.
وإطالة نظر إلى شيء وتقدم(1) (ولا تبطل) الصلاة (بيسير أكل وشرب وسهوا أو جهلا)(2) لعموم عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان(3).
__________
(1) فيما يكره في الصلاة وكنقش في جدار، وككتاب ولو بقلبه دون لسانه.
(2) فرضا كانت الصلاة أو نفلا.
(3) ولأن تركهما عماد الصوم، وركنه الأصلي، فإذا لم يؤثر فيه حالة السهو فالصلاة أولى، وكالسلام قال في الكافي: فعلى هذا يسجد، لأنه يبطل الصلاة عمده فعفى عن سهوه، فيسجد له كجنس الصلاة، لأن غيرهما يبطلها إذا كثر، فهما أولى، ولأن الصلاة عبادة بدنية، فيندر ذلك فيها، وهي أدخل في الفساد، بدليل الحدث والنوم، بخلاف الصوم، ولأنه ينقطع عن القياس.(3/143)
وعلم منه أن الصلاة تبطل بالكثير عرفًا منهما كغيرهما(1) (ولا) يبطل (نفل بيسير شرب عمدًا)(2) لما روي أن ابن الزبير شرب في التطوع(3) ولأن مد النفل وإطالته مستحبة، فيحتاج معه إلى جرعة ماء لدفع العطش، فسومح فيه كالجلوس(4) وظاهره أنه يبطل بيسير الأكل عمدًا(5) وأن الفرض يبطل بيسير الأكل والشرب عمدًا(6).
__________
(1) بغير خلاف، قاله في الشرح والمبدع وغيرهما، وحكى ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على المنع من الأكل والشرب، وأنه إن أكل أو شرب في صلاة الفرض عامدًا لزمته الإعادة.
(2) وهو مفهوم ما قطع به في المقنع والمنتهى، قال الوزير: وهو المشهور عن أحمد، وفي الفروع، وعنه ونفله أي تبطل وفاقا، والأشهر بالأكل وصحح في الشرح أن النفل كالفرض، وهو قول الأكثر، قاله في المبدع، وقاله ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المصلي ممنوع من الأكل والشرب.
(3) وكذا سعيد بن جبير، وقال طاوس، لا بأس وقال الخلال، سهل أبو عبد الله في ذلك، وابن الزبير هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي وأمه أسماء بنت أبي بكر ولد عام الهجرة، أحد العبادلة والشجعان بويع بالخلافة سنة أربع وستين، وولي إلى أن قتله الحجاج بمكة سنة ثلاث وسبعين.
(4) أي كما سومح في الجلوس في النافلة.
(5) لأنه ينافي هيئة الصلاة.
(6) لأنه ينافي الصلاة قال في المبدع: وهو إجماع من نحفظ عنه في الفرض، لأنهما ينافيان الصلاة.(3/144)
وبلغ ذوب سكر ونحوه بفم كأكل(1) ولا تبطل ببلع ما بين أسنانه بلا مضغ(2) قال في الإقناع، إن جرى به ريق(3) وفي التنقيح والمنتهى ولو لم يجر به ريق(4) وإن أتى بقول مشروع في غير موضعه(5) كقراءة في سجود وركوع (وقعود وتشهد في قيام وقراءة سورة في) الركعتين (الأخيرتين) من رباعية أو في الثالثة من مغرب (لم تبطل) بتعمده(6).
__________
(1) أي حكم بلع ذوب سكر، وهو ماء القصب إذا أغلي واشتد، وقذف بالزبد فارسي معرب، ويقال: أول ما عمل بطبرزاذ وكذا نحوه كحلوى وترنجبيل حكم الأكل وفاقًا، وكذا لو فتح فاه فنزل فيه ماء المطر فابتلعه.
(2) لأنه ليس بأكل ويسير.
(3) صوابه ما يجري به ريق، وهو اليسير الذي لا يمكن الاحتراز منه، قال شارحه، ولأن ذلك لا يسمى أكلا.
(4) وهو الذي له جرم، ولا يجري إلا بالإزدراد، وتبعهما العسكري والشويكي، وقال الحجاوي على التنقيح: وهذا بعيد، تابع فيه الفروع واستبعده ابن نصر الله، قال في الإقناع تبعًا للمجد، وما لا يجري به ريقه بل يجري بنفسه وهو ما له جرم تبطل به أي ببلعه، وهو مفهوم الرعاية والفروع والإنصاف والمبدع، ولا تبطل بترك لقمة في فمه لم يمضغها ولم يبتلعها حتى فرغ من الصلاة، ويكره ذلك وإن لاكها ولم يبتلعها فهو كالعمل إن كثر أبطل وإلا فلا.
(5) وهذا أول الشروع في زيادة الأقوال، وهي قسمان، ما يبطل عمده وما لا يبطل، وبدأ ما لا يبطل، وثني بما يبطل، ومن باب الترقي والبداءة بالأسهل.
(6) وفاقا، وكذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأول لقوله
«إذا جلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف» قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، يرون أن لا يطيل القعود في الركعتين الأوليين، ولا يزيد على التشهد شيئا في الركعتين الأوليين، وقالوا: إن زاد على التشهد فعليه سجدتا السهو، هكذا عن الشعبي وغيره.(3/145)
لأنه مشروع في الصلاة في الجملة(1) (ولم يجب له) أي السهو (سجود بل يشرع) أي يسن كسائر ما لا يبطل عمده الصلاة(2) (وإن سلم قبل إتمامها) أي إتمام الصلاة (عمدًا بطلت)(3).
__________
(1) أي في غير هذه المواضع، قال النووي وغيره: وإن سبح الله وحمده في غير ركوع وسجود لم تبطل، سواء قصد به تنبيه غيره أو لا، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي وجمهور العلماء، لما في الصحيحين من حديث سهل ابن سعد، وقيل: تبطل به، ذكره ابن الجوزي وابن حامد وأبو الفرج في قراءته راكعا أو ساجدا، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، قال الترمذي: وهو قول أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، كرهوا القراءة في الركوع اهـ فيسن الأدب مع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، فإنهما حالتا ذل وانخفاض، وكلام الله أشرف الكلام، فالانتصاب أولى به، إذ هو أشرف حالات العبد، وعليه فيتأكد تركها في تلك المواضع، ويتأكد سجود السهو له.
(2) صححه غير واحد، منهم صاحب الفروع والوسيلة والرعاية، ونصره جماعة، لعموم «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» رواه مسلم، فإن لم يكن مشروعًا كآمين رب العالمين؛ الله أكبر كبيرا، لم يشرع له سجود، جزم به في المغني والشرح وغيرهما.
(3) قال في الإنصاف وغيره: بلا نزاع.(3/146)
لأنه تكلم فيها قبل إتمامها(1) (وإن كان) السلام (سهوا ثم ذكر قريبًا أتمها)(2) وإن انحرف عن القبلة، أو خرج من المسجد(3) (وسجد) للسهو لقصة ذي اليدين(4) لكن إن لم يذكر حتى قام، فعليه أن يجلس لينهض إلى الإتيان بما بقي عليه عن جلوس(5).
__________
(1) وظاهره سواء كان الباقي منها واجب أو ركن فكلاهما يبطلها تركه عمدا، وهو ظاهر المنتهى تبعا للمقنع.
(2) أي: الصلاة وسجد للسهو، نص عليه، وفي الإنصاف، بلا خلاف أعلمه وقال في المغني، ولم تبطل بالسلام سهوًا، رواية واحدة لأنه عليه الصلاة والسلام فعله وهو وأصحابه وبنوا على صلاتهم، ولأن جنسه مشروع فيها، أشبه الزيادة فيها من جنسها، وفي الشرح وغيره، وإن لم يطل الفصل أتى بما ترك، ولم تبطل صلاته إجماعا لقصة ذي اليدين.
(3) أي أتمها ما لم يطل الفصل وفاقًا.
(4) المتفق عليها من حديث أبي هريرة، وفيها فخرجت السرعان من باب المسجد فقالوا: يا رسول الله «أنسيت أم قصرت الصلاة؟» فقال: «لم أنس ولم تقصر» وفي القوم أبو بكر وعمر، فقال: «أكما يقول ذو اليدين؟» فقالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ولمسلم:قام فدخل الحجرة فخرج فصلى الركعة التي كان ترك ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم، وفي رواية: خرج إلى منزله، وفي أخرى: يجر رداءه مغضبا، وهذه أفعال كثيرة قطعا، وذو اليدين هو الخرباق السلمي، أسلم في أواخر زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعاش حتى روى عنه متأخروا التابعين.
(5) متعلق بينهض، لأنه لم يأت بالقيام لها عن جلوس مع النية.(3/147)
لأن هذا القيام واجب للصلاة فلزم الإتيان به مع النية(1) وإن كان أحدث استأنفها(2) فإن طال الفصل عرفًا بطلت، لتعذر البناء إذا(3) (أو تكلم) في هذه الحالة (لغير مصلحتها) كقوله: يا غلام؛ اسقني (بطلت) صلاته(4) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين» رواه مسلم(5).
__________
(1) أي: وهو لم يأت به معها.
(2) لأن الحدث ينافيها واستمرار الطهارة شرط، وقد فات.
(3) لأنها صلاة واحدة فلم يجز بناء بعضها على بعض مع طول الفصل، لفوات الموالاة بين أركانها، وطول الفصل يؤخذ من العرف، حيث لم يرد تحديده بنص، وذلك قاعدة في كل شيء لم يأت في الشرع تحديده، يرجع فيه إلى العرف، وقيل هو مضي قدر تلك الصلاة، وقيل ركعة، والأولى المقاربة، كمثل حال النبي صلى الله عليه وسلم في خبر ذي اليدين، وفي المبدع: إذا لم يذكر المتروك حتى شرع في صلاة غيرها، فإن طال الفصل بطلت، وإن لم يطل عاد إلى الأولى وأتمها، لأنه عمل من جنس الصلاة سهوا فلم تبطل، كما لو زاد ركعة اهـ، والعرف هو ما استقر من الأمور في العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
(4) يعني التي سلم فيها عن نقص بطلبه السقي، وهو خارج عن مصلحتها.
(5) ولقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة» وقال زيد بن أرقم، «فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام»، ولغيرها من الأحاديث، وعنه: لا تفسد بالكلام إذا سلم وتكلم يظن أن صلاته قد تمت، لأنه نوع من النسيان، أشبه المتكلم جاهلاً.(3/148)
وقال: أبو داود مكان لا يصلح «لا يحل»(1) ككلامه في صلبها، أي في صلب الصلاة، فتبطل به للحديث المذكور(2) سواء كان إمامًا أو غيره، وسواء كان الكلام عمدا أو سهوًا أو جهلاً، طائعًا أو مكرهًا(3)
__________
(1) وهو بمعناه فيحرم، ولقوله تعالى: { وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ } وقول زيد بن أرقم «فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام»، رواه الجماعة من طرق، والآية مدنية قال ابن كثير: وهذا الأمر يستلزم ترك الكلام في الصلاة، لمنافاته إياها.
(2) وهو قوله: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين»، والمراد من عدم الصلاحية عدم صحتها، ومن الكلام مكالمة الناس ومخاطبتهم كما هو صريح في سبب الحديث، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدًا وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها أن صلاته فاسدة، وقال شيخ الإسلام: هذا مما اتفق عليه المسلمون اهـ، والعامد من يعلم أنه في صلاة، وأن الكلام محرم، والكلام لغة اسم لما يتكلم به، وفي اصطلاح الفقهاء حرفان فصاعدا، وقال شيخ الإسلام، لا بد فيه من لفظ دال على المعنى، دلالة وضعية تعرف بالعقل.
(3) أما الإمام وغيره في ذلك فسواء، والكلام العمد لغير مصلحتها تقدم الإجماع عليه لتظاهر الأدلة على ذلك، وأما الكلام سهوًا أو جهلاً فعلى الصحيح من المذهب، وعنه لا يبطلها، وفاقا لمالك والشافعي وجمهور العلماء من السلف والخلف، وجميع أئمة المحدثين، واختاره أبو البركات وابن الجوزي والناظم والشيخ وغيرهم، لقصة ذي اليدين، وهي في الصحيحين وغيرهما من طرق، فإن كلامه صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه لمصلحة الصلاة، وعلى سبيل السهو، ولا فرق بين الجاهل بالتحريم أو الإبطال والناسي، لحديث معاوية بن الحكم حين تكلم في صلاته، ولم يأمره بالإعادة رواه مسلم، وكان في آخر الأمر، قال النووي وتأويل الحديث صعب على من أبطلها اهـ ولو نام قائمًا أو قاعدًا نوما يسيرا فتكلم، أو سبق على لسانه حال قراءته كلمة من غير القرآن لم تبطل وفاقًا، والطائع اسم فاعل ضد المكره، والمكره المجبور، واختار القاضي وغيره أنه أولى بالعفو من الناسي، والصحيح عن الشافعية وغيرهم لا تبطل بهذه الأنواع.(3/149)
.
أو واجب كتحذير ضرير ونحوه(1) وسواء كان لمصلحتها أو لا والصلاة فرضا أو نفلا(2) (و) إن تكلم من سلم ناسيا (لمصلحتها) فإن كثر بطلت(3) و(إن كان يسيرا لم تبطل) قال الموفق: هذا أولى، وصححه في الشرح(4).
__________
(1) كخائف تلف شيء وتعين الكلام بطلت، وقال الموفق: ويحتمل أن لا تبطل، وهو ظاهر كلام أحمد ومذهب الشافعي لإجابتهم له صلى الله عليه وسلم في قصة ذي اليدين، وهذا كذلك.
(2) فإذا تكلم عمدًا بطلت، وقال مالك: استفسار الإمام وسؤاله عند الشك، وإجابة المأمور لا يفسد الصلاة، والفرض والنفل في ذلك سواء للأخبار، وهو مذهب جمهور العلماء قديمًا وحديثًا.
(3) أي: وإن تكلم من سلم في صلبها وبعد سلامها سهوًا ناسيًا لمصلحتها، فإن كثر الكلام في تلك الحالتين بطلت، لعموم الأخبار المانعة من الكلام، وإنما عفي عن اليسير فبقي ما عداه على العموم، واختار الشيخ وغيره أنها لا تبطل لمصلحتها لقصة ذي اليدين وغيرها، قال في الشرح، وممن تكلم بعد أن سلم الزبير وابناه وصوبه ابن عباس، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم، ومذهب مالك والشافعي -وهو رواية عن أحمد أيضا- أنها لا تفسد في تلك الحال، سواء كان فيه ما ينافي الصلاة أو لم يكن.
(4) ونص عليه أحمد، وهو مذهب مالك والشافعي، وعوام أهل العلم، وجزم به شيخ الإسلام لظواهر النصوص.(3/150)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا وبنوا على صلاتهم(1) وقدم في التنقيح وتبعه في المنتهى: تبطل مطلقًٍا(2) ولا بأس بالسلام على المصلي، ويرده بالإشارة(3) فإن رده بالكلام بطلت(4) ويرده بعدها استحبابًا لرده صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود بعد السلام(5).
__________
(1) كما جاء مصرحًا به في قصة ذي اليدين وغيرها.
(2) أي سواء قرب الفصل أو بعد. في صلب الصلاة أو لا، يسيرًا كان الكلام أو كثيرا، وحجتهما دعوى النسخ للحديث، وأنه كان في أول الإسلام ثم نسخ، ولا وجه له، فقد رده شيخ الإسلام والحافظ وجمهور العلماء، لأن أبا هريرة شهدها، وإسلامه يوم خيبر سنة سبع.
(3) فقد كان صلى الله عليه وسلم يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة، وقال بلال: يبسط كفه وظهره إلى فوق، صححه الترمذي وغيره، وهو مذهب جمهور العلماء أن المستحب أن يرد السلام بالإشارة، قال الشيخ: ومن لا يحسن الرد لا ينبغي السلام عليه، وإدخاله فيما يقطع صلاته، أو يترك به الرد الواجب.
(4) لما في الصحيحين عن ابن مسعود أنه لم يرد عليه -يعني باللفظ- وقال: «إن في الصلاة لشغلا».
(5) رواه أبو داود والنسائي، قال: «سلمت عليه فلم يرد علي السلام، وقال: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة» فرد علي السلام.(3/151)
ولو صافح إنسانًا يريد السلام عليه لم تبطل(1) (وقهقهة) وهي ضحكة معروفة (ككلام)(2) فإن قال: قه قه، فالأظهر أنها تبطل به، وإن لم يبن حرفان، ذكره في المغني، وقدمه الأكثر، قاله في المبدع(3) ولا تفسد بالتبسم(4) وإن نفخ فبان حرفان بطلت(5).
__________
(1) وفاقًا لمالك والشافعي.
(2) يعني في إبطال الصلاة بها عمدًا وسهوًا، بل أولى لهتكه حرمة الصلاة، والقهقهة هي أن يقول: قه قه، ويقال فيه: قه وقهقه بمعنى، والأولى عدم تشبيهها بالكلام، للاختلاف في الإبطال به مطلقا، والإجماع على الإبطال بها، ولأن البطلان بها لا يحتاج إلى كونه كالكلام، قال شيخ الإسلام، القهقهة تبطل بالإجماع، لأن فيها أصواتا عالية تنافي حال الصلاة، وتنافي الخشوع الواجب في الصلاة، فهي كالصوت العالي الممتد الذي لا حرف معه، وأيضا فيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها، ما يناقض مقصودها لذلك، لا لكون متكلمًا، وبطلانها بمثل ذلك لا يحتاج إلى كونه ككلام، وليس مجرد الصوت كلاما اهـ وحكى ابن المنذر والوزير وغيرهما: الإجماع على بطلانها بالضحك.
(3) وقال في تصحيح الفروع: وهذا الصحيح جزم به في الكافي والمغني، وقال: لا نعلم فيه خلافًا، وحكاه الوزير وغيره إجماعًا، واختاره الشيخ، وقال: إنه الأظهر، لأنه تعمد فيها ما ينافيها، أشبه خطاب الآدمي، وللدارقطني وغيره عن جابر وغيره، والقهقهة تنقض الصلاة.
(4) فيها، وهو قول الأكثر، حكاه ابن المنذر، وليس التبسم كلامًا وفاقًا.
(5) لا من خشية الله تعالى وفاقا، والحرفان مثل القاف والهاء لا تكرار الحرف الواحد، وعنه لا تبطل وفاقا لمالك، واختار الشيخ أن النفخ ليس كالكلام
ولو بان حرفان فأكثر، لا تبطل به، وفي المسند وأبي داود وغيرهما أنه نفخ في صلاة الكسوف قال الشيخ: ففيه أنه نفخ من حرها عن وجهه، وهذا نفخ لدفع ما يؤذي وبان الشيء بيانًا وتبيانًا، وظهر وأبان كذلك.(3/152)
(او انتحب) بأن رفع صوته بالبكاء (من غير خشية الله تعالى) فبان حرفان بطلت، لأنه من جنس كلام الآدميين(1) لكن إن غلب صاحبه لم يضره، لكونه غير داخل في وسعه(2) وكذا إن كان من خشية الله تعالى(3).
__________
(1) لوقوعه على الهجاء، ودلالته على المعنى، وقال أحمد في الأنين إذا كان غالبا: أكرهه ويأتي قوم شيخ الإسلام، إنما حرم الكلام في الصلاة وأمثاله من الألفاظ التي تناول الكلام، والنحيب البكاء أو رفع الصوت به، اسم من باب ضرب، والبكاء بالمد والقصر، يقال: بكى يبكي بكى وبكاء، سال دمعه حزنا فهو باكٍٍ، جمعه بكاة وقيل: البكاء بالمد رفع الصوت، وبالقصر خروج الدموع وتتابعها، والخشية أحد مصادر خشي، قال ابن مالك، خشيت خشيا ومخشاة ومخشية وخشية، وهي أخص من الخوف.
(2) استدراك من قوله: أو انتخب من غير خشية الله تعالى، وفاقًا للمغني، وقال شيخ الإسلام، فأما ما يغلب على المصلي عن عطاس وبكاء وتثاؤب فالصحيح عند الجمهور أنه لا يبطل، وهو منصوص أحمد وغيره، لأن هذه أمور معتادة، لا يمكنه دفعها وذكر الأدلة ثم قال: «والقول بأنه يبطل تكليف من الأقوال المحدثة، التي لا أصل لها عن السلف.
(3) أي نفخ أو انتحب أو تأوه أو أنَّ من خشية الله تعالى لم يضره، وفاقًا لمالك وأبي حنيفة لقوله: { خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } وحديث «في صدره أزير كأزير المرجل من البكاء» رواه أهل السنن، ولأنه يجري مجرى الذكر والدعاء ويقتضي الرهبة من الله تعالى والرغبة إليه، وهذا خوف الله في الصلاة، ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته، وكان أبو بكر إذا قرأ غلبه البكاء، وعمر يسمح نشيجه من رواء الصفوف لما قرأ (إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله)، والنشيج رفع الصوت بالبكاء وقال الناظم:
وإن غلط التالي بغير قراءة
فعفو كلفظ النائم المتهجد
وإن ينتحب من خشية الله قل له…طفأت لظى وحزت كل التعبد(3/153)
(أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت)(1) فإن كان لحاجة لم تبطل، لما روى أحمد وابن ماجه عن علي قال: كان لي مدخلان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار، فإذا دخل عليه وهو يصلي يتنحنح لي، وللنسائي معناه(2).
__________
(1) أي: صلاته بالنحنحة وهي ترديد الصوت في جوفه، وعنه أن النحنحة لا تبطل الصلاة مطلقا، بان حرفان أم لا واختاره الموفق وغيره، وردوا تأويل الأصحاب لرواية المروذي ومهنا، أن أحمد تنحنح في صلاته، وقال شيخ الإسلام: إنما حرم الكلام في الصلاة وأمثاله من الألفاظ التي تناول الكلام، والنحنحة لا تدخل في مسمى الكلام أصلا، وقال: هي كالنفخ بل أولى بأن لا تبطل، وقال كثير من متأخري الأصحاب، ما أبان حرفين من هذه الأصوات كان كلاما مبطلا، وهو أشد الأقوال في هذه المسألة، وأبعدها عن الحجة، فإن الإبطال إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام، وإن كان بالقياس لم يصح ذلك، فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظه، وذلك يشغل المصلي، وأما هذه الأصوات فهي طبيعة كالتنفس، وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل ولا نظير، وأيضا جاءت السنة بالنحنحة والنفخ، فالصلاة صحيحة بيقين، فلا يجوز إبطالها بالشك.
(2) من طريق، وله أيضا من طريق آخر كلاهما عن علي رضي الله عنه
وقال المروذي: كنت آتي أبا عبد الله فيتنحنح في صلاته، وقال مهنا: رأيته يتنحنح في صلاته.(3/154)
وإن غلبه سعال أو عطاس أو تثاؤب ونحوه لم يضره، ولو بان حرفان(1).
فصل
في الكلام على السجود للنقص(2)
__________
(1) لأنها أصوات طبيعية كما تقدم، وقد غلب عليها، وكذا لو غلط في القراءة أو تنفس فقال: آه والسعال حكة تدفع بها الطبيعة مادة مؤذية عن الرئة والأعضاء التي تتصل بها، والعطاس تهيج في الغشاء الداخلي من الأنف تهيئة للعطس، وهواء يندفع بغتة بعزم من الأنف، والتثاؤب بالهمز مثل تقاتل كسل وفترة كفترة النعاس، تعتري الشخص فيفتح عندها فاه، وتقدم وبالواو عامية، وظاهر عبارات الأصحاب أن ما انتظم حرفين فصاعدا أبطل أفهم أو لا، وأما الحرف وإن كان قد يكون كلمة كـ «ق» و «ع» فأعرضوا عنه، لأن الغالب عليه أنه لا يستقل بمعنى وظاهر كلامهم أنه إذا أفهم معنى أبطل، وصرح به غير واحد من أتباع الأئمة، فإن المصلي إذا قصد معاني يعبر عنها بلفظة شغله عن الصلاة.
(2) أي: في الصلاة والشك في بعض صوره وغير ذلك، وهذا القسم الثاني مما يشرع له السجود.(3/155)
(ومن ترك ركنا) فإن كان التحريمة لم تنعقد صلاته(1) وإن كان غيرها (فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت) الركعة التي تركه منها(2) وقامت الركعة التي تليها مقامها(3).
__________
(1) وكذا النية على القول بركنيتها وغيرهما من الأركان، ويجب تداركه ولا يغني عنه سجود السهو، لتوقف وجوه الماهية عليه، وإنما يشرع السجود للسهو.
(2) أي: وإن كان المتروك ركنا غير التحريمة كركوع أو سجود أو رفع من أحدهما، أو طمأنينة فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى، وعين القراءة دون القيام، لأن القيام مقصود لها لا لذاته، وإلا فهو سابق عليها، وبطلت أي لغت الركعة التي ترك الركن منها، ولم يحتسب بها من عدد الركعات نص عليه، لأنه ترك ركنا ولم يمكنه استدراكه لتلبسه بالركعة التي بعدها، ولو قال: لغت لكان أحسن، وليس المراد بقوله: بطلت، البطلان الحقيقي، لأن العبادة إذا حكم عليها بالبطلان حكم عليها كلها به، قال الشيخ: جاءت السنة بثوابه على ما فعله، وعقابه على ما تركه، ولو كان باطلاً كعدمه لم يجبر بالنوافل شيء، والباطل في عرف الفقهاء ضد الصحيح في عرفهم، وهو ما أبرأ الذمة لا بمعنى أنه لا يثاب عليها شيئا في الآخرة.
(3) فتكون الثانية أولته والثالثة ثانية، والرابعة ثالثة، ويأتي بركعة، وكذا القول في الثانية، والثالثة، ولا يبطل ما مضى من الركعات قبل المتروك ركنها، حكاه المجد إجماعًا.(3/156)
ويجزئه الاستفتاح الأول(1) فإن رجع إلى الأولى عالمًا عمدًا بطلت صلاته(2) (و) إن ذكر ما تركه (قبله) أي قبل الشروع في قراءة الأخرى (يعود وجوبا فيأتي به) أي بالمتروك(3) (وبما بعده)(4) لأن الركن لا يسقط بالسهو، وما بعده قد أتى به في غير محله(5) فإن لم يعد عمدًا بطلت صلاته(6).
__________
(1) نص عليه في رواية الأثرم.
(2) أي: فإن رجع من ترك ركنًا إليه بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى، عالمًا بتحريم الرجوع، عامدًا بطلت صلاته لأن رجوعه بعد شروعه في مقصود القيام وهو القراءة إلغاء لكل من الركعتين، وإن رجع ناسيًا أو جاهلاً لم تبطل، ولم يعتد بما يفعله في الركعة التي تركه منها، لأنها فسدت بشروعه في قراءة غيرها، فلم تعد إلى الصحة بحال.
(3) لكون القيام غير مقصود في نفسه، لأنه يلزم منه قدر القراءة الواجبة، وهي المقصودة، ولأنه ذكره في موضعه كما لو ترك سجدة من الركعة الأخيرة فذكرها قبل السلام، فإنه يأتي بها في الحال.
(4) أي ويأتي بما بعد المتروك من الأركان والواجبات لوجوب الترتيب.
(5) لأن محله بعد الركن المنسي، فلو ذكر الركوع وقد جلس عاد فأتى به وبما بعده، وإن سجد سجدة ثم قام، فإن جلس للفصل سجد الثانية ولم يجلس، وإلا جلس ثم سجد الثانية.
(6) أي: فإن لم يعد إلى الركن المتروك من ذكره قبل شروعه في قراءة الأخرى عالما بالتحريم عمدًا بطلت صلاته، قال في الإنصاف، بلا خلاف أعلمه، لأنه ترك كرنًا يمكنه الإتيان به في محله عمدا.(3/157)
وسهوًا بطلت الركعة، والتي تليها عوضها(1) (وإن علم) المتروك (بعد السلام فكترك ركعة كاملة)(2) فيأتي بركعة ويسجد للسهو ما لم يطل الفصل(3) ما لم يكن المتروك تشهد أخيرًا(4) أو سلاما فيأتي به ويسجد ويسلم(5) ومن ذكر ترك ركن وجهله أو محله عمل بالأحوط(6) وإن نسي التشهد الأول، وحده أو مع الجلوس له(7).
__________
(1) أي: وإن لم يعد سهوا أو جهلا بطلت الركعة المتروك ركنها بشروعه في قراءة ما بعدها، والتي تليها عوضها، وكذا الثانية كما تقدم، والجهل والنسيان في هذه المسألة والتي قبلها واحد، وهو أنه يعذر في كل منهما في عدم البطلان.
(2) لأن الركعة التي لغت بتركه ركنها غير معتد بها، فوجودها كعدمها.
(3) عرفًا وفاقًا، ولو انحرف عن القبلة، أو خرج من المسجد، نص عليه، وإن طال الفصل، أو أحدث أو تكلم بما يبطلها بطلت، لفوات الموالاة.
(4) فيأتي به ويسجد ويسلم.
(5) ولا يكون كترك ركعة.
(6) أي: ومن ذكر أنه ترك ركنا وجهله هل هو ركوع أو سجود؟ فالأحوط أن يجعله ركوعا ليأتي به وبما بعده، أو محله، وهو ما إذا تيقن ترك ركن وجهل هل هو في الركعة الأولى أو الثانية؟ فالأحوط أن يجعله من الأولى ليلغيها وتقوم الثانية مقامها، وكذا كل ما تيقن إتمام صلاته، لئلا يخرج منها وهو شاك فيها، ولأبي داود «لا إغرار في صلاة»، قال أحمد: لا يخرج منها إلا على يقين أنها تمت.
(7) بأن جلس ولم يتشهد، أو لم يجلس ولم يتشهد سجد للسهو، لما في الصحيحين أنه قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم.(3/158)
(ونهض) للقيام (لزمه الرجوع) إليه(1) (ما لم ينتصب قائما(2) فإن استتم قائما كره رجوعه)(3) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائما فليجلس، فإن استتم قائما فلا يجلس، وليسجد سجدتين» رواه أبو داود وابن ماجه من حديث المغيرة بن شعبة(4)
__________
(1) أي: إلى التشهد والإتيان به جالسا، لتدارك الواجب، ويتابعه مأموم ولو اعتدل.
(2) لأنه أخل بواجب وذكره قبل الشروع في ركن، فلزمه الإتيان به كما لو لم تفارق ركبتاه الأرض، قال في الإنصاف: لا أعلم فيه خلافا، فإن لم يرجع عالمًا تحريمه بطلت في ظاهر كلامهم، وإن فارقت أليتاه عقبيه لزمه السجود للسهو، وإلا فلا.
(3) أي إذا بلغ حده الذي ينتهي إليه في القيام، بخلاف ما إذا لم يصل إلى ذلك لقلة ما فعله، وإنما جاز رجوعه لأنه لم يتلبس بركن مقصود في نفسه، ولهذا جاز تركه عند العجز عنه، بخلاف غيره من الأركان.
(4) من حديث الجعفي، ورواه أحمد والترمذي وصححه عن زياد بن علاقة، قال: صلى بنا المغيرة فنهض في الركعتين.
فقلت: سبحان الله سبحان الله، ومضى، فلما أتى صلاته وسلم سجد سجدتي السهو، فلما انصرف قال: رأيت رسول الله عليه وسلم يصنع كما صنعت، وللحاكم نحوه من رواية سعد بن أبي وقاص ومن رواية عقبة بن عامر، وقال: هما صحيحان على شرط مسلم، قال أبو داود: وفعل سعد بن أبي وقاص مثل ما فعل المغيرة، وعمران بن حصين والضحاك بن قيس ومعاوية بن أبي سفيان، وابن عباس أفتى بذلك، وعمر بن عبد العزيز قال: وهذا فيمن قام من ثنتين يعني من غير تشهد وجلوس، وروى البيهقي وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم تحرك للقيام في الركعتين الأخيرتين من العصر فسبحوا به فقعد، ثم سجد للسهو، قال الحافظ: رجاله ثقات، وقال بعض أهل العلم: لا يسجد للحديث الصحيح «لا سهو في وثبه من الصلاة إلا قيام عن جلوس، أو جلوس عن قيام»، وهو مذهب أبي حنيفة، وصححه النووي وغيره: وانتصب أي ارتفع ويقال إذا قام رافعًا رأسه.(3/159)
.
(وإن لم ينتصب قائمًا لزمه الرجوع) مكرر مع قوله: لزمه الرجوع ما لم ينتصب قائمًا(1) (وإن شرع في القراءة حرم) عليه (الرجوع)(2) لأن القراءة ركن مقصود في نفسه بخلاف القيام(3) فإن رجع عالمًا عمدًا بطلت صلاته(4).
__________
(1) لأن المعنى واحد.
(2) وفاقا لظاهر النهي، فإن في حديث المغيرة وغيره حجة قاطعة، مع أن من استتم قائما لا يجلس، لتلبسه بفرض فلا يقطعه، وكما لا يرجع إذا شرع في الركوع وكل ذكر واجب.
(3) فليس مقصودا في نفسه بل لغيره، ومن لم يحسن من الذكر شيئا وقف بقدر الفاتحة.
(4) لزيادته فعلاً من جنسها، عالماً بتحريمه ذاكرا، أنه في صلاة، رواية واحدة، قطع به الموفق وغيره، أشبه ما لو زاد ركوعًا، ولا يلزمه الرجوع إن سبحوا به بعد قيامه، وإن سبحوا به قبل قيامه ولم يرجع تشهدوا لأنسفهم، ولم يتابعوه لتركه واجبا وإن رجع قبل شروعه في القراءة لزمهم متابعته، ولو شرعوا فيها، لا إن رجع بعد لخطئه، وينوون مفارقته وجوبا، وإلا بأن تابعوه بطلت صلاتهم وصلاته، هذا إن كان عالما بأن نبهوه على عدم الرجوع بخلاف ما إذا جهل وجهلوا.(3/160)
لا ناسيا أو جاهلا(1) ويلزم المأموم متابعته(2) وكذا كل واجب(3) فيرجع إلى تسبيح ركوع وسجود قبل اعتدال لا بعده(4) (وعليه السجود) أي سجود السهو للكل أي كل ما تقدم(5) (ومن شك في عدد الركعات) بأن تردد أصلى اثنتين أم ثلاثا مثلا؟ أخذ بالأقل لأنه المتيقن(6)
__________
(1) أي: لا إن رجع بعد شروعه في القراءة ناسيًا أو جاهلاً فلا تبطل، ولم يعتد بتلك الركعة التي رجع إليها لحديث «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان» وجهله يكثر، ولا يمكن تكليف أحد تعلمه، ومتى علم صحة ذلك وهو في التشهد نهض ولم يتمه.
(2) أي متابعة الإمام في قيامه إذا قام ناسيًا التشهد الأول ولم ينبه حتى شرع في القراءة أو بعد أن استتم لحديث «إنما جعل الإمام ليؤتم به»، ولأنه عليه الصلاة والسلام لما قام من التشهد قام الناس معه، ولحديث المغيرة، وحديث ابن بحينة لما قام سبحوا به، فأشار إليهم أن قوموا، وفعله جماعة من الصحابة، ومتى مضى مصل في موضع يلزمه الرجوع، أو رجع في موضع يلزمه المضي، عالما بتحريمه بطلت، كترك الواجب عمدًا، وإن فعله يعتقد جوازه لم تبطل، كترك الواجب سهوا.
(3) أي: وكترك تشهد أول ناسيًا ترك كل واجب سهوا.
(4) أي لا يرجع إلى تسبيح ركوع وسجود بعد الاعتدال، لأن محل التسبيح ركن وقع مجزئًا صحيحًا، ولو رجع إليه كان زيادة في الصلاة، فإن رجع بعد اعتداله عالماً بالتحريم عمدًا بطلت صلاته، لا ناسيًا أو جاهلاً.
(5) من الصور المذكورة لحديث المغيرة وغيره، فإن فيه حجة قاطعة على أن من قام من ثنتين ولم يجلس ولم يتشهد عليه أن يسجد سجدتي السهو، والسجود في هذه الصورة لا نزاع فيه.
(6) إشارة إلى أنه لا اقتصار على ما مثل فلو تردد أصلي ثلاثا أم أربعا؟ أخذ
بالأقل وهو الثلاث ونحو ذلك وكذلك السجدات وفاقا لمالك والشافعي لحديث عبد الرحمن بن عوف، «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة أو اثنتين فليجعلهما واحدة، وإن لم يدر ثنتين أو ثلاثا؟ فليجعلهما ثنتين» الحديث رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه، ولحديث أبي سعيد قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن صلاته، وإذا كان صلى تمام الأربع كان ترغيما للشيطان»، رواه مسلم،، ولأن الأصل عدم ما شك فيه.
وقال النووي: من شك ولم يترجح له أحد الطرفين بين على الأقل بالإجماع بخلاف من غلب على ظنه أنه صلى أربعا مثلا اهـ وعنه يبني على غالب ظنه، اختاره الخرقي والشيخ وغيرهما، وقال: على هذا غالب أمور الشرع، وهي المشهورة عن أحمد وروي عن علي وغيره، وهو مذهب أصحاب الرأي، لما في الصحيحين عن ابن مسعود «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم يسجد سجدتين» وللبخاري «بعد التسليم» وفي لفظ «فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب»، وفي رواية فليتحر «أوفي الذي يرى أنه الصواب» رواه أبو داود، وقال أبو الفرج: التحري سائغ في الأقوال والأفعال اهـ ويحمل ما تقدم على استواء الأمرين، فإنه لا خلاف إذا في البناء على اليقين، والسجود للشك هو القسم الثالث مما يشرع له السجود في بعض صوره.(3/161)
.
ولا فرق بين الإمام والمنفرد(1) ولا يرجع مأموم واحد إلى فعل إمامه(2).
فإذا سلم إمامه أتى بما شك فيه وسجد وسلم(3) وإن شك هل دخل معه في الأولى أو في الثانية؟ جعله في الثانية، لأنه المتيقن(4) وإن شك من أدرك الإمام راكعا أرفع الإمام رأسه قبل إدراكه راكعا أم لا؟ لم يعتد بتلك الركعة، لأنه شاك في إدراكها(5) ويسجد للسهو(6) (وإن شك) المصلي (في ترك ركن فكتركه) أي فكما لو تركه، يأتي به وبما بعده(7).
__________
(1) وعنه يبني الإمام على غالب ظنه، إن كان المأموم أكثر من واحد، لأنه يبعد غلطه، إذ وراءه من ينبهه، فمتى سكتوا عنه علم أنه على الصواب، فهو أولى بالبناء على غالب ظنه من المنفرد.
(2) لاحتمال السهو منه، بل يبني على اليقين كالمنفرد.
(3) أي أتى بما شك فيه مع إمامه ليخرج من الصلاة بيقين، وسجد للسهو وسلم، ليجبر ما فعله مع الشك، وإن كان معه غيره وشك رجع إلى فعل إمامه، لأنه يبعد خطأ اثنين وإصابة واحد، وهذا التفريع على المذهب، وتقدم أنه يبني على غالب ظنه، وقال في المبدع، وأما المأموم فيتبع إمامه مع عدم الجزم بخطئه. وإن جزم بخطئه لم يتبعه ولم يسلم قبله.
(4) وتقدم أنه قول الجمهور، ويقضي ركعة إذا سلم إمامه احتياطا ويسجد للسهو.
(5) فيأتي ببدلها لاحتمال رفعه من الركوع قبل إدراكه فيه محرما به بعده.
(6) لخبر «إذ شك أحدكم في صلاته فليسجد سجدتين» الحديث متفق عليه وليجبر ما فعله مع الشك، فإن نقص في المعنى.
(7) لأن الأصل عدمه، وليخرج منها بيقين، وقال ابن تميم وغيره، لو جهل عين الركن المتروك بنى على الأحوط، فإن شك في القراءة والركوع جعله قراءة وإن شك في الركوع والسجود جعله ركوعا، والوجه الثاني يتحرى ويعمل بغلبة الظن في ترك الركن كالركعة وتقدم.(3/162)
إن لم يكن شرع في قراءة التي بعدها(1) فإن شرع في قراءتها صارت بدلا عنها(2) (ولا يسجد) للسهو (لشكه في ترك واجب) كتسبيح ركوع ونحوه(3) (أو) لشكه في (زيادة)(4) إلا إذا شك في الزيادة وقت فعلها(5) لأنه شك في سبب وجوب السجود والأصل عدمه(6).
__________
(1) يعني في قراءة الركعة التي بعدها.
(2) ولغت التي قبلها.
(3) كتسبيح سجود وقول رب اغفر لي، لأنه شك في سبب وجوب السجود للسهو والأصل عدمه.
(4) بأن شك هل زاد ركوعا أو سجودا، أو شك في تشهده الأخير؟ هل صلى أربعا أو خمسا ونحوه؟، لأن الأصل عدم الزيادة، فلحق بالمعدوم يقينا، ولو أحرم بالعشاء ثم سلم من ركعتين يظنهما من التراويح، أو سلم من ركعتين من ظهر يظن أنها جمعة أو فجر فاتته ثم ذكر أعاد فرضه ولم يبن نص عليه، لأنه قطع نية الأولى باعتقاده أنه في أخرى، وعلمه لها ينافي الأولى، بخلاف ما لو ذكر قبل أن يعمل ما ينافيها، ومن سجد لشك ظنا أنه يسجد له ثم تبين له أنه لم يكن عليه سجود سجد وجوبا، لكونه زاد سجدتين غير مشروعتين، ومن عليه سجود ولم يعلم أيسجد له أم لا؟ لم يسجد له، لأنه لم يتحقق سببه، والأصل عدمه، ومن شك هل سجد لسهوه أو لا؟ سجد.
(5) كأن ركع أو سجد فشك وهو في نفس الركوع أو السجود هل هو زائد أولا؟ فيسجد.
(6) بخلاف ما لو كان قائما مثلا فشك هل زاد ركوعا أو سجودًا؟ فلا يسجد.(3/163)
فإن شك في أثناء الركعة الأخيرة أهي رابعة أم خامسة؟ سجد، لأنه أدى جزءا من صلاته مترددا في كونه منها(1) وذلك يضعف النية(2) ومن شك في عدد الركعات، وبنى على اليقين، ثم زال شكه، وعلم أنه مصيب فيما فعله لم يسجد(3) (ولا سجود على مأموم) دخل مع الإمام من أول الصلاة (إلا تبعًا لإمامه) إن سهي على الإمام فيتابعه(4) وإن لم يتم ما عليه من تشهد ثم يتمه(5).
__________
(1) أو زائدًا عليها.
(2) فاحتاج للجبر بالسجود، ومفهومه أنه إن شك في التشهد الأخير أهي رابعة أم خامسة؟ لم يجب عليه سجود.
(3) إمامًا كان أو غيره لزوال موجب السجود، صححه في الإنصاف وغيره.
(4) ولو لم يسه، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعا في الصورتين، لحديث ابن عمر مرفوعا «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه» رواه الدراقطني، وصح عنه عليه الصلاة والسلام «أنه لما سجد لترك التشهد الأول والسلام من نقصان، سجد الناس معه ولعموم «وإذا سجد فاسجدوا» فيسجد مأموم متابعة لإمامه.
(5) بعد سلام إمامه، لحديث «وإذا سجد فاسجدوا» ولا يعيد السجود لأنه لم ينفرد عن إمامه، ولو كان المأموم مسبوقا وسها الإمام فيما لم يدركه المسبوق فيه فيسجد معه متابعة له وكذا لو أدركه فيما لم يعتد له به.(3/164)
فإن قام بعد سلام إمامه رجع، فسجد معه(1) ما لم يستتم قائما فيكره له الرجوع(2) أو يشرع في القراءة فيحرم(3) ويسجد مسبوق سلم معه سهوا(4) ولسهوه مع إمامه(5) أو فيما انفرد به(6) وإن لم يسجد الإمام للسهو سجد مسبوق إذا فرغ(7).
__________
(1) أي: فإن قام المسبوق بعد سلام إمامه لقضاء ما سبق به ظانًّا عدم سهو إمامه فسجد إمامه، رجع المسبوق وجوبا فسجه معه.
(2) كمن قام عن التشهد الأول.
(3) لأنه تلبس بركن مقصود، فلا يرجع إلى واجب، كمن قام عن التشهد يحتذي فيه حذوه وإن أدرك الإمام في آخر سجدتي السهو سجدها معه، فإذا سلم أتى المسبوق بالثانية، ثم قصى ما فاته لعموم «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» وإن أدركه بعد سجدتي السهو وقبل السلام لم يسجد لسهو إمامه وبعد السلام لا يدخل معه لأنه خرج من الصلاة.
(4) بعد قضاء ما فاته لأنه صار منفردا.
(5) أي: دون إمامه فيما أدركه معه، ولو فارقه لعذر، وهذا من عطف العام على الخاص، لأن سلامه معه من أفراد سهوه معه، وفائدة ذلك دفع إيهام أن ما كان معه يتحمله قال عثمان: سواء سجد مع الإمام لسهو الإمام أم لا، فإن سجود سهو المسبوق محله بعد سلام الإمام.
(6) أي: المسبوق إذا سهي عليه فيما يقضيه بعد سلام إمامه، قال في المبدع: رواية واحدة، ولو كان سجد مع الإمام، لأنه لم يتحمله عنه الإمام فيلزمه السجود بعد قضاء ما فاته.
(7) أي: من قضاء ما فاته، لأن محل سجود السهو آخر الصلاة، وإنما كان يسجد مع الإمام متابعة له.(3/165)
وغيره بعد إياسه من سجوده(1) (وسجود السهو لما) أي لفعل شيء أو تركه (يبطل) الصلاة (عمده) أي تعمده(2) ومنه اللحن المحيل للمعنى سهوًا أو جهلاً (واجب)(3) لفعله عليه الصلاة والسلام وأمره به في غير حديث(4) والأمر للوجوب(5).
__________
(1) أي ويسجد غير مسبوق إذا أيس من سجود إمامه وفاقًا لمالك والشافعي، وهذا فيما إذا كان الإمام لا يرى وجوب سجود السهو، أو يراه وتركه سهوا، وإلا بطلت، على القول ببطلانها بترك سجود أفضليته قبل السلام.
(2) واجب سواء تعمد نقصا كسلام وترك تسبيح ونحوه، أو تعمد زيادة كزيادة ركعة أو ركوع أو سجود ونحوه، أو أتى ببدل ركعة أو ركن شك فيه، لقوله عليه الصلاة والسلام «فليسجد سجدتين» ونحوه من الأحاديث الدالة على الأمر به، ولفعله عليه الصلاة والسلام مما تقدم وغيره، ولأنه جبران يقوم مقام ما يجب فعله أو تركه فكان واجبا.
(3) لأن عمده يبطل الصلاة، فوجب السجود لسهوه، ولو أعاده صحيحا واختار المجد، لا يجب السجود للحن سهوًا أو جهلاً اهـ وإنما قال: منه لينبه على قوة الخلاف في ذلك.
(4) منها حديث ابن مسعود وابي سعيد، ولوجوبها على الشاك بغير خلاف، وعنه غير واجب، قال الموفق: ولعل مبناها على أن الواجبات التي شرع السجود لجبرها غير واجبة، فيكون جبرها غير واجب، وفاقًا للشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم.
(5) لأنه تجرد عن القرينة الصارفة له عما يقتضي خلاف ذلك، وعنه: يشترط السجود لصحة الصلاة قال الوزير: هو المشهور عن أحمد.(3/166)
وما لا يبطل عمده كترك السنن(1) وزيادة قول مشروع غير السلام في غير موضعه(2) لا يجب له السجود بل يسن في الثاني(3) (وتبطل) الصلاة (بـ) تعمد (ترك سجود) سهو واجب (أفضليته قبل السلام فقط)(4) فلا تبطل بتعمد ترك سجود مسنون(5) ولا واجب محل أفضليته بعد السلام(6) وهو ما إذا سلم قبل إتمامها(7).
__________
(1) فلا يجب له السجود وتقدم ذكرها.
(2) كقراءة في ركوع وسجود وتقدم، وأما السلام فيخرج به منها.
(3) وهو الإتيان بالزيادة بالقول المشروع في غير موضعه غير السلام، وهذا بخلاف ما لو ترك القول المشروع، مثل الاستفتاح أو التعوذ، فلا يسن السجود لتركه بل يباح فقط.
(4) أي: ندب كونه قبل السلام، فتبطل الصلاة بتعمد تركه، كتعمده ترك واجب من الصلاة، وفاقًا للشافعي، لا إن عزم على فعله بعد السلام فسلم ثم تركه فلا تبطل.
(5) كترك مسنون، أو زيادة قول مشروع، ولا يكون سجود مسنون محله بعد السلام.
(6) أي ولا تبطل أيضًا بتعمد ترك سجود سهو واجب محل أفضليته بعد السلام وفاقاً، لأنه خارج عنها فلم يؤثر في إبطالها وإن كان مشروعاً لها، كالأذان لكن يأثم بتعمد تركه ومثله لو أخر السجود الذي أفضليته قبل السلام إلى ما بعده فتركه فلا تبطل.
(7) أي وسجود السهو الذي محل أفضليته بعد السلام هو ما إذا سلم عن نقص، أو بنى على غالب ظنه اختاره الشيخ.(3/167)
لأنه خارج عنها، فلم يؤثر في إبطالها(1) وعلم من قوله: أفضليته، أن كونه قبل السلام أو بعده ندب، لورود الأحاديث بكلٍّ من الأمرين(2)
__________
(1) وظاهره ولو أقل من ركعة، كما هو ظاهر المنتهى وغيره، وقيده في الإقناع بما إذا سلم عن نقص ركعة، ونص عليه أحمد، وهو موجب الدليل فإنه إنما ورد في نقص ركعة أو ركعتين، كقصة ذي اليدين، وحديث عمران بن حصين، وكذا إذا شك في صلاته، لما في الصحيح «فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين بعد التسليم» ولمسلم «بعد السلام والكلام»، ولأحمد: «فليسجد سجدتين بعد ما يسلم» وصححه ابن خزيمة.
(2) قال القاضي وغيره: لا خلاف بين جميع أهل العلم في جواز الأمرين أي السجود قبل السلام أو بعده، وقال البيهقي: كذا ذكره بعض الشافعية والمالكية إجماعا، وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد للسهو قبل السلام، وروينا أنه سجد بعد السلام، وأنه أمر بذلك، وكلاهما صحيح اهـ، وإنما الخلاف في الأولى والأفضل فلو سجد للكل قبله أو بعده جاز، وقال الشيخ: أظهر الأقوال وهو رواية عن أحمد الفرق بين الزيادة والنقص، وبين الشك مع التحري، والشك مع البناء على اليقين، فإذا كان السجود لنقص، كان قبل السلام لأنه جابر لتتم الصلاة به، وإن كان لزيادة كان بعد السلام، لأنه إرغام للشيطان لئلا يجمع بين زيادتين في الصلاة وكذلك إذا شك وتحرى فإنه أتم صلاته وإنما السجدتان إرغام للشيطان، فتكون بعده،
وكذلك إذا سلم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها وقد أتمها، والسلام فيها زيادة، والسجود في ذلك ترغيم للشيطان وأما إذا شك ولم يبن له الراجح فيعمل هنا على اليقين، فإما أن يكون صلى خمسا أو أربعا فإن كان صلى خمسا، فالسجدتان يشفعان له صلاته، ليكون كأنه صلى ستا لا خمسًا
وهذا إنما يكون قبل السلام، فهذا القول الذي نصرناه يستعمل فيه جميع الأحاديث الواردة في ذلك.
وقال: وما شرع من السجود قبل السلام يجب فعله قبله، وما شرع بعده لا يفعل إلا بعده وجوبا، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقال أحمد: أنا أقول كل سهو جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيه بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام، ووجهه والله أعلم أنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل السلام، إلا ما خصه الدليل، ويخير المأموم بين السلام معه بنية السجود بعد السلام، وبين الإقامة فإن سجد سجد معه، وإلا وحده، ومن سلم من المأمومين معه، ومن لم يسلم صلاة الكل صحيحة.(3/168)
.
(وإن نسيه) أي نسي سجود السهو الذي محله قبل السلام وسلم ثم ذكر (سجد) وجوبًا (إن قرب زمنه)(1) وإن شرع في صلاة أخرى فإذا سلم(2) وإن طال الفصل عرفًا(3) أو أحدث أو خرج من المسجد لم يسجد(4).
__________
(1) عرفًا ولو انحرف عن القبلة، وتكلم لما تقدم ولما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم: «سجد بعد السلام والكلام».
(2) أي قضاه ما لم يطل الفصل عرفًا، لبقاء محله، وقيل بقدر ركعة طويلة، وظاهر كلام الخرقي ما دام في المسجد، واشترط الموفق وغيره لقضائه شرطين أن يكون في المسجد، وأن لا يطول الفصل.
(3) لم يسجد لأنه لتكميل الصلاة، فلا يأتي به بعد طول، وصلاته صحيحة.
(4) ولو لم يطل الفصل، لفوات شرط الصلاة بالحدث، ولأن المسجد محل الصلاة فاعتبرت فيه المدة، كخيار المجلس.(3/169)
وصحت صلاته(1) (ومن سها) في صلاة (مرارا كفاه) لجميع سهوه (سجدتان)(2) ولو اختلف محل السجود(3) ويغلب ما قبل السلام لسبقه(4) وسجود السهو وما يقال فيه، وفي الرفع منه كسجود صلب الصلاة(5).
__________
(1) لأنه جابر للعبادة، كجبران الحج، فلم تبطل بفواته، وكسائر الواجبات إذا تركها سهوًا، وقال الوزير وغيره، اتفقوا أنه إذا تركه سهوا لم تبطل، وعنه يسجد مطلقاً، أي سواء قصر الفصل أو لا، خرج من المسجد أو لا، اختاره الشيخ وغيره، وجزم به ابن رزين لقصة ذي اليدين.
(2) إذا لم يختلف محلهما باتفاق أهل العلم.
(3) أشار إلى خلاف روي فيه عن الأوزاعي وابن أبي ليلى، وفيه وجه فيما إذا كان السهو من جنسين، تعدد السجود له، لأن كل سهو يقتضي سجودا واتفق الأئمة الأربعة على الاكتفاء بسجدتين، لأنه عليه الصلاة والسلام سها فسلم، وتكلم بعد سلامه، وسجد لهما سجودا واحد، ولقوله «وإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» وقوله بعد السلام، «ولا يلزمه بعد السلام سجودان وكل ذلك يتناول السهو في موضعين فأكثر، وأما حديث «لكل سهو سجدتان» وإن كان فيه مقال فالسهو اسم جنس، ومعناه لكل صلاة فيها سهو سجدتان.
(4) كأن حصل له سهوان مثلا، بأن زاد في صلاه من جنسها وسلم عن نقص، فيغلب سجودا أفضليته قبل السلام، وإن شك في محل سجوده سجد قبل السلام.
(5) أي وسجود السهو قبل السلام أو بعده، وما يقال فيه من تكبير وتسبيح، وما يقال بعد رفعه من كـ (رب اغفر لي)، بين السجدتين، كسجود صلب الصلاة لما
تقدم في حديث أبي هريرة «ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر»، قال الشيخ: والتكبير لسجود السهو ثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول عامة أهل العلم اهـ ولأنه يطلق في الأخبار، فلو كان غير المعروف، بين وسجود صلب الصلاة هو سجود الصلاة، بخلاف سجود السهو وسجود التلاوة.(3/170)
فإن سجد قبل السلام أتى به بعد فراغه من التشهد وسلم عقبه(1) وإن أتى به بعد السلام جلس بعده(2) مفترشًا في ثنائية ومتوركا في غيرها(3) وتشهد وجوبا التشهد الأخير، ثم سلم(4) لأنه في حكم المستقل في نفسه(5).
باب صلاة التطوع
وأوقات النهي(6)
__________
(1) بلا تشهد إجماعا.
(2) أي بعد سجود السهو.
(3) كثلاثية ورباعية تبعا للأصل.
(4) وفاقًا لمالك وأبي حنيفة، وروي عن ابن مسعود وغيره، لحديث عمران ابن حصين أنه صلى الله عليه وسلم سها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم، رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والقول الثاني يسلم ولا يتشهد، اختاره الشيخ، ومال إليه الموفق والشارح، وهو الذي عليه العمل، كسجوده قبل السلام، ذكره في الخلاف إجماعا، ولأن التشهد لم يذكر في الأحاديث الصحيحة، بل الأحاديث الصحيحة تدل على أنه لا يتشهد.
(5) من وجه فاحتاج إلى التشهد، كما احتاج إلى السلام إلحاقًا له بما قبله.
(6) من إضافة المصدر إلى مفعوله وحذف فاعله، قال شيخ الإسلام: التطوع تكمل به صلاة الفرض يوم القيامة إن لم يكن المصلي أتمها، وفيه حديث مرفوع رواه أحمد، وكذلك الزكاة وبقية الأعمال، وتقدم قوله: جاءت السنة بثوابه على ما فعله، وعقابه على ما تركه، ولو كان باطلا كعدمه لم يجبر بالنوافل شيء.. إلخ، وللترمذي وغيره وحسنه قال: الرب سبحانه انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله في ذلك، ولأبي داود معناه من وجه آخر بسند صحيح.(3/171)
والتطوع لغة: فعل الطاعة(1) وشرعا: طاعة غير واجبة(2) وأفضل ما يتطوع به الجهاد(3).
__________
(1) وتطوع تفعل، من طاع يطوع إذا انقاد وتطوع بالشيء تبرع به.
(2) وكذا عرفًا وقال الأزهري: التطوع ما تبرع به من ذات نفسه، مما لم يلزمه فرضه اهـ فسمي تطوعا لأن فاعله يفعله تبرعًا من غير أن يؤمر به حتما وتنفل فعل النافلة والنفل والنافلة الزيادة، وبرادفة السنة، والمندوب والمستحب والمرغب فيه، وقال بعضهم: التطوع ما لم يثبت فيه نص بخصوصه، والسنة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمستحب ما لم يواظب عليه، ولكنه فعله.
(3) وهو قتال الكفار، قال تعالى: { وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } وقال عليه الصلاة والسلام «رأس الأمر الإسلام»، وعمود الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على فضل الجهاد في سبيل الله، قال أحمد: لا أعلم شيئا بعد الفرائض أفضل من الجهاد، قال الشيخ الإسلام، والمتأخرون من أصحابنا أطلقوا القول بأن أفضل ما تطوع به الجهاد، وذلك لمن أراد أن يفعله تطوعًا، باعتبار أنه ليس بفرض عين عليه، بحيث إن الفرض قد سقط عنه، فإذا باشره وقد سقط الفرض عنه فهل يقع فرضا أو نفلاً؟ على وجهين، وصحح أنه يقع فرضًا، وذكر تفضيل أحمد للجهاد، والشافعي للصلاة، وأبي حنيفة ومالك للعلم، ثم قال: والتحقيق أنه لا بد لكل من الآخرين، وقد يكون كل واحد أفضل في حال، كفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بحسب الحاجة والمصلحة.(3/172)
ثم النفقة فيه(1) ثم تعلم العلم وتعليمه(2)
__________
(1) أي في الجهاد لقوله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } وحديث «من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت بسبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة»، وغيره ذلك فالنفقة ونحوها فيه أفضل من النفقة في غير من أعمال البر، وكذا غير النفقة كخلف الغازي في أهله وغير ذلك.
(2) قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ } وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن طلب العلم فريضة على كل مسلم»، وفي الحديث «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»، وغير ذلك، وقال أحمد: طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته قيل له: أي شيء تصحيح النية؟ قال: ينوى يتواضع فيه، وينفي عنه الجهل، والمراد نفل العلم، لأنه لا تعارض بين نفل وواجب، فقد قال: يجب أن يتعلم ما يقوم به دينه، مثل صلاته وصيامه ونحو ذلك، وجوبا عينيًا، لا رخصة فيه فورًا في الفوري، وموسعا في الموسع، وقال: العلم لا يعدله شيء، والناس إليه أحوج منهم إلى الطعام والشراب، وقال: تعلم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد وغيره، وقال مالك وأبو حنيفة: أفضل ما تطوع به العلم وتعليمه، وقال الشيخ تعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد، وأنه نوع من أنواع الجهاد، من جهة أنه من فروض الكفايات، قال: والعلم خير ما أنفقت فيه الأنفاس، وبذلت فيه المهج، قال أبو الدرداء: العالم والمتعلم في الأجر سواء، وسائر الناس همج لا خير فيهم، وقال النووي: اتفق جماعات السلف على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصلاة والصوم والتسبيح ونحو ذلك من أعمال البدن اهـ فهو نور القلوب وحياة الإسلام والمسلمين، بل هو الميراث النبوي، فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر، قال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } { يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وقال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين فقد حرم الخير، فهو أفضل الأعمال وأقربها إلى الله، وأهله هم أهل الله وحزبه وأولاهم به وأقربهم إليه، وأخشاهم له، وهو في غاية الوضوح، فلا يحتاج إلى تعريف هو أبين من أن يبين، ولم يأمر الله نبيه من الازدياد من شيء إلا منه، فقال: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } والمراد من العلم العلم الشرعي، الذي يفيد معرفته ما يجب على المكلف من أمر دينه الذي لا حياة له إلا به.(3/173)
.
من حديثٍ وفقهٍ وتفسيرٍ(1)
__________
(1) وأصول فأفضل العلوم أصول الدين، ثم التفسير ثم الحديث ثم أصول الفقه، ثم الفقه، قال الشيخ من ترك الأصول حرم الوصول، ومن ترك الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة، إلا الكتاب والسنة، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن، قال: «إن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله»، ووجوب تعلم العلم على الكفاية عام في سائر شرائع الإسلام، فعلى المكلف البداءة بما يكثر وقوعه ويحتاج إليه، الأهم فالأهم، من واجبات الإيمان، وأركان الإسلام، وقال الشيخ: المشروع في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول
والفروع في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، قال والأشهر عن أحمد الاعتناء بالحديث والفقه، وقال: ليس قوم خيرا من أهل الحديث، وقال: معرفة الحديث والفقه أحب إليه من حفظه، وقد مدح الله الفقه فقال: { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } وفسر بعلم الفقه، وقال البخاري: وهو ثمرة الحديث، وليس ثوابه في الآخرة بدون ثوابه.
وقال ابن الجوزي: بضاعة الفقه أربح البضائع، قال: وعليه مدار العلوم فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه، فإنه الأنفع، وقال: تأملت أسباب الفضائل فإذا هو علو الهمة، وذلك أمر مركوز في الجبلة، لا يحصل بالكسب وأرباب النهاية في علو الهمة لا يرضون إلا بالغاية، فهم يأخذون من كل فن من العلم مهمة ثم يجعلون جل اشتغالهم بالفقه لأنه سيد العلوم اهـ ولا يتم أمر ولا تحصل بركة إلا بصلاح النية، ثم ما يتعدى نفعه يتفاوت كعيادة مريض، وقضاء حاجة مسلم، وإصلاح بين الناس، ونحو ذلك، وفي الحديث ألا أخبركم بأفضل من درجة الصدقة والصلاة والصوم؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة صححه الترمذي.
ولأحمد أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وله أيضا، أحب الأعمال إلى الله الحب في الله والبغض في الله، والفكرة في آلاء الله، ودلائل صنعه، والوعد والوعيد، وهو الأصل الذي يفتح أبواب الخير، وينتج أفعاله، وما أثمر الشيء فهو خير من ثمرته، وقال غير واحد: النطق بكلمة التوحيد أفضل إجماعا، وعمل القلب أفضل من عمل الجوارح، وقال الشيخ: كل واحد بحسبه، فإن الذكر بالقلب أفضل من القراءة بلا قلب، وقال ابن الجوزي، أصوب الأمور أن ينظر إلى ما يطهر القلب ويصفيه للذكر والأنس فيلازمه، وفي الفنون، لو لم يكن مقاساة المكلف إلا لنفسه لكفى به شغلا أن يصح ويسلم ويداوي بعضه ببعض
فذلك هو الجهاد الأكبر لأنه مغالبة المحبوبات، ومن انفتح له طريق عمل بقلبه بدوام ذكر أو فكر، فذلك الذي لا يعدل به ألبتة، ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه.(3/174)
.
.................................................
ثم الصلاة(1) و(آكدها كسوف ثم استسقاء)(2).
__________
(1) أي ثم بعد الجهاد والعلم أفضل التطوعات الصلاة، لترادف الأخبار ومداومة المختار صلى الله عليه وسلم وقال: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة»، وغير ذلك ولأنها آكد الفروض، فتطوعها آكد التطوعات، ولأنها تجمع أنواعا من العبادة، الإخلاص والقراءة، والركوع والسجود ومناجاة الرب تبارك وتعالى، والذل والخضوع له، الذي هو أشرف مقامات العبودية والتسبيح والتكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، وقد تقدم فضل الجهاد، وقال الشيخ: العبادة في غير الجهاد تعدل الجهاد، للأخبار الصحيحة المشهورة، وقال النووي: ليس المراد بقولهم: الصلاة أفضل من الصوم، أن صلاة ركعتين أفضل من صيام أيام، أو يوم فإن الصوم أفضل من ركعتين بلا شك، وإنما معناه أن من لم يمكنه الجمع من الاستكثار من الصلاة والصوم، وأراد أن يستكثر من أحدهما، ويقتصر من الآخر على المتأكد منه اهـ، وقيل: الصوم أفضل من الصلاة قال أحمد: لا يدخله رياء، وهذا يدل على أفضليته على غيره.
(2) أي آكد التطوع صلاة الكسوف، لأنه عليه الصلاة والسلام فعلها وأمر بها، في حديث ابن مسعود المتفق عليه، وغيره، ولأنها عبادة مجمع عليها، وعبادة محضة وصلاة الاستسقاء مستحبة، ولطلب الرزق ثم هي آكد التطوع بالصلاة بعد صلاة الكسوف، لأنه يشرع لها الجماعة مطلقا، أشبهت الفرائض فالتطوع، بما تسن له الجماعة أفضل، والآكدية بمعنى أن فعلها مؤكد، زيادة على بقية النوافل.(3/175)
لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه ترك صلاة الكسوف عند وجود سببها، بخلاف الاستسقاء، فإنه كان يستسقي تارة ويترك أخرى(1) (ثم تراويح) لأنها تسن لها الجماعة(2) (ثم وتر) لأنه تسن له الجماعة بعد التراويح(3) وهو سنة مؤكدة(4) روي عن الإمام: من ترك الوتر عمدا فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل له شهادة(5).
__________
(1) يعني فدل على آكدية صلاة الكسوف، وهو كذلك، وظاهر كلامه يقتضي تكرار الكسوف في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو لم يقع غير مرة واحدة، وأما صلاة الاستسقاء فورد ما يدل على آكديتها كحديث عائشة وغيره.
(2) فأشبهت الفرائض من حيث مشروعية الجماعة لها.
(3) والأشبه أن الوتر آكد فقد قيل بوجوبه، وقال شيخ الإسلام، وما تنازع الناس في وجوبه أوكد، ولكن ما قبله تشرع له الجماعة مطلقا، بخلاف الوتر، فإنها لا تشرع له الجماعة، إلا إذا كان بعد التراويح، والوتر اسم للركعة المنفصلة عما قبلها، وللثلاث والخمس والسبع، والتسع المتصلة والإحدى عشرة، كما أن المغرب وتر النهار اسم للثلاث المتصلة، فإذا انفصلت الثلاث بسلامين أو الخمس وما بعدها كان الوتر اسما للركعة المفصولة وحدها، قال صلى الله عليه وسلم: «فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ما قد صليت».
(4) قال الشيخ: باتفاق المسلمين، ولا ينبغي لأحد تركه، ومن أصر على تركه فإنه ترد شهادته.
(5) ولأحمد وأبي داود مرفوعا: «من لم يوتر فليس منا»، ولهما «الوتر حق فمن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل»، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل، ورواته ثقات.(3/176)
وليس بواجب(1) (يفعل بين) صلاة (العشاء و) طلوع (الفجر) فوقته من صلاة العشاء ولو مجموعة مع المغرب تقديما إلى طلوع الفجر(2).
__________
(1) عند جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، مع إجماعهم أنه ليس بفرض لحديث الأعرابي حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما فرض الله قال: «خمس صلوات في كل يوم وليلة»، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إله أن تطوع، متفق عليه، ولحديث عبادة وغيره، وقال علي: الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة، ولكنه سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما حديث «الوتر حق» ونحوه فمحمول على تأكد استحبابه، وقال شيخ الإسلام: أوجبه أبو حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد، والجمهور لا يوجبونه، واختار وجوبه على من يتهجد بالليل، وقال: هو أفضل من جميع تطوعات النهار، بل أفضل الصلاة بعد المتكوبة قيام الليل، وأوكد ذلك الوتر وركعتا الفجر.
(2) لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر»، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الحاكم ولقوله: «أوتروا قبل أن تصبحوا» رواه مسلم، وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر، وقال: «إذا طلع الفجر فقد ذهب صلاة الليل والوتر»، وفي صحيح ابن خزيمة، «من أدرك الصبح فلم يوتر فلا وتر له»، وفيه أحاديث كثيرة من غير وجه تدل على أن جميع الليل وقت للوتر، إلا ما قبل صلاة العشاء وهو إجماع، إذ لم ينقل أنه أوتر فيه، لعدم دخول وقته، وأن آخره إلى طلوع الفجر، ويصح قبل سنة العشاء، لكن خلاف الأولى، وقوله: ولو مجموعة إشارة إلى خلاف أبي حنيفة فإن وقته عنده بعد غيوب الشفق، والجمهور: له أن يصلي الوتر بعد العشاء إذا كانت مجموعة جمع تقديم قبل غروب الشفق، لعموم ما سبق.(3/177)
وآخر الليل لمن يثق بنفسه أفضل(1) وأقله ركعة، لقوله عليه الصلاة والسلام «الوتر ركعة من آخر الليل» رواه مسلم(2) ولا يكره الوتر بها، لثبوته عن عشرة من الصحابة، ومنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم(3) وأكثره أي أكثر الوتر (إحدى عشرة) ركعة(4).
__________
(1) أي يثق باستيقاظ آخر الليل بنفسه، أو بإيقاظ غيره، لحديث جابر مرفوعا «أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر ثم ليرقد، ومن وثق بقيام من آخر الليل فليوتر من آخره، فإن قراءة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل»، رواه مسلم، ولأنه أكثر فعله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين وغيرهما أحاديث من غير وجه عن خلائق من الصحابة مصرحة أن آخر صلاته بالليل كان وترا، وفيهما وغيرهما أحاديث كثيرة بالأمر يجعل صلاة آخر الليل وترا، وقال غير واحد: وهو قول كافة أهل العلم.
(2) وغيره من حديث ابن عمر وابن عباس وغيرهما، ولقوله صلى الله عليه وسلم «من أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» رواه أبو داود، واستحب أحمد وغيره أن تكون الركعة عقب الشفع، ولو يؤخرها عنه، وليس كالمغرب حتما، ولأنه ركعة قبله شفع لا حد له.
(3) ولما تقدم من الأحاديث وغيرها، ولما يفهم من لفظ الوتر.
(4) وفي الوجيز: وأفضله إحدى عشرة ركعة، وجاء ثلاث عشرة ركعة، وفسرت بركعتين بعد الوتر، قال ابن القيم: تجري مجرى السنة، وتكميل الوتر، فإن الوتر عبادة مستقلة، لا سيما إن قيل بوجوبه، فتجري مجرى سنة المغرب، وقيل ثلاث عشرة ركعة بالركعتين الخفيفتين اللتين كان يفتتح بهما تهجده صلى الله عليه وسلم.(3/178)
يصليها (مثنى مثنى) أي يسلم من كل ثنتين (ويوتر بواحدة) لقول عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة(1) وفي لفظ: يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، هذا هو الأفضل(2) وله أن يسرد عشرًا، ثم يجلس فيتشهد ولا يسلم، ثم يأتي بالركعة الأخيرة، ويتشهد ويسلم(3) (وإن أوتر بخمس أو سبع) سردها و(لم يجلس إلا في آخرها) لقول أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوتر بسبع وخمس لا يفصل بينهن
__________
(1) رواه مسلم، وفي الصحيحين «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» قال ابن القيم في حديث عائشة، وهو الصحيح والركعتان فوقها هما ركعتا الفجر، كما جاء مبينا في الحديث نفسه، وإذا انضاف إلى الفرض والسنة الراتبة جاء مجموع ورده بالليل والنهار أربعين ركعة، يحافظ عليها دائما، وما زاد فعارض، فينبغي للعبد أن يراتب على هذا الورد دائما إلى الممات، فما أسرع الإجابة، وأعجل فتح الباب لمن يقرعه كل يوم وليلة أربعين مرة.
(2) لأمره عليه الصلاة والسلام به، ولاستمرار فعله له، ولأنه أكثر عملاً وفي ذلك دلالة ظاهرة أن أقل الوتر ركعة، وأنها صلاة صحيحة، وهذا مذهب الجمهور، ويسن فعل الوتر عقب الشفع بلا تأخير له عنه، وإذا قام لركعتين ثم بداله فجعل تلك الركعة وترا، فقال أحمد: كيف يكون؟ هذا قلب نية. قيل له أيبتدئ الوتر؟ قال: نعم.
(3) قياسًا على ما يأتي، وله أن يسرد الجميع ولا يجلس إلا في الأخيرة.(3/179)
بسلام ولا كلام، رواه أحمد ومسلم(1) (و) إن أوتر (بتسع) يسرد ثمانيا ثم (يجلس عقب) الركعة (الثامنة ويتشهد) التشهد الأول (ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم) لقول عائشة: ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه(2) وينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعناه(3) (وأدنى الكمال) في الوتر (ثلاث ركعات(4) بسلامين) فيصلي ركعتين ويسلم ثم الثالثة(5).
__________
(1) وله عن ابن عباس: ثم صلى سبعا أو خمسا أوتر بهن، لم يجلس إلا في آخرهن وله أن يسرد ستًّا، ويجلس يتشهد ولا يسلم، ثم يصلي السابعة ويتشهد ويسلم، لفعله عليه الصلاة والسلام رواه أحمد بسند جيد، قال: ولكن أكثر الحديث وأقواه ركعة -يعني: مفصولة- فأنا أذهب إليها.
(2) أي: يتشهد التشهد الأول.
(3) رواه مسلم وغيره، والإيتار بتسع مروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
(4) لأن الركعة الواحدة اختلف في كراهتها والأفضل أن يتقدمها شفع، فلذلك كانت الثلاث أدنى الكمال، وروي من غير وجه أنه كان يوتر بثلاث وقال: «من أحب أن يوتر بثلاث فليفعل».
(5) أي: ثم يصلي الثالثة قال في الإنصاف: بلا خلاف أعلمه وهو أفضل، لما سبق قال مهنا: تسلم في الركعتين من الوتر؟ قال: نعم، قلت: لأي شيء؟ قال: لأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عنه صلى الله عليه وسلم وقال الحارث: سئل
أحمد عن الوتر، قال: يسلم في الركعتين، وإن لم يسلم رجوت أن لا يضره إلا أن التسليم أثبت وأقوى.(3/180)
لأنه أكثر عملا(1) ويجوز أن يسردها بسلام واحد(2) (يقرأ) من أوتر بثلاث (في) الركعة (الأولى) بـ سورة (سبح(3) وفي) الركعة (الثانية) بـ سورة «قل يأيها» (الكافرون(4) وفي) الركعة (الثالثة بـ) سورة (الإخلاص) بعد الفاتحة(5).
__________
(1) بالجلوس للتشهد، والتشهد فيه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء والسلام، وكان ابن عمر يسلم من ركعتين ويأمر ببعض حاجته.
(2) سردًا فلا يجلس إلا في آخرهن قال أحمد: إن أوتر بثلاث لم يسلم فيهن لم يضيق عليه عندي، ومفهوم عبارته كالقاضي لا يجوز كالمغرب، وظاهر الإقناع والمستوعب وغيرهما يجوز كالمغرب، وقال الشيخ: يخير بين فصله ووصله وصحح أن كليهما جائز وأنه إن كان المأموم يرى أحدهما فوافقهم تأليفًا لقلوبهم كان قد أحسن.
(3) بعد الفاتحة لما تضمنته من أمور الدنيا والآخرة وسبح علم على السورة المبدوءة بـ (سبح اسم ربك الأعلى)
(4) بعد الفاتحة وهي تعدل ربع القرآن، لتضمنها التوحيد العلمي الإرادي.
(5) وتواتر أنها تعدل ثلث القرآن، لتضمنها التوحيد الخبري العملي، ولحديث أبي: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بهن في وتره، رواه أبو داود وغيره، ولأحمد وغيره عن ابن أبزى مثله، قال إسحاق وهو أصح شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة في الوتر، ولا ينبغي المداومة على ذلك، فإنه قد يفضي إلى اعتقاد أنه واجب، وسميت سورة الإخلاص لأنها خالصة في صفة الله تعالى، أو لأن اللافظ بها قد أخلص التوحيد لله عز وجل.(3/181)
(ويقنت فيها) أي: في الثالثة (بعد الركوع) ندبًا(1) لأنه صح عنه صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وأنس وابن عباس(2) وإن قنت قبل الركوع بعد القراءة جاز، لما روي أبو داود عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الوتر قبل الركوع(3) فيرفع يديه إلى صدره، ويبسطها، وبطونهما نحو السماء، ولو كان مأمومًا(4).
__________
(1) لا قبله، وعبارة الإقناع وشرحه: ويسن أن يقنت فيها، أي في الركعة الأخيرة من الوتر جميع السنة، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال الوزير: اتفقوا على أن القنوت في الوتر مسنون في النصف الثاني من شهر رمضان إلى آخره، وقال الشيخ: إذا صلى قيام رمضان فإن قنت جميع الشهر، أو نصفه الأخير، أو لم يقنت بحال فحسن، وقال: يخير في دعاء القنوت بين فعله وتركه اهـ والقنوت في اللغة له معان منها الدعاء، ولهذا سمي هذا الدعاء قنوتًا، ويطلق على الدعاء بخير وشر يقال: قنت له وقنت عليه.
(2) رضي الله عنهم، إلا أنه في الفريضة، وصح في الوتر عن عمر وعلي، وروي عن الخلفاء وغيرهم أنهم كانوا يقنتون بعد الركوع، قال الخطيب، وأكثر الصحابة عملوا به.
(3) وصح عن جمع من الصحابة، قال الخطيب: والأحاديث التي فيها القنوت قبل الركوع كلها معاولة وقال شيخ الإسلام: من الناس من لا يراه إلا قبله، ومنهم من لا يراه إلا بعده، وأما فقهاء الحديث كأحمد وغيره فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما، وإن اختاروا القنوت بعده لأنه أكثر وأقيس.
(4) لحديث مالك بن يسار مرفوعًا «إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم
ولا تسألوه بظهورها»، رواه أبو داود، وللخمسة إلا النسائي من حديث سلمان «إن الله يستحيي أن يبسط العبد يديه يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين»، ويكون بينهما فرجة، ورفع اليدين في الدعاء متواتر تواترًا معنويًّا، قال بعضهم: روي فيه نحو مائة حديث، ثلاثون من الصحيحين أو أحدهما، واستحابه في القنوت مذهب أبي حنيفة والشافعي.(3/182)
(فيقول) جهرًا(1).
__________
(1) إن كان إمامًا إجماعًا، أو منفردًا نص عليه، وقياس المذهب يخير المنفرد، واستظهر في الخلاف تخصيص الجهر بالإمام، وهو ظاهر كلام جماعة، وقال في الفروع والمبدع والإقناع والمنتهى وغيرها: «يقول اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشي عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق»، وهو مروي عن عمر وغيره، وسورتان في مصحف أبي، قال ابن سيرين، هاتان السورتان كتبهما أبي في مصحفه، وقال أحمد: يستحب بالسورتين وقال الشيخ: لم ينقل مسلم دعاء في قنوت الوتر غير هذه الأدعية المأثورة في الوتر، قنوت الحسن، وسورتي أبي اهـ، وقال غير واحد: لم يوقت في دعاء القنوت غير اللهم «إنا نستعينك» لأن الصحابة اتفقوا عليه، ولو قرأ غيره جاز، والأولى بعده قنوت الحسن، قال أحمد: يدعو بدعاء عمر، «اللهم إنا نستعينك» وبدعاء الحسن «اللهم اهدني» وفي النصيحة: يدعو معه بما في القرآن، ونقل الحارث: بما شاء، وفي الغاية: تحصل سنة القنوت بكل دعاء، وقد جاء القنوت من طرق تدل على مشروعية الدعاء فيه، قال العراقي وغيره، منها ما هو حسن، ومنها ما هو صحيح، وقوله: «ونحفد» بكسر الفاء أي نسارع إلى طاعتك، وأصل الحفد العمل والخدمة، والجد بالكسر العظيم، والأشهر كسر حاء ملحق.(3/183)
(اللهم اهدني فيمن هديت) أصل الهداية الدلالة(1) وهي من الله التوفيق والإرشاد(2) (وعافاني فيمن عافيت) أي من الأسقام والبلايا(3) والمعافاة أن يعافيك الله من الناس، ويعافيهم منك(4) (وتولني فيمن توليت) الولي ضد العدو، من توليت الشيء: إذا اعتنيت به(5) أو من وليته: إذا لم يكن بينك وبينه واسطة(6).
__________
(1) أي إلى ما يوصل إلى المطلوب، والدلالة ضد الضلال.
(2) التوفيق السداد، وكذا الإرشاد، وهو الاستقامة على طريق الحق، والهداية العلم بالحق مع قصده له، وإيثاره على غيره، والمعنى ثبتني على الهداية وزدني من أسبابها في جملة من هديتهم، أو مع من هديتهم، وقال الشيخ: إنما تسأل الهداية التي خص بها المهتدين، ومن تأول ذلك بمعنى زيادة الهدى أو التثبيت، وقال: كان ذلك جزاء كان متناقضا، فإنه يقال: هذا المطلوب إن لم يكن حاصلا باختيار العبد لم يثب عليه، فإنه إنما يثاب على ما فعله باختياره، وإن كان باختياره فقد ثبت أن الله يحدث الفعل الذي يختاره العبد.
(3) أي: مع من عافيت أو في جملة من عافيتهم من الأسقام: الأمراض والبلايا: الامتحانات والاختبارات والتكليفات جمع سقم وبلوى.
(4) وفي المصباح وغيره: عافاه الله محا عنه الأسقام، والعافية مصدر من عافي واسم منه.
(5) ونظره فيه كما ينظر المولى في حال اليتيم، لأنه سبحانه ينظر في أمر موليه بالعناية.
(6) بمعنى أن الولي يقطع العلائق بينه وبين الله، حتى يصير في باب المراقبة والمشاهدة، وهو مقام الإحسان، والمعنى: تول أمري، ولا تكلني إلى نفسي، في جملة من تفضلت عليهم، أو حافظًا لي مع من حفظته، «ووليت» بكسر اللام وضم التاء.(3/184)
(وبارك لي فيما أعطيت) أي أنعمت(1) (وقني شر ما قضيت(2) إنك تقضي ولا يقضى عليك(3) إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت(4) تباركت ربنا وتعاليت)(5) رواه أحمد والترمذي وحسنه من حديث الحسن بن علي(6).
__________
(1) أي ضع لي البركة فيما أنعمت به علي من العمر والمال، والعلوم والأعمال، والبركة النماء والزيادة، حسية كانت أو معنوية، والسعادة وثبوت الخير، والعطية الهبة وجميع ما يعطي جمعها عطيات وعطايا.
(2) وما قدرت عليّ من قضاء وقدر، فسلم لي العقل والدين.
(3) أي إنك تقدر وتحكم بكل ما أردت، سبحانك لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك، تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد.
(4) يذل: بفتح فكسر، أي لا يصير ذليلا حقيقة من واليته، أو لا يحصل له ذلة، والموالاة ضد المعاداة ويعز قال الشيخ: بالفتح إذا قوي وصلب، وبالكسر إذا امتنع، وبالضم إذا غلب، والمعنى: لا تقوم عزة لمن عاديته وأبعدته عن رحمتك وغضبت عليه.
(5) تبارك تعاظم وكذا تعلى والأول دال على كمال بركته وعظمتها والثاني على كمال العلو ونهايته.
(6) يعني ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانيته ولد سنة ثلاث من الهجرة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث منها هذا الحديث، وروى عن أبيه وأخيه الحسين وعنه ابن الحسن وعائشة وغيرهما، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين» مات رضي الله عنه سنة تسع وأربعين، وقال النووي: إسناده صحيح أو حسن.(3/185)
قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر، وليس فيه: ولا يعز من عاديت(1) ورواه البيهقي وأثبتها فيه(2) ورواه النسائي مختصرًا، وفي آخره، وصلى الله على محمد(3) (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك(4) وبعفوك من عقوبتك(5) وبك منك) إظهارًا للعجز والانقطاع(6).
__________
(1) أقولهن: أي أدعو بهن، وظاهره الإطلاق في جمع السنة.
(2) وكذا أثبتها أبو داود والطبراني من طرق، وتبعهم المؤلف وغيره، وجميع رواياتهم بإفراد الضمير، وأورده في الإقناع والمنتهى وغيرهما بالجمع.
(3) ولفظه: وصلى الله على النبي محمد، فلعله لم يثبتها اختصارا، وقال الحافظ: لا تثبت.
(4) أي استجير برضاك من سخطك، والرضى والسخط صفتان للباري تعالى: لا تشبه رضى المخلوق ولا سخطه.
(5) أي استجير بعفوك ودفعك السوء والبلاء من عقوبتك، والمعاقبة الجزاء بالشر.
(6) العجز الضعف، والانقطاع بمعنى العجز، أي استجير بك من عذابك، قال الخطابي والخلخالي وغيرهما: في هذا معنى لطيف: وذلك أنه سأل الله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعفاته من عقوبته، والرضى والسخط ضدان متقابلان وكذلك المعافاة والمؤاخذاة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله تعالى أظهر العجز والانقطاع، وفزع منه إليه، واستعاذ به منه لا غير.(3/186)
(لا نحصي) أي لا نطبق، ولا نبلغ ولا ننهي (ثناء عليك(1) أنت كما أثنيت على نفسك)(2) اعترافًا بالعجز عن الثناء(3) وردًّا إلى المحيط علمه بكل شيء جملة وتفصيلاً(4) روي الخمسة عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في آخر وتره، ورواته ثقات(5).
__________
(1) أي لا نحصي نعمك والثناء بها عليك، ولا نبلغه ولا نطيقه، ولا ننهي غايته، والإحصاء العد والضبط والحفظ.
(2) حيث قال: لا نحصي ثناء عليك.
(3) فهو سبحانه يثني بنفسه على نفسه، والخلق لا يحصون ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه.
(4) حيث قال: أنت كما أثنيت على نفسك، كما أنه سبحانه لا نهاية لسلطانه وعظمته، لا نهاية للثناء عليه، لأنه تابع للمثنى عليه، وقال ابن الجوزي، هذا اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، وأنه لا يقدر على حقيقته، بل هو تعالى كما أثنى على نفسه، إذ كل ثناء أثنى به عليه، وإن بولغ فيه فقدر الله أعظم، وسلطانه أعز وصفاته أكبر، وفضله وإحسانه أوسع، وفي النهاية: بدأ بالأدنى، وترقى إلى الأعلى، ثم لما ازداد تبيينًا وارتقاء ترك الصفات، وقصر نظره على الذات فقال: أعوذ بك منك، ثم لما أراد قربًا استحيى معه من الاستعاذة على بساط القرب، فالتجأ إلى الثناء، فقال: لا أحصي ثناء عليك، ثم علم أن ذلك قصور فقال: أنت كما أثنيت على نفسك.
(5) وقال الترمذي: لا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت شيئًا أحسن من هذا، وله أن يزيد ما شاء مما يجوز به الدعاء في الصلاة، ولشيخ الإسلام نبذة في دعاء القنوت مشهورة.(3/187)
(اللهم صل على محمد) لحديث الحسن السابق(1) ولما روى الترمذي عن عمر: الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك(2) وزاد في التبصرة (وعلى آل محمد)(3) واقتصر الأكثرون على الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم(4) (ويمسح وجهه بيديه) إذا فرغ من دعائه هنا(5) وخارج الصلاة، لقول عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما
__________
(1) من رواية النسائي وغيره، أنه كان يقول في آخره، وصلى الله على محمد وفيه ضعف، ونص عليه أحمد وغيره.
(2) صلى الله عليه وسلم وروى عن علي نحوه مرفوعا، وفيه مقال، وفي حديث فضالة بن عبيد وغيره ما يدل على رفعه، وقد شرعت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أول الدعاء وأوسطه وآخره.
(3) وفي الإقناع: ولا بأس على آله والتبصرة تقدم أنها لعبد الرحمن الحلواني.
(4) ومنهم صاحب الفروع والمنتهى ولم يذكر في المقنع والشرح والمغني وجمع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم ذكر مشروعيتها وقال أبو سليمان الداراني: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وليسأل حاجته، ثم ليختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنها مقبولة، والله أكرم من أن يرد ما بينهما.
(5) أي عقب قنوت الوتر، وعنه: لا يمسح القانت نقله الجماعة وفاقًا للشافعي وغيره.(3/188)
وجهه، رواه الترمذي(1) ويقول الإمام: اللهم اهدنا إلى آخره(2) ويؤمن مأموم إن سمعه(3) (ويكره قنوته في غير الوتر) روي عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء رضي الله عنهم(4)
__________
(1) من رواية حماد وهو ضعيف، ولحديث يزيد عند أبي داود وغيره: كان إذا دعا رفع يديه ومسح بهما وجهه ولحديث ابن عباس مرفوعًا، «فإذا فرغت فامسح بهما وجهك»، رواه أبو داود وابن ماجه، وقال الشيخ: وأما مسح وجهه بيديه فليس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه إلا حديث أو حديثان لا تقوم بهما حجة.
(2) بالجمع ومشي عليه في الإقناع والمنتهى وغيرهما، ليشارك المأموم الإمام في الدعاء، وللنهي أن يخص نفسه بالدعاء دونهم، يعني فيما يؤمن عليه، قال شيخ الإسلام: إذا كان المأموم مؤمنًا، على دعاء الإمام فيدعو بصيغة الجمع، كما في دعاء الفاتحة في قوله { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فإن المأموم إنما أمن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما جميعًا، فإن لم يفعل فقد خان الإمام المأموم، ولهذا جاء دعاء القنوت بصيغة الجمع، اللهم إنا نستعينك إلخ، ففي مثل هذا يأتي بصيغة الجمع، ويتبع السنة، قال في الفروع: ويفرد المنفرد الضمير، وعند شيخنا لا، لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين.
(3) أي يؤمن على الدعاء من قنوت إمامه خاصة إن سمعه قال الشارح: لا نعلم خلافًا في ذلك، لحديث ابن عباس، بخلاف قوله: «إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، اللهم إنا نستعينك» ونحوه وإن لم يسمعه قنت لنفسه كما لو لم يسمع قراءة الإمام، فإنه يقرأ وإذا أراد السجود رفع يديه، نص عليه، لأن القنوت مقصود في القيام، فهو كالقراءة وقيل: لا قال في الفروع: وهو أظهر، ومن لا يحسن القنوت يقول: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } أو يسأل المغفرة ونحوه.
(4) وغيرهم جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما تعلق من تعلق
من العلماء في ذلك برواية عن ابن عباس لا تصح، قد خالفت ما علم بالضرورة من النقل والعقل.(3/189)
.
وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت في صلاة الفجر بدعة(1).
__________
(1) ورواه البيهقي وغيره، وعن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني! محدث، رواه الخمسة وصححه الترمذي، وقال: العمل عليه عند أكثر أهل العلم اهـ وبه يقطع أنه لم يكن سنة راتبة، إذ لو كان سنة راتبة يفعله صلى الله عليه وسلم كل صبح، ويجهر به، ويؤمن من خلفه، كان سبيله أن ينقل كنقل جهر القراءة ومخافتتها، وعدد الركعات، فمن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغير ولا كبير.
وقال شيخ الإسلام: أما القنوت في صلاة الفجر، فقد ثبت في الصحيح أنه كان يقنت في النوازل، قنت مرة شهرا، يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه، ثم ترك، وقنت مرة يدعو لأقوام من أصحابه، كانوا مأسورين عند قوم يمنعونهم من الهجرة إليه، وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده، كانوا يقنتون نحو هذا القنوت، فما كان داوم عليه، وما كان بدعة بالكلية، وللعلماء فيه ثلاثة أقوال، أصحها أنه يسن عند الحاجة، كما قنت الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وهو الذي عليه أهل الحديث، وكيف يكون يقنت دائما في الفجر أو غيرها، ويدعو بدعاء راتب؟ ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم لا في خبر صحيح، ولا ضعيف، بل أصحابه الذين هم أعلم الناس بسنته، وأرغب الناس في اتباعها، كابن عمر وغيره، أنكروا ذلك حتى قال ابن عمر: ما رأينا ولا سمعنا، وكذلك غيره من الصحابة،
عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة، ومن تدبر السنة علم علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقنت دائما في شيء من الصلوات وقال
ابن القيم: لم يكن يخص القنوت في النوازل بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من الطول، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربها من السحر، وساعة الإجابة.(3/190)
(إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة) من شدائد الدهر (غير الطاعون(1) فيقنت الإمام) الأعظم استحبابًا (في الفرائض) غير الجمعة(2).
__________
(1) لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس، ولا في غيره، ولأنه شهادة ونسبة الشدة إلى الدهر لا تجوز فإن الله سبحانه هو المتصرف في الكون، وهو الفاعل حقيقة، بيده الأمر، وهو على كل شيء قدير، والطاعون الوباء،وهو عند أهل الطب ورم ردئ قتال، يخرج منه تلهب شديد مؤلم جدا، يتجاوز المقدار في ذلك ويصير ما حوله في الآخر أسود أو أخضر أو أكمد، ويئول أمره إلى التقرح سريعا، وأكثر ما يحدث في الإبط وخلف الأذن والأرنبة، واللحوم الرخوة ويعبر به عن ثلاثة أمور، خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة في تلك المواضع ونحوها، والثاني الموت الحادث عنه، كما هو شهادة والثالث السبب الفاعل لهذا الداء، وجاء أنه رجز، ووخز الجن ودعوة نبي.
(2) لأنها عيد المؤمنين، والمطلوب للعيد الفرح والمسرة، وإذا قنت بهم ذكرهم النازلة، وفي المبدع: وظاهر كلامه مطلقا، فالمذهب الاستغناء عنه بالدعاء في الخطبة، واختار الموفق والشارح وغيرهما في الفجر، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم قاله الشارح: لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه إلا في الوتر والفجر، وعنه والمغرب، والمشهور في المذهب في الصلوات كلها، والإمام الأعظم هو الذي يقنت، فيتعدى الحكم إلى من يقوم مقامه، وعن أحمد: نائب الإمام يقوم مقامه، اختاره جماعة، لقيامه مقامه، وعنه: ويقنت إمام جماعة، وعنه: كل مصل، اختاره الشيخ، قال: ولا يقنت في غير الوتر، إلا أن تنزل
بالمسلمين نازلة، فيقنت كل مصل في جميع الصلوات، لكنه في الفجر والمغرب
آكد بما يناسب تلك النازلة، كما أنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود كما جاءت به السنة، ولا يدعو بما خطر له.(3/191)
ويجهر به في الجهرية(1) ومن ائتم بقانت في فجر تابع الإمام وأمن(2) ويقول بعد وتره: سبحان الملك القدوس، ثلاثا ويمد بها صوته في الثالثة(3) (والتراويح) سنة مؤكدة(4).
__________
(1) إجماعًا، ويؤمن من خلفه، كما تقدم.
(2) أي: تابع الإمام في دعائه: «لحديث إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، ونحوه وأمن المأموم على دعاء إمامه إن سمع القنوت، وإن لم يسمع دعا، قال الشيخ: وإذا فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد، تبعه المأموم فيه، وإن كان هو لا يراه، مثل القنوت في الفجر،ووصل الوتر.
(3) رواه أبو داود وغيره بسند صحيح، وقال العراقي: هي مصرح بها في حديث أبي وابن أبزى، وكلاهما عند النسائي بإسناد صحيح، وزاد ابن القيم وغيره: «رب الملائكة والروح»، ويقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»، رواه أبو داود وغيره بسند صحيح، وتقدم في قنوت الوتر، وللنسائي وغيره، يقوله إذا فرغ من صلاته، وفسر بعضهم رواية: في آخر وتره، يعني بعد السلام منه، وفي صحيح مسلم عن عائشة، في سجوده.
(4) في رمضان، بإجماع المسلمين، سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث عائشة الآتي وغيره، وليست محدثة لعمر، وهي من أعلام الدين الظاهرة، وقدمت على الرواتب لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره، ولاتفاق الصحابة على فعلها جماعة، بأمر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أمر الناس
بسنته، في قوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»
وفعل الصحابة لها مشهور، وتلقته الأمة عنهم خلفًا عن سلف، وجاء في فضلها أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، وليست واجبة، لأنه صلاها صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليلتين أو ثلاثًا ثم تركها وقال: خشية أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها.(3/192)
سميت بذلك لأنهم يصلون أربع ركعات، ويتروحون ساعة أي يستريحون(1) (عشرون ركعة) لما روى أبو بكر عبد العزيز في الشافي، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة(2)
__________
(1) وقال بعض أهل اللغة: التراويح جمع ترويحة، وهي في الأصل اسم للجلسة مطلقًا، ثم سميت بها الجلسة التي بعد أربع ركعات في ليالي رمضان، لاستراحة الناس بها، أو لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، وفي المصباح، «أرحنا بالصلاة»، أي أقمها، فيكون فعلها راحة، وصلاة التراويح مشتقة من ذلك، وهي قيام شهر رمضان، قال في الفروع: ويستريح بين كل أربع اتفاقًا، ويدعو فعله السلف ولا بأس بتركه.
(2) ورواه ابن أبي شيبة، وفيه جده إبراهيم بن عثمان متفق على ضعفه وروى البيهقي في المعرفة عن السائب بن يزيد، قال: كنا نقوم في زمن عمر بعشرين ركعة والوتر، قال النووي: إسناده صحيح، وروى مالك وغيره: كان الناس يقومون في زمن عمر في رمضان بثلاث وعشرين ركعة، فكونها عشرين سنة الخلفاء الراشدين، قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وإنما الخلاف في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه صلى الله عليه وسلم اهـ.
وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يزيد في رمضان ولا في
غيره على إحدى عشرة ركعة، وفي رواية ثلاثة عشرة ركعة، ولما ثقل بتسع وسبع، وإنما اختار الإمام أحمد وجمهور العلماء عشرين ركعة، لأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر بلا نزاع.
وقال شيخ الإسلام: له أن يصلي عشرين: كما هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، وله أن يصليها ستًّا وثلاثين، كما هو مذهب مالك، وله أن يصلي إحدى عشرة وثلاث عشرة، وكله حسن فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام أو قصره، وقال: الأفضل يختلف باختلاف المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره فهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر والأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز، ولا يكره شيء من ذلك، ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت لا يزاد فيه ولا ينقص فقد أخطأ، وقد ينشط العبد فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة وقد لا ينشط فيكون في حقه تخفيفها.(3/193)
.
(تفعل) ركعتين ركعتين (في جماعة مع الوتر)(1).
__________
(1) أي يسلم من كل ركعتين، لحديث «صلاة الليل مثنى مثنى»، ويوتر بعدهابسلامين كما تقدم، وفي جماعة أفضل من الانفراد لإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع أهل الأمصار على ذلك، وهو قول جماهير العلماء، وتجوز منفردًا، وقال مالك والشافعي: في البيت أفضل لخبر «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» وقال البغوي وغيره: الخلاف فيمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل عنها لو انفرد، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه، فإن فقد أحد هذه الأمور فالجماعة أفضل بلا خلاف.(3/194)
بالمسجد أول الليل (بعد العشاء) والأفضل: وسنتها (في رمضان)(1) لما في الصحيحين من حديث عائشة أنه صلاها ليالي، فصلوها معه، ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر وقال: «إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها»(2).
__________
(1) قال الشيخ: باتفاق المسلم وأئمة المسلمين، وتسمى قيام رمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه» وكونها أول الليل لأن الناس كانوا يقومون أوله على عهد عمر، ويأتي أنهم يمدونها في آخره إلى آخر الليل، وقوله: والأفضل وسنتها، أي والأفضل أن تفعل بعد العشاء، وبعد سنتها، لتأكد سنتها بعدها، وإن صلاها بعد العشاء وقبل سنتها جاز، لكن الأفضل بعد سنتها، على المنصوص، قال المجد: لأن سنة العشاء يكره تأخيرها عن وقت العشاء المختار، فكان إتباعها بها أولى اهـ وكذا لو صلاها بعد الوتر وقبل الفجر جاز، ولا تصح قبل صلاة العشاء إجماعا، وقال الشيخ: من صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفة للسنة، وإذا طلع الفجر فات وقتها إجماعًا، وعبارة الإقناع وغيره: ووقتها بعد العشاء وسنتها، وقبل الوتر: إلى طلوع الفجر الثاني.
(2) وظاهره خشية ترتب افتراض قيام رمضان في جماعة على مواظبتهم عليه، وفي الصحيح: «فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله»، وفي حديث زيد «حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به»، والشاهد منه قوله: «فصلوها معه وأقرهم عليه»، وقام: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة»، وكان أصحابه يفعلونها في المسجد أوزاعًا، في جماعات متفرقة، في عهده على علم منه بذلك وإقراره لهم.(3/195)
وفي البخاري أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فصلى بهم التراويح(1) وروى أحمد والترمذي وصححه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة(2).
__________
(1) وقال أحمد: كان علي وجابر وعبد الله يصلونها في الجماعة، واستمر عليه الصحابة ومن بعدهم، وروى البيهقي وغيره عن علي أنه كان يجعل للرجال إماما وللنساء إماما.
(2) وهذا ترغيب في قيامها مع الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة، وإن أخروا التراويح أو بعضها إلى آخر الليل، أو مدوا القيام إلى آخره فهو أفضل، قال تعالى: { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً * } وهو وقت التنزل الإلهي الذي يقول الله تعالى فيه: «هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب» وأولى ذلك العشر الأخير منه، واستحب الشيخ إحياءها، وقال: قيام بعض الليالي مما جاءت به السنة، وفي الصحيحين «كان إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله وشد المئزر»، وللترمذي وغيره وصححه: «إذا كان في آخر الشهر دعا أهله ونساءه، وقام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح يعني السحور»، وكان الصحابة والتابعون يمدون الصلاة في العشر الأواخر، إلى قرب طلوع الفجر، كماجاء ذلك عنهم من غير وجه، ولأبي داود عن عمر، لأن يؤخر القيام إلى آخر الليل، سنة المسلمين وروى مالك أن عمر أمر أبيًا وتميمًا أن يقوما للناس، وكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر، وله عن أبي: كنا ننصرف في رمضان من القيام، فنتعجل الخدم بالسحور، مخافة الفجر وتقدم قوله: فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل، ولا نزاع في ذلك، والاعتماد على العصا في قيام الليل جائز بالاتفاق.(3/196)
(ويوتر المتهجد) أي: الذي له صلاة بعد أن ينام (بعده) أي بعد تهجده(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا» متفق عليه(2) (فإن تبع إمامه) فأوتر معه، أو أوتر منفردًا، ثم أراد التهجد لم ينقض وتره(3) وصلى ولم يوتر(4).
__________
(1) التهجد الصلاة بالليل، أو بعد نوم ليلاً، وقال الجوهري: هجد وتهجد أي: نام ليلا، وهجد وتهجد أي: سهر، وهو من الأضداد، ومنه قيل لصلاة الليل تهجد.
(2) وانتهى وتر النبي صلى الله عليه وسلم إلى السحر، وتظاهرت الأحاديث الصحيحة عليه، وإن لم يكن له تهجد صلى الوتر مع الإمام، لينال فضيلة الجماعة.
(3) وفاقًا وصفة نقضه فسخه إذا أراد أن يصلي بعد أن أوتر، بأن يصلي ركعة واحدة ينوي بها نقض وتره، ويسلم منها فيصير ما صلى من قبل شفعًا، ثم يصلي ما شاء مثنى، ثم يوتر بركعة، لحديث «لاوتران في ليلة»، وسألت عائشة عن الذي ينقض وتره؟ فقالت: ذلك الذي يلعب بوتره، وإن أحب أن ينصرف من التراويح، ويوتر آخر الليل فعل.
(4) أي صلى شفعًا ما شاء إلى طلوع الفجر الثاني، لأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين، ولم يوتر بعدها اكتفاء بالوتر الذي صلى، ولقوله صلى الله عليه وسلم، «لا وتران في ليلة»، رواه أحمد وأبو داود، وهو قول جمهور العلماء مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصححه الترمذي وغيره، ولأن الوتر الذي صلاه مضى على صحته، فلا يتوجه إبطاله بعد الفراغ منه.(3/197)
وإن (شفعه بركعة) أي ضم لوتره الذي تبع إمامه فيه ركعة جاز، وتحصل له فضيلة متابعة إمامه، وجعل وتره آخر صلاته(1) و(يكره التنفل بينها) أي بين التراويح(2) روى الأثرم عن أبي الدرداء أنه أبصر قوما يصلون بين التراويح فقال: ما هذه الصلاة؟ أتصلي وإمامك بين يديك، ليس منا من رغب عنا(3) و(لا) يكره (التعقيب) وهو الصلاة (بعدها) أي بعد التراويح والوتر (في جماعة)(4).
__________
(1) وكذا إن كان إمامًا استخلف من يصلي بهم تلك الركعة، فإذا سلم الإمام قام وشفعها بركعة، لينال فضيلة الجماعة، وفضيلة جعل وتره آخر صلاته، وتقدم أدلة أفضليتهما.
(2) نص عليه، وقال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه.
(3) ونحوه عن عبادة وعقبة بن عامر، وذكر لأحمد رخصة فيه عن بعض الصحابة، فقال: هذا باطل، لأنه رغبة عن إمامه، وهذا ما لم يطل الفصل، كأن يخرج الإمام من المسجد، وكأن يؤخروا بعضها إلى آخر الليل، فلا كراهة إذا، قاله شيخنا، والأثرم هو أحمد بن محمد بن هانئ الطائي، أحد الأعلام، صاحب السنن وغيرها، روي عن أحمد وعفان وخلق، وعنه النسائي وغيره، مات بعد الستين والمائتين.
(4) قال المجد وغيره: إذا أخر الصلاة إلى نصف الليل لم يكره، رواية واحدة، ولو تنفلوا جماعة بعد رقدة أو من آخر الليل لم يكره، نص عليه، واختاره جمع.(3/198)
لقول أنس: لا ترجعون إلا لخير ترجونه(1) وكذا لا يكره الطواف بين التراويح(2) ولا يستحب للإمام الزيادة على ختمة في التراويح(3) إلا أن يؤثروا زيادة على ذلك(4) ولا يستحب لهم أن ينقصوا عن ختمة، ليحوزوا فضلها(5)
__________
(1) وكان لا يرى به بأسا، ولأنه خير وطاعة، وكما لو أخروه إلى آخر الليل.
(2) وظاهره ولا تكره سنته لما تقدم، ولو رجعوا إليه قبل النوم أو لم يؤخروه إلى نصف الليل.
(3) لئلا يشق عليهم، قاله القاضي وغيره، وقال أحمد: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخفف عليهم ولا يشق، سيما في الليالي القصار، وفي الغنية، لا يزيد على ختمة، لئلا يشق فيتركوا بسببه، فيعظم إثمه، وقيل: يعتبر حالهم، وتقدم قول الشيخ: أن الأفضل في حق من لا ينشط التخفيف.
(4) فيستحب إجماعًا.
(5) أي الختمة فيسمع المصلون معه جميع القرآن، قال شيخ الإسلام قراءة القرآن في التراويح سنة، باتفاق أئمة المسلمين، بل من جُل مقصود التراويح قراءة القرآن فيها، ليسمع المسلمون كلام الله، فإن شهر رمضان فيه أنزل القرآن، وفيه كان جبرئيل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وكان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجودما يكون في رمضان، حين يلقاه جبرئيل فيدارسه القرآن.
ويتحرى أن يختم آخر التراويح قبل ركوعه، ويستحب أن يدعو، نص عليه، واحتج بأنه رأى أهل الشام وسفيان بن عيينة يفعلونه، ونقل عن أهل البصرة ونقل فعله عن عثمان وغيره من الصحابة، ولا بأس برفع الأيدي فيه واستحبه
كثير من العلماء ولشيخ الإسلام دعاء عند ختم القرآن جامع شامل، قال: وروي أن عند كل ختمة دعوة مستجابة، فإذا دعا عقب الختمة لنفسه ولوالديه ولمشايخه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات كان مشروعا اهـ وينبغي لمن يؤخر بعض التراويح في العشر الأخير إلى آخر الليل، ويحصرها من لا يحضر أوله، أن يبتدئ ختمة أخرى، ليسمعه من يحضر آخره دون أوله.
تتمة: يستحب حفظ القرآن إجماعًا وفيه فضل عظيم، وحفظه فرض كفاية إجماعًا وهو أفضل من سائر الذكر وفي الحديث «فضل الكلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه»، صححه الترمذي، ويجب منه ما يجب في الصلاة اتفاقًا، ويبدئ الصبي وليه به قبل العلم، إلا أن يعسر، والمكلف يقدم العلم بعد القراءة الواجبة كما يقدم الكبير نقل العلم على نفل القراءة، واستحب بعضهم القراءة في المصحف لاشتغاله حاسة البصر، ما لم يكن عن ظهر قلب أحضر وأخشع، وتستحب على أكمل الأحوال، والترتيل أفضل من السرعة، مع تبيين الحروف، وأجل قدرا وأقرب إلى الإجلال والتوقير، وأشد تأثيرا في القلب، بل قراءة آية بتدبر وتفهم، خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن، وهكذا كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده، حتى أنه ليردد الآية إلى الصباح، وهذا هو أصل صلاح القلب، ومن مكائد الشيطان تنفير عباد الله عن تدبر القرآن، لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر.
ومن الناس من إذا حدر كان أخف عليه، وإذا رتل أخطأ،ومنهم من لا يحسن الحدر، والناس في ذلك على ما يخف عليهم، فيستحب لكل إنسان ملازمة ما يوافق طبعه، ويخف عليه، فربما تكلف ما يشق عليه، فيقطعه عن القراءة أو الإكثار، منها، ولا خلاف أن الأفضل الترتيل، لمن تساوى في حاله الأمران، وأما السرعة مع عدم تببين الحروف فتكره، ويسن تحسين الصوت، وفي الصحيح «زينوا القرآن بأصواتكم»، «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، وهو التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب، وتفكر وتفهم ينفذ اللفظ إلى الإسماع، والمعاني إلى القلوب.
قال النووي: وإن لم يكن حسن الصوت حسنه ما استطاع، ولا يخرج بتحسينه عن حد القراءة، وإلى التمطيط المخرج له عن حدوده، ويستحب البكاء عند القراءة وهي صفة العارفين، وشعار الصالحين، والآيات والأحاديث فيه كثيرة، وطريقه في تحصيل البكاء أن يتأمل ما يقرؤه من التهديد، والوعيد الشديد، والمواثيق والعهود، ثم يفكر في تقصيره فيها، فإن لم يحضره حزن وبكاء فليبك على فقد ذلك، فإنه من المصائب، وقال: والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب، فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع، ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم، فإن الصوت الحسن يزداد بذلك حسنا، وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها، ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القرآن، فإن خرج عنه لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، فلعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام، لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء.
وفي شرح الرسالة، ويتحصل من كلام الأئمة أن تحسين الصوت بمراعاة قوانين النغم، مع المحافظة على الأداء هو محل النزاع، فمن العلماء من رأى أن النفس تميل إلى سماع القراءة أكثر من ميلها لمن لم يترنم، لأن للترطيب تأثيرا في رقة القلب، وإجراء الدمع، فقال بجوازه، بل بطلبه واستحبابه،ومن العلماء من رأى أنه خلاف ما كان عليه السلف، وأن القارئ على هذا الوجه ربما غفل عن وجه الأداء فقال بعدم الجواز سدا للذريعة وأما تحسين الصوت بالقرآن من غير مراعاة قوانين النغم فهو مطلوب بلا نزاع.
وقال الحافظ ما كان طبيعة وسجية كان محمودا، وما كان تكلفا وتصنعا مذموم، وهو الذي كرهه السلف وعابوه، ومن تأمل أحوالهم علم أنهم بريئون من التصنع، والقراءة بالألحان المخترعة دون التطريب والتحسين الطبيعي، وقد ندب إليه صلى الله عليه وسلم وقال ابن رشد: الواجب أن ينزه القرآن عما يؤدي إلى هيئة تنافي الخشوع، ولا يقرأ إلا على الوجه الذي يخشع منه القلب، ويزيد في الإيمان، ويشوق فيما عند الله اهـ، والتغني الممدوح بما تقتضيه الطبيعة، وتسمح به القريحة، من غير تكلف ولا تمرين وتعليم، بل إذا خلي وطبعه،واسترسلت طبيعته بفضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى، لحبرته لك تحبيرا، فإن من هاجه الطرب والحب والشوق، لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، والنفوس تقبله وتستحيله.
وقال شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما -في تزيين الصوت بالقرآن- هو التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب، لا صرف الهمة إلى ما حجب به أكثر الناس بالوسوسة في خروج الحروف وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط، وشغله بالوصل والفصل، والإضجاع والإرجاع والتطريب، وغير ذلك، مما هو مفض إلى تغيير كتاب الله، والتلاعب به، حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، ومن تأمل هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره أهل كل لسان على قراءتهم تبين له أن التنطع بالوسوسة في إخراج الحروف ليس من سنته.
وقال ابن قتيبة: وقد كان الناس يقرءون القرآن بلغاتهم، ثم خلف من بعدهم قوم من أهل الأمصار وأبناء الأعاجم فهفوا وضلوا وأضلوا، وأما ما اقتضته طبيعة القارئ من غير تكلف فهو الذي كان السلف يفعلونه، وهوالتغني الممدوح، ولابن ماجه عن جابر مرفوعًا، «إن من أحسن الناس صوتا الذي إذا سمعته يقرأ حسبته يخشى الله»، ولأبي داود عن جابر: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرابي والأعجمي، فقال: «اقرءوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح، يتعجلونه ولا يتأجلونه»، أي يبالغون في عمل القراءة كمال المبالغة للرياء والمباهاة، والشهرة والتأكل، ويذهب الخشوع، قال الذهبي: القراء المجودة فيهم تنطع وتحرير زائد، يؤدي إلى أن المجود القارئ يبقى مصروف الهمة إلى مراعاة الحروف، والتنطع في تجويدها، بحيث يشغله ذلك عن تدبر كتاب الله، ويصرفه عن الخشوع في التلاوة حتى ذكر أنهم ينظرون إلى حفاظ كتاب الله بعين المقت.
قال الشيخ: وأهل القرآن هم العالمون به، العاملون بما فيه، وإن لم يحفظه عن ظهر قلب، والثواب ورفع الدرجات والأقدار على قدر معاملة القلوب، وما يحصل عند تلاوته وذكر الله، ومن وجل القلب، ودمع العين، واقشعرار الجسم، هو أفضل ذلك، وإذا قرأ لله فإنه يثاب على ذلك، ولو قصد بقراءته أن لا ينساه لحديث استذكروا القرآن، والقرآن لا يؤذي ولا يؤذى به، فلا يرفع به صوته يغلط المصلين، أو يؤذي نائما ونحوه، وليس لأحد أن يجهر بالقرآن بحيث يؤذي غيره، قال النووي: جاء أحاديث صحيحة تقتضي استحباب رفع الصوت بالقراءة وأحاديث في الإسرار، وقال العلماء: طريق الجمع أن الإخفاء أبعد من الرياء، فهو أفضل ممن يخاف الرياء، وكذا من يتأذى بجهره، فإن لم يخف الرياء، ولا التأذي، فالجهر أفضل، لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى إلى السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همه إلى الفكر، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم، ويزيد في النشاط.
قال الشيخ: يستحب استماع القرآن، واستحب قراءة الإدارة أكثر العلماء، وأما قراءة واحدة والباقون يستمعون فمستحب لا كراهة فيه بلا نزاع. وهي التي كان الصحابة يفعلونها. وقال النووي: يسن طلب القراءة من حسن الصوت
والإصغاء إليها بالاتفاق اهـ.
ويكره التحدث عنده بما لا فائدة فيه، وينبغي الختم كل أسبوع مرة، لقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمرو: «اقرأ القرآن كل أسبوع لا تزد على ذلك» متفق عليه، ولا بأس به كل ثلاث، لحديث ابن عمرو أيضا عند أبي داود وغيره، وفيما دونها أحيانا كأوتار عشر رمضان الأخير، رجاء ليلة القدر، وروي عن جميع من السلف الختم في كل ليلة، وكره تأخيره فوق الأربعين لإفضائه إلى نسيانه، والتهاون به، ويقدر بالنشاط وعدم المشقة، ولا يحد بحد، صححه غير واحد، ويحرم تأخيره إن خاف نسيانه، للوعيد عليه، ولأحمد وغيره عن أوس: سألت أصحاب محمد: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل واحد.
قال الشيخ: وتحزيبهم بالسور معلوم بالتواتر، وأستحسنه على التحزيبات المحدثة بالإجزاء، ويختم في الشتاء أول الليل، وفي الصيف أول النهار(*) ويجمع أهله لينالهم من بركته، وكان أنس يجمع أهله، وإن قرأ وحده ففي الصلاة أفضل، واستحب السلف حضور الختم وقالوا: يستحب الدعاء عنده، وفيه آثار كثيرة ويلح في الدعاء ويدعو بالمهمات.(3/199)
.
(ثم) يلي الوتر في الفضيلة (السنن الراتبة) التي تفعل مع الفرائض(1) وهي عشر ركعات (ركعتان قبل الظهر(2))
__________
(1) لتأكدها، ويكره تركها، وتسقط عدالة من دوام عليه، ويأثم فترد شهادته عند أحمد والشافعي، ويدل على قلة دينه، ويجوز لزوجة وعبد وأجير وولد فعلها مع الفريضة، ولا يجوز منعهم.
(2) وعند الشيخ وأبي حنيفة والشافعي أربع، لخبر عائشة وغيره، قال الترمذي: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.
ـــــــــــــــــ
(*) إذا ختم أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي؛ فإذا ختم أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح.(3/200)
وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء(1) وركعتان قبل الفجر(2) لقول ابن عمر: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته(3) وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها أحد، حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر صلى ركعتين متفق عليه(4).
__________
(1) وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي.
(2) أي قبل صلاة الفجر، للخبر، فلو صلاها قبل طلوع الفجر لم يجزئه.
(3) ففي بيته قيد للأخيرتين، وفي صحيح مسلم وغيره أنه صلى سنة الفجر والجمعة في بيته مع قوله: «أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبه»، رواه البخاري وهذا عام في جميع النوافل، شامل لرواتب الفرائض وغيرها، ولا يستثنى منه إلا النوافل التي شرع لها الجماعة، كالكسوف والاستسقاء والتراويح ونحو ذلك، وفي صحيح مسلم عن عائشة، كان يصلي قبل الظهر أربعا في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، ففيها أن صلاة الراتبة في البيت أفضل منها في المسجد، مع شرف مسجده صلى الله عليه وسلم لأن فعلها في البيت فضيلة تتعلق بها، فإنه سبب لتمام الخشوع والإخلاص، وأبعد من الرياء والإعجاب، وشبههما ولتنزل الرحمة في البيت، ويخرج الشيطان، وقال عليه الصلاة والسلام «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا».
(4) وكذا أخبرت عائشة في غير حديث، وحكى الوزير وغيره اتفاق أهل العلم على أن النوافل الراتبة عشر.(3/201)
(وهما) أي ركعتا الفجر (آكدها) أي أفضل الرواتب(1) لقول عائشة رضي الله عنها: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر، متفق عليه(2) فيخير فيما عداهما وعدا الوتر سفرا(3) ويسن تخفيفهما(4)
__________
(1) إجماعًا.
(2) أي لم يكن صلى الله عليه وسلم أشد محافظة ومداومة من تعاهده عليهما حتى استدل به على الوجوب، وقال: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»، رواه مسلم وقال: «لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل»، رواه أبو داود.
(3) أي فإن شاء فعل ما عدا ركعتي الفجر، وركعة الوتر سفرا، وإن شاء ترك، لمشقة السفر، هذا معنى كلاما لأصحاب، وقال ابن عمر لما سئل عن سنة الظهر في السفر: لو كنت مسبحا لأتممت وقال شيخ الإسلام: لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة راتبة في السفر غير سنة الفجر والوتر.
وقال أيضا: وأما الصلاة قبل الظهر وبعدها، وبعد المغرب والعشاء، فلم ينقل عنه أنه فعل ذلك في السفر، ولم يصل معها شيئا وكذلك كان يصلي بمنى ركعتين ولم ينقل عنه أحد أنه صلى معها، والمسافر إذا اقتصر على ركعتي الفرض كان أفضل له من أن يقرن بها ركعتي السنة، وقال أيضا: يوتر المسافر، ويركع سنة الفجر، ويسن تركه غيرهما، والأفضل له التطوع في غير السنن الراتبة، ونقله بعضهم إجماعا، وقال ابن القيم: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الاقتصار على الفرض،ولم يحفظ عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها، إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر اهـ.
فأما ركعتا الفجر فيحافظ عليهما حضرًا وسفرًا، وكذا قيام الليل، لما ثبت عنه أنه هو وأصحابه فعلوها مع الفجر، وقضوها معه، وثبت أنه يسبح على راحلته ويوتر عليها.
(4) أي ركعتي الفجر إجماعًا لما في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أنه كان
يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول أقرأ بأم الكتاب أم لا؟ والمراد تخفيف نسبي إلى غيرهما من الصلوات لا النقر المنهي عنه، وعد الخلوتي ما يندب تخفيفه فقال:
أولها سنة فجر قد أتت
وحال خطبة لجمعة ثبت
وركعتان لقيام الليل
وركعتا الطواف قل في قول
ومثله تحية للمسجد
كلاهما للعكبري أسند
وركعتان بعد فعل الوتر
وفعل ذي من جالس فاستقر
قالوا وركعتان قبل المغرب
إن قيل يندبان فاعلم وادأب
كذاك نفل من أقيم فرضه
وهو به وخاف أن ينقصه
وتاسع عند صياح الولد
وهو الذي بذكره تم العدد(3/202)
.
واضطجاع بعدهما على الأيمن(1) ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد)(2).
__________
(1) لما في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن، وعنه: ليس بسنة وفاقًا لمالك: وقال أحمد: عائشة ترويه وابن عمر ينكره، وقال بعض أهل العلم: إنما اضطجاعه بعد الوتر، وقبل ركعتي الفجر، كما هو مصرح به في حديث ابن عباس، وأما حديث عاشة فرواية مالك بعد الوتر، وغيره بعد ركعتي الفجر، ولا يبعد أن يكون هذا تارة، وهذا تارة فيباح، وأما حديث أمره بالاضطجاع بعدهما، فقال شيخ الإسلام باطل.
(2) لما رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي (قل يأيها الكافرون) و(قل هو الله أحد) ولابن ماجه: وكان يقول: نعم السورتان يقرأ بهما، وهما الجامعتان لتوحيد العلم، والاعتقاد، وتوحيد العمل والإرادة.(3/203)
أو يقرأ في الأولى (قولوا آمنا بالله)(1) وفي الثانية (قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة) الآية(2) ويلي ركعتي الفجر ركعتا المغرب(3) ويسن أن يقرأ فيهما بالكافرون والإخلاص(4) (ومن فاته شيء منها) أي من الرواتب (سن له قضاؤه) كالوتر(5) لأنه صلى الله عليه وسلم قضى ركعتي الفجر مع الفجر، حين نام عنهما(6).
__________
(1) الآية التي في سورة البقرة.
(2) التي في سورة آل عمران للخبر وتقدم.
(3) يعني في الأفضلية.
(4) لما روى الترمذي والبيهقي وغيرهما عن ابن مسعود قال: ما أحصي ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل الفجر قل يأيها الكافرون، و(قل هو الله أحد) وللبيهقي أيضا نحوه عن ابن عمر.
(5) أي كما يسن قضاء الوتر، ونصره المجد، واختاره الشيخ، وجزم به غير واحد.
(6) وفي الترمذي وصححه ابن خزيمة ومن لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس، وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام نام عن ركعتي الفجر فقضاهما بعدما طلعت الشمس، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم، وله أن يقضيهما بعدها، قال الشيخ: يقضيهما بعدها، لحديث قيس، يعني أنه صلاهما بعدها، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال الشافعي.(3/204)
وقضى الركعتين اللتين قبل الظهر بعد العصر(1) وقيس الباقي(2) وقال: من نام عن الوتر أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكر رواه الترمذي(3) لكن ما فات مع فرضه وكثر فالأولى تركه، إلا سنة فجر(4) ووقت كل سنة قبل الصلاة، من دخول وقتها إلى فعلها، وكل سنة بعد الصلاة من فعلها إلى خروج وقتها(5).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وهو مذهب الشافعي، قال الشيخ وهو أقوى.
(2) أي من الرواتب في القضاء على ما فيه النص، قال شيخ الإسلام، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها»، وهذا يعم الفرض وقيام الليل، والوتر والسنن الراتبة، قالت عائشة، إذا نام عن ورده بالليل قضاه من النهار، وهو مذهب الشافعي.
(3) وأبو داود، فدل على سنية قضاء الرواتب، وقضاء الوتر على هيئته وهو المذهب، وقال شيخ الإسلام، الصحيح أنه يقضي شفعه معه، لما في صحيح مسلم، عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، وفيه عن عمر من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل وقال الشيخ في موضع: لا يقضي، ومراده على صفته، لأن المقصود به أن يكون آخر عمل الليل، كما أن وتر النهار: المغرب.
(4) أي الأولى ترك قضاء الرواتب مع الفرائض لحصول المشقة، إلا سنة فجر لتأكدها، فيقضيها مطلقا.
(5) فلا يصح تقديمها عليه، وبعده قضاء، وتجزئ السنة عن تحية المسجد ولا عكس، وإن نواهما حصلا.(3/205)
فسنة فجر وظهر الأولة بعدهما قضاء(1) والسنن غير الرواتب عشرون، أربع قبل الظهر، وأربع بعدها(2).
__________
(1) يعني التي قبل صلاة الفرض، لأن وقتها يمتد إلى الصلاة فقط، ففعلها بعد الوقت يكون قضاء، ويبدأ بسنة الظهر قبلها، إذا قضاها قبل التي بعدها، مراعاة الترتيب عند الأصحاب، وروى ابن ماجه وغيره عن عائشة، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر صلاهن بعد الركعتين بعد الظهر، قال العراقي: والحديث دليل على امتداد وقتها إلى آخر وقت الفريضة، لأنها لو كانت تخرج بفعل الفرائض لكان فعلها بعدها قضاء، وكانت مقدمة على سنة الظهر، وقد ثبت في حديث الباب أنها تفعل بعد ركعتي الظهر، وهو الصحيح عند الشافعية اهـ، ولا سنة للجمعة راتبة قبلها، وبعدها ركعتان أو أربع ويأتي، ويسن الفصل بين الفرض والسنة بكلام أو قيام، لحديث معاوية أمرنا أن لا نوصل صلاة بصلاة، حتى نتكلم أو نخرج، رواه مسلم، واستدل بعض المالكية بحديث عن عمر، أنه رأى رجلا قام بإثر فراغه من الفرض إلى النافلة، فقام إليه وجذبه بثيابه، وضرب به الأرض، وقال له: ما أهلك من كان قبلكم إلا أنهم كانوا لا يفصلون بين الفرض والنفل، وفرآه صلى الله عليه وسلم وقال: «أصاب الله بك يا عمر».
(2) لحديث أم حبيبة مرفوعا، «من حافظ على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها حرمه الله على النار»، صححه الترمذي، وللجماعة إلا البخاري عنها، «من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة»، وفيه «أربع قبل الظهر»، واستحب المواظبة عليها الجمهور، ورجح ابن القيم أن الأربع التي كان يصليها قبل الظهر ورد مستقل سببه انتصاف النهار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح» رواه أحمد.(3/206)
وأربع قبل العصر(1) وأربع بعد المغرب(2) وأربع بعد العشاء(3) غير السنن الرواتب(4) قال جمع: يحافظ عليها(5) وتباح ركعتان بعد أذان المغرب(6).
فصل
__________
(1) لحديث ابن عمر مرفوعا «رحم الله امرءا صلى أربعًا قبل العصر»، رواه الترمذي وغيره، وله شواهد تدل على استحبابها وما رتب عليه من الأجر مما يتنافس فيه المتنافسون، وليست راتبة، ولا تلحق بالوراتب، وللشيخ قاعدة معروفة وهي أن ما ليس من السنن الراتبة لا يداوم عليه، حتى يلحق بالرواتب.
(2) لحديث أبي هريرة يرفعه، «من صلى بعد المغرب ست ركعات، لم يتكلم فيما بينهن بسوء، عدلن له بعبادة ثنتي عشرة سنة» رواه الترمذي.
(3) لقول عائشة: ما صلى العشاء قط، فدخل علي، إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات، رواه أبو داود.
(4) وهن العشر الركعات المتقدم ذكرها، وأما قبل العصر وقبل المغرب والعشاء فقال شيخ الإسلام، لم يكن يصلي، لكن ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «بين كل أذانين صلاة»، ثم قال في الثالثة، «لمن شاء»، فمن شاء أن يصلي تطوعا، فهو حسن، لكن لا يتخذ ذلك سنة، ولا يكره أن يصلي فيها، بخلاف ما فعله ورغب فيه، فإن ذلك أوكد من هذا، قال النووي: والمراد بالأذانين والإقامة، باتفاق العلماء.
(5) استحبابًا لما تقدم وغيره من الأدلة الدالة على فضلها، وممن قال بالمحافظة عليها الشارح وابن عبيدان، وغيرهما من الأصحاب وغيرهم، لكن لا تستحب المداومة ليضاهي بها السنن الراتبة، ويكره تركها، وقال القاضي، يأثم وقال ابن تميم، تسقط عدالته.
(6) أي فلا يكرهان ولا يستحبان، وعنه: يسن فعلهما للخبر الصحيح
وهو أصح الروايتين وقال ابن القيم: فعل هاتين الركعتين مستحب، مندوب إليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا ركعتين قبل المغرب، صلوا ركعتين قبل المغرب» ثم قال في الثالثة: لمن شاء، خشية أن يتخذها الناس سنة، وليست بسنة راتبة كسائر السنن الرواتب.(3/207)
وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل» رواه مسلم عن أبي هريرة(2) فالتطوع المطلق أفضله صلاة الليل(3).
__________
(1) بإجماع المسلمين.
(2) وله أيضا وأهل السنن أنه صلى الله عليه وسلم سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «الصلاة في جوف الليل»، وفيه أيضا: «إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه»، وقال: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنها عن الإثم»، رواه الحاكم وغيره، وفيه أحاديث كثيرة تدل على تأكد أفضلية قيام الليل، والاستكثار من الصلاة فيه، وقال تعالى: { كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ينامون قليلا منه، ويصلون أكثره وقال: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } وغير ذلك من الأدلة الدالة على فضل قيام الليل، وترتب الجزاء الجليل عليه.
(3) وهو ما سوى الرواتب والوتر، إجماعا لقوله: «أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل»، وعن عمرو بن العاص، «ركعة بالليل خير من عشر ركعات بالنهار»، وقال أحمد: ليس بعد المكتوبة أفضل من قيام الليل.(3/208)
لأنه أبلغ في الإسرار، وأقرب إلى الإخلاص(1) (وأفضلها) أي الصلاة (ثلث الليل بعد نصفه مطلقا)(2) لما في الصحيح مرفوعًا «أفضل الصلاة صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه»(3) ويسن قيام الليل(4).
__________
(1) وعمل السر أفضل من عمل العلانية، والإخلاص ركن العبادة الأعظم. ولأنه وقت غفلة الناس، وتركهم الطاعات، ولأن الصلاة بعد النوم أشق فكان أفضل، وتستحب النوافل المطلقة في جميع الأوقات غير أوقات النهي.
(2) أي سواء كان الثلث الأوسط أو غيره، وقال الخلوتي: أي سواء انضم إليه السدس السادس أم لا، وقال شيخنا: أو الأخير، والنصف الأخير أفضل من الأول، ومن الثلث الأوسط.
(3) فكان يجم نفسه بنوم أول الليل، ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه «هل من سائل فأعطيه سؤاله؟»، ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل، وهو النوم عند السحر، فيستقبل صلاة الصبح وأول النهار بنشاط فدل دلالة ظاهرة على فضيلة قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه، وذلك حين يسمع الصارخ، وقد جرت العادة أن الديك يصيح عند نصف الليل غالبا، وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم خبر التنزل الإلهي، حين يبقى ثلث الليل الآخر، «فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له»، وللترمذي وصححه «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر».
(4) قال جمع من أهل العلم: سنة مؤكدة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، والأحاديث الواردة فيه في الصحيحين وغيرهما أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر وقد أفرد بالمصنفات.(3/209)
وافتتاحه بركعتين خفيفتين(1) ووقته من الغروب إلى طلوع الفجر(2).
__________
(1) لحديث أبي هريرة «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم وغيره، والسر والله أعلم لتكون توطئة لقيام الليل، وليذوق لذة العبادة.
(2) قال أحمد: قيام الليل من المغرب إلى طلوع الفجر، فالنافلة بين العشائين من قيام الليل، وتقدم أن صلاة آخر الليل أفضل وقال تعالى: { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً * } والناشئة لما بعد النوم، ومن لم يرقد فلا ناشئة له، وينبغي أن ينوي قيام الليل لخبر، «يكتب له ما نوى»، رواه النسائي وغيره بسند صحيح، وله نظائر، والتهجد إنما يكون بعد النوم، فإذا استيقظ من نومه مسح النوم عن وجهه، وتسوك، وذكر الله، وقال ما ورد.
ومنه «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله»، ثم إن قال: «اللهم اغفر لي»، أو دعا استجيب له، ويقول: «الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علىَّ روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره»، وغير ذلك مما ورد، ويقول عند الصباح والمساء، وعند النوم والانتباه، وفي السفر وغير ذلك ما ورد.
ويتأكد الإكثار من الدعاء والاستغفار آخر الليل، للآيات والأخبار، وإن شاء استفتح صلاته بافتتاح المتكوبة، وإن شاء بغيره مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض» إلخ، أو «اللهم رب جبرائيل» إلخ، أو «اللهم باعد بيني وبين خطاياي»، إلخ قال الشيخ: ويستحب للمصلي أن يستفتح بها كلها، وهو أفضل من أن يداوم على نوع ويهجر غيره.(3/210)
ولا يقومه كله(1) إلا ليلة عيد(2).
__________
(1) أي لا يستحب، لما تقدم، ولقوله لعبد الله بن عمرو «يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار و تقوم الليل؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لنفسك عليك حقًّا»، ولزوجك عليك حقا، متفق عليه، ولقصة النفر الذين قال أحدهم: أما أنا فأقوم ولا أنام، فقال عليه الصلاة والسلام «ولكني أنام وأقوم، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، وغير ذلك من الأحاديث.
