: أسقطت خياري: وأمضيت البيع، ولو قاله لفظا صح، ونص أحمد في فسخ البائع أنه لا ينفذ بدون رد الثمن، واختاره الشيخ، ولأن التسليط على انتزاع الأموال قهرا.
إن لم يقترن به دفع عوض، وإلا حصل به ضرر وفساد، ومتى لم يعطه ماله فليس له خيار.(7/402)
بخلاف تجربة المبيع، واستخدامه (1) وتصرف البائع في المبيع إذا كان الخيار له وحده ليس فسخا للبيع(2) ويبطل خيارهما مطلقا بتلف مبيع بعد قبض(3) وبإتلاف مشتر إياه مطلقا(4) (ومن مات منهما) أي من البائع والمشتري بشرط الخيار (بطل خياره) فلا يورث(5).
__________
(1) أي ولو لغير تجربة، فلا يكون فسخا لخياره كما تقدم.
(2) لأن الملك انتقل عنه فلا يكون تصرفه استرجاعا، كوجود ماله عند من أفلس.
(3) أي ويبطل خيار بائع ومشتر مطلقا، -أي سواء كان خيار مجلس، أو خيار شرط- بتلف مبيع بعد قبض للمبيع، وكذا قبله مما هو من ضمان مشتر، بخلاف نحو ما اشترى بكيل، فيبطل بتلفه، ويبطل معه الخيار.
(4) أي ويبطل خيار بإتلاف مشتر للمبيع مطلقا، أي سواء قبض أو لم يقبض، وسواء اشتري بكيل، أو وزن أولا، لاستقرار الثمن بذلك في ذمته، والخيار يسقطه.
(5) لأن معنى الخيار تخييره بين فسخ وإمضاء، وهو صفة ذاتية، كالاختيار، فلم يورث، كعلمه وقدرته، ولأنه حق فسخ، لا يجوز الاعتياض عنه، فلم يورث، كخيار الرجوع في الهبة.(7/403)
إن لم يكن طالب به قبل موته(1) كالشفعة وحد القذف(2) (الثالث) من أقسام الخيار، خيار الغبن(3) (إذا غبن في المبيع غبنا يخرج عن العادة)(4) لأنه لم يرد الشرع بتحديده، فرجع فيه إلى العرف(5).
__________
(1) فإن كان طالب به قبل موته ورث.
(2) أي فإنها لا تورث إلا بطلب المورث لها، قال أحمد: الموت يبطل به ثلاثة أشياء، الشفعة، والحد إذا مات المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترط له الخيار، لم يكن للورثة هذه الثلاثة الأشياء، إنما هي بالطلب فإذا لم يطلب لم يجب، إلا أن يشهد أنه على حقه من كذا وكذا، وأنه قد طلبه، فإن مات بعده كان لوارثه الطلب به، ولا يشترط في غير خيار الشرط.
(3) بسكون الموحدة، مصدر: غبنه يغبنه، خدعة في البيع، والتغابن أن يغبن بعضهم بعضا، فإذا حصل الغبن فللمغبون الخيار، بين الإمساك والرد، للأخبار وقال ابن رجب: ويحط ما غبن به من الثمن ذكره الأصحاب قال المنقح: وهو قياس خيار العيب والتدليس، وعلى قول اختاره جمع.
(4) وهو أن يبيع ما يساوي عشرة بثمانية، أو يشتري ما يساوي ثمانية بعشرة، وكبيع في غبن إجارة، لأنها بيع المنافع،وكذا صلح وهبة.
(5) فما عده الناس غبنا، ويخرج عن العادة أوجب الخيار، وحده بعضهم بالثلث، وهو مذهب مالك، وقيل: بالربع، وقيل: بالسدس، وقيل: بمجرد الغبن، لحديث «لا ضرر، ولا ضرار» وحديث «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه» وغير ذلك، والمغبون لم تطب نفسه، فإن لم يخرج عن عادة، فلا فسخ، لأنه يتسامح به، وقال الوزير: اتفقوا على أن الغبن في المبيع بما لا يفحش لا يؤثر في صحته.(7/404)
وله ثلاث صور(1) إحداها تلقي الركبان(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار» رواه مسلم(3).
__________
(1) أي للغبن الذي يثبت به الخيار ثلاث صور، للأخبار، ولو كان وكيلا، قبل إعلام موكله، وأما غبن أحد الزوجين في مهر مثل، فلا فسخ فيه.
(2) جمع راكب، وهو في الأصل: راكب البعير، ثم اتسع فيه، فأطلق على كل راكب، والمراد بهم هنا القادمون من السفر بجلوبة، وإن كانوا مشاة.
(3) وفي رواية «لا تلقوا الركبان» ولهما: «نهى عن تلقي البيوع» وفي رواية «لا تلقوا السلع، حتى يهبط بها السوق» فنهى عن تلقي الجلب خارج السوق، الذي تباع فيه السلع، فدل على التحريم، وهو مذهب الجمهور، وأخبر أنه إذا أتى سيده الذي تعرف فيه قيم السلع، يعني السوق، فهو بالخيار، أي إذا فعل ذلك، وأتى البائع السوق، وعرف، فهو بالخيارين أن يمضي البيع، أو يفسخ، وقال: أحمد: إن كان في البيع غبن.
وقال الشيخ: وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم للركبان الخيار إذا تلقوا، لأن فيه نوع تدليس، وغش، وقال ابن القيم: نهى عن ذلك لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر، فيشتري منه المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار إذا دخل السوق.
ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن، فإن الجالب إذا لم يعرف السعر، كان جاهلا بثمن المثل، فيكون المشتري غارا له، وكذا البائع إذا باعهم شيئا، فلهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم قد غبنوا غبنا يخرج عن العادة، أما إذا صادف الجلب، فلا خيار له، والعقد صحيح، لأنه قصره على التلقي، ولم يقل
لا تشتروا بل قال: «لا تلقوا» والحديث وإن كان ظاهره الإطلاق، فيقيد بما هو جار، متسامح فيه، من التغابن اليسير، الجاري في الأسواق.(7/405)
(و) الثانية: المشار إليها بقوله (بزيادة الناجش) الذي لا يريد شراء(1) ولو بلا مواطأة(2).
ومنه: أعطيت كذا، وهو كاذب، لتغريره المشتري(3).
«الثالثة» ذكرها بقوله (والمسترسل)(4).
__________
(1) تفسير للناجش، وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، من : نجشت الصيد، إذا أثرته ، كأن الناجش يثير كثرة الثمن بنجشه، ويرفع ثمنها، وأجمعوا على تحريمه، لخبر «نهى عن النجش» ولما فيه من تغرير المشتري وخديعته، فهو في معنى الغش، ويتجه: من زاد ليغر، فإن زاد ليبلغ القيمة فلا تحريم.
(2) أي ولو كانت زيادة من لا يريد شراء، بغير مواطأة من البائع لمن يزيد فيها، أو زاد بنفسه والمشتري لا يعلم، قال الشيخ: فإنه يكون ظالما ناجشا، بل هو أعظم من نجش الأجنبي.
(3) أي ومن النجش حكما لا لغة: قول بائع سلعة: أعطيت فيها كذا والبائع كاذب، فيحرم النجش، لتغريره المشتري، وقد نهى الشارع عن بيع الغرر، وقال ابن القيم: الغرر ما انطوت عنا معرفته، وجهلت مغبته، ويثبت له الخيار، وكذا لو أخبره أنه اشتراها بكذا، وهو زائد عما اشتراها به، فيثبت له الخيار، لأنه باعه مساومة، وقال الشيخ: يحرم تغرير مشتر، بأن يسومه كثيرا، ليبذل قريبا منه، كأن يقول في سلعة ثمنها خمسة: أبيعها بعشرة.
(4) أي الصورة الثالثة، من صور الغبن، ذكرها الماتن بقوله: والمسترسل قال ابن القيم: وفي الحديث «غبن المسترسل ربا» واختار الشيخ ثبوت خيار
الغبن لمسترسل لم يماكس، وهو المذهب، وقال: لا يربح على المسترسل أكثر من غيره، قال: وهو الذي لا يماكس، بل يقول: أعطني، والجاهل بقيمة المبيع، فلا يغبن غبنا فاحشا، لا هذا ولا هذا، وكذا المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص، ينبغي أن لا يربح عليه إلا كما يربح على غيره.(7/406)
وهو من جهل القيمة، ولا يحسن يماكس(1) من استرسل، إذا اطمأن، واستأنس(2) فإذا غبن ثبت له الخيار(3) ولا أرش مع إمساك(4).
__________
(1) أي يشاح في المبيع، ويناقص في الثمن، ويحاط صاحبه، من بائع ومشتر، فيثبت له الخيار، لأنه حصل له الغبن لذلك، ولجهله بالبيع، أشبه القادم من سفر.
(2) أي من قولهم: استرسل إذا اطمأن وسكن، وفي القاموس: استرسل إليه، انبسط واستأنس، ضد استوحش، وقال أحمد: المسترسل الذي لا يماكس، بل يسترسل إلى البائع، ويقول: أعطني هذا: معتمدا على صدق غيره، لسلامة سريرته فينقاد له انقياد الدابة لقائدها.
(3) أي فإذا غبن غبنا يخرج عن العادة، ثبت له الخيار، ويقبل قوله بيمينه أنه جاهل بالقيمة، ما لم تكن قرينة تكذبه، لخبر حبان «فقل: لا خلابة» أي لا خديعة، وأما من له خبرة بسعر المبيع، ويدخل على بصيرة بالغبن، ومن غبن لاستعجاله في البيع، ولو تثبت لم يغبن، فلا خيار لعدم التغرير.
(4) أي ولا أرش لمغبون مع إمساك مبيع، في صور الغبن الثلاث، لأن الشرع لم يجعله له، ولم يفته جزء من مبيع يأخذ الأرش في مقابلته، بل إما أن يرده ويأخذ ثمنه، أو لا يرده بخلاف الرد بالعيب على ما يأتي.(7/407)
والغبن محرم(1) وخياره على التراخي(2) (الرابع) من أقسام الخيار (خيار التدليس)(3) من الدلسة وهي الظلمة(4) فيثبت بما يزيد به الثمن(5).
__________
(1) لما فيه من التغرير للمشتري، والغش المنهي عنه، ويحرم تعاطي أسبابه، ثم هذا التحريم ليس خاصا بالثلاث الصور، بل يحرم أن تبيع ما يساوي سبعة بعشرة، قال شيخنا: وهذا كثير في بياعات الناس، فلا يصح ، ويستثنى منه أحوال الموسم، فما كان من زيادة السوق أيام الموسم فلا يدخل فيه، ولا يقال: غبن، لأنه حدوث رغبة،والعقد صحيح في الصور الثلاث، لما تقدم في تلقي الركبان.
(2) أي لا يسقط إلا بما يدل على الرضا، من تصرف ونحوه، كخيار العيب.
(3) وفعله حرام، قال في الإنصاف، بلا نزاع، لما فيه من الغرر والغش.
(4) بالضم، كأن البائع بتدليسه صير المشتري في ظلمة معنوية بالنسبة إلى حقيقة، الحال، فلم يتم إبصاره له، وهو ضربان، أحدهما: كتمان العيب، وهو حرام، وذكره الترمذي نص العلماء، والثاني: ما يزيد به الثمن، وأصول الشريعة توجب الرد بالتدليس والغش، والرد بهما أولى من الرد بالعيب، فإن المشتري إنما بذل ماله في المبيع بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، ولو علم أنه على خلافها، لما بذل له فيها ما بذل له.
(5) أي يثبت خيار التدليس، بما يزيد به الثمن، فإذا أظهر البائع للمشتري أن المبيع على صفة فبان للمشتري خلافها، كان له الخيار بين الإمساك والرد، لأن البائع قد غشه ودلس عليه، والبائع تارة يظهر صفة المبيع بقوله: وتارة بفعله.(7/408)
(كتسويد شعر الجارية(1) وتجعيده) أي جعله جعدا، وهو ضد السبط(2) (وجمع ماء الرحى) أي الماء الذي تدور به الرحى(3) (وإرساله عند عرضها) للبيع(4) لأنه إذا أرسله بعد حبسه اشتد دوران الرحى حين ذلك(5).
__________
(1) المبتاعة ليظن المشتري أن ذلك صفته، حيث يكون شعرها أشقر أو أبيض، فيسوده فيزيد في ثمنها، وكتحمير وجهها ونحو ذلك، ولو حصلت الحمرة من خجل، أو تعب، فله الخيار، وكذا تسويد شعرها لشيء حصل فيه، ومال الموفق وغيره إلى عدم الخيار في حمرة الخجل والتعب، وقطعوا بالخيار في غيرهما ولو من غير قصد.
(2) وضد القصير، وتجعد تقبض، فالشعر الجعد: هو ما فيه التواء وانقباض، لا تفلفل وامتداد، فيظن المشتري أنه خلقة فيزيد في الثمن، قال في الإنصاف: وتحسين وجه الصبرة وتصنع النساج وجه الثوب، وصقال الإسكاف، وجه المتاع ونحوه يثبت للمشتري خيار الرد بلا نزاع اهـ، وما لا يزيد في الثمن، كتسبيط الشعر، لا خيار فيه، والسبط يدل على ضعف البدن، والجعودة تدل على قوة البدن، ووطء الأمة يمنع ردها، اختاره الشيخ.
(3) إذا كانت تدور بالماء.
(4) فيحسب هذه القوة تكسب دائما، لما فيه من التدليس والغش، وإظهار ما ليس معتادا ليغر المشتري.
(5) أي حين إرسال الماء بعد حبسه، وذلك أن تكون الرحى في منصب ماء، فإنه بقوته يمر بالجانب الذي يلي الماء من العجل، فبالقوة تدفع، إلخ، ومنه ما يستعمل للكهرباء على الأنهار المنصبة.(7/409)
فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في الثمن(1) فإذا تبين له التدليس، ثبت له الخيار(2) وكذا تصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام(3) لحديث أبي هريرة يرفعه «لا تصروا الإبل، والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين، بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر» متفق عليه(4)
__________
(1) لأجل ما رأى من سرعة دوران الرحى، وهو غير عادتها، وإنما هو تدليس وغش من البائع، قال الشيخ: وإن دلس مستأجر على مؤجر، وغره حتى استأجره بدون القيمة فله أجرة المثل، قال ابن عقيل: هو كالغش والتدليس.
(2) أي فإذا تبين له التدليس، من أن الشعر مجعد، ونقصان دوران الرحى، ثبت له الخيار، لأنه تغرير لمشتر، أشبه النجش، قال الشيخ: وإذا دلس يرجع المشتري بالثمن على الأصح، وصوبه في الإنصاف، فإن علم المشتري بالتدليس، فلا خيار له، لدخوله على بصيرة.
(3) أي وكتسويد شعر الجارية ونحوه -في ثبوت الخيار- تصرية اللبن، وهو جمعه في ضرع بهيمة الأنعام أو غيرها، قال الوزير وغيره: أجمعوا على أنه لا يجوز تصرية الإبل، والبقر، والغنم، تدليسا على المشتري فيثبت بها الخيار، كالذي قبله ببينة ولو قدمه ومثل به، لورود النص فيه لكان أولى.
(4) «لا تصروا الإبل» بضم ففتح أي لا تربطوا أخلافها، ليجتمع لبنها فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها «فمن ابتاعها» أي اشتراها بعد التصرية «فهو بخير النظرين» أي الرأيين «بعد
أن يحلبها» فجعله قيدا في ثبوت الخيار، لكونها لا تعرف غالبا إلا بعد الحلب إلا ما علم بإقرار بائع أو بينة، والجمهور على أنه إذا علم بالتصرية، ثبت له الخيار على الفور، ولو لم يحلبها، وإن حلبها لم يلزمه قبوله، وأخذوا بظاهر الحديث، وأفتى به ابن مسعود، وأبو هريرة، ولا يعلم لهما مخالف في الصحابة.
وذكر ابن القيم أن هذا الحديث أصح من حديث «الخراج بالضمان» بالاتفاق مع أنه لا منافاة بينهما، فإن الخراج ما يحدث في ملك المشتري، وهنا اللبن كان موجودا في الضرع، فصار جزءا من المبيع، ولم يجعل الصاع عوضا عما حدث، بل عن اللبن الموجود في الضرع وقت العقد، وتقديره بالشرع، لاختلاطه بالحادث، وتعذر معرفة قدره، فقدر قطعا للنزاع،وبغير الجنس لأنه بالجنس قد يفضي إلى الربا.(7/410)
.
وخيار التدليس على التراخي(1) إلا المصراة، فيخير ثلاثة أيام منذ علم، بين إمساك بلا أرش(2) ورد مع صاع تمر سليم إن حلبها(3).
__________
(1) كخيار عيب، لأن كلا منهما ثبت لإزالة ضرر المشتري المتحقق، وإن صار لبنها عادة سقط الرد.
(2) لأن الحديث يقتضي ذلك، وفيه «فإن شاء أمسك» ولمسلم «فهو بالخيار ثلاثة أيام» لأنه يتبين به حاصل لبنها عادة، وإن مضت بطل خياره، وإن رضي بالتصرية فأمسكها ثم وجد بها عيبا، ردها به.
(3) للخبر، وظاهره: لا يرد اللبن، وإن كان باقيا على صفته، ولا فرق بين كون اللبن قليلا أو كثيرا، لتقدير الشارع بحد لا يبعد، لدفع التشاجر
وقطع النزاع، وشرط كون التمر سليما، حيث أن الإطلاق يحمل عليه، واختار الشيخ أنه يعتبر في كل بلد صاع من غالب قوته، لأن التمر غالب قوت الحجاز إذا ذاك، وغير بهيمة الأنعام له الرد بالتصرية بلا عوض.(7/411)
فإن عدم التمر فقيمته(1) ويقبل رد اللبن بحاله(2) (الخامس) من أقسام الخيار (خيار العيب)(3) وما بمعناه(4) (وهو) أي العيب (ما ينقص قيمة المبيع) عادة(5) فما عده التجار في عرفهم منقصا أنيط الحكم به، وما لا فلا(6).
__________
(1) واختيار الشيخ من غالب قوت البلد، ولو لم يعدم التمر، وكونه من التمر لكونه أيسر أموال أهل المدينة إذا ذاك.
(2) يعني اللبن الموجود حال العقد، لا روب، ولا غيره ولا ما تجدد بعد، لأنه حصل في ملكه.
(3) وتقدم أنه من التدليس، وأنه حرام، وفي الاختيارات: يحرم كتم العيب في السلعة، وكذا لو أعلمه به، ولم يعلمه قدر عيبه، ويجوز عقابه بإتلافه، والتصدق به، وقد أفتى به طائفة من أصحابنا.
(4) أي ويثبت الخيار بما هو بمعنى العيب، كطول مدة نقل ما في الدار المبيعة عرفا كما سيأتي.
(5) أو عينه، ولو زادت القيمة كخصاء، وهذا في باب البيع، أما الأضحية فلا، فإذا كانت ناقة مثلا يوجد فيها عيب لا ينقصها بالنسبة إلى الذبح عندما تجلب، فليس بعيب، وإذا اختلفوا رجع إلى ما عدوه عيبا.
(6) أي ما عداه التجار المعتبرون في عرفهم منقصا للبيع، علق الحكم به، واعتمد عليه، وما لم يعدوه منقصا لم يثبت الخيار به، وقال الشيخ: لا يطمع في
إحصاء العيوب، لكن يقرب من الضبط ما قيل: إن كان ما يوجد بالمبيع مما ينقص العين أو القيمة، نقصا يفوت به غرض صحيح، يثبت الرد إذا كان الغالب في جنس المبيع عدمه.(7/412)
والعيب (كمرضه) على جميع حالاته، في جميع الحيوانات(1) (وفقد عضو) كإصبع (وسن(2) أو زيادتهما(3) وزنا الرقيق) إذا بلغ عشرًا، من عبد أو أمة(4) (وسرقته) وشربه مسكرا(5) (وإباقه، وبوله، في الفراش)(6).
__________
(1) أي جميع حالات المريض، في جميع الحيوانات الجائز بيعها.
(2) أي والعيب كفقد عضو من أعضاء الحيوانات، إصبع، أو يد، أو رجل، أو ذهاب سن من آدمي من ثغر، ولو من آخر الأضراس.
(3) أي زيادة نحو إصبع، أو سن فيهما يشوه المنظر، وينقص الصنعة فذلك عيب، يثبت به الخيار.
(4) فيثبت به الخيار للمشتري، قال الوزير وغيره: واتفقوا على أن الزنا عيب في الجارية، وفي الغلام إلا أبا حنيفة، فقال: إذا تكرر منه، وكذا اللواط ممن بلغ عشرا، فاعلا أو مفعولا به، لأنه ينقص قيمته، ويقلل الرغبة فيه، لما فيه من الخبث والعشر هي المعتبرة فيه، وقبلها في حكم الصغر، والصغر فيه خبر رفع القلم.
(5) أي ويثبت الخيار بسرقة الرقيق إذا بلغ عشرا، وبشربه مسكرا، لأنه يدل على خبث طويته بخلاف الصغير، فإنما يدل على نقصان عقله.
(6) أي ويثبت أيضا الخيار بإباق الرقيق إذا بلغ عشرا للخوف عليه وقال
الشيخ وغيره: إذا أبقت الجارية عند المشتري، وكانت معروفة بذلك قبل البيع، وكتمه البائع، رجع المشتري بالثمن، على الأصح اهـ. ويثبت أيضا الخيار ببوله في الفراش، لأنه يدل على داء في بطنه، فإن كان من دون عشر فليس عيبا لأن ما قبلها يبول في الفراش غالبا.(7/413)
وكونه أعسر، لا يعمل بيمينه عملها المعتاد(1) وعدم ختان ذكر كبير(2) وعثرة مركوب، وحرنة ونحوه(3) وبخر، وحول، وخرس(4) وطرش، وكلف وقرع(5).
__________
(1) أي يثبت بذلك الخيار لمشتر، فإن عمل بها أيضا فليس بعيب، ولا خيار لمشتر.
(2) للخوف عليه، لا في أنثى، ولا صغير، لأنه الغالب.
(3) كرفسه، وعضه، واستعصائه، وكلها عيوب، يثبت بأحدها الخيار لمشتر.
(4) أي والعيب كبخر، بالتحريك نتن رائحة الفم، في عبد أو أمة، وأما الصنان اليسير فليس بعيب فيهما وفاقا، و«حول» بالتحريك بياض في مؤخر العين، وعدم اعتدال العين في مركزها، بل مائلة إلى جانب، يبصر بها أولا، و«خرس» محرك يعقد اللسان، فيمتنع معه الكلام، يثبت بها الخيار للمشتري.