وقالت عائشة: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح، ويحمل قولها على غير العشر، وتقدم، ولم يكثر ذلك منه، ولأنه لا بد في قيامه كله من ضرر أو تفويت حق، وتشق المداومة، وفي الصحيح «خذوا من العمل ما تطيقونه، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا»، وفي لفظ «لا يمل حتى تملوا»، فإذا خشي الملل فلا ينبغي له أن يكره نفسه، وإن نعس فليرقد، لما في الصحيحين «إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد، حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه»، وفي الصحيح، «ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليرقد، وظاهره حتى ليالي العشر، واستحبه الشيخ، وقال: قيام بعض الليالي مما جاءت به السنة، وقال أحمد: ينبغي أن يكون له ركعات معلومة من الليل والنهار، فإذا نشط طولها وإلا خففها، لحديث «أحب العمل إلى الله أدومه»، ويستحب أن يكون للعبد تطوعات يداوم عليها، وإذا فاتته قضاها ويوقظ أهله، وتوقظه للأخبار، وفي الصحيح «إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» ونحوه للطبراني.
(2) لما روى ابن ماجه «من قام ليلتي العيدين محتسبا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»، وفي سنده: بقية والمرار، وروى مالك عن ابن عمر أنه كان يحيي ليلة العيد، وإلا ليالي العشر الأخير من رمضان لما في الصحيحين، «إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل»، وتقدم.(3/211)
ويتوجه: وليلة النصف من شعبان(1).
__________
(1) هذا التوجيه لابن رجب، وفيه حديث معاذ، رواه الأصبهاني، وقال شيخ الإسلام: وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من يصليها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها بدعة، قال ابن رجب: وفي استحباب قيامها ما في ليلة العيد، قال الشيخ: وأما إنشاء صلاة بعدد مقدر، وقراءة مقدرة، وفي وقت معين، تصلي جماعة راتبة، كصلاة الرغائب، والألفية، ونصف شعبان، وسبع وعشرين من رجب، وأمثال ذلك، فهذا غير مشروع باتفاق علماء الإسلام، ولا ينشئ هذا إلا جاهل مبتدع، وفتح مثل هذا الباب يوجب تغيير شرائع الإسلام، وقال أيضا: صلاة الرغائب بدعة محدثة، لم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف، وقال أيضا: لا أصل لها، بل هي محدثة، فلا يتستحب لا جماعة ولا فرادى، فقد ثبت في صحيح مسلم أنه نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام، أو يوم الجمعة بصيام، والأثر الذي ذكر فيها كذب، موضوع باتفاق العلماء.
وقال النووي في صلاة الرغائب والألفية هاتان الصلاتان بدعتان مذمومتان ومنكرتان قبيحتان فلا تغتروا بذكرهما، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن ذلك باطل، والرغائب أول جمعة من رجب، وقال ابن الجوزي وأبو بكر الطوسي: هي موضوعة، وقال شيخ الإسلام: صلاة التسبيح نص أحمد وأئمة أصحابه على كراهتها، ولم يستحبها إمام، وأما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يسمعوا بها بالكلية، وقال: العمل بالخبر الضعيف لا يجوز، بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف ذلك العقاب، ومثله الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات، ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي، لا استحباب ولا غيره، لكن يجوز ذلك في الترغيب والترهيب، فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع، فإنه ينفع ولا يضر، واعتقاد موجبه يتوقف على الدليل الشرعي، وقال ابن القيم وغيره: الأصل، في العبادات البطلان، حتى يقوم دليل على الأمر، فإن الله لا يعبد إلا بما شرعه على ألسن رسله.(3/212)
(وصلاة ليل ونهار مثنى مثنى) لقوله عليه الصلاة والسلام: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» رواه الخمسة، وصححه الترمذي(1) ومثنى مثنى معدول عن اثنين اثنين(2).
__________
(1) الحديث أخرجه الجماعة بلفظ «صلاة الليل مثنى مثنى»، وكرر للمبالغة في التأكيد، ولمسلم عن ابن عمر «تسلم من كل ركعتين» ورواه الخمسة كما ذكر بلفظ «والنهار»، وقال النسائي: خطأ، والدارقطني: وهم، لأنها من رواية علي البارقي في الأزديين، وهو ضعيف عن ابن معين وغيره، وقد خالف جماعة من أصحاب ابن عمر لم يذكروا فيه النهار، وله طرق وشواهد لا تخلو من مقال وصححه بعض أهل العلم، وثبت في كون صلاة النهار ركعتين ما لا يحصى من الأحاديث، وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، ما أدركت فقهاء أرضنا إلا يسلمون من كل اثنتين من النهار، وليس بمعارض ما ثبت بأكثر من ركعتين ركعتين، لوقوعه جواب سؤال، ولا مفهوم له اتفاقًا، وجاءت السنة الصحيحة بالأربع والست والثمان، والسبع والتسع وغيرها، فلا منافاة، ولا يقتضي الكراهة بأكثر من ركعتين ولا تناقض سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام: وكل ما جاءت به السنة فلا كراهة لشيء منه، بل هو جائز اهـ، وحديث «مثنى» حمله الجمهور على أنه لبيان الأفضلية لما صح من فعله، وقوله، ويحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف، إذ السلام من ركعتين أخف على المصلي من الأربع فما فوق، أو لما فيه من الراحة غالبًا.
(2) وهو غير منصرف للوصف والعدل.(3/213)
ومعناه معنى المكرر، وتكريره لتوكيد اللفظ، لا للمعنى(1) وكثرة ركوع وسجود، أفضل من طول قيام فيما لم يرد تطويله(2) (وإن تطوع في النهار بأربع) بتشهدين (كالظهر فلا بأس)(3).
__________
(1) وقال غيره: للمبالغة وقال في النهاية وغيرها: مثنى مثنى أي ركعتان ركعتان بتشهد وتسليم فهي ثنائية لا رباعية.
(2) فما ورد في الشرع تطويله فالأفضل اتباعه وإلا فالأفضل كثرة الركوع والسجود لقوله: «أعني على نفسك بكثرة السجود»، ولقوله: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»، وعنه طول القيام أفضل لما اختص به من تلاوة كتاب الله الذي هو أفصل الكلام على الإطلاق، وعنه التساوي واختاره الشيخ وقال: التحقيق أن ذكر القيام وهو القراءة أفضل من ذكر الركوع والسجود، وأما نفس الركوع والسجود فأفضل من نفس القيام، فاعتدلا، ولهذا كانت صلاته صلى الله عليه وسلم معتدلة.
وقال: الصلاة إذا قام من الليل، أفضل من القراءة في غير الصلاة، نص على ذلك أئمة الإسلام للخبر «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة»، ولغيره من الأخبار، لكن إن حصل له نشاط وتدبر وتفهم للقراءة دون الصلاة فالأفضل في حقه ما كان أنفع له، وقال: العبادة التي ينتفع بها، فيحضر لها قلبه، ويرغب فيها، ويحبها أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة، وعدم الرغبة وقد تكون مداومته على النوع المفضول أنفع: لمحبته وشهود قلبه، وفهمه ذلك الذكر.
(3) أي لا كراهة: لمجيء النصوص بذلك منها حديث عائشة: يصلي الضحى أربعا، لا يفصل بينهن بسلام، ولو تشهد في كل ركعة، فذكر الشافعية المنع، لما فيه من ابتداع صورة في الصلاة لم تعهد، قال يوسف، وهو حسن، ولم أره لأصحابنا.(3/214)
لما روى أبو داود وابن ماجه، عن أبي أيوب أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعا، لا يفصل بينهن بتسليم(1) وإن لم يجلس إلا في آخرهن فقد ترك الأولى(2) ويقرأ في كل ركعة مع الفاتحة سورة(3) وإن زاد على اثنتين ليلا، أو أربع نهارا، ولو جاوز ثمانيا نهارا بسلام واحد صح، وكره في غير الوتر(4).
__________
(1) ولفظ أبي داود: ليس فيهن تسليم، وزاد ابن ماجه: إذ زالت الشمس، وصرح غير واحد أن هذه سنة الزوال، غير سنة الظهر.
(2) أي الأفضل لأنه أكثر عملا.
(3) كسائر التطوعات.
(4) وفاقا، بشرط نيته للزيادة، وإلا لم يصح، وجزم في التبصرة بعدم الكراهة وفاقا للشافعي، وقدمه في الفروع وغيره، وصححه المجد وغيره، واختاره القاضي وغيره، وذكر الزركشي أنه المشهور، سواء علم العدد أو نسيه، وتقدم أنه يجوز وإن لم ينو إلا عند الدخول في الثالثة، قال في الحاوي الكبير: لو صلى نافلة فقام إلى ثالثة، فلا خلاف بين العلماء أنه يجوز أن يتمها أربعا، ويجوز أن يرجع إلى الثانية ويسلم، وأي ذلك فعل سجد للسهو، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، وفيهم أيضا: يصلي خمسا وسبعا وتسعا بسلام واحد، وصلى الضحى ثماني ركعات، لم يفصل بينهن، وهو تطوع، فألحق به، سائر التطوعات، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما يكره فعله، وتقدم أن قوله: «مثنى»: لا ينفي ما عداه، ولا يدل على كراهته، ومرادهم في غير الوتر، كثلاث وخمس وسبع وتسع، وإذا لم يكره في ذلك فما تقدم أولى، لفعله صلى الله عليه وسلم ولو شرع في أربع بتسليمة فله أن يسلم من ركعتين وفاقا.(3/215)
ويصح التطوع بركعة ونحوها(1)
__________
(1) كثلاث وخمس، قال في الإقناع: مع الكراهة، وروي عن عمر أنه صلى ركعة، وقال: هو تطوع وصح عن غيره من الصحابة تقصير الوتر بركعة، وهو تطوع، وتقدم أن النافلة في البيت أفضل، واتفق أهل العلم أن صلاة التطوع في البيت أفضل سوى ما تقدم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في بيته، وقال: «صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» رواه مسلم وغيره، ولأنه أقرب إلى الإخلاص، ولا بأس بصلاة التطوع جماعة.
قال الشيخ: وما لا تسن له الجماعة الراتبة، كقيام الليل، والسنن الرواتب، وصلاة الضحى، وتحية المسجد، ونحو ذلك، فهذا إذا فعله جماعة أحيانا جاز، وأما اتخاذه سنة راتبة فغير مشروع، بل بدعة مكروهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تطوع بذلك في جماعة قليلة أحيانا، وإنما كان يقوم الليل وحده، ولم يكن هو صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه،ولا التابعون يعتادون الاجتماع للرواتب على ما هو دون هذا، ولا ينبغي الجهر نهارا، وليلا يراعي المصلحة، فإن كان الجهر أنشط في القراءة أو بحضرته من يستمع قراءته أو ينتفع بها، فالجهر أفضل، وإن كان بقرب من يتهجد، أو يتضرر برفع صوته، أو خاف رياء، فالإسرار أفضل،والنبي صلى الله عليه وسلم ربما أسر، وربما جهر، وقال: «أيها الناس كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة».(3/216)
(وأجر صلاة قاعد) بلا عذر (على نصف صلاة قائم) لقوله عليه السلام «من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر صلاة القائم» متفق عليه(1).
__________
(1) وأما مع العذر فكالقائم، قال الشيخ: إذا كان من عادته أنه يصلي قائما، وإنما قعد لعجزه، فإن الله يعطيه أجر القائم، لقوله صلى الله عليه وسلم إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم» فلو عجز عن الصلاة كلها لمرض كان الله يكتب له أجرها كله، لأجل نيته وفعله بما قدر عليه، فكيف إذا عجز عن أفعالها» اهـ. وجواز التطوع جالسا مع القدرة على القيام مجمع عليه، واتفقوا على أنه لو شرع في صلاة تطوع قائما، لم يلزمه إتمامها قائما وظاهر المذهب أن صلاة المضطجع تطوعا لا تصح، وقال الشيخ: لا يجوز التطوع مضطجعا لغير عذر، ولعذر تصح، ويسجد إن قدر وإلا أومأ اهـ ومن فاته تهجده استحب له قضاؤه قبل الظهر لقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } وتقدم: «من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه، فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل».(3/217)
ويسن تربعه بمحل قيام، وثني رجليه بركوع وسجود(1).
__________
(1) رواه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عائشة، أنه كان يصلي متربعا، والتربع أن يجعل باطن قدمه اليمنى تحت الفخذ اليسرى، وباطن اليسرى تحت اليمنى، مطمئنا وكفيه على ركبتيه مفرقا أنامله كالراكع، وثني رجليه هو رد ركبهما إلى القبلة، وعنه: لا يثنيهما في ركوعه، قال الموفق: هذا أقيس وأصح في النظر، وعنه: يفترش، وفاقا للشافعي، ومذهب أبي حنيفة يخير بينهما، والتربع قول مالك، وثنيهما حال سجوده لا نزاع فيه، ويجوز له القيام إذا ابتدأ الصلاة جالسا، وعكسه وفاقا، لما في الصحيحين من حديث عائشة كان يقرأ قاعدا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوا من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع، ولمسلم، كان يصلي ليلا طويلا قاعدا وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد، ركع وسجد وهو قاعد، ولما روي عن أنس وابن عمر، فإذا بلغ الركوع فإن شاء قام فركع، وإن شاء ركع من قعود، قال أحمد وغيره، والعمل على تلك الأحاديث يعني في ركوعه عن قيام أو قعود فهي صحيحة، معمول بها عند أهل العلم قال الشيخ: وتحريه مع قعوده أن يقوم
ليركع ويسجد وهو قائم، دليل على أنه أفضل إذ هو أكمل، وأعظم خشوعا لما فيه من هبوط رأسه، وأعضائه الساجدة لله من القيام.(3/218)
(وتسن صلاة الضحى) لقول أبي هريرة: «أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام»، رواه أحمد ومسلم(1) وتصلي في بعض الأيام دون بعض، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم عليها(2) (وأقلها ركعتان)(3) لحديث أبي هريرة(4)
__________
(1) وهو في الصحيحين، ولمسلم عن أبي الدرداء نحوه، وله من طرق عن عائشة: كان يصلي الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله، وصلاة الضحى، والترغيب فيها بلغت حد التواتر وتستحب المداومة عليها، لمن لم يقم في ليله لخبر أبي هريرة ونحوه، وكان يشتغل بالليل بتذكر الحديث فحظه النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الضحى، ولشيخ الإسلام قاعدة، أن ما ليس من السنن الرواتب لا يداوم عليه، حتى يلحق بالرواتب، واختار المداومة عليها لمن لم يقم من الليل، لتأكدها في حقه بالأمر الشرعي وكونها سنة هو مذهب جمهور السلف، وقول الفقهاء المتأخرين قاله النووي وغيره.
(2) قال شيخ الإسلام: باتفاق العلماء بسنته، ففي الصحيحين عن عائشة: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط، ولأحمد والترمذي وغيرهما من حديث أبي سعيد، كان يصلي الضحى، حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها، ولأنها دون الفرائض، والسنن المؤكدة فلا تشبه بها.
(3) إجماعا.
(4) المتقدم في قوله «وركعتي الضحى»، ولحديث أنس: «من قعد في مصلاه حين ينصرف من الصبح، حتى يسبح ركعتي الضحى، لا يقول إلا خيرا، غفرت له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر»، رواه أبو داود، ولمسلم عن عائشة كان يصلي الضحى أربع ركعات، ويزيد ما شاء الله، وروي عن جابر أنه رآه يصلي ستا، وللخمسة إلا ابن ماجه: «ابن آدم أركع أربع ركعات من أول النهار، أكفك آخره» وقال الحاكم: صبحت جماعة من أئمة الحديث الحفاظ الأثبات فوجدتهم يختارون هذه الصلاة، يعني أربع ركعات، ويصلون هذه الصلاة أربعا، لتواتر الأخبار الصحيحة، وصوب ابن جرير وغيره أن تصلي بغير عدد.(3/219)
.
(وأكثرها ثمان) لما روت أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح صلى ثماني ركعات، سبحة الضحى، رواه الجماعة(1) (ووقتها من خروج وقت النهي) أي من ارتفاع الشمس قدر رمح(2) (إلى قبيل الزوال) أي إلى دخول وقت النهي، بقيام الشمس(3) وأفضله إذا اشتد الحر(4).
.................................................(5)
__________
(1) أي نافلة الضحى، والسبحة الدعاء، وصلاة التطوع، لأنها يسبح بها، ولأحمد عن أنس نحوه، وثمان في الأصل منسوب إلى الثمن، لأنه الجزء الذي صير السبعة ثمانية، فهو ثمنها، فتحوا أوله، وحذفوا منه إحدى ياءي النسب، وعوضوا منها الألف، كما فعلوا في المنسوب إلى اليمن، فتثبت ياؤه عند الإضافة والنصب، كما تثبت ياء القاضي، وتسقط مع التنوين عند الرفع والجر.
(2) في رأي العين، ويأتي أن المراد ارتفاع الشمس وإشراقها، لا مجرد ظهور القرص.
(3) أي استوائها في كبد السماء.
(4) أي أفضل صلاة الضحى إذا اشتد الحر، لحديث: «صلاة الأوابين حين يرمض الفصال»، رواه مسلم، أي تحمي الرمضاء، وهي الرمل، فتبرك الفصال، من شدة الحر، أو تبول من شدة الحر في أخفافها.
(5)
تتمة
تسن صلاة الاستخارة بلا نزاع، إذا هم بأمر، ولو في خير كحج وعمرة إذا كان نفلا، فإن الاستخارة في المباحات والمندوبات لا الواجبات والمحرمات فيركع ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعو، لحديث جابر، كان يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر – ويسمي حاجته- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فيسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي، في ديني ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به».
قال الشيخ: يجوز الدعاء في صلاة الاستخارة وغيرها قبل السلام وبعده والدعاء قبل السلام أفضل، لأنه قبل السلام لم ينصرف، وهو أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكون وقت الاستخارة عازما على الأمر أو عدمه، ويستشير فإذا ظهرت المصلحة في شيء فعله اهـ، وقيل: تسن صلاة الحاجة، لحديث عبد الله بن أبي أوفي مرفوعًا: «من كانت له حاجة إلى الله، أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين،
أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلام من كل إثم، لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هي لك
رضي إلا قضيتها يا أرحم الراحمين» رواه ابن ماجه والترمذي وقال غريب وتسن صلاة التوبة، لحديث «ما من رجل يذنب ذنبا، فيتوضأ ويحسن الوضوء، فيصلي ركعتين، فيستغفر الله، إلا غفر له»، رواه أهل السنن، وحسنه الترمذي وابن كثير، ويشهد له ما في الصحيحين، من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه»، وفي لفظ ثم قرأ { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } الآية، وله شاهد عند مسلم، وتسن الصلاة عقب الوضوء، لحديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة»، فقال: ما عملت عملا أرجى عندي، إلا أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصليه، متفق عليه، قال الوزير: وإن كان بعد عصر احتسب بانتظاره بالوضوء الصلاة، فيكتب له ثواب مصل، وقال الشيخ: يستحب أن يصلي ركعتين عقب الوضوء، ولو كانت وقت نهي وفاقا للشافعي.(3/220)
.
(وسجود التلاوة) والشكر (صلاة)(1) لأنه سجود يقصد به التقرب إلى الله تعالى(2) له تحريم وتحليل، فكان كسجود الصلاة(3).
فيشترط له ما يشترط لصلاة النافلة، من ستر العورة، واستقبال القبلة، والنية وغير ذلك(4)
__________
(1) في الجملة، وإضافة السجود للتلاوة من إضافة المسبب للسبب، لأن التلاوة سببه، وإضافته للشكر من الإضافة البيانية، لأن السجود شكر وسببه هجوم النعمة.
(2) فهو سجود شرعه الله ورسوله عبودية، عند تلاوة تلك الآيات واستماعها وقربه إليه، وخضوعا لعظمته وتذللا بين يديه.
(3) أي له تكبيرة إحرام كالصلاة وفاقا، وتحليل أي سلام، ويأتي أنه لم يشرع.
(4) كطهارة بدنه ومصلاه، قال في المبدع: في قول أكثر أهل العلم، وقال في الفروع: وهما كنافلة فيما يعتبر لها وفاقا، واحتج الأصحاب بأنه صلاة فيدخل في العموم، وخالف شيخنا اهـ.
قال الشيخ: ولا يشرع فيه تحريم ولا تحليل، هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعليها عامة السلف، وعلى هذا فليس هو بصلاة، فلا يشترط له شروط الصلاة، بل يجوز وإن كان على غير طهارة، كما كان ابن عمر يسجد على غير طهارة، واختاره البخاري، لكن السجود بشروط الصلاة أفضل، ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به، وقال ابن جرير: ليس بركعة ولا ركعتين، فيجوز بلا وضوء، وللجنب والحائض، وإلى غير القبلة كسائر الذكر، ولم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس.
وقال ابن القيم: القول الثاني لا يشترط وهو قول كثير من السلف، حكاه ابن بطال، وقالوا: ليس باشتراط الطهارة له كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح اهـ، وكذا قال غير واحد، ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئا، وليس بصلاة من كل وجه، وأحاديث الوضوء مختصة بالصلاة وكان يسجد مع النبي صلى الله عليه وسلم من حضره، ولم ينقل أنه أمر أحدا منهم بالوضوء، وليس فيها أيضا ما يدل على طهارة المصلي، وأما ستر العورة والاستقبال مع الإمكان فقيل: إنه معتبر اتفاقا.(3/221)
ويسن سجود التلاوة (للقارئ والمستمع)(1).
لقول ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا موضعا لجبهته متفق عليه(2) وقال عمر: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، رواه البخاري(3).
__________
(1) له جميع آية السجدة، والمستمع هو الذي يقصد الاستماع للقراءة في الصلاة أو غيرها بلا نزاع، وأجمع العلماء على مشروعيته وقال النووي أجمع العلماء
على إثبات سجود التلاوة، وهو عند الجمهور سنة، وعند أبي حنيفة واجب، قال ابن القيم: ومواضع السجدات أخبار وأوامر، خبر من الله عن سجود مخلوقاته له عموما أو خصوصا، فسن للتالي والسامع أن يتشبه بهم عند تلاوة آية السجدة أو سماعها وآيات الأوامر بطريق الأولى، وعن أبي هريرة مرفوعا: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» رواه مسلم وابن ماجه وفي الحديث «ما من عبد يسجد سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة».
(2) وفيه: دلالة على مشروعية سجود المستمع، قال ابن بطال: أجمعوا على أن القارئ إذا سجد لزم المستمع أن يسجد.
(3) وفيه أنه قرأ على المنبر سورة النحل، فنزل وسجد وسجدوا معه، وقرأ بها جمعة أخرى، وقال: أيها الناس إنا لم نؤمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، وقرئ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم ولم يسجد، متفق عليه، قال الحافظ: وأولى الاحتمالات أنه لبيان الجواز، وعن أحمد أن السجود على القارئ والمستمع واجب في الصلاة وغيرها، وفاقا لأبي حنيفة واختاره الشيخ وغيره، وقال: وهو مذهب طائفة من العلماء اهـ، وقول من أوجبه قوي في الدليل، وقال غير واحد: خبر عمر في هذا الموطن العظيم، والمجمع العميم، دليل ظاهر في إجماعهم على أنه ليس بواجب، ولأن الأصل عدم الوجوب حتى يثبت دليل صحيح صريح في الأمر به.(3/222)
ويسجد في طواف مع قصر فصل(1) ويتيمم محدث بشرطه(2) ويسجد مع قصره(3) وإذا نسي سجدة لم يعد الآية لأجله(4) ولا يسجد لهذا السهو(5) ويكرر السجود بتكرار التلاوة(6) كركعتي الطواف(7) قال في الفروع: وكذا يتوجه في تحية المسجد، إن تكرر دخوله اهـ، ومراده غير قيم المسجد(8).
__________
(1) أي بين القراءة والسجود، والاستماع والسجود، فإن طال الفصل كأن توضأ لم يسجد لفوات محله.
(2) وهو تعذر الماء لعدم أو ضرر.
(3) أي الفصل بين السجود وسببه، بخلاف ما لو توضأ لطول الفصل.
(4) لفوات محله.
(5) لئلا يلزم تفضيل الفرع على الأصل.
(6) لأنها سببه فتكرر بتكرارها ويحتمل أن يقال: إن أعادها لحاجة كتكرير الحفظ أو الاعتبار أو لاستنباط حكم منها، أو لفهم معناها، ونحو ذلك لم يكرر السجود، وإن سمع سجدتين معا سجد سجدتين لوجود المقتضى والقاعدة: تكفي واحدة، وخرج ابن رجب الاكتفاء بواحدة، كما خرج الأصحاب الاكتفاء بسجدة الصلاة عن سجدة التلاوة بل هنا أولى.
(7) فإنها تتكرر بتكرره.
(8) قال في تصحيح الفروع: وتشبه أيضا إجابة المؤذن ثانيًا وثالثا، إذا سمعه مرة بعد أخرى، وكان مشروعا، فإن صاحب القواعد الأصولية قاله تبعا للمصنف وظاهر كلام الأصحاب، يستحب ذلك، واختاره الشيخ تقي الدين، وأما قيم المسجد فلا يكررها.(3/223)
(دون السامع) الذي لم يقصد الاستماع(1) لما روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه مر بقارئ يقرأ سجدة، ليسجد معه عثمان، فلم يسجد، وقال: إنما السجدة على من استمع(2) ولأنه لا يشارك القارئ في الأجر، فلم يشاركه في السجود(3) (وإن لم يسجد القارئ)(4) أو كان لا يصلح إماما للمستمع (لم يسجد)(5) لأنه صلى الله عليه وسلم أتى إلى نفر من أصحابه، فقرأ رجل منهم سجدة، ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنك كنت إمامنا، ولو سجدت سجدنا» رواه الشافعي في مسنده مرسلا(6).
__________
(1) أي لا يسن السجود للسامع الذي لم يقصد الاستماع نص عليه، وفاقا لمالك والشافعي.
(2) رواه البخاري، وله نحوه عن عمران بن حصين، وللبيهقي نحوه عن ابن عباس، وقال ابن مسعود وعمر: إنا ما جلسنا لها، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، رضي الله عنهم.
(3) وقيل: يسن إلا أنه دون تأكدها للمستمع وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، لأنه صح أنه كان يقرأ في غير صلاة ومسجد، ويسجدون معه، حتى ما يجد بعضهم موضعا لجبهته ولقوله: وسجد من كان معه.
(4) لم يسجد المستمع، وقيل: يسجد غير مصل، قدمه في الوسيلة، وفاقا للشافعي، وهو رواية عن مالك.
(5) يعني المستمع، وقيل: يسجد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي
(6) ورواه ابن أبي شيبة وغيره، وعلقه البخاري، وقال: قال ابن مسعود لتميم بن حذلم: اسجد فإنك إمامنا.(3/224)
ولا يسجد المستمع قدام القارئ(1) ولا عن يساره مع خلو يمينه(2) ولا رجل لتلاوة امرأة(3) ويسجد لتلاوة أمي وصبي(4) (وهو) أي سجود التلاوة (أربع عشرة سجدة)(5).
__________
(1) وهو الصحيح من المذهب وقيل يسجد قدامه.
(2) ومثله خلو خلفه، وقيل: يسجد عن يساره، فإنهما ليسا شرطا، ولأن القراءة والقيام ليسا من فروضه، قال في الإنصاف، بلا خلاف، ولا يسجد قبل القارئ، لكن يجوز رفعه قبله في غير الصلاة، صوبه في الإنصاف، لأنه ليس إماما له حقيقة، بل بمنزلة الإمام.
(3) وكذا خنثى لأن القارئ لا يصلح أن يكون إماما له في هذه الأحوال، وقيل: بلى، واستظهره في التنقيح، كسجوده لتلاوة أمي وزمن، لأن ذلك ليس بواجب عليه، ولا يشترط فيه كل حالة تشترط في الإمامة.
(4) أي يسجد مستمع من رجل وامرأة وخنثى، لتلاوة أمي وزمن ومميز وفاقا، لأن قراءة الفاتحة والقيام ليسا ركنا في السجود، ولصحة إمامتهم في النفل، وانظر ما هنا مع قوله قبله: أو كان لا يصلح إلخ إلا أن يقال هنا بمثله.
(5) أي وعدد سجدات التلاوة أربع عشرة وكلها مجمع عليها، ما عدا ثانية الحج، والمفصل، وقال الحافظ أجمعوا على أنه يسجد في عشرة مواضع وهي متوالية إلا ثانية (الحج) و(ص) عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان، رواه أبو داود والحاكم وسنده حسن والمفصل ثابت في الصحيح، وهو مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.(3/225)
في الأعراف والرعد والنحل والإسراء ومريم(1) و(في الحج منها اثنتان)(2) والفرقان والنمل والم تنزيل(3) وحم السجدة(4) والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك(5).
__________
(1) في آخر الأعراف سجدة، وفي الرعد عند قوله: { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } وفي النحل عند { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وفي الإسراء: { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } وفي مريم { خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } .
(2) عند قوله: { إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } والثانية: { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لخبر عقبة في الحج سجدتان؟ قال: «نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وفيه ابن لهيعة، واحتج به أحمد، وتقدم حديث عمرو، وروى الحاكم وغيره عن عمر وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم سجدوهما في الحج.
(3) السجدة، ففي الفرقان عند قوله: { وَزَادَهُمْ نُفُورًا } وفي النمل { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } والم عند قوله: { وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } .
(4) أي حم التي فيها السجدة عند { وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ } وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، وقيل عند: { تَعْبُدُونَ } وفاقا لمالك وعنه يخير.
(5) في آخر النجم، وفي الانشقاق عند قوله: { لا يَسْجُدُونَ } وفي آخر { اقْرَأْ } ففي النجم سجد صلى الله عليه وسلم وسجد معه المسلمون والمشركون، رواه البخاري وسجد في الانشقاق، واقرأ رواه مسلم، وفيهما عن أبي هريرة أنه سجد خلف النبي صلى الله عليه وسلم في: { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } قال الطحاوي: تواترت الآثار عنه صلى الله عليه وسلم بالسجود في المفصل، وأحاديث أبي هريرة متأخرة على خبر ابن عباس.(3/226)
وسجدة ص سجدة شكر(1) ولا يجزئ ركوع، ولا سجود الصلاة عن سجدة التلاوة(2) (و) إذا أراد السجود فإنه (يكبر) تكبيرتين، تكبيرة (إذا سجد)(3)
__________
(1) وليست من عزائم السجود، وفاقا للشافعي، لما في الصحيح عن ابن عباس قال: ص ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها، أي ليست مما ورد فيها أمر ولا تحريض ولا حث، وإنما ورد بصيغة الإخبار وللنسائي: سجدها داود توبة، ونسجدها شكرا، فينبغي أن يسجدها خارج الصلاة لا فيها، فإن فعل عالما بطلت على الصحيح من المذهب وقيل: لا تبطل بها صلاة وفاقا للشافعي، لأنها تتعلق بالتلاوة، فهي كسائر سجدات التلاوة ويعضده ما رواه أبو داود بسند صحيح، أنه خطب فمر بالسجدة فتهيئوا فقال: «إنما هي توبة نبي ولكن قد استعددتم للسجود»، فنزل وسجد، وعنه: سجدة تلاوة، وفاقا لأبي حنيفة ومالك قال في الفروع، وهو الأظهر لأن سببها من الصلاة، والسجود فيها عند قوله: وأناب وفاقا، فإن قيل: ما وجه تخصيص داود مع وقوع نظيره لآدم وأيوب وغيرهما؟ قيل: لإنه لم يحك عن غيره أنه لقي مما ارتكبه من الخوف والبكاء حتى نبت العشب من دموعه، والقلق المزعج ما لقيه، فجوزي دوام الشكر من العالم إلى يوم القيامة.
(2) وفاقا لمالك والشافعي، وجمهور السلف والخلف، لأن الركوع ليس فيه من الخضوع ما في السجود وهو ما استمر عمل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده عليه وتقدم أن الأصحاب خرجوا الاكتفاء بسجدة الصلاة عن سجدة التلاوة، فالله أعلم، وفي المغني والشرح: إذا كانت آخر السورة سجد ثم قام فقرأ شيئا ثم ركع، وإن أحب قام ثم ركع من غير قراءة.
(3) وفاقا: لحديث ابن عمر: كان عليه الصلاة والسلام يقرأ علينا القرآن
فإذا مر بالسجدة كبر وسجد،وسجدنا معه، رواه أبو داود، ويقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، كما يقول في سجود صلب الصلاة، وإن زاد غيرها مما ورد فحسن، ومنه: سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته اللهم اكتب لي بها أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعله لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود، فالأول رواه الخمسة وصححه الترمذي، والثاني رواه الترمذي وغيره، ونحوه: لمسلم لكن في الصلاة، والتكبيرة الأولى والسجود ركنان، وتسبيح السجود واجب.(3/227)
.
(و) تكبيرة (إذا رفع) سواء كان في الصلاة أو خارجها(1) (ويجلس) إن لم يكن في الصلاة(2) (ويسلم) وجوبا، وتجزئ واحدة(3) (ولا يتشهد) كصلاة الجنازة(4) ويرفع يديه إذا سجد ندبا ولو في صلاة(5).
__________
(1) وقال ابن القيم: لم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر للرفع من هذا السجود ولذلك لم يذكره الخرقي، ومتقدموا الأصحاب.
(2) قال في الإقناع: ولعل جلوسه ندب، تبعا للفروع والمبدع.
(3) تقدم أنه لم ينقل فيها سلام، وهو المنصوص عن الشافعي، ولا تقاس على الصلاة من كل وجه، قال الشيخ، ولا يشرع فيه تحريم ولا تحليل، هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعليها عامة السلف، قال أحمد: أما التسليم فلا أدري ما هو، قال ابن القيم: وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره، ولا نقل فيه تشهد ولا سلام ولا جلوس ألبتة.
(4) وفاقا، وعليه الجمهور من السلف والخلف.
(5) أي ويرفع يديه إذا سجد وفاقا، ولو كان في الصلاة ندبا، ولو إشارة إلى خلاف أبي حنيفة ومالك، وقال الشارح وغيره: قياس المذهب لا يرفعهما
لقول ابن عمر: وكان لا يفعل ذلك في السجود، وقال ابن نصر الله هذا أصح وهو المتعين صرح به الشارح وابن القيم لعموم: ولا يفعل ذلك في السجود.(3/228)
وسجود عن قيام أفضل(1) (ويكره للإمام قراءة) آية (سجدة في صلاة سرو) كره (سجوده) أي سجود الإمام للتلاوة (فيها) أي في صلاة سرية كالظهر(2) لأنه إذا قرأها إما أن يسجد لها أو لا(3) فإن لم يسجد لها كان تاركا للسنة(4).
__________
(1) تشبيها له بصلاة النفل، قال الشيخ: بل سجود التلاوة قائما أفضل منه قاعدا، كما ذكره من ذكره من العلماء، من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وكما نقل عن عائشة رضي الله عنها، بل وكذلك سجود الشكر، كما روي أبو داود في سننه، عن النبي صلى الله عليه وسلم من سجوده للشكر قائما، وهذا ظاهر في الاعتبار، فإن صلاة القائم أفضل من صلاة القاعد اهـ ولقوله: { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * } وقوله: { خَرُّوا سُجَّدًا } والخرور لا يكون إلا من علو، قال الشيخ: ومن نهى عنه خشية الرياء فنهيه مردود عليه، وإفساده في ترك إظهار المشروع أعظم من الإفساد في إظهار رياء، ولأن الإنكار إنما يقع على الفساد في إظهار ذلك رئاء الناس، وعلى ما أنكرته الشريعة وتسويغ مثل هذا النهي يفضي إلى أن أهل الفساد ينكرون على أهل الدين، إذا رأوا من يظهر أمرا مشروعًا.
(2) وروى أحمد وأبو داود وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الظهر، فقيل: لا يكره، قال ابن تميم، اختاره الشيخ، ولفظه: واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى ونص عليه أحمد وغيره.
(3) أي يسجد لتلاوته السجدة، أو لا يسجد، ولا بد من أحد الحالتين.
(4) المجمع عليها في الجملة.(3/229)
وإن سجد لها أوجب الإبهام والتخليط على المأموم(1) (ويلزم المأموم متابعته في غيرها) أي: غير الصلاة السرية(2) ولو مع ما يمنع السماع كبعد وطرش(3) ويخير في السرية(4).
__________
(1) فكان ترك السبب المفضي إلى ذلك أولى «والإبهام» بالموحدة مصدر، أُبْهِمَ الأمر اشتبه فلم يدر كيف يؤتى له، وبالمثناة مصدر أوهم وأوهمه إيهامه أوقعه في الوهم، «والتخليط» مصدر، خلط الشيء بغيره أدخل أجزاءه بعضها في بعض وتقدم.
(2) أي يلزم المأموم متابعة إمامه إذا سجد سجود التلاوة في غير الصلاة السرية وفاقًا لحديث «إنما جعل الإمام ليؤتم به».
(3) لأنه محل الإنصات في الجملة.
(4) أي يخير المأموم في متابعة الإمام في الصلاة السرية أو عدم المتابعة وقيل: يلزمه متابعة الإمام وفاقًا لأبي حنيفة، ورواية عن مالك، وقال عليه الصلاة والسلام «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه»، وكصلاة جهر، قال في الفروع: في الأصح، ويكره اختصار آيات السجود اتفاقا، وكره حذفها حتى لا يسجد لها لأن كلا منهما لم ينقل عن السلف، بل نقلت كراهته.(3/230)
(ويستحب) في غير الصلاة (سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم) مطلقًا(1).
__________
(1) أي سواء كانت خاصة أو عامة، دينية أو دنيوية، ظاهرة أو باطنة كتجدد ولد، أو مال أو جاه أو نصرة على عدو، أو غير ذلك من سائر النعم، أو اندفاع النقم، ونعمة الله على العبد ما أعطاه له مما لا يتمنى غيره أن يعطيه إياه، وفي الكليات: النعمة -في أصل وضعها- الحالة التي يستلذها الإنسان، والنقم كعنب جمع نقمة، اسم من الانتقام وهي المكافأة بالعقوبة، وظاهره لا يسجد لدوامها لأنه لا ينقطع، فلو شرع له السجود لاستغراق به عمره،وشكرها بالعبادات والطاعات والمتجددة شرع سجود الشكر لشكر الله عليها، وخضوعًا له وذلاًّ في مقابلة فرحة النعمة، وانبساط النفس لها، وقال الحجاوي: له مفهومان أحدهما صحيح، وهو أنه سواء كان في أمر الناس أو أمر يخصه، والآخر أنه سواء كان ظاهرا أو باطنا فإن النعم غير الظاهرة كثيرة في كل وقت، من صرف البلايا والآفات والتمتع بالصحة، والسمع والبصر، وغير ذلك فلا يسجد له.(3/231)
لما روى أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسر به خر ساجدًا، رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم(1) (وتبطل به) أي بسجود الشكر (صلاة غير جاهل وناس)(2).
__________
(1) وحسنه الترمذي، وقال: العمل عليه عند أكثر العلماء، وسجد عليه الصلاة والسلام حين قال له جبرئيل، يقول الله تعالى «من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه»، رواه أحمد، وسجد حين شفع في أمته فأجيب رواه أبو داود، وسجد حين جاءه كتاب من اليمن بإسلام همدان، رواه البيهقي وسجد الصديق حين جاءه قتل مسيلمة وعلي حين رأى ذا الثدية، وكعب حين بشر بتوبة الله عليه، وغيرهم وقد تواتر فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه بعده وقال ابن القيم: لو لم تأت النصوص بالسجود عند تجدد النعم، لكان هو محض القياس، ومقتضى عبودية الرغبة، كما أن السجود عند الآيات مقتضى عبودية الرهبة.
(2) وفاقًا، كما لو زاد فيها سجودًا، وأما الجاهل والناسي فيسجد له، كما تقدم فيمن زاد فعلا من جنس الصلاة.(3/232)
لأنه لا تعلق له بالصلاة(1) بخلاف سجود التلاوة(2) وصفه سجود الشكر، وأحكامه كسجود التلاوة(3) (وأوقات النهي خمسة)(4) الأول (من طلوع الفجر الثاني، إلى طلوع الشمس) لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر» احتج به أحمد(5)
__________
(1) أي لأن سبب سجود الشكر لا تعلق له بالصلاة، فتبطل به، كما تبطل بزيادة فعل وتقدم.
(2) لمشروعيته فيها وخارجها.
(3) يعني يكبر إذا سجد، وإذا رفع، ويجلس ويسلم، وليس في النصوص ما يدل لذلك، وإنما جاءت بمشروعية السجود، وقال شيخ الإسلام، ولو أراد الدعاء فعفر وجهه لله بالتراب، وسجد له، ليدعوه فيه، فهذا سجود، لأجل الدعاء، ولا شيء يمنعه، وابن عباس سجد لما جاء نعي بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه الصلاة والسلام «إذا رأيتم آية فاسجدوا» قال: وهذا يدل على أن السجود يشرع عند الآيات، فالمكروه هو السجود بلا سبب، وفي المبدع: إذا رأى مبتلى في دينه سجد بحضوره، وإن كان في بدنه كتمه عنه، قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يسألوا الله العافية بحضرة المبتلى.
(4) هذا هو المشهور، وظاهر الخرقي وغيره ثلاثة، بعد طلوع الفجر حتى تطلع وبعد العصر حتى تغرب، وعند قيامها، وهو يشمل وقتين، والاختلاف في الألفاظ وقع من الرواة، وترجع بالتحقيق إلى ثلاثة، وعدها خمسة أجود.
(5) في رواية صالح، ورواه هو وأبو داود وغيرهما، من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الترمذي: هو ما أجمع عليه أهل العلم، كرهوا أن يصلي
الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر وفي الصحيحين «إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين خفيفتين» قال شيخ الإسلام: وليس بعد طلوع الفجر والفريضة سنة إلا ركعتان، وعنه: أن النهي متعلق بفعل الصلاة، وأن الوتر يفعل قبل صلاة الفجر، وفاقًا لمالك والشافعي، لما في الصحيحين، «لا صلاة بعد صلاة الفجر»، ولحديث أبي بصرة مرفوعا «إن الله زادكم صلاة فصلوها بين العشاء إلى صلاة الصبح»، احتج به أحمد قال الشارح والمجد وغيرهما: وأحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي إلا بعد الفجر، وقد يقال: المراد بصلاة الصبح فيما قبل وقتها، فهو بمعنى طلوع الفجر فتتفق الأدلة.(3/233)
.
(و) الثاني (من طلوعها حتى ترتفع قيد) بكسر القاف، أي قدر (رمح) في رأي العين(1) (و) الثالث (عند قيامها حتى تزول)(2).
__________
(1) قلبت واو «قيد» ياء لانكسار ما قبلها، والقدر مبلغ الشيء، والرمح هو رمح الهذيلي، وطوله ستة أذرع بذراع اليد، وأول هذا الوقت ظهور شيء من قرص الشمس ويستمر إلى ارتفاعها قدر رمح.
(2) أي الشمس وفيه وجه: إلا يوم الجمعة، وفاقًا لمالك، واختاره الشيخ، وتلميذه وغيرهما واستثناه الشافعي وأصحابه، والعمدة في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استحب التبكير إلى الجمعة، ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام، من غير تخصيص، ولا استثناء ولأبي داود وغيره «إلا يوم الجمعة» وعده ابن القيم وغيره من خصائصها وقيام الشمس انتصابها وهو وقوفها، ويعرف بوقوف الظل لا يزيد ولا ينقص، إلى أن تزول إلى جهة المغرب، وقوف لطيف، لا يتسع لصلاة ولا يكاد يشعر به، إلا أن التحريم يمكن إيقاعه فيه، فلا تصح فيه.(3/234)
لقول عقبة بن عامر: ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا، «حين تطلع الشمس بازغة، حتى ترتفع(1) وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول(2) وحين تتضيف الشمس للغروب، حتى حتى تغرب» رواه مسلم(3) وتضيف بفتح المثناة فوق، أي تميل(4).
__________
(1) أي من ابتداء طلوعها، إلى أن ترتفع قيد رمح، ولمسلم وغيره «فإنها تطلع بين قرني شيطان»، أي ناحيتي رأسه، ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة، فنهي عن الصلاة حينئذ صيانة لها.
(2) أي حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق، ولا في المغرب، أو الظهيرة شدة الحر، وقائمها البعير يكون باركا، فيقوم من شدة حر الأرض.
(3) وأحمد وأهل السنن وغيرهم، والنهي عن الصلاة في هذه الأوقات مشهور، وأما الدفن فصوب البغوي والنووي وغيرهما أن المراد تأخيره إلى هذه الأوقات، أما إذا وقع بلا تعمد فلا يكره، بل ضعف شيخ الإسلام القول بأنه الصلاة على الجنازة، وقال: لأن الصلاة على الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع وإنما معناه تعمد تأخير الوقت إلى هذه الأوقات، كما يكره تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر، وأما إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره.
(4) يقال: ضاف يضيف أي مال، وفي الصحاح: تضيفت الشمس إذا مالت للغروب، وكذلك ضافت وضيفت اهـ، ومنه المضيف، أضفت فلانا، إذا أملته إليك، وأنزلته عندك.(3/235)
(و) الرابع (من صلاة العصر إلى غروبها)(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد الفجر، حتى تطلع الشمس(2) ولا صلاة بعد العصر، حتى تغيب الشمس» متفق عليه عن أبي سعيد(3) والاعتبار بالفراغ منها، لا بالشروع فيها(4) ولو فعلت في وقت الظهر جمعًا(5) لكن تفعل سنة ظهر بعدها(6).
__________
(1) إجماعًا، حكاه غير واحد من الأصحاب وغيرهم، والمراد إذا أخذت الشمس في الغروب، وفي الصحيحين «إذا اصفرت» وآخره كمال غروبها.
(2) المراد حتى ترتفع وتشرق، ليس مجرد ظهور القرص، قال القاضي وغيره: وهذا صحيح متعين لا عدول عنه، للجمع بين ألفاظ الحديث.
(3) والنهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقت استواء الشمس فيه أربعة أحاديث، حديث عقبة وعمرو، عند مسلم، وأبي هريرة عند ابن ماجه، والصنابحي في الموطأ.
(4) فمن لم يصل العصر أبيح له التنفل، وإن صلى غيره، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه، وكذا لو أحرم بها ثم قلبها نفلاً، أو قطعها لعذر، لم يمنع من التطوع حتى يصليها، ومن صلاها فليس له التنفل، ولو صلى وحده، لحديث أبي سعيد وغيره.
(5) فمن صلى العصر منع من التطوع، لما تقدم، إلا ما استثناه الشرع.
(6) أي بعد صلاة العصر إذا جمعت مع الظهر تقديمًا، أو تأخيرًا لما روت أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين، فقلت: صلاة لم أكن أراك تصليها فقال: «إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر، وإن قدوم وفد بني تميم شغلوني عنها فهما هاتان الركعتان» متفق عليه.(3/236)
(و) الخامس (إذا شرعت) الشمس (فيه) أي: في الغروب (حتى يتم) لما تقدم(1) (ويجوز قضاء الفرائض فيها) أي: في أوقات النهي كلها(2)، لعموم قوله عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه(3) ويجوز أيضًا فعل المنذورة فيها، لأنها صلاة واجبة(4).
(و) يجوز حتى (في الأوقات الثلاثة) القصيرة(5) (فعل ركعتي الطواف)(6) لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى، أية ساعة من ليل أو نهار».
__________
(1) يعني في حديث عقبة.
(2) إجماعًا حكاه غير واحد، بل يجب للأمر به.
(3) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته» متفق عليه، والمراد الركعة، ولقصة نومه عن صلاة الفجر، ولما فيه من الاحتياط لأداء الواجب، وإبراء الذمة.
(4) أشبهت الفرائض في قضائها في أوقات النهي، لاشتراكها في الوجوب وذلك بأن نذر أن يصلي وأطلق، ويجوز نذره فيها، كأن يقول: لله علي أن أصلي ركعتين بعد العصر، صرح به في الإنصاف وغيره، وقال الموفق فيما إذا نذر أن يصلي عقب كل صلاة ركعتين: إنه لا ينعقد فيما بعد الفجر والعصر، لأنه نذر محرم، كما لو نذرت أن تصلي في أيام حيضها، وفيه خلاف، وهذا هو الصحيح.
(5) وهي عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند قيامها.
(6) فرضا كان الطواف أو نفلاً.(3/237)
رواه الترمذي وصححه(1) (و) تجوز فيها (إعادة جماعة) أقيمت وهو بالمسجد(2) لما روى يزيد بن الأسود، قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا؟» فقالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا، قال: «لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» رواه الترمذي وصححه(3).
__________
(1) من حديث جبير بن مطعم، ونحوه للدارقطني من حديث ابن عباس، وهذا إذن منه صلى الله عليه وسلم في فعلها في جميع أوقات النهي، ولأن الطواف جائز في كل وقت فكذلك ركعتاه.
(2) ولو مع غير إمام الحي، وسواء كان صلى جماعة أو وحده في كل وقت من الأوقات الخمسة، وقيده الشارح بقوله: أقيمت وهو في المسجد احترازا عمن دخل المسجد بعد أن صلى، فوجد الإمام يصلي، يعني فلا يعيد معه، وهو منطوق حديث أبي ذر الآتي، ويأتي الكلام عليه.
(3) ولحديث أبي ذر مرفوعًا «صل الصلاة لوقتها، فإن أقيمت وأنت بالمسجد فصل، ولا تقل: إن صليت فلا أصلي» رواه مسلم وغيره ولتأكدها للخلاف في وجوبها و(رحال) جمع رحل، هو المنزل، ويطلق على غيره، والمراد هنا المنزل.
ويزيد بن الأسود أو ابن أبي الأسود، هو العامري السوائي من بني سواءة بن عامر بن صعصعة، وقيل الخزاعي، حليف قريش أبو حباب، روى عنه ابنه هذا الحديث، وهو مدني وقيل: سكن الطائف.(3/238)
فإن وجدهم يصلون لم يستحب الدخول(1) وتجوز الصلاة على الجنازة بعد الفجر والعصر(2) دون بقية الأوقات(3) ما لم يخف عليها(4) (ويحرم تطوع بغيرها) أي غير المتقدمات، من إعادة جماعة، وركعتي طواف، وركعتي فجر قبلها، (في شيءٍ من الأوقات الخمسة)(5).
__________
(1) يعني معهم فيها ليعيدها، لظاهر خبر أبي ذر، وقيل: يدخل معهم، وهو ظاهر كلام جماعة، منهم الشارح وابن القيم، وقال أحمد: فيمن صلى في جماعة، ثم دخل المسجد وهم يصلون، أيصلي معهم؟ قال: نعم، ولئلا يتخذ قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به، وأنه ليس من المصلين.
(2) بإجماع المسلمين، وهما الوقتان الطويلان، وقال ابن المنذر وغيره: بلا خلاف لطول مدتهما فالانتظار فيهما يخاف منه عليها، ولأنها فرض في الجملة، أشبهت قضاء الفوائت وظاهره أنه لا يصلي على قبر، ولا على غائب وقت نهي، لأن العلة في الجنازة خوف الانفجار.
(3) لحديث عقبة بن عامر وتقدم، وذكره فيه الصلاة مقرونة بالدفن يدل على إرادة صلاة الجنازة لأنها صلاة من غير الخمس، أشبهت النوافل، قال الخطابي: هذا قول أكثر أهل العلم، وعنه: تجوز، وفاقًا للشافعي، واختاره ابن عقيل والشيخ وغيرهما، كتحية المسجد حال الخطبة وغيرها، قال في الإنصاف: وليس عنها جواب صحيح، وضعف شيخ الإسلام وغيره أنها صلاة الجنازة وتقدم.
(4) تقييد لقوله: دون بقية الأوقات، وهي الثلاثة القصيرة وقالوا: فإن خيف عليها جاز للضرورة، وتقدم أنه يجوز بدون الضرورة.
(5) أي يحرم تطوع في شيء من الأوقات الخمسة بغير ما تقدم: من إعادة جماعة، وركعتي طواف، وركعتي فجر قبلها، للنصوص.(3/239)
حتى ما له سبب(1) كتحية المسجد(2)
__________
(1) ذكرها لئلا يتوهم أن ذلك مخصوص بها، وعنه أن ما له سبب، من جميع ما تقدم ذكره وما يأتي، يجوز فعله في أوقات النهي، واختاره أبو الخطاب، وابن عقيل، والشيخ وغيرهم، وهو ظاهر الكافي، وقدمه في المحرر، وهو مذهب الشافعي وأهل الحديث، وأهل التحقيق من أتباع الأئمة، حملوا أحاديث النهي على ما لا سبب له، ولا نزاع في أنه لا يجوز أن يبتدئ في هذه الأوقات تطوعا لا سبب له، لهذه الآثار المتواترة، في النهي عن ذلك.
وفي صحيح مسلم عن عائشة: إنما نهى أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها، قال: «لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فتصلوا عند ذلك»، والتحري التعمد، وما له سبب لا تعمد فيه، وثبت من حديث عمر نحوه، أي لا يقصد أحدكم الصلاة عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، لأن الكفار الذين يعبدونها يسجدون لها في هذين الوقتين.
وأما ذوات الأسباب فتفعل في أوقات النهي، للأدلة الدالة على ذلك، وهي تخص عموم النهي، وقال في المبدع: فيترجع على أحاديث النهي، بحديث أم سلمة وكتحية المسجد حال الخطبة، وليس عنها جواب صحيح اهـ، ومن منع من ذلك قيل له: جوزت الصلاة وقت الخطبة، وهو وقت نهي باتفاق العلماء، وكذا إعادة الجماعة، ومنعت ما سواهما مما له سبب، فلم تعمل بأحاديث النهي على ظاهرها، بل خالفت ظاهرها في بعض دون بعض.
(2) أي يحرم تطوع بها في الأوقات الخمسة، وعنه: يسن بشرطين، أن يكون متطهرا، وأن لا يجلس ويطول جلوسه، وقد جاءت بلفظ الأمر، ولفظ النهي في الصحيح وغيره من غير وجه، وحكى النووي إجماع المسلمين على سنيتها في جمع الأوقات.
قال شيخ الإسلام: والصحيح قول من استحب ذلك وهو مذهب
الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وأحاديث النهي عموم مخصوص، خص منه صلاة الجنائز باتفاق المسلمين، وقضاء الفوائت، وقوله: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» أمر عام لم يخص، فلا يجوز تخصيصه بعموم مخصوص، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الداخل يوم الجمعة حال الخطبة بهما، بعد أن قعد، ولو كانت تترك في وقت لكان هذا الوقت أولى، لأنه يمنع حال الخطبة، من الصلاة لا التحية، ولأنه تكلم في الخطبة، وبعد أن قعد الداخل وكل هذا مبالغة في تعميم التحية اهـ.
والحرم وغيره في ذلك سواء، فمن دخل الحرم ولم يطف، لا يجلس حتى يصلي ركعتين وكون تحيته الطواف فلمن طاف، وتحية المسجد إكرام للمسجد، وكأنها في دخول المسجد بمنزلة السلام، كما يسلم الرجل على صاحبه عند لقائه قال النووي: وعبر بعضهم بتحية رب المسجد، لأن المقصود منها القربة إلى الله لا إلى المسجد لأن داخل بيت الملك يحيي الملك، لا البيت، وإذا نوى التحية والصلاة مطلقا، أو راتبة أو غير راتبة أو فرضا، أو منذورة حصل له ما نواه إجماعا وإن نوى ذلك ولم ينو التحية أجزأ وحصل له ما نوى،وحصلت تحية المسجد ضمنا.(3/240)
.
وسنة وضوء(1) وسجدة تلاوة(2) وصلاة على قبر أو غائب(3).
وصلاة كسوف وقضاء راتبه(4)
__________
(1) أي ويحرم تطوع بها في شيء من الأوقات الخمسة، وتقدم استحبابه، وقال الشيخ: ويستحب أن يصلي ركعتين عقب الوضوء، ولو كان وقت نهي، وفاقا للشافعية اهـ لقول بلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم «لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور» ولئلا يبقى الوضوء خاليًا عن مقصوده.
(2) أي يحرم تطوع بها فيها، وتقدم أنها ليست صلاة من كل وجه، والأمر بها مطلق، عند وجود سببها، وكذا سجدة شكر.
(3) أي يحرم في أوقات النهي، للنهي عن الصلاة في تلك الأوقات.
(4) يعني يحرم فعلهما في شيء من أوقات النهي الخمسة، هذا وقد قال صلى الله عليه وسلم في الكسوف «إذا رأيتموه فصلوا» وقال «فافزعوا إلى الصلاة» وأما قضاء الراتبة فسنة الصبح، إذا صلاها بعد صلاة الصبح، تقدم قول الشيخ أنه يقضيها بعدها، لحديث قيس، وسنة الظهر إذا صلاها بعد صلاة العصر، قد قضاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر، كما في الصحيحين وغيرهما، وأما سنة الظهر المجموعة إليها فمستثناة عندهم، وليقس عليها نحوها، وكصلاة الاستخارة، لما تقدم.
وقال الشيخ: تصلى صلاة الاستخارة في وقت النهي، في أمر يفوت بالتأخير إلى وقت الإباحة، وكذا غير ذلك مما هو أعم من أحاديث النهي. وحيث ثبت قضاؤه الركعتين، وإقراره الذي صلى بعد الفجر ركعتي الفجر، وغير ذلك مما مر وغيره، مع انه لا يفوت بالتأخير، فما له سبب، مما يفوت بالتأخير، أولى مما لا سبب له، ولا تجوز صلاة الاستسقاء في وقت النهي، قال ابن رزين وغيره: إجماعًا. ولعله ما لم تكن حاجة داعية إلى فعلها وقت نهي، فيكون سببًا من الأسباب المسوغة، وتجويز ذوات الأسباب في وقت النهي، لترجح مصلحة فعلها، فإنها لا تقضي ولا يمكن تداركها، ومفسدة تفويتها أرجح من مفسدة المشابهة المذكورة.(3/241)
سوى سنة ظهر بعد العصر المجموعة إليها(1) ولا ينعقد النفل إن ابتدأه في هذه الأوقات، ولو جاهلاً(2).
إلا تحية مسجد إذا دخل حال الخطبة، فتجوز مطلقا(3) ومكة وغيرها في ذلك سواء(4).
__________
(1) فيجوز قضاؤها بعد العصر، لما في الصحيحين أنه قضى سنة الظهر بعد العصر؛ لكن ليس فيه أنه كان جمع، وأما التطوع بركعتين بعد العصر، ففي صحيح مسلم وغيره: كان عمر يضرب عليهما، بمحضر من الصحابة، من غير نكير، فكان إجماعًا، ومر الإجماع على تحريم إنشاء تطوع في أوقات النهي.
(2) أي بالتحريم، وبكونه وقت نهي، فإن دخل وقت نهي وهو في نافلة، فقيل:
يحرم عليها استدامتها، صرح به في الإقناع وغيره، وظاهر الخرقي أن تمام النفل في وقت النهي لا بأس به، ولا يقطعه، بل يخففه، وقطع به الزركشي وغيره من الأصحاب، وكذلك قطع به غير واحد من اتباع الأئمة لقوله: { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } وصوبه في الإنصاف.
(3) يعني في الشتاء والصيف، ومع العلم وعدمه، ولو وقت قيام الشمس، بالإجماع، لحديث الأمر بهما، المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي ولما روى أبو داود: نهى عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وهذا استثناء من قوله: ويحرم تطوع، إلخ، قال في التوضيح، ولو فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام، وظاهر عبارته الإباحة فقط، والأمر في ذلك يقتضي الندب، كما هو ظاهر.
(4) يعني في المنع من التطوع في أوقات النهي، حتى بما له سبب، سوى ما استثناه من قضاء الفوائت، وركعتي الطواف، وإعادة الجماعة،وعنه لا نهي بمكة وهو مذهب الشافعي، لحديث جبير وأبي ذر وغيرهما، ولعل المراد ما له سبب، كركعتي الطواف، للإجماع على تحريم إنشاء تطوع في أوقات النهي، ولم يخصوا مكة ولا غيرها، وبه تتفق الأدلة.(3/242)
باب صلاة الجماعة(1)
شرعت لأجل التواصل والتوادد وعدم التقاطع(2).
__________
(1) أي باب بيان أحكام صلاة الجماعة، ومن الأولى بالإمامة؟ وموقف الإمام والمأموم، وما يبيح تركها من الأعذار وما يتعلق بذلك، وقيل: إنه من المقلوب، فيقال: باب بيان أحكام الجماعة في الصلاة، وفصل أحكام الجماعة، لأنها صفة زائدة على ماهية الصلاة، وليست فعلا، حتى تكون من جنسها، وحيث إنها صفة تابعة لها أتبعها بها، وسميت جماعة لاجتماع المصلين في الفعل، مكانا وزمانا، فإذا أخلوا بهما أو بأحدهما لغير عذر كان ذلك منهيًّا عنه باتفاق الأئمة.
واتفق المسلمون على أن الصلوات الخمس في المساجد من أوكد العبادات، وأجل الطاعات، وأعظم القربات، بل وأعظم وأظهر شعائر الإسلام.
(2) أي شرع الله عز وجل لهذه الأمة ببركة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم الاجتماع في أوقات معلومة، منها ما هو في اليوم والليلة، كالمكتوبات، ومنها ما هو في الأسبوع، وهو صلاة الجمعة، ومنها ما هو في السنة متكررا، وهو صلاة العيدين، لجماعة كل بلد، ومنها ما هو عام في السنة، وهو الوقوف بعرفة، لأجل التواصل وهو الإحسان والتعطف والرعاية، ولأجل نظافة القلوب و(التوادد) وهو التحاب، ولأجل معرفة أحوال بعضهم لبعض، فيقومون بعيادة المرضى، وتشييع الموتى، وإغاثة الملهوفين، وإغاضة العدو (وعدم التقاطع) عطف تفسير قال شيخ الإسلام: لأن المقصود بالصلاة الائتلاف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «لا تختلفوا فتخلتف قلوبكم» اهـ ومن فوائد الجماعة قيام نظام الألفة، وتعلم الجاهل من العالم، وعموم البركة، ومضاعفة الثواب، وزيادة العمل، عند مشاهدة أولى الجد، وغير ذلك من الحكم في مشروعيتها، وحقيقتها ربط صلاة المؤتم بصلاة الإمام.(3/243)
(تلزم الرجال) الأحرار القادرين(1) ولو سفرا، في شدة خوف(2) (للصلوات الخمس) المؤداة وجوب عين(3).
__________
(1) أخرج المميزين، والنساء، والخناثى، والعبيد، والمبغضين، وذوي الأعذار.
(2) أو غيره، لقوله تعالى: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } الآية لأنها نزلت في صلاة الخوف، والغالب كون الخوف في السفر.
(3) أي متعين ثابت على الرجال، كل منهم بعينه، حضرا وسفرا، وبرهان ذلك الكتاب والسنة والآثار والاعتبار، وعمل المسلمين قرنا بعد قرن، خلفا عن سلف، وموجب عمارة المساجد، وفرض النداء وغير ذلك، قال في الإقناع وشرحه: يقاتل تاركها أي الجماعة، لحديث أبي هريرة المتفق عليه، وروى الإمام أحمد في مسنده «ما من ثلاثة في قرية، لا يؤذن ولا تقام فيهم الجماعة، إلا استحوذ عليهم الشيطان»، ومن قال من الأئمة إنها سنة، فمؤكدة لتصريحهم بتأثيم تاركها، وسقوط عدالته وتعزيره، وأنه لا رخصة في تركها إلا لعذر، للأخبار، فوافقونا معنى، بل صرح بعضهم بأنها سنة مؤكدة، وأنهم أرادوا بالتأكيد الوجوب، أخذا بالأخبار الواردة بالوعيد الشديد على تركها.
وقال النووي وطوائف: الجماعة مأمور بها، للأحاديث الصحيحة المشهورة، وإجماع المسلمين وذكر الوجه الثالث أنها فرض عين، وأنه قول للشافعي، واثنين من كبار أصحابه المتمكنين في الفقه، أبي بكر بن خزيمة، وابن المنذر بل وليس لهم دليل مقاوم أدلة وجوبها، وقال الشافعي: أما الجماعة فلا أرخص في تركها إلا من عذر، ذكره المزني، وقوله: المؤداة، أخرج المقضيات من الخمس، والمنذورة، والكسوف ونحوها، وفي قصة الخندق، ونومهم استحباب قضاء الفوائت جماعة، وهو قول أكثر أهل العلم.(3/244)
لقول تعالى: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } الآية(1) فأمر بالجماعة حال الخوف، ففي غيره أولى(2) ولحديث أبي هريرة المتفق عليه «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر(3).
__________
(1) أي إذا صليت بهم إماما، في صلاة الخوف، وذكر حالة الاجتماع والائتمام بإمام واحد، قال ابن كثير: وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة، فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك.
(2) قال الشيخ: فإن الجماعة يعني في صلاة الخوف، يترك لها أكثر واجبات الصلاة فلولا وجوبها لم يؤمر بترك الواجبات لها اهـ، فأمر بالجماعة أولا، ثم أمر بها ثانيا، ولم يرخص لهم حال الخوف، فلو كانت سنة لكان أولى الأعذار بسقوطها: عذر الخوف، ولو كانت فرض كفاية لسقطت بفعل الطائفة الأولى، فدلت على وجوبها على الأعيان، ولقوله: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * } فالسياق يدل على اختصاص الركوع بذلك وخص الركوع لأنه تدرك به الصلاة وقوله: { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وقوله: { وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ * } قال ابن عباس: هو قول المؤذن: حي على الصلاة، وكذلك الجمع بين الصلاتين في المطر، لأجل تحصيل الجماعة، مع أن إحدى الصلاتين قد وقعت خارج الوقت، والوقت واجب، فلو لم تكن الجماعة واجبة لما ترك لها الوقت الواجب.
(3) لأنهما وقت السكون والراحة، ولذة النوم، وليس لهم داع ديني، ولا تصديق بالأجر، ولأنهما في ظلمة، وداعي الرياء منتفٍ، فانتفى الباعث، وهي ثقيلة عليهم، قال تعالى: { وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى } .(3/245)
ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا(1)، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس(2) ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار(3)
__________
(1) أي لو يعلمون ما فيهما من مزيد الفضل، لأتوا المحل الذي يصليان فيه جماعة ولو زحفا، إذا منعهم مانع من المشي، ولابن أبي شيبة على الموافق والراكب.
(2) وفي الصحيحين «والذي نفسي بيده لقد هممت»، والهم العزم أن آمر من الأمر ضد النهي بالصلاة فتقام، من الإقامة وهو الكلمات المخصوصة.
(3) انطلق أي أذهب، وحزم بضم الحاء، وروي كسرها جمع حزمة أي حملة من أعواد الحطب لا يشهدون أي لا يحضرون، وأحرق بتشديد الراء، وروي تخفيفها، لغتان فبين في هذا الحديث أنه إنما منعه من تحريق المتخلفين عن الجماعة من في البيوت من النساء والذراري الذين لا تجب عليهم الجماعة ولابن ماجه «لينتهين رجال عن تركهم الجماعات، أو لأحرقن بيوتهم» قال الحافظ: هذا الحديث ظاهر في كونها فرض عين، لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكون الشيء واجبا لا ينافي كونه فضيلة وفي صحيح مسلم أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: «هل تسمع النداء؟» قال: نعم، قال: «فأجب».
قال شيخ الإسلام وهذا نص في إيجاب الجماعة، ولقوله: «فليؤمكما أكبركما»، ولمسلم «إذا كانوا ثلاثة، فليؤمهم أحدهم». وهو أمر ظاهر الوجوب وقوله «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» واضح وقد وثقه عبد الحق وغيره. وفي السنن
«من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر، فلا صلاة له» قال الشيخ: هذا يقتضي أن
النداء والصلاة في جماعة من الواجبات وقال صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لفرد خلف الصف».
قال ابن القيم: فكيف بمن كان فردا في الجماعة والصفوف، ولمسلم وغيره عن ابن مسعود قال: من سره أن يلقي الله غدا مسلما، فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنَّ الله شرع لنبيه سنن الهدى وإنَّ هذه الصلوات الخمس في المساجد التي ينادي بهن، من سنن الهدي، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق، معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف، وهذا دليل على استقرار، وجوبها عند المؤمنين، ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن كل أمر لا يتخلف عنه إلا منافق، يكون واجبا على الأعيان.
قال الشيخ: وهو المشهور عن أحمد وغيره، من أئمة السلف، وفقهاء الحديث، وغيرهم بل وإجماع الصحابة، ولأحمد وغيره مرفوعا «الجفا كل الجفا، والكفر والنفاق، من سمع منادي الله ينادي إلى الصلاة فلا يجيبه» وثبت حديث «يد الله على الجماعة، فمن شذ شذ في النار»، وسئل ابن عباس عن رجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ولا يحضر الجماعة، فقال: هو في النار، وهذا له حكم الرفع، قال الشيخ: وقد اتبع الإمام أحمد ما دل عليه الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، من وجوب الجماعة مع عدم العذر، وسقوطها بالعذر.(3/246)
».
(لا شرط) أي ليست الجماعة شرطًا لصحة الصلاة(1).
__________
(1) وإنما هي واجبة: لحديث فضل صلاة الجماعة، وعدم إنكاره على اللذين صليا في رحالهما، وعنه: أن الجماعة شرط لصحة الصلاة، اختاره ابن عقيل، وابن أبي موسى، والشيخ وغيرهم، وعن ابن عباس مرفوعا: «من سمع النداء فلم يمنع من اتباعه عذر، لم يقبل الله منه الصلاة التي صلاها» رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان وغيرهم، ورواه ابن أصبغ بسند جيد بلفظ، «من سمع النداء فلم يجب
فلا صلاة له إلا من عذر»، وروي عن غير واحد من الصحابة، منهم ابن مسعود وأبو موسى قالوا: من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر، فلا صلاة له، قال الشيخ: وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد، والقول الثاني تصح مع إثمه بالترك، وهو المأثور عن أحمد، وقول أكثر أصحابه، وشرط بالتنوين مرفوع عطف على مقدر، أي الجماعة لازمة، أو فرض عين، لا شرط ولا نافية عاطفة.(3/247)
فتصح صلاة المنفرد بلا عذر(1)، وفي صلاته فضل(2).
__________
(1) مع الإثم، ولا ينقص أجره مع العذر، قال الشارح: لا نعلم من أوجب الإعادة على من صلى وحده، إلا ما روي عن بعض الصحابة أن من صلى وحده من غير عذر فلا صلاة له، وقال شيخ الإسلام: الوقت لا يمكن تلافيه، فإذا فات لم يمكن فعل الصلاة فيه، ونظيره من فوت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها، وليس هناك جماعة أخرى، فإنه يصلي منفردا، وتصح صلاته هنا مع الإثم، لعدم إمكان صلاته جماعة.
(2) لحديث ابن عمر وغيره لأنه يلزم من ثبوت النسبة بينهما بجزء معلوم ثبوت الأجر فيهما، ولا ينقص أجره مع العذر، واختاره أبو الخطاب والشيخ فيمن عادته الصلاة في الجماعة، لا من عادته الانفراد لما في الصحيح، «إذا مرض العبد أو سافر، كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا»، قال الشيخ: وهذه قاعدة الشريعة أن من كان عازما على الفعل عزما جازما، وفعل ما يقدر عليه منه، كان بمنزلة الفاعل، ولأبي داود «فإذا صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها، بلغت خمسين صلاة» حديث حسن، وجاء أنه يصلي خلفه من الملائكة خلق كثير ولا شك أنه في الفلاة لعذر، وقصد صحيح، واختصاصه بهذه المزية لما في السفر من الخلوة والمشقة ونحوهما، والإقبال مع ذلك على الصلاة أمر لا يناله إلا أهل الإخلاص، ولا يقتضي هذا ونحوه أن يكون نفس عمله مثل عمل من صلاها في جماعة، ولا أن من لم تكن عادته الصلاة في جماعة، وصلى وحده للعذر يكون له
كمن عادته الصلاة في الجماعة، اللهم إلا أن يتوب حال العذر، فإن أجره يكمل.(3/248)
وصلاة الجماعة أفضل بسبع وعشرين درجة، لحديث ابن عمر المتفق عليه(1) وتنعقد باثنين، ولو بأنثى وعبد(2) في غير جمعة وعيد(3) لا بصبي في فرض(4) (ولو فعلها) أي الجماعة (في بيته) لعموم حديث جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا(5)
__________
(1) ولفظه «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» وفيهما أيضا بخمس وعشرين وأنكر شيخ الإسلام حمله على غير المعذور وقال: التفضيل لصلاة الجماعة على صلاة الفرد إنما دل على فضل هذه الصلاة، على هذه الصلاة، فمراد الشارع المعذور الذي يباح له الصلاة وحده.
(2) والإمام رجل أو أنثى، أو عبد والإمام حر أو عبد أو مبعض، فإن أم عبده أو زوجته كانوا جماعة، لأن الجماعة مأخوذة من الاجتماع، والاثنان أقل ما يتحقق به الجمع، ولما روى ابن ماجه والبغوي من حديث أبي موسى مرفوعا «الاثنان فما فوقهما جماعة» وضعفه السيوطي، ولحديث «من يتصدق على هذا؟» فقام رجل، فصلى معه، فقال: «هذان جماعة» رواه أحمد وغيره، ولقوله لمالك بن الحويرث «وليؤمكما أكبركما»، ولصلاته بابن عباس عن يمينه، وغيرها، قال الوزير وغيره: أجمعوا على أن أقل الجمع الذي تنعقد به صلاة الجماعة في الفرض غير الجمعة اثنان، إمام ومأموم قائم عن يمينه، وحكاه البغوي إجماع المسلمين.
(3) متعلق بتنعقد، يعني والإمام حر أو عبد، لاشتراط العدد فيهما، على ما يأتي.
(4) والإمام بالغ، لأنه لا يصلح إمام في الفرض، ويصح في النفل، لأنه عليه الصلاة والسلام أمَّ ابن عباس وهو صبي، رواه الجماعة، وعنه: يصح في الفرض كالنفل، للأخبار ويأتي.
(5) متفق عليه، وفي لفظ «فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فعنده مسجده
وطهوره فمن أقامها في بيته خرج من العهدة، وفاتته الفضيلة»، وكذا في صحراء على الصحيح من المذهب، وعنه: ليس له فعلها في بيته، قدمه في الحاوي وغيره، وأن حضور المسجد واجب على القريب منه، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وعن علي مثله وزاد وجار المسجد من أسمعه المنادي، رواه البيهقي بإسناد جيد، وقال ابن عباس في قوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ) من سمع النداء بالصلاة، ثم لم يجب، ولم يأت المسجد ويصلي فيه، فلا صلاة له، وقد عصى الله ورسوله، وله شواهد كثيرة، ولحديث الأعمى وغيره، وعموم الحديث الذي استدلوا به ضعيف، بل لا يدل هنا، لمخالفة النصوص، ومقصود الشارع بالجماعة.
قال ابن القيم: ومن تأمل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان، إلا لعارض، يجوز معه ترك الجماعة، فترك حضور المسجد لغير عذر، كترك أصل لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار، وسئل الحلواني الحنفي عمن يجمع بأهله أحيانا هل ينال ثواب الجماعة؟ فقال: لا، ويكون بدعة ومكروها بلا عذر اهـ، ولأنه تعطيل للمساجد، وقد علم من الدين ضرورة أن الله شرع الصلوات الخمس في المساجد واعتنى بإحيائها، كما قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } وقال: { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وغير ذلك من نصوص الكتاب والسنة، وما هو سبيل سلف الأمة وخلفها، وكل ما تقدم من الأدلة على وجوبها، فهي صريحة في وجوب إتيان المساجد لها.
وقال شيخ الإسلام: لا ينبغي له أن يترك حضور المسجد إلا لعذر، كما دلت على ذلك السنن والآثار، والصلاة في المساجد من أكبر شعائر الدين وعلاماته، وفي تركها بالكلية أو في المساجد محو آثار الصلاة بحيث أنه يفضي إلى تركها
ولو كان الواجب فعل الجماعة، لما جاز الجمع للمطر ونحوه، وترك الشرط، وهو الوقت لأجل السنة، ومن تأمل الشرع المطهر، علم أن إتيان المسجد لها فرض عين إلا لعذر.(3/249)
.
وفعلها في المسجد هو السنة(1) وتسن لنساء منفردات عن رجال(2).
__________
(1) بلا ريب، وهو مذهب مالك وأبو حنيفة، لإظهار شعائر الإسلام، وما شرعت عمارة المساجد إلا لذلك، ولا يجوز ما يؤدي إلى هجرانها، وعنه: واجبة على القريب منه، جزم به وقدمه غير واحد، وتقدم حديث: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وأما من كان ذهابه إلى المسجد يؤدي إلى انفراد أهله، فيتوجه إقامتها في بيته، ولو كان فعلها في المسجد في جماعة، أقل منهم في بيته، كان المسجد أفضل، وإن كان ذهابه إلى المسجد يؤدي إلى فعلها فذا، وفي البيت يؤدي إلى فعلها جماعة، تعين فعلها في بيته، تحصيلا للواجب، ما لم يكن في ذلك حيلة إلى تعطيل المساجد، قال الشيخ: وصلاته مع الراتب ولو ركعة، خير من صلاته في بيته ولو جماعة.
(2) إذا اجتمعن، على الصحيح من المذهب، وعليه جمهور الأصحاب، وهو مذهب الشافعي، سواء كانت إمامتهن منهن، أو لا، لفعل عائشة، وأم سلمة، رواهما البيهقي وغيره، بإسنادين صحيحين، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تجعل لهما مؤذنا، وأمرها أن تؤم أهل دارها، رواه أحمد وأهل السنن، ولأنهن من أهل الفرض، أشبهن الرجال فيدخلن في عموم «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، بسبع وعشرين درجة» قال ابن القيم: لو لم يكن في المسألة إلا عموم قوله: «تفضل صلاة الجماعة» الحديث لكفى اهـ ولا تجب عليهن، فإن الشارع لم يسو بينهم في الجماعة، وكذا الجمعة، بل خص وجوبهما بالرجال، دون النساء، لأنهن لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال، ويباح لهن الحضور تفلات غير مطيبات بإذن أزواجهن، لحضورهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.(3/250)
ويكره لحسناء حضورها مع رجال(1) ويباح لغيرها(2) ومجالس الوعظ كذلك وأولى(3) (وتستحب صلاة أهل الثغر) أي موضع المخافة (في مسجد واحد) لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة(4) (والأفضل لغيرهم) أي غير أهل الثغر الصلاة (في المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره)(5).
__________
(1) خشية الافتتان، إما أن علم أو ظن فيحرم، قال الوزير: اتفقوا على أنه يكره للشواب منهن حضور جماعات الرجال.
(2) أي ويباح لغير حسناء، كعجوز لا حسن لها، حضورها مع الرجال، تفلة غير مطيبة، بإذن زوجها، وبيتها خير لها بلا نزاع، للخبر، وقال الوزير: والذي أرى حضورهن الجماعات، وأنهن يكن في أواخر الصفوف من الرجال، على ما جاءت به الأحاديث، ومضى عليه زمان المصطفى صلى الله عليه وسلم والصدر الأول، وأنه غير مكروه بل مسنون.
(3) أي يسن حضورهن، مجالس الوعظ، منفردات عن الرجال، ويكره لحسناء حضورها ويباح لغيرها وهو أولى من حضورهن للجماعة، لحديث أم عطية فإن فيه الترغيب في حضورهن مجالس الذكر، للتفقه، ونيل البركة.
(4) قال في الإنصاف: بلا نزاع أعلمه، فإنه إذا جاءهم خبر عن عدوهم، سمعه جميعهم، وإن جاءهم عين للكفار، رأى كثرتهم، قال الأوزاعي: لو كان الأمر إلي لسمرت أبواب المساجد التي للثغور، ليجتمع الناس في مسجد واحد، وأصل الثغر الكسر والهدم، والفتح في الشيء، ينفذ منه إلى ما وراءه، وثغرت الجدار هدمته ومنه قيل للموضع الذي تخاف أن يأتيك العدو منه ثغر، لانثلامه وإمكان دخول العدو منه، وفي النهاية، هو الموضع الذي يكون حدا فاصلا بين بلاد المسلمين والكفار.
(5) إجماعا.(3/251)
لأنه يحصل بذلك ثواب عمارة المسجد(1) وتحصيل الجماعة لمن يصلي فيه(2) (ثم ما كان أكثر جماعة)(3) ذكره في الكافي والمقنع وغيرهما(4) وفي الشرح أنه الأولى(5) لحديث أبي بن كعب: «وما كان أكثر جماعة فهو أحب إلى الله تعالى» رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان(6).
__________
(1) يعني بإقامة الجماعة فيه لقوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ } الآية.
(2) وذلك معدوم في غيره، أو تقام فيه الجماعة بدون حضوره، لكن في قصده لغيره كسر قلب إمامه، أو جماعته فجبر قلوبهم أولى، قاله جمع، منهم الموفق والشارح وابن حمدان وغيرهم.
(3) أي فهو أفضل لأنه أعظم أجرا.
(4) وابن منجا والمنتخب والخلاصة وغيرها، وقطع به في المغني، وصححه ابن تميم، واستظهره في الرعاية الصغرى، وقدمه في النظم وغيره.
(5) قال: لما ذكرنا من الحديث: «يعني صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر، فهو أحب إلى الله».
(6) وابن معين والذهلي وغيرهم، وأوله تقدم، ففيه أن ما كثر جمعه فهو أفضل، لما في الاجتماع من نزول الرحمة والسكينة، وغير ذلك، وقال القرافي: لا نزاع أن الصلاة مع الصلحاء والعلماء والكثير من أهل الخير أفضل من غيرهم، لشمول الدعاء، وسرعة الإجابة، وكثرة الرحمة، وقبول الشفاعة اهـ، وفي قوله تعالى: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين المحافظين على الإسباغ، والتنزه من القاذورات، والمقدار المذكور في صلاة الجماعة لا ينافي الزيادة في الفضل.(3/252)
(ثم المسجد العتيق)(1) لأن الطاعة فيه أسبق(2) قال في المبدع: والمذهب أنه مقدم على الأكثر جماعة(3) قال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أن المسجد العتيق أفضل من الأكثر جماعة، وجزم به في الإقناع والمنتهى(4) (وأبعد) المسجدين (أولى من أقربـ)ـهما إذا كانا حديثين أو قديمين(5) اختلفا في كثرة الجمع أو قلته أو استويا(6) لقوله صلى الله عليه وسلم «أعظم الناس أجرا في الصلاة، أبعدهم فأبعدهم
ممشى» رواه الشيخان(7)
__________
(1) يعني أفضل من الجديد مع الاستواء في الكثرة، على ما ذكره الماتن.
(2) والعبادة فيه أكثر، وذكر أبو الخطاب أنها فيها أفضل، وإن قل الجمع اهـ لا سيما إذا كان مؤسسا على التقوى.
(3) وقدمه في الفروع، والرعايتين وغيرها.
(4) يعني بتقديم العتيق على الأكثر جماعة، وجزم به في الهدايا والمحرر والمنور وغيرهم.
(5) لتكثر خطاه في طلب الثواب، فتكثر حسناته.
(6) أي لا التفات إلا إلى التساوي في التجدد والقدم، وأما الكثرة والقلة فلا تبعا للمنتهى ولفظ الإقناع وشرحه: ثم إن استويا فيما تقدم يعني العتيق ثم الأكثر جماعة فالصلاة في المسجد الأبعد أفضل.
(7) ولهما بعد ذكر التفضيل: «وذلك بأن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء، وأتى المسجد لا يزيد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفع بها درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد»، فظهر الفضل، لكثرة حسناته، بكثرة خطاه، ولقوله: «يا بني سلمة دياركم، تكتب آثاركم»، وعنه الأقرب أولى، وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، لأن له جوارا فكان أحق بصلاته، ولقوله: «لا صلاة لجار المسجد في المسجد» ولما في تخطيه إلى غيره من إثارة الوحشة في جيرانه الأقربين إليه.
وقال ابن بشير المالكي: لا يجوز تعدي المسجد المجاور إلى غيره، إلا لجرحه إمامه، ومن حديث بقية: «ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه، ولا يتخطاه إلى غيره»، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه، وقال ابن القيم: نهى الرجل أن يتخطى المسجد الذي يليه، إلى غيره، لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه، وإيحاش صدر الإمام، وإن كان الإمام لا يتم الصلاة، أو يرمي ببدعة، أو يعلن بالفجور فلا بأس بتخطيه إلى غيره.(3/253)
وتقدم الجماعة مطلقا على أول الوقت(1) (ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب، إلا بإذنه أو عذره)(2).
__________
(1) يعني سواء سن تعجيل تلك الصلاة أو لا، كثرت الجماعة أو قلت، ذكره الموفق وغيره، وقال في الفروع: ذكره في كتب الخلاف وغيرهم اهـ لأنها واجبة، وأول الوقت سنة ولا تعارض بين واجب ومسنون، وفضيلة أول الوقت أفضل من انتظار كثرة الجمع، مشى عليه في الإقناع، وصوبه في الإنصاف، وقال الشيخ: ليس للإمام تأخير الصلاة عن الوقت المستحب، وبعد حضور أكثر الجماعة منتظرا لأحد بل ينهى عن ذلك إذا شق، ويجب عليه رعاية المأمومين.
(2) يعني الراتب، صرح به في الفروع، وأبو الخطاب والسامري وغيرهم
والراتب هو الثابت الدائم من رتب الشيء رتوبا، من باب قعد، استقر ودام، فهو راتب أي ثابت دائم.(3/254)
لأن الراتب كصاحب البيت، وهو أحق بها(1) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن الرجل في بيته إلا بإذنه»(2) ولأنه يؤدي إلى التنفير عنه(3) ومع الإذن هو نائب عنه(4) قال في التنقيح: وظاهر كلامهم لا تصح(5) وجزم به في المنتهى(6) وقدم في الرعاية: تصح(7).
__________
(1) أي الإمامة وصاحب البيت الملازم، ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن، وهو الأصل والأكثر، أو بالعناية ولا يقال في العرف إلا لمن كثرت ملازمته.
(2) رواه أبو داود وغيره، وفي صحيح مسلم وغيره، «ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه» قال النووي: معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره وعن ابن مسعود: من السنة أن يتقدم صاحب البيت، فإمام المسجد الراتب أولى ولأخبار: «من زار قوما فلا يؤمهم» وعمومات أخر.
(3) أي التفريق والإعراض، قال أحمد: ليس لهم ذلك، وتبطل فائدة اختصاصه بالتقدم.
(4) فيباح للمأذون له في الإمامة أن يؤم، وتصح بلا نزاع.
(5) يعني إن أم قبل إمامه الراتب، وقاله في الفروع والمبدع والإقناع وغيرها.
(6) ولفظه: فتحرم.
(7) أي مع الكراهة: قال القاضي في الخلاف: قد كره أحمد ذلك.(3/255)
وجزم به ابن عبد القوي في الجنائز(1) وأما مع عذره فإن تأخر وضاق الوقت صلوا، لفعل الصديق رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عوف، حين غاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنتم»(2) ويراسل إن غاب عن وقته المعتاد، مع قرب محله، وعدم مشقة(3)، وإن بعد محله، أو لم يظن حضوره(4) أو ظن ولا يكره ذلك صلوا(5).
__________
(1) في كتاب (عقد الفرائد) له، المعروف بالنظم، على روي الدال.
(2) يعني في صلاتهما بالناس، لما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، صلى أبو بكر الصديق بأمره صلى الله عليه وسلم إن حضرت الصلاة، والقصة في الصحيحين وعبد الرحمن بن عوف لما تخلف صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وصلى معه النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأخيرة، ثم أتم صلاته، قال: «أحسنتم وأصبتم»، يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها، متفق عليه.
(3) في الذهاب إليه، وسعة الوقت، ولا يجوز أن يتقدم غيره قبل ذلك.
(4) صلوا سواء عرف عذره أو لا، لما تقدم من صلاة أبي بكر وعبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنهما.
(5) أي أو ظن حضوره، والمعروف عنه أنه لا يكره، بفتح الياء أن يصلي غيره صلوا جماعة علموا عذره أولا، لأنهم معذورون، وقد أسقط حقه بالتأخير، ولأن تأخره عن وقته المعتاد يغلب على الظن وجود عذر له، ولا يحرم أن يؤم بعده، لكن قال في الإقناع، ويتوجه إلا لمن يعادي الإمام، ويؤخذ من مجيء بلال إلى أبي بكر ليصلي بالناس أن للمؤذن وغيره أن يعرض التقدم على الفاضل، وأن الفاضل يوافقه، بعد أن يعلم أن ذلك برضا الجماعة.(3/256)
(ومن صلى) ولو في جماعة (ثم أقيم) أي أقام المؤذن لـ (فرض سن) له (أن يعيدها)(1) إذا كان في المسجد(2) أو جاء غير وقت نهي، ولم يقصد الإعادة(3) ولا فرق بين إعادتها مع إمام الحي أو غيره، لحديث أبي ذر، «صل الصلاة لوقتها، فإن أُقيمت وأنت في المسجد فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي» رواه أحمد ومسلم(4).
__________
(1) أي الفرض ثانيًا، مع الجماعة الثانية، سواء كان وقت نهي أو لا، حيث كان الشروع في الإقامة وهو في المسجد على ما تقدم، ولا يجب، وقيل يجب مع إمام الحي لظاهر الخبر، والأولى فرضه، والمعادة نفل لقوله: «فإنها لكما نافلة» وغيره، قال شيخ الإسلام، على الصحيح.
(2) للخبر على ما يأتي من التفصيل، وقال الشيخ:إقامة الجماعة وهو في المسجد سبب، فيعيدها.
(3) يعني أو جاء بعد الإقامة، وقبل الصلاة، إذا لم يكن وقت نهي، ولم يقصد الإعادة، والأول: شرط لصحة الإعادة وسنيتها، والثاني: لسنيتها فقط، فإن جاء وكان وقت نهي، أو قصد الإعادة فلا يعيدها، وظاهر خبر يزيد سنية الإعادة مطلقًا، فإنه لم يستثن صلاة دون صلاة، وأما قصد الإعادة فمنهي عنه، إذ لو كان مشروعًا لأمكن أن تصلى الصلاة الواحدة مرات، قال الشيخ: وهذا لا ريب في كراهته، ولأنه غير مشروع تتبع المساجد للإعادة.
(4) ونحوه حديث الرجلين اللذين دخلا مسجد الخيف بمنى، وأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، فسبب الإعادة حضور الجماعة، ولئلا يكون قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به، وأنه ليس من المصلين، ويأتي أنه لا يعيدها بلا سبب، لحديث ابن عمر «لا تعاد الصلاة مرتين».(3/257)
(إلا المغرب) فلا تسن إعادتها ولو كان صلاها وحده، لأن المعادة تطوع، والتطوع لا يكون بوتر(1)، ولا تكره إعادة الجماعة في مسجد له إمام راتب كغيره(2) وكره قصد مسجد للإعادة(3) (ولا تكره إعادة جماعة في غير مسجدي مكة والمدينة)(4).
__________
(1) ولفظ المقنع: إلا المغرب، فإنه يعيدها ويشفعها، وقدم في المغني والشرح: يعيدها وصححه ابن عقيل وابن حمدان، للعموم قال في الفائق: وهو المختار، وروي عن حذيفة أنه أعادها، رواه الأثرم، قال شيخنا: وهو الراجح في النظر والبديل.
(2) أي كما لا تكره الجماعة الثانية والثالثة في مسجد ليس له إمام راتب بالإجماع وعنه: تكره فيما إذا كان له إمام راتب، وليس مطروقا، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي، لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب، والتهاون بها مع الإمام، وعلى المذهب، فإذا صلى إمام الحي، ثم حضر جماعة أخرى استحب لهم أن يصلوها جماعة، لعموم أحاديث التفضيل، وقوله: «من يتصدق على هذا فيصلي معه»، وما ذكره الأصحاب من قولهم: لا يكره أو يستحب إعادة الجماعة فهو مع المخالف، فلا ينافي ما تقدم من وجوب الجماعة، أو يقال: هو على ظاهره ليصلوا في غير المسجد الذي أقيمت فيه الجماعة، أشار إليه في الإنصاف، قال شيخ الإسلام: ولا يعيد الصلاة من بالمسجد وغيره بلا سبب، وهو ظاهر كلام أصحابنا وليس للإمام إعادة الصلاة مرتين، وجعل الثانية عن فائتة أو غيرها، والأئمة متفقون على أنه بدعة لا لعذر مثل صلاة خوف ونحوه.
(3) زاد بعضهم: ولو صلى وحده، ولا يكره قصد المسجد لقصد الجماعة.
(4) فقط، وفاقًا، فالمسجد الأقصى كسائر المساجد، وعنه: والمسجد الأقصى ومعنى إعادة الجماعة أنه إذا صلى الإمام الراتب ثم حضر جماعة، فإنه يستحب أنهم يصلون جماعة، وهذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب، وذكره بعضهم رواية واحدة، وكمساجد الأسواق وكالمساجد في ممر الناس.(3/258)
ولا فيهما لعذر(1) وتكره فيهما لغير عذر(2) لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الإمام الراتب(3).
(وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا(4)
__________
(1) كنوم ونحوه عن الجماعة، فلا يكره إذا لمن فاتته إعادتها بالمسجدين لقوله: «من يتصدق على هذا؟» ولأن إقامتها إذًا أحق من تركها، ولظاهر خبر أبي سعيد وأبي أمامة.
(2) إذا أمكنهم الصلاة في جماعة أخرى.
(3) علله أحمد بأنه أرغب في توقير الجماعة، وعنه: لا تكره فيهن، اختاره الموفق وغيره، وعنه يستحب، اختاره في المغني والشرح، وهو ظاهر الخبر، قال الشيخ: ومن أدرك جماعة في الأثناء وبعدها أخرى فهي أفضل، لأن إدراك الجماعة من أولها أفضل، إلا أن تتميز الأولى بكثرة، أو فضل إمام، أو كونها راتبة، ولا ريب أن صلاته مع الإمام الراتب في المسجد جماعة ولو ركعة، خير من صلاته في بينه، ولو كان جماعة.
(4) وفي رواية «فلا صلاة إلا التي أقيمت»:
أي إذا شرع المؤذن في إقامة الصلاة، لما في بعض ألفاظ الحديث «إذا أخذ المؤذن في الإقامة فلا صلاة إلا المكتوبة»، وفي رواية لابن عدي وغيره،
قيل: يا رسول الله ولا ركعتي الفجر، قال: «ولا ركعتي الفجر»، فلا
يشرع في نفل مطلقًا، ولا راتبة من سنة فجر، أو غيرها، في المسجد أو غيره، إذا أقيمت الصلاة، ولو بينته لعموم الخبر، قال الشيخ: وقد اتفق العلماء
على أنه لا يشتغل عنها بتحية المسجد، ولكن تنازعوا في سنة الفجر،
والصواب أنه إذا سمع الإقامة فلا يصلي السنة، لا في بيته، ولا في غير بيته ونقل
أبو طالب: إذا سمع الإقامة وهو في بيته، فلا يصلي ركعتي الفجر ببيته ولا بالمسجد، وفي الصحيحين: أنه رأى رجلاً -وقد أقيمت الصلاة- يصلي ركعتين فلما انصرف لاث به الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: «الصبح أربعًا، الصبح أربعا؟» وفيهما أنه قال: «يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعًا» ولمسلم «بأي الصلاتين اعتددت؟ بصلاتك وحدك، أم بصلاتك معنا؟».(3/259)
.
وكان عمر يضرب على الصلاة بعد الإقامة(1) فلا تنعقد النافلة بعد إقامة الفريضة التي يريد أن يفعلها مع ذلك الإمام الذي أقيمت له(2) ويصح قضاء الفائتة بل يجب مع سعة الوقت(3) ولا يسقط الترتيب بخشية فوات الجماعة(4).
__________
(1) وصح عن ابنه أنه كان يحصب من يشتغل في المسجد بعد الشروع في الإقامة، قال النووي: والحكمة أن يتفرغ للفريضة من أولها، فيشرع فيها عقب شروع الإمام، والمحافظة على مكملات الفريضة، أولى من التشاغل بالنافلة، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف على الأئمة، ولحصول تكبيرة الإحرام، ولا تحصل فضيلتها المنصوصة إلا بشهود تحريم الإمام.
(2) ولو جهل الإقامة، كما لو جهل وقت النهي، حيث كان الإحرام بعدها وإلا فالأصل الإباحة، فتنعقد، وإن لم يرد أن يفعلها مع ذلك الإمام انعقدت كما لو أقيمت بمسجد لا يريد الصلاة فيه، وتقدم النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر، فالإقامة أولى.
(3) وتقدمت الأدلة على وجوبها فورا.
(4) فلو أقيمت العصر مثلا، وكان عليه صلاة الظهر، صلى الظهر قبل العصر، وعنه: يصلي مع الجماعة العصر، ثم يصلي الظهر، قال الموفق، ولا يحتاج إلى إعادة
العصر، وأفتى شيخ الإسلام من فاتته صلاة العصر، فوجد المغرب قد أقيمت صلاها
مع الإمام، ثم يصلي العصر، وقال: باتفاق الأئمة، وهل يعيد المغرب؟ الصحيح لا يعيد فإن الله لم يوجب الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع.(3/260)
(فإن) أقيمت و(كان) يصلي (في نافلة أتمها) خفيفة(1) (إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها) لأن الفرض أهم(2) (ومن كبر) مأمومًا (قبل سلام إمامه) الأُولى (لحق الجماعة)(3) لأنه أدرك جزءًا من صلاة الإمام، فأشبه ما لو أدرك ركعة(4).
__________
(1) ولو كان خارج المسجد، ولو فاتته ركعة، لقوله تعالى: { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } ولا يزيد على ركعتين، فإن كان شرع في الثالثة أتمها أربعا، وإن سلم من ثلاث جاز، نص عليه فمثله واحدة، وقطع الصلاة يكون حرامًا، ومباحًا ومستحبًا، وواجبًا، فالحرام لغير عذر، والمباح إذا خاف فوت مال، والمستحب القطع للكمال، والواجب لإحياء نفس ونحوه.
(2) لفرضيته بأصل الشرع، ولأن وجوب إتمام النفل هنا يعارضه، و«يقطعها» بضم العين على الاستئناف.
(3) قال المجد: هذا إجماع من أهل العلم، وإن لم يجلس فيبني ولا يجدد إحراما، ومفهومه أنه لو أدركه بين التسليمتين لم يدركها ولو قلنا إنها ركن.
(4) ومعناه أصل فضل الجماعة، ولا حصولها فيما سبق به، فإنه منفرد به حسًا وحكمًا إجماعًا، واختار الشيخ وغيره أنه لا يدرك الجماعة إلا ركعة قال: إذا أدرك مع الإمام ركعة، فقد أدرك الجماعة وإن أدرك أقل من ركعة فله بنيته أجر الجماعة، ولا يعتدله به، وإنما يفعله متابعة للإمام، وإن قصد الجماعة، ووجدهم قد صلوا، كان له أجر من صلى في الجماعة، كما وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي السنن فيمن تطهر في بيته، ثم ذهب إلى المسجد، يدرك الجماعة فوجدها قد فاتت، أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة، وكما في الصحيح فيمن حبسهم
العذر عن الجهاد، وغير ذلك فالمعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح، إذا كانت نيته أن يفعل، وقد عمل ما يقدر عليه، ويستحب أن يصلي في جماعة أخرى إذا فاتته فإن لم يجد استحب لبعضهم أن يصلي معه، لقوله عليه الصلاة والسلام «من يتصدق على هذا فيصلي معه؟».(3/261)
(وإن لحقه) المسبوق (راكعًا دخل معه في الركعة)(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة» رواه أبو داود(2) فيدرك الركعة إذا اجتمع مع الإمام في الركوع بحيث ينتهي إلى قدر الأجزاء، قبل أن يزول الإمام عنه(3).
__________
(1) أي: وإن لحق المسبوق الإمام في الركوع، قبل رفع رأسه منه، دخل معه في تلك الركعة، ولا يضره سبقه بالقراءة، بخلاف التشهد فيتمه إذا سلم، لعدم وجوب القراءة عليه إجماعًا، حكاه جماعة منهم شيخ الإسلام، وعليه عمل الأمة من الصحابة والتابعين، لا يعرف عن السلف خلاف في ذلك.
(2) ولفظه «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة»، ولما في الصحيح من حديث أبي بكرة وكان ركع دون الصف، ولم يأمره بإعادة الركعة، فدل على الاجتزاء بها، ولأنه لم يفته من الأركان غير القيام، وهو يأتي به مع التكبيرة، ثم يدرك مع الإمام بقية الركعة.
(3) أي: عن قدر الأجزاء منه، وهو قدر ما يمس الوسط في الخلقة ركبتيه بيديه، وحكى ابن العربي وغيره الإجماع عليه، وقال الزين العراقي: مذاهب الأئمة الأربعة -وعليه الناس قديمًا وحديثًا- إدراك الركعة بإدراك الركوع، بأن يلتقي هو وإمامه في حد أقل الركوع، حين لو كان في الهوى والإمام في الارتفاع، وقد بلغ هويه حد أقل الركوع قبل أن يرفع الإمام عنه وإن لم يلتقيا فيه فلا.(3/262)
ويأتي بالتكبيرة كلها قائمًا كما تقدم(1) ولو لم يطمئن ثم يطمئن ويتابع(2) (وأجزأته التحريمة) عن تكبيرة الركوع(3) والأفضل أن يأتي بتكبيرتين(4) فإن نواهما بتكبيرة(5) أو نوى به الركوع لم يجزئه لأن تكبيرة الإحرام ركن، ولم يأت بها(6).
__________
(1) يعني في باب صفة الصلاة، فإن لم يأت بها قائمًا انقلبت نفلاً على الأصح مع سعة الوقت، وقد تقدم أن القيام مع القدرة ركن في الفرض إجماعًا.
(2) فإذا أتى بها قائمًا، وأدركه بجزء، ولو لم يطمئن قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم يطمئن ويتابع إمامه، وإذا لم يدرك الركوع لم يحتسب له الركوع وهو مذهب جماهير العلماء، وإن شك هل أدركه راكعا أو لا؟ لم يعتد بها، وتقدم، وإن كبر والإمام في الركوع، ثم لم يركع حتى رفع الإمام لم يكن مدركًا له فيها.
(3) روي عن زيد وابن عمر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة، ولأنه اجتمع عبادتان من جنسٍ واحد، في محلٍ واحد، فأجزأ الركن عن الواجب كنظائره.
(4) خروجًا من خلاف من أوجبه، كابن عقيل وابن الجوزي، ولأنهما مشروعتان قال أحمد:إن كبر تكبيرتين ليس فيه اختلاف.
(5) أي نوى المدرك إمامه في الركوع تكبيرتي الإحرام، والركوع بتكبيرة واحدة لم تجزئه، لأنه شرك بين الواجب وغيره، وعنه تجزئه، اختاره في المغني والشرح والمحرر، وفاقًا لمالك وأبي حنيفة، لأن نية الركوع لا تنافي نية الافتتاح، لأنهما من جملة العبادة حسًا وحكمًا إجماعًا، قال ابن رجب: وهذا يدل على أن تكبيرة الركوع تجزئ في حال القيام.
(6) قال ابن رشد: لو كبر للركوع وهو ذاكر للإحرام متعمد لما أجزأته صلاته بالإجماع اهـ، وإن لم ينو بها شيئًا انعقدت فرضا، صححه النووي وغيره لأن قرينة الافتتاح تنصرف إليه، وكذا عند المالكية وغيرهم، يجزئ وإن لم ينوهما.(3/263)
ويستحب دخوله معه حيث أدركه(1) وينحط معه في غير ركوع بلا تكبير(2) ويقوم مسبوق به(3) وإن قام قبل سلام إمامه الثانية ولم يرجع انقلبت نفلا(4).
(ولا قراءة على مأموم) أي يتحمل الإمام عنه قراءة الفاتحة(5).
__________
(1) لما تقدم من حديث أبي هريرة وغيره، «إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئًا»، ويأتي بالتكبير في حال قيامه، لوجوب التكبير لكل انتقال يعتد به المصلي.
(2) نص عليه ولو ساجدًا، إن أدركه في السجود، لأنه ليس من مواضعه وقد فات محل التكبير، وعنه: ينحط معه بتكبير وفاقًا.
(3) أي بالتكبير، كالقائم من التشهد الأول، لأنه انتقال يعتد به، أشبه سائر الانتقالات.
(4) لتركه الواجب، بلا عذر يبيح المفارقة، ففسد فرضه بذلك، ذاكرًا أو ناسيًا، عامدًا أو جاهلاً، وهذا على القول بوجوب التسليمة الثانية في الفرض، وتقدم ومن لم يره لم تبطل في حقه، كالجاهل والناسي، وصحتها نفلاً مبني على أن التسليمة الثانية ليست ركنًا في النفل على المذهب.
(5) وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، قال في المبدع: وهو قول الأكثر، وقال ابن كثير: ولمشروعية التأمين على قراءة الإمام، فينزل بمنزلة قراءتها، فإن قوله: { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا } دال على أن هارون أمَّن على دعاء موسى، فنزل منزلة من دعا، فدل على أن من أمَّن على دعاء فكأنما قاله، وقال بلال: لا تسبقني بآمين، فدل على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية اهـ وكذا يتحمل عنه سجود السهو، وسجود التلاوة إذا لم يسجد، وسترة صلاة، ودعاء قنوت، حيث سمعه ويؤمن فقط، وكذا تشهد أول، وجلوس له إذا سبقه بركعة من رباعية، وتقدم أنه إذا سبقه بالقراءة وركع تبعه، بخلاف التشهد فيتمه، وقال ابن القيم: فإن قيل كيف يتحمل الجنب القراءة عن المأموم، وليس من أهل التحمل؟ قيل: لما كان معذورًا بنسيان حدثه نزل في حق المأموم منزلة الطاهر، فلا يعيد المأموم، وفي حق نفسه تلزمه الإعادة.(3/264)
لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام فقراءته له قراءة» رواه أحمد(1).
__________
(1) قال الشارح وغيره: بإسناد صحيح متصل، ورجاله كلهم ثقات، ورواه سعيد والدارقطني مرسلاً، قال الشيخ: وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة، وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومرسله من أكابرهم، ومثله يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وقال: ورواه ابن منيع، وعبد بن حميد، من طرق مرفوعة صحيحة، رفعه سفيان وشريك وجرير وأبو الزبير وغيرهم، ورواه مالك عن جابر موقوفا، انتهى. ولقوله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال أحمد: أجمعوا على أن هذه الآية في الصلاة، ولقوله: «وإذا قرأ فأنصتوا» فلو أن القراءة تجب على المأموم، لما أمر بتركها لسنة الاستماع، وثبت عن عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القراءة خلف الإمام، وحكي إجماعًا، ولعله سكوتي، فإنه لما ثبت عن عشرة، منهم الخلفاء، ولم يثبت رد أحد عليهم، عند توفر الصحابة، كان إجماعا.
وقال الشعبي: أدركت سبعين بدريًا كلهم يمنعون المأموم عن القراءة خلف الإمام، وفي الصحيح عن أبي هريرة مرفوعًا «مالي أنازع القرآن» قال: فانتهى الناس أن يقرءوا فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وقد توافرت الآثار فيه عن الصحابة والتابعين، وقال شيخ الإسلام: وإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة، فقد أمر أن يقرأ
على قوم لا يستمعون لقراءته، وهو سفه، تنزه عنه الشريعة، كمن يتكلم والإمام يخطب اهـ وإذا أخذت الأدلة من مواضع تفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق، لا ترجع إلى باب واحد، إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه، وتكاثرت على الناظر، عضد بعضها بعضا، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع.(3/265)
(ويستحب) للمأموم أن يقرأ (في إسرار إمامه) أي فيما لا يجهر فيه الإمام(1).
__________
(1) لما رواه أحمد وغيره في الذي قال: إني لا استطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني الحديث، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وجوب القراءة حالة السر فقط، قال: فإذا قرأ الإمام فأنصت، وإذا لم يجهر فاقرأ الحمد وسورة وهو نص حديث عبادة، وبه تجتمع الأدلة، بل دليل الخطاب مع الآية، وفي الأحاديث المشهورة من قوله: «فإذا قرأ فانصتوا» وقوله: «مالي أنازع القرآن» وحديث جابر الآتي وغيره، يدل على القراءة خلف الإمام حال إسراره، وما لم يسمعه، لبعد ونحوه، وأن قراءة المأموم كانت ثابتة في نفس الأمر، وقال شيخ الإسلام، يقرأ في أصح القولين، وهو قول أحمد وغيره، لأنه إما أن يكون مستمعًا وإلا قارئا وجميع الأذكار التي يشرع للإمام أن يقولها سرا، يشرع للمأموم أن يقولها سرا، ومعلوم أن القرآن أفضل من الذكر والدعاء، وجاء الأمر بذلك في الكتاب والسنة، والأمر متناول الإمام والمأموم والمنفرد، والسكوت بلا ذكر ولا قراءة ولا دعاء ليس عبادة، وقال النووي وغيره: لا يسكت في صلاته إلا في حال استماعه لقراءة إمامه، فلو سكت في قيامه، أو ركوعه أو سجوده أو قعوده يسيرا لم تبطل، فإن سكت طويلا لعذر، بأن نسي شيئا فسكت ليتذكره لم تبطل، وهو قول الجمهور، وإن سكت طويلا لغير عذر ففي بطلانها خلاف.(3/266)
(و) في (سكوته) أي سكتات الإمام(1) وهي قبل الفاتحة(2) وبعدها بقدرها(3)
__________
(1) فإن لم يكن له سكتات يتمكن فيها من القراءة كره له أن يقرأ نص عليه، لقوله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * } وتقدم أن ذلك في الصلاة إجماعا، ولقوله صلى الله عليه وسلم «وإذا قرأ فأنصتوا» وغير ذلك من عمومات الكتاب والسنة، الدالة على وجوب الإنصات والاستماع والإنصات السكوت، والاستماع الإصغاء، قال شيخ الإسلام: وهو إجماع الأمة فيما زاد على الفاتحة، وقول جماهير السلف فيها وغيرها، وقال: القراءة مع جهر الإمام منكر، مخالف للكتاب والسنة، وما عليه الصحابة، وقال في موضع آخر: القراءة حال الجهر منهي عنه بالكتاب والسنة، وعلى النهي عنه جمهور السلف والخلف، وفي بطلان الصلاة به نزاع، ويستحب أن يقرأ في حال سكوته، إذا سكت سكوته بليغا، ولم يستحب أحمد وجمهور أصحابه قراءته في سكتات الإمام إلا أن يسكت سكوتا بليغا، يسع الاستفتاح والقراءة، وذكر أن مما يبين حكمة سقوط القراءة عن المأموم أن الإنصات من تمام الائتمام فمن نازع إمامه لم يكن مؤتما.
(2) في الركعة الأولى فقط، للنصوص الصحيحة، الدالة على سكوته صلى الله عليه وسلم بعد التحريم للاستفتاح.
(3) أي وسكتات الإمام عندهم رحمهم الله ثلاث: الأولى قبل الفاتحة، وتقدم ثبوتها، والسكتة الثانية بعد الفاتحة بقدرها، وفاقا للشافعي، قال ابن القيم وغيره، قيل: لأنها لأجل قراءة المأموم فعلى هذا ينبغي تطويلها بقدر قراءة المأموم الفاتحة، وقال طائفة من السلف، ومالك وأصحاب الرأي مكروهة، وعنه لا يسكت مطلقا، وفاقا لأبي حنيفة ومالك، قال المجد والشيخ وغيرهما، هما سكتتان على سبيل الاستحباب، إحداهما تختص بأول ركعة للاستفتاح، والثانية سكتة يسيرة بعد القراءة كلها، ليتراد إليه نفسه، لا لقراءة الفاتحة خلفه، على ظاهر كلام الإمام أحمد
وقال أيضًا شيخ الإسلام: ولم نعلم نزاعا بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت ليقرأ المأموم الفاتحة، ولم يستحبه أحمد، ولا مالك، ولا أبو حنيفة، وكذا جماهير العلماء، لا يستحبون أن يسكت الإمام ليقرأ المأموم، لأن قراءة المأموم عندهم إذا جهر الإمام ليست بواجبة ولا مستحبة، بل منهي عنها، ومقتضى نصوص أحمد وأكثر أصحابه أن القراءة بغيرها أفضل، يعني لمن سمعها، فإنه لا يستحب أن يقرأ بها مع استماعه قراءتها، ولم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة، ولا عن الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية يقرءونها، ولو كان مشروعا لكانوا أحق الناس بعلمه، فعلم أنه بدعة والسكتتان اللتان جاءت بهما السنة، الأولى بعد التكبير للاستفتاح ثبت سكوته في ذلك في الصحيح وغيره، وفي السنن أنه كان له سكتتان سكتة في أول القراءة وسكتة بعد القراءة وهي لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة، ولم يقل أحد أنه كان له ثلاث سكتات فمن نقلها فقد قال قولاً لم ينقله أحد من المسلمين، والسكتة التي عند قوله: { وَلا الضَّالِّينَ } من جنس السكتات التي عند رءوس الآي، ومثل هذا لا يسمى سكوتا.(3/267)
.
بعد فراغه من القراءة(1)، وكذا لو سكت لتنفس(2).
(و) فيما إذا (لم يسمعه لبعد) عنه(3)
__________
(1) أي يستحب أن يقرأ بعد فراغ الإمام من القراءة، وقبل الركوع، وتقدم قول شيخ الإسلام وغيره أنه لم يستحب أحمد وجمهور أصحابه القراءة في سكتات الإمام إلا أن يسكت سكوتًا بليغًا، وهذه السكتة ليتراجع إلى الإمام نفسه، ولئلا يصل قراءته بتكبير الركوع.
(2) أي يستحب أن يقرأ إذا سكت الإمام لتنفس وقال شيخ الإسلام: ولم ينقل أحد من العلماء أنه يقرأ في مثل هذا، قال: وكان بعض من أدركنا من أصحابنا يقرأ، وهذا لم يقله أحد من العلماء.
(3) أي يسن أن يقرأ إذا لم يسمع إمامه لأجل بعده عنه، لحديث جابر: كنا نقرأ في الظهر والعصر، خلف الإمام، في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخريين بفاتحة الكتاب.
قال الترمذي: أكثر أهل العلم من الصحابة، والتابعين يرون القراءة خلف الإمام، وخروجًا من خلاف من أوجبه، ولعموم الأدلة وتقدم قول الشيخ: يقرأ في أصح القولين، وهو قول أحمد وغيره، وأن السكوت بلا قراءة ولا ذكر ولا دعاء ليس عبادة، وقال: ولو سمع همهمته، واستظهره في الفروع، وصوبه في الإنصاف.(3/268)
(لا) إذا لم يسمعه (لطرش) فلا يقرأ إن أشغل غيره عن الاستماع(1) وإن لم يشغل أحدا قرأ(2) (ويستفتح) المأموم (ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه) كالسرية(3).
__________
(1) يعني من إلى جانبه من المأمومين، والطرش محرك أهون الصمم مولد، وهو والوقر، أن لا تبلغ الآفة عدم الحس منهما، وأما الصمم فهو انسداد الأذن ويأتي.
(2) لأنه لا يحصل له مقصود استماع القراءة، أشبه البعيد، قال الشيخ: وإن كان لا يسمع لصمم، أو كان يسمع همهمهمة الإمام، ولا يفقه ما يقول، فالأظهر أن يقرأ لأن الأفضل أن يكون إما مستمعًا وإما قارئًا، وهذا ليس بمستمع ولا يحصل له مقصود السماع، فقراءته أفضل من سكوته.
(3) أي يسن للمأموم أن يستفتح، ويستعيذ حال جهر إمامه، كما يسن في السرية، لأن مقصود الاستفتاح والتعوذ لا يحصل باستماع قراءة الإمام، لعدم جهره به، وتقدم الإجماع على وجوب الإنصات لقراءة الإمام، وأما حال المخافتة
فقال الشيخ: الأفضل أن يستفتح وهو أفضل من قراءته في ظاهر مذهب أحمد
وأبي حنيفة وغيرهما، لأن القراءة يعتاض عنها، بخلاف الاستفتاح، قال: وما ذكره ابن الجوزي من أن قراءة المأموم وقت مخافته الإمام أفضل من استفتاحه غلط، بل قول أحمد وأكثر أصحابه: الاستفتاح أولى، لأن استماعه بدل من قراءته.(3/269)
قال في الشرح وغيره: ما لم يسمع قراءة إمامه(1) وما أدرك المسبوق مع الإمام فهو آخر صلاته، وما يقضيه أولها(2) يستفتح له، ويتعوذ ويقرأ سورة(3)
__________
(1) قال في الإقناع: وإن لم يكن للإمام سكتات يتمكن فيها من القراءة كره أن يقرأ نصا، وقال شيخ الإسلام، إذا لم يسكت الإمام سكوتا يتسع لا يستفتح ولا يستعيذ وهو أصح، وهو قول أكثر العلماء، كمالك والشافعي وأبي حنيفة، لأنه مأمور بالإنصات والاستماع، وممنوع من القراءة، وقوله: قال في الشرح: إلى آخره إشارة إلى أن قول الماتن جارٍ على غير المذهب.
(2) وفاقا لأبي حنيفة ومالك، لقوله: «وما فاتكم فاقضوا» وعنه: ما أدركه أولها، وما يقضيه آخرها، وهو الرواية الثانية عن مالك، وفاقا للشافعي: واختاره ابن المنذر وغيره، وقوله: «فاقضوا» لا ينافي قوله «فأتموا» وهو رواية الجمهور وقول مخرجي الحديث وغيرهم، قال الشافعي: هو أولها حكما ومشاهدة، وقال الماوردي وغيره: إتمام الشيء لا يأتي إلا بعد تقدم أوله، وبقية آخره، والقضاء محمول على الفعل، لا القضاء المعروف في الاصطلاح لأن هذا اصطلاح متأخري الفقهاء، والعرب تطلق القضاء بمعنى الفعل، قال تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ } وقال: { فإذا قضيت مناسككم } قال الحافظ وغيره: إذا كان مخرج الحديث واحدا، واختلف في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد، كان أولى ويحمل فاقضوا على معنى الأداء أو الفراغ، فلا حجة لمن تمسك بلفظة فاقضوا.
(3) وعنه فيما يدركه معه، وقد أجمعوا على تكبيرة الافتتاح في الركعة الأولى
وذكر شيخ الإسلام والموفق، والمجد أنه يقرأ السورة فيما يقضيه مطلقا، لا يعلمون فيها خلافا، وأجمعوا على أنه لا يحتسب التشهد الأخير، لا من أول صلاته، ولا من آخرها، فترجح إنما يدركه أولها، وما يقضيه آخرها، وهو مقتضى الامر بالإتمام، والأمر بمتابعة الإمام، والائتمام به، وعن علي: ما أدركت فهو أول صلاتك، وقال ابن عمر: يكبر، فإذا سلم الإمام قام إلى ما بقي من صلته، وهو قول طوائف من الصحابة، ومقتضى الشرع والقياس.(3/270)
.
لكن لو أدرك ركعة من رباعية أو مغرب تشهد عقب أخرى(1) ويتورك معه(2) (ومن ركع أو سجد) أو رفع منهما (قبل إمامه، فعليه أن يرفع) أي يرجع (ليأتي به) أي بما سبق به الإمام (بعده)(3) لتحصل المتابعة الواجبة(4).
__________
(1) استدراك من قوله: وما أدرك المسبوق مع الإمام فهو آخر صلاته، نص عليه لئلا يلزم تغيير هيئة الصلاة، لأنه لو تشهد عقب ركعتين، لزم عليه قطع الرباعية على وتر الثلاثية شفعا، ومراعاة هيئة الصلاة ممكنة، فلزم الإتيان بها وفي المحرر: ولا يحتسب له بتشهد الإمام الأخير، إجماعا، لا من أول صلاته، ولا من آخرها، ويأتي فيه بالتشهد الأول فقط.
(2) أي يتورك المسبوق مع إمامه في موضع توركه، وإن لم يعتد له لوجوب المتابعة، فلو أدرك ركعة من المغرب، تشهد عقب الركعة الأولى من القضاء، كما تقدم، ولا يسردها إجماعًا.
(3) وهذا مبني على القول بأن السبق إلى الركن غير مبطل، وهو الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب.
(4) بشرط أن لا يدركه إمامه في الركن، فإن لحقه إمامه فيه بطلت، كما يأتي.(3/271)
ويحرم سبق الإمام عمدًا، لقوله عليه الصلاة والسلام «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار؟» متفق عليه(1) والأولى أن يشرع في أفعال الصلاة بعد الإمام(2).
__________
(1) قال شيخ الإسلام: وهذا لأن المؤتم متبع لإمامه، مقتد به، والتابع المقتدي لا يتقدم على متبوعه وقدوته، فإذا تقدم عليه كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد بعمله، ومن فعل ذلك استحق العقوبة والتعزير اهـ، وفي الصحيح «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تركعوا حتى يركع، ولا تسجدوا حتى يسجد»، ولأحمد وأبي داود: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد»، وقال البراء: إذا سجد لم يحن أحد منا ظهره، حتى يقع رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده، وفي الصحيح: إذا قال: «سمع الله لمن حمده، لم نزل قياما، حتى نراه قد وضع جبهته بالأرض، ثم نتبعه» ولمسلم لا: «تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود ولا بالإنصراف» ولما رأى عمر رجلا يسابق الإمام ضربه، وقال: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت ومن لم يصل وحده، ولا مقتديًا فلا صلاة له، قال شيخ الإسلام: أما مسابقة الإمام فحرام، باتفاق الأئمة لا يجوز لأحد أن يركع قبل إمامه، ولا يرفع قبله، ولا يسجد قبله، وقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، قال النووي: والجمهور أنها تصح مع الإثم.
(2) مما كان فيه، من غير تخلف، وهذا معنى ما في الإقناع والمنتهى، وفي المغني والشرح وجمع، يستحب أن يشرع المأموم في أفعال الصلاة بعد فراغ الإمام مما كان فيه، ويكره فعله معه، في قول أكثر أهل العلم، للأخبار، ونقل الخلف عن السلف، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، فإني مهما أسبقكم به إذا ركعت تدركوني به إذا رفعت».(3/272)
وإن كبر معه لإحرام لم تنعقد(1) وإن سلم معه كره وصح(2) وقبله عمدًا بلا عذر بطلت(3) وسهوًا يعيده بعده، وإلا بطلت(4) فإن لم يفعل أي لم يعد عمدًا حتى لحقه الإمام فيه بطلت صلاته لأنه ترك الواجب عمدًا(5).
__________
(1) وفاقًا لمالك والشافعي، لأن شرطه أن يأتي بها بعد إمامه، وهو عنوان الاقتداء به، وقد فاته سواء كان ذلك عمدًا أو سهوًا، وفارق غيره من الأركان لأن الإمام هناك داخل في الصلاة، بخلاف الإحرام، فيشترط تأخير جميع تكبيرة المأموم، عن جميع تكبيرة الإمام، وإن قارنه في غيرها لم تبطل، باتفاق العلماء، لكن يكره، وتفوت فضيلة الجماعة.
(2) لأنه اجتمع معه في الركن، قال ابن رجب: الأولى أن يسلم المأموم عقب فراغ الإمام من التسليمتين فإن سلم بعد الأولى جاز عند من يقول إن الثانية غير واجبة، ولم يجز عند من يرى أن الثانية واجبة، لا يخرج من الصلاة بدونها.
(3) أي وإن سلم قبل إمامه عمدًا، بلا عذر من جهل أو نسيان، أو غلبة حدث، أو نحو ذلك بطلت صلاته، لأنه ترك فرض المتابعة، وهذا مذهب الشافعي، ونقل أبو داود: أخاف أن لا تجب الإعادة.
(4) أي وإن سلم سهوًا لزمه أن يعيد السلام بعد سلام إمامه، لأنه لا يخرج من صلاته قبل إمامه بلا عذر، ولا يضره سبق بقول غيرهما.
(5) إن تمكن من العود قبل إتيان الإمام بما سبقه به من ركوع أو سجود ونحوهما فإن لم يتمكن من العود قبل إتيان الإمام به، فظاهر كلام المنتهى أنه يتابعه، ويعتد بما فعله، فلا يعيده كمن لم يرجع سهوًا.(3/273)
وإن كان سهوا، أو جهلا فصلاته صحيحة، ويعتد به(1) (وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالما عمدًا بطلت) صلاته لأنه سبقه بمعظم الركعة(2).
(وإن كان جاهلا أو ناسيًا) وجوب المتابعة (بطلت الركعة) التي وقع السبق فيها (فقط)(3) فيعيدها وتصح صلاته للعذر(4) (وإن) سبقه مأموم بركنين بأن (ركع ورفع قبل ركوعه، ثم سجد قبل رفعه) أي رفع إمامه من الركوع (بطلت) صلاته، لأنه لم يقتد بإمامه في أكثر الركعة(5).
__________
(1) أي وإن كان المأموم ترك الرجوع سهوًا، أو جهلا بالحكم، فصلاته صحيحة للعذر، ويعتد بما سبقه به إمامه، ولم يرجع ليأتي به سهوا أو جهلا، ولا إعادة عليه، لأنه سبق يسير، قال شيخ الإسلام، إذا سبق الإمام سهوًا لم تبطل، لكن يتخلف عنه بمقدر ما سبق به الإمام، كما أمر بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) يعني بركن كامل، لم يتابع إمامه فيه، قال في الإنصاف، مثال ما إذا سبقه بركن واحد كامل، أن يركع ويرفع قبل ركوعه إمامه، ومثال سبقه بركنين أن يركع ويرفع قبل ركوعه، ثم يسجد قبل رفعه، كما قال المصنف فيهما اهـ وتعليله يفيد الفرق بين قولهم: ويحرم سبقه إلخ، وبين قولهم: وإن ركع ورفع، إلى آخره.
(3) إن لم يأت بذلك مع الإمام كما لو لم يدركه.
(4) يعني من جهل أو نسيان أو نحوهما، قال في الإنصاف وغيره: بلا نزاع، لحديث «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان».
(5) كالتي قبلها وأولى، وصححه غير واحد من الأصحاب وفي المنتهى
لا نزاع في بطلان صلاته إذا سبق إمامه عمدًا بركنين، فإن قيل: ظاهر كلامهم أن الركوع والرفع منه ركن، وتقدم أنهما ركنان قيل: ما دام في الركن لا يعد سابقًا، إلا إذا تخلص منه، فإذا ركع ورفع، فقد سبقه بالركوع دون الرفع، لأنه لم يتخلص منه، فإذا هوى للسجود فقد تخلص من القيام، وحصل السبق بركنين.(3/274)
(إلا الجاهل والناسي) فتصح صلاتهما للعذر(1).
(ويصلي) الجاهل والناسي (تلك الركعة قضاء) لبطلانها لأنه لم يقتد بإمامه فيها(2) ومحله إذا لم يأت بذلك مع إمامه(3) ولا تبطل بسبق بركن واحد غير ركوع(4) والتخلف عنه كسبقه على ما تقدم(5).
__________
(1) وهو جهله بالحكم، ولنسيان كونه مؤتمًا، فتصح، لحديث «عفي عن امتي الخطأ والنسيان» وغيره.
(2) صححه في التصحيح وغيره، وقدمه في المغني والشرح وغيرهما.
(3) فإن أتى بذلك مع إمامه لم تبطل، واعتدله بتلك الركعة، والأولى الإتيان به بعده.
(4) أي ولا تبطل الصلاة بسبق مأموم بركن واحد، كقيام وهوي إلى السجود، غير ركوع فتبطل به، لأن الركوع تدرك به الركعة، وتفوت إذا فات فليس كغيره.
(5) أي وتخلف مأموم عن إمامه بركن بلا عذر، لا تبطل الصلاة به، كما لا تبطل بالسبق إليه، ولو عمدًا، لكن عليه أن يرجع ليأتي به مع إمامه، قال الموفق وغيره: فإن سبق الإمام المأموم بركن كامل، مثل أن يركع ويرفع قبل ركوع المأموم لعذر، من نعاس أو غفلة أو زحام أو عجلة إمام فإنه يفعل ما سبق به
ويدرك إمامه، ولا شيء عليه لا نعلم فيه خلافًا اهـ فإن أبى عالما عمدا بطلت كما في السبق إلى الركن، لأن السبق بالركن يستلزم السبق إليه، وإن كان ركوعا ولا عذر بطلت، ولعذر أتي به إن أمن فوات الثانية، وصحت ركعته، وإلا تبعه ولغت والتي تليها عوض عنها ويقضي بدلها، وكذا إن تخلف بركنين فإن كان لغير عذر بطلت، وإن تخلف بركعة فأكثر لنوم ونحوه تابعه، وقضى بعد سلام إمامه، ولو زال عذر من أدرك ركوع الأولى، وقدم رفع إمامه من ركوع الثانية، تابعه في السجود، وتصح له ركعة ملفقة وقد التقدم على التخلف، لأن التقدم أفحش، بخلاف التخلف فإن له أعذار كثيرة.(3/275)
(ويسن للإمام التخفيف مع الإتمام) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف»(1) قال في المبدع: ومعناه
__________
(1) فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء، رواه الجماعة من حديث أبي هريرة، وفيه أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة، وفي الصحيح من حديث أبي مسعود «أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة»، وذلك لما قال له رجل: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا، وفي الصحيحين أيضا عن أنس أنه كان يكملها وفي رواية لهما، ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عمر: كان يأمر بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات، فالذي فعله هو الذي أمر به، وقال الحافظ: من سلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم في الإيجاز والإتمام لا يشتكى منه تطويل وتقدم صفة صلاته صلى الله عليه وسلم فالتخفيف المأمور به أمر نسبي، يرجع إلى ما فعله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه، وأمر به، لا إلى شهوة المأمومين فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمرهم بأمر ثم يخالفه.(3/276)
أن يقتصر على أدنى الكمال، من التسبيح وسائر أجزاء الصلاة(1) إلا أن يؤثر المأموم التطويل، وعددهم ينحصر(2) وهو عام في كل الصلوات(3) مع أنه سبق أنه يستحب أن يقرأ في الفجر بطوال المفصل(4)
__________
(1) مراده أن لا يزيد على ثلاث تسبيحات، على ما تقدم وكذا لا يزيد في سائر أجزاء الصلاة على الواجب.
(2) بمسجد غير مطروق، لم يطرأ غيرهم، فإن آثروا كلهم استحب لزوال علة الكراهة، وهي التنفير، ومقتضى الأمر بالتخفيف، وقال الحجاوي: إن كان الجمع قليلا، فإن كان كثيرا، لم يخل ممن له عذر، أو لم يمكن أن يجيء من يتصف بأحدها، وقال اليعمري: إنما تناط بالغالب، لا بالصورة النادرة فينبغي التخفيف مطلقا، كما شرع القصر، وقال ابن عبد البر: التخفيف للأئمة أمر مجمع عليه، مندوب عند العلماء إليه، لا خلاف في استحبابه على ما شرطنا من الإتمام وحكى النووي وغيره عن أهل العلم نحو ذلك، وقال ابن دقيق: قول الفقهاء: لا يزيد الإمام في الركوع والسجود على ثلاث تسبيحات، لا يخالف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على ذلك، لأن رغبة الصحابة في الخير، تقتضي أن لا يكون ذلك تطويلا، ولأبي داود وغيره عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: «أنت إمام قومك، وأقدر القوم بأضعفهم»، وإسناده حسن، وأصله في صحيح مسلم.
(3) يعني الخمس، ومراده قول صاحب المبدع في الاقتصار على أدنى الكمال.
(4) متعلق بعام، وهذا تنظير على قول صاحب المبدع، إن أدنى الكمال ثلاث، وقد حرزوا صلاته صلى الله عليه وسلم فكان سجوده قدر ما يقول: سبحان
ربي الأعلى، عشر مرات، وركوعه كذلك، وقال «صلوا كما رأيتموني
أصلي».
قال شيخ الإسلام ليس له أن يزيد على قدر المشروع، وينبغي أن يفعل غالبا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله غالبا، ويزيد وينقص للمصلحة، كما كان صلى الله عليه وسلم يزيد وينقص أحيانًا للمصلحة، وقال: ويلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره ونحوه، وقال النووي: قال العلماء: واختلاف قدر القراءة في الأحاديث كان بحسب الأحوال، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم من حال المأمومين في وقت أنهم يؤثرون التطويل فيطول بهم، وفي وقت لا يؤثرونه لعذر ونحوه فيخفف، وفي وقت يريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيخفف كما ثبت ذلك في الصحيح.(3/277)
.
وتكره سرعة تمنع المأموم فعل ما يسن(1) (و) يسن (تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية) لقول أبي قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يطول في الركعة الأولى، متفق عليه(2).
__________
(1) له فعله، كقراءة السورة، وما زاد على مرة في تسبيح ركوع وسجود ونحوه، ويسن أن يرتل القراءة والتسبيح والتشهد بقدر ما يرى أن من يثقل عليه ممن خلفه قد أتى به، وأن يتمكن في ركوعه وسجوده قدر ما يرى أن الكبير والثقيل وغيرهما قد أتى عليه، لما في ذلك من تفويت المأموم ما يستحب له فعله، ولأنه المشروع، وأن يخفف لنحو بكاء صبي ونحوه، لقوله صلى الله عليه وسلم «إني لأقوم في الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز فيها مخافة أن أشق على أمه» راواه أبو داود.
(2) وفي رواية: «كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب، وكان يطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الثانية»، وهكذا في صلاة العصر، وهكذا في صلاة الصبح، زاد أبو داود، فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، وقال أبو سعيد
كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يتوضأ ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى، مما يطولها، رواه مسلم، وليلحقه القاصد إليها، لئلا يفوته من الجماعة شيء، فإن عكس أجزأه لكن لا ينبغي أن يفعل خلاف السنة، وذلك في كل صلاة.(3/278)
إلا في صلاة خوف في الوجه الثاني(1) وبيسير كسبح والغاشية(2) (ويستحب) للإمام (انتظار داخل(3) إن لم يشق على مأموم) لأن حرمة الذي معه أعظم من حرمة الذي لم يدخل معه(4).
__________
(1) بأن كان العدو في غير جهة القبلة، وقسم المأموم طائفتين، فالثانية أطول من الأولى للتم الطائفة الأولى صلاتها، ثم تذهب لتحرس ثم تأتي الأخرى فتدخل معه.
(2) و«كالجمعة» «والمنافقين»، «والفلق» «والناس»، فقد صلى الله عليه وسلم بذلك.
(3) أحس به في ركوع، قال الذهبي: لا سيما في الجمعة اهـ وكذا قيام وقيل: وتشهد لا في سجود إعانة له على إدراك الركعة ونحوها، وهو مذهب الشافعي وغيره، لأنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، ولما رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن أبي أوفى: كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم، وقوله: «إني لأدخل في الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي»، وقوله للنساء، «لا ترفعن رءوسكن حتى يستوي الرجال جلوسًا، ولأنه تحصيل مصلحة بلا مضرة.»
(4) فلا يشق عليه لأجل الداخل، ولو كان من ذوي الهيئات وكانت الجماعة كثيرة، لأنه يبعد أن لا يكون فيهم من يشق عليه.(3/279)
(وإذا استأذنت المرأة) الحرة أو الأمة (إلى المسجد كره منعها)(1) لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله(2) وبيوتهن خير لهن، وليخرجن تفلات» رواه أحمد وأبو داود(3) وتخرج غير متطيبة ولا لابسة ثياب زينة(4)
__________
(1) لأن الصلاة المكتوبة في جماعة فيها فضل كبير، وكذلك المشي إلى المساجد، وكل صلاة وجب حضورها أو استحب للرجال الجماعة فيها، استحب النساء، وفاقًا للشافعي، والمراد مع أمن المفسدة، فإن منعها لم يحرم، وذكره البيهقي قول عامة الفقهاء، ولأن ملازمة المسكن حق واجب للزوج فلا تتركه لفضيلة.
(2) وفي الصحيحين وغيرهما «إذا استأذنت نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن» وإماء بكسر الهمزة جمع أمة، ومناسبة كونهن إماء الله تقتضي إباحة خروجهن إلى مساجد الله.
(3) أي صلاتهن في بيوتهن خير لهن من صلاتهن في المساجد، لو علمن ذلك لكنهن لم يعلمن ذلك، فيسألن الخروج إلى المساجد، وكونها أفضل لأمن الفتنة و(تفلات) أي غير متطيبات يقال: تفلت المرأة، من باب تعب، إذا أنتن ريحها لترك الطيب والإدهان، وإنما أمرن بذلك لئلا يحركن الرجال بطيبهن،ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات لداعي الشهوة، كحسن الملبس، والتحلي ونحو ذلك، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إلى ميل الرجال، وتشوفهم إليها، فنهيت عن ذلك، سدا للذريعة، وحماية عن المفسدة.
(4) فإن تطيبت للخروج، أو لبست ثياب زينة حرم، لما في صحيح مسلم وغيره، «أيما امرأة أصابت بخورا، فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة»، قال القاضي عياض: شرط العلماء في خروجهن أن يكون بليل، غير متزينات ولا متطيبات ولا مزاحمات للرجال، ولا شابة مخشية الفتنة، وفي معنى الطيب إظهار الزينة
وحسن الحلي فإن كان شيء من ذلك وجب منعهن خوف الفتنة، وقال مسلمة: تمنع الشابة الجميلة المشهورة، زاد بعضهم: أن لا يكون في لطريق ما تتقي مفسدته، قال القاضي: وإذا منعن من المسجد فغيره أولى، وقال ابن القيم: يجب على ولي الأمر أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق، والفرج ومجامع الرجال، وهو مسئول عن ذلك، والفتنة به عظيمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» قال: ويجب عليه منعهن متزينات متجملات، ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات، كالثياب الواسعة، والرقاق ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات، ومنع الرجال من ذلك، وله منع المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها، لا سيما إذا خرجت متجملة، وأخبر صلى الله عليه وسلم: «أن المرأة إذاتطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية».(3/280)
.
(وبيتها خير لها) لما تقدم(1) ولأب ثم أخ ونحوه(2) منع مواليته من الخروج إن خشي فتنة أو ضرر(3).
ومن الإنفراد(4)
__________
(1) أي من قوله: وبيوتهن خير لهن، ولأحمد أيضا: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» وأجمع النساء أن صلاة المرأة في بيتها، أفضل من صلاتها في المسجد، فإن النساء أعظم حبائل الشيطان، وأوثق مصائده، فإذا خرجن نصبهن شبكة، يصيد بها الرجال، فيغريهم ليوقعهم في الزنا، فعدم خروجهن حسما لمادة إغوائه وإفساده، وفي الصحيحين من حديث عائشة، لو رأى ما رأينا لمنعهن من المسجد، كما منعت بنو إسرائيل.
(2) كعم ونحوه من أوليائها المحارم، وقال أحمد: الزوج أملك من الأب.
(3) أي بخروجها إلى المسجد ونحوه، فينعها عن ذلك درءًا للمفسدة.
(4) لأنه لا يؤمن دخول من يفسدها، ويلحق العار بها وبأهلها، فيرجع الحال إلى شأن المرأة فإن عرف منها الديانة فلا بأس والمعهود من عمل الصحابة أن الأبكار ومن ضاهاهن لا يخرجن، ولو خرجن لعادلن الرجال.
«تتمة»
الجن مكلفون في الجملة إجماعا لقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * } فلذلك يدخل كافرهم النار إجماعا، ويدخل مؤمنهم الجنة، لعموم الأخبار، ومؤمن الجن في الجنة كغيرهم من الآدميين، على قدر ثوابهم للعموم، قال الشيخ: ونراهم فيها ولا يرونا وتنعقد بهم الجماعة، وهم موجودون في زمن النبوة وقبلها، وليس منهم رسول، وقال الشيخ أيضًا: ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به وما نهو اعنه مساويًا لما على الإنس في الحد والحقيقة، لكنهم شاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، بلا نزاع أعلمه بين العلماء.
وقال ابن حامد: ومذاهب العلماء إخراج الملائكة من التكليف والوعد والوعيد اهـ وذبيحة مؤمني الجن حلال، وما يذبحه الآدمي لئلا يصيبه أذى من الجن فحرام، وفاعله مشرك، وبولهم وقيؤهم طاهران، لظاهر حديث ابن مسعود قال: «ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه»، متفق عليه، ولخبر الرجل الذي سمي في أثناء طعامه قال: «قاء الشيطان كل شيء أكله»، رواه أبو داود والنسائي، وصححه الحاكم، ويقبل قولهم: أن ما بيدهم ملكهم مع إسلامهم، وكافرهم كالحربي، يقتل إن لم يسلم، ويحرم عليهم ظلم الآدميين، وظلم بعضهم بعضا، لعموم الأخبار، وكان الشيخ: إذا أتى بالمصروع وعظ من صرعه، وأمره ونهاه فإن انتهى وفارق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر، ولم ينته ولم يفارقه ضربه حتى يفارقه، والضرب يقع في الظاهر على المصروع، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه، ولهذا يتألم من صرعه به، ويصيح ويخبر المصروع إذا فارق أنه لم يشعر بشيء من ذلك.(3/281)
.
فصل في أحكام الإمامة(1)
(الأولى بالإمامة الأقرأ) جودة(2) (العالم فقه صلاته)(3).
__________
(1) الإمامة مصدر: أم الناس صار لهم إمامًا يتبعونه في صلاته، وفضلها مشهور، تولاها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، ولا يختارون إلا الأفضل فالأفضل فعلها، وله أجر بذلك لما في الحديث «ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة رجل أم قومًا وهم به راضون»، الحديث، وحديث «له من الأجر مثل أجر من صلى خلفه»، ويجوز طلبها، لقوله: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: «أنت إمامهم واقتد بأضعفهم»، وليس من طلب الرياسة المكروهة، فإن ذلك مما يتعلق برياسة الدنيا التي لا يعان من طلبها، ولا يستحق أن يعطاها، ويشهد له عموم قوله { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } .
(2) مصدر جاد بمعنى جيد، أي يقدم على غيره، تقديم استحباب، وإن لم يكن فقيها، قيل لأنه أعظم أجرًا، والمراد بالأقرأ جودة الذي يجيد قراءته أكثر من غيره، بأن يعرف مخارج الحروف، ولا يلحن فيها، على ما اقتضته طبيعة القارئ، من غير تكلف، لا الوسوسة والتكلف في خروج الحروف، وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والتمطيط المخرج له من حدوده، ونص ابن القيم وغيره على أن الأئمة كرهوا التنطع والغلو في النطق بالحروف، وأنها لم تكن متكلفة كما يتكلفها أهل الأمصار اليوم، وذكر غير واحد أنها قراءة محدثة.
(3) كشروطها وأركانها وواجباتها، ومبطلاتها ونحو ذلك، قال الحافظ: لا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفا بما يتعين معرفته، من أحوال الصلاة، أما إذا كان جاهلا فلا يقدم اتفاقًا.(3/282)
لقوله عليه الصلاة والسلام: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًا» رواه مسلم(1) (ثم) إن استووا في القراءة (الأفقه) لما تقدم(2).
__________
(1) من حديث أبي مسعود البدري، وله من حديث أبي سعيد مرفوعًا، قال: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» وفي الصحيح عن عمرو بن سلمة «إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا» ولأبي داود من حديث ابن عباس «ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم أقرؤكم»، وفي الصحيح عن ابن عمر: لما قدم المهاجرون الأولون كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وفيهم عمر، ولأبي داود وغيره، وأبو سلمة ففيه وما قبله دلالة قوية على تقديم الأقرأ قال شيخ الإسلام، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم بالفضيلة بالعلم بالكتاب والسنة، فإن استووا في العلم قدم بالسبق إلى العمل الصالح، وقدم بالسابق باختياره - وهو المهاجر - على من سبق بخلق الله وهو الكبير السن، وقدم في الإقناع والمنتهى الأقرأ الأفقه، لجمعه بين المرتبتين في القراءة والفقه، وإنما قدم النبي صلى الله عليه وسلم الأقرأ لأنه في زمانه كان أفقه، وقدم أبا بكر على من هو أقرأ منه كزيد وأبي زيد وأبي ومعاذ.
(2) أي يقدم الأفقه لما تقدم من قوله :صلى الله عليه وسلم «فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة»، أي أفقههم في دين الله، قال الزركشي: لا نزاع بين العلماء أنه يقدم بعد الأقرأ الأفقه، ولو قدم الأفقه على الإقرأ جاز، قال أبو محمد: لا أعلم فيه خلافًا، إذ الأمر فيه أمر إرشاد.(3/283)
فإن اجتمع فقيهان قارئان، وأحدهما أفقه أو أقرأ قدم(1) فإن كانا قارئين قدم أجودهما قراءة(2) ثم أكثرهما قرآنا(3) ويقدم قارئ لا يعرف أحكام صلاته على فقيه أمي(4) وإن اجتمع فقيهان أحدهما أعلم بأحكام الصلاة قدم، لأن علمه يؤثر في تكميل الصلاة(5).
(ثم) إن استووا في القراءة والفقه (الأسن)(6)
__________
(1) أي الأقرأ من الفقيهين القارئين أو الأفقه منهما، لقوله: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ومن شرط الأقرأ أن يكون عالما فقه صلاته، حافظا للفاتحة، ولو كان أحد الفقيهين أفقه، أو أعلم بأحكام الصلاة قدم، أما لو تعارض فضل القراءة وفضل الفقه قدم الأفقه، لأن احتياج المصلي إلى الفقه أكثر من احتياجه إلى القراءة، لأن ما يجب في الصلاة من القراءة محصور، وما يقع فيها من الحوادث غير محصور، ولما تقدم من تقديم الصديق.
(2) أي الأحسن تجويدا للقرآن، لأنه أعظم أجرا، لحديث: «من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة» صححه الترمذي، وقال أبو بكر وعمر، إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، وإن لم يكن فقيها، إن كان يعرف فقه صلاته.
(3) يعني مع الاستواء في الجودة يقدم الأكثر قرآنًا الفقيه، لفضله بكثرة أخذ القرآن، ثم يليه قارئ أفقه، ثم قارئ فقيه، ثم قارئ عالم فقه صلاته من شروطها وأركانها وواجباتها ومبطلاتها ونحو ذلك كما تقدم.
(4) أي لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها كما يأتي، لأنها ركن في الصلاة، بخلاف معرفة أحكامها، ولو لم يأت بها إلا عادة.
(5) قال شيخ الإسلام: إذا كان رجلان من أهل الديانة، فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وجب تقديمه على الآخر، وكان ائتمامه به متعينا.
(6) أي قدم الأسن، وهو الأكبر سنا، لأن كبر السن في الإسلام فضيلة يرجع
إليها.(3/284)
لقوله عليه الصلاة والسلام «وليؤمكم أكبركم» متفق عليه(1).
(ثم) مع الاستواء في السن (الأشرف) وهو القرشي(2) وتقدم بنو هاشم على سائر قريش(3) إلحاقًا للإمامة الصغرى بالكبرى(4) ولقوله عليه الصلاة والسلام: «قدموا قريشًا ولا تقدموها»(5).
__________
(1) من حديث مالك بن الحويرث، ولأنه أقرب إلى الخشوع، وإجابة الدعاء ولمسلم «وكان متقاربين في القراءة» ولأبي داود «في العلم».
(2) أي يقدم الأشرف نسبا، وهو القرشي من ولد النضر، سموا قريشًا لتجمعهم في الحرم، وقيل: غير ذلك والشرف العلو والمجد، أو لا يكون إلا بالآباء، يقال: رجل شريف، وماجد له آباء متقدمون في الشرف، وشرف يشرف شرفًا، علا في دين أو دنيا، وقال أبو محمد وغيره: أشرفهم أعلاهم نسبًا، وأفضلهم في نفسه، وأعلاهم قدرًا، وأشرف الناس قريش، وفي الحديث: «إن الله اصطفى قريشًا» وفيه «فأنا خيار من خيار»، وفي مجمع البحرين: الشرف الأقرب فالأقرب منه صلى الله عليه وسلم فيقدم العرب على غيرهم، ثم قريش ثم بنو هاشم، وكذلك أبدًا.
(3) لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على من سواهم، كبني عبد شمس ونوفل ويأتي.
(4) وهي الخلافة.
(5) رواه أحمد وغيره عن ابن شهاب، وابن عدي عن أبي هريرة والبزار
عن علي وقال الحافظ بإسناد صحيح لكنه مرسل، وله شواهد وفي الصحيحين وغيرهما «لا يزال هذا الأمر في قريش» «الناس تبع لقريش»، ولأحمد وغيره «الأئمة من قريش»، وعليه فيقدمون في الإمامة، وقال شيخ الإسلام، ولا يقدم في الإمامة بالنسب وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد لقوله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } ويجب تقديم من قدمه الله ورسوله، ولو كان بخلاف شرط الواقف فلا يلتفت لشرط يخالف شرط الله ورسوله، وفي المقنع وغيره: ثم أقدمهم هجرة، ثم أشرفهم، واختاره الشيخ، وجمع، وقيل: يقدم الأتقى على الأشرف، واختاره الشيخ وصوبه في الإنصاف.(3/285)
(ثم الأقدم هجرة)(1) أو إسلامًا(2) (ثم) مع الاستواء فيما تقدم (الأتقى)(3).
لقوله تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } (4).
__________
(1) يعني بنفسه لا بآبائه وهو سبقه إلى دار الإسلام مسلمًا، والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، والمهاجرة من أرض إلى أرض ترك الأولى للثانية، وقوله: «لا هجرة بعد الفتح»، يعني من مكة إذ ذاك بعد أن صارت دار إسلام، وإلا فـ «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها»، وظاهر كلام أحمد تقديم الأقدم هجرة على الأسن، واختاره الموفق وغيره، وقدمه في الكافي، وصححه الشارح، وجزم به جمع للأخبار.
(2) أي يقدم من تقدم إسلامه على من تأخر، لما في صحيح مسلم وغيره «فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلمًا» أي إسلاما.
(3) والأورع فيقدم على الأعمر للمسجد، لأن مقصوده الصلاة هو الخضوع، ورجاء إجابة الدعاء والأتقى والأورع أقرب إلى ذلك والتقوى كلمة جامعة لخصال الخير، وقال بعضهم، التقوى ترك ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وهو أعلى مراتبها، وأدناها توقي الشرك، وأوسطها اتباع الأوامر، واجتناب النواهي
والورع اجتناب الشبهات والشهوات خوفًا من الله وفي الأصل: الكف، وقال ابن القيم: الفرق بين الزهد والورع أن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره في الأخرة، قال في الإقناع، ثم من يختاره الجيران المصلون، وكان أعمر للمسجد، وذكره الشارح وغيره، والمذهب ما ذكره تبعا للمقنع وغيره.
(4) أي إنما تفاضلون بالتقوى، لا بالأحساب.(3/286)
(ثم) إن استووا في الكل يقدم (من قرع) إن تشاحوا(1) لأنهم تساووا في الاستحقاق وتعذر الجمع فأقرع بينهم، كسائر الحقوق(2) (وساكن البيت، وإمام المسجد أحق) إذا كان أهلًا للإمامة ممن حضرهم(3) ولو كان في الحاضرين من هو أقرأ أو أفقه(4) لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن الرجل الرجل في بيته، ولا في سلطانه» رواه أبو داود عن ابن مسعود(5)
__________
(1) أي عليه، حذر فواته، فمن خرجت له القرعة قدم فهو الأحق.
(2) أي المتشاح فيها، فإنها عند التشاح وعدم المرجح يقرع بينهم، والقرعة جاء بها الشرع، حتى أقرع النبي صلى الله عليه وسلم بين نسائه.
(3) بشرط أن تصح إمامته بهم، وأحق أي مستحق لها.
(4) أي من ساكن البيت، وإمام المسجد، قال في الشرح والمبدع: بغير خلاف نعلمه.
(5) صوابه عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه، رواه أبو داود وغيره من
طريقين وهو في صحيح مسلم من حديث أبي مسعود بلفظ: «ولا يؤمن الرجل
الرجل في بيته ولا في سلطانه إلا بإذنه» وسلطان محل ولايته، ومظهر سلطانه أو فيما يملكه، ولأبي د داود «من زار قوما فلا يؤمنهم»، وعن ابن مسعود «من السنة أن يتقدم صاحب البيت»، قال الحافظ: إسناده ثقات، قال الخطابي: معناه أن صاحب المنزل أولى بالإمامة في بيته، إذا كان من القراءة أو العلم بمحل يمكنه أن يقيم الصلاة، وأتى ابن عمر أرضًا له فيها مولى له، فصلى معهم، وقال: صاحب المسجد أحق، رواه البيهقي بسند جيد، وإن كان إمام المسجد عن ولاية سلطان أو عامله فهو داخل في حكم السلطان، وإن كان باتفاق من أهل المسجد فهو أحق، لأنها ولاية خاصة، ولأن التقدم عليه يسيء الظنه به، وينفر عنه، قال في الإقناع، فيحرم تقديم غيرهما عليهما بدون إذن، ولهما تقديم غيرهما، ولا يكره، بل يستحب إن كان أفضل منهما، وفي الغاية: لا يؤم في الجوامع الكبار إلا من ولاه السلطان أو نائبه، ويستنيب إن غاب، وما بناه أهل الشوارع والقبائل من المساجد الحق لمن رضوا به، فإن تعذر فليس لرئيس القرية وليس لهم بعد الرضا عزله، ما لم تتغير حاله، لكن لا يستنيب إن غاب، وقال الحارثي، الأشهر أن للإمام النصب أيضا، لكن لا ينصب إلا برضى الجيران.(3/287)
.
(إلا من ذي سلطان) فيقدم عليهما لعموم ولايته، ولما تقدم من الحديث(1).
والسيد أولى بالإمامة في بيت عبده، لأنه صاحب البيت(2) (وحر) بالرفع على الابتداء(3) (وحاضر) أي حضري، وهو الناشئ في المدن والقرى(4) (ومقيم وبصير ومختون) أي مقطوع القلفة(5) و(ومن له ثياب) أي ثوبان وما يستر به رأسه(6)
__________
(1) وهو قوله: «ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته، ولا في سلطانه والسلطان المراد به الإمام الأعظم»، ثم نوابه، كالقاضي، وكل ذي سلكان أولى من جميع نوابه، لأنه صلى الله عليه وسلم أم عتبان بن مالك وأنسًا في بيوتهما، ولأن، له ولاية عامة فإذاحضر قدم على جميع الحاضرين، سواء كان غيره أقرأ أو أفقه أو لا، فإن لم يتقدم الوالي قدم من شاء ممن يصلح للإمامة، وإن كان غيره أصلح منه، لأن الحق فيها له فاختص بالتقدم والتقديم.
(2) فهو أولى من عبده لولايته عليه.
(3) سوغ الابتداء به لكونه في مقام التفضيل، وللعلم به، يعني الحر أولى من العبد والمبعض كما يأتي وأم ذكوان مولى عائشة وهو غلام لم يعتق ولم تنكر، وأمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا فلا تكره.
(4) ضد البادي، وحضر كنصر حضارة أقام في الحضر أي الحاضر أولى من البادي، ولا تكره، وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي لقوله: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» الحديث إذا لم يكن مانع شرعي عام.
(5) بضم القاف وفتحها، جمعها قلف، مثل غرفة وغرف، وقصبة وقصب، وقصبات وهي الجلدة التي تقطع في الختان، أي هؤلاء أولى من ضدهم، وكذا حسن الخلق بضم الخاء، وفاقا لأبي حنيفة ومالك، وسوّى الشافعية
وغيرهم بين الأعمى والبصير، وهو رواية عن أحمد، ولا كراهة لاستخلافه ابن أم مكتوم.
(6) إشارة إلى أن الجمع غير مقصود، وكذا نظافة الثوب والبدن، وحسن الصوت وطيب الصفة، ونحوها من الفضائل، لإفضائه إلى استمالة القلوب، وكثرة الجمع، والائتلاف ولأن الإمامة أرفع مراتب الإسلام، فلا يؤم إلا أهل
الكمال، وقال بعض الأصحاب، لا يرجح بحسن الوجه، ولا نظافة الثوب، ونحو ذلك.(3/288)
(أولى من ضدهم) خبر عن حر وما عطف عليه(1).
فالحر أولى من العبد والمبعض(2) والحضري أولى من البدوي الناشئ بالبادية(3) والمقيم أولى من المسافر لأنه ربما يقصر، فيفوت المأمومين بعض الصلاة في جماعة(4)
__________
(1) وهو قوله ومقيم: إلى آخره، وأولى من ضدهم الآتي بيانه ما لم يكن
العبد أفضل من الحر، والأعرابي أفضل من الحضري، والأعمى أفضل من البصير، وهكذا فيكون الحكم بالضد، لقوله: «يؤم القوم أقرؤهم» الحديث قال الحافظ: فكل من اتصف بذلك جازت إمامته من عبد وصبي وغيرهما.
(2) عند جمهور العلماء، مع التساوي لأنه أكمل في أحكامه وأشرف ولا يصلح إماما في الجمعة والعيد، ولئلا يؤدي إلى التنفير، وعنه: العيد أولى إذا كان أفضل وأدين، وهو قول جمهور العلماء، لعموم «يؤم القوم أقرؤهم» الحديث وصلى ابن مسعود وأبو ذر وغيرهما وراء مولى أبي أسيد وهو عبد فعليه لا يكون أولى، قال الشافعي وغيره، لا يترجح الحر عليه إذا تساويا في القراءة والعلم والورع، ولما انتهى أبو ذر إلى الربذة فإذا عبد يؤمهم، فتأخر فقال أبو ذر: أوصاني خليلي، الحديث، قال الشارح وغيره: وإمامة العبد صحيحة لما تقدم، يعني من الآثار عن الصحابة في ذلك، قال: ولم يعرف لهم مخالف، فكان إجماعا، وقال الحافظ وغيره: مذهب جمهور العلماء صحة إمامة العبد أي فلا تكره والمبعض أولى.
(3) للاختلاف في إمامته، ولأن الغالب على أهل البادية الجفاء، وقلة المعرفة بحدود الله، وأحكام الصلاة، لبعدهم عمن يتعلمون منه، قال تعالى في حق الأعراب: { واجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } ، ولا بأس بإمامته إذا كان يصلح وفاقًا لأبي حنيفة.
(4) وقال القاضي: إن كان إماما فهو أحق، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي عام الفتح، ويقول: «اتموا فإنا قوم سفر» فلا تكره إمامة مسافر بمقيمين
إذا كان أولى بالإمامة، إلا أنه مسافر فإن قصر لم تكره إجماعا، قال في مجمع البحرين: ويقضي المقيم كمسبوق فإن أتم كرهت إمامته بالمقيم، خروجًا من خلاف من منعها نظرا إلى أن ما زاد على الركعتين نفل، وإن تابعه المقيم صحت ويأتي قال المجد، ولا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان لقوله: «إلا بإذنه» وعموم قوله: «ورجل أم قومًا وهم به راضون».(3/289)
.
وبصير أولى من أعمى(1) ومختون أولى من أقلف(2)، ومن له من الثياب ما ذكر، أولى من مستور العورة مع أحد العاتقين فقط(3) وكذا المبعض أولى من العبد(4) والمتوضئ أولى من المتيمم(5).
__________
(1) لأنه أقدر على توقي النجاسة باجتهاده، وهي جائزة إجماعًا، حكاه الشارح وغيره، وتصح، ولو كان أصم، على الصحيح من المذهب، قاله في الإنصاف.
(2) أي مقطوع الغرلة أولى بالتقديم في الإمامة ممن لم يختن قال الشيخ: وتصح خلف خصي، كما تصح خلف الفحل، باتفاق أئمة المسلمين، وهو أحق بالإمامة ممن هو دونه.
(3) لا معهما، وكلما كان أكمل كان أولى، لأنه منظور إليه.
(4) لأن فيه بعض أكملية وأشرفية.
(5) لأن الوضوء رافع للحدث، بخلاف التيمم فإنه مبيح لا رافع، وتقدم وتيمم عمر بن العاص، وهو جنب في غزوة ذات السلاسل، في ليلة باردة وصلى بأصحابه، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأقره، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وتصح خلفه، بلا كراهة عند الأئمة وجمهور الأمة، وحكى غير واحد جوازها إجماعًا، وأجمعوا على جواز إمامة الماسح على الخفين، بالغاسل القدمين لا من عدم الماء والتراب بمن تطهر بأحدهما.(3/290)
والمستأجر في البيت أولى من المؤجر(1) والمعير أولى من المستعير(2) وتكره إمامة غير الأولى بلا إذنه(3) لحديث «إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزلوا في سفال»، ذكره أحمد في رسالته(4) إلا إمام المسجد، وصاحب البيت، فتحرم(5) (ولا تصح) الصلاة (خلف فاسق) سواء كان فسقه من جهة الأفعال أو الاعتقاد(6).
__________
(1) بكسر الجيم، على صيغة اسم الفاعل، من الرباعي المزيد والذي قبله بصيغة اسم المفعول، لأن المستأجر مالك المنفعة، وقادر على منع المؤجر من دخوله.
(2) لأن المعير مالك للعين والمنفعة، وقادر على منع المستعير، وإنما يملك الانتفاع مؤقتًا.
(3) للإفتتات عليه، وإن فعل صحت مع الكراهة، وإذا قدم المستحق غيره جاز، ولا كراهة لأن الحق في التقدم له، وقد أسقطه، ولا بأس أن يؤم الرجل أباه بلا كراهة، إذا كان بإذنه أو فيه مزية يقدم بها عليه، كما قدم الصديق على أبيه.
(4) بعد قوله: ومن الحق الواجب على المسلمين أن يقدموا خيارهم، وأهل الدين والأفضل منهم أهل العلم بالله، الذين يخافون الله ويراقبونه ورسالته هي المشهورة المعروفة بالرسالة السنية، في الصلاة وما يلزم فيها.
(5) أي إمامة غيرهما إلا بإذنهما استثناء من قوله: وتكره إمامة غير الأولى إلخ.
(6) لأنه لا يقبل خبره، ولا يؤمن على شرائط الصلاة، فلم تصح خلفه، والفاسق من الفسق، وهو الخروج عن حد الاستقامة، كمن يرتكب الكبائر ونحوها.
وجهة الأفعال كالزنا والسرقة وشرب المسكر ونحوه، وكالغيبة والنميمة والاعتقاد كالرفض والاعتزال والإرجاء ونحوه، سواء أعلن بفسقه أو لا، وقال الشيخ: لا تصح خلف أهل الأهواء والبدع مع القدرة اهـ وظاهر المذهب أنه إذا كان الفاسق معلنا بفسقه، وفاقًا لمالك، واختاره الموفق والمجد، وقال الحارثي: يجب أن يولى في الوظائف وإمامه المساجد الأحق شرعا، وليس للناس أن يولوا عليهم الفساق، وعن أحمد: تكره وتصح، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي(3/291)
إلا في جمعة وعيد تعذرًا خلف غيره(1) لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تؤمن امرأة رجلا، ولا أعرابي مهاجر، ولا فاجر مؤمنا، إلا أن يقهره بسلطان يخاف سوطه» رواه ابن ماجه عن جابر(2)
__________
(1) أي الفاسق: بأن يعدم أخرى خلف عدل للضرورة، قال الشيخ: عند عامة السلف والخلف، وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم، ولهذا قالوا في العقائد: تصح الجمعة والعيد خلف كل إمام، برا كان أو فاجرا، وذكر أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح، وتعطيل المفاسد، وأن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيها بإمام فاجر، ثم قال: ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعة خلف أئمة الجور مطلقا معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع.
(2) يعني مهاجرًا من البادية إلى الحاضرة، والأعرابي نسبة إلى الأعراب، لا واحد له من لفظه، ولا جمعا لعرب، وهو من يسكن البادية، عربيا كان أو عجميا، و(فجر) عدل عن الحق و(فسق) خرج عنه، قال شيخ الإسلام عند بعضهم نهي تحريم، وبعضهم نهي تنزيه والصلاة خلفه منهي عنها، بإجماع المسلمين
ولا يجوز تقديمه مع القدرة على ذلك، وقال الماوردي، يحرم على الإمام
نصب الفاسق إماما للصلوات لأنه مأمور بمراعاة المصالح، وليس منها أن يوقع
الناس في صلاة مكروهة، فلو صلى خلف من يعلم أنه فاسق أو مبتدع، ففي صحة صلاته قولان مشهوران، في مذهب أحمد ومالك، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة الصحة، وصلى ابن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد، وكان يشرب الخمر، وصلى مرة الفجر أربعًا، وصلى ابن عمر وغيره خلف المختار، وكان متهما بالإلحاد داعية إلى الضلال، وأجمعوا عليه هم وتابعوهم، لأن أئمة الصلاة في تلك الأعصار في كل بلدة هم الأمراء، وحالهم لا تخفي.
قال: والأصل أن من صحت صلاته صحت إمامته، وصلاة الفاسق صحيحة بلا نزاع، ولا خلاف في كراهتها، وأخرج البخاري في تأريخه عن عبد الكريم أنه قال: أدركت عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون خلف أئمة الجور، وفي صحيح مسلم وغيره، من غير وجه: «كيف أنت إذا كان عليك أمراء، يؤخرون الصلاة عن وقتها، أو يميتونها عن وقتها؟»، قال: فما تأمرني؟ قال صلى الله عليه وسلم «صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة» فقد أذن بالصلاة خلفهم وجعلها نافلة، لأنهم أخرجوهم عن وقتها وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها، لكان مأمورًا بصلاتها خلفهم فريضة، لما في الصحيح وغيره، قال: «أئمتكم يصلون لكم ولهم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم» وكذا عموم أحاديث الجماعة، من غير فرق، وفي الصحيح وغيره أحاديث كثيرة، تدل على صحة الصلاة خلف الفساق والأئمة الجائرين.
قال النووي وغيره: وهو مذهب جمهور العلماء، وإذا لم يكن في القرية إلا إمام واحد أو لم يمكنه إلا خلف هذا الفاسق، فقال شيخ الإسلام: تصلي خلفه الجماعة فإن الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجل وحده، وإن كان الإمام فاسقا، هذا مذهب جماهير العلماء أحمد والشافعي وغيرهما بل الجماعة واجبة على الأعيان، في ظاهر مذهب أحمد ومن ترك الجمعة أو الجماعة خلف الإمام
الفاجر فهو مبتدع عند الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار، ولا يعديون، وذكر قول عثمان: إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا ساءا فاجتنب إساءتهم، ومثل هذا كثير، والمبتدع صلاته في نفس صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، وإنما كره من كره الصلاة خلفه، لأن الأمر والنهي واجب، ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورًا لا يرتب إمامًا للمسلمين، فإنه يستحق التعزير حتى يتوب.
والتحقيق: أن الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور لا ينهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها، لكن لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يهجروا وأن لا يقدموا في الصلاة على المسلمين اهـ وتصح خلف إمام لا يعرفه لأن الأصل في المسلمين السلامة قال شيخ الإسلام: ويجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقده؟ بل يصلي خلف مستور الحال.(3/292)
.
(ككافر) أي كما لا تصح خلف كافر(1).
__________
(1) سواء كان أصليًا أو مرتدا، وسواء كان كفره ببدعة أو غيرها، ولو أسره فإنها لا تصح لنفسه، فلا تصح لغيره، قال شيخ الإسلام: وأما الصلاة خلف من يكفر من أهل الأهواء، فمن قال: يكفر، أمر بالإعادة وحقيقة الأمر أن القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فلا يشهد عليه، لجواز أن
لا يلحقه، لفوات شرط، أو ثبوت مانع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده
أو لم يتمكن من فهمهما، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان مجتهدا في طلب الحق، وأخطأ إن الله يغفر له خطأه، سواء كان في المسائل النظرية أو العلمية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام، وأما تفريق المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل وفروع لا يكفر بإنكارها فهذا التفريق ليس له أصل، لا عن الصحابة، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ من المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع، وعنهم تلقاها من ذكره من الفقهاء، وهو تفريق متناقض.(3/293)
سواء علم بكفره في الصلاة، أو بعد الفراغ منها(1) وتصح خلف المخالف في الفروع(2).
__________
(1) أي فلا تصح صلاته، ولو علم منه حال ردة وحال إسلام، ولم يعلم في أي الحالين هو، أعاد لاحتمال أن يكون على الحال التي لا تصح إمامته فيها، وقال بعضهم: لا يعيد وصوبه في تصحيح الفروع، وإن كان قد علم قبل الصلاة إسلامه، وشك في ردته، فلا إعادة لأن الظاهر بقاؤه على ما كان عليه، وكذا حكم مجنون، وسكران والأولى خلف من يعرفه بالإسلام، ليتحقق براءة ذمته، وقال ابن تميم وغيره، ومن صلى بأجرة لم يصل خلفه، وإن أعطي بلا شرط فلا بأس نصا.
(2) التي يفسق بها كالصلاة خلف من يرى صحة النكاح بغير ولي أو شهادة لفعل الصحابة ومن بعدهم، قال المجد، من قال لا تصح فقد خرق إجماع من تقدم من الصحابة فمن بعدهم، قال في الفروع وغيرها: ما لم يفسق بذلك، كمن شرب من النبيذ ما لا يسكر، مع اعتقاد تحريمه، وأدمن على ذلك، وقال شيخ الإسلام، تجوز صلاة أهل المذاهب بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة يصلي بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم فيمن تقيأ أو مس ذكره ونحوه، أو لم يتشهد أو لم يسلم ونحوه والمأموم يعتقد
وجوب ذلك، ولم يقل أحد من السلف إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض، ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة.(3/294)
وإذا ترك الإمام ما يعتقده واجبا وحده عمدًا بطلت صلاتهما(1) وإن كان عند مأموم وحده لم يعد(2) ومن ترك ركنًا أو شرطًا أو واجبًا مختلفًا فيه، بلا تأويل ولا تقليد أعاد(3)
__________
(1) كالتشهد الأول، لا سهوا، إذ معه تصح، وهذا تنبيه منه على ما لو ترك الإمام ركنا عنده وحده، كالطمأنينة أو شرط كستر أحد العاتقين، ولو كان المأموم لا يرى ذلك واجبا، ولا ركنا، ولا شرطا، أو عنده وعند المأموم فمن باب أولى.
(2) أي المأموم قال الشيخ: ولو فعل الإمام ما هو محرم عند المأموم دونه مما يسوغ فيه الاجتهاد صحت صلاته خلفه وهو المشهور عن أحمد وقال: الروايات المنقولة عن أحمد لا توجب اختلافًا وإنما ظواهرها أن كل موضع يقطع فيه بخطأ المخالف تجب الإعادة وهو الذي تدل عليه السنة والآثار، وقياس الأصول اهـ والمراد ما لم يعتقد المأموم الإجماع على المتروك، فيعيد إجماعا، وقال الشيخ: اتفق المسلمون على أن من ترك الأركان المتفق عليها لم يصل خلفه.
(3) ذكره الآجري وغيره إجماعا كتركه فرضه لأمره عليه الصلاة والسلام تارك الطمأنينة بالإعادة والمراد بقوله: أو واجبا، إذا تركه شاكا في وجوبه، وأما إذا لم يخطر بباله أن عالما قال بوجوبه، فيسقط، وقوله: بلا تأويل، أي اجتهاد، وقال في الإقناع والمنتهى وغيرهما، لا إنكار في مسائل الاجتهاد أي ليس لأحد أن ينكر على مجتهد أو مقلده فيما يسوغ فيه الاجتهاد، وقال شيخ
الإسلام، قولهم، مسائل الاجتهاد لا إنكار فيه، ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل أما الأول فإن كان القول يخالف سنة
أو إجماعًا قديمًا، وجب إنكاره اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر، عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء، وأما العمل إذا كان على خلاف سنة أو إجماع، وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهدا، أو مقلدا، وقال: أيضا في قولهم: لا إنكار.. إلخ، أي المسائل التي ليس فيها دليل يجب العمل به، وجوبا ظاهرا مثل حديث لا معارض له من جنسه، وذكر حديث حذيفة في الذي لا يتم ركوعه إلخ، قال: وهو عام في الإنكار في مثل هذا.(3/295)
.
(ولا) تصح صلاة رجل وخنثى خلف (امرأة)(1) لحديث جابر السابق(2) (و) لا خلف (خنثى للرجال) والخناثى، لا حتمال أن يكون امرأة(3).
__________
(1) إجماعا في الرجل بالمرأة وذكر النووي وغيره أن منع إمامة المرأة للرجال هو مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف، والفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وقال أبو حامد: هو مذهب الفقهاء كافة إلا أبا ثور، وتقدم حديث أم ورقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تتخذ في دارها مؤذنا، وأمرها أن تؤم أهل دارها وإن كان فيهم رجل وخالف ذلك جماهير أهل العلم.
(2) «لا تؤمن امرأة رجلا»، ولأن المرأة عورة، فربما تشوش الأمر على الرجل فيكون سببا لفساد صلاته، وصيانتها واجبة.
(3) وتصح إمامة الخنيثى بنساء ويقفن خلفه، كالرجل وإن صلى رجل خلف خنثى وهو لا يعلم أنه خنثى، فبان بعد الفراغ أنه رجل، فلا إعادة عليه، لصحة صلاته في نفس الأمر، وعدم شكه حال الفعل، بما يفسدها، وتصح إمامة امرأة امرأة وخنثى خنثى قارئين، ورجالا أميين في نقل وتراويح فقط ويقفون
خلفهم لحديث أم ورقة قالت: يا رسول الله إني أحفظ القرآن وإن أهل بيتي لا يحفظونه فقال قدمي الرجال أمامك وقومي وصلى من ورائهم رواه الدارقطني وغيره ولما ذكر الشيخ اتباع الإمام أحمد لما دل عليه الكتاب والسنة قال: ولهذا جوز على المشهور عنه أن تؤم المرأة الرجال لحاجة، مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح اهـ ولا نزاع أن للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة، لكن هل يستحب؟ الأشهر أنه يستحب لهذا الخبر وغيره.(3/296)
(ولا) إمامة (صبي لبالغ) في فرض(1) لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقدموا صبيانكم» قاله في المبدع(2) وتصح في نفل(3).
__________
(1) هذا المذهب أن الصبي لا يكون إمامًا للبالغ.
(2) ولا يصح لمعارضته حديث عمرو وغيره، ولم يعز إلى شيء من كتب الحديث وقال ابن عبد الهادي: لا يصح ولا يعرف له إسناد صحيح، وعنه تصح إذا كان يعقلها وفاقا للشافعي وإحدى الروايتي لأبي حنيفة، وذكره غير واحد قول أكثر العلماء لحديث «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله»، الحديث ولحديث عمرو بن سلمة عند البخاري وغيره، وهو ابن سبع أو ثمان، والذين قدموه جماعة من الصحابة في عصر النبوة ولا يعدل عنه إلا بدليل، وقال ابن حزم، لا نعلم لهم مخالفا، وتقدم أن ذكوان أم وهو غلام لم يبلغ، رواه الشافعي وعبد الرزاق وغيرهم، وكرهها مالك وأصحاب الرأي في الفرض، وقال في الفروع، وبناؤهم المسألة على أن صلاتهم نافلة، ويقتضي صحة إمامته إن لزمته، قاله صاحب النظم وهو متجه اهـ ومن جازت إمامته في النفل جازت في الفرض، إلا بمخصص يجب المصير وقصة معاذ مشهورة.
(3) كتراويح ووتر، وصلاة كسوف واستسقاء إجماعا، لأنه متنفل يؤم متنفلا.(3/297)
وإمامة صبي بمثله(1) (و) لا إمامة (أخرس)(2) ولو بمثله، لأنه أخل بفرض الصلاة لغير بدل(3) (ولا) إمامة (عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود) إلا بمثله(4) (أو قيام) أي لا تصح إمامة العاجز عن القيام لقادر عليه(5) (إلا إمام الحي) أي الراتب بمسجد (المرجو زوال علته)(6).
__________
(1) يعني تصح وفاقا، لأنها نفل في حق كل منهما، فاتحدت صلاتهما.
(2) بناطق فلا تصح قولا، واحدا وفاقا، والأخرس محتبس اللسان عن النطق، خلقه أو إعياء، وتقدم.
(3) وهو القراءة والتحريمة وغيرهما، فلا يأتي به، ولا بدل لذلك، فلم تصح إمامته.
(4) أي عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود ونحو ذلك، فتصح إمامته به، وكذا عاجز عن استقبال، أو اجتناب نجاسة، أو عن الأقوال الواجبة، ونحو ذلك من الأركان والشروط، فلم تصح إلا بمثله في العجز عن ذلك الركن أو الشرط أو الواجب، كالقارئ بالأمي إلا بمثله، لأنه صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في المطر بالإيماء، واختار الشيخ صحة إمامة عاجز عن ركن أو شرط كالقاعد يؤم القائم.
(5) فلم يصح الاقتداء به، كالعاجز عن القراءة إلا بمثله.
(6) التي منعته القيام، ومفهومه أن إمام الحي إذا لم يرج زوال علته إن إمامته لا تصح، قال في الإنصاف، وهو الصحيح، وهو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب والحي البطن من القبيلة ومحلة القوم، الجمع أحياء، وسميت القبيلة بالحي لأن بعضهم يحيا ببعض و(إمام) بالجر صفة لعاجز، وكذا المرجو، وزوال نائب فاعل.(3/298)
لئلال يفضي إلى ترك القيام على الدوام(1) (ويصلون وراءه جلوسًا ندبا)(2) ولو كانوا قادرين على القيام، لقول عائشة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، وهو شاك، فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» إلى قوله: «وإذا صلى جالسا، فصلوا جلوسا أجمعون» قال ابن عبد البر: روي هذا مرفوعا من طرق متواترة(3)
__________
(1) ومخالفة الخبر، ولا حاجة إليه، والأصل فيه فعله صلى الله عليه وسلم وكان يرجى زوال علته.
(2) أي وراء إمام الحي، إذا مرض ورجي زوال علته.
(3) من حديث أنس وجابر وأبي هريرة وعائشة وغيرهم، وحكاه ابن حزم قول جمهور السلف، وادعي إجماع الصحابة فيه، وثبت عن أربعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن إمام الحي يحتاج إلى تقديمه، بخلاف غيره، والقيام أخف، بدليل سقوطه في النفل، وسدا لذريعة مشابهة الكفار، حيث يقومون على ملوكهم وهم قعود، وعنه: تصح قيامًا، لما في الصحيحين وغيرهما، أنه صلى الله عليه وسلم صلى جالسًا، والناس خلفه قيام، وذلك يوم السبت أو الأحد وتوفي يوم الاثنين.
قال الخطابي: وقد صلى قاعدا، والناس من خلفه قيام، فدل على أن حديث أنس وجابر منسوخ، وقاله الشافعي، وحكى الخطابي والقاضي والنووي وابن دقيق العيد وغيرهم صحتها خلفه قياما، قول أكثر العلماء، وذكره في الفروع اتفاقا،
ولأنه الأصل،ولم يأمر من صلى خلفه قائما بالإعادة، واختاره في النصيحة والتحقيق
وعنه: يصح مع غير إمام الحي وإن لم يرج زوالها، حكاه في الفروع وفاقا، لما ثبت عنه وعن الصحابة في حياته وبعد وفاته.
وقال الشافعي: يستحب للإمام إذا لم يستطع القيام استخلاف من يصلي بالجماعة قائما، كما استخلف النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. ولأن فيه خروجا من خلاف من منع الاقتداء بالقاعد، ولأن القائم أكمل، وأقرب إلى كمال هيئات الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين، وكان الاستخلاف أكثر، فدل على فضيلته وأم قاعدا في بعض الصلوات لبيان الجواز، ولأن الصلاة خلفه قاعدا، أفضل منها خلف غيره قائما، بدرجات، و(أجمعون) قال ابن هشام وغيره: روي بالرفع، تأكيد للضمير، وروي (أجمعين) بالنصب على الحال، وهو ضعيف، لاستلزامه التنكير وهو معرفة بنية الإضافة.(3/299)
.
(فإن ابتدأ بهم) الإمام الصلاة (قائما ثم اعتل) أي حصلت له علة عجز معها عن القيام (فجلس أتموا خلفه قيامًا وجوبًا)(1) لأنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته قاعدًا، وصلى أبو بكر والناس خلفه قيامًا، متفق عليه عن عائشة(2).
__________
(1) ولم يصح الجلوس، نص عليه، وقال في الإنصاف: بلا نزع، ولأن القيام هو الأصل، فإذا بدأ به في الصلاة، لزمه في جميعها إذا قدر عليه، كمن أحرم في الحضر ثم سافر.
(2) ولفظه: جلس إلى جنبه، عن يسار أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي قائما وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس بصلاة أبي بكر، ولمسلم: يصلي بالناس، وأبو بكر يسمعهم التكبير، وهو ظاهر الدلالة في اقتداء القائم بالقاعد.(3/300)
وكان أبو بكر قد اتبدأ بهم قائما، كما أجاب به الإمام(1) (وتصح خلف من به سلس البول بمثله)(2) كالأمي بمثله(3) (ولا تصح خلف محدث) حدثا أصغر أو أكبر(4) (ولا) خلف (متنجس) نجاسة غير معفو عنها(5) إذا كان (يعلم ذلك) لأنه لا صلاة له في نفسه(6) (فإن جهل هو) أي الإمام، (و) جهل المأموم حتى انقضت(7).
__________
(1) يعني أحمد رحمه الله، فيتمها كذلك، وقال: ليس في الحديثين الآخرين حجة، وأنكر النسخ، وجمع بينهما.
(2) لا بغير مثله، لأن في صلاته خللا غير مجبور ببدل، لكونه يصلي مع خروج النجاسة التي يحصل بها الحدث، المنافي للطهارة، أشبه ما لو ائتم بمحدث يعلم حدثه، وإنما صحت صلاته في نفسه للضرورة، وبمثله لتساويهما في خروج الخارج المستمر وكذا من به نجو وريح ورعاف لا يرقأ دمه وقروح سيالة تصح بمثله، لا بغير مثله، ولو عبر كالفروع بـ (من حدثه مستمر) لكان أشمل.
(3) أي كما تصح صلاة الأمي بمثله إجماعا فتصح، خلف من به سلس البول ونحوه بمثله، إذا اتحد عذرهما، لا إن اختلف.
(4) يعلم حدثه، لأنه أخل بشرط الصلاة مع القدرة، أشبه المتلاعب، ولكنه لا صلاة له في نفسه، فيعيد من خلفه، وقال غير واحد: أجمعت الأمة على تحريم الصلاة خلف محدث علم حدثه.
(5) سواء كانت ببدنه أو ثوبه أو بقعته.
(6) أشبه التلاعب فيعيد من خلفه.
(7) أي جهلوا الحدث أو النجس حتى فرغوا منها والنسيان كالجهل.(3/301)
(صحت) الصلاة (لمأموم وحده)(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى الجنب بالقوم أعاد صلاته، وتمت للقوم صلاتهم» رواه محمد بن الحسين الحراني، عن البراء بن عازب(2).
__________
(1) وفاقا لمالك والشافعي، وجمهور السلف والخلف، ويعيد الإمام وحده.
(2) ابن الحارث الأنصاري، صحابي ابن صحابي، استصغر يوم بدر، ونزل الكوفة ومات سنة اثنتين وسبعين رضي الله عنه، ولقوله :صلى الله عليه وسلم «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن اخطأوا فلكم وعليهم» رواه البخاري وغيره، ولحديث أبي بكرة: دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر، فصلى بهم، وقال: «إنما أنا بشر، وإني كنت جنبا» وإسناده صحيح، وصح عن عمر أنه صلى بالناس الصبح، ثم خرج إلى الجرن، فإهراق الماء، فوجد في ثوبه احتلاما، فأعاد ولم يعد الناس، ونحوه عن عثمان وعلي وابن عمر، وهذا في محل الشهرة، ولم ينكر، فكان إجماعا.
وقال الشيخ: وبذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين، فإنهم صلوا بالناس، ثم رأوا الجنابة بعد الصلاة، فأعادوا، ولم يأمروا الناس بالإعادة، ولأن الحدث مما يخفي ولا سبيل إلى معرفته، فكان المأموم معذورا، وقال: الناس في انعقاد صلاة المأموم بصلاةالإمام على ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه لا ارتباط بينهما (والثاني) أنها منعقدة بها مطلقا، (والثالث) أنها منعقدة بها، لكن إنما يسري النقص، إلى صلاة المأموم، مع عدم العذر منهما، فإما مع العذر فلا يسري النقص، فإذ كان الإمام يعتقد طهارته، فهو معذور في الإمامة، والمؤتم معذور في الإمامة، والمؤتم معذور في الإئتمام، وهذا قول مالك وأحمد وغيرهما، وعليه يتنزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة، وهو أوسط الأقوال، ويدل على صحته ما في الصحيح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، ولهم، وإن اخطأوا فلكم وعليهم» فهذا نص في أن درك خطئه عليه، لا على المأموم.(3/302)
وإن علم هو، أو المأموم فيها استأنفوا(1) وإن علم معه واحد أعاد الكل(2) وإن علم أنه ترك واجبًا عليه فيها سهوا(3) أو شك في إخلال إمامه بركن أو شرط صحت صلاته معه، بخلاف ما لو ترك السترة أو الاستقبال، لأنه لا يخفى غالبا(4) وإن كان أربعون فقط في جمعة،وفيهم واحد محدث أو نجس،
__________
(1) أي وإن علم الإمام الحدث أو النجس وهو في الصلاة استأنفوا أو علم المأموم حدثه أو نجسه في الصلاة استأنفوا لعدم صحتها، قال أحمد: يعجبني أن يبتدئوا الصلاة، وإن كان المأموم واحدا وادعاه، وكان غير مقبول الخبر، لم يرجع القول: واستأنف هو فقط، وعنه: ببني المأموم، وفاقًا لمالك والشافعي، محافظة على فضيلة الجماعة، قال الشافعي: يبنون على صلاتهم، لأن مامضى منها صحيح، وقالت الحنفية: اختلفت الصحابة في ذلك، فيصار للقياس، وهو ظااهر وعنه يستخلف الإمام،والدليل على ثبوت الاستخلاف شرعًا إجماع الصحابة، وقصة عمر مشهورة، وعلى رعف فأخذ بيد رجل فقدمه وانصرف، رواه سعيد.
(2) أي فتبطل صلاة الكل بعلم واحد من المأمومين الذين معه، واختار القاضي والموفق والشارح وغيرهم، يعيد العالم، ونقل أبو طالب: إن علم اثنان وأنكر هو أعاد الكل، واحتج بخبر ذي اليدين، وقاعدة الشيخ: يعيد من علم فقط، وفهم منه أنه لو علم واحد أو أكثر ممن ليس معه، لم تبطل صلاة المأمومين.
(3) صحت صلاته معه.
(4) وكذا إن فسدت صلاته لترك ركن، فسدت صلاتهم، كما لو ترك تكبيرة الإحرام.(3/303)
أعاد الكل سواء كان إماما أو مأموما(1) (ولا) تصح (إمامة أمي)(2) منسوب إلى الأم، كأنه على الحالة التي ولدته عليها(3).
(وهو) أي الأمي (من لا يحسن) أي يحفظ (الفاتحة)(4) أو يدغم فيها ما لا يدغم بأن يدغم حرفا فيما لا يماثله أو يقاربه، وهو الأرت(5).
__________
(1) لأن المحدث أو النجس وجوده كعدمه، فينقص العدد المعتبر للجمعة، وكذا العيد، وهذا على القول بأن الأربعين شرط فيها ويأتي.
(2) بمن يحسنها، مضت السنة على ذلك، قاله الزهري وغيره، فتبطل صلاة المأموم لاقتدائه بمن لا يجوز الاقتداء به إجماعًا، لأن القراءة شرط، فلم يصح اقتداء القادر عليه بالعاجز، كالطهارة وهو يتحملها عن المأموم، والعاجز عنها ليس من أهل التحمل، وعند أبي حنيفة ومالك تبطل صلاة الإمام أيضا، لإمكانه الصلاة خلف من يحسنها، والمذهب وفاقًا للشافعي، لا تبطل صلاة الإمام كالأميين، والأمي لغة من لا يكتب، ومن ذلك وصفه صلى الله عليه وسلم بالأمي، وقال: «أنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»
(3) باقٍ على جبلته، لم يقرأ ولم يكتب، وقال القاضي عياض: منسوب إلى الأم، إن النساء - في الغالب من أحوالهن - لا يكتبن ولا يقرأن مكتوبًا فلما كان الابن بصفتها نسب إليها، كأنه مثلها وقيل لأمة العرب، أمية، لأنها لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب.
(4) يعني عند الفقهاء اصطلاحا، من لا يحفظ الفاتحة.
(5) بالمثناة المشددة، ورت رتتا كان في لسانه رتة أي عجمة فهو أرت، وهو من يدغغم حرفا في حرف، في غير موضع الإدغام، وقيل: من يبدل الراء
بالياء وقيل: من يلحقه رتج في كلامه، وفي المذهب هو الذي في لسانه عجلة تسقط بعض الحروف، وكذا الألكن لا تتبين قراءته.(3/304)
(أو يبدل حرفا) بغيره، وهو الألثغ(1) كمن يبدل الراء غينًا(2) إلا ضاد المغضوب عليهم والضالين بظاء(3) (أو يلحن فيها لحنا يحيل المعنى) ككسر كاف (إياك) وضم تاء (أنعمت) وفتح همزة (أهدنا)(4).
__________
(1) بالمثلثة والمعجمة وهو تحول اللسان من حرف إلى حرف كما صرح به هو وغيره، وحبسة بالكلام، وأبدل الشيء وبدله غيّره اتخذ عوضا عنه.
(2) لأن الغين لم تكن من أحرف الإبدال، وإنما هما مختلفتان صوتا ومخرجا فلا يحصل بهما مقصود القراءة، وكذا إبدال الراء لامًا أو ياء، أو السين ثاء أو الجيم شينًا أو إبدال حرف بحرف مختلفي المخرج، وحكي فيه الإجماع.
قال الشيخ: فلا يصلي خلف الألثغ يعني إلا من هو مثله اهـ ولا تضر لثغة يسيرة لم تمنع أصل المخرج.
(3) فلا يصير به أميًا، سواء علم الفرق بينهما لفظا ومعنى أو لا، لأن كلا منهما من طرف اللسان، وبين الأسنان، وكذلك مخرج الصوت واحد،وقال الشيخ: الضاد إذا أخرجه من طرف الفم، كما هو عادة كثيرة من الناس، ففيه وجهان، الثاني يصح، لأن الحرفين في السمع شيء واحد، وجنس وأحدهما من جنس الآخر، لتشابه المخرجين والقارئ إنما يقصد الضلال المخالف للهدي، وهو الذي يفهمه المستمع، وقال ابن كثير: والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما.
(4) إذا غيّره عجزًا عن إصلاحه فهو أمي قال الجوهري اللحن الخطأ في
الإعراب، يقال: فلان لحان أي يخطئ، ولحانة أيضا اهـ وإذا فتح همزة (أهدنا) لم تصح إمامته إلا بمثله، لأن معنى (أهدنا) بفتح الهمزة: أهد إلينا، وإذا عجز عن فرض القراءة لم تصح إلا بمثله.(3/305)
فإن لم يحل المعنى كفتح دال (نعبد) ونون (نستعين) لم يكن أميا(1) (إلا بمثله) فتصح لمساواته له(2) ولا يصح اقتداء عاجز عن نصف الفاتحة الأول، بعاجز عن نصفها الأخير، ولا عكسه(3) ولا اقتداء قادر على الأقوال الواجبة بعاجز عنها(4).
__________
(1) فتصح إمامته.
(2) إجماعا وهو استثناء من قوله: ولا تصح. إلخ، قال الشيخ: إن لحن لحنا يحيل المعنى في الفاتحة لم يصل خلفه إلا من يكون لحنه مثل لحنه، إذا كانا عاجزين عن إصلاحه، وذكر أنه مثل أن يقول (أنعمت) وهو يعلم أنه ضمير المتكلم، فلا تصح، وإن لم يعلم أنه يحيل، واعتقد أنه ضمير المخاطب ففيه نزاع اهـ والمساواة المماثلة والمعادلة.
(3) أي العاجز عن نصفها الأخير، بعاجز عن نصفها الأول، ولا من يبدل حرفا منها، بمن يبدل حرفا غيره، والعلة في لك عدم المساواة، وإن لم يحسنها، لكن أحسن بقدرها من القرآن، لم يجز أن يأتم إلا بمن لا يحسن شيئا منها، ولو اقتدى في سرية بمن لا يعرف حاله، لم يجب البحث عن كونه قارئا، بناء على الغالب.
(4) لعدم المساواة.(3/306)
(وإن قدر) الأمي (على إصلاحه لم تصح صلاته) ولا صلاة من ائتم به، لأنه ترك ركنا مع القدرة عليه(1) (وتكره إمامة اللحان) أي كثير اللحن الذي لا يحيل المعنى(2) فإن أحاله في غير الفاتحة لم يمنع صحة إمامته(3) إلا أن يتعمده، ذكره في الشرح(4).
__________
(1) وذلك بإخراجه عن كونه قرآنا فهو كسائر الكلام، قال في الشرح والمبدع: لأنه ترك ركنا من أركان الصلاة، مع القدرة عليه، أشبه تارك الركوع، قال في الفروع: ويكفر إن اعتقد إباحته، ومتى أصلحه صحت.
(2) ولا تبطل به، قال الشيخ: فأما اللحن الخفي، واللحن الذي لا يحيل المعنى فلا يبطل الصلاة، وفي الفاتحة قراءات كثيرة، قد قرئ بها فلو قرأ عليهم و(عليهُم) و(عليهٌم) أو قرأ (الصراط) و(السراط) و(الزراط) فهذه قراءات مشهورة ولو قرأ (الحمدُ) و(الحمدَ) أو قرأ (ربَّ العالمين) أو (ربُّ العالمين) أو قرأ بالكسر، ونحو ذلك لكان قد قرأ قراءات قد قرئ بها، وتصح الصلاة خلف من قرأ بها، وإن كان إمام راتب، في البلد أقرأ منه صلى خلفه اهـ ولا تكره إمامة من سبق لسانه باليسير منه، فقل من يخلو منه.
(3) لأن ما سوى الفاتحة ليس بركن ولا واجب.
(4) فيصير عمده كالكلام، فإن تعمد غير الأمي إدغام ما لا يدغم، أو اللحن المحيل للمعنى، أو قدر أمي على إصلاحه فتركه، أو زاد من يدغم أو يبدل أو يلحن على فرض القراءة، يعني الفاتحة عمدا، لم تصح صلاته، قال الشيخ: وإن لحن لحنا يحيل المعنى، في غير الفاتحة، وتعمده بطلت صلاته.(3/307)
وإن أحاله في غيرها سهوا أو جهلا، أو لآفة صحت صلاته(1) (و) تكره إمامة (الفأفاء والتمتام) ونحوهما(2) والفأفاء الذي يكرر الفاء، والتمتام الذي يكرر التاء(3) (و) تكره إمامة (من لا يفصح ببعض الحروف) كالقاف والضاد(4) وتصح إمامته أعجميا كان أو عربيا(5).
__________
(1) لقوله: «عفي عن أمتي الخطأ والنسيان» وجعلًا له كالمعدوم، وقال الشيخ: إن لحن لحنا لا يحيل المعنى في غير الفاتحة، سهوا أو عجزا صحت الصلاة خلفه والآفة العاهة جمعها آفات.
(2) كالوأواء، وهو من يكرر الواو، وكذا سائر الحروف، لزيادته، ونفرة الطبع عن سماعه.
(3) وفأفأ فأفأة أكثر الفاء، وتردد فيها في كلامه، وقيل حبسه في اللسان والتمتمة رده الكلام إلى التاء والميم، أو يخطئ موضع الحرف، فيرجع إلى لفظ كتاء والميم، وإن لم يكن بينا، والقياس التأتاء، وتصح لأنهما يأتيان بالحروف على وجهها، ويزيدان هما مغلوبان عليها، فعفي عنها، وكرهت لهما.
(4) لعدم فصاحته،وقيل: من قرأ ولا الضالين بالظاء المشالة لم تصح، لأنه يحيل المعنى، يقال ظل يفعل كذا، إذا فعله نهارًا، فهو كالألثغ، وقال الشيخ: يصح في أصح الوجهين، وعلله بأنه إنما يقصد الضلال الذي هو ضد الهدي، ولأن مخرجهما من طرف اللسان وبين الأسنان، فمخرج الصوت واحد وتقدم.
(5) لإتيانه بفرض القراءة والأعجمي كل من ليس من العرب، سواء كان من الفرس أو الترك أو الإفرنج أو غيرهم، والعرب جيل من الناس خلافهم وهم البينوا العروبة، والذين لهم نسب صحيح في العرب.(3/308)
وكذا أعمى وأصم وأقلف(1) وأقطع يدين أو رجلين، أو إحداهما إذا قدر على القيام(2) ومن يصرع(3).
__________
(1) فتكره لأنه إذا سها لا يمكن تنبيهه بتسبيح ولا إشارة، وتصح، والصمم انسداد الأذن، وثقل السمع، وفي الكليات، هو أن يكون الصماخ قد خلق باطنه أصم ليس فيه التجويف الباطن، المشتمل على الهواء الراكد، الذي يسمع الصوت بتموجه، وأما الأقلف فللاختلاف في صحة إمامته، وأما صحة إمامتهم فلأن الكل منهم ذكر مسلم عدل، قارئ لا يخل بشيء من أفعال الصلاة ولا بشروطها، فصحت إمامته كالبصير والسميع والمختون، ثم إن كان الأقلف مفتوق القلفة يمكنه غسل ما تحتها، فلا بد من غسل النجاسة التي تحتها، فلو تركها لم تصح صلاته قولا واحدا، لحمله نجاسة لا يعفى عنها، مع القدرة على إزالتها وإلا فهي معفو عنها، لعدم إمكان إزالتها، وكل نجاسة معفو عنها، لا تؤثر في بطلان الصلاة.
(2) بأن جعل له رجلين من خشب ونحوه، وأما إذا لم يمكنه القيام فلا تصح إمامته إلا بمثله، وأما أقطع اليدين، فإذا أمكنه السجود عليهما فقال شيخ الإسلام: إذا كانت يداه يصلان إلى الأرض في السجود، فإنه تجوز الصلاة خلفه بلا نزاع، وإنما النزاع فيما إذا كان أقطع اليدين والرجلين ونحو ذلك، ولم يمكنه وأما إذا أمكنه السجود على الأعضاء السبعة، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم»، الحديث، فإن السجود تام، وصلاة من خلفه تامة.
(3) بالبناء المجهول، من الصرع، وهو داء يشبه الجنون، وفي الصحاح وغيره: علة معروفة، وعند الأطباء، علة تمنع الأعضاء النفسانية عن أفعالها، منعا غير تام، وسببه سدة تعرض في بعض بطون الدماغ، وفي مجاري الأعصاب المحركة للأعضاء، من خلط غليظ، أو لزج كثير، فتمنع الروح، عن السلوك فيها، فتشنج الأعضاء، وتحدث فيها رعدة، وحركات مختلفة.(3/309)
فتصح إمامتهم مع الكراهة، لما فيه من النقص(1) (و) يكره (أن يؤم) امرأة (أجنبية فأكثر لا رجل معهن)(2) لنهيه صلى الله عليه وسلم أن يخلو الرجل بالأجنبية(3) فإن أم محارمه(4) أو أجنبيات معهن رجل، فلا كراهة، لأن النساء كن يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة(5) (أو) أن يؤم (قومًا أكثرهم يكرهه بحق) كخلل في دينه أو فضله(6).
__________
(1) قال في الفروع: أو تضحك رؤيته، ومن اختلف في صحة إمامته، ويؤخذ منه كراهة إمامة الموسوس لئلا يقتدى به.
(2) أي من محارم إحداهن، فإن كان فيهن رجل لم يكره، وكذا لو كان فيهن محرم له.
(3) ففي الصحيحين «لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم»، وغير ذلك من الأحاديث، فيحرم عليها وعليها، ويكره بأكثر، لما فيه من مخالطة الوسواس، ولا يحرم، لأن النساء المجتمعات لا يتمكن في الغالب من مفسدة بعضهن في حضرتهن.
(4) وهن من يحرمن عليه، بنسب أو سبب مباح، أو محارمه ومعهن أجنبيات فلا كراهة.
(5) وأقرهن على ذلك، وإن خلا رجال بامرأة فالمشهور تحريمه لأنه قد يقع اتفاق رجال على فاحشة امرأة، إلا أن يكونوا ممن يبعد مواطأتهم على الفاحشة، والأمرد الحسن له حكم المرأة، لأن المعنى المخوف في المرأة موجود فيه.
(6) وكان فيهم من هو أولى منهم، وقال أحمد: إذا كرهه اثنان أو ثلاثة فلا بأس، وحتى يكرهه أكثرهم، وقيل: عني به الظلمة.(3/310)
لقوله :صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم(1) العبد الآبق حتى يرجع(2) وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط(3) وإمام قوم وهم له كارهون»(4) رواه الترمذي وقال في المبدع: حسن غريب وفيه لين(5).
__________
(1) جمع أذن، أي لا ترفع إلى الله، رفع العمل الصالح.
(2) أي إلى أمر سيده.
(3) يعني لسوء خلقها ونحوه.
(4) قيده أهل العلم بالكراهة الدينية، لسبب شرعي، قال الخطابي والبغوي وغيرهما، إذا كرهوا لمعنى مذموم، كوالٍٍٍ ظالم، أو من تغلب على إمامة الصلاة ولا يستحقها، أو لا يتصون من النجاسات، أو يمحق هيئات الصلاة، أو يتعاطى معيشة مذمومة، أو يعاشر أهل الفسوق ونحوهم، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا كراهة، والعتب على من كرهه، وقال الشيخ: إذا كانوا يكرهونه لأمر في دينه مثل كذبه أو ظلمه أو جهله أو بدعته ونحو ذلك، ويحبون آخر أصلح منه في دينه، مثل أن يكون أصدق أو أعلم أو أدين، فإنه يجب أن يولي عليهم هذا الذي يحبونه، وليس لذلك الرجل الذي يكرهونه أن يؤمنهم، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: رجل أم قومًا وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دبارًا، ورجل اعتبد محررا» وقال أيضا: إذا كان بينهم معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء والمذاهب لم ينبغ أن يؤمهم لأن المقصود بالصلاة جماعة إنما يتم الائتلاف وقال عليه الصلاة والسلام «لاتختلفوا فتختلف قلوبكم» وقال القاضي: المستحب أن لا يؤمهم صيانة لنفسه، وقال المجد: أو لدنياه، وهو ظاهر كلام جماعة، ولا يكره الائتمام به، لأن الكراهة في حقه.
(5) وحسنه الترمذي والحافظ، ورواه ابن ماجه بإسناد حسن عن ابن عباس
وأبو داود وغيره عن عبد الله بن عمرو، ولأبي داود من طريق الإفريقي أنها لا تقبل صلاته، قال الشيخ: أتى بواجب ومحرم فقاوم صلاته، فلم تقبل إذ الصلاة المقبولة ما يثاب عليها.(3/311)
فإن كان ذا دين وسنة، وكرهوه لذلك، فلا كراهة في حقه(1) (وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما)(2) وكذا اللقيط والأعرابي حيث صلحوا لها(3) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم»(4) (و) تصح إمامة (من يؤدي الصلاة بمن يقضيها(5) وعكسه) من يقضي الصلاة بمن يؤديها(6).
__________
(1) وإنما العتب على من كرهه كما تقدم.
(2) قال الحافظ وغيره: وهو مذهب جمهور العلماء، والجندي جمعه أجناد وجنود، أعوان السلطان وأنصاره وعساكره، وتجند صار جنديا.
(3) وسلم دينهم وقال الحافظ وغيره: هو مذهب جمهور العلماء وكذا منفي لعان، وصلى الناس خلف ابن زياد، وهو ممن في نسبة نظر، وقالت عائشة في ولد الزنا، ليس عليه من وزر أبويه شيء، واللقيط الملقو المولود، الذي ينبذ لا يدري ما أصله فيلقط ويأتي في بابه، إن شاء الله تعالى.
(4) الحديث وتقدم فهو بعمومه شملهم.
(5) إذا كان يؤخر صلاة الظهر مع العصر جمعا، فيأتي آخر وقد خرج وقت الظهر ولم يصله، فيصلي الظهر مع ذلك الناوي للجمع، أو لعذر نوم ونحوه، لصحة القضاء بنية الأداء فيما إذا صلى فبان بعد خروج الوقت.
(6) كظهر أداء، خلف ظهر قضاء، قال الخلال، المذهب عندي في هذا رواية واحدة، وغلط من نقل غيرها.(3/312)
لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت(1) وكذا لو قضى ظهر يوم ، خلف ظهر يوم آخر(2) (لا) ائتمام (مفترض بمتنفل)(3) لقوله صلى الله عليه وسلم : «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه»(4).
__________
(1) فصحت، لأنه في معناه.
(2) كقضاء ظهر يوم أربعاء، خلف ظهر يوم خميس، ونحوه.
(3) هذا المذهب ، وعللوا بأن صلاة الأموم لا تؤدى بنية الإمام، لاختلافهما.
(4) أي فيكون صلاة المأموم غير صلاة الإمام اختلاف عليه؛ لأن صلاة المأموم لا تتأدى بنية صلاة الإمام، إلا إذا صلى بهم في خوف صلاتين، فيصح وعنه: يصح، وفاقًا للشافعي، لصلاة معاذ بقومه العشاء، وكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة ، متفق عليه، وفي بعض ألفاظ حديث جابر: «هي له تطوع»، ولما استدلوا به من صلاته صلى الله عليه وسلم بالطائفة الثانية في صلاة الخوف، وهي له نافلة، ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال المعهودة، وتصحان جماعة وفرادى، فصح بناء إحداهما على الأخرى، وقوله: «فلا تختلفوا عليه» يعني في الأفعال، كما هو ظاهر من فعله صلى الله عليه وسلم، وإقراره لمعاذ، ولقوله في آخر الحديث: «وإذا ركع فاركعوا» إلخ، واختاره في النصيحة، والتبصرة، والموفق، والشيخ، وعبد الله بن الشيخ محمد وشيخنا وغيرهم.
قال الشيخ : والذين منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة، فإنها احتجوا بلفظ لا يدل على محل النزاع كقوله: «إنما جعل الإمام ليؤتم به»، وبأن الإمام ضامن، وليس في هذين ما يدفع تلك الحجج، والاختلاف المراد به الاختلاف في الأفعال، كما جاء مفسرًا، واختار جواز صلاة من يصلي العشاء الآخرة، خلف من يصلي قيام رمضان، يصلي خلفه ركعتين، ثم يقوم فيصلي، فيتم ركعتين.(3/313)
ويصح النفل خلف الفرض(1) (ولا) يصح ائتمام (من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرهما)(2) ولو جمعة في غير المسبوق، إذا أدرك دون ركعة(3) قال في المبدع: فإن كانت إحداهما تخالف الأخرى كصلاة كسوف واستسقاء، وجنازة وعيد منع فرضًا(4) وقيل: ونفلاً لأنه يؤدي إلى المخالفة في الأفعال انتهى(5).
فيؤخذ منه صحة نفل خلف نفل آخر لا يخالفه في أفعاله، كشفع وتر خلف تراويح(6) حتى على القول الثاني(7).
فصل
__________
(1) إجماعا لقوله: «ألا رجل يتصدق على هذا؟» وقوله: «فصليا معنا، فإنها لكما نافلة» ولأن في نية الإمام ما في نية المأموم، وهو نية التقرب وزيادة، وهي الوجوب، فلا وجه للمنع.
(2) لأنه يؤدي إلى الاختلاف كما تقدم، وعنه: يصح ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر وغيرها، واختاره الشيخ وغيره: وهي فرع على ائتمام المفترض بالمنتفل وتقدم، بل هنا أولى، لصحة الظهر خلف من يصلي الجمعة، كما سيأتي.
(3) أي من الجمعة، وكان نوى الظهر، ودخل وقته، فإنه ينويها ظهرًا، حالة كونه داخلاً مع الإمام، فيجوز أن يقتدي به.
(4) أي امتنع فعلها خلف فرض، لأنه يؤدي إلى التخالف في الأفعال، لتغايرهما صورة كمن يصلي فجرًا خلف استسقاء أو غيرها، هذا إذا اعتقد أن تلك فرض كفاية، قال شيخنا: وهو في بعض الصور ظاهر في الدليل، وأما صلاة فجر خلف استسقاء وعيد فالاختلاف يسير، ولو ترك لم تبطل به.
(5) أي وقيل: صلاة نفل خلف نفل تخالفًا، كشفع مثلا خلف كسوف لتغايرهما صورة، ولم يذكر الأصحاب هذه العبارة سوى صاحب المبدع.
(6) أي: يؤخذ من قول صاحب المبدع: منع فرضًا، لأن النافلة أوسع من الفريضة.
(7) وهو قوله: وقيلا نفلا، قال في الغاية: شروط الإمامة ثمانية، إسلام وعدالة وعقل ونطق وتمييز، وبلوغ إن أم بالغا في فرض، وذكورية إن أم ذكرا، وقدرة على شرط وركن، وواجب إن أم قادرًا، وتقدمت مفصلة موضحة.(3/314)
في موقف الإمام والمأموين(1)
السنة أن (يقف المأمومون) رجالاً كانوا أو نساء، إن كانوا اثنين فأكثر (خلف الإمام)(2) لفعله عليه الصلاة والسلام، كان إذا قام إلى الصلاة قام أصحابه خلفه(3) ويستثنى منه إمام العراة يقف وسطهم وجوبًا(4).
والمرأة إذا أمت النساء تقف وسطهن استحبابًا، ويأتي(5) (ويصح) وقوفهم (معه) أي مع الإمام (عن يمينه أو عن جانبيه)(6) لأن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل، رواه أحمد.
__________
(1) في الفرض أو النفل في صلاة الجماعة.
(2) بإجماع المسلمين، سواء كانوا رجلين فأكثر، أو صبيين فأكثر، أو رجلاً وصبيًا، عند العلماء كافة، إلا ابن مسعود وصاحبيه فيكونون صفًا، وقال ابن القيم، الإمام يسن له التقدم بالاتفاق، والمؤتمون يسن في حقهم الاصطفاف بالاتفاق.
(3) نقله الخلف عن السلف، واستمر أمر المسلمين عليه، إلا ما استثني لحاجة كضيق مكان ونحوه، وفي صحيح مسلم: أن جابرًا وجبارًا وقف أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فأخذ بأيديهما حتى أقامهما خلفه، ولأنه إنما قدم ليراه المأمومون فيأتموا به، ويكون الإمام مقابلا لوسط الصف، لخبر وسطوا الإمام وسدوا الخلل، ونقله الخلف عن السلف، وبنيت المحاريب كذلك، وتقدم الإجماع على أنه إذا كان المأموم واحدا قام عن يمينه، لصلاته صلى الله عليه وسلم بابن عباس وجابر وغيرهما، وهو قول العلماء كافة، ويأتي الجواب عن أثر ابن مسعود إنه لضيق المكان.
(4) إذا لم يكونوا في ظلمة، فإن كان فلا وجوب وتقدم.
(5) يعني قوله: وإمامة النساء تقف في صفهن، لأنه يستحب لهن التستر. وهذا أستر.
(6) ويكره عند جماهير العلماء، قال النووي: لأن تقدم الإمام سنة لمواظبته صلى الله عليه وسلم والإعراض عن سنته مكروه.(3/315)
وقال ابن عبد البر: لا يصح رفعه، والصحيح أنه من قول ابن مسعود(1) لإقدامه أي لإقدام الإمام، فلا تصح للمأموم ولو بإحرام(2).
__________
(1) وهو في صحيح مسلم وغيره من طريقين، بدون آخره، وفي طريق به، وإن صح فلعله لضيق المكان، كما قاله ابن سيرين، وأيضا كان بمكة، وخبر جابر وغيره كان بالمدينة، وتقدمه متواتر لا عدول عنه، ولعل ابن مسعود لم يطلع على قصة جابر واليتيمم وخفي عليه النسخ، كما صرح به الحازمي وغيره، وأيضا هو مهجور الظاهر بالإجماع، وفي الثلاثة لا فيما زاد عنهم، وعلقمة هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، توفي بعد الستين أو السبعين، والأسود هو ابن يزيد بن قيس النخعي مات سنة أربع وسبعين.
(2) أي ولو كان تقدم على إمامه بإحرام ثم إن كان متقدما حال الإحرام لم تنعقد وبعده بطلت بتقدمه وذكر الشيخ وجهًا يكره، وتصح وفاقًا لمالك قال في
الفروع وأمكن الاقتداء وهو متجه، وقيل: تصح جمعة ونحوها بعذر، اختاره شيخنا، وقال: من تأخر بلا عذر فلما أذن جاء فصلى قدامة عذر، قال: إذا لم يمكنه أن يصلي مع الجماعة إلا قدام الإمام، فإنه يصلي هنا، لأجل الحاجة، وهو قول طوائف من أهل العلم، ومن الأصول الكلية أن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب، والمضطر إليه بلا معصية غير محظور، فلم يوجب الله ما يعجز عنه العبد، ولم يحرم ما يضطر إليه.(3/316)
لأنه ليس موقفًا بحال(1) والاعتبار بمؤخر القدم وإلا لم يضر(2) وإن صلى قاعدا فالاعتبار بالألية(3) حتى لو مد رجليه وقدمهما على الإمام لم يضر(4) وإن كان مضطجعا فبالجنب(5).
__________
(1) وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» ولأنه لم ينقل ولا هو في معنى المنقول فلا يصح، وقال الشيخ: فيه ثلاثة أقوال: أولاها الصحة إذا لم يمكنه إلا تكلفا.
(2) عطف على محذوف تقديره: فإن تقدم بمؤخر القدم ضر، وإلا لم يضر، والقدم هو العقب لما في الصحيحين، «أقيموا صفوفكم» قال: فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه،وكعبه بكعبه ولا يضر تقدم أصابع المأموم لطول قدمه، ولا تقدم رأسه في السجود لطوله، والحكم على كل من تقدم بكل القدمين أو تأخر بهما، أو انفصل بقدرهما، ببطلان صلاته، لا دليل عليه، ولا نزاع أن تسوية الصف سنة، والتراص إلزاق الكعاب سنة مؤكدة، وشريعة مستقرة.
(3) لأنها محل القعود.
(4) كما لو قدم القائم رجله مرفوعة عن الأرض، لعدم اعتماده عليها، وقال في الفروع ويتوجه العرف.
(5) وقال بعض أهل العلم: لا أعرف هذا، ولا إمامة فيه، وقال ابن رشد: القياس جوازه إن أمكن فالله أعلم.(3/317)
وتصح داخل الكعبة إذا جعل وجهه إلى وجه إمامه أو ظهره إلى ظهره(1) لا إن جعل ظهره إلى وجه إمامه، لأنه متقدم عليه(2) وإن وقفوا حول الكعبة مستديرين صحت(3) فإن كان المأموم في جهته أقرب من الإمام في جهته جاز(4) إن لم يكونا في جهة واحدة، فتبطل صلاة المأموم(5) ويغتفر التقدم في شدة خوف، وإذا أمكن المتابعة(6) (ولا) يصح للمأموم إن وقف (عن يساره فقط) أي مع خلو يمينه(7).
__________
(1) في الأصح وفاقًا، لأنه لا يتحقق تقدمه عليه، ولا يعتقد خطؤه.
(2) مع اتحاد جهتهما.
(3) كما فعله ابن الزبير، واجمعوا عليه، ولا يضر تقدم المأموم حيث كان في الجهة المقابلة للإمام لأنه في غير جهته، ولا يتحقق تقدمه عليه، وقال في الفروع: يجوز تقديم المأموم في جهتين وفاقًا، والصف الأول حينئذ في غير جهة الإمام هو ما اتصل بالصف الأول الذي وراء الإمام، لا ما قرب من الكعبة.
(4) صرح به في المبدع، وهو معنى كلام صاحب المنتهى وغيره.
(5) إن تقدم عليها فيها، لأنه يكون في حكم المتقدم على إمامه.
(6) أي أمكن المأموم المتابعة حال شدة الخوف، كوقوع المسايفة والمضاربة والمصاولة والمجاولة، لدعاء الحاجة إليه، وحذف المفعول لأنه فضلة، فإن لم يمكنه متابعته لم يصح الاقتداء.
(7) سواء كان خلفه مأمومون أو لا.(3/318)
إذا صلى ركعة فأكثر، لأنه صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس وجابرا عن يساره إلى يمينه(1) وإذا كبر عن يساره أداره من ورائه إلى يمينه(2) فإن كبر معه آخر وقفا خلفه(3) فإن كبر الآخر عن يساره، أدارهما بيده وراءه(4) فإن شق ذلك أو تعذر تقدم الإمام فصلى بينهما، أو عن يسارهما(5).
__________
(1) ففي الصحيحين عن ابن عباس: أخذ برأسي من روائي فجعلني عن يمينه، وتقدم حديث جابر: أخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، وهذا فيما إذا صلى ركعة فأكثر، أما إذا استدار قبل فصحيحة، وعنه تصح عن يساره مع خلو يمينه وفاقًا، اختاره أبو محمد وغيره، وصوبه في الإنصاف، واستظهره في الفروع، وقال في الشرح: وهي القياس، كما لو كان عن يمينه، وكونه رد جابرًا وابن عباس لا يدل على عدم الصحة، بدليل رد جابر وجبار، وصحة إحرامهما وأكثر ما تدل عليه أن اليمين هو الموقف الشرعي، وقال في الإفصاح،:اجمعوا على أن المصلي إذا وقف عن يسار الإمام وليس عن يمينه أحد أن صلاته صحيحة إلا أحمد فقال: تبطل.
(2) لخبر ابن عباس وغيره: وإدارته من قدامة مبطل لصلاته.
(3) أو كانا اثنين فكبر أحدهما، وتوشوش الآخر ثم كبر قبل رفع الإمام رأسه من الركوع، أو كبر واحد عن يمين الإمام فأحس بآخر، فتأخر معه قبل أن يحرم الثاني، ثم أحرم صح نص عليه.
(4) لإدارة النبي صلى الله عليه وسلم جابرا وجبارا، ففي مسلم عن جابر، قمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدراني عن يمينه، فجاء ابن صخر، حتى قام عن يساره، فأخذ بيديه جميعا، فدفعنا حتى أقامنا خلفه.
(5) أي فإن شق إدارتهما على المأموم أو الإمام، أو تعذر ذلك، تقدم الإمام عليهما، ليصيرا وراءه، وصلى بينهما، أو صلى عن يسارهما.(3/319)
ولو تأخر الأيمن قبل إحرام الداخل ليصليا خلفه جاز(1) ولو أدركهما الداخل جالسين كبر وجلس عن يمين صاحبه أو يسار الإمام، ولو تأخر إذن للمشقة(2) فالزمنى لا يتقدمون ولا يتأخرون(3) (ولا) تصح صلاة (الفذ) أي الفرد (خلفه) أي خلف الإمام(4) (أو خلف الصف) إن صلى ركعة فأكثر، عامدًا أو ناسيًا، عالمًا أو جاهلاً(5).
__________
(1) وفي نهاية أبي المعالي والرعاية وغيرهما أن ذلك أولى، لأنه لغرض صحيح، ثم إن بطلت صلاة أحدهما تقدم الآخر إلى يمين الإمام، وكذا إن كانا اثنين خلف الصف، تقدم إلى الصف إن أمكنه على ما سبق.
(2) أي لا تأخر في حالة إدراك الداخل الإمام والمأموم جالسين، لمشقة التأخر والحالة هذه.
(3) للعلة المذكورة قبل، والزمنى بفتح الزاي، وسكون الميم المصابون بالزمانة، وهي العاهة وعدم بعض الأعضاء، أو تعطيل القوي، جمع زمن.
(4) ركعة فأكثر، عامدا أو ناسيا، عالما أو جاهلا.
(5) مفهومه أنه إن دخل معه آخر، أو دخل في الصف قبل فوات الركعة صحت، كما صرح به فيما بعد، قال في الإنصاف، وهو المذهب قال شيخ الإسلام: لأنه أدرك من الاصطفاف المأمور به ما يكون به مدركا للركعة، فهو بمنزلة أن يقف وحده، ثم يجيء آخر فيصافه في القيام، فإن هذا جائز باتفاق الأئمة، حتى لو قدر أن أبا بكرة دخل في الصف بعد اعتدال الإمام؛ -كما يجوز ذلك في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره - لكان سائغا.(3/320)
لقوله عليه الصلاة و السلام: «لا صلاة لفرد خلف الصف» رواه أحمد وابن ماجه(1) ورأى عليه الصلاة والسلام رجلا يصلي خلف الصف، فأمره أن يعيد الصلاة، رواه أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وإسناده ثقات(2).
__________
(1) بإسناد صحيح وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، وأول الحديث: أنه رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده، فقال له: استقبل صلاتك الحديث.
(2) ورواه ابن حبان وابن خزيمة وغيرهما: وقال شيخ الإسلام: قد صحح الحديثين غير واحد من أئمة الحديث، وأسانيدهما مما تقوم به الحجة، وليس فيهما ما يخالف الأصول، بل ما فيهما هو مقتضى النصوص المشهورة، والأصول المقررة، فإن صلاة الجماعة سميت جماعة لاجتماع المصلين في الفعل مكانا وزمانا، فإذا أخلوا لغير عذر كان منهيا عنه باتفاق الأئمة، فلو كان هذا خلف هذا كان من أعظم الأمور المنكرة، وأمروا بتقويم الصفوف، مبالغة في تحقيق اجتماعهم على أحسن وجه، بحسب الإمكان، وقياس الأصول يقتضي وجوب الاصطفاف، وأن صلاة المنفرد لا تصح، كماجاء به هذان الحديثان، من خالف ذلك من العلماء فلا ريب أنه لم تبلغه هذه السنة من وجه يثق به، ووقوفه وحده خلف الصف، مكروه، وترك للسنة باتفاقهم، إلا أن لا يجد موقفا إلا خلفه، ففيه نزاع، والأظهر صحة صلاته في هذا الموضع، لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز، وأما التفريق بين العالم والجاهل - كقول في مذهب أحمد - فلا يسوغ فإن المصلي المنفرد لم يكن عالما بالنهي، وقد أمره الإعادة، كما أمر المسيء اهـ وروي أحمد وغيره أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل صلى وحده خلف الصف، قال: يعيد صلاته قال شيخ الإسلام: وهذا مقتضى الأصول نصا وقياسا، واختاره تلميذه وشيخنا وقال: دليله واضح.(3/321)
(إلا أن يكون) الفذ خلف الإمام أو الصف (امرأة) خلف رجل فتصح صلاتها(1) لحديث أنس(2) وإن وقفت بجانب الإمام فكرجل(3) وبصف رجل لم تبطل صلاة من يليها أو خلفها(4) فصف تام من نساء، لا يمنع اقتداء من خلفهن من رجال(5) (وإمامة النساء تقف في صفهن) ندبًا(6).
روي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما(7)، فإن أمت واحدة وقفت عن يمينها، ولا يصح خلفها(8).
__________
(1) قال شيخ الإسلام: باتفاق أهل العلم، إذا لم يكن في الجماعة امرأة غيرها، كما جاءت به السنة، ولأنها لا موقف لها مع الرجال.
(2) ولفظه: صففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، رواه الجماعة ولأن وقوفها في صف الرجال مكروه، فلم يكن لها من تصافه، إلا أن يقف معها امرأة فجاز للعذر كالرجل المنفرد.
(3) أي فإن وقفت عن يمينه صح، لا عن يساره مع خلو يمينه، على ما تقدم في الرجل.
(4) أو أمامها، ولا صلاتها وفاقا للثلاثة وجمهور العلماء، لكنه غير مشروع، وصرح بعضهم بالكراهة، كما ولو وقفت من غير صلاة، قال الشيخ فيما إذا وقفت في الصف: في بطلان صلاتها قولان، أحدهما لا تبطل، كقول مالك والشافعي، وهو قول ابن حامد والقاضي وغيرهما: والمنصوص عن أحمد بطلان صلاة من يليها في الموقف اهـ والأمر بتأخيرها لا يقتضي الفساد مع عدمه، وعند الحنفية تفسد صلاة الرجل دونها، قال الحافظ وهو عجيب.
(5) وكذا لو كثرت صفوفهن.
(6) قال في الإنصاف وغيره: هذا مما لا نزاع فيه، وفي الفروع وغيره: والأشهر يصح تقديمها.
(7) رواهما ابن أبي شيبة وعبد الرزاق، وروى الحاكم والبيهقي والدارقطني ومحمد بن الحسن وغيرهم أيضا حديث عائشة، والشافعي وغيره حديث أم سلمة وأنهما يقمن بينهن، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس قال: «تؤم المرأة النساء، تقوم في وسطهن».
(8) كرجل وصححه في الكافي، وإن وقفت عن يسارها فكوقوف رجل عن يسار إمامه.(3/322)
(ويليه) أي يلي الإمام من المأمومين (الرجال) الأحرار، ثم العبيد، الأفضل فالأفضل(1) لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» رواه مسلم(2).
__________
(1) هذا مذهب جماهير أهل العلم.
(2) ولأبي داود «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، وقال أبو مالك الأشعري، ألا أحدثكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: فأقام الصف، فصف الرجال، وصف الغلمان خلفهم، رواه أبو داود، ولأحمد نحوه وزاد، والنساء خلف الغلمان وقوله: ليلني بكسر اللامين وتخفيف النون، من غير ياء قبلها، ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التأكيد ورووه بهما في صحيح مسلم، من الولي وهو القرب، وحق هذا اللفظ أن تحذف منه الياء، على صفة الأمر، وقد جاء بإثبات الياء وسكونها، في سائر كتب الحديث، قال الرافعي: والظاهر أنه غلط، وأولو الأحلام ذوو الألباب والعقول، واحدها حلم بضم الحاء واللام، وهو ما يراه النائم أريد به البالغون
لأن الحلم سب البلوغ، والحلم السكون والوقار والأناءة، والتثبت في الأمور وضبط النفس عن هيجان الغضب، ويراد به العقل، وقيل: العقلاء، وقيل البالغون، وقيل أهل العلم والفضل، والنهى بضم النون العقول، واحدها نهية بضم النون لأنها تنهى صاحبها عن القبائح، أي ليدن مني البالغون العقلاء، لشرفهم ومزيد تفطنهم.(3/323)
(ثم الصبيان) الأحرار ثم العبيد(1).
__________
(1) أي ثم الصبيان العبيد، الأفضل، فالأفضل، لما تقدم فيقدم أحرار الكل على الأرقاء لمزيتهم بالحرية، فمتى تم صفهم وفقوا خلفهم، قال بعض الأصحاب الأفضل تأخير مفضول وكذا تأخير صبي، واختاره الشيخ، وقطع به ابن رجب، لقصة عمر، وقال أحمد: يكره أن يقوم الصبي مع الناس في المسجد خلف الإمام، وقال في الفروع: وظاهر كلامهم في الإيثار بمكانه وفيمن سبق إلى مكان، ليس له ذلك، أي تأخير صبيان لبالغين لاتحاد جنسهم، وقاله الحافظ وغيره، واختاره القاضي وغيره، وهو مذهب الشافعي، وعليه عمل الناس، وصوبه في ا لإنصاف وقطع به المجد وغيره، وصرحوا بعدم الإيثار.
وقوله ليلني: الحديث لا يتم الاستدلال به على إخراجهم من صفوف الرجال البالغين، إنما فيه تقديم البالغين، أو نوع منهم، وإذا كانوا أقرأ ففيهم أهلية لذلك، واحتمال: أن يكونوا أولى فيعمل بالأحوط،وتقديمه فعل لا يدل على فساد خلافه، فإن الصبي إذا عقل القربة، كالبالغ في الجملة، وقد قدم عمرو في الإمامة وهو ابن ست أو سبع سنين، ففي المصافة أولى، وقد يكون صبي أقرأ من مكلف، ولا ينضبط.
وقوله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ } وأحاديث من سبق إلى مكان فهو أحق به، ولا يقم أحدكم أخاه من مجلسه، ونحو ذلك مطلقة. وحديث أبي مالك
فيه شهر، ويحمل فعل عمر وقول أحمد، على نقرة الإمام ما لم يكن أقرأ
لكونه أولى بالإمامة عند الحاجة إليه للاستخلاف، ولو كان تأخيرهم أمرًا مشهورًا
لاستمر العمل عليه، كتأخير النساء، ولنقل كما نقلت الأمور المشهورة نقلا لا يحتمل الاختلاف وقال الحافظ على قول ابن عباس وأنا فيهم: فيه أن الصبيان مع الرجال، وأنهم يصفون معهم، لا يتأخرون عنهم.(3/324)
(ثم النساء) لقوله عليه الصلاة والسلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله»(1) ويقدم منهن البالغات الأحرار، ثم الأرقاء، ثم من لم تبلغ من الأحرار فالأرقاء(2) الفضلى فالفضلى(3) وإن وقف الخناثى صفا لم تصح صلاتهم(4) (كـ) الترتيب في (جنائزهم) إذا اجتمعت فيقدمون إلى الإمام وإلى القبلة في القبر، على ماتقدم في صفوفهم(5) (ومن لم يقف معه) في الصف (إلا كافر(6).
__________
(1) رواه عبد الرزاق موقوفًا على ابن مسعود، ولم يثبت رفعه، وعزي إلى مسند رزين، وتأخير هن لا نزاع فيه.
(2) أي المملوكات واحدتهن رقيقة، وسمي العبد رقيقا لأنه يرق لمالكه ويخضع له.
(3) كبشرى تأنيث الأفضل، اسم تفضيل، مشتق من فعل لموصوف بالزيادة على غيره.
(4) لأن كل واحد منهم يحتمل أن يكون رجلا، والباقي نساء، ولا تصح صلاة من يصاففه.
(5) يعني الرجال، ثم الصبيان ثم النساء، ويأتي في الجنائز.
(6) ففذ، وقال في الإنصاف وغيره: بلا خلاف أعلمه، لأن صلاة الكافر غير صحيحة، وكذا لو وقف معه مجنون.(3/325)
أو امرأة) أو خنثى وهو رجل(1) (أو من علم حدثه) أو نجاسته (أحدهما) أي المصلي أو المصافف له(2) (أو) لم يقف معه إلا (صبي في فرض ففذ) أي فرد فلا تصح صلاته ركعة فأكثر(3) وعلم منه صحة مصافة الصبي في النفل(4) أو من جهل حدثه أو نجسه حتى فرغ(5).
__________
(1) ففذ على الصحيح من المذهب، وذكره المجد وغيره عن أكثر الأصحاب والشيخ وغيره منصوص أحمد، لأنهما ليسا من أهل الوقوف معه.
(2) ففذ وعليه الأصحاب، فإن وقوف المحدث أو النجس كعدمه، وكذا لو علم المصاف حدث نفسه أو نجسه.
(3) لأنه لا تصح إمامته بالرجل في الفرض، فلا تصح مصافته له وصرح منصور بأنه سواء كان فرض عين أو كفاية، فيشمل صلاة الجنازة، وتقدم خبر عمرو وهو غلام وصحة إمامته لبالغ فمصافته أولى واختاره ابن عقيل وصوبه في القواعد الأصولية، قال في الفروع: وهو أظهر وفاقا، وعليه العمل، قال شيخنا: وهو قول قوي: ولأن الفريضة والنافلة سواء إلا بمخصص.
(4) لقول أنس: صففت أنا واليتيم وراءه وكذا حكم صبية مع نساء.
(5) أي وعلم منه أيضا صحة مصافة من جهل حدثه من أي حدث كان، أو نجسه سواء كان ببدنه أو ثوبه أو بقعة، حتى فرغ منها فليس بفذ قال في الإنصاف وغيره: وهو صحيح وهو المذهب اهـ، ومثله من نسي ولا علمه مصاففه، وكذا إن لم يعلم ما ببدنه أو ثوبه أو بقعته، من نجاسة، ولا علمه مصاففه حتى فرغت فليس بفذ وتصح مصافة مفترض لمنتقل بالغ، كأمي وأخرس، وعاجز عن ركن وشرط، وناقص طهارة ونحوه وفاسق.(3/326)
ومن وجد فُرجة بضم الفاء(1) وهي الخلل في الصف(2) ولو بعيدة (دخلها)(3) وكذا إن وجد الصف غير مرصوص وقف فيه(4) لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله وملائكته يَصِلون على الذين يصلون الصفوف»(5) (وإلا) يجد فرجة(6) وقف (عن يمين الإمام) لأنه موقف الواحد(7) فإن لم يمكنه فله أن ينبه من يقوم معه، بنحنحة أو كلام أو إشارة(8).
__________
(1) اقتصر عليه الجوهري وغيره ويجوز فتحها.
(2) وفي الأصل منفرج ما بين الشيئين وكذا الخلل، وكل منفرج بين شيئن فهو فرجة، وانفرج ما بينهما اتسع، والفرجة الموضع الذي يوسعه القوم، في الموقف والمجلس.
(3) لحديث وسدوا الخلل هذا إذا كانت مقابلة له.
(4) وجوبا من غير إلحاق مشقة لغيره، ويكره مشيه إليها عرضا، وعنه: لا يكره لمشروعية المراصة، ووجود الموقف، وما لم يحضر ثان ليصاففه وإلا وجب.
(5) رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عائشة، زاد ابن ماجة ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة، وللطبراني نحوه عن أبي هريرة، وأبي داود وغيره عن البراء.
(6) أي يدخلها، ووجد الصف مرصوصا.
(7) إجماعا، لخبر ابن عباس وغيره، وفي المبدع: ويندب تخلفه قليلا خوفًا من التقدم.
(8) أي فإن لم يمكنه أن يدخل الصف، ولا يقف عن يمين الإمام فله أن ينبه من يقوم معه صفا ليتمكن من الاقتداء، بـ (نحنحة) ترديده الصوت في الجوف أو (كلام) كأن يقول: ليستأخر أحدكم أكون صفا معه ونحو ذلك أو إشارة بيد أو عين أو حاجب.(3/327)
وكره بجذبه(1) ويتبعه من نبهه وجوبًا(2) (فإن صلى فذًا ركعة لم تصح) صلاته لما تقدم(3) وكرره لأجل ما أعقبه به(4) (وإن ركع فذًا) أي فردًا لعذر، بأن خشي فوات الركعة (ثم دخل في الصف) قبل سجود الإمام(5).
__________
(1) أي وكره تنبيهه بجذبه، لأنه تصرف فيه بغير إذنه، ولا يحرم، وصحح في المغني وغيره، جوازه، وقال الشيخ: يصلي خلف الصف فذًا، ولا يجذب غيره وتصح في هذه الحالة فذا لأن غاية المصافة، أن تكون واجبة، فتسقط بالعذر، وقال: الأفضل أن يقف وحده، ولا يجذب لما في الجذب، من التصرف في المجذوب، وإن كان المجذوب يطيعه، قائما أفضل له، وللمجذوب الاصطفاف معه مع بقاء فرجة أو وقوف المتأخر وحده ونحوه، وقوله: (اجتررت رجلا)، فيه مقال، ولو حضر اثنان فالأفضل اصطفافهما وفاقا، لأن سد الفرجة مستحب، والاصطفاف واجب، ورجحه الشيخ وغيره.
(2) وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وهو أفضل من بقائه في مقامه.
(3) يعني في قوله، ولا الفذ خلفه، أو خلف الصف، وتقدمت الأدلة عليه وصحتها مع العذر.
(4) أي كرر قوله: فإن صلى فذا وإن تغاير اللفظ فالمعنى واحد، وعلل جواز التكرر بما أعقبه به من دخول الصف إن وجد فرجة، أو الوقوف خلف الإمام، أو تنبيه من يقوم معه وهو مسوغ.
(5) صحت صلاته إجماعا، لأنه أدرك في الصف ماتدرك به الركعة.(3/328)
(أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت) صلاته(1) لأن أبا بكرة ركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل في الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصا ولا تعد» رواه البخاري(2) وإن فعله ولم يخش فوات الركعة لم تصح، وإن رفع الإمام رأسه من الركوع، قبل أن يدخل الصف، أو يقف معه آخر(3).
فصل
في أحكام الاقتداء(4)
__________
(1) أي وإن ركع فذا خشية فوات الركعة، ثم وقف معه آخر قبل سجود الإمام في تلك الركعة، صحت صلاته إجماعًا.
(2) وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ولعل غايته أنه دخل الصف قبل سجوده صلى الله عليه وسلم و تعد بضم العين من العود، قال الحافظ: لا تعد إلى ما صنعت من السعي الشديد، ثم من الركوع دون الصف، ثم من المشي إلى الصف، وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحا، في طرق حديثه، وفعله زيد بن ثابت وابن مسعود وأخرجه مالك وغيره، وكما لو أدرك معه الركوع، وأبو بكرة اسمه نفيع بين الحارث بن كلدة الثقفي، قيل له: أبو بكرة لأنه تدلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بكرة من حصن الطائف، فأعتقه توفي بالبصرة سنة إحدى وخمسين.
(3) لأن الرخصة وردت في المعذور، فلا يلحق به غيره، وقدم في الكافي أنها تصح، لأن الموقف لا يختلف بخيفة الوات وعدمه، وقال الشيخ: إذا ركع دون الصف، ثم دخل الصف بعد ركوع الإمام صحت صلاته، وتقدم نحوه، وتقدم أيضا قوله: إنها تصح صلاة الفذ لعذر، وفاقًا لأبي حنيفة، وأن الأفضل وقوفه وحده ولا يجذب، إلخ وقال: من آخر الدخول في الصف مع إمكانه، حتى قضي القيام، فهذا تجوز صلاته، عن جماهير العلماء.
(4) اقتدى به: فعل مثل ما فعل، والمقتدي شرعا من يصلي خلف الإمام.(3/329)
يصح اقتداء المأموم بالإمام إذا كانا (في المسجد(1) وإن لم يره ولا من وراءه إذا سمع التكبير) لأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به، بسماع التكبير أشبه المشاهدة(2).
__________
(1) وساحته: والمنارة التي هي منه، نقل غير واحد إجماع المسلمين فيه، ولو لم تتصل الصفوف عرفًا، لأن المسحد بني للجماعة، فلا يشترط اتصالها فيه، بلا خلاف في المذهب، وحكاه أبو البركات إجماعا، لأنه في حكم البقعة الواحدة فكل من حصل فيه حصل في محل الجماعة، بخلاف خارج المسجد، فإنه ليس معدا للاجتماع فيه، فلذلك اشترط الاتصال فيه، فإذا اتصلت صحت إجماعًا.
(2) ولو كان بينهما حائل، إذا علم حال الإمام، وفاقا لمالك والشافعي، وحكي الإجماع على أنه لا يضر بعد المؤتم في المسجد ولا الحائل ولو كان فوق القامة، مهما علم حال الإمام، واعتبره في الشرح وغيره ببعد غير معتاد بحيث يمنع إمكان الاقتداء لأنه لا نص فيه ولا إجماع، فرجع فيه إلى العرف، وقال في كفاية المبتدي وغيرها، ولا يشترط الاتصال، إذا حصلت الرؤية المعتبرة، وأمكن الاقتداء وفي شرحها، ولو جاوز ثلاث مائة ذراع اهـ ولو كان في صحراء ليس فيها قارعة طريق، وبعدوا عن الإمام، أو تباعدت الصفوف جاز ذلك، مع سماع التكبير، ووجود المشاهدة إن اعتبرت.(3/330)
(وكذا) يصح الاقتداء إذا كان أحدهما (خارجه) أي خارج المسجد (إن رأى) المأموم (الإمام أو) بعض (المأمومين) الذين وراءَ الإمام(1) ولو كانت الرؤية في بعض الصلاة أو من شباك ونحوه(2).
__________
(1) ولو لم تتصل الصفوف لانتفاء المفسد، ووجود المقتضي للصحة، وهو الرؤية وإمكان الاقتداء وإن لم يره ولا بعض من وراءه لم تصح صلاة المأموم لعدم تمكنه من الاقتداء بإمامه، وقال النووي: يشترط أن لا تطول المسافة بين الإمام والمأمومين إذا صلوا في غير المسجد، وبه قال جماهير العلماء.
(2) كطاق صغيرة صحت، لتمكنه إذا من متابعته لا إن سمعه من غير رؤية فلا يصح الاقتداء، لقول عائشة لنساء كن يصلين في حجرتها، لا تصلين بصلاة الإمام فإن كن دونه في حجاب، رواه الشافعي وغيره، ولأنه لا يمكنه الاقتداء به في الغالب، قال الشيخ: إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط، بحيث لا يرون الصفوف، ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة، فإنه لا تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء اهـ وتكفي الرؤية في بعض الصلاة، لما في الصحيح من حديث عائشة كان يصلي من الليل، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أناس يصلون بصلاته، الحديث، ولحديث الحصير الذي نصبته على باب حجرتها والمسلمون يصلون بصلاته، وقال النووي: يشترط لصحة الإقتداء، علم المأموم بانتقالات الإمام، سواء صليا في المسجد، أو في غيره، أو أحدهما فيه والآخر في غيره، بالإجماع، ويحصل العلم له بذلك بسماع الإمام أو من خلفه، أو مشاهدة فعله أو فعل من خلفه ونقلوا الإجماع في جواز اعتماد واحد من هذه الأمور، ولو كان المأموم أعمى اشترط أن يصلي بجنب كامل ليعتد بموافقته مستدلا بها.(3/331)
وإن كان بين الإمام والمأموم نهر تجري فيه السفن(1) أو طريق ولم تتصل فيه الصفوف، حيث صحت فيه(2) أو كان المأموم بسفينة وإمامه في أخرى، في غير شدة خوف لم يصح الاقتداء(3).
__________
(1) لم يصح الاقتداء فإن لم تجر فيه صحت، وعنه: تصح وإن جرت، إذا أمكنه الاقتداء اختاره الشيخ وغيره، وفاقا لمالك والشافعي.
(2) أي في الحال الذي تصح الصلاة فيه، يعني الطريق، وهو ماإذا ضاق المسجد بنحو صلاة جمعة، بخلاف سائر الصلوات، فلا تصح، فإن اتصلت إذا صحت، قال الشيخ: إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه لم تصح صلاتهم، في أظهر قولي العلماء، وعنه: يصح وإن كان ثم طريق لم تتصل فيه الصفوف لفعل أنس، وهو اختيار أبي محمد لإمكان المتابعة قال النووي ولو حال بينهما طريق عند مالك والشافعي والأكثرين
(3) والحالة هذه، لأن الماء طريق، وليست الصفوف متصلة إلا في شدة خوف، كحال المسايفة، وأمكن الاقتداء فيصح للعذر، وإلا إذا كانت صلاة جمعة ونحوها، واتصلت فيه الصفوف صح، وعنه: تصح وإن كان في سفينة وإمامه في أخرى، اختاره الشيخ وغيره، وألحق الآمدي بالنهر النار والبئر، وقال في الإنصاف: المرجع في اتصال الصفوف إلى العرف، على الصحيح من المذهب، وصححه في المغني، فلا يتقدر بشيء، وهو مذهب مالك والشافعي، لأنه لا حد في ذلك ولا إجماع، ولأنه لا يمنع الاقتداء، فإن المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية، أو سماع الصوت، والمنع من الاقتداء بالإمام تحكم محض، لا يلزم المصير إليه ولا العمل به.(3/332)
(وتصح) صلاة المأمومين (خلف إمام عال عنهم) لفعل حذيفة وعمار رواه ابو داود(1) (ويكره) علو الإمام عن المأموم (إذا كان العلو ذراعا فأكثر)(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مكانهم»(3) فإن كان العلو يسيرًا، دون ذراع لم يكره(4).
__________
(1) وهو أن عمارًا صلَّى بالمدائن، فقام على دكان، والناس أسفل منه، فأخذ حذيفة بيده، فاتبعه عمار حتى أنزله، فلما فرغ قال: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أم الرجل قوما فلا يقومن من مقام أرفع من مقامهم»؟ قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت بيدي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ورواه الشافعي والبيهقي، ومن لا يحصون من كبار المحدثين ومصنفيهم بأسانيد صحيحة، وللدارقطني معناه بإسناد حسن.
(2) وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، ويشترك الإمام والمأموم في النهي إن انفرد الإمام بالعلو، وفعله في خبر سهل يدل أن النهي ليس للتحريم، ولأن النهي لا يعود إلى داخل في الصلاة، فإن كان مع الإمام أحد مساوله أو أعلى منه زالت الكراهة صرح به ابن نصر الله وغيره.
(3) رواه أبو داود وغيره، والشافعي بلفظ: قال ابن مسعود لحذيفة، ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى ومحل النهي إذا كان ذراعا فأكثر قال ابن فرحون، لأن الإمامة تقتضي الترفع، فإذا انضاف إلى ذلك علوه عليهم في المكان دل على قصده الكبر، وقال الزركشي، يشترك الإمام والمأموم في النهي إذا انفرد الإمام بالعلو.
(4) وصحت بلا خلاف.(3/333)
لصلاته صلى الله عليه وسلم على المنبر في أول يوم وضع(1) فالظاهر أنه كان على الدرجة السفلى، جمعًا بين الأخبار(2) ولا بأس بعلو المأموم(3) (كـ) ما تكره (إمامته في الطاق) أي طاق القبلة، وهي المحراب(4) روي عن ابن مسعود وغيره(5) لأنه يستتر عن بعض المأمومين(6).
__________
(1) أخرجاه من حديث سهل أنه صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر ثم نزل القهقري، فسجد وسجدنا معه، ثم عاد حتى فرغ، ثم قال: إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي.
(2) ولئلا يحتاج إلى عمل كثير في الصعود والنزول فيكون ارتفاعًا يسيرًا.
(3) سواء كان قليلا أو كثيرا لأن أبا هريرة صلى على سطح المسجد، بصلاة الإمام، رواه أحمد والشافعي والبيهقي، والبخاري تعليقا، وعن أنس نحوه رواه سعيد ويروى عن ابن عباس وابن عمر، ولأن المتابعة حاصلة أشبهت العلو اليسير وأما ارتفاع المؤتم ارتفاعا مفرطا، بحيث يكون فوق ثلاث مائة ذراع، على وجه لا يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام، فهو ممنوع بالإجماع، من غير فرق بين المسجد وغيره، وإن كان دون ذلك فالأصل الجواز.
(4) الذي يقف فيه الإمام، سمي بذلك لأنه يذب عنه، ويحارب عليه، والطاق ما عطف من الأبنية كالقوس، من قنطرة ونافذة وما أشبه ذلك، وصوابه وهو المحراب لأنه مذكر.
(5) ونقل عن مالك وغيره.
(6) أشبه ما لو كان بينه وبينهم حجاب فيقف عن يمين المحراب، إن لم يكن حاجة كضيق المسجد، وكثرة الجمع، وقال جماعة من أهل العلم: المشهور الجواز بلا كراهة، وعنه: يستحب اختاره ابن عقيل وغيره، وقطع به ابن الجوزي وغيره ولم يزل عمل الناس عليه.(3/334)
فإن لم يمنع رؤيته لم يكره(1) (و) يكره (تطوعه موضع المكتوبة) بعدها(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يصلين الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه» رواه أبو داود عن المغيرة بن شعبة(3) (إلا من حاجة) فيهما(4) بأن لا يجد موضعا خاليًا غير ذلك(5).
__________
(1) وفاقا لزوال العلة.
(2) أي يكره للإمام بلا حاجة تمييزا لفرض الصلاة عن نفلها، وهو الأولى للمأموم أيضا، وعنه: يكره وفاقا كالإمام.
(3) ولفظه «لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلي فيه حتى يتحول» أي ينصرف وينتقل من ذلك الموضع، ونحوه لابن ماجه، ولنهيه عليه الصلاة والسلام أن توصل صلاة بصلاة، حتى يتكلم أو يخرج رواه مسلم، وذكره البخاري والبغوي أن العلة تكثير مواضع العبادة، لأنها تشهد له، والنص للفصل، فإن لم ينتقل فينبغي أن يفصل بالكلام للخبر ويكفي التسبيح.
(4) أي الإمامة في الطاق، والتطوع موضع المكتوبة.
(5) لنحو ضيق مسجد كما إذا لم يجد منصرفا، ولم يمكنه الانحراف، فلا يكره رواية واحدة، ويكره لغير الإمام اتخاذ مكان لا يصلي فرضه إلا فيه، وكان أحمد يكرهه، وقيل إن كانت فاضلة كنقرة الإمام لم يكره، لفعل سلمة عند الأسطوانة عند المصحف، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الصلاة عندها، متفق عليه، ولحاجة كتدريس ونحوه، وذكره بعضهم اتفاقًا.(3/335)
(و) يكره للإمام (إطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة)(1) لقول عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه مسلم(2) فيستحب له أن يقوم(3) أو ينحرف عن قبلته إلى مأموم جهة قصده(4).
__________
(1) وذهب إليه بعض المالكية، والشعبي وإبراهيم وقال: احصبوه، ومفهومه لا يكره القعود اليسير مستقبل القبلة، قال في الإنصاف: وهو صحيح وهو المذهب.
(2) أي لا يلبث جالسًا على هيئته قبل السلام، بل ينصرف ويقبل على المأمومين ولأن في تحوله إعلاما بأنه صلى فلا ينتظر وربما إذا بقي على حاله يسهو فيظن أنه لم يسلم، فكره سدا للباب المفضي إلى أن يزاد في الفرض ما ليس منه أو يظن غيره أنه في الصلاة.
(3) لخبر: كان إذا انصرف انحرف، وأخرج عبد الرزاق عن أنس: كان عليه الصلاة والسلام ساعة يسلم يقوم، وذكر أبا بكر كذلك وفي الصحيحين من حديث سمرة، كان إذاصلى صلاته أقبل علينا بوجهه، وغير ذلك من الأحاديث، فدلت النصوص، أنه كان يعقب سلامه بالانصراف، والإقبال على المأمومين وقال الحافظ على قوله: باب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام، أي وبعد استقبال القوم، ولا فرق بين الانفتال والانصراف، للأخبار الثابتة بكل من ذلك، وحكى النووي وغيره أن عادته صلى الله عليه وسلم إذا انصرف استقبل المأمومين جميعهم وقال القاضي وغيرهم، عادته صلى الله عليه وسلم أن يستقبل جميعهم بوجهه، وهو مفهوم ما ورد عنه من الذكر بعد الصلاة، وتذكيرهم ووعظهم وغير ذلك.
(4) أي مسيره فإذا قصد أن يخرج مع باب مثلا انحرف إلى المأمومين من جهة ذلك الباب لأنه أرفق به.(3/336)
وإلا فعن يمينه(1) (فإن كان ثم) أي هناك (نساء لبث) في مكانه (قليلا لينصرفن)(2) لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يفعلون ذلك(3) ويستحب أن لا ينصرف المأموم قبل إمامه(4) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تسبقوني بالانصراف » رواه مسلم(5).
__________
(1) أي وإن لم يقصد الإمام جهة، فينحرف عن يمينه، بأن تكون يساره تلي القبلة وهذا أفضل، لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين، ولا كراهة في انحرافه على اليسار، لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم ولإطلاقهم.
(2) أي فإن كان في الجهة التي يريد أن يذهب معها يمينًا أو شمالاً أو أمامًا نساء، لبث في مكانه قليلا، وكذا من معه من الرجال، لينصرف النساء، فلا يدركهن الرجال.
(3) ففي الصحيح وغيره، عن أم سلمة، كان إذا سلم قام النساء، حين يقضي تسليمه وهو يمكث في مكانه يسيرًا قبل أن يقوم، قال ابن شهاب، فنرى أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال، وللخبر الآتي وغيره، ولأن الإخلال بذلك يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء، ويستحب للنساء قيامهن عقب سلام الإمام
(4) أي قبل انصراف إمامه عن القبلة، والحكمة في ثبوتهم إلى أن ينصرف الإمام لئلا يذكر سهوًا فيسجد.
(5) قال الطيبي علة نهيه أن يذهب النساء اللاتي يصلين خلفه، ويشهد لما قاله ما في الصحيح، كن إذا سلمن قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء، الله فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال.(3/337)
قال في المغني والشرح: إلا أن يخالف الإمام السنة، في إطالة الجلوس(1)، أو لم ينحرف فلا بأس بذلك(2) (ويكره وقوفهم) أي المأمومين (بين السواري إذا قطعن) الصفوف عرفا، بلا حاجة(3) لقول أنس كنا نتقي هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وأبو داود وإسناده ثقات(4).
__________
(1) أي مستقبل القبلة، فلا بأس بانصراف المأموم، قال خارجة بن زيد: السنة أن يقوم الإمام ساعة يسلم، فلا يبقى مستقبل القبلة، وذكر غير واحد أن استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، فاستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين.
(2) أي بانصراف المأموم إذا لم ينحرف الإمام عن استقبال القبلة، ولا يعيد السلام من سلم قبل الصلاة، ورده واجب، والمصافحة بعد السلام من الصلاة لا أصل لها، لا بنص ولا عمل من الشارع وأصحابه، ولو كانت مشروعة لتوفرت الهمم على نقلها، ولكان السابقون أحق بذلك، وقال الشيخ: بدعة باتفاق المسلمين أما إذا كانت أحيانا لكونه لقيه عقب الصلاة، لا لأجل الصلاة فحسن، لكن عند اللقاء فيها آثار حسنة.
(3) كضيق المسجد، وكثرة الجماعة، وقدره بعضهم بمحل ثلاثة رجال واستظهر بعضهم أن المراد القطع عرفًا فلا تحديد فيه، وأما مع الحاجة فقال ابن رشد وابن العربي: لا خلاف في جوازه عند الضيق، وأما عند السعة فهو مكروه للجماعة، فأما الواحد فلا بأس به، والسواري جمع سارية وهي الأسطوانة.
(4) وقال الحافظ: سنده صحيح، ورواه النسائي والترمذي ولابن ماجه نحوه، وفيه، ونطرد عنها طردا، وكرهه ابن مسعود وابن عباس وحذيفة وغيرهم.
قال ابن سيد الناس: ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، ورخص فيه مالك وغيره، وعن أحمد: لا يكره وفاقا، كالإمام والمنفرد.(3/338)
فإن كان الصف صغيرًا، قدر ما بين الساريتين فلا بأس(1) وحرم بناء مسجد يراد به الضرر لمسجد بقربه، فيهدم مسجد الضرار(2) ويباح اتخاذ المحراب(3) وكره حضور مسجد وجماعة لمن أكل بصلاًٍ ونحوه، حتى يذهب ريحه(4).
فصل
في الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة(5)
__________
(1) أي يباح الوقوف بينهما، لأن الصف لا ينقطع بذلك، كما لا يكره للإمام أن يقف بين السواري، لأنه ليس ثم صف.
(2) وجوبا، لقصة مسجد الضرار، ولحديث «لا ضرر ولا ضرار»، وظاهره أنه إذا لم يقصد به الضرار جاز وإن قرب، واختار الشيخ لا يجوز ويهدم، وصححه في التصحيح وغيره، وظاهره أنه يجوز إذا بعد، ولو قصد به الضرر.
(3) نص عليه وقيل: يستحب أومأ إليه، واختاره الآجري وابن عقيل وغيرهما ليستدل به الجاهل.
(4) أي البصل ونحوه كثوم وكراث وفجل وتنباك وغيرها، من كل ما له رائحة منتنة للأخبار، وكذا إصنان وبخر ونحوه، ونتن خراج وجرح ونحوه، وكذا جزار له ريح منتنة، ومن يتأذى الناس منه من غير رائحة كانتشار قمل ونحوه، ويمنع أبرص ومجذوم يتأذى به، فلا يحل لمجذوم مخالطة صحيح بلا إذنه وعلى ولي الأمر منعهم من ذلك، ولا يعذر بترك جمعة وجماعة من جهل الطريق إلى محلها، إذا وجد من يهديه، ولا أعمى إذا وجد من يقوده، لحديث الأعمى، ومن الأدب وضع إمام نعله عن يساره، ومأموم بين يديه، لخبر أبي ذر وغيره، ولئلا يتأذى به غيره.
(5) أي المبيحة لتركها، وقال أبو الدرداء: من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ.(3/339)
(ويعذر بترك جمعة وجماعة مريض)(1) لأنه صلى الله عليه وسلم لما مرض تخلف عن المسجد، وقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» متفق عليه(2) وكذا خائف حدوث مرض(3).
__________
(1) قال في الإنصاف وغيره: بلا نزاع، وقال ابن المنذر: لا أعلم خلافا بين أهل العلم أن للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض، والمرض فساد المزاج، واضطراب الطبيعة، بعد صفائها واعتدالها، وضده الصحة، قال النووي: ضبطوا المرض الذي يشق معه القصد، كمشقة المشي في المطر.
(2) ففيه دليل على جواز تخلف المريض، وفي آخره: فخرج متوكئا فمن بلغ إل تلك الحالة لا يستحب له الخروج للجماعة، إلا إذا وجد من يتوكأ عليه وقوله: «لأتوهما ولو حبوا»، على المبالغة، وقال: «من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من عذر»، قالوا: وما العذر؟ قال: «خوف أو مرض»، رواه أبو داود بإسناد صحيح.
(3) لأنه في معنى المريض، أو خائف زيادته، أو تباطؤه لأنه مرض لما روى أبو داود عن ابن عباس مرفوعا، أنه فسر العذر بالخوف والمرض، ما لم يكونا في المسجد، فتلزمهما الجمعة والجماعة، لعدم المشقة، ويعذر ممنوع من فعلها، كالمحبوس، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها.(3/340)
وتلزم الجمعة دون الجماعة من لم يتضرر بإتيانها، راكبا أو محمولا(1) (و) يعذر بتركها (مدافع أحد الأخبثين) البول والغائط(2) (ومن بحضرة طعام) هو (محتاج إليه)(3) ويأكل حتى يشبع(4) لخبر أنس في الصحيحين(5).
__________
(1) لعدم تكررها، دون الجماعة فتعظم المشقة والمنة، لتكررها، ولأن الجمعة لا بدل لها، إذا فاتت، وكذا لو تبرع من يركبه ويحمله، أو يقود أعمى في الجمعة لزمتهما، وهذا في غير المريض ككبر ونحوه، وأما المريض فيعذر مطلقا ونحو ذلك غلبة سمن مفرط للخبر.
(2) كأن حصره بول ونحوه، أو تضرر بحبسه، وكذا ريح وفاقا، لأن ذلك يمنعه من إكمال الصلاة، والخشوع فيها، وتقدم قوله: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان».
(3) قال في الإنصاف: بلا نزاع، والمراد إذا قدم إليه ليأكل ومثله تائق لجماع.
(4) على الصحيح من المذهب، وقيل: ما تسكن به نفسه.
(5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قدم العشاء فابدءوا به، قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم»، ولخبر ابن عمر: «إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء،ولا يعجل حتى يفرغ منه»، وفي لفظ: «حتى يقضي حاجته منه»، وهو محمول على العموم، نظرا إلى العلة، وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع، فذكر المغرب لا يقتضي حصرا فيها، وتقدم: «حديث لا صلاة بحضرة طعام»، وفي الصحيحين: «أنه دعي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وهو يحتز من كتف شاة، فقام وصلى»، ولعل المراد مع عدم الحاجة، جمعا بين الأخبار، ولأن العلة تشوف النفس إلى الطعام، فينبغي أن يدور الحكم مع علته وجودا وعدما، وأن لا يعمد إلى هذه الأمور، وإنما تجوز إذا وقعت اتفاقا بل ينبغي اجتنابه إذا كان يقع كثيرا، ولا يرخص في غير ترك الجماعة، فأما الوقت فلا يرخص بذلك في تفويته، عند جمهور أهل العلم ونص عليه أحمد وغيره.(3/341)
(و) يعذر بتركهما (خائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه)(1) كمن يخاف على ماله من لص ونحوه(2) أو له خبز في تنور يخاف عليه فسادا(3) أو له ضالة أو آبق يرجو وجوده إذا(4) أو يخاف فوته إن تركه(5).
__________
(1) لأن المشقة اللاحقة بذلك أعظم من بل الثياب بالمطر الذي هو عذر بالاتفاق قال المجد: والأفضل فعل ذلك، وترك الجمعة والجماعة، قال في الإنصاف، وهذا المذهب في ذلك كله، ولو تعمد سبب ضرر المال، وضياع بفتح الضاد أي فقد ماله وصار مهملا.
(2) كذئب فيخاف على غلة يبادرها، وأنعام لا حافظ لها غيره ونحوه، واللص بكسر اللام وتثلث، جمعه لصوص، هو السارق، مأخوذ من اللص وهو فعل الشيء في ستر.
(3) أو طبيخ على نار ونحوه أو أطلق الماء على زرعه أو بستانه ويخاف إن تركه فسد، أو يخاف عدم إنبات بذره، وكنحو جراد لو اشتغل عنه بالجماعة.
(4) كأن دل عليه بمكان، وخاف إن لم يمض إليه سريعا انتقل إلى غيره.
(5) أي في تلك الحال، كمن قدم به من سفر إن لم يقف لأخذه أخفاه أو ضاع، وقال ابن عقيل: خوف فوت المال عذر في ترك الجمعة إن لم يتعمد سببه بل حصل اتفاقا، وقال المجد: الأفضل ترك ما يرجو وجوده ويصلي الجمعة والجماعة، لأن ما عند الله خير وأبقى، وربما لا ينفعه حذره، وهذا والله أعلم ما لم يتشوش خاطره فإن لب الصلاة الخشوع.(3/342)
ولو مستأجرا لحفظ بستان أو مال(1) أو ينضر في معيشة يحتاجها(2) (أو) كان يخاف بحضوره الجمعة أو الجماعة (موت قريبه) أو رفيقه(3) أو لم يكن من يمرضهما غيره(4).
__________
(1) يخاف عليه الضياع إن ذهب وتركه، وهذا إذا كان وقع صدفة، أو لا بد منه، أما إذا كان يعلم ذلك وله بد منه فلا ينبغي تعمده، وترك ما أوجب الله عليه من حضور الجماعة، ويسعى في وجود مؤونة لا تمنعه الجماعة، وألحق بذلك العريان إذا لم يجد سترة، أو لم يجد إلا ما يستر عورته فقط في غير جماعة عراة، وذكر غير واحد إن لم يجد ما تختل مروءته بتركه من اللباس، لأن عليه مشقة بتركه.
(2) بأن عاقه حضور جمعة أو جماعة عن فعل ما هو محتاج لأجرته، كما لو كانت أجرته بقدر كفايته، أو هو وعياله، أو ثمنه، أو تحصيل تملك مال يحتاج إليه.
(3) أي حصول موت قريبه في غيبته عنه، بلا نزاع، وكذا صديقه أو مملوكه أو شيخه، وإن كان له من يمرضه، لأنه يشق عليه فراقه، فيتشوش خشوعه، أو يأنس به المريض، لأن تأنيسه أهم.
(4) أي يتولى تمريضهما لأن ابن عمر استصرخ على سعيد بن زيد، وهو يتجمر للجمعة فأتاه بالعقيق، وترك الجمعة، رواه البخاري، قال في الشرح: ولا نعلم في ذلك خلافا، وكذا أجنبي ليس له من يمرضه، ومرضه يمرضه تمريضا، قام بمداوته ومعاناته والمراد هنا: معاناته.(3/343)
أو يخاف على أهله أو ولده(1) (أو) كان يخاف (على نفسه من ضرر) كسبع(2) (أو) من (سلطان) يأخذه(3) (أو) من ملازمة غريم ولا شيء معه يدفعه به(4) لأن حبس المعسر ظلم(5) وكذا إن خاف مطالبته بالمؤجل قبل أجله(6) فإن كان حالا وقدر على وفائه لم يعذر(7) (أو) كان يخاف بحضورهما (من فوات رفقته) بسفر مباح(8).
__________
(1) من نحو لص، فيعذر بترك الجمعة والجماعة، وخوفه على أهله لانفرادهم في البيت ونحوه من الفساق لا يكون عذرا في سقوط الجماعة بالكلية بل يلزمه فعلها مهما أمكن، والسعي في الحصول على حضور الجماعة في المساجد.
(2) أو سيل أو نحو ذلك مما يؤذيه في نفسه فيعذر.
(3) يعني ظلما، وكذا نائب سلطان يخاف من أخذه ظلما.
(4) لأن ملازمته لا تجوز، وملازمته تعلقه به، ودوامه معه، ولزمته ألزمه تعلقت به، ودمت معه، ولزمت به كذلك، والغريم: الذي عليه الدين، وقد يكون الذي له، والمراد هنا الأول.
(5) لقوله تعالى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } .
(6) أي ويعذر المدين إن خاف مطالبة من له الدين، ما لم يكن حالا وقدر على وفائه.
(7) للنص لأنه ظالم.
(8) فيعذر، حيث حصل له الضرر ولو ساعة، ورفقته، بضم الراء وكسرها الذين يرافقهم في السفر.(3/344)
سواء أنشأه أو استدامه(1) (أو) حصل له (غلبة نعاس) يخاف به فوت الصلاة في الوقت، أو مع الإمام(2) (أو) حصل له (أذى بمطر ووحل) بفتح الحاء، وتسكينها لغة رديئة(3) وكذا ثلج وجليد وبرد(4) (وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة)(5).
__________
(1) أي السفر، بأن ابتدأ منشئا له، أو كان مستمرا فيه مستديما له، لأن عليه في ذلك ضررا.
(2) كمن طرأ عليه نعاس، وخشي إن انتظر الإمام أو الجماعة يغلبه النوم، فتفوته الصلاة في الوقت، أو مع الإمام، فيعذر بتركها وفي المبدع وغيره، ويعذر فيهما بخوف بطلان وضوئه بانتظارها، والصبر والتجلد على دفع النعاس، ويصلي معهم أفضل لما فيه من نيل فضيلة الجماعة، وقطع به في الوجيز والمذهب والمحرر، وذلك ما لم يصل به التجلد والصبر إلى ذهاب الخشوع المطلوب فيها.
(3) قال الجوهري وغيره، وقدمه في المصباح والقاموس، واستدرك عليه، وهو الطين الرقيق ترتطم فيه الدواب، جمعه أو حال ووحول.
(4) وحر، لمشقة الحركة فيها، إذا كان خارجا عما ألفوه، والثلج ينزل من السحاب على شكل أبراد، صفائح منتظمة وتنضم بعضها إلى بعض، حتى تكون على هيئة النجوم الصغيرة، والقطعة منه ثلجة، والجليد الضريب والسقيط، وينزل من السماء فيجمد على الأرض، والبرد بفتحتين شيء ينزل من السحاب، يشبه الحصا، يعرف بحب الغمام.
(5) الريح الهوى إذا هب، وتقييده بالشديدة على خلاف المذهب، قال في الإقناع، ولو لم تكن الريح شديدة، وقال في الإنصاف، والوجه الثاني يكفي كونها باردة فقط، وهو المذهب واشترط المصنف أيضا أن تكون الليلة مظلمة وهو المذهب وعليه الجمهور، ولم يذكر بعض الأصحاب «مظلمة» وهو ظاهر النص.(3/345)
لقول ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة «صلوا في رحالكم رواه ابن ماجه بإسناد صحيح(1) وكذا تطويل إمام(2) ومن عليه قود يرجو العفو عنه(3).
__________
(1) وهو في الصحيحين وغيرهما بلفظ: «أو ذات مطر في السفر»، وفي الصحيحين عن ابن عباس، أنه قال لمؤذنه في يوم مطير، زاد مسلم، في يوم جمعة إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، ولكن قل: صلوا في رحالكم، فكأن الناس استنكروا ذلك، فقال: فعله من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم وإني كرهت أن أخرجكم في الطين والدحض والثلج والجليد والبرد كذلك، وكذا الريح الباردة عذر. وقال النووي: البرد الشديد عذر في الليل والنهار، وشدة الحر عذر في الظهر والثلج عذر إن بل الثوب، وذكر أبو المعالي أن كل ما أذهب الخشوع كالحر المزعج عذرا ولهذا جعله الأصحاب كالبرد في المنع من الحكم والإفتاء والتدريس قال والزلزلة عذر، لانها نوع خوف قال ابن عقيل: ومن له عروس تجلى عليه، قال أبو المعالي: ثم لو قلنا: ينبغي مع هذه الأعذار: إذا أذهبت الخشوع، وجلبت السهر فتركه أفضل، وقال بعض الأصحاب: فعل جميع الرخص أفضل من تركها.
(2) لما تقدم من فعل الرجل الذي انفرد عن معاذ لتطويله ولم ينكر عليه.
(3) ولو على مال ومثله حد قذف.(3/346)
لا من عليه حد(1) ولا إن كان في طريقه أو المسجد منكر(2) وينكره بحسبه(3) وإذا طرأ بعض الأعذار في الصلاة أتمها خفيفة إن أمكن(4) وإلا خرج منها، قاله في المبدع(5) قال: والمأموم يفارق إمامه أو يخرج منها(6)
__________
(1) أي لله تعالى كزنا وشرب خمر، فلا يعذر به، لأن الحدود لا تدخلها المصالحة، بخلاف القصاص.
(2) أي فلا يعذر، لأن المقصود، الذي هو الصلاة في الجماعة لنفسه لا قضاء لحق غيره.
(3) أي بحسب استطاعته للخبر، ويبدأ بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.
(4) لقصة معاذ رضي الله عنه.
(5) أي وإن لم يمكنه أن يتمها خفيفة خرج منها، وهو مذهب الشافعي وغيره، لقصة معاذ، فإن فيه جواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، كما قاله الحافظ وغيره.
(6) فإن صلى ركعة فأكثر من جمعة أتمها جمعة، وإلا ظهرا، وقال في الروضة بعد أن ذكر أعذار الجمعة والجماعة، لأن من شروط صحة الصلاة أن يعي أفعالها ويعقلها، وهذه الأشياء تمنع ذلك، فإن زالت فعلها على كمال خشوعها، وفعلها مع كمال خشوعها بعد فوت الجماعة، أولى من فعلها مع الجماعة بدون كمال خشوعها. وتقدم كراهة من أكل بصلا ونحوه، وظاهر كلامهم يعذر بترك الجمعة والجماعة لا تحيلا فلا تسقط.
ويحرم لما في الصحيحين عن أنس «من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلي معنا»، ولهما عن ابن عمر، «فلا يأت المسجد».
ولمسلم «فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»، وفيهما أن عمر خطب
وقال عن البصل والثوم: لا أراهما إلا خبيثتين، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل، أمر به فأخرج إلى البقيع.