(5) أي والعيب أيضا كـ «طرش» محرك وهو نقص السمع، دون الصمم و«كلف» شيء يعلو الوجه كالسمسم، تغير معه بشرة الوجه، وقيل: لون بين السواد والحرة، وهي حمرة كدرة، تعلو الوجه، عكس لون البرص، ويقال للبهق كلف، و«قرع» بفتحتين أي صلع، مصدر: قرع الرأس، إذا لم يبق
عليه شعر، وقال الجوهري: إذا ذهب شعره من آفة، وإن لم يكن له ريح منكرة، فيثبت بها الخيار، وكالصمم، والبرص ، والجذام والفالج، والعفل، والقرن، والاستحاضة ونحو ذلك، وككثرة كذب، وحمق من كبير، وإهمال الأدب والوقار في محالهما نص عليه.(7/414)
وحمل أمة(1) وطول مدة نقل ما في دار مبيعة عرفا(2) وكونها ينزلها الجند(3) لا سقوط آيات يسيرة من مصحف ونحوه(4).
__________
(1) فيثبت به الخيار، لا حمل بهيمة إن لم يضر باللحم، وذلك لأن حمل الأمة خطر، وقد يكون نقصا من ناحية أخرى، يضعف عملها مدة الحمل، أو يسبب منعها من أعمالها إذا كانت ترضع، بخلافه في سائر الحيوان لأنه يراد للنماء، وغالب الناس يستنسلون الحيوان، لا الإماء.
(2) شرع في التمثيل لما في معنى العيب المثبت للخيار، ومنه: كطول مدة نقل ما في در مبيعة ونحوها عرفا، لطول تأخر تسليم المبيع بلا شرط، لكون طول مدة النقل يفوت منفعته، كما لو كانت مؤجرة، فإن لم تطل المدة عرفا فلا خيار، وكبق ونحوه غير معتاد بها، لحصول الأذى به.
(3) بأن تكون معدة لنزولهم، إذ هو بمعنى العيب، لأن الغالب أنما يتولونه تكون سلطتهم عليه، وكذا من في معناهم، ممن لا يخرج إلا بمشقة، لفوات منفعتها زمانه، وكذا كونها ينزلها الجن، لكونها مفزعة من سكنهم، أو مؤذية من سكن بها برجم ونحوه، قال الشيخ: والجار السوء عيب، ولهذا يقال: الجار قبل الدار، وأصله قوله: { رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } حيث ذكر { عِنْدَكَ } قبل { بَيْتًا }
(4) كسقوط نحو كلمات بالكتب، فلا يثبت له الخيار بذلك لأنه لا يخلو
مصحف منه، بل لا يسلم عادة من ذلك، ومثله يتسامح فيه، كيسير تراب ونحوه ببر وكغبن يسير، فإن كثر ذلك فله الخيار.(7/415)
ولا حمى، وصداع يسيرين(1) ولا ثيوبة، أو كفر(2) أو عدم حيض(3) ولا معرفة غناء(4) (فإذا علم المشتري العيب بعد) العقد (أمسكه بأرشه) إن شاء(5).
__________
(1) أي فلا يثبت بهما الخيار، لكونهما مما يعرض كثيرا ويزول، والحمى فتور ظاهر الجلد، والحرارة، فإذا كان قليلا فلا يضر، وكذا الصداع اليسير.
(2) أي ولا خيار له إن وجد الأمة ثيبا، ولم يشترط أنها بكر، لأن الثيوبة هي الغالب على الجواري، ولا خيار له إن وجد الرقيق كافرا، لأن الغالب عليه الكفر، بل أصل استرقاقه هو الكفر، ولعل الأولى أن يفرق بين الأزمان والبلدان فالأزمان التي يوجد الكفر فيها كثيرا، إذا وجد كافرا فهو الأصل والغالب، أما البلدان التي يقل فيها وجود الكفر فلا، لكن من يؤتى بهم، يؤتى بهم من بلدان لا يعرفون الدين، ولا الصلاة، فهذا مثله كافر، وإن ادعوا الإسلام، والذي لا يعرف أمر الدين فيه تفصيل، ولعل من يشتري من بلاد بعيدة، الغالب عليها الكفر والجهل فليس بعيب، ومن بلاد المسلمين يكون عيبا، وكذا الفسق بالاعتقاد والعجمة والتغفيل.
(3) لأن الإطلاق لا يقتضي الحيض ولا عدمه، فليس فواته عيبا.
(4) فليست عيبا، لأنه لا نقص بها في عين ولا قيمة، وكذا طبخ وحجامة ونحو ذلك، وقال ابن عقيل وغيره: الغناء عيب، ومن يستعمله فهو يحبه، لأن إحسانه له يسبب استعماله.
(5) سواء علم البائع بعيبه فكتمه، أو لم يعلم، أو حدث به عيب بعد عقد
وقبل قبض، فيما ضمانه على بائع، رضي البائع أو سخط، تعذر الرد أولا، وإن قال البائع، أنا أزيل ما به من عيب؛ لم يمنع الرد، ولا الأرش وإن رضي المشتري بذلك جاز.(7/416)
لأن المتبايعين تراضيا على أن العوض في مقابلة المبيع، فكل جزء منه يقابله جزء من الثمن(1) ومع العيب فات جزء من المبيع، فله الرجوع ببدله وهو الأرش(2) (وهو) أي الأرش (قسط ما بين قيمة الصحة والعيب)(3) فيقوم المبيع صحيحا، ثم معيبا(4) ويؤخذ قسط ما بينهما من الثمن(5).
فإن قوم صحيحا بعشرة، ومعيبا بثمانية، رجع بخمس الثمن قليلا كان أو كثيرا(6).
__________
(1) أي فكل جزء من المبيع يقابله جزء من الثمن، وهذا تعليل لجواز الإمساك بالأرش.
(2) هذا على القول بالإمساك بالأرش، ولا يستحق الأرش في نحو المصراة، لأنه ليس فيها عيب، وإنما له الخيار فيها بالتدليس، لا لفوات جزء.
(3) فيرجع المشتري إذا اختار الإمساك بمثل نسبته من ثمنه المعقود به.
(4) أي يقومه عدل إن تنازع المتعاقدان سليما بمائة مثلا، ثم يقومه معيبا بتسعين وتعتبر القيمة يوم عقد، لأن ما زاد عليها في ملك المشتري، لا يقوم عليه، وما نقص فهو مضمون عليه، لأن جملة المبيع من ضمانه، فلو لبس المبيع، أو حلبه أو عمل عليه فرده، فعليه نقص قيمته.
(5) لأن المبيع مضمون على المشتري، ففقد جزء منه يسقط ما قابله من الثمن، وفي الاختيارات يجبر المشتري على الرد، أو أخذ الأرش، لتضرر البائع بالتأخير.
(6) وهو الواجب للمشتري قال ابن رشد: فإن اتفقا على أن يمسك المشتري سلعته، ويعطيه البائع قيمة العيب، فعامة فقهاء الأمصار يجيزون ذلك اهـ، وعن أحمد : ليس له إلا الإمساك بلا أرش، أو الرد، اختاره الشيخ، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، قال الزركشي، هذا أعدل الأقوال، وصوبه في الإنصاف وهو مقيد بما إذا لم يتعذر رده.(7/417)
وإن أفضى أخذ الأرش إلى ربا -كشراء حلي فضة بزنته دراهم-(1) أمسك مجانا إن شاء(2) (أو رده وأخذ الثمن) المدفوع للبائع(3).
__________
(1) أو حلي ذهب بزنته دنانير، ونحوها، أو شراء قفيز مما يجري فيه الربا، كبر وشعير، بمثله جنسا وقدرا.
(2) أي بلا أرش، فإن تعيب الحلي عنده فسخه الحاكم، ورد بائع الثمن، وطالب مشتر بقيمة المبيع معيبا بعيبه الأول، فإن اختار المشتري إمساكه مجانا فلا فسخ، وكذا إن اختار الأرش فليس له الفسخ، لأن اختياره الأرش يتضمن إمضاء البيع، وإسقاط حقه من الأرش.
(3) كاملا، لأنه بالفسخ استحق استرجاع جميع الثمن، قال الوزير: اتفقوا على أن للمشتري الرد بالعيب الذي لم يعلم به حال العقد، ما لم يحدث عنده عيب آخر، وأن له إمساكه إن شاء بعد عثوره عليه اهـ، وإن علم العيب، فأخر الرد، لم يبطل خياره، إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضى، من التصرف ونحوه كما سيأتي وإن عثر المشتري على عيب في الحلي أو القفيز، بعد تلفه عنده فسد العقد ، ورد البائع الموجود، ونقد الثمن، وتبقى قيمته المبيع إن كان متقوما، أو مثله إن كان مثليا في ذمته، وليس له أخذ الأرش.
وإن أسقط مشتر خيار رده، بعوض بذله له البائع أو غيره، قل أو كثر جاز، وليس من الأرش في شيء وإذا حلب الدابة ، أو حمل عليها أو لبس الثوب، ووجد عيبا، وأراد ردها فإن كانت قيمتها نقصت بحلب، أو حمل، أو لبس عن حالة العقد، فإنه عيب حدث عند المشتري، فيرد أرشه معه، وإلا ردها مجانا.(7/418)
وكذا لو أبرئ المشتري من الثمن(1) أو وهب له، ثم فسخ البيع لعيب، أو غيره، رجع بالثمن على البائع(2) وإن علم المشتري قبل العقد بعيب المبيع(3) أو حدث العيب بعد العقد، فلا خيار له(4) إلا في مكيل ونحوه تعيب قبل قبضه(5) (وإن تلف المبيع) المعيب(6).
__________
(1) ثم فسخ البيع لعيب أو غيره، رجع بكل الثمن على البائع، وإن أبرئ من بعضه رجع بقسطه.
(2) لأنه بالفسخ استحق جميع الثمن، وإن أبرئ من نصفه مثلا رجع بنصفه ولا رد لمشتر وهبه بائع ثمنه أو أبرأه منه.
(3) فلا خيار له، لدخوله على بصيرة، قال في الإنصاف: إن باع عبدا يلزمه عقوبة -من قصاص أو غيره، يعلم المشتري ذلك- فلا شيء له، بلا نزاع.
(4) لخروجه من ملك بائع سليما.
(5) فلمشتر الخيار، لأنه من ضمان بائع إلى قبضه، ونحو المكيل الموزون والمعدود، والمذروع، والثمر على الشجر، والمبيع بصفة، أو رؤية متقدمة.
(6) ولو بفعل المشتري، كأكله ونحوه، ثم علم عيبه، تعين الأرش، لتعذر الرد.(7/419)
(أو عتق العبد)(1) أو لم يعلم عيبه حتى صبغ الثوب، أو نسجه(2) أو وهب المبيع(3) أو باعه، أو بعضه (تعين الأرش) لتعذر الرد(4) وعدم وجود الرضا به ناقصا(5) وإن دلس البائع بأن علم العيب وكتمه عن المشتري فمات المبيع(6).
أو أبق، ذهب على البائع، لأنه غره(7) ورد للمشتري ما أخذه(8).
__________
(1) أي المبيع، ثم علم عيبه، تعين الأرش، وسقط الرد لتعذره.
(2) أي الثوب المبيع، فله الأرش، ولا رد، لأنه شغل المبيع بملكه، فلم يكن له رده، لما فيه من سوء المشاركة.
(3) أو رهنه، أو وقفه، ثم علم بعيبه تعين الأرش.
(4) أي أو باع المبيع المعيب غير عالم بعيبه، أو باع بعضه، ثم علم بالعيب، تعين الأرش في كل الصور لتعذر الرد، ولأن البائع لم يوفه، ما أوجبه له العقد، ويكون الأرش ملكا للمشتري، لأنه في مقابلة الجزء الفائت من المبيع.
(5) أي فيوجب تعين الأرش، قال ابن رشد: إن تغير بموت، أو فساد، أو عتق ففقهاء الأمصار على أنه فوت، ويرجع المشتري على البائع بقيمة العيب اهـ ويقبل قوله في قيمته، وعلم منه أنه لا رد له في الباقي، بعد تصرفه في البعض.
(6) المعيب، ذهب على البائع، ورجع عليه المشتري بكل الثمن، سواء تعيب المبيع عند المشتري بفعل الله تعالى كالمرض، أو بفعل المشتري، كوطء البكر ونحوه مما هو مأذون فيه، بخلاف قطع عضو، فلا يذهب هدرا، وكذا إن تعيب بفعل آدمي، كجناية عليه، أو بفعل العبد كسرقته، فيفوت التالف على البائع، حيث دلس العيب، ويرد الثمن كله.
(7) بالتدليس، ويتبع بائع عبده حيث كان.
(8) أي رد البائع من العوض للمشتري في مقابلة ما أخذ العبد، وإلا يكن دلس، تعين الأرش كما تقدم.(7/420)
(وإن اشترى ما لم يعلم عيبه بدون كسره، كجوز هند(1) وبيض نعام، فكسره فوجده فاسدا، فأمسكه فله أرشه(2) وإن رده رد أرش كسره) الذي تبقى له معه قيمة وأخذ ثمنه(3) لأن عقد البيع يقتضي السلامة(4).
__________
(1) نوع من الآنية، كما أن بيض النعام لصلابة قشره قد يتخذ إناء، وجوز الهند إذا وجد ماءه الذي يشرب فاسدا، فله رده بالعيب.
(2) إن لم يدلس البائع، فإن دلس فلا شيء له، لأنه غره، وكلاهما لا يعلم عيبه بدون كسره.
(3) وكذا بطيخ في مكسروه نفع، يرد ما نقصه بكسره عنده، ولو كان الكسر بقدر الاستعلام، لأنه عيب حدث عنده والكسر كسران، كسر تبقى معه قيمة، وكسر لا تبقى معه، فما لا تبقى إن كسرها كلها أو كسرها كسرا لا تبقى معه قيمة، فيتعين الأرش للمشتري، مثل أصلها، وما تبقى له معه قيمة ، فيخير بين الإمساك وله أرش العيب، والرد مع أرش الكسر.
(4) أي من العيوب، والعيب نقيصة، يقتضي العرف سلامة المبيع عنها غالبا فإذا ظهر في المبيع عيب، خير مشتر بين رد، استدراكا لما فاته، وإزالة لما يلحقه من الضرر في بقائه في ملكه ناقصا عن حقه، وبين إمساك مع أرش، لأنهما تراضيا
على أن العوض في مقابلة المعوض، ومع العيب فات جزء من المبيع، فرجع ببدله وهو الأرش.(7/421)
ويتعين أرش مع كسر لا تبقى معه قيمة(1) (وإن كان) المبيع (كبيض دجاج)(2) فكسره فوجده فاسدا (رجع بكل الثمن)(3) لأنا تبينا فساد العقد من أصله، لكونه وقع على مالا نفع فيه(4) وليس عليه، رد فاسد ذلك إلى بائعه، لعدم الفائدة فيه(5) (وخيار عيب متراخ)(6) لأنه لدفع ضرر متحقق، فلم يبطل بالتأخير(7).
__________
(1) كأن كسره كسرا لا تبقى معه قيمة للمكسور، من نحو جوز الهند، لأنه أتلفه، ويسقط الرد، لتعذره بإتلاف المبيع.
(2) وجه مذرا، وكبطيخ وجده مرضا.
(3) أي على بائع، وظاهر إطلاقهم، سواء دلس أو لا.
(4) كبيع الحشرات، فيكون البيع غير صحيح، ومن شرط صحة البيع أن ينتفع به، وإن وجد البعض فاسدا رجع بقسطه، فإن كان الفاسد النصف، رجع بنصف الثمن، وإن كان الربع رجع بربعه وهكذا.
(5) إذ لا قيمة له، ولا أرش فيرجع بكل الثمن، وكذا ليس عليه رد مالا قيمة لمكسوره من نحو جوز، ولوز.
(6) أي متسع وقته، ليس على الفور.
(7) يعني الخالي عن الرضا، كخيار القصاص، فمن علم العيب، وأخر
الرد به، لم يبطل خياره بالتأخير، وليس عليه أن يشهد قبل استعماله أنه يريد الأرش بل تكفي نيته، ومتى اختلفا، كان القول قوله في نيته، فيحلف: ما بعد علمي رضيت به، وما استعملته إلا بنية أخذ الأرش.(7/422)
(ما لم يوجد دليل الرضا)(1) كتصرف فيه بإجارة، أو إعارة، أو نحوهما(2) عالما بعيبه(3) واستعماله لغير تجربة(4) (ولا يفتقر) الفسخ للعيب (إلى حكم(5) ولا رضا، ولا حضور صاحبه) أي البائع، كالطلاق(6).
__________
(1) فيسقط الخيار، لأن دليل الرضا منزل منزلة التصريح به.
(2) كوطء ، وسوم، وغير ذلك من أنواع التصرف.
(3) أي فيبطل خياره، وإن كان جاهلا بعيبه فخياره بحاله، ولا تأثير لتصرفه.
(4) مما يدل على الرضا، كركوب دابة لغير تجربة لها، ولغير طريق رد، وكوطء وقبلة ولمس لشهوة، ولم يختر الإمساك قبل تصرفه، فلا رد، وقال بعضهم: ولا أرش له العيب، لأنه قد رضي بالمبيع ناقصا، فسقط حقه من الأرش، ولا يقبل قوله: أنه مطالب بالأرش، إلا ببينة وعنه: له الأرش، كما لو اختار إمساكه قبل تصرفه، وصوبه في الإنصاف.
(5) بل هو يفسخ من نفسه، سواء كان الرد بالعيب قبل القبض أو بعده.
(6) أي كما أن الطلاق لا يفتقر إلى حكم حاكم، ولا رضا، ولا حضور، لأنه رفع عقد جعل إليه ، فلم يعتبر فيه ذلك.(7/423)
ولمشتر مع غيره معيبا(1) أو بشرط خيار، الفسخ في نصيبه(2) ولو رضي الآخر(3) والمبيع بعد فسخ أمانة بيد مشتر(4) (وإن اختلفا) أي: البائع والمشتري في معيب (عند من حدث العيب) مع الاحتمال(5).
__________
(1) الفسخ في نصيبه، ولو رضي الآخر، لأنه جميع ما ملكه بالعقد، فله رده بالعيب.
(2) أي ولمشتر مع غيره، بشرط خيار، الفسخ في نصيبه، لأن نصيبه جميع ما ملكه بالعقد، فجاز له رده بالخيار الذي شرطه، كشراء واحد من اثنين شيئا بشرط خيار، أو وجده معيبا، فله رده عليهما، وله رد نصيب أحدهما عليه، وإمساك نصيب الآخر، وإن كان أحدهما غائبا والآخر حاضرا، رد المشتري على الحاضر منهما حصته بقسطها من الثمن، ويبقى نصيب الآخر في يده، حتى يقدم فيرده عليه.
(3) أي بالبيع مع العيب، أو بشرط الخيار، فأمضاه، لأنه كان مشقصا قبل البيع.
(4) لحصوله في يده، فإن تلف بغير تعد منه ولا تفريط، فلا ضمان عليه، لكن إن قصر في رده فتلف ضمنه، كثوب أطارته الريح إلى داره، وإذا فسخ والبائع غائب، ولا يمكنه رد المبيع إليه إلا بخطر، أو مشقة وضرر على البائع، فقال بعضهم: للمشتري بيعه، وحفظ ثمنه، لأنه مصلحة للبائع، وصرحوا به في الوديعة.
(5) أي احتمال قول كل منهما، كخرق ثوب ونحوه، وجنون وإباق، ولا بينة لأحدهما.(7/424)
(فقول مشتر مع يمينه)(1) إن لم يخرج عن يده(2) لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، فكان القول قول من ينفيه(3) فيحلف أنه اشتراه وبه العيب(4) أو أنه ما حدث عنده، ويرده(5).
__________
(1) وقال ابن عطوة: إن كان العيب لا يخفى، فالقول قول البائع أن المشتري رآه.
(2) وهي اليد المشاهدة، فإن خرج إلى يد غيره، وغاب عنه، لم يجز له الحلف على البت، ولو غلب على ظنه صدق ذلك الغير، لاحتمال حدوث العيب عنده، ولا يجوز له الرد، لعدم الحلف على البت، فيتعين حلف البائع على صفة جوابه، فإن أجاب: بعته بريئا من العيب، حلف على ذلك، وإن أجاب: لا يستحق على ما يدعيه من الرد، حلف على ذلك، فيحلف على البت.
(3) أي مع يمينه، لاحتمال صدق البائع.
(4) أي يحلف مشتر على البت أنه اشترى هذا المبيع وبه هذا العيب.
(5) أي أو يحلف مشتر على البت، أن هذا العيب ما حدث في هذا المبيع عنده، لأنه الأيمان كلها على البت، إلا ما كان على نفي فعل الغير، ويرد المبيع الذي اختلفا في حدوث عيبه بعد حلفه، وعن أحمد: القول قول بائع على البت، وهو مذهب الجمهور، وعليها العمل.
وقال ابن القيم: إذا ادعى العيب، فالقول قول من يدل الحال على صدقه، وإن احتمل صدقهما فقولان، أظهرهما أن القول قول البائع، لأن المشتري يدعي ما يسوغ فسخ العقد بعد تمامه ولزومه، والبائع ينكره اهـ وإن اختلفا في مفسد، أو شرط ونحوهما فقول منكر بيمينه، سواء كان البائع أو المشتري، ما لم يكن للآخر بينة.(7/425)
(وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما) كالإصبع الزائد(1) والجرح الطري، الذي لا يحتمل أن يكون قبل العقد(2) (قبل) قول المشتري في المثال الأول(3) والبائع في المثال الثاني (بلا يمين) لعدم الحاجة إليه(4) ويقبل قول بائع أن المبيع المعيب ليس المردود(5).
__________
(1) بيد أو رجل، إذا ادعى البائع حدوثها، ولا يمكن حدوثها، كالشجة المندملة التي لا يمكن حدوثها.
(2) أي وادعى المشتري كونه قديما.
(3) أي بلا يمين، لعدم الحاجة إليه، لأنه لا يمكن حدوث الإصبع الزائد في الغالب، وإنما تنشأ في زمن التخطيط.
(4) وهو كون الجرح طريا، لا يحتمل أن يكون قبل العقد، وتقدم أنه إذا ادعي العيب، فالقول قول من يدل الحال على صدقه، وإن ادعى غلطا، أو أن الثمن أكثر، لم يقبل قوله إلا ببينة، اختاره الموفق وغيره، وصوبه في الإنصاف.
(5) لإنكار بائع كونه سلعته، وإنكاره استحقاق الفسخ، والقول قول المنكر مع يمينه، وصوابه: المبيع المعيب، والمعين بعقد، ولم يفصل بعضهم بين المعين، وما في الذمة، وظاهر القواعد أن الحكم فيهما سواء، وفرق السامري وغيره وهو مقتضى ما يأتي، وقال شيخنا: مراد الأصحاب المعين، والحال أنه إذا أنكرها البائع، وكان ذلك معينا، أنكر أنه عين ماله ، ويذكر أن عند بعض الأصحاب أن غير المعين كالمعين أيضا، لأنه لا يستحق عليه الرد.(7/426)
إلا في خيار شرط، فقول مشتر(1) وقول قابض في ثابت في ذمة(2) من ثمن، وقرض، وسلم ونحوه(3) إن لم يخرج عن يده(4) وقول مشتر في عين ثمن معين بعقد(5) ومن اشترى متاعا، فوجده خيرا مما اشترى، فعليه رده إلى بائعه(6).