قال الشيخ: والنهي عام في كل مسجد، عند عامة العلماء، وقد ورد من غير وجه، قال في الفروع: ويتوجه مثله كل من به رائحة كريهة، ويكره حضوره مسجدا أو جماعه مطلقا، وحكاه النووي عن العلماء، لما فيه من الإيذاء، وإن أمكنه إزالة الرائحة بمعالجة وغسل فلا عذر له، والنهي عن حضور المسجد لا عن الأكل فهي حلال بإجماع من يعتد به، وقال زكريا: ومن الأعذار كل مشوش للخشوع، مع سعة الوقت، وأكل منتن ومن ببدنه أو ثوبه ريح خبيثة، وإن عذر كذي بخر أو صنان مستحكم، ما لم يسهل عليه إزالته، ومن كان أكله لعذر، ما لم يأكله بقصد إسقاط الجمعة والجماعة، وإلا لزم إزالته مهما أمكن، ولا تسقط عنه، والمراد سقوط الإثم على قول الفرض، أو الكراهة على قول السنة، لا حصول الأفضلية.(3/347)
.
...................................................
باب صلاة أهل الأعذار
وهم المريض والمسافر والخائف(1) (تلزم المريض الصلاة) المكتوبة (قائما)(2) ولو كراكع(3) أو معتمدا أو مستندا إلى
شيء(4).
__________
(1) ونحوهم والأعذار جمع عذر، كالأقفال جمع قفل، والعذر الحجة التي يعتذر بها، وما يرفع اللوم عما حقه أن يلام عليه، سموا بذلك لما قام بهم من الأعذار الآتية ونحوها.
(2) إجماعا في فرض، مع القدرة وتقدم، ولما في الصحيح وغيره، من حديث عمران بن حصين مرفوعا: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» ولخبر علي الآتي وغيره.
وقال تعالى: { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا } أي إلا ما أطاقت من العمل، قال أهل التفسير، فمن لم يستطع القيام فليصل قاعدا، وقالوا في قوله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } العبادة كالصلاة تجب ما دام العقل ثابتا، فيصلي بحسب حاله.
(3) أي ولو كان قيامه كصفة راكع، لحدب أو كبر أو مرض ونحوه، لزمه ذلك مهما أمكنه لقوله: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منها ما استطعتم».
(4) أي ولو كان في قيامه معتمدا على شيء، من نحو عصا أو مستندا إلى حائط ونحوه، ولو كان اعتماده واستناده إلى شيء بأجرة أو على إحدى رجليه، لعموم الخبر، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.(3/348)
(فإن لم يستطع) بأن عجز عن القيام أو شق عليه، لضرر أو زيادة مرض(1) (فقاعدا) متربعا ندبا(2) ويثني رجليه في ركوع وسجود(3) (فإن عجز) أو شق عليه القعود كما تقدم(4).
__________
(1) أو تأخر برء ونحوه، كوهن بقيام أو تألم شديد، ولا يشترط أن لا يتأتى القيام، ولا يكفي أدنى مشقة، بل المعتبر المشقة الظاهرة، وقال غير واحد: المعتبر المشقة الشديدة، وفوات الخشوع، واستطاع استطاعة، الأمر أطاقه وقوي عليه، والاستطاعة شرعا أوسع منها لغة.
(2) أي فإن لم يستطع قائما، فتلزمه المكتوبة قاعدا بلا نزاع، قال تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وقال النووي وغيره: أجمعت الأمة أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعدا، ولا إعادة عليه، ولا ينقص ثوابه للخبر اهـ أو شق عليه القيام، لما مر، وكذا لو كان في سفينة أو بيت قصير سقفه، وتعذر الخروج، أو خاف عدوا إن انتصب قائما، صلى جالسا، وقيل: قائما ما أمكنه، وقال إمام الحرمين: الذي أراه في ضبط العجز أن يلحقه بالقيام مشقة، تذهب خشوعه لأن الخشوع مقصود الصلاة، وكذا رقيب غزاة أو كمينهم خاف إن قام رؤية العدو، وعلى قياس ما سبق ولو معتمدا، أو مستندا متربعا للخير كمتنقل وفاقا، وتقدم صفة التربع، وكيف قعد جاز، لخبر فقاعدا ولم يخص جلسة دون جلسة، وذكر ابن أبي شيبة عن جماعة من التابعين أنهم كانوا إذا صلوا جلوسا يجثون.
(3) أي يرد بعضها على بعض كمتنفل، ركبتاه إلى القبلة.
(4) يعني في القيام، ولو كان عجزه بتعديه بضرب ساقه ونحوه.(3/349)
(فعلى جنبه)(1) والأيمن أفضل(2) (فإن صلى مستلقيا ورجلاه إلى القبلة صح) وكره مع القدرة على جنبه(3) وإلا تعين(4).
__________
(1) أي فيصلي على جنبه، وذكره غير واحد مذهب الجمهور، قال الشيخ: ووجهه إلى القبلة لخبر عمران، وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى القبلة، صلى على أي جهة توجه.
(2) أي من الصلاة على الجنب الأيسر، وهو مذهب الجمهور، لحديث علي الآتي، ولو اضطجع على يساره صح وكره، وفاقا لمالك والشافعي، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يعين جنبا.
(3) ووجه الصحة أنه نوع استقبال، والكراهة للاختلاف في صحتها، فعنه لاتصح، قال في الشرح: وهو الأظهر، لأن نقله إليه عند العجز عن الصلاة على جنب، فدل على أنه لا يجوز مع القدرة عليه، ولأنه ترك الاستقبال مع القدرة عليه بوجهه وجملته، وعنه: يصلي كيف شاء، كلاهما جائز قال الشيخ: فيمن عجز عن القعود، يصلي على جنبه أو ظهره، ووجهه أو رجلاه إلى القبلة إن استطاع إذا كان عنده من يوجهه اهـ، ولو استلقى على ظهره، ورجلاه إلى غير القبلة، فإنه يصير مستدبرا القبلة، فلا تنعقد صلاته مع القدرة، وكره أحمد إسناد ظهره إلى القبلة، ومد الرجل إليها، وكره الحنفية أيضا مد الرجلين إلى القبلة في النوم وغيره، وهو عند الكعبة مسلم، ومطلقا يستدعي دليلا شرعيا، وقيل: لعل الأولى تركه، وقدرت على الشيء، أقدر من باب ضرب قويت عليه، وتمكنت منه، والاسم القدرة وفيه لغة كعلم يعلم.
(4) أي وإن لم يقدر المريض أن يصلي على جنبه، تعين أن يصلي على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، بلا كراهة نص عليه وصلاته صحيحة بلا نزاع.(3/350)
(ويومئ راكعا وساجدا) ما أمكنه(1) (ويخفضه) أي السجود (عن الركوع)(2) لحديث علي مرفوعا: «يصلي المريض قائما، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا، صلى على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقيا، رجلاه مما يلي القبلة»، رواه الدارقطني(3) (فإن عجز) عن الإيماء (أومأ بعينيه)(4).
__________
(1) أي برأسه وجوبا، نص عليه للخبر الآتي ولحديث: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» قال الشيخ فيمن لا يستطيع التحرك، وإذا سجد لا يستطيع الرفع: يومئ برأسه إيماء بحسب حاله.
(2) وجوبا للخبر، ولتمييز أحدهما عن الآخر.
(3) وقال النووي: ضعيف لكن له شواهد عند البزار والبيهقي والطبراني وتقدم حديث عمران في الصحيح وزاد النسائي: «وإن لم تستطع فمستلقيا»، وفي هذا الحديث قيد معتبر في صحة الصلاة على هذه الحالة فلو استلقى على ظهره ورجلاه إلى غير القبلة صار مستدبرا القبلة، فلا تنعقد صلاته، فإن الاستقبال واجب مع القدرة ولو كان في غير الراحلة والسفينة فعليه الاستقبال إن قدر عليه، وعليه بقية الشروط والأركان والواجبات إن قدر عليها، وما لا يقدر عليه يسقط عنه.
(4) أي إن عجز عن الإيماء برأسه لركوعه وسجوده، أومأ بعينيه لما ذكره من الخبر، وقال ابن قندس وغيره: موضع الإيماء هو الرأس والوجه والطرف من ذلك الموضع لأنهما من الرأس، بخلاف اليدين فإنهما ليسا من موضع الإيماء وعجز بفتح الجيم، يعجز بكسرها، وحكي بالعكس والعجز أن لا يقدر على ما يريد.(3/351)
لقوله عليه الصلاة والسلام «فإن لم يستطع أومأ بطرفه» رواه زكريا الساجي بسنده، عن الحسين بن علي بن أبي طالب(1) وينوي الفعل عند إيمائه له(2) والقول كالفعل، يستحضره بقلبه، إن عجز عنه بلفظه(3) وكذا أسير خائف(4) ولا تسقط الصلاة ما دام العقل ثابتا(5).
__________
(1) يعني عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن علي بن الحسين بن علي، وظاهر كلام جماعة لا يلزمه وصوبه في الفروع، لعدم ثبوته، فقد رواه الدارقطني وغيره بسند ضعيف، وليس فيه، وأومأ بطرفه، وقال الشيخ: لو عجز المريض عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإيماء بطرفه اهـ، وهو رواية عن أحمد، وذكر القاضي أنه ظاهر كلام أحمد، وفي رواية محمد ابن يزيد لما روي عن أبي سعيد أنه قيل له في مرضه، الصلاة، قال: قد كفاني، إنما العمل في الصحة، ولظاهر حديث عمران، وحكي عن أبي حنيفة، و«أومأ» أشار، و«الطرف» بفتح الطاء، وسكون الراء العين، أو اسم جامع للبصر، وطرف العين حركتها.
(2) يعني للركوع والسجود
(3) لما تقدم وتقدم أنه لا يلزمه.
(4) أي أن يعلموا بصلاته يومئ بطرفه لعجزه إذا عن الإيماء بالركوع والسجود برأسه لقوله: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
(5) يعني لقدرته على الإيماء بطرفه، مع النية بقلبه، لعموم أدلة وجوبها، وعنه: تسقط، وفاقا لأبي حنيفة واختاره الشيخ، لظاهر حديث عمران وغيره، مما تقدم وغيره.(3/352)
ولا ينقص أجر المريض إذا صلى ولو بالإيماء عن أجر الصحيح المصلي قائما(1) ولا بأس بالسجود على وسادة ونحوها(2) وإن رفع له شيء عن الأرض فسجد عليه ما أمكنه صح وكره(3) فإن قدر، المريض في أثناء الصلاة على قيام (أو عجز) عنه (في أثنائها انتقل إلى الآخر) فينتقل إلى القيام من قدر عليه(4) وإلى الجلوس من عجز عن القيام(5).
__________
(1) لحديث أبي موسى: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيما صحيحا»، ونظائره وقال الشيخ: من نوى الخير وفعل ما يقدر عليه، كان له كأجر الفاعل، واحتج بحديث أبي كبشة وغيره.
(2) مما وضع له ليسجد عليه، والمراد بلا رفع، واحتج أحمد بفعل أم سلمة وابن عباس وغيرهما، ونهى عنه ابن مسعود وابن عمر، لحديث جابر: أنه رأى مريضا يصلي على وسادة فرمى بها، والوسادة بالكسر المخدة، والجمع وسادات ووسائد.
(3) للخلاف في منعه، ووجه الكراهة إذا كانت الوسادة ونحوها منفصلة عن الأرض، ولم تبق عليها، فلا ينبغي السجود على وسادة ونحوها، ويومئ غاية ما يمكنه.
(4) بلا نزاع لتعينه عليه قال تعالى: { وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ } وكذا إن قدر مصل مضطجعا على قعود في أثنائها انتقل إليه وأتمها، لأن المبيح العجز وقد زال، «وقدر على الشيء» أطاقه ضد عجز عنه.
(5) إجماعا، حكاه أبو حامد وغيره، وإلى الجنب ونحوه من عجز عن القعود للعجز وتقدمت الأدلة.(3/353)
ويركع بلا قراءة من كان قرأ(1) وإلا قرأ(2) وتجزئ الفاتحة من عجز فأتمها في انحطاطه(3) لا من صح فأتمها في ارتفاعه(4) وإن قدر على قيام وقعود دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائما، لأن الراكع كالقائم في نصب رجليه(5) (و) أومأ (بسجود قاعدا) لأن الساجد كالجالس في جمع رجليه(6) ومن قدر على أن يحني رقبته دون ظهره حناها(7) وإذا سجد قرب وجهه من الأرض ما أمكنه(8).
__________
(1) حال عجزه، لحصولها في محلها.
(2) أي وإن لم يكن قرأ حال عجزه، قرأ بعد قيامه أو قعوده ليأتي بفرضها. وإن كان قرأ البعض أتى بالباقي.
(3) لأنه أعلى من القعود الذي صار فرضه.
(4) أي حال نهوضه، لأن فرضه القراءة حال القيام، وأما ما قرأ به جالسا قبل قدرته على القيام فيبني عليه.
(5) فوجب أن يومئ به في قيامه، وفاقا للشافعي.
(6) فوجب أن يومئ به جالسا، ليحصل الفرق بين الإيماءين.
(7) أي حني رقبته إن قدر، يعني عطفها، وحناه يحنيه عطفه، وانحنى وتحنى تحنيا أعوج وانعطف.
(8) لقوله: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .(3/354)
ومن قدر أن يقوم منفردا ويجلس في جماعة خير(1) (ولمريض الصلاة مستلقيا مع القدرة على القيام، لمداواة بقول طبيب مسلم) ثقة(2) وله الفطر بقوله: إن الصوم مما يمكن العلة(3) (ولا تصح صلاته قاعدا في السفينة وهو قادر على القيام(4)
__________
(1) بين أن يصلي منفردا قائما، وبين أن يصلي قاعدا في جماعة، وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، قيل: لعل وجهه أن القيام وإن كان ركنا، لكن له بدل وهو القعود، وقال أبو المعالي: يلزمه القيام، وصوبه في الإنصاف، لأن القيام ركن لا تصح الصلاة إلا به مع القدرة عليه، وهذا قادر عليه، والجماعة واجبة، تصح الصلاة بدونها.
(2) أي عدل ضابط حاذق فطن، يقول له: إن صليت مستلقيا أمكن مداوتك فله ذلك، وفاقا لأبي حنيفة، ولو كان الطبيب امرأة، لأنه أمر ديني، فلا يقبل من كافر ولا فاسق، كغيره من أمور الدين ويكفي منه غلبة الظن، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم صلى جالسا حين جحش شقه، والظاهر أنه لم يكن لعجزه عن القيام، بل فعله إما للمشقة، أو وجود الضرر وكلاهما حجة، وأم سلمة تركت السجود لرمد بها، وقدم الموفق وغيره: إن قال ثلاثة وقال ابن منجا، ليس بمراد لأن قول الاثنين كاف، كما صرح به غير واحد، ونص أحمد أنه يفطر بقول واحد، إن الصوم مما يمكن العلة، والطبيب العالم بالطب، وهو كل ماهر حاذق بعلمه، قال الجوهري: كل حاذق طبيب عند العرب، وسمي طبيبا لحذقه وفطنته.
(3) أي المرض، نص عليه لقوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وقاس القاضي وغيره المسألة الأولى عليه.
(4) بلا نزاع لقدرته على ركن الصلاة كمن بغير سفينة، وتجوز إقامة الجماعة فيها، على الصحيح من المذهب، ومثل السفينة عجلة ومحفة وعمارية.
وهودج ونحوها، وإن خاف راكب سفينة الغرق أو دوران الرأس: صلى قاعدا ولا إعادة، والسفينة معروفة وجمعها سفن وسفين، وسميت بذلك لأنها تسفن الماء، كأنها تقشره.(3/355)
ويصح الفرض على الراحلة واقفة أو سائرة خشية التأذي بوحل أو مطر ونحوه(1) لقول يعلى بن مرة، انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضيق هو وأصحابه، وهو على راحلته، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، يعني إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع، رواه أحمد والترمذي، وقال: العمل عليه عند أهل العلم(2) وكذا إن خاف انقطاعا عن رفقته بنزوله(3) أو على نفسه(4).
__________
(1) كثلج وبرد، فإن قدر على نزوله بلا مضرة لزمه، وقام وركع لغير حالة المطر، وأومأ بسجود إن كان يلوث الثياب، بخلاف اليسير.
(2) وثبت عن أنس من فعله، ولم ينقل عن غيره خلافه، ويعلى بن مرة هو ابن وهب بن جابر بن عتاب بن مالك الثقفي، من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم، والمضيق بفتح فكسر فسكون ما ضاق من الأماكن، ضد ما اتسع، والجمع مضايق والسماء يعني المطر، أو المطرة الجيدة، جمعها أسمية قال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم …رعيناه وإن كانوا غضابا
أراد بالأول المطر، وبالثاني النبات، وسمي المطر سماء لخروجه من السماء، يعني السحاب، فإن ما علاك فهو سماء، والبلة النداوة.
(3) أي صلى عليها، دفعا للحرج والمشقة والانقطاع.
(4) أي أو خاف بنزوله على نفسه من عدو، أو سيل، أو سبع ونحوه صلى عليها.(3/356)
أو عجز عن ركوب إن نزل(1) وعليه الاستقبال وما يقدر عليه(2) (ولا) تصح الصلاة على الراحلة (لمرض) وحده دون عذر مما تقدم(3) ومن بسفينة وعجز عن القيام فيها، والخروج منها صلى جالسا مستقبلا(4) ويدور إلى القبلة كلما انحرفت السفينة بخلاف النفل(5).
فصل
__________
(1) صلى عليها لا إن قدر ولو بأجرة يقدر عليها قال في الاختيارات تصح صلاة الفرض على الراحلة خشية الانقطاع عن الرفقة أو حصول ضرر بالمشي أو تبرز الخفرة.
(2) أي يجب على المصلي المكتوبة على الراحلة لعذر مما سبق الاستقبال مطلقا، لعموم { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } ويجب عليه ما قدر عليه من ركوع وسجود وإيماء بهما وطمأنينة وغير ذلك لقوله { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وعليه الاستقبال إن قدر عليه، وعليه بقية الشروط والأركان والواجبات إن قدر عليها، وما لا يقدر عليه لا يكلف به، فالاستقبال ليس واجبا إلا مع القدرة، ولو كان في غير الراحلة والسفينة، ومن صلى المكتوبة أو النافلة على الراحلة أو السفينة أو المحفة ونحوها سائرة أو واقفة، وأتى بكل فرض وشرط صحت صلاه ولو بلا عذر، لاستيفائه ما يعتبر لها، ومن بماء وطين يومئ، كمصلوب ومربوط، وما سوى ذلك يعتبر المقر لأعضاء السجود.
(3) كعجزه عن الركوب إذا نزل، أو انقطاع لأن الصلاة أسكن له في نزوله وأمكن وكان ابن عمر ينزل مرضاه، ومع العذر تجوز عليه كالصحيح وأولى.
(4) وفاقا إلا أن تكون واقفة فيجب عليه القيام.
(5) فلا يلزمه أن يدور معها إلى القبلة كلما انحرفت، وقال بعضهم: لا يلزم أن يدور في الفرض كالنفل على الأصح، وتقام الجماعة فيها مع عجز عن قيام كمع قدرة عليه.(3/357)
في قصر المسافر الصلاة(1)
وسنده قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } الآية(2)
__________
(1) أي رد الرباعية من أربع إلى ركعتين، من قصر الشيء، إذا نقصه أو نقص منه أو حبسه، وهو مشروع بالكتاب والسنة، جائز بإجماع أهل العلم، منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر، واختاره فقهاء الحديث وغيرهم، كأحمد وغيره، وشيخ الإسلام وغيره اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يصل في السفر قط إلا مقصورة، حتى إن من العلماء من يوجبه، ومن صلى أربعا لم يبطلوا صلاته، لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك منهم، بل منهم من يكره ذلك، ومنهم من لا يكرهه، وإن رأى تركه أفضل، قال الموفق وغيره: القصر أفضل من الإتمام، في قول جمهور العلماء، ولا نعلم خالف فيه إلا الشافعي في أحد قوليه، قال الشيخ: وإذا كان القصر أفضل عند جماهير أهل العلم، لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه، وفي الصحيحين فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، وقال عمر: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، وغير ذلك، وأوله بعضهم: لمن أراد القصر، لا أنها أصل، لمخالفة نص القرآن وإجماع المسلمين في أنها مقصورة، وأن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام، وقال غير واحد: متى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره.
(2) ضربتم في الأرض، أي سافرتم في البلاد، تقصروا، من كميتها
وخفتم خرج مخرج الغالب، قاله غير واحد، وأنه إنما علق القصر على الخوف
لأن غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم لم تخل منه وقال الشيخ: القصر قصران قصر الأفعال، وقصر العدد كصلاة الخوف حيث كان مسافرا، فإنه يرتكب فيها ما لا يجوز في صلاة الأمن، والآية وردت على هذا «ومقيد» وهو ما اجتمع فيه قصر العدد فقط، كالمسافر، أو قصر العمل فقط، كالخائف وهو حسن لكن يرد على هذا قول يعلى لعمر: ما لنا نقصر وقد أمنا؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» رواه مسلم، فظاهر ما فهماه تقييد قصر العدد بالخوف، والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على ذلك: وقيل: قوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ } كلام مبتدأ معناه وإن خفتم، وقال ابن عمر: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك متفق عليه.(3/358)
.
(من سافر) أي نوى (سفرًا مباحًا) أي غير مكروه ولا حرام(1)
__________
(1) سن له قصر الرباعية ركعتين، وأجمعوا على جوازه في سفر الطاعة وأما السفر المحرم فمذهب مالك والشافعي وأحمد لا يقصر، وعن أحمد يقصر في سائر جنس الأسفار، وهو مذهب أبي حنيفة وطوائف من السلف والخلف، قال الموفق: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، وقال شيخ الإسلام: الحجة مع من جعل القصر مشروعًا في جنس السفر، ولم يخص سفرًا من سفر، وهذا القول هو الصحيح، فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص سفرًا من سفر، ولو كان مما يختص بنوع لكان بيانه من الواجبات، ولو بين لنقلته الأمة، وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئًا، ولم يذكر تقييده في شيء من الكتاب والسنة بنوع دون نوع، فكيف يجوز أن يكون معلقًا بأحد نوعي السفر؟ ولا يبين الله ولا رسوله ذلك، بل يكون بيان الله ورسوله متناولاً سفر الطاعة وسفر المعصية.
وقال أيضًا: ويجوز قصر الصلاة في كل ما يسمى سفرًا، قل أو كثر، وسواء كان مباحا أو محرما ونصره ابن عقيل، وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي اهـ وعليه العمل، وأما من ارتكب المعاصي في سفره فله الترخص بلا خلاف، لأنه ليس ممنوعًا من السفر، وإنما منع من المعصية، وقول الشارح «نوى» صرفٌ لعبارة الماتن عن مقتضاها كالمنقح لما يرد عليها، كخروج من طلب ضالة أو آبقًا جاوز ستة عشر فرسخا على التقييد به، فإنه يصدق عليه أنه مسافر، وكون المعتبر المسافة لا حقيقتها فلو نواها ثم رجع قبل استكمالها وقد قصر لم يعد، لكن قد يقال بأنه قد ينوي السفر ولا يسافر، فيرد على عبارة الشارح عدم الاكتفاء بالنية، ويجاب بأنه إذا فارق عامر قريته يدل على السفر، إلا أنه يحتاج إلى إضمار: إذا فارقها مسافرًا، وقال عثمان: الأخلص في العبارة أن يقال: من ابتدأ سفرًا مباحًا ناويًا، فله القصر إذا فارق.. إلخ، والسفر قطع المسافة، وجمعه أسفار، سمي بذلك لأنه يسفر عن أخلاق الرجال أي يكشفها وقيل غير ذلك.(3/359)
.
فيدخل فيه الواجب والمندوب(1) والمباح المطلق(2) ولو نزهة وفرجة(3).
__________
(1) كحج وجهاد متعينين، وكزيارة رحم وإخوان، وعيادة مريض، وأحد المساجد الثلاثة بلا نزاع، لا المشاهد، على القول بعدم جواز القصر في السفر المحرم. لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد»، الحديث متفق عليه، قال الشيخ: لم ينقل جوازه عن أحد من المتقدمين، وذكر أنه بدعة، واختار القاضي والجويني تحريم السفر لزيارة القبور مطلقا، وغلط أهل التحقيق من استثنى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستثناء في قوله «لا تشد الرحال» ونحوه عند أهل الأصول معيار العموم.
(2) أي غير المقيد بالواجب والمستحب.
(3) قال النووي: قطع به أهل التحقيق، وكرهه شيخ الإسلام وغيره والنزهة الخروج إلى البساتين والخضر والرياض، يقال، نزه المكان ككرم، نزاهة
فهو نزيه، إذا كان ذا ألوان حسان، قال ابن قتيبة: ذهب بعض أهل العلم في قول الناس: خرجوا يتنزهون،أنه غلط، وهو عندي ليس بغلط لأن البساتين في كل بلد إنما تكون خارج البلد، فإذا أراد أحد أن يأتيها فقد أراد البعد عن المنازل والبيوت ثم كثر هذا حتى استعملت النزهة في الخضر والجنان اهـ والفرجة بالضم عطف تفسير، وفي المجمل: الفرجة التقضي عن الهم، قال في الفروع: أطلق أصحابنا إباحة السفر للتجارة، ولعل المراد: غير مكاثر في الدنيا، وأنه يكره، وقال ابن حزم: اتفقوا أن الاتساع في المكاسب والمباني من حل إذا أدى جميع حقوق الله قبله مباح، ثم اختلفوا فمن كاره و وغير كاره، وقال النووي: من سافر لأي قصد من المقاصد دينًا أو دنيا ترخص بلا خلاف، ولغير قصد إلا الترخص ترخص، وفاقًا لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي.(3/360)
يبلغ (أربعة برد)(1) وهي ستة عشر فرسخًا(2).
برا وبحرا(3) وهي يومان قاصدان(4)
__________
(1) جمع بريد، أربعة فراسخ، أو اثنا عشر ميلاً، أو ما بين المنزلتين قال الشيخ: والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والإقدام، وهو ربع مسافة يومين وليلتين
(2) يعني أربعة البرد قال الشاعر:
إن البريد من الفراسخ أربع…والفرسخ فثلاث أميال ضعوا
والميل ألفًا قدروا بالباع…والباع أربعة من الذراع
والفرسخ واحد الفراسخ، فارسي معرب، ويقال: الفرسخ ثلاثة أميال، والميل اثنا عشر ألف قدم ستة آلاف ذراع، وهو الأشهر وأربعة آلاف خطوة، وجزم الجوهري أنه منتهى مدى البصر، لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة، كل أصبع ست شعيرات، كل شعيرة ست شعرات برذون، وصحح غير واحد أن مقدار المسافة تقريب لا تحديد وقال في الإنصاف: هذا مما لا نشك فيه.
(3) لعدم الفرق بينهما وفاقا، فمسافة البحر كالبر، ولو قطعها في ساعة، كما لو قطعها في البر في نصف يوم، ويأتي كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
(4) أي الستة عشر فرسخا مسيرة يومين قاصدين، أي معتدلين بسير الأثقال، ودبيب الأقدام، هينتي السير بلا تعب ولا بطء، فإن القصد الاعتدال بذلك، مع المعتاد من النزول والاستراحة ونحوها، وهذا مذهب مالك والشافعي، وقيل غير ذلك، وقال شيخ الإسلام، قال أبو محمد: لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجها، لمخالفة السنة وظاهر القرآن، فإن ظاهر القرآن إباحة القصر لمن ضرب في الأرض، وهو كما قال، فإن التحديد بذلك ليس بثابت بنص ولا إجماع ولا قياس، ولا حجة لتحديده، بل الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، واستظهر جواز القصر لمن سافر يوما، وقال: والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصوده ويعود إلى وطنه، وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها، ويرجع في نصفها، وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة غير ذلك.
وقال الفرق بين السفر الطويل والقصير لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل الأحكام التي علق الله بالسفر علقها مطلقا، وذكر الآيات في ذلك والآثار، ثم قال: فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير، فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه، فرقا لا أصل له من كتاب الله ولا سنة رسوله، فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفرا في عرف الناس فهو السفر، الذي علق به الشارع الحكم، وذكر مثل سفر أهل مكة إلى عرفة، وقال: أي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة، وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم، فإن هذه مسافة بريد، وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع.
وقال: إن حد فتحديده ببريد أجود إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، والمعلوم أن الإجماع لم ينعقد على خلافه، وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد، كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه، لمن تبين السنة وتدبرها، قال: والمحددون لهم طريقان: بعضهم يقول: لم أجد أحدا قال بأقل من ذلك، وقد علم من قال ذلك، وبعضهم يقول: هذا قول ابن عمر وابن عباس، ولا مخالف لهما، وهذا باطل فقد ثبت عنهما وغيرهما ما يخالف ذلك، وتحديد السفر بالمسافة لا أصل له في شرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض، فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقا بشيء لا يعرفونه والاعتبار بما هو سفر فمن سافر ما يسمى سفرا قصرا وإلا فلا.
وأدنى ما يسمى سفرا في كلام الشارع البريد، وكان يأتي قباء راكبا وماشيا، ويأتي إليه أصحابه ولم يقصر هو ولا هم، ويأتون إلى الجمعة من نحو ميل وفرسخ، والنداء يسمع من نحو فرسخ، وقصر أهل مكة بعرفة اهـ، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم يوما وليلة سفرا، فقال في المرأة: «لا تسافر يومًا وليلة إلا مع ذي محرم»، قال البغوي: وعامة الفقهاء يقولون مسيرة يوم تام، وكان ابن عمر يقصر في مسيرة يوم، وقال الأوزاعي وآخرون: يقصر في مسيرة يوم تام، وهو قول ابن المنذر وداود وغيرهما لإطلاق الكتاب والسنة، ولحديث يحيى ابن يزيد، سألت أنسا عن قصر الصلاة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين رواه مسلم.(3/361)
.
سن له قصر الرباعية ركعتين(1).
__________
(1) قال في الإقناع والمنتهى وغيرهما: ولو قطعها في ساعة، وذكر شيخ الإسلام أن السفر ليس محدودا بمسافة بل يختلف، فيكون مسافرا في مسافة بريد، وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا، فلو ركب رجل فرسا سابقا إلى عرفة ثم
رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافرا، يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: «يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن» فلو قطع البريد في ثلاثة أيام كان مسافرًا ثلاثة أيام، فيمسح مسح مسافر، ولو قطع البريد في نصف يوم لم يكن مسافرا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتبر ثلاثة أيام، سواء كان حثيثا أو بطيئا وذكر أن ابن عباس نهى من ذهب ورجع من يومه إلى أهله أن يقصر.
وقال: الذين جعلوا المسافة الواحدة حدا يشترك فيه جميع الناس، مخالفون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فالرجل يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به، فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرا، وإن كانت المسافة أقل من ميلن بخلاف من يذهب ويرجع من يومه، فإنه لا يكون في ذلك مسافرا فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد، بخلاف الثاني، فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرا، فالسفر يكون بالعمل الذي يسمى سفرا لأجله، والعمل لا يكون إلا في زمان، فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر سمي مسافرا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد لم يسم سفرا، وإن بعدت المسافة، فالأصل هو العمل الذي يسمى سفرا، ولا يكون العمل إلا في زمان، فيعتبر العمل الذي هو سفر، ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم فما سموه سفرا فهو سفر وإلا فلا.(3/362)
لأنه عليه الصلاة والسلام دوام عليه(1).
__________
(1) قال شيخ الإسلام وغيره: فإن المسلمين قد نقلوا بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر إلا ركعتين، ولم ينقل عنه أحد أنه صلى أربعا قط، واختار أنه سنة، وأن الإتمام مكروه، وذكر أن القصر أفضل عند عامة أهل العلم، ليس فيه إلا خلاف شاذ، وأن أكثرهم يكرهون التربيع للمسافر.
وقال: يكره إتمام الصلاة في السفر ونقل عن أحمد أنه توقف في الأجزاء، ولم يثبت أن أحدا من الصحابة كان يتم الصلاة في السفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن حديث عائشة في مخالفة ذلك لا تقوم به الحجة.(3/363)
بخلاف المغرب والصبح فلا يقصران إجماعا، قاله ابن المنذر(1) (إذا فارق عامر قريته)(2) سواء كانت البيوت داخل السور أو خارجه(3).
__________
(1) لأن المغرب وتر النهار، فإن سقط منها ركعة بطل كونها وترا، وإن سقط ركعتان بقي ركعة، ولا نظير لها في الفرض، والصبح لو سقط منها ركعة بقيت ركعة، ولا نظير لها في الفرض، ولم يقصرا بإجماع المسلمين.
(2) أي إذا فارق من نوى سفرا مباحا عامر قريته مسافرا، بما يقع عليه اسم المفارقة، بنوع من البعد عرفا، قصر وفاقا للأئمة الثلاثة، وجماهير العلماء من الصحابة ومن بعدهم، وحكاه ابن المنذر وغيره إجماعا لأن الله أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وقبل المفارقة لا يكون ضاربا فيها ولا مسافرا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يقصر إذا ارتحل قال شيخ الإسلام: فيه ما يبين أنه لا اعتبار بمسافة محدودة فإن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة لم يكن مسافرا والمسافر عن قرية صغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرا، وأن المسافر لا بد أن يسفر أي يخرج إلى الصحراء، وأن لفظ السفر يدل على ذلك، فلا يكون إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وقال: لا بد أن يسفر، أي يخرج إلى الصحراء فإن لفظ السفر يدل على ذلك، يقال: سفرت المرأة عن وجهها، إذا كشفته فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها من بين المساكن لم يكن مسافرا.
(3) فإن ولي البيوت الخارجة عامرة فحتى يفارقها قال شيخ الإسلام والمدينة كانت محلا أي أمكنه والمحلة القرية ومنزلة القوم وجماعة بيوت الناس.
وكل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا وجمع الناس، وتقع على المدن وغيرها، فإن لم يل الخراب عامر لكن جعل مزارع وبساتين يسكنه أهله، ولو في فصل النزهة فله القصر قبل مفارقته، في ظاهر كلامهم، وصرح به الموفق وغيره فيما إذا خرج من البلد، وصار بين حيطان بساتينه، لأنها غير معدة للسكنى.(3/364)
(أو) فارق (خيام قومه)(1) أو ما نسبت إليه عرفا سكان قصور وبساتين ونحوهم(2) لأنه عليه الصلاة والسلام إنما كان يقصر إذا ارتحل(3) ولا يعيد من قصر بشرطه ثم رجع قبل استكماله المسافة(4) ويقصر من أسلم أو بلغ(5).
__________
(1) أي فله القصر وفاقا، إن استوطنوا الخيام، جمع خيمة كتمرة وتمر، قاله الواحدي، وقال الجوهري، جمع خيم بمعنى خيمة وعلى الأول فالخيام جمع جمع.
(2) كأهل العزب من قصب ونحوه، وسكان بالرفع نائب فاعل نسبت أي أو فارق سكان قصور وبساتين ونحوهم ذلك المحل الذي نسبت إليه عرفا تلك القصور والبساتين والعزب ونحوها، إن كان الباقي قدر مسافة، ولم ينو عودا قبل استكمالها وإن فارق عامر قريته ونحوه بنية رجوعه بقرب لحاجة لم يترخص حتى يرجع ويفارق، ومن رجع إلى بلد أقام به إقامة مانعة يترخص مطلقا، حتى فيه نص عليه وفاقا، لزوال نية إقامته كعوده مجتازا.
(3) كما ثبت من غير وجه في الصحيحين وغيرهما، ولم يرو عنه القصر قبل البروز، ولو برزوا بمكان لقصد الاجتماع ثم ينشئون السفر منه فلهم القصر قبل مفارقته، قال في الفروع: وهو متجه اهـ، وينتهى سفره ببلوغه مبدأ سفره.
(4) لأن المعتبر نية المسافة لا حقيقتها، وشرطه هو ما إذا سافر على ما تقدم.
(5) أو عقل، بسفر مبيح، ولو كان الباقي دون المسافة.(3/365)
أو طهرت بسفر مبيح، ولو كان الباقي دون المسافة(1)، لا من تاب إذا(2) ولا يقصر من شك في قدر المسافة(3) ولا من لم يقصد جهة معينة كالتائه(4) ولا من سافر ليترخص(5)
__________
(1) لأن عدم تكليفه في السفر المبيح لا أثر له في ترك القصر في آخره، وعدم التكليف غير مانع في القصر، بخلاف من أنشأ سفر معصية ثم تاب وقد بقي دونها على المذهب.
(2) أي فلا يقصر إذا لم يبق إلا دون مسافة القصر، وتقدم قول الشيخ.
(3) بأن جهل كونها مسافة قصر، لأن الأصل الإتمام، ولم يعلم المبيح للقصر أو لم يعلم قدره، كمن خرج في طلب آبق أو ضال، ناويا أن يعود به أين وجده لعدم تحقق المبيح للقصر، وقال ابن عقيل: يباح له القصر إذا بلغ مسافة القصر، واختار الشيخ وغيره القصر للحشاش والخطاب فيما يطلق عليه اسم السفر، والحجة مع من قال: له القصر في كل ما يسمى سفرا.
(4) أي ضال الطريق، الذاهب في الأرض تحيرا، والهائم الذي لا يدري أين يذهب، لأنه يشترط للقصر قصد جهة معينة، صرح به في الإقناع وغيره، وليس بموجود منهم، وكذا سائح لا يقصد مكانا معينا، لأن السفر إذا ليس بمباح وقال في جمع الجوامع وغيره في التائه ونحوه: يقصر، وهو المختار والسياحة لغير موضع معين مكروهة، وقال في الاختيارات، السياحة في البلاد لغير قصد شرعي - كما يفعله بعض النساك - أمر منهي عنه، قال أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا هي من فعل النبيين والصالحين، ومراده والله أعلم السياحة لغير غرض شرعي، فأما السياحة للجهاد وطلب العلم، وتعليم الجاهل، ونحو ذلك فمشروع مندوب كما هو معلوم.
(5) قال في الفروع: ولو سافر ليترخص، فقد ذكروا أنه لو سافر ليفطر حرم.
قال في المغني: الحجة مع من أباح القصر في كل سفر لم يخالف إجماعا واختاره شيخ الإسلام، وقاله في سفر المعصية، وذكر أن ابن عقيل رجحه في بعض المواضع، كأكل الميتة فيه، في رواية اختارها في التلخيص، واستظهرها في الفروع وفاقا، وقال: وكعاص في سفره، أو به وفاقا، وتقدم قول النووي وغيره: من سافر ليترخص ترخص، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي.(3/366)
.
ويقصر المكره كالأسير(1) وامرأة وعبد تبعا لزوج وسيد(2) (وإن أحرم) في الـ (حضر ثم سافر(3) أو) أحرم (سفرا ثم أقام) أتم(4) لأنها عبادة اجتمع لها حكم الخضر والسفر، فغلب حكم الحضر(5).
وكذا لو سافر بعد دخول الوقت أتمها وجوبا، لأنها وجبت تامة(6).
__________
(1) أي يقصر المكره على السفر، كما يقصر الأسير، تبعا لسفرهم، ومتى صار ببلدهم أتم تبعا لإقامتهم، وكالبكر الزاني المغرب، ومحرم المغربة، وقاطع الطريق المشرد إذا خاف السبيل، ولم يقتل ولم يأخذ مالا، لأن سفرهما ليس بمعصية وإن كان بسبب المعصية.
(2) في سفر ونية، فإذا نوى الزوج والسيد سفرا مباحا يبلغ مسافة القصر، قصرا تبعا لهما، وفيه لف ونشر مرتب، وهو من أنواع البديع المحسنة، وكذا جندي مع أمير تبع له.
وفي الفروع: تقصر المرأة تبعا لزوجها وفاقا، وكذا عبد تبعا لسيده وفاقا، فلا يعتبر نيتهما السفر، وهو ظاهر.
(3) أي أحرم بالصلاة في الحضر، بنحو سفينة، ثم سارت به مسافرا أتم بإجماع المسلمين، تغليبا لحكم الحضر، لأنه الأصل.
(4) كراكب سفينة أحرم بالصلاة مقصورة فيها ثم وصل إلى وطنه في أثناء الصلاة لزمه أن يتمها.
(5) لأنه الأصل، كالمسح على الخف، وقال النووي وغيره: اجتماع الحضر.
والسفر في العبادة يوجب تغليب حكم الحضر، ونقل أبو حامد وغيره إجماع المسلمين عليه.
(6) قاله أصحابنا، وذكر ابن عقيل رواية: له قصرها وفاقا، وحكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه، لأنها مؤداة في السفر، أشبه ما لو دخل وقتها فيه لأنه سافر قبل خروج وقتها، أشبه ما لو سافر قبل وجوبها.(3/367)
(أو ذكر صلاة حضر في سفر) أتمها(1) لأن القضاء معتبر بالأداء وهو أربع(2) (أو عكسها) بأن ذكر صلاة سفر في حضر أتم، لأن القصر من رخص السفر، فبطل بزواله(3) (أو ائتم) مسافر (بمقيم) أتم، قال ابن عباس: تلك السنة، رواه أحمد(4).
__________
(1) وجوبا، إجماعا، حكاه أحمد، وابن المنذر، والنووي، والموفق وغيرهم.
(2) أي الأداء فوجب إتمامها لأن الحضر هو الصلاة، ولأن الأصل يتعين فعلها فلم يجز له النقصان من عددها، كما لو لم يسافر.
(3) ولأن الحضر هو الأصل، فوجب الإتمام، وكما لو أحرم بالصلاة مقصورة بنحو سفينة، ثم وصلت إلى وطنه، أو محل نوى الإقامة به، وقال مالك وأبو حنيفة: يقصر، لأنه إنما يقضي ما فاته، وهو ركعتان.
(4) وفاقا لأبي حنيفة ومالك، وحكاه أبو حامد عن عامة العلماء، وكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا، رواه مسلم وحكى أحمد وابن المنذر عن ابن عباس وابن عمر أن المسافر إذا ائتم بمقيم صلى بصلاته، ولا يعرف لهما مخالف فكان إجماعا.
وقول ابن عباس: تلك السنة ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه»، ولأنها صلاة مردودة من أربع، فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة، وسواء اقتدى به في جميع الصلاة أو بعضها، اعتقده مسافرا أو لا، وقال مالك: إن أدرك أقل من ركعة قصر، لقوله: «من أدرك ركعة» إلخ، يعني فمن أدرك أقل فلا يسمى مدركا.(3/368)
ومنه لو ائتم مسافر بمسافر فاستخلف مقيما لعذر فيلزمه الإتمام(1) (أو) ائتم مسافر (بمن يشك فيه) أي في إقامته وسفره، لزمه أن يتم(2) وإن بان أن الإمام مسافر، لعدم نيته(3) لكن إذا علم أو غلب على ظنه، أن الإمام مسافر بأمارة كهيئة لباس(4) وأن إمامه نوى القصر فله القصر، عملا بالظاهر(5).
__________
(1) أي يلزم المأموم دون الإمام المستخلف.
(2) لعدم الجزم بكونه مسافرا عند الإحرام، وكذا إن ائتم بمن يغلب على ظنه أنه مقيم.
(3) أي وإن ائتم بمن يشك في إقامته وسفره، فبان أنه مسافر، لزمه أن يتم، لعدم نية القصر، ويأتي أن الأصل القصر.
(4) فله القصر، إقامة الظن مجرى العلم، لأن ألباس المسافر تغاير ألباس المقيم غالبا.
(5) أي وغلب على ظنه أن إمامه نوى القصر، ولا يشترط أن يعلم أن إمامه نوى القصر، عملا بالظن لأنه يتعذر العلم غالبا.(3/369)
وإن قال: إن أتم أتممت، وإن قصر قصرت، لم يضر(1) (أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها) لكونه اقتدى بمقيم، أو لم ينو قصرها مثلا (ففسدت) بحدث أو نحوه (وأعادها) أتمها، لأنها وجبت عليه تامة بتلبسه بها(2) (أو لم ينو القصر عند إحرامها) لزمه أن يتم، لأنه الأصل، وإطلاق النية ينصرف إليه(3)
__________
(1) أي لم يؤثر ذلك في النية، وله القصر، وإن نوى الإتمام أتم، وإن صلى مقيم ومسافر خلف مسافر أتم المقيم إذا سلم إمامه إجماعا، لصلاة أهل مكة خلفه عليه الصلاة والسلام وقوله لهم: «أتموا فإنا قوم سفر» وإذا أم مسافر مقيمين فأتم بهم الصلاة صح، لأن المسافر يلزمه الإتمام بنيته، ويسن للمسافر إذا أم مقيمين أن يقول: أتموا فإنا قوم سفر، لفعله عليه الصلاة والسلام، وخليفتيه من بعده بمكة، ولئلا يلتبس على الجاهل عدد الركعات، وإن قصر الصلاتين في وقت أولاهما ثم قدم وطنه قبل دخول وقت الثانية أجزأه، قال غير واحد: على الصحيح من المذهب.
(2) فلزمه إعادتها تامة، ولا يجوز أن تعاد مقصورة، وإن ابتدأها جاهلا حدثه فله القصر، والفساد ضد الاستقامة.
(3) كما لو نوى الصلاة وأطلق، فإن نيته تنصرف إلى الانفراد، ولكونه الأصل، وكذا لو نوى القصر عند الإحرام ثم رفضه فنوى الإتمام لزمه أن يتم لعدم افتقاره إلى التعيين، فبقيت النية مطلقة، وعنه: أن القصر لا يحتاج إلى نية وفاقا لمالك وأبي حنيفة، وعليه عامة العلماء.
واختاره شيخ الإسلام وجمع، وقال: لم ينقل أحد عن أحمد أنه قال: لا يقصر إلى بنية، وإنما هذا قول الخرقي ومن اتبعه.
ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة في ذلك، كما قاله جماهير العلماء وهو
اختيار أبي بكر، موافقة لقدماء الأصحاب، وما علمت أحدا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نيته، لا في قصر، ولا في جمع، ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية قصر، ولا بنية جمع، ولا كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأمرون بذلك من يصلي خلفهم، قال: وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك، سواء نوى القصر أو لم ينوه، وهذا قول الجماهير كمالك وأبي حنيفة وعامة السلف، وما علمت أحدا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان اشترط نية، لا في قصر ولا في جمع، ولو نوى المسافر الإتمام كانت السنة في حقه الركعتين، ولو صلى أربعا كان ذلك مكروها، كما لو لم ينوه، وقال ابن رزين: والنصوص صريحة في أن القصر أصل فلا يحتاج إلى نية.(3/370)
.
(أو شك في نيته) أي نية القصر أتم لأن الأصل أنه لم ينوه(1) (أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام) أتم(2).
__________
(1) ولو ذكر في أثناء الصلاة أنه كان نواه، لوجود ما أوجب الإتمام في بعضها، فغلب، لأنه الأصل، هذا المذهب، وتقدم قول الجمهور فيمن لم ينو القصر، فالشك في النية أولى، ولا يعتبر أن يعلم أن إمامه نواه، عملا بالظن، لأنه يتعذر العلم غالبا كما تقدم، وإن أم مسافر مسافرين فنسي فصلاها تامة صحت صلاة الجميع.
(2) لحديث جابر وابن عباس الآتي، سواء كان ببلده أو مفازة، وقال شيخ الإسلام وغيره: للمسافر القصر والفطر ما لم يجمع على إقامة ويستوطن وتقسيم الإقامة إلى مستوطن وغير مستوطن، لا دليل عليه من جهة الشرع، بل هو مخالف للشرع، فإن هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في غزوة الفتح، وفي حجة الوداع، وحاله بتبوك والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة يقيمها ليس هو أمرا معلوما، لا بشرع ولا عرف، وذكر إقامة النبي صلى الله عليه وسلم
والصحابة، وقصرهم في تلك المدة، وأنهم مجمعون على إقامة أكثر من أربعة أيام، وفي البلغة، إقامة الجيش للغزو لا تمنع الترخص وإن طالت لفعله صلى الله عليه وسلم بمكة وتبوك، وفعل السلف ويأتي الجواب عن الحديث إن شاء الله تعالى.(3/371)
وإن أقام أربعة أيام فقط قصر، لما في المتفق عليه من حديث جابر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها(1) (أو) كان المسافر (ملاحا) أي صاحب سفينة(2) (معه أهله، لا ينوي الإقامة ببلد، لزمه أن يتم) لأن سفره غير منقطع، مع أنه غير ظاعن عن وطنه وأهله(3).
__________
(1) أي عزم على إقامة تلك الأيام الأربعة، لأن الحاج لا يخرج إلا يوم التروية، ودلالته على جواز القصر في نحو تلك الأيام وما دونها، وأما ما فوقها فلا حجة فيه لمنع القصر، وإنما يستفاد من أدلة أخر، وقال أنس: أقمنا بمكة عشرا نقصر الصلاة متفق عليه.
(2) وهو كل من يتعاطى سيرها، من مالك ورئيس ونحوهما.
(3) أشبه المقيم، ولأنه يعتبر للسفر المبيح كونه منقطعا، بخلاف الدائم، وعنه: يترخص وفاقا، واختاره الموفق والشيخ وغيرهما، وقالا: سواء كان معه أهله أو لا، لأنه أشق، وكونه يعتبر انقطاعه لم يكتفوا به، ونص عليه وخلاف ما ذهب إليه الأئمة، ومفهوم كلامه أنه إن كان له أهل وليسوا معه، أو معه وينوي الإقامة ببلد، فله القصر كغير من المسافرين، وهذا بلا نزاع.(3/372)
ومثله مكار وراع ورسول سلطان ونحوهم(1) ويتم المسافر إذا مر بوطنه(2) أو ببلد له به امرأة(3) أو كان قد تزوج فيه(4)
__________
(1) أي ومثل ملاح على ما تقدم من المذهب في أنه لا يقصر إن كان معه أهله، ولم ينو الإقامة ببلد مكار، وهو من يكري دابته، وفي الكافي، وفيج وهو الساعي المسرع، وقيل: البريد فارسي معرب، وإباحة القصر لهما أظهر لدخولهما في عموم النص اهـ، وراع لإبل أو بقر أو غنم، ورسول سلطان الذي يتابع أخبار السلطان ونحوهم، كساع، وهو الوالي على أمر قوم، وبريد، وهو المرتب، سمي بذلك لقطعه المسافة، ومن لا أهل له ولا وطن، ولا منزل يقصده، ولا يقيم بمكان ولا يأوي إليه، وعنه: يقصرون وفاقا، واختاره الموفق وغيره: وشيخ الإسلام كما مر والبادية الذين حيث وجدوا المرعى رعوه يتمون، لأنهم مقيمون في أوطانهم، فإن كان لهم سفر من المصيف إلى المشتى، ومن المشتى إلى المصيف فإنهم يقصرون في مدة سفرهم، لعموم الأخبار، وكل من جاز له القصر جاز له الفطر والجمع، ولا عكس، والأحكام المتعلقة بالسفر أربعة القصر، والجمع والمسح ثلاثا، والفطر، وأما أكل الميتة، والصلاة على الراحلة إلى جهة السير، فلا تختص بالسفر المبيح للقصر.
(2) وفاقا لأبي حنيفة، وقول لمالك، ولو لم تكن له به حاجة، غير أنه طريقه إلى بلد يطلبه.
(3) أي زوجة وإن لم يكن وطنه، لزمه أن يتم حتى يفارقه.
(4) صوابه أو تزوج فيه، فالمراد إذا دخل بلدا، وتزوج فيه بعد دخوله لزمه أن يتم، لما رواه أحمد عن عثمان، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم» رواه الحميدي والبخاري في تاريخه، ونص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام وهو
قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما وليس المراد أنه قد تزوج فيها أو لا، ثم أتاها بعد، وعنه: يقصر وفاقا للأئمة الثلاثة، وفي المستوعب فإن دخل بلدا فيه والده أو أولاده أو له فيه مال أو دار، أو بلدا كان وطنا له قديما فانتقل عنه واستوطن غيره، لم يمنعه ذلك من القصر.(3/373)
.
أو نوى الإتمام ولو في أثنائها بعد نية القصر(1) (وإن كان له طريقان) بعيد وقريب (فسلك أبعدهما) قصر(2) لأنه سافر سفرا بعيدا(3) (أو ذكر صلاة سفر في) سفر (آخر قصر)(4) لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر، كما لو قضاها فيه نفسه(5) قال ابن تميم وغيره: وقضاء بعض الصلاة في ذلك كقضاء جميعها(6).
واقتصر عليه في المبدع، وفيه شيء(7) (وإن حبس) ظلما أو بمرض أو مطر ونحوه(8).
__________
(1) لزمه أن يتم، لأنه رجع إلى الأصل.
(2) قال ابن عقيل: قولا واحدا، إذا كان سلوكه لغير القصر، كجلب مال أو نفي ضرر، وظاهر الإقناع وغيره جواز القصر ولو سلكه للقصر، أو غيره، وتقدم كلام شيخ الإسلام، وقال في الفروع: وظاهر كلامهم منع من قصد قرية بعيدة لحاجة هي في قريته.
(3) يبلغها أشبه ما لو لم يكن له سواها، فأعطي حكمه، واختار الشيخ وغيره عدم القصر إذا لم يغب عن أهله يومه، لأنه لا يسمى مسافرا، ولا يدخل في حكم المسافر وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.
(4) إجماعا.
(5) أي في السفر الذي وجبت عليه فيه.
(6) أي لا فرق، وابن تميم هو محمد بن تميم الحراني الفقيه، له المختصر في الفقه، توفي قريبا من سنة ست مائة وخمس وسبعين.
(7) أي في كلام ابن تميم وغيره كصاحب الرعاية، ولعل وجهه أنه لو شرع في قضاء الصلاة في السفر، ثم قدم بلده في أثنائها قصر، وليس بظاهر، على ما تقدم من تغليب الحضر.
(8) كثلج وبرد.(3/374)
(ولم ينو إقامة) قصر أبدا(1) لأن ابن عمر رضي الله عنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، رواه الأثرم(2) والأسير يقصر ما أقام عند العدو(3).
(أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة) لا يدري متى تنقضي (قصر أبدا)(4) غلب على ظنه كثرة ذلك أو قلته(5).
__________
(1) إجماعا، ما دام حبسه بذلك.
(2) وقيس عليه الباقي، وهذا الأثر ونحوه من حجج القائلين بنفي التقدير بأربعة أيام ونحوه، وأذربيجان بفتح الهمزة وسكون الذال، وفتح الراء، وهو جنوبي بحر الخزر بين روسيا وإيران.
(3) أي مدة إقامته عند العدو تبعا لسفرهم، وتقدم، والأسير هو المأسور عند الكفار.
(4) وفاقا لأبي حنيفة ومالك، وعند الشافعية إلى غاية عشرين يوما، وفي الإنصاف: أبدا بلا خلاف.
(5) أي المقام، وأقام دام واستقر، والفرق بين هذه والتي بعدها أنه في التي بعدها نوى الإقامة نفسه، ظانا أنها لا تنقضي حاجته قبل أربعة أيام، فكأنه بذلك
نوى أربعة أيام، وفي هذه الإقامة ليست مقصودة، ولا منوية، وإنما المنوي، قضاء حاجته، والإقامة صارت تبعا، ومن قصد بلدا غير عازم على الإقامة به مدة تقطع حكم السفر فله القصر، لفعله صلى الله عليه وسلموأصحابه، وكذا إن عزم على إقامة طويلة في رستاق ينتقل فيه من قرية إلى قرية، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في مقامه بمكة ومني وعرفات.(3/375)
لأنه عليه السلام أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة رواه أحمد وغيره، وإسناده ثقات(1) وإن ظن أن لا تنقضي إلا فوق أربعة أيام أتم(2) وإن نوى مسافر القصر حيث لم يبح لم تنعقد، صلاته(3) كما لو نواه مقيم(4).
__________
(1) فرواه: أبو داود والبيهقي وابن حبان، وصححه ابن حزم والنووي، ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أقام فيها تسعة عشر يصلي ركعتين، رواه البخاري وغيره، وقال أنس: أقام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برام هرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة، ورواه البيهقي بإسناد حسن، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسافر يقصر ما لم يجمع على إقامة، ولو أتى عليه سنون.
(2) كما لو علم ذلك أو نواه، قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب وتقدم ما أوضحه شيخ الإسلام، وعبارة غيره: أو نوى إقامته لحاجة، يعني مع نية الإقامة فوق الأربعة الأيام لأنه تقدمه قوله: أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة، ثم قال الشارح: غلب ظنه كثرة ذلك أو قلته، وتقدم الفرق بينهما.
(3) كأن لم يكن سفره مباحا، وعلى ما تقدم، وتسميته سفرا يقضي بصحتها، لإطلاق الشارع.
(4) فإنها لا تنعقد بالإجماع، لكنها ليست كهي من كل وجه.(3/376)
فصل في الجمع(1)
(يجوز الجمع بين الظهرين) أي الظهر والعصر، في وقت أحدهما(2).
__________
(1) يعني بين الصلاتين الظهر والعصر والمغرب والعشاء لثلاثة أمور: السفر والمرض والمطر ونحوه، وقدم الجمع للسفر لأنه الأكثر، وكل من جاز له القصر جاز له الجمع والفطر، ولا عكس، قال الشيخ: والجمع رخصة عارضة للحاجة إليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا مرات قليلة، فلذلك فقهاء الحديث كأحمد وغيره يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير، وفي الصحيح وغيره عن ابن مسعود، ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين، الحديث، وأوسع المذاهب مذهب أحمد، فإنه نص على أنه يجوز للحرج والشغل، وقال الشيخ: الجمع بين الصلاتين في السفر يختص بمحل الحاجة، لا أنه من رخص السفر المطلقة كالقصر، وهو مذهب مالك، وذكر ابن القيم أحاديث الجمع، وقال: كل هذه سنن في غاية الصحة والصراحه، ولا معارض لها، وأوقات المعذورين ثلاثة: وقتان مشتركان ووقت مختص، والوقتان المشتركان لأرباب الأعذار أربعة لأرباب الرفاهية ولهذا جاءت الأوقات في كتاب الله نوعين: خمسة وثلاثة، في نحو عشر آيات وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه وبيان أسبابه، فتوافقت دلالة القرآن والسنة، والاعتبار الصحيح، الذي هو مقتضى حكمة الشريعة، وما اشتملت عليه من المصالح.
(2) وإنما سميا بالظهرين تغليبا كالقمرين والعمرين: وعبر بيجوز أي فلا يكره ولا يستحب، غير جمعي عرفة ومزدلفة فسنة، وقيل: يجب، وإذا ارتحل قبل زيغ الشمس ونحوه فيسن، وغير ذلك تركه أفضل من فعله.(3/377)
(و) يجوز الجمع (بين العشائين) أي المغرب والعشاء (في وقت أحدهما في سفر قصر)(1) لما روى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، يصليها جميعا(2) وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان يفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء، رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب(3).
__________
(1) أي غير مكروه ولا حرام، وأن يكون مسيرة يومين وتقدم، وفي الإقناع وغيره: فلا يجمع من لا يباح له أن يقصر، كمكي ونحوه بعرفة ومزدلفة، لأنه عندهم ليس بمسافر سفر قصر، وقد ثبت جمعهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه رضي الله عنهما وصوب الشيخ أنه يجوز في السفر القصير، وأن علته الحاجة لا السفر، فليس معلقا، به وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر.
(2) قال شيخ الإسلام وغيره: هذا إذا كان لا ينزل إلا وقت الغروب، كما كان بعرفة لا يفيض حتى تغرب الشمس، أما إذا كان ينزل وقت العصر فإنه يصليها في وقتها، وقال الحافظ: قال بالإطلاق كثير من الصحابة والتابعين، ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وفيه حديث أنس في الصحيح وغيره.
(3) وحسنه البيهقي وقال: محفوظ صحيح، ورواه مالك في الموطأ وفيه: ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا، وصححه ابن عبد البر وابن القيم، وكذا رواه مسلم وغيره، والغريب هو ما تفرد به أحد الرواة.(3/378)
وعن أنس معناه: متفق عليه (1) و (و) يباح الجمع بين ما ذكر (لمريض يلحقه بتركه) أي ترك الجمع (مشقة)(2).
__________
(1) ولفظه: كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب ولمسلم: إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، حين يغيب الشفق، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر: كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء، ولمسلم: كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر، حتى يدخل وقت العصر، ثم يجمع بينهما، وجاء التأخير عنه من طرق، ولمسلم عن معاذ أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر، ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء، انفرد به، وعن ابن عباس: كان يجمع إذا كان على ظهر سيره.
قال البيهقي والنووي وغيرهما: والجمع بين الصلاتين في وقت الأولى أو الثانية بعذر السفر، هو قول جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين، مع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عن أصحابه، ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفة ثم بمزدلفة هو موجود في كل الأسفار، وقال شيخ الإسلام: وأما إذا كان نازلا في وقتهما جميعا، نزولا مستمرا فما علمت روي ما يستدل به عليه إلا حديث معاذ، وغزوة تبوك وحجه صلى الله عليه وسلم لم ينقل أنه جمع فيهما إلا بعرفة ومزدلفة وحديث معاذ ليس في المشهور من حديث أنس، لأن المسافر إذا ارتحل بعد زيغ الشمس، ولم ينزل وقت العصر فهذا مما لا يحتاج إلى الجمع، بل يصلي العصر في وقتها، وقد يتصل سيره إلى الغروب فهذا يحتاج إلى الجمع، بمنزلة جمع عرفة، وبه تتفق الأحاديث.
(2) وهذا مذهب مالك، وطائفة من أصحاب الشافعي وغيرهم.(3/379)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع من غير خوف ولا مطر، وفي رواية: من غير خوف ولا سفر، رواهما مسلم من حديث ابن عباس، ولا عذر بعد ذلك إلا المرض(1)
__________
(1) علله ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن لا يحرج أمته، وفي الطبراني وغيره: «لئلا تحرج أمتي»، ودل الحديث بفحواه على الجمع للمرض والمطر والخوف، وإنما خولف ظاهر منطوقه في الجمع لغير عذر للإجماع، وأخبار المواقيت، فتبقى فحواه على مقتضاه، قال شيخ الإسلام، في الجمع لمطر أو غيره: وبهذا الحديث استدل أحمد على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى، فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل، فإنه إذا جمع ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها، ومما يبين أن ابن عباس لم يرد الجمع للمطر، وإن كان أولى بالجواز، ما رواه مسلم عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، قال ابن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته، ولمسلم عنه: لما قال له رجل: الصلاة قال: أتعلمنا بالصلاة، وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقد استدل على فعله وهو يخطب بالبصرة بما رواه لما رأى أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته، وكان عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، وكان رأى أن الأمر في حال الجمع أوسع منه في غيره، وبذلك يرتفع الحرج عن الأمة
قال شيخ الإسلام: وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن الأمة، فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا، والأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد، لرفع الحرج عن أمته، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج، قد رفعه الله عن الأمة، وذلك
يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى
والأحرى وقال النووي وغيره: يجوز الجمع من أجل المرض، وفاقا لمالك وقواه، وقال: يستدل له بحديث ابن عباس: من غير خوف ولا مطر، لأنه إما أن يكون بالمرض، وإما بغيره مما في معناه أو دونه، ولأن حاجة المريض آكد من الممطور، وقال ابن المنذر: يجوز من غير خوف ولا مطر ولا مرض، قال الخطابي: وهو قول جماعة من أصحاب الحديث لظاهر حديث ابن عباس.(3/380)
.
وقد ثبت جواز الجمع للمستحاضة وهي نوع مرض(1) ويجوز أيضا لمرضع لمشقة كثرة نجاسة(2) ونحو مستحاضة(3) وعاجز عن طهارة أو تيمم لكل صلاة(4).
__________
(1) قال الشيخ يجمع للمرض، كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالجمع في حديثين.
(2) أي مشقة تطهيرها لكل صلاة، وهذه الحالة الثالثة، فإن لم تكن لكثرة نجاسة تشق فلا، قال في الاختيارات يجوز للمرضع الجمع، إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة، نص عليه، وعنه لا يجوز وفاقا.
(3) كذي سلس، أو جرح لا يرقأ دمه، أو مذي، أو رعاف دائم ونحوه، لقوله عليه الصلاة والسلام لحمنة حين استفتته في الاستحاضة: «وإن قويت على أن تؤخري الظهر، وتعجلي العصر، فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخري المغرب، وتعجلي العشاء، ثم تغتسلين، وتجمعين بين الصلاتين فافعلي» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، ويقاس عليها صاحب السلس ونحوه وهذه الحالة الرابعة.
(4) لأنه في معنى المريض والمسافر، وهي الحالة الخامسة، قال الشيخ: ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقت إلا بحرج كالمستحاضة، وأمثال ذلك من الصور.(3/381)
وعن معرفة وقت كأعمى ونحوه(1) ولعذر أو شغل يبيح ترك جمعة وجماعة(2).
__________
(1) كمطمور، أومأ إليه أحمد، لما تقدم، واقتصر عليه في الإنصاف، وهي الحالة السادسة، ومحل ذلك إذا تمكن من معرفة الوقت في أحد الوقتين، وأما إذا استمر معه الجهل فلا فائدة في الجمع.
(2) أي ويجوز الجمع لعذر كخوفه على نفسه أو ماله أو أهله، ويجوز الجمع لشغل يذهل الإنسان، يبيح ترك جمعة وجماعة، كمن يخاف بتركه ضررا في معيشة يحتاجها فيباح له الجمع كما تقدم، وهذه السابعة، قال الشيخ: ويجوز الجمع للطباخ والخباز ونحوهما، ممن يخشى فساد ماله ومال غيره بترك الجمع، كما روى النسائي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجوز أحمد الجمع إذا كان له شغل واختار جمع جواز الجمع مطلقا للحاجة في الحضر، من غير اتخاذه عادة،وهو مذهب جماعة من الأئمة منهم ابن سيرين، واختاره ابن المنذر، وحكاه عن جماعة من أصحاب الحديث، والنووي عن جماعة من الأئمة، والثامنة، قال: أحمد الجمع في الحضر إذا كان لضرورة من مرض أو شغل، واستثنى جمع النعاس، منهم صاحب الوجيز، وكذا الحاقن والحاقب ونحوهما، ومن يخاف نقض وضوئه، ومن يشتهي الطعام ونحو ذلك، ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته.
قال الشيخ: ويجمع لتحصيل الجماعة: وللصلاة في الحمام مع جوازها فيه خوف فوات الوقت، ولخوف تحرج في تركه، وذكر حديث ابن عباس: أنه سئل لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أحد من أمته، فلم يعلله بمرض ولا غيره اهـ، وجاء عن عمر: أن من الكبائر الجمع بين الصلاتين إلا من عذر، وذهب الجمهور إلى أن الجمع لغير عذر لا يجوز، وحكي أنه إجماع، وخولف في ذلك قال الشيخ: فدل على جواز إباحة الجمع للعذر، ولم يخص عمر عذرا دون عذر اهـ.
فيباح لمن تقدم في ثمان الحالات، بين الظهرين والعشائين، ويأتي ما يختص بالعشائين وهي ست حالات.(3/382)
(و) يباح الجمع (بين العشائين) خاصة (لمطر يبل الثياب) وتوجد معه مشقة(1) والثلج والبرد والجليد مثله(2) ولوحل وريح شديدة باردة(3).
__________
(1) وفاقا في الجملة، وهذا قيد لما في المتن، يفهم منه أنه إذا لم توجد معه مشقة لم يجز الجمع، ومفهوم كلام الماتن أنه إن لم يبل الثياب لم يجز الجمع، وهو المذهب وعليه جمهور الأصحاب، وقال جمع: أو يبل النعل، أو البدن، لا الطل ولا المطر الخفيف الذي لا يبل الثياب، لعدم المشقة، قال شيخ الإسلام وذكر آثارا عن الصحابة في الجمع ليلة المطر فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم، المعمول به بالمدينة زمن الصحابة والتابعين، مع أنه لم ينقل أن أحدا منهم أنكر ذلك، فعلم أنه منقول عندهم بالتواتر جواز ذلك، وقول ابن عباس: من غير خوف ولا مطر ولا سفر، ليس نفيا منه للجمع لتلك الأسباب بل إثبات منه، لأنه جمع بدونها، وإن كان قد جمع بها أيضا، ولو لم ينقل أنه جمع بها، فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى، وقال: جواز الجمع للمطر في وقت الثانية فيه وجهان: لأنا لا نثق بدوام المطر إلى وقتها، وقوله: خاصة أخرج الظهرين، والوجه الآخر يجوز بين الظهرين كالعشائين، اختاره القاضي وأبو الخطاب والشيخ وغيرهم، ولم يذكر الوزير عن أحمد غيره، وقدمه وجزم به وصححه غير واحد وهو مذهب الشافعي.
(2) أي مثل المطر في إباحة الجمع بين العشائين، لأن الثلج والبرد بالفتح في حكم المطر، والجليد وهو من شدة البرد، قال أحمد، وكان ابن عمر يجمع في الليلة الباردة اهـ، وأمر ابن عمر مناديه في ليلة باردة فنادى: الصلاة في الرحال.
(3) ونحو ذلك وفاقا لمالك وظاهره: وإن لم تكن مظلمة ويعلم مما تقدم
كذلك لو كانت شديدة بليلة مظلمة، وإن لم تكن باردة، والوحل الطين الرقيق فإذا لوث الرجلين بالرطوبة والطين جاز.(3/383)
لأنه عليه السلام جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة، رواه النجاد بإسناده(1) وفعله أبو بكر وعمر وعثمان(2).
__________
(1) مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكذا ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة ثمانيا جميعا، وسبعا جميعا ولأنه صلى الله عليه وسلم جمع من غير خوف ولا مطر، فمع أحد هذه الأعذار أولى، والنجاد هو أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس، أبو بكر البغدادي، الفقيه الحافظ شيخ الحنابلة بالعراق، صاحب التصانيف مشهور، بالنون والدال، وكثيرا ما يصحف في بعض كتب الأصحاب فيبدل بالبخاري صاحب الصحيح، توفي النجاد سنة ثلاثمائة وثمان وأربعين، قال العليمي: وكان يملي الحديث بجامع المنصور، ويكثر الناس في حلقته، وصنف كتابا في الفقه والاختلاف، وهو ممن اتسعت رواياته واشتهرت مصنفاته.
(2) ففي المدونة: عن ابن قسيط أنه سنة، وأنه قد صلاها أبو بكر وعمر وعثمان على ذلك، وللأثرم في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء فعله أبان ابن عثمان في أهل المدينة، وفيهم عروة وأبو بكر بن عبد الرحمن، ولا يعرف لهم مخالف، فكان إجماعا وهو قول الفقهاء السبعة، ومالك والشافعي وغيرهم: قال شيخ الإسلام: يجوز الجمع للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة في الليلة الظلماء، ونحو ذلك وإن لم يكن المطر نازلا في أصح قولي العلماء، وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم بل ترك الجمع مع الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة، إذ السنة أن تصلى الصلوات الخمس في المساجد جماعة، وذلك أولى من الصلاة في البيوت، باتفاق المسلمين، والصلاة جمعا في المساجد أولى من الصلاة في البيوت مفرقة، باتفاق الأئمة الذين يجوزون الجمع، كمالك والشافعي وأحمد.(3/384)
وله الجمع لذلك (ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط) ونحوه(1) لأن الرخصة العامة يستوي فيها حال وجود المشقة وعدمها كالسفر(2) (والأفضل) لمن له الجمع (فعل الأرفق به من) جمع (تأخير) بأن يؤخر الأولى إلى الثانية (و) جمع (تقديم) بأن يقدم الثانية فيصليها مع الأولى لحديث معاذ السابق(3).
__________
(1) كمجاور بالمسجد، ومن بينه وبين المسجد خطوات يسيرة، وقوله: وله الجمع لذلك، متعلق بما بعده، وهو قوله: ولو صلى في بيته، والساباط سقيفة بين دارين، تحتهما طريق، جمعه سوابيط وساباطات.
(2) أي فله الجمع، لم تقدم من الأعذار المبيحة للجمع، ولو صلى في بيته وفي مسجد لا يشق عليه الوصول إليه، مع وجود العذر كعدم الصيام في السفر، ولو لم يكن مشقة، ولأنه روي أنه صلى الله عليه وسلم جمع في مطر وليس بين حجرته والمسجد شيء فالمعتبر وجود المشقة في الجملة، لا لكل فرد من المصلين.
(3) وعن ابن عباس نحوه رواه الشافعي وأحمد وغيرهما، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوما بغزوة تبوك، ثم خرج فصلى، الحديث رواه مالك عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ، وقال ابن عبد البر: هذا حديث صحيح ثابت الإسناد، قال شيخ الإسلام: والجمع جائز في الوقت المشترك، فتارة يجمع في أول الوقت، كما جمع بعرفة، وتارة يجمع في وقت الثانية، كما جمع بمزدلفة، وفي بعض أسفاره، وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، وكل هذا جائز، لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك، والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة.(3/385)
فإن استويا فالتأخير أفضل(1) والأفضل بعرفة التقديم، وبمزدلفة التأخير مطلقا(2) وترك الجمع في سواهما أفضل(3)
__________
(1) لأنه أحوط، وعمل بالأحاديث وليس على إطلاقه، بل في الجملة قال شيخ الإسلام في جمع المطر، السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب، حتى اختلف مذهب أحمد هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ وقيل: إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع، وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير وهو غلط، مخالف للسنة وللإجماع القديم، وصاحب هذا القول ظن أن التأخير أفضل مطلقا، وهذا غلط فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم، بل ذلك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل، وقد يكون هذا أفضل، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره، وقال أيضا: كان الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم في وقت المغرب، ولا يستحب أن يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق، بل هذا حرج عظيم على الناس، وإنما شرع الجمع لئلا يحرج المسلمون.
(2) أي سواء كان هو الأرفق أو لا، فالتقديم بعرفة أفضل، ولو كان التأخير أرفق، لأنه لأجل العبادة، والتأخير بمزدلفة أفضل، ولو كان التقديم أرفق، لأجل السير، وصرح في المنتهى وغيره أنه إن عدم الأرفق فإذا وصل إليها أول الوقت لم يؤخره، ما لم يكن أرفق، والأولى إذا وصل في وقت الاختيار صلى المغرب وحدها، لزوال العلة، كما أن الأولى للنازل صلاة كل فرض في وقته.
(3) فلا يستحب إلا عند الحاجة إليه للاختلاف فيه، غير جمعي عرفة ومزدلفة فيسن بشرطه إجماعا، وهو التقديم بعرفة، والتأخير بمزدلفة، لفعله عليه الصلاة والسلام، قال شيخ الإسلام: الجمع بعرفة ومزدلفة متفق عليه، وهو منقول بالتواتر، فلم يتنازعوا فيه، والصواب أنه لم يجمع بعرفة ومزدلفة لمجرد السفر، بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول، ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة اهـ .
وكذا يستحب عند الحاجة، كما كان يصنع صلى الله عليه وسلم في سفره إذا جد به السير، كما فعل بمزدلفة، وفي غزوة تبوك قال شيخ الإسلام: وفعل كل صلاة في وقتها أفضل إذا لم يكن حاجة، عند الأئمة كلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة، ولم يجمع بمنى، ولا في ذهابه وإياه، ولكن جمع في غزوة تبوك، إذا جد به السير، والذي جمع هناك يشرع أن يفعل نظيره.(3/386)
.
ويشترط للجمع ترتيب مطلقا(1) (فإن جمع في وقت الأولى اشترط) له ثلاثة شروط (نية الجمع عند إحرامها) أي إحرام الأولى دون الثانية(2). (و) الشرط الثاني الموالاة بينهما فـ (لا يفرق بينهما إلا بمقدار إقامة) صلاة (ووضوء خفيف)(3) لأن معنى الجمع المتابعة والمقارنة(4).
__________
(1) أي سواء ذكره أو نسيه، قال في الإنصاف، وهو الصحيح من المذهب وعليه جماهير الأصحاب اهـ، يعني بخلاف سقوطه بالنسيان في قضاء الفوائت والترتيب أن يبدأ بالأولى، لأن الوقت لها والثانية تبع، فلو صلاها قبل الأولى لم تصح.
(2) لأنه عمل فيدخل في عموم: «إنما الأعمال بالنيات»، وكل عبادة اشترطت فيها النية اعتبرت في أولها، وقال شيخ الإسلام: لا يفتقر الجمع إلى نية عند جمهور أهل العلم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد، وعليه تدل نصوصه وأصوله، قال: وقول الجمهور وهو الذي تدل عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) لأنه صلى الله عليه وسلم لما جمع بينهما والى بينهما وترك الراتبة وفرقت بين الشيئين فصلت أحدهما من الآخر.
(4) وفي الأصل تأليف المفترق، وفي المفردات، ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض، يقال: جمعته فاجتمع.(3/387)
ولا يحصل ذلك مع التفريق الطويل، بخلاف اليسير، فإنه معفو عنه(1) (ويبطل) الجمع (براتبة) يصليها (بينهما) أي بين المجموعتين، لأنه فرق بينهما بصلاة فبطل، كما لو قضى فائتة(2) وإن تكلم بكلمة أو كلمتين جاز(3) (و) الثالث (أن يكون العذر) المبيح (موجودا عند افتتاحهما وسلام الأولى) لأن افتتاح الأولى، موضع النية وفراغها، وافتتاح.
__________
(1) وصحح في المغني والشرح أنه راجع إلى العرف، وذكر الشيخ أن كلام أحمد يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت، وإن لم يصل إحداهما بالأخرى، كالجمع في وقت الثانية، على المشهور في مذهبه ومذهب غيره، وأنه إذا صلى المغرب في أول وقتها، والعشاء في آخر وقت المغرب حيث يجوز له الجمع جاز ذلك، وأنه نص على نظير هذا فقال: إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس، وهذا نص منه على أن الجمع هو المغرب في الوقت، لا تشترط فيه المواصلة، وقال: والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال، لا في وقت الأولى، ولا في وقت الثانية، فإنه ليس في ذلك حد في الشرع اهـ، وفي الصحيحين في قصة جمع النبي صلى الله عليه وسلم بمزدلفة بعد أن صلى الصبح، أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة.
(2) أي يبطل الجمع إذا فرق بينهما، كما أن الجمع يبطل لو قضى بينهما فائتة، لطول الفصل، وعنه: لا يبطل براتبة بينهما، قال الطوفي: أظهر القولين دليلا عدم البطلان، إلحاقا، للسنة الراتبة بجزء من الصلاة لتأكدها.
(3) فيه تسامح، يفيد أنه مقيد بما ذكر، وليس كذلك فلو قال: ولا يضر كلام يسير لا يزيد على قدر الإقامة والوضوء الخفيف، لكان أولى، يعني على المذهب.(3/388)
الثانية موضع الجمع(1) ولا يشترط دوام العذر إلى فراغ الثانية في جمع المطر ونحوه(2) بخلاف غيره(3) وإن انقطع السفر في الأولى بطل الجمع والقصر مطلقا(4) فيتمها وتصح(5) وفي الثانية يتمها نفلا(6).
__________
(1) ولو أحرم بالأولى مع وجود مطر، ثم انقطع ولم يعد، فإن حصل وحل لم يبطل الجمع، لأن الوحل من الأعذار المبيحة، أشبه ما لو لم ينقطع المطر، وإلا بطل الجمع،ولو خلفه مرض ونحوه، وإن شرع في الجمع مسافر لأجل السفر، فزال سفره ووجد مطر ونحوه، بطل الجمع، لزوال مبيحه، والعذر المتجدد غير حاصل عن الأول، بخلاف الوحل بعد المطر.
(2) كبرد وثلج إن خلفه، وحل.
(3) أي غير جمع المطر ونحوه، فيشترط له ذلك.
(4) أي وإن انقطع السفر في الأولى من المجموعتين، بأن نوى الإقامة، أو وصلت السفينة به إلى وطنه وهو في وقت الأولى، ولم يقيده الشارح، بطل الجمع والقصر مطلقا، سواء وجد عذر يبيح الجمع كمطر ووحل، أو لم يوجد، لزوال العذر المبيح المشروط استمراره إلى فراغ الثانية.
(5) فرضا، لكونها صادفت وقتها.
(6) أي وإن انقطع وهو في الثانية من المجموعتين، والوقت وقت الأولى، ولم يقيده أيضا، بطل الجمع والقصر، لزوال مبيحهما، ويتمها يعني الثانية نفلا، لأنها لم تصل في وقتها، وتصح الأولى فرضا، ومريض كمسافر فيما إذا برأ في الأولى أو الثانية.(3/389)
(وإن جمع في وقت الثانية اشترط) له شرطان (نية الجمع في وقت الأولى(1) لأنه متى أخرها عن ذلك بغير نية صارت قضاء لا جمعا(2) (إن لم يضق) وقتها (عن فعلها) لأن تأخيرها إلى ما يضيق عن فعلها حرام، وهو ينافي الرخصة(3) (و) الثاني (استمرار العذر) المبيح (إلى دخول وقت الثانية)(4) فإن زال العذر قبله لم يجز الجمع، لزوال مقتضيه(5) كالمريض يبرأ والمسافر يقدم، والمطر ينقطع(6).
ولا بأس بالتطوع بينهما(7) ولو صلى الأولى وحده ثم الثانية إماما أو مأموما، أو صلاهما خلف إمامين، أو من لم يجمع صح(8).
__________
(1) مع وجود مبيحه، فإن لم ينو الجمع حتى ضاق وقت الأولى عنها لم تصح النية حينئذ.
(2) وعنه لا تشترط النية لجمع التقديم، اختاره أبو بكر والشيخ وغيرهما.
(3) يعني الجمع، وأثم بالتأخير، ولفوات فائدة الجمع، وهي التخفيف بالمقارنة بين الصلاتين.
(4) من سير ومرض ومطر ونحوها، قال في الإنصاف: لا أعلم فيه خلافا.
(5) المجوز له، وهو العذر قبل دخول وقت الثانية، فإذا لم يستمر إليه لم يجز الجمع، وأثم بالتأخير، لأن تأخيرها إلى ضيق الوقت حرام، فينافي رخصة الجمع.
(6) تمثيل لزوال العذر قبل دخول وقت الثانية، ولا أثر لزواله بعد دخول وقت الثانية إجماعا، وقال في الإنصاف: لو قصر الصلاتين في السفر، في وقت أولاهما، ثم قدم قبل دخول وقت الثانية أجزأ، على الصحيح من المذهب.
(7) أي فلا تشترط الموالاة، لأن الثانية مفعولة في وقتها، فهي أداء بكل حال، والأولى معها كصلاة فائتة، قال في المبدع: وهذا هو الأصح.
(8) يعني الجمع في هذه الصور كلها، لأن لكل صلاة حكم نفسها، وهي منفردة، فلم يشترط في الجمع اتحاد إمام ولا مأموم ولا جامع.(3/390)
فصل(1)
وصلاة الخوف صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفات كلها جائزة(2) قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تقول بالأحاديث كلها، أو تختار واحدا منها؟ قال: أنا أقول: من ذهب إليها كلها فحسن(3).
__________
(1) في كيفية صلاة الخوف، من حيث إنه يتحمل في الصلاة فيه ما لا يتحمل فيها في غيره، فيغتفر في تغيير هيئاتها وصفاتها، والإخلال ببعض واجباتها، لا تغيير عدد ركعاتها في قول الأكثر، وهي مشروعة بالكتاب والسنة، وأجمع الصحابة على فعلها، وأجمع المسلمون على جوازها، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها، وهو مذهب الجمهور، إلا أبا حنيفة، وهي مشروعة في زمنه صلى الله عليه وسلم إلى آخر الدهر، وحكاه الوزير إجماعا، وأجمع على ذلك الصحابة وسائر الأمة، إلا أبا يوسف، وإجماع الصحابة والأئمة الأربعة حجة عليه.
(2) قال أحمد: صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه أو ستة وفي رواية من ستة أوجه أو سبعة كلها جائزة، والإضافة بمعنى اللام، أي الصلاة للخوف، أو بمعنى (في) أي الصلاة في الخوف، ضد الأمن، وإن كانت أولى المجموعتين فالأولى تأخيرها.
(3) قال الشيخ وغيره: وهذا قول عامة السلف، اتباعا لما جاء به الشارع صلى الله عليه وسلم وأحمد رحمه الله على قاعدته يجوز جميع ما ورد، قال رحمه الله: وفقهاء الحديث كأحمد وغيره متبعون لعامة الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجوزون في صلاة الخوف الأنواع المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه الوزير إجماعا.(3/391)
وأما حديث سهل فأنا أختاره(1) وشرطها أن يكون العدو مباح القتال(2) سفرا كان أو حضرا(3) مع خوف هجومهم على المسلمين(4) وحديث سهل الذي أشار إليه، هو صلاته صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع(5).
__________
(1) ووجه اختياره له كونه أشبه بكتاب الله، وأحوط للصلاة والحرب وأنكى للعدو وأقل في الأفعال.
(2) كقتال الكفار والبغاة والمحاربين لقوله: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقيس عليه الباقي ممن يجوز قتاله، لأنها رخصة، فلا تستباح بالقتال المحرم، كقتال من بغي، وقطع الطريق.
(3) أي سواء كان القتال سفرا أو حضرا، وفاقا، لأن المبيح الخوف، لا السفر ولا تأثير له في قصر الصلاة، وإنما تأثيره في الصفة، قال الوزير: أجمعوا على أن صلاة الخوف في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتان، إذا كانت رباعية، وغير الرباعية على عددها، لا يختلف حكمها حضرا ولا سفرا، ولا خوفا.
(4) لقوله: { إِنْ خِفْتُمْ } وفعله عليه الصلاة والسلام، يقال: هجمت عليه هجوما، من باب (قعد) دخلت عليه بغتة، على غفلة منه، وأهجمت الرجل هجما، طردته قال الزركشي: واعلم أن من شروط صلاة الخوف بلا نزاع عندنا أن يكون العدو يحل قتاله، ويخاف هجومه، وحكى الوزير الإجماع على خوف الهجوم، وكون بالمسلمين كثرة تمكن تفرقتهم فرقتين.
(5) بكسر الراء فقاف مخففة، آخره عين مهملة، غزوة إلى أرض غطفان من ناحية نجد، سميت الغزاة بذلك لأن أقدامهم نقبت، فلفوا عليها الخرق، كما في الصحيح، وسهل هو ابن أبي حثمة بن ساعدة الأنصاري الأوسي، ولد سنة ثلاث من الهجرة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وأتقن، وعن زيد بن ثابت وغيره، وتوفي في أول خلافة معاوية بالمدينة رضي الله عنهما.(3/392)
طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو(1) فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، متفق عليه(2)
__________
(1) بكسر الواو، بمعنى: تجاه، وهذه الصفة موافقة لقوله: { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } وهذا فيما إذا كان العدو في غير جهة القبلة، ولا نزاع في ذلك، بشرط أن تكفي الطائفة العدو.
(2) من رواية صالح بن خوات بن جبير، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع، صلاة الخوف، وهذا أشبه بكتاب الله، فإن قوله: { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } يقتضي أن جميع صلاتها معه، وهو أحد الأوجه التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم والوجه الثاني، ما رواه جابر قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصففنا صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضي النبي صلى الله عليه وسلم السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود، وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضي صلى الله عليه وسلم السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا ثم سلم صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعا، رواه مسلم وللبخاري بعضه.
ورواه أحمد وغيره من حديث أبي عياش وقال: صلاها مرة بعسفان ومرة ببني سليم.
والوجه الثالث ما رواه ابن عمر قال:صلى صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين، والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم، مقبلين على العدو، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم سلم، ثم قضي هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة، متفق عليه، والوجه الرابع أن يصلي بكل طائفة صلاة، ويسلم بها، رواه أحمد وأبو داود والنسائي، عن أبي بكرة مرفوعا، والشافعي عن جابر، والوجه الخامس ما رواه جابر، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان، متفق عليه، والسادس أن يصلي بكل طائفة ركعة بلا قضاء، كما جاء في خبر ابن عباس وغيره، ومنعه الأكثر وفاقا، وقال البغوي، وأكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الخوف لا ينقص من العدد شيئا، وقال الموفق وغيره: يستحب أن يخفف بهم الصلاة، لأن موضوع صلاة الخوف على التخفيف.
وقال الشيخ: لا شك أن صلاته صلى الله عليه وسلم حال الخوف كانت ناقصة عن صلاته حال الأمن في الأفعال الظاهرة، قال الموفق: ويجب أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن يحصل الثقة بكفايتها وحراستها، ومتى خشي اختلال حالهم، واحتيج إلى معونتهم بالطائفة الأخرى فاللإمام أن ينهض إليهم بمن معه، ويمضوا على ما مضى من صلاتهم اهـ وهذه أصولها، وربما اختلف بعض ألفاظها، فذكرها بعضهم أكثر، قال ابن القيم، والصحيح هذه الأوجه، وصح أنه صلى الله عليه وسلم صلاها في أربع، ذات الرقاع، وبطن نخل، وعسفان وذي قرد المعروف بغزوة الغابة.(3/393)
.
.....................................................
وإذا اشتد الخوف(1) صلوا رجالا وركبانا، للقبلة وغيرها(2) يومئون طاقتهم(3).
__________
(1) أي تواصل الطعن والضرب، والكر والفر، ولم يمكن تفريق القوم وصلاتهم على ما ذكر.
(2) ويكرون ويفرون، ولا يؤخرون الصلاة، وهو قول أكثر أهل العلم، مالك والشافعي، وأحمد وغيرهم، وقال الزركشي، لا تسقط الصلاة حال المسايفة والتحام الحرب بلا نزاع، ولا يجوز تأخيرها إن لم تكن الأولى من المجموعتين لقوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } أي فصلوا رجالا أو ركبانا، والأمر للوجوب، قال ابن عمر: فإذا كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا، قياما على أقدامهم، وركبانا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها متفق عليه، زاد البخاري: قال نافع: لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في غير شدة الخوف، وأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو وهم في الصلاة، ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم، فمع شدة الخوف أولى، ولا يلزم الإحرام إلى القبلة، ولو أمكن، وقال أحمد وغيره: تجوز صلاة شدة الخوف رجالا وركبانا جماعة، كما يجوز فرادى، وهو مذهب الشافعي، ولم يجوزه مالك وأبو حنيفة، والرجال جمع راجل، لا رجل، والراجل الكائن على رجليه، واقفا كان أو ماشيا، والركبان جمع راكب، وأكثر ما يقال لراكب الإبل بدون إضافة.
(3) أي يومئون بالركوع والسجود، إيماء على قدر طاقتهم، لأنهم لو تمموا الركوع والسجود كانوا هدفا لأسلحة العدو، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم، ولا يلزمهم السجود على ظهر الدابة، وسواء وجد شدة الخوف قبلها أو فيها، ولو احتاج عملا كثيرا، وإن أمكنت الجماعة وجبت، ولا يزول الخوف إلا بانهزام الكل.(3/394)
وكذا حالة هرب مباح من عدو، أو سيل ونحوه(1) أو خاف فوت عدو يطلبه(2) أو وقت وقوف بعرفة(3).
__________
(1) أي وكشدة الخوف مما تقدم حالة هرب مباح من عدو، بأن كان الكفار أكثر من مثلي المسلمين، أو متحرف لقتال، أو متحيز إلى فئة، أو هرب من سيل ونحوه، كهرب من سبع أو نار، أو غريم ظالم، أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله، إن صلى صلاة آمن، أو ذب عنه أو عن غيره، لأن ذلك إما واجب أو مباح، وكلاهما مبيح للصلاة على هذه الحال، وحكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه في صلاة المطلوب، وإن كان طالبا نزل فصلى، وقال الشافعي: إلا أن ينقطع فيخاف، وإن خاف فحكمه حكم المطلوب.
(2) أي وكشدة خوف مما تقدم خوف فوت عدو يطلبه، لفعل عبد الله بن أنيس لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله، صلى بالإيماء نحوه، رواه أبو داود وغيره، ولأن فوت عدوه ضرر عظيم، فأبيحت له صلاة الخوف، كحال لقائه، ومن خاف في الصلاة كمينا أو مكيدة أو مكروها، وكذا أسير خاف على نفسه فيصلي من ذكر كيف أمكن، قائما أو قاعدا أو مضطجعا ومستلقيا إلى القبلة وغيرها بالإيماء، حضرا وسفرا، وإن خاف هدم سور أو طم خندق إن صلى آمنا، صلى صلاة خائف ما لم يعلم خلافه.
(3) إذا قصدها المحرم ليلا، ولم يبق من وقت الوقوف إلا مقدار ما إن صلاها فيه على الإتمام فاته الوقوف، فإنه يصليها صلاة خائف، وهو ماش أو راكب اختاره الشيخ، وصوبه في تصحيح الفروع، وقال ابن القيم: يقضي الصلاة وهو سائر إلى عرفة، فيكون في طريقه مصليا، كما يصلي الهارب من سيل أو سبع اتفاقا أو الطالب لعدم يخشى فواته، على أصح القولين، وهو أقيس الأقوال وأقربها إلى قواعد الشرع ومقاصده اهـ، وكذا من في الصلاة وخاف انتقل وبنى، لأن
الحكم يوجد لوجود علته، وينتفي بانتفائها، والمقتضى لهذه الصلاة هو الخوف
فإذا أمن زال الخوف، فيصلي صلاة أمن، وما صلى وهو خائف على صفته محكوم بصحته.(3/395)
(ويستحب أن يحمل معه في صلاتها من السلاح ما يدفع به عن نفسه ولا يثقله كسيف ونحوه) كسكين(1) لقوله تعالى: { وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ } (2) ويجوز حمل سلاح نجس في هذه الحال للحاجة بلا إعادة(3).
باب صلاة الجمعة(4)
__________
(1) لصيانته، والسكين الشفرة والمدية، ويؤنث، والجمع سكاكين سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح.
(2) ولمفهوم قوله: { جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ } واختار جماعة: يجب وفاقا لمالك والشافعي، واستظهره أبو المظفر، والشارح، ولا يشترط وفاقا، وقال غير واحد، لا يجب وفاقا، لأن الأمر به للرفق بهم والصيانة لهم، فلم يكن للإيجاب، وكره ما يثقلة كجوشن أو يضر غيره كرمح، ما لم يكن على جانب، ولا يكره حمل السلاح في الصلاة بلا حاجة في ظاهر كلام الأكثر.
(3) للعذر وكذا ما يخل ببعض أركان الصلاة للحاجة إليه.
(4) بتثليث الميم، والأفصح الضم، وهو الأصل، وأتبعها السفر لمناسبة تنصيف صلاة كل منهما قال الشيخ: فعلت بمكة على صفة الجواز، وفرضت بالمدينة، وهي واجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى: { فَاسْعَوْا } والمراد بالسعي هنا الذهاب إليها، وقال عليه الصلاة والسلام، : «رواح الجمعة واجب على كل محتلم»، «وقال لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات»، وقال: «هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له»، وحكى إجماع المسلمين على أنها فرض عين جماعة من أهل العلم، وقال العراقي: مذاهب الأئمة متفقة على أنها فرض عين، لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب اهـ بل صلاة الجمعة من أوكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين، وهو أعظم من كل مجمعون يجتمعه فيه، سوى مجمع عرفة وأفرضه، وخص بأكثر من أربعين خاصة لا توجد في غيره، من الاجتماع والعدد، والاستيطان، والجهر بالقراءة، وغير ذلك.(3/396)
سميت بذلك لجمعها الخلق الكثير(1).
ويومها أفضل أيام الأسبوع(2)
__________
(1) أو من اجتماع الناس لها، أو لأن آدم جمع خلقه، فيها، قال الحافظ: هو أصحها، ويليه ما قبله اهـ أو لأنه جمع مع حواء فيها، أو لأنه اليوم الذي اجتمعت فيه المخلوقات، أو لما جمع فيه من الخير، وقيل غير ذلك، مشتقة من الجمع، وكونها من الاجتماع أضيف إليها اليوم والصلاة، ثم كثر الاستعمال حتى حذف منها المضاف، وفي المسند مرفوعا، لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ قال «لأن فيه طبعت طينة أبيك آدم»، قيل: أول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي وجمع الجمعة جمعات، وجمع،واسمه القديم يوم العروبة، لأن العرب كانت تعظمه.
(2) ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أوس «من أفضل أيامكم يوم الجمعة» ولمسلم والترمذي وصححه «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة»، وفي صحيح الحاكم: «سيد الأيام يوم الجمعة»، ولابن ماجه «يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله»، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر، وذكر فيه خمس خصال، وهي يوم عيد يتكرر في الأسبوع، وخصت به هذه الأمة، كما في الصحيحين وغيرهما «ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم القيامة، هدانا الله له، وضل الناس عنه»، وفيها «نحن الآخرون الأولون السابقون يوم الجمعة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا لله له، والناس لنا فيه تبع».
ولمسلم: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة»، الذي فيه أنشئت الخلائق وتم وجودها، وشرع اجتماعهم فيه تنبيها على عظم ما أنعم الله به عليهم واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة، وحثا على استدامتها بإقامة ما يعود بآلاء الشكر، ولما كان مدار التعظيم هو الصلاة، جعلت وسط النهار، ليتم الاجتماع، وفي مسجد واحد، ليكون أدعى إلى الاجتماع، ونوه به تعالى فقال: { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ } والخطبة والصلاة مشتملتان على ذكر الله، وقد شرفه الله تعالى، وخصصه بعبادات يختص بها عن غيره، وهو اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة، ويتخلى فيه عن أشغال الدنيا، فهو مع غيره في الأيام، كرمضان في الشهور، وله على سائر الأيام مزية كما لرمضان، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان ولهذا من صحت له جمعته وسلمت له، صح وسلم له سائر أسبوعه، فهو ميزان الأسبوع، وعيد الأسبوع ويوم اجتماع الناس، وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد.(3/397)
.
وصلاة الجمعة مستقلة(1) وأفضل من الظهر(2) وفرض الوقت، فلو صلى الظهر أهل بلد مع بقاء الوقت لم تصح(3) وتؤخر فائتة لخوف فوتها(4) والظهر بدل عنها إذا فاتت(5) (تلزم) الجمعة (كل ذكر) ذكره ابن المنذر إجماعا(6) لأن المرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال(7)
__________
(1) أي ليست بدلا عن الظهر، قال عمر: صلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ولعدم انعقادها بنية الظهر ممن لا تجب عليه، ولجوازها قبل الزوال، وعدم جواز زيادتها على ركعتين ولأنها لا تجمع مع العصر في محل يبيح الجمع.
(2) بلا نزاع، والمراد غير يومها، أو يومها لكن ممن لا تجب عليه، وآكد منه، لأنه ورد فيها من التهديد ما لم يرد فيه، ولأن لها شروطًا وخصائص ليست له.
(3) لأنهم صلوا ما لم يخاطبوا به، وتركوا ما خوطبوا به، كما لو صلوا العصر مكان الظهر، وتلزمهم الجمعة، ولا يعارض فرض الظهر ليلة الإسراء تأخر فرض الجمعة بعده، فإنه إذا فاتت وجب الظهر إجماعًا.
(4) أي الجمعة، لأنه لا يمكن تداركها، بخلاف غيرها من الصلوات، والمراد أن لا يدرك منها ما تفوت به الجمعة، لا ما يشمل فوت الركعة الأولى.
(5) إجماعا لأنها لا تقضى وزاد بعضهم، رخصة في حق من فاتته.
(6) وقال الموفق: أجمع المسلمون على وجوب الجمعة، وقال ابن العربي: فرض بإجماع الأمة، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ } واستفاض الأمر بها، والوعيد على التخلف عنها، ويكفر جاحدها لثبوتها بالدليل القطعي.
(7) ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن المرأة لا جمعة عليها وتعليله فيه
نظر لأنه لا يلزم من حضورها الجمعة الحضور مع الرجال، فيما يختص بهم في مجامعهم، بل إنما تكون من ورائهم، وكن يصلين خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده خلف الرجال.
وفي العيد أُمرنّ أن يشهدن الخير ودعوة المسلمين وأيضا اختلاط النساء بالرجال إذا لم يكن خلوة ليس بحرام.(3/398)
.
(حر) لأن العبد محبوس على سيده(1) (مكلف مسلم) لأن الإسلام والعقل شرطان للتكليف، وصحة العبادة(2) فلا تجب على مجنون ولا صبي(3) لما روى طارق بن شهاب مرفوعًا «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة(4) عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض، رواه أبو داود(5)
__________
(1) أشبه المحبوس بالدين، قال ابن المنذر: وهو قول أكثر العلماء، وعنه تجب على العبد، وعليه أكثر أهل العلم، واختاره المجد وغيره، وقال: هو كالإجماع
للخبر.
(2) فالكافر والمرتد لا تجب عليهما بمعنى أنهما لا يقضيانها وتقدم أنهما مخاطبان بفروع الشريعة والمكلف الملزم بما فيه مشقة وشرعا المخاطب بأمر أو نهي.
(3) إجماعًا، لنقصان أبدانهما، فلا تلزمهما فروض الأبدان.
(4) بالنصب وما بعده بدل منه، وإن رفع فخبره محذوف، أو على تأويل لا يترك الجمعة مسلم بلا جماعة إلا أربعة أو أن (إلا) بمعنى (لكن) و(أربعة) مبتدأ، وقيل غير ذلك، وطارق رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، وهو طارق ابن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي، وتوفي سنة ثلاث وثمانين.
(5) قال في المبدع: وإسناده ثقات، وقال الحافظ صححه غير واحد.
وقال: وهو مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح، وقال العراقي: حجة عند الجمهور، وادعى بعض الحنفية الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة، وسمي مرسلاً لصغر طارق، ويؤيده حديث حفصة، «رواح الجمعة واجب على كل محتلم»، ويؤيده أيضًا حديث جابر، وتميم الداري، وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم، وحديث جابر عند الدارقطني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريضًا أو مسافرًا أو صبيًا أومملوكًا» و(عبد) وما عطف عليه يحتمل أن يكون منصوبًا على البدل، كما تقدم سقطت منه الألف على طريقة المتقدمين في عدم رسم الألف، اكتفاء في مثله بالشكل، ويحتمل أن يكون مرفوعًا على القطع، أي هم عبد، وتقدم أن المرض المسقط هو الذي يلحق صاحبه مشقة ظاهرة، غير محتملة، ويلحق بالمريض من به إسهال كثير، لأنه لا يؤمن تلويثه المسجد.(3/399)
».
(مستوطن ببناءٍ) معتاد(1) ولو كان فراسخ(2) من حجر أو قصب ونحوه(3).
__________
(1) فأخرج من بخيام ونحوه، والبناء في الأصل مصدر بنا، وهو هنا مصدر مطلق على المفعول، أي بمبني واعتاد الشيء جعله من عادته، وكذا قرية خرابا، عزموا على إصلاحها والإقامة بها، كما يأتي، أو قريبًا من الصحراء، وكذا إقامتها بمكان من الصحراء قريب من البلد، لأن المسجد ليس شرطا فيها.
(2) أي ولو كان البناء الذي تقام فيه الجمعة فراسخ، ولو لم يسمع النداء، فإن المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بريد في بريد، وكانت محالاً متفرقة، لكل بطن من الأنصار محلة، ولم تكن مسورة، والمحلة فيها المساكن، وحولها النخل والمقابر، ليست صغيرة، ولا أبنيتها متصلة.
(3) كسعف وإذخر، وثمام ونحو ذلك، وفي الصحيح: أول جمعة جمعت بعد
الجمعة بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواثي قرية بالبحرين، وبيوتهم من جريد النخل ونحوه، وأقر عمر أهل المنازل التي بين مكة والمدينة على التجميع، ومعلوم أنها لم تكن بمدر وإنما هي من جريد أو سعف، والقصب الإباءة، وهو كل نبات يكون ساقه أنابيب.(3/400)
لا يرتحل عنه شتاءً ولا صيفًا(1) (اسمه) أي البناء (واحد ولو تفرق) البناء حيث شمله اسم واحد، كما تقدم(2) (ليس بينه وبين المسجد) إذا كان خارجًا عن المصر (أكثر من فرسخ) تقريبًا(3)
__________
(1) قال شيخ الإسلام: كل قوم مستوطنين ببناء متقارب، لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا، تقام فيه الجمعة، إذا كان مبنيا بما جرت به عادتهم، من مدر أو خشب أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك، فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك، إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل، الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، وينتقلون في البقاع، وينقلون بيوهعم معهم إذا انتقلوا وهذا مذهب جمهور العلماء، والإمام أحمد علل سقوطها عن البادية لأنهم ينتقلون.
(2) في قوله: اسمه واحد والمراد التفريق اليسير، فإذا كان قرية ينقص العدد فيها، بقرب قرية، بفرسخ فأقل يجمع فيها، لزمت الجمعة القرية الناقص عددهم بغيرهم، بخلاف الكثير غير المعتاد فلا، وكانت المدينة محالا، وتسمى المحلة دارًا وقرية، والمحلة القرية الصغيرة فيها المساكن، وحولها النخل والبساتين وذلك كله مدينة واحدة وهي بريد في بريد وشملها اسم واحد، ولم يجمع فيها في غير المسجد الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم و(شملهم الأمر) عمهم من باب تعب وفي لغة من باب قعد، والأول الأشهر عند أهل اللغة.
(3) لا تحديدا فلا يضر نقص يسير، لأنه من أهل الجمعة يسمع النداء كأهل المصر، لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر»، رواه أبو داود وأبو حاتم وابن حبان وغيرهم، ولأبي داود «الجمعة على من سمع النداء»، ولأن من سمعه داخل في عموم الآية، والعبرة بسماعه من المنارة، بين يدي الإمام، نص عليه، ولما كان سماع النداء غير ممكن دائما اعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع فيه غالبا فرسخ، قال شيخ الإسلام: تجب الجمعة على من حول المصر، عند أكثر العلماء، وهو يقدر بسماع النداء بفرسخ.(3/401)
.
فتلزمه بغيره(1) كمن بخيام ونحوها(2) ولا تنعقد به(3) ولم يجز أن يؤم فيها(4).
__________
(1) أي إذا حضرها وجبت عليه، وأما السعي لها فلا يلزمه.
(2) كبيوت الشعر والخراكي، قال في الفروع: وفاقًا، لأن العرب كانوا حول المدينة، وكانوا لا يصلون جمعة، ولا أمرهم بها، ولأنهم على هيئة المستوفزين، وكذا مسافر أقام ما يمنع القصر ولم يستوطن، والخيام جمع خيمة، وهي بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر، قال ابن الأعرابي: لا تكون الخيمة عند العرب من ثياب، بل من أربعة أعواد، وتسقف بالثمام، وخيمت بالمكان أقمت فيه، واختار شيخ الإسلام وجوبها على المستوطنين بعمد أو خيام، واشترط أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية، وقدمه الآزجي، قال في الفروع، وهو متجه خلافًا للجميع وتقدم أن الأصل أن يكونوا مستوطنين، وأنه لا تأثير في مادة البناء.
(3) حيث لم يكن من أهل وجوبها، قال الموفق: وإن قلنا تجب عليه، قال شيخ الإسلام: ولا دليل على أنها تجب على من لا تنعقد به، بل من وجبت عليه انعقدت به.
(4) هذا المذهب جزم به الموفق وغيره، وعنه: يجوز وهو مذهب جمهور
العلماء، أبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم، لصحتها منه، وتقدم أن من صحت صلاته صحت إمامته.(3/402)
وأما من كان في البلد فيجب عليه السعي إليها، قرب أو بعد، سمع النداء أو لم يسمعه، لأن البلد كالشيء الواحد(1) (ولا تجب) الجمعة (على مسافر سفر قصر) لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة فيه، مع اجتماع الخلق الكثير(2) وكما لا تلزمه بنفسه لا تلزمه بغيره(3) فإن كان عاصيًا بسفره(4) أو كان سفره فوق فرسخ، ودون المسافة(5).
__________
(1) فلا فرق بين القريب والبعيد، ولأن المصر لا يكاد يكون أكثر من فرسخ، فهو في مظنة القرب، فاعتبر ذلك، وإن كان خارج البلد، وسمع النداء، وجبت عليه، وهو مذهب الشافعي وإسحاق وغيرهما، لقوله «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود وغيره، وله شاهد، ولقوله: «من سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له إلا من عذر».
(2) وهذا لا نزاع فيه، فقد علم من حالهم بالضرورة.
(3) وقال الشيخ: يحتمل أن تلزمه تبعًا للمقيمين، قال في الفروع: وهو متجه وذكر بعضهم وجهًا، وحكى رواية، تلزمه بحضورها في وقتها، خلافًا للأئمة الثلاثة، ما لم ينضر بالانتظار، وتنعقد به، خلاف لأبي حنيفة ورواية عن مالك، ويؤم فيها كمن سقطت عنه تخفيفًا، لعذر مرض وخوف ونحوهما وفاقًا.
(4) يعني لزمته بغيره، وتقدم جواز القصر في حقهم لكن فوق بريد.
(5) يعني لزمته، هذا المذهب وتقدم أن هذا الفرق لا أصل له في كتاب ولا سنة، فيعطي حكم المسافرين ما زال منهم.(3/403)
أو أقام ما يمنع القصر(1) أو لم ينو استيطانًا لزمته بغيره(2) (ولا) تجب الجمعة على (عبد) ومبغض(3)وامرأة لما تقدم(4) ولا خنثى، لأنه لا يعلم كونه رجلاً(5).
__________
(1) كتاجر أقام لبيع متاعه، أو أقام لطلب علم، ونوى إقامة فوق أربعة أيام.
(2) ولا تنعقد به فلا يحسب من العدد، ولم يجز أن يؤم فيها، وعنه، لا تلزمه جزم به في التلخيص وغيره، لأنه لم ينو الإقامة في هذا البلد على الدوام، قال شيخ الإسلام في تقسيمهم المقيم إلى مستوطن تجب عليه الجمعة وتنعقد به، وغير مستوطن تجب عليه ولا تنعقد به: هذا لا دليل عليه من جهة الشرع، أما المستوطن وهو المقيم، الذي هو المقابل للمسافر، فهو الذي تنعقد به الجمعة، وتجب عليه بلا نزاع، وأما المقيم غير المستوطن، فلا تجب عليه وإيجابها عليه مخالف للشرع، والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة ليس هو أمرًا معلومًا لا بشرع ولا لغة ولا عرف، وتقدم ذكر إقامة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بدون إتمام.
(3) ومكاتب ومدبر ومعلق عتقه بصفة قبل وجودها، لأنه عبد، وهي أفضل في حقهم من الظهر، للاختلاف في وجوبها عليهم، وعند كثير من أهل العلم تجب على العبد، لعموم الأمر بها.
(4) يعني في خبر أبي داود، أي فلا تجب على المرأة، قال ابن المنذر وغيره: أجمعوا أن لا جمعة على النساء، وأجمعوا أنهن إذا حضرن، فصلين الجمعة، أن ذلك يجزئ عنهن، وتقدم ذكر من يباح حضوره منهن.
(5) يعني الخنثى المشكل، لأنه لم تتحقق ذكوريته، لكن يستحب له حضورها احتياطا.(3/404)
(ومن حضرها منهم أجزأته) لأن إسقاطها عنهم تخفيف(1) (ولم تنعقد به) لأنه ليس من أهل الوجوب، وإنما صحت منه تبعا(2) (ولم يصح أن يؤم فيها) لئلا يصير التابع متبوعًا(3) (ومن سقطت عنه لعذر) كمرض وخوف(4) إذا حضرها (وجبت عليه وانعقدت به) وجاز أن يؤم فيها(5).
__________
(1) أي إسقاطها عن مسافر وعبد ومبعض وامرأة وخنثى تخفيف من الشارع، فإذا حضرها أحدهم أجزأته، وصحت جمعته إجماعًا، حكاه ابن المنذر وغيره، كالمريض إذا تكلف المشقة، ولنقل الخلف عن السلف، وإن قيل: إذا كان فرضهم الظهر أربعًا فكيف سقط بركعتي الجمعة؟ وجوابه، أنها وإن كانت ركعتين فهي أكمل من الظهر بلا شك، ولهذا وجبت على أهل الكمال، وإنما سقطت عن المعذور تخفيفا فإذا تكلفها فقد أحسن فأجزأه.
(2) أما المرأة والخنثى فبلا خلاف، وأما العبد والمسافر فمن صحت منه انعقدت به، اختاره الشيخ وغيره.
(3) أما إمامة المرأة والخنثى فلا نزاع فيه، وأما المسافر والعبد فيجوز وفاقا، إلا مالكا في العبد، وجمهور العلماء على خلافه، ونقل أبو حامد إجماع المسلمين على صحتها خلف المسافر.
(4) يعني على نفسه أو ماله أو أهله ونحوه، ومن له شغل يبيح ترك الجماعة، قال ابن عباس: الجمعة كالجماعة، فكل عذر سقطت به الجماعة سقطت به الجمعة.
(5) أي في الجمعة وفاقًا، وكل ما كان شرطا، لوجوبها فهو شرط لانعقادها.(3/405)
لأن سقوطها لمشقة السعي وقد زالت(1)(ومن صلى الظهر) وهو (ممن) يجب (عليه حضور الجمعة(2) قبل صلاة الإمام) أي قبل أن تقام الجمعة(3) أو مع الشك فيه (لم تصح) ظهره(4) لأنه صلى ما لم يخاطب به، وترك ما خوطب به(5) وإذا ظن أنه يدرك الجمعة سعى إليها، لأنها فرضه(6).
__________
(1) يعني المشقة، فإذا تكلفها وحضرها تعينت عليه، كمريض بالمسجد ويحرم انصرافه إن دخل الوقت إلا أن يزيد ضرره بانتظاره لفعلها فيجوز ولا يلزمه العود مع بقاء العذر.
(2) يعني بنفسه أو بغيره.
(3) لم تصح ظهره وفاقا لمالك والشافعي وإسحاق وداود وغيرهم، ومرادهم والله أعلم بقاء ما تدرك به الجمعة لو ذهب وحضر معهم، ليس مرادهم قبل ابتدائها، ولا قبل الفراغ بالكلية، وعبارة الإقناع، ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام أو قبل فراغها لم يصح، قال الشارح: أي قبل فراغ ما تدرك به.
(4) يعني مع الشك في تجميع الإمام، هل صلى الظهر قبله أو بعده.
(5) فلم تصح كما لو صلى العصر مكان الظهر، وكشكه في دخول الوقت، لأنها فرض الوقت فيعيدها ظهرا إذا تعذرت الجمعة.
(6) ولا نزاع في أنه مخاطب بالجمعة، فسقطت عنه الظهر، ولا خلاف في أنه يأثم بترك الجمعة، وترك السعي إليها، وإن صلى الظهر، ولا يأثم بترك الظهر، وفعل الجمعة إجماعا.(3/406)
وإلا انتظر حتى يتيقن أنهم صلوا الجمعة، فيصلي الظهر(1)، و(تصح) الظهر (ممن لا تجب عليه) الجمعة لمرض ونحوه(2) ولو زال عذره قبل تجميع الإمام(3) إلا الصبي إذا بلغ(4) (والأفضل) تأخير الظهر (حتى يصلي الإمام) الجمعة(5)
__________
(1) لكن إن أخرها الإمام تأخيرا منكرا، فللغير أن يصلي الظهر، ويجزئه عن فرضه، جزم به المجد، وجعله ظاهر كلامه، لخبر تأخير الأمراء، وكذا لو صلى الظهر أهل بلد مع بقاء وقت الجمعة لم تصح، لما تقدم، ويعيدونها إذا فاتت الجمعة، ومن فاتته الجمعة، أو لم يكن من أهل فرضها وهم بالبلد تسن الجماعة في ظهرهم، وخارج البلد تسن إجماعا، وتجب عندنا، ويخفونها إن خفي عذرهم، هذا إذا أمن أن ينسب إلى مخالفة الإمام، وفاقا للشافعي، فعله ابن مسعود وغيره، واحتج به أحمد، وقال: ما أعجب الناس ينكرون هذا.
(2) كخوف على نفسه أو أهله قبل تجميع الإمام، في قوله عامة أهل العلم، وكذا لو صلى من لا تجب عليه، كالعبد والمسافر والمرأة ونحوهم الظهر قبله، في قول عامتهم، وحكاه في الفروع اتفاقا على الأصح، لأنها فرضهم وقد أدوه.
(3) مرادهم فوات ما تدرك به الجمعة، كرفع الإمام رأسه من ركوع الثانية
فتصح ظهره، كمضوب حج عنه ثم عوفي، فإن حضروا الجمعة بعد ذلك كانت نفلا.
(4) أي فلا تصح منه الظهر، ولو بعد بلغ تجميع الإمام وقد كان صلى الظهر أولا، أعادها لأن صلاته الأولى وقعت نفلا، فلا تسقط الفرض هذا المذهب وتقدم أنه مأمور بفعلها، وفعلها فامتنع أن يؤمر بصلاة ثانية.
(5) أي والأفضل ممن لا تجب عليه الجمعة، كالعبد والمريض، تأخير الصلاة.
الظهر حتى يصلي الإمام الجمعة، فإنه ربما زال عذره فتلزمه الجمعة، قال ابن عقيل: من لزمته بحضوره لم يصح، ويستثنى من دام عذره كالمرأة، فالتقديم في حقه أفضل، قال في الفروع: قولا واحدا، وتوسط بعض أهل العلم فقال: إن كان جازما بأنه لا يحضر الجمعة، وإن تمكن منها، استحب له تقديم الظهر، وإن كان لو تمكن أو نشط حضر استحب له التأخير، وتقدم أنه إن أخر الإمام الجمعة تأخيرا منكرا فللغير أن يصلي ظهرا، وفاقا لمالك، ويجزئه عن فرضه، جزم به المجد، لخبر تأخير الأمراء الصلاة عن وقتها.(3/407)
.
وحضورها لمن اختلف في وجوبها عليه كعبد أفضل(1) وندب تصدق بدينار أو نصفه لتاركها بلا عذر(2) (ولا يجوز لمن تلزمه) الجمعة (السفر في يومها بعد الزوال) حتى يصلي إن لم يخف فوت رفقته(3).
وقبل الزوال يكره(4) إن لم يأت بها في طريقه(5).
فصل(6)
__________
(1) خروجا من الخلاف، وكذا المعذور تسقط عنه أفضل.
(2) لخبر «من ترك الجمعة من غير عذر فيتصدق بدينار، فإن لم يجد فبنصف دينار»، رواه أحمد وغيره، وضعفه النووي وغيره، ولا يجب إجماعا.
(3) لتركه لها بعد الوجوب، وهذا مذهب مالك والشافعي وداود وغيرهم، قال الطوفي، وينبغي أن يقال: لا يجوز له السفر بعد الزوال، أو حين يشرع في الأذان لها، لجواز أن يشرع في ذلك وقت صلاة العيد، على الصحيح من المذهب، وكذا علل عثمان وغيره بإرادة من يلزمه الحضور، فيكون احترز بذلك عمن صلى العيد في يومها، فإنها تسقط عنه سقوط حضور لا وجوب، فإن الظاهر أن سفره في يومها كسفره في غيره من بقية الأيام، قال الطوفي: ولا نزاع في تحريم السفر بعد الزوال، أو الشروع في الأذان، لتعلق حق الله بالإقامة اهـ، كما لو تركها لتجارة، بخلاف غيرها، فإن خاف فوت رفقته سقط وجوبها كما تقدم.
(4) ما لم يكن من العدد المعتبر، وكان يعلم أنها لا تكمل بغيره فيحرم، وإلا فيكره السفر في يومها، لمن هو من أهل وجوبها، خروجا من الخلاف، ولا يحرم، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟» قال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم فقال: «لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم» ولقول عمر: لا تحبس الجمعة عن سفر، وكما لو سافر من الليل، هذا إذا لم يكن أذن لها، فإن كان فيحرم كما تقدم، وقال ابن القيم: والاختيار أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر، حتى تصلى الجمعة، ما لم يخف فوت رفقته.
(5) أي إن لم يكن غالب ظنه التمكن من الإتيان بها في طريقه، فإن كان ذلك لم يكره لأداء فرضه.
(6) في شروط صحة الجمعة، وما يتعلق بها.(3/408)
يشترط لصحتها أي صحة الجمعة أربعة (شروط ليس منها إذن الإمام)(1) لأن عليا صلى بالناس وعثمان محصور، فلم ينكره أحد، وصوبه عثمان، رواه البخاري بمعناه(2) (أحدها) أي أحد الشروط (الوقت) لأنها صلاة مفروضة، فاشترط لها الوقت، كبقية الصلوات(3) فلا تصح قبل الوقت ولا بعده إجماعا، قاله في المبدع(4).
__________
(1) أي ليس من شروط الجمعة إذن الإمام في إقامتها، وفاقا لمالك والشافعي وليس لمن ولاه السلطان إقامتها أن يؤم في الصلوات الخمس، ولا بالعكس.
(2) ولفظ الأثرم وغيره: إنه قد نزل بك ما ترى، وأنت إمام العامة، فقال: الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم، وصلى ابن مسعود بالناس لما أبطأ الوليد، وأبو موسى الأشعري حين أخرها سعيد بن العاص، وقال أحمد: وقعت الفتنة في الشام تسع سنين، وكانوا يجمعون ولأن المسلمين في الأمصار النائية يقيمونها بعد موت الأئمة ولم ينكر، فكان إجماعا وحكي أنها لا تصح إلا خلف السلطان أو نائبه أو بإذنه، وقال النووي: شاذ باطل.
(3) ولم يقل: دخول الوقت كما مر، لأن الجمعة لا تفعل بعد وقتها، بخلاف بقية الصلوات، وبدأ بالوقت لأنه آكد الشروط.
(4) وحكاه الوزير والموفق والزركشي وغيرهم لقوله: إن الصلاة كانت
{ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * } أي مفروضا في الأوقات، وقال عمر: لها وقت لا يقبلها الله إلا به.(3/409)
(وأوله أول وقت صلاة العيد)(1) لقول عبد الله بن سيدان: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار(2) ثم شهدتها مع عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد زال النهار(3) فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره(4) رواه الدارقطني وأحمد واحتج به(5).
__________
(1) نصا فلا تصح قبله إجماعا، وتفعل فيه جوازا ورخصة، وتجب بالزوال.
(2) فدل على جواز فعلها قبل الزوال، قال شمس الحق، وهو قول جماعة من السلف.
(3) أي زالت الشمس.
(4) فصار إجماعا، وفعلها ابن الزبير في وقت العيد، وصوبه ابن عباس وأبو هريرة، وابن سيدان بكسر السين المهملة، أو سندان المطرودي، قال البخاري: لا يتابع على حديثه، وقال النووي: اتفقوا على ضعفه.
(5) يعني أحمد: ولحديث جابر: كان يصلي الجمعة، ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس، رواه مسلم، ولهما ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به، ولهما من حديث سهل قال: ما كنا نقيل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن قتيبة لا يسمى قائلة ولا غذاء بعد الزوال.(3/410)
قال: وكذلك روي عن ابن مسعود وجابر وسعد ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال، ولم ينكر(1) (وآخرها آخر وقت صلاة الظهر) بلا خلاف، قاله في المبدع(2) وفعلها بعد الزوال أفضل(3) (فإن خرج وقتها قبل التحريمة) أي قبل أن يكبروا للإحرام بالجمعة (صلوا ظهرا) قال في الشرح: لا نعلم فيه.
__________
(1) فروى الإمام عن ابن مسعود أنه كان يصلي الجمعة ضحى، ويقول: إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم، وعن معاوية نحوه، رواه سعيد، وكذا روي عن علي وسعيد بن زيد وغيرهما، أخرجها ابن أبي شيبة وغيره، وإذا صلى هؤلاء مع من يحضرهم من الصحابة ولم ينكر، فهو إجماع ولأنها صلاة عيد، فجازت قبل الزوال، والمراد أول وقت الجواز، وتقدم إراحتهم جمالهم وانصرافهم وليس للحيطان ظل يستظل به، ولو كانت خطبته وصلاته بعده لكان لها ظل، قال الزركشي، والتقديم ثبت رخصة بالسنة والآثار اهـ، وأما وقت الوجوب فزوال الشمس إجماعا وعن أحمد، وقتها كالظهر وفاقا، ولا ينافي ما تقدم، لأنا وسائر المسلمين لا يمنعون ذلك بعد الزوال.
(2) وحكاه الزركشي وغيره، إلحاقا لها بها، لوقوعها موضعها.
(3) لحديث سلمة بن الأكوع، قال: كنا نصلي الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، متفق عليه، وفي الصحيح عن أنس: حين تميل الشمس، وللخروج من الخلاف، فإن الإجماع منعقد على أن وقتها بعد الزوال، ولأنه الوقت الذي كان يصليها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر أوقاته، فالأولى فعلها بعد الزوال صيفا وشتاء، حين تميل الشمس، لاجتماع الناس لها، وانتظار الإبراد يشق عليهم.(3/411)
خلافا(1) (وإلا) بأن أحرموا بها في الوقت فـ (جمعة) كسائر الصلوات، تدرك بتكبيرة الإحرام في الوقت(2) ولا تسقط بشك في خروج الوقت(3) فإن بقي من الوقت قدر الخطبة والتحريمة لزمهم فعلها(4) وإلا لم تجز(5).
__________
(1) وحكاه غير واحد إجماعا، فلا يعيدون الجمعة، لفوات الشرط ولأنها لا تقضى.
(2) هذا المذهب قياسا على بقية الصلوات، ولأن الوقت إذا فات لم يمكن استدراكه، فسقط اعتباره في الاستدامة للعذر، وكالجماعة في حق المسبوق، فإن قيل: لم اعتبر في الوقت الإدراك بالتكبيرة فقط، وفي الجماعة بالركعة؟ قيل: الوقت شرط، ولكنه خارج عن الماهية، والجماعة شرط داخل في الماهية،وما كان داخل الماهية أقوى مما كان خارجها، وقال في الإقناع: وإن خرج قبل ركعة بعد التحريمة استأنفوا ظهرا، قال ابن منجا: وهو قول أكثر الأصحاب، لأنه عليه الصلاة والسلام خص إدراكها بالركعة، وقال شيخ الإسلام: مضت السنة أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، فهو مدرك للجمعة، كمن أدرك ركعة من العصر، أو الفجر وتقدم، ومذهب الشافعي إذا خرج وقتها وهم فيها يتمونها ظهرا، وعند أبي حنيفة يستأنفون الظهر.
(3) لأن الأصل بقاؤه، والوجوب محقق، وإن علموا إحرامهم بعد خروج الوقت قضوا ظهرا، لبطلان جمعتهم.
(4) لأنها فرض الوقت، وقد تمكنوا من فعلها، وتقدم أنها لا تدرك بأقل من ركعة.
(5) أي وإن لم يبق من الوقت قدر التحريمة والخطبة لم تجزئ، ويصلونها ظهرا، لأنها لا تقضى وتقدم.(3/412)
الشرط (الثاني حضور أربعين من أهل وجوبها) وتقدم بيانهم(1) الخطبة والصلاة(2) قال أحمد: بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، فلما كان يوم الجمعة جمع بهم، وكانوا أربعين، وكانت أول جمعة جمعت بالمدينة(3) وقال جابر: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق جمعة وإضحى وفطر، رواه الدارقطني وفيه ضعف، قاله في المبدع(4)
__________
(1) يعني أهل وجوبها، في قوله: تلزم كل ذكر حر مكلف مسلم إلخ، ولو كان بعضهم خرسا أو صما، لا إن كان الكل كذلك، واختار الشيخ أن هذا الشرط للوجوب لا للصحة وقال الشيخ عبد اللطيف، وهذا من أحسن الأقوال، وبه يتفق غالب كلام المتأخرين.
(2) أي حضور العدد المعتبر حال الخطبة والصلاة.
(3) رواه أبو داود عن كعب بن مالك قال: أول من صلى بنا الجمعة في نقيع الخصُمات أسعد بن زرارة وكنا أربعين صححه ابن حبان والبيهقي والحاكم قال بعض الأصحاب: ولم ينقل أنها صليت بدون ذلك، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم حين انفضوا عنه بدون ذلك، مع أنه لا يقتضي أنها لا تصح بدون ذلك، وحديثهم إنما كان يدل على أنه كان مبدأ الجمعة، وقال الحافظ وغيره، لا يصح في عدد الجمعة شيء، وقاله السيوطي وغيره، وقال الحافظ: وردت أحاديث تدل على الاكتفاء بأقل من أربعين وجمعت بتشديد الميم أي صليت جماعة ومصعب بن عمير هو ابن هاشم بن عبد مناف، أحد السابقين، استشهد في أحد ومعه اللواء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه لهم مفقها.
(4) وإذا قال الصحابي ذلك، كان له حكم الرفع ولكنه لم يصح ولا
يقاوم حديث جابر وغيره، وقال حافظ عصره الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى: هذا حديث ساقط، لا يحتج به، لأنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن، وهو ضعيف، قال البيهقي: هذا حديث لا يحتج به، ثم لو صح فليس فيه حجة، ويقال: اشتراط الأربعين العقلاء الحاضرين الذكور الأحرار تحكم بالرأي بلا دليل، وإسقاط للجمعة عمن دون الأربعين، وقد ثبت وجوب الجمعة بعموم الآية والأحاديث والإجماع على كل أحد فمن أراد إخراج أحد عن وجوبها فعليه الدليل، واتفق المسلمون على اشتراط الجماعة لها، واختلفوا في العدد المشترط لها، وذكر الأقوال، ونص أحمد على أنها تنعقد بثلاثة، اثنان يستمعان وواحد يخطب، اختاره الشيخ الإسلام.
قال الشيخ سليمان: وهذا القول أقوى، وهو كما قال، شرعا ولغة وعرفا، لقوله تعالى: { فَاسْعَوْا } وهذا صيغة جمع وأقل الجمع ثلاثة، وفي الحديث الصحيح إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، فأمرهم بالإمامة، وهو عام في إمامة الصلوات كلها، الجمعة والجماعة، ولأن الأصل وجوب الجمعة على الجماعة المقيمين، فالثلاثة جماعة تجب عليهم الجمعة، ولا دليل على إسقاطها عنهم أصلا،وإسقاطه عنهم تحكم بالرأي الذي لا دليل عليه من كتاب، ولا سنة ولا إجماع، ولا قول صاحب ولا قياس صحيح اهـ.
قال شيخنا: وما سوى هذا القول يحتاج إلى برهان، ولا برهان يخرجه من هذا العموم، فدل على أنها تنعقد بالجمع، والجمع أقله ثلاثة، ويقال: لو كانت الأربعون شرطا لما جاز أن يسكت عنه الشارع صلى الله عليه وسلم ولا يبينه، وحكى النووي وغيره إجماع الأمة على اشتراط العدد، وأنها لا تصح من منفرد، وأن الجماعة شرط لصحتها وقال الشيخ: تنعقد الجمعة بثلاثة، واحد يخطب، واثنان يستمعان، وهو إحدى الروايات عن أحمد، وقول طائفة من العلماء قال: وتصح ممن دون الأربعين، لأنه انتقال إلى أعلى الفرضين، وفوق بالبناء على الضم لقطعه عن الإضافة، ونية معناها.(3/413)
.
الشرط (الثالث أن يكونوا بقرية مستوطنين) بها(1) مبنية بما جرت به العادة(2) فلا تتم من ممكانين متقاربين(3).
__________
(1) استيطان إقامة، لا يرحلون عنها صيفا ولا شتاء، والقرية الضيعة والمصر الجامع، أو كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا، وجمع الناس وتقع على المدن وغيرها، والجمع قرى، وليس من شرطها المصر، فإن قيل، هذا مكرر مع ما تقدم من اعتبار الاستيطان، قيل: ما تقدم إنما سيق لبيان من تجب عليه وما هنا لبيان صحتها.
(2) من حجر أو لبن، أو طين أو قصب، أو شجر أو سعف، لأنه عليه الصلاة والسلام كتب إلى قرى عرينة أن يصلوا الجمعة، وتقدم التجميع بقرية جواثي وغيرها، وتعبير بعضهم بالأبنية للجنس، فيشمل البناء الواحد إذا حصل به العدد، وللغالب، إذ نحو الغيران والسراديب في نحو الجبل كذلك.
(3) أي فلا تتم الأربعون من بلدين متقاربين لم يشملهما اسم واحد، في كل منهما دون الأربعين، لفقد شرطها، حتى قالوا: لا يصح تجميع أهل بلد كامل فيه العدد، في بلد ناقص، وإن الأولى مع تتمة العدد في بلدين فأكثر متقاربة تجميع كل قوم في بلدهم، إظهارا لشعائر الإسلام، وقد كانت المدينة قرى، فيها المساكن، وحولها النخل كل قرية لقبيلة، فبنوا مالك في قريتهم، وبنوا مازن، وبنوا سالم، وسائر بطون الأنصار كذلك، كل قبيلة في قرية ومع ذلك الاتساعوكثرة القرى لم يجمع كل أهل قرية في محلتهم، وهذا مع عدم المشقة، وإلا فقد قال في الفصول، وإن كان البلد قسمين بينهما بائرة، كان عذرا أبلغ من مشقة الازدحام ويأتي جواز تعددها لحاجة.(3/414)
ولا تصح من أهل الخيام وبيوت الشعر ونحوهم(1) لأن ذلك لم يقصد للاستيطان غالبا(2) وكانت قبائل العرب حوله عليه السلام، ولم يأمرهم بها(3) وتصح بقرية خراب، عزموا على إصلاحها والإقامة بها(4) (وتصح) إقامتها (فيما قارب البنيان من الصحراء)(5) لأن أسعد بن زرارة أول من جمع في حرة بني بياضة، أخرجه أبو داود والدارقطني، قال البيهقي حسن الإسناد صحيح(6).
__________
(1) كالخراكي ونحوها، الذين ينتجعون في الغالب مواضع القطر، وينتقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم.
(2) ولا يقع عليهم اسم الاستيطان، هذا مذهب جمهور العلماء، وإن كان أهل الخيام مستوطنين في خلال الأبنية لزمتهم.
(3) وذلك لأنهم ليسوا من أهل المدينة، قال تعالى: { مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ } فجعلهم قسمين، مستوطنين وأعرابًا.
(4) وأتى عليهم يوم الجمعة قبل ذلك، وجبت عليهم الجمعة، لأن حكمها باق في إقامة الجمعة بها، لعدم ارتحالهم، أشبهوا المستوطنين، لا إن عزموا على النقلة منها، ولا تجب ببلد يسكنها أهلها بعض السنة دون بعض، لعدم الاستيطان.
(5) ولو بلا عذر فلا يشترط لها البنيان.
(6) وتقدم تصحيح ابن حبان والحاكم، وقال الحافظ: إسناده حسن، وأسعد بن زرارة هو ابن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، أبو أمامة الأنصاري الخزرجي النجاري، شهد العقبة، وكان نقيبًا على قبيلته، مات في السنة الأولى، أول من صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.(3/415)
قال الخطابي: حرة بني بياضة على ميل من المدينة(1) وإذا رأى الإمام وحده العدد فنقص، لم يجز أن يؤمهم(2) ولزمه اسخلاف أحدهم(3) وبالعكس لا تلزم واحدًا منهم(4) (فإن نقصوا) عن الأربعين (قبل إتمامها) لم يتموها جمعة، لفقد شرطها(5).
__________
(1) في غربيها، وفيه: في هزم النبيت من حرة بني بياضة، وهي قرية في الحرة، أي جمع في قرية يقال لها هزم النبيت، وهي كانت في حرة بني بياضة، والمعنى أنه يجوز إقامتها في القرى، كالمدن والأمصار، وللدارقطني وغيره عن أم عبد الله الدوسية مرفوعًا، «الجمعة واجبة على كل قرية، وإن لم يكن فيها إلا أربعة»، من طرق ضعيفة، لكنه لا يضر من استدل به على فرضيتها في القرى، لأنه قد ثبت أداؤها بأقل من أربعين، وصحة أدائها في القرى من عموم الآية، وتقدم إقامتها بجواثي، وكانت تقام في القرى بين مكة والمدينة في عهد السلف، وكما هو فرض عين في الأمصار، فهكذا في القرى، من غير فرق.
(2) أي إذا رأى الإمام اشتراط العدد دون المأمومين لم يجز أن يؤمهم لاعتقاده البطلان.
(3) ليصلي بهم فيؤدوا فرضهم.
(4) أما الإمام فلعدم من يصلي معه، وأما المأمومون فلاعتقاد بطلان جمعتهم لوجوب العدد عندهم، هذا مقتضى كلام الأصحاب وغيرهم عفا الله عنهم، والتقليد والاعتقاد في مثل هذه المسائل الظاهرة بعد وضوح الوجه الشرعي خطأ مخالف للشرع، ولما عليه الأئمة رضوان الله عليهم، وتقدم تحقيق مذاهبهم.
(5) كالطهارة على ما ذهبوا إليه، وتقدم وجوبها بمسمى الجماعة.(3/416)
و(استأنفوا ظهرا) إن لم تمكن إعادتها جمعة(1) وإن بقي معه العدد بعد انفضاض بعضهم، ولو ممن لم يسمع الخطبة، ولحقوا بهم قبل نقصهم أتموا جمعة(2) (ومن) أحرم في الوقت و(أدرك مع الإمام منها) أي من الجمعة (ركعة أتمها جمعة)(3) لحديث أبي هريرة مرفوعًا، «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة»، رواه الأثرم(4) (وإن أدرك أقل من ذلك) بأن رفع الإمام رأسه من الثانية، ثم دخل معه
__________
(1) بشروطها، فإن أمكن إعادتها جمعة وجبت، لأنها فرض الوقت.
(2) بلا نزاع، وقال أبو المعالي: سواء كانوا سمعوا الخطبة أو لحقوا قبل نقصهم بلا خلاف، كبقائه من السامعين، وجزم به غير واحد، ولحديث جابر وفيه: لم يبق إلا اثنا عشر رجلا، رواه مسلم ولوجود الشرط، وانفضاض بفاء أي تفرق بعضهم، و(لحقوا بهم)، جملة فعليه في محل نصب على الحالية، والمراد: لحقوا بمن كان مع الإمام.
(3) إجماعًا إلا ما حكي عن عطاء وطاوس، واتفقوا على أنه ليس من شرط إدراك الجمعة إدراك الخطبة، ومن صلى الجمعة فقد صحت له الجمعة، وإن لم يدرك الخطبة، واتفقوا على أن الفضيلة في إدراك الخطبة والاستماع لها.
(4) ورواه البيهقي عن ابن مسعود وابن عمر، وأصله في الصحيحين، وقال شيخ الإسلام: مضت السنة أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة اهـ أي لم تفته تلك الصلاة، ومن لم تفته الجمعة صلاها ركعتين، لقوله «فليصل إليها أخرى»، ولا بد من إدراك المسبوق ركعة بسجدتيها.(3/417)
(أتمها ظهرًا) لمفهوم ما سبق(1) (إذا كان نوى الظهر) ودخل وقته(2) لحديث «وإنما لكل امرئ ما نوى»(3) وإلا أتمها نفلاً(4) ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم عن السجود، لزمه السجود على ظهر إنسان أو رجله(5).
__________
(1) من قوله «من أدرك ركعة»، الحديث وهو من مفهوم المخالفة، وإلا فالجمعة لا تقضى، ولو لم يدرك إلا التشهد دخل معه، وتشهد حكاه أبو بكر عن الصحابة إجماعا، وقاله ابن مسعود، وكذلك فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) وفاقا لمالك والشافعي، لأن دخول الوقت شرط، والظهر لا تتأدى بنية الجمعة ابتداء.
(3) أي فإنه إذا كان إنما نوى جمعة، ولم ينو الظهر لم يصح، وإن نواه صح.
(4) أي وإن لم يدخل وقت الظهر، أو دخل ولم ينوه، بل نوى جمعة، أتمها نفلا، أما الأولى فكمن أحرم بفرض، فبان قبل وقته، فإنه لا يصح إتمامها جمعة، لعدم إدراكه لها بدون ركعة، لمفهوم الأخبار، وأما الثانية فلحديث «إنما الأعمال بالنيات»، وهو لم ينو ظهرا، فيتمها نفلا.
وقال ابن إسحاق: ينوى جمعة تبعا لإمامه، ويتمها ظهرا، وذكره القاضي المذهب إذا كان دخل وقت الظهر.
(5) لقول عمر: إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه، رواه أبو داود وغيره: وقاله بمحضر من الصحابة وغيرهم، ولم يظهر له مخالف، وهو قول جمهور العلماء، مالك والشافعي وغيرهما، ولأنه يأتي بما يمكنه حال العجز، فوجب وصحت كالمريض.(3/418)
فإن لم يمكنه فإذا زال الزحام(1) وإن أحرم ثم زحم وأخرج عن الصف، فصلى فذا لم تصح(2) وإن أخرج في الثانية نوى مفارقته وأتمها جمعة(3) الشرط الرابع: تقدم خطبتين، وأشار إليه بقوله: (ويشترط تقدم خطبتين)(4).
__________
(1) أي فإن لم يمكنه السجود على ظهر إنسان أو رجله ونحو ذلك، قال في الإنصاف، بلا نزاع فإذا زال الزحام سجد بالأرض، ولحق إمامه للعذر، إلا أن يغلب على ظنه فوت الثانية، فإن غلب على ظنه فوتها تابعة فيها، ويتمها جمعة، وهو قول مالك والشافعي، وجماهير العلماء، فإن لم يتابعه عالما بطلت صلاته بلا نزاع، لتركه متابعة إمامه بلا عذر، وإن كان جاهلا ثم أدركه في التشهد بعد أن سجد سجدتي الأولى، أتى بركعة ثانية بعد سلام إمامه، وصحت جمعته.
(2) لترك متابعة إمامه عمدا، وترك متابعة إمامه عمدا يبطلها وفاقا، وإن تابع إمامه فذا فتقدم قول شيخ الإسلام.
(3) لإدراكه ركعة مع إمامه، وكذا لو تخلف عنه لمرض أو نوم أو سهو ونحوه وإن أقام على متابعة إمامه وأتمها معه فذا صحت جمعته.
(4) أي ويشترط لصحة صلاة الجمعة تقدم خطبتين، وفاقا لمالك والشافعي وجماهير العلماء، وحكاه النووي إجماعا، إلا أن أبا حنيفة يقول: إذا قال: الحمد لله كفاه ومشروعيتهما مما استفاضت به السنة، وقال في الشرح: والخطبة شرط لا تصح بدونها، ولا نعلم مخالفا إلا الحسن، وقال في الفروع: ومن شرطهما يعني الخطبتين تقديمهما وفاقا، والخطبة بضم الخاء، وهي الكلام المؤلف، المتضمن وعظا وإبلاغا، يقال: خطب يخطب خطبة بضم الخاء وخطابة بفتحها، وأما خطبة المرأة وهي طلب نكاحها فبالكسر.(3/419)
لقوله تعالى: { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ } والذكر هو الخطبة(1) ولقول ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس، متفق عليه(2) وهما بدل ركعتين لا من الظهر(3) (و من شرط صحتهما حمد الله) بلفظ الحمد لله(4) لقوله عليه الصلاة والسلام «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» رواه أبو داود عن
__________
(1) وهذا قول كثير من أهل التفسير فأمر بالسعي إليه، فيكون واجبا، إذ لا يجب السعي لغير واجب، ولمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما.
(2) هذا لفظ النسائي والدارقطني وغيرهما، ولفظ البخاري: يخطب خطبتين يقعد بينهما، ولهما: يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم، وللشافعي وغيره عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يقعد، ثم يقوم فيخطب وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي».
(3) أي لا يقال إنهما بدل ركعتين من الظهر، لأن الجمعة ليست بدلا عن الظهر، بل الجمعة مستقلة، وإنما الظهر البدل عنها إذا فاتت فظاهره أن الجمعة في الأصل أربع، قامت الخطبتان مقام ركعتين منها، لا أنها ظهر مقصورة ولهذا يصلي من فاتته أربعا، وعن عمر وعائشة، قصرت الصلاة من أجل الخطبة، فهما بدل ركعتين، فالإخلال بإحداهما إخلال بإحدى الركعتين، واشترط تقديمهما لفعله صلى الله عليه وسلم وخلفائه والمسلمين.
(4) قال المجد: لأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أخل به، وقطع به غير واحد من الأصحاب، وقال ابن مفلح: لم أجد فيه خلافا.(3/420)
أبي هريرة(1) (والصلاة على رسوله) محمد (صلى الله عليه وسلم)(2) لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان(3) ويتعين لفظ الصلاة(4).
__________
(1) وله عن ابن مسعود مرفوعا، كان إذا تشهد قال: الحمد لله وفي صحيح مسلم عن جابر: كانت خطبته يوم الجمعة يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله وقال أحمد: لم يزل الناس يخطبون بالثناء على الله، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم والمراد بالشرط هنا ما تتوقف عليه الصحة، أعم من أن يكون داخلا أو خارجا، فيعم الركن، كالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة آية، والوصية بتقوى الله، وفاقا للشافعي، ورواية عن مالك، وجماهير السلف، واستمر العمل عليه.
(2) وظاهر كلامهم يشترط إذا اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم كقوله اللهم صل على محمد، أو على النبي، فلا يكفي: صلى الله عليه وسلم، ونحوه ولو سبقه قوله: أشهد أن محمدا عبده ورسوله، ونحوه.
(3) أي كما افتقرت إلى ذكر رسوله في الأذان، وذكره مع ذكر ربه هو الشهادة له بالرسالة.
(4) فلا يكفي معناها قال في المبدع: ويتعين أن يشهد أنه عبد الله ورسوله، وهو قول للمجد وغيره، وأوجب شيخ الإسلام وتلميذه وغيرهما الشهادتين في الخطبة وهما مشروعتان في الخطاب والثناء، قالوا: وكيف لا يجب التشهد الذي هو عقد الإسلام في الخطبة، وهو أفضل كلماتها، فلتأكد هنا ذكر الشهادة له صلى الله عليه وسلم لدلالته عليه، ولأنه إيمان به، والصلاة عليه دعاء له،
ومشروعيتها أمر معروف عند الصحابة رضي الله عنهم، وقال ابن القيم: خصائص الجمعة الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية
ولرسوله بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، ونحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جناته، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها.(3/421)
وقراءة آية كاملة(1) لقول جابر بن سمرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية، ويذكر الناس، رواه مسلم(2) قال أحمد: يقرأ ما شاء(3) وقال أبو المعالي: لو قرأ آية لا تستقل بمعنى أو حكم كقوله (ثم نظر) أو (مدهمتان) لم يكف(4) والمذهب لا بد من قراءة آية، ولو جنبا مع تحريمها(5).
__________
(1) لأنهما أقيما مقام ركعتين، والخطبة فرض، فوجبت فيها القراءة كالصلاة.
(2) ولفظه: يقرأ القرآن، ولأبي داود نحوه، وله أيضا: يقرأ آيات من القرآن وإسناده صحيح، وثبت في صحيح مسلم قراءته (ق) ولهما (ونادوا يا مالك) وروي أيضا غير ذلك قال النووي: وأقلها آية.
(3) فلا يتعين آية: والأحاديث ظاهرة في أنه صلى الله عليه وسلم لا يلازم قراءة آية أو سورة، بل مرة سورة ومرة آية ومرة آيات.
(4) وقال الشارح: قال أصحابنا: ولا يكفي أقل من آية، وظاهر كلام أحمد لا يشترط ذلك، ويحتمل لا يجب سوى حمد الله والموعظة، اختاره الشيخ، لأنه يسمى خطبة وما عداه ليس على اشتراطه دليل، ولكن يستحب أن يقرأ آيات، لما ذكر عنه صلى الله عليه وسلم اهـ، وللإجماع على مشروعيتها، وأبو المعالي اسمه أسعد، وهو ابن منجا.
(5) أي ولو كان الخطيب جنبا، مع تحريم قراءة الآية للجنب، وكذا تحريم اللبث، لأنه لا تعلق له في وجوب العبادة، وعلى القول بالسنية فلا تجوز القراءة للجنب.(3/422)
فلو قرأ ما تضمن الحمد والموعظة، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم أجزأه(1) (والوصية بتقوى الله عز وجل) لأنه المقصود(2).
__________
(1) لأن عمر قرأ سورة الحج على المنبر، ولم يخطب بغيرها.
(2) أي من الخطبة ولا يتعين لفظها، بل إذا قال: أطيعوا الله ونحوه، أجزأ، وقد يقال: الواجب لفظ التقوى، فليست كلمة أجمع لما أمر الله به، وأوقع في النفوس من كلمة التقوى، وتقوى الله امتثال أمره، واجتناب نهيه، قال شيخ الإسلام وغيره، لا يكفي في الخطبة ذم الدنيا، وذكر الموت، لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفا، بما يحرك القلوب، ويبعث بها إلى الخير اهـ، وذم الدنيا، والتحذير منها، مما تواصى به منكروا الشرائع، بل لا بد من الحث على الطاعة، والزجر عن المعصية، والدعوة إلى الله، والتذكير بآلائه، وقال: ولا تحصل الخطبة باختصار يفوت به المقصود، وقد طال العهد، وخفي نور النبوة على الكثير، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر، وعلم البديع، فعدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلى صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم.
وذكر ابن القيم وغيره أن خطبه صلى الله عليه وسلم إنما كانت تقريرا لأصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، ودعوة إلى الله، وتذكير بآلائه التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، وأمرا بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيملأ القلوب من خطبته إيمانا وتوحيدا، ومعرفة بالله وآياته وآلائه وأيامه، ومحبة لذكره وشكره، فينصرف السامعون وقد أحبوا الله وأحبهم.(3/423)
قال في المبدع: ويبدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم بالموعظة، ثم القراءة في ظاهر كلام جماعة(1) ولا بد في كل واحدة من الخطبتين من هذه الأركان(2) (و) يشترط (حضور العدد المشترط) لسماع القدر الواجب(3) لأنه ذكر اشترط للصلاة فاشترط له العدد، كتكبيرة الإحرام(4) فإن نقصوا وعادوا قبل فوت ركن منها بنوا(5) وإن كثر التفريق، أو فات منها ركن(6) أو أحدث فتطهر استأنف مع سعة الوقت(7).
__________
(1) على وجه الاستحباب، وقيل بوجوبه، حكاه البغوي، ولم يرد فيه نص.
(2) قال الزركشي، واعلم أن هذه الأربع من الحمد والصلاة والقراءة والموعظة أركان الخطبتين، لا تصح واحدة من الخطبتين إلا بهن، وتقدم الدليل على ذلك وهو مذهب الشافعي.
(3) أي من الخطبتين حيث لا مانع، وتقدم أنه حمد الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم والوصية بتقوى الله، وقراءة آية: فإن كان هناك مانع من نوم أو غفلة أو صمم أو بعد صحت.
(4) وهو مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وغيرهما.
(5) أي قبل فوت ركن من أركان الخطبة بنوا عليها، لإدراكهم الواجب منها.
(6) أي وإن كثر التفريق بين أجزاء الخطبة، أو فات ركن من أركان الخطبة استأنف مع طول التفريق، لفوات الموالاة، وإن لم يطل كفاه إعادته.
(7) وإن ضاق الوقت صلوا ظهرا، والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة.(3/424)
ويشترط لهما أيضا الوقت(1) وأن يكون الخطيب يصلح إماما فيها(2) والجهر بهما، بحيث يسمع العدد المعتبر، حيث لا مانع(3) والنية، والاستيطان للقدر الواجب منهما(4) والموالاة بينهما وبين الصلاة(5) (ولا يشترط لهما الطهارة) من الحدثين والنجس(6).
__________
(1) فلا تصح واحدة منهما قبله وفاقا، لأنهما بدل ركعتين وتقدم.
(2) أي صلاة الجمعة، ككونه حرا مستوطنا، فلا تصح خطبة من لا تجب عليه بنفسه، كعبد ومسافر، وتقدم الراجح في الإمامة فالخطبة أولى.
(3) من نحو غفلة أو نوم أو صمم، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم إذا خطب علا صوته إلخ.
(4) أي من الخطبتين فالنية للخبر، والاستيطان احتراز من أن يكون في سفينة مثلا، ويفعل من الأركان شيئا قبل قدوم بلده.
(5) فلا يفصل بين الخطبتين، ولا بينهما وبين الصلاة فصلا طويلا عرفا، وقدر بقدر الموالاة في الوضوء بالقصر في الزمن المعتدل، ولهذا يستحب قرب المنبر من المحراب، لئلا يطول الفصل بينهما، وعمل المسلمين عليه، ورثوه خلفا عن سلف، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الخطبة تقام الصلاة وينزل فيصلي بالناس.
(6) أي من الحدثين الأكبر والأصغر، ومن النجس، قال أحمد: إن خطب وهو جنب ثم اغتسل وصلى بهم أجزأ والسنة أن يخطب متطهرا، وعنه شرط، فتتأكد الطهارة لهما، وهو قول في مذهب الشافعي، لقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي»ولم يكن يخطب إلا متطهرا وقال البغوي:القولان في الطهارة من الحدث
الأصغر، فإن خطب جنبا لم تصح قولا واحدا، لأن القراءة في الخطبة واجبة ولا تحسب قراءة الجنب اهـ، فالأولى الخروج من الخلاف.(3/425)
ولو خطب بمسجد، لأنهما ذكر تقدم الصلاة أشبه الأذان(1) وتحريم لبث الجنب بالمسجد لا تعلق له بواجب العبادة(2) وكذلك لا يشترط لهما ستر العورة(3) (ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة)(4) بل يستحب ذلك، لأن الخطبة منفصلة عن الصلاة، أشبها الصلاتين(5) ولا يشترط أيضا حضور متولي الصلاة الخطبة(6) ويبطلها كلام محرم ولو يسيرا(7) ولا تجزئ بغير العربية مع القدرة(8).
__________
(1) أي فتصح خطبة جنب كما يصح أذانه.
(2) كصلاة من معه درهم غصب.
(3) لأنهما ليسا صلاة، وكذا إزالة النجاسة كطهارة صغرى.
(4) فإن خطب رجل وصلى آخر، جاز لكن قال أحمد: لا يعجبني لغير عذر.
(5) فتصح إمامة من لم يحضر الخطبة بهم، حيث كان ممن تصح إمامته فيها.
(6) وهو الذي صلى الصلاة ولم يخطب، لصدور الخطبة من غيره، ما لم يكن من العدد المعتبر لها، فلا بد من حضوره، كما يعلم مما تقدم.
(7) كالأذان وأولى.
(8) كقراءة قال ابن رجب: على الصحيح وتصح مع العجز، لأن القصد بها الوعظ والتذكير وحمد الله، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم غير#
القراءة فلا تجزئ بغير العربية فإن عجز عنها وجب بدلها ذكرا قياسا على الصلاة واجتزيت واجتزأت به، إذا اكتفيت به.(3/426)
(ومن سننهما) أي الخطبتين (أن يخطب على منبر) لفعله عليه الصلاة والسلام(1) وهو بكسر الميم من النبر وهو الارتفاع(2) واتخاذه سنة مجمع عليها، قاله في شرح مسلم(3).
ويصعده على تؤدة إلى الدرجة التي تلي السطح(4).
__________
(1) المستفيض عنه، ولا نزاع في ذلك، وفي الصحيح وغيره: أنه عمل له من أثل الغابة، فكان يرتقي عليه، وكان اتخاذه سنة سبع أو ثمان، وكان ثلاث درج، وفي الصحيحين من حديث سهل أنه أرسل إلى امرأة من الأنصار:«أن مري غلامك النجار يعمل أعوادا أجلس عليها إذا كلمت الناس»، واستحباب صعود المنبر لا نزاع فيه، فقد ثبت اتخاذه وتوارثته الامة بعده، ولأن ذلك أبلغ في الإعلام، وإذا شاهدوه كان أبلغ في وعظهم، وهو حكمة مشروعية المنبر، وحكى الإجماع عليه غير واحد، واستثنى بعض أهل العلم مكة، فإنه صلى الله عليه وسلم وخلفاءه يخطبون على بابها، وإنما أحدث المنبر معاوية، ولكن أقره السلف وتبعهم الخلف.
(2) ونبرت الشيء إذا رفعته، والمنبر المكان المرتفع في الجامع لمرقاة الخاطب سمي به لارتفاعه وعلوه عما حوله، وكسرت الميم على التشبيه له بالآلة، جمعه منابر.
(3) للنووي رحمه الله، وليس بواجب، لأنه صلى الله عليه وسلم يقوم على الأرض قبل أن يوضع المنبر، وكان عليه الصلاة والسلام يجلس على الدرجة الثالثة التي تلي مكان الاستراحة، ثم وقف أبو بكر على الثانية، ثم عمر على الأولى تأدبا، ثم وقف عثمان مكان أبي بكر، ثم زمن معاوية قلعه مروان،وزاد فيه ست درج، فكان الخلفاء يرتقون ستا، يقفون مكان عمر على السابعة ولا يجاوزون ذلك تأدبا وكذا من بعدهم.
(4) قاله في التلخيص وغيره: والدرجة التي تلي السطح هي مكان الاستراحة والتؤدة بضمة وهمزة مفتوحة، الرفق والتأني والتثبت يقال: أتأد في فعله إذا تأنى وثبت ولم يعجل، بخلاف النزول.(3/427)
(أو) يخطب على (موضع عال) إن عدم المنبر(1) لأنه في معناه(2) عن يمين مستقبل القبلة بالمحراب(3)، وإن خطب بالأرض فعن يسارهم(4).
(و) أن (يسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم)(5). لقول جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم، رواه ابن ماجه(6).
__________
(1) وفاقا: ليحصل المقصود من الإبلاغ.
(2) أي في معنى المنبر، فإنه مماثلة ومشابهة، لاشتراكهما في المبالغة في الإعلام.
(3) يلي جنبه من جهة يمين المصلي في المحراب، لأن منبره صلى الله عليه وسلم كان كذلك، وأجمع المسلمون على ذلك في كل مصر.
(4) أي عن يسار مستقبلي القبلة، خلاف المنبر.
(5) وهذا مذهب الشافعي، وعمل الجمهور عليه،وقال في الإنصاف: بلا نزاع، وإنما قال مالك وأبو حنيفة، لا يسلم إن سلم إذا أقبل عليهم وهو على الأرض، ثم صعد المنبر لا يعيده، وهذا والله أعلم فيمن إقباله من عند المنبر، فإن السلام إذا صعده وأقبل عليهم، كما لو أتى من طائفة أخرى.
(6) وفيه ابن لهيعة، وله شواهد عن ابن عمر وغيره، وأصله مستفيض في الجملة، وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي: كان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر
يوم الجمعة استقبل الناس بوجهه، ثم قال: السلام عليكم، وقال ابن القيم: كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم، وقال القاضي وجماعة، لأنه استقبال بعد استدبار، أشبه من فارق قوما ثم عاد إليهم اهـ، أو لأنه إذا دخل المسجد يسلم على من هناك وعلى من عند المنبر إذا انتهى إليه.(3/428)
ورواه الأثرم عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن الزبير، ورواه النجاد عن عثمان(1) كسلامه على من عنده في خروجه(2) (ثم) يسن أن (يجلس إلى فراغ الأذان)(3) لقول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إذا صعد المنبر، حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب، رواه أبو داود(4)
__________
(1) يعني أنهم رضي الله عنهم كانوا يسلمون على المأمومين إذا صعد أحدهم المنبر وأقبل عليهم بوجهه.
(2) أي كما أنه يسن أن يسلم على من عنده في خروجه إليهم، قال الزركشي: لا نزاع فيما نعلم أنه يسلم عليهم إذا خرج عليهم كغيره اهـ، ورد هذا السلام واجب كغيره من كل سلام مشروع، فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
(3) وفاقا، وذكره ابن عقيل إجماع الصحابة ونقل عن أبي حنيفة خلاف، وعبارة الهداية لهم، وإذا صعد الإمام المنبر جلس فصار إجماعا.
(4) فإنه صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر جلس، وأخذ بلال في الأذان فإذا كمله أخذ صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل، وهذا مستفيض ثابت من غير وجه، واستمر عمل المسلمين عليه، وفي الصحيح وغيره، وكان التأذين
يوم الجمعة، حين يجلس الإمام، والحكمة والله أعلم ليعرف الناس جلوس
الإمام على المنبر، فينصتون له ولجلوسه سكون اللغط والتهؤ للإنصات والاستنصات لسماع الخطبة، وإحضار الذهن للذكر، ولأن الإمام يستريح بذلك من تعب الصعود ويتمكن من الكلام، التمكن التام، ولا نزاع في مشروعية الأذان عقب صعود الإمام المنبر، ولا يجوز تركه، قال في الإنصاف: بغير خلاف وهو الذي يمنع البيع، ويلزم السعي، لأنه الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين نزول آية { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ } فتعلقت الأحكام به إلا لمن منزله في بعد، فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون فيه مدركا للجمعة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأما السعي المسنون فمن طلوع الفجر عند الجمهور وسيأتي.
وأما الأذان الأول فزاده عثمان رضي الله عنه، فقد روى السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان في خلافة عثمان، وكثروا أمر يوم الجمعة بالأذان الثلث فأذن به على ذلك، رواه البخاري وغيره، وصعد من باب تعب، يقال: صعد في السلم والدرجة، يصعد في الجبل وعليه رقى.(3/429)
.
(و) أن يجلس بين الخطبتين(1) لحديث ابن عمر السابق(2).
__________
(1) أي ويسن أن يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة، قال جماعة، بقدر سورة الإخلاص.
(2) وهو قوله: يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم، والحديث رواه الجماعة من وجوه، وقال الترمذي: وهو الذي رآه أهل العلم، أن يفصل بين الخطبتين بجلوس اهـ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والجمهور أنه سنة ليس بواجب، ولا شرط فإن أبى أن يجلس بينهما فصل بسكتة، ولا يجب الجلوس، لأن جماعة من الصحابة منهم علي والمغيرة وأبي سردوا الخطبتين من غير جلوس، وأوجبها الشافعي.(3/430)
(و) أن (يخطب قائما) لما تقدم(1) (ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا)(2) لفعله عليه السلام، رواه أبو داود عن الحكم بن حزن(3) وفيه إشارة إلى أن هذا الدين فتح به(4).
__________
(1) أي ويسن أن يخطب قائما، لما تقدم في حديث ابن عمر من قوله: وهو قائم، واستفاض من غير وجه، ولا نزاع في سنيته، وقال ابن المنذر: وعليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار، ولا يجب لأنه ليس من شرطها الاستقبال فلم يجب لها القيام كالأذان، وأجمعوا على مشروعية القيام لقوله: { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } وعمل المسلمين عليه، ودخل كعب بن عجرة وعبد الرحمن بن أم الجهل يخطب قاعدا، فقال: انظروا إلى هذا الخبيث، يخطب قاعدا، وقرأ الآية، ومذهب الشافعي أن القيام مع القدرة شرط، للآية والأخبار، فعليه تتأكد سنيته، وحكى ابن عبد البر إجماع العلماء على أن الخطبة لا تكون إلا قائما لمن أطاقه.
(2) من عادة ما يحمل أي يسن ذلك، والقوس مؤنثة ومذكرة، والتأنيث أشهر، وجمعها أقواس، والعصا مقصور، والسيف معروف.
(3) قال: وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئا على قوس أو عصا، وفي سنده شهاب بن خراش، قال ابن حبان: كان ممن يخطئ كثيرا، وقال أحمد: لا بأس به، وحسنه الحافظ، وله شاهد وليس فيهما ذكر السيف.
(4) أي بالسيف ولم يحفظ أنه صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذه المنبر كان يرقاه بسيف ولا قوس، وقال ابن القيم: لم يحفظ أنه توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه يمد السيف على المنبر، إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهل قبيح من وجهين: أحدهما أن المحفوظ إنما هو الاتكاء على العصا أو القوس، والثاني أن الدين إنما قام بالوحي، وأما السيف فلحق أهل العناد والشرك ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت خطبه فيها إنما فتحت بالقرآن، ولم تفتح بالسيف، وإنما كان في الحرب يعتمد على قوس، وفي الجمعة على عصا وفاقا.(3/431)
قال في الفروع: ويتوجه باليسرى(1) والأخرى بحرف المنبر(2) فإن لم يعتمد أمسك يمينه بشماله أو أرسلهما(3).
(و) أن (يقصد تلقاء وجهه) لفعله عليه السلام(4) ولأن التفاته إلى أحد جانبيه إعراض عن الآخر(5) وإن استدبرهم كره(6) وينحرفون إليه إذا خطب، لفعل الصحابة، ذكره في المبدع(7)
__________
(1) أي ويتوجه الاعتماد على العصا أو القوس باليسرى.
(2) أي طرفه، فإن حرف كل شيء طرفه وجانبه.
(3) أي من جانبيه وسكنهما فلا يحركهما ولا يرفعهما في دعائه حال الخطبة.
(4) أي أنه عليه الصلاة والسلام يقصد تلقاء وجهه في الخطبة، إذا أقبل عليهم بعد صعوده المنبر، لا يخطب مستقبل القبلة، بل مستقبلا المأمومين قال ابن المنذر: هذا كالإجماع، وقال النووي: لا يلتفت يمينا ولا شمالا، قال ابن حجر، لأن ذلك بدعة.
(5) أي عن الجانب الآخر، وتخصيص لبعض المأمومين دون بعض.
(6) لما فيه من الإعراض عنهم ومخالفة السنة، فروى الطبراني وابن أبي شيبة وابن عدي وغيرهم من غير وجه، أنه يستقبل الناس، قال في المبدع: وظاهره أنه إذا التفت أو استدبر الناس أنه يجزئ مع الكراهة، صرحوا به في الاستدبار لحصول المقصود اهـ، وصح في الأصح وفاقا.
(7) أي ينحرف المأمومون إلى الخطيب فيستقبلونه، قال ابن مسعود: كان إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا، رواه الترمذي، وقد تقرر استقباله الناس وقت الخطبة، واستدارة أصحابه إليه بوجوههم من غير وجه.
وقال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم، يستحبونه اهـ، ولأنه الذي يقتضيه الأدب، وهو أبلغ في الوعظ، قال النووي: وهو مجمع عليه، قال إمام الحرمين: سبب استقبالهم له واستقباله إياهم واستدباره القبلة أن يخاطبهم، فلو استدبرهم كان قبيحا، وإن استقبلوه استدبروا القبلة، فاستدبار واحد واستقبال الجميع أولى من عكسه، ويتربعون حال الخطبة، وهو أخشع، وفي الصحيح مسلم أنه كان عليه الصلاة والسلام يفعله إذا صلى الفجر، وفي الصحيح عن ابن عمر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم محتبيا بيديه، وهو القرفصاء، وروي عن جماعة من الصحابة ويأتي.(3/432)
.
(و) أن (يقصر الخطبة)(1) لما روى مسلم عن عمار مرفوعا «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة»(2) وأن تكون الثانية أقصر(3) ورفع صوته قدر إمكانه(4).
(و) أن (يدعو للمسلمين)(5)
__________
(1) وفاقا، تقصيرا معتدلا، بحيث لا يملوا وتنفر نفوسهم، وخير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل.
(2) وله عن عثمان أنه خطب وأوجز، فقيل له: لو كنت تنفست، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة» وقوله «مئنة» بفتح الميم، وكسر الهمزة، أي علامة أو دلالة على فقهه، وحتى لا يملوها، ويكون قصرها معتدلا، فلا يبالغ بحيث يمحقها.
(3) أي ويسن أن تكون الثانية أقصر من الأولى، كالإقامة مع الإذان، والقراءة في الركعة الثانية أقصر من الأولى.
(4) أي ويسن أن يرفع صوته بالخطبة فوق القدر الواجب حسب إمكانه
ويجوز كلامه، ويفخم أمر الخطبة، ويظهر غاية الغضب والفزع، لحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب علا صوته، واشتد غضبه واحمرت
وجنتاه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ولأنه أوقع في النفوس، وأبلغ في الوعظ، ولذلك استحب المنبر، لأنه أبلغ في الإسماع، وأن يعربهما بلا تمطيط.
(5) ولا نزاع في ذلك، لفعله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة مستسقيا ولأنه كان إذا خطب أومأ، وأشار بأصبعه عند ذكر الله ودعائه، وأمن الناس، ولا يستحب رفع اليدين في الخطبة، قال المجد، بدعة، وفاقا للمالكية والشافعية وغيرهم.
وقال الشيخ: الأصح أنه مكروه، وإنما كان صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه إذا دعا، ورأى عمارة بشر بن مروان رفع يديه في الخطبة، فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة، رواه مسلم وغيره.(3/433)
لأنه مسنون في غير الخطبة، ففيها أولى(1) ويباح الدعاء لمعين(2).
__________
(1) أي لأن الدعاء للمسلمين مسنون في غير خطبة الجمعة، كصلاة الجنازة وغيرها، ففيها أولى، ويدعو لنفسه وللحاضرين بما فيه صلاح الدين والدنيا، قال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يختم خطبته بالاستغفار اهـ وينبغي أن يكون متغظا بما يعظ الناس به، ليحصل الانتفاع به،وذكر البغوي وغيره استحباب ختم الخطبة بقوله: أستغفر الله لي ولكم وعمل الأكثر عليه.
(2) كسلطان ونحوه، ولأن الدعاء مستجاب في الجملة، ولجوازه في الصلاة على الصحيح، فكيف بالخطبة، ودعا أبو موسى في خطبته لعمر، واستمر عمل المسلمين عليه، والأكثر بدون تعيين، وقال أحمد: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان، ولأن في صلاحه صلاح المسلمين، فأبيح ذلك أو استحب في الجملة، قال القاضي: والإمام العادل هو كل من نظر في شيء من أمور المسلمين من الولاة والحكام، قال ابن حامد: أما محبته إذا كان عدلا فلا أعلم خلافا في وجوبها.(3/434)
وأن يخطب من صحيفة(1) قال في المبدع: وينزل مسرعا(2) وإذا غلب الخوارج على بلد فأقاموا فيه الجمعة جاز اتباعهم نصا(3) وقال ابن أبي موسى: يصلي معهم الجمعة ويعيدها ظهرا(4).
فصل(5)
__________
(1) أي ويباح أن يخطب من صحيفة كقراءته في الصلاة من مصحف، وإن قرأ آية سجدة في أثناء الخطبة فإن شاء نزل فسجد، وإن أمكنه السجود على المنبر سجد عليه، وإن تركه فلا حرج.
(2) أي إذا فزغ من الخطبة أقيمت الصلاة، ونزل مسرعا، من غير فصل، ولا عجلة تقبح، وعليه العمل، وقاله ابن عقيل وغيره، وصوبه غير واحد، ونظرا في الفروع الإسراع فقال: لا فرق يعني بين التؤدة والإسراع.
(3) قاله ابن عقيل: قال القاضي: ولو قلنا من شرطها إمام، إذا كان خروجهم بتأويل سائغ، وتقدم ذكر صحتها خلف الفساق، والأئمة الجائرين والفجار.
(4) وتقدم قول الشيخ أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار، ولا يعيدون.
(5) في صفة صلاة الجمعة، وتحريم تعددها من غير حاجة، وذكر ما يسن من الغسل والطيب والتنفل قبلها، والراتبة بعدها وغير ذلك.(3/435)
(و) صلاة (الجمعة ركعتان) إجماعا حكاه ابن المنذر(1) (يسن أن يقرأ جهرا) لفعله عليه الصلاة والسلام(2) (في) الركعة (الأولى بالجمعة) بعد الفاتحة(3) (وفي) الركعة (الثانية بالمنافقين)(4) لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بهما، رواه مسلم عن ابن عباس(5)
__________
(1) وغيره، وذلك معلوم بالضرورة، كما علم عدد ركعات الصلوات الخمس لا ينكره إلا مكابر، وتقدم قول عمر: صلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، وقد خاب من افترى.
(2) نقله الخلف عن السلف، نقلا متواترا، وصار أمرا ظاهرا، مستمرا من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا، وأجمع المسلمون عليه، والحكمة في الجهر فيها وفي العيدين كونه أبلغ في تحصيل المقصود، وأنفع للجمع بل فيه من قراءة كلام الله عليهم، وتبليغه في تلك المجامع العظام، ما هو من أعظم مقاصد الرسالة.
(3) أي يقرأ جهرا بسورة الجمعة بعد فراغه من الفاتحة.
(4) بعد الفاتحة،وفاقا للشافعي، ولا نزاع في قراءة الفاتحة وسورة في كل ركعة منها، وقد استفاضت السنة بذلك، وجمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يستحبون ما جاءت به السنة في هذا وغيره.
(5) ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة
الجمعة والمنافقين، ولمسلم أيضا: في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالغاشية، وله أيضا: بسبح والغاشية فصح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ أحيانا بالجمعة والمنافقين، وأحيانا بسبح و (هل أتاك حديث الغاشية) ولا يستحب أن يقرأ من كل سورة بعضها، أو إحداهما في الركعتين فإن ذلك خلاف السنة، وعن أبي جعفر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بالجمعة والمنافقين، فأما سورة الجمعة فيبشر بها المؤمنين ويحرضهم وأما سورة المنافقين فيؤيس بها المنافقين ويوبخهم.
وقال شيخ الإسلام: أما القراءة فيها بسورة الجمعة فلما تضمنته من الأمر بهذه الصلاة، وإيجاب السعي إليها، وترك العمل العائق عنها، والأمر بإكثار ذكره ليحصل لهم الفلاح في الدارين، وأما القراءة بسورة المنافقين فلما فيها من التحذير للأمة من النفاق المردي والتحذير لهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن صلاة الجمعة وعن ذكره وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا ولا بد، وحظا لهم على الإنفاق الذي هو من أكبر سعادتهم وتحذيرا لهم من هجوم الموت وهم على حالة يطلبون الرجعة ولا يجابون إليها، ويتمنون الإقالة، وأما سبح والغاشية فلما فيهما من التذكير بأحوال الآخرة، والوعد والوعيد، ما يناسب قراءتهما في تلك الصلاة الجامعة، وربما اجتمع العيد والجمعة فقرأ بهما فيهما، كما رواه أبو داود وغيره.(3/436)
.
وأن يقرأ في فجرها في الأولى (الم) السجدة وفي الثانية (هل أتى)(1) لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بهما متفق عليه من حديث أبي هريرة(2).
__________
(1) وفاقا لأبي حنيفة والشافعي، وخالف مالك وغيره، وهم محجوجون بالأحاديث الصحيحة، الصريحة المروية من طرق عن أبي هريرة وابن عباس، قال النووي ويجوز رفع السجدة ونصبها.
(2) قال الشيخ: إنما كان عليه الصلاة والسلام يقرأ هاتين السورتين في فجر
الجمعة، لأنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر الموت،وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة، فكان في قراءتها هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، قال: ولا ينبغي المداومة عليها، بحيث يظن الجهال أنها واجبة، وأن تاركها مسيء، بل ينبغي تركها أحيانا، لعدم وجوبها اهـ.
قال أحمد: لا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن أنها مفضلة بسجدة اهـ، وجاءت السجدة تبعا، ليست مقصودة، حتى يقصد المصلي قراءتها.
قال الشيخ: ويحرم تحري قراءة سجدة غيرها، وقال: ولا يستحب أن يقرأ بسورة فيها سجدة أخرى، باتفاق الأئمة، ولا يفرقها، أو يترك بعضها، فإن السنة إكمالها.(3/437)
(وتحرم إقامتها) أي إقامة الجمعة وكذا العيد (في أكثر من موضع بالبلد)(1) لأنه عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم يقيموها في أكثر من موضع واحد(2) (إلا لحاجة)(3) كسعة البلد(4).
__________
(1) لغير حاجة، قال في المبدع والشرح وغيرهما: لا نعلم فيه خلافا إلا عن عطاء ويحرم إذن إمام فيها إذا.
(2) وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين من بعدي» الحديث، وفي تعطيل من حول المدينة مساجدهم، واجتماعهم في مسجد واحد أبين بيان بأن الجمعة خلاف سائر الصلوات، وأنها لا تصلى إلا في مكان واحد، ولم يحفظ عن السلف خلاف ذلك.
(3) فيجوز بحسبها، قال شيخ الإسلام: إقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في أكثر من موضع يجوز للحاجة، عند أكثر العلماء، لصلاة علي رضي الله عنه بضعفة الناس في المسجد.
(4) عن أهله، فيجوز، ولما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة
في الجانب الشرقي، وجمعة في الجانب الغربي، وجوز ذلك علماء العصر وذكر شيخ الإسلام الحجة لذلك.(3/438)
وتباعد أقطاره(1) أو بعد الجامع(2) أو ضيقه(3) أو خوف فتنة(4) فيجوز التعدد بحسبها فقط(5) لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في مواضع، من غير نكير، فكان إجماعا، ذكره في المبدع(6).
(فإن فعلوا) أي صلوها في موضعين أو أكثر بلا حاجة(7) (فالصحيحة ما باشرهم الإمام(8) أو أذن فيها).
__________
(1) فيشق على من منزله بعيد عن محلة الجمعة المجيء إليها، وقطر الشيء ناحيته وجانبه.
(2) عن طائفة من البلد، ولأن في الإلزام باتحاد الموضع حرجا بينا لاستدعائه تطويل المسافة على أكثر الحاضرين، ولا دليل على عدم جواز التعدد، وقضية الضرورة عدم اشتراطه.
(3) أي ضيق المسجد عن أهله ممن تصح منه، وإن لم يصل، وإن لم تجب عليه فيجوز لأن في الإلزام به مع ضيقه حرجا بينا لا تأتي به شريعة.
(4) كعداوة بين أهل البلد، يخشى لاجتماعهم في محل واحد إثارتها، قال الشيخ: تجوز إقامة جمعتين في بلد واحد لأجل الشحناء، بأن إذا حضروا كلهم وقعت بينهم الفتنة، ويجوز ذلك للضرورة إلى أن تزول الفتنة.
(5) أي بحسب الحاجة فحسب، في جميع ما تقدم، ونحوه مما يدعو لحاجة التعدد، فإن حصل الغناء بجمعتين لم تجز الثالثة، وهلم جرا، قال الموفق وغيره: لا نعلم في ذلك خلافا إلا ما روي عن عطاء، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من خلفائه أنهم فعلوا ذلك، إذ لم تدع الحاجة إليه وكذا العيد حكمه حكم الجمعة.
(6) وذكر الطحاوي وغيره من أتباع الأئمة أنه الصحيح، قال الشيخ الإسلام
يجوز للحاجة وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يقمها، هو ولا أحد من أصحابه في أكثر من موضع فلعدم الحاجة إليه، ولأن الصحابة كانوا يؤثرون سماع خطبته صلى الله عليه وسلم وشهود جمعته، وإن بعدت منازلهم، لأنه المبلغ عن الله عز وجل.
(7) أي من نحو ما تقدم.
(8) أي الأعظم أو نائبه.(3/439)
ولو تأخرت(1) وسواء قلنا: إذنه شرط أو لا(2) إذ في تصحيح غيرها افتيات عليه، وتفويت لجمعته(3) (فإن استويا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة)(4).
__________
(1) أي عن الثانية التي لم يباشرها، أو لم يأذن فيها، وإذا كانت التي أذن فيها هي السابقة فهي الصحيحة بلا نزاع.
(2) أي شرط في صحتها، أو قلنا: إذنه ليس شرطا، فإن ما باشرها أو أذن فيها هي الصحيحة مطلقا.
(3) وكلاهما لا يجوز، ولو أذن ولا حاجة لم يجز كما تقدم، لأن سقوط فرض على وجه لم يرد لا يجوز، ولأنه ما خلا عصر عن نفر تفوتهم الجمعة، ولم ينقل تجميع، بل صلوا ظهرا ولم ينكر، بل ذكر ابن المنذر، لا تجميع إجماعا، والإفتيات افتعال من الفوت، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار من مؤتمر، يقال: لا يفتات عليه، أي لا يعمل شيئا دون أمره.
(4) ولو كانت في المسجد الأعظم، والأخرى في مكان لا يسع الناس
أو لا يقدرون عليه، لاختصاص السلطان وجنوده به، أو كانت المسبوقة في قصبة البلد، والأخرى في أقصاه، فالسابقة منهما هي الصحيحة، ومن صور التساوي ما لو باشر واحدة وأذن في الأخرى، قال شيخ الإسلام، صرح العلماء ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام، وبغير حاجة داعية، وأوجبوا عليه الإعادة وقواعد الشرع تدل عليه، وذكر ما شرعت الجماعة له وتقدم.(3/440)
لأن الاستغناء حصل بالأولى، فأنيط الحكم بها(1)، ويعتبر السبق بالإحرام(2) (وإن وقعتا معا) ولا مزية لإحداهما بطلتا(3) لأنه لا يمكن تصحيحهما ولا تصحيح إحداهما(4) فإن أمكن إعادتها جمعة فعلوا(5) وإلا صلوها ظهرا(6) (أو جهلت الأولى) منهما بطلتا(7).
__________
(1) أي فتعلق حكم الصحة بالأولى لكونها سابقة.
(2) لا بالشروع في الخطبة، ولا بالسلام.
(3) لالتباس الصحيحة بالفاسدة، وذلك بأن أحرم إماماهما بهما في آن واحد.
(4) على الأخرى، فترجح بها، أشبه ما لو جمع بين أختين معا.
(5) وفاقا، لأنها فرض الوقت في مصر لم تصل فيه جمعة صحيحة، فوجب تداركها، وقال في الفروع: إن وقعتا معا صلوا جمعة وفاقا، واختار جمع الصحة مطلقا.
(6) أي وإن لا تمكن إعادتها في الوقت لفقد شرط من شروطها فإنهم يصلونها ظهرا، لأنها بدل عن الجمعة.
(7) ولا يعيدون جمعة، بخلاف ما قبلها.(3/441)
ويصلون ظهرا لاحتمال سبق إحداهما، فتصح ولا تعاد(1) وكذا لو أقيمت في المصر جمعات وجهل كيف وقعت(2) وإذا وافق العيد يوم الجمعة سقطت عن من حضره مع الإمام(3).
__________
(1) أي الجمعة، والفرق بينها وما قبلها أن ما قبلها لم يحتمل تصحيح إحداهما والتي هنا وما بعدها يحتمل.
(2) لأنه لم يعلم سبق إحداهما، أو علم ثم نسي، صلوا ظهرا، ولو أمكن فعل الجمعة، للشك في إقامة جمعة مجزئة، والظهر بدل عنها إذا فاتت، وقال بعض أهل العلم: إقامتها مجزئة، والشك في كونها مجزئة مطرح فتصح.
(3) أي سقطت الجمعة عمن حضر صلاة العيد مع الإمام في ذلك اليوم، لأنه عليه الصلاة والسلام صلى العيد، وقال: من شاء أن يجمع فليجمع، رواه أحمد من حديث زيد بن أرقم، ولأن يوم الجمعة عيد، ويوم الفطر والأضحى عيد، ومن شأن الشارع إذا اجتمع عبادتان، من جنس أدخل إحداهما بالأخرى، ولأن في إيجابها على الناس تضييق وتكدير لمقصود عيدهم، وما سن لهم فيه من السرور والانبساط فحينئذ تسقط الجمعة سقوط حضور، لا وجود فإن صلاها بعده لم يسقط الحضور، قال شيخ الإسلام، إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:(ثالثها) وهو الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة، ليشهدها من شاء شهودها، ومن لم يشهد العيد، وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف، وقال: هو المنقول الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه، وهو قول من بلغه من الأئمة، كأحمد وغيره، والذي خالفوهم لم يبلغهم ما في ذلك من السنن والآثار، ثم إنه يصلي الظهر إذا لم يشهد الجمعة، فتكون الظهر في وقتها.(3/442)
كمريض، دون الإمام(1) فإن اجتمع معه العدد المعتبر أقامها(2) وإلا صلى ظهرا(3) وكذا العيد بها، وإذا عزموا على فعلها سقط(4) (وأقل السنة) الراتبة (بعد الجمعة ركعتان)(5) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، متفق عليه من حديث ابن عمر(6).
__________
(1) وأما الإمام فيلزمه الحضور، للخبر السابق، وفيه من حديث أبي هريرة و«إنا مجمعون» رواه أبو داود وابن ماجه، ورواته ثقات، وكذا من لم يصل العيد مع الإمام، ومثل المريض من له عذر أو شغل يبيح ترك الجمعة، لا كمسافر وعبد، لأن الإسقاط للتخفيف، فلو حضرها وجبت عليه، وانعقدت به، وصح أن يؤم فيها، والأفضل له حضورها، خروجا من الخلاف.
(2) لما تقدم ولعدم المانع، وعليه فيجب أن يحضر مع الإمام من تنعقد به، لأنها هنا فرض كفاية، ومن لم يصل العيد يلزمه السعي إليها، بلغوا العدد أو لا قولا واحدا.
(3) أي وإلا يجتمع معه العدد المعتبر صلى ظهرا للعذر.
(4) أي وكذا تسقط صلاة العيد بصلاة الجمعة عمن حضرها، سقوط حضور إذا عزموا على فعلها، قبل الزوال أو بعده، لفعل ابن الزبير لما اجتمع يوم جمعة ويوم فطر، قال: عيدان اجتمعا في يوم واحد، فصلى ركعتين لم يزد عليهما وبلغ ابن عباس فقال: أصاب السنة، رواه أبو داود، ولجواز ترك الجمعة اكتفاء بالعيد.
(5) في المسجد أو في بيته، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
(6) وفي رواية: في بيته، وفي صحيح مسلم إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل
بعدها أربع ركعات، وروي عن ابن عمر، لفعله صلى الله عليه وسلم واختاره الموفق وغيره، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، والجمع بين الأخبار أنه إن صلى في بيته صلى ركعتين، وفي المسجد أربعا، واختاره الشيخ وتلميذه، وقال على هذا تدل الأحاديث.(3/443)
(وأكثرها ست) ركعات، لقول ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، رواه أبو داود(1)، ويصليها مكانه(2) بخلاف سائر السنن ففي بيته(3) ويسن فصل بين فرض وسنة، بكلام أو انتقال من موضعه(4).
__________
(1) ولفظه: إذا صلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين، ثم تقدم فصلى أربعا، وقال الشيخ وغيره، أدنى الكمال ست، وقال أحمد وغيره: إن شاء صلى ركعتين وإن شاء صلى أربعا، وإن شاء ستا، فأيها فعل ذلك فحسن، والكل كان يفعله صلى الله عليه وسلم.
(2) أي في دخول المسجد، لأنه لا يفصل بينها وبين سنتها، ويأتي أنه يفصل بينهما، وتقدم في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم يصليهما في بيته ركعتين، وأن «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»، قال ابن القيم: وهذا هو الأفضل.
(3) وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعا، كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين في بيته.
(4) لما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن توصل صلاة بصلاة، حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام وذلك لئلا يتخذ ذريعة إلى تغيير الفرض،
وأن يزاد فيه ما ليس منه، ويكفي الانتقال من موضعه.
قال شيخ الإسلام: والسنة أن يفصل بين الفرض والنفل،
في الجمعة وغيرها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولا يفعل
ما يفعله كثير من الناس، يصل السلام بركعتي السنة، فإن هذا ركوب لنهيه صلى الله عليه وسلم وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض وغير الفرض، كما يميز بين العبادة وغيرها.(3/444)
ولا سنة لها قبلها أي راتبة(1)
__________
(1) يعني قبل صلاة الجمعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته ويصعد المنبر، ثم يأخذ بلال في الأذان، فإذا كمله أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة، من غير فصل كما تقدم، وذكر الحافظ وغيره أن ما قبل دخول الوقت مطلقا نافلة لا راتبة، وأنه كان صلى الله عليه وسلم يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بالصلاة، وأن ما ذكر أنه لا يصلي بعدها، إلا ركعتين في بيته أنه لا ينبغي أن يتنفل قبلها ركعتين، متصلتين بها، خشية أن يظن أنها التي فرضت.
وقال شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم وجمع: لا سنة للجمعة قبلها، وهو أصح قولي العلماء، وعليه تدل السنة قال الشيخ: وهو مذهب الشافعي وأكثر أصحابه، وعليه جماهير الأئمة، لأنها وإن كانت ظهرا مقصورة فتفارقها في أحكام، وكما أن ترك المسافر السنة أفضل، لكون ظهره مقصورة اهـ، وجاء في الصحيحين وغيرهما أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وعد رواتب الصلوات، وفيه، وصلى بعد الجمعة ركعتين في بيته، وهذا صريح في أن الجمعة عند الصحابة صلاة مستقلة بنفسها غير الظهر، ولما لم يذكر لها راتبة إلا بعدها علم أنه لا راتبة لها قبلها، وهذا مما انعقد سبب فعله في عهده صلى الله عليه وسلم فإذا لم يفعله ولم يشرعه كان تركه هو السنة، قال أبو شامة، وما وقع من بعض الصحابة أنهم كانوا يصلون قبل الجمعة فمن باب التطوع، ولأنهم كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج الإمام، وذلك جائز وليس بمنكر، وإنما المنكر اعتقاد العامة منهم، وبعض المتفقهة أن ذلك سنة للجمعة قبلها، كما يصلون السنة قبل الظهر، وكل ذلك بمعزل عن التحقيق، والجمعة لا سنة لها قبلها كالمغرب والعشاء.
قال الشيخ: والأولى لمن جاء إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام، لما في الصحيح: «ثم يصلي ما كتب له»، وقال: بل ألفاظه صلى الله عليه وسلم فيها الترغيب في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة ، من غير توقيت، وهو المأثور عن الصحابة، كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر ، فمنهم من يصلي عشر ركعات، ومنهم من يصلي اثنتى عشرة ركعة، ومنهم من يصلي ثماني ركعات، ومنهم من يصلي أقل من ذلك، ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة موقتة بوقت، مقدرة بعدد، قال : والصلاة قبل الجمعة حسنة ، وليست بسنة راتبة، إن فعل أو ترك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال، وحينئذ فقد يكون الترك أفضل، إذا اعتقد الجهال أنها سنة راتبة؛ واختار أنه لا تكره الصلاة فيه وقت الزوال؛ لأن من جاء إلى الجمعة يستحب له أن يصلي إلى أن يخرج الإمام.(3/445)
.
قال عبد الله: رأيت أبي يصلي في المسجد إذا أذن المؤذن ركعتين(1) (ويسن أن يغتسل) لها في يومها(2).
__________
(1) يعني فيستدل به على استحباب الصلاة قبلها، لئلا يقال: لا نافلة لها قبلها مطلقها وقال ابن القيم في قول إسحاق بن إبراهيم: إن أبا عبد الله إذا كان يوم الجمعة يصلي إلى الزوال، وإذا أخذ المؤذن في الأذان قام فصلى ركعتين أو أربعا، قال: وقد أخذ من هذا بعض أصحابه، رواية أن للجمعة قبلها سنة، ركعتين أو أربعا، وليس هذا بصريح، بل ولا ظاهر، وإنما أتم تطوعه.
(2) وهو كالإجماع عن الصحابة، وحكى الترمذي وغيره أنه ليس بواجب عند الصحابة ومن بعدهم، وعن أحمد وغيره أنه واجب، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وأوجبه الشيخ على من له عرق أو ريح، وقال ابن عبد البر: أجمع علماء المسلمين قديما وحديثا على أن غسل الجمعة ليس بفرض، لقوله صلى الله عليه وسلم ومن اغتسل فالغسل أفضل، وليس بشرط إجماعا، ومن قال بوجوبه فتصح بدونه، وقوله صلى الله عليه وسلم واجب، محمول على تأكيد الاستحباب، كما يقال حقك على واجب، جمعا بين الأدلة، ويرشحه قرنه بالسواك والطيب وهما غير واجبين إجماعًا.(3/446)
لخبر عائشة لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا(1) وعن جماع وعند مضي أفضل(2).
__________
(1) رواه البخاري وغيره، أي لكان حسنًا، وذلك أنهم كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم، ومن العوالي، فيأتون في العباءة فيخرج منهم الريح، فقال: «لو أنكم تطهرتم»، إلخ، ولأبي داود وغيره عن ابن عباس في بدء الغسل، كان الناس يلبسون الصوف، ويعملون والمسجد ضيق، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وقد عرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح، آذى بعضهم بعضا، فأمرهم بالغسل، والمس من الطيب، فهو آكد الأغسال المستحبة مطلقا لهذه العلة، وفي الصحيحين وغيرهما «غسل الجمعة واجب على كل محتلم»، «ومن أتى الجمعة فليغتسل»، وقال ابن القيم: الأمر به مؤكد جدا، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر والبسملة، والوضوء من مس النساء والذكر، فالأحوط أن لا يخل به، ويجزئ ولو أحدث بعده، أو لم يتصل به المضي إليها، لا بعدها، فقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة، لم يغتسل للجمعة، ولا فعل ما أمر به، وكان أصله قصد التنظيف، وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس.
(2) لأنه أبلغ في المقصود، وظاهره ولو أدى إلى عدم التبكير المشروع يوم الجمعة، لقوله: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح»، الحديث رواه أهل السنن وعند مالك لا يجزئه إلا أن يتعقبه الرواح لها، وإذا نوى غسل الجنابة وغسل الجمعة أجزأ عنهما، كما لو أحرم بصلاة نوى بها الفرض وتحية المسجد قال:
النووي: وهو قول أكثر أهل العلم، ويؤيده قوله: «من غسل واغتسل»، وقال الموفق وغيره: بغير خلاف علمناه، وقال الماوردي: هو قول العلماء كافة، لأن غسل الجمعة يراد للتنظيف فإذا تعقبه غسل الجنابة لم يبطله بل هو أبلغ في النظافة ويستحب للمرأة، وهو مذهب مالك والشافعي وغيرهما، للعموم، وليس بطيب، والعلة موجودة فيها، وأما من لا يأتي الجمعة فلا غسل عليه.(3/447)
(وتقدم) وفيه نظر(1) (و) يسن (تنظيف وتطيب)(2) لما روى البخاري عن أبي سعيد مرفوعا: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر(3)
__________
(1) أي في قول الماتن: وتقدم ويجاب بأنه تقدم ذكر المصنف استحباب الغسل للجمعة في كتاب الطهارة، والمراد أنه يحتاج أن يعاد فيه النظر، أو يحتاج أن ينظر فيه، لإظهار ما يلوح فيها من فساد، ولا يقال: فيه نظر، في كلام مقطوع بفساده، ولا صحته، بل فيما كان فساده محتملا، فإن قيل في كلام مقطوع بفساده، كان كناية أو محاباة، وإن قيل فيما هو مقطوع بصحته كان عنادا ومكابرة.
(2) فتنظف بقص شارب، وتقليم ظفر، ونتف إبط ونحوه، لما رواه الطبراني وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقلم أظفاره، ويقص شاربه، يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة، وبقطع روائح كريهة، بسواك وغيره، وتطيب بما يقدر عليه وفاقا، ولو من طيب امرأته، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه، لتأكد الطيب والاتفاق على سنيته، وينبغي لمن أراد الاجتماع بالناس أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويزيل كل حال تغير فيه رائحة البدن، ويغسل الثوب إذا توسخ، لقوله: «أما يجد أحدكم ما يغسل به ثوبه»، رواه أبو داود.
(3) المراد به المبالغة في التنظيف، أو بأخذ الشارب والظفر والعانة، ونحو ذلك، وفي رواية له «وأن يستن»، أي يدلك أسنانه بالسواك، لتطيبه الفم الذي هو مجرى الذكر والمناجاة، وإزالة ما يؤذي الملائكة وبني آدم.(3/448)
ويدهن، ويمس من طيب امرأته(1) ثم يخرج، فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم أي خطب الإمام(2) إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى»(3) (و) أن (يلبس أحسن ثيابه)(4) لوروده في بعض الألفاظ(5).
__________
(1) هذا إن لم يتخذ لنفسه طيبا، وله عن سلمان «من طيب بيته» وهو مؤذن بأن السنة أن يتخذ المرء لنفسه طيبا، ويجعل استعماله له عادة، ويمس منه فيه، وهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع، والإدهان المراد به إزالة شعث الشعر به، وفيه إشارة إلى التزين يوم الجمعة، وحسن الرائحة ذلك اليوم.
(2) وفي رواية «ثم ينصت إذا تكلم الإمام».
(3) يعني التي قبلها، ونحوه للطبراني بإسناد حسن، وقال في آخره: «إلا كان كفارة لما بينه وبين الجمعة الأخرى، وما اجتنبت المقتلة، وذلك الدهر كله»، وأصل الحديث مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة، وذكر الحافظ وغيره أن التكفير مشروط بوجود ما ندب إليه من غسل وتنظف وتطيب أو دهن ولبس أحسن الثياب، والمشي بالسكينة، وترك التخطي، والتفرقة بين الاثنين، وترك الأذى، والتنفل، والإنصات، وترك اللغو، وغير ذلك مما أمر به ونهى عنه الشارع صلى الله عليه وسلم.
(4) وفاقا، وقال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } والجمعة آكد لكونها عيد الأسبوع.
(5) ولابن ماجه عن أبي هريرة، «ولبس من صالح ثيابه»، ولأحمد، «ولبس أحسن ثيابه»، ولأبي داود أنه يقول على المنبر «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبي مهنته»، ولابن ماجه: «أحسن ما زرتم الله في مساجدكم البياض»، وفي الصحيحين قال عمر: يا رسول الله ابتع هذه، فتجمل بها للجمعة والوفد؟
وأقره على مشروعية التجمل، وقال ابن بطال وغيره: وكان معهودا عندهم أن يلبس المرء أحسن ثيابه، ولا خلاف في استحباب ذلك، وقد تواردت الأخبار بالندب لمن وجد سعة أن يتخذ الثياب الحسان، للجمع والأعياد.(3/449)
وأفضلها البياض(1) ويعتم ويرتدي(2) (و) أن (يبكر إليها ماشيا)(3) لقوله صلى الله عليه وسلم ومشى ولم يركب(4) ويكون بسكينة ووقار(5).
__________
(1) أي أفضل ألوانها البياض، لما رواه الترمذي وغيره وصححه: «البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم».
(2) أي يلبس العمامة على رأسه، ويلبس الرداء يعني الملحفة يشتمل بها لعموم الآية والأخبار، وللطبراني: «إن الله وملائكته يصلون على المتعممين».
(3) أي يبكر إلى صلاة الجمعة أول النهار ماشيا وفاقا، قال في المبدع: ولو كان مشتغلا بالصلاة في منزله، ويأتي: «أن سبق أهل الزيارة يوم المزيد، بحسب سبقهم إلى الجمعة وتبكيرهم».
(4) وسيأتي وعن يزيد بن أبي مريم، قال: لحقني عبادة بن رافع وأنا أمشي إلى الجمعة، فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله :صلى الله عليه وسلم «من أغبرت قدماه في سبيل الله، حرمه الله على النار»، صححه الترمذي، وأصله في الصحيح، ولأحمد وغيره، «ثم مشي إلى الجمعة وعليه السكينة غفر له»، الحديث، وللطبراني: «فإذا أخذ في المشي كتب له بكل خطوة عشرون حسنة».
(5) لما تقدم في المشي إلى الصلاة ولأحمد من حديث أبي الدرداء «ثم مشى إلى الجمعة وعليه السكينة»، قال الحافظ: السكينة التأني في الحركات، واجتناب العبث، والوقار الهيبة، كغض البصر، وخفض الصوت، وعدم الالتفات، أو هما بمعنى واحد، والثاني مؤكد للأول.(3/450)
بعد طلوع الفجر الثاني(1) (و) أن يدنو من الإمام(2) مستقبل القبلة(3)
__________
(1) وفاقا للشافعي، لحديث: «من جاء في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة» لا قبل طلوع الفجر، لأنه ليس بوقت للسعي لها، وقال الحافظ: لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه ذهب إلى الجمعة قبل طلوع الشمس، أو عند انبساطها اهـ، والساعات في لسان الشارع وأهل اللغة الجزء من أجزاء الزمان، وقال ابن رجب: في أول الساعة ثلاثة أقوال، الأول من طلوع الفجر، وهو قول أحمد والشافعي، والثاني من طلوع الشمس، وهو قول طائفة من الشافعية والمالكية ومال إليه، والثالث من الزوال، وهو قول مالك، ولأبي داود بسند صحيح، «الجمعة اثنتا عشرة ساعة»، وذكر الساعات للحث على التبكير إليها، والترغيب في فضيلة السبق وتحصيل فضيلة الصف الأول، وانتظارها بالتنفل والقراءة والذكر.
(2) إجماعا للخبر، ولما تقدم في فضل الصف الأول، والدنو من الإمام، وغير ذلك، قال عبد الله، سارعوا إلى الجنة، فإن الله يبرز إلى أهل الجنة في كل يوم جمعة في كثيب كافور، فيكونون منه في القرب على قدر تسارعهم، فيحدث الله لهم من الكرامة ما لم يكونوا رأوه من قبل ذلك، وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله عز وجل على قدر رواحهم إلى الجمعات، الأول والثاني والثالث» الحديث، وسنده حسن، ولأبي داود: «احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد، حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها» وللطبراني «فيؤخر عن الجنة وإنه لمن أهلها»، وقال ابن القيم وغيره: قرب أهل الجنة يوم القيامة، وسبقهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة.
(3) لأنه خير المجالس، للخبر، ولا يكره الاحتباء وفاقا، ويقال له القرفصاء، وهو الجلوس على أليتيه، رافعا يديه إلى صدره، مفضيا بأخمص قدميه إلى الأرض
وكان أحمد يقصدها، ويقول: لا جلسة أخشع منها، وعن يعلى بن شداد قال: شهدت مع معاوية بيت المقدس، فجمع بنا فنظرت فإذا جل من في المسجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب، رواه أبو داود وعد جماعة من الصحابة، وقال: لم يبلغن أن أحدا كرهها، إلا عبادة بن نسي، وروى هو والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة، وحسنه الترمذي، وتعقب أن في إسناده ضعيفين، وقال ابن القيم: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاحتباء يوم الجمعة، لأنه ذريعة إلى النوم اهـ، وإذا نعس فليتحول عن موضعه، لقوله: «إذا نعس أحدكم في مجلسه، فليتحول إلى غيره»، صححه الترمذي، وإن كان الصواب وقفه، فإنهم اتفقوا عليه، حكاه النووي وغيره، وقال مالك: إن تحفظ من النعاس بوجه يراه منافيا له لم يتحول.(3/451)
.
لقول صلى الله عليه وسلم: «من غسل واغتسل(1) وبكر وابتكر(2)
__________
(1) أي أوجب على غيره الغسل بالجماع، واغتسل هو منه، وقيل: غسل رأسه، أو غسل أعضاءه للوضوء، أو غسل ثيابه، واغتسل للجمعة، وقيل: هما بمعنى واحد، وكرر للتأكيد، وقال القرطبي: أنسب الأقوال قول من قال: غسل زوجته.
(2) بكر بالتشديد أي خرج في بكرة النهار إلى الجمعة، وهو أوله، أو إلى الصلاة في أول وقتها،وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه، وابتكر أي بالغ في التبكير، وفي المطلع، بكر أسرع، وابتكر سمع أوائل الخطبة، كما يبتكر الرجل الباكورة من الفاكهة.
وفي النهاية: بكر سابق، وهذا واحد فعل وافتعل، وإنما كرر للمبالغة والتأكيد، قال الشافعي، من شأن الناس التهجير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام، قال البيهقي: هذا موجود في الأحاديث الصحيحة، وهو أنه رغب في التبكير إلى الجمعة والصلاة إلى خروج الإمام اهـ، فإن الصلاة من أفضل
العبادات وهي فيها أفضل من غيرها، لاختصاصها بمضاعفة الحسنات إلى سبعين
على سائر الأوقات، والتعجيل إلى المسجد، بدل من القربان، فإن الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام.
وجاء في الصحيحين وغيرهما من غير وجه فضل التهجير والرواح إلى الجمعة، والمراد به التبكير، يدل عليه مجموع الروايات، وصرح به علماء اللغة، ولاعتناء السلف الصالح بها كانوا يبكرون لها، قال الشيخ: وما نقل عن أهل المدينة من أنهم لا يبكرون فليس بحجة، فقد يكون الرجل يشتغل بمصالحه، ومصالح أهله، ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه، أفضل من رواحه إلى الجمعة من أول النهار.(3/452)
ومشى ولم يركب(1) ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ(2) كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة عمل صيامها وقيامها»، ورواه أحمد وأبو داود وإسناده ثقات(3) ويشتغل بالصلاة والذكر والقراءة(4).
(و) أن (يقرأ سورة الكهف في يومها)(5)
__________
(1) أي سار إليها على قدميه، ولم يركب دابة ولا غيرها، قال النووي وغيره: اتفقوا أنه يستحب لقاصد الجمعة أن يمشي، وأن لا يركب في شيء من طريقه إلا لعذر.
(2) دنا أي قرب من الإمام، فاستمع الخطبة، وهما شيئان مختلفان، فقد يستمع ولا يدنو، وقد يدنو ولا يستمع، فندب إليهما جميعا، «ولم يلغ»، أي لم يتكلم، ولم يشتغل بغير ما ندب إليه.
(3) ورواه الترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم وصححاه ورواه عبد الرزاق وغيره، وفي «آخره وذلك على الله يسير» وله شواهد كثيرة.
(4) أي إلى خروج الإمام للخطبة، لما في ذلك من تحصيل الأجر الجزيل، وكذا
بعد خروجه لمن لا يسمعه سرا، وفعله أفضل من سكوته، نص عليه وليس
له إقراء القرآن، ولا المذاكرة في الفقه، لئلا يشغل غيره عن الاستماع، ولا أن يجلس في حلقة.
قال الشارح: ويكره التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، رواه أحمد والشافعي وأبو داود والنسائي ويسجد للتلاوة حيث يسن، وإذا خرج الإمام يحرم ابتداء صلاة غير تحية المسجد للخبر، ويخفف ما ابتدأه ولو نوى أربعا صلى اثنتين ليستمع الخطبة.
(5) أي ويسن أن يقرأ السورة التي يذكر فيها أصحاب الكهف، في يوم
الجمعة، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، والكهف الغار في الجبل، والقصة مشهورة.(3/453)
لما روى البيهقي بإسناد حسن، عن أبي سعيد مرفوعا، «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين»(1).
__________
(1) ورواه النسائي والحاكم في صحيحه، وروي ليلة الجمعة، ولابن مردوية عن ابن عمر مرفوعا: «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه، إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين»، قال المنذري: «لا بأس به، وروي من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة وقي فتنة الدجال»، وقال في الإنصاف وغيره: يستحب أن يقرأ سورة الكهف في يومها أو ليلتها، وذكر الشيخ أنها مطلقة يوم الجمعة، ونقل عن الشافعي أنها نهارا آكد، وأولاها بعد الصبح، مسارعة للخير، والحكمة في تخصيصها أن فيها ذكر أحوال يوم القيامة، ويوم الجمعة شبيه به، لما فيه من اجتماع الناس، ولأن الساعة تقوم يوم الجمعة.(3/454)
(و) أن (يكثر الدعاء) رجاء أن يصادف ساعة الإجابة(1) (و) أن يكثر (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم) لقوله صلى الله عليه وسلم «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة» رواه أبو داود وغيره(2) وكذا ليلتها(3).
__________
(1) لحديث أبي هريرة: «إن في الجمعة ساعة، لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه» وأشار بيده يقللها متفق عليه.
(2) من حديث أوس بن أوس: «إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي»، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: «إن الله حرم على الأرض لحوم الأنبياء»، وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اكثروا علي من الصلاة في كل يوم الجمعة، فإن صلاة أمتي تعرض علي، في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة، كان أقربهم مني منزلة» رواه البيهقي، وروي عن أبي مسعود قال: «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، فإنه ليس أحد يصلي علي يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته» ولابن عدي عن أنس نحوه، وكذا في المراسيل عن الحسن وأمر به عمر بن عبد العزيز، فدلت هذه الأحاديث وغيرها، على مشروعية الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «من صلى علي صلاة واحدة، صلى الله عليها بها عشرا» وفضلها مشهور، قال الشيخ: والصلاة عليه بلفظ الحديث أفضل من كل لفظ، ولا يزاد عليه، كما في الأذان والتشهد، عند الأئمة الأربعة وغيرهم.
(3) أي وكما يسن أن يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة، كذلك يسن أن يكثر منها في ليلتها، لحديث: «أكثروا علي من الصلاة في ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا»، رواه البيهقي بإسناد جيد.(3/455)
(ولا يتخطى رقاب الناس)(1) لما روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر رأى رجلا يتخطى رقاب الناس، فقال له «اجلس فقد آذيت»(2).
(إلا أن يكون) المتخطي (إماما) فلا يكره للحاجة(3) وألحق به في الغنية المؤذن(4).
(أو) يكون المتخطي (إلى فرجة) لا يصل إليها إلا به(5)
__________
(1) وهو مذهب الشافعي وغيره، قال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك لأن الأذى يحرم قليله وكثيره، وهذا أذى، وقال: لا أعلم خلافا بين العلماء أن من بكر وانتظر الصلاة، وإن لم يصل في الصف الأول، أفضل ممن تأخر ثم تخطى إلى الصف الأول.
(2) وله من حديث أبي الدرداء: «ولم يتخط أحدا ولم يؤذه»، ومن حديث أبي أيوب، «ولم يؤذ أحدا» وفي الصحيح: «ولم يفرق بين اثنين» قال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم، كرهوا أن يتخطى الرجال رقاب الناس يوم الجمعة، وشددوا في ذلك، واختار النووي وأبو المعالي والشيخ وغيرهم تحريمه، وقال ليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس، ليدخل في الصف، إذا لم يكن بين يديه فرجة لايوم الجمعة ولا غيره، لأنه من الظلم، والتعدي لحدود الله وظاهر عبارتهم يحرم، ولو في غير صلاة الجمعة، كما صرح به الشيخ، والتفريق متناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما والقعود مكانه، وقد يطلق على مجرد التخطي، وفيه زيادة رفع رجليه على رءوسهما.
(3) بلا نزاع لأنه عليه الصلاة والسلام تخلص حتى وقف في الصف، إلا أن يجد طريقا فليس له التخطي.
(4) بين يديه، فلا يكره للحاجة، وكذا من كان بصدد أن يحتاج الإمام إلى استخلافه، وتقدم أن الغنية لعبد القادر الجيلاني رحمه الله.
(5) أي بالتخطي إلى أن يصل إليها، فلا يكره، ولا يكون ذلك معدودا من
الأذى.(3/456)
فيتخطى، لأنهم أسقطوا حق أنفسهم بتأخرهم(1) (وحرم أن يقيم غيره)(2) ولو عبده أو ولده الكبير(3) (فيجلس مكانه(4)) لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه، متفق عليه(5).
__________
(1) أي عنها، فجاز له أن يتخطاهم قال الحسن: ولأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ورغبوا عن الفضيلة، وذلك مثل الذين يصفون في آخر المسجد، ويتركون بين أيديهم صفوفا خالية، فلا حرمة لهم، وتخطيهم مما لا بد منه، وإن جلسوا في مكانهم، لامتلاء ما بين أيديهم، ولم يفرطوا إلا أنه لم تمكنهم الصلاة إلا بتخطيهم جاز، لأنه موضع حاجة.
(2) فيجلس مكانه وفاقا، وله أن يقيمه وعلى القاعد أن يفارقه.
(3) لأنه ليس بمال، وإنما هو حق ديني، فاستوى فيه السيد وعبده، والوالد وولده، ولو كانت عادته الصلاة فيه كمعلم للأخبار، قال أحمد فيمن يتأخر عن الصف الأول لأجل أبيه: لا يعجبني هو يقدر بر أبيه بغير هذا وفي رواية جماعة: لا طاعة للوالدين في ترك مستحب، وظاهره استثناء الصغير كما يأتي.
(4) قال المنقح وغيره: وقواعد المذهب تقتضي عدم الصحة، لأنه في معنى الغاصب.
(5) ولمسلم وغيره: «لا يقيمن أحدكم أخاه ثم يخالفه إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن» يقول: «تفسحوا» ولهما «من سبق إلى مكان فهو أحق به»، فمن سبق إلى
موضع مباح، سواء كان مسجدا أو غيره، في جمعة أو غيرها، لصلاة أو غيرها من الطاعات فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته منه، والقعود فيه.(3/457)
ولكن يقول: افسحوا، قاله في التلخيص(1) (إلا) الصغير(2) و(من قدم صاحبا له، فجلس في موضع يحفظ له)(3) وكذا لو جلس لحفظه بدون إذنه(4) قال في الشرح: لأن النائب يقوم باختياره(5) لكن إن جلس في مكان الإمام(6) أو طريق المارة(7) أو استقبل المصلين في مكان ضيق أقيم، قاله أبو المعالي(8).
__________
(1) للفخر ابن تيمية، ولفظ أحمد ومسلم، «ولكن ليقل افسحوا» وفي الصحيحين «ولكن تفسحوا وتوسعوا».
(2) حرا كان أو عبدا، أي فلا تحرم إقامته من الصف، لأن صلاته نفل وتقدم.
(3) فإن المحفوظ له المكان، يقيم الحافظ، ويجلس فيه، لأنه كنائبه في حفظه له، ونقل عن ابن سيرين أنه يرسل غلاما له يوم الجمعة، فيجلس مكانه، فإذا جاء قام الغلام فجلس محمد فيه.
(4) جاز جلوسه فيه، لقيامه باختياره عنه أشبه النائب.
(5) أي فلم يكره جلوسه فيه.
(6) أقيم لتعين مكانه، وألحق به المؤذن كالتخطي.
(7) يعني أو جلس في طريق المارة، جاء به للمبالغة، ومر يمر مرورا جاز والممر مكان المرور فإذا جلس به أقيم.
(8) لئلا يشغل المصلين، وأبو المعالي اسمه أسعد، وهو ابن منجا، تقدم.(3/458)
وكره إيثار غيره بمكانه الفاضل(1) لا قبوله(2) وليس لغير المؤثر سبقه(3) (وحرم رفع مصلى مفروش) لأنه كالنائب عنه(4)
__________
(1) ويتحول إلى ما دونه، كالصف الأول ونحوه، وكيمين الإمام، لما في ذلك من الرغبة عن المكان الأفضل، وظاهره، ولو آثر به والده ونحوه، قال في تصحيح الفروع، يكره مطلقا جزم به في الوجيز لقوله: «لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله»، فالإيثار بالقرب مكروه، هذا المذهب ويحتمل أن لا يكره، إذا كان الذي آثره من أهل الفضل، لأن تقديمهم مشروع، وقال ابن القيم: قولهم لا يجوز الإيثار بالقرب، لا يصح، وقد طلب أبو بكر من المغيرة أن يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوفد ثقيف، ففيه جوار طلب الإيثار بالقرب، وجواز الإيثار، وقد آثرت عائشة عمر بدفنه في بيتها، جواز النبي صلى الله عليه وسلم وسألها عمر، ولم تكره له السؤال، ولا لها البذل، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال، ولا لذلك البذل.
(2) أي لا يكره للمؤثر بفتح الثاء قبول المكان الأفضل، ولا رده.
(3) أي ليس لغير المؤثر بفتح الثاء، سبق المؤثر بفتحها أيضا، إلى المكان الذي أوثر به، لأنه قام مقام من آثره في استحقاق مكانه، أشبه ما لو تحجز مواتا، ثم آثر به غيره، بخلاف ما لو وسع في طريق لشخص، فمر غيره فيه.
(4) ولما فيه من الافتيات على صاحبه، والتصرف في ملكه بغير إذنه، أو الإفضاء إلى الخصومة وعنه: لا يحرم، لأنه لا حرمة له بنفسه، والفضيلة بالسبق بالبدن، بل ليس له فرشه، وجزم به في الوجيز وغيره، وقال الشيخ: وهل له أن يرفع
ذلك؟ فيه قولان: الثاني وهو الصحيح، أن لغيره رفعه، والصلاة مكانه لأن هذا السابق يستحق الصلاة في ذلك الصف المقدم، وهو مأمور بذلك أيضا،
وهو لا يتمكن من فعل هذا المأمور واستيفاء هذا الحق، إلا برفع ذلك المفروش
وما لا يتم المأمور إلا به فهي مأمور به، وأيضا وضعه هناك على وجه الغصب، وذلك منهي عنه، وقال: يجب رفع تلك السجاجيد ويمكن الناس من مكانها، مع أن أصل الفرش بدعة، ولو عوقبوا بالصدقة بها لكان مما يسوغ فيه الاجتهاد، وقال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يصلون على سجادة اهـ.
والمصلى أي السجادة أو نحوها يصلي عليها أو يضعها مكانه، كلمة عامية، والمفروش يعني المبسوط، وشبهه بالنائب لبقائه في مقامه.(3/459)
.
(ما لم تحضر الصلاة) فيرفعه(1) لأنه لا حرمة له بنفسه(2) ولا يصلي عليه(3).
__________
(1) أي ما لم يحضر ربه فلغيره رفعه والصلاة مكانه.
(2) وإنما الحرمة لربه الذي كان سبق إلى المكان، ولم يحضر.
(3) جزم جماعة بتحريمه، قال في الفروع: ولو صلى على أرضه ومصلاه بلا غصب صح، في الأصح، ورجح شيخ الإسلام وغيره أن له رفعه، والصلاة مكانه كما تقدم.
وقال: وما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش ونحوها إلى المسجد يوم الجمعة قبل صلاتهم، فهذا منهي عنه، باتفاق المسلمين، بل محرم، وهل تصح صلاته على ذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء، لأنه غصب بقعة في المسجد، بفرش ذلك المفروش فيها، ومنع غيره من المصلين، الذين يسبقونه إلى المسجد أن يصلي في ذلك المكان، والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى المسجد، فإذا قدم المفروش ونحوه، وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين: من جهة تأخره، وهو مأمور بالتقدم، ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد، ومنعه السابقين له، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه إذا حضر يتخطى رقاب الناس.
تتمة
قال: وما عليه أكثر أهل الوسواس من توقي الأرض وتنجيسها، باطل بالنص، وإن كان بعضه فيه نزاع، وبعضه باطل بالإجماع، أو غيره من الأدلة الشرعية، وقال: ولا نزاع بين أهل العلم في جواز الصلاة والسجود على المفارش، إذا كانت من جنس الأرض، كالخمرة والحصير ونحوهما، وإنما تنازعوا في كراهة ذلك على ما ليس من جنس الأرض، كالإنطاع المبسوطة، والبسط والزرابي، وأكثرهم يرخص في ذلك، وهو مذهب أهل الحديث، وكذا قال ابن بطال وغيره: إنه لا خلاف بين فقهاء الأمصار في جواز الصلاة على الخمرة، والخطابي وغيره في جواز استعمال الثياب اتقاء حر الأرض وبردها، وجاء الخبر بصلاته صلى الله عليه وسلم على الخمرة والحصير، وهو قدر طول الرجل، والخمرة دون ذلك فهي مصلى صغير، يعمل من سعف النخل، سميت بذلك لسترها الوجه والكفين، من حر الأرض وبردها.(3/460)
(ومن قام من موضع لعارض لحقه، ثم عاد إليه قريبا، فهو أحق به)(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قام من مجلسه ثم رجع إليه قريبا فهو أحق به» رواه مسلم(2).
__________
(1) ومفهومه أنه إذا كان قيامه لغير عذر سقط حقه، وصرح به الأصحاب، إلا أن يخلف مصلى أو وطاء ففيه وجهان، وإن قعد فيه غيره فله أن يقيمه وعلى القاعد أن يفارقه.
(2) وسبق فيهما من: «سبق إلى مكان فهو أحق به»، وللترمذي وصححه: «الرجل أحق بمجلسه، وإن خرج لحاجة ثم عاد فهو أحق بمجلسه»، وحكمه في التخطي إلى موضعه إذا قام لحاجة، حكم من رأى بين يديه فرجة.(3/461)
ولم يقيده الأكثر بالعود قريبا(1) (ومن دخل) المسجد (والإمام يخطب لم يجلس) ولو كان وقت نهي (حتى يصلي ركعتين(2) يوجز فيهما)(3) لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام، فليصل ركعتين» متفق عليه(4) زاد مسلم «وليتجوز فيهما»(5) فإن جلس قام فأتى بهما، ما لم يطل الفصل(6).
__________
(1) وفي الإنصاف: أنه مراد من أطلق، وقيده في الوجيز بما إذا عاد، ولم يتشاغل بغيره، والمراد والله أعلم ما لم تطل مفارقته له بحيث يعد راغبا عنه.
(2) إجماعا وتقدم ولا تجوز الزيادة عليهما، ولا تحصل بأقل من ركعتين ولا بصلاة جنازة ولو هنا إشارة إلى خلاف من قال يعتبر وقت النهي حال قيام الشمس يوم الجمعة، وتقدم.
(3) أي يستحب أن يخففهما ويسرع فيهما، وهو مذهب الشافعي، وجمهور أهل الحديث.
(4) في أحاديث متواترة، وكلها صريحة في الدلالة على استحباب صلاة ركعتين وكراهة الجلوس قبل أن يصليهما وقال غير واحد من السلف، منهم عمر رضي الله عنه: خروج الإمام يمنع الصلاة، فينقطع التطوع بجلوس الإمام على المنبر وفاقا، فلا يصلي أحد غير الداخل تحية المسجد، لأنه يشتغل بها عن سماع الخطبة، وخطبته تمنع الكلام، وفي الحاوي للشافعية، يحرم ابتداء نافلة والإمام يخطب إجماعا.
(5) ليسمع بعدهما الخطبة، وأوجز وتجوز بمعنى أسرع.
(6) أي بين جلوسه وقيامه لهما، لقوله عليه الصلاة والسلام: «قم فاركع ركعتين» متفق عليه، فإن طال الفصل لم يشرع له قضاؤهما، لفوات محلهما.(3/462)
فتسن تحية المسجد لمن دخله(1) غير وقت نهي(2) إلا الخطيب، وداخله لصلاة عيد(3) أو بعد شروع في إقامة(4) وقيمه(5) وداخل المسجد الحرام، لأن تحيته الطواف(6) (ولا يجوز الكلام والإمام يخطب) إذا كان منه بحيث يسمعه(7)
__________
(1) قصد الجلوس فيه أو لا، لعموم الأخبار غير ما استثناه الشارح، وما لم يكن متطهرا من الحدثين، وأن لا يكون حال الأذان فيجيبه، ثم يأتي بها، ليجمع بين الفضيلتين، وفي الفروع: ولعل المراد غير أذان الجمعة، فإن سماع الخطبة أهم، ولا تجب تحية المسجد إجماعا، وتجزئ راتبة وفريضة، ولو فائتتين عنهما وإن نواهما حصلا، كما تقدم، وإن كان في آخر الخطبة وغلب على ظنه أنه إن صلى التحية فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم يصل، بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يقعد لئلا يكون جالسا في المسجد قبل التحية.
(2) أي فيجلس ولا يصلي تحية المسجد، وتقدم الأمر بها.
(3) أما الخطيب فلا تستحب له صلاة تحية المسجد إذا دخل للخطبة، لأنه لم ينقل، وأما داخله لصلاة العيد فكذلك أيضا، لما ثبت أنه لم يصل قبلها، ويأتي إن شاء الله تعالى.
(4) لحديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وتقدم».
(5) أي وإلا قيم المسجد، فلا يصلي تحية المسجد كلما دخله، لتكرر دخوله فتشق عليه.
(6) يعني لمن طاف، لأنه يصلي ركعتي الطواف، فتنوب عن تحية المسجد، فإن لم يطف لم يجلس حتى يصلي ركعتين، لدخول المسجد الحرام في عموم المساجد بل هو أفضلها وأشرفها على الإطلاق فهو أولى.
(7) وفاقا لمالك وأبي حنيفة والأوزاعي وغيرهم قال ابن القيم: الإنصات
للخطبة إذا سمعها واجب، في أصح القولين اهـ، بل هو قول أكثر أهل العلم وحكى أنه قول عامة أهل العلم، وأحاديث النهي عن مس الحصا، والأمر بالإنصات تدل على لزوم إقبال القلب والجوارح على الخطبة، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، كرهوا أن يتكلم والإمام يخطب، وقالوا: إن تكلم غيره فلا ينكر عليه إلا بالإشارة اهـ، وإن لم يسمع الخطيب لبعده فلا يحرم عليه الكلام حينئذ واشتغاله بالقراءة والذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من سكوته نص عليه، ما لم يؤذ به، وذلك لعدم الحاجة إلى الاستماع.(3/463)
.
لقوله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } (1) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال: صه، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له» رواه أحمد(2).
__________
(1) قال بعض المفسرين: إنها نزلت في الخطبة، وسميت قرآنا لاشتمالها عليه، والأكثر على أنها القراءة في الصلاة، ولا مانع من العموم، والاستماع هو شغل القلب بالإسماع، والإصغاء للمتكلم والإنصات هو السكوت.
(2) من حديث علي، وله عن ابن عباس: «من تكلم فهو كالحمار يحمل أسفارا والذي يقول له: أنصت ليس له جمعة»، والمراد: لا جمعة له كاملة وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب، فقد لغوت»، وقال الطحاوي، تواترت به الروايات، وقال أبي لمن قال له متى الساعة ما لك من جمعتك إلا ما لغيت وقال سعد: لا جمعة له وصدقهما صلى الله عليه وسلم ولغوت أي قلت اللغو، واللغو الإثم والكلام الملغي الساقط، وقال النووي وغيره: الكلام حال الخطبة لغو، وقوله أنصت لغو، وهو في الأصل أمر بمعروف، فنهي عنه، تنبيها على أن غيره من الكلام أولى، ولأحمد وغيره عن علي مرفوعا: «إن الملائكة على باب المسجد يكتبون الناس على
قدر منازلهم فمن أتى الجمعة ودنا واستمع وأنصت ولم يلغ، كان له كفلان من الأجر، ومن لغا فلا جمعة له»، أي فلا فضل له، إذ لا ثواب من عبادة على فعل محرم، ويثاب على نفس الصلاة.(3/464)
(إلا له) أي للإمام فلا يحرم عليه الكلام (أو لمن يكلمه) لمصلحة(1) لأنه صلى الله عليه وسلم كلم سائلا وكلمه هو(2) ويجب لتحذير ضرير، وغافل عن هلكة(3) (ويجوز) الكلام قبل الخطبة وبعدها(4) وإذا سكت بين الخطبتين(5).
__________
(1) كأمر بمعروف وفاقا، والمصلحة شرط في حق من كلم الإمام الخاطب لا في حق مخاطب.
(2) فكلم سليكا وكلمه، متفق عليه، وسأله عباس بن مرداس الاستسقاء متفق عليه أيضا، وسأل عمر عثمان، فأجابه وهو على المنبر، وغير ذلك ولأنه حال كلامه للإمام، وكلام الإمام له، لا يشغل عن سماع الخطبة.
(3) وعن بئر ونحوه، ومن يخاف عليه نارا، أو حية ونحو ذلك مما يقتله أو يضره، كما يجوز قطع الصلاة لذلك.
(4) بما يجوز، كذكر وحديث ونحوهما نص عليه لما رواه مالك والشافعي وغيرهما بإسناد جيد، عن ثعلبة بن مالك، قال: كانوا يتحدثون يوم الجمعة، وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن قام عمر، فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين، فإذا أقامت الصلاة، ونزل عمر تكلموا، وهو المنقول عن الصحابة، وقول جمهور العلماء، مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وأما حديث الدنيا فلا يجوز في المسجد، ولو لم يكن ثم خطبة.
(5) لأنه لا خطبة حينئذ ينصت لها، ولا يتصدق على سائل وقت الخطبة
لأنه فعل ما لا يجوز له فعله، وهو الكلام حال الخطبة، فلا يعينه على ما لا يجوز قال أحمد: وإن حصب السائل كان أعجب إلي، لأن ابن عمر فعل ذلك لسائل سأل والإمام يخطب يوم الجمعة، وعليه: فلا يناول السائل، إلا أن يكون سأل قبلها، ثم جلس، فيجوز التصدق عليه، وظاهر كلام جماعة يحرم السؤال كإنشاد الضالة.(3/465)
أو شرع في الدعاء(1) وله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها من الخطيب(2) وتسن سرا(3) كدعاء وتأمين عليه(4) وحمده خفية إذا عطس(5) ورد سلام(6) وتشميت عاطس(7).
__________
(1) أي ويجوز الكلام إذا شرع الخطيب في الدعاء، لأنه قد فرغ من أركان الخطبة، والدعاء لا يجب الإنصات له، وظاهر الأخبار العموم.
(2) لتأكدها إذا.
(3) أي وتسن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم حينئذ سرا إذا سمعها لئلا يشغل غيره بجهره بها، قال شيخ الإسلام اتفاقا.
(4) أي كما يسن دعاء الخاطب، وتأمين عليه سرا، إجماعا، قال شيخ الإسلام، ورفع الصوت قدام الخطيب مكروه، أو محرم اتفاقا، ولا يرفع المؤذن ولا غيره صوته بصلاته ولا غيرها.
(5) أي يجوز ولو سمع الخطيب لعموم الأمر به.
(6) بحيث يسمعه، ولا يسلم من دخل على الإمام ولا غيره، وللاشتغال بالخطبة واستماعها.
(7) بحيث يسمعه كرد سلام، لأنه مأمور به لحق آدمي، أشبه الدعاء فدل على أنه يجيب قاله في المبدع وغيره.(3/466)
وإشارة أخرس إذا فهمت ككلام(1) لا تسكيت متكلم بإشارة(2) ويكره العبث(3) والشرب حال الخطبة إن سمعها(4) وإلا جاز نص عليه(5).
__________
(1) لقيامها مقامه في البيع وغيره فتحرم حيث يحرم الكلام، لأنها في معناه.
(2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم إشارتهم للذي قال: متى الساعة؟ فيجوز أن يضع إصبعه على فيه، إشارة له بالسكوت، ولأن الإشارة تجوز في الصلاة، ففي حال الخطبة أولى.
(3) يعني حال الخطبة وفاقا، لقوله عليه الصلاة والسلام «من مس الحصا فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له»، صححه الترمذي، ولأن العبث يمنع الخشوع، ولا فرق بين العبث بيد أو رجل، أو لحية، أو ثوب، أو غير ذلك.
(4) أي إن سمع الخطبة، لأنه فعل يشتغل به، أشبه مس الحصا، وهذا ما لم يشتد عطشه، فلا يكره شربه، لأن العطش يذهب بالخشوع.
(5) أي وإن لم يسمع الخطبة جاز الشرب، نص عليه الإمام أحمد، وقال:إذا قرئ الكتاب يوم الجمعة على الناس بعد الصلاة أعجب إلي أن يسمع، إذا كان فيه فتح من فتوح المسلمين، أو فيه شيء من أمور المسلمين، وأما إذا كان فيه ذكرهم، أي تبجيلهم فلا يستمع.(3/467)
باب صلاة العيدين(1)
سمي به لأنه يعود ويتكرر لأوقاته(2) أو تفاؤلا(3).
__________
(1) أي صفتها وأحكامها، وما يتعلق بذلك، وهي مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وقد كان المشركون اتخذوا أعيادا زمانية ومكانية، فأبطلها الشرع، وعوض عنها عيد الفطر والأضحى، شكرا لله تعالى على أداء تلك العبادتين العظيمتين صوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، وهذه زمانية، والمكانية الكعبة والمشاعر، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قدم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: «قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما يوم النحر ويوم الفطر» قال السيوطي: وهي من خصائص هذه الأمة، ومناسبة اتباع العيدين بالجمعة ظاهرة، وهي أنهما يؤديان بجمع عظيم، ويجهر فيهما بالقراءة، ويشترط لكل منهما ما يشترط للآخر في الجملة، وتجب في قول، على من تجب عليه الجمعة، وإنما قدمت الجمعة للفرضية وكثرة وقوعها.
(2) ولاعتياد الناس له كل حين، أو لأنه يعود بالفرح والسرور، أو لأن لله فيه عوائد الإحسان على عباده في كل عام، منها الفطر بعد المنع عن الطعام، وصدقة الفطر، وإتمام الحج، ولحوم الأضاحي وغير ذلك.
(3) أي أو سمي اليوم المعروف عيدا تفاؤلا ليعود ثانية، كالقافلة، والأقوال ليست متباينة والعيد لغة لما يعود ويتكرر مرة بعد أخرى، ويعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، من العود وهو الرجوع، والمعاودة والاعتياد اسم مصدر، من عاد يعود، ثم صار علما على اليوم المخصوص، لعوده في السنة مرتين.(3/468)
وجمعه أعياد(1) (وهي) أي صلاة العيدين (فرض كفاية)(2) لقوله تعالى: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (3) وكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده يداومون عليها(4).
__________
(1) بالياء المثناة من تحت، وأصله الواو، وإنما عدل عنه للزومها في الواحد أو للفرق بينه وبين أعواد الخشب.
(2) هذا المشهور، لحديث الأعرابي المتفق على صحته، وعنه: فرض عين للآية وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها حتى النساء، وهو مذهب أبي حنيفة واختيار الشيخ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها مالك بن الحويرث وصاحبه، وعنه: سنة، وفاقا لمالك والشافعي، وجماهير العلماء من السلف والخلف، وللمرأة حضورها، قال الشيخ: ولا بأس بحضور النساء غير متطيبات، ولا لابسات ثياب زينة أو شهرة، لقوله عليه الصلاة والسلام، «وليخرجن تفلات ويعتزلن الرجال، ويعتزل الحيض المصلى»، بحيث يسمعن اهـ، وقيل بوجوبها على النساء، قالت أم عطية: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى تخرج الحيض، فيكن خلف النساء، فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم، وطهرته وكذا الصبيان لخبر ابن عباس، إظهار لشعائر الإسلام.
(3) يعني صلاة العيد، قاله عكرمة وعطاء وغيرهم، قال المجد والشارح: وهو المشهور عن المفسرين والأمر يقتضي الوجوب.
(4) وثبت بالتواتر عنه صلى الله عليه وسلم وبالاستقراء وأجمع المسلمون عليها، خلفا عن سلف، واشتهر في السير أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد الفطر، في السنة الثانية من الهجرة، ولم يزل يواظب عليها حتى فارق الدنيا، صلوات الله وسلامه عليه، ولأنها من أعلام الدين الظاهرة فكانت واجبة كالجمعة والجهاد.(3/469)
(إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام)(1) لأنها من أعلام الدين الظاهرة(2) (و) أول (وقتها كصلاة الضحى)(3) لأنه صلى الله عليه وسلم ومن بعده لم يصلوها إلا بعد ارتفاع الشمس، ذكره في المبدع(4).
__________
(1) كالأذان، فيقاتلون على تركها، وذلك مع استكمال شروطها فيهم، وقال عثمان: من الأصحاب من عبر هنا وفي باب الأذان بالاتفاق، وبعضهم بالترك، والظاهر أنه من قبيل الاحتباك، وهو أن يحذف من الجملتين ما يدل على الأخرى، فالتقدير: إذا حصل اتفاق وترك، قاتلهم الإمام، أما الاتفاق وحده، فهو عزم على الترك، لا ترك حقيقة، وكذا الترك بلا اتفاق، يكون جهلاً أو كسلاً أو تهاونًا، فلا يقاتلون عليه ابتداء، بل يؤمرون أولاً، فإن امتثلوا وإلا قوتوا لاجتماع الأمرين إذًا، أعني الترك والاتفاق اهـ. وكره أن ينصرف من حضر مصلى العيد ويتركها، كتفويتها من غير عذر، ويحرم على القول بوجوبها عينًا وإن لم يتم العدد إلا به وجب.
(2) وفي تركها تهاون بالدين.
(3) أي أول وقت صلاة العيدين، كأول وقت صلاة الضحى، وتقدم أن أول وقت صلاة الضحى، من ارتفاع الشمس قيد رمح،وبدليل الإجماع على أن فعلها ذلك الوقت أفضل، ولأنه قبل ارتفاع الشمس وقت نهي، كما لم يكن قبل طلوعها، ولو كان لها وقت قبل ذلك، لكان تقييده بطلوعها تحكما بغير نص، والاختلاف في الكراهة، وإلا فهي صحيحة، على كل من المذهبين.
(4) وقال: بدليل الإجماع على فعلها ذلك الوقت، ولم يكن يفعل إلا الأفضل اهـ واستمر عمل المسلمين عليه، ولأبي داود وابن ماجه بسند صحيح على شرط مسلم، عن عبد الله بن بسر، قال: ذلك حين التسبيح، أي حين يصلي صلاة الضحى
وللطبراني وذلك حين يسبح الضحى، وأحسن ما ورد في تعيين وقت صلاة العيدين حديث جندب، أورده الحافظ وغيره: كان يصلي بنا يوم الفطر، والشمس على قيد رمحين، والأضحى على قيد رمح، وقال بعضهم وهو من انبساط الشمس إلى الزوال، لا أعلم فيه خلافًا.(3/470)
(وآخره) أي آخر وقتها (الزوال) أي زوال الشمس(1) (فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده) أي بعد الزوال (صلوا من الغد) قضاء(2) لما روى أبو عمير ابن أنس عن عمومة له من الأنصار(3) قالوا: غم علينا هلال شوال، فأصبحنا صياما، فجاء ركب في آخر النهار(4) فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا غدا لعيدهم، رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وحسنه(5).
__________
(1) وهو ميلها عن كبد السماء، وهو آخر وقت صلاة الضحى.
(2) مطلقا وكذا لو مضى أيام ولم يعلموا بالعيد، أو لم يصلوها لفتنة أو نحوها، لأنها صلاة تقضى بعد فوتها بيوم، فكذا بأيام، ولو أمكن في يومها، وأما من فاتتة مع الإمام فيصليها متى شاء، لأنها نافلة، ليس فيها اجتماع.
(3) أبو عمير قيل: اسمه عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، معدود في صغار التابعين ثقة، عمر بعد أبيه زمانا طويلا، وعمومة جمع عم، كالبعولة جمع بعل، ولفظ أبي داود، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) وفي بعض طرقه، من رواية الطحاوي،أنهم شهدوا بعد الزوال، والركب جمع راكب.
(5) وصححه إسحاق بن راهوية والخطابي والنووي، والحافظ وغيرهم
ورواه النسائي وابن ماجه وغيرهما، والشاهد أن وقتها ينتهي إلى الزوال، إذ لو كانت تؤدى بعد الزوال لما أخرها إلى الغد، وخالف مالك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع، قال الخطابي: حديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب، وكالفرائض اهـ، ولأن العيد شرع له الاجتماع العام، وله وظائف دينية ودنيوية وآخر النهار مظنة الضيق عن ذلك غالبا وقال تعالى: { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * } .(3/471)
(وتسن) صلاة العيد (في صحراء) قريبة عرفا(1) لقول أبي سعيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى، متفق عليه(2) وكذلك الخلفاء بعده(3) (و) يسن تقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر فيؤخرها(4).
لما روى الشافعي مرسلا، أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم: «أن عجل الأضحى، وأخر الفطر، وذكر الناس»(5).
__________
(1) يعني قريبة من البنيان قربا معروفا، قال النووي: والعمل على هذا في معظم الأمصار، وحكاه الوزير اتفاقا، إلا ما روي عن الشافعية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين في المصلى، وهو المصلى المشهور، الذي على باب المدينة الشرقي، وكان يفعلهما فيه دائما، ولأن الخروج إلى الصحراء أوقع لهيبة الإسلام،وأظهر لشعائر الدين، وغير ذلك ولا مشقة في ذلك، لعدم تكرره، بخلاف الجمعة وإن أقام لضعفة الناس، وذوي العجز منهم من يصلي في المسجد جاز.
(2) ولم ينقل أنه صلاها في المسجد لغير عذر، والمصلى معروف، بينه وبين المسجد ألف ذراع، وعبر بالمصلى ليعم من تأتى منه وغيره.
(3) وعمل المسلمين عليه خلفا عن سلف، وفعله في المسجد من غير عذر بدعة مخالفة للشرع، والمراد سوى مكة والقدس، بالاتفاق.
(4) أي يسن تأخير صلاة عيد الفطر، لفعله صلى الله عليه وسلم وأمره، قال الشارح: لا أعلم فيه خلافا، والأضحى من الإضحاة وهو لغة في الأضحية.
(5) فدل على مشروعية تعجيل الأضحى، وتأخير الفطر، ليتسع وقت التضحية بتقديم صلاة الأضحى، من حين خروج وقت النهي، ولاستحباب الإمساك حتى يفرغ من الصلاة، فإنه ربما كان ترك التعجيل، مما يتأذى به منتظروا الصلاة لذلك، بخلاف عيد الفطر، فإنه لا إمساك ولا ذبح، وتخرج صدقة الفطر قبلها، وبالتأخير يتسع وقت الإخراج، فلا يشق على مخرجيها حينئذ، ويأتي الحث على عظة الناس، وأمرهم بتقوى الله، وحثهم على طاعته، والمرسل ضد المتصل، بأن يرويه تابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم.(3/472)
(و) يسن (أكله قبلها) أي قبل الخروج لصلاة الفطر(1) لقول بريدة: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي رواه أحمد(2).
__________
(1) قال الموفق وغيره: لا أعلم فيه خلافا، امتثالا لأمره تعالى بالإفطار، بعد امتثال أمره بالصيام، وأن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة، وقيل: لما وقع من وجوب الفطر عقب وجوب الصوم، والأكل فيه آكد من الإمساك في الأضحى.
(2) ورواه الترمذي والحاكم بنحوه، وعن جابر بن سمرة نحوه، ورواه البزار، وفي الصحيح عن أنس، كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدوا يوم الفطر حتى يأكل تمرات، أي إن كانت، وليأتي بالمأمور به حسا، وإن وجد شرعا، قال الشيخ: لما قدم الله الصلاة على النحر في قوله: { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وقدم التزكي على الصلاة في قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } كانت السنة أن الصدقة قبل الصلاة في عيد الفطر وأن الذبح بعد الصلاة في عيد النحر، وذكر أن مقصود الصوم التقوى، وهو من معنى التزكي وفرض بعده صدقة الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرفث فالصدقة من تمام طهرة الصوم، وكلاهما تزك، فتقدم على صلاة العيد.(3/473)
والأفضل تمرات وترا(1) والتوسعة على الأهل والصدقة(2) (وعكسه) أي يسن الإمساك (في الأضحى إن ضحى) حتى يصلي، ليأكل من أضحيته، لما تقدم(3) والأولى من كبدها(4) (وتكره) صلاة العيد (في الجامع بلا عذر)(5).
__________
(1) لما في رواية للبخاري من حديث أنس: ويأكلهن وترا.
(2) أي ويسن التوسعة على الأهل في يومي العيدين، للعموم، ولأنه يوم سرور، وتسن الصدقة فيهما، ليغني الفقراء عن السؤال.
(3) أي من قول بريدة: ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي، قال الشارح: لا أعلم فيه خلافا، فالحكمة في تأخير الأكل فيه ليأكل من أضحيته التي شرعها الله له، ويشكره عليها، وإن لم يضح خير بين أكله قبل الصلاة وبعدها، لما رواه الدارقطني عن بريدة، وكان لا يأكل يوم النحر، حتى يرجع فيأكل من اُضحيته، وإن لم يكن له ذبح لم يبال أن يأكل.
(4) لأنه أسرع تناولا وهضما، والكبد لحمة معروفة سوداء، من السحر في الجانب الأيمن.
(5) من مطر وغيره، يمنع الخروج وإلا فلا، لقول أبي هريرة أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا صلى الله عليه وسلم في المسجد، ورواه أبو داود والحاكم وصححه.(3/474)
إلا بمكة المشرفة(1) لمخالفة فعله صلى الله عليه وسلم(2) ويستحب للإمام أن يستخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد، لفعل علي رضي الله عنه(3) ويخطب لهم(4) ولهم فعلها قبل الإمام وبعده(5) وأيهما سبق سقط به الفرض، وجازت التضحية(6) (ويسن تبكير مأموم إليها) ليحصل له الدنو من الإمام(7) وانتظار الصلاة، فيكثر ثوابه(8) (ماشيا)(9).
__________
(1) فلا تكره صلاة العيد فيه، بل تسن فيه، لفضيلة البقعة وشرفها، ولمعاينة الكعبة المشرفة، وذلك من أكبر شعائر الدين وكذا بيت المقدس، لشرفه، ولسعتهما، ولم يزل المسلمون يصلونها بهما، خلفا عن سلف بلا نزاع.
(2) المشتهر عنه، في غير ما حديث، أنه كان صلى الله عليه وسلم يصليها في الصحراء.
(3) حيث استخلف أبا مسعود البدري، رواه أبو سعيد وغيره ويكره تعددها إجماعا بلا حاجة، كضيق الموضع ونحوه.
(4) إن شاء وهو المستحب لتكميل حصول مقصودهم وإن تركوا فلا بأس.
(5) لأنهم من أهل الوجوب، وقال ابن تميم وغيره: والأولى أن لا يصلوا قبل الإمام.
(6) أي بعد صلاة من سبق منهما، لأنها صلاة صحيحة.
(7) فيكثر ثوابه، فإنه يسن دنوه منه، كالجمعة وسائر الصلوات.
(8) لما تقدم في فضل انتظار الصلاة، وأنه في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه.
(9) أي يسن أن يكون سعيه إلى العيد ماشيا، وفاقا لمالك والشافعي، لتكتب خطاه.(3/475)
لقول علي رضي الله عنه: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا، رواه الترمذي وقال: العمل على هذا عند أكثر أهل العلم(1) (بعد) صلاة (الصبح(2) و) يسن (تأخر إمام إلى وقت الصلاة)(3) لقول أبي سعيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، رواه مسلم(4) ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر(5).
__________
(1) والحديث مداره على الحارث الأعور، وهو متفق على ضعفه، ولكن يشهد له ما تقدم، وهو مذهب جمهور أهل العلم، وإن ركب لعذر فلا بأس، والمراد لا بسبب منصب ورياسة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في العيد، وهو أفضل الخلق وأكملهم، وأرفعهم منصبا، ولا بأس بالركوب في العود مطلقا، وعند الأكثر، وفي صحيح مسلم في الرجل الذي كان منزله بعيدا من المسجد، وكان يمشي إليه، وقال: يا رسول الله إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إلى أهلي، فقال: «قد جمع الله لك ذلك كله»، وقال أبو المعالي: إن كان البلد ثغرا استحب الركوب، وإظهار السلاح والتكبير.
(2) يعني من يوم العيد، لا قبلها، وكان ابن عمر مع شدة اتباعه للسنة لا يخرج حتى تطلع الشمس، ويكبر من بيته إلى المصلى.
(3) بلا خلاف، وبداءته بها، من غير نافلة ولا جلوس.
(4) وقال مالك: مضت السنة عندنا في وقت الأضحى والفطر أن يخرج الإمام من منزله، قدر ما يبلغ مصلاه وقد حلت الصلاة.
(5) الأول بالبناء للمفعول، أي ينتظره المأمومون والثاني بالبناء للفاعل، أي لا ينتظر هو المأمومين.(3/476)
ويخرج (على أحسن هيئة) أي لابسا أجمل ثيابه(1) لقول جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتم، ويلبس برده الأحمر، في العيدين والجمعة، رواه ابن عبد البر(2) (إلا المعتكف فـ) يخرج (في ثياب اعتكافه) لأنه أثر عبادة، فاستحب بقاؤه(3)
__________
(1) متنظفا متطيبا، قاطعا للرائحة الكريهة، من بدنه، وثوبه، قياسا على الجمعة ولأنه يوم الجمال، ويوم الزينة، أبدل الله المسلمين به، وعوضهم من العيد الذي كانوا يتزينون فيه، ويجتمعون كل سنة.
(2) وللشافعي، كان عليه الصلاة والسلام يلبس بردا أحمر كل عيد، وعن جابر قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة يلبسها في العيدين، ويوم الجمعة رواه ابن خزيمة في صحيحه، وعن ابن عمر أنه كان يلبس في العيدين أحسن ثيابه، رواه البيهقي بإسناد جيد وفي الصحيحين في قصة الحلة وقول عمر: ابتعها فتجمل بها للعيد والوفد، وأقره صلى الله عليه وسلم على مشروعيته، وكالجمعة فإنه كان صلى الله عليه وسلم يلبس للخروج إليها أجمل ثيابه، بل العيد أولى، من وجوه عديدة والإمام أولى بذلك، لأنه منظور إليه، من بين سائر الناس، ويسن الغسل له، لأنه يوم يجتمع الناس فيه، فسن فيه، كالجمعة، وفيه حديثان ضعيفان، وآثار عن الصحابة جيدة، فقد ثبت عن ابن عمر، مع شدة اتباعه للسنة، أنه كان يغتسل للعيد قبل خروجه، وروي عن علي، وسلمة بن الأكوع وغيرهم، وحكى النووي وغيره الاتفاق على سنيته، للرجال والنساء والصبيان، لأنه يراد للزينة، وكلهم من أهلها، بخلاف الاستسقاء والكسوف، لعدم نقله، فتركه فيهما هو السنة.
(3) كالخلوف نص عليه، وفاقا للشافعي، ولو كان الإمام، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما على أحدكم أن يكون له ثوبان، سوى ثوبي مهنته لجمعته
وعيده، إلا المعتكف، فإنه يخرج في ثياب اعتكافه»، كذا أوردوه وقد رواه أبو داود وغيره، بسند ضعيف، بدون الاستثناء، وعنه: ثياب جيدة كغيره، وصرح به القاضي وغيره، وقال الشيخ: يسن التزين للإمام الأعظم، وإن خرج من المعتكف اهـ، وإن كان المعتكف خرج من اعتكافه قبل ليلة العيد، استحب له المبيت ليلة العيد في المسجد، والخروج منه إلى المصلى لصلاة العيد.(3/477)
.
(ومن شرطها) أي شرط صحة صلاة العيد (استيطان وعدد الجمعة)(1) فلا تقام إلا حيث تقام الجمعة(2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم وافق العيد في حجته ولم يصل(3) لا إذن إمام فلا يشترط كالجمعة(4).
__________
(1) أي التي يسقط بها فرض الكفاية، والله أعلم، لأن المنفرد تصح منه بعد صلاة الإمام، وبعد الوقت، وقال ابن نصر الله: المراد شرط وجوب صلاة العيد، لا شرط صحتها، وقال في الفروع: يشترط لوجوبها شروط الجمعة وفاقا اهـ، وقال المجد: ليست بدون استيطان وعدد سنة مؤكدة إجماعا.
(2) لأنها صلاة لها خطبة راتبة، أشبهتها، ويفعلها المسافر، والعبد، والمرأة والمنفرد تبعا لأهل وجوبها، لكن إن فاتت قضيت تطوعا، جماعة أو فرادى، وعنه لا يشترط صححه جماعة لصحتها من المنفرد، بعد بلا نزاع، ولأن أنسا كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام، جمع أهله ومواليه، فأمر عبد الله مولاه فصلى بهم ركعتين، وقال بعضهم: إن صلوا بعد خطبة الإمام، صلوا بغير خطبة لئلا يؤدي إلى تفريق الكلمة.
(3) بلا نزاع وقال الشيخ: لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه في السفر، واعتبر ابن عقيل الاستيطان رواية واحدة.
(4) قال الحافظ وغيره: وهو قول أكثر أهل العلم وحكي اتفاقا.(3/478)
(ويسن) إذا غدا من طريق (أن يرجع من طريق آخر)(1) لما روى البخاري عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى العيد، خالف الطريق(2) وكذا الجمعة(3) قال في شرح المنتهى: ولا يمنتع ذلك في غير الجمعة(4) وقال في المبدع: الظاهر أن المخالفة فيه شرعت لمعنى خاص فلا يلتحق به غيره(5).
__________
(1) أي غير الطريق الذي ذهب فيه إلى المصلى، إمامًا كان أو مأمومًا قال الحافظ وغيره: التعميم هو قول أثكر أهل العلم، وأما الإمام فقول عامتهم.
(2) وروى الترمذي وغيره بلفظ، إذا خرج من الطريق رجع في غيره، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة، ورواه الحاكم عنه مرفوعًا، ونحوه لأبي داود عن ابن عمر، وغير ذلك مما هو مستفيض، ولعل الحكمة في ذلك والله أعلم شهادة الطرق، أو سرورها بمروره، أو نيل بركته، أو ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق، أو ليغيظ المنافقين، برؤيتهم عزة الإسلام، وأهله، وقيام شعائره أو للتفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا، ونحو ذلك، أو الصدقة على فقرائها، قال ابن القيم: الأصح أنه لذلك كله، ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله عنها.
(3) أي يستحب له مخالفة الطريق فيها كالعيد.
(4) أي ليس يمتنع مخالفة الطريق في غير الجمعة، بل يستحب في غيرها، كما يستحب فيها.
(5) ولا يناس غيره، والوارد إنما هو في العيد، فيجب الوقوف مع النص، إذا لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم فيما سوى العيد، وكما أن الفعل سنة فالترك سنة.(3/479)
(ويصليها ركعتين قبل الخطبة)(1) لقول ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان يصلون العيدين قبل الخطبة، متفق عليه(2) فلو قدم الخطبة لم يعتد بها(3)
__________
(1) أجمع المسلمون على أن صلاة العيدين ركعتان كغيرها، أركانًا وشروطًا ووجبات وسننًا ونقله الخلف عن السلف، وعلمه من ضروريات الدين، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر، فصلى ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدها، وقال عمر: «صلاة الفطر والأضحى ركعتان ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد خاب من افترى»، ورواه أحمد وغيره، وقال الشارح وغيره: بلا أذان ولا إقامة، لا نعلم فيه خلافًا يعتد به، لما روى مسلم عن جابر، صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد، غير مرة ولا مرتين، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة، وفي رواية: أن لا أذان للصلاة يوم الفطر، حين يخرج الإمام، ولا بعدما يخرج ولا إقامة ولا نداء ولا شيء، ولهما عنه وابن عباس قالا: «لم يكن يؤذن يوم الفطر، ولا يوم الأضحى» قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، أنه لا يؤذن لصلاة العيدين ولا لشيء من النوافل.
(2) وقد استفاضت السنة بذلك، وعليه عامة أهل العلم، وقال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أن صلاة العيدين قبل الخطبة، وقال الحافظ: الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، وقد عده بعضهم إجماعًا، ولم يلتفت إلى خلاف بني أمية.
(3) وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، وقال المجد، هو قول أكثر العلماء وحكمة
التأخير هنا والله أعلم أن خطبة الجمعة شرط للصلاة، والشرط مقدم على المشروط بخلاف خطبة العيد، وأيضًا صلاة العيد فرض، وخطبتها سنة، والفرض أهم فلا يعتد بها قبل الصلاة وما نقل أن عثمان رضي الله عنه قدم الخطبة على الصلاة، أواخر خلافته، فقال الموفق وغيره: لا يصح.(3/480)
.
(يكبر في الأولى بعد) تكبيرة (الإحرام والاستفتاح(1) وقبل التعوذ والقراءة ستًّا) زوائد(2) (وفي) الركعة (الثانية قبل القراءة خمسًا)(3) لما روى أحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة، سبعًا في الأولى، وخمسا في الآخرة إسناده حسن(4)
__________
(1) تكبيرة الإحرام ركن، وفاقًا، لا تنعقد الصلاة بدونها، ثم يستفتح بعدها بما يستفتح به في الصلاة، لأن الاستفتاح لأول الصلاة.
(2) أي على تكبيرة الإحرام، وفاقًا لمالك، ثم يتعوذ عقب التكبيرة السادسة لأن التعوذ للقراءة فيكون عندها، ولا يفصل بين التكبيرة والتعوذ بذكر، في كلا الركعتين، لأن الذكر إنما هو بين التكبيرتين كما يأتي، وليس بعد التكبيرة الأخيرة، سوى القراءة وكون التكبيرات الزوائد بعد الاستفتاح، وقبل التعوذ هو قول العلماء كافة إلا أبا حنيفة.
(3) وفاقا لمالك، وعنه التكبيرات الزوائد سبع في الأولى، وخمس في الثانية وفاقا للشافعي، وحكاه الخطابي وغيره عن أكثر العلماء، من الصحابة والتابعين لحديث عمرو الآتي، وفيه سوى تكبيرة الصلاة، وعن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله رواه أبو داود وغيره.
(4) ورواه ابن ماجه، وصححه ابن المديني وغيره وفي رواية سبع في
الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما رواه أبو داود والدارقطني وصححه البخاري، وأحمد وقال: أنا أذهب إلى هذا، وللترمذي وحسنه عن كثير بن عبد الله، عن أبيه عن جده، في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا، وقال: هو أحسن شيء في هذا الباب، ولأبي داود عن عائشة نحوه، وقال البخاري: ليس في الباب شيء أصح من هذا، وبه أقول: وقال شيخ الإسلام: صح عنه هذا وهذا ولم يصح عنه غير ذلك، وقال ابن عبد البر: روي عنه صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة حسان، أنه كبر سبعًا في الأولى، وخمسًا في الثانية، ولم يرو عنه من وجه قوي ولا ضعيف خلافه، وهو أولى ما عمل به، وقال جابر مضت به السنة.(3/481)
.
قال أحمد: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز(1) (يرفع يديه مع كل تكبيرة)(2) لقول وائل بن حجر: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع
يديه مع التكبير، قال أحمد: فأرى أن يدخل فيه هذا كله(3) وعن عمر أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة، في الجنازة والعيد، وعن زيد كذلك رواهما الأثرم(4).
__________
(1) والمذهب هو الأشهر، فعن ابن عباس سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، ونحوه عن أبي هريرة وغيرهما، وعن عروة أن أبيًّا وزيدًا أمراه أن يكبر سبعًا وخمسًا، وهو مذهب الشافعي، وغيره من الأئمة، والفقهاء السبعة، وقال العراقي: هو قول أكثر أهل العلم، من الصحابة والتابعين والأئمة، وقال مالك، هو الأمر عندنا، وجاءت فيه الأحاديث المرفوعة، فهو سنة، قال الموفق: لا أعلم فيه خلافًا.
(2) نص عليه، وهو مذهب جمهور العلماء، أبي حنيفة والشافعي، والأوزاعي وداود وابن المنذر وغيرهم، ورواية عن مالك، وروي عن عمر، وقياسًا على الصلاة قاله الشافعي وغيره، وروى الأثرم عن ابن عمر، أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة، في الجنازة وفي العيد، ولم يعرف له مخالف من الصحابة.
(3) أي يدخل الرفع مع التكبير كله، لهذا الخبر وغيره، ووائل بن حجر هو ابن ربيعة بن وائل بن يعمر الحضرمي، كان أبوه من أقيال اليمن، ووفد هو على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «هذا سيد الأقيال»، نزل الكوفة وعقبة وكان بقية أولاد الملوك بحضرموت.
(4) ولأنه في حال القيام، فهي بمنزلة تكبيرة الاستفتاح.(3/482)
(ويقول) بين كل تكبيرتين (الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً(1) وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا)(2) لقول عقبة بن عامر: سألت ابن مسعود
عما يقوله بعد تكبيرات العيد، قال: يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الأثرم وحرب واحتج به أحمد(3).
__________
(1) وهذا من أبلغ الثناء على الله، والتقديس بما هو أهله، تعالى وتقدس، وبكرة عبارة عن أول النهار، وأصيلاً الوقت من بعد العصر إلى الغروب، وجمعه أصل وآصال وأصائل وأصلان.
(2) هذا المذهب وفاقًا، للشافعي وغيره، أنه يستحب ذكر الله بين كل تكبيرتين.
(3) وفيه: ثم يدعو ويكبر، وذكره ابن المنذر وغيره، ورواه البيهقي بإسناد
جيد عن ابن مسعود، قولاً وفعلاً، وقال حذيفة: صدق أبو عبد الرحمن، وقال شيخ الإسلام: يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو بما شاء، روي نحو هذا العلماء عن عبد الله بن مسعود اهـ وجمهور العلماء يرون هذه التكبيرات متوالية متصلة، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وعقبة ابن عامر هو ابن عبس بن عمرو الجهني، الصحابي المشهور، شهد الفتوح، وأمَّره معاوية على مصر، وتوفي في خلافته.(3/483)
(وإن أحب قال غير ذلك) لأن الغرض الذكر بعد التكبير(1) وإذا شك في عدد، التكبير بنى على اليقين(2) وإذا نسي التكبير حتى قرأ سقط، لأنه سنة فات محلها(3) وإن أدرك الإمام راكعًا أحرم ثم ركع، ولا يشتغل بقضاء التكبير(4).
وإن أدركه قائما بعد فراغه من التكبير لم يقضه(5) وكذا إن أدركه في أثنائه سقط ما فات(6) (ثم يقرأ جهرًا)(7) لقول ابن عمر: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء» رواه الدارقطني(8).
__________
(1) لا ذكر مخصوص، لعدم وروده، ولهذا نقل حرب أن الذكر غير موقت وقال شيخ الإسلام، بعد قوله يحمد الله إلخ وإن قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد اللهم اغفر لي وارحمني، كما جاء عن بعض السلف، كان حسنا، وكذا إن قال: الله أكبر كبيرًا، يعني ما تقدم، أو قال نحو ذلك، وليس في ذلك شيء موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه اهـ ولأنها تكبيرات حال القيام، فاستحب أن يتخللها ذكر، كتكبيرات الجنازة، وقال ابن القيم: كان يسكت بين كل تكبيرتين، سكتة يسيرة، ولم يحفظ عنه ذكر معين بين التكبيرات اهـ، ويضع يمينه على شماله بين كل تكبيرتين.
(2) وهو الأقل، وتقدم أن البناء على غالب الظن، في غالب أمور الشرع.
(3) وفاقًا، أشبه ما لو نسي الاستفتاح أو التعوذ، حتى شرع في القراءة وكذا إن نسي شيئًا منه، وكذا إن أدرك الإمام بعد التكبير الزائد، أو بعضه لم يأت به.
(4) إجماعًا، كما أنه لا يشتغل بقراءة الفاتحة في الفريضة فهنا أولى.
(5) وفاقًا، لفوات محله.
(6) وفاقًا لفوات محل ما فات منه.
(7) فيهما إجماعًا، ونقله الخلف عن السلف، واستمر عمل المسلمين عليه، ويؤيده قولهم: كان يقرأ في الأولى بكذا، وفي الثانية بكذا، ولا ريب أنه يسن الجهر لذلك.
(8) وسكت عليه شمس الحق، ويؤيده ما استفاض من غير وجه: كان يقرأ بـ (ق) وغيرها(3/484)
(في الأولى بعد الفاتحة بسبح(1) وبالغاشية في الثانية)(2) لقول سمرة: «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بـ «(سبح اسم ربك الأعلى)» و(هل أتاك حديث الغاشية)» رواه أحمد(3).
__________
(1) لأن فيها حثًّا على الصدقة، والصلاة في قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * } وغير ذلك.
(2) يعني بعد الفاتحة، للموالاة بين سبح وبينها، كما بين الجمعة والمنافقين وذكر الموفق وغيره أنه لا نزاع بين أهل العلم، في مشروعية قراءة الفاتحة، وسورة في كل ركعة، من صلاة العيد، قال ابن عبد البر والجمهور، بسبح وهل أتاك حديث الغاشية لتواتر الروايات بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) ولابن ماجه من حديث ابن عباس والنعمان مثله وروي عن عمر وأنس
وغيرهما وهذا أشهر الروايات وعنه: الأولى بـ (ق) والثانية بـ (اقتربت) اختاره الآجري وغيره، لما في صحيح مسلم والسنن وغيرها، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بـ (ق) و(اقتربت) لما اشتملتا عليه من الإخبار بابتداء الخلق والبعث والنشور، والمعاد، والقيام، والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب، والإخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس في العيد ببروزهم في البعث، وخروجهم من الأجداث، كأنهم جراد منتشر وغير ذلك من الحكم، وعنه لا توقيت، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، وقال شيخ الإسلام: مهما قرأ به جاز، كما تجوز القراءة في نحوها من الصلوات، لكن إن قرأ بـ (ق) و(اقتربت) أو نحو ذلك مما جاء في الأثر كان حسنًا، وكانت قراءته في المجامع الكبار بالسور المشتملة على التوحيد، والأمر والنهي، والمبدأ والمعاد، وقصص الأنبياء مع أممهم وما عامل الله به من كذبهم وكفر بهم وما حل بهم من الهلاك والشقاء، ومن آمن بهم وصدقهم، وما لهم من النجاة والعافية.(3/485)
(فإذا سلم) من الصلاة (خطب خطبتين كخطبتي الجمعة) في أحكامها حتى في الكلام(1).
__________
(1) يعني حال الخطبة من أنه يحرم، كما يحرم في الجمعة، إلا للإمام أو من يكلمه نص عليه، وصححه في تصحيح الفروع وغيره، قال النووي: المعتمد فيه القياس على الجمعة، وقال الزركشي: السنة أن يخطب خطبتين، يجلس بينهما، لما روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السنة أن يخطب الإمام في العيدين
خطبتين، يفصل بينهما بجلوس، رواه الشافعي، ولابن ماجه عن جابر، خطب قائما ثم قعد قعدة، ثم قام، وفي الصحيح وغيره: بدأ بالصلاة ثم قام متوكئًا
على بلال فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، الحديث ولمسلم: ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم ويندب جلوسه إذا صعد
المنبر، نص عليه، ليستريح ويتراد إليه نفسه، ويتأهب الناس للاستماع كما تقدم في خطبة الجمعة، وقيل: لا لأن يوم الجمعة للأذان، ولا أذان هنا.(3/486)
إلا في التكبير مع الخاطب(1) (يستفتح الأولى بتسع تكبيرات) قائمًا نسقًا(2) (والثانية بسبع) تكبيرات كذلك(3) لما روي سعد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: يكبر الإمام يوم العيد، قبل أن يخطب، تسع تكبيرات، وفي الثانية سبع تكبيرات(4) (يحثهم في) خطبة (الفطر على الصدقة)(5).
__________
(1) فيكبر معه، صرح به الموفق، وغير واحد.
(2) وفاقا، والقيام فيهما سنة، فلو خطب قاعدًا أو على راحلة فلا بأس، لأنهما نافلة، أشبهت صلاة التطوع، وروي عن عثمان وعلي والمغيرة أنهم خطبوا على رواحلهم، وقائمًا حال من يستفتح، ونسقًا، أي متتابعات من غير ذكر بينهن يقال: نسقت الدر نسقا، من باب قتل، نظمته ونسقت الكلام عطفت بعضه على بعض، وكلام نسق، على نظام واحد استعارة من الدر.
(3) ويكون قائمًا حال تكبيره، كسائر أذكار الخطبة.
(4) قال أحمد: قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، إنه من السنة، وذكره البغوي وغيره عنه، واختار شيخ الإسلام وغيره: يفتتحها بالحمد، لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبة بغيره، وقال: «كل أمر ذي بال، لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم»، وقال ابن القيم: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير، وإنما روى ابن ماجه في سننه عن سعد، أنه كان يكثر التكبير أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين، وصوبه شيخ الإسلام.
(5) أي يحرضهم عليها، وينشطهم على فعلها.(3/487)
لقوله عليه السلام «أغنوهم بها عن السؤال في هذا اليوم»(1) (ويبين لهم ما يخرجون) جنسًا وقدرًا، والوجوب والوقت(2) (ويرغبهم في) خطبة (الأضحى في الأضحية ويبين لهم حكمها)(3) لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في خطبة الأضحى كثيرًا من أحكامها، من رواية أبي سعيد والبراء وجابر وغيرهم(4) (والتكبيرات الزوائد) سنة(5).
__________
(1) أي يوم عيد الفطر، وهو المقصود من شرعها، رواه الدارقطني، وغيره.
(2) فـ جنس كبّر وتمر وقدرًا، صاع ويأتي ويبين لهم من تجب عليه، وهو كل مسلم فضل له عن قوته ما يجب عليه، ومن تدفع إليه، من الفقراء وغيرهم، ويبين لهم وقت الوجوب، والإخراج ونحو ذلك.
(3) أي ما يجزئ في الأضحية، وما لا يجزئ، وما الأفضل، ووقت الذبح وما يخرجه من الأضحية ويبين لهم فضلها.
(4) فحديث أبي سعيد في الصحيحين: يعظهم ويوصيهم ويأمرهم وكذا حديث البراء «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له»، وذكر قصة شاة أبي بردة بن نيار، وحديث جابر: خطب الناس وفيه: ثم أتى النساء فوعظهن، وغير ذلك من الأحاديث وعن زيد بن أرقم: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: فما لنا فيها؟ قال: «بكل شعرة حسنة»، قال الحاكم: صحيح الإسناد.
(5) وفاقا: لا تبطل الصلاة بتركها عمدا ولا سهوا، قال الشارح: بغير خلاف علمناه.(3/488)
(والذكر بينها) أي بين التكبيرات سنة(1) ولا يسن بعد التكبيرة الأخيرة في الركعتين(2) (والخطبتان سنة)(3) لما روى عطاء عن عبد الله بن السائب قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد، فلما قضى الصلاة، قال: «إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب» رواه ابن ماجه، وإسناده ثقات(4) ولو وجبت لوجب حضورها واستماعها(5) والسنة لمن حضر العيد من النساء حضور الخطبة(6).
__________
(1) وفاقا، لأنه ذكر مشروع بين التحريمة والقراءة، أشبه دعاء الاستفتاح فلا سجود لتركه.
(2) لعدم وروده، ولأنه إنما يليها القراءة.
(3) لا يجب حضورهما ولا استماعهما قال غير واحد: اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا نعلم قائلا بوجوبها، قال الموفق: إنما أخرت الخطبة عن الصلاة والله أعلم، لأنها لما لم تكن واجبة جعلت في وقت يتمكن من أراد تركها من تركها.
(4) ورواه أبو داود والنسائي، وقالا: مرسل، وقال ابن معين: غلط، الفضل ابن موسى في إسناده، وإنما هو عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(5) كخطبة الجمعة، فإنها واجبة إجماعًا وأما خطبة العيد فغير واجبة إجماعًا، وقال ابن مفلح: عدم الوجوب محمول على كمال الإنصات، وإلا فتركه بالكلية، والتشاغل باللغو غير جائز وفاقًا.
(6) لعموم «ليشهدن الخير ودعوة المسلمين» وأن نخرج فيهما الحيض والعتق.(3/489)
وأن يفردن بموعظة، إذا لم يسمعن خطبة الرجال(1) (ويكره التنفل) وقضاء فائتة (قبل الصلاة) أي صلاة العيد (وبعدها في موضعها) قبل مفارقته(2) لقول ابن عباس: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد، فصلى ركعتين، لم يصل قبلهما ولا بعدهما، متفق عليه(3) (ويسن لمن فاتته) صلاة العيد(4).
__________
(1) لأنه عليه الصلاة والسلام حيث رأى أنه لم يسمع النساء، أتاهن فوعظهن وحثهن على الصدقة، فدل على استحبابه في حقهن، لفعله المتفق عليه، من حديث جابر وغيره، وفيه: فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن وفي الصحيح فلما فرغ نزل، فأتى النساء، الحديث وكان عمر يخرج من استطاع من أهله في العيدين ويفردن بضم أوله وفتح ثالثه.
(2) أي موضع الصلاة، لئلا يتوهم أن لها راتبة قبلها أو بعدها، نص عليه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، واتباعًا للسنة، وجماعة الصحابة، إمامًا كان أو مأمومًا في صحراء أو في مسجد.