__________
(1) لأنهما هنا اتفقا على استحقاق الفسخ، وكذا لو اعترف البائع بعيب ما باعه، ففسخ المشتري، ثم أنكر البائع أن المبيع هو المردود، فقول مشتر.
(2) أي ويقبل قول قابض بيمينه سواء كان بائعا، أو مقرضا، أو مسلما، أو مؤجرا، أو متلفا، أو غير ذلك، في ثابت في ذمة عمرو مثلا لزيد.
(3) كأجرة وقيمة متلف، وصداق وجعالة، إذا رد بعيب، وأنكره مقبوض منه، مثال ذلك: إذا ثبت على عمرو لزيد صاع ثمن مبيع، أو قرض، أو دين سلم في ذمة عمرو لزيد، أو أجرة ونحوه، فبعد ما قبضه زيد من عمرو رده بعيب وجده فيه، وأنكر عمرو أن الصاع المردود هو الصاع الذي دفعه، فالقول قول القابض، وهو زيد بيمينه، لأن الأصل بقاء شغل الذمة بهذا الحق الثابت في ذمة عمرو.
(4) أي المشاهدة، دون الحكمية، بحيث يغيب عنه، لأن الأصل بقاؤه في الذمة، فلا يملك رده.
(5) أي إن رد عليه بعيب أنه ليس المردود، لأنه إذا عين تعلق الحكم به، فصار الثمن هنا نظير المثمن، فإن رد عليه بخيار شرط، فقياس التي قبلها يقبل قول بائع.
(6) إذا كان البائع جاهلا به.(7/427)
(السادس) من أقسام الخيار (خيار في البيع بتخيير الثمن(1) متى بان) الثمن (أقل أو أكثر) ما أخبر به(2) (ويثبت) في أنواعه الأربعة(3) (في التولية) وهي بيع برأس المال(4).
__________
(1) إذا أخبر بائع بخلاف الواقع، فإنه يثبت للمشتري الخيار، فصار قسما من أقسام الخيار.
(2) أو أخفي التأجيل، أو شيئا مما يلزمه بيانه، ويحرم على البائع التخبير بما يخالف الواقع في الثمن، فإنه كذب، وأكل للمال بالباطل، والعقد غير صحيح، ويثبت الخيار، قال في الإنصاف، بيع المرابحة في هذه الأزمان أولى للمشتري، وأسهل يعني لتركه المماسكة، وهي أضيق على البائع، لأنه يحتاج أن يعلم المشتري بكل شيء من النقد، والوزن، وتأخير الثمن، وممن اشتراه، والمؤونة، والرقم، والسمسرة، والقصارة، والحمل، ولا يغر فيه، ولا يحل له أن يزيد على ذلك شيئا إلا بينه للمشتري، ليعلم بكل ما يعلمه البائع.
(3) أي يثبت الخيار في البيع بتخيير الثمن، في صور أربع من صور البيع، اختصت بهذه الأسماء الآتية، كاختصاص السلم باسمه، وتصح بلفظ البيع، وبكل ما يؤدي ذلك المعنى.
(4) فقط، فيقول البائع: وليتك المبيع، أو بعتكه برأس ماله، أو بما اشتريته به، أو برقمه المعلوم عندهما، وهو الثمن المكتوب عليه، وينعقد بالاتفاق، وإن جهلا الثمن أو أحدهما لم يصح، والتولية في اللغة تقليد العمل، وفي العرف ما ذكره الشارح.(7/428)
(و) في (الشركة) وهي بيع بعضه بقسطه من الثمن(1) و: أشركتك. ينصرف إلى نصفه(2) (و) في (المرابحة) وهي بيعه بثمنه، وربح معلوم(3) وإن قال: على أن أربح في كل عشرة درهما، كره(4) (و) في (المواضعة) وهي بيعه برأس ماله وخسران معلوم(5).
__________
(1) أي المعلوم لهما: نحو: أشركتلك في نصفه، أو ثلثه، أو ربعه ونحوه، أو: هو شركة بيننا.
(2) لأنها تقتضي التسوية، بخلاف الإقرار، لأنه لما كان الجزء المأخوذ بغير عوض رجع في تفسيره إليه، لئلا يلزم الإجحاف عليه، والمأخوذ هنا بعوض، فلا فوت، فحملت على الأصل، وإن قال لآخر عالم بشركة الأول، فله نصف نصيبه وهو الربع، وإلا أخذ نصيبه كله، لأنه إذا لم يعلم ، فقد طلب منه نصف المبيع، وأجابه إليه، وإن قال: أشركاني، فأشركاه معا أخذ ثلثه.
(3) فيقول مثلا: رأس مالي فيه مائة، بعتكة بها، وربح عشرة، صح، لأن الثمن والربح معلومان.
(4) واحتج أحمد بكراهة ابن عمر وابن عباس، وقال: كأنه دراهم بدراهم وقال الوزير: اتفقوا على أن ربح المرابحة صحيح، وهو أن يقول: أبيعك والربح في كل عشرة درهم، وكرهه أحمد، لشبهه بيع العشر بأحد عشر، لا أنه منه حقيقة وإلا لحرم.
(5) كأن يقول: بعتكه برأس ماله مائة مثلا، وأضع لك عشرة، فيصح البيع، لأنه لفظ محصل لمقصود البيع بدون رأس المال، وكذا لو قال: بعتكه بمائة هي -رأس مالي- ووضيعة درهم من كل عشرة، وهذه الصورة مكروهة، كما كرهت نظيرتها في المرابحة.(7/429)
(ولا بد في جميعها) أي الصور الأربع(1) (من معرفة المشتري) والبائع (رأس المال)(2) لأن ذلك شرط لصحة البيع(3) فإن فات لم يصح(4) وما ذكره من ثبوت الخيار في الصور الأربع تبع فيه المقنع، وهو رواية(5) والمذهب أنه متى بان رأس المال أقل حط الزائد(6).
__________
(1) يعني التولية، والشركة، والمرابحة، والموضعة، إذا عقدا البيع بإحداها كما تقدم.
(2) ولا تكفي معرفة أحدهما به، ولا بد أن يبين البائع للمشتري النقد، والحمل ، ونحو ذلك مما تقدم.
(3) وتقدم أن معرفة الثمن شرط لصحة البيع بالإجماع.
(4) أي فات على المتعاقدين معرفة رأس المال، لم يصح البيع بواحدة من تلك الصور.
(5) أي عن الإمام أحمد رحمه الله، نقلها حنبل، فيما إذا ظهر الثمن أقل مما أخبر به البائع
(6) أي عن رأس المال في الأربع، لأنه باعه برأس مال فقط، أو مع ما قدره من الربح، أو وضيعته، فإذا بان رأس ماله دون ما أخبر به، كان مبيعا به على ذلك الوجه، ولا خيار، لأنه بالإسقاط قد زيد خيرا، فلو باع فرسا من عمرو بأربعين، تولية، فظهر أن الثمن ثلاثون، تسقط العشرة، ولو أشركه فيها بنصف ثمنها وهو عشرون، سقط خمسة.(7/430)
ويحط قسطه في مرابحة(1) وينقصه في مواضعة(2) ولا خيار للمشتري(3) ولا تقبل دعوى بائع غلطا في رأس المال بلا بينة(4) (وإن اشترى) السلعة (بثمن مؤجل(5) أو) اشترى (ممن لا تقبل شهادته له) كأبيه، وابنه وزوجته(6).
__________
(1) أي يحط قسط الزائد في مرابحة، لأنه تابع له، كما لو باعه شاة بثمانية، فظهر أنها بستة، سقط اثنان وقسطه من الربح، وهو الربع.
(2) أي وينقص الزائد في مواضعه تبعا له، كما لو باعه عشرة آصع بعشرة مثلا، فظهر أنها بثمانية، سقط اثنان، مع بقاء الوضيعة على ما هي عليه.
(3) لأن الثمن إذا بان أقل مما أخبر به، وسقط عنه الزائد، فقد زيد خيرا، فلم يكن له خيار، كما لو وكل من يشتري له معينا بمائة، فاشتراه بتسعين، لم يملك الفسخ.
(4) أي ولا تقبل دعوى بائع لإحدى الصور الأربع غلطا، نسيانا كان أو سهوا، في إخبار برأس المال، بلا بينة تشهد بما ادعاه، كما لو قال: اشتريته بعشرين، ثم قال: غلطت، بل بثلاثين؛ لأنه أقر بالثمن، وتعلق به حق الغير، ولو كان مؤتمنا، لأنه مدع الغلط على غيره، أشبه المضارب إذا أقر بالربح، ثم ادعى الغلط، لم تقبل إلا ببينة، وعنه: يقبل معروف بالصدق، استظهره في التنقيح، ولا سيما مع القرائن.
(5) أي ولم يبين ذلك للمشتري في تخبيره بالثمن، فلمشتر الخيار، وإن اشتراه بدنانير، وأخبر بدراهم، أو بالعكس، أو بعرض وأخبر بثمن، أو بالعكس فلمشتر الخيار.
(6) أي وكتم ذلك عن المشتري في تخبيره بالثمن، فلمشتر الخيار، لأنه متهم في حقهم، لكونه يحابيهم، ويسمح لهم.(7/431)
(أو) اشترى شيئا (بأكثر من ثمنه حيلة)(1) أو محاباة(2) أو لرغبة تخصه(3) أو موسم فات(4) (أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن) الذي اشتراها به(5).
__________
(1) ليربح، كأن يشتريها من إنسان بأكثر من ثمنها صورة، ليخبر بذلك، أو ليبيعه تولية، أو شركة، أو مرابحة، أو موضعة، أو كتم البائع عن المشتري فله الخيار، وهو حرام، كتدليس العيب، فإن لم يكن حيلة جاز.
(2) كأن يشتريه من صديقه، أو من نحو غلامه الحر، لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره، لأنه يتهم في حقه، ولمشتر الخيار، وإن لم يحاب في ذلك جاز.
(3) كأن يشتري دارا بجواره، أو أمة لرضاع ولده، ولم يبين ذلك للمشتري في تخبيره، فله الخيار، لأنه قد يزيد في ثمنها لحاجة، فيبين للمشتري الحال.
(4) كأن يشتري سلعة لأجل الموسم، ولم يحصل، وكتم ذلك عن المشتري، وكذا إن تغيرت السلعة بنقص، بمرض أو غيره، وكتمه عن المشتري فله الخيار، كالتدليس، فهذه الصور حرام، لما فيها من الكذب، والغش، وإن غلت أخبر بثمنها الذي اشتراها به، لا بقيمتها الآن، وإن اشترى نصف سلعة بعشرة، وآخر بعشرين، ثم باعها مساومة، بثمن واحد، فهو بينهما نصفين، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافا، وإن باعها مرابحة، أو مواضعة، أو تولية فكذلك نص عليه.
(5) أي باع بعض المبيع بقسطه من الثمن، وليس المبيع بعضه من المتماثلات المتساويات، كزيت ونحوه، من كل مكيل أو موزون متساوي الأجزاء، كالثياب ونحوها.(7/432)
(ولم يبين ذلك) للمشتري (في تخبيره بالثمن، فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد) كالتدليس(1) والمذهب فيما إذا بان الثمن مؤجلا أنه يؤجل على المشتري ولا خيار، لزوال الضرر، كما في الإقناع، والمنتهى(2) (وما يزاد في ثمن(3) أو يحط منه) أي من الثمن(4) (في مدة خيار) مجلس أو شرط(5) (أو يؤخذ أرشا لعيب(6))
__________
(1) أي إذا كتم ما ذكر ونحوه عن المشتري فله الخيار، كما أن له الخيار إذا دلس البائع العيب على المشتري وتقدم.
(2) فإنهما صرحا أن المذهب إذا بان مؤجلا، وقد كتمه بائع في تخييره بالثمن، ثم علم مشتر، أخذ به مؤجلا، ولا خيار له، وإن لم يعلم مشتر إلا بعد مضي الأجل فكالحال.
(3) يعني في زمن الخيارين، كأن يشتري زيد من عمرو دارا بمائة، فيخشى أن يفسخ، فيقول: ولك زيادة عشرة، فلا يلزم زيدا أن يقول: اشتريتها بمائة، وزدت عشرة؛ بل يقول: بمائة وعشرة.
(4) يعني يوضع من الثمن زمن الخيارين، كأن يخشى الفسخ فيقول: وعنك عشرة، فيقول: علي بتسعين، ولا يلزمه أن يقول: كانت بمائة ووضعت عشرة.
(5) أي لحق ذلك الفعل بالعقد، فوجب إلحاقه برأس المال، والإخبار به.
(6) أخبر به على وجهه، ولو كان في مدة الخيارين، فيخبر أنه اشتراه بكذا وأخذ أرشه بكذا، ولا يحط ثمنه من أرشه، ويخبر بالباقي.(7/433)
(أو) لـ (جناية عليه) أي على المبيع(1) ولو بعد لزوم البيع (يلحق برأس ماله(2) و) يجب أن (يخبر به) كأصله(3) وكذا ما يزاد في مبيع، أو أجل، أو خيار(4) أو ينقص منه في مدة خيار، فيلحق بعقد(5) (وإن كان ذلك) أي ما ذكر من زيادة أو حط(6).
__________
(1) أي أو ما يأخذه المشتري أرشا لجناية على المبيع، ولو كان في مدة الخيارين.
(2) لأنه ذلك من الثمن، فألحق برأس المال، وقوله: «ولو بعد لزوم البيع» راجع لقوله «أو يؤخذ أرشا لعيب، أو لجناية عليه» لأن المأخوذ في مقابلة جزء من المبيع.
(3) إذا باعه بتخبير الثمن، فيجب أن يخبر أنه اشتراه بكذا، وأخذ أرشه كذا، ولا يحط أرشه من ثمنه، ويخبر بالباقي.
(4) أي ومثل ما يزاد في ثمن إلخ، ما يزاد في مبيع، بأن أعطاء شيئا آخر مع المبيع زمن الخيارين، أو يزاد في أجل الثمن زمن الخيارين، أو يزاد في خيار شرط في بيع، بأن كان إلى رجب، ثم قال: بل إلى جماد، فيلحق بعقد، ويخبر به كأصله.
(5) أي أو يوضع من مبيع، أو أجل، أو خيار في مدة خيار مجلس، أو شرط فيلحق به، ويجب أن يخبر به كأصله تنزيلا لحال الخيار، منزلة حال العقد.
(6) أي زيادة في ثمن، أو مثمن، أو أجل، أو خيار، أو حط من ثمن، أو مثمن، أو أجل ، أو خيار.(7/434)
(بعد لزوم البيع) بفوات الخيارين (لم يلحق به) أي بالعقد(1) فلا يلزم أن يخبر به(2) لا إن جنى المبيع ففداه المشتري(3) لأنه لم يزد به المبيع ذاتا ولا قيمة(4) (وإن أخبر بالحال) بأن يقول: اشتريته بكذا(5) أو زدته، أو نقصته كذا؛ ونحو(6) (فحسن) لأنه أبلغ في الصدق(7).
__________
(1) أي لا يلحق بعقد بعد لزوم بيع ما ذكر من زيادة، أو حط، كسائر الشروط وتقدم.
(2) لأن ما ذكر لا يلحق بالعقد بعد لزومه.
(3) أي لا إن جنى المبيع جناية توجب قودا، أو مالا، ففداه المشتري. فلا يلحق فداؤه بالثمن، ولو كان في مدة الخيارين.
(4) أي فلا يلزم أن يخبر به، لأنه مزيل لنقصه بالجناية، وكذا الأدوية والمؤونة والكسوة، لا تلحق بالثمن، فلا يلزم أن يخبر بها.
(5) أي وزيادته كذا؛ أو ونقيصته كذا، أو: اشتريته مثلا بخمسة عشر، ثم بعته بعشرة، ثم اشتريته بكذا؛ فحسن لأنه أبلغ في الصدق.
(6) أي وإن أخبر بالحال، بأن قال: زدت المبيع كذا، أي شيئا آخر معه، أو: نقصت المبيع كذا؛ كأن أخذ جزءا منه بقسطه، ونحوه من مؤونة أو كسوة، أو غير ذلك بعد لزوم البيع.
(7) وأقرب إلى الحق، وأنفى عن التهمة، ولا يجب، حيث كان بعد لزوم البيع، ولا يلتحق بالعقد.(7/435)
ولا يلزم الإخبار بأخذ نماء، واستخدام(1) ووطء، إن لم ينقصه(2) وإن اشترى شيئا بعشرة مثلا، وعمل فيه صنعة(3) أو دفع أجرة كيله، أو مخزنه، أخبر بالحال(4) ولا يجوز أن يجمع ذلك، ويقول: تحصل علي بكذا(5) وما باعه اثنان مرابحة، فثمنه بحسب ملكيهما، لا على رأس ماليهما(6) (السابع) من أقسام الخيار (خيار) يثبت (لاختلاف المتبايعين) في الجملة(7).
__________
(1) أي ولا يلزم الإخبار إذا باع بتخيير الثمن بأخذ نماء، كصوف، ولبن غير موجودين حال العقد، ولا يلزم الإخبار باستخدام رقيق أو غيره.
(2) أي ولا يلزم الإخبار بوطء ثيب، إن لم ينقص الوطء المبيع، كوطء البكر، فيجب الإخبار به، كما لو وطئها غيره وأخذ الأرش.
(3) كأن اشترى ثوبا بعشرة، وعمل فيه هو أو غيره ما يساوي عشرة، بأن صبغة، أو قصره ولو بأجرة ما يساوي عشرة ، أخبر بالحال.
(4) أي وإن اشترى شيئا مثلا بعشرة، ودفع أجرة كيله، أو مخزنة، أو سمساره ونحوه بعشرة، أخبر بالحال على وجهه.
(5) أي بعشرين مثلا، لأنه تلبيس، بل يخبر به على وجهه، ولا يضمه إلى الثمن فيخبر به ويغر المشتري.
(6) لأن الثمن عوض المبيع، فهو على قدر ملكيهما، ومثاله لو اشترى شخص نصف شيء بعشرة، واشترى غيره باقيه بعشرين، ثم باعه مرابحة، أو مواضعة، أو تولية، صفقة واحدة، فإن الثمن لهما بالتساوي، كما لو باعه مساومة.
(7) أي في بعض الصور، لا بالجملة، فهناك بياعات لا يقع فيها.(7/436)
(فإذا اختلفا) هما أو ورثتهما(1) أو أحدهما وورثة الآخر (في قدر الثمن)(2) بأن قال بائع: بعتكه بمائة؛ وقال مشتر: بثمانين ولا بينة لهما(3) أو تعارضت بينتاهما (تحالفا)(4) ولو كانت السلعة تالفة(5).
__________
(1) أي في قدر الثمن، تحالفا، ولكل منهما الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر، لحديث «إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بينة، فالقول قول البائع، أو يترادان البيع» وهو حديث مشهور، دل على إثبات الخيار لاختلاف المتبايعين، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، فإنهما يتحالفان ويترادان.
(2) أي إذا اختلف أحد المتبايعين وورثة الآخر في قدر الثمن، وليس بينهما بينة، تحالفا، وترادا البيع، أو اختلف ورثتهما فكذلك، والورثة يقومون مقام مورثهم، إذا تم العقد في حياة المورث.
(3) أي للمتبايعين أولا بينة لأحد المتبايعين وورثة الآخر، أو لا بينة لورثة كل منهما بالمائة، ولا بالثمانين.
(4) لتعارض البينتين وتساقطهما، فيصيران كمن لا بينة لهما، لأن كلا منهما مدع ومنكر، البائع مدع أنه مائة، ومنكر أنه ثمانون، والمشتري منكر ومدع.
(5) «لو» هنا إشارة لخلاف في المذهب وغيره، لعموم الخبر، قال أحمد: لم يقل في الحديث «والمبيع قائم» إلا يزيد بن هارون، وقد أخطأ، فلا فرق بين أن تكون موجودة، أوتالفة، فيرجع إلى قيمة مثلها، فنزلت منزلة الموجودة في قيمة مثلها.(7/437)
(فيحلف بائع أولا: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا(1) ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا ، وإنما اشتريته بكذا)(2). وإنما بدأ بالنفي لأنه الأصل في اليمين(3) (ولكل) المتبايعين بعد التحالف (الفسخ إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر)(4) وكذا إجارة(5) وإن رضي أحدهما بقول الآخر(6).
__________
(1) أي فيحلف البائع أولا، لقوة جنبته، لأن المبيع يرد إليه، ويجمع بين النفي والإثبات، النفي لما ادعي عليه، والإثبات لما ادعاه، وظاهره وجوب البداءة بحلف البائع، ثم المشتري، وإن لم يبدأ بحلف البائع، لا يكتفى بحلف المشتري.
(2) ويقدم النفي، ويحلف وارث على البت، إن علم الثمن، وإلا على نفي العلم.
(3) وإن قدم الإثبات عليه لم يعتد به.
(4) ولو بلا حاكم، لأنه فسخ لاستدراك الظلامة، أشبه رد المعيب، ولا يفسخ إلا بفسخهما، لأنه عقد صحيح، فلم ينفسخ باختلافهما، وتعارضهما في الحجة.
(5) أي فيما إذا اختلف المؤجر والمستأجر في قدر الأجرة، لأنها بيع النافع، فيحلف مؤجر: ما أجرته بكذا، وإنما أجرته بكذا، ثم يحلف مستأجر: ما استأجرته بكذا، وإنما استأجرته بكذا، ولكل منهما الفسخ بعد التحالف، إذا لم يرض أحدهما بقول الآخر.
(6) أقر العقد، لأن من رضي صاحبه بقوله منهما حصل له ما ادعاه فلا خيار له.(7/438)
أو حلف أحدهما ونكل الآخر، أقر العقد(1) (فإن كانت السلعة) التي فسخ البيع فيها بعد التحالف (تالفة رجعا إلى قيمة مثلها)(2) ويقبل قول المشتري فيها، لأنه غارم(3) وفي قدر المبيع(4) (فإن اختلفا في صفتها) أي صفة السلعة التالفة(5) بأن قال البائع: كان العبد كاتبا، وأنكره المشتري(6) (فقول مشتر) لأنه غارم(7).
__________
(1) أي بما حلف عليه الحالف منهما، لقضاء عثمان، ولأن النكول كإقامة البينة، على من نكل، وإن نكلا صرفهما الحاكم.
(2) إن كانت مثلية، وإلا فإلى قيمتها، لتعذر رد العين، يقومها عدل أو اثنان، إن كان من باب الشهادة، فيأخذ مشتر الثمن إن كان قد قبض، إن لم يرض بقول بائع، وبائع القيمة، وإن تساويا، وكانا من جنس، تقاصا وتساقطا، وإلا سقط الأقل، ومثله من الأكثر.