(3) وقال أحمد: أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها وقال الزهري: لم أسمع أحدًا من علمائنا يذكر أن أحَدا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ولا بعدها، ولئلا يقتدى بالمتنفل قبلها أو بعدها، أو قاضي الفائتة، وكان ابن مسعود وحذيفة ينهيان الناس عن الصلاة قبلها، فإن خرج فصلى في منزله، أو عاد للمصلى فصلى فيه فلا بأس، لما روى أحمد وغيره أنه صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى منزله صلى ركعتين.
(4) قضاؤها على صفتها، بأن يصليها ركعتين بتكبيراتها الزوائد استحبابا لأن القضاء يحكي الأداء، لكن لا يخطب، وإنما صح قضاؤها وحده، لأن الأولى يسقط بها الفرض، فسومح فيها ما لا يتسامح في الجمعة من استحباب كونها على صفة الأولى.(3/490)
(أو) فاته (بعضها(1) قضاؤها) في يومها، قبل الزوال، أو بعده (على صفتها) لفعل أنس(2) وكسائر الصلوات(3) (ويسن التكبير المطلق) أي الذي لم يقيد بأدبار الصلوات(4) وإظهاره وجهر غير أنثى به(5).
__________
(1) أي بعض صلاة العيد، سن له قضاؤه على صفته بلا نزاع، قاله الزركشي وغيره، لعموم «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» فإذا فاتته ركعة مع الإمام أضاف إليها أخرى، وكبر خمسًا، على أن ما أدرك أول صلاته وتقدم وإن أدرك أقل، أتمها على صفتها، بتكبيراتها الزوائد، وإن أدركه بعد التكبير الزائد، أو بعضه أو ذكره قبل الركوع لم يأت به، وإن أدركه في الخطبة جلس فسمعها ثم صلاها متى شاء.
(2) وهو أنه رضي الله عنه إذا لم يشهدها مع الإمام في البصرة، جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه، فصلى بهم ركعتين، يكبر فيهما ولحديث «من فاتته صلاة العيد فليصل أخرى» رواه الأثرم.
(3) أي وكما تقضي سائر الصلوات ولو كان منفردا لأنها صارت تطوعا لا اجتماع فيها.
(4) أي المكتوبات ويأتي، والتقييد التعيين، خلاف الإطلاق.
(5) أي ويسن إظهار التكبير المطلق، في حق كل من كان من أهل الصلاة، من مميز وبالغ، حر أو عبد، مسافر أو مقيم، ذكر أو أنثى من أهل القرى والأمصار، حكاه النووي وغيره إجماعا، ويسن جهر الكل به، غير أنثى فتخفيه لعموم قوله: { وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحيض «وليكبرن مع الناس».(3/491)
(في ليلتي العيدين)(1) في البيوت والأسواق، والمساجد وغيرها(2) ويجهر به في الخروج إلى المصلى، إلى فراغ الإمام من خطبته(3) (و) التكبير (في) عيد (فطر آكد) لقوله تعالى { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ } (4).
__________
(1) قال شيخ الإسلام: مشروع في عيد الأضحى بالاتفاق، وكذلك هو مشروع في عيد الفطر، عند مالك والشافعي وأحمد، وذكره الطحاوي مذهبَا لأبي حنيفة، وقال داود هو واجب في عيد الفطر لظاهر الآية.
(2) في كل موضع يجوز فيه ذكر الله، قال أحمد: كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعا، ويتأكد في ليلتي العيدين، وفي الخروج إليهما لاتفاق الآثار عليه.
(3) لما أخرجه الدارقطني وغيره، عن ابن عمر، أنه كان إذا غدا يوم الفطر، ويوم الأضحى يجهر بالتكبير، حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام وقال ابن أبي موسى: يكبر الناس في خروجهم من منازلهم لصلاتي العيدين جهرًا حتى يأتي الإمام المصلى، فيكبر الناس بتكبير الإمام في خطبته، وينصتون فيما سوى ذلك، وعليه عمل الناس، وفي الصحيح: كنا نؤمر بإخراج الحيض، فيكبرن بتكبيرهم ولمسلم: يكبرن مع الناس، وهو مستحب عند العلماء كافة لما فيه من إظهار شعائر الإسلام، وتذكير الغير، وقال شيخ الإسلام: ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد، وهذا باتفاق الأئمة اهـ ثم إذا فرغت الخطبة يقطع التكبير المطلق، لانتهاء وقته.
(4) أي (تكملوا) عدة رمضان (ولتكبروا الله) عند كماله على ما هداكم#
قال الشيخ: والتكبير فيه أوكد، من حيث أن الله أمر به، وهو في النحر أوكد واختاره ونصره بأدلة منها أن يشرع أدبار الصلوات، وأنه متفق عليه، وأنه يجتمع فيه المكان والزمان، وأن عيد النحر أفضل من عيد الفطر، ولا يكبر فيه أدبار الصلوات، وغير ذلك وما جاء من أن الله أمر به، لا يقتضي أوكديته على عيد النحر.(3/492)
(و) يسن التكبير المطلق أيضا (في كل عشر ذي الحجة)(1) ولو لم ير بهيمة الأنعام(2) (و) يسن التكبير (المقيد عقب كل فريضة في جماعة) في الأضحى(3) لأن ابن عمر كان لا يكبر إذا صلى وحده(4).
__________
(1) من ابتداء العشر، إلى فراغ الخطبة، قال البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما والعشر هي الأيام المعلومات، والأيام المعدودات أيام التشريق، وهي ثلاث بعد يوم النحر وتأتي، ويستحب الاجتهاد في عمل الخير أيام العشر، من الذكر والصيام والصدقة وسائر أعمال البر، للأخبار.
(2) وقال الموفق والشارح: ويستحب إذا رآها.
(3) خاصة، لا في الفطر، قال الزركشي، بالإجماع الثابت بنقل الخلف عن السلف، ومفهومه لا يكبر عقب النوافل،وهو المذهب وفاقا، ومسافر ومميز كمقيم وبالغ في التكبير، عقب المكتوبة جماعة، للعمومات ويكره الفصل بينه وبين الفريضة، صرح به ابن نصر الله.
(4) قيل لأحمد: تذهب إلى فعل ابن عمر، أنه لا يكبر إذا صلى وحده؟ قال: نعم، وقال: هو أعلى شيء في الباب، وقال الشارح: ولنا أن قول ابن مسعود، وفعل ابن عمر، ولا مخالف لهما.(3/493)
وقال ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في جماعة رواه ابن المنذر(1) فيلتفت الإمام إلى المأمومين، ثم يكبر، لفعله عليه السلام(2) «من صلاة الفجر يوم عرفة»(3) روي عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم(4)
__________
(1) ورواه غيره من أهل الحديث وقال الموفق: ولنا أنه قول ابن مسعود: وفعل ابن عمر: ولا مخالف لهما في الصحابة فكان إجماعًا ولأنه ذكر مختص بوقت العيد، فأشبه الخطبة، وعنه: يكبر نظرا لإطلاق الآية والأحاديث وهو مذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء.
(2) رواه الدارقطني وابن أبي شيبة، وغيرهما، من حديث جابر، أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح من غداة عرفة، يقول: «الله أكبر»، إلخ من حديث علي وعمار، من صلاة الغداة ويقطعها صلاة العصر، آخر أيام التشريق.
(3) إلى عصر آخر أيام التشريق، إن كان محلا، قال جمع، وعليه عمل الناس في الأمصار، وسنة ماضية، نقلها أهل العلم، وأجمعوا عليها، واستمر عملهم عليها، وعرفات المشعر المعروف، اسم بلفظ الجمع فلا يجمع.
(4) رواها ابن أبي شيبة وغيره، والحاكم عن علي وعمار مرفوعًا، والدارقطني عن جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في صلاة الفجر يوم عرفة، إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، حين يسلم من المكتوبات، وفي لفظ: كان إذا صلى الصبح من غداة عرفة أقبل على أصحابه فيقول: «مكانكم» ويقول: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد»، فإن قيل: مداره على جابر بن زيد الجعفي وهو ضعيف قيل: روى عنه شعبة والثوري ووثقاه، وناهيك بهما، وقال أحمد: لم يتكلم في جابر في حديثه، إنما تكلم فيه لرأيه على أنه ليس في المسألة حديث مرفوع أقوى إسنادا منه ليترك من أجله وقيل له بأي حديث تذهب في ذلك؟ قال: بالإجماع عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود، ولأن الله تعالى يقول: { وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } وهي أيام التشريق، فيتعين الذكر في جميعها.
وقال النووي: هو الراجح، وعليه العمل في الأمصار، وقال شيخ الإسلام: أصح الأقوال في التكبير، الذي عليه جمهور السلف والفقهاء، من الصحابة والأئمة، أن يكبر من فجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق، عقب كل صلاة، لما في السنن «يوم عرفة ويوم النحر، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب، وذكر لله»، ولما رواه الدارقطني عن جابر، ولأنه إجماع من أكابر الصحابة وقال ابن كثير وغيره: هو أشهر الأقوال الذي عليه العمل.(3/494)
.
(وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق)(1) لأنه قبل ذلك مشغول بالتلبية(2).
__________
(1) سواء كان محرما أو محلا، وكون المحرم يكبر من صلاة الظهر يوم النحر، لأن التلبية تقطع برمي جمرة العقبة، ووقته المسنون ضحى يوم العيد، فكان المحرم فيه كالمحل فلو رمى جمرة العقبة قبل الفجر فكذلك حملا على الغالب، يؤيده أنه لو أخر الرمي حتى صلى الظهر، اجتمع في حقه التكبير والتلبية، فيبدأ بالتكبير لأن مثله مشروع في الصلاة، فهو بها أشبه، ويؤخذ منه تقديمه على الاستغفار والتهليل والتسبيح، وهو الذي عليه عمل الناس، وتكبير المحل، عقب ثلاث وعشرين فريضة، والمحرم عقب سبع عشرة، وأيام التشريق حادي عشر، وثاني عشر، وثالث عشر ذي الحجة سميت بذلك من تشريق اللحم، أي تقديده، أو من قولهم: أشرق ثبير، أو لأن الهدي لا يذبح حتى تشرق الشمس، والمغيا لا يدخل في الغاية إلا في ثلاث، المرفقين والكعبين في الغسل، وعصر آخر أيام التشريق في التكبير المقيد.
(2) وأول صلاة بعد قطع التلبية الظهر، ولو رمى قبل الفجر كبر عقبه.(3/495)
والجهر به مسنون إلا للمرأة(1) وتأتي به كالذكر عقب الصلاة، قدمه في المبدع(2) وإذا فاتته صلاة من عامة فقضاها فيها(3) جماعة كبر لبقاء وقت التكبير(4) (وإن نسيه) أي التكبير (قضاه) مكانه(5) فإن قام أو ذهب عاد فجلس(6) (ما لم يحدث، أو يخرج من المسجد) أو يطل الفصل لأنه سنة فات محلها(7).
__________
(1) فتخفيه لئلا يسمعها الرجال.
(2) يعني إذا صلت في جماعة مع رجال، ولا تجهر به مطلقا قال البخاري: كان النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان، وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق، مع الرجال في المسجد.
(3) أي في هذه الأيام التي يسن فيها التكبير.
(4) يعني إذا قضى فريضة، في أيام التكبير المقيد، من صلاة عامة الذي هو إذ ذاك فيه، فإنه يسن التكبير إذا صلاها جماعة، لأنها فريضة، فعلت في تلك الأيام، وصوب في تصحيح الفروع أنه تبع للصلاة في حكم المقضي، أي فليكبر.
(5) ولو بعد كلامه، ما لم يطل الفصل عرفًا.
(6) أي فإن قام من مكانه الذي صلى فيه، أو ذهب عنه، ناسيًا أو عامدًا عاد إليه، فجلس ثم كبر، لأن فعله جالسًا في مصلاه سنة، فلا تترك مع إمكانها وإن قضاه ماشيًا فلا بأس.
(7) أما الحدث فإنه مبطل للصلاة، والذكر تابع لها، وقال الموفق وغيره: الأولى أن يكبر، لأنه ذكر منفرد، فلا تشترط له الطهارة اهـ وأما الخروج من المسجد فلأن المسجد مختص بالصلاة، وقال الشافعي: يكبر، واختاره الموفق والشيخ، ولأنه ذكر بعد الصلاة فاستحب وإن خرج كالدعاء وأما طول الفصل فيفوت به محله، أشبه سجود السهو فلا يقضيه إذا.(3/496)
ويكبر المأموم إذا نسيه الإمام(1) والمسبوق إذا قضى، كالذكر والدعاء (2) (ولا يسن) التكبير (عقب صلاة عيد) لأن الأثر إنما جاء في المكتوبات(3) ولا عقب نافلة، ولا فريضة صلاها منفردا لما تقدم(4) (وصفته) أي التكبير (شفعًا(5) الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد)(6) لأنه عليه السلام كان يقول كذلك رواه الدراقطني(7).
__________
(1) ليحوز الفضيلة كالتأمين.
(2) أي يأتي بالتكبير كما يأتي بالذكر والدعاء لأنه ذكر مسنون بعد الصلاة فاستوى فيه المسبوق وغيره كالذكر قال الشارح وغيره: هو قول أكثر أهل العلم.
(3) قاله أبو الخطاب، والوجه الثاني: يكبر قال القاضي: هو ظاهر كلام أحمد، واختاره أبو بكر والموفق والشارح، لأنها صلاة مفروضة في جماعة وأخص بالعيد فكانت أحق بتكبيره.
(4) يعني من قول ابن مسعود، وكذا من فعل ابن عمر، وأقوال الأئمة في النافلة، وأعاده لما استثنى الماتن صلاة العيد، رفعا للإيهام.
(5) أي لا وترا، بل يقرن التكبيرة بأخرى، و(شفع العدد) يشفعه صيره شفعًا، أي أضاف إلى الواحد ثانيًا.
(6) لما تقدم، وقال الشيخ: صفة التكبير المنقول عن أكثر الصحابة، وقد روي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر الله أكبر إلخ وتقدم.
(7) عن جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح، من غداة عرفة، أقبل على أصحابه فيقول «مكانكم» فيقول: «الله أكبر» وتقدم.(3/497)
قاله علي، وحكاه ابن المنذر عن عمر(1) ولا بأس بقوله لغيره: تقبل الله منا ومنك، كالجواب(2).
__________
(1) ورواه بسند جيد عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، أنهما يكبران من فجر عرفة وإلى عصر آخر أيام التشريق، وأخرجه ابن أبي شيبة وغيره، عن ابن مسعود موقوفا، بسند جيد، وروي عن إبراهيم قال: كانوا يكبروا يوم عرفة، وأحدهم مستقبل القبلة، في دبر الصلاة، الله أكبر الله أكبر إلخ.
(2) أي لا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضا، بما هومستفيض بينهم، ويحتج لعموم التهنئة لمايحدث الله من نعمة،ويدفع من نقمة، بمشروعية سجود الشكر، والتعزية،وتبشير النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم رمضان وتهنئة طلحة لكعب، بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره له، والقياس تهنئة المسلمين بعضهم بعضًا بمواسم الخيرات، وأوقات وظائف الطاعات.
وقال شيخ الإسلام: وقد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يفعلونه ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره، وذكر الحافظ وغيره مشروعيته، وفيها آثار يحتج بها في مثل ذلك، والمقصود منها التودد وإظهار السرور، وهو في العيدين شعار الدين، وليس كسائر الأيام.
وفي النصيحة هو قول الصحابة، وقول العلماء،ومنه أن يقول لغيره بعد الفراغ من الخطبة، تقبل الله منا ومنك، وأحاله الله علينا وعليك، ونحو ذلك وكالجواب لمن قال له ذلك أن يقول له: تقبل الله منا ومنك، أو حاله الله علينا وعليك، وغير ذلك، مما جرت العادة به، ومنه المصافحة إن اتحد الجنس، لا أمرد،و قال أحمد: لا أبتدئ به، فإن ابتدأني أحد أجبته، وذلك لأن جواب التحية واجب، وأما الابتداء بالتهنئة فليس سنة مأمورًا بها، ولا هو أيضا مما نهي عنه.(3/498)
ولا بالتعريف عشية عرفة بالأمصار، لأنه دعاء وذكر، وأول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث(1).
__________
(1) قاله أحمد رحمه الله، لكن قيل له، تفعله أنت؟ قال: أما أنا فلا، والتعريف هو اجتماع الناس في المساجد عشية عرفة، للدعاء والذكر، حتى تغرب الشمس، كما يفعله أهل عرفة، والتحقيق أن الوقوف بعرفة عبادة مختصة، بمكان مخصوص، فلا يشبه هذا التعريف به، كسائر المناسك، بل مفسدة اعتقادية تتوقع بل نفس الوقوف، وكشف الرءوس يستلزم التشبه، وقال قتادة عن الحسن: أول من صنع ذلك ابن عباس، وسئل عنه اهحكم وحماد وإبراهيم فقالوا: محدث، وأجمع أهل العلم أن الأصل في العبادات التشريع، وقال شيخ الإسلام: بدعة، لم يره أبو حنيفة ومالك وغيرهما بغير عرفة، ولا نزاع بين العلماء أنه منكر، وفاعله ضال، ويستحب الاجتهاد في عمل الخير أيام عشر ذي الحجة، من الذكر والدعاء والصيام والصدقة، وسائر أعمال البر، لأنها أفضل الأيام لحديث «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من عشر ذي الحجة»، ويأتي لأحمد «فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير حضرا وسفراً».(3/499)
باب صلاة الكسوف(1).
يقال: كسفت بفتح الكاف وضمها، ومثله، خسفت(2).
__________
(1) أي صفتها وأحكامها وما يتبع ذلك، وهي سنة مؤكدة بالكتاب والسنة، واتفاق المسلمين، أما الكتاب فاستنبطها بعضهم من قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ } وأما السنة فقد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى الاتفاق على مشروعيتها جمع والكسوف آية من آيات الله، يخوف الله به عباده، ويعتبرهم فينظر من يحدث منهم توبة قال تعالى: { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } ولما كسفت الشمس، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد مسرعًا فزعا، يجر رداءه فصلى بالناس، وأخبرهم أن الكسوف آية من آيات الله، يخوف الله به عباده، وأنه قد يكون سبب نزول عذاب بالناس، وأمر بما يزيله، فأمر بالصلاة عند حصوله، والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، وغير ذلك مما يدفعه من الأعمال الصالحة حتى يكشف ما بالناس، وفيه الاستعداد بالمراقبة لله، والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال، وحدوث ما يخاف بسببه.
(2) بفتح الخاء وضمها، وهما بمعنى يقال: كسفت الشمس وخسفت وبالعكس، ويقال انكسفا وخسفا وخسفا وانخسفا، وكلاهما جاءت به الأخبار وقال ثعلب: أجود الكلام: خسف القمر، وكسفت الشمس، وهو الأشهر في ألسنة الفقهاء، والكسوف مصدر لازم يقال: كسفت الشمس كسوفًا، والكسف مصدر المتعدي: كسفها الله كسفًا، ومعنى الكسف التغير إلى سواد، والخسوف ذهاب النور أو النقصان وكسفت الشمس كأنها أسودت في المرأى، وذهب شعاعها وإنما حال القمر دونها، وخسف القمر، وقع في ظل الأرض.(3/500)
وهو ذهاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه(1) وفعلها ثابت بالسنة المشهورة(2) واستنبطها بعضهم من قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ } (3)
__________
(1) أي والكسوف ذهاب ضوء الشمس كله أو ضوء القمر كله أو بعض ضوء الشمس أو القمر، والمراد استتاره لا فقده لقوله «ينجلي» ونحوه القمر.
(2) المستفيضة من أمره وفعله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها، من وجوه كثيرة: منها ما أخرجاه من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافرغوا إلى ذكر الله، وإلى الصلاة» وفيهما أيضًا من حديث المغيرة، نحوه، وفي آخره «فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي» وفيهما من حديث جابر نحوه وفي آخره «فصلوا حتى ينجلي»، وفي رواية عن ابن مسعود، «فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم»، ومن حديث عائشة «حتى يكشف ما بكم»، ويأتي، وفي البخاري عن أبي موسى قال: «هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يخوف بها عباده، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره» وغير ذلك مما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالمسلمين صلاة الكسوف، يوم مات ابنه إبراهيم.
(3) أي اسجدوا لله عند كسوفهم والمراد على هذا التقدير الصلاة، عند طائفة من أهل العلم، فإنه حيث كان شرك المشركين منه بالشمس والقمر، وهو جعل حق رب العالمين لبعض الخلق، فالاستنباط بأن الله أمر بالسجود بعد ذكر أنها من آياته، ووقته عند تغيرهما، فاستنبطوا السجود من عمومها، ودل على أنه يسجد عند آياته، ويرشحه ما ورد في السنة، وقال زكريا الأنصاري: احتج بقوله { وَاسْجُدُوا للهِ } أي عند كسوفها، لأنه أرجح من احتمال أن المراد النهي عن عبادتهما، لأنهم كانوا يعبدون غيرهما، فلا معنى لتخصيصهما بالنهي، والمراد على تقديم تمام هذا الاحتجاج بالسجود الصلاة اهـ والحكمة في ذلك والله أعلم، لما يحصل عند ذلك من الخشوع، والمراقبة في تلك الحال المدهشة بحيث أن آيتين من أعظم آيات الله، لا صنع لهما، بل هما كسائر المخلوقات، يطرأ عليهما النقص والتغيير كغيرهما، ولأحمد «آيتان من آيات الله، يعتبر بهما عباده، فينظر من يحدث منهم توبة».(4/1)
.
(تسن) صلاة الكسوف (جماعة)(1) وفي جامع أفضل(2) لقول عائشة: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد: فقام وكبر، وصف الناس وراءه، متفق عليه(3).
__________
(1) وهو أفضل وفاقا، وقيل بوجوبها، وتقدم تأكد سنيتها وحكاه الوزير والنووي وغيرهما إجماعا، ومذهب مالك وأبي حنيفة يصلى لخسوف القمر فرادى، وثبتت الأحاديث بالتسوية، وجماعة بالنصب على التمييز، محول عن نائب الفاعل، ويصح جعله حالا، ويصح الرفع أي فيها.
(2) وفاقا، وتشرع في حق النساء، لأن عائشة وأسماء صلتا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري، ويسن أن ينادى لها «الصلاة جامعة» لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي الصلاة جامعة متفق عليه، واتفقوا على أنه لا يؤذن لها، ولا يقام.
(3) ولأحمد فافزعوا إلى المساجد، فإن لم يخرج الإمام لها صلوها جماعة، فإن لم يجدوا إمامًا يصلي بهم صلوها فرادى، وهذا مذهب مالك والشافعي.(4/2)
(وفرادى) كسائر النوافل(1) (إذا كسف أحد النيرين) الشمس والقمر(2) ووقتها من ابتدائه إلى التجلي ولا تقضى كاستسقاء وتحية مسجد(3) فيصلي (ركعتين)(4).
__________
(1) فلم يشترط لها الجماعة لا حضرًا ولا سفرًا، فلا يشترط لها الإيطان، ولا يشترط لها أيضا إذن الإمام وفاقا، لأنها نافلة، وكالجمعة وأولى، ويسن ذكر الله والدعاء والاستغفار والتكبير، والصدقة والعتق، والتقرب إلى الله ما استطاع العبد من القرب، لقوله: «فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله، وكبروا وصلوا وتصدقوا» الحديث متفق عليه، ولهما أنه أمر بالعتاقة، فيه.
(2) لقوله عليه الصلاة والسلام فإذا رأيتم ذلك «فصلوا»، متفق عليه، ولما تواتر من فعله صلى الله عليه وسلم وعبارة المقنع وغيره، إذا كسف الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة، وهو أولى حظا على المبادرة لقوله صلى الله عليه وسلم «فافزعوا إلى الصلاة»، وفي لفظ إلى المساجد وخرج يجر رداءه مسرعًا إليها صلوات الله وسلامه عليه.
(3) أي وقت صلاة الكسوف من ابتداء كسوف الشمس أو القمر، إلى تجليه لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا، حتى ينجلي» رواه مسلم.أي لا تقضي صلاة الكسوف بعد التجلي، كما لا تقضي صلاة الاستسقاء وتحية مسجد لفوات محلها، لقوله: إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة، فجعله غاية لها، فإن تجلى قبل أن يعلموا به لم يصل له وفاقا، ولأن المقصود منها زوال العارض، وعود النعمة بنورهما وقد حصل.
(4) بأربع ركعات، وأربع سجدات، كما ثبت من غير وجه، عن عائشة وجابر وابن عباس وعمرو بن العاص وغيرهم، وقال الشافعي وأحمد والبخاري
وابن عبد البر والشيخ وغيرهم: هذا أصح ما في الباب، وهو مذهب جمهور العلماء وباقي الروايات ضعيفة.(4/3)
ويسن الغسل لها(1) (يقرأ في الأولى جهرًا) ولو في كسوف الشمس(2) (بعد الفاتحة سورة طويلة) من غير تعيين(3) (ثم يركع) ركوعًا (طويلاً) من غير تقدير(4) (ثم يرفع) رأسه (ويسمع) أي يقول سمع الله لمن حمده، في رفعه (ويحمد) أي.
__________
(1) الصواب أنه لا ينبغي لتأكد سنية المبادرة إلى فعلها من حين العلم به، قال ابن القيم وغيره: الصحيح أنه لا يسن الغسل لها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لها، بل بادروا إلى فعلها.
(2) لحديث عائشة المتفق عليه، أنه صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف، وللترمذي وصححه أنه صلى صلاة الكسوف، فجهر بالقراءة فيها، قال أحمد وابن عبد البر: هذا أصح ما في الباب، وباقي الروايات معللة ضعيفة، وقال شيخ الإسلام: ثبت في الصحيح الجهر بالقراءة فيها، لكن روى في القراءة المخافتة، والجهر أصح اهـ والكسوف الذي صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فيه، إنما وقع أول النهار بلا نزاع.
(3) قاله في المبدع وغيره، واقتصر عليه في المقنع والمنتهى وغيرهما، وذكر جماعة يقرأ بالبقرة أو قدرها، وفي الصحيحين عن ابن عباس: قام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة، وحزرت عائشة أنه قرأ بها، وفي الثانية بآل عمران، وهذا مذهب مالك والشافعي، ومهما قرأ به من السور جاز، لعدم تعيين القراءة.
(4) جزم به جماعة، وفي الشرح وغيره: نحو مائة آية، وهو مذهب الشافعي، وقيل: بقدر معظم القراءة والأولى أن يكون نسبيا كالفريضة.(4/4)
يقول: ربنا ولك الحمد، بعد اعتداله كغيرها(1) (ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى(2) ثم يركع فيطيل) الركوع (وهو دون الأول(3) ثم يرفع) فيسمع ويحمد كما تقدم، ولا يطيل(4) (ثم يسجد سجدتين طويلتين)(5) ولا يطيل الجلوس بين السجدتين(6) (ثم يصلي) الركعة (الثانية كـ) الركعة (الأولى(7)).
لكن دونها في كل ما يفعل فيها(8) (ثم يتشهد ويسلم) لفعله عليه الصلاة والسلام(9)
__________
(1) يعني من الصلوات، وتقدم ما يقوله فيها.
(2) يعني دون القراءة في الأولى كمعظمها، وفي الشرح: آل عمران أو قدرها ومذهب مالك والشافعي، أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءة الفاتحة في القيام الثاني.
(3) نسبته إلى القراءة كنسبة ركوع الأولى من قراءة الأولى، قاله في المبدع وغيره، وفي الشرح نحوا من سبعين آية.
(4) يعني اعتداله وفاقا، وحكاه القاضي إجماع العلماء، لعدم ذكره في الرويات الصحيحة، ولا يقرأ بل يقول: ربنا ولك الحمد، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا إلى آخره، كما ثبت ذلك في الصحيحين من فعله صلى الله عليه وسلم.
(5) بالنسبة إلى القيام، قالت عائشة: ما ركعت ركوعا قط، ولا سجدت سجودا قط كان أطول منه، وهو ثابت من رواية جماعة، ولا يزيد عليهما إجماعًا، لأنه لم يرد في شيء من الأخبار.
(6) إجماعًا لعدم وروده.
(7) بركوعين طويلين، وسجودين طويلين، مثل ما فعل في الركعة الأولى إجماعًا للأخبار.
(8) وفاقًا، قال القاضي وغيره: القراءة في كل قيام أقصر مما قبله، وكذا التسبيح، وحكاه النووي وغيره اتفاق أهل العلم، والجمهور على إطالة الركوع والسجود نحو الذي قبله، للأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك.
(9) الذي استفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى بالمسلمين صلاة
الكسوف يوم مات ابنه إبراهيم، والأحاديث الصحيحة في ذلك كلها متفقة لا تختلف.(4/5)
كما روي عنه ذلك من طرق، بعضها في الصحيحين(1) ولا يشرع لها خطبة، لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بها دون الخطبة(2).
__________
(1) وكذا في المسانيد والسنن وغيرها، فمنها ما روت عائشة رضي الله عنها أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام وكبر، وصف الناس وراءه، فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعًا طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ثم كبر فركع ركوعًا طويلاً، هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ثم سجد ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات، وأربع سجدات وانجلت الشمس قبل أن ينصرف متفق عليه، ومنها ما رواه جابر وابن عمر وابن عباس وغيرهم من غير وجه، وفي بعض ألفاظ حديث جابر، حتى جعلوا يخرون.
(2) وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وإنما خطب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة ليعلمهم حكمها، وعنه: يخطب وفاقا للشافعي وجمهور السلف
لما في الصحيح عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله وكبروا، وصلوا وتصدقوا» إلخ فيسن أن يخطب، ويحذرهم الغفلة، والإغترار، ويأمرهم بالإكثار من الدعاء والاستغفار كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.(4/6)
ولا تعاد إن فرغت قبل التجلي(1) بل يدعو ويذكر كما لو كان وقت نهي(2) (فإن تجلى الكسوف فيها) أي الصلاة (أتمها خفيفة)(3) لقوله عليه السلام «فصلوا وادعوا، حتى ينكشف ما بكم» متفق عليه من حديث ابن مسعود(4).
__________
(1) وفاقًا لأنه سبب واحد، فلا يتعدد مسببه، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يزد على ركعتين.
(2) يعني من أنه يدعو ويذكر ولا يصلي، فكذلك إن فرغت الصلاة قبل التجلي، يدعو ويذكر للأمر بالدعاء والذكر، قال شيخ الإسلام: فإن فرغ من الصلاة قبل التجلي ذكر الله ودعاه، إلى أن يتجلى اهـ وتقدم أن ذوات الأسباب تفعل في أوقات النهي، للأدلة الدالة على ذلك، المخصصة لعموم النهي، فيصلي صلاة الكسوف إذا حصل الكسوف، ولو كان وقت نهي، للأمر المطلق بالصلاة إذا حصل الكسوف.
(3) لأن المقصود التجلي وقد حصل، وعلم منه أنه لا يقطعها لقوله: { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .
(4) وتقدم من حديث المغيرة وجابر، «حتى ينجلي» ومن حديث عائشة «حتى
يكشف ما بكم»، وغيرها من الأدلة، على أن الصلاة تكون وقت الكسوف إلى أن
يتجلى، قال شيخ الإسلام: والكسوف يطول زمانه تارة، ويقصر أخرى، بحسب ما يكسف منه، فقد تكسف كلها، وقد يكسف نصفها أو ثلثها، فإذا عظم الكسوف طول الصلاة، حتى يقرأ بالبقرة ونحوها في أول ركعة، وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلك، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا، وذكر ما تقدم منها، وشرع تخفيفها لزوال السبب، وكذا إذا علم أنه لا يطول، وإن خف قبل الصلاة شرع وأوجز، وعليه جماهير أهل العلم، لأنها شرعت لعلة وقد زالت، وإن تجلى قبلها لم يصل وتقدم.(4/7)
(وإن غابت الشمس كاسفة(1) أو طلعت) الشمس أو طلع الفجر (والقمر خاسف) لم يصل(2).
لأنه ذهب وقت الانتفاع بهما(3)
__________
(1) لم يصل، ومفهومه أنه إن غاب القمر خاسفًا ليلا يصلي، قال في الفروع: والأشهر أن يصلي إذا غاب خاسفًا ليلاً اهـ، وغيوبته خاسفًا ليلاً لا يمكن لأنه لا ينخسف إلا في ليالي الإبدار، إذا تقابل جرم الشمس والقمر، فحالت بينهما الأرض، قال الشيخ: وقد أجرى الله العادة أن القمر لا ينخسف إلا وقت الإبدار، وهي الليالي البيض، وللشمس والقمر ليالٍ معتادة، من عرفها عرف الكسوف والخسوف، كما أن من علم ما مضى من الشهر يعلم أن الشهر يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها، والعلم بالعادة فيه، يعرفه من يعرف حساب جريانهما وليس من باب علم الغيب، وإذا تواطأ خبرهم بوقت الصلاة لا يكادون يخطئون ومع ذلك لا يترتب على خبرهم حكم شرعي، فإنها لا تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك اهـ، وقال غير واحد: معرفة الكسوف لا يختص بالمنجمين، بل هو مما إذا حسبه الحاسب عرفه.
(2) أي أو طلعت الشمس والقمر خاسف لم يصل، قولاً واحدًا، أو طلع الفجر والقمر خاسف لم يصل، قدمه القاضي وغيره، أشبه ما إذا طلعت الشمس وهو خاسف.
(3) وزال التخويف، وانعدمت العلة التي لأجلها شرعت الصلاة، وصوابه إفراد الضمير لما تقدم.
وقال غير واحد: لأن القمر آية الليل، وقد ذهب الليل.(4/8)
ويعمل بالأصل في بقائه وذهابه(1) (أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل)(2) لعدم نقله عنه وعن أصحابه عليه السلام(3) مع أنه وجد في زمانهم انشقاق القمر، وهبوب الرياح والصواعق(4)
__________
(1) أي يعمل إذا شك في الكسوف بالأصل، فلا يصلى إذا شك في وجوده مع غيم ونحوه، لأن الأصل عدمه، ويصلى إذا علم الكسوف، ثم حصل غيم فشك في التجلي لأن الأصل بقاؤه، وكذا إذا خرج بعضه صافيا، وشك في ذهابه عن باقيه، لأن الأصل عدم ذهابه، وقد يقال: يغني قوله: في بقائه، عن قوله: وذهابه إذا المراد أنه يعمل بالأصل في بقائه كلاًٍ أو بعضًا.
(2) وفاقًا لمالك والشافعي، وذلك كظلمة نهارًا، وضياءً ليلاً، وريح شديدة وصواعق وثلج ومطر دائمين.
(3) فتركه مع وجوده في زمنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو السنة، كما أن ما فعله هو وأصحابه هو السنة.
(4) كما هو مستفيض ولا ينكر وجود الآيات في عصرهم إلا مكابر وانشقاق القمر من أكبر الآيات التي دلت على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصل لها، وعنه: يصلي لكل آية، وفاقًا لأبي حنيفة، وصرح به في النصيحة وقال ابن أبي موسى: يصلى لكل آية، وهو ظاهر كلام أحمد، وفي الرعاية: قيل يصلى للرجفة، وفي الصاعقة، والريح الشديدة، وانتشار النجوم، ورمي الكواكب، وظلمة النهار، وضوء الليل وجهان.
وقال شيخ الإسلام: يصلى لكل آية كما دل على ذلك السنن والآثار وقاله
المحققون من أصحاب أحمد وغيرهم، ولولا أن ذلك يكون لشر وعذاب لم يصح التخويف بذلك، وهذه صلاة رهبة وخوف، كما أن صلاة الاستسقاء صلاة رغبة، ورجاء، وقد أمر الله عباده أن يدعوه خوفًا وطمعًا وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئًا، فافزعوا إلى الصلاة» وقال ابن القيم: التخويف إنما يكون بما هو سبب لشر المخوف، كالزلزلة والريح العاصف، وإلا فما وجوده متكرر لا يحصل به تخويف اهـ وقال: «إذا رأيتم آية فاسجدوا» فدل على أن السجود شرع عند الآيات، وينبغي أن يوعظوا عند نزول البلاء، ويؤمروا بالتوبة والصدقة، وإن صلى أحدهم في بيته ركعتين، توبة إلى الله فحسن، لأن صلاة التوبة مشروعة.(4/9)
.
وأما الزلزلة وهي رجفة الأرض واضطرابها وعدم سكونها فيصلى لها إن دامت(1) لفعل ابن عباس رواه سعيد والبيهقي(2) وروى الشافعي عن علي نحوه، وقال: لو ثبت هذا الحديث لقلنا به(3) (وإن أتى) مصلي الكسوف (في كل ركعة بثلاث ركوعات، أو أربع، أو خمس جاز) رواه مسلم من حديث
__________
(1) أي الزلزلة وسببها والله أعلم جولان الرياح في الأرض، ودخولها في تجاويفها، وتحدث فيها الأبخرة وتطلب منفذًا ويتعذر فيأذن الله لها في التنفس، فتحدث فيها الزلازل العظام، ويحدث من ذلك الخوف للعباد، والخشية والإنابة، والإقلاع عن المعاصي، والتضرع إلى الله، والندم، حتى قال بعض السلف: إن ربكم يستعتبكم وربما تنخسف منها قطعة، وتهوي في باطن الأرض، فإن لم تدم الزلزلة لم يصل لها.
(2) في سننه، وابن جرير عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنهما.
(3) وقال: هو ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما.(4/10)
جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات، في أربع سجدات(1) ومن حديث ابن عباس: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ثماني ركعات، في أربع سجدات(2) وروي أبو داود عن أبي ابن كعب، أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، في كل ركعة خمس ركعات وسجدتين(3) واتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء(4).
__________
(1) لكن سئل عنه الشافعي فقال: هو من وجه منقطع، ونحن لا نثبت المنقطع على الانفراد ووجه نراه والله أعلم غلطًا وقال الشيخ فيما زاد على ركوعين في ركعة، هي غلط وإنما صلى صلى الله عليه وسلم مرة واحدة.
(2) ومع كونه في صحيح مسلم، وصححه الترمذي، فقد قال ابن حبان: ليس بصحيح، لأنه من رواية حبيب، عن طاوس،ولم يسمعه حبيب منه، وحبيب معروف بالتدليس.
(3) لكن في إسناده عيسى بن عبد الله الرازي، قال الفلاس: سيء الحفظ وقال ابن المديني: يخلط، وقال البخاري وغيره، من أهل العلم بالحديث، لا مساغ لحمل هذه الأحاديث على بيان الجواز، إلا إذا تعددت الواقعة وهي لم تتعدد لأن مرجعها كلها إلى صلاته صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس يوم مات ابنه إبراهيم، وحينئذ يجب ترجيح أخبار الركوعين فقط، لأنها أصح وأشهر اهـ والمصير إلى الترجيح أمر لا بد منه، وأحاديث الركوعين، أصح وأرجح بلا مرية.
(4) يعني أنه أتى في كل ركعة بركوعين على الصحيح، وفي بعض الروايات ثلاث ركوعات، وأربع وخمس في كل ركعة.(4/11)
قال النووي: وبكل نوع قال بعض الصحابة(1) وما بعد الأول سنة، لا تدرك به الركعة(2) ويصح فعلها كنافلة(3) وتقدم جنازة على كسوف، وعلى جمعة وعيد أمن فوتهما(4)
__________
(1) وقال شيخ الإسلام: قد ورد في صلاة الكسوف أنواع، ولكن الذي استفاض عند أهل العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه البخاري ومسلم من غير وجه، وهو الذي استحبه أكثر أهل العلم كمالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، أنه صلى بهم ركعتين، في كل ركعة ركوعان.
(2) أي وما بعد الركوع الأول في كل ركعة لا تدرك به الركعة.
(3) إن تجلى قبل الركوع الأول، أو فيه، وإلا أتمها صلاة كسوف، لتأكدها بخصائصها.
(4) وفاقًا، فتقدم صلاة جنازة على صلاة كسوف، لأنها فرض كفاية ويخشى على الميت بالانتظار، فيقدم على ما يقدم عليه، والوجه الثاني يقدم الكسوف وصوبه في تصحيح الفروع، ويقدم هو على جمعة إن أمن فوتها، ولم يشرع في خطبتها وفاقًا، ويقدم على مكتوبة أمن فوتها خشية تجليه قبل الصلاة وللأمر بالإسراع إليه، فإن خيف فوت الجمعة، أو كان شرع في خطبتها، أو خيف فوت مكتوبة قدمت، لتعين الوقت لها، إذ السنة لا تعارض فرضًا، ويقدم على صلاة عيد، إن أمن فواته اتفاقا، قاله في الفروع وغيره، واتفاقه مع العيد بعيد، لا يتصور اجتماعهما ولم تجربه عادة.
قال شيخ الإسلام: وأما ما ذكره طائفة من الفقهاء، ومن اجتماع صلاة العيد والكسوف فهذا ذكروه في ضمن كلامهم، فيما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها من الصلوات، فقدروا اجتماعها مع الظهر والوتر، وذكروا صلاة العيد مع عدم استحضارهم، هل يمكن ذلك في الخارج أو لا يمكن؟ فلا يوجد في تقديرهم ذلك العلم بوجود ذلك في الخارج، لكن استفيد من ذلك العلم علم ذلك على تقدير وجوده، كما يقدرون مسائل يعلم أنها لا تقع، لتحرير القواعد، وتمرين الأذهان على ضبطها اهـ وقيل: قد يتصور بأن يشهدوا على نقصان رجب وشعبان فيقع العيد في آخر رمضان، فإن خشي فواته قدم وفاقا، لأن صلاة العيد واجبة في قول والكسوف سنة.(4/12)
.
وتقدم تراويح على كسوف، إن تعذر فعلهما(1)، ويتصور كسوف الشمس والقمر في كل وقت(2).
__________
(1) أي التراويح والكسوف في وقتهما، لأن التراويح تختص برمضان، فتفوت بفواته، والكسوف بالتجلي، والوجه الثاني يقدم الكسوف، صوبه في تصحيح الفروع، لأن الكسوف آكد، ويقدم على وتر، ولو خيف فوته، لأنه يقضى دونها ولأنها آكد منه.
(2) وقال في الإقناع: ولا يمكن كسوف الشمس إلا في الاستسرار، آخر الشهر، إذا اجتمع النيران، ولا خسوف القمر إلا في الإبدار، وهو إذا تقابلا اهـ فكسوف الشمس بحيلولة القمر بيننا وبينها، فيمنع وصول ضوئها إلينا، وخسوف القمر بحيلولة الأرض، بينه وبين الشمس، فيقع ظلها عليه، لأن نوره مستمد من نورها، فإذا حالت الأرض بينهما صار لا نور له.
وقال شيخ الإسلام: أجرى الله العادة أن الشمس لا تنكسف إلا وقت الاستسرار، وأن القمر لا ينخسف إلا وقت الإبدار، ومن قال من الفقهاء، إن الشمس تنخسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط.
وقال: ما ليس له به علم، والكسوف والخسوف لهما أوقات مقدرة، كما لطلوع الهلال وقت مقدر، وذلك مما أجرى الله عادته بالليل والنهار،
وسائر ما يتبع جريان الشمس، وذلك من آيات الله، وما يروى عن الواقدي
أن ابن النبي صلى الله عليه وسلم مات يوم العاشر من الشهر وهو اليوم
الذي كسفت فيه الشمس، فغلط، وهو لا يحتج بمسانيده، فكيف بما أرسله من غير أن يسنده إلى أحد، وهذا فيما لم يعلم أنه خطأ فأما هذا فيعلم أنه خطأ قطعا، والفقهاء رحمهم الله ذكروه مع عدم استحضارهم هل ذلك ممكن أم لا؟ ومن جوز هذا فقد قال ما ليس له به علم، ومن حاج في ذلك فقد حاجَّ فيما ليس له به علم.(4/13)
والله على كل شيء قدير(1) فإن وقع بعرفة صلى ثم دفع(2).
باب صلاة الاستسقاء(3)
وهو الدعاء بطلب السقي(4) على صفة مخصوصة، أي الصلاة لطلب السقي على الوجه الآتي(5) (إذا أجدبت الأرض) أي أمحلت، والجدب نقيض الخصب(6).
__________
(1) بإجماع المسلمين، بقدرة عامة شاملة، متعلقة بكل ممكن، وهو ما ليس بواجب الوجود، ولا مستحيل الوقوع، بل اتفقت جميع الكتب والرسل أنه تعالى قادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء يريده، بل هو الفعال لما يريد، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
(2) أي فإن وقع الكسوف بعرفة صلى صلاة الكسوف، ثم دفع، وتقدم أنه مستحيل كسوفها بعرفة، ولم تجر به عادة، كما لم تجر بالاستهلال ونحوه في غير وقته، والمستحيل عادة كالمستحيل في نفسه.
(3) أي صفتها وأحكامها، وما يتعلق بذلك، والاستسقاء استفعال من السقي، بضم السين، والنفوس مجبولة على الطلب ممن يغيثها، ولا تلتفت فيه إلا لبارئها، وكان في الأمم الماضية، وأجمع المسلمون على مشروعيته.
(4) الباء للتصوير أو الملابسة، أي: الاستسقاء شرعًا: نداء الله نداء ملتبسًا بطلب السقي، أي استنزال الغيث على البلاد والعباد.
(5) بيانه وهو على ثلاثة أضرب: أحدها: صلاتهم جماعة أو فرادى على ما يأتي تفصيله، وهو أكملها، واتفق فقهاء الأمصار على مشروعيته.
والثاني: استسقاء الإمام يوم الجمعة في خطبتها كما فعل صلى الله عليه وسلم واستفاض عنه من غير وجه، وهذا الضرب مستحب وفاقا، واستمر عمل المسلمين عليه، والثالث: دعاؤهم عقب صلواتهم، وفي خلواتهم، ولا نزاع في جواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة.
(6) بالكسر أي النماء والبركة، من أخصب المكان فهو مخصب، وفي لغة من باب تعب، فهو خصب، وأخصب الله الموضع أنبت به العشب، والكلأ والجدب المحل وزنًا ومعنى، يقال: أجدب القوم إذا أمحلوا وهو انقطاع المطر، ويبس الأرض، من باب تعب، وقال الأزهري، الأرض الجدبة التي لم تمطر والخصبة الممطورة التي أمرعت.(4/14)
(وقحط) أي احتبس (المطر) وضر ذلك(1) وكذا إذا ضرهم غور ماء عيون أو أنهار(2) (صلوها جماعة وفرادى)(3) وهي سنة مؤكدة(4) لقول عبد الله بن زيد: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه، ثم صلى ركعتين، جهر فيهما بالقراءة، متفق عليه(5).
__________
(1) أي ضر احتباسه، ولم يكن لهم أودية وآبار وأنهار يشربون منها، ويسقون مواشيهم وزروعهم، أو كان ذلك، إلا أنه لا يكفي، فزعوا إلى الصلاة جماعة أو فرادى، وقحط كمنع وفرح وعني، قحطا وقحطًا وقحوطا، إذا انقطع عنه المطر، وأقحط وقحط الناس كسمع قليل، أي أصابهم القحط.
(2) أي ومثل جدب الأرض، وقحط المطر إذا ضرهم غر عيون إلى الأرض وهو ذهابه فيها، أو ضرهم غور أنهار جمع نهر، بفتح الهاء وسكونها مجاري الماء، وكذا لو نقص ماؤها وضر، وكذا لو تغير، بملوحة فزعوا إلى الصلاة لذلك كقحط المطر.
(3) أي إذا أجدبت الأرض صلوا صلاة الاستسقاء عند الحاجة إليها، جماعة في صلاتها، أو فرادى كل واحد وحده، لأنها لا تجب جماعة، فجازت فرادى.
(4) بإجماع أهل العلم، وشذ أبو حنيفة فقال: ليس فيها صلاة مسنونة وقوله مردود فإنه مخالف للأحاديث الصحيحة المستفيضة، والقياس فإنه معنى سن له الاجتماع والخطبة، فسن له الجماعة، كالعيد والكسوف، ولأنهم أجمعوا أنه يسن فيه الاجتماع والخطبة، والسنة بينت الصلاة، فوجب اعتمادها، دون القياس، وقد توافقا، وأيضا قال: إذا صح الحديث، فهو مذهبي، فصار إجماعًا.
(5) قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم، وحكى النووي وغيره: الإجماع على استحباب الجهر بالقراءة فيها.(4/15)
والأفضل جماعة حتى بسفر(1) ولو كان القحط بغير أرضهم(2) ولا استسقاء لانقطاع مطر عن أرض غير مسكونة ولا مسلوكة، لعدم الضرر(3) (وصفتها في موضعها وأحكامها كـ) صلاة (عيد)(4) قال ابن عباس: سنة الاستسقاء سنة العيدين(5) فتسن في الصحراء(6).
__________
(1) وفاقًا لمالك والشافعي، لفعله صلى الله عليه وسلم لها جماعة، واستمرار أمر المسلمين عليه.
(2) لحصول الضرر به، ولأنه من باب التعاون على البر والتقوى، أما لو كان غير المحتاج ببلد المحتاج إليه صلى معه اتفاقا، ما لم يكن ذا بدعة أو ضلالة.
(3) أي بانقطاعه عنها، فمشروعية الاستسقاء لإزالة ما يصيب الناس من الضرر.
(4) أي وصفة صلاة الاستسقاء في موضعها، فيستحب فعلها في المصلى، كصلاة العيد، وأحكامها كصفة صلاة العيد، عند الجمهور، في العدد والجهر والقراءة وفي كونها قبل الخطبة، وبتكبيراته، ورفع أيديهم ويقف بين كل تكبيرتين قائلا ما ورد كما سيأتي لأنها في معناها، إلا أنه لا وقت لصلاتها، وإلا أنها لا تفعل وقت النهي بلا خلافٍ، والأولى وقت صلاة العيد، لحديث عائشة وغيره.
(5) رواه أهل السنن بلفظ: ثم صلى ركعتين، كما يصلي في العيد، وقال الحافظ في قول ابن عباس الآتي، كما صنع في العيد: ظاهره أنه صلاها في وقت صلاة العيد.
(6) أي فتسن صلاة الاستسقاء قبل الخطبة في الصحراء القريبة عرفًا، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا في الصحراء، بلا نزاع، ولأبي داود عن عائشة: شكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ولأن الناس يكثرون، فكان المصلى أرفق بهم، ولأنه أبلغ في الافتقار والتواضع.(4/16)
ويصلي ركعتين، يكبر في الأولى ستًا زوائد، وفي الثانية خمسًا، من غير أذان ولا إقامة(1) قال ابن عباس: صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين كما يصلي العيد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح(2) ويقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية(3) وتفعل وقت صلاة العيد(4).
__________
(1) وفاقا للشافعي.
(2) وصححه الحاكم وغيره، قال الموفق وغيره، هي ركعتان عند العاملين بها لا نعلم بينهم خلافًا في ذلك، وأما التكبير فدلالة هذا الخبر، مع ما رواه الشافعي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعًا وخمسًا، وعن ابن عباس ونحوه، رواه الدارقطني، وهو مذهب الشافعي وجماعة.
(3) لما رواه الدارقطني وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ بهما، وإن شاء قرأ بـ (إنا أرسلنا نوحا) وسورة غيرها، من غير تعيين.
(4) وفاقًا لمالك والشافعي، ووقته وقت صلاة الضحى، وتقدم لحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين بدا حاجب الشمس، رواه أبو داود، قال الشارح، وليس لها وقت معين، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي، بغير خلاف، ولا تقيد بزوال الشمس، فيجوز فعلها كسائر النوافل، واستنبط بعضهم أنها لا تصلى بالليل، من كونه جهر فيها بالقراءة، كالعيد وذكر ابن حبان أن خروجه صلى الله عليه وسلم لها في رمضان سنة ست من الهجرة.(4/17)
(وإذا أراد الإمام الخروج لها(1) وعظ الناس) أي ذكرهم بما يلين قلوبهم من الثواب والعقاب(2) (وأمرهم بالتوبة من المعاصي(3) والخروج من المظالم) بردها إلى مستحقيها(4) لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات(5).
__________
(1) أي لصلاة الاستسقاء وكذا نائبه.
(2) وخوفهم العواقب، يقال: وعظه يعظه وعظًا وموعظة نصحه وذكره فاتعظ أي قبل الموعظة، والوعظ التخويف والتذكير، والنصح بما يلين القلوب، ويسوقها إلى التوبة، وإصلاح السيرة والسريرة، وفي التعريفات، الوعظ هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب.
(3) أي وأمرهم الإمام بنفسه أو نائبه بالتوبة، وهي الرجوع، من: تاب إذا رجع، وهي واجبة على الفور إجماعًا، ويشترط لها الندم على ما مضى من الذنوب، والإقلاع في الحال، والعزم على ترك العود في المستقبل، فإن كان الحق لآدمي فلا بد من رده إليه أو تحليله، والمعاصي جمع معصية وهي كل ما عصي الله به، ومنها المحرمات لحق الله وحق الآدميين.
(4) لأن ذلك واجب، والمظالم ظلامات الآدميين، جمع مظلمة، فمرادهم بالمظالم حقوق الآدميين، وبالمعاصي حقوق الله تعالى فالمعاصي أعم من المظالم والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
(5) قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وفي الحديث ما بخس قوم المكيال والميزان، إلا منعوا القطر من السماء، وقال مجاهد في قوله: { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ } قال: دواب الأرض تلعنهم، يقولون: يمنع عنا القطر بخطاياهم.(4/18)
(و) أمرهم بـ (ترك التشاحن) من الشحناء وهي العداوة(1) لأنها تحمل على المعصية والبهت(2) وتمنع نزول الخير(3) لقوله عليه الصلاة والسلام «خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت»(4) (و) أمرهم بـ (الصيام) لأنه وسيلة إلى نزول الغيث(5) ولحديث «دعوة الصائم لا ترد»(6) (و) أمرهم بـ (الصدقة) لأنها متضمنة للرحمة(7).
__________
(1) امتلأت منها النفس، وتشاحنوا تباغضوا، والمشاحن العدو المباغض، شديد العداوة، والعداوة الخصومة والمباعدة، والعدو ضد الصديق.
(2) أي الكذب والافتراء، وتوجب غضب الرب جل وعلا.
(3) من مطر وبركة ورحمة وغيرها.
(4) يعني رفع علم تعيينها في يوم مخصوص، وهو صريح في أنه تقدم له علمها، والرجلان اللذان تلاحيا قيل: هما عبد الله بن أبي حدرد، وكعب بن مالك.
(5) لما في الصيام من كسر الشهوة، والتذلل للرب تبارك وتعالى.
وقال جماعة ثلاثة أيام، يخرجون في اليوم الآخر منها، ولا يلزم بأمره مع وجوب طاعته، لأنه سنة وطاعته إنما تجب في الطاعة، وفي السياسة والتدبير والأمور المجتهد فيها من مصالح العامة، وما هنا ليس كذلك، وتسن في المسنون، وتكره في المكروه.
(6) أي فعسى أن تقبل دعوته، وذكر ابن تميم وغيره الصدقة، ولم يذكر الصوم، والصيام لم يشرع له، والعبادة مبناها على التوقيف، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع فحيث ترك في عصر النبوة فتركه هو السنة.
(7) المفضية إلى رحمتهم بنزول الغيث، وحكاه الجزولي اتفاقًا.(4/19)
(ويعدهم) أي يعين لهم (يوما يخرجون فيه) ليتهيئوا للخروج، على الصفة المسنونة(1) (ويتنظف) لها بالغسل، وإزالة الروائح الكريهة، وتقليم الأظفار، لئلا يؤذي(2) (ولا يتطيب) لأنه يوم استكانة وخضوع(3) (ويخرج) الإمام كغيره (متواضعًا(4) متخشعًا) أي خاضعًا(5) (متذللاً) من الذل وهو الهوان(6).
__________
(1) لحديث عائشة قالت: «وعد الناس يوما يخرجون فيه»، رواه أبو داود وغيره بسند جيد.
(2) لأنه يوم يجتمع له، أشبه الجمعة، وقال ابن القيم وغيره: لا يسن الغسل لها، لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
(3) فلا يتطيب فيه وفاقًا، لأنه من كمال الزينة، وهذا يوم تواضع وانكسار، وتذلل وخشوع.
(4) أي يخرج الإمام إلى المصلى كغيره متواضعًا وفاقًا، لأن التواضع لله من أسباب الإجابة والتواضع التذلل والتخشع ضد التكبر.
(5) بقلبه وعينه ومشيه وجلوسه وغيرها، والخشوع سكون القلب على المقصود، من غير التفات إلى غيره، وسكون الجوارح في غير المفعول، وفي المطلع: التذلل ورمي البصر إلى الأرض، وخفض الصوت، وسكون الأعضاء، وقريب منه الخضوع، إلا أن الخشوع أكثر منه، يستعمل في الصوت والبدن، والخضوع في الأعناق وتقدم نحوه.
(6) وهان هونًا وهوانًا، ذل وخضع، والهون السكينة، أي خرج مستكينًا خاضعًا متذللاً، في هيئته وثيابه.(4/20)
(متضرعا) أي مستكينًا(1) لقول ابن عباس: خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً متواضعًا متخشعًا متضرعًا، قال الترمذي: حديث حسن صحيح(2) (ومعه أهل الدين والصلاح والشيوخ) لأنه أسرع لإجابتهم(3) (والصبيان المميزون) لأنه لا ذنوب لهم(4) وأبيح خروج طفل وعجوز وبهيمة(5)
__________
(1) بلسانه إلى الله في كلامه وفي مشيه وجلوسه، مبتهلاً إلى الله، مع حضور القلب، وامتلائه بالهيبة والخوف من الله متصاغرًا ومتعرضًا في جلب الحاجة.
(2) ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وقال ابن حبان: في رمضان سنة ست من الهجرة وروي مبتذلاً، أي لابسًا ثياب البذلة، وهي ما يلبس من ثياب المهنة وقت العمل، تاركًا ثياب الزينة، تواضعًا لله تعالى، وإظهارا للافتقار إليه، وإرادة جبر الانكسار متخشعًا أي خاضعًا، مظهرًا للخشوع، ليكون ذلك وسيلة إلى نيل ما عند الله عز وجل، متضرعًا أي مظهرًا للضراعة وهي التذلل عند طلب الحاجة، أو باللسان في أنواع الذكر.
(3) أي فخروجهم أشد استحبابًا، وإلا فيستحب الخروج لكافة الناس، والشيوخ جمع شيخ، وله جموع كثيرة، وهو من جاوز الخمسين سنة.
(4) أي فيستحب إخراجهم، وفاقًا لمالك والشافعي، لأنهم يكتب لهم، ولا يكتب عليهم، فترجى إجابة دعائهم، وفي الفصول: نحن لخروج الصبيان أشد استحبابًا والصبيان بكسر الصاد وضمها لغتان، أفصحهما وأشهرهما الكسر.
(5) لأن الأطفال خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، وعيال من عياله، والرزق مشترك بين الكل قال الله تعالى: { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } وروى البزار وغيره مرفوعًا «لولا أطفال رضَّع،وعباد ركَّع، وبهائم رتَّع، لصب عليكم البلاء
صبَّا».
وقيل: يستحب إخراج العجائز، وفاقًا لأبي حنيفة، ويكره من النساء ذوات الهيئات وفاقًا، خوف الفتنة، والتفات القلوب إليهن عن الخضوع لله، والتضرع بين يديه، ولأن القصد إجابة الدعاء، وضررهن أكثر، وفي الشرح: لا يستحب إخراج البهائم لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وأخرج الحاكم وغيره أن سليمان عليه السلام خرج ليستقي فرأى نملة مستلقية وهي تقول: «اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن رزقك، فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، ويؤمر سادة العبيد بإخراج عبيدهم، رجاء استجابة دعائهم، لانكسارهم بالرق، وفي الصحيح، «وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم».(4/21)
.
والتوسل بالصالحين(1) (وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين) بمكان(2) لقوله تعالى: { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } (3) (لا) إن انفردوا (بيوم(4)).
__________
(1) أي التوسل بالدعاء منهم، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وتوسل عمر بالعباس بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومعاوية بيزيد الجرشي، لأن دعوة الصالح مستجابة، وأما التوسل بذوات الصالحين فكالإقسام بهم، ولا يقسم على الله بأحد من خلقه، ولا دليل على ذلك من كتاب ولا سنة، بل يقتضي تركه والنهي عنه.
(2) لم يمنعوا وانفرادهم لئلا يصيبهم عذاب فيعمهم، وكذا كل من يخالف دين الإسلام.
(3) يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة اختبار أو محنة، يعم بها المسيء وغيره، لا يخص بها العاصي، أي اتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم.
(4) وكذا نساؤهم وصبيانهم ورقيقهم وعجائزهم مثلهم، أما الشابة فتمنع بلا خلاف.(4/22)
لئلا يتفق نزول غيث يوم خروجهم وحدهم، فيكون أعظم لفتنتهم(1) وربما افتتن بهم غيرهم(2) (لم يمنعوا) أي أهل الذمة لأنه خروج لطلب الرزق(3) (فيصلي بهم) ركعتين كالعيد لما تقدم(4).
__________
(1) فيقولون: هذا حصل بدعائنا وإجابتنا، ولا يبعد أن يجيبهم الله، لأنه ضمن أرزاقهم.
(2) من ضعفاء العوام فقالوا: هذا حصل بهم.
(3) والله تعالى ضمن أرزاقهم، كما ضمن أرزاق المسلمين، ويكره إخراجنا لهم وفاقًا، لأنهم أعداء الله فهم أبعد إجابة.
(4) يعني من قول ابن عباس: سنة الاستسقاء سنة العيدين، ولما يأتي من قوله: صنع في الاستسقاء كما صنع في العيد، وقد دلت الأحاديث الصحيحة الشهيرة على مشروعية صلاة الاستسقاء، وهو قول جمهور السلف والخلف، إلا أبا حنيفة وتقدم أنها سنة مؤكدة، ولا التفات لخلافه، وفي الصحيحين: «خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين، جهر بالقراءة فيهما، وحول رداءه، ورفع يديه، واستسقى واستقبل القبلة، وقال البغوي: السنة في الاستسقاء أن يخرج إلى المصلى، فيبدأ بالصلاة، فيصلي ركعتين مثل صلاة العيد، وذكر التكبيرات ثم قال: ويجهر فيهما بالقراءة ثم يخطب، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعلي، وهو قول الشافعي وأحمد اهـ والمرجح عند الشافعية والمالكية البداءة بالصلاة، قبل الخطبة، قال النووي: وبه قال الجماهير، وقال آخرون: هو مذهب العلماء كافة، وليس بإجماع، فقد ذهب قوم إلى جواز البداءة بالخطبة للأخبار، وحملها بعضهم على الجواز، ولمسلم: خرج ليستسقي بالناس، فصلى ركعتين ثم استسقى، وهو أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم ويقرأ بسبح والغاشية، وفي النصيحة: في الأولى { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا } وفي الثانية ما أحب.(4/23)
(ثم يخطب) خطبة (واحدة)(1) لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بأكثر منها(2) ويخطب على منبر(3) ويجلس للاستراحة ذكره الأكثر، كالعيد في الأحكام(4) والناس جلوس قاله في المبدع(5) (يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد)(6).
__________
(1) هذا المذهب عند أكثر الأصحاب.
(2) ولأبي داود وغيره: ولم يخطب خطبكم هذه أي كما يفعل في الجمعة، ولكن خطبة احدة، وقال الزيلعي: ولم يرو أنه خطب خطبتين، وعنه: خطبتين وفاقا لمالك والشافعي، واختاره الخرقي وابن حامد وعبد العزيز وغيرهم، والأمر واسع والاتباع أولى، ومحل الخطبة بعد الصلاة، وهو مذهب مالك والشافعي، قال ابن عبد البر وغيره: وعليه جماعة الفقهاء، لما رواه أحمد وغيره، عن أبي هريرة قال: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ثم خطبنا، وكالعيد وعنه: قبلها كالجمعة، لما تقدم في الصحيح، وروي عن عمر وابن الزبير، وعنه يخير،والأول هو الأفضل، لأنه أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم واستمر عمل أكثر المسلمين عليه.
(3) وتقدم في العيدين أنه يخطب على منبر، وعن عائشة، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، رواه أبو داود وغيره بسند جيد، فيستحب للإمام صعود المنبر لخطبة الاستسقاء للآثار وقياسًا على غيرها.
(4) أي ويجلس إذا صعد المنبر للاستراحة ليتراد إليه نفسه.
(5) وفي الفروع: وفاقًا، ولأنه لم ينقل غيره، واستمر عمل المسلمين عليه.
(6) وعنه: بالحمد وهو رواية عن مالك، واختاره الشيخ وصاحب الفائق، واستظهره ابن رجب وتقدم، وعن عائشة رضي الله عنها، قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم»، ثم قال: «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم»، إلخ قال غير واحد: ولم تأت رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه افتتح الخطبة بغير التحميد.(4/24)
لقول ابن عباس صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء كما صنع في العيد(1) (ويكثر فيها الاستغفار(2) وقراءة الآيات التي فيها الأمر به) كقوله { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } الآيات(3) قال في المحرر والفروع: ويكثر فيها الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأن ذلك معونة على الإجابة(4)
__________
(1) وأصله في السنن وغيرها بلفظ: صلى فيها كما يصلي في العيد، وأما افتتاح الخطبة بالتكبير فخلاف سائر خطبه صلى الله عليه وسلم.
(2) لأنه سبب لنزول الغيث، وخرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار، فقالوا: ما رأيناك استسقيت، قال: لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء، الذي يستنزل به المطر ثم قرأ { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } وعن علي نحوه، والمجاديح واحدهامجدح، قال أهل اللغة: المجدح كل نجم كانت العرب تقول يمطر به، فأخبر عمر أن الاستغفار هو المجاديح الحقيقية التي يستنزل بها القطر، لا الأنواء، وإنما قصد التشبيه، وقيل مجاديحها مفاتيحها وهي رواية.
(3) وتمامها { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } وكقوله: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } وغيرها لأن الاستغفار سبب لنزول الغيث، والمعاصي سبب لانقطاعه، والاستغفار، والتوبة يمحوان المعاصي.
(4) قال تعالى { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وقال: { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } وفي الحديث «إن الله يحب الملحين في الدعاء»، ولأن الدعاء هو السبب في إرسال الأمطار، وعن عمر قال: الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي، وتقدم أن من أكبر أسباب استجابة الدعاء الثناء على الله عز وجل، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ويكبر فيها كالعيد، وفاقًا لمالك والشافعي.(4/25)
.
(ويرفع يديه) استحبابا في الدعاء(1) لقول أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وكان يرفع حتى يرى بياض إبطيه، متفق عليه(2) وظهورهما نحو السماء لحديث رواه مسلم(3).
__________
(1) قال في الإنصاف: بلا نزاع، ويرفعون أيديهم، لحديث أنس، فرفع يديه، ورفع الناس أيديهم، ويؤمنون جلوسًا، ويكثر من الدعاء قائمًا، ويلح في الدعاء، لأنه السبب الأكبر في استنزال الغيث.
(2) لعل المراد: لم أره يرفع، أو لم يرفع كما يرفع في الاستسقاء، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من غير وجه أنه كان يرفع يديه في الدعاء ما يزيد عن ثلاثين حديثًا، والدعاء ثلاثة أقسام، أحدها أن تسأل الله بأسمائه وصفاته، الثاني أن تسأله بحاجتك وفقرك إليه ونحو ذلك، والثالث أن تسأل حاجتك، والأول أكمل من الثاني، والثاني أكمل من الثالث، فإذا جمع الدعاء الأمور الثلاثة كان أكمل، وهذه عامة أدعية النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) ولفظه: أشار بظهر كفيه إلى السماء، وذلك والله أعلم مبالغة في الرفع، واختار الشيخ أن تكون بطونهما نحو السماء، وقال: صار ظهور أكفهما نحو السماء لشدة الرفع، لا قصدًا منه، وإنما كان توجه ببطونهما مع القصد، وعن ابن عباس مرفوعًا، «إذا دعوت فادع بباطن كفيك، ولا تدع بظهورهما» رواه أبو داود، ويدعو قائما كسائر خطبه.(4/26)
(فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم) تأسيًا به(1) (ومنه) ما رواه ابن عمر (اللهم اسقنا) بوصل الهمزة وقطعها(2) (غيثًا) أي مطرًا(3) (مغيثًا) أي منقذًا من الشدة يقال: غاثه وأغاثه(4) (إلى آخره) أي آخر الدعاء، أي هنيئًا مريئًا(5).
__________
(1) صلى الله عليه وسلم قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } وروى أبو داود عن عائشة أنهم شكوا إليه جدب ديارهم وتقدم، وفيه ثم قال: «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين ثم رفع يديه إلخ.
(2) وصل الهمزة حذفها لفظًا مع الدرج، وقطعها إثباتها مع الابتداء والدرج.
(3) منقذًا بإروائه، ويطلق الغيث على النبات تسمية له باسم سببه.
(4) وقد غاث الغيث الأرض، أي أصابها، وأغاث الله البلاد يغيثها غيثًا، أنزل عليها المطر، وقال ابن قتيبة: المغيث المحيي بإذن الله، وقال الأزهري وغيره هو الذي يغيث الخلق، ويشبعهم، وقال آخرون: منقذًا لنا مما استسقينا منه.
(5) «هنيئا» بالمد والهمز، طيب المساغ، لا مشقة فيه ولا تنغيص، والمعنى ها منميًا للحيوان، من غير ضرر ولا تعب، وقيل: هو الطيب الذي لا ينغصه شيء، «ومريئًا» بالمد أيضا، سهلاً نافعًا، محمود العاقبة، منميًا للحيوان، لا وباء فيه، فالهنيء النافع ظاهرًا، والمريء النافع باطنًا، وفي لفظ «مريعًا» بالعين، وضم الميم، أي آتيَا بالريع، وهو الزيادة، من المراعة وهي الخصب، وروي «مربعًا»، وروي «مرتعًا».(4/27)
غدقا مجللاً عامًا سحًّا طبقًا دائمًا(1) اللهم أسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين(2) اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق(3).
__________
(1) «غدقًا» بكسر الدال وفتحها، كثير الماء والخير، أو كثير القطر، وأعدق المطر، واغدودق، كبر قطره، ومجللاً، على صفة اسم الفاعل، من المضعف، أي ساترا للأفق، لعمومه، أو يجلل الأرض يعمها، وقال الأزهري: هو الذي يعم البلاد والعباد نفعه، ويتغشاهم خيره، و«عاما» أي شاملاً مستوعبًا للأرض،و«سحا» أي صبَّا من سحَّ يسحَّ: إذا جرى من فوق إلى أسفل، أو من ساح يسيح، إذا جرى على وجه الأرض، وقال الأزهري: هو المطر الشديد، و«طبقا» بالتحريك أي يطبق البلاد مطره أي يستوعبها، وبدأ بالعام ثم أتبعه بالسح، والطبق لأنهما صفتان زائدتان في العام، فقد يكون عاما، وهو طل يسير، ودائمًا أي متصلاً إلى أن يحصل الخصب، وإلى انتهاء الحاجة وتمام الحديث «نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل»، رواه أبو داود، وللشافعي، عن سالم بن عبد الله عن أبيه نحوه، وفي الصحيحين «اللهم أغثنا» ثلاثًا، من الإغاثة بمعنى المعونة، أو من طلب الغيث، أي هب لنا غيثًا، أو ارزقنا غيثًا.
(2) أي الآيسين من الرحمة، رواه الشافعي وغيره، والغيث المطر، وغيثت الأرض، فهي مغيثة ومغيوثة، ولأبي داود، كان إذا استسقى قال: «اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت».
(3) رواه الشافعي عن المطلب بن حنطب مرسلاً، وأكثره في الصحيحين والسقيا بضم السين اسم من قولك: سقاه الله وأسقاه، ومضافة فيهما أي اسقنا سقيا رحمة، وهو أن يغاث الناس غيثًا، نافعًا، لا ضرر فيه ولا تخريب والهدم بسكون الدال والغرق بفتح الغين والراء.(4/28)
«اللهم إنَّ بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك(1) اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع(2) وأسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك(3) اللهم ارفع عنا الجوع والجهد والعري(4) واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك(5).
__________
(1) ذكره الشافعي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم و«اللأواء» بالمد شدة المجاعة، والمراد السنة، والجهد بضم الجيم قلة الخير، وبفتحها المشقة وسوء الحال والغاية، والضنك بفتح الضاد الضيق في المعيشة، والشدة بالكسر المجاعة، اسم من الاشتداد وهي الصلابة واحدة الشدائد، أي المكاره «ما لا نشكوه إلا إليك»، أي ما لا نخبر به سواك.
(2) هو لكل ذات ظلف أو خف بمنزلة الثدي للمرأة، جمعه ضروع، مدر اللبن.
(3) أي المطر، ولم يذكر هنا وبركات الأرض وهو في الحديث المذكور وبركات السماء كثرة مطرها، مع الريع والنماء، وبركات الأرض ما يخرج منها من زرع ومرعى، والسماء هنا السحاب، وتقدم أن كل ما علاك فهو سماء.
(4) الجوع اسم جامع للمخمصة، ضد الشبع، والجهد بالفتح المشقة، وجهد الناس فهم مجهودون إذا أجدبوا والعري بالضم خلاف اللبس، أي نسأله تعالى رفع هذه المصائب.
(5) رواه الشافعي وغيره عن ابن عمر، ولأبي داود عن جابر «اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مريئًا مريعًا، نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل»، ومنه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم اللهم اسق عبادك وبهائمك، ففي إضافتهما إليه تعالى مزيد الاستعطاف فالعباد كالسبب للسقي، والبهائم ترحمه فتسقى، وفي الخبر «لولا البهائم لم تمطروا» «وانشر رحمتك» أي ابسط مطرك ومنافعه، وأحي بلدك الميت وفيه تلميح بقوله: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } «اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين».(4/29)
«اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا(1) فأرسل السماء علينا مدرارا»(2) ويسن أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة(3) ويحول رداءه، فيجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن(4).
__________
(1) أي لم تزل تغفر ما يقع من هفوات عبادك.
(2) ذكره الشافعي عن ابن عمر، وفي الآية { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * } والسماء هنا السحاب، أي نسألك أن ترسل علينا المطر مدرارا، أي دائما إلى انتهاء الحاجة، قال النووي: بكسر الميم كثير الدر ومعناه مطر كثير.
(3) ولمسلم: فقام فدعا الله قائمًا، ثم توجه قبل القبلة، وحول رداءه.
(4) لما في الصحيحين أنه حول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه ولمسلم، حول رداءه حين استقبل القبلة، زاد البخاري، جعل اليمين على الشمال، وزاد ابن ماجه وابن خزيمة: والشمال على اليمين، ولأحمد وغيره من حديث أبي هريرة: خطب ودعا الله، وحول وجهه نحو القبلة، رافعا يديه، ثم قلب رداءه، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، ونقل تحويل الرداء جمع، وفيه حجة على استحباب استقبال القبلة في سائر الطاعات إلا ما خرج بدليل كالخطبة ونحوها.(4/30)
ويفعل الناس كذلك(1) ويتركونه حتى ينزعوه مع ثيابهم(2) ويدعو سرًا(3) فيقول: «اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا»(4).
__________
(1) أي يحولون أرديتهم، فيجعلون ما على الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، لأن ما ثبت في حقه صلى الله عليه وسلم ثبت في حق غيره، ما لم يقل دليل على اختصاصه، ولأحمد: وحول الناس معه أرديتهم،واستحبه جماهير العلماء، مالك وأحمد والشافعي وغيرهم، حكاه الوزير والحافظ وغيرهما، وقال الموفق: في قول أكثر أهل العلم، وللدارقطني عن جعفر بن محمد، عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم حول رداءه، ليتحلو القحط، وقيل: الحكمة أنه للتفاؤل بتحويل الحال، عما هي عليه، وقال النووي: شرع تفاؤلاً بتغيير الحال من القحط إلى نزول الغيث والخصب، ومن ضيق الحال إلى سعته.
(2) لعدم نقل إعادته.
(3) حال استقبال القبلة وفاقًا، لأنه أقرب إلى الإخلاص، وأبلغ في الخشوع، وأسرع في الإجابة قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وإنما استحب الجهر ببعضه ليسمع الناس، فيؤمنون على دعائه.
(4) إنك لا تخلف الميعاد، لأن في ذلك استنجازًا لما وعد من فضله، حيث قال: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } وإن قال: اللهم فامنن علينا بمغفرة ذنوبنا وإجابتنا في سقيانا، وسعة أرزاقنا: ثم يدعو بما شاء من أمر دين أو دنيا، وإن دعا بغير ما مر فلا بأس، وفي الإقناع وغيره: فإذا فرغ من الدعاء استقبلهم، ثم حضهم على الصدقة والخير، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ويقرأ ما تيسر، ثم يقول: أستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين، أو نحوه، وقد تمت الخطبة.(4/31)
فإن سقوا وإلا عادوا ثانيًا وثالثًا(1) (وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله(2) وسألوه المزيد من فضله) ولا يصلون(3) إلا أن يكونوا تأهبوا للخروج فيصلونها شكرا لله، ويسألونه المزيد من فضله(4).
(وينادى) لها (الصلاة جامعة) كالكسوف والعيد(5)
__________
(1) حكاه الوزير وغيره اتفاقًا، وألحوا في الدعاء، لأنه أرجى للإجابة، وتقدم: «إن الله يحب الملحين في الدعاء»، ولقوله: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوت، فلم يستجب لي»، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك، فاستحب كالأول، ولأن العلة الموجبة للاستسقاء أولا هي الحاجة للغيث، والحاجة إلى الغيث قائمة، وإنما الأولى آكد، لورود السنة بها، وثانيًا وثالثًا أي عودًا ثانيًا وثالثًا صفة لمصدر محذوف، وإن نقصت العيون أو غارت وتضرر الناس، فقال أصبغ: استسقى للنيل خمسة وعشرين يومًا متوالية، وحضره ابن وهب وابن القاسم، وجمع صالحون فلم ينكر، وقال ابن حبيب: لا بأس أن يستسقى لإبطاء النيل، فيستحب الاستسقاء لذلك، كما يستحب لانقطاع المطر، وقال الأصحاب: لم ينقل وغار النيل وغيره في زمن عمر وتوفر الصحابة ولم يستسقوا.
(2) على ما أولاهم من فضله، قال تعالى: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } .
(3) لحصول المقصود من فضل الله ونعمته.
(4) لأن الصلاة لطلب رفع الجدب، ولا يحصل بمجرد نزول المطر، وقد أمر الناس بالشكر على ما أولى، ومنه العمل وأفضله الصلاة وقد تأهبوا لها، وعزموا على فعلها، وهذا اختيار القاضي،وعبارة المغني والشرح: وإن تأهبوا فسقوا قبل خروجهم لم يخرجوا وشكروا الله، وحمدوه على نعمه اهـ، وإن سقوا بعد خروجهم فقال في المبدع: صلوا وجهًا واحدًا، وفي الإنصاف: بلا خلاف أعلمه.
(5) هذا المذهب والصحيح عند جماهير أهل العلم أن النداء مختص بالكسوف، وقال الشيخ: القياس على الكسوف فاسد الاعتبار اهـ .
وأجمعوا على أنه لا أذان ولا إقامة، والنداء الصوت «ينادى» أي بصوت.(4/32)
بخلاف جنازة وتراويح(1) والأول منصوب على الإغراء(2) والثاني على الحال(3) وفي الرعاية، برفعهما وبنصبهما(4).
(وليس من شرطها إذن الإمام) كالعيدين وغيرهما(5) (ويسن أن يقف في أول المطر(6).
__________
(1) أي فلا ينادي لهما لعدم وروده.
(2) وهو تنبيه المخاطب على أمر محمود ليلزمه.
(3) والحال لفظ يدل على هيئة الفاعل والمفعول به، والمعنى: احضروا الصلاة أو الزموها حالة كونها جامعة للناس، أو مطلوب جمع المكلفين لها، أو ذات جماعة.
(4) فرفعهما على الابتداء والخبر، ونصبهما على الإغراء، وعلى الحال كما قرره الشارح.
(5) أي كما أنه ليس من شروط صلاة العيدين وغيرهما، فليس من شروطها لا في الخروج، ولا في الصلاة، ولا في الخطبة، لأنها نافلة أشبهت سائر النوافل فيفعلها المسافر وأهل القرى.
(6) ليصيبه منه، ويقول: «اللهم صيبا نافعًا»، لما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: «اللهم صيبا نافعا»، أي اجعله صيبًا نافعًا، أي منهمرًا متدفقًا، ونافعًا، صفة لصيب، احترز بها عن الصيب الضار، وفي رواية: صيبًا هنيئًا، ويقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، كما سيأتي وروي حديث ضعيف مرفوع: «يستجاب الدعاء عند ثلاثة التقاء الجيوش وإقامة الصلاة، ونزول الغيث»، وقال الشافعي وغيره: حفظت من غير واحد طلب الإجابة عند نزول الغيث.(4/33)
وإخراج رحله وثيابه ليصيبها(1) لقول أنس: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه، رواه مسلم(2) وذكر جماعة: ويتوضأ ويغتسل(3) لأنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول إذا سال الوادي «اخرجوا بنا إلى الذي جعله الله طهورا فنتطهر به»(4) وفي معناه ابتداء زيادة النيل ونحوه(5).
__________
(1) أي المطر، وهو الاستمطار وروى الشافعي، وغيره أن ابن عباس أمر غلامه بإخراج فراشه ورحله ليصيبه المطر، فقيل له: لم تفعل؟ فقال: أما تقرأ { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا } فأحب أن تصيب البركة فراشي ورحلي، والرحل في الأصل مركب للبعير، وما يستصحبه من الأثاث، وهو المراد هنا.
(2) حسر ثوبه أي عن بعض بدنه، و«حديث عهد بربه»، أي جديد قريب لم يتناول بعد، ولم يتغير بملابسة شيء.
(3) منهم صاحب الإقناع، وفي المنتهى: الغسل، وجزم بهما الشافعية، واقتصر الموفق والشارح على الوضوء.
(4) رواه الشافعي مرسلاً، فيدل على المشروعية، و«سال الوادي» أي سال ماؤه.
(5) كالأنهار والعيون، ولم أره لغيره من الأصحاب ولا غيرهم، ولم يرد به أثر، ولا يصح فيه القياس.(4/34)
(وإذا زادت المياه وخيف منها(1) سن أن يقول: اللهم حوالينا) أي أنزله حوالي المدينة، في مواضع النبات(2) (ولا علينا) في المدينة، ولاغيرها من المباني(3) (اللهم على الظراب) أي الروابي الصغار(4) (والآكام) بفتح الهمزة تليها مدة، على وزن آصال(5) وبكسر الهمزة بغير مد، على وزن جبال(6).
__________
(1) أي زادت عن حاجتهم وخافوا الضرر من زيادة المياه.
(2) أي سن سؤالهم أن يكشفه عنهم، ويجعله في الأودية والمراعي التي تحيط بهم ولا يضرها، من غير صلاة، باتفاق أهل العلم، لأن الضرر بزيادة المياه أحد الضررين، فاستحب الدعاء لإزالته، وكذا إن زادت مياه العيون بحيث يضر استحب الدعاء لتخفيفه، «وحوالينا» جمع حوال، وإن كان ظاهره التثنية وقيل تثنية حوال، ولمسلم «حولنا»، وحولنا وحوالينا وحولينا، كلها بمعنى.
(3) أي لا تنزله على الأبنية والطرق، فهو بيان للمراد بالذي قبله، لشموله للأبنية والطرق التي حواليهم.
(4) حكاه الجوهري وغيره، فهي دون الجبل، وفوق الرابية، والظراب بكسر الظاء المشالة جمع ظرب بكسر الراء، خصها بالطلب لأنها أطيب للراعية من شواهق الجبال، وللبخاري على رءوس الجبال، وفي لفظ «ظهور الجبال».
(5) جمع أكم ومفرده أكمة، وقال ابن سيده: والجمع أكَم وأكم وأكُم وإكّام، وقال ابن جني: آكم.
(6) قال في اللسان: ويجوز أن يكون آكام كجبل وأجبال، وفي المطلع: الأكمة مفرد، جمع أربع مرات أكمة ثم أكم بفتح الهمزة والكاف، ثم إكام كجبال، ثم أكم كعنق، ثم آكام كآصال.(4/35)
قال مالك: هي الجبال الصغار(1) (وبطون الأودية) أي الأمكنة المنخفضة(2) (ومنابت الشجر) أي أصولها لأنه أنفع لها(3) لما في الصحيح أنه عليه السلام كان يقول ذلك(4) (ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به)(5).
__________
(1) وقيل: هي التراب المجتمع، وقيل: الهضبة الضخمة، وقيل: الجبل الصغير، وقال عياض: ما ارتفع من الأرض وعلا، ولم يبلغ أن يكون جبلاً، وكان أكثر ارتفاعًا مما حوله كالتلول ونحوها.
(2) والمراد بها ما يتحصل فيها الماء لينتفع به.
(3) ولا ضرر فيه، والمنبت كمجلس ومقعد، موضع النبات، جمعه منابت، وعند العرب، وإنه لفي منبت صدق، في أصل صدق.
(4) متفق عليه، عن أنس من طرق وفيه من الفوائد معنى التعليل، لئلا يكون علينا، وفيه تعليمنا الأدب حيث لم يدع برفعه مطلقاً، لأنه قد يحتاج إلى استمراره، بالنسبة لبعض الأودية والمزارع، فطلب منع ضرره، وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق بحيث لا يتضرر به سالك، ولا ابن سبيل، وسأل بقاء نفعه على بطون الأودية وغيرها، وأنَّ من وصلت إليه نعمة لا يتسخط بعارض قارنها، بل يسأل الله رفعه وبقاءها وأن الدعاء برفع المضر لا ينافي التوكل.
(5) هكذا بخط المصنف بإسقاط الواو، والتلاوة بإثباتها، ولعله لعدم ما يعطف عليه، وكذا في المنتهى وغيره، أي لا تحملنا من البلاء والمحن والمشاق، والمصائب ما لا طاقة لنا به، أتى بها لأنها تناسب الحال، فاستحب قولها، كالأقوال اللائقة بمحالها، ويدعو كذلك لزيادة ماء العيون والأنهار، بحيث يتضرر بالزيادة قياسا على المطر.(4/36)
أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق(1) (الآية) أي (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين)(2) ويستحب أن يقول: مطرنا بفضل الله ورحمته(3)
__________
(1) هذا تفسير لقوله تعالى: { وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا } فلعله سبق قلم.
(2) اعف عنا: أي تجاوز عنا ذنوبنا وامحها عنا، واصفح عنا فيما بيننا وبينك، مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا واغفر لنا أي استر علينا، ولا تفضحنا فيما بيننا وبين عبادك، فلا تظهرهم على مساوينا، وارحمنا فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر، فإننا لا ننال العمل ولا ترك معصيتك إلا برحمتك والسنة أن يسألوا الله في نحو خطبة الجمعة، وأعقاب الصلوات لأنه نازلة.
(3) لما ثبت في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب».
وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب، فأخبر أن العباد قسمان، فيسن أن يقول في إثر المطر، مطرنا بفضل الله ورحمته.(4/37)
ويحرم بنوء كذا(1).
ويباح في نوء كذا(2) وإضافة المطر إلى النوء دون الله كفر إجماعًا قاله في المبدع(3)
__________
(1) أي يحرم قول: مطرنا بنوء النجم النلاني، ولعل مراده إذا قصد نسبة الفعل إلى الله بسبب النجم، وأما نسبة الفعل إلى النجم فكفر إجماعًا كما ذكره الشارح وأدخلوه في باب الاستسقاء لأن العرب كانت تنتظر السقيا في الأنواء، والنوء النجم مال للغروب، جمعه أنواء، وهي ثمانيه وعشرون منزلة للقمر، يسقط في المغرب كل ثلاث عشرة ليلة، منزلة مع طلوع الفجر، ويطلع أخرى تقابلها ذلك الوقت، في المشرق، وتنقضي جميعها مع انقضاء السنة الشمسية كبروج الشمس، وتقدم وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة، وطلوع نظيرها يكون مطر، فينسبونه إليها، فيقولون: مطرنا بنوء كذا، وسمي نوءًا لأنه إذا سقط الساقط بالمغرب ناء الطالع بالمشرق.
(2) كما لو قال: مطرنا في شهر كذا فإنه لا بأس بذلك.
(3) وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية، كاعتقادهم في الأموات والغائبين لجلب نفع أو دفع ضر.
تتمة
قال ابن القيم: المطر معلوم عند السلف والخلف أن الله تعالى يخلقه من الهوى، ومن البخار المتصاعد، لكن خلقه للمطر من هذا كخلق الإنسان من نطفة، وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى، ولم يخلق شيئًا إلا من مادة اهـ وإذا رأى سحابًا أوهبت ريح سأل الله من خيره، وتعوذ من شره، ولا يجوز سب الريح، لما في الصحيح «الريح من روح الله تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا بالله من شرها».
وإذا سمع صوت الرعد والصواعق، قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك»، ويستحب أن يقول: سبحان من سبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، لما صح أن ابن الزبير كان إذا سمعه ترك الحديث وقال ذلك، وقال مجاهد: الرعد ملك، والبرق أجنحته يسقن السحاب، قال الشافعي: ما أشبهه بظاهر القرآن يعني قوله: { والمدبرات أمرًا } وللترمذي وصححه «معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله» فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره السحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر» ولا يتبع بصره البرق أو الرعد أو المطر.
قال الماوردي: لأن السلف الصالح كانوا يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق، ويقولون عند ذلك: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبوح قوس» فيختار الاقتداء بهم في ذلك، وروي عن ابن مسعود قال: أمرنا أن لا نتبع أبصارنا الكواكب إذا انقضت، وأن نقول عند ذلك: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله فيستحب أن يقول إذا انقض كوكب ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وإذا سمع نهيق حمار أو نباح كلب قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا سمع صياح الديك سأل الله من فضله وورد أن قوس قزح أمان من الغرق، وهو من آيات الله، ودعوى العامة: إن غلبت حمرته كانت الفتن، وإن غلبت خضرته كان رخاءً وسرورًا، هذيان.
آخر المجلد الثاني من حاشية الروض المربع ويليه المجلد الثالث
وأوله كتاب الجنائز.(4/38)
.
.............................................................
فهرس المجلد الثاني
من حاشية الروض المربع
الموضوع ... الصفحة
باب صفة الصلاة ... 3
معنى السكينة والوقار
تسوية الصف وتكميل الأول ... 8
تكبيرة الإحرام والكلام عليها ... 10
يجهر الإمام بالتكبير والتسميع ... 16
الحكمة في الجهر والإسرار ... 18
وضع كفه اليمنى على اليسرى ... 19
الاستفتاحات الثابتة كلها سائغة ... 23
الفاتحة ركن في كل ركعة لغير مأموم ... 26
يلزم الجاهل تعلم الفاتحة والذكر الواجب ... 31
يقرأ في الصبح من طول المفصل ... 34
القراءة الصحيحة التي تصح بها الصلاة ... 37
الاعتدال ركن في كل ركعة ... 46
حكم السجود في الصلاة ومعناه وكيفيته وفضله ... 50
مباشرة الأرض بالجباه ... 54
الجلوس بين السجدتين وما يقول فيه ... 58
الركعة الثانية مثل الأولى ما عدا التحريمة والاستفتاح ... 62
كراهة الجهر بالتشهدين ... 66
مايقول في التشهد الأخير ... 71
التسليم والالتفات فيه ... 77
يدعو بعد كل مكتوبة مخلصًا في دعائه ... 85
فصل فيما يكره في الصلاة ويباح ويستحب ... 87
يكره افتراش ذراعيه وعبثه ... 91
يكره دخوله في الصلاة حاقنًا ... 96
حكم رد المار بين يدي المصلي ... 102
ما يجوز قتله وهو يصلي ... 107
إذا نابه شيء في صلاته سبح رجل وصفقت امرأة ... 111
تسن صلاته إلى سترة ... 115
يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ... 119
فصل في حصر أفعال الصلاة وأقوالها ... 122
أركانها أربعة عشر والمتفق عليه سبعة ... 122
واجباتها ثمانية ... 128
سن الأقوال والأفعال ... 133
باب سجود السهو ... 137
إن سبح به ثقتان لزمه الرجوع ... 143
إذا غلب الوسواس لا يبطلها ... 147
القول المشروع في غير موضعه لا يبطلها ... 150
فصل في الكلام على السجود للنقص ... 161
من شك في عدد الركعات أخذ بالأقل ... 166
الواجب من سجود السهو ... 172
جواز السجود قبل السلام أو بعده ... 174(4/39)
باب صلاة التطوع، وأوقات النهي ... 178
فضل طلب العلم لمن صحت نيته ... 179
من ترك الوتر عمدًا فهو رجل سوء ... 183
يخير في دعاء القنوت بين فعله وتركه ... 189
القنوت في صلاة الفجر يسن للحاجة ... 197
التراويح سنة مؤكدة. ... 199
تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام أو قصره ... 201
تتمة في حفظ القرآن وفضله ... 207
أهل القرآن العالمون به العاملون بما فيه ... 210
السنن الراتبة وتاركها ... 211
السنن غير الراتبة: عشرون ... 217
فصل في فضل صلاة الليل ... 219
أقل صلاة الضحى ركعتان ... 229
تتمة في صلاة الاستخارة، والتوبة ... 231
سجود التلاوة ... 233
عدد السجدات ومواضعها ... 237
ما يقوله في سجدة التلاوة ... 240
أوقات النهي ... 244
يجوز فعل ما له سبب في أوقات النهي ... 251
باب صلاة الجماعة ... 255
من سره أن يلقي الله مسلما فليصل حيث ينادى بها. ... 259
يحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه إلا بإذنه ... 267
لا تدرك الجماعة إلا بإدراك ركعة ... 274
من كان له إمام فقراءته له قراءة ... 278
لا يجب على الإمام أن يسكت ليقرأ المأموم ... 281
يحرم سبق الإمام عمدا ... 285
يسن للإمام التخفيف مع الإتمام ... 289
شروط خروج المرأة إلى المسجد ووجوب المنع من الاختلاط والزينة ... 294
تتمة في تكليف الجن وبعض أحكامهم ... 295
فصل في أحكام الإمامة ... 296
الأولى بالإمامة ... 296
من صحت صلاته صحت إمامته ... 308
إذا صلى الجنب بالقوم أعاد وحده ... 318
تكره إمامة الفأفاء والتمتام ونحوهما ... 334
يصح ائتمام مفترض بمتنقل ... 329
فصل في موقف الإمام والمأمومين ... 332
تصح صلاة الفرد خالف الصف إذا لم يجد موقفا ... 338
فصل في أحكام الاقتداء ... 347
يكره وقوفهم بين السواري بلا حاجة ... 355
فصل في الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة ... 357
من الأعذار بتركهما خوف ضياع المال ونحوه ... 359
باب صلاة أهل الأعذار ... 366(4/40)
يومئ العاجز برأسه راكعًا وساجدًا ... 369
فصل في قصر المسافر الصلاة ... 376
إباحة القصر لمن ضرب في الأرض ... 380
المسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرا ... 382
القصر لا يحتاج إلى نية ... 389
فصل في الجمع ... 396
الجمع رخصة عارضة للحاجة ... 396
الأفضل فعل الأرفق من جمع تقديم أو تأخير ... 404
فصل: صلاة الخوف صحت بست صفات كلها جائزة ... 411
إذا اشتد الخوف صلوا رجالا وركبانا ... 415
باب صلاة الجمعة ... 418
تقسيمهم المقيم إلى مستوطن وغيره لا دليل عليه ... 426
فصل في شروط صحة الجمعة وما يتعلق بذلك ... 432
تنعقد الجمعة بثلاثة واحد منهم يخطب ... 437
من أدرك مع الإمام ركعة أتمها جمعة. ... 441
اشتراط تقدم خطبتين وما يجب فيهما ... 443
لا بد في الخطبة من الحث والزجر ... 447
من سننهما أن يخطب على منبر ... 451
طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ... 457
فصل في صفة صلاة الجمعة وبعض أحكامها ... 460
أقل السنة الراتبة بعدها ركعتان ... 467
يسن الغسل لها وقيل بوجوبه ... 470
يكثر من الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها ... 479
ما يفعل من تقديم المفارش منهي عنه ... 484
لا يجوز الكلام والإمام يخطب ... 487
باب صلاة العيدين أي صفتها وأحكامها وما يتعلق بذلك ... 492
أول وقتها كصلاة الضحى وآخره إلى الزوال ... 494
صلاة العيدين ركعتان ... 504
إذا سلم من الصلاة خطب خطبتين ... 510
يتأكد التكبير المطلق في ليلتي العيدين، وفي الخروج إليهما ... 516
تهنئة الناس بعضهم بعضا ... 522
باب صلاة الكسوف ... 524
كيفية صلاة الكسوف ... 527
الكسوف يطول زمانه ويقصر ... 532
باب صلاة الاستسقاء ... 539
صفتها في موضعها وأحكامها كعيد ... 541
يكثر في الخطبة الاستغفار والدعاء ... 550
ما يقوله إذا زادت المياه ... 560
تتمة في خلق المطر، وصوت الرعد ... 563(4/41)
جمع
الفقير إلى الله تعالى
عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي
الحنبلي رحمه الله
1312-1392هـ
المجلد الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الجنائز(1)
بفتح الجيم جمع جنازة بالكسر(2) والفتح لغة(3) اسم للميت أو للنعش عليه ميت(4).
__________
(1) أي صفة عيادة المريض وتلقينه، وتغسيل الميت وتكفينه، والصلاة عليه ودفنه، وغير ذلك.
قال ابن القيم: وكان هديه - صلى الله عليه وسلم - في الجنائز أكمل الهدي، مخالفًا لهدي سائر الأمم، مشتملاً على إقامة العبودية لله تعالى على أكمل الأحوال، وعلى الإحسان للميت، ومعاملته بما ينفعه في قبره، ويوم معاده، من عبادة وتلقين، وتطهير، وتجهيز إلى الله تعالى على أحسن أحواله وأفضلها، فيقفون صفوفًا على جنازته، يحمدون الله ويثنون عليه، ويصلون على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز، ثم على قبره يسألون له التثبيت، ثم الزيادة إلى قبره والدعاء له، كما يتعاهد الحي صاحبه في الدنيا، ثم الإحسان إلى أهله وأقاربه وغير ذلك.
(2) والجنائز بالفتح لا غير، قاله النووي والحافظ وغيرهما.
(3) حكاه ابن قتيبة وجماعة والكسر أفصح.
(4) ويقال: بالفتح للميت، وبالكسر للنعش عليه ميت، بدل عكسه، حكاه صاحب المطالع، وقيل هما لغتان فيهما، ولفظ القاموس: الجنازة الميت ويفتح، أو بالكسر الميت، وبالفتح السرير، أو عكسه، أو بالكسر السرير مع الميت.(5/1)
فإن لم يكن عليه ميت فلا يقال نعش، ولا جنازة، بل سرير، قاله الجوهري(1) واشتقاقه من جَنَزَ إذا ستر(2) وذكره ها لأّن أهم ما يفعل بالميت الصلاة(3) ويسن الإكثار من ذكر الموت(4) والاستعداد له(5)
__________
(1) ولفظه: والنعش سرير الميت، سمي بذلك لارتفاعه، فإذا لم يكن عليه ميت، فهو سرير. وقال: الجنازة الميت على السرير، فإذا لم يكن ميت فهو سرير ونعش عن الأصمعي، وقال الأزهري: لا يسمى جنازة حتى يشد الميت عليه مكفنًا.
(2) وبابه ضرب، قاله ابن فارس وغيره، وفي القاموس: جنزه يجنزه ستره وجمعه. قال النووي: والمضارع يجتز بكسر النون، وقيل لمناسبة موجودة، لأنه إما ساتر أو مستور، فكان معناه لغة الستر.
(3) عليه لما فيها من فائدة الشفاعة له، والدعاء له بالنجاة من العذاب، لا سيما عذاب القبر الذي سيدفن فيه، وإلا فحقه أن يذكر بين الوصايا والفرائض، وأفرده وأخره لمغايرتها لمطلق الصلاة نظرًا لتلك المغايرة، فإنها ليست صلاة من كل وجه، ولتعلقها بآخر ما يعرض للحي وهو الموت.
(4) باتفاق أهل العلم، لأنه أدعى إلى امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والموت مفارقة الروح والجسد، وقد مات يموت ويمات بفتح الياء وتخفيف الميم، فهو ميت، وميت بالإسكان، وليس الموت بإفناء وإعدام، وإنما هو انتقال، وتغير حال، وفناء للجسد دون الروح، إلا ما استثنى من عجب الذنب.
(5) أي التأهب وأخذ العدة، بالمبادرة إلى التوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، لأنه شرط لصحة التوبة، بل أهم شروطها، لمن كان عنده مظلمة لأحد من نفس أو مال أو عرض، وبالجملة فيسن مبادرته إلى الإقبال على الخير، ومجانبة الشر، لئلا يفجأه الموت المفوت له، فيلاحظ الجوف من الله، والعرض والسؤال مما يقع له بعد الموت، ونقل عن أحمد أنه استحسن استعداد الكفن، لحل أو لعبادة فيه، لما فيه من أثر الطاعة، وقال الشيخ: لا يستحب للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه، والعبد لا يدري أين يموت، وإذا كان مقصود الرجل الاستعداد للموت، فهذا إنما يكون بالعمل الصالح.(5/2)
.
لقوله عليه الصلاة والسلام: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات» هو بالذال المعجمة(1).
__________
(1) رواه الخمسة بأسانيد صحيحة، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وهاذم اللذات هو الموت، فيسن الإكثار من ذكره، والاستعداد له، والتوبة قبل نزوله، والهذم القاطع، وتمام الحديث «فيما ذكر في كثير إلا قلله، ولا في قليل إلا كثره» أي ما ذكر في قليل الرزق إلا استكثره الإنسان، لاستقلال ما بقي من عمره، وما ذكر في كثير إلا قلله، لأن كثير الدنيا إذا عَلمّ انقطاعَهُ بالموت قلّل ما عنده، وللترمذي وغيره عن ابن مسعود مرفوعًا «استحيوا من الله حق الحياء» قالوا: إنا نستحي يا نبي الله والحمد لله؛ قال «ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» ولابن ماجه عن أنس مرفوعًا: أنه أبصر جماعة يحفرون قبرًا، فبكى حتى بل الثرى بدموعه، وقال «لمثل هذا فاستعدوا» وإسنادهما حسن، وفي الصحيح «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وروي عنه «الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت» وسئل: أي الناس أكيس وأحزم؟ قال «أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادً، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف، الدنيا والآخرة» رواه ابن ماجه وغيره.(5/3)
ويكره الأنين(1)
__________
(1) ما لم يغلبه لأنه يترجم عن الشكوى، بل عليه أن يستحضر ما وعد الله الصابرين، وفإنه قال { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ويجب الصبر إجماعًا، فإن الثواب في الصائب معلق على الصبر عليها، والصبر حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك، والصبر الجميل صبر بلا شكوى إلى المخلوق، والشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، بل مطلوبة شرعًا مندوب إليها اتفاقًا، وأما الرضا فمنزلة فوق الصبر، فإنه يوجب رضي الله عز وجل، ومن شكى إلى الناس وهو في شكواه راض بقضاء الله، لم يكن ذلك جزعا، لقوله لجبرائيل «أجدني مغمومًا، أجدني مكروبًا» وقوله «بل أنا وارأساه» وقال له ابن مسعود: إنك لتوعك وعكًا شديدًا. قال «أجل كما يوعك رجلان منكم» متفق عليه، وقول أيوب { مَسَّنِيَ الضُّرُّ } ونحو ذلك مما يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان من المصائب، ولا يكون ذلك شكوى.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود: إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك، فإذا حمد الله تعالى، ثم أخبر بعلته، لم يكن شكوى منه، إلا أن أخبر بها تبرمًا وتسخطً، لا للاعتبار والتسلية، كقول خباب: ما لقي أحد ما لقيت. وكقول أبي هريرة عن جوعه وربطه الحجر، وإذا كانت المصيبة مما يمكن كتمانها فكتمانها من أعمال الله الخفية، وذكر الشيخ أن عمل القلب من التوكل وغيره واجب باتفاق الأئمة، ويحسن ظنه بالله، فصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله» أي أن يغفر له ويرحمه، ويتدبر ما ورد من الآيات والأحاديث من كرم الله وعفوه ورحمته، وما وعد به أهل توحيده، وما يبدلهم من الرحمة يوم القيامة، وفي الصحيح «أنا عند ظن عبدي بي» زاد أحمد «إن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن بي شرًا فله» وقال «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي خيرًا».
وفي الصحيحين «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن ذكره لقاء الله كره الله لقاءه» فتأكد أن على العبد أن يحسن ظنه عند إحساسه بلقاء الله، لئلا يكره لقاء الله، ويسن لمن عنده تحسين ظنه، وتطعيمه في رحمه ربه، ويذكر له الآيات والأحاديث في الرجاء، وينشطه لذلك، وقيل بوجوبه إذا رأى منه أمارات اليأس والقنوط، لئلا يموت على ذلك فيهلك، فهو من النصيحة الواجبة، ويغلب الرجاء لقوله: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } وأما في الصحة فيغلب الخوف، ليحمله على العمل، ونص أحمد: يكون خوفه ورجاءه واحدًا، فأيهما غلب على صاحبه هلك. قال الشيخ: هذا العدل، لأن من غلب عليه الخوف أوقعه في نوع من اليأس، ومن غلب عليه الرجاء أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله، والرجاء بحسب رحمة الله يجب ترجحيه وأما الخوف فيكون بالنظر إلى تفريط العبد، ومن أقبح القبائح أن يكون آخر عهده من الدنيا التفريط.(5/4)
.
وتمنى الموت(1).
__________
(1) أي ويكره تمني الموت لضر نزل به من مرض، أو ضيق دنيا أو غير ذلك، لحديث «لا يتمنين أحدكم الموت، ولا يدع به من قبله أن يأتيه، إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا» رواه مسلم، ولأحمد وغيره «وإن من السعادة أن يطول عمر العبد، حتى يرزقه الله الإنابة» وعن بعض السلف: إن كان من أهل الجنة فالبقاء خير له، وإن كان من أهل النار فما يعجله إليها. وعن أنس «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» متفق عليه، ولهما «لا يتمنن أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب» ولما في التمني المطلق من الاعتراض ومراغمة القدر، وفي هذه الصورة ونحوها نوع تفويض وتسليم للقضاء، والمرض كفارة له، وموعظة في المستقبل.
وأما تمني الموت لضرر في الدين، أو وقوع في فتنة ونحوها فلا يكره، بل
يستحب، للحديث المشهور «وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» صححه الترمذي وغيره، ولقوله { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } وقال عن مريم { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } ولعل المراد أيضًا مع عدم الضرر، لحديث عمار «اللهم بعلمك الغيب؛ وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» الحديث رواه أحمد وغيره بسند جيد، ومراد الأصحاب غير تمني الشهادة، فإنه مستحب، لا سيما عند حضور أسبابها، لما ثبت في الصحيح وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - «من تمنى الشهادة خالصًا من قلبه، أعطاه الله منازل الشهداء» وفيه عن عمر قال: «اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك».(5/5)
ويباح التداوي بمباح(1) وتركه أفضل(2) ويحرم بمحرم مأكول وغيره(3)
__________
(1) إجماعًا، ولا يجب عند جمهور العلماء، ولو ظن نفعه، واختار القاضي وابن عقيل وابن الجوزي وغيرهم فعله، وفاقًا لأكثر الشافعية، وعند الحنفية أنه مؤكد، حتى يدانى به الوجوب، ومذهب مالك أن التداوي وتركه سواء.
(2) هذا المشهور في المذهب، لخبر السبعين ألفًا يدخلون الجنة، ولأنه أقرب إلى التوكل، وجاءت الأحاديث بإثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، قال الشيخ: ينبغي أن يعلق الرجاء بالله لا بمخلوق، ولا بقوة العبد ولا عمله، فإن تعليق الرجاء بغير الله شرك، وإن كان الله جعل لها أسبابًا، فالسبب لا يستقل بنفسه، بل لا بد له من معاون، ولهذا قيل: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والقدح في الأسباب بالكلية قدح في الشرع.
(3) وهو مذهب جماهير العلماء، لما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» ورواه ابن حبان وغيره مرفوعًا، ولأبي داود وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا «إن الله أنزل الدواء وأنزل الداء، وجعل لكل داء دواء، ولا تداووا بحرام» ولأحمد والترمذي وغيرهما عنه: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء بالخبيث. وفي صحيح مسلم وغيره في الخمر «إنه ليس بدواء ولكنه داء» فهي أم الخبائث، وحسم الشارع عن قربانها، حتى في تناولها على وجه التداوي.
ويحرم التداوي بـ«سم»، لقوله { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } وفي بعض ألفاظ حديث النهي عن الدواء بالخبيث: يعني السم. فإن كان الداء مسمومًا، وغلبت منه السلامة، ورجي نفعه أبيح، لدفع ما هو أعظم منه، كغيره من الأدوية، وكذا نبات فيه سمية إن غلبت السلامة مع استعماله، ويدخل فيما تقدم ترياق فيه لحوم حيات، أو خمر أو ضفدع، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الضفدع لذلك، وكتب عمر إلى خالد بن الوليد، وكان قد بلغه أنه يتدلك بالخمر، فقال: إن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنها، وقد حرم مس الخمر، كما حرم شربها، فلا تمسوها أجسادكم، فإنها نجسة.
وقال شيخ الإسلام في التداوي بالتلطخ به ثم يغسله بعد ذلك: الصحيح أنه يجوز للحاجة، كما يجوز استنجاء الرجل بيده، وإزالة النجاسة بيده، وكلبس الحرير للتداوي به، لا ما أبيح للضرورة، كالمطاعم الخبيثة، فلا يجوز التداوي بها. وذكر الدليل والتعليل في غير موضع، وجوز هو وغيره الاكتحال بميل الذهب والفضة للحاجة.
ولا بأس بالحمية، وهي منع المريض من تناول ما يضره، وتحرم التميمة، وهي عوذ أو خرز أو خيوط ونحوها يتعلقها، لقوله «من تعلق تميمة فلا أتم الله له»، وفي رواية «من تعلق تميمة فقد ِأشرك» وذلك لما فيها من تعلق القلب على غير الله، في جلب نفع، أو دفع ضر، فكان شركًا من هذه الحيثية، ولا بأس بكتب قرآن ذكر في إناء ثم يسقى فيه مريض وحامل لعسر الولد.(5/6)
.
.............................................................
من صوت ملهاة وغيره(1) ويجوز ببول إبل فقط، قاله في المبدع(2) ويكره أن يستطب مسلم ذميًا، لغير ضرورة(3) وأن يأخذ منه دواءً لم يبين له مفرداته المباحة(4).
__________
(1) الملهاة بكسر الميم آلة اللهو، كالعود والطنبور والطبل ونحو ذلك، وغير صوت الملهاة كسماع الغناء المحرم، وأما السماع الطيب فهو طيب الأنفس، وراحة القلوب، وغذاء الأرواح، ومن أجل الطب الروحاني، وسبب السرور، ويقوى أفعال القوى، ويدفع أمراضًا ويخصب أبدانًا، ويلائم أصحاب العلل، وأنفعه سماع كتاب الله وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم -، مما ثبت عنه في الرقائق، وأبيات موزونة في الزهد، وقال ابن القيم وغيره: وكل طبيب لا يداوي العليل بتفقد قلبه، وصلاحه وتقوية أرواحه وقواه بالصدقة، وفعل الخير والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، ومن أعظم العلاج فهو الخير والإحسان، والذكر والدعاء، والتضرع إلى الله، والتوبة، وتأثيره أعظم من الأدوية، لكن بحسب استعداد النفس وقبولها.
(2) أي ويجوز التداوي ببول إبل فقط، لا غيره مما أكل لحمه، ونقل جماعة: يجوز ببول ما أكل لحمه، قياسًا على الإبل، وتقدم أمره العرنين أن يشربوا من أبوالها وألبانها.
(3) أي يكره أن يستوصف مسلم ذميًا أو يطلب منه مداواته، ولا يأمنه وقد خونه الله، إلا لضرورة نزلت به، أما إذا كان بحال ضرورة فلا كراهة، فإن الضرورة تبيح المحظور.
(4) من أي جنس من أجناس الأدوية المركبة، وذلك لئلا يجعل في نحو معاجين يكون منها نحو خمر.(5/7)
و(تسن عيادة المريض)(1).
__________
(1) أي زيادة وافتقاده، من العود وهو الرجع، حكاه النووي وغيره إجماعًا لما في الصحيحين وغيرهما «خمس تجب للمسلم على أخيه» وذكر عيادة المريض، وفي لفظ «حق المسلم على المسلم» وفي الصحيح «عودوا المريض» وغير ذلك من الأحاديث، وقال شيخ الإسلام: الذي يقتضيه النص وجوب عيادة المريض، كرد السلام، وأوجبها أبو الفرج وغيره، ولعل المراد مرة، أو على الكفاية، اختاره الشيخ، والسنة تدل على أنها واجبة أو مندوبة مؤكدة، شبيهة بالواجب الذي لا ينبغي تركه، أو في حق بعض دون بعض.
وورد في فضلها آثار كثيرة: منها ما رواه مسلم وغيره «إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم، لم يزل في مخرفة الجنة» أي يخترف من ثمارها «حتى يرجع» وورد عن نحو عشرة من الصحابة مرفوعًا «من عاد مريضًا خاض في الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس غمرته» وللترمذي أنه قال «من عاد مريضًا نادى مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً» ويسن أكثر من مرة إجماعًا، لقصة سعد، ومن كل مرض، ولو من وجع ضرس، أو رمد، أو دمل ونحوه، وكان عليه الصلاة والسلام يعود من الرمد، وغيره، رواه أبو داود وغيره، ولو عدوًا، ومن لا يعرفه، وكذا ذمي قريب، أو جار ونحوهما، ومن يرجى إسلامه.
ونص أحمد: لا يعاد المبتدع. وعنه الداعية فقط، وفي النوادر: تحرم عيادة المبتدع، ومن جهر بالمعصية، ومن فعل بحيث يعلم جيرانه ولو في داره فمعلن، والمستتر من لا يعلم به غالبًا، إما لبعده أو نحوه، غير من حضره، واعتبر الشيخ المصلحة في ذلك، وقال في عيادة النصراني: لا بأس بها، فإنه قد يكون في ذلك مصلحة، لتأليفه على الإسلام، اهـ. وعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - غلامًا له يهوديًا فأسلم، وعاد عمه وهو مشرك، ولا تكره عيادة رجل لامرأة غير محرم، لقصة أبي بكر مع أم أيمن وغيرها، إلا مع خوف الفتنة.(5/8)
والسؤال عن حاله، للأَخبار(1) ويغب بها(2) وتكون بكرة وعشيًا(3).
__________
(1) نحو: كيف حالك؟، وكيف تجدك؟. وكان عليه الصلاة والسلام يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه، ويسأله عن حاله، ويقول «كيف تجدك؟» ويسأل عما يشتهيه، ويخبره المريض بما يجده، بلا شكوى، الحديث بشر بن الحارث، ولما بلغ أحمد قال: أجد كذا، أجد كذا.
(2) أي بالعيادة وروي «أغبوا في عيادة المريض، وأربعوا» يقول: عد يومًا ودع يومًا، أو دع يومين وعد اليوم الثالث، أي لا تعودنَّ في كل يوم، لما يجده من ثقل العواد.
وصوب في الإنصاف اختلافه باختلاف حال الناس، وقطع به ابن عبد القوي وغيره فنحو القريب والصديق ممن يستأنس به المريض، أو يشق عليه عدم رؤيته كل يوم، يسن لهم المواصلة، ما لم يفهموا أو يعلموا كراهية، ومراد الأصحاب في الجملة.
شعرًا:
لا تضجرن عليلاً في مسائله
إن العيادة يوم بين يومين
بل سله عن حاله وادع الإله له
واجلس بقدر فواق بين حلبين
من زار غبًا أخًا دامت مودته
وكان ذاك صلاحًا للخليلين
(3) أي في أول النهار أو آخره، فالواو هنا بمعنى «أو» قال أحمد عن وسط النهار: ليس هو موضع عيادة. وفي رمضان ليلاً، لأنه أرفق بالعائد، وقال ابن القيم وغيره: لم يخص - صلى الله عليه وسلم - يومًا من الأيام، ولا وقتًا من الأوقات بعيادة، بل شرع لأمته ذلك ليلاً ونهارًا، وفي سائر الأوقات. اهـ. وتكون العيادة من أول المرض لخبر «إذا مرض فعده» ولا يطليل الجلوس عنده في الجملة، بل يختف باختلاف الزائر، أو يعمل بالقرائن، وظاهر الحال.(5/9)
ويأخذه بيده، ويقول: لا بأس طهور إن شاء الله تعالى. لفعله عليه السلام(1) وينفس له في أَجله، لخبر رواه ابن ماجه عن أبي سعيد(2) فإن ذلك لا يرد شيئًا(3) ويدعو له بما ورد(4)
__________
(1) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان إذا دخل على من يعوده قال «لا بأس طهور إن شاء الله» وربما قال «كفارة وطهور».
(2) ولفظه «إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله» ورواه الترمذي وغيره، فيهون عليه مما هو فيه.
(3) أي من القضاء والقدر، ولا بأس عليكم بتنفيسكم، وإنما هو تطييب لنفسه، وإدخال للسرور عليه، وتخفيف لما يجده من الكرب، وقيل لهارون وهو عليل: هون عليك، وطيب نفسك، فإن الصحة لا تمنع من الفناء، والعلة لا تمنع من البقاء. فقال: والله لقد طيبت نفسي، وروحت قلبي.
(4) فإنه صلى الله عليه وسلم يدعو للمريض ثلاثًا، كما قال لسعد «اللهم اشف سعدًا، اللهم اشف سعدًا، اللهم اشف سعدًا» رواه مسلم، وكان أحيانًا يضع يده على جبهة المريض، ثم يمسح صدره وبطنه، ويقول «اللهم اشفه» وكان يمسح بيده اليمنى على المريض ويقول «أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا» أخرجاه، ولأحمد وأبي داود وغيرهما «ما من مسلم يعود مريضًا لم يحضر أجله فيقول سبع مرات: أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يشفيك. إلا عوفي» وعن أبي سعيد أن جبرائيل عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال «بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل شر أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك» رواه مسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يرقي من به قرحة، أو جرح أو شكوى، فيضع سبابته بالأرض ثم يرفعها، ويقول «بسم الله بتربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى
سقيمنا، بإذن ربنا» أخرجاه، ويستحب أن يقرأ عنده فاتحة الكتاب، وسورة الإخلاص والمعوذتين، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينفث على نفسه بها، وقال لعثمان بن أبي العاص «ضع يدك على الذي يألم من جسدك, وقل: باسم الله، ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته، من شر ما أجد وأحاذر» وكان صلى الله عليه وسلم إذا أيس من المريض قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون».(5/10)
.
(و) يسن (تذكيره التوبة) لأنها واجبة على كل حال(1) وهو أحوج إليها من غيره(2).
__________
(1) من كل ذنب، وفي كل وقت، فقد يأتي الموت بغتة، ومن تمام نعمة الله على عبده توفيقه للتوبة النصوح، والاستغفار بين يدي ربه، ليلقاه طاهرًا مطهرًا من كل ذنب، فيقدم عليه مسرورًا راضيًا مرضيًا عنه، وتتأكد في حق المريض، والتوبة الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزيمة على أن لا يعود، والتوبة من ظلم الناس برد أموالهم، وتحللهم من أعراضهم، وإلا فالأمر إلى الله، ولا بد للمظلوم من الانتصاف يوم القيامة، ومن لم يتمكن فليكثر من فعل الخير ليرجح ميزان الحسنات، ومن تاب توبة عامة كانت مقتضية لغفران الذنوب كلها، وإن لم يستحضر أعيان الذنوب، إلا أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب عنه، لقوة إرادته إياه، أو لاعتقاده أنه حسن.
(2) لنزول مقدمات الموت به، قال صلى الله عليه وسلم «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» أي تبلغ روحه إلى حلقه، فإن قرب الموت لا يمنع من قبولها، بل المانع مشاهدة الأهوال التي يحصل العلم عندها على سبيل الاضطرار، فلا تقبل توبة اليائس، بجامع عدم الاختيار، وخروج النفس من البدن، وينبغي له أن يحرص
على تحسين خلقه، والاشتغال بنفسه، وما يعود عليه، وأن يجتنب المخاصمة، والمنازعة في أمور الدنيا، وأن يستحضر في ذهنه أن هذا آخر أوقاته في دار العمل، فيختمها بخير، ويستحل أهله وجيرانه، ومن بينه وبينه معاملة، ويوصي أهله بالصبر عليه، والدعاء له، ويجتهد في ختم عمره بأكمل الأحوال.(5/11)
(والوصية)(1) لقوله عليه السلام «ما حق امرئٍ مسلم له شيءٌ يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» متفق عليه عن ابن عمر(2).
__________
(1) أي ويسن أن يذكر المريض الوصية، ويرغبه فيها، ولو كان مرضه غير مخوف، لأن ذلك مطلوب حتى من الصحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب الوصية، والجمهور على استحبابها، وهذا في المتبرع بها، وأما الوصية بأداء الديون ورد الأمانات فواجب عليه.
(2) وفي رواية «ليلة» وفي رواية «ثلاثًا» أي ليس الحزم والاحتياط والمعروف شرعًا لامرئ إلا ذلك، و «ما» نافية، وجملة «له شيء» صفة «امرئ» وجملة «يوصي به» صفة لشيء، وجملة «يبيت ليلتين» خبر، وجملة «ووصيته» الخ، حال، والمعنى لا ينبغي له أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً، في حال من الأحوال، إلا أن يبيت بهذه الحال، وهي أن تكون وصيته مكتوبة عنده، وذكر الليلتين تأكيد لا تحديد، فلا ينبغي أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً إلا ووصيته مكتوبة عنده، لأنه لا يدري متى يدركه الموت، قال الشيخ: وقد روي «من مات ولم يوص لا يستطيع الكلام» ويعتمد على الله عز وجل فيمن يحب من بنيه وغيرهم، ويراه أهلاً، ويوصي بقضاء ديونه، وتفرقة وصيته، ونحو غسله، والصلاة عليه، وعلى غير بالغ رشيد من أولاده للأرجح في نظره، أمانة، وعدالة، وإصلاحًا، من قريب أو أجنبي، لأنه المصلحة، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على استحباب الوصية لمن له أو عليه ما يفتقر إلى الإيصاء به، من أمانة وضيعة وغير ذلك مع الصحة، وعلى تأكدها مع المرض.(5/12)
(وإذا نُزل به) أي نزل به ملك الموت لقبض روحه(1) (سن تعاهد) أرفق أهله وأتقاهم لربه بـ(بل حلقه بماءٍ أو شراب(2) وندي شفتيه) بقطنة(3) لأن ذلك يطفئُ ما نزل به من الشدة(4) ويسهل عليه النطق بالشهادة(5) (ولقنه لا إله إلا الله)(6).
__________
(1) وأيس من حياته، وظهر عليه علامات الموت، وخروج الروح، والروح هنا في النفس الناطقة المستعدة للبيان، وفهم الخطاب، ولا تفني بفناء الجسد.
(2) أي تعاهد ورعاية ألطف أهله، من والد وولد وقريب، وأتقاهم وأحناهم، وأعرفهم بمداراة المريض، فيجرع الماء أو الشراب ندبًا، بل وجوبًا إن ظهرت أمارة تدل على احتياجه له، كأن يهش إذا فعل به ذلك، لأن العطش يغلب حينئذ، لشدة النزع، وأجمع العلماء على وجوب الحضور عنده، لتذكيره وتأنيسه، وتغميضه والقيام بحقوقه، ويستحب لأهل المريض ومن يخدمه الرفقُ به، واحتمال الصبر على ما يشق من أمره، وكذا من قرب موته بسبب حد أو قصاص أو نحوهما، لقوله عليه الصلاة والسلام لولي التي زنت «أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها».
(3) أي بل شفتيه عند نشافهما بقطنة.
(4) أي لأن تعاهد بل حلقه وشفتيه يبرد ما نل به من شدة النزع، قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(5) لأن تعاهده بذلك يسهل عليه التلفظ بلا إله إلا الله.
(6) أي ويسن إجماعًا لقنه، بفتح فسكون، يعني أي تذكيره عند الاحتضار بكلمة الإخلاص ليموت عليها فتنفعه بحصول ما وعده الله عليها، ولأن تلك الحالة يتعرض فيها الشيطان لإفساد اعتقاد الإنسان، فيحتاج إلى مذكر له ومنبه على التوحيد، ولفعله صلى الله عليه وسلم، والمراد ختم كلامه بلا إله إلا الله،
فإنه ليس مسلم يقولها عند الموت إلا أنجاه الله من النار، وروي من حديث عطاء عن أبيه عن جده «من لقن عند الموت لا إله إلا الله. دخل الجنة»، واقتصر عليها لأنه يلزم من قولها الاعتراف بأن محمدًا رسول الله.(5/13)
لقوله عليه السلام «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» رواه مسلم عن أبي سعيد(1) (مرة، ولم يزد على ثلاث) لئلا يضجره(2).
__________
(1) ورواه أحمد وأهل السنن، ولمسلم عن أبي هريرة بمثل حديث أبي سعيد، وصرح المناوي وغيره بتواتره، والتلقين سنة مأثورة لهذا الخبر وغيره، عمل بها المسلمون، وأجمعوا عليها، وعلى جميع القيام بحقوقه، وعن معاذ مرفوعًا «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أحمد وغيره، ولمسلم «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» وله أيضًا: «ما من عبد قال: لا إله إلا الله؛ ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة» وروى غيره نحو ذلك من طرق كثيرة، وروى سعيد عن معاذ بن جبل مرفوعًا «من كان آخر قوله عند الموت: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له. هدمت ما كان قبلها من الخطايا والذنوب، فلقنوها موتاكم» فقيل: فكيف هي للأحياء؟ قال «أهدم وأهدم» واستفاض من غير وجه في الصحيحين وغيرهما، أن قول لا إله إلا الله من موجبات دخول الجنة، من غير تقييد بحال الموت، فبالأولى أن توجب ذلك إذا كان في وقت لا تعقبه معصية، وقوله «موتاكم» أي من قرب منه الموت، سماه ميتًا باعتبار ما يؤول إليه، كقوله «من قتل له قتيل».
(2) ولا يقال له: قل، بل يتشهده عنده، ولا يكثر التكرار، وكره أهل العلم الإكثار عليه، والموالاة، لئلا يضجره، فيقول: لا أقول. أو يتكلم بغيرها مما لا يليق، لضيق حاله، وشدة كربه، أو يكره ذلك بقلبه، وقال ابن المبارك مع ورعه لمن أكثر عليه: إذا قلت مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم. والجمهور على تلقينه مرة، وذكره في الفروع اتفاقًا.(5/14)
(إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه) ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله(1) ويكون (برفق) أي بلطف ومداراة(2) لأنه مطلوب في كل موضع، فهنا أولى(3) (ويقرأُ عنده) سورة (يس)(4) لقوله عليه السلام «اقرؤا على موتاكم سورة يس» رواه أبو داود(5).
__________
(1) وتقدم «أن من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» وكذا إن لم يجب أعاد تلقينه، ليكون آخر كلامه الشهادة، وفي قصة وفاة أبي طالب: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه.
(2) لئلا ينفر، ذكره النووي وغيره إجماعًا.
(3) أي اللطف والمداراة لما نزل به، ويسره برفق، لأنه مشغول بما هو فيه، فربما حصل له التأذي به إذا كان بعنف، وينبغي أن لا يلقنه من يتهمه، لكونه وارثًا، أو عدوًا أو حاسدًا ونحوهم، واستحب الشيخ وغيره تطهير ثيابه قبل موته.
(4) بسكون النون على الحكاية، واستحب شيخ الإسلام وغيره قراءتها عند المحتضر.
(5) ورواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان، وقال: أراد من حضرته المنية، لا أن الميت يقرأ عليه كذلك. وذكر ابن القيم رواية «عند موتاكم» أي من حضره الموت منهم، لأن الميت لا يقرأ عليه، وقال الشيخ: القراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على المحتضر، فإنها تستحب بـ(يس) وقيل: الحكمة في قراءتها اشتمالها على أحوال القيامة وأهوالها، وتغير الدنيا وزوالها، ونعيم الجنة وعذاب جهنم، فيتذكر بقراءتها تلك الأحوال الموجبة للثبات، قال الشيخ: وعرض الأديان عند الموت، ليس عامًا لكل أحد، ولا منفيًا عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان،ومنهم من لا تعرض عليه، وذلك كله من فتنة المحيا، والشطيان أحرص ما يكون على إغواء بني آدم وقت الموت.(5/15)
ولأَنه يسهل خروج الروح(1) ويقرأُ عنده أيضًا الفاتحة(2) (ويوجهه إلى القبلة)(3) لقوله عليه السلام عن البيت الحرام «قبلتكم أَحياءً وأَمواتًا» رواه أبو داود(4) وعلى جنبه الأّيمن أَفضل إن كان المكان واسعًا(5) وإلا فعلى ظهره مستلقيًا، ورجلاه إلى القبلة(6).
__________
(1) أي لأن قراءة (يس) عند المحتضر يسهل عليه خروج الروح، لما فيها من ذكر تغير الدنيا، وزوالها وغير ذلك.
(2) لفضلها، و { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } لفضلها أيضًا، وورد أنها المنجية من عذاب القبر. وقال أحمد: يقرأ عند الميت إذا حضر، ليخفف عنه بالقرآن.
(3) قبل النزول به وتيقن موته، لأنه الذي عليه الناس، خلفًا عن سلف، وقال بعضهم: لا يوجه قبل النزول به، وتيقن موته، وبعد تيقن الموت يوجه إجماعًا.
(4) ولحديث أبي قتادة أخرجه البيهقي وغيره، وأوضح منه قصة البراء بن معرور في إيصائه أن يوجه إلى القبلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أصاب السنة» رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما، وروي عن حذيفة أنه أمر أصحابه عند موته أن يوجهوه إلى القبلة، وكذا روي عن فاطمة وغيرها.
(5) أي لتوجيهه على جنبه، للأدلة على توسد اليمين عند النوم، فإنه ينبغي أن يكون المحتضر كذلك، وهو مذهب الجمهور مالك وأبي حنيفة ووجه للشافعية.
(6) أي وإن لم يكن المكان واسعًا لتوجيهه على جنبه، بل ضاق عن ذلك، فعلى ظهره مستلقيًا، ورجلاه إلى القبلة، كوضعه على مغتسله، وعنه: يوجه مستلقيًا على قفاه، سواء كان المكان واسعًا أو ضيقًا، اختاره أكثر أصحاب الأئمة وغيرهم، لأنه أيسر لخروج الروح، ولتغميضه، وشد لحييه، وأمنع من تقويس أعضائه، قال الموفق وغيره: ويحتمل أن يجعل على ظهر بكل حال.(5/16)
ويرفع رأسه قليلاً، ليصير وجهه إلى القبلة(1) (فإذا مات سن تغميضه)(2) لأّنه عليه السلام أَغمض أَبا سلمة، وقال «إن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» رواه مسلم(3) ويقول: بسم الله، وعلى وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4) ويغمض ذات محرم وتغمضه(5) وكره من حائض وجنب(6).
__________
(1) دون السماء، قاله جماعة، ولعله ما لم يشق.
(2) إجماعًا، للخبر، لا قبله، فذكر أبو داود أن أبا ميسرة غمض جعفرًا المعلّم في حالة الموت فرآه في منامه يقول: أعظم ما كان علي تغميضك لي قبل الموت، ومات الإنسان يموت ويمات، فهو مَيَّت ومَيْت، إذا فارقت روحه جسده.
(3) أول الحديث «إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فلا تقولوا إلا خيرًا» أي فلا يتكلم من حضره إلا بخير، ولأحمد عن شداد مرفوعًا «إذا حضرتم الميت فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا، فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت» ولأنها إذا لم تغمض بقيت مفتوحة، فيقبح منظره، ويساء به الظن، ويقال: أغمض عينيه وغمضها، لغتان، وفي قصة أبي سلمة قال صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه» فينبغي أن يقال مثل ذلك.
(4) يعني حال تغميضه، نص عليه، لما رواه البيهقي وغيره، عن بكر بن عبد الله المزني، ولفظه: وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5) كأمه وأخته وأم زوجته، وأخته من رضاع، وكأبيها وأخيها، وظاهره لا يباح لغير محرم، ولعله إن أدى إلى لمسه، أو نظر ما لا يجوز، ممن لعورته حكم.
(6) أي كره تغميض الميت من حائض أو جنب، نص عليه، وكره أن يقرباه
لعدم دخول الملائكة البيت الذي فيه جنب، وقيس الحائض على الجنب بجامع العذر.(5/17)
وأن يقرباه(1) ويغمض الأنثى مثلها أو صبي(2) (وشد لحييه) لئلا يدخله الهوام(3) (وتليين مفاصله) ليسهل تغسيله(4) فيرد ذراعيه إلى عضديه، ثم يردهما إلى جنبيه ثم يردهما(5) ويرد ساقيه إلى فخذيه، وهما إلى بطنه، ثم يردهما، ويكون ذلك عقب موته، قبل قسوتها(6) فإن شق ذلك تركه(7).
__________
(1) لتحضره الملائكة، وحكى ابن المنذر الإجماع جوازه، ولكن الأولى أن يكون المتولي والحاضر طاهرًا، لأنه أكمل وأحسن.
(2) أي يغمض الأنثى أنثى مثلها، أو صبي لم يبلغ الحلم.
(3) أي ويسن إذا مات شد لحييه، بعصابة ونحوها، تجمع لحييه ويربطها فوق رأسه، وعن عمر لما حضرته الوفاة قال لابنه عبد الله: إذا رأيت روحي بلغت لهاتي، فضع كفك اليمنى على جبهتي، واليسرى تحت ذقني. ولئلا يبقى ذقنه مفتوحًا, ويتشوه خلقه، وتدخله الهام، أو الماء وقت غسله.
(4) أي وينبغي تليين مفاصل أعضاء يديه ورجليه، جمع مفصل، ويكون عقب موته، قبل قسوتها، لبقاء الحرارة في البدن عقب الموت، فإنها إذا ألينت المفاصل حينئذ لانت، فسهل تغسيله، ولا يمكن تليينها بعد برودته.
(5) ويرد أصابع يديه إلى كفيه ثم يبسطهما.
(6) وبرودة أعضائه، فلا تلين عند الغسل.
(7) أي فإن شق تليين مفاصله على ما تقدم، تركه، للأمر بالرفق به(5/18)
(وخلع ثيابه) لئلا يحمي جسده فيسرع إليه الفساد(1) (وستره بثوب)(2) لما روت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين توفي سجي ببرد حبرة، متفق عليه(3) وينبغي أن يعطف فاضل الثوب عند رأْسه ورجليه، لئلا يرتفع بالريح(4) (ووضع حديدة) أو نحوها (على بطنه)(5).
__________
(1) ويتغير بدنه بسببها، وربما خرجت منه نجاسة فلوثتها، واحترامًا له، وصونًا له عن الهوام.
(2) أي ويسن ستر وجهه وسائر بدنه بثوب، إجماعًا.