(3) أي يقبل قول المشتري في قيمة المبيع التالف بيمينه، نص عليه، لأنه غارم أي ملزم نفسه ما التزمه بالعقد، فيقبل قوله.
(4) كأن قال البائع، بعتك هذين العبدين بثمن واحد، فقال: بل أحدهما أو قال البائع: هو قفيزان، وقال المشتري: هو قفيز، قبل قوله بيمينه لأنه غارم، فلو وصفها بعيب، كبرص، وخرق ثوب وغيرهما، فقول من ينفيه بيمينه.
(5) بفعل الله أو فعل آدمي.
(6) ولا بينة لهما، أو لهما بينة وتعارضتا.
(7) لاتفاقهما على وجوب الثمن، واختلافهما في التعيين وكذا كل غارم
يقبل قوله بيميه، في قيمة ما يغرمه، لأن الأصل براءة ذمته، وقدره، وصفته كمشتر، وإن مات المتعاقدان، أو أحدهما، فورثتهما بمنزلتهما.(7/439)
وإذا تحالفا في الإجارة، وفسخت بعد فراغ المدة، فأجرة المثل(1) وفي أثنائها بالقسط(2) (وإذا فسخ العقد) بعد التحالف (انفسخ ظاهرا وباطنا) في حق كل منهما، كالرد بالعيب(3) (وإن اختلفا في أجل) بأن يقول المشتري: اشتريته بكذا مؤجلا، وأنكره البائع(4) (أو) اختلفا في (شرط) صحيح أو فاسد، كرهن، أو ضمين، أو قدرهما(5).
__________
(1) أي أجرة مثل العين المؤجرة مدة الإجارة.
(2) أي من أجرة المثل، لأنه بدل ما تلف من المنفعة.
(3) فإن المبيع إذا وجد به العيب، ثم فسخ المشتري، انفسخ العقد ظاهرا وباطنا، فيجري فيما هنا كالرد بالعيب، وقوله «ظاهرا» يعني في ظاهر الحكم «وباطنا» في باطن الأمر، فلو تبين لأحدهما بعد الفسخ صدق صاحبه، لم يلزمه إعلامه، ولا استحلاله، وظاهر عباراتهم: له ذلك، قال في الإقناع: ولو مع ظلم أحدهما، وفي الشرح: وإن فسخ الكاذب، لم ينفسخ بالنسبة إليه باطنا لأنه لا يحل له الفسخ، واختار الموفق، الانفساخ باطنا لا يكون في حق الظالم، بل يلزمه السعي في التحلل من المظلوم، والخروج من مظلمته، لقوله: «إنكم تختصمون إلي» إلخ.
(4) فقول من ينفيه بيمينه، لأن الأصل عدمه، وإن اختلفا في قدر الأجل فقول منكر الزائد، سوى أجل في سلم.
(5) أي قدر الرهن، أو المضمون، وكما لو شرط أن لا يخسر ونحو ذلك، إذا ادعى أحدهما اشتراط ذلك وأنكر الآخر.(7/440)
(فقول من ينفيه) بيمينه، لأن الأصل عدمه(1) (وإن اختلفا في عين المبيع) كبعتني هذا العبد، قال: بل هذه الجارية (تحالفا(2) وبطل) أي فسخ (البيع)(3) كما لو اختلفا في الثمن(4) وعنه: القول قول بائع بيمينه: لأنه كالغارم(5) وهي المذهب، وجزم بها في الإقناع، والمنتهى وغيرهما(6) وكذا لو اختلفا في قدر المبيع(7).
__________
(1) أي عدم الأجل أو الشرط، ثم الزائد الذي يدعى، الأصل عدمه، ولأنه كالغارم، ويتجه: ما لم يكذبه الحس.
(2) فيحلف مشتر ثم بائع.
(3) لأن أصل العقد صحيح، وبعد التحالف يفسخ البيع، إذا لم يكن لأحدهما بينة.
(4) على ما تقدم من: أنهما يتحالفان، ويبطل البيع، واختاره القاضي، وقال الشارح، هو أقيس وأولى.
(5) لاتفاقهما على وجوب الثمن، واختلافهما في التعيين.
(6) وقدمه في الفروع، وجزم به في المقنع وغيره، وهو الصحيح من المذهب وعليه أكثر الأصحاب.
(7) وصفة ذلك قول بائع: بعتك قفيزين، فيقول مشتر: بل ثلاثة، فالقول قول البائع، لأنه منكر للزيادة، وهذا الصحيح من المذهب، وجزم به أكثر الأصحاب، وتقدم حديث «إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع».(7/441)
وإن سميا نقدا، واختلفا في صفته، أخذ نقد البلد(1) ثم غالبه رواجا(2) ثم الوسط إن استوت(3) (وإن أبي كل منهما تسليم ما بيده) من المبيع والثمن (حتى يقبض العوض)(4) بأن قال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن(5) وقال المشتري: لا أسلم الثمن حتى أستلم المبيع(6) (والثمن عين) أي معين(7).
__________
(1) ولا يقبل قول مدعي صفة غيره، لأنه كالشاهد، وكذا لو اختلفا في جنس النقد، إذا لم يكن في البلد إلا نقد واحد، وادعاه أحدهما، قضي له به، عملا بالقرينة، ولم يقيد بذلك لوضوحه.
(2) أي نفاقا، لأن الظاهر وقوع العقد به لغلبته.
(3) أي النقود رواجا، تسوية بين حقيهما، ودفعا للميل على أحدهما، لأن العدول عنه ميل على أحدهما، وعلى مدعي نقد البلد -أو غالبه رواجا أو الوسط- اليمين، لاحتمال ما قال خصمه.
(4) أي المبيع يقبضه المشتري، والثمن يقبضه البائع وتشاحا.
(5) خشية أن يذهب بالمبيع، ولا يتمكن من قبض الثمن.
(6) خشية أن يذهب البائع بالمبيع، ولا يتمكن مشتر من قبضه.
(7) في العقد، من نقد، أو عرض ليس المراد أنه عين ذهب، أو فضة، بل سواء كل منهما أو من غيرهما، كهذه العشرة الدراهم مثلا، أو هذا الثوب، فإنه قد تعلق حق المشتري بالعين، وهي الفرس مثلا، وتعلق حق البائع بعين الثمن، الذي هو العشرة أو الثوب.(7/442)
(نصب عدل) أي نصبه الحاكم(1) (يقبض منهما) المبيع والثمن(2) (ويسلم المبيع) للمشتري(3) (ثم الثمن) للبائع لجريان عادة الناس بذلك(4) (وإن كان) الثمن (دينا حالا(5) أجبر بائع) على تسليم المبيع، لتعلق حق المشتري بعينه(6) (ثم) أجبر (مشتر إن كان الثمن في المجلس) لوجوب دفعه عليه فورا، لتمكنه منه(7).
__________
(1) ليقطع النزاع بين البائع والمشتري حيث تشاحا.
(2) أي يقبض المبيع من البائع، والثمن المعين من المشتري.
(3) أي يسلم العدل المبيع للمشتري أولا.
(4) أي قديما وحديثا، بتسليم المبيع للمشتري ثم الثمن للبائع، ولأنهما استويا في تعلق حقهما بعين الثمن والمثمن، وظاهره اللزوم، قال ابن القيم: للبائع حبس سلعته على ثمنها، لأنه عقد يقتضي استواءهما في التسلم والتسليم، ففي إجبار البائع على التسليم قبل حضور الثمن، وتمكينه من قبضه، إضرار به اهـ. ومن امتنع منهما من تسليم ما عليه، مع إمكانه حتى تلف، ضمنه كغاصب، وأيهما بدأ بالتسليم أجبر الآخر.
(5) أي غير معين، فنص أحمد على أنه لا يحبس المبيع على قبض ثمنه.
(6) أي عين المبيع، وحق البائع إنما تعلق بالذمة، فوجب تقديم ما تعلق بالعين، كحق المرتهن ، على سائر الغرماء.
(7) ولأنه غني، ومطله ظلم، وعنه: يجبر مشتر على تسليم الثمن، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، واختار الشيخ: أن للبائع الفسخ إذا كان المشتري مماطلا، وصوبه في الإنصاف، والفسخ هنا على التراخي كالعيب، لكونه لدفع ضرر متحقق.(7/443)
(وإن كان) دينا (غائبا في البلد)(1) أو فيما دون مسافة القصر(2) (حجر عليه) أي على المشتري (في المبيع وبقية ماله حتى يحضره)(3) خوفا من أن يتصرف في ماله تصرفا يضر بالبائع(4) (وإن كان) المال (غائبا بعيدا) مسافة القصر(5) أو غيبة بمسافة القصر (عنها) أي عن البلد(6) (والمشتري معسر) يعني أو ظهر أن المشتري معسر (فلبائع الفسخ)(7).
__________
(1) حجر على المشتري في المبيع حتى يحضر الثمن.
(2) أي أو كان الثمن غائبا فيما دون مسافة القصر عن البلد، وهو ما دون مسيرة يومين، لأنه في حكم البلد.
(3) أي يحضر الثمن كله، ويسلمه للبائع.
(4) لأنه لا ينفذ تصرفه فيه، فلذلك قلنا، للبائع حبس المبيع على ثمنه، لما تقدم من أنه عقد يقتضي التسلم والتسليم، وإن أحضر بعض الثمن، لم يملك أخذ ما يقابله إن نقص الباقي بالتشقيص، وقلنا: للبائع حبس المبيع على ثمنه، وإلا فله أخذ الجميع.
(5) أي عن البلد فلبائع الفسخ، وكذا لو كان بعض المال غائبا عنها مسافة القصر فأكثر، فلبائع الفسخ.
(6) أي فله الفسخ، وكذا لو غيب بعض المال، عنها مسافة القصر فأكثر، فلبائع الفسخ.
(7) في الحال، لأن في تأخيره ضررا عليه، وظاهر المتن: أنها جملة حالية
فلذا صرفها الشارح، وجعل الواو بمعنى «أو» لأنه المراد عند الأصحاب، أي لا يقدر على وفائه، وسواء كان معسرا به كله أو ببعضه، وصوبه في الإنصاف، وفي الإغاثة: الصحيح أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن، حتى يقبضه، وعليه: فلو دفعه إلا درهما، فله حبسه كله عليه، وكذا لو ظهر أنه مماطل اختاره الشيخ وغيره، وهو على التراخي، كعيب، ولا يلزمه إنظاره، وكل موضع قيل: له الفسخ؛ فإنه يفسخ بغير حكم حاكم، ولعله لا نزاع فيه، وكل موضع قيل: يحجر عليه، فلذلك إلى الحاكم.(7/444)
لتعذر الثمن عليه(1) كما لو كان المشتري مفلسا(2) وكذا مؤجر بنقد حال(3) (ويثبت الخيار للخلف في الصفة)(4) إذا باعه شيئا موصوفا(5).
(ولتغير ما تقدت رؤيته) العقد(6) وبذلك تمت أقسام الخيار
ثمانية(7).
فصل
في التصرف في المبيع قبل قبضه، وما يحصل به قبضه(8).
__________
(1) أي على البائع مع الإعسار أو المطل، أو بعد المال عن البلد، ونحو ذلك.
(2) وباعه جاهلا بالحجر عليه، له الفسخ، والرجوع بعين ماله، كما يأتي في الحجر.
(3) أي وكبائع فيما ذكر مؤجر بنقد حال، إذا آجر زيد داره من عمرو، وكانت الأجرة دينا حالا غير مؤجل، وأبى تمكينه من الدار حتى يسلم له الأجرة، فإن كان مؤجلا لم يطالب به حتى يحل.
(4) وهو الثامن من أقسام الخيار المعلومة بالاستقراء، ويتضمن أربع صور إما أن يتفقا على اشتراط صفة وتخلفت أو يدعي المشتري اشتراط صفة، ويخالفه البائع، أو بشرط عدم تلك الصفة، أو بشرط غيرها.
(5) معينا كان أو في الذمة كما تقدم.
(6) وتقدم أنه يثبت الخيار به باتفاق الأئمة.
(7) قيل ويتجه، أن يزاد: التاسع خيار يثبت لفقد شرط صحيح، أو فاسد على ما مر، والعاشر: لفوات غرض من ظن دخول ما لم يدخل في شراء، أو عدمه في بيع، والحادي عشر، لظهور عسر مشتر ولو ببعض الثمن، هرب أولا، حجر عليه لفلس، أو غيب ماله ببعيد.
(8) أي قبض المبيع من عد أو ذرع ونحو ذلك، وحكم الإقالة، وغير ذلك.(7/445)
(ومن اشترى مكيلا ونحوه) وهو الموزون، والمعدود والمذروع (صح) البيع(1) (ولزم بالعقد) حيث لا خيار(2) (ولم يصح تصرفه فيه) ببيع أو هبة أو إجارة(3) أو رهن، أو حوالة (حتى يقبضه)(4).
لقوله عليه السلام «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه»
__________
(1) ولو كان قفيزا من صبرة، أو رطلا من زبرة حديد ونحوه، ومكيل، أصله: مكيول معتل العين، كمبيع أصله مبيوع، والمكيل والموزون: محله باب الربا، لأن الكيل والوزن من جملة علل الربا.
(2) أي لزم المبيع لتمام شروطه، وملك بالعقد إجماعا، حيث لا خيار لهما، أو لأحدهما، إلى أمد، ولا خيار مجلس، كباقي المبيعات، وسواء احتاج لحق توفية أو لا، إلا ما يوجب الرد بنحو عيب.
(3) أي ولم يصح تصرف المشتري فيما اشتراه بكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع، ببيع، أو هبة ولو بلا عوض، أو إجارة حتى يقبضه لما يأتي.
(4) أي ولم يصح تصرف المشتري برهن، ولو بعد قبض ثمنه، أو حوالة عليه، أو به، قبل قبضه صورة لا حقيقة، وإلا فشرط الحوالة كما يأتي أن تكون في ذمة على ما في ذمة، وقيل معنى الحوالة عليه هنا، توكيل الغريم في قبضه لنفسه، نظير ماله، لأنه ليس في الذمة، وكذا الثمن إذا وقع بإحدى الصور الأربع، الكيل والوزن
والعد والذرع، قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الطعام إذا اشترى مكايلة أو موازنة أو معادة، فلا يجوز لمن اشتراه أن يبيعه من آخر، أو يعاوض به، حتى يقبضه الأول، فإن القبض شرط في صحة هذا البيع.(7/446)
متفق عليه(1) ويصح عتقه(2) وجعله مهرا، وعوض خلع(3) ووصية به(4).
__________
(1) وفي لفظ «حتى يقبضه» وحكاه الشيخ إجماعا، ولمسلم «حتى يكتاله» أي حتى يأخذه بالكيل، قال ابن عباس: ولا أحسب غيره إلا مثله، ولأحمد «إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه» ولأبي داود «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» قال الشيخ: وابن القيم وغيرهما: علة النهي عن البيع قبل القبض، عجز المشتري عن تسلمه، لأن البائع قد يسلمه، وقد لا يسلمه، لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح، فإنه يسعى في رد البيع إما بجحد أو احتيال في الفسخ، وتأكد بالنهي عن ربح ما لم يضمن.
(2) أي عتق المبيع قبل قبضه، لقوة سرايته، كما لو اشترى عبيدا على أنهم عشرة فأعتقهم قبل عدهم، صح العتق قولا واحدا، قال الشيخ: يملك المشتري المبيع بالعقد، ويصح عتقه قبل قبضه إجماعا فيهما.
(3) أي ويصح جعل المبيع مهرا قبل قبضه، ويصح جعله عوض خلع، لاغتفار الغرر اليسير فيهما، فخرج عن حكم البيع إذ البيع لا تغتفر فيه الجهالة اليسيرة.
(4) أي قبل قبضه، لأنها ملحقة بالإرث، وتصح بالمعدوم، وكذا كل ما ملك بعقد سوى البيع، قال الشيخ: ومن اشترى شيئا، لم يبعه قبل قبضه، سواء المكيل والموزون وغيرهما، وسواء كان المبيع من ضمان المشتري أولا، وعلى ذلك تدل
أصول أحمد، ويجوز التصرف فيه بغير البيع، ويجوز بيعه لبائعه، والشركة فيه، وكل ما ملك بعقد سوى البيع فإنه يجوز التصرف فيه قبل قبضه، بالبيع وغيره، لعدم قصد الربح، وإذا تعين ملك إنسان في موروث، أو وصية أو غنيمة لم يعتبر لصحة تصرفه قبضه، بلا خلاف.(7/447)
وإن اشترى المكيل ونحوه جزافا، صح التصرف فيه قبل قبضه(1) لقول ابن عمر رضي الله عنه: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا، فهو من مال المشتري(2) (وإن تلف) المبيع بكيل ونحوه(3).
__________
(1) لأن التعيين كالقبض، هذا المذهب عنه بعض الأصحاب.
(2) أي فدل على جواز التصرف في الصبرة قبل القبض، وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الدليل لا يطابق المدعى، لعدم تلازم الضمان، وجواز التصرف، بدليل ما في الصحيحين: كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق، فنهاهم صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه، وقوله «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه» اهـ.
وتواتر النهي عن بيع مطلق الطعام حتى يقبضه، من غير فرق بين الجزاف وغيره، وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب الجمهور وجاء الأمر أيضا بنقله، وقال الشيخ: يمتنع التصرف في صبرة الطعام المشتراة جزافا، واختاره الخرقي، وهذه طريقة الأكثرين، وذكر أنه يفضي إلى إنكار البائع البيع، واختاره ابن القيم وغيره، وثبتت السنة «حتى ينقل».
(3) كالموزون، والمعدود، والمذروع قبل قبضه، فمن ضمان البائع.(7/448)
أو بعضه (قبل) قبضه (فمن ضمان البائع)(1) وكذا لو تعيب قبل قبضه(2) (وإن تلف) المبيع المذكور (بآفة سماوية)(3) لا صنع لآدمي فيها (بطل) أي انفسخ (البيع)(4) وإن بقي البعض، خير المشتري ، في أخذه بقسطه من الثمن(5) (وإن أتلفه) أي المبيع بكيل أو نحوه (آدمي) سواء كان هو البائع أو أجنبيا(6).
__________
(1) أي أوتلف بعض المبيع بكيل ونحوه قبل قبضه فمن ضمان بائع، وأما نماؤه فللمشتري فإنه ملكه.
(2) أي قبل قبض المشتري للمبيع بكيل ونحوه، فمن ضمان البائع، وينتقل الضمان إلى المشتري بتمكنه من القبض.
(3) أي عاهة كبرد ونحوه.
(4) أي فيما تلف بآفة سماوية، سواء كان التالف البعض أو الكل، لأنه من ضمان بائعه، وفسر الشارح البطلان بالفسخ، لأن البطلان لا يكون إلا فيما إذا اختل شيء من أركانه أو شروطه، وهنا ليس كذلك.
(5) أي قسط ما بقي من المبيع، وكذا لو تعيب عند البائع، أو رده، لتفريق الصفقة عليه.
(6) أي سواء كان المتلف للمبيع -بكيل ونحوه- البائع، أو أجنبيا غير البائع وغير المشتري.(7/449)
(خير مشتر بين فسخ) البيع، ويرجع على بائع بما أخذ من ثمنه(1) (و) بين (إمضاء، ومطالبة متلفه ببدله) أي بمثله إن كان مثليا(2) أو قيمته إن كان متقوما(3) وإن تلف بفعل مشتر، فلا خيار له، لأن إتلافه كقبضه(4) و(ما عداه) أي عدا ما اشتري بكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع كالعبد والدار(5).
__________
(1) أي الذي دفعه للبائع، لأنه مضمون عليه إلى قبضه، وكالخيار في المبيع المعيب، وللبائع مطالبة متلفه ببدله، لأنه لما فسخ المشتري عاد الملك للبائع، فكان له الطلب على المتلف.
(2) أي وخير مشتر بين إمضاء للبيع ومطالبة متلف المبيع بمثله، إن كان المبيع المتلف مثليا كالمكيل والموزون.
(3) أي على متلف، وهو ما لم يصدق عليه حد المثلي، كالجواهر لأن الإتلاف كالعيب، وعند طائفة: الضمان بالمثل، اختاره الشيخ وابن القيم، لقصة القصعة، وعلم منه أن العقد لا ينفسخ بتلفه بفعل آدمي، بخلاف تلفه بفعل الله تعالى، لأنه لا مقتضي للضمان، سوى حكم العقد، بخلاف إتلاف الآدمي فإنه يقتضي الضمان بالبدل إن أمضى العقد، وحكم العقد يقضتي الضمان بالثمن إن فسخ، فكانت الخيرة للمشتري بينهما، والتالف قبل قبضه بآفة مما ذكر، من ضمان بائع.
(4) ولو كان الإتلاف غير عمد، وكذا إتلاف متهب بإذن واهب كقبضه ويسعر الثمن على المشتري إذا أتلف المبيع ونحوه فينقده للبائع إن لم يكن دفعه وإن كان دفعه فلا رجوع له به.
(5) أي العبد المعين، والدار المعينة والأرض، والثوب لم يذكر ذرعهما #
والصبرة المعينة، وكنصف ذلك ونحوه، لأن التعيين كالقبض، وكمكيل ونحوه بيع جزافا.(7/450)
(يجوز تصرف المشتري فيه قبل قبضه)(1) لقول ابن عمر: كنا نبيع الإبل بالبقيع(2) بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير، وبالعكس(3) فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا بأس أن تؤخذ بسعر يومها، ما لم يتفرقا، وبينهما شيء» رواه الخمسة(4).
__________
(1) أي ببيع، وإجارة، ورهن، وعتق، وغير ذلك، سواء تمكن من قبضه أولا، وعنه: لا يجوز: وهو قول أكثر العلماء، ومذهب أبي حنيفة والشافعي، لا يرون بيع شيء قبل قبضه، واختاره الشيخ وغيره.
(2) وللبيهقي: في بقيع الغرقد، ولم يكن إذا ذاك فيه قبور والآن هو معروف بالمقبرة شرقي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) أي نبيع بالدنانير، ونأخذ الدراهم وفي لفظ: أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق، وآخذ مكانها الدنانير.
(4) وصححه الحاكم، والحديث استدلوا به على جواز تصرف المشتري في المبيع قبل قبضه، وقالوا: إن قيل مقتضى الحديث صحة التصرف فيما يحتاج لحق توفية قبل قبضه، قيل: إنها في الذمة فليست كمبيع، بل هي من قبيل بيع الدين لمن هو عليه، بالدين لمن هو عليه، وهو صحيح بشرطه، والحديث دليل على جواز قضاء الذهب عن الفضة وبالعكس، وأن جواز الاستبدال مقيد بالتقابض في المجلس، وتقدم النهي عن التصرف في المبيع قبل قبضه، وهو مذهب الجمهور.(7/451)
إلا المبيع بصفة، أو رؤية متقدمة(1) فلا يصح التصرف فيه قبل قبضه(2) (وإن تلف ما عدا المبيع بكيل ونحوه فمن ضمانه) أي ضمان المشتري(3) لقوله عليه السلام «الخراج بالضمان»(4) وهذا المبيع للمشتري، فضمانه عليه(5) وهذا (ما لم يمنعه بائع من قبضه)(6).
__________
(1) ولو كان غير مكيل، أو موزون، أو معدود، أو مذروع.
(2) أي قبض مشتر، لأنه تعلق به حق توفية، فأشبه المبيع بكيل أو نحوه، وظاهره: ولو بعتق، أو جعله مهرا ونحوه، ولعله غير مراد، بل المراد التصرف السابق.
(3) ظاهره: تمكن من قبضه أولا، وقال الشيخ: لا يكون من ضمانه إلا إذا تمكن من قبضه، وقال: ظاهر المذهب الفرق بين ما تمكن من قبضه وغيره، ليس الفرق بين المقبوض وغيره.
(4) أي خراج المبيع -وهو غلته وفائدته- لمن هو في ضمانه، وضمان المبيع بعد القبض على المشتري، فكان له خراجه، فالباء متعلقة بمحذوف تقديره: مستحق بالضمان، أي بسببه، فما يحصل من غلة العين -المبتاعة- للمشتري، ولا شيء عليه لما انتفع به، لضمان أصله، والحديث رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
(5) أي المبيع ملك للمشتري، له دخله وغلته، وهو ضامن لرقبته، إن تلف في يده صار من ضمانه، ولم يكن له رده على البائع.
(6) أي وهذا الحكم -في أن ضمان المبيع على المشتري- ما لم يمنع المشتري بائع من قبض المبيع، ولو لقبض ثمنه.(7/452)
فإن منعه حتى تلف، ضمنه ضمان غصب(1) والثمر على الشجر، والمبيع بصفة، أو رؤية سابقة، من ضمان بائع(2) ومن تعين ملكه في موروث، أو وصية أو غنيمة فله التصرف فيه قبل قبضه(3) و(يحصل قبض ما بيع بكيل) بالكيل (أو) بيع بـ (وزن) بالوزن(4) (أو) بيع بـ (عد) بالعد (أو) بيع بـ (ذرع بذلك) الذرع(5).
__________
(1) وهو أن يسلم المبيع للمشتري، بنمائه المتصل، والمنفصل، لا ضمان عقد.
(2) أي والثمر على الشجر قبل جذاذه من ضمان بائع، حتى يجذه مشتر، والمبيع بصفة -معينا أو في الذمة -أو رؤية متقدمة- بزمن لا يتغير المبيع فيه عرفا- من ضمان بائع، لأنه يتعلق به حق توفية، وما لا يدخل في ضمان مشتر أربعة أنواع، ما اشتراه بكيل ونحوه، أو بصفة أو رؤية متقدمة، وما منعه بائع قبضه، والثمر على الشجر، والحب المشتد، ويصح تصرفه في النوعين الآخرين، فبين ما يدخل في ضمانه، وما لا يصح تصرفه فيه، عموم وخصوص فكل ما لا يصح تصرفه فيه، لا يدخل في ضمانه، وليس كل ما لا يدخل في ضمانه لا يصح تصرفه فيه.
(3) بلا خلاف، لعدم ضمانه بعقد معاوضة، فملكه عليه تام، لا يتوهم غرر الفسخ فيه، كمبيع مقبوض، ووديعة، ومال شركة، وعارية، فلم يعتبر لصحة تصرفه فيه قبضه.
(4) للخبر الآتي، والمرجع في كيفية الاكتيال إلى عرف الناس في أسواقهم من زلزلة كيل، أو عدمها، ونحو ذلك.
(5) ويصح قبض مبيع متعين، بغير رضا بائع(7/453)
لحديث عثمان يرفعه «إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل» رواه الإمام(1) وشرطه حضور مستحق، أو نائبه(2) ويصح استنابة من عليه الحق للمستحق(3) ومؤونة كيال، ووزان، وعداد، ونحوه على باذل(4).
__________
(1) أي أحمد بن حنبل رحمه الله، ورواه البخاري تعليقا، وروى الأثرم «إذا سميت الكيل فكل».
(2) أي وشرط صحة القبض حضور مستحق المبيع: -أو حضور نائبه- كيله، أو وزنه أو عده، أو ذرعه للخبر، فإذا ادعى بعد ذلك نقصان ما اكتاله أو اتزنه، أو عده، أو ذرعه، لم يقبل، أو ادعيا أو أحدهما أنهما غلطا فيه، أو ادعى البائع زيادة، لم يقبل قولها، لأن الظاهر خلافه.
(3) فلو قال: اكتل من هذه الصبرة قدر حقك، ففعل صح، لقيام الوكيل مقام موكله، ومتى وجده زائدا أعلمه به، وإن قبضه ثقة بقول باذل أنه قدر حقه، ولم يحضر كيله أو وزنه، قبل قوله في قدر نقصه، وإن صدقه في قدره، بريء من عهدته، ولو دفع إليه الوعاء فقال: كله، فقيل: يصير مقبوضا.
(4) أي وأجرة كيال لمكيل، ووزان لموزون، وعداد لمعدود، ونقاد لمنقود، وتصفية ما يحتاج لتصفيته، ونحو ذلك، على باذل، بائع أو غيره، لأنه تعلق به حتى توفية، ولا تحصل إلا بذلك، أشبه السقي على بائع الثمرة، ولعموم (إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أووزنوهم يخسرون) وأجرة النقل لمنقول تكون على قابض، وأجرة الدلال على بائع، وهو العرف المطرد، إلا مع شرط.(7/454)
ولا يضمن ناقد حاذق أمين خطأ(1) (و) يحصل القبض (في صبرة(2) وما ينقل) كثياب وحيوان (بنقله(3) و) يحصل القبض في (ما يتناول) كالجواهر والأثمان (بتناوله)(4) إذ العرف فيه ذلك(5) (وغيره) أي غير ما ذكر، كالعقار، والثمرة على الشجر، قبضه (بتخليته) بلا حائل(6).
__________
(1) سواء كان متبرعا، أو بأجرة، إذا لم يقصر، لأنه أمين، فإن لم يكن حاذقا، أو كان غير ذي أمانة وعدالة، فهو ضامن، لتغريره، كما لو تعمد، ولا فرق بين كونه بأجرة أولا.
(2) بنقلها لخبر: كنا نشتري الطعام جزافا فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيعه، حتى ننقله.
(3) وكأحجار، وطواحين، وعبارة المبدع وغيره: إن كان حيوانا، فقبضه تمشيته من مكانه.
(4) أي باليد، وكذا كتب ونحو ذلك.
(5) أي فيكون قبضا شرعيا، يعطي أحكام القبض في نحو المكيل، وقال بعض أهل العلم: الرجوع إلى العرف أحد القواعد الخمس، التي بني عليها الفقه.
(6) أي مانع من قبضه والتخلية ليست شرطا، وإنما ذلك تعريف لقبض نحو العقار، وهو الضيعة، والبناء، والأرض، والغراس، أن يخلي بينه وبين المشتري ، والثمر على الشجر، قبضه أن يخلي بينه وبين مشتريه، يتصرف فيه تصرف المالك.(7/455)
بأن يفتح له باب الدار(1) أو يسلمه مفتاحها ونحوه(2) وإن كان فيها متاع للبائع، قاله الزركشي(3) ويعتبر لجواز قبض مشاع ينقل إذن شريكه(4) (والإقالة) مستحبة(5) لما روى ابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا «من أقال مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة»(6).
__________
(1) أو باب العقار إن كان محاطا، وإلا فيخلي بينه وبين التصرف فيه.
(2) كأن يسلمه مقود الدابة أو يرسلها معه، وإسلام المفتاح ليفتح به، وإن شاء أرجعه إليه أو تركه، وكل ما عده الناس قبضا صح، لأن القبض مطلق في الشرع، فيرجع فيه إلى العرف.
(3) أي يحصل قبضها بتسليم مفتاحها ونحوه، وإن كان فيها متاع للبائع عملا بالعرف.
(4) أي في قبضه لأن قبضه نقله، ونقله لا يتأتى إلا بنقل حصة شريكه، فيسلم البائع الكل فإن أبى المشتري التوكيل وأبي الشريك التوكل، نصب الحاكم أمينا يقبض، ويصير نصيب الشريك أمانة في يد القابض، وإن سلمه بلا إذن فغاصب وعلم منه: أن قبض مشاع لا ينقل، لا يعتبر له إذن شريك، لأن قبضه تخليته، وليس فيها تصرف.
(5) أي لأحد المتعاقدين عند ندم الآخر، إما لظهور الغبن، أو زوال الرجاحة، أو لانعدام الثمن، أو غير ذلك ، وأجمعوا على مشروعيتها.
(6) ورواه أبو داود بدون لفظ القيامة، أي: غفر زلته وخطيئته، لإحسانه إلى صاحبه، وفي فضل الإقالة أحاديث أخر.(7/456)
وهي (فسخ) لأنها عبارة عن الرفع والإزالة(1) يقال: أقال الله عثرتك. أي أزالها(2) فكانت فسخا للبيع لا بيعا(3) فـ (تجوز قبل قبض المبيع)(4) ولو نحو مكيل(5) ولا تجوز إلا (بمثل الثمن) الأول ، قدرا ونوعا(6) لأن العقد إذا ارتفع رجع كل منهما بما كان له(7) وتجوز بعد نداء الجمعة(8).
__________
(1) والفسخ: رفع العقد من حين الفسخ، لا من أصله، سواء وقع بإقالة أو خيار شرط، أو عيب، فما حصل من كسب، أو نماء منفصل فلمشتر، لخبر «الخراج بالضمان».
(2) وفي القاموس: قلته البيع بالكسر، وأقلته، فسخته، واستقالة طلب إليه أن يقيله، وتقايل البيعان، وأقال الله عثرتك، وأقالكها.
(3) أي فسخا لعقد البيع، وليست بيعا، لما تقدم فيعتبر لها شروط البيع، ولجوازها في السلم، مع إجماعهم على المنع من بيعه قبل قبضه، فلو كانت بيعا لم يجيزوها فيه.
(4) من مسلم وغيره، كمبيع في ذمة، أو بصفة، أو رؤية متقدمة، لأنها فسخ، والفسخ لا يعتبر فيه القبض.
(5) أي ولو كان المبيع المفسوخ بالإقالة نحو مكيل، كموزون ومعدود، ومذروع، قبل قبضه بكيل، أووزن، أو عد، أو ذرع، لأنها فسخ.
(6) كما سيأتي فلو قال مشتر لبائع، أقلني، ولك كذا ففعل فقد كرهه أحمد ،لشبهه بمسائل العينة.
(7) فلم تجز الزيادة ولا النقص، ولا بغير الجنس.
(8) كسائر الفسوخ، والمراد النداء الثاني، ممن تلزمه الجمعة كما تقدم.(7/457)
ولا يلزم إعادة كيل أو وزن(1) وتصح من مضارب وشريك(2) وبلفظ صلح، وبيع، ومعاطاة(3) ولا يحنث بها من حلف لا يبيع(4) (ولا خيار فيها) أي لا يثبت في الإقالة خيار مجلس(5) ولا خيار شرط، ونحوه(6) (ولا شفعة) فيها لأنها ليست بيعا(7).
__________
(1) أو عد، أو ذرع، لأن الإقالة رفع للعقد، فلم يحتج لإعادة الكيل ونحوه.
(2) ولو فيما اشتراه شريكه، بشرط أن يكون فيها مصلحة، ولو بلا إذن رب مال، أو شريك، لا وكيل في شراء، لأنه لا يملك الفسخ بغير إذن موكله.
(3) لأن القصد المعنى، فيكتفى بما أداه كالبيع.
(4) أي لا يحنث بالإقالة من حلف لا يبيع، ولا يبر بها من حلف ليبيعن، لأنها فسخ، وليست بيعا.
(5) لأنها فسخ، والفسخ لا يفسخ، ولأن المحتال يتعين عليه القبول بالشرع، فليس عقدا اختياريا، بل أمر يصدر من المدين للدائن، والشرع يلزمه بقبوله وثبوت خيار المجلس يبطله، فيكون إبطالا للحوالة، وفي الحديث: «إذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع».
(6) كخيار عيب أو تدليس، أو لفقد شرط ونحو ذلك، وإذا وقع الفسخ بإقالة، أو خيار شرط، أو عيب، أو تدليس أو نحوه، فهو رفع للعقد من حين الفسخ، كما تقدم.
(7) والمقتضي للشفعة هو البيع، ولم يوجد في الإقالة، وإنما هي رفع للعقد كالرد بالعيب، ولا ترد به.(7/458)
ولا تصح مع تلف مثمن(1) أو موت عاقد(2) ولا بزيادة على ثمن، أو نقصه أو غير جنسه(3) ومؤونة رد مبيع تقايلاه على بائع(4).
باب الربا والصرف(5)
__________
(1) لفوات محل الفسخ، وتصح مع تلف ثمن.
(2) أي ولا تصح مع موت عاقد، أو غيبته، بائعا كان أو مشتريا، لعدم تأتيها.
(3) أي ولا تصح الإقالة بزيادة على ثمن معقود به، أو مع نقصه، أو بغير جنس الثمن المعقود به، لأن مقتضى الإقالة، رد الأمر إلى ما كان عليه، ورجوع كل منهما إلى ما كان له، وتقدم أنه لو قال مشتر لبائع: أقلني ولك كذا، ففعل، فقد كرهه أحمد، لشبهه بمسائل العينة، لأن السلعة ترجع إلى صاحبها، ويبقى له على المشتري فضل دراهم، وإن طلب أحدهما الإقالة، وأبى الآخر، فاستأنفا بيعا، جاز بما ذكر.
(4) لرضاه ببقاء المبيع أمانة بيد مشتر، بعد التقايل، فلا يلزمه مؤونة رده كوديعة، بخلاف مؤونة رد المبيع بعيب، فعلى المشتري.
(5) أي هذا باب يذكر فيه أحكام الربا والصرف، والحيل، وما يتعلق بذلك، وقد اعتنى الشارع بالنهي عن البيوعات الفاسدة، الربا وغيره، لأنه يحتاج لبيانها لكونها على خلاف الأصل ، لا الصحيحة اكتفاء بالعمل فيها بالأصل، وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، حتى ود عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيما فيه شائبة الربا، عهدا ننتهي إليه.(7/459)
الربا مقصور(1) وهو لغة: الزيادة(2) لقوله تعالى: { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } أي علت(3) وشرعا: زيادة في شيء مخصوص(4) والإجماع على تحريمه(5).
__________
(1) يكتب بالألف والواو والياء.
(2) يقال: ربا الشيء يربو، زاد وعلا.
(3) وارتفعت وقال: { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي أكثر عددا { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } أي ليكثر، و«أربى الرجل» إذا عامل في الربا.
(4) وهو المكيل والموزون، إما بتفاضل في المكيلات بجنسها، والموزونات بجنسها، أو بنسإ في المكيلات بالمكيلات، ولو من غير جنسها، والموزنات بالموزونات كذلك، ما لم يكن أحدهما نقدا، ويطلق الربا على كل بيع محرم.
(5) أي في الجملة، فلا ربا بين السيد وعبده، وقيل: ومكاتبه ونقل رواية
إباحته في دار الحرب، بل الأصل في تحريمه الكتاب والسنة، ولا ريب أنه أخذ مال من غير عوض، ومال الإنسان متعلق حاجته،وله حرمة عظيمة وحرمة ماله كحرمة دمه، فوجب أن يكون حراما.(7/460)
لقوله تعالى: { وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) (والصرف) بيع نقد بنقد(2).
قيل: سمي به لصريفهما، وهو تصويتهما في الميزان(3) وقيل: لانصرافهما عن مقتضى البياعات، من عدم جواز التفرق قبل القبض ونحوه(4).
__________
(1) وذلك أن المشركين لما اعترضوا على أحكام الله وشرعه و { قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أي نظيره فلم أحل هذا وحرم هذا؟ أبطل الله قولهم، وأخبر أن الذين يعاملون به { لا يَقُومُونَ } من قبورهم مما يصيبهم بسبب أكله { إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } أي كما يقوم المصروع حال صرعه، ردا على ما قالوه من الاعتراض بتفريق الله بين البيع والربا حكما، ثم قال: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا } وفي الخبر «وإن كثر فعاقبته إلى قل» ثم قال: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ } .
وفي الصحيح «اجتنبوا السبع الموبقات» يعني المهلكات وذكر منها «أكل الربا» ولعن آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهده وغير ذلك من الأحاديث الدالة على تحريمه، حتى ذكر الشيخ أن الشهادة على العقود المحرمة، على -وجه الإعانة عليها- حرام.
(2) سواء اتحد الجنس أو اختلف، وهو لغة النقل والرد.
(3) وسمت العرب صرير الباب والبكرة صريفا، لتصويتهما.
(4) كعدم الزيادة في بيع نحو: بر ببر، وفي القاموس: وصرف الحديث أن
يزاد فيه ويحسن، من الصرف في الدراهم، وهو فضل بعضه على بعض في القيمة وكذلك صرف الكلام.(7/461)
والربا نوعان، ربا فضل، وربا نسيئة(1) و(يحرم ربا الفضل في) كل (مكيل) بيع بجنسه(2) مطعوما كان كالبر(3) أو غيره كالأشنان(4) (و) في كل (موزون بيع بجنسه)(5) مطعوما كان كالسكر(6).
أو لا كالكتان(7)
__________
(1) والفضل الزيادة، والنساء التأخير، قال ابن القيم: الأول جلي، والثاني خفي ، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصدا، وتحريم الثاني وسيلة فتحريمه من باب سد الذرائع.
(2) لعدم التماثل بالإجماع، للخبر الآتي وغيره، ولو كان يسيرا لا يتأتى كيله.
(3) والشعير، والذرة والدخن والأرز، والعدس، والتمر والباقلا، ونحو ذلك من الثمار والحبوب المطعومة، فلا يباع إلا متساويا، والتساوي لا يعرف إلا بمعياره الشرعي وهو الكيل.
(4) أي أو كان غير مطعوم كحب الأشنان، وحب القطن، ونحو ذلك من جميع المكيلات.
(5) أي ويحرم ربا الفضل في كل موزون بيع بجنسه، لعدم التماثل بالإجماع.
(6) والدهن، والخل، واللبن، واللحم، ونحوه.
(7) والقطن، وكالحرير، والصوف، والحديد، والنحاس، والذهب والفضة، ونحو ذلك، وفي الاختيارات، العلة في تحريم ربا الفضل الكيل والوزن مع الطعم، وهو رواية عن أحمد، وطائفة خصت المكيلات بالقوت، وصوبه ابن القيم.
قاعدة كل شيء اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم، من جنس واحد، ففيه الربا، ورواية واحدة، كالأرز، والدخن، والذرة، والقطنيات، والدهن، والخل، واللبن، واللحم، ونحوه، وهذا قول أكثر أهل العلم، وما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم، أو اختلف جنسه، فلا ربا فيه، رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، كالتبن، والنوى، والقت، والطين، إلا الأرمني، فإنه يؤكل دواء، فيكون موزونا مأكولا، فهو من القسم الأول، وما وجد فيه الطعم وحده، أو الكيل، أو الوزن، من جنس واحد، ففيه الخلاف، وقال الشارح: الأولى حله.(7/462)
لحديث عبادة بن الصامت مرفوعا: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد» رواه أحمد ومسلم(1).
__________
(1) فدل الحديث على تحريم بيع الذهب بالذهب، بجميع أنواعه، من مضروب وغيره، والفضة بالفضة، بجميع أنواعها إلا مثلا بمثل، يدا بيد، سواء بسواء، وحكاه النووي وغيره إجماعا، والبر بالبر وهو الحنطة، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر بجميع أنواعه، والملح بالملح، مثلا بمثل في المقدار، وسواء بسواء وروي «وزنا بوزن» فلا يباع موزون بجنسه إلا وزنا، ولا مكيل بجنسه إلا كيلا اتفاقا، لعدم تحقق التماثل بغير معياره الشرعي يدا بيد، أي حالا، مقبوضا في المجلس، قبل افتراق أحدهما عن الآخر.
وحكي الوزير وغيره إجماع المسلمين على أنه لا يجوز بيع جنس منها بجنسه إلا مثلا بمثل، يدا بيد، وأنه لا يباع غائب منها بناجز، وحرم في هذا الجنس الربا من طريق الزيادة والنساء، وإذا اتفقا في العلة، واختلفا في الجنس، منع النساء، وجاز التفاضل، وإن اختلفا في العلة جاز النساء والتفاضل، واستثنى النقدان من الموزونات. لئلا ينسد باب السلم، ولإجماعهم على جواز إسلامهما في الموزونات من الحديد وغيره.(7/463)
ولا ربا في ماء(1) ولا فيما لا يوزن عرفا لصناعته كفلوس(2) غير ذهب وفضة(3).
__________
(1) لإباحته في الأصل، وعدم تموله عادة، وضعف العلة التي هي الكيل، فلم تؤثر.
(2) فمعمول الصفر، والنحاس، والرصاص، والفلوس -ولو كانت نافقة- لا يجري فيه الربا، لخروجه عن الكيل والوزن بالصناعة عن علة الوزن وعدم النص والإجماع، وهذا مذهب جمهور العلماء.
(3) أي غير ما يعمل منهما، فلا يخرجهما عن أن يكون ربوبيين فالحلي لا تخرجه صنعته عن الربا، عند الأكثر، والمعتمد: ما لا يوزن لصناعته، في غير الذهب والفضة، فأما الذهب والفضة فلا يصح مطلقا، لكونهما موزوني جنس وعن أحمد: العلة فيهما الثمنية وهو قول مالك، والشافعي، قال ابن القيم: وهو الصواب، فإنه أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس، والحديد وغيرهما، وقال: التعليل بالوزن ليس فيه مناسبة، وذكر نحوا من ثلاثين دليلا على صحة التعليل بالثمنية، واحتج هو والشيخ بأن الحلي كان عند الصحابة، ولم يجئ أن بيعه بنقد ممنوع، فإنه لا بد أن يتبايعوه، والمانعون معهم أصل المنع، والأحوط المنع.(7/464)
ولا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كبيض، وجوز(1) (ويجب فيه) أي يشترط في بيع مكيل أو موزون بجنسه مع التماثل (الحلول والقبض)(2) من الجانبين بالمجلس(3) لقوله عليه السلام فيما سبق «يدا بيد»(4) (ولا يباع مكيل بجنسه إلا كيلا)(5) فلا يباع بجنسه وزنا، ولو تمرة بتمرة(6).