(3) وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، سنة عشر من هجرته صلوات الله وسلامه عليه، ودفن ليلة الأربعاء صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، و«سجي» بضم السين وشد الجيم المكسورة، أي غطي جميع بدنه، قال الجوهري: سجيت الميت تسجية، إذا مددت عليه ثوبًا. وحكمته صيانته من الانكشاف، وستر عورته المتغيرة عن الأعين، والتسجية بعد نزع ثيابه التي توفي فيها، والبرد أكسية معروفة، أو ثوب مخطط، والحبرة بكسر الحاء وفتح الباء، ثوب فيه أعلام، أي مخطط ومحسن.
(4) وعلل الشافعية بأن لا ينكشف.
(5) أي ويسن وضع حديدة كمرآة وسيف وسكين ونحوها، كقطع طين على بطنه، فوق ثوبه المسجي به، وهو مستلق على ظهره، وقال ابن عقيل وغيره: هذا لا يتصور إلا وهو على ظهره، فيجعل تحت رأسه شيء عال، ليحصل مستقبلاً بوجهه القبلة، وقدموا الحديد لأنه أبلغ في دفع النفخ.(5/19)
لقول أنس: ضعوا على بطنه شيئًا من حديد، لئلا ينتفخ بطنه(1) (ووضعه على سرير غسله) لأنه يبعد عن الهوام(2) (متوجهًا) إلى القبلة، على جنبه الأيمن(3) (منحدرًا نحو رجليه) أي أن يكون رأسه أعلى من رجليه، لينصب عنه الماء وما يخرج منه(4) (وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأَة)(5) لقوله عليه السلام: «لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله» رواه أبو داود(6).
__________
(1) فيقبح منظره، رواه البيهقي وغيره، ولفظه: أنه مات مولى لأنس، عند مغيب الشمس، فقال أنس: ضعوا على بطنه حديدًا. وقدر بعضهم ما يوضع على بطنه بقدر عشرين درهمًا، ويصان عنه مصحف، وكتب حديث وفقه ونحوهما.
(2) ويرتفع عن نداوة الأرض، لئلا يتغير بنداوتها، أو يحمي على فراش، فيتغير، فإن كانت الأرض صلبة، جاز جعله عليها، لزوال العلة وهو سرعة تغيره.
(3) لما تقدم، وتقدم أنه يوضع على ظهره مستلقيًا.
(4) أي من الميت، لئلا ينفجر بعد، ويستحب أن يلي ذلك منه أرفق الناس به بأرفق ما يقدر عليه.
(5) أي يسن إسراع في تجهيزه، من غسل وتكفين وصلاة ودفن إجماعًا، فإن مات فجأة انتظر به من غدوة إلى الليل، نص عليه، وقال القاضي: يومين أو ثلاثة، ما لم يخف فساده، والفجاءة بضم الفاء والمد وكتمرة: الموت بغتة، من غير تقدم سبب من مرض وغيره، وتيقن موته أو من غير مرض ولا نزع ونحوه.
(6) وعن علي نحوه، رواه أحمد وغيره، ويشهد له أيضًا أحاديث الإسراع بالجنازة، ولأنه أحفظ له، وأصون من التغير، قال أحمد: كرامة الميت تعجيله،
وأول الحديث «ما أراه إلا قد حدث فيه الموت، فإذا مات فآذنوني، حتى أصلي عليه، وعجلوا به، فإنه لا ينبغي» الخ.(5/20)
ولا بأْس أن ينتظر به من يحضره، من وليه أو غيره، إن كان قريبًا، ولم يخش عليه، أو يشق على الحاضرين(1) فإن مات فجأَة(2) أَو شك في موته انتظر به حتى يعلم موته، بانخساف صدغيه(3) وميل أنفه، وانفصال كفيه(4).
__________
(1) نص عليه، لما يؤمل من الدعاء له إذا صلي عليه، ويباح إعلام الناس بموت قريبهم، للمبادرة لتهيئته، وشهود جنازته، والصلاة عليه وغير ذلك، بخلاف نعي الجاهلية، وهو النداء بموت الشخص، وذكر مآثره ومفاخره، قال ابن العربي وغيره: يؤخذ من مجموع الأحاديث في النعي ثلاث حالات، إعلام الأقارب والأصحاب وأهل الصلاح، فسنة، ودعوة الحفل للمفاخرة فتكره، والإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك فتحرم اهـ. ونعي النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه، ونعى الأمراء، «ونعى الميت» أخبر بموته، والنعي ليس ممنوعًا كله، وإنما نهي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، يرسلون من يعلن بخبر موت الميت، على أبواب الدور والأسواق.
(2) أي بغتة بسبب صعقة أو هدم أو حرق، أو خوف من حرب أو سبع أو ترد من جبل، أو في بئر أو نحو ذلك، وكذا المطعون والمبطون، ونحوهم، انتظر به حتى يتيقن موته، بالعلامات الدالة عليه، لئلا يكون مغنى عليه، أو انطبق حلقه، أو غلب المرار عليه، أو غير ذلك.
(3) وغيبوبة سواد عينيه في البالغين، وهو أقواها، والصدغ ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن، مثل قفل.
(4) أي انخلاعهما من ذراعيه، بأن تسترخي عصبة اليد، فتبقى كأنها منفصلة في جلدتها عن عظم الزند.(5/21)
واسترخاء رجليه(1) (وإنفاذ وصيته) لما فيه من تعجيل الأَجر(2) (ويجب) الإسراع (في قضاءِ دينه)(3).
__________
(1) أي لينها واسترسالها، بعد خروج الروح لصلابتها قبله، وكذا امتداد جلدة وجهه، وجلدة خصيتيه لانشمارهما بالموت، وأوضح علامات موته تغير رائحته، ولا ريب أن هذه العلامات دالة على موته يقينًا، ووجه تأخير من مات فجأة، أوشك في موته احتمال أن يكون عرض له سكتة ونحوها، وقد يفيق بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، وقد يعرف موت غير الفجأة بهذه العلامات أيضًا وغيرها، وموت الفجأة أشق، وفيه أثر، ولأحمد، قال: أكره موت الفوات، ولعله لما فيه من خوف حرمان الوصية، وفوات الاستعداد للمعاد، بالتوبة وغيرها من الأعمال الصالحة، وعن عائشة وابن مسعود: موت الفجأة راحة للمؤمن، وأسف على الفاجر. وذكر المدائني: أن الخليل وجماعة من الأنبياء ماتوا فجأة، قال: وهو موت الصالحين، وهو تخفيف على المؤمنين، وقد يقال: إنه لطف ورفق بأهل الاستعداد للموت، وغضب ممن له تعلقات يحتاج إلى إيصاء وتوبة، وفي الخبر «المحروم من حرم وصيته» فينبغي لولده أن يستدرك من أعمال البر ما أمكنه، مما يقبل النيابة.
وينبغي أن لا يترك الميت في بيت وحده، قال الآجري فيمن مات عشية: يكره تركه في بيت وحده، بل يبيت معه أهله. وقال النخعي: كانوا لا يتركونه في بيت وحده، يقولون: يتلاعب به الشيطان.
(2) وقدمها تعالى على الدين حثًا على إخراجها لم أشبهت الميراث، في كونها بلا عوض، وكان في إخراجها مشقة على الوارث، ولذلك جيء بكلمة «أو» التي تقتضي التسوية، فاستويا في الاهتمام، وعدم التضييع، وإن كان الدين مقدمًا عليها.
(3) وما فيه إبراء ذمته، قبل الصلاة عليه، لتركه عليه الصلاة والسلام الصلاة على من عليه دين، وقوله «صلوا على صاحبكم» فإن تعذر قضاء دينه في الحال استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل عنه، لئلا يحبس على دينه.(5/22)
سواءٌ كان لله تعالى أو لآدمي(1) لما روى الشافعي وأحمد والترمذي وحسنه عن أبي هريرة مرفوعًا: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه»(2) ولا بأس بتقبيله والنظر إليه، ولو بعد
تكفينه(3).
فصل(4)
__________
(1) أي سواء كان الدين على الميت لله تعالى، من زكاة أو حج أو نذر طاعة أو كفارة ونحو ذلك، أو كان لآدمي، كرد أمانة وغصب وعارية وغير ذلك، وسواء أوصى بذلك أو لم يوص به، ويقدم على الوصية اتفاقًا، وإنما قدم ذكرها في القرآن لمشقة إخراجها على الوارث، فقدمت حثًا على الإخراج، لا تقديمًا لها على قضاء الدين، كما هو معروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمر عمل المسلمين عليه.
(2) أي مطالبه بما عليه، ومحبوسة عن مقامها، حتى يقضى عنه، والنفس لها ثلاث معان (أحدها) بدنه، (الثاني) الدم في جسد الحيوان، (الثالث) الروح الذي إذا فارق البدن لم يكن بعده حياة، وهو المراد بالنفس في هذا الحديث. ولأحمد عن سمرة «إن صاحبكم محتبس على باب الجنة في دين عليه» أي حتى يقضي عنه وارثه ونحوه، ففيه الحث على إسراع قضائه، ولحديث: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية. وهو مقيد بمن له مال يقضى منه دينه، ومن لا مال له ومات عازمًا على القضاء فقد ورد أحاديث تدل على أن الله يقضي عنه بل محبته لقضائه موجبة لقضاء الله عنه، وأن يقضي عنه من بيت مال المسلمين.
(3) ممن يباح له ذلك في حال الحياة، نص عليه، لحديث عائشة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل عثمان بن مظعون، وهو ميت، حتى رأيت الدموع تسيل. وقال جابر: لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه، وأبكي، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني. قال الشارح وغيره: والحديثان صحيحان. ولتقبيل أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر، فكان إجماعًا.
(4) في غسل الميت وما يتعلق به.(5/23)
(غسل الميت) المسلم(1) (وتكفينه) فرض كفاية(2) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي وقصته راحلته «اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه» متفق عليه عن ابن عباس(3) (والصلاة عليه) فرض كفاية(4).
__________
(1) مرة، أو ييمم لعذر من عدم الماء، أو عجز عن استعماله لخوف نحو تقطع أو تهرّ، فرض كفاية إجماعًا، على من علم به وأمكنه، وخالف بعض المالكية، ورد ابن العربي وغيره على من لم يقل به، وقد توارد به القول والعمل، وغُسَّلَ الطاهرُ فكيف بمن سواه، وهو حق لله تعالى، فلو أوصى بعدمه لم يسقط، وإن لم يعلم به إلا واحد تعين عليه، وكذا جار بقربه.
(2) بإجماع المسلمين على كل من أمكنه، على ما تقدم في تغسيله، وقد تواتر به القول والعمل، كما قاله ابن العربي وغيره.
(3) وأول الحديث: بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، إذا وقع عن راحلته فأوقصته، أي ألقته عن ظهرها، والوقص كسر العنق، فقال «اغسلوه» الخ، وأجمعوا على وجب تغسيله بالماء مع القدرة، وعلى استحباب جعل سدر في الماء، وعلى وجوب التكفين، كما هو نص الخبر وغيره، و«ثوبيه» إزاره ورداؤه.
(4) بإجماع المسلمين.(5/24)
لقوله عليه السلام: «صلوا على من قال لا إله إلا الله» رواه الخلال والدارقطني، وضعفه ابن الجوزي(1) (ودفنه فرض كفاية)(2) لقوله تعالى { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } قال ابن عباس: معناه أكرمه بدفنه(3) وحمله أيضًا فرض كفاية(4) وإتباعه سنة(5) وكره الإمام للغاسل أخذ أجرة على عمله إلا أن يكون محتاجًا، فيعطى من بيت المال(6).
__________
(1) وله طرق لا تخلو من مقال، وهو عند أبي نعيم وغيره، ومن قال: لا إله إلا الله. عالمًا بمعناها، عاملاً بمقتضاها، فهو مسلم، وهو إجماع، ويصلي عليه، ولو أصاب شيئًا من المعاصي دون الشرك، ويأتي.
(2) إجماعًا، وتقدم معنى فرض الكفاية أنه من فعله من فيه كفاية سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم.
(3) ولم يجعله ملقى للسباع والطيور، وهذا مكرمة لبني آدم، دون سائر الحيوانات. وقال تعالى { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } وقد أرشد الله قابيل إلى دفن أخيه هابيل { فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } فكانت سنة في سائر بني آدم، ويذكر أن الغراب وكثيرًا من السباع إذا أحس بالموت غيب جثته، في مكان لا يطلع عليه غالبًا. ولأن في ترك جثة ابن آدم أذى للناس، وهتكًا لحرمته، فوجب دفنه، قال الموفق وغيره: لا نعلم فيه خلافًا.
(4) إجماعًا، لأنه وسيلة لدفنه، والوسائل لها حكم الغايات.
(5) ويأتي الندب إليه.
(6) لأنه لمصالح المسلمين، وهذا منها، والظاهر ما يختص أن يكون فاعله من أهل القربة كما يأتي في الإجارة. والغسل ليس مختصًا، لصحة الغسل من الكافر، إذا حصل مسلم ينوبه.(5/25)
فإن تعذر أعطي بقدر عمله، قاله في المبدع(1) والأفضل أن يختار لتغسيله ثقة، عارف بأحكامه(2) (وأولى الناس بغسله وصيه) العدل(3) لأن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته أسماء(4) وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين(5) (ثم أبوه) لاختصاصه بالحنو والشفقة(6).
__________
(1) وقال في الإقناع: يكره أخذ أجرة على شيء من ذلك، يعني الغسل والتكفين والحمل والدفن، ويأتي في الإجارة أن كل عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، لا يجوز أخذ الأجرة عليه، وأما الصلاة عليه فيحرم أخذ الأجرة عليها، قولاً واحدًا.
(2) ونقل حنبل: لا ينبغي إلا ذلك. وأوجبه أبو المعالي.
(3) قال الخلوتي: يتجه ولو ظاهرًا، وظاهره ولو كان أنثى. اهـ. وكذا غير الوصي لعدم الفرق.
(4) أخرجه مالك في الموطأ، ولا نزاع في جوازه، حكاه أحمد وابن المنذر وابن عبد البر وغيرهم، ويشهد له قول عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه. رواه أحمد وغيره. وأسماء هي بنت عميس الخثعمية، أسلمت قديمًا بمكة، وهاجرت مع جعفر، ثم تزوجها بعده أبو بكر، ثم علي رضي الله عنهم.
(5) الأنصاري الثقة العابد، كبير القدر المتوفي سنة عشر ومائة، ولأنه حق للميت، فقد فيه وصيه على غيره، كباقي حقوقه.
(6) أي لاختصاص الأب بالعطف والشفقة عليه، «وأشفق على الشيء» خاف عليه ووجل.(5/26)
(ثم جده) وإن علا، لمشاركته الأب في المعنى(1) (ثم الأقرب فالأقرب من عصباته)(2) فيقدم الابن، ثم ابنه وإن نزل(3) ثم الأخ لأبوين، ثم الأخ لأب، على ترتيب الميراث(4) (ثم ذووا أرحامه) كالميراث(5) ثم الأجانب(6) وأجنبي أولى من زوجة وأمة(7) وأجنبية أولى من زوج وسيد(8).
__________
(1) وجاء اسمه به في الكتاب والسنة.
(2) لقوله عليه الصلاة والسلام «ليلة أقربكم، إن كان يعلم» رواه أحمد وغيره.
(3) لقربه، ولما يأتي أن من البر أن يصلي عليه، فالتغسيل كذلك، وهو أحنى العصبة.
(4) فيقدم عم لأبوين، ثم لأب وهكذا، ثم المعتق ثم عصبته الأقرب فالأقرب.
(5) فالأخ لأم، والجد لها، والعم لها، وابن الأخت ونحوهم.
(6) ويقدم الأصدقاء منهم، ثم غيرهم الأدين، لقوله عليه الصلاة والسلام «ليلة أقربكم إن كان يعلم، فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظًا من ورع وأمانة» رواه أحمد، ويقدم الجار على أجنبي وفاقًا، لا على صديق.
(7) للخروج من الخلاف في تغسيلهما الزوج والسيد، لكن قال النووي وغيره: إنما هي رواية عن أحمد، فإن ثبتت فمحجوج بالإجماع. اهـ. وأكثر الأصحاب لم يذكروا هذه الرواية عنه رحمهم الله، منهم القاضي والشريف، وأبو الخطاب والشيرازي وغيرهم.
(8) خروجًا من الخلاف في منعه غسلها، وبعض الأصحاب لم يذكر خلافًا، قياسًا له عليها، ولأحمد وغيره عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم قال «ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك،وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك».(5/27)
زوج أولى من سيد(1) وزوجة أولى من أم ولد(2) (و) الأولى (ب) ـغسل (أنثى وصيتها) العدل(3) (ثم القربى فالقربى من نسائها)(4) فتقدم أمها وإن علت(5) ثم بنتها وإن نزلت(6) ثم القربى كالميراث(7) وعمتها وخالتها سواء(8) وكذا بنت أخيها وبنت أختها، لاستوائهما في القرب والمحرمية(9) (ولكل) واحد (من الزوجين) إن لم تكن الزوجة ذمية (غسل صاحبه)(10)
لما تقدم عن أبي بكر، وروى ابن المنذر أن عليًا غسل فاطمة(11)
__________
(1) يعني إذا ماتت رقيقة مزوجة، فزوجها أولى بغسلها من سيدها، لإباحة استمتاعه بها، إلى حين موتها، بخلاف سيدها.
(2) أي إذا مات رجل له زوجة وأم ولد، فزوجته أولى بغسله من أم ولده، لبقاء علقة الزوجية من الإعداد والإحداد.
(3) ولو ظاهرًا، كما تقدم في الرجال.
(4) لما رواه البيهقي وغيره، عن أم سليم مرفوعًا «وليس غسلها أولى الناس بها، وإلا فامرأة ورعة».
(5) كأم أمها وهكذا.
(6) وبنت ابنها وإن نزل.
(7) فيقدم منهن من يقدم بالإرث.
(8) لاستوائهما في الميراث.
(9) ثم الأجنبيات كما في الرجال.
(10) فتغسل المرأة زوجها، حكاه أحمد وابن المنذر وجماعة إجماعاً، وحكاه الوزير اتفاقًا، ويغسل زوجته، وفاقًا لمالك والشافعي وجمهور العلماء، وخالف أبو حنيفة، لزوال الزوجية، والمعتمد القياس على غسلها له، واحترز عن الذمية، لأنها ليست أهلاً لغسله.
(11) واشتهر، ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على علي وأسماء، فكان إجماعًا، وغسل أبو موسى زوجته، رواه أحمد، وأوصى جابر وعبد الرحمن ابن الأسود امرأتيهما أن تغسلاهما، رواهما سعيد، ولأحمد عن عائشة: لو استقبلت
من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه. وتقدم.(5/28)
ولأن آثار النكاح من عدة الوفاة والإرث باقية، فكذا الغسل(1) ويشمل ما قبل الدخول(2) وأنها تغسله وإن لم تكن في عدة، كما لو ولدت عقب موته(3) والمطلقة الرجعية إذا أُبيحت له(4) (وكذا سيدمع سريته) أي أمته المباحة له، ولو أم ولد(5).
__________
(1) أي يصير باقيًا، كبقاء آثار النكاح.
(2) أي يشمل كلام الماتن لو مات أحد الزوجين قبل الدخول، لثبوت المحرمية بالعقد.
(3) أي ولم تتزوج.
(4) أي والمطلقة الرجعية تغسل زوجها، إن قلنا مباحة، أي لم تلزمها عدة من غيره، وإلا فلا، جزم به في المغني، وأما إذا وطئت بشبهة فلا.
(5) ومدبرة ومكاتبة، ذكره جماعة، وفاقًا لجمهور العلماء، مالك والشافعي وغيرهما، وسواء شرط وطء المكاتبة أو لا، لأنه يلزمه كفنها، ومؤونة تجهيزها، قال في الفروع: ومتى جاز، نَظَرَ كل منهما غير العورة. اهـ. ولا يجوز أن يغسل الرجل أمه وابنته، وغيرهما من محارمه، وفاقًا لأبي حنيفة، وقال الموفق وغيره: هو قول أكثر أهل العلم، وأجازه مالك والشافعي عند الضرورة، وقالوا: إنه كالرجل بالنسبة إليه في العورة والخلوة، واستعظمه أحمد وغيره، ولم يعجبهم وذلك أنها محرمة حال الحياة، فكذا بعد الموت، والسرية قال الجوهري: هي الأمة التي بوأتها بيتًا، منسوبة إلى السر وهو الجماع أو الإخفاء، لأن الإنسان كثيرًا ما يسرها ويسترها عن امرأته، وضمت سينه لأن الأبنية قد تغير في النسبة خاصة، وسمي الجماع سرًا لأنه يكون في السر، وليس لآثم بقتل حق في غسل مقتول.(5/29)
(ولرجل وامرأة غُسْل من له دون سبع سنين فقط) ذكرًا كان أو أنثى(1) لأنه لا عورة له(2) ولأن إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسله النساء(3) فتغسله مجردًا، من غير سترة، وتمس عورته، وتنظر إليها(4) (وإن مات رجل بين نسوة) ليس فيهن زوجة ولا أمة مباحة له يمم(5).
__________
(1) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أن المرأة تغسل الصبي الصغير، فتغسله مجردًا، من غير سترة، وتمس عورته، وتنظر إليها، وكذا قال مالك: سبع سنين. ومذهب الشافعية ما لم يبلغا حدًا يشتهيان فيه.
(2) أي في الحياة، فكذا بعد الموت.
(3) ذكر ابن المنذر أنها مرضعته، فدل على جوازه، وذكر ابن كثير أن عليًا هو الذي غسله، ورواه أحمد وغيره.
(4) لأن عورته لا حكم لها في حياته، فكذا بعد وفاته، وليس لرجل غسل ابنة سبع فأكثر، ولو محرمًا، ولا لامرأة غسل ابن سبع فأكثر ولو محرمًا، غير ما تقدم.
(5) وفاقًا بحائل، فإن كان فيهن صغيرة تطيق الغسل علموها وباشرت غسله، نص عليه، وقال المجد: لا أعلم فيه خلافًا.(5/30)
(أو عكسه) بأن ماتت امرأة بين رجال، ليس فيهم زوج ولا سيد لها (يممت(1) كخنثى مشكل) لم تحضره أمة له فييمم(2) لأنه لا يحصل بالغُسل من غير مَسّ تنظيف، ولا إزالة نجاسة، بل ربما كثرت(3) وعلم منه أنه لا مدخل للرجال في غُسْل الأقارب من النساء، ولا بالعكس(4) (ويحرم أن يغسل مسلم كافرًا)(5) وأن يحمله، أو يكفنه، أو يتبع جنازته، كالصلاة عليه(6).
__________
(1) وفاقًا بحائل، ويحرم بدونه لغير محرم، فإن كان فيهم صبي لا شهوة له علموه الغسل وباشره، نص عليه وفاقًا، وفي الهداية: لا أعلم فيه خلافًا. وتأمل ما يأتي من عدم اشتراط مباشرة الغاسل، وما في النكاح من جواز لم ونظر من يلي خدمة مريض ولو أنثى في وضوء واستنجاء إلى آخره، وروي عن الأوزاعي: يغسل في ثوب، ويلف الغاسل خرقة.
(2) وفاقًا، فإن كان معهم صغير أو صغيرة باشر الغُسْل اتفاقًا.
(3) وفيه نظر، لأنه لو حضر من يصلح لغسل الميت، ونوى وترك تحت ميزاب ونحوه أجرأ، حيث عممه.
(4) أي ولا مدخل النساء في غُسْل الأقارب من الرجال.
(5) وفاقًا لمالك، سواء كان قريبًا لهم أو لا، لأنه لا يصلي عليه، ولا يدعو له، فلم يكن له غُسله، ولأن غسله تعظيم وتطهير، أشبه الصلاة عليه.
(6) أي يحرم أن يحمل المسلم الكافر، ويحرم عليه أن يكفنه، ويحرم عليه أن يتبع جنازته، كما أنه يحرم عليه الصلاة عليه. بإجماع المسلمين.(5/31)
لقوله تعالى { لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ } (1)(أو يدفنه) للآية(2) (بل يوارى) وجوبًا (لعدم) من يواريه(3) لإلقاء قتلى بدر في القليب(4) ويشترط لغسله طهورية ماء، وإباحته(5).
__________
(1) ولعنهم، واستحقوا الطرد والإبعاد، فدل عمومها على تحريم حمل جنازة الكافر، أو تكفينه، أو اتباع جنازته، كالصلاة عليه، لقوله تعالى { ولا وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ } وقوله { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } الآية.
(2) ولأن ابن اليهودي لما أسلم عند موته: قال صلى الله عليه وسلم «لو أخاكم» وللنهي عن موالاة الكفار في غير موضع من الكتاب والسنة، وغسله وحمله وتكفينه واتباع جنازته تعظيم له، فلم يجز، كالصلاة عليه، وما روي في غسل أبي طالب. فقال ابن لمنذر وغيره: ليس في غسل المشرك سنة تتبع، وذكروا حديث علي بالمواراة فقط.
(3) من أقاربه الكفار أو من الكفار، فيلقيه في حفرة، ويواري جثته لئلا يتضرر به، وهو متعين قطعًا.
(4) رواه البخاري وغيره، ولقوله عليه الصلاة والسلام لعلي لما أخبر بموت أبي طالب «اذهب فواره» رواه أبو داود والنسائي والشافعي وغيرهم، ولا فرق بين الحربي والذمي والمستأمن والمرتد في ذلك، لأن تركه مثلة به، وقد نهي عنها، ولأنه يتضرر به، وكذا كل صاحب بدعة مكفرة يوارى لعدم، ولا يغسل ولا يصلى عليه، ولا تتبع جنازته، ومن جهل إسلامه ووجد عليه علامة المسلمين غُسِل وصلي عليه وفاقًا، ولو أقلف بدارنا، لا بدار حرب، بلا علامة نص عليه.
(5) كباقي الأغسال.(5/32)
وإسلام غاسل، إلا نائبًا عن مسلم نواه(1) وعقله ولو مميزًا(2) أو حايضًا أو جنبًا(3) (وإذا أخذ) أي شرع (في غسله ستر عورته) وجوبًا، وهي ما بين سرته وركبته(4) (وجرده) ندبًا، لأنه أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره(5).
__________
(1) أي ويشترط لغُسْله إسلام غاسل، لاعتبار نية، ولا يصح من كافر، وحكي إجماعًا، وقيل: يصح إذا كان الكافر نائبًا عن مسلم نوى غسله. وقدمه في الفروع، وظاهر كلام أحمد لا يصح مطلقًا، لقوله عليه الصلاة والسلام «لو أخاكم» ولأن الغسل عبادة، وليس الكافر من أهلها، ولأنه نجس، فلا يطهر غسله المسلم، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، أبي حنيفة ومالك وغيرهما، وقول الشافعي.
(2) فيعتبر العقل وفاقًا، ولو كان الغاسل مميزًا، فإنه لا يشترط بلوغه، لصحة غسله لنفسه.
(3) بلا كراهة، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، لصحة غُسْله بنفسه، ولأنه لا يشترط في الغاسل الطهارة، ولأنهما طاهران، وكره مالك الجنب، ويغسل حلال محرمًا، وعكسه وفاقًا، ولا تعارض بين الحكم بعدم كراهة ذلك، وبين الحكم بكراهة قربانهما للميت، لأذية الملائكة التي تحضره لأخذ الروح.
(4) على ما تقدم من حدها، ولحديث علي «ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» رواه أبو داود، قال الموفق وغيره: يجب ستر عورته، بغير خلاف علمناه. وهذا فيمن له سبع سنين فأكثر، وتقدم أن عورة ابن سبع إلى عشر الفرجان، ولم يستحب مالك والشافعي والجمهور تغطية وجهه، ونقل عن ابن سيرين.
(5) وأشبه بغسل الحي، وأهون له التنجيس، إذ يحتمل خروجها منه،
ولفعل الصحابة، بدليل قولهم: كما نجرد موتانا. ولا بد أن يكون أمرهم به،
أو أقرهم عليه، فإن قولهم يدل على ذلك، وكأنه إجماع منهم، بل حكي إجماعًا منهم، والمراد: سوى عورته، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، ولو غسل في قميص خفيف، واسع الكمين ونحوهما جاز، وتجريده أمكن لتطهيره.(5/33)
وغسل - صلى الله عليه وسلم - في قميص(1) لأن فضلاته طاهرة، فلم يخش تنجس قميصه(2) (وستره عن العيون)(3) تحت ستر في خيمة أو بيت(4) إن أمكن، لأنه أستر له(5).
(ويكره لغير معين في غُسْله حضوره)(6)
__________
(1) يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون بالقميص، دون أيديهم، رواه أحمد وأبو داود، وذلك أنهم اختلفوا هل يجردونه صلى الله عليه وسلم أو لا؟ فأوقع الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو: غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه. فقاموا فغسلوه وعليه قميص، الحديث.
(2) ولأنه صلى الله عليه وسلم طيب حيًا وميتًا، والصواب أنه لعظم حرمته صلوات الله وسلامه عليه، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم، واحتمال المفسدة منتفية في حقه صلى الله عليه وسلم.
(3) أي ويسن ستر الميت حال الغسل عن العيون، لأن جميعه صار عورة، فلهذا شرع ستر جميعه، لأنه ربما كان به عيب يستره في حياته، أو تظهر عورته، ولأنه يكره النظر إلى الميت إلا لحاجة.
(4) وذكر القاضي عن عائشة: غسلنا بعض بنات النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرنا أن نجعل بينها وبين السقف ثوبًا، وأوصى به الضحاك، واستحبه ابن سيرين وغيره، لئلا يستقبل السماء بعورته.
(5) أي من جميع جهاته، حتى من جهة السماء، وإن لم يكن فظاهره الجواز. ويكره النظر إليه لغير حاجة، حتى الغاسل، فلا ينظر إلا لما لا بد منه غير العورة.
(6) إلا لضرورة، وأما العورة فيحرم مطلقًا، وقال ابن عقيل: لا يجوز أن يحضره إلا من يعين في أمره، لأن جميعه صار عورة، فلهذا شرع ستر جميعه بالكفن، فيحرم نظره. اهـ.
وأما وجهه فحكي في الفروع وغيره كراهة تغطيته اتفاقًا، والمراد حال الغسل، بخلاف التسجية كما تقدم.(5/34)
لأنه ربما كان في الميت ما لا يحب إطلاع أحد عليه(1) والحاجة غير داعية إلى حضوره، بخلاف المعين(2) (ثم يرفع رأسه) أي رأس الميت(3) غير أنثى حامل(4) (إلى أقرب جلوسه) بحيث يكون كالمحتضن في صدر غيره(5). (ويعصر بطنه برفق) ليخرج ما هو مستعد للخروج(6).
__________
(1) فيتحدث به، فيكون فضيحة.
(2) أي بصب ونحوه، فله الدخول عليه كيف شاء، ويستحب خضب لحية رجل، ورأس امرأة بحناء، ولو غير شائبين، لقول أنس: اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعرائسكم.
(3) برفق، في أول غسله، وفاقًا لمالك والشافعي، وعند أبي حنيفة بعد الغُسْل.
(4) فلا يرفع رأسها، ولا يعصر بطنها، لئلا يتأذى الولد، ولحديث أم سليم مرفوعًا «إذا توفيت المرأة، فأرادوا غسلها، فليبدأ ببطنها، فليمسح مسحًا رفيقًا،
إن لم تكن حبلى، فإن كانت حبلى فلا تحركها» رواه الخلال وابن خزيمة والبيهقي.
(5) ولا يشق عليه، يل يحنيه حنيًا رفيقًا، ولا يبلغ به الجلوس، لأن في الجلوس أذية له.
(6) أي يعصر بطن الميت، فيمر يده على بطنه، ليخرج ما معه من نجاسة،
كيلا يخرج بعد ذلك، ويكون مسحًا رفيقًا، لأن الميت في محل الشفقة والرحمة، ولقوله صلى الله عليه وسلم «إن كسر عظم الميت ككسره حيًا» رواه أحمد وغيره، ورجاله رجال الصحيح، وفيه دليل على وجوب الرفق بالميت في غسله، وتكفينه وحمله وغير ذلك.(5/35)
ويكون هناك بخور(1) (ويكثر صب الماء حينئذ) ليدفع ما يخرج بالعصر(2) (ثم يلف) الغاسل (على يده خرقه(3) فينجيه) أي يمسح فرجه بها(4) (ولا يجعل مس عورة من له سبع سنين) بغير حائل، كحال الحياة(5) لأن التطهير يمكن بدون ذلك(6).
__________
(1) أي ويكون في المكان الذي يغسل فيه الميت بَخُور، على وزن رسول، ما يتبخر به أي يتدخن به من عود ونحوه، لئلا يتأذى برائحة الخارج.
(2) ولا تظهر رائحته فيتأذى بها.
(3) خشنة، أو يدخل يده في كيس، لئلا يمس عورته، لأن النظر إلى العورة حرام، فمسها بطريق الأولى، وذكر المروذي عن أحمد أن عليًا حين غسل النبي صلى الله عليه وسلم لف على يده خرقة، حين غسل فرجه.
(4) كما يستنجي الحي وفاقًا، إزالة للنجاسة، وطهارة للميت، من غير تعدي النجاسة إلى الغاسل.
(5) إجماعًا، ولا يحل النظر إليها إجماعًا، وقال ابن القيم وغيره: يكره لمس بدن الميت لغير غاسله، لأن بدنه بمنزلة عورة الحي، تكريمًا له.
(6) أي بدون مس عورته مباشرة بلا حائل، وتقدم استعمال علي للحائل، في غسل فرج النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلاف في ذلك.(5/36)
(ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة) لفعل علي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -(1) فحينئذ يعد الغاسل خرقتين، إحداهما للسبيلين، والأُخرى لبقية بدنه(2) (ثم يوضيه ندبًا) كوضوئه للصلاة(3) لما روت أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في غسل ابنته «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها» رواه الجماعة(4) وكان ينبغي تأخيره عن نية الغسل، كما في المنتهى وغيره(5).
__________
(1) رواه أبو داود عن عائشة أنهم غسلوه وعليه قميص، يصبون عليه الماء، ويدلكونه من فوقه، وليأمن مس العورة المحرم مسها، ولأن ما فعل به صلى الله عليه وسلم أكمل، وهو مذهب الشافعي، ولم يستحبه مالك وأبو حنيفة.
(2) استحبابًا، لئلا يتلوث بالمنجي بها، ويجب غسل نجاسة بالميت، لأن المقصود بغُسْله تطهيره.
(3) ما خلا المضمضة والاستنشاق، قال أحمد: لأنه لا يؤمن منهما وصول الماء إلى جوفه، فيفضي إلى المثلة، وربما حصل منه الانفجار، أو يفسد وضوءه، واستثنى الماتن ذلك بقوله: ولا يدخل الماء؛ الخ.
(4) «ابدأن بميامنها» أي في الغسلات التي لا وضوء فيها «ومواضع الوضوء» أي في الغسلة المتصلة بالوضوء، وابنته صلى الله عليه وسلم هي زينب، كما في صحيح مسلم، وفي غيره أم كلثوم، ويمكن الجمع، فإن ابن عبد البر وغيره جزموا بأن أم عطية غاسلة الميتات.
(5) كالإقناع، وذلك لأن محل استحباب الوضوء بعد نية الغُسْل.(5/37)
(ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه) خشية تحريك النجاسة(1) (ويدخل أصبعيه) إبهامه وسبابته (مبلولتين) أي عليهما خرقة مبلولة (بالماء بين شفيته فيمسح أسنانه(2) وفي منخريه فينظفهما)(3) بعد غسل كفي الميت(4) فيقوم المسح فيهما مقام غسلهما، خوف تحريك النجاسة، بدخول الماء جوفه(5) (ولا يدخلهما) أي الفم والأنف (الماء) لما تقدم(6).
__________
(1) لأنه إذا وصل الماء إلى جوفه حركه.
(2) ويزيل ما عليها، ويكون ذلك برفق، ولا يرفع أسنانه بعضها عن بعض، بل يمضمضه فوقها، لقوله تعالى { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
(3) بإزالة ما عليهما من الأذى، لقوله «ومواضع الوضوء منها» فاقتضى أن يمضمضه وينشقه، وقياسًا على الوضوء، وهو مذهب جمهور العلماء، و«منخريه» تثنية منخر بفتح الميم وكسر الخاء نقب الأنف.
(4) يعني فغسل كفيه هو أول ما يبدأ به من توضئته كالحي.
(5) أي فيقوم المسح في أسنانه ومنخريه مقام غسلهما حال الحياة، خوف تحريك النجاسة التي في جوفه، بسبب دخول الماء إلى جوفه، والمسح يقوم مقام الغسل في مواضع، للحاجة إليه.
(6) من قوله: خشية تحريك النجاسة. قال الموفق وغيره: في قول أكثر أهل العلم، ثم يغسل وجهه ويتمم وضوءه، وكما أن الحي يبدأ بالوضوء في غسله.(5/38)
(ثم ينوي غسله) لأنه طهارة تعبدية، فاشترطت له النية، كغسل الجنابة(1) (ويسمي) وجوبًا، لما تقدم(2) (ويغسل برغوة السدر) المضروب (رأسه ولحيته فقط)(3) لأن الرأس أشرف الأعضاء(4) والرغوة لا تتعلق بالشعر(5) (ثم يغسل شقه الأيمن ثم) شقه (الأيسر) للحديث السابق(6).
__________
(1) ولأنها إنما أوجبت على الغاسل لتعذرها من الميت، ولو لم تعتبر لما وجب غُسْل منظف، وصححه الموفق والشارح وغيرهما، وهو قول الجمهور.
(2) من قوله: كغسل الجنابة. وعليه فتسقط سهوًا وجهلاً.
(3) قدمه في الفروع وغيره، وفي المبدع وغيره: وسائر جسده، لقوله «اغسلوه بماء سدر» ولقصة غسل ابنته صلى الله عليه وسلم، والرغوة مثلثة الراء معروفة، وزبد كل شيء رغوته، وعين الشارع السدر لأن فيه مادة حادة تشبه الصابون.
(4) ولهذا جعل كشفه شعار الإحرام، وهو مجمع الحواس الشريفة.
(5) وتزيل الدرن، فناسب ذلك، ولتزول الرغوة بممر جري الماء عليها، بخلاف ثفل السدر، ويغسل باقي بدنه بالثفل.
(6) وهو قوله «ابدأن بميامنها» فيبدأ بالشق الأيمن المقبل، من عنقه وصدره وفخذه وساقه، ثم يغسل شقه الأيسر كذلك، مرة في دفعتين، وقيل مرة في أربع، يده اليمنى، وصفحة عنقه، وشق صدره، وفخذه وساقه، ثم الأيسر كذلك، ثم يرفعه من جانبه الأيمن فيغسل الظهر وما هناك، من وركه وفخذه وساقه، ثم الأيسر كذلك، قال أبو البركات: والأول أقرب إلى قوله «ابدأن بميامنها» وأشبه بغسل الجنابة، وكيفما فعل أجزأ، ولا يكبه على وجهه، إكرامًا له.(5/39)
(ثم) يغسله (كله) يفيض الماء على جميع بدنه(1) يفعل ما تقدم (ثلاثًا) إلا الوضوء ففي المرة الأولى فقط(2) (يمر في كل مرة) من الثلاث (يده على بطنه) ليخرج ما تخلف(3) (فإن لم ينق بثلاث) غسلات (زيد حتى ينقي(4) ولو جاوز السبع)(5).
__________
(1) ويكون ذلك غسلة واحدة.
(2) فإنه ليس للغاسل أن يوضئه في أول كل غسلاته، إن لم يخرج منه شيء، فإن خرج منه شيء أعاد وضوءه وندبية غسله ثلاثًا، امتثالاً لقول صلى الله عليه وسلم «اغسلنها ثلاثًا» وفيه «إن رأيتن ذلك، بماء وسدر» واستحب أحمد وغيره كونه في الثلاث الغسلات، وقال: هو أنقى.
(3) ويأمن من فساد الغسل بما يخرج منه بعد.
(4) أي فإن لم ينق الغسل الوسخ بثلاث غسلات زيد حتى ينقي، وفاقًا، و«ينقي» بضم الياء، ويكون الضمير عائدًا على الغاسل، وبفتحها، ويكون الضمير عائدًا على المحل، من نقي بكسر القاف، ينقى.
(5) لقوله صلى الله عليه وسلم «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا» والمراد اغسلنها وترًا، وليكن ثلاثًا.
فإن احتجتن إلى زيادة عليها للإنقاء فليكن خمسًا، فإن احتجتن إلى زيادة الإنقاء فليكن سبعًا «أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك» متفق عليه، وأرجع الشارع النظر إلى الغاسل، ويكون ذلك بحسب الحاجة لا التشهي، لقوله «إن رأيتن» أي احتجتن، والحاصل أن الإيتار مأمور به، والثلاث مأمور بها ندبًا، فإن حصل الإنقاء بثلاث لم تشرع الرابعة، وإلا زيد حتى يحصل الإنقاء، ويندب كونها وترًا، واتفقوا على استحبابه، وقال بعضهم: إذا لم يحصل الإنقاء بالسبع لم يزد عليها، وكذا إن خرج منه شيء بعد السبع لم يزد عليها، قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا قال بمجاوزة السبع. وصرح أحمد والماوردي وابن المنذر أنها مكروهة، وفي الإنصاف: لا يزاد على السبع، رواية واحدة. والأولى حمل كلامهم على أنه لم يبلغهم الخبر.(5/40)
وكره اقتصاره في غُسْله على مرة(1) إن لم يخرج منه شيءٌ، فيحرم الاقتصار ما دام يخرج منه شيءٌ على ما دون السبع(2) وسن قطع على وتر(3) ولا تجب مباشرة الغُسْل، فلو ترك تحت ميزاب ونحوه، حضر من يصلح لغسله، ونوى وسمى، وعمه الماءُ كفى(4).
__________
(1) وفاقًا، لقوله «اغسلنها ثلاثًا» الحديث، ولأنه لا يحصل بها كمال النظافة، وتجزئ كالحي، وكذا لو نوى وسمي، وغمسه في ماء مرة واحدة أجزأ كالحي، والحائض والجنب كغيرهما في الغسل، وهو قول العلماء كافة إلا الحسن، وقال ابن المنذر: هذا قول من نحفظ عنه من علماء الأمصار.
(2) لأن الشارع إنما كرر الأمر بغسلها من أجل توقع النجاسة والله أعلم. فيعاد إلى سبع فأكثر للخبر.
(3) لحديث أم عطية «اغسلنها وترًا» وحديث «إن الله وتر يحب الوتر» من غير إعادة وضوء كما تقدم.
(4) وهذا يرد على ما سبق فيما إذا ماتت امرأة بين رجال وعكسه، ويمكن أن يقال: كلامهم المتقدم مقيد بهذا، وأن محل ذلك إذا لم تأت هذه الصورة.(5/41)
(ويجعل في الغسلة الأخيرة) ندبًا (كافورًا)(1) وسدرًا، لأنه يصلب الجسد(2) ويطرد عنه الهوام برائحته(3) (والماءُ الحار) يستعمل إذا احتيج إليه(4) (والأشنان) يستعمل إذا احتيج إليه(5).
__________
(1) بأن يضعه في الماء، بحيث لا يتغير الماء، لقوله صلى الله عليه وسلم «واجعلن في الغسلة الأخيرة كافورًا» متفق عليه، وهو قول العلماء كافة، وحكي عن أبي حنيفة خلاف في استحبابه، والحديث حجة عليه، وفي حديث أم سليم «فإذا كان في آخر غسلة من الثالثة أو غيرها فاجعلي ماء فيه شيء من كافور، وشيء من سدر، ثم أفرغيه عليها، وابدئي برأسها حتى يبلغ رجليها».
(2) ويطيبه ويبرده، ونقل الجماعة جعله مع السدر، واختاره المجد وغيره، وصححه غير واحد، قال الخلال: وعليه العمل. وقال ابن حامد: يطرح فيه شيء يسير لا يغيره، ليجمع بين العمل بالحديث، ويكون الماء باقيًا على إطلاقه.
(3) ويردع ما يتحلل من الفضلات، ويمنع إسراع الفساد إليه، وكونه يطيب رائحة المحل، وذلك في وقت تحضر فيه الملائكة, وهو أقوى الأراييح الطيبة في ذلك، وهذا هو السر في جعله في الآخرة، لئلا يذهب به الماء، وإن عدم قام غيره مقامه، مما فيه هذه الخواص أو بعضها، وظاهر العبارة غير مراد، بل المراد أن الغسلة الأخيرة يسن أن لا تخلو من السدر للخبر، فلا تنافي كونها في غيرها.
(4) لشدة برد، أو وسخ لا يزول إلا به، واستحبه بعضهم، لأنه ينقي ما لا ينقي البارد، واستحب بعضهم البارد، لأن المسّن يرخيه، ولم ترد به السنة، فإن كثر وسخه، ولم يزل إلا بالحار كان مستحبًا.
(5) لإزالة وسخ ونحوه، قال أحمد: إذا طال ضنى المريض غسل بالأشنان، يعني أنه يكثر وسخه، فيحتاج إلى الأشنان، ليزيل ذلك الوسخ.(5/42)
(والخلال يستعمل إذا احتيج إليه)(1) فإن لم يحتج إليها كرهت(2) (ويقص شاربه، ويقلم أظفاره) ندبًا إن طالا(3) ويؤخذ شعر إبطيه(4) ويجعل المأْخوذ معه، كعضو ساقط(5).
وحرم حلق رأسه(6)
__________
(1) لشيء بين أسنانه من وسخ أو نحوه، بلا خلاف. لأن إزالة ذلك مطلوبة شرعًا، والأولى أن يكون من شجر ينقي، ولا يجرح، قال الجوهري: الخلال العود الذي يتخلل به، وما يخل به الثوب، والجمع الأخلة.
(2) أي فإن لم يحتج إلى الماء الحار والأشنان والخلال لإزالة شيء مما تقدم كرهت، قال في الإنصاف: بلا نزاع، لعدم الحاجة إليها، فتكون كالعبث، ولأن السنة لم ترد بها.
(3) أي شاربه وأظفاره، وهو قول سعيد بن جبير وإسحاق وغيرهما، لقول أنس: اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعرائسكم. والجمهور أن لا يؤخذا.
(4) لأن ذلك تنظيف لا يتعلق بقطع عضو، أشبه إزالة الأوساخ والأدران، ويعضد ذلك العمومات في سنن الفطرة، وعنه: لا يؤخذ من الميت شيء، لا شعره ولا ظفره وفاقًا، لأن أجزاء الميت محترمة، فلا تنتهك بهذا. ولأنه قطع شيء منه، فلم يستحب، كالختان، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة في هذا شيء، فيكره فعله، وهو ظاهر الخرقي وغيره، ولأنه لا حاجة إلى قصها.
(5) أي ويجعل المأخوذ من الميت من شعر وظفر معه في كفنه، لأنه جزء منه، وقيل: بعد إعادة غسل ندبًا، كعجل عضو ساقط منه معه، وهذا التشبيه وإن كان ظاهره الوجوب، فليس تشبهًا من كل وجه، ولأحمد عن أم عطية قال: يغسل رأس الميتة، فما سقط من شعرها في أيديهم غسلوه ثم ردوه في رأسها. ولأن دفن الشعر والظفر مستحب في حق الحي، فالميت أولى، وإن كان مقطوع الرأس، أو كانت أعضاؤه مقطعة لفق بعضها إلى بعض بالتمقيط والطين الحر حتى لا يتبين تشويهه.
(6) وهو مذهب الجمهور، لأن ذلك إنما يكون لزينة ونسك، وليس من السنة في الحياة، وظاهر كلام جماعة: لا يكره.
قال في الفروع: وهو أظهر. ومذهب الجمهور أولى، لعدم الأمر به، وعدم نقل فعله.(5/43)
وأخذ عانته، كختن(1) (ولا يسرح شعره) أي يكره ذلك، لما فيه من تقطيع الشعر من غير حاجة إليه(2).
__________
(1) أي ويحرم حلق شعر عانته، في قول جمهور أهل العلم، لما فيه من لمس عورته أو نظرها، وهو محرم، فلا يرتكب لأجل مندوب، وهذا لو ندب إليه، بل يحرم كما يحرم ختن ميت أقلف، ولو في حال وجوبه قبل موته، لأنه قطع لعضو منه، وقد زال المقصود منه.
وقال الوزير وغيره: أجمعوا على أن الميت إذا مات وهو غير مختون أنه يترك على حاله، ولا يختن.
(2) وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وروي عن عائشة أنها مرت بقوم يسرحون شعر ميتهم، فنهتهم عن ذلك.
وقال الشافعي: يسرح تسريحًا خفيفًا، واستحبه ابن حامد وأبو الخطاب، وتسريحه مشطه، وأصل التسريح الإرسال، والشعر بتلبيده، فيسترسل بالمشط، واستخرج ابن دقيق العيد من الخبر استحباب تسريح شعر المرأة وتضفيره، وورد في مسلم: مشطناها ثلاثة قرون. لكن قال أحمد: أي ضفرناها. وأنكر المشط، وفي البخاري: نقضنه ثم غسلنه، ثم جعلنه ثلاثة قرون.(5/44)
(ثم ينشف) ندبًا (بثوب) كما فعل به - صلى الله عليه وسلم -(1) (ويضفر) ندبًا (شعرها) أي الأُنثى (ثلاثة قرون(2) ويسدل وراءَها)(3) لقول أم عطية: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناه خلفها. رواه البخاري(4).
(وإن خرج منه) أي الميت (شيءٌ بعد سبع) غسلات(5) (حشي) المحل (بقطن) ليمنع الخارج، كالمستحاضة(6).
(فإن لم يستمك) بالقطن (فبطين حر) أي خالص(7) لأن فيه قوة تمنع الخارج(8) (ثم يغسل المحل) المتنجس بالخارج(9) (ويوضأُ) الميت وجوبًا، كالجنب إذا أحدث بعد الغسل(10).
(وإن خرج) منه شيء (بعد تكفينه لم يعد الغسل)(11)
__________
(1) رواه أحمد، وتنشيفه متفق عليه عند الأئمة وغيرهم، ولئلا يبتل كفنه فيفسد به، ولا ينجس ما نشف به وفاقًا.
(2) أي ثلاث ضفائر قرنيها وناصيتها، والقرن الخصلة من الشعر، وأصل الضفر الفتل، وقالت: مشطناها ثلاثة قرون. وهذا مذهب مالك والشافعي، وجمهور العلماء.
(3) أي يرسل ويرخى خلفها، وفاقًا للشافعي وإسحاق وابن المنذر وغيرهم، وقيل: مع الجانبين والحديث حجة عليهم.
(4) ولابن حبان «اجعلن رأسها ثلاثة قرون» قالت أم عطية: ضفرنا رأسها ناصيتها وقرنيها ثلاثة قرون، وألقيناه خلفها. وفي حديث أم سليم «واضفرن شعرها ثلاثة قرون» «وضفرنا» بضاد وفاء مخففة، وفيه استحباب ضفر شعر المرأة، وجعله ثلاثة قرون، وهي ناصيتها وقرناها، يعني جانبي رأسها، وتسمية الناصية قرنًا تغليب، وفيه استحباب جعل ضفائرها خلفها.
(5) حصل الإنقاء بها، لم يزد عليها، وتقدم أن ذلك راجع إلى الغاسل.
(6) وقال أبو الخطاب وغيره: يلجم المحل بالقطن، فإن لم يمتنع حشاه به، إذ الحشو يوسع المحل، فلا يفعل إلا عند الحاجة.
(7) طين أبيض، لا رمل فيه، والحر الطيب، وخيار كل شيء.
(8) ولو قبل السبع.
(9) إجماعًا كالحي.
(10) لتكون طهارته كاملة.
(11) وفاقًا، سواء كان في السابعة أو قبلها.
وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، إذا كان الخارج يسيرًا، وظاهره لا فرق في الخارج أن يكون قليلاً أو كثيرًا، وعنه: من الكثير. وإن وضع على الكفن، ولم يلف، ثم خرج منه شيء، فقال ابن تميم: يعاد غسله.(5/45)
دفعًا للمشقة(1) ولا بأس بقول غاسل له: انقلب يرحمك الله. ونحوه(2).
ولا بغسلة في حمام(3) (ومحرم) بحج أو عمرة (ميت كحي(4) يغسل بماءٍ وسدر) لا كافور(5).
(ولا يقرب طيبًا) مطلقًا(6) (ولا يُلبس ذكر مخيطًا) من قميص ونحوه(7) (ولا يغطى رأسه(8) ولا وجه أنثى) محرمة(9).
__________
(1) لأنه يحتاج إلى إخراج وإعادة غسله، وتطييب أكفانه، وتجفيفها، أو إبدالها، فيتأخر دفنه، وهو خلاف السنة في تعجيله، ثم لا يؤمن بعد، ولا يحتاج إلى إعادة وضوئه، ولا غسل موضع النجاسة، دفعًا لهذه المشقة.
(2) كأرحني، لقول الفضل للنبي صلى الله عليه وسلم: أرحني. وقول علي: طبت حيًا وميتًا.
(3) نقله مهنا، وكحي والحمام هو المغتسل المشهور، وتقدم.
(4) أي في أحكامه، لبقاء إحرامه، فيجنب ما يجنب المحرم في حياته، لبقاء الإحرام، والطيب والحنوط غير واجبين، بل مستحبين.
(5) لأنه طيب، وتقدم تعريف الكافور، وهو طيب مشهور، ويأتي نهيه أن يقرب طيبًا، لأنه يحرم بحال الإحرام، فكذا بعد موت المحرم.
(6) ذكرًا كان أو أنثى، في بدنه أولاً، ما لم يحصل التحلل الأول، للخبر، وفي رواية «ولا تقربوه طيبًا» ولبي داود وغيره «ولا تمسوه بطيب» قال في الإنصاف: لكن لا يجب الفداء على الفاعل به، ما يوجب الفدية لو فعله حيًا، على الأصح من المذهب، فإن حصل التحلل الأول فلا يمنع كحي.
(7) كسراويل، ولا ما يعمل كالمخيط، كما يأتي في الإحرام.
(8) للخبر الآتي، وفي رواية «ولا تغطوا وجهه» فلا يغطى وجهه، والأشهر في أكثر الروايات والأصح ذكر الرأس فقط، فقال أحمد: يغطى وجهه ورجلاه وسائر بدنه. قال الخلال: والعمل على أنه يغطى جميع المحرم إلا رأسه، وتجوز الزيادة على ثوبيه إذا كفن، كبقية كفن حلال.
(9) أي ولا يغطى وجه المرأة المحرمة، فتلبس القميص وتخمر، كما تفعل في حياتها، ولا تقرب طيبًا، ولا يغطى وجهها، لأنه يحرم عليها في حياتها، على ما سيأتي فكذا بعد موتها.(5/46)
ولا يؤخذ شيءٌ من شعرهما وظفرهما(1) لما في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في محرم مات «اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا»(2) ولا تمنع معتدة من طيب(3) وتزال اللصوق لغسل واجب، عن لم يسقط من جسده شيء بإزالتها(4).
__________
(1) وهو مذهب أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وشدد مالك فيه، حتى اوجب التعزير على فاعله في غير المحرم، ففي المحرم أولى.
(2) وفي رواية «ولا تمسوه طيبًا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبدًا» وللنسائي «ولا تمسوه بطيب، فإنه يبعث يوم القيامة محرمًا» وقوله «اغسلوه بماء وسدر» يدل على وجوب الغُسل بالماء، وهو إجماع، وبالسدر، وقوله «وكفنوه في ثوبيه» أنه يكفن المحرم في ثيابه التي مات فيها، لتلبسه فيها بتلك العبادة الفاضلة، «ولا تحنطوه» يعني بالطيب الذي يوضع للميت، «ولا تخمروا رأسه» أي لا تغطوه، وفيه دلالة على بقاء حكم الإحرام، وأصرح منه التعليل بأنه «يبعث يوم القيامة ملبيًا» وفي رواية «ملبدًا» وفي رواية «محرمًا»، وجامع الكلام فيه أنه يجب تجنيبه ما يجب اجتنابه حال إحرامه، وهو مذهب الجمهور، للخبر المذكور.
(3) إذا ماتت وهي في العدة، لسقوط الإحداد بموتها، ومنعها منه حال الحياة، لأنه يدعو إلى نكاحها، وقد فات ذلك بموتها.
(4) فتزال ويغسل ما تحتها، ليحصل تعميم البدن بالغسل، وكالحي، واللصوق بفتح اللام ما يلصق على الجرح من الدواء، ثم أطلق على الخرقة ونحوها، إذا شدت على العضو، وكذا الجبائر المانعة من إيصال الماء إلى الجسد.(5/47)
فيمسح عليها كجبيرة الحي(1) ويزال خاتم ونحوه ولو ببرده(2) (ولا يغسل شهيد معركة)(3)
__________
(1) أي فإن خيف سقوط شيء من جسده مسح عليها، كما يمسح على جبيرة الحي.
(2) بالمبرد، يعني الخاتم ونحوه، كسوار وحلقة، لأن تركه معه إضاعة مال بغير مصلحة.
(3) وهو المقتول بأيديهم، وأضيف إلى المعركة لتعلق الحكم بها، والمعركة والمعرك والمعترك موضع العراك والمعاركة، أي القتال، «وشهيد» فعيل بمعنى مفعول، من أبنية المبالغة في شاهد، والشهيد في الأصل من قتل مجاهدًا في سبيل الله أي فيكره تغسيله، كما في التنقيح والمنتهى، لما يتضمنه الغسل من إزالة أثر العبادة، المستطاب شرعًا, وقطع أبو المعالي والموفق وابن مفلح وغيرهم بالتحريم رواية واحدة، وهو مذهب جمهور الأئمة مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم من السلف والخلف.
وفي حاشية التنقيح: فالمذهب إذًا التحريم، ولا يُوَضيَّان، حيث لا يُغَسّلان، ولو وجب قبل، لأنه أثر العبادة والشهادة، والحكمة – والله أعلم – إبقاء أثر الشهادة عليهم، والتعظيم لهم، وقيل الترك علامة، لأنا لا نعلم فضلهم إلا بذلك، وهم { أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، قيل: سمي الشهيد شهيدًا لذلك، وقيل لأن الله ورسوله شهدا له بالجنة، أو لأن ملائكة الرحمة يشهدونه، أو لأنه ممن يشهد يوم القيامة على الأمم. أو لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير، بظاهر عمله، أو لأن له شاهدًا بحاله وهو دمه، أو لأن روحه تشهد دار السلام.
قال شيخ الإسلام:وما أخبر الله به من حياة الشهيد ورزقه، وما جاء في الحديث من دخول أرواحهم الجنة، ليس مختصًا به، كما دل على ذلك النصوص الثابتة، ويختص بالذكر، لكون الظان يظن أنه يموت فينكل عن الجهاد، فأخبر بذلك، لتزول المانعة من الإقدام على الجهاد والشهادة، كما نهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق، لأنه هو الواقع، وإن كان لا يجوز مع عدم خشيته. اهـ. والشهداء ثلاثة، شهيد في الدنيا والآخرة، وهو من قاتل في سبيل الله حتى قتل، لترتب أحكام الشهداء عليه، من ترك تغسيل ونحوه، ولإرادته وجه الله والدار الآخرة، وفي الآخرة فقط، من أصابه جرح في سبيل الله، ثم مات منه بعد مدة، وفي الدنيا فقط، وهو من قاتل في سبيل الله، وسريرته باطلة، فتجرى عليه أحكام الشهيد، من ترك غسل وغيره.(5/48)
.
(ومقتول ظلمًا)(1) ولو أنثيين أو غير مكلفين(2) لأنه - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أُحد أمر بدفنهم بدمائهم، ولم يغسلهم(3).
__________
(1) كمن قتله نحو لص، ومن قتله الكفار صبرًا، في غير الحرب لا يغسل وفاقًا.
واختار الخلال والموفق وغيرهما: يغسل ويصلى عليه، وهو مذهب مالك والشافعي، لأن رتبته دون رتبة شهيد المعركة، واستأنسوا بقصة عمر وعلي وابن الزبير وغيرهم، ولم ينكر، والمقتول بمثقل يغسل ويصلى عليه إجماعًا، وقيس عليه المقتول ظلمًا في البلد بحديد أو غيره، وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
(2) وهو مذهب مالك والشافعي وصاحبي أبي حنيفة، وجماهير أهل العلم، لأنهم مسلمون، أشبهوا المكلف، وشذ أبو حنيفة في غير المكلف، واحتج بأنه لا ذنب له، وهو باطل من وجوه عديدة.
(3) رواه البخاري وغيره، ولأبي داود بإسناد على شرط مسلم، عن جابر
قال: رمي رجل بسهم في صدره أو حلقه فمات، فأدرج في ثيابه كما هو، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر الإمام أحمد أنه نهى عن تغسيلهم، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قتلى أحد: «لا تغسلوهم، فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكًا يوم القيامة» وله أيضًا قال: «زملوهم بدمائهم، فإنه ليس أحد يكلم في سبيل الله إلا أتى يوم القيامة جرحه يدمي، لونه لون دم، وريحه ريح مسك» وثبت من غير وجه أنه لا يغسل، وعثمان لم يغسل، لأنه أجهز عليه في مصرعه.
وقال إمام الحرمين: معتمدنا الأحاديث الصحيحة: أنه لم يصل عليهم، ولم يغسلوا، قال الشافعي: لعل الحكمة في ترك الغسل والصلاة، لأن يلقوا الله بكلومهم، لما جاء أن ريح دمهم ريح المسك، واستغنوا بإكرام الله لهم، عن الصلاة عليهم، مع التخفيف على من بقي من المسلمين، لما يكون فيمن قاتل في الزحف من الجراحات، وخوف عود العدو، ورجاء طلبهم، وهمهم بأهلهم، وهم أهلهم بهم، والصحيح لئلا يزول أثر العبادة المطلوب بقاؤها، كما دلت عليه الأخبار.(5/49)
وروى أبو داود عن سعيد بن زيد، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» وصححه الترمذي(1).
(إلا أن يكون) الشهيد أو المقتول ظلمًا (جنبًا)(2)
__________
(1) وهو مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم مقتولون بغير حق، أشبهوا قتلى الكفار، قال شيخ الإسلام: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الغريق شهيد، والمبطون شهيد، والحريق شهيد، والمرأة النفساء شهيدة، وصاحب الهدم شهيد» وجاء ذكر غير هؤلاء، وذكر أن من غلب على ظنه عدم السلامة، ليس له ركوب البحر للتجارة، فإن فعل فغرق فيه لا يقال: إنه شهيد، وذكر في الإقناع وغيره أن الشهداء غير شهيد المعركة كثيرون، منهم المطعون والمبطون والغريق والشريق والحريق، وصاحب الهدم، وذات الجنب، والمجنون، والنفساء، واللديغ، ومن قتل دون ماله، أو دمه أو أهله أو دينه، أو مظلمة، وفريس السبع، ومن صرعته دابته، والمتردي من رؤوس الجبال، ومن مات في سبيل الله، ومن طلب الشهادة بنية صادقة، وموت المرابط، وأمناء الله في أرضه، وصاحب الفتوة، ومن أغربها موت الغريب، وأغرب منه موت العاشق إذا عف وكتم، والمراد أنهم شهداء في ثواب الآخرة، لا في أحكام الغسل والصلاة، وقال ابن الجوزي: وكل متجرد لله في جهاد نفسه فهو شهيد، كما ورد عن بعض الصحابة: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. اهـ. ومن مات وهو يطلب العلم تأليفًا أو تدريسًا أو حضورًا، وعدهم السيوطي والأجهوري ثلاثين، وزيدت إلى أربعين، وإلى خمسين، ومنهم: من سعى على من يمونه.
(2) أي قبل أن يقتل، فيغسل، وهذا الصحيح من المذهب، وفاقًا لأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن الشافعي، وعنه: لا يُغَسّل الشهيد ولو جنبًا، وهو مذهب مالك وغيره.
وروى ابن إسحاق «إن صاحبكم لتغسله الملائكة» يعني حنظلة، فسألوا أهله، فقالت: خرج وهو جنب، حين سمع الهائعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فلذلك غسلته الملائكة» ورواه أبو داود وغيره.(5/50)
أو وجب عليهما الغسل لحيض أو نفاس أو إسلام(1).
__________
(1) فيغسل شهيد المعركة، والمقتول ظلمًا إن كان وجب عليه الغسل قبل قتله، لحيض أو نفاس، لأن ذلك الغسل واجب لغير الموت، فلم يسقط كغسل الجنابة، وعنه: لا يغسل الشهيد لحيض ونفاس، وفاقًا لمالك وغيره،وكل شهيد غسل لا عن نحو جنابة صلي عليه وجوبًا، وأما الإسلام فجزم في المغني والشرح وغيرهما أنه
لا يغسل له، ولم يذكرا خلافه، لأن أصرم بني عبد الأشهل أسلم يوم أحد، ثم قتل، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بغسله، وإن قتل وعليه حدث أصغر لم يوضأ، بخلاف نجاسة، وفاقًا، لا الدم وفاقًا.(5/51)
(ويدفن) وجوبًا (بدمه)(1) إلا أن تخالطه نجاسة فيغسلا(2) (في ثيابه) التي قتل فيها(3) (بعد نزع السلاح والجلود عنه)(4) لما روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلى أُحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم(5).
(وإن سلبها كفن بغيرها) وجوبًا(6) (ولا يصلى عليه) للأَخبار(7)
__________
(1) لما تقدم من أمره عليه الصلاة والسلام بدفن قتلى أحد بدمائهم، قال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا، إلا عن الحسن، وابن المسيب، ولأنه أثر عبادة، يستطاب شرعًا، فاستحب بقاؤه.
(2) أي الدم والنجاسة، لأن درء المفاسد – ومنه غسل النجاسة – مقدم على جلب المصالح، ومنه بقاء دم الشهيد عليه، جزم به غير واحد، وقال أبو المعالي: لو لم تزل إلا بالدم لم يجز.
(3) وجوبًا للخبر، وروى أحمد وغيره «وزملوهم في ثيابهم» وعليه الجمهور، وقال النووي وغيره: وهو قول العلماء كافة، لحديث «كفنوه في ثوبيه» ولم يستفصل، ولا يزاد على ثيابه، ولا ينقص منها، وفي الإقناع: وظاهره ولو كانت حريرًا. قال في المبدع: ولعله غير مراد. ويأتي.
(4) من نحو فروة وخف، وهو مذهب جمهور أهل العلم.
(5) وله شواهد في الصحيح وغيره، تقضي بمشروعية دفن الشهيد بما قتل فيه من الثياب، ونزع الحديد، والجلود عنه، وكل ما هو آلة حرب، وروي عن علي أنه قال: ينزع من الشهيد الفرو والخف، والقلنسوة والعمامة، والمنطقة والسراويل، إلا أن يكون أصابها دم.
(6) كغيره من سائر الموتى.
(7) منها حديث جابر في قتلى أحد: أمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم. رواه البخاري وغيره، ومنها حديث أنس في شهداء أحد: لم يغسلوا، ولم يصل عليهم، رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، قال الشافعي: جاءت الأخبار كأنها عيان، من وجوه متواترة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد، وتقدم عنه الحكمة في ذلك.
قال الوزير: تركها مشروع، ولا يلائم علو مقام الشهيد أن يحضر فيه من هو دون منزلته، في مقام الشفيع فيه، والمتوسل له، ولأن الموطن موطن اشتغال بالحرب، فلا يشرع فيه ما يشغل عن الحرب، شغلاً لا يؤمن معه استظهار العدو.
وقال ابن القيم: حديث جابر في ترك الصلاة عليهم صحيح صريح، والذي يظهر من أمر شهداء أحد أنه لم يصل عليهم عند الدفن، وذكر ما ورد في الصلاة عليهم، ثم قال: والصواب أنه مخير بين الصلاة عليهم وتركها، لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين.
وأصح الأقوال أنهم لا يغسلون، ويخبر في الصلاة عليهم، وبهذا تتفق جميع الأحاديث، والشهيد بغير قتل، كالمبطون والمطعون والغريق ونحو ذلك مما تقدم يغسل ويصلى عليه بلا نزاع.
وقال الشارح وغيره: لا نعلم فيه خلافًا إلا ما حكي عن الحسن في النفساء، وقد صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول العامة ولأنه ليس بشهيد معركة، ولا ملحقًا به.(5/52)
.
لكونهم أحياء عند ربهم(1) (وإن سقط عن دابته)(2) أو شاهق بغير فعل العدو(3).
(أو وجد ميتًا ولا أثر به)(4) أو مات حتف أنفه(5).
__________
(1) والمراد حياة برزخية، لا كحياة الدنيا، والصلاة إنما شرعت على الأموات، وقيل لغناهم عن الشفاعة، فإن الشهيد يشفع في سبعين من أهله.
(2) حاضر صف القتال، بغير فعل العدو، فمات غسل وصلي عليه، وفاقًا لمالك وأبي حنيفة والجمهور، لعدم مباشرتهم قتله، أو تسببهم فيه، أشبه من مات بمرض، قال في المبدع: وشرطه أن يكون بغير فعل العدو، فأما إذا كان بفعلهم فلا.
(3) غسل وصلي عليه، وفاقًا لمالك وأبي حنيفة وغيرهما، لعدم مباشرتهم قتله ولأن الأصل وجوب الغسل والصلاة، فلا يسقط بالاحتمال. والشاهق المرتفع من الجبال والأبنية ونحوها.
(4) غسل وصلي عليه، وفاقًا لمالك والشافعي وغيرهما، لأن الأصل وجوب الغسل، فلا يسقط يقين ذلك بالشك في مسقطه، فإن كان به أثر لم يغسل ولم يصل عليه.
(5) يعني حاضر صف القتال، غسل وصلي عليه، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، والحتف الهلاك، والمراد بموته حتف أنفه الموت على فراشه، كأنه سقط لأنفه فمات، وذلك لأنهم كانوا يتخيلون أن روح المريض تخرج من أنفه، فقولون: مات حتف أنفه، لأنه يموت ونفسه تخرج من أنفه، فإن جرح خرجت من جراحته.(5/53)
أو برفسة أو عاد سهمه عليه(1) (أو حمل فأكل) أو شرب أو نام أو بال أو تكلم أو عطس (أو طال بقاؤُه عرفًا، غسل وصلي عليه) كغيره(2) ويغسل الباغي ويصلى عليه(3).
__________
(1) أي فقتله، أو عاد سيفه عليه فقتله، أو رفسته دابة، أي صدمته برجلها في صدره ونحوه فقتلته، غسل وصلي عليه، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، لأنه لم يمت بفعل العدو، ولا مباشرته، ولا تسببه، ومذهب الشافعي، ونصره القاضي: لا يغسل ولا يصلى عليه، لأن عامر بن الأكوع بارز رجلاً يوم خيبر، فعاد عليه سيفه فقتله، فلم يفرد عن الشهداء بحكم.
(2) من وجوب غسل وصلاة وفاقًا، لأن سعد بن معاذ أصابه سهم يوم الخندق، فحمل إلى المسجد، ثم مات بعد ذلك، فغسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى عليه، وعمر حمل، وغسل وصلي عليه بحضرة الصحابة، ولم ينكر ذلك أحد، فثبت أنه إجماع.
ولا بد أن تكون هذه الأمور بعد حمله من المعركة، فأما لو كانت قبل حمله من المعركة، مثل أن أكل أو شرب بعد جرحه، وهو في المعركة، ثم مات فيها، فحكمه حكم شهيد المعركة، لا يغسل ولا يصلى عليه، فإن قتلى أحد تكلموا بعد جراحهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم، إلا أن يطول مكثه فيها، فيحتمل أن يغسل، كما نقل عن أحمد فيمن أقام فيها يومًا إلى الليل، يغسل، وقيل يصلى عليه إن حمل فأكل، وأما الشرب والكلام فلا، صححه المجد وأبو محمد، لأن الشرب والكلام يوجد ممن هو في السياق، وصوبه في الإنصاف.
(3) وكذا كل عاص، كسارق وشارب خمر، ومقتول قصاصًا أو حدًا، أو غيرهم، قال أحمد: ما نعلم أنه صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه.(5/54)
ويقتل قاطع الطريق، ويغسل ويصلى عليه، ثم يصلب(1) (والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه) وإن لم يستهل(2)
__________
(1) أي بعد الصلاة عليه، ولا نزاع في أنه يصلى عليه، كسائر المسلمين، وصلبه مد باعيه على جذع ونحوه.
(2) أصل الاستهلال رفع الصوت، أي يصوت عند الولادة، وفاقًا للشافعي، فهو كمولود حيًا، ولأنه نسمة نفخ فيها الروح، ولأنه يبعث فيسمى، ليدعى باسمه يوم القيامة، وسئل أحمد: متى تحب أن يصلى على الطفل؟ قال: إذا أتى عليه أربعة أشهر، لأنه ينفخ فيه الروح، اعتمد في ذلك على حديث ابن مسعود، في قوله يعني بعد الأربعة «ثم ينفخ فيه الروح» متفق عليه، وهذا مذهب أهل الظاهر.
وقال العبدري: إن كان له أربعة أشهر ولم يتحرك، لم يصل عليه عند جمهور العلماء، وإن لم يكن له إلا دون أربعة أشهر لم يصل عليه بلا خلاف. وقال الوزير وغيره: لا يغسل ولا يصلى عليه إذا لم يبلغ أربعة أشهر اتفاقًا قالوا: لأنه لا يبعث قبلها وهو قول كثير من الفقهاء، وقال الموفق وغيره: يلف في خرقة ويدفن، ولا يغسل ولا يصلى عليه، لعدم وجود الحياة، بلا خلاف، وقبل الأربعة الأشهر لا يكون نسمة، بل كسائر الجمادات، والسقط بكسر السين وضمها وفتحها، ثلاث لغات مشهورات، الولد لغير تمام.(5/55)
لقوله عليه السلام «والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» رواه أحمد وأبو داود(1).
__________
(1) ورواه ابن حبان والحاكم وصححه، وقال: على شرط البخاري بلفظ «السقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة» وله شواهد، ورواه النسائي والترمذي أيضًا وصححه، لكن بلفظ «والطفل يصلى عليه»، واحتج به أحمد، وفي سنن ابن ماجه مرفوعًا «صلوا على أطفالكم، فإنهم من أفراطكم» وحكى الموفق وابن المنذر وغير واحد إجماع المسلمين على وجوب الصلاة على الطفل، لهذا الخبر، ولعموم النصوص الواردة بالصلاة على المسلمين، وهو داخل في عمومهم، وإن وجد بدار حرب، وعليه علامة المسلمين، غسل وصلي عليه، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع أنه إذا وجد الطفل في بلاد المسلمين ميتًا، يجب غسله ودفنه في مقابرنا.(5/56)
وتستحب تسميته(1) فإن جهل أَذكر هو أَم أُنثى؟ سمي بصالح لهما(2) (ومن تعذر غسله) لعدم الماء أَو غيره كالحرق والجذام والتبضيع (يمم) كالجنب إذا تعذر عليه الغسل(3) وإن تعذر غُسْل بعضه غُسِل ما أَمكن، ويمم للباقي(4).
__________
(1) قيل: ولو ولد قبل أربعة أشهر، لأنه يبعث فيسمى، ليدعى يوم القيامة باسمه، وهو ظاهر كلام أحمد.
(2) كهبة الله وطلحة، قاله الشيخ وغيره.
(3) وفاقًا للشافعي، لأن غسل الميت طهارة على البدن، فقام التيمم – عند العجز عن الغسل – مقامه كالجنابة، وكذا من به جدري ونحوه يمنع الغسل، فإنه ييمم ويصلى عليه، على حسب حاله.
(4) أي لما تعذر غسله كالجنابة، وإن أمكن صب الماء عليه بلا عرك صب عليه الماء، بحيث يعم بدنه، وترك عركه لتعذره، وإن يمم الميت لعدم الماء، وصلي عليه، ثم وجد الماء قبل دفنه، وجب غسله لإمكانه، وتعاد الصلاة عليه، وكذا فيها كالحي، ولو دفن قبل الغسل من أمكن غسله وجب نبشه، إن لم يخف تفسخه أو تغيره، ومثله من دفن قبل تكفينه، أو موجهًا إلى غير القلة، وهذا مذهب مالك والشافعي، ويجوز نبشه لغرض صحيح، كتحسين كفنه، وكدفنه في بقعة فاضلة، ومجاورة رجل صالح، إلا الشهيد فلا ينقل، ولو نقل رد إلى مصرعه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه.(5/57)
(و) يجب (على الغاسل ستر ما رآه) من الميت (إن لم يكن حسنًا)(1) فيلزمه ستر الشر، لا إظهار الخير(2) ونرجو للمحسن، ونخاف على المسيء(3).
__________
(1) لحديث «ليغسل موتاكم المأمونون» رواه ابن ماجه بسند ضعيف، وكونه أمينًا ليوثق به في تكميل الغسل، وستر العيب، وغير ذلك، ولأحمد عن عائشة مرفوعًا «من غسل ميتًا، وأدى فيه الأمانة، ولم يفش عيبه، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وللحاكم «من غسل ميتًا وكتم عليه، غفر له أربعين مرة» وعموم قوله «من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» وقوله: في الغيبة «ذكرك أخاك بما يكره» وغير ذلك، وقال جمع: إلا على مشهور ببدعة أو فجور ونحوه، فيتسحب إظهار شره، وستر خيره، ليرتدع نظيره، وفي الحديث «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا».
(2) ولابن حبان والحاكم «اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم» ولأن في إظهار الشر إذاعة للفاحشة، وغيبة له، وهي محرمة، وأما إظهار الخير فيباح ليترحم عليه، ويكثر المصلون عليه، والدعاء له.
(3) هذا أمر كلي، أي ونرجو للمحسن أن يوفى أجره كما وعد تبارك وتعالى، ونخاف على المسيء من عذاب الله أن يؤاخذه بإساءته { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } .(5/58)
ولا نشهد إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -(1). ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهر العدالة(2) ويستحب ظن الخير بالمسلم(3).
__________
(1) يعني بجنة أو نار، بإجماع أهل السنة والجماعة. قال الشيخ: أو تتفق الأمة على الثناء عليه، أو الإساءة، ولعله مراد الأكثر، وأنه الأكثر ديانة، وظاهر كلامه أيضًا: ولو لم تكن أفعال الميت موافقة لقولهم، وإلا لم تكن علامة مستقلة، وفي الصحيحين أنه مر بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال «وجبت» ثم بأخرى فأثنوا عليها شرًا فقال «وجبت» فقال عمر: ما وجبت؟ قال «هذا أثنيتم عليه خيرًا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض» والحديث على عمومه، فمن ألهم الناس الثناء عليه، كان دليلاً، سواء كانت أفعاله مقتضية أو لا، وهذا الإلهام يستدل به على تعيينها . اهـ.
ويشرع ثناء الناس على الميت، وهو جائز مطلقًا، بخلاف الحي على تفصيل فيه، وروى الإمام أحمد «ما من مسلم يموت، فيشهد له ثلاثة أبيات من جيرانه الأدنين بخير، إلا قال الله: قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا، وغفرت له ما لم يعلموا».
وللحاكم قال: «ما هذه الجنازة؟» قالوا: جنازة فلان الفلاني، كان يحب الله ورسوله، ويعمل بطاعة الله، ويسعى فيها، فقال «وجبت» وقال ضد ذلك في التي أثنوا عليها شرًا، «وجبت، أنتم شهداء في أرضه، أيما مسلم شهد له أربعة، وثلاثة، واثنان بخير، أدخله الله الجنة» وفي الأثر «إذا أردتم أن تعلموا ما للميت عند الله، فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء» قال الشيخ: وتواطؤ الرؤيا كتواطيء الشهادات.
(2) بخلاف من ظاهره الفسق، فلا حرج بسوء الظن به، وحديث «إياكم والظن» محمول على ما لم تعضده قرينة، تدل على صدقه.
(3) حيًا وميتًا، ولا ينبغي تحقيق ظنه في ريبة، وعلم منه أنه لا حرج بظن السوء لمن ظاهره الشر.(5/59)
فصل في الكفن(1)
(يجب تكفينه في ماله)(2) لقوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم «كفنوه في ثوبيه»(3) (مقدمًا على دين) ولو برهن (وغيره) من وصيةٍ وإرْث(4) لأَن المفلس يقدم بالكسوة على الدين، فكذا الميت(5).
فيجب لحق الله وحق الميت ثوب لا يصف البشرة، يستر جميعه(6) من ملبوس مثله(7)
__________
(1) لما فرغ من الكلام في غسل الميت وما يتعلق به، أتبعه الكفن ومؤونة التجهيز، وما يتعلق بذلك، وتقدم أن كفن الميت ومؤونة تجهيزه فرض كفاية على من علم به وأمكنه إجماعًا، وقيل: وحنوطه وطيبه، وفاقًا لمالك وقول للشافعي.
(2) أي لف الميت في كفن، ثوب فأكثر من ماله، للنص والإجماع، وكذا مؤونة تجهيزه بمعروف، وفاقًا، غير حنوط وطيب فمستحب.
(3) متفق عليه، وتقدم، ولما رواه الجماعة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتكفين في النمرة، ولا مال له غيرها، وقال ابن المنذر: قال بذلك جميع أهل العلم.
(4) وإرث جناية، ولو كانت متعلقة برقبة الجاني، وغير ذلك مما يتعلق بعين المال، وقال الوزير: اجمعوا على تكفين الميت من ماله، وأنه مقدم على الدين والورثة.
(5) يقدم عليه، بل أولى، ولأن سترته واجبة في الحياة، فكذا بعد الموت، وللخبر المتقدم وغيره، ويكون ذلك من رأس ماله، ولأن حمزة ومصعبًا لم يوجد لكل منهما إلا ثوب، فكفنا فيه.
(6) أي جميع بدن الميت، ذكرًا كان أو أنثى، ما لم يكن محرمًا، لأن العورة المغلظة يجزئ في سترها ثوب واحد، فكفن الميت أولى، ولو أوصى أن يكفن بأقل منه لم تسمع وصيته، لما فيه من إسقاط حق الله، وعبارة الإقناع: ويشترط أن لا يصف البشرة، لأن ما يصفها غير ساتر، فوجوده كعدمه.
(7) في الجمع والأعياد، لأنه لا إجحاف فيه على الميت، ويكره بأعلى من ملبوس مثله، ولو أوصى به، لأنه إضاعة للمال، وللنهي عن التغالي في الكفن، رواه أبو داود وغيره بإسناد جيد.
ولفظه «لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سريعًا» ولا ينافي الأمر بتحسينه، فإن تحسينه بياضه ونظافته، وسبوغه وكثافته، لا كونه ثمينًا، وولاية شراء الكفن لوارثه.(5/60)
ما لم يوص بدونه(1) والجديد أفضل(2) (فإن لم يكن له) أي للميت (مال(3)) فكفنه ومؤونة تجهيزه (على من تلزمه نفقته)(4).
__________
(1) أي دون ملبوس مثله، لأن الحق له، وقد تركه، فإذا أوصى بذلك جاز إجماعًا، ونقل أبو البركات الإجماع على جواز الوصية بالثوب الواحد.
(2) أي من العتيق، كما فعل به صلى الله عليه وسلم، وللأمر بتحسينه، رواه مسلم وغيره، وذلك ما لم يوص الميت بغيره فيمتثل، لقول الصديق: كفنوني في ثوبي هذين، لأن الحي أحوج إلى الجديد من الميت، وإنما هما للمهلة والتراب. رواه البخاري وغيره، والمهلة الصديد.
(3) بأن لم يخلف شيئًا، أو تلف قبل تجهيزه.
(4) ويأتي ذلك في كتاب النفقات إن شاء الله تعالى.(5/61)
لأن ذلك يلزمه حال الحياة، فكذا بعد الموت(1) (إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته)(2) ولو غنيًا، لأن الكسوة وجبت عليه بالزوجية والتمكن من الاستمتاع، وقد انقطع ذلك بالموت(3) فإن عدم مال الميت، ومن تلزمه نفقته، فمن بيت المال، إن كان مسلمًا(4) فإن لم يكن، فعلى المسلمين العالمين بحاله(5).
__________
(1) أي فكما أن نفقته تلزمه حال الحياة، فكفنه ومؤونة تجهيزه تلزمه بعد الموت، ويجب كفن الرقيق على مالكه.
(2) وهو رواية عن أبي حنيفة والشافعي، وحكي عن مالك.
(3) فأشبهت الأجنبية، وعليه لا يلزمه كفنها ومؤونة تجهيزها، وفارقت الرقيق: فإن نفقته تجب بحق الملك، لا بالانتفاع، فتكفن من مالها إن كان، وإلا على من تلزمه نفقتها، وعنه: يلزمه كفنها، وهو رواية عن مالك وأبي حنيفة والشافعي، قال في المبدع: وهو قول أكثر العلماء، ورجح بأن من تلزمه كسوتها في الحياة يلزمه كفنها بعد الوفاة كالأمة مع السيد.
(4) وفاقًا، لأنه للمصالح، وهذا من أهمها، وكنفقته، ويكفن بثوب، وفي الفروع وغيره: ويتوجه ثوب من الوقف على الأكفان إن كان، وخرج الكافر ولو ذميًا، فلا يكفن من بيت المال، لأن الذمة إنما أوجبت عصمتهم، فلا نؤذيهم، لا لإرفاقهم.
(5) أي فإن لم يوجد بيت مال، فكان هنا تامة، أو وجد وتعذر الأخذ منه، فكفن الميت على المسلمين العالمين بحاله، كنفقة الحي وكسوته.(5/62)
قال الشيخ تقي الدين: من ظن أن غيره لا يقوم به تعين عليه(1) فإن أراد بعض الورثة أن ينفرد به لم يلزم بقية الورثة قبوله(2) لكن ليس للبقية نبشه وسلبه من كفنه بعد دفنه(3).
وإذا مات إنسان مع جماعة في سفر، كفنوه من ماله، فإن لم يكن كفنوه ورجعوا على تركته، أو من تلزمه نفقته إن نووا الرجوع(4) (ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض) من قطن(5).
لقول عائشة: كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض، سُحوليَّة جدد، يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة، أدرج فيها إدراجًا؛ متفق عليه(6)
__________
(1) وظاهره سواء تركوا جهلاً أو عجزًا أو بخلاً، ولو من ولاة بيت المال، وقال النووي وغيره: لو مات إنسان ولم يوجد ما يكفن به إلا ثوب مع مالك له، غير محتاج إليه، لزمه بذله بقيمته، كالطعام للمضطر.
(2) لما فيه من المنة عليه وعليهم، وكذا لو تبرع به أجنبي.
(3) لأنه ليس في تبقيته إسقاط حق مملوك لأحد منهم، وإنما هو حق للمتبرع، لا دخل لأحد فيه، ومن نبش وسرق كفنه، كفن من تركته ثانيًا وثالثًا، ولو قسمت، ما لم تصرف في دين أو وصية.
(4) أي أو رجعوا على من تلزمه نفقته، لوجوبه عليه إن نووا الرجوع في ذلك، ولو لم يستأذن الحاكم.
(5) البيض التي لونها البياض، لقوله: «وكفنوا فيها موتاكم». ولابن ماجه «أحسن ما زرتم الله في قبوركم البياض» واستمر عليه عمل الصحابة ومن بعدهم،
واستحبابه مجمع عليه، والقطن: بضم القاف وسكون الطاء وتحرك، معروف،
وظاهر عبارته: ولو كان عليه دين، أو في الورثة صغير، وهو ظاهر كلام أكثر الأصحاب، وقيل: تقدم الثلاثة على الإرث والوصية، لا الدين، اختاره في المحرر، وجزم به أبو المعالي.
(6) قال أحمد: أصح الأحاديث في كفن النبي صلى الله عليه وسلم حديث عائشة، لأنها أعلم من غيرها.
وقال الترمذي: قد روي في كفن النبي صلى الله عليه وسلم روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الروايات التي رويت في كفنه، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، من الصحابة وغيرهم.
وقال الحاكم وغيره: تواترت الأخبار عن علي وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن مغفل وعائشة في تكفينه صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة، أي لم يكن في أكفانه قميص ولا عمامة، وإنما كفن في ثلاثة أثواب، وهو المستحب عند جماهير العلماء، ولا يكره إن جعل فيها قميص، لقصة ابن أبي، ولا عمامة، لفعل ابن عمر، والسُحولية بضم أوله، ويروى بفتحه: نسبة إلى سحول، قرية باليمن، وقيل بالفتح المدينة، وبالضم الثياب، جمع سحل، وهو الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن، ولفظ «جدد» ليست في الصحيحين، وفي رواية لهما «من كرسف» أي قطن، واليمانية بتخفيف الياء منسوب إلى اليمن، وليست الياء للنسبة إذ الألف عوض عنها.(5/63)
ويقدم بتكفين من يقدم بغسل(1).
ونائبه كهو، والأَولى توليه بنفسه(2) (تجمر) أي تبخر بعد رشها بماء ورد أو غيره، ليعلق(3).
(ثم تبسط بعضها فوق بعض)(4) أوسعها وأحسنها أَعلاها، لأَن عادة الحي جعل الظاهر أَفخر ثيابه(5) (ويجعل الحنوط) وهو أَخلاط من طيب يُعَدّ للميت خاصة (فيما بينها)(6).
__________
(1) وتقدم في الغسل: وصيه، ثم أبوه ثم جده، ثم الأقرب، الخ.
(2) أي تولى الوصي الغسل بنفسه، وكذا الأب، الخ، لقيامه مقامه، والأولى استثناؤه الوصي إلا أن يجعل إليه.
(3) أي رائحة البخور إن لم يكن محرمًا، ويكون البخور بالعود أو نحوه، يجعل العود على النار في مجمر، ثم يبخر به الكفن، حتى تعبق رائحته، أوصى به أبو سعيد وابن عمر وابن عباس وأسماء، ولأن هذا عادة الحي، ولابن حبان والحاكم عن جابر مرفوعًا «إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثًا».
(4) ليوضع الميت عليها مرة واحدة، ولا يحتاج إلى حمله ووضعه على واحدة بعد واحدة.
(5) فيجعل أحسنها كذلك، ليظهر الناس، كعادي الحي.
(6) أي يذر فيما بين اللفائف، وهو مشروع، بدليل الخطاب من قوله صلى الله عليه وسلم في المحرم «ولا تحنطوه» ولا يقال في غير طيب الميت حنوط.
قال الأزهري: يدخل في الحنوط الكافور والصندل وذريرة القصب، ولو خلط بالمسك فلا بأس، وفي القاموس: الحنوط كل طيب يخلط للميت، وروي أنه كن عند علي مسك، فأوصى أن يحنط به، وقال: هو من فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي نحو ذلك عن أنس وابن عمر وغيرهم.(5/64)
لا فوق العليا، لكراهة عمر وابنه وأبي هريرة(1) (ثم يوضع) الميت (عليها) أي اللفائف (مستلقيًا) لأَنه أمكن لإدراجه فيها(2) (ويجعل منه) أي من الحنوط (في قطن بين أليتيه)(3) ليرد ما يخرج عند تحريكه(4).
(ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان) وهو السراويل بلا أكمام(5) (تجمع أليتيه ومثانته(6) ويجعل الباقي) من القطن المحنط (على منافذ وجهه) عينيه ومنخريه وأُذنيه وفمه(7).
لأن في جعلها على المنافذ منعًا من دخول الهوام(8) (و) على (مواضع سجوده) ركبتيه ويديه وجبهته وأَنفه، وأَطراف قدميه، تشريفًا لها(9) وكذا مغابنه، كطي ركبتيه، وتحت إبطيه وسرته، لأَن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك(10).
__________
(1) وذكره في الفروع وفاقًا، ولا يجعل على الثوب الذي على النعش وفاقًا، لكراهة السلف لذلك.
(2) وطويها عليه كما سيأتي، ويجب ستره حال حمله بثوب، ويوضع متوجهًا ندبًا.
(3) برفق ويكثر ذلك.
(4) حال التكفين والحمل والوضع.
(5) وقال الجوهري: التبان بالضم والتشديد سروال صغير، بقدر شبر، يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين.
(6) أي مَوْضع بوله، ليرد ما يخرج، ويخفى ما يظهر من الروائح، ويصنع كذلك في الجراح النافذة.
(7) لئلا يحدث منها حادث، ويبدأ بها لشرفها، وكذلك يجعل في الجراح النافذة.
(8) أي في تلك المنافذ الشريفة.
(9) أي ويجعل الباقي من القطن المحنط على تلك المواضع، تشريفًا لها، لكونها مختصة بالسجود.
(10) فيفعل به كما يفعل بالعروس، قال الزركشي: كذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال في الإقناع: ويطيب رأسه ولحيته.(5/65)
(وإن طيب) الميت (كله فحسن) لأَن أنسًا طلي بالمسك، وطلى ابن عمر ميتًا بالمسك(1) وكره داخل عينيه(2) وأن يطيب بورس وزعفران(3).
__________
(1) وذكر السامري أنه يستحب تطييب جميع بدنه بالصندل والكافور، لدفع الهوام.
(2) نص عليه وفاقًا. لأنه يفسدهما.
(3) أي ويكره أن يطيب بورس وزعفران، لأنهما إنما يستعملان لغذاء أو زينة، وهو غير لائق بالميت، ولأنه لا يعتاد التطيب به، وربما ظهر لونه على الكفن، ولا فرق في ذلك بين المرأة والرجل، والورس نبت كالسمسم باليمن.(5/66)
وطليه بما يمسكه كصبر ما لم ينقل(1) (ثم يرد طرف اللفافة العليا) من الجانب الأَيسر (على شقه الأَيمن، ويرد طرفها الآخر فوقه) أي فوق الطرف الأَيمن(2) (ثم) يفعل بـ(الثانية والثالثة كذلك) أي كالأُولى(3) (ويجعل أكثر الفاضل) من كفنه (على رأُسه) لشرفه(4) ويعيد الفاضل على وجهه ورجليه بعد جمعه، ليصير الكفن كالكيس فلا ينتشر(5) (ثم يعقدها) لئلا ينتشر(6) (وتحل في القبر)(7).
__________
(1) أي الميت من مكان إلى آخر، لحاجة دعت إليه، فيباح للحاجة بلا مفسدة، والصبر بكسر الموحدة ويسكن لضرورة الشعر، وهو دواء مُرّ، من عصارة شجر مُرًّ.
(2) وعبارة الإقناع وشرحه: ثم يرد طرفها الأيمن على شقه الأيسر، جزم به الموفق وغيره، لئلا يسقط عنه الطرف الأيمن إذا وضع على يمينه في القبر، ولأنه عادة لبس الحي، في قباء ورداء ونحوهما، ونحوه في المنتهى وشرحه، وقدمه في الفروع وغيره، وجزم به جماعة من الأصحاب، ووجه في الفروع احتمالاً أنهما سواء.
(3) لأنهما في معناها، فيدرج فيها إدراجًا.
(4) أي على الرجلين، ولأنه أحق بالستر منهما، فالاحتياط ليستره بتكثير ما عنده أولى، فيجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه.
(5) أي عند حمله ووضعه.
(6) يعني الكفن، ما لم يكن محرمًا، وفي الإقناع: إن خاف انتشارها يعني اللفائف عقدها «وعقد» من باب ضرب
(7) قال في الإنصاف: بلا نزاع، إذ عقده للخوف من انتشاره، وقد أمن ذلك بدفنه.(5/67)
لقول ابن مسعود: إذا أَدخلتم الميت القبر فحلوا العقد؛ رواه الأَثرم(1) وكره تخريق اللفائف، لأَنه إفساد لها(2) (وإن كفن في قميص ومئزر ولفاقة جاز)(3) لأنه عليه السلام ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات، رواه البخاري(4) وعن عمرو بن العاص أَن الميت يؤزر ويُقَمَّص، ويلف بالثلاثة(5).
__________
(1) وعن سمرة نحوه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما أدخل نعيم بن مسعود في القبر، نزع الأخلة، ولأن الخوف من انتشاره قد زال، ويفهم منه أنه لا يحل الإزار إذا كان هناك، وصرح به في الإقناع وغيره، وذكر أبو المعالي وغيره أنه لو نسي الملحد أن يحلها نبش – ولو كان بعد تسوية التراب قريبًا – وحلت، لأنه سنة، قال الشافعي وغيره: إن خيف انتشار الأكفان عند الحمل شدت بشداد يعقد عليها، فإذا أدخلوه القبر حلوه، قيل: لأنه يكره أن يكون في القبر شيء معقود.
(2) وتقبيح، مع الأمر بالتحسين، قاله أبو الوفاء وغيره، وذلك والله أعلم أنه كان من عادة أولئك، لئلا ينبش فيؤخذ، وجوز أبو المعالي تخريقه إن خيف نبشه، وكرهه الإمام أحمد، وقال هو وغيره: إنهم يتزاورون فيها.
(3) إجماعًا من غير كراهة، ولو لم تتعذر اللفائف، إلا أن الأول أفضل، والمئزر الإزار، يجعل على الحقوين وما تحتهما، واللفافة بالكسر ما يلف به الشيء.
(4) مكافأة له لما كان كسا العباس حين أسر، وفي الصحيحين أن ابنه قال: أعطني قميصك أكفنه فيه.
(5) فيؤزر بالمئزر، ويلبس القميص، ثم يلف باللفافة بعد ذلك، وفي الفروع: لا يكره في خمسة وفاقًا، ولا يكره تعميمه وفاقًا. وقال ابن عقيل: ومن أخرج فوق العادة فهو على طريق المروءة، لا بقدر الواجب فممنوع، فإن كان من التركة فمن نصيبه، وقال الموفق: تكره الزيادة على الثلاثة، لما فيه من إضاعة المال.(5/68)
وهذا عادة الحي(1) ويكون القميص بكمين ودخاريص لا بِزِرًّ(2) (وتكفن المرأة) والخنثى ندبًا (في خمسة أثواب) بيض من قطن(3) (إزار وخمار وقميص ولفافتين)(4).
لما روى أحمد وأبو داود، وفيه ضعف عن ليلى الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أُم كلثوم، بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان
__________
(1) كونه يأتزر ويتقمص، ويرتدي ونحوه، والأفضل ما اختار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
(2) ولأنه لا يسن للحي زره فوق إزار، لعدم الحاجة، والكم بالضم مدخل اليد ومخرجها من القميص، والدخاريص دخلات يجعلن في جوانبه، ولا يكره تكفين رجل في ثوبين، لما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في المحرم «وكفنوه في ثوبيه».
قال الموفق: وقول القاضي: لا يجزئ أقل من ثلاثة لمن يقدر عليها – وأنه لو جاز أقل منها لم يجز التكفين بها في حق من له أيتام – لا يصح، فإنه لا يجوز التكفين بالحسن، مع حصول الإجزاء بما دونه.
(3) وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وقال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفن المرأة في خمسة أثواب.
(4) الإزار غير ما تضم به فخذاها، في خبر أم سليم وغيره، والخمار تقنع به بعد أن تلبس القميص، ثم تلف باللفافتين، كما يأتي، ولما كانت تلبس المخيط في الإحرام، وهو أكمل أحوال الحياة، استحب إلباسها إياه بعد موتها.(5/69)
أول ما أعطانا الحِقاء، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أُدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر(1) قال أحمد: الحقاءُ الإزار، والدرع القميص(2) فتؤزر بالمئزر، ثم تلبس القميص، ثم تخمر، ثم تلف باللفافتين(3) ويكفن صبي في ثوب(4) ويباح في ثلاثة، ما لم يرثه غير مكلف(5) وصغيرة في قميص ولفافتين(6).
__________
(1) وروى الخوارزمي عن أم عطية: وكفناها في خمسة أثواب، وخمرناها كما نخمر الحي، وقال الحافظ: صحيح الإسناد، وإنما استحب لها الخمسة، لأنها تزيد حال حياتها على الرجل في السترة، لزيادة عورتها على عورته، فكذلك بعد الموت، وليلى هي بنت قانف.
(2) والحقا بكسر الحاء المهملة، وتخفيف القاف مقصور لغة في الحقو، وهو الإزار، كما ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
(3) قاله في المبدع وغيره، ونص أحمد أن الخامسة تشد بها فخذاها تحت المئزر، وقال الخرقي وغيره: خرقة تشد بها فخذاها بمئزر تحت درع، ويلف فوق الدرع الخمار باللفافتين، جمعًا بين الأخبار، وظاهره أنها لا تنتقب.
(4) أي ويسن أن يكفن صبي في ثوب واحد وفاقًا، لأنه دون الرجل، ولا خلاف في أنه يجزئه.
(5) رشيد، من صغير أو مجنون أو سفيه، فإن ورثه غير مكلف، لم تجز الزيادة على ثوب، لأن الزائد تبرع.
ومذهب الشافعي: حكمه كالكبير في استحباب الثلاثة، واختاره ابن المنذر، وجمهور العلماء.
(6) أي ويسن أن تكفن صغيرة في قميص ولفافتين بلا خمار، نص عليه، لعدم احتياجها إلى الخمار في حياتها، فكذا بعد موتها.(5/70)
(والواجب) للميت مطلقًا (ثوب يستر جميعه)(1) لأَن العورة المغلظة يجزئ في سترها ثوب واحد، فكفن الميت أَولى(2) ويكره بصوف وشعر(3) ويحرم بجلود(4) ويجوز في حرير لضرورة فقط(5).
__________
(1) أي جميع الميت، سواء كان رجلاً أو امرأة، صغيرًا أو كبيرًا، وفي الصحيح عن أم عطية، قالت: ألقى علينا حِقْوَه، فقال «أشعرنها إياه» أي الففنها فيه، ولم يزد على ذلك، وقيل: الواجب ستر العورة، لقصة مصعب في الصحيحين، غطي بها رأسه، وبدت رجلاه، فأمرهم أن يجعلوا على رجليه الإذخر، ويبعد أن يكون معه ما يشتري به ما يستر جميعه، ولو لم يوجد، فمن بيت المال.
(2) ولا فرق بين الرجل والمرأة.
وتقدم أنه لا يجزئ بما يصف البشرة، يعني من بياض وسواد، ويكره برقيق يحكي الهيئة، يعني تقاطيع البدن، وأعضاءه، ويجوز تكفين المرأة في ثوب الرجل، لإعطائهن حقوه يشعرنه ابنته، وحكاه ابن بطال اتفاقًا.
(3) لأنه خلاف فعل السلف رضي الله عنهم، ويكره بمزعفر ومعصفر، ولو لامرأة، لأنه لا يليق بالحال.
(4) ولو لضرورة، لأمره عليه الصلاة والسلام بنزع الجلود عن الشهداء، ولأنها من ملابس أهل النار.
(5) إن لم يجد ما يستره غيره، وفاقًا، لوجوب ستره، ويكون ثوبًا واحدًا، ذكرًا كان الميت أو أنثى، لأنه إنما أبيح الحرير للمرأة حال الحياة، لأنه محل زينة وشهوة، وقد زال بموتها، فلم يبح تكفينها به وفاقًا، إلا لضرورة.
وقال ابن المنذر: لا أعلم فيه خلافًا، وعلم منه أنه إذا لم تكن ضرورة حرم تكفين بحرير ومذهب ومفضض، ولو لامرأة.(5/71)
فإن لم يجد إلا بعض ثوب ستر العورة، كحال الحياة(1) والباقي بحشيش أو ورق(2) وحرم دفن حلي وثياب غير الكفن، لأَنه إضاعة مالٍ(3) ولحي أَخذ كفن ميت لحاجة حر أَو برد بثمنه(4).
فصل
__________
(1) في وجوب تقديمها بالستر على سائر البدن. وإن بقي شيء ستر به رأسه وما يليه، لشرفه على باقيه.
(2) لما روى البخاري وغيره من قصة مصعب لما قتل يوم أحد ولم يوجد له شيء يكفن به إلا نمرة، فكانت إذا وضعت على رأسه بدت رجلاه، وإذا وضعت على رجليه بدا رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطى رأسه، ويجعل على رجليه إذخر، وكان مستعملاً إذ ذاك عند العرب، فإن لم يوجد فما تيسر من نبات الأرض، فإن لم يوجد إلا ثوب واحد، ووجد جماعة من الأموات، جمع فيه ما يمكن جمعه، وقال ابن تميم: قال شيخنا: يقسم بينهم، ويستر عورة كل واحد، ولا يجمعون فيه، اهـ.
ولو قيل حيث جاز دفن اثنين فأكثر فالجمع، وإلا فيستر عورة كل لكان حسنًا، ومنبوش طري يكفن كالذي لم يدفن، وفي الإقناع وغيره: يسن تغطية نعش بأبيض،ويكره بغيره، وفي شرحه: ويحرم بحرير ومنسوج بذهب أو فضة.
(3) وعادة جاهلية، وقد نهى عنه عليه الصلاة والسلام.
(4) قال المجد وغيره: إن خشي التلف، وإن كان لحاجة الصلاة فيه فالميت أحق بكفنه، ولو كان لفافتين، ويصلى الحي عليه عريانًا.(5/72)
في الصلاة على الميت(1)
تسقط بمكلف(2)
__________
(1) وهي فرض كفاية إجماعًا، غير شهيد معركة، وقيل: ومقتول ظلمًا وتقدم، لمفهوم قوله تعالى { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } قال الشيخ: دليل الخطاب أن المؤمن يصلى عليه، ولأمره صلى الله عليه وسلم بها، وفعله المستفيض في غير ما حديث كقوله «صلوا على صاحبكم» وقوله «صلوا على أطفالكم» «صلوا على من قال لا إله إلا الله» وتواتر فعلها منه صلوات الله وسلامه عليه، وأجمع المسلمون عليها، ويكفر منكرها، وتقدم أنه إن لم يعلم به إلا واحد، وأمكنه تعينت عليه، وهي من أكبر القربات، وفي فعلها الأجر الجزيل، كما في الصحاح وغيرها، وقال الفاكهي: الصلاة على الميت من خصائص هذه الأمة، وأتبعت التكفين لمناسبتها له، وكونها تفعل بعده.
(2) أي تسقط الصلاة على الميت بصلاة مكلف عليه، ذكر، ولو أنثى، أو عبد، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، وقول للشافعي، وقدم في المحرر: أو مميز، لأنها فرض تعلق به، فسقط بالواحد، وقيل تسقط بثلاثة وفاقًا، لما جاء أنه صلى صلى الله عليه وسلم على عمير بن أبي طلحة في منزلهم، وأبو طلحة وراءه، وأم سليم وراء أبي طلحة.
قال شيخ الإسلام: وفروض الكفايات إذا قام بها رجل سقط عن الباقين، ثم إذا فعل الكل ذلك كان فرضًا، ذكره ابن عقيل محل وفاق، ولا تسقط بالصلاة عليه بعد الدفن، بل تقديمها واجب، فيأثمون بدفنه قبلها.(5/73)
وتسن جماعة(1) وأن لا تنقص الصفوف عن ثلاثة(2) و(السنة أن يقوم الإمام عند صدره) أي صدر ذكر(3).
__________
(1) أي تسن الصلاة على الميت جماعة، بإجماع المسلمين، لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعل أصحابه رضوان الله عليهم، واستمرار عمل المسلمين عليه، وتسن تسوية الصفوف، كما في الصحيحين، في صلاته على النجاشي فصف بهم، وقال أحمد: يسوون صفوفهم، فإنها صلاة، وعن أبي المليح أنه صلى على جنازة، فالتفت فقال: استووا، ولتحسن شفاعتكم. وتجوز فرادى كنساء، عند مالك والشافعي، والمذهب يصلين عليه جماعة، وتقف إمامتهن وسطهن، وفاقًا لأبي حنيفة.
(2) لحديث مالك بن هبيرة: كان إذا صلى على ميت جزأ الناس ثلاثة صفوف، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صلى عليه ثلاثة صفوف من الناس، فقد أوجب» رواه الترمذي والحاكم وصححه، وفي رواية «ما من ميت يموت، فيصلي عليه ثلاثة صفوف، إلا غفر له» حسنه الترمذي.
وروى ابن بطة عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة، وهو سابع سبعة، فأمرهم أن يصفوا ثلاثة صفوف خلفه، فصف ثلاثة واثنين وواحدًا خلف الصف، فصلى على الميت ثم انصرف، وصرح القسطلاني وغيره أن الثلاثة في الفضيلة سواء، وأنه إنما لم يجعل الأول أفضل محافظة على مقصود الشارع من الثلاثة الصفوف، وكلما كثر الجمع كان أفضل، لما في صحيح مسلم «ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه» وفي حديث ابن عباس «أربعون».
(3) وفاقًا لأبي حنيفة، وعنه: عند رأس الرجل، وفاقًا للشافعي وجماهير العلماء، ولم يذكر ابن المنذر وغيره عن أحمد غيرها، وهي عبارة المقنع.
قال الشارح: وهو قريب من الأول، فإن الواقف عند أحدهما واقف عند الآخر.(5/74)
(وعند وسطها) أي وسط أُنثى(1) والخنثى بين ذلك(2) والأَولى بها وصيه العدل(3) فَسيَّد بِرَقِيِقِهِ(4).
__________
(1) لما رواه الترمذي، وإسناده ثقات، عن أنس أنه صلى على رجل، فقام عند رأسه، ثم صلى على امرأة، فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم. فلما فرغ قال: «احفظوا» وأخرج الجماعة من حديث سمرة، أنه صلى وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها، وهذا مذهب جمهور العلماء الشافعي وغيره، وما سوى ذلك لا مستند له.
وكذا روي عن ابن مسعود وغيره، وصححه الوزير وغيره، ومنفرد كإمام، والحكمة في ذلك والله أعلم أن القلب في الصدر، ووسط المرأة محل حملها، وقيل لسترها، وظاهر إطلاقهم أن الصبي والصبية كذلك، وهو ظاهر الوجيز وغيره.
(2) أي بين الصدر والوسط، لاستواء الاحتمالين فيه، والسنة وضع رأسه مما يلي يمين الإمام، كما هو المعروف.
(3) أي والأولى بإمامة الصلاة المفروضة على الميت وصي الميت العدل، لإجماع الصحابة، فإنهم ما زالوا يوصون بذلك، ويقدمون الوصي، فأوصى أبو بكر أن يصلي عليه عمر، وعمر صهيبًا، وأم سلمة سعيد بن زيد، وأبو بكرة أبا برزة، وابن مسعود الزبير، وغيرهم ممن لا يحصون سلفًا وخلفًا، وجاء أمير الكوفة عمرو بن حريث ليصلي على أبي سريحة، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فقدم زيدًا، وهذه قضايا اشتهرت، من غير إنكار ولا مخالف، فكانت إجماعًا، وهو قياس مذهب مالك، وكالمال، بل الميت يختار لذلك من هو أظهر صلاحًا، وأقرب إجابة.
(4) أي أولى بالإمامة في الصلاة عليه، بعد وصيه وفاقًا، لأنه مالكه.(5/75)
فالسلطان، فنائبه الأمير، فالحاكم(1) فالأَولى بغسل رجل(2)
__________
(1) أي فالسلطان بعد وصي الميت وسيده أولى بالإمامة في الصلاة عليه، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، لأنه صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من بعده كانوا يصلون على الموتى، ولم ينقل عنهم استئذان العصبة، وفي الصحيح عن الحسن: أدركت الناس وأحقهم بالصلاة على جنائزهم من رضوه لفرائضهم. وقال علي وابن مسعود: الإمام أحق من صلى على الجنازة، ولو تقدم غير الأولى صح.
وقال الوزير: الوالي أحق من الولي، عند مالك وأبي حنيفة، والقديم من قولي الشافعي، وقال في الفروع: ليس تقديم الخليفة والسلطان على سبيل الوجوب. وفي الإنصاف: فبعد الوصي والحاكم أبوه، ثم جده، ثم أقرب العصبة، على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب. اهـ. ثم نائب السلطان، يعني الأمير على بلد الميت، لأنه في معناه، وقال أبو هريرة: شهدت حسينًا حين مات الحسن، وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص أمير المدينة، وهو يقول: لولا السنة ما قدمتك. ومقتضاه أنه سنة، ,خلفه يومئذ ثمانون من الصحابة، قال الموفق: ولم ينكر، فكان إجماعًا. وكالجمع والأعياد، ثم الحاكم أي القاضي، وقدم الأمير هنا على القاضي، عكس ما في النكاح، لأنه هنا منظور فيه للقوة والبأس، ولقوله «لا يؤمنَّ الأمير في سلطانه» وهو أقوى بسلطنته من الحاكم.
(2) أي فالأولى بالإمامة في الصلاة على الميت، بعد من تقدم، الأولى بغسل رجل، على ما تقدم في الغسل، وإن كان الميت أنثى، فيقدم أب فأبوه وإن علا، لأنه يشارك الابن في العصوبية، وزاد عليه بالحنو والشفقة، وبها يحصل مقصود الدعاء الذي هو مقصود صلاة الجنازة، ثم ابن، ثم ابنه وإن نزل، وفي حديث أسيد «ومن برهما الصلاة عليهما» ونقل أبو الطيب الإجماع على تقديمه على الأخ، ثم أخ لأبوين، ثم لأب، وهكذا على ترتيب الميراث، ومع التساوي يقدم الأولى بالإمامة، وقيل الأسن، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، لأن دعاءه أقرب إجابة، لأنهم أفجع بالميت من غيرهم، وهو أكبر المقصود، فكانوا في التقديم أحق، فإن استووا في الصفات أقرع.(5/76)
.
فزوج بعد ذوي الأرحام(1) ومن قدمه ولي بمنزلته، لا من قدمه وصي(2) وإذا اجتمعت جنائز: قدم إلى الإمام أفضلهم، وتقدم(3).
__________
(1) لأن له مزية على باقي الأجانب، فقدم لأجلها.
(2) أي ومن قدمه ولي من أولياء الميت صار بمنزلته، في إمامة الصلاة على الميت، مع أهليته، كولاية النكاح، لا من قدمه وصي في الصلاة على الميت، فإن ذلك لما أمله الميت في الوصي من الخير، فإن لم يصل الوصي فإلى من بعده، وهذا إذا لم يجعل الموصي له ذلك، فإن جعله صح، وإن تقدم أجنبي بغير إذن ولي أو وصي صح، لأنه ليس فيه كبير افتيات تشح بها الأنفس عادة، فإن صلى الولي خلفه صار إذنًا، وإلا فله أن يعيد الصلاة عليه، لأنها حقه.
(3) يعني في باب صلاة الجماعة، من أنه يليه الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء وفاقًا، وهو قول عثمان وعلي وجمهور الصحابة والتابعين، وكذا في المسير، وإذا دفنوا في قبر واحد، وروى البيهقي عن ابن عمر، أنه صلى على تسع جنائز، رجال ونساء، فجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة، وأخرج أبو داود والنسائي وغيرهما، بسند صحيح، قال عمار: شهدت جنازة أم كلثوم وابنها، فجعل الغلام مما يلي الإمام، فأنكرت ذلك عليه، وفي القوم ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأبو قتادة، وأبو هريرة، فقالوا: هذه السنة. وفي رواية البيهقي: ونحوٌ من ثمانين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر المصلي
سعيد بن العاص، ولم يذكر ابن المنذر وغيره عنهم خلاف ذلك، وكان عليه الصلاة والسلام يقدم في القبر من كان أكثر قرآنًا، فيقدم حر مكلف الأفضل فالأفضل، فَعبْدٌ كذلك،، فصبي كذلك، ثم خنثى، ثم امرأة كذلك، قال الموفق: ولا نعلم خلافًا في تقديم الخنثى على المرأة.(5/77)
فأَسن فأَسبق(1) ويقرع مع التساوي(2) وجمعهم بصلاة أفضل(3) ويجعل وسط أُنثى حذاءَ صدر رجل، وخنثى بينهما(4) (ويكبر أربعًا) لتكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي أربعًا، متفق عليه(5).
__________
(1) أي فإن استووا في الفضل قدم أسن، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «كبر كبر» فإن تساووا في السن فسابق لسبقه.
(2) في الكل، فقدم إلى الإمام من تخرج له القرعة كالإمامة.
(3) أي من إفراد كل ميت بصلاة، وهو مذهب مالك، ولأنه أسرع، وأبلغ في توفر الجمع، وقيل عكسه، وفاقًا للشافعي، قال في الفروع: ويتوجه احتمال بالتسوية، وفاقًا لأبي حنيفة. اهـ. وإذا اجتمع موتى قدم من الأولياء للصلاة عليهم أولادهم بالإمامة، فإن تساووا أقرع، ولولي كل ميت أن ينفرد بصلاته على ميته.
(4) إذا اجتمعوا، ليقف الإمام أو المنفرد من كل واحد من الموتى موقفه. ويسوى بين رؤوس كل نوع، وتكون عن يمين الإمام ندبًا، فلو كانت عن يساره أجزأت، صرح به المالكية، ووسط بفتح السين، وكل ما كان مصمتًا،وما كان يبين بعضه من بعض كوسط الصف فبالسكون.
(5) من غير وجه، وفي الصحيح عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كبر على الجنازة أربعًا،وفيهما عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر، بعدما دفن، وكبر أربعًا, ويأتي.(5/78)
(يقرأُ في الأُولى) أَي بعد التكبيرة الأُولى، وهي تكبيرة الإحرام و(بعد العوذ) والبسملة (الفاتحة) سرًا ولو ليلاً(1) لما روى ابن ماجه عن أم شريك الأنصارية قالت: أَمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نقرأَ على الجنازة بفاتحة الكتاب، ولا نستفتح، ولا نقرأ سورة معها(2) (ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في) أي بعد التكبيرة (الثانية) كالصلاة في (التشهد) الأَخير(3).
__________
(1) وفاقًا في غير التعوذ، للأمر به، وعنه: لا يتعوذ وفاقًا، وأما البسملة فأجمعوا على الإتيان بها، وتقدم أنها آية من القرآن، قبل كل سورة سوى براءة، وأما الاستفتاح فأكثر العلماء أنه لا يستفتح، خلافًا لأبي حنيفة، لأن مبناها على التخفيف، كما أنه لا يقرأ السورة بعد الفاتحة، ولأنه لم يرد الاستفتاح فيها، فتركا لطولهما، ونقل إمام الحرمين الإجماع على أنه لا يستحب قراءة سورة معها.
(2) ولما رواه النسائي وغيره، عن أبي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة، ثم يكبر ثلاثًا، والتسليم عند الآخرة. وإسناده على شرطهما، وأبو أمامة هذا صحابي، ونحوه عن الضحاك، وللبخاري عن ابن عباس أنه صلى على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنها سنة. وقال مجاهد: سألت ثمانية عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن القراءة على الجنازة، فكلهم قال: يقرأ. وكالصلوات، ولأنه فعل السلف، واستمر العمل عليه.
(3) لنقل الخلف عن السلف من طرق متعددة، وعمل المسلمين عليه.(5/79)
لما روى الشافعي عن أبي أمامة بن سهل، أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، سرًا في نفسه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخلص الدعاءَ للميت، ثم يسلم(1) (ويدعو في الثالثة) لما تقدم(2).
__________
(1) وأخرجه الحاكم وابن الجارود وغيرهما، قال الحافظ: ورجاله مخرج لهم في الصحيحين، ولفظ الحاكم: أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه أنه من السنة. وزاد الأثرم وغيره: والسنة أن يفعل من وراء الإمام مثل ما يفعل الإمام، وذكر أبو أمامة عن جماعة من الصحابة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، في الصلاة على الجنازة، ولأنه صلى الله عليه وسلم لما سألوه: كيف نصلي عليك؟ علمهم ذلك، وقال أبو هريرة: إذا وضعت، يعني الجنازةـ كبرت وحمدت الله، وصليت على نبيه صلى الله عليه وسلم رواه مالك.
(2) أي من قوله: ويخلص الدعاء للميت. وقال عليه الصلاة والسلام «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» رواه أبو داود، وصححه ابن حبان، ويدعو بأحسن ما يحضره من الدعاء. قال الموفق: والأولى أن يدعو لنفسه ولوالديه، وللميت، وللمسلمين بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا توقيت فيه، ونص عليه أحمد، وقال: ادع بأحسن ما يحضرك. وأخرج عن أبي الزبير: سألت جابرًا عما يدعى به للميت، فقال: ما أتاح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر. ومعنى: أتاح؛ قدر، والأمر المطلق بإخلاص الدعاء للميت يقضي بأن يخلص للمسيء كالمحسن، فإن ملابس المعاصي أحوج إلى دعاء
إخوانه المسلمين، ولذلك قدموه بين أيديهم، قيل: إن كان محسنًا فزده إحسانًا، وإن كان مسيئًا فأنت أولى بالعفو عنه خلاف وإخلاص الدعاء له، وفي صحيح مسلم عن عائشة «ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه».(5/80)
(فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا(1) وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأُنثانا(2) إنك تعلم منقلبنا ومثوانا(3) وأنت على كل شيءٍ قدير(4) اللهم من أَحييته منا فأَحيه على الإسلام والسنة، ومن توفيته منَّا فتوفه عليهما)(5).
__________
(1) الغائب ضد الشاهد، والشاهد الحاضر.
(2) المقصود الشمول والاستيعاب، كأنه قيل: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات. وذكر الصغير لعله لرفع الدرجات.
(3) يجوز أن يكونا مصدرين، أي انقلابنا وثوانا، وأن يراد بهما المنزل. أي: إنك تعلم مرجعنا ومنصرفنا، ومأوانا ومنزلنا الذي نعود إليه.
(4) قادر على المغفرة لنا معشر المسلمين، والعفو والرحمة أو النقمة، فلك القدرة العامة الشاملة لكل شيء فما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن.
(5) أي على الإسلام والسنة، وفي رواية: فتوفه على الإيمان. والإسلام هو العبادات كلها، والإيمان شرط فيها، ووجودها في حال الحياة ممكن، بخلاف حالة الموت، فإن وجودها متعذر، فلهذا اكتفى بالموت على الإيمان خاصة، وطلب الحياة على الإسلام، الذي الإيمان جزء منه، ويفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة إذا اقترنا، وإذا افترقا فسر كل منهما بالآخر، والسنة في اللغة السيرة والطريقة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرع الاجتماع عليها، جمعها سنن، كغرفة وغرف.(5/81)
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، من حديث أبي هريرة(1) لكن زاد فيه الموفق: وأنت على كل شيءٍ قدير. ولفظة: السنة(2) (اللهم اغفر له، وارحمه وعافه واعف عنه(3) وأكرم نزله) بضم الزاي وقد تسكن، وهو القرى(4) (وأَوسع مدخله) بفتح الميم مكان الدخول، وبضمها الإِدخال(5) (واغسله بالماء والثلج والبرد(6) ونقه من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأَبيض من الدنس(7)
__________
(1) وأصله في صحيح مسلم، وفي آخره «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده» قال ابن القيم وغيره: روي من طرق تدل على أن له أصلاً.
(2) أي زاد الموفق رحمه الله في المقنع لفظ: وأنت على كل شيء قدير؛ ولفظة: السنة. لكونه لائقًا بالمحل، ونبه عليه ليعلم أنه ليس في متن الحديث.
(3) الضمير عائد إلى الميت، فلا يحول الضمير.
(4) يهيأ للضيف أول ما يقدم، وفي رواية: وقه فتنة القبر، وعذاب القبر.
(5) وليس هذا موضعه، فالفتح أولى، ليكون المعنى: وأوسع مكان الدخول.
(6) بالتحريك، يعني المطر المنعقد، وجمع بينها مبالغة في التطهير، وليس المراد بالغسل هنا على ظاهره. وإنما هو استعارة بديعة، للطهارة العظيمة من الذنوب.
(7) أي نقه من الذنوب بأنواع المغفرة، كما أن هذه الأشياء أنواع المطهرات من الدنس.(5/82)
وأبدله دارًا خيرًا من داره، وزوجًا خيرًا من زوجه(1) وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر، وعذاب النار)(2) رواه مسلم عن عوف بن مالك، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك على جنازة، حتى تمنى أن يكون ذلك الميت(3) وفيه «وأبدله أهلاً خيرًا من أهله، وأدخله الجنة»(4) وزاد الموفق لفظ: من الذنوب(5) (وافسح له في قبره، ونور له فيه) لأَنه لائق بالمحل(6).
__________
(1) والزوج، بغير هاء، يقال للذكر والأنثى، وقد يقال للمرأة زوجة بالهاء. والمراد بالإبدال الفعلي أو التقديري، أي خيرًا من زوج لو تزوج، إذ منهم من ليس له دار بالدنيا.
(2) وهذا من أجمع الأدعية، وقال ابن عبد البر: عذاب القبر، غير فتنته بدلائل من السنة الثابتة.
(3) ولفظه: قال: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الميت، بهذا الدعاء الجامع الشامل، إذ من أدخل الجنة، ونجي من عذاب القبر، وعذاب النار فقد تمَّ فوزه.
(4) أي بعد قوله: «وأبدله دارًا خيرًا من داره» قال: «وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة ...» الخ.
(5) أي فليست في صحيح مسلم، ورواه البيهقي وغيره بدونها، والذنب هو الإثم، والخطيئة الذنب.
(6) «افسح» بفتح السين أي وسع، زاد الخرقي وغيره: اللهم إنه عبدك، وابن أمتك، نزل بك، وأنت خير منزول به. وقال ابن القيم: وحفظ من دعاء
النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك، وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر، ومن عذاب النار، فأنت أهل الوفاء والحق، فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم» ومنه: «اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت رزقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وتعلم سرها وعلانيتها، جئنا شفعاء، فاغفر لها» ورواه أبو داود وغيره.
وأصل الشفع الزيادة، فكأنهم طلبوا أن يزاد بدعائهم من رحمة الله، إلى ماله بتوحيده وعمله.(5/83)
وإن كان الميت أُنثى أَنث الضمير(1) وإن كان خنثى قال: هذا الميت ونحوه(2) ولا بأْس بالإشارة بالإصبع حال الدعاء للميت (وإن كان) الميت (صغيرًا) ذكرًا أو أنثى، أو بلغ مجنونًا واستمر(3) (قال) بعد: ومن توفيته منا فتوفه عليهما(4) (اللهم اجعله ذخرًا لوالديه(5).
وفرطًا) أي سابقًا مهيئًا لمصالح والديه في الآخرة، سواءً مات في حياة والديه أو بعدهما(6)
__________
(1) فيقول: اللهم اغفر لها، وارحمها؛ والأولى أن لا يحول، لعوده على الميت.
(2) كهذه الجنازة، لأنه يصلح لهما، وينبغي عوده على الميت اتباعًا، لإطلاق النص.
(3) يعني على جنونه، حتى مات.
(4) وكذا إن أكمل الحديث، فقال: «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله» لفعل السلف والخلف، ولمناسبته للحال، استحب أن يقول مكان الاستغفار للميت هذا الدعاء الآتي.
(5) شبه تقدمه لهما بشيء نفيس يكون أمامهما مدخرًا، إلى وقت حاجتهما له.
(6) وأصل الفرط والفارط فيمن يتقدم الجماعة الواردة إلى الماء، ليهيء لهم أسبابهم في المنزل، أي فاجعله سابقًا أمام والديه، مهيئًا لمصالحهما، بمدخر نفيس في الآخرة، إلى وقت حاجتهما له بشفاعته لهما.
قال القاضي: وهو في هذا الدعاء الشافع يشفع لوالديه، وللمؤمنين المصلين عليه، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وغيره «أما تحب أنك لا تأتي بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك».(5/84)
(وأجرًا وشفيعًا مجابًا(1) اللهم ثقل به موازينهما(2) وأعظم به أجورهما(3) وأَلحقه بصالح سلف المؤمنين(4) واجعله في كفالة إبراهيم(5).
وقه برحمتك عذاب الجحيم)(6) ولا يستغفر له، لأَنه شافع غير مشفوع فيه، ولا جرى عليه قلم(7) .
__________
(1) أي أجرًا لوالديه، وشفيعًا لهما، مجاب الشفاعة، وللبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا «اللهم اجعله لنا سلفًا وفرطًا وذخرًا» وفي لفظ «وأجرًا» وزاد بعضهم «وعظة واعتبارا».
(2) أي بثواب الصبر على فقده أو الرضى به.
(3) وسيأتي ذكر ما في الصبر عليه من الأجر الجزيل.
(4) أي آبائهم المتقدمين، ومن فضل الله وكرمه أنه يلحق بالذين آمنوا وعملوا الصالحات ذريتهم.
(5) إشارة إلى ما رواه ابن أبي الدنيا وغيره عن خالد بن معدان «إن في الجنة لشجرة يقال لها طوبى، كلها ضروع، من مات من الصبيان الذين يرضعون رضع من طوبى، وحاضنهم إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام».
(6) لحديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا، «والسقط يصلى عليه، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة» وفي رواية «بالعافية والرحمة» رواهما أحمد، ولفظ الترمذي وغيره «والطفل» الخ وأي دعاء دعا به مما ذكر ونحوه أجزأ، والجحيم اسم من أسماء النار، قال الخليل: هي النار الشديدة.
(7) فالدعاء لوالديه أولى من الدعاء له، وما ذكر من الدعاء لائق بالمحل، مناسب لما هو فيه، فشرع فيه الاستغفار للبالغ.(5/85)
وإذا لم يعرف إسلام والديه دعا لمواليه(1) (ويقف بعد الرابعة قليلاً)(2) ولا يدعو، ولا يتشهد، ولا يسبح(3).
__________
(1) أي موالي الصغير والمجنون، حيث كان له موال يعلم إسلامهم لقيامهما مقام والديه في المصاب به، فيقول: ذخرًا لمواليه الخ، قال شيخ الإسلام: ومن كان من أمة أصلها كفار، لم يجز أن يستغفر لأبويه، إلا أن يكونا قد أسلما للآية. اهـ. وأما ولد الزنا فيدعى لأمه فقط، لثبوت نسبه منها، بخلاف أبيه، وإن كان كل منهما زانيًا، وكذا المنفي بلعان.
(2) لحديث زيد بن أرقم: كان يكبر أربعًا، ثم يقف ما شاء الله، فكنت أحسب أن هذه الوقفة ليكبر آخر الصفوف رواه الجوزجاني، ولما يأتي من حديث ابن أبي أوفى وغيره.
(3) وفاقًا في الأخيرتين، لما تقدم من أن مبناها على التخفيف، وأما الدعاء فعنه: يدعو بعد الرابعة كالثالثة، اختاره المجد وغيره، وفاقًا لجمهور العلماء،
ولأن ابن أبي أوفى فعله، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به وفعله، رواه أحمد وابن ماجه، والبيهقي، والحاكم وصححه، وقال أحمد: هو أصلح ما روي، ولا أعلم شيئًا يخالفه، ولأنه قيام في جنازة، أشبه الذي قبله، وقال في المحرر: بل يجوز في الرابعة، ولم يذكر خلافًا، فقول { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وصح أن أنسًا كان لا يدعو بدعاء إلا ختمه بهذا الدعاء، واختار أبو بكر، وفاقًا للشافعية وغيرهم: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله. ولأنه لائق بالمحل.(5/86)
(ويسلم) تسلمية (واحدة عن يمينه)(1) روى الجوزجاني عن عطاء بن السائب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم على الجنازة، تسليمة واحدة(2).
__________
(1) وفاقًا لمالك، يجهر بها الإمام كالمكتوبة.
(2) ولقوله «وتحليلها التسليم» وقيل لأحمد: أتعرف عن أحد من الصحابة أنه كان يسلم على الجنازة تسليمتين؟ قال: لا؛ ولكن عن ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفيفة. وذكره البيهقي عن عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم: وهو المعروف عن ابن أبي أوفى. اهـ. وتقدم، ولأنه أشبه بالحال، وأكثر ما روي في التسليم، وقول أكثر العلماء من الصحابة والتابعين، ولأن صلاة الجنازة مبنية على التخفيف، وقال ابن المبارك: من سلم على جنازة تسليمتين فهو جاهل جاهل، واختار القاضي أن المستحب تسليمتان، وواحدة تجزئ، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي، قال الموفق: وقول القاضي مخالف لقول إمامه وأصحابه، ولإجماع الصحابة والتابعين. والجوزجاني هو إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق، ثقة مات سنة 259هـ وعطاء بن السائب أبو محمد الثقفي الكوفي، صدوق مات سنة 136هـ.(5/87)
ويجوز تلقاء وجهه، وثانية(1) وسن وقوفه حتى ترفع(2) (ويرفع يديه) ندبًا (مع كل تكبيرة) لما تقدم في صلاة العيدين(3) (وواجبها) أي الواجب في صلاة الجنازة مما تقدم(4).
__________
(1) أي ويجوز أن يسلم من صلاة الجنازة تلقاء وجهه، من غير التفات، ويجوز أن يسلم تسليمة ثانية عن يساره، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، لما ذكر الحاكم وغيره عن ابن أبي أوفى: ثم سلم عن يمينه، وعن شماله، فلما انصرف قال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. قال في المبدع: ويتابع الإمام في الثانية كالقنوت، وظاهر كلام ابن الجوزي يُسِرُّ بها وفاقًا، ويجزئ وإن لم يقل: ورحمة الله؛ لما روى الخلال عن علي، وفيه وقال: السلام عليكم، لكن ذكر الرحمة أليق بالحال، فكان أولى.
(2) أي ويسن وقوف المصلي على الجنازة مكانه، إمامًا كان أو مأمومًا، حتى ترفع الجنازة من بين أيديهم، قال مجاهد: رأيت ابن عمر لا يبرح من مصلاه، حتى يراها على أيدي الرجال. وقال الأوزاعي: لا تنفَضُّ الصفوف حتى ترفع الجنازة، وهو قول عامة العلماء.
(3) وقال الشافعي: ترفع للأثر، والقياس على السنة في الصلاة، ورواه هو والبيهقي وغيرهما عن ابن عمر وأنس، وسعيد عن ابن عباس، والأثرم عن عمر وزيد بن ثابت، ولأنه لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود، فسن فيها الرفع، كالصلاة، وحكى الشارح أن الرفع في التكبيرة الأولى إجماع، وصفة الرفع وانتهاؤه كما سبق، وروى الترمذي وغيره، بسند فيه ضعف: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في أول التكبير، ويضع اليمنى على اليسرى.
(4) يعني من المطلوب في صفتها ستة أشياء، و«صلاة الجنازة» من إضافة الشيء إلى سببه.(5/88)
(قيام) في فرضها(1) (وتكبيرات) أربع(2)
__________
(1) أي قيام قادر، إن كانت الصلاة على الميت فرضًا وفاقًا، حكاه الوزير وغيره، كسائر الصلوات المفروضة، لعموم «صل قائمًا» فلا تصح من قاعد، ولا راكب راحلة بلا عذر، وعلم منه أنها لو تكررت لم يجب القيام على من صلى على جنازة، بعد أن صلى عليها غيره، لسقوط الفرضية بالأولى.
(2) أجماعًا، لما في الصحيحين وغيرهما من غير وجه، عن ابن عباس وأبي هريرة، وجابر وأنس وغيرهم، أنه صلى الله عليه وسلم كبر أربعًا، وجمع عمر الناس على أربع تكبيرات، وقال: لا يجوز النقص عن الأربع، وقال النخعي: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي مسعود، فأجمعوا على أربع، وذكر ابن عبد البر وغيره أنه قد أجمع الفقهاء، وأهل الفتوى بالأمصار على أربع، على ما جاء في الأحاديث الصحيحة، وما سوى ذلك عندهم شذوذ.