__________
(1) وتفاح، ورمان، وبطيخ، وحيوان، فيجوز بيع بيضة، وجوزة وبطيخة بمثلها لأنه ليس مكيلا، ولا موزونا، قال حمد بن معمر، وما جرى هذا المجرى يجوز فيه التفاضل، إذا كان يدا بيد.
(2) وهذا بإجماع المسلمين، وفي المستوعب، يشترط القبض في ثمانية من العقود، السلف ، والصرف، وما يدخله الربا، والرهن، والقرض، والهبة والهدية والصدقة.
(3) متعلق بالقبض، أي: يشترط إقباض البائع المبيع، والمشتري الثمن، بمجلس العقد.
(4) أي فيما سبق قريبا من حديث عبادة «ولا يباع منها غائب بناجز» ولا نزاع في ذلك، تسلم يد البائع المبيع للمشتري، وتسلم يد المشتري الثمن، ويستلم كل منهما من الآخر بالمجلس، قبل افتراق أحدهما عن الآخر.
(5) كتمر بتمر، وبر ببر، وشعير بشعير، وكذا سائر الحبوب والمائعات لأن الكيل هو معياره الشرعي.
(6) أي وزنا، لخروجه عن جنس المشروع المأمور به.(7/465)
(ولا) يباع (موزون بجنسه إلا وزنا)(1) فلا يصح كيلا(2) لقوله عليه السلام «الذهب بالذهب وزنا بوزن، والفضة بالفضة وزنا بوزن، والبر بالبر كيلا بكيل، والشعير بالشعير كيلا بكيل» رواه الأثرم، من حديث عبادة بن الصامت(3) ولأن ما خولف معياره الشرعي، لا يتحقق فيه التماثل(4).
__________
(1) كذهب بذهب، وفضة بفضة، ونحاس بنحاس، وحديد بحديد، ونحو ذلك مما أصله الوزن.
(2) لاعتبار الشارع المساواة في الموزونات بالوزن، وفي المكيلات بالكيل، فمن خالف ذلك خرج عن جنس المشروع المأمور به، إذ المساواة المعتبرة فيما يحرم فيه التفاضل، هي المساواة في معياره الشرعي.
(3) فأما الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وزنا بوزن، فهو في صحيح مسلم وغيره، وأما البر ونحوه فجاء مدا بمد، أي مكيالا بمكيال، مثلا بمثل، سواء بسواء، ولأبي داود «مدين بمدين» وحكى الوزير وغيره الاتفاق على أنه لا يباع موزون بجنسه إلا وزنا، ولا مكيل بجنسه إلا كيلا، لعدم تحقق التماثل بغير معياره الشرعي، وأما ما لا يتهيأ فيه الكيل، كالتمور التي تغشاها المياه فالوزن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنده كيل التمر بالمدينة، جعل الكيل معيارا له، فيستفاد منه تأصيل المماثلة، وفي الاختيارات: وما لا يختلف فيه الكيل والوزن -مثل الأدهان- يجوز بيع بعضه ببعض كيلا ووزنا.
(4) أي فلا يجوز إلا بمعياره الشرعي وهو الكيل في المكيل، والوزن في الموزون، ولا عبرة بالمساواة في القيمة، مع اختلاف الكيل أو الوزن.(7/466)
والجهل به، كالعلم بالتفاضل(1) ولو كيل المكيل، أو وزن الموزون، فكانا سواء صح(2).
(ولا) يباع (بعضه) أي بعض المكيل أو الموزون (ببعض) من جنسه (جزافا) لما تقدم(3) ما لم يعلما تساويهما في المعيار الشرعي(4) فلو باعه صبرة بأخرى، وعلما كيلهما وتساويهما(5) أو تبايعاهما مثلا بمثل، وكيلتا فكانتا سواء صح(6).
__________
(1) أي والجهل بالتماثل -حالة العقد على مكيل بجنسه، أو على موزون بجنسه- كالعلم بالتفاضل، في منع الصحة إذا اتحد جنس المكيل أو الموزون.
(2) أي ولو بيع المكيل بجنسه كيلا، أو بيع الموزون بجنسه وزنا، فكانا سواء في معيارهما الشرعي، صح البيع، للعلم بالتماثل، المنصوص عليه في قوله «مثلاً بمثل سواء بسواء، يدا بيد».
(3) أي من الحديث، والتعليل، فلو باع بعض ربوي ببعض من جنسه جزافا لم يصح البيع، أو كان الجزاف من أحد الطرفين، كمد بر ببر جزافا، لعدم العلم بالتساوي والجزاف -بضم الجيم وتكسر- الحدس في البيع والشراء، ويقال: الجزافة، والمجازفة ، وهو بيع الشيء بالشيء بلا كيل، ولا وزن.
(4) وهو الكيل في المكيل، والوزن في الموزون.
(5) أي علم المتعاقدان كيل الصبرتين، وعلما تساويهما في الكيل، صح البيع، للعلم بالتساوي.
(6) أي تبايع المتعاقدان الصبرتين مثلا بمثل، وهما يجهلان كيلهما وكلاهما
أو يجهلان كيل إحداهما، وكالاهما في المجلس، أو تبايعاهما مكايلة، وكيلتا فكانتا سواء، صح البيع، للعلم بالتساوي، وإن لم يتساويا بأن زادت إحداهما على الأخرى، بطل البيع للتفاضل.(7/467)
وكذا زبرة حديد بأخرى من جنسها(1) (فإن اختلف الجنس) كبر بشعير، وحديد بنحاس(2) (جازت الثلاثة) أي الكيل، والوزن، والجزاف(3) لقوله عليه السلام «إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» رواه مسلم، وأبو داود(4).
__________
(1) أي لا يباع إحداهما بالأخرى جزافا، ما لم يعلما تساويهما في المعيار الشرعي، فإن علما صح.
(2) وكتمر بزبيب، وذهب بفضة، وكأشنان بملح، وكجص بنورة، وكخز بكتان ونحو ذلك.
(3) أي جاز الكيل في الموزون، والوزن في المكيل، والجزاف في المكيل، والموزون، وصح بيع بعضه ببعض، كيلا، ووزنا، وجزافا، متفاضلا إذا كان يدا بيد.
(4) من حديث عبادة وللترمذي وغيره «بيعوا الذهب بالفضة، كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر، كيف شئتم يدا بيد» فأجاز بيع بعض هذه الأشياء ببعض، من غير تقييد بصفة من الصفات، إذاكان يدا بيد، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه يجوز الذهب بالفضة، وعكسه متفاضلين، وكذا التمر بالحنطة، أو الشعير، أو الملح، إذا كان يدا بيد ، وأنه لا بد في بيع بعض الربويات ببعض من التقابض، وإلا حرم، وبطل البيع.(7/468)
(والجنس ماله اسم خاص يشمل أنواعا)(1) فالجنس هو الشامل لأشياء مختلفة بأنواعها(2) والنوع هو الشامل لأشياء مختلفة بأشخاصها(3) وقد يكون النوع جنسا، وبالعكس(4) والمراد هنا الجنس الأخص، والنوع الأخص(5) فكل نوعين اجتمعا في اسم خاص فهو جنس(6) وقد مثله بقوله (كبر ونحوه) من شعير، وتمر وملح(7).
__________
(1) فهو أعم من النوع، والنوع أخص منه.
(2) وفي القاموس: هو كل ضرب من الشيء، فالإبل ضرب من البهائم.
(3) والنوع هو فرع الجنس الذي هو الأصل، وكل صنف من كل شيء.
(4) أي وقد يكون النوع الذي هو فرع الجنس جنسا، باعتبار ما تحته، إذا اشتمل على أصناف، كالتمر وهو نوع لجنس الحلاوة، وجنس لأنواعه من البرني، والمعقلي ونحوهما، وبالعكس أن يكون الجنس نوعا بالنسبة إلى ما فوقه كالبر جنس، وهو بالنسبة إلى الحب نوع لأنه من الحبوب، فهو بالنسبة إلى ما تحته جنس، وبالنسبة إلى ما فوقه نوع، فالوصف بالجنسية والنوعية أمور نسبية.
(5) أي لا الجنس العام، ولا النوع العام.
(6) فالجنس والنوع إما عامان، كالإنسان للجنس، والحيوان للنوع، وإما خاصان، كالحيوان للجنس، والإنسان للنوع، فالمراد هنا الجنس الخاص، كالبر، لا العام الذي هو المكيل، والنوع الخاص الذي هو البحيراني مثلا، لا العام الذي هو البر.
(7) لشمول كل اسم من ذلك لأنواع، وهو نوع، ويسمى جنسا باعتبار
ما تحته من الأنواع، فالبر بأنواعه جنس، والشعير بأنواعه جنس، والتمر بأنواعه كالبرني والمعقلي جنس، والملح بأنواعه جنس، وكل شيئين فأكثر أصلهما واحد فهما جنس واحد، وإن اختلفت مقاصدهما، كدهن ورد، وزئبق وياسمين لاتحاد أصلها، وقد يكون الجنس الواحد مشتملا على جنسين كالتمر يشتمل على النوى وغيره، وهما جنسان بعد النزع، فلا يباع البر بالبر إلا مثلا بمثل، يدا بيد، وكذا البقية، اتحدت أنواع الجنس أولا، فاختلاف الأنواع لا يبيح التفاضل في الجنس المذكور، كما لا يبيح النساء.(7/469)
(وفروع الأجناس كالأدقة والأخباز والأدهان) أجناس(1) لأن الفرع يتبع الأصل(2) فلما كانت أصول هذه أجناسا، وجب أن تكون هذه أجناسا(3) فدقيق الحنطة جنس(4) ودقيق الذرة جنس، وكذا البواقي(5).
(واللحم أجناس باختلاف أصوله)(6) لأنه فرع أصول هي أجناس، فكان أجناسا كالأخباز(7) والضأن والمعز جنس واحد(8) ولحم البقر والجواميس جنس(9) ولحم الإبل جنس، وهكذا(10) (وكذا اللبن) أجناس باختلاف أصوله لما تقدم(11).
__________
(1) وكذا الخلول ونحوها، فدهن الإبل جنس، ودهن البقر جنس، ودهن الغنم جنس.
(2) فالدقيق والخبز فرع عن أصله، والدهن فرع عن أصله، والخل ونحوه كل من ذلك فرع عن أصله.
(3) إلحاقا للفروع بأصولها.
(4) وخبزها جنس وهكذا.
(5) أي من الأدقة والأخباز، والأدهان والخلول، فدقيق الشعير جنس، وخبزه جنس، وخبز الذرة جنس، ودهن السمسم جنس، ودهن الزيتون جنس، والسمن جنس، وخل العنب جنس، وهكذا. فعسل النحل جنس، وعسل القصب جنس، وزيت الزيتون جنس، وما أشبه ذلك كذلك.
(6) من إبل، وبقر، وغنم، وخيل،ونعام وغيرها.
(7) والأدهان، والزيوت ، وغير ذلك من فروع أصول أجناس، إلحاقا للفروع بالأصول، كما تقدم.
(8) لأن المعز نوع من الضأن، ولذلك اجتزي بإخراج الزكاة من أحدهما فلحم الضأن والمعز جنس واحد، فلا يباع بعضه ببعض متفاضلا.
(9) لأن الجواميس نوع من البقر، والبقر الوحشية يشملها اسم البقر فلحمها جنس واحد.
(10) أي ولحم الإبل العراب، والبخاتي، جنس واحد، لا يباع لحم أحدهما بالآخر، إلا مثلا بمثل، يدا بيد، وهكذا سائر الحيوانات، ويجوز بيع رطل لحم ضأن برطلي لحم بقر أو إبل.
(11) أي في قوله: لما كانت أصول هذه أجناسا، وجب أن تكون هذه أجناسا، فلبن الضأن والمعز جنس، ولبن البقر والجواميس جنس، ولبن الإبل العراب والبخاتي جنس، لا يباع بعضه ببعض متفاضلا، ويباع لبن جنس، بلبن جنس آخر متفاضلا، إذا كان يدا بيد.(7/470)
(واللحم والشحم، والكبد) والقلب، والأَلية، والطحال، والرئة والأكارع (أجناس)(1) لأنها مختلفة في الاسم والخلقة(2) فيجوز بيع جنس منها بآخر متفاضلا(3).
(ولا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه)(4) لما روى مالك، عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع اللحم بالحيوان»(5).
__________
(1) وكذا الرءوس، والدماغ، والمخ، والكلا، والكرش، والمعي، والجلود، والأصواف، والعظام ونحوها، أجناس والطحال لكل ذي كرش إلا الفرس.
(2) فكانت أجناسا، كبهيمة الأنعام.
(3) نحو أن يشتري رطل شحم برطلي لحم، وبالعكس، ورطل مخ برطلي كرش، ونحو ذلك، إذا كان يدا بيد، لأنهما جنسان كالنقدين، ويحرم بيع جنس منها بعضه ببعض متفاضلاً، فلا يصح بيع لحم بمثله من جنسه بعظامه، ويصح إذا نزع عظمه، وتساويا وزنا، يدا بيد، وإن اختلف الجنس جاز التفاضل كما تقدم، فلحم إبل بلحم غنم لا بأس به متفاوضلاً، إذا كان يدا بيد، ولحم الغنم جنس، فلا يباع لحم ضأن بلحم معز، وإلا وزنا بوزن، ويدل على أنهما جنس واحد نصاب الزكاة.
(4) مقصود اللحم، وهو مذهب مالك والشافعي، وقاله الشيخ وغيره، كعضو شاة بطفل صغير مثلا، أو عنز.
(5) وحملوه على جنسه، وقال ابن عبد البر: هذا أحسن أسانيده، وروي:
نهى أن يباع حي بميت، وروى ابن عباس أن جزورًا نحرت، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني جزءا بهذا العناق؛ قال أبو بكر: لا يصلح هذا، قال الشافعي: لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك، وقال أبو الزناد: كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان.(7/471)
(ويصح) بيع اللحم (بـ) حيوان من (غير جنسه)(1) كلحم ضأن ببقرة، لأنه ليس أصله، ولا جنسه، فجاز(2) كما لو بيع بغير مأكول(3) (ولا يجوز بيع حب) كبر (بدقيقه ولا سويقه)(4) لتعذر التساوي(5) لأن أجزاء الحب تنتشر بالطحن، والنار قد أخذت من السويق(6).
__________
(1) أي بغير لحم أصله.
(2) أي لأن لحم الضأن ونحوه، ليس أصله البقر ونحوه، ولا جنسه، فيدخل في بيع الجنس بجنسه متفاضلا، فجاز بيعه كذلك، لكن يحرم بيعه نسيئة، عند جمهور الفقهاء، ذكره الشيخ وغيره، وقيده بمقصود اللحم، فالعلة بيع لحم بلحم، فيخرج بيع لحم بحيوان غير مقصود اللحم.
(3) أي كما يجوز بيع لحم بحيوان غير مأكول، كحمار وبغل، عند جمهور الفقهاء.
(4) الدقيق هو الطحين، والسويق دقيق الحنطة، أو الشعير يحمص ثم يبل بالسمن أو الماء.
(5) وفوات المماثلة، المأمور بها في قوله (إلا مثلا بمثل، سواء بسواء).
(6) فيزيد الحب بالطحن، وينقص بأخذ النار، وكل منهما مكيل يشترط فيه، التساوي وهو متعذر هنا.(7/472)
وإن بيع الحب بدقيق أو سويق من غير جنسه صح، لعدم اعتبار التساوي إذا(1) (و) لا بيع (نيئة بمطبوخة) كالحنطة بالهريسة(2) أو الخبز بالنشا(3) لأن النار تعقد أجزاء المطبوخ، فلا يحصل التساوي(4) (و) لا بيع (أصله بعصير)(5) كزيتون بزيت، وسمسم بشيرج، وعنب بعصيره(6) (و) لا بيع (خالصه بمشوبه)(7).
__________
(1) اتفاقا، كحب بدقيق شعير، لعدم جريان الربا بين أصلهما، لقوله «فإذا اختلفت هذه الأجناس، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد».
(2) أي ولا يجوز بيع نيء بر وذرة وشعير، ونحو ذلك، بمطبوخ بر ونحوه، من جنسه، ومن قوله: كالحنطة -وهي البر- بالهريسة يعني وكالخبز بالعجين ولحم نيء بمطبوخ من جنسه، لأخذ النار من أحدهما، فتفوت المماثلة.
(3) أو الفالوذج، أو السنبوسك، أو الحريرة ونحو ذلك.
(4) ولما في ذلك أيضا من الماء، فلا يتأتى العلم بالمماثلة، وكذا لا يجوز بيع خبز بدقيقه أو سويقه، كيلا ولا وزنا، للجهل بالتساوي، لما في الخبز من الماء.
(5) أي لا يصح بيع أصل ربوي بعصيره، وهو ما تحلب منه.
(6) وكحب كتان بزيته، واعتصره استخرج ما فيه.
(7) أي ولا يجوز بيع خالص الربوي بمشوبه، أو مشوبه بمشوبه، لانتفاء التماثل المشترط أو الجهل به.(7/473)
كحنطة فيها شعير بخالصة(1) ولبن مشوب بخالص(2) لانتفاء التساوي المشترط(3) إلا أن يكون الخلط يسيرا(4) وكذا بيع اللبن بالكشك(5) ولا بيع الهريسة، والحريرة، والفالوذج، والسنبوسك، بعضه ببعض(6).
__________
(1) أي بحنطة خالصة، أو حنطقة فيها شعير، بحنطة فيها شعير، يقصد تحصيله، أو فيها تراب يظهر أثره.
(2) أي بلبن خالص، وكذا مشوبه بمشوبه.
(3) بقوله صلى الله عليه وسلم «مثلا بمثل، سواء بسواء» إذا كان من جنس واحد، وإلا جاز التفاضل، إذا كان يدا بيد.
(4) أي إذا كان الشعير ونحوه يسيرا، لا يقصد تحصيله، ولا يظهر أثره، فلا يمنع الصحة ، لأنه لا يخل بالتماثل.
(5) لا يجوز، لأن اللبن فيه مقصود، فهو بيع لبن ومع أحدهما غيره، والكشك يعمل من اللبن والقمح، وكذا بيع حب جيد بمسوس، لعدم العلم بالتماثل، ويصح بيع جيد بخفيف وعتيق من جنسه، إذا تساويا كيلا، لأنهما تساويا في معيارهما الشرعي، فلا يضر اختلافهما في القيمة.
(6) أي ولا يجوز بيع الهريسة بعضها ببعض، ولا بيع الحريرة -بمهملتين- دقيق يطبخ بلبن أو دسم، بعضه ببعض، لأن فيها ماء ودهنا، ولا بيع الفالوذج لباب البر يلبك بالعسل، ولا بيع السنبوسك، بر وماء ورد، يحكم عجنه بالأدهان، بالشيرج والسمن، ثم يرق ويحشى لحما قد نعم قطعه، وفوه، وبزر، ممزوجا بالبصل والشيرج، ويطوى ويقلى في الدهن أو يخبز، فلا يباع بعضه ببعض، لانتفاء التساوي المشترط، وكذا الكعك، وخبز الأبازير لأنه من مسألة مد عجوة.(7/474)
ولا بيع نوع منها بنوع آخر(1) (و) لا بيع (رطبه بيابسه)(2) كبيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب(3) لما روى مالك ، وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، قال: «أينقص الرطب إذا يبس؟» قالوا: نعم، فنهى عن ذلك(4) (ويجوز بيع دقيقه) أي دقيق الربوي (بدقيقه إذا استويا في النعومة)(5).
لأنهما تساويا حال العقد، على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان(6).
(و) يجوز بيع (مطبوخه بمطبوخه)(7) كسمن بقري، بسمن بقري، مثلا بمثل(8).
__________
(1) كبيع خبز بهريسة، أو هريسة بحريرة، أو سنبوسكة بفالوذج، وبالعكس لانتفاء التماثل المعتبر شرعا، إذا كانا من جنس واحد.
(2) أي رطب شيء من الربوي بشيء من يابسه، وهذا مذهب جمهور العلماء.
(3) والحنطة المبلولة أو الرطبة باليابسة، وكذا المشمش والتوت وغير ذلك من سائر الربويات.
(4) أي عن بيع رطب شيء بيابسه، وعلل بالنقصان إذا يبس، وهذا موجود في كل رطب بيابسه، والحديث صححه ابن المديني، والترمذي، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، وفي الصحيحين عن ابن عمر «نهى عن بيع الثمر بالتمر كيلا، وعن بيع العنب بالزبيب كيلا، وعن بيع الزرع بالحنطة كيلا» والعلة في ذلك هو الربا، لعدم التساوي، لأن أحدهما أزيد من الآخر قطعا بلينته فهو أزيد أجزاء من الآخر، بزيادة لا يمكن فصلها وتمييزها ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به.
(5) كدقيق بر أو ذرة بدقيق بر أو ذرة، مثلا بمثل، كيلا بكيل، بشرط أستوائهما في النعومة، لئلا تختلف أجزاء الحب بالطحن، فيفوت التساوي.
(6) فجاز ، كبيع التمر بالتمر، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وإن اختلف جنس الدقيقين، صح كيف تراضيا عليه، يدا بيد.
(7) أي ويجوز بيع مطبوخ جنس ربوي بمطبوخ ذلك الجنس الربوي، مثلا بمثل.
(8) ولا تمنع زيادة أخذ النار من أحدهما أكثر من الآخر إذا لم يكثر.(7/475)
(و) يجوز بيع (خبزه بخبزه، إذا استويا في النشاف)(1) فإن كان أحدهما أكثر رطوبة من الآخر لم يحصل التساوي المشترط(2) ويعتبر التماثل في الخبز بالوزن كالنشا(3) لأنه يقدر به عادة، ولا يمكن كيله(4) لكن إن يبس ودق، وصار فتيتا، بيع بمثله كيلا(5).
__________
(1) أي ويجوز بيع خبز بر مثلا بخبز بر، مثلا بمثل إذا استوى الخبزان نشافا أو رطوبة.
(2) أي فلم يجز بيع أحدهما بالآخر لقوله «إلا مثلاً بمثل»
(3) أي كما يعتبر النشا بالوزن
(4) خبزا، كما لا يمكن كيل النشا، فاعتبر بما يقدر به عادة وهو الوزن، وكذا التساوي بين الجبن والجبن بالوزن، لأنه لا يمكن كيله، والعنب، والزبد والسمن، لأنه لا يمكن كيلها، صرح به في الإقناع وشرحه.
(5) لأنه انتقل بالدق من الوزن، إلى الكيل، فإن كان في الخبز من غيره من
فروع الحنطة مما هو مقصود، كالهريسة، وخبز الأبازير، لم يجز إلا اليسير غير المقصود لأنه من مسألة مُد عجوة.(7/476)
(و) يباع (عصيره بعصيره)(1) كماء عنب بماء عنب(2) (ورطبه برطبه)(3) كالرطب والعنب بمثله، لتساويهما(4) ولا يصح بيع «المحاقلة»(5) وهي بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه(6).
__________
(1) أي يباع عصير الربوي بعصيره، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد.
(2) وكزيت بزيت، وشيرج بشيرج، مدا بمد، مثلا بمثل.
(3) أي يجوز بيع رطب الربوي برطبه، مثلا بمثل، ويجوز بيع يابسه بيابسه، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد.
(4) أي تساوي الرطب بالرطب، والعنب بالعنب، وكذا التمر بالتمر، والزبيب بالزبيب، مثلا بمثل، لتساويهما يبوسة، وقد يصير الجنس الواحد مشتملا على جنسين، كالتمر يشتمل على النوى وغيره، وهما جنسان بعد النزع، وكاللبن يشتمل على المخيض والزبد، متصلين اتصال خلقة، فما داما كذلك فجنس واحد لاتحاد الاسم، وإذا ميز أحدهما عن الآخر صارا جنسين، ولو خلطا يجوز التفاضل بينهما.
(5) من الحقل وهو القراح الطيب يزرع فيه، ومنه: لا ينبت البقلة إلا الحُقلة والزرع قد تشعب ورقه، وظهر وكثر، وإذا استجمع خروج نباته، أو ما دام أخضر، كما في القاموس وغيره.
(6) أي بحب من جنسه، وفي خبر زيد «المحاقلة أن يبيع الحقل بكيل من الطعام معلوم» وفي الصحيحين: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المحاقلة والعلة الجهل بالتساوي.(7/477)
ويصح بغير جنسه(1) ولا بيع «المزابنة»(2) وهي بيع الرطب على النخل بالتمر(3) إلا في العرايا(4) بأن يبيعه خرصا، بمثل ما يئول إليه إذا جف كيلا(5).
__________
(1) من حب أو غيره، كبيع بر مشتد في سنبلة بشعير أو فضة، لعدم اشتراط التساوي.
(2) أي ولا يصح بيع المزابنة، لما ثبت من النهي عن بيعها، والمزابنة مفاعلة من الزبن، وهو الدفع الشديد، لأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه، أو إذا وقف على ما فيه من الغبن أراد دفع البيع لفسخه، والآخر دفعه بإمضائه.
(3) أي كيلا، وبيع العنب بالزبيب كيلا، والعلة في ذلك هو الربا، لعدم التساوي، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، كرهوا بيع المحاقلة، والمزابنة، وألحق الشافعي، وغيره بذلك كل بيع مجهول بمعلوم من جنس يجري الربا في نقده، وهو قول الجمهور، وقد دلت الأحاديث أنه لا يباع جنس بجنسه وأحدهما مجهول المقدار، لأن العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس شرط، لا يجوز البيع بدونه.
(4) أي في بيع ثمر العرايا، فيصح بيع الرطب بالتمر فيها بشروطه، والعرايا جمع عرية، والعرية هي النخلة، وفي الأصل: عطية ثمر النخلة، سميت بذلك لأنها أعريت من أن تخرص في الصدقة، وفي الصحيح: نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وفي رواية «نهى عن بيع الثمر بالتمر، ورخص في العرايا أن تشترى بخرصها، يأكلها أهلها رطبا».
(5) أي العرايا بأن يبيع الرطب على النخل خرصا، بمثل ما يئول إليه الرطب إذا يبس وكان تمرا يابسا، لا أقل، ولا أكثر، كيلا، لأن الأصل اعتبار الكيل # من الجانبين، وإنما أقيم الخرص مكان الكيل للحاجة،
فيبقى الآخر على مقتضى الأصل والخرص هو التخمين والحدس فيقول الخارص: هذا الرطب الذي على النخلة أو النخلات إذا يبس يحصل منه ثلاثة أوسق مثلا، فيبيعه بثلاثة أوسق تمرا.(7/478)
فيما دون خمسة أوسق(1) لمحتاج لرطب(2) ولا ثمن معه(3) بشرط الحلول والتقابض قبل التفرق(4) ففي نخل بتخليته، وفي تمر بكيل(5).
__________
(1) لقوله في «خمسة أوسق» وفي رواية «فيما دون خمسة أوسق» وهذا مذهب الجمهور ، قال ابن حبان: الاحتياط أن لا يزيد على الأربعة، وقال الحافظ يتعين المصير إليه.
(2) وإن لم يكن محتاجا لم يصح، فإنما أبيح للحاجة لا يباح عند عدمها كالزكاة للمساكين.
(3) أي ولا ثمن مع المشتري من ذهب أو فضة، لما جاء في رواية زيد: أنه سمى رجالا محتاجين من الأنصار، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقد في أيديهم يبتاعون به رطبا، ويأكلون مع الناس، وعندهم فضول قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر.
(4) أي من مجلس العقد، لأنه بيع مكيل بمكيل من جنسه، فاعتبر فيه شروطه، إلا ما استثناه الشارع، مما لم يمكن اعتباره في العرايا، فصارت الشروط خمسة، وزيد بأن يكون الرطب على رءوس النخل، وإلا لم يجز، لما تقدم من النهي عن بيع الرطب بالتمر.
(5) أي فالقبض فيما على نخل بتخلية بائع بين المشتري وبينه، وفي القبض في تمر بكيل أو نقل لما علم كيله، ولا يشترط حضور تمر عند نخل فلو تبايعا، وسلم أحدهما، ثم مشيا فسلم الآخر قبل تفرق صح القبض.(7/479)
ولا تصح في بقية الثمار(1) (ولا يباع ربوي بجنسه، ومعه) أي مع أحد العوضين (أو معهما من غير جنسهما)(2) كمد عجوة ودرهم بدرهمين(3) أو بمدي عجوة(4) أو بمد ودرهم(5)
لما روى أبو داود عن فضالة بن عبيد، قال: أتي النبي
صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز، ابتاعها رجل
__________
(1) للنهي عن بيع الثمر بالتمر، وأنه لا يباع شيء منه إلا بالدنانير والدراهم، وإنما رخص لأصحاب العرايا بالشروط المتقدمة، وغيرها لا يساويها في كثرة الاقتيات، وسهولة الخرص، بل لا تصح الزيادة على القدر المأذون فيه، إلا أن القاضي اختار جوازها في سائر الثمار، وهو قول مالك، وفي الإنصاف: هو مقتضى اختيار الشيخ.
(2) أي جنس الثمن والمثمن، لئلا يتخذ ذلك حيلة إلى الربا.
(3) ولو فرض مساواة مد بدرهم، ودرهم بدرهم، لأن التقويم ظن وتخمين، فلا يتحقق معه المساواة، والجهل بالتساوي، كالعلم بالتفاضل، والعجوة تمر بالمدينة معروف.
(4) أي أو بيع مد عجوة ودرهم، بمدي عجوة، لم يجز، إذ لو صار المدان يساويان ثلاثة دراهم، كان الدرهم في مقابلة ثلثي مد، ويبقى مد في مقابلة مد وثلث، وذلك ربا.
(5) أي أو بيع مد عجوة ودرهم، بمد عجوة ودرهم، ولو كان المدان والدرهمان من نوع واحد، فلا يجوز، نص عليه، وكبيع محلى بذهب بذهب، أو محلى بعضه بفضة بفضة.(7/480)
بتسعة دنانير، أو سبعة دنانير(1) فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا، حتى تميز بينهما»(2) قال: فرده حتى ميز بينهما(3).
__________
(1) قال: وفيها خرز وذهب، وفي رواية: خرز معلق بذهب.
(2) ولمسلم -حتى تفصل- ولأبي داود قال: إنما أردت الحجارة.
(3) ولمسلم: أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم: «الذهب بالذهب وزنا بوزن» فدل على تحريم بيع الذهب مع غيره بذهب، حتى يفصل من ذلك الغير، ويميز عنه، ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره، ومثله الفضة مع غيرها بفضة، وكذلك سائر الأجناس الربوية، لاتحادهما في العلة، وهو تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلا، فإذا كان مع أحد العوضين شيء لم يجز، لعدم التمكن من معرفة التساوي على التحقيق، كما تعذر الوقوف على التساوي في القلادة من غير فصل، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو المفتى به.
وجوز الشيخ بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه، من غير اشتراط التماثل، ويجعل التماثل في مقابلة الصنعة، وفي الإنصاف: وعمل الناس عليه اهـ. وظاهر مذهب أحمد جواز بيع السيف المحلى بجنس حليته، لأن الحلية ليست بمقصوده، واختاره الشيخ، والمذهب والمفتى به الأول، سدا للذريعة، وفي الإنصاف: يجوز التفاضل فيما لا يوزن لصناعة، كالمعمول من الذهب، والفضة، والصفر، والحديد والرصاص، والنحاس، ونحوه، وكالمعمول من الموزونات كالخواتم والأسطال، والإبر، والسكاكين، والأكسية ونحو ذلك، اختاره الموفق: والشيخ، وصوبه في الإنصاف.(7/481)
فإن كان ما مع الربوي يسيرا لا يقصد كخبز فيه ملح بمثله، فوجوده كعدمه(1) (ولا) يباع (تمر بلا نوع، بما) أي بتمر (فيه نوى)(2) لاشتمال أحدهما على ما ليس من جنسه(3) وكذا لو نزع النوى، ثم باع التمر والنوى، بتمر ونوى(4) (ويباع النوى، بتمر فيه نوى(5).)
__________
(1) أي الملح في الخبز، وكالماء في خل التمر، وخل الزبيب، ودبس التمر، لأنه غير مقصود، وكذا كل ما لا يؤثر في كيل أو وزن، فيما بيع بجنسه، لكونه يسيرا غير مقصود، كذهب مموه به سقف دار، فيجوز بيع الدار -المملوه سقفها بذهب- بذهب، وبدار مثلها، سقفها مموه بذهب، لأن الذهب في السقف غير مقصود، ولا مقابل بشيء من الثمن، وإن كان كثيرا كاللبن المشوب بالماء بمثله، والأثمان المغشوشة بغيرها لم يجز، للعلم بالتفاضل، ويصح : أعطني بهذا الدرهم نصفا وفلوسا، أو حاجة، لأن قيمة النصف في الدرهم كقيمة النصف مع الفلوس أو الحاجة.
(2) النوى عجم التمر، فإذا بيع تمر بلا نوى، بما فيه نوى، صار كمد عجوة ودرهم، فلم يصح البيع، وفي الإنصاف: الصحيح من المذهب تحريمه.
(3) أي أحد التمرين على النوى دون الآخر، فانتفى التساوي المشترط شرعا، أو جهل، والجهل بالتساوي، كالعلم بالتفاضل.
(4) لأن التبعية قد زالت، فصارت كمسألة مد عجوة ودرهم، فلم يصح البيع، للجهل بالتساوي.
(5) متساويا ومتفاضلا، وإن باع تمرا منزوع النوى بتمر منزوع النوى جاز، للتساوي.(7/482)
و) يباع (لبن و) يباع (صوف بشاة ذات لبن وصوف)(1) لأن النوى في التمر، واللبن والصوف في الشاة، غير مقصود(2) كدار -مموه سقفها بذهب- بذهب صح(3) وكذا درهم فيه نحاس بمثله، أو بنحاس(4) ونخلة عليها ثمرة بمثلها، أو بثمر(5).
__________
(1) أي ويباع لبن بشاة ذات لبن، ويباع صوف بشاة عليها صوف، حية كانت النعجة أو مذكاة.
(2) أي فلا أثر له، ولا يقابله شيء من الثمن، أشبه الملح في الشيرج، ويسير شعير بحنطة، فيصح البيع.
(3) أي البيع في النوى بالتمر، واللبن والصوف بذات اللبن والصوف، كما يصح في الدار -المموه سقفها بذهب- بذهب لأنه غير مقصود بالبيع.
(4) أي وكذا يصح بيع درهم فيه نحاس، بدرهم فيه نحاس، متساو ما فيهما من الفضة والنحاس، أو درهم بنحاس، لأن النحاس في الدرهم غير مقصود، وإن زاد غش أحد الدرهمين بطل البيع، وكذا إن جهل، ويصح بيع تراب معدن، وصاغة، بغير جنسه.
(5) أي ويصح بيع نخلة أو نخل عليها أو عليه ثمرة، بمثلها أي بنخلة أو بمثله، بنخل عليه ثمر، أو بيع نخلة عليها ثمرة بثمر، لأن الربوي في ذلك غير مقصود بالبيع، فوجوده كعدمه، وكذا عبد له مال إذا اشتراه بثمن من جنس ماله، واشتراطه إن لم يقصد المال.(7/483)
ويصح بيع نوعي جنس، بنوعيه، أو نوعه(1) كحنطة حمراء وسوداء ببيضاء(2) وتمر معقلي وبرني، بإبراهيمي وصيحاني(3) (ومرد) أي مرجع (الكيل لعرف المدينة) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم(4) (و) مرجع (الوزن لعرف مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم)(5) لما روى عبد الملك بن عمير عن النبي صلى الله عليه وسلم «المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة»(6).
__________
(1) إذا تساويا كيلا، ولا تعتبر الجودة، لأن الشارع إنما اعتبر المثلية.
(2) وكذا عكسه كيلا بكيل، مثلا بمثل، يدا بيد، لما تقدم.
(3) مثلا بمثل، وكذا لو باع دينارا قُراضة، أو فضة، بدينار صحيح، لأن المعتبر المثلية في الوزن أو الكيل، لا القيمة والجودة.
(4) وهو مذهب جمهور العلماء في نحو البر، والشعير، وسائر الحبوب.
(5) وهو مذهب مالك، والشافعي، وغيرهما، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن المكيلات المنصوص عليها، وهي البر، والشعير، والتمر، والملح، مكيلة أبدا لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا كيلا، والموزنات المنصوص عليها، أبدا موزونة وما سواها فالمرجع فيه إلى عرف العادة بالحجاز، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(6) أي فما كان مكيلا بالمدينة في زمنه صلى الله عليه وسلم انصرف التحريم بتفاضل الكيل إليه، وهكذا الموزون.(7/484)
(وما لا عرف له هناك) أي بالمدينة ومكة (اعتبر عرفة في موضعه)(1) لأن ماله عرف له في الشرع يرجع فيه إلى العرف، كالقبض، والحرز(2) فإن اختلفت البلاد اعتبر الغالب(3) فإن لم يكن رد إلى أقرب ما يشبهه بالحجاز(4).
وكل مائع مكيل(5) ويجوز التعامل بكيل لم يعهد(6).
__________
(1) فإن كان العرف فيه الكيل، بيع بعضه ببعض بالكيل، وإن كان بالوزن بيع بالوزن.
(2) يعني أنه يرجع فيهما إلى العرف، فكذا الكيل والوزن فيما لا عرف له بالمدينة ولا بمكة، هذا المذهب وفيه وجه في المذهب، وحكاه الوزير وغيره عن الجمهور: أن ما ليس له بالحجاز عرف، احتمل أن يرد إلى أقرب الأشياء شبها بالحجاز ، وذكره التمور بسواد العراق، وغيرها من الأراضي، التي تغشى نخيلها المياه، أنه لا يتصور فيها المماثلة، ولا يتحرر إلا بالوزن، قال: والذي أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنده كيل التمر بالمدينة، وقال ما تقدم فإنه يستفاد منه تأصيل المماثلة، وأن لا يؤخذ من ذلك شيء إلا بمعيار، فيكون فيما يتهيأ كيله الكيل، وفيما لا يتهيأ كيله الوزن، ولأن الأحكام الشرعية تتعلق بالممكن، دون المستحيل.
(3) أي فإن اختلفت البلاد في معيار ما لم يكن له عرف بالحجاز، اعتبر الغالب منها.
(4) أي فإن لم يكن للمبيع بعضه ببعض عرف غالب، رد إلى أقرب الأشياء به شبها بالحجاز، لأن الحوادث ترد إلى أشبه المنصوص عليه بها.
(5) أي وكل مائع كاللبن، والشيرج، وسائر الأدهان، لخبر: كان يتوضأ بالمد، ونحوه، وما تجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار، فهو مكيل، ومن الموزون الذهب، والفضة، والنحاس، والحديد ، والحرير، واللحم، والصوف، ونحو ذلك، وفي الاختيارات: وما لا يختلف فيه الكيل والوزن، مثل الأدهان، يجوز بيع بعضه ببعض كيلا ووزنا، وعن أحمد ما يدل عليه اهـ، وغير المكيل والموزون الحيوان، والثياب، والفواكه، والخضر، ونحو ذلك.
(6) أي بذلك المكان وغيره، لعدم المانع، إن لم يتعارف.(7/485)
فصل(1)
(ويحرم ربا النسيئة)(2) من النساء بالمد، وهو التأخير(3) (في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل)(4) وهي الكيل والوزن(5).
__________
(1) أي في أحكام ربا النسيئة، لما فرغ من أحكام ربا الفضل مفصلا، شرع في أحكام ربا النسيئة.
(2) بالكتاب، والسنة، والإجماع في الجملة، لكونه وسيلة لأخذ مال من غير عوض، والوسائل لها حكم الغايات، فإن الشريعة شاهدة بأن كل حرام، فالوسيلة إليه مثله، لأن ما أفضي إلى الحرام حرام.
(3) يقال: نسأت الشيء، وأنسأته أخرته، و: بعته بنسيئة بآخرة.
(4) وكذا بيع شيئين من جنس كمدِّ بُرِّ بجنسه، لقوله: «ولاتبيعوا منها غائبا بناجز» وقال في الذهب «إلا هاء وهاء» وقال: «يدا بيد»*.
(5) أي علة ربا الفضل الكيل في المكيل، والوزن في الموزون، واختار الموفق، والشيخ، وغيرهما أن العلة الطعم مع الكيل والوزن، فيحرم النساء في بيع الجنسين إذا اتفقا في تلك العلة.
ــــــــــــــــــــــ
* والناس في الأوراق على ثلاثة أقوال، قيل: عروض، وقيل: نقود، وقيل: هي بمنزلة الفلوس، قال شيخنا: وأقرب ما يكون عندي أنها نقود، لأنها إسناد متى شاء صاحبها أخذا بها نقودا لأنها أوراق مؤمن عليها في البنك، فالزكاة تجب فيها إذا حال عليها الحول، إلاأنه ينبغي أن يكون المخرج منها مجزيا، ولا يباع بعضها ببعض غائبا بل هو ربا.(7/486)
(ليس أحدهما) أي أحد الجنسين (نقدا)(1) فإن كان أحدهما نقدا -كحديد بذهب- أو فضة جاز النساء(2) وإلا لانسد باب السلم في الموزونات غالبا(3) إلا صرف فلوس نافقة بنقد، فيشترط فيه الحلول والقبض(4) واختار ابن عقيل وغيره: لا، وتبعه في الإقناع(5) (كالمكيلين، والموزونين) ولو من جنسين(6).
__________
(1) أي ذهبا أو فضة، بل كانت علة ربا الفضل فيهما واحدة، كمكيل بمكيل من جنسه أو غيره، فلا يجوز النساء فيهما، وقال الموفق: كل شيئين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، كالمكيل بالمكيل، والموزون بالموزون، والمطعوم بالمطعوم عند من يعلل به، يحرم بيع أحدهما بالآخر نسيئة، بغير خلاف نعلمه.
(2) قال الموفق وغيره: بغير خلاف، لأن الشرع أرخص في السلم، والأصل في رأس مال السلم الدراهم والدنانير.
(3) قيدوه بالأغلبية لأنه يمكن السلم بغيره.
(4) إلحاقا لها بالنقد، بخلاف الكاسدة، وهذا المذهب عند أكثر الأصحاب وجزم به في المنتهى.
(5) أي اختار ابن عقيل وشيخ الإسلام وغيرهما أنه لا يشترط الحلول والتقابض في صرف نقد بفلوس نافقة، يعني أنه يتعامل بها، بل جوزوا فيه النساء، وتبع صاحب الإقناع ابن عقيل وغيره، ونصه: ولو في صرف فلوس نافقة به.
(6) لا يجوز فيهما النساء، لأنهما مالان من أموال الربا، علتهما متفقة، فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالصرف(7/487)
فإذا بيع بر بشعير، أو حديد بنحاس، اعتبر الحلول، والتقابض قبل التفرق(1) (وإن تفرقا قبل القبض بطل) العقد(2) لقوله عليه السلام «إذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم يدا بيد» والمراد به القبض(3) (وإن باع مكيلا بموزون) أو عكسه(4) (جاز التفرق قبل القبض و) جاز (النساء)(5).
لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل، أشبه الثياب بالحيوان(6).
__________
(1) قال الموفق: بغير خلاف نعلمه، لما تقدم من قوله: «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وغيره، وقال ابن القيم: لو كان الحديد والنحاس، ربويا لم يجز بيعها إلى أجل بدراهم نقدا، والتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة، وذكرا نحوا من ثلاثين دليلا على صحة هذا القول، والمكيلات خصته طائفة بالقوت وما يصلحه، وهو قول مالك، قال ابن القيم: وهو الصواب، وإن اتحد الجنس اعتبر التماثل، وإلا جاز التفاضل كما تقدم.
(2) أي وإن تفرق المتعاقدان قبل القبض من الجانبين، بطل العقد، وكذا إن تفرقا قبل قبض الكل، بطل العقد فيما لم يقبض، وحيث اعتبر القبض فهو شرط لبقاء الصحة، لا لصحة العقد، وإلا لم يتقدم المشروط على الشرط.
(3) أي قوله «يدا بيد» وكذا قوله «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وقوله «إلا هاء وهاء» أي: خذ وهات في الحال.
(4) أي باع موزونا بمكيل مما تقدم أنه مكيل أو موزون، أو كان العرف فيه الكيل أو الوزن، ولم يعتبر الطعم.
(5) أي التأجيل في بيع مكيل بموزون، أو موزون بمكيل، هذا المذهب.
(6) أي فهما من بيع غير الربوي بغير الربوي، وعلة ربا الفضل الكيل والوزن، وعن أحمد: العلة في المكيل الطعم، مع الكيل والوزن، اختاره الشيخ وغيره ومالك خص الربا بالقوت وما يصلحه، واختاره ابن القيم، وتقدم.(7/488)
(وما لا كيل فيه ولا وزن، كالثياب والحيوان يجوز فيه النساء)(1) لأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو «أن يأخذ على قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة»(2) رواه أحمد، والدارقطني وصححه(3).
__________
(1) سواء بيع بجنسه أو بغير جنسه، متساويا أو متفاضلا، هذا مذهب الجمهور.
(2) أي يأخذ البعير ليجهز به بقية الجيش، بالبعيرين مؤجلا، إلى أوان حصول إبل الصدقة.
(3) ورواه أبو داود، وقال الحافظ:إسناده ثقات، وقال ابن القيم: صريح في جواز التفاضل والنساء، وهو حديث حسن، فدل على جواز بيع الحيوان بالحيوان نساء، ولقصة وفد هوازن «ومن لم تطب نفسه، فله بكل فريضة ست فرائض، من أول ما يفيء الله علينا» واشترى ابن عمر راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه، يوفيها صاحبها بالربذة، ورافع بن خديج بعيرا ببعيرين، وأعطاه أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غدا.
وقال ابن المسيب وغيره: لا ربا في البعير بالبعيرين والشاة بالشاتين إلى
أجل ومن منعه احتج بما روى الترمذي وصححه، أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وعلل أحمد أحاديث المنع، وأنه ليس فيها حديث يعتمد عليه، وقال أبو داود: إذا اختلفت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا إلى ما عمل به أصحابه من بعده، وذكر هو وغيره آثارا عن الصحابة في جواز ذلك متفاضلا ونسيئة. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: الأصح يجوز للحاجة.(7/489)
وإذا جاز في الجنس الواحد ففي الجنسين أولى(1) (ولا يجوز بيع الدين بالدين) حكاه ابن المنذر إجماعا(2) لحديث «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ»(3) وهو بيع ما في الذمة بثمن مؤجل لمن هو عليه(4).
وكذا بحال لم يقبض قبل التفرق(5) وجعله رأس مال سلم(6)
__________
(1) أي فإذا جاز بيع نحو البعير بالبعيرين نسيئة، مع أنهما من جنس واحد، فأولى أن يجوز بيع نحو بعير بنحو شاة نسيئة، لكونهما جنسين.
(2) وحكاه أحمد وابن عبد البر وغيرهما، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن بيع الكالئ بالكالئ -وهو بيع الدين بالدين- مثل أن يعقد رجل بينه وبين آخر سلما في عشرة أثواب موصوفة في ذمة المبتاع إلى أجل، بثمن مؤجل، وسواء اتفق الأجلان أو اختلفا في البيع، فهو باطل.
(3) بالهمز، قيل: هو بيع دين بدين مطلقا، وقال أبو عبيد: هو بيع النسيئة بالنسيئة.
(4) كأن يكون عند زيد لعمرو عشرة آصع قرضا أو ثمن مبيع، فيقول زيد لعمرو: اشترها مني بريال مثلا، فيبيعها إياه بريال في الذمة، وقال ابن القيم: الكالئ هو المؤخر الذي لم يقبض، كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة، وكلاهما مؤخر، فهذا لا يجوز بالاتفاق.
(5) أي وكبيع ما في الذمة حالا بثمن مؤجل لمن هو عليه، بيع ما في الذمة بحال في الذمة لم يقبض قبل التفرق.
(6) وذلك بأن يكون له دين على آخر، فيقول: جعلت ما في ذمتك رأس مال سلم على كذا، ويحرم أن يمتنع من إنظار المعسر حتى يقلب عليه الدين، ومتى قال: إما أن تقلب أو تقوم عند الحاكم، وخاف أن يحبسه لعدم ثبوت إعساره عنده وهو معسر، كانت المعاملة حراما غير لازمة، باتفاق العلماء، ومن صور بيع الدين بالدين، لو كان لأحدهما على آخر دينا من غير جنسه، كذهب وفضة، وتصارفا، ولم يحضرا شيئا.
وقال ابن القيم: بيع الدين بالدين، ينقسم إلى بيع واجب بواجب، وهو ممتنع، وينقسم إلى بيع ساقط بساقط، وساقط بواجب وواجب بساقط، فالساقط بالساقط في صورة المقاصة، والساقط بالواجب كما لو باعه دينا له في ذمته، بدين آخر من جنسه، فسقط الدين المبيع ووجب عوضه، وهو بيع الدين ممن هو في ذمته، وأما بيع الواجب بالساقط، فكما لو أسلم إليه في كر حنطة مما في ذمته، وقد حكي الإجماع على امتناعه ولا إجماع فيه، واختار الشيخ جوازه.
قال ابن القيم: وهو الصواب إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ، فيتناوله النهي بلفظه، ولا في معناه، فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة، وأما ما عداه من الثلاث، فلكل منهما غرض صحيح، وذلك ظاهر في مسألة التقاص، فإن ذمتهما تبرأ من أسرها، وبراءة الذمة مطلوب لهما وللشارع، فأما في الصورتين الأخيرتين فأحدهما يعجل براءة ذمته، والآخر يحصل على الربح، وإن كان بيع دين بدين فلم ينه الشارع عنه، لا بلفظه ولا بمعنى لفظه، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه اهـ، لكن القول بالمنع هو قول الجمهور، لا سيما الاحتيال في قلب الدين على المعسر إلى معاملة أخرى بزيادة مال، وذكر الشيخ أنه حرام باتفاق المسلمين.(7/490)
.
فصل(1)
(ومتى افترق المتصارفان) بأبدانهما كما تقدم في خيار المجلس(2) (قبل قبض الكل) أي كل العوض العقود عليه في الجانبين(3) (أو) قبل قبض (البعض) منه (بطل العقد فيما لم يقبض)(4) سواء كان الكل أو البعض(5) لأن القبض شرط لصحة العقد(6).
__________
(1) أي في الصرف، وهو بيع نقد بنقد، اتحد الجنس أو اختلف.
(2) يعني أن التفرق هنا كالتفرق في خيار المجلس، وهو ما لم يتفرقا عرفا بأبدانهما من مكان التبايع، وتقدم مفصلا.
(3) أي جانب البائع، وجانب المشتري في المجلس، بطل العقد، لأن القبض في المجلس شرط لصحة الصرف بالإجماع.
(4) أي من العوض المعقود عليه، لفوات شرطه، وصح فيما قبض، لوجود شرطه.
(5) أي سواء كان الذي لم يقبض الكل فيبطل الكل، أو كان الذي لم يقبض البعض، فيبطل العقد في البعض الذي لم يقبض، ويقوم الاعتياض عن أحد العوضين وسقوطه عن ذمة أحدهما مقام قبضه.
(6) أي لأن القبض في مجلس العقد شرط لبقاء العقد، فما لم يقبض فيه بطل عقدة بالتفرق منه.(7/491)
لقوله صلى الله عليه وسلم «وبيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد»(1) ولا يضر طول المجلس مع تلازمهما(2) ولو مشيا إلى منزل أحدهما مصطحبين صح(3) وقبض الوكيل قبل مفارقة موكله المجلس كقبض موكله(4) ولو مات أحدهما قبل القبض فسد العقد(5).
__________
(1) وتقدم نحوه من غير وجه، وحكى ابن المنذر وغيره الإجماع على أن القبض في المجلس، شرط لصحة الصرف، وقال ابن القيم: حرم التفريق في الصرف، وبيع الربوي بمثله قبل القبض، لئلا يتخذ ذريعة إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا، فحماهم من قربانه باشتراط التقابض في الحال، ثم أوجب عليهم فيه التماثل، وأن لا يزيد أحد العوضين على الآخر، إذا كانا من جنس واحد.
(2) أي لا يضر في صحة الصرف طول المجلس قبل القبض، مع تلازم المتبايعين.
(3) أي ولو مشى المتعاقدان إلى منزل أحدهما مصطحبين لم يتفرقا فتقابضا، أو تماشيا إلى الصراف فتقابضا عنده صح الصرف، لأن المجلس هنا كمجلس الخيار في البيع، ولم يتفرقا قبل القبض، وهذا مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
(4) ما دام موكله بمجلس العقد، لتعلقه به، سواء بقي الوكيل في المجلس إلى القبض، أو فارقه ثم عاد، لأنه كالآلة.
(5) أي ولو مات أحد المتصارفين قبل القبض في الكل أو البعض، فسد العقد فيما لم يقبض، لعدم تمام القبض، لأن القبض هنا كالقبول في البيع، لا إن مات أحدهما بعد التقابض وقبل التفرق، لأنه قد تم ونفذ.(7/492)
(والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في العقد)(1) لأنها عوض مشار إليه في العقد، فوجب أن تتعين كسائر الأعواض (فلا تبدل)(2) بل يلزم تسليمها إذا طولب بها، لوقوع العقد على عينها(3) (وإن وجدها مغصوبة بطل) العقد، كالمبيع إذا ظهر مستحقا(4) وإن تلفت قبل القبض فمن مال بائع، إن لم تحتج لوزن أو عد(5).
__________
(1) فلا تبدل قال الموفق: هذا أظهر الرواتين، وهو مذهب مالك، والشافعي، ويحصل التعيين بالإشارة، سواء ضم إليها الاسم أو لا، كبعتك هذا الثوب بهذه الدراهم، أو بهذه فقط من غير تعيين، أو: بعتك هذا بهذه، من غير تسمية العوضين.
(2) ولأنها أحد العوضين، فتتعين بالتعيين كالآخر، وتملك بالتعيين حال العقد، فلا يصح ولا يجوز للمشتري ونحوه إبدالها إذا وقع العقد على عينها لتعينها.
(3) كهذا الدينار بهذه الدراهم، ذكرا وزنهما أم لا، ولو بوزن متقدم على مجلس صرف، وإن عين أحدهما دون الآخر، فلكل حكم نفسه.
(4) لأنه باع مالا يملكه، وإن ظهر الغصب في البعض بطل العقد فيه فقط، والمراد عقد البيع وما بمعناه، لا كصداق وعوض عتق وخلع، وما صولح به عن دم أو غيره، وعبارة الخرقي: فلا بيع بينهما، وذلك لأن القبض فيه بمنزلة القبول، فلا يتم العقد إلا به.
(5) أي وإن تلفت تلك الدراهم أو الدنانير المعينة بعقد قبل القبض فمن مال #
بائع ونحوه ممن صارت إليه، إن لم تحتج لوزن أو عد، كالمبيع المعين، فإن كان كذلك فمن ضمان باذل، إذا كان الثمن حاضرا معينا.(7/493)
(و) إن وجدها (معيبة من جنسها)(1) كالوضوح في الذهب، والسواد في الفضة (أمسك) بلا أرش(2) إن تعاقدا على مثلين، كدرهم فضة بمثله(3) وإلا فله أخذه في المجلس(4) وكذا بعده من غير الجنس(5) (أو رد) العقد للعيب(6).
وإن وجدها معيبة من غير جنسها(7) -كما لو وجد الدراهم نحاسا- بطل العقد(8) لأنه باعه غير ما سمى له(9).
__________
(1) أي وإن وجد الدراهم أو الدنانير معيبة من جنس المعيبة، لا من جنس السليمة.
(2) أي كالبياض في الذهب، وكالسواد في الفضة، والخشونة فيها، وكونها تنفطر عند الضرب، أو لكون سكتها مخالفة لسكة السلطان، أمسكها بلا أرش مطلقا، سواء كان من جنسه أو لا، وسواء تفرقا أو لا.
(3) أي درهم فضة، وكدينار بدينار، هذا إذا كانت معيبة من جنسها.
(4) أي وإلا يتعاقدان على مثلين فله أخذ الأرش في المجلس، لا من جنس السليم لئلا يصير من مسألة مد عجوة.
(5) أي وكذا يجوز أخذ الأرش بعد المجلس، لكن من غير جنس العوضين، كأخذ بر، أو شعير، أو غيرهما، لعدم اشتراط التقابض في ذلك، وكذا سائر أموال الربا، إذا بيعت بغير جنسها مما القبض شرط فيه.
(6) لأن لمن صار إليه المعيب الخيار بين الرد والإمساك، ومتى رده بطل العقد وليس له أخذ بدله لوقوع العقد على عينه.
(7) أي وإن وجد الدراهم أو الدنانير معيبة بطل عقد البيع، ولو كان العيب يسيرا إذا كان من غير جنسها.
(8) وكذا لو وجدها رصاصا، أو وجد مسا في الذهب، لم يصح العقد كبعتك هذا الفرس؛ فتبين أنه بغل.
(9) فلم يصح البيع، وكذا إن ظهر العيب في بعض العوض، بأن صارفه دينارين بعشرين درهما، فوجد أحد الدينارين معيبا من غير جنسه، بطل العقد فيه فقط، بما قابله، وصح في السليم بما قابله، ومتى صارفه كان له الشراء منه من جنس ما أخذ منه، بلا مواطأة ، ولو اشترى فضة بدينار ونصف، ودفع إلى البائع دينارين، ليأخذ قدر حقه منه فأخذه صح، والزائد أمانة في يده.(7/494)
(ويحرم الربا بين المسلم والحربي)(1) بأن يأخذ المسلم زيادة من الحربي(2) لعموم ما تقدم من الأدلة(3).
(و) يحرم الربا (بين المسلمين مطلقا(4) بدار إسلام أو حرب) لما تقدم(5) إلا بين سيد ورقيقه(6) وإذا كان له على آخر دنانير، فقضاه دراهم شيئا فشيئا(7) فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدينار صح(8) وإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعد، فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز، لأنه بيع دين بدين(9).
__________
(1) في دار الإسلام ودار الحرب، ولو لم يكن بينهما أمان، وفي الإنصاف: الصحيح من المذهب أن الربا محرم بين الحربي والمسلم مطلقا، وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم، ونص عليه.
(2) وهذا مذهب الجمهور، فيشترط في الحَضْر أن تكون الزيادة للمسلم.
(3) أي في النهي عن الربا، والوعيد الشديد، فيتناول النهي المسلم مع الحربي، كالمسلم مع الذمي ولأن دار الحربي كدار الذمي، في أنه لا يد للإمام عليهما.
وما روي «لا ربا بين المسلم وأهل الحرب» خبر مجهول، لا يترك له تحريم ما دل عليه الكتاب والسنة.
(4) سواء تفرقا أو لا، من جنسه أولا.
(5) أي من الدليل على التحريم، وفي الإنصاف: يحرم بين المسلمين، في دار الإسلام والحرب بلا نزاع.
(6) ولو كان الرقيق مدبرا، أو أم ولد، لأن المال كله للسيد، وكذا مكاتب في صورة ما إذا كاتبه، وكان في آخر نجم عليه عشرة مثلا، قال : أريد أن أقدم لك عن العشرة تسعة.
(7) أي قضاه دراهم متفرقة، ليس دفعة واحدة.
(8) بأن يقول: هذه الدراهم مثلا عن عشرة، وهذان الدرهمان عن دينار، كل شيء منها بما يقابله، صح الصرف.
(9) أي وإن أعطاه الدراهم مع السكوت، ثم حاسبه بعد ذلك، فصارفه بها، وقت المحاسبة لم يصح، لأنه بيع دين بدين، حيث تبايعاه في الذمم.(7/495)
وإن قبض أحدهما من الأخر ماله عليه، ثم صارفه بعين وذمة صح(1).
باب بيع الأصول والثمار(2)
الأصول جمع أصل، وهو ما يتفرع عنه غيره(3) والمراد هنا الدور والأرض والشجر(4) والثمار جمع ثمر، كجبل وجبال(5) وواحد الثمر ثمرة(6).
__________
(1) أي وإن قبض أحد المتصارفين من الآخر ماله عليه، ثم صارفه «بعين» أي معين، كهذا الدينار فهو معين (وذمة) وهو ما ليس بمعين، كعشرة دراهم في الذمة، صح، وكأن يكون لزيد على عمرو دينار، فيقضيه عمرو دراهم شيئا فشيئا، ولم يحسب عليه كل درهم بحسابه من الدينار، فلما تمت مقابلة الدينار من الدرهم، أخذ عمرو من زيد الدراهم، فقال: هذه عما في ذمتك من الدينار، فيكون مصارفا له بعين وذمة.
وقال ابن القيم: ظن بعض الفقهاء أن الوفاء يحصل باستيفاء الدين، بسبب أن الغريم إذا قبض الوفاء، صار في ذمة المدين مثله، ثم إنه يقاص بما عليه، وهذا تكلف، أنكره جمهور الفقهاء، وقالوا: بل نفس المال الذي قبضه يحصل به، الوفاء، ولا حاجة أن يقدر في ذمة المستوفي دينا، فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي، فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة، وأي معين استوفاه، حصل به المقصود من ذلك الدين المطلق.
(2) أي هذا باب يذكر فيه حكم بيع الأصول، وبيع الثمار، وما يتعلق بذلك.
(3) وفي القاموس: أسفل الشيء، وجمعه أصول وأصل، وفرع يتفرع تفريعا انحدر وصعد، ومنه: الأغصان كثرت.
(4) أي والمراد بالأصول في هذا الباب الدور والأرض والشجر، وهو من النبات ما قام على ساق، أو سما بنفسه، دق أو جل.
(5) وجمعه ثمر، وجمع الجمع أثمار، وهو حمل الشجر.
(6) بالفتح والضم، والثمرة أيضا الشجرة، وثمر الشجر، وأثمر صار فيه الثمر، وهو أعم مما يؤكل فيشمل القرظ ونحوه.(7/496)
(إذا باع دارا) أو وهبها، أو رهنها، أو وقفها، أو أقر أو أوصى بها (شمل) العقد (أرضها)(1).
أي إذا كانت الأرض يصح بيعها(2) فإن لم يجز كسواد العراق فلا(3) (و) شمل (بناءها وسقفها) لأنهما داخلان في مسمى الدار(4) (و) شمل (الباب المنصوب) وحلقته(5) (والسلم والرف المسمورين(6) والخابية المدفونة)(7) والرحى المنصوبة(8).
__________
(1) أي إذا باع دارا، وقال الموفق: بحقوقها، أووهب دارا، أو رهن دارا، أو وقف دارا، أو أقر بدار، أو أوصى بدار شمل العقد أرض الدار، وقال الموفق: ومرافقها. والوجه الثاني: يثبت له حق الاختصاص، من غير ملك، وصرح في الإقناع والمنتهى بدخول الفناء في الملك، وقال الوزير: اتفقوا على أنه إذا باع دارا لم يكن له أن يبيع فناءها، فإن باعه فالبيع باطل في الفناء.
(2) وذلك بأن لم تكن موقوفة ونحوه.
(3) أي فلا يشمل العقد أرض الدار المبيعة ونحوه، وذكر ذلك بعض الأصحاب، وتقدم صحة بيع المساكن مما فتح عنوة، كأرض الشام، ومصر، والعراق، وصرح الموافق وغيره أنه لا بأس بحيازتها، وبيعها، وشرائها وسكناها، وقال أبو عبيد: ما علمنا أحدا كره ذلك، واقتسمت خطط بالكوفة، والبصرة، والشام، ومصر، وغيرها من البلدان، فما عاب ذلك أحد، ولا أنكره.
(4) أي وشمل العقد بناء الدار، وشمل سقفها، من خشب أو أحجار أو غير ذلك، وشمل درجها ونحوه، لدخوله في مسماها.
(5) لاتصال الباب بالدار، وكونه لمصلحتها، واتصال الحلقة به، فأخرج الملقى فيها بغير نصب.
(6) السلم -بضم السين وفتح اللام- المرقاة، مأخوذ من السلامة تفاؤلا، والرف شبه الطاق، يجعل عليه طرائف البيت، فإذا كانا مسمرين شملهما العقد، وإلا فلا.
(7) أي وشمل العقد الخابية يعني الحِبَّ، إذا كانت مدفونة، للانتفاع بها، وكذا الأجرنة المبنية، فإن لم تكن الخابية مدفونة، ولا الأجرنة مبنية لم يتناولها العقد.
(8) أي وشمل العقد حجر الرحى السفلاني، إذا كانت منصوبة وإلا فل.ا(7/497)
لأنه متصل بها لمصلحتها، أشبه الحيطان(1) وكذا المعدن الجامد(2) وما فيها من شجر وعرش(3) (دون ما هو مودع فيها من كنز) وهو المال المدفون(4) (وحجر) مدفون(5) (ومنفصل منها كحبل ، ودلو، وبكرة(6).
__________
(1) أي لأن ما ذكر ونحوه متصل بالدار لمصلحتها، فشمله العقد، أشبه شمول العقد للحيطان، والمعتبر هنا العرف، لأن القصود في العقود معتبرة، وماكان في الأرض من الحجارة المخلوقة فيها، أو مبنيا فيها، كأساسات الحيطان المتهدمة، والآجر المتصل بالأرض، يشمله العقد، لأنه من أجزائها، فهو كترابها، وإن كان المتصل يضر بها كالصخر فعيب.
(2) سواء كان معدن ذهب، أو فضة، أو غيرهما، يشمله العقد، ويملك بملك الدار التي هو فيها، لأنه كأجزاء الدار، وإن لم يعلم به البائع فله الخيار، وكذا ما ظهر فيها من بئر، أو عين ماء، ويلزم المشتري إعلامه به.
(3) أي وكذا ما في الدار من شجر، له ساق أولا، وما فيها من عرش جمع عريش، وهو الظلة، أو ما يحل عليه العنب، أو خيمة من خشب وثمام، يشمله العقد، فهو للمشتري لاتصاله بالدار.
(4) أي دون ما هو مودع في الدار للنقل، من كنز وهو المال المدفون في الأرض من ذهب، أو فضة أو غيرهما.
(5) أي ودون حجر مدفون لأنه مودع فيها للنقل، أشبه الستر والفرش.
(6) وهي بالفتح خشبة مستديرة في وسطها محز، يستقى عليها الماء، أو المحَّالة أي فهي للبائع، لانفصالها من الدار، ولا يتناولها البيع، أشبهت الثياب والطعام.(7/498)
وقفل ، وفرش، ومفتاح)(1) ومعدن جار، وماء نبع(2) وحجر رحى فوقاني، لأنه غير متصل بها، واللفظ لا يتناوله(3) ولو كانت الصيغة المتلفظ بها الطاحونة، أو المعصرة، دخل الفوقاني كالتحتاني(4) (وإن باع أرضا) أو وهبها، أو وقفها أو رهنها، أو أقر أو أوصى بها(5) (ولو لم يقل: بحقوقها شمل) العقد (غرسها، وبناءها) لأنهما من حقوقها(6).
__________
(1) القفل بالضم: الحديد الذي يغلق به الباب، والفرش ما تفرش به الدار من أي نوع كان، والمفتاح آلة الفتح، وكذا رفوف موضوعة، لعدم اتصالها، ولأن اللفظ لا يشملها، والمعتبر العرف، وتقدم في قبض الدار أن يسلم له مفتاحها، ومفتاحها من مصالحها، وظاهر كلام الموفق وغيره: ما لا يختص بمصلحتها.
(2) أي خارج من العين لأنه يجري من تحت الأرض إلى ملكه، أشبه ما يجري من الماء في نهر إلى ملكه، ولأنه لا يملك إلا بالحيازة، وأما نفس البئر، وأرض العين ونحوها مما يتصل بها، فلمالك الأرض، وينتقل بانتقالها، لاتصاله بها.
(3) ولا يدخل في مسمى الدار، فهو للبائع.
(4) كأن يقول: بعتك هذه الطاحونة، أو المعصرة لتناول اللفظ له.
(5) أو جعلها صداقا، أو عوضا في خلع، أو عتق، أو جعالة أو تصدق بها ونحو ذلك.
(6) ويتخذان للبقاء فيها، وليس لانتهائه مدة معلومة، استظهره غير واحد، وما كان كذلك يدخل فيها بالإطلاق، وإن قال: بحقوقها، دخل الغرس والبناء في البيع، قال في الإنصاف: بلا نزاع.(7/499)