وقال النووي: قد كان لبعض الصحابة وغيرهم خلاف في أن التكبير المشروع خمس، أم أربع، أم غير ذلك، ثم انقرض ذلك الخلاف، وأجمعت الأمة الآن على أنه أربع تكبيرات، بلا زيادة ولا نقص. اهـ. فإن ترك غير مسبوق تكبيرة عمدًا بطلت، وسهوا يكبرها ما لم يطل الفصل، فإن طال، أو وجد مناف، من كلام أو نحوه استأنف، لفعل أنس، لما كبر ثلاثًا قيل له؛ فكبر الرابعة، رواه البخاري وغيره، ورواه حرب وغيره من طريق آخر، أنه رجع فكبر أربعًا، ولعل الأولى مع عدم المنافي، وفي الرواية الثانية أنه تكلم، وعوده إلى ذلك دليل إجماعهم على أنه لا بد من أربع، والأولى أن لا يزيد على أربع، لأن المداومة تدل على الفضيلة.
وقال النووي أيضًا: صحت الأحاديث بأربع تكبيرات وخمس، وهو من الاختلاف المباح، وليس إخلالاً بصورة الصلاة، فلا تبطل به، وقال ابن القيم: وكان صلى الله عليه وسلم يكبر أربع تكبيرات، وصح أنه كبر خمسًا، وكان
الصحابة بعده يكبرون أربعًا وخمسًا، وستًا وسبعًا، وقال سعيد بن منصور: هذه آثار صحيحة، فلا موجب للمنع منها، وقال في الشرح: ولا يجوز الزيادة على سبع تكبيرات، لا يختلف المذهب فيه، وقال غيره: لا خلاف في أنه لا يتابع في الزائد عليها، قال أحمد: هو أكثر ما جاء فيه اهـ. ولا تستحب إجماعًا. وحكى الوزير عن أبي حنيفة ومالك والشافعي، ورواية عن أحمد: لا يتابع ما زاد على أربع، قال أبو المعالي: وهو المذهب، لأنه زاد على القدر المشروع. وذكر ابن حامد وجهًا: تبطل بمجاوزة أربع عمدًا، وقال الشافعي؛ واحتج بحديث النجاشي، قال أحمد: والحجة له. ولا يجوز للمأموم أن يسلم قبل إمامه، نص عليه أحمد وغيره.(5/89)
.
(والفاتحة) ويتحملها الإمام عن المأْموم(1) (والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -(2) ودعوة للميت، والسلام)(3).
ويشترط لها النية(4) فينوي الصلاة على الميت(5) ولا يضر جهله بالذكر وغيره(6)
__________
(1) أي وتجب قراءة الفاتحة على الإمام والمنفرد، على الأصح، وفاقًا للشافعي، لقوله «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وغير ذلك مما تقدم، وعنه: لا تجب، قال شيخ الإسلام: لا تجب قراءة الفاتحة، بل هي سنة، وفاقًا لمالك والشافعي، ويتحمل قراءة الفاتحة الإمام عن المأموم كالفريضة.
(2) لقوله «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه صلى الله عليه وسلم» ونحوه، ولا يتعين لفظ صلاة مخصوص، لأن المقصود مطلق الصلاة.
(3) أي والخامس دعوة للميت أي دعاء له، وفاقًا، لأنه هو المقصود، فلا يجوز الإخلال به، وقد نقل فيه ما لم ينقل في القراءة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أوكد، وقال النووي: الدعاء واجب في الثالثة بلا خلاف، وليس لتخصيصه بها دليل واضح اهـ. وإنما قدم الثناء على الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهما سنة الدعاء، والسادس السلام إجماعًا، والمراد واحدة، كما هو قول الجمهور، فـ«أَلْ» للعهد، لأنه عليه الصلاة والسلام يسلم في صلاة الجنائز، وقال «صلوا كما رأيتموني أصلي».
(4) أي للصلاة على الميت، وتقدم حديث «إنما الأعمال بالنيات» وأنها القصد، وأن التلفظ بها بدعة، وعبارة الإقناع والمنتهى: ويشترط لها ما يشترط لمكتوبة، إلا الوقت، وحكاه غير واحد اتفاقًا، مع حضور الميت وإسلامه وتطهيره.
(5) ذكرًا كان أو أنثى، أو على هؤلاء الموتى، وإن كانوا جماعة فمعرفة عددهم أولى.
(6) أي غير الذكر، وهو الأنثى أو الخنثى، قال في الرعاية: ولا يشترط معرفة عين الميت في الصلاة، لعدم توقف المقصود على ذلك، فينوي الصلاة على الجنازة الحاضرة، أو على هذه الجنازة، ونحو ذلك.
وقال في الإقناع: والأولى معرفة ذكوريته وأنوثيته، واسمه وتسميته في دعائه له، ولا يعتبر ذلك.(5/90)
فإن جهله نوى: على من يصلي عليه الإمام(1) وإن نوى أَحد الموتى اعتبر تعيينه(2) وإن نوى: على هذا الرجل، فبان امرأَة أَو بالعكس أَجزأَ، لقوة التعيين، قاله أبو المعالي(3).
وإسلام الميت(4)
__________
(1) واجزأت، وعليه العمل، ولم يرو أن كل مصل يسأل عمن يصلي عليه.
(2) لتزول الجهالة، وإذا عينه لم تصح على غيره، لأن قوة التعيين تصير ما سوى المعين غير مراد، ولا مقصود، ولفظ أبي المعالي: فإن نوى الصلاة على معين من موتى، كأن يريد زيدًا فبان غيره لم تصح، قال في الفروع: وهو معنى كلام غيره.
(3) وعكسه إن نوى على هذه المرأة، فبان رجلاً أجزأ، لعدم اختلاف المقصود باختلاف ذلك.
(4) لأن الصلاة شفاعة له ودعاء، والكافر ليس أهلاً لذلك، قال تعالى { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } .
وقال أحمد: الرافضة والجهمية لا يصلى عليهم. وقال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على من به دون ذلك، فالأولى أن تترك الصلاة عليهم.
وقال شيخ الإسلام: من كان مظهرًا للإسلام، فإنه يجرى عليه أحكام الإسلام الظاهرة، من تغسيله والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك، لكن من علم من النفاق والزندقة، فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه، وإن كان مظهرًا للإسلام، وذكر الآية، وقوله { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية.
ثم قال: وأما من كان مظهرًا للفسق، مع ما فيه من الإيمان، كأهل الكبائر، فلا بد أن يصلي عليهم بعض المسلمين، ومن امتنع زجرًا لأمثاله كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، كان حسنًا، وإن صلى يرجو رحمة الله، ولم يكن في امتناعه مصلحة راجحة كان حسنًا، وإن امتنع في الظاهر، ودعا في الباطن، كان أولى، وكل من لم يعلم منه النفاق، وهو مسلم، يجوز الاستغفار له، والصلاة عليه، ويؤمر به، كما قال تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وإن اختلط المسلمون بالمشركين، ولم يتميزوا غسل الجميع، وصلي عليهم، سواء كان عدد المسلمين أقل أو أكثر، وهذا مذهب مالك والشافعي، قياسًا على ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في السلام على المجلس الذي فيه أخلاط من المسلمين والمشركين.(5/91)
وطهارته من الحدث والجنس مع القدرة(1).
وإلا صلي عليه(2) والاستقبال والسترة كمكتوبة(3) وحضور الميت بين يديه(4) فلا تصح على جنازة محمولة، ولا من وراء جدار(5) (ومن فاته شيءٌ من التكبير قضاه) ندبًا (على صفته)(6) لأَن القضاءَ يحكي الأَداءَ، كسائر الصلوات(7).
__________
(1) وفاقًا، لأن العجز عن الطهارة، لا يسقط فرض الصلاة كالحي، وكباقي الشروط.
(2) أي وإن عجز عن طهارته من الحدث أو النجس يمم وصلي عليه.
(3) أي كما يشترط للمكتوبة، من الاستقبال إلى جهة القبلة، وستر العورة، فيشترط في صلاة الجنازة استقبال القبلة، وستر أحد عاتقيه على المذهب، بخلاف النفل فلا يشترط له ذلك.
(4) أي يدي المصلي، والمراد قبل الدفن، وصرح به جماعة في المسبوق وفاقًا، ولأنه لا صلاة بدون الميت، وقال عثمان: لو كبر على جنازة، ثم جيء بأخرى، كبر ثانية ونواهما، فإن جيء بثالثة كبر الثالثة، ونوى الجنائز الثلاث، فإن جيء برابعة كبر الرابعة ونوى الكل، فيصير مكبرًا على الأولى أربعًا، وعلى الثانية ثلاثًا، وعلى الثالثة اثنتين، وعلى الرابعة واحدة فيأتي بثلاث تكبيرات أخر، فيتم سبعًا يقرأ في خامسة ما ذكر في المتن.
(5) قبل الدفن، نص عليه وفاقًا، ولا من وراء خشب، كالتابوت المغطى بخشب، فلا تصح على الميت وهو فيه، بخلاف السترة من غير ذلك، فإنها لا تمنع الصحة، وكذا يشترط تكفينه، فلا تصح قبل أن يغسل، أو ييمم لعدم، ويكفن، وسن دنوه منها، وقال المجد وغيره: قربها من الإمام مقصود، لأنه يسن الدنو منها.
(6) أي أتى بالتكبير نسقًا، ويقضي الثلاث استحبابًا.
(7) فيتابع إمامه فيما أدركه فيه، ولا ينتظر تكبيرة الإمام المستقبلة، بل يدخل معه في الحال، كالفريضة، ولقوله «فما أدركتم فصلوا» وهذا مذهب الشافعي، ورواية عن مالك، وقول جمهور العلماء، وحكي إجماعًا، والمحاكاة المضاهاة أي المشابهة.(5/92)
والمقضي أول صلاته، يأْتي فيه بحسب ذلك(1) وإن خشي رفعها تابع التكبير، رفعت أَم لا(2) وإن سلم مع الإمام، ولم يقضه صحت، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة «ما فاتك لا قضاء عليك»(3) (ومن فاتته الصلاة عليه) أي على الميت (صلى على القبر)(4).
إلى شهر من دفنه(5) لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر(6)
__________
(1) فإذا سلم إمامه كبر وقرأ الفاتحة، ثم راعى باقي التكبيرات ترتيب نفسه، لا ما يقوله إمامه، وفاقًا للشافعي، وعنه يقضيه على صفته، على ما تقدم في أحكام المسبوق، ومتى أدرك الإمام في الأولى، فكبر وشرع في القراءة، ثم كبر الإمام قبل أن يتمها، قطع القراءة وتابعه.
(2) أي والي بين التكبير، من غير ذكر ولا دعاء، رفعت الجنازة أو لم ترفع من بين يديه، قدمه في الفروع، وحكاه نصًا.
واختاره أكثر الأصحاب وفاقًا، لما روى نافع عن ابن عمر أنه قال: لا يقضي، فإن كبر متتابعًا فلا بأس. قال الموفق: ولم يعرف له مخالف من الصحابة، فكان إجماعًا.
(3) وعنه: يقضيه بعد سلام إمامه، لا يأتي به ثم يتابع الإمام، في أصح الروايتين وفاقًا، واختاره أبو بكر، والآجري والحلواني وابن عقيل وشيخنا وغيرهم، ويستحب للمسبوق أن يدخل ولو بين التكبيرتين إجماعًا.
(4) أي استحب له الصلاة على القبر بلا نزاع، وقال أحمد: من يشك في الصلاة على القبر؟ ويكون الميت بينه وبين القبلة، وفي الإقناع: استحب له إذا وضعت أن يصلي عليها، قبل الدفن أو بعده، ولو جماعة على القبر.
(5) وتجوز قريبًا منه، لدلالة الخبر عليه.
(6) ولفظ حديث أبي هريرة: أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، فقالوا: ماتت، قال «أفلا آذنتموني؟ دلوني على قبرها» فدلوه فصلى عليها. ولفظ حديث ابن عباس: أنه انتهى إلى قبر رطب، فصلى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعًا، وجاء في الصلاة على القبر أحاديث كثيرة.
قال ابن رشد: ثابتة باتفاق من أصحاب الحديث. اهـ.
فأما من لم يصل عليه، ففرض الصلاة عليه الثابت بالأدلة والإجماع باق؛ قال أحمد: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة أوجه أو ثمانية، أنه صلى على قبر بعدما دفن.
ومن صُلَّي عليه فقد قال بمشروعية الصلاة عليه الجمهور، ومن اعتذر عن هذه السنة المشهورة فلعلها لم تبلغه من طريق يثق به، وفي الفصول: لا يصلى عليه مرتين كالعين، وقيل يصلى، اختاره في الفنون، وشيخ الإسلام، وجمهور السلف، لأنه دعاء، ويجوز جماعة وفرادى.
قال أحمد: لا بأس به، قد فعله عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وفي المحرر: يصلي تبعًا، وإلا فلا، إجماعًا وقال: تستحب إعادتها تبعًا مع الغير، ولا تستحب ابتداء. اهـ.
وكما لو صُلَّي عليه بلا إذن ولي حاضر، أو ولي بعده حاضر، فإنها تعاد تبعًا وفاقًا، وقال شيخ الإسلام: لا تعاد الصلاة عليها إلا لسبب، مثل أن يعيد غيره فيعيد معهم، أو يكون أحق بالإمامة من الطائفة الثانية، فيصلي بهم.(5/93)
. وعن سعيد بن المسيب، أن أُم سعد ماتت، والنبي - صلى الله عليه وسلم - غائب، فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر.
رواه الترمذي، ورواته ثقات، قال أحمد: أكثر ما سمعت هذا(1) وتحرم بعده، ما لم تكن زيادة يسيرة(2) (و) يصلي (على غائب) عن البلد، ولو دون مسافة قصر(3)
__________
(1) يعني إلى شهر، فحد الصلاة على القبر بشهر، إذ هو أكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعده، والحديث رواه البيهقي، وروى نحوه عن ابن عباس، وقال الحافظ: إسناده مرسل صحيح، وحده الشافعي بما إذا لم يبل الميت، ومنع منه مالك وأبو حنيفة، إلا للولي إذا كان غائبًا، وقال ابن القيم: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على القبر بعد ليلة، ومرة بعد ثلاث، ومرة بعد شهر، ولم يوقت في ذلك وقتًا انتهى، وقال ابن عقيل: يجوز مطلقًا، لقيام الدليل على الجواز، وما وقع من الشهر فاتفاق، ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد، بعد ثمان سنين، رواه البخاري وغيره، وفي السنن وغيرها أنه صلى على قبر بعد شهرين.
(2) كيوم أو يومين، وقالوا: إن شك في نقصان المدة صلى حتى يعلم فراغها، ويؤخذ من كلامهم الشك في التوقيت من الشارع، وتقدم في الصحيح أنه صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، ولم يثبت توقيت يجب المصير إليه، وأما الصلاة عليه مطلقًا فباطل، فإن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلى عليه الآن إجماعًا.
(3) قال الحافظ: وبذلك قال الشافعي وأحمد، وجمهور السلف، وقال ابن جزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه، قال الشافعي: الصلاة على الميت دعاء له، فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر، وقيل: إن لم يكن صلي عليه، وإلا فلا. اختاره الشيخ، وقال: ولا يُصلَّى كل يوم على غائب، لأنه لم ينقل. وقال ابن القيم: مات خلق عظيم وهم غيب، فلم يصل عليهم، وإنما صلى على النجاشي، وفعله سنة، وتركه سنة، وصوب أنه إن مات ببلد لم يصل عليه صلي عليه، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي، وإلا فلا. اهـ.
ولا يصلى على غائب في أحد جانبي البلد، ولو كان كبيرًا، ولو لمشقة مطر أو مرض، قال الشيخ: والقائلون بالجواز قيدوه بالكبير، وفي الإنصاف: هو مراد من أطلق، قال الشيخ: وأقرب الحدود ما تجب فيه الجمعة، لأنه إذًا من أهل الصلاة في البلد، فلا يعد غائبًا عنها، قال: ولا بد من انفصاله عن البلد، بما يعد الذهاب إليه نوع سفر.(5/94)
.
فتجوز صلاة الإمام والآحاد عليه (بالنية إلى شهر)(1) لصلاته عليه السلام على النجاشي كما في المتفق عليه عن جابر(2) وكذا غريق وأَسير ونحوهما(3).
وإن وجد بعض ميت لم يصل عليه فككله(4) إلا الشعر والظفر والسن(5) فيغسل ويكفن ويصلى عليه(6)
__________
(1) قال في الفروع: ولم يوقت في ذلك وقتًا، وصحح في تصحيحها الجواز، وتقدم جوازه إلى سنة أو ما لم يبل.
(2) ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعًا. وفي لفظ: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «توفي اليوم رجل صالح من الحبشة، فهلموا فصلوا عليه» فصففنا خلفه فصلى عليه، ونحن صفوف، ونحوه للجماعة عن أبي هريرة: نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات. والنجاشي هو ملك الحبشة، وكان اسمه «أصحمة» ومعناه بالعربية عطية، ويسمى كل من ملك الحبشة النجاشي، كما يسمى كل خليفة للمسلمين أمير المؤمنين، ومن ملك الروم قيصر، والفرس كسرى، والترك خاقان، والقبط فرعون، ومصر العزيز.
(3) فيصلى عليه، والمذهب إلى شهر، ويسقط شرط الحضور للحاجة، والغسل للتعذر، وإن حضر استحب أن يصلى عليه ثانيًا، جزم به ابن تميم وغيره.
(4) أي كل الميت لو وجد، يغسل ويكفن، ويصلى عليه.
(5) فلا لأنه في حكم المنفصل حال الحياة، بل ولا حياة فيها.
(6) وجوبًا، إن لم يكن صلي عليه، لأن أبا أيوب صلى على رجل إنسان، رواه أحمد، وصلى عمر على عظام بالشام، وأبو عبيدة على رؤوس، رواهما عبد الله بن الإمام أحمد والبيهقي.
وقال الشافعي: ألقى طائر يدًا بمكة، من وقعة الجمل، عرفت بالخاتم، وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فصلى عليها أهل مكة، وهذا مذهب مالك والشافعي، وجماهير أهل العلم، وقال الموفق: هو إجماع الصحابة، ولأنه بعض من ميت، فثبت له حكم الجملة، فإن كان بعضًا من ميت صلي عليه فندباً، وإن كان الباقي أكثر فوجوبًا، وقيل: يصلى عليه مطلقًا، وأما تغسيله وتكفينه، ودفنه فيجب وفاقًا.(5/95)
ثم إن وجد الباقي فكذلك، ويدفن بجنبه(1) ولا يصلى على مأْكول ببطن آكل(2) ولا مستحيل بإحراق ونحوه(3) ولا على بعض حي مدة حياته(4).
__________
(1) أي ثم إن وجد الباقي بعد غسل بعض الميت وتكفينه ودفنه، يغسل ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن بجنب القبر، أو في جانبه، ولا ينبش ليضاف إليه.
(2) أي من سبع أو غيره، ولو مع مشاهدة الآكل، لفقد شرطها من الغسل والتكفين.
(3) كما لو وقع في ملاحة، أو حلة صابون، لأنه لم يبق منه ما يصلى عليه.
(4) كيد وساق قطعت في سرقة، أو لآكلة، لأن الصلاة على الميت دعاء له وشفاعة، وهذا عضو لا حكم له في الثواب والعقاب.(5/96)
(ولا) يسن أن (يصلي الإمام) الأَعظم، ولا إمام كل قرية، وهو واليها في القضاء (على الغال) وهو من كتم شيئًا مما غنمه(1). لما روى زيد بن خالد قال: توفي رجل من جهينة يوم خيبر، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال «صلوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه القوم، فلما رأَى ما بهم قال «إن صاحبكم غل في سبيل الله» ففتشنا متاعه، فوجدنا فيه خرزًا من خرز اليهود، ما يساوي درهمين، رواه الخمسة إلا الترمذي، واحتج به أحمد(2) (ولا على قاتل نفسه) عمدًا، لما روى جابر بن سمرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاؤه برجل قد قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه، رواه مسلم وغيره(3)
__________
(1) ليأخذه لنفسه ويختص به، وفي اللغة الخائن، قال القاضي عياض: لكنه صار في عرف الشرع لخيانة المغانم خاصة، يقال: غل وأغل.
(2) ورجال إسناده رجال الصحيح، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه زجرًا لأمثاله عن الغلول، كما امتنع من الصلاة على المديون، وأمرهم بالصلاة عليه، وفي الحديث جواز الصلاة على العصاة، وتقدم أنهم أحق بالشفاعة، وأحوج إليها، وتحريم الغلول محتم، وإن كان حقيرًا، وقد ورد في الوعيد عليه أحاديث كثيرة، وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، لإخباره بذلك، وانكشاف الأمر.
(3) فرواه أصحاب السنن والمساند وغيرهم. واختار المجد وغيره أنه لا يصلى على كل من مات على معصية ظاهرة بلا توبة, وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وعلى الغال، وهو الإمام الأعظم، عليه أفضل الصلاة والسلام، يدل على ذلك، وما ثبت في حقه ثبت في حق غيره، ما لم يقم دليل على اختصاصه، والأصل عدم الخصوصية وأمره بالصلاة عليهما، يدل على وجوبها عليهما، فيصلى عليهما، وعلى سائر العصاة، كسارق وشارب خمر، ومقتول قصاصًا أو حدًا أو نحوه، فإنه صلى الله عليه وسلم صلى على الغامدية، وعلى الأسلمي.
وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، إلى أنه يصلي على الفاسق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الصلاة على الغال وقاتل نفسه زجرًا للناس، وصلت عليهما الصحابة، ويدل عليه قوله «صلوا على من قال لا إله إلا الله» وقوله «أما أنا فلا أصلي عليه».
وقال النووي وغيره: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم، ومحدود ومرجوم، وقاتل نفسه، وولد الزنا، ونحوهم، وقال أحمد: من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، نصلي عليه، وندفنه، قال شيخ الإسلام: وإن كان منافقًا، كمن علم نفاقه، لم يصل عليه، اهـ. ولو صلى الإمام الأعظم عليهما فلا بأس، كبقية الناس، وعنه: يصلي على كل، اختاره ابن عقيل وغيره، وذكره في الفروع وفاقًا، وإن تركهما أئمة الدين زجرًا فهو أولى، وإن صلى يرجو رحمة الله، ولم يكن في الامتناع مصلحة راجحة فحسن، وإن امتنع في الظاهر، ودعا له في الباطن فحسن أيضًا وتقدم.(5/97)
.
والمشاقص جمع مشقص كمنبر، نصل عريض أو سهم فيه ذلك، أو نصل طويل، أو سهم فيه ذلك، يرمى به الوحش(1).
(ولا بأْس بالصلاة عليه) أي على الميت (في المسجد) إن أَمن تلويثه(2) لقول عائشة صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بين بيضاء في المسجد؛ رواه مسلم(3) وصلي على أبي بكر وعمر فيه، رواه سعيد(4)
__________
(1) كما في القاموس، وفي النهاية: نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض، فإذا كان عريضًا فهو المعبلة.
(2) وإن لم يؤمن تلويث المسجد حرم، خشية تنجيسه، وهذا مذهب الشافعي وابن المنذر، وغيرهم من الفقهاء، وبعض أصحاب مالك، وقال ابن القيم وغيره: لم يكن من هديه الراتب الصلاة على الجنائز في المسجد، وإنما كان يصلي خارجه، وربما صلى عليها فيه، ولكن لم يكن من سنته وعادته، وكلاهما جائز، والأفضل خارجه.
(3) بألفاظ منها: لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد، سهيل وأخيه. وفي رواية: أمرت أن تمر بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد، فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع ما نسي الناس! ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد، وفي رواية: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وبنوا بيضاء ثلاثة، سهل وسهيل وصفوان، وأمهم البيضاء، وصف لها، واسمها دعد، وأبوهم وهب بن ربيعة الفهري القرشي.
(4) الأول عن عروة، والثاني عن ابن عمر، ورواه مالك أيضًا، وأخرجهما ابن أبي شيبة بلفظ: أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبًا صلى على عمر في المسجد، قال الخطابي: ثبت ذلك، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا ذلك، وذكره ابن المنذر عن أبي بكر وعمر وغيرهما، وعن سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن، وهو مذهب الجمهور، وكرهه أبو حنيفة ومالك، واحتجوا بما روي «من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له» قال أحمد وغيره: ضعيف، لا يحتج به، وفي النسخ المشهورة المحققة من سنن أبي داود «فلا شيء عليه» فلا حجة فيه، ولا ينبغي أن يكره شيء مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/98)
.
وللمصلي قيراط، وهو أمر معلوم عند الله تعالى(1) وله بتمام دفنها آخر، بشرط أن لا يفارقها من الصلاة حتى تدفن(2).
فصل
__________
(1) ففي الصحيحين وغيرهما من غير وجه «من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان» قيل: وما القراطان؟ قال «مثل الجبلين العظيمين» وللبخاري، «من شيع» ولمسلم «من خرج معها ثم تبعها حتى تدفن» وذكر ابن القيم أنه لم يزل حريصًا على معرفة المراد بالقيراط، حتى رأى لابن عقيل أنه نصف سدس درهم مثلاً، أو نصف عشير دينار، وأنه لا يجوز أن يكون المراد هنا جنس الأجر، لأن ذلك يدخل فيه ثواب الأعمال الصالحة، كالصلاة والحج، وليس في صلاة الجنازة ما يبلغ إليه، وأنه لم يبق إلا أن يرجع إلى الأجر المعهود، وهو العائد إلى الميت، ويتعلق به صبر على المصيبة فيه، وتجهيزه، وغسله ودفنه، وغير ذلك، فكان للمصلي من ذلك الأجر قيراط، نصف دانق، سدس درهم، وإن تبعه كان له قيراطان، فيكون نسبة القيراط إلى الأجر الكامل، وهو بحسب عظم ذلك الأجر الكامل في نفسه، وكلما كان أعظم، كان القيراط منه بحسبه. اهـ. ولا سيما بحسب المشقة والإخلاص.
ولما كان المتعارف به حقيرًا، نبه الشارع على عظم القيراط الحاصل لمن فعل ذلك، وأخبر أنه مثل الجبل العظيم، وفي رواية «مثل أحد» وفي رواية في القيراطين «أصغرهما مثل أحد»، فبين أن زنة الثواب المترتب على ذلك العمل مثل الجبلين العظيمين، وكثيرًا ما يمثل الشارع أمور الآخرة بأمور الدنيا للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من ذرات الآخرة خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معها، وخص الصلاة عليه والدفن بالذكر لكونهما المقصود، بخلاف باقي أحوال الميت، فإنها وسائل.
(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «حتى تدفن» وظاهره أن من شرط حصول القيراط الثاني شهود الصلاة، ولأحمد «حتى توضع في اللحد» بدل تدفن.(5/99)
في حمل الميت ودفنه(1)
ويسقطان بكافر وغيره كتكفينه، لعدم اعتبار النية(2). و (يسن التربيع في حمله)(3) لما روى سعيد وابن ماجه، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنه من السنة، ثم إن شاء فليطوع، وإن شاءَ فليدع. إسناده ثقات، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه(4).
__________
(1) هو مشروع بالكتاب والسنة، وتقدم أن حمله ودفنه من فروض الكفاية، وكذا مؤنهما، والمراد على من علم، كباقي مُؤن التجهيز، قال تعالى { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } يكونون فيها أحياء، ويدفنون فيها أمواتًا، وقال { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } جعله مقبورًا، وقبره دفنه، والأحاديث به مستفيضة، وفعله بر وطاعة، وإكرام للميت وأهله، وفعله الصحابة وأهل الفضل، واستمر عمل المسلمين عليه.
(2) أي في حمله ودفنه وفاقًا، ولا يختص أن يكون الفاعل من أهل القربة، بخلاف الغسل والصلاة، ويكره أخذ الأجرة على ذلك، لأنه يذهب بالأجر.
(3) وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي وأصحاب مالك، وقال مالك: هو وبين العمودين سواء.
(4) ولابن أبي شيبة بسند صحيح، عن أبي الدرداء: من تمام أجر الجنازة أن تُشَيَّعَها من أهلها، وأن تحمل بأركانها الأربعة، وأن تَحشُْوَ في القبر، وهذا يقتضي أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.(5/100)
لكن كرهه الآجري وغيره إذا ازدحموا عليها(1) فيسن أن يحمله أربعة(2) والتربيع أن يضع قائمة السرير اليسرى في المقدمة على كتفه الأيمن(3) ثم ينتقل إلى المؤخرة(4) ثم يضع قائمته اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى(5) ثم ينتقل إلى المؤخرة(6) (ويباح) أن يحمل كل واحدة على عاتقه (بين العمودين)(7).
__________
(1) يعني على الجنازة، ولو كان ازدحام الحاملين، كما يفعل في بعض البلدان مسنونًا، لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، نقلاً لا يقبل الاختلاف، ولكان السلف الأول أولى بالمسارعة إليه، فعلم أنه لم يكن الأمر كذلك، وأن الازدحام الموجب للدبيب بها بدعة، لمخالفة الإسراع المأمور به.
(2) يأخذ كل واحد بقائمة من قوائم السرير، ولنسبة التربيع في حمله إليهم.
(3) أي حال السير، لأنها تلي يمين الميت من عند رأسه.
(4) فيضعها على كتفه اليمنى أيضًا، ثم يدعها لغيره.
(5) لأنها تلي يسار الميت من عند رأسه.
(6) فيضعها على كتفه اليسرى، فتكون البداءة من الجانبين بالرأس، والخاتمة من الجانبين بالرجلين، ونقله الجماعة عن أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، قال الموفق: وهو الصحيح، لأن الصحابة فعلوه، وفيهم أسوة حسنة. ولما فيها من الموافقة لكيفية غسله، ولعله ما لم يَزْدَ حِمُوا، ويمنعوا الإسراع به.
(7) وهما قائمتا السرير، كل عمود على عاتق، نص عليه، وهو الأفضل عند الشافعية، ولا بأس بحمله على أعمدة، للحاجة، كجنازة ابن عمر رضي الله عنهما.(5/101)
لأَنه عليه السلام حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين(1) وإن كان الميت طفلاً فلا بأْس بحمله على الأَيدي(2) ويستحب أن يكون على نعش(3) فإن كان امرأة استحب تغطية نعشها بمكبة، لأَنه أَستر لها(4) ويروى أن فاطمة صنع لها ذلك بأَمرها(5) ويجعل فوق المكبة ثوب(6).
__________
(1) رواه الشافعي وابن سعد. وروي عن سعد وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير أنهم فعلوا ذلك، وعثمان حمل سريرًا بين العمودين، فلم يفارقه حتى وضع، ويبدأ من عند رأسه، ثم من عند رجليه، لكن المؤخر إن توسط بين العمودين، لم ير ما بين قدميه، فلا يهتدي إلى المشي، فيحمله حينئذ ثلاثة، وعنه: هما سواء، وفاقًا لمالك.
(2) لحمل النبي صلى الله عليه وسلم جليبيبًا على ذراعيه حتى دفن، رواه مسلم، ولحمل علي إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، واستمر العمل عليه.
(3) بعد أن يغسل ويكفن، مستلقيًا على ظهره، لأنه أمكن، والنعش تقدم أنه سرير الميت، وأنه لا يسمى نعشًا إلا وعليه الميت، وإلا فهو سرير.
(4) والمكبة تعمل من خشب أو جريد أو قصب، مثل القبة، فوقها ثوب، تكون فوق السرير.
(5) أي صنع لها مكبة تغطي نعشها، قال ابن عبد البر: هي أول من غطي نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش، وقيل هي أول من اتخذ ذلك.
(6) يعني إن كان الميت امرأة استحب تغطية نعشها بمكبة، وجعل فوقها ثوب، لأنه أستر لها.(5/102)
وكذا إن كان بالميت حدب ونحوه(1) وكره تغطيته بغير أبيض(2) ولا بأْس بحمله على دابة لغرض صحيح، كبعد قبره(3) (ويسن الإسراع بها) دون الخبب(4) لقوله عليه السلام «أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» متفق عليه(5)
__________
(1) كمن لم يمكن تكره على النعش إلا بمثله، وفي الفصول: المقطع تلفق أعضاؤه بطين حر ويغطى، حتى لا يتبين تشويهه، فإن ضاعت لم يعمل شكلها من طين، والواجب جمع أعضائه في كفن واحد، وقبر واحد، وتقدم.
(2) حكاه في الفروع، قال: ويسن به، ويكره مرقعة. قال الآجري: كرهه العلماء.
(3) وكسمن مفرط، والحمل على سرير أو لوح أو محمل، وأي شيء حمل عليه أجزأ، وعلى الأيدي والرقاب للحاجة، وظاهر كلامهم كغيرهم لا يحرم حمله على هيئة مزرية، كحمل في قفة، وغرارة وزنبيل ومكتل، أو على هيئة يخاف معها سقوطه، بل يكره، وفي الفروع: يتوجه احتمال يحرم. وفاقًا للشافعي.
(4) باتفاق الأمة، زاد بعضهم: وفوق السعي، وقال الشافعي: الإسراع سجية، فوق المشي المعتاد، ودون الخبب، والخبب بفتحتين، ضرب من السير فسيح سريع.
(5) وفي لفظ «وإن كانت غير ذلك». ولأبي داود وغيره بأسانيد صحيحة، عن أبي بكرة: لقد رأيتنا، ونحن نرمل رملاً، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني بالجنازة، وذكر غير واحد: لا يفرط في الإسراع، فتمخض مخضًا، ويؤذي متبعها، ولأحمد أنه صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة تمخض مخضًا،
فقال «عليكم بالقصد في جنائزكم» وذكر جمع: لا يخرج بها عنا لمشي المعتاد، وتراعى المصلحة والحاجة وفاقًا، فإن خيف عليه من الإسراع، مشى به الهوينا، ولا ينبغي الإبطاء في شيء من حالاتها، من غسل ووقوف عند القبر، وقال ابن القيم: وأما دبيب الناس اليوم، خطوة خطوة، فبدعة مكروهة، مخالفة للسنة، ومتضمنة للتشبيه بأهل الكتاب، قال الشيخ: وكان الميت على عهده صلى الله عليه وسلم يخرج به الرجال، يحملونه إلى المقبرة، لا يسرعون ولا يبطئون، بل عليهم السكينة، ولا يرفعون أصواتهم لا بقراءة ولا غيرها، وهذه هي السنة باتفاق المسلمين.(5/103)
.
(و) يسن (كون المشاة أمامها)(1) قال ابن المنذر: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أَمام الجنازة(2).
__________
(1) وهو مذهب مالك والشافعي، وجمهور أهل العلم. ولا يكره خلفها.
(2) ورواه أحمد وأهل السنن وغيرهم، واحتج به أحمد، وقال أبو صالح: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمشون أمام الجنازة. وقال الترمذي: روي عن بعض الصحابة أنهم يتقدمون الجنازة، فيجلسون قبل أن تنتهي إليهم، ولا يكره أن يكونوا خلفها، قال الأوازعي: إنه أفضل، لأنها متبوعة، لكن قال البيهقي وغيره: الآثار في المشي أمامها أصح وأكثر، وهو المذهب، وفاقًا لمالك والشافعي وجماهير العلماء، ولا يكره أن يمشوا حيث شاؤا، عن يمينها أو يسارها، أو خلفها أو أمامها، بحيث يتقدمون تابعين لها، لما روى المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الراكب يمشي خلف الجنازة، والماشي كيف شاء منها»، رواه أحمد والنسائي، والترمذي وصححه، وكذلك أحمد في رواية أحمد بن أبي عبيدة، وقال الموفق وغيره: حيث مشى فحسن، وقال سفيان الثوري: كل ذلك في الفضل سواء، والقرب من الجنازة أفضل، فإن بعد أو تقدم إلى القبر فلا بأس، لكن بحيث أن ينسب إليها، وفي الصحيح «من تبع جنازة وكان معها حتى يفرغ من دفنها» الحديث.(5/104)
(و) كون (الركبان خلفها)(1) لما روى الترمذي وصححه، عن المغيرة بن شعبة مرفوعًا «الراكب خلف الجنازة»(2) وكره ركوب لغير حاجة وعود(3).
__________
(1) أي يسن ذلك وفاقً، وقال الخطابي: لا أعلمهم اختلفوا في أن الراكب خلفها، وفي الإنصاف: بلا نزاع.
(2) أي سنة الراكب في المشي مع الجنازة أن يمشي خلف الجنازة، وتقدم. ولأن سيره أمامها يؤذي متبعها، قال النخعي: كانوا يكرهونه.
(3) أي وكره ركوب تابع الجنازة لغير حاجة، وهو مذهب مالك والشافعي، لما رواه الترمذي وغيره أنه عليه الصلاة والسلام رآى رجلاً راكبًا مع جنازة، فقال «ألا تستحيون، ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب» وأما لحاجة فلا يكره، وكذلك لا يكره عوده راكبًا، ولو لغير حاجة، لما روى جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع جنازة أبي الدحداح ماشيًا، ورجع على فرس، رواه أحمد وغيره، وصححه الترمذي وغيره، ولفظ مسلم: فلما انصرف أتي بفرس مُعْرَوْرَى فركبه. و«مُعْرَوْرَى» بضم الميم وسكون العين، وفتح الرائين، وفي رواية: عُرْي؛ واتباع الجنازة سنة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وحكى غير واحد إجماع المسلمين على استحبابه، وحضورها حتى تدفن، وفي حديث البراء: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنازة؛ متفق عليه. وفي الرعاية: فرض كفاية للأمر به، وهو حق للميت وأهله.
قال الشيح: لو قدر أنه لو انفرد الميت لم يستحق هذا الحق، لمزاحم أو لعدم استحقاقه، تبعه لأجل أهله، إحسانًا إليهم، لتألف أو مكافأة أو غيره، وذكر فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي، وذكر الآجري أنه من القضاء
لحق أخيه المسلم، واتباعها على ثلاثة أضرب (أحدها) أن يصلي عليها ثم ينصرف، (والثاني) أن يتبعها إلى القبر، ثم يقف حتى تدفن (والثالث) أن يقف بعد الدفن على القبر، ويسأل له التثبيت، ويدعو له بالمغفرة والرحمة.(5/105)
(ويكره جلوس تابعها حتى توضع) بالأرض للدفن، إلا لمن بعد(1) لقوله عليه السلام «من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع» متفق عليه عن أبي سعيد(2) وكره قيامه لها إن جاءَت أَو مرت به وهو جالس(3)
__________
(1) أي سبق إلى القبر، لما في انتظاره قائمًا حتى تصل إليه وتوضع من المشقة؛ ولأبي داود وغيره عن البراء: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، فجلس مستقبل القبلة، وجلسنا معه. وتقدم أنه روي عن بعض الصحابة أنهم يتقدمون الجنازة، فيجلسون قبل أن تنتهي إليهم.
(2) وعن أبي هريرة «حتى توضع في الأرض» وقال البخاري: باب من شهد جنازة فلا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال. وللنسائي: ما رأيناه شهد جنازة فجلس حتى توضع. قال النووي وغيره: مذهب الجمهور استحبابه، وللبيهقي عن علي: رأى ناسًا قيامًا ينتظرون الجنازة حتى توضع، فأشار إليهم بدرة معه أو سوط أن اجلسوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلس، بعدما كان يقوم وقد صحت الأحاديث بالقيام، ولم يثبت في القعود شيء إلا حديث علي، ويحتمل القعود لبيان الجواز، أو نسخ قيام القاعد، دون استمرار قيام متبعها، كما هو المعروف من مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة.
(3) لحديث علي قال: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام، فقمنا تبعًا له، وقعد فقعدنا تبعًا له. وللنسائي عن ابن عباس: قام ثم قعد. وقال الموفق: آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك القيام لها، وقال قوم بالتخيير وأن به تتفق الأدلة، وقال أحمد: إن قام لم أعبه، وإن قعد فلا بأس، وفي الصحيحين «إذا رأيتم الجنازة فقوموا».
ولمسلم «إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا» وروي غير ذلك، وكلها ترجع إلى تعظيم أمر الله، وتعظيم أمر القائمين به، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهودي، وعنه: يستحب، اختاره الشيخ وابن عقيل، والنووي وغيرهم، فيستحب القيام لها ولو كافرة، لفعله صلى الله عليه وسلم، متفق عليه.(5/106)
.
ورفع الصوت معها، ولو بقراءة(1) وأن تتبعها امرأة(2).
وحرم أن يتبعها مع منكر، إن عجز عن إزالته(3) وإلا وجبت(4)
__________
(1) أو تهليل، حكاه الشيخ وغيره اتفاقًا، لأنه بدعة، ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن تتبع الجنازة بصوت أو نار، رواه أبو داود، وكان من فعل أهل الكتاب. وقد شرط عليهم أن لا يفعلوا ذلك، ونهينا عن التشبه بهم، فيما ليس هو من طريق سلفنا الأول، فكيف وقد نهينا عنه، وحرمه أبو حفص وغيره، قال الشيخ: وحرمه جماعة من الحنفية وغيرهم اهـ.
وكذا قولهم: استغفروا له؛ ونحوه بدعة محرمة، قال ابن عمر وسعيد بن جبير لقائل ذلك: لا غفر الله لك بعد. وكذا اتباعها بنار يحرم إجماعًا، إلا لحاجة، وروى ابن ماجة عن أبي بردة قال: اوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: لا تتبعوني بجمر فقالوا له: أو سمعت فيه شيئًا؟ قال: نعم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولئلا يكون آخر زاده من الثناء، أو تفاؤلاً.
(2) سواء كانت مميزة أو لا، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، ورواية عن مالك في العجوز، لحديث ام عطية: نهينا عن اتباع الجنائز. وظاهره التحريم، وفاقًا لمالك وجمهور العلماء، ولم يكن يخرجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وما روي من قولها: ولم يعزم علينا. رأي لها رضي الله عنها، ظنت انه ليس نهي تحريم، والحجة في قول الشارع، لا في ظن غيره.
(3) أي المنكر، بنحو طبل، ونياحة ولطم، وتصفيق، ورفع صوت، لأنه يؤدي إلى استماع محظور، ورؤيته مع قدرته على ترك ذلك، وعنه يتبعها، وينكره بحسبه، وهو مذهب أبي حنيفة.
(4) أي وإن لم يعجز عن إزالة المنكر تبعها، ووجبت الإزالة، بل لو ظن أنه إن اتبعها أزيل المنكر، اتبعها إجراء للظن مجرى العلم، ولحصول المقصودين، قال شيخ الإسلام: وضرب النساء بالدف منكر، نهي عنه بالاتفاق، ومن دعي لغسل ميت، فمسح طبلاً أو نوحًا، فقال في تصحيح الفروع: الصواب إن غلب على ظنه زوال الطبل والنوح ذهب لغسله، وإلا فلا.
ويستحب لمُتبّع الجنازة الخشوع والتفكر في مآله، والاتعاظ بالموت، وما يصير إليه الميت، قال سعد بن معاذ: ما تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هو مفعول بها. ويكره التبسم، والضحك أشد منه، والتحدث في أمر الدنيا.(5/107)
(ويسجي) أي يغطى ندبًا (قبر امرأة) وخنثى (فقط)(1) ويكره لرجل بلا عذر(2) لقول علي – وقد مر بقوم دفنوا ميتًا، وبسطوا على قبره الثوب، فجذبه وقال – إنما يُصْنعُ هذا بالنساء رواه سعيد(3).
(واللحد أفضل من الشق)(4) لقول سعد: الحدوا لي لحدًا، وانصبوا على اللبن نصبًا، كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه مسلم(5)
__________
(1) للخبر الآتي، وقال الموفق وصاحب المبدع: لا نعلم فيه خلافًا بين أهل العلم، ولأنها عورة، فلا يؤمن أن يبدو منها شيء، فيراه الحاضرون، ولأن بناء أمرها على الستر، ولو كانت صغيرة، والخنثى كالأنثى في ذلك احتياطًا.
(2) كمطر ونحوه، ولئلا يشبه بالمرأة.
(3) ولأنه ليس بعورة، وكشفه أبعد عن التشبه بالنساء.
(4) وفاقًا، وحكى الوزير الاتفاق على أن السنة اللحد، وأن الشق ليس بسنة، وأجمع العلماء على أن الدفن في اللحد، وفي الشق جائزان، واللحد أصله الميل، وكل مائل عن الاستواء لحد، بفتح اللام وضمها، لغتان مشهورتان، ولحَدْتُ وأَلحَدْتُ لغتان، والشق بفتح الشين.
(5) قاله رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه، وقال عروة: كان بالمدينة رجلان، أحدهما يلحد، والآخر يشق، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أيهما جاء أولاً، عمل عمله. فجاء الذي يلحد، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. واتفق الصحابة على ذلك، ونقلوا عَدَدَ اللبن تسعًا، ولولا مزيد فضله ما عانوه، كما في الخبر: فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد وفي السنن «اللحد لنا، والشق لغيرنا».
وفي رواية لأحمد «لأهل الكتاب» فيسن نصب اللبن عليه نصبًا وفاقًا، ويجوز ببلاط وغيره، كأحجار كبيرة، واللبن بفتح اللام وكسر الباء، ويجوز إسكانها مع فتح اللام وكسرها.(5/108)
. واللحد هو أَن يحفر إذا بلغ قرار القبر، في حائط القبر، مكانًا يسع الميت(1).
وكونه مما يلي القبلة أفضل(2) والشق أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبنى جانباه(3) وهو مكروه بلا عذر(4) كإدخاله خشبًا، وما مسته النار(5) ودفن في تابوت(6).
__________
(1) أي في جانب القبر مما يلي القبلة، إذا نصب اللبن، ولا يعمق، بحيث ينزل فيه جسد الميت كثيرًا، بل يقدر ما يكون الجسد ملاصقًا للبن، هذا إذا كانت الأرض صلبة، وإن كانت رخوة اتخذ لها من الأحجار ونحوها ما يسندها باللحد، ولا يلحد منها، لئلا يخر القبر على الميت.
(2) فيكون ظهره إلى جهة ملحده.
(3) يعني باللبن أو غيره، مما لا يكره إدخاله القبر، أو يشق وسطه، فيصير كالحوض ثم يوضع الميت فيه، ويسقف عليه بأحجار ونحوها، ويرفع السقف قليلاً، بحيث لا يمس الميت.
(4) قال أحمد: لا أحب الشق، لحديث «اللحد لنا، والشق لغيرنا» فإن كان ثم عذر، بأن كانت الأرض رخوة، لا يثبت فيها اللحد، ولا يمكن دفع انهيارها بنصب لبن ولا حجارة ونحوهما، شق فيها للحاجة، وإن أمكن جعل شبه اللحد من الجنادل والحجارة واللبن فعل به، ولم يعدل إلى الشق، نص عليه.
(5) فيكره، كما يكره إدخال القبر خشبًا، تفاؤلاً بأن لا تمسه النار، ولأحمد عن عمرو بن العاص: لا تجعلوا في قبري خشبًا، ولا حجرًا، ولكراهة السلف لذلك، ولأنه مُعدَدٌ لمَسَّ النارِ، وما مَسْته نار كآجُرًّ. قال النخعي: كانوا يكرهون الآجُرَّ والبناء بالآجر.
رواه الأثرم، وعن زيد بن ثابت أنه منع منه،وكذا حديد ونحوه، بل حكى الوزير الإجماع على جواز اللبن، وكراهة الآجر والخشب.
(6) أي ويكره دفن في تابوت، ولو امرأة، إجماعًا، قال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون اللبن، ويكرهون الخشب، ولا يستحبون الدفن في تابوت لأنه خشب. ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، والأرض أنشف لفضلاته.(5/109)
وسن أن يوسع ويعمق قبر بلا حد(1) ويكفي ما يمنع من السباع والرائحة(2) ومن مات في سفينة، ولم يمكن دفنه، أُلقي في البحر سَلاَّ، كإدْخاله القبر(3)
__________
(1) لقوله عليه الصلاة والسلام في قتلى أحد «احفروا وأوسعوا وعمقوا» قال الترمذي: حسن صحيح. ولأبي داود «أوسع من قبل رأسه، وأوسع من قبل رجليه» ولأن التوسيع أطيب لأنفس أهله، والتعميق هو الزيادة في النزول، وهو أنفى لظهور الرائحة التي يستضر بها الأحياء، وأبعد لقدرة الوحش على نبشه، وآكد لستر الميت.
(2) أي ويكفي من التعميق ما يمنع السباع والرائحة، لأنه لم يرد فيه تقدير فيرجع إليه، فرجع إلى ما يحصل به المقصود، وقال بعضهم: قامة وسط، وأوصى ابن عمر أن يعمق قبره قامة، ولم ينكر، فهو إجماع.
(3) وفاقًا للشافعي، ورواية عن مالك، وصفة إدخاله القبر سَلا أن يجعل رأس الميت في الموضع الذي تكون فيه رجلاه إذا دفن، ثم يسل فيه سلاً رفيقًا، لأنه عليه الصلاة والسلام سل من قبل رأسه، رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح، وأدخل عبد الله بن يزيد الحارث قبره من قبل رجلي القبر.
وقال «هذا من السنة» رواه أحمد وأبو داود، والبيهقي وصححه، وعن أنس، أنه كان في جنازة، فأمر بالميت فسل من عند رجلي القبر، رواه أحمد وغيره، ولأنه ليس موضع توجه، بل دخول، فدخول الرأس أولى، ولأنه المعروف عند الصحابة، وهو عمل المهاجرين والأنصار، رواه الشافعي وغيره عنهم، وقال: لا يختلف في أنه يسل سلاً. اهـ. وإن لم يكن إدخاله القبر من قبل رجليه أسهل، أدخل من حيث سهل، إذ المقصود الرفق بالميت.
وقال أبو حنيفة: يوضع عرضًا من ناحية القبلة، ثم يدخل القبر معترضًا،
وقال مالك: كلاهما سواء، واستظهر في المبدع أنه بحسب الحاجة، وإن أمكن دفن من مات في سفينة، بأن كان البر قريبًا، وجب دفنه فيه، ولو حبسوه يومًا أو يومين، ما لم يخافوا عليه الفساد، قال أحمد: أرجو أن يجدوا له موضعًا للدفن. وروى البيهقي بإسناد صحيح، أن أبا طلحة ركب البحر، فمات، لم يجدوا له جزيرة إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه فيها، ولم يتغير.(5/110)
.
بعد غسله وتكفينه، والصلاة عليه، وتثقيله بشيءٍ(1) (ويقول مدخله) ندبًا (بسم الله وعلى ملة رسول الله)(2) لأَمره عليه السلام بذلك، رواه أَحمد عن ابن عمر(3).
__________
(1) ليستقر في قرار البحر، فيحصل الستر المقصود به، وإن مات في بئر، أخرج وجوبًا، ليغسل ويكفن، ويصلى عليه ويدفن، وإلا طمت عليه إن لم يحتج لها، ومع الحاجة يخرج مطلقًا، سواء تغير أو لا.
(2) صلى الله عليه وسلم، وملته دينه وشريعته، ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع الميت في القبر قال «بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي بسم الله وضعناك، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمناك.
(3) ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا وضعتم موتاكم في القبور، فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي لفظ: كان إذا وضع الميت قال «بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه الخمسة إلا النسائي، وحسنه الترمذي، وإن قرأ { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } أو أتى بذكر أو دعاء لائق بالمحل فلا بأس به، لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعل أصحابه.(5/111)
(ويضعه) ندبًا (في لحده، على شقه الأَيمن) لأَنه يشبه النائم، وهذه سنته(1) ويقدم بدفن رجل من يقدم بغسله(2) وبعد الأَجانب محارمه من النساء(3) ثم الأَجنبيات(4) وبدفن امرأة محارمها الرجال(5) فزوج فأَجانب(6)
__________
(1) أي سنة النائم أن ينام على شقه الأيمن، وفي الحديث: كان ينام على شقه الأيمن. رواه البغوي وغيره، وفي الإنصاف: يستحب على جنبه الأيمن بلا نزاع.
(2) ولأنه عليه الصلاة والسلام تولى دفنه العباس وعلي وأسامة، وهم الذين تولوا غسله، ولأنه أقرب إلى ستر أحواله، وقلة الإطلاع عليه، وقال علي: إنما يلي الرجل أهله.
(3) أي وبعد الرجال الأجانب محارم الميت من النساء، وإنما قدم الأجانب على المحارم من النساء لضعفهن عن ذلك، وخشية انكشاف شيء منهن، ولأنه لا مدخل لهن في إدخال القبر والدفن إلا لضرورة.
(4) للحاجة إلى دفنه، وليس فيه مس ولا نظر، بخلاف الغسل.
(5) الأقرب فالأقرب، لأن امرأة عمر لما توفيت قال لأهلها: انتم أحق بها، ولأنهم أولى بها حال الحياة، فكذا بعد الموت، والمراد من كان يحل له النظر إليها والسفر بها، قال الزركشي: وهذا مما لا خلاف فيه، وعنه: الزوج أولى بدفنها من المحارم، وفاقًا لمالك والشافعي، ورواية لأبي حنيفة، قال في الإنصاف: وعلى كلا الروايتين لا يكره دفن الرجال للمرأة، وإن كان محرمها حاضرًا نص عليه.
(6) أي ثم بعد محارمها الرجال على المذهب زوج، لأنه أشبه بمحارمها من الأجانب، ثم الأولى بعد الزوج الأجانب، فيقدمون على نساء محارمها، لأنه عليه
الصلاة والسلام أمر أبا طلحة أن ينزل قبر ابنته، وهو أجنبي، فلا يكره مع حضور محرمها، ولأن تولي النساء لذلك لو كان مشروعًا لفعل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وعصر خلفائه، ولم ينقل، ورأى عليه الصلاة والسلام نسوة في جنازة، فقال «هل تحملن؟» قلن: لا، قال «أتدفنه؟» قلن: لا. قال «فارجعن مأزورات غير مأجورات» رواه ابن ماجه، وهو استفهام إنكار، فيدل على أنه غير مشروع لهن، ويأتي لعنه زوارات القبور، وظاهر كلامهم أن الترتيب مستحب لا واجب، ولأنه يحل عقد الكفن، وينبغي أن لا ينظر إلى وجهها، لعدم الحاجة.(5/112)
.
ويجب أن يكون الميت (مستقبل القبلة)(1) لقوله عليه السلام في الكعبة «قبلتكم أَحياءً وأَمواتًا»(2) وينبغي أن يدنى من الحائط، لئلا ينكب على وجهه(3) وأَن يسند من ورائه بتراب، لئلا ينقلب(4) ويجعل تحت رأسه لبنة(5) ويشرح اللحد باللبن(6).
__________
(1) إجماعًا، تنزيلاً له منزلة المصلي.
(2) رواه أبو داود وغيره، تقدم، ولأن ذلك طريق المسلمين بنقل الخلف عن السلف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا دفن، وكأنهم نزلوه منزلة المصلي مضطجعًا.
(3) فيسند وجهه ورجلاه إلى جدار القبر، أو يسند أمامه بتراب.
(4) أي على ظهره، فهذا يمنعه الاستلقاء، وذلك يمنعه الانكباب.
(5) فإن لم توجد فحجر، فإن عدم فقليل من تراب، وتكره مخدة وفاقًا، والمنصوص مُضَرَّبَة وفاقًا، وقال أحمد: ما أحبهما، وكذا قطيفة ونحوها.
(6) أي يبنى عليه باللبن، وعمل المسلمين عليه.(5/113)
ويتعاهد خلاله بالمدَر ونحوه(1) ثم بطين فوق ذلك(2) وحثو التراب عليه ثلاثًا باليد، ثم يهال(3) وتلقينه(4)
__________
(1) كالحجارة، ليتحمل ما يوضع عليه من طين ونحوه، والمدر قطع اللبن، يوضع بين خلال اللبن ونحوه.
(2) لئلا ينتخل عليه التراب منها، لقوله «سدوا خلال اللبن» ثم قال «وليس هذا بشيء، ولكن يطيب نفس الحي» رواه أحمد وغيره عن مجاهد مرفوعًا.
(3) يعني التراب على القبر، بمساح ونحوها، إسراعًا بتكميل الدفن، «ويهال» أي يصب، يقال: هلت التراب والدقيق وغيرهما، أهيله هيلاً، صببته، فانهال أي انصب، وتهيل تصبب، فيسن ذلك لمن حضره، وفاقًا للشافعي وغيره، لحديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم حثى عليه من قبل رأسه ثلاثًا، رواه ابن ماجه، بسند جيد، ونحوه للدارقطني والبيهقي، عن عامر بن ربيعة، ولأن مواراته فرض كفاية، وبالحثي يكون فيمن شارك فيها، ولأن في ذلك أقوى عبرة واستذكارًا، فاستحب ذلك، ولأحمد بسند ضعيف أنه عليه الصلاة والسلام قال – لما وضعت ابنته في القبر – { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } واستحب بعض أهل العلم أن يقال ذلك عند حثي التراب، استئناسًا بهذا الخبر.
(4) أي وينبغي تلقين الميت بعد الدفن، فيقوم الملقن عند رأسه، بعد تسوية التراب عليه، فيقول: يا فلان اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية، لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. واستجبه الأكثر، وكرهه جماعة من العلماء، وأنكره آخرون، لاعتقاد أنه بدعة مكروهة، وقال
شيخ الإسلام: تلقين الميت الأظهر أنه مكروه، لأنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم، بل المستحب الدعاء له، يقوم على قبره فيقول: اسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل، وقال: لم يكن من عمل المسلمين، المشهور بينهم، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، بل ذلك مأثور عن طائفة من الصحابة، كأبي أمامة وواثلة، فمن الأئمة من رخص فيه كأحمد، وقد استحبه طائفة من أصحابه، وأصحاب الشافعي. ولم ينقل عن الشافعي فيه شيء، ومن العلماء من يكرهه، كما يقوله من يقوله من أصحاب مالك وغيره، لاعتقاده أنه بدعة، فالأقوال فيه ثلاثة، الاستحباب، والكراهة والإباحة، وهذا أعدل الأقوال.
قال: وقد ثبت أن المقبور يسأل ويمتحن، وأنه مأمور بالدعاء له، فلهذا قيل إن التلقين ينفعه، فإن الميت يسمع النداء، كما ثبت في الصحيح أنه قال «إنه ليسمع قرع نعالهم» وأنه قال «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وأنه أمرنا بالسلام على الموتى، فقال «ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد عليه السلام» وروي فيه حديث، لكنه ما لم يحكم بصحته. اهـ.
واحتج بعض الفقهاء بحديث «لقنوا موتاكم» وهو وإن شمله اللفظ فليس بمراد، كما صرح به في الفروع وغيره، وإلا لنقله الخلف عن السلف، وشاع، ومال بعض المحققين إلى أن الأولى تركه، اقتفاء لما عليه السلف، وقال ابن القيم: لم يكن صلى الله عليه وسلم يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت، وحديث التلقين لا يصح.(5/114)
.
والدعاء له بعد الدفن عند القبر(1).
ورشه بماءٍ بعد وضع حصباءَ عليه(2)
__________
(1) واقفًا، نصل عليه وفاقًا، لمفهوم قوله تعالى { وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } قال أكثر المفسرين: بالدعاء والاستغفار، بعد الفراغ من دفنه. فيدل على أن ذلك كان عادة للنبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين، قال شيخ الإسلام: لما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وعن القيام على قبورهم، كان دليل الخطاب أن المؤمن يصلى عليه قبل الدفن، ويقام على قبره بعد الدفن، واستحب هو وغيره من أهل العلم وقوفه، وفعله علي والأحنف وغيرهما، ولأبي داود عن عثمان أنه عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل».
وقال ابن المنذر: قال بمشروعيته الجمهور، وقال الآجري وغيره: يستحب الوقوف بعد الدفن قليلاً، والدعاء للميت، فيقال: اللهم هذا عبدك، وأنت أعلم به منا، ولا نعلم منه إلا خيرًا، وقد أجلسته لتسأله، اللهم فثبته بالقول الثابت في الآخرة، كما ثبته في الدنيا، اللهم ارحمه، وألحقه بنبيك، ولا تضلنا بعده ولا تحرمنا أجره.
قال الترمذي: الوقوف على القبر، والسؤال للميت في وقت الدفن، مدد للميت بعد الصلاة عليه، لأن الصلاة بجماعة المسلمين كالعسكر له، قد اجتمعوا بباب الملك، يشفعون له، والوقوف على القبر، وسؤال التثبيت، مدد للعسكر، وتلك ساعة شغل الميت، لأنه استقبله هول المطلع، وسؤال الفتانين.
(2) لما روى الشافعي وغيره أنه عليه الصلاة والسلام رش على قبر ابنه إبراهيم ماء، ووضع عليه حصباء، ولأنه فعل بقبر سعد بن معاذ، رواه ابن ماجه.
وأمر به صلى الله عليه وسلم في قبر عثمان بن مظعون، رواه البزار، ولأن ذلك أثبت له، وأبعد لدروسه وأمتع لترابه من أن تذهب به الرياح والسيول، وروي أنه فعل ذلك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم واستمر عمل المسلمين عليه.(5/115)
(ويرفع القبر عن الأَرض قدر شبر)(1).
لأَنه عليه السلام رفع قبره عن الأرض قدر شبر، رواه الساجي من حديث جابر(2) ويكره فوق شبر(3) ويكون القبر (مُسَنَّمًا)(4) لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنمًا(5)
__________
(1) ليعرف فيزار ويحترم.
(2) ورواه الشافعي وابن حبان في صحيحه، وعن القاسم: قلت لعائشة يا أمة اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. رواه أبو داود وغيره، بإسناد صحيح.
(3) أي يكره رفع القبر فوق شبر، لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي «ولا قبرًا مشرفًا إلا سَوَّيته» رواه مسلم وغيره، والمشرف ما رفع كثيرًا، بدليل ما سبق عن القاسم وغيره، وأمر فضالة بقبر فسوي، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها، رواه مسلم، ويكره زيادة التراب عليه، للنهي، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، إلا أن يحتاج إليه، لحديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر، أو يزاد عليه رواه النسائي وأبو داود، ولأن العادة أنه يفضل من التراب ما يكفي لتسنيمه، فلا حاجة إلى الزيادة.
(4) أي مُحَدبًا كهيئة السنام، خلاف المسطح وهو المربع، وهو مذهب أبي حنيفة، ونقله القاضي عياض عن أكثر العلماء.
(5) وعن الحسن مثله، وقال الشعبي: رأيت قبور شهدا أحد مسنمة، وحكاه الطبري عن جماعة أن السنة التسنيم، ولم يزل المسلمون يسنمون قبورهم، والغرض في رفعه ليعلم أنه قبر فيتوقّى، وسفيان التمار هو ابن دينار الكوفي، ثقة أدرك كبار الصحابة، روى عن مصعب وغيره، وعنه ابن المبارك وغيره، ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشبة أو نحوهما، لما روى أبو داود وغيره، عن المطلب، أنه أمره عليه الصلاة والسلام لما توفي عثمان بن مظعون أن يأتيه بحجر فوضعها عند رأسه، وقال «أعلم بها قبر أخي، أدفن إليه من مات من أهل» ورواه ابن ماجه وغيره عن أنس.(5/116)
.
لكن من دفن بدار حرب لتعذر نقله، فالأَولى تسويته بالأَرض وإخفاؤُه(1) (ويكره تجصيصه) وتزويقه، وتخليقه، وهو بدعة(2) .
(والبناء) عليه لاصقَةُ أَولا(3) لقول جابر: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأَن يبنى عليه. رواه مسلم(4)
__________
(1) لئلا ينبش فيمثل به، وقد أخفى الصحابة قبر دانيال خشية الافتنان به.
(2) منكرة، أول من أحدثها الرافضة والجهمية، وبنوا عليها المساجد، وتجصيصه بنيه وتبيضه بالجص، وقيل بالجير، وتخليقه طَلْيه بالطيب، وكذا تبخيره وتقبيله، والتمسح به، والتبرك به، والعكوف عنده، والطواف به، وكتابة الرقاع إليه، ودسها في الأنقاب، والاستشفاء بالتربة، ونحو ذلك، كله من البدع المحدثة في الدين، فمنه ما هو من الوسائل المفضية إلى الشرك بأهل القبور، ومنه ما هو شرك أكبر، كتقبيله وما عطف عليه، وكسؤاله النفع والضر، وعبادة القبور أول شرك حدث على وجه الأرض.
(3) أي سواء لاصق البناء الأرض أو لم يلاصقها، ولو في ملكه من قبة أو غيرها.
(4) ورواه أبو داود والترمذي وغيرهما وصححه، وتقدم حديث علي وأمره عليه الصلاة والسلام بتسويته، وحديث فضالة، ولأبي داود بسند صحيح «أو يزاد عليه» ولابن ماجه عن أبي سعيد. نهى أن ينبى على القبور. فقد ثبت في الصحيح والسنن من غير وجه نهيه عليه الصلاة والسلام عن البناء على القبور، والأمر بهدمه، وقال الشافعي: رأيت العلماء بمكة يأمرون بهدم ما ينبى عليها. وفي شرح الرسالة: ومن البدع اتخاذ المساجد على مقبرة الصالحين، ووقد القنديل عليها، والتمسح بالقبر عند الزيارة، وهو من فعل النصارى، وكل ذلك ممنوع، بل محرم.اهـ.
وهو من وسائل الشرك وعلاماته وشعائره، فإن الله عز وجل بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجل صالح، لأن اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره، وبنوا عليه بنية، وعظموها، فلما أسلم أهل الطائف، أمر عليه الصلاة والسلام بهدمها فهدمت، وفيه أوضح دليل على أنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القبب التي بنيت على القبور، واتخذت أوثانًا، ولا لحظة، وإذا كانت تعبد فهي أوثان، كاللات والعزى، ومناة، بلا نزاع، بل تعظيم القبور، بالبناء عليها ونحوه، هو أصل شرك العالم، الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، بالنهي عنه، والوعيد على فاعله بالخلود في النار، وكره أحمد الفِسْطاط والخيمة على القبر، وفي الصحيح أن ابن عمر رأى فسطاطًا على قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فإنما يظله عمله.
قال شيخ الإسلام في كسوة القبر بالثياب: اتفق الأئمة على أنه منكر إذا فعل بقبور الأنبياء والصالحين، فكيف بغيرهم. اهـ. والمراد كراهة التحريم، وهو مراد إطلاق أحمد رحمه الله الكراهة، في البناء عليه، لما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والأمر بهدمه، ولأنه من الغلو في القبور، الذي يصيرها أوثانًا تعبد، كما هو الواقع، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخذين عليها المساجد والسرج، وأخبر أن من بنى على قبور الصالحين فهو من شرار الخلق عند الله، ومن ظن أن الأصحاب أرادوا كراهة التنزيه، دون التحريم، فقد أبعد النجعة.(5/117)
.
........................................................
(و) تكره (الكتابة والجلوس والوطء عليه) لما روى الترمذي وصححه، من حديث جابر مرفوعًا: نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن توطأ(1). وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا «لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتخرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير من أن يجلس على قبر»(2) (و) يكره (الإتكاءُ إليه) لما روى أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى عمرو بن حزم متكئًا على قبر فقال «لا تؤذه»(3) ودفن بصحراء أفضل(4).
__________
(1) أي بالأرجل والنعال، لما فيه من الاستخفاف بأصحابها، والمراد بالكتابة كتابة اسم صاحب القبر ونحوه، في لوح أو غيره.
(2) وله عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» وقال الخطابي: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن توطأ القبور.
(3) وهو مذهب الجمهور، ودل على أن الجلوس عليه والوطء من باب أولى، وذلك لما فيه من الاستخفاف بحق المسلم، إذا القبر بيت المسلم، وحرمته ميتًا كحرمته حيًا.
(4) أي من الدفن بعمران، والصحراء الأرض المستوية، أو الفضاء الواسع، لا آكام به ولا جبال.(5/118)
لأنَه عليه السلام كان يدفن أَصحابه بالبقيع(1) سوى النبي - صلى الله عليه وسلم -(2) واختار صاحباه الدفن عنده تشرفًا وتبركًا(3) وجاءت أخبار تدل على دفنهم كما وقع(4) ويكره الحديث في أمر الدنيا عند القبور(5) والمشي بالنعل فيها(6)
__________
(1) موضع مشهور بظاهر المدينة، والدفن فيه صحيح متواتر، معروف فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد، وهو العوسج، وقال الهروي: هو من العضاه، وهو كل شجر له شوك. اهـ. سمي بشجرات كانت به قديمًا، فذهبت وبقي اسمه، ولأنه أقل ضررًا على الأحياء من الورثة، وأشبه بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء له، والترحم عليه، ولم تزل الصحابة والتابعون فمن بعدهم يدفنون في الصحراء.
(2) فإنه قبر في بيته، صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة: خشي أن يتخذ قبره مسجدًا. رواه البخاري، ولما روي «تدفن الأنبياء حيث يموتون» ورأى أصحابه تخصيصه بذلك، ولا ينبغي أن يدفن في الدار، لاختصاص هذه السنة بالأنبياء، بل ينقل إلى مقابر المسلمين.
(3) فأبو بكر أوصى أن يدفن إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذن عمر عائشة أن يدفن معهما.
(4) كرؤيا عائشة ثلاثة أقمار في حجرتها، وأخبار: دخل هو وأبو بكر وعمر، وخرج هو وأبو بكر وعمر، فكانوا جميعًا أحياء وأمواتًا.
(5) لأنه موضع مذكر للموت، وحالة الموتى، والعد معهم، ولأنه غير لائق بالحال، بل هو مزهد في الدنيا، ومرغب في الاستعداد للآخرة.
(6) أي في المقبرة، لقوله صلى الله عليه وسلم لبشير بن الخصاصية «ألق سبتيتيك» رواه أبو داود، وقال أحمد: إسناده جيد ولأن خلع النعلين أقرب
إلى الخشوع، وزي أهل التواضع، واحترام أموات المسلمين، وذكر ابن القيم أن إكرامها عن وطئها بالنعال، من محاسن هذه الشريعة، وقال: من تدبر نهيه عن الجلوس على القبر، والإتكاء عليه، والوطء عليه، علم أن النهي إنما كان احترامًا لساكنها، أن يوطأ بالنعال على رؤوسهم، قال: والقبور دار الموتى، ومنازلهم، ومحل تزاورهم، وعليها تنزل الرحمة، فهي منازل المرحومين، ومهبط الرحمة، ويلقى بعضهم بعضًا على أفنية قبورهم، يتجالسون ويتزاورون، كما تظافرت به الآثار، وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة، تذهب حيث شاءت، قال الشيخ: ولهذا روي أنها على أفنية القبور، وأنها في الجنة، والجميع حق.(5/119)
.
إلا خوف نجاسة أو شوك(1) وتبسم، وضحك أشد(2) ويحرم إسراجها(3) واتخاذ المساجد(4).
__________
(1) ونحوهما مما يتأذى منه، كحرارة الأرض أو برودتها، فلا يكره المشي بالنعال فيها، لأنه عذر، ولا يكره بخف، لأنه ليس بنعل، ولا في معناه، وأما وطء القبر نفسه فمكروه مطلقًا، للأخبار.
(2) أي من التبسم كراهة، لمنافاته حالة المحل.
(3) أي إسراج القبور إجماعًا، للخبر الآتي وغيره، والوقوف عليها باطلة، وتصرف على المساجد، وفي المصالح.
(4) أي على القبور أو بينها إجماعًا، قال شيخ الإسلام: يتعين إزالتها، لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء، سواء كانت قبور أنبياء أو غيرها، لما في السنن وغيرها «لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» وفي الصحيح «لعن الله اليهود و النصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ولهما «قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» والنهي عنه مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم: لو وضع المسجد والقبر معًا لم يجز، ولم يصح الوقوف ولا الصلاة، وتعظيم القبور بالبناء عليها، وإسراجها، واتخاذها أعيادًا ومساجد، هو أصل شرك العالم.(5/120)
والتخلي عليها، وبينها(1) (ويحرم فيها) أي في قبر واحد (دفن اثنين فأكثر) معًا(2) أو واحدًا بعد آخر، قبل بلاء السابق(3) لأَنه عليه السلام كان يدفن كل ميت في قبر، وعلى هذا استمر فعل الصحابة، ومن بعدهم(4).
__________
(1) لما روى ابن ماجه وغيره عن عقبة بن عامر، مرفوعًا «لأن أطأ على جمرة أو سيف، أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم، ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق» بل القبور أولى، وتقدم، لأن حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًا.
(2) أي جميعًا، في حال الاختيار من جنس، لا من غير جنس، ونقل أبو طالب: إذا ماتت امرأة، وقد ولدت ولدًا ميتًا، فدفن معها، جعل بينها وبين حاجز من تراب، أو يحفر له في ناحية منها، وإن لم يدفن معها فلا بأس. ولعله يختص بما إذا كانا أو أحدهما ممن لا حكم لعورته لصغره، لأجل النص، وعنه: يكره، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، واختاره ابن عقيل والشيخ وغيرهما، واستظهره في الفروع، وجزم في المحرر: لا يحرم رواية واحدة.
(3) أي صيرورته ترابًا، ويكفي الظن في ذلك، ويرجع إلى أهل الخبرة في تلك الناحية.
(4) من السلف والخلف، لا ينازع في ذلك مسلم، وإنما يجعل الإثنان فأكثر في قبر عند الحاجة.(5/121)
وإن حفر فوجد عظام ميت دفنها(1) وحفر في مكان آخر(2) (إلا لضرورة) ككثرة الموتى، وقلة من يدفنهم، وخوف الفساد عليهم(3).
__________
(1) أي في محلها، ولم يجز دفن ميت آخر عليه.
(2) لكي يدفن ميته فيه، ويحرم نبش قبر ميت باق، لدفن ميت آخر، ومتى ظن أنه بلي الأول جاز عند الأكثر، ومتى كان رميمًا جازت الزراعة والحرث وغير ذلك، ما لم يخالف شرط واقف إجماعًا، وإلا فلا، وفي المدخل: اتفق العلماء على أن الموضع الذي دفن فيه الميت وقف عليه، ما دام منه شيء موجود فيه، حتى يفنى، فإذا فني حينئذ يدفن غيره فيه، فإن بقي شيء ما من عظامه فالحرمة باقية كجميعه، ولا يجوز أن يحفر عليه، ولا يدفن معه غيره، ولا يكشف عنه اتفاقًا، قال تعالى { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } فالستر في الحياة ستر العورات، وفي الممات ستر جيف الأجساد، وتغير أحوالها، فالبنيان في القبور ونحو ذلك سبب لخرق هذا الإجماع، وانتهاك حرمة موتى المسلمين، في حفر قبورهم، والكشف عنهم، وصرح غير واحد أنه لا يجوز تغييرها، ولا حرثها، ولا غير ذلك. اهـ. وقال غير واحد: ومن نبش القبور التي لم تبل أربابها، وأدخل أجانب عليهم، فهو من المنكر الظاهر، وليس من الضرورة المبيحة لجمع ميتين فأكثر في قبر، أما إن صار الأول ترابًا، ولم يمكن أن يعد لكل ميت قبر، لا سيما في الأمصار الكبيرة، جاز، وإلا لزم أن تعم القبور السهل والوعر.
(3) فإذا كان ذلك جاز، لأن الضرورات تبيح المحظورات، وقال تعالى { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وإن انتفت الضرورة، كان مكروهًا، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي والجمهور.(5/122)
لقوله عليه السلام يوم أُحد «ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد» رواه النسائي(1) ويقدم الأَفضل للقبلة وتقدم(2) (ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب) ليصير كل واحد كأنه في قبر منفرد(3) وكره الدفن عند طلوع الشمس، وقيامها، وغروبها(4).
__________
(1) وصححه الترمذي، وذلك لما قالوا له صلى الله عليه وسلم: الحفر علينا لكل إنسان شديد. وروى عبد الرزاق، عن واثلة أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل، ويجعل المرأة وراءه، وكأنه كان يجعل بينهما حائلاً من تراب، ولا سيما إن كانا أجنبين، وإذا دفن اثنين فأكثر في قبر واحد، فإن شاء سوى بين رؤوسهم، وإن شاء حفر قبرًا طويلاً، وجعل رأس كل واحد عند رجلي الآخر أو وسطه كالدرج، ويجعل رأس المفضول عند رجلي الفاضل.
(2) يعني في تقديم الأفضل إلى الإمام، في الصلاة عليه مفصلاً، فكذلك مثله يقدم الأفضل فالأفضل إلى القبلة في القبر، لحديث هشام بن عامر قال: شكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة الجراحات يوم أحد، فقال «احفروا وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدموا الأكثر قرآنًا» يعني إلى القبلة، صححه الترمذي.
(3) ويقال: حجزه حجزًا منعه، وحجز بينهما فصل، والحاجز الحائل، والمراد على سبيل السنة لا الوجوب، كما صرح به في الإقناع وغيره.
(4) نص عليه عند طلوعها، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، وعند غروبها وفاقًا لمالك أيضًا، وخالف عند قيامها، وقيامها وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابته، أي وقفت، والمعنى أن الشمس إذا بلغت وسط السماء، أبطأت حركة الظل، إلى أن يزول، وتقدم اختيار الشيخ وغيره، أنه إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره.(5/123)
ويجوز ليلاً(1) ويستحب جمع الأَقارب في بقعةٍ، لتَسْهُلَ زيارتهم(2) قريبًا من الشهداء والصالحين، لينتفع بمجاورتهم(3)
__________
(1) ذكره النووي والحافظ وغيرهما قول جمهور العلماء، وذكره الوزير إجماعًا، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم، وإنما أنكر عدم إعلامه بذلك، والصحابة دفنوا أبا بكر ليلاً، وكان ذلك كالإجماع منهم على الجواز، وصح أن عليًا دفن فاطمة ليلاً، ونهارًا أولى إجماعًا، للأحاديث الصحيحة المشهورة، وليحضره كثير من الناس، فيصلون عليه، وقيل: عن رداءة الكفن، فلا يبين في الليل، قيل: ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قصدهما، وعنه: لا يفعل إلا لضرورة، فيتأكد استحبابه نهارًا للإجماع، والأخبار، والخروج من الخلاف، وقال الحافظ: إن رجي بتأخيره إلى الصباح صلاة من ترجى بركته عليه استحب، وإلا فلا.
(2) لما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام – لما دفن عثمان بن مظعون، وعلم قبره، قال - «لأدفن إليه من مات من أهلي» وغير ذلك، ولأنه أبعد لاندراس قبورهم، والبقعة القطعة من الأرض وواحدة البقاع.
(3) أي ويستحب أيضًا الدفن قريبًا مما كثر فيه الشهداء والصالحون، لينتفع بمجاورتهم، ولأنه أقرب إلى الرحمة.
وقال الشيخ: إنه يخفف العذاب عن الميت، بمجاورة الرجل الصالح، كما جاءت بذلك الآثار المعروفة، ولتناله بركتهم، ولذلك التمس عمر الدفن عند صاحبيه، وسأل عائشة ذلك، حتى أذنت له.(5/124)
في البقاع الشريفة(1). ولو وَصَّى أن يدفن في ملكه دفن مع المسلمين(2) ومن سبق إلى مسبلة قدم، ثم يقرع(3) وإن ماتت ذمية حامل من مسلم، دفنها مسلم وحدها إن أَمكن(4)
__________
(1) أي ويستحب الدفن في البقاع الشريفة، فقد سأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة، وعمر سأل الشهادة في سبيل الله، والموت في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، متفق عليهما، وأما القتلى فلا، لحديث «ادفنوا القتلى في مصارعهم» و «جاوره مجاورة» صار جارًا له، والجار ما قرب من المنازل، وحقيقته إنما يتناول الملاصق، والمجاورة الملاصقة، أو يتناول الملاصق وغيره ممن يسكن محلته، ولا بأس بتحويل الميت ونقله إلى مكان آخر بعيد، لغرض صحيح، كبقعة شريفة ومجاورة صالح، مع أمن التغير، قال مالك: سمعت غير واحد يقول: إن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ماتا بالعقيق، فحملا إلى المدينة فدفنا بها، وأوصى ابن عمر أن يدفن بسرف، وقال جابر: دفن مع أبي رجل، فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة. رواه البخاري، وحول طلحة، وحولت عائشة رضي الله عنهما، فيجوز نبشه لغرض صحيح، وأخرج عبد الله بن أبي، بعدما دفن، فنفث فيه ريقه الشريفة، صلوات الله وسلامه عليه، وألبسه قميصه، متفق عليه، قال ابن القيم: وفيه دليل على جواز إخراج الميت من القبر بعد الدفن، لعلة أو سبب.
(2) لأن دفنه بملكه يضر بالورثة، لمنعهم من التصرف فيه، فيكون منتفيًا، لحديث «لا ضرر ولا ضرار» ولا بأس بشراء موضع قبره، ويوصي بدفنه فيه، فعله عثمان وعائشة رضي الله عنهما.
(3) أي فإن لم يحصل السبق بل جا آمعًا أقرع.
(4) أي دفنها وحدها، في مكان غير مقابر المسلمين، وغير مقابر الكفار،
نص عليه، وحكاه عن واثلة بن الأسقع، ورواه البيهقي وغيره، وقال شيخ الإسلام: لا تدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر النصارى، لأنه اجتمع مسلم وكافر فلا يدفن الكافر مع المسلم، ولا المسلم مع الكفار، بل تدفن منفردة. اهـ. لأنها إذا دفنت في مقبرة المسلمين، تأذوا بعذابها، وإذا دفنت في مقبرة النصارى، تأذى الولد بعذابهم، فإن قيل: فالولد يتأذى بعذابها؟ قيل: هذا ضرورة، وهو أخف من عذاب المجموع.(5/125)
.
وإلا فمعنا، على جنبها الأَيسر، وظهرها إلى القبلة(1) (ولا تكره القراءَة على القبر)(2) لما روى أَنس مرفوعًا «قال من دخل المقابر، فقرأَ فيها (يس)، خفف عنهم يومئذ، وكان له بعددهم حسنات»(3).
__________
(1) أي وإلا يمكن دفنها منفردة، إما لخوف، أو لعدم محل تدفن فيه، فتدفن معنا، على جنبها الأيسر، وظهرها إلى قبلة، ليكون الجنين على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة، لأن ظهر الجنين لوجه أمه، قال الشيخ: فإذا دفنت كذلك، كان وجه الصبي المسلم مستقبل القبلة، والطفل يكون مسلمًا بإسلام أبيه، وإن كانت أمه كافرة، باتفاق العلماء. وقال: لا بد أن تكون مقابر أهل الذمة متميزة عن مقابر المسلمين، تميزًا ظاهرًا، بحيث لا يختلطون بهم، ولا يشبه قبور المسلمين بقبور الكفار، وهذا آكد من التمييز بينهم حال الحياة، بلبس الغيار ونحوه، فإن مقابر المسلمين فيها الرحمة، ومقابر الكفار فيها العذاب، بل ينبغي مباعدة مقابرهم عن مقابر المسلمين، وكلما بعدت عنها كانت أصلح.
(2) قالوا: ولا في المقبرة، بل تستحب، وفاقًا للشافعي، لما ذكر من الخبرين.
(3) لم يعزه إلى شيء من كتب الحديث المعروفة، وإنما رواه عبد العزيز
صاحب الخلال، بسنده عن أنس، وللدارقطني نحوه عن علي، في قراءة سورة الإخلاص، ونحوه أيضًا عن اللجلاج عند الطبراني، وكلها ضعيفة لا تقوم بها حجة، وليس فيه حديث صحيح ولا حسن، والأحاديث الصحيحة، في النهي عن العكوف عند القبور، واعتيادها متظاهرة.(5/126)
وصح عن ابن عمر أَنه أَوصى إذا دفن، أَن يقرأَ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها، قاله في المبدع(1) (وأَيّ قربة) من دعاء واستغفار، وصلاة وصوم، وحج وقراءة وغير ذلك (فعلها) مسلم(2).
__________
(1) وكان أحمد ينكر ذلك، ولا ريب أن القراءة على القبر عكوف، يضاهي العكوف في المساجد بالقرب، وعنه: يكره، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك وعامة السلف، بل أنكروه وشددوا فيه، قال شيخ الإسلام: نقل الجماعة كراهته، وهو قول جمهور السلف، وعليه قدماء الأصحاب. اهـ. ولو كان مشروعًا لَسَنّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وفيه مفسدة عظيمة، كما في الصلاة عنده، بل هو عكوف عند القبور، مضاهاة لما كان يعتاده عباد القبور، عن العكوف عندها بأنواع القرب، بل وسيلة إلى عبادتها، وعنه: بدعة، وفاقًا للشافعي، لأنه ليس من فعله عليه الصلاة والسلام، ولا من فعل أصحابه، فعلم أنه محدث، وسأله عبد الله: يحمل مصحفًا إلى القبر، فيقرأ فيه عليه؟ قال: بدعة.
وقال شيخ الإسلام: ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن القراءة عند القبور أفضل، ولا رخص في اتخاذها عند أحد منهم، كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم، أو الذكر، أو الصيام قال: واتخاذ المصاحف عنده ولو للقراءة فيها بدعة، ولو نفع الميت لفعله السلف، ولا أجر للميت بالقراءة عنده، كمستمع، ومن قال: إنه ينتفع بسماعها دون ما إذا بعد القارئ. فقوله باطل، مخالف للإجماع.
(2) سواء كان من أقارب المدعو له أو غيرهم، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه، ودعائهم له عند قبره.(5/127)
(وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك)(1) قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه. ذكره المجد وغيره(2)
__________
(1) قال ابن القيم: من صام أو صلى أو تصدق، وجعل ثوابه لغيره، من الأموات والأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة، ويحصل له الثواب بنيته له قبل الفعل، أهداه أو لا، ولكن تخصيص صاحب الطاعة نفسه أفضل، ويدعو كما ورد في الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة، واعتبر بعضهم إذا نوى الثواب حال الفعل أو قبله، واستحب بعضهم أن يقول: اللهم اجعل ثوابه لفلان. ويثاب كل من المهدي والمهدى له، وظاهره أنه إذا جعلها لغير مسلم لا ينفعه، وهو صحيح لقوله تعالى { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية، وغيرها من الآيات والأحاديث.
(2) وقال شيخ الإسلام: أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له، وبما يعمل عنه من البر، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. وذكر استغفار الملائكة والرسل والمسلمين للمؤمنين، وما تواتر من الصلاة على الميت، والدعاء له، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن توفيت أمه، وقال: أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال «نعم» وتصدق لها ببستان، ومن توفيت ولم توص، وقال ابنها: هل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال «نعم» وقال لعمرو بن العاص «لو أقر أبوك بالتوحيد فصمت عنه، أو تصدقت عنه، نفعه ذلك» وذكر اتفاقهم على وصول الصدقة ونحوها، وتنازعهم في العبادات البدنية، كالصلاة والصوم والحج والقراءة، وذكر ما في الصحيحين من حديث عائشة «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وعن ابن عباس وفيه «فصومي عن أمك» وحديث عَمْرو «إذا صاموا عن المسلم
نفعه»، وما ورد في الحج وغير ذلك، ثم قال: فهذا الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم مفصل مبين، ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة من بلغته، وإنما خالفها من لم تبلغه.
وأما الحي فيجزئ، عند عامتهم، ليس فيه إلا اختلافًا شاذًا، وما تقدم لا ينافي قوله { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى } ولا قوله «إذا مات ابن آدم انقطع عمله» الخ، لأن ذلك ليس من عمله، والله تعالى يثيب هذا الساعي، وهذا العامل على سعيه وعمله، ويرحم هذا الميت يسعي هذا الحي، وعمله بسعي غيره، وليس من عمله، ولكن ذكر أن أفضل العبادات ما وافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه، وقول ابن مسعود: من كان مستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن الذي كان معروفًا بين المسلمين، في القرون المفضلة، أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة، فرضها ونقلها، ويدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر الله بذلك، لأحيائهم وأمواتهم، في قيام الليل وغيره، وفي صلاتهم على الجنائز، وعند زيارة القبور، وغير ذلك من مواطن الإجابة، ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعًا، أو صاموا تطوعًا، أو حجوا أو قرؤا القرآن، يهدون ذلك لموتاهم المسلمين، بل كان من عادتهم الدعاء كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف، فهو أفضل وأكمل.(5/128)
.
وحتى لو أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم جاز، ووصل إليه الثواب(1).
(ويسن أن يصلح لأَهل الميت طعام، يبعث به إليهم) ثلاثة أيام(2) لقوله عليه السلام «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد جاءهم ما يشغلهم» رواه الشافعي وأحمد، والترمذي وحسنه(3)
__________
(1) ولم يره شيخ الإسلام وغيره من أهل التحقيق، فإن له صلوات الله وسلامه عليه كأجر العامل، فلم يحتج إلى أن يهدي إليه ثواب صلاة، أو صوم، أو صدقة أو قراءة من أحد، ورآه هو وبعض الفقهاء بدعة، ولم يكن الصحابة يفعلونه، وفي الاختيارات: لا يستحب إهداء القرب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو بدعة، هذا هو الصواب المقطوع به. اهـ. وذلك بخلاف الوالد، فإن له أجرًا كأجر الولد.
(2) حاضرًا كان الميت، أو غائبًا وأتاهم نعيه، وأهل الميت عائلته الذين كانوا في نفقته وكلفته، استظهره ابن نصر الله وغيره وقيل: الذين كانوا يأوون معه في بيته، ويتولون أمره وتجهيزه، والأول هو المعروف في اللغة.
(3) من رواية عبد الله بن جعفر، ورواه أحمد وابن ماجه أيضًا من رواية أسماء بنت عميس، قال الزبير: فعمدت سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شعير فطحنته، وآدمته بزيت جعل عليه، وبعث به إليهم. ولشغلهم بالمصيبة، وهو قول الشافعي، ويروى عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: فما زالت تلك السنة فينا، حتى تركها من تركها. ويقصد به أهل الميت، لا من يجتمع عندهم، قال شيخ الإسلام: لكن إنما يطيب إذا كان بطيب نفس المهدي، وكان على سبيل المعاوضة، مثل أن يكون مكافأة عن معروف مثله، فإن علم الرجل أنه ليس بمباح لم يأكل منه، وإن اشتبه أمره فلا بأس بتناول اليسير منه، إذا كان فيه مصلحة راجحة، مثل تأليف القلوب ونحو ذلك. اهـ.
وجعفر رضي الله عنه هو ابن أبي طالب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السابقين الأولين، شقيق علي، ولد قبله بعشر سنين، قال أبو هريرة: إنه أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيح «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» أسلم النجاشي على يده، وقتل رضي الله عنه في جمادى، سنة ثمان من الهجرة، في غزوة مؤتة، موضع معروف بالشام، عند الكرك، اقتحم عن فرسه فعقرها، وكان أول من عقر في الإسلام، ثم قاتل حتى قتل، قال ابن عمر: ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين، من طعنة ورمية. وسمي ذا الجناحين، لأنه قاتل حتى قطعت يداه، قالت عائشة: لما جاءت وفاته رؤي في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن.(5/129)
.
(ويكره لهم) أَي لأَهل الميت (فعله) أي فعل الطعام (للناس)(1) لما روى أَحمد عن جرير قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. وإسناده ثقات(2)
__________
(1) لأنه معونة على مكروه، وهو اجتماع الناس عند أهل الميت، بل بدعة وخلاف للسنة، فإنهم مأمورون أن يصنعوا لأهل الميت طعامًا، فخالفوا، وكلفوهم صنع الطعام لغيرهم، وقد علل صلى الله عليه وسلم بما هم فيه من الشغل بمصابهم، وفي الطراز: وأما إصلاح أهل الميت طعامًا، وجمع الناس عليه، فقد كرهه جماعة، وعدوه من البدع، لأنه لم ينقل فيه شيء، وليس ذلك موضع الولائم.
(2) وقال شيخ الإسلام: جمع أهل المصيبة الناس على طعامهم، ليقرؤا ويهدوا له، ليس معروفًا عند السلف، وقد كرهه طوائف من العلماء من غير وجه، وقرب دفنه منهي عنه، عده السلف من النياحة، وذكر خبر جرير، وهذا في المحتسب، فكيف من يقرأ بالكراء، قال: واكتراء من يقرأ ويهدي للميت بدعة، لم يفعلها السلف، ولا استحبها الأئمة، والفقهاء تنازعوا في جواز الإكتراء على تعليمه، فأما اكتراء من يقرأ ويهدي فما علمت أحدًا ذكره، ولا ثواب له، فلا شيء للميت، قاله العلماء، ولا تنفذ وصيته بذلك. اهـ. وقال أحمد: هو من فعل أهل الجاهلية، وقال الموفق وغيره: إلا من حاجة، كأن يجيء من يحضر ميتهم، من أهل القرى البعيدة، ويبيت عندهم، فلا يمكن إلا أن يطعموه. اهـ.
ويكره الأكل مما صنع، وقال الطرطوشي: أما المآتم فممنوعة بإجماع العلماء، والمأتم هو الاجتماع على المصيبة، وهو بدعة منكرة، لم ينقل فيه شيء، وكذا ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث، والرابع والسابع، والشهر والسنة، فهو طامة، وإن كان من التركة، وفي الورثة محجور عليه، أو من لم يأذن حرم فعله، وحرم الأكل منه، وجرير هو ابن عبد الله بن جابر بن مالك البجلي،
الصحابي الشهير، بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الخلصة، فهدمها، وقدمه عمر في حروب العراق على بجيلة، وأرسله علي إلى معاوية، ثم اعتزل، وسكن قرقيسًا، ومات سنة إحدى وخمسين. اهـ.(5/130)
.
ويكره الذبح عند القبر، والأَكل منه(1) لخبر أنس «لا عقر في الإسلام» رواه أحمد بإسناد صحيح(2) وفي معناه الصدقة عند القبر، فإنه محدث، وفيه رياءٌ(3).
فصل(4)
(تسن زيارة القبور)(5) وحكاه النووي إجماعًا(6) لقوله عليه السلام «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» رواه مسلم، والترمذي وزاد «فإنها تذكر الآخرة»(7)
__________
(1) وقال شيخ الإسلام: يحرم الذبح والتضحية عند القبر، ولو نذره، ولو شرطه واقف كان شرطًا فاسدًا.
(2) أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم، فنهى عنه صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا إذا مات الميت عقروا عند قبره شاة أو بعيرًا، ويقولون: إنه كان يعقر للأضياف أيام حياته، فيكافيه بمثل صنيعه بعد وفاته، أو ليكون مطعمًا بعد وفاته.
(3) أي وفي معنى الذبح عند القبر الصدقة عنده، فإنه محدث، لم يفعله السلف، ولم يرد الأمر به «وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وفيه أيضًا رياء، وهو محرم.
قال شيخ الإسلام: إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة، وهو يشبه الذبح عند القبر، ولا يشرع شيء من العبادات عند القبور، لا صدقة ولا غيرها، قال: وأنكر من ذلك أن يوضع عند القبر الطعام أو الشراب ليأخذه الناس.
(4) في سنية زيارة القبور، وهي مشروعة بالسنة والإجماع، فإنها تورث رقة القلب، وتذكر الموت والبلى، وينتفع المزور بدعاء الزائر له.
(5) للذكور بلا شَدَّ رَحْلٍ، لما في الصحيحين «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» وأجمعوا على العمل به في الجملة.
ولمسلم «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد» لاختصاصها بما اختصت به، ولازمة منع السفر إلى كل موضع غيرها.
(6) وكذا حكاه الموفق وغيره، للذكور دون النساء، ولما ينشأ بقلب زائرها من الرجال، دون النساء لضعفهن.
(7) والحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة.
وقال: أبو هريرة زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، وقال «استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» متفق عليه، ولأحمد وغيره عن أبي سعيد «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة» ولفظ ابن ماجه بسند صحيح عن ابن مسعود «فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة» وقال تعالى { وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فزيارة الميت المشروعة بالدعاء والاستغفار، هي من هذا القيام المشروع.
وذكر شيخ الإسلام أن الزيارة على قسمين: شرعية وبدعية، فالشرعية المقصود بها السلام على الميت، والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته، من غير شد رحل، والبدعية أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، وهذا شرك أكبر، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو الدعاء به، وهذا بدعة منكرة، ووسيلة إلى الشرك، وليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا استحبه أحد من سلف الأمة، وأئمتها. اهـ. والمقصود من زيارة القبور الاعتبار، ونفع المزور، والزائر، بالدعاء، فلا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه، وللميت، ولا عن الاعتبار بحاله، كيف تقطعت أوصاله، وتفرقت أجزاؤه، وكيف يبعث من قبره، وأنه عما قريب يلحق به، وقال القرطبي: ينبغي أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها ويتعظ بأهلها وأحوالهم، ويعتبر بهم، وما صاروا إليه.(5/131)
.
وسن أن يقف زائر أمامه، قريبًا منه، كزيارته في حياته(1) (إلا للنساء) فتكره لهن زيارتها(2).
__________
(1) وتقدم، فينبغي أن يدنو منه، من جهة رأسه، بقدر ما يدنو من صاحبه في الحياة، ويكون مستقبلاً وجهه مستدبرًا القبلة، ولا يتمسح به، ولا يصلي عنده، ولا يقصده لأجل الدعاء عنده، قال شيخ الإسلام: ليس هذا ونحوه من دين المسلمين، بل مما أحدث من البدع القبيحة التي هي من شعب الشرك. وقال: اتفق السلف والأئمة على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأنبياء والصالحين، فإنه لا يتمسح بالقبر، ولا يقبله، بل اتفقوا أنه لا يستلم ولا يقبل إلا الحجر الأسود، والركن اليماني يستلم ولا يقبل، على الصحيح.
(2) يعني كراهة تحريم، لصراحة الحديث، ورجحه الشيخ وغيره، وقال: وعلى هذا العمل في أظهر قولي أهل العلم، واحتج أهل القول الآخر بالإذن، وليس بجيد، فإن اللفظ لفظ مذكر، وهو مختص بالذكور، أو متناول لغيرهم، فإن كان مختصًا فلا ذكر للنساء، وإن كان متناولاً كان لفظ الحديث الآتي وغيره مختصًا، ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة، فكان مقدمًا على العام، عند عامة أهل العلم، كما لو علم أنه بعدها. اهـ. وفي الخبر: «واحتملها الرجال»، ولأبي يعلى من حديث أنس قال «أتحملنه؟» قلن: لا قال «أتدفنه؟» قلن: لا. قال «فارجعن مأزورات، غير مأجورات» ونقل النووي أنه لا خلاف في ذلك.(5/132)
غير قبره صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه رضي الله عنهما(1) روى أحمد والترمذي وصححه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور(2)
__________
(1) يعني أبا بكر وعمر، وهذا الاستثناء فيه نظر ظاهر، فإنها تحرم زيارتهن لقبره صلى الله عليه وسلم، وقبريهما رضي الله عنهما لعدم الاستثناء في النصوص الصحيحة الصريحة في نهيهن مطلقًا، ولبقاء العلة المعلل بها في زيارة القبور.
(2) وفي لفظ «زائرات القبور» وهذا صريح في التحريم، وعن ابن عباس مرفوعًا: لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، قال شيخ الإسلام: وفي نسخ صحيحة تصحيحه، وقد تعددت طرقها، وليس فيها متهم، ولا خالفها أحد من الثقات، وقد روي هذا عن صاحب وهذا عن صاحب آخر، وذلك يبين أن الحديث في الأصل معروف، وفي الصحيح أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز، وفي السنن، وصححه أبو حاتم من حديث ابن عمر، قال: فلما فرغنا – يعني من دفن الميت – انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفنا معه، فلما توسطنا الطريق، إذا نحن بامرأة مقبلة، فلما دنت إذا هي فاطمة، فقال لها «ما أخرجك؟» قالت: أتيت أهل هذا البيت فعزيناهم بميتهم، فقال «لعلك بلغت معهم الكدى؟» قالت: معاذ الله أن أكون بلغت معهم الكدى، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر. فقال «لو بلغتيها معهم، ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك» وقد فسر الكدى بالقبور، وبالأرض الصلبة، لأن مقابرهم كانت في مواضع صلبة، والنبي صلى الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك يذكر بالموت، ويرقق القلب، ويدمع العين.
ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب، أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة، لما فيها من الضعف، وكثرة الجزع، وقلة الصبر، وأيضًا فإن ذلك سبب لتأذى الميت ببكائها، والرجال بصوتها وصورتها، كما في الخبر «فإنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت» وإذا كانت مظنة، فمن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية، أو غير منتشرة علق الحكم بمظنتها، فيحرم هذا الباب سدًا للذريعة، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة، فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها، ولهذا قال الفقهاء: إذا علمت من نفسها أنها إذا زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز، من قول أو عمل، لم تجز لها الزيارة بلا نزاع. وقال: إذا كانت زيارة النساء فطنة ومنشأ للامور المحرمة، فغنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع، اما لو مرت في طريقها على مقبرة وسلمت فلا بأس، لأنها لا تسمّى زائرة، وقال: وإن اجتازت بقبر في طريقها، ولم تكن خرجت له، فسلمت عليه ودعت له فحسن.(5/133)
.
(و) يسن أن (يقول إذا زارها) أو مر بها(1) (السلام عليكم دار قوم مؤمنين(2)
وإنا إن شاءَ الله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأْخرين(3) نسأل الله لنا ولكم العافية(4) اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)(5) للأخبار الواردة في ذلك(6).
__________
(1) أي زار قبور المسلمين قاصدًا ذلك، أو مر بها على طريقه، من غير قصد زيارتها.
(2) أو أهل الديار من المؤمنين. فالمتن: لفظ حديث أبي هريرة. ودار منصوب على النداء، وقيل: على الاختصاص. وفي المطالع: يجوز جره يعني أهل دار، وعلى البدل.
(3) أي المتقدمين بالوفاة، والمستأخرين بها، ليعم أولهم وآخرهم، ولفظ مسلم «منا ومنكم».
(4) من كل مكروه، وعافاه الله معافاة وعفاء وعافية، أو العافية اسم منه وهب له العافين من كل سوء، والحديث في الصحيح من حديث أبي هريرة، ولمسلم من حديث بريدة: كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم «السلام عليكم أهل الديار من المسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية».
(5) رواه أحمد من حديث عائشة، وللترمذي من حديث ابن عباس «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر» و «حرمَهُ» الشيء يحرمُه حرمانًا إذا منعه إياه، وكان بعض السلف إذا وقف على المقابر قال: أنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز من سيئاتكم، وقبل حَسَناتكم. وروي «ما الميت في قبره إلا كالغريق المبهوت، ينتظر دعوة تلحقه، من ابنه أو أخيه أو صديقه، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها، وإن هدايا الأحياء للأموات الدعاء والاستغفار» والزيارة الشرعية: المقصود منها ثلاثة أشياء، الدعاء للميت، والإحسان إليه بذلك الدعاء، واعتبار الزائر بحاله، والتفكر في مآله، وتذكر الآخرة كما في الخبر.
(6) المستفيضة مما تقدم وغيره، وللإجماع، واستمرار فعلها خلفًا عن سلف.(5/134)
وقوله «إن شاء الله بكم للاحقون» استثناء للتبرك، أو راجع للحوق لا للموت، أَو إلى البقاع(1) ويسمع الميت الكلام(2) ويعرف زائره يوم الجمعة، بعد الفجر، قبل طلوع الشمس، وفي الغنية: يعرفه كل وقت، وهذا الوقت آكد(3)
__________
(1) فالأول قاله أكثر العلماء، وقال النووي: هو أصحها، لأن الموت واقع لا محالة، وامتثالاُ لقوله { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ } والثاني ذكره البغوي وغيره،والثالث ذكره في الشافي وغيره، والتبرك التّيَمُّنُ والفوز بالبركة، والتبرك به تفاؤل بالبركة منه، واللحوق اللزوم في الإسلام، واللحاق الإدراك، والبقاع والبقعة القطع والقطعة من الأرض في الدفن معهم فيها.
(2) في الجملة لما في الصحيحين وغيرهما، قال «إنه ليسمع خفق نعالهم» وقال في قتلى بدر «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وقال «إنهم ليسمعون الآن» وأمر بالسلام على أهل القبور، ولم يكن ليأمر بالسلام على من لا يسمع، وغير ذلك من البراهين الدالة على أن الميت يسمع في الجملة، وقال الشيخ، وابن كثير وغيرهما: سماع الموتى هو الصحيح من كلام أهل العلم، وهذا السمع سمع إدراك، لا يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي في القرآن، وإن سمع فلا يمكنه إجابة الداعي، ولا ينتفع بالأمر والنهي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع بحال دون حال، كما يعرض للحي.
(3) قال ابن القيم: والأحاديث والآثار تدل على أن الزائر متى جاء، علم به المزور، وسمع كلامه، وأنس به، ورد عليه، وذلك عام في حق الشهداء وغيرهم، ولا توقيت في ذلك. اهـ. وقال شيخ الإسلام: استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وجاءت الآثار
بأنه يرى، ويدري بما فعل عنده، ويُسَرُّ بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا. وقال: جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم، وعرض أعمال الأحياء على الأموات، فيجتمعون إذا شاء الله، كما يجتمعون في الدنيا، مع تفاوت منازلهم، وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا أو متقاربة، لكن الأعلى ينزل إلى الأسفل، والأسفل لا يصعد إلى الأعلى، وللروح اتصال بالبدن متى شاء الله، وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم، كما تظاهرت به الآثار، وقال مالك: بلغنا أن الأرواح مرسلة، تذهب حيث شاءت.(5/135)
.
وتباح زيارة قبر كافر(1) (وتسن تعزية) المسلم (المصاب بالميت)(2) ولو صغيرًا، قبل الدفن وبعده(3).
__________
(1) ولا يسلم عليه، كحال الحياة، ولا يدعو له، لأن الدعاء والاستغفار له منهي عنه، وقال شيخ الإسلام: تجوز زيارته للاعتبار، ولزيارته عليه الصلاة والسلام قبر أمه.
(2) أي تسليته، صغيرًا كان أو كبيرًا، بلا خلاف، وحثه على الصبر، بوعد الأجر، والدعاء للميت والمصاب، «وعزاه تعزية» سلاه وصبره، وأمره بالصبر، وقال له: أحسن الله عزاك. أي رزقك الصبر الحسن، وعزى وتعزى عنه تعزيًا تصبر، وقيل: أصله تعززت أي تشددت، وفي الحديث «من لم يتعز بعزاء الله فليس منا» قال الأزهري: أصلها التصبير لمن أصيب بمن يعز عليه. اهـ. والعزاء اسم أقيم مقام التعزية، وفي الصحيحين لما أرسلت إحدى بناته، تخبره أن صبيًا لها في الموت، قال «أخبرها أن الله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» وتواتر حديث «لا يموت لأحد ثلاثة، من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم».
(3) أي تسن تعزيته، ولو كان صغيرًا، لعموم الأخبار، وكذا صديق للميت، وجار ونحوهما، وسواء قبل الدفن أو بعده، من حين الموت، وفاقًا
للشافعي، وبعده، أولى، لاشتغال أهل الميت بتجهيزه، إلا أن يرى منهم جزعًا، ولا بأس بالجلوس بقرب دار الميت، ليتبع الجنازة، أو يخرج وليه فيعزيه، قال في الإنصاف وغيره: فعله السلف.(5/136)
لما روى ابن ماجه وإسناده ثقات، عن عمرو بن حزم مرفوعًا «ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة»(1) ولا تعزية بعد ثلاث(2) فيقال لمصاب بمسلم: أَعظم الله أَجرك، وأَحسن عزاك، وغفر لميتك(3)
__________
(1) وله عن ابن مسعود مرفوعًا «من عزى مصابًا فله مثل أجره» أي من عمد إلى قلب قد أقلقه ألم المصيبة، فداواه بآيات الوعيد، وثواب الصبر، وذم الجزع، حتى يزيل ما به، أو يقلله، فيصير ثواب المسلي كثواب المصاب، لأن كليهما دفع الجزع، ورواه الترمذي وغيره، وله «من عزى ثكلى كسي بردًا في الجنة» والثكلى المرأة تفقد ولدها، أو من يعز عليها، وللطبراني مرفوعًا «من عزى مصابًا كساه الله حلتين، من حلل الجنة، لا تقوم لهما الدنيا».
(2) إلا إن كان غائبًا، فلا بأس بتعزيته بعدها، ما لم ينس المصيبة، قال في الفروع: ولم يحدها جماعة، منهم شيخ الإسلام، فالظاهر تستحب مطلقًا، وهو ظاهر الخبر.
(3) قاله شيخ الإسلام وغيره: ولا تعيين في ذلك، بل يدعو بما ينفع، قال الموفق وغيره: لا أعلم في التعزية شيئًا محدودًا، إلا أنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلاً فقال «رحمه الله، وآجرك» رواه أحمد. و«آجره الله» أعطاه أجره، وجزاه صبره، وهمه في مصيبته، و«أحسن عزاك» أي رزقك الصبر الحسن، وروي أنه عزى امرأة في ابنها فقال «إن لله ما أخذ، وله ما أعطي، ولكل أجل مسمى، وكل إليه راجع، فاحتسبي واصبري، فإن الصبر عند أول الصدمة الأولى» وللطبراني عن معاذ أنه مات ابن له، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، فإن أنفسنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله عز وجل، الرهينة، وعواريه المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه منك في أجر كبير، الصلاة والرحمة والهدى، فاصبْر ولا يحبط جزعك أجرك، فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد شيئًا، ولا يدفع قدرًا، وما هو نازل فكائن مدرك» وإن شاء أخذ بيد من عزاه.(5/137)
.
وبكافر: أَعظم الله أَجرك، وأحسن عزاك(1) وتحرم تعزية كافر(2) وكره تكرارها(3) ويرد معزى بـ«استجاب الله دعاءك، ورحمنا وإياك»(4).
__________
(1) ويهون عليه المصيبة، ويسليه منها ويحظه على الرضا بالقضاء، ويدعو له يجزيل الثواب، إذ لا يمتنع أن يؤجر به، ويمسك عن الدعاء للميت الكافر، لأن الدعاء والاستغفار له منهي عنه.
(2) سواء كان الميت مسلمًا أو كافرًا، لأن فيها تعظيمًا للكافر، كبداءته بالسلام، ويأتي كلام الشيخ أنها تجوز.
(3) أي التعزية، و«كرر الشيء» أعاده مرة بعد أخرى، فلا يعزى عند القبر من عزي قبله، ولا بعده من عزي عنده، ويكره الجلوس لها، لما في ذلك من استدامة الحزن، وفاقًا لمالك والشافعي، وقيل بقدرها، إلا بقرب دار الميت ليتبع جنازته، أو ليخرج وليه فيعزيه.
(4) وهكذا رد الإمام أحمد وكفى به قدوة، ولا تعيين في ذلك، كما تقدم، و«معزى» بفتح الزاي المشددة، من أصابته المصيبة.(5/138)
وإذا جاءته التعزية في كتاب ردها على الرسول لفظًا(1) (ويجوز البكاءُ على الميت)(2) لقول أَنس: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان. وقال «إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا – وأَشار إلى لسانه – أَو يرحم» متفق عليه(3)
__________
(1) فيقول: استجاب الله دعاءه، ورحمنا وإياه.
(2) إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة، فإن أخبار النهي محمولة على بكاء معه ندب أو نياحة، أو أنه كثرة البكاء، والدوام عليه أيامًا كثيرة، فالبكاء المباح، والحزن الجائز هو ما كان بِدَمْع العين، ورقة القلب، من غير سخط لأمر الله، قال الشيخ: ولا بد من حمل الحديث على البكاء الذي معه ندب ونياحة، ونحو ذلك، وما هيج المصيبة، من وعظ، وإنشاد شعر، فمن النياحة، وأما البكاء فيستحب، رحمة للميت، وهو أكمل من الفرح، لقوله صلى الله عليه وسلم «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده» متفق عليه، ولأحمد وغيره مرفوعًا «مهما كان من العين والقلب فمن الله، ومن رحمته، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان» والاعتدال في الأحوال، هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة، لا يفرط في الحزن، حتى يقع في المحذور، من اللّطْمِ والشق، ولا يفرط في التجلد، حتى يفضي إلى القسوة، والاستخفاف بقدر المصاب، قال الجوهري: البكاء يمد ويقصر، فإذا مددت أردت الصوت الذي يكون معه البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها.
(3) أي يعذب إن قال بلسانه سوءًا، أو يرحم إن قال خيرًا، فمجرد البكاء بدمع العين، من غير زيادة عليه، لا يضر، وكذا مجرد الحزن، والحزن الهم،
وضده السرور، وجمعه أحزان، «وتذرفان» أي يجري دمعهما، وفيهما أنه عليه الصلاة والسلام رفع إليه ابن ابنته، ونفسه تقعقع، كأنها شن، يعني لها صوت وحشرجة، كصوت ما ألقي في قربة بالية، ففاضت عيناه: فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال «هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» وقال «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا» ولما قتل زيد وجعفر وابن رواحة، جلس صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن، وكذلك حزن لما قتل القراء، وقال تعالى عن يعقوب عليه السلام { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ } والبث شدة الحزن، ولذلك كان أرضى الخلق عن الله في قضائه، وأعظمهم له حمدًا، فالبكاء على الميت على وجه الرَّحْمَةِ حسن مستحب، ولا ينافي الصبر، بل ولا الرضي، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه.(5/139)
.
ويسن الصبر والرضى(1)
__________
(1) أما الصبر فواجب إجماعًا، حكاه شيخ الإسلام وغيره، وذكر في الرضى قولين، ثم قال: وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة، لما يرى من إنعام الله عليه بها، اهـ. والصبر المنع والحبس، وشرعًا حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود، وشق الجيوب، ونحوها، وهو خلق فاضل، يمتنع به من فعل ما لا يحسن، وقوة به صلاح العبد، قال تعالى { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وقال { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وغير ذلك في أكثر من تسعين موضعًا.
وقال عليه الصلاة والسلام «والصبر ضياء» وقد وردت أخبار في ثواب أهل البلاء، وأجر الصابرين كقوله «من يرد الله به خيرًا يصب منه» وقوله «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه» إلى قوله «فما يزال به، حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة» وقال «إن عظم الجزاء مع عظم
البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فَمَنْ رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط» حسنه الترمذي، وله «إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له العقوبة في الدنيا» وغير ذلك.
وفي الصبر على موت الولد أجر كبير، وردت به الأخبار، منها في الصحيحين «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم» وفيهما «وكانوا حجابًا له من النار» وفيهما «ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة» قال ابن المنير: ويدخل الكبير في ذلك بطريق الفحوى، وفي الصحيح «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة» ولأحمد والترمذي وحسنه «إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟، فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟، فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد» وفيه: عن صهيب مرفوعًا «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».
ولأحمد وابن ماجه وغيرهما عن الحسن مرفوعًا «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة، فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث عند ذلك استرجاعًا، إلا جدد الله له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب» ومن نظر في كون المصيبة لم تكن في دنيه، هانت عليه مصيبته بلا شك، والثواب في المصائب على الصبر عليها، لا على المصيبة نفسها، فإنها ليست من كسب ابن آدم، وإنما يثاب على صبره، وأما الرضى فمنزلة فوق الصبر، فإنه يوجب رضى الله، واختار الشيخ استحبابه، وقال: لم يجيء الأمر به، كما جاء بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم.(5/140)
.
......................................
والاسترجاع، فيقول (إنا لله وإنا إليه راجعون)(1) «اللهم آجرني في مصيبتي، وأَخِلف لي خيرًا منها»(2) ولا يلزم الرضى بمرض وفقر وعاهة(3).
__________
(1) الاسترجاع سنة إجماعًا، قال تعالى { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } أي على الرزايا والبلايا، «واسترجع في المصيبة» استعاذ بقوله (إنا لله) أي عبيد له، وملك له، يفعل فينا ما يشاء (وإنا إليه راجعون) يوم القيامة، فيجازي كلا بعمله، وقال ابن كثير وغيره: تسلوا بقولهم هذا، عما أصابهم، وعملوا أنهم ملك لله، عبيد له، يتصرف فيهم بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وراجعون إليه في الدار الآخرة. ولهذا أخبر عما أعطاهم على ذلك فقال { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } أي ثناء من الله عليهم { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } في الدنيا والآخرة. اهـ. فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في العاجلة والآجلة، فإنه إذا تحقق بمعرفتها تسلى عن مصيبته، وإذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، هانت عليه المصيبة.
(2) آجرني بالمد والقصر، وكسر الجيم، و«اخلف» بقطع الهمزة، وكسر اللام، يقال لمن ذهب منه ما يتوقع مثله: أخلف الله عليك. أي رد عليك مثله، فإن ذهب منه ما لا يتوقع مثله: خلف الله عليك. أي كان الله خليفة منه عليك، وفي صحيح مسلم وغيره عن أم سلمة مرفوعًا «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها. إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها».
(3) لأن الرضى إنما يجب بالقضاء والقدر، لا بالمقضي والمقدور، لأنهما صفتان للعبد، والأوليان صفتان للرب، والعاهة الآفة، وأصلها عوهة، وجمعها عاهات، وأهل العاهات المصابون بها.(5/141)
ويحرم بفعل المعصية(1) وكره لمصاب تغيير حاله(2) وتعطيل معاشه(3) لا جعل علامة عليه، ليعرف فيعزى(4) وهجره للزينة وحَسن الثياب ثلاثة أيام(5).
__________
(1) أي يحرم الرضى بفعل المعصية منه أو من غيره، حكاه ابن عقيل وجمع إجماعًا، لوجوب إزالتها بحسب الإمكان فالرضى أولى، والرضى بالكفر كفر إجماعًا، قال شيخ الإسلام: إذا نظر إلى إحداث الرب تعالى لذلك، للحكمة التي يحبها ويرضاها، رضي لله بما يرضاه لنفسه، فيرضاه ويحبه مفعولاً مخلوقًا لله، ويبغضه ويكرهه فعلاً للمذنب المخالف لأمر الله.
(2) أي هيئته، من خلع ردائه ونعله وعمامته، ونحو ذلك.
(3) كغلق حانوته ودكانه،ونحو ذلك، لما في ذلك من إظهار الجزع، ومن علم أن ما قضي لا بد منه، قل حزنه وفَرَحُهُ، وقال إبراهيم الحربي: اتفق العقلاء من كل أمة أن من لم يتمش مع القدر لم يَتَهَنَّ بعيش.
(4) العلامة الأمارة يعرف بها بين الناس، ليخص بالدعاء له بأحسن الله عزاك ونحوه، أي فلا يكره جعل علامة للتعزية، هذا قول بعض المتأخرين رحمهم الله، وهو مكروه، بل منكر عند السلف، وكرهه الشيخ وتلميذه.
(5) أي وما بعد الثلاث فحرام، وهجر الزينة ترك ما يتزين به، والإعراض عنها، ونظَّره ابن القيم وغيره، وأنكره شيخ الإسلام وغيره، وذكر أنه لا ريب أن السلف لم يكونوا يفعلون شيئًا من ذلك، فلا يجعلون علامة يعرف المصاب بها ليعزى، ولم يكونوا يغيرون شيئًا من زيهم قبل المصيبة، ولا كانوا يتركون ما كانوا يعملونه قبلها، فإن ذلك كله مناف للصبر، فكيف يهجر الزينة أيامًا، والآثار صريحة في رد هذا القول، منها كراهة بعضهم ترك لبس ما عادته لبسه، وصرح بعض الأصحاب بكراهة ليس خلاف زيه المعتاد.(5/142)
(ويحرم الندب) أي تعداد محاسن الميت(1) كقوله: واسيداه، وانقطاع ظهراه(2) (والنياحة) وهي رفع الصوت بالندب(3) (وشق الثوب ولطم الخد ونحوه) كصراخ(4).
__________
(1) يقال: ندب الميت؛ بكاه وعدد محاسنه، والاسم الندب، لما يتفجع عليه أو يتوجع منه، والمحاسن جمع حسن ضد القبح.
(2) وفي الترمذي وغيره «ما من ميت يموت، فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه، واسيداه. إلا وكل الله به ملكين يلهزانه، ويقولان له: أهكذا كنت؟» وفي الفصول: يحرم النحيب والتعداد، أي تعداد المحاسن والمزايا، وإظهار الجزع، لأن ذلك يُشْبِهُ التظلم من ظالم، وهو عدل من الله، لأن له أن يتصرف في خلقه بما شاء، لأنهم ملكه وتصرفه فيهم بما تقتضيه حكمته، التي يحبها ويرضاها، ومما يستحق أن يحمد عليه، وقطع المجد بأنه لا بأس بيسير الندب، إذا لم يخرج مخرج النوح، ولا قصد نظمه، كفعل أبي بكر وفاطمة لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يتغشاه الكرب: واكرب أبتاه. فقال «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. رواه البخاري.
(3) ويقال: البكاء مع تعدادها. ويقال: ذكر محاسن الميت وأحواله. وقال القاضي عياض: النوح والنياحة اجتماع النساء للبكاء على الميت، متقابلات، والتناوح التقابل، ثم استعمل في صفة بكائهم بصوت ورنة وندب.
(4) بضم الصاد الصوت، أو الشديد منه، وصرخ يصرخ صراخًا وصريخًا: صاح شديدًا، واستغاث وأغاث، وشق الثوب من شق الشيء يشقه شقًا، صدعه وفرقه، والخد جمعه خدود، وهو من المحجر إلى اللّحْيِ من الجانبين، ولطمه يلطمه لطمًا: ضربه، وخَصَّ الخد لكونه الغالب في ذلك، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك.(5/143)
ونتف شعر ونشره، وتسويد وجه وخمشه(1) لما في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية»(2) وفيهما أنه صلى الله عليه وسلم: برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. والصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة(3)
__________
(1) ونحو ذلك إجماعًا، ونشر الشعر خلاف طيه، والسواد لون مظلم، والتسويد التلطيخ به، وخمش وجهه يخمشه خمشًا خدشه ولطمه، والخمش في البدن والوجه، مثل الخدش، جمعه خموش، وخمشت وجهها: خدشته ولطمته، حزنًا على من فجعت به، وبظفرها جرحت ظاهر البشرة.
(2) قال القاضي وغيره: هي النياحة، وندبة الميت، والدعاء بالويل، وشبهه. والمراد بالجاهلية ما كان في الفترة قبل الإسلام، وهذا الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولمسلم «بدعوى أهل الجاهلية» أي من النياحة ونحوها، وكذا الدعاء بالويل والثبور، ولابن ماجه: لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور. ولأبي داود: أخذ علينا أن لا نخمش وجهًا، ولا ندعو ويلاً، ولا ننشر شعرًا، وجيب القميص طوقه، وجمعه جُيُبٌ، وما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه إكمال فتحه إلى آخره، ونحوه وهو من علامات التسخط.
(3) وهذا الحديث عن أبي بردة قال: وجع أبو موسى، فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فأقبلت تصيح برنة، فلم يستطيع أن يرد عليها، فلما أفاق قال: أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه برئ من الصالقة الحديث، والصالقة بالصاد المهملة والقاف، ويقال بالسين والقاف، والحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثيابها عند المصيبة، قال النووي وغيره: هذا المشهور المعروف، وقال آخرون: الصلق بضرب الوجه، وفي رواية «أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق» والسلق والصلق الصوت الشديد، وإنما نهي عن ذلك لما فيه من إظهار الجزع، وعدم الرضا بقضاء الله، والتسخط من فعله، وفي شق الجيوب أيضًا إفساد للمال من غير حاجة.(5/144)
.
وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم: لعن النائحة والمستمعة(1)
__________
(1) يقال: ناحت المرأة على الميت، إذا ندبته أي بكت عليه، وعددت محاسنه، وقيل: النوح بكاء وصراخ، والمراد بها التي تنوح على الميت، وعلى ما فاتها من متاع الدنيا، فإنه ممنوع منه، والمستمعة التي تقصد السماع، ويعجبها، ولمسلم من حديث أبي هريرة «اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت» وقال «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب» وفي الصحيحين عن أم عطية قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت أن لا ننوح. ولهما عن عمر مرفوعًا «الميت يعذب في قبره بما نيح عليه» وتواترت الأحاديث بتعذيب الميت بالنياحة عليه، والبكاء عليه، فيتألم من ذلك، ولا يقال أنه يعاقب بذنب الحي.
قال شيخ الإسلام: ..... يتأذى بالبكاء عليه، كما نطقت به الأحاديث الصحيحة، من «أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» وفي لفظ «من ينح عليه، يعذب بما نيح عليه» وأنكرت ذلك طوائف من السلف والخلف، واعتقدوا أنه من باب تعذيب، الإنسان بذنب غيره، وتنوعت طرقهم في ذلك، بما لا يرد بمثله تلك الأحاديث الصحيحة، والشارع قال «يعذب» ولم يقل: يعاقب، والعذاب أعم من العقاب، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من يتألم بسبب، كان ذلك عقابًا له على ذلك السبب، وذكر الشارع «أن السفر قطعة من العذاب» والإنسان يعذب بالأمور المكروهة، التي يشعر بها، مثل الأصوات الهائلة، والأرواح الخبيثة، والصور القبيحة، فهو يتعذب بذلك، ولم يكن عملاً له عوقب عليه، فكذا الإنسان في قبره، يعذب بكلام بعض الناس، ويتألم برؤية بعضهم، وبسماع كلامه، فيتألم إذا عملت عنده المعاصي، كما جاءت به الآثار، كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم، ثم النياحة سبب العذاب، وقد يندفع حكم السبب بما يمانعه. اهـ.
وينبغي أن يوصي بترك النياحة عليه، حيث كان من عادة أهله، لأنه متى غلب على ظنه فعلهم لها، ولم يوص بتركها مع القدرة، فقد رضي بها، صححه المجد وغيره، فيكون كتارك المنكر مع القدرة، وتقدم أنه لا بأس بتعريف أصدقائه ونحوهم بموته.(5/145)
.
.......................................................
كتاب الزكاة(1)
__________
(1) أي ذكر أحكامها وشروطها، وبيان من تجب عليه، وما تجب فيه من الأموال، وغير ذلك، والزكاة أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، كما تظاهرت به دلائل الكتاب والسنة، وقرنها تعالى بالصلاة في كتابه في اثنين وثمانين موضعًا، على كمال الاتصال، لعظم شأنها وكمال الاتصال بينهما. كقوله { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وقوله { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وقال عليه الصلاة والسلام «بني الإسلام على خمس» فذكر الشهادتين والصلاة، وثلث بالزكاة، وفي الصحيح عن جرير: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وفيه أيضًا «وتؤدي الزكاة المفروضة».
وأجمع المسلمون على ركنيتها وفرضيتها، وصار أمرًا معلومًا، مقطوعًا به، يستغني عن الاحتجاج له، وذكر شيخ الإسلام وغيره أنها فرضت بالمدينة، وقال في الفروع: ولعل المراد طلبها، وبعث السعاة لقبضها، وقال الدمياطي: فرضت في السنة الثانية، بعد زكاة الفطر. بدليل قول قيس بن سعد: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل نزول آية الزكاة. وجعل تعالى دينه ثلاث درجات: إسلام، ثم إيمان، ثم إحسان، وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق، وقد أفهم الشرع أنها شرعت طهرة للمال، وعبودية للرب، وتقربًا إليه، بإخراج محبوب العباد له للفقراء، في الأموال التي تحتمل المواساة، ويكثر فيها الربح، وتنمو، فمن ذلك ما ينمو بنفسه، كالماشية والحرث. وما ينمو بالتغيير فيه والتصرف كالعين، وجعل المال المأخوذ على حساب التعب، فما وجد من أموال الجاهلية ففيه الخمس، وما فيه التعب من طرف واحد فنصف الخمس. ومن طرفين ربع الخمس، وفي طول السنة كالعين ثمن الخمس.(5/146)
لغة: النماءُ والزيادة، يقال: زكا الزرع، إذا نما وزاد(1) وتطلق على المدح(2) والتطهير، والصلاح(3).
__________
(1) وكل شيء ازداد فقد زكا. وقال القتبي: كثر ريعه. ومنه نفس زكية. وقال ابن قتيبة: الزكاة من الزكاء والنماء، سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه، يقال: زكا الزرع إذا كثر ريعه. وزكت النفقة، إذا بورك فيها. وأصل التسمية قوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } فسميت زكاة لأنها تزكي المال، أي تنميه من حيث لا يرى بالخلق أو تنمي أجرها. وقال الأزهري: تزكي الفقراء، أي تنميهم. وقال الشيخ: لفظ الزكاة في اللغة يدل على النمو. والزرع يقال فيه: زكا إذا نما. اهـ. فسميت شرعًا زكاة للمعنى اللغوي. وسميت صدقة لأنها دليل لصحة إيمان مؤديها وتصديقه.
(2) قال تعالى { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } قال ابن عباس وغيره: لا تَمْدَحوها والزكاة يمدح بها الدافع، ويثني عليه بالجميل.
(3) لأنها تطهر مؤديها من الإثم، أي تنزهه عنه، وتنمي أجره، وسمي بذلك لوجود تلك المعاني كلها فيه، قال تعالى { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } ، أي طهرها من الأدناس، { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } نفس المتصدق تزكو، وماله يزكو يطهر ويزيد في المعنى، ويقال: رجل زكي، أي زائد الخير، من قوم أزكياء، وزكّى القاضي الشهود إذا بين زيادتهم في الخير، فلفظ الزكاة يدل على الطهارة، لأن الزرع لا ينمو إلا إذا خلص من الدغل، وقال بعض أهل العلم: حكمتها التطهير من الأدناس، ورفع الدرجة، وحكمها سقوط الواجب في الدنيا، وركنها الإخلاص ولفظها يعم الفرض والنفل. وكذا الصدقة. لكن الزكاة لا تطلق غالبًا إلا على المفروض، دون التطوع، فهي أخص من التطوع من هذا الوجه، ولفظ الصدقة من حيث الإطلاق على الفرض مرادف الزكاة، لا من حيث الإطلاق على النفل، وقد يتكرر لفظ الصدقة على المفروض، ولكن الأغلب التفرقة.(5/147)
وسمي المخرج زكاة لأَنه يزيد في المخرج منه ويقيه الآفات(1) وفي الشرع: حق واجب في مال خاص(2) لطائفة مخصوصة، في وقت مخصوص(3) (تجب) الزكاة في سائمة بهيمة الأنعام(4)، والخارج من الأرض(5)، والأَثمان، وعروض التجارة، ويأْتي تفصيلها(6)
__________
(1) ويوفره في المعنى، حكاه الواحدي وغيره، وقال ابن القيم: طهرة للمال ولصاحبه، وقيدًا للنعمة، وحفظًا وتنمية، ودفعًا للآفات، وحصنًا وحارسًا. اهـ. والمخرج بفتح الراء فيهما.
(2) أي الزكاة عند إطلاقها في الشرع تنصرف إلى واجب عشر أو نصفه أو ربعه، ونحوه مما يأتي مفصلاً.
(3) قاله الماوردي وغيره، وهو تمام الحول في الماشية والأثمان، وعروض التجارة، وعند اشتداد الحب، وعند بدو صلاح الثمرة، وعند حصول ما تجب فيه من العسل، واستخراج ما تجب فيه من المعادن، وعند غروب الشمس لوجوب زكاة الفطر، والمال اسم لجميع ما يملكه الإنسان، وحكي عن ثعلب: أقل المال ما تجب فيه الزكاة. والطائفة المخصوصة هم الأصناف الثمانية، ويأتي بيانهم، ولو عبر بشرعًا. ليطابق ما قبله لكان أولى.
(4) سميت بهيمة لما في صوتها من الإبهام، والسائمة هي الراعية، قال الجوهري: سامت الماشية رعت، وأسمتها أخرجتها إلى الرعي. واحترز بالسائمة عن المعلوفة والعوامل.
(5) من حبوب وثمار وعسل ونحوه، ومعدن وركاز على ما يأتي.
(6) في أبوابها مرتبة، وذكر غير واحد أن الزكاة لا تكون إلا في العين والحرث والماشية، وقال ابن عبد البر: الزكاة فيها إجماع، وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الزكاة تجب في تسعة أشياء، الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة والبر والشعير والتمر والزبيب، إذا بلغ من كل صنف منها ما تجب فيه الزكاة. اهـ. والشارع اعتنى ببيان ما تجب فيه، لأنه خارج عن الأصل، فيحتاج إلى بيانه، لا ببيان ما لا تجب فيه، اكتفاء بأصل عدم الوجوب. فلا تجب في غير ذلك من خيل وبغال وحمير ورقيق وغيرها من أموال القنية اتفاقًا. وقال ابن رشد: لا خلاف في عدم وجوب الزكاة في العبد المتصرف، والفرس المعد للركوب. وقال الوزير: أجمعوا على أنه ليس في دور السكنى، وثياب البذلة، وأثاث المنزل، ودواب الخدمة، وعبيد الخدمة، وسلاح الاستعمال زكاة، لما في الصحيحين «ليس على المسلم في عبده، ولا في فرسه صدقه»، قال النووي وغيره: هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها، وهو قول العلماء من السلف والخلف، إلا أبا حنيفة في الخيل. اهـ. والحديث حجة عليه، ورباط الخيل من جنس آلات السلاح والحرب، فما كان منها – ما عساه أن يكون – ولم يكن للتجارة لم يكن فيه زكاة.
فسائر أموال القنية مشغولة بالحاجة الأصلية، وليست بنامية أيضًا، وكل منهما مانع من وجوب الزكاة.(5/148)
.
(بشروط خمسة) أَحدها (حرية) فلا تجب على عبد، لأَنه لا مال له(1) ولا على مكاتب، لأَنه عبد، وملكه غير تام(2).
__________
(1) فزكاة ما بيده على سيده، لأنه مالكه، وهو مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأصحاب الرأي وسائر العلماء، إلا ما حكي عن عطاء وأبي ثور، وعن أحمد: على العبد إذا ملك. وفرضيتها على المسلم الحر ظاهر، لعموم الكتاب والسنة والإجماع.
(2) فلم تجب عليه الزكاة، عند أحد من العلماء إلا أبا ثور، قال ابن المنذر
والموفق والشارح وغيرهم: لا نعلم أحدًا خالف فيه إلا أبا ثور، وحكاه الوزير إجماعًا، وروى الدارقطني، من حديث جابر «ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق» وقاله جابر وابن عمر، ولم يعرف لهما مخالف، فكان كالإجماع، ولحاجته إلى فك رقبته، وكذا لا تجب على مدبر، ولا أم ولد وفاقًا، فإن عجز استقبل سيده بما في يده حولاً، كالذي ورثه، أو اتهبه ونحوه، وإن أدى وفضل بيده نصاب استقبل به حولاً، لاستقرار ملكه عليه حينئذ.(5/149)
وتجب على مبعض بقدر حريته(1) (و) الثاني (إسلام) فلا تجب على كافر، أصلي أو مرتد(2) فلا يقضيها إذا أَسلم(3) (و) الثالث (ملك نصاب)(4).
__________
(1) فيزكي ما ملك بحريته، لأنه ملكه عليه تام، أشبه الحر.
(2) يعني وجوب أداء بلا نزاع، إذ الزكاة قربة وطاعة، والكافر ليس من أهلها، ولافتقارها إلى نية، وهي ممتنعة من الكافر، وأما وجوب الخطاب، بمعنى العقاب في الآخرة فثابت وتقدم، وفي حديث معاذ «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» وذكر الصلاة، ثم قال «فإن هم أطاعوك لذلك فأعملهم أن الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» متفق عليه، فجعل الإسلام شرطًا لوجوب الزكاة.
(3) لعموم «إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف» «الإسلام يجب ما قبله».
(4) فلا تجب الزكاة فيما دون النصاب للنصوص، حكاه الوزير والنووي وغيرهما إجماعًا، وعمل المسلمين عليه، وهو سبب وجوب الزكاة، فلا زكاة في مال حتى يبلغ نصابًا، لما يأتي، والنصاب بكسر النون: قدر معلوم لما تجب فيه الزكاة، ويأتي تفصيله، وقال الجوهري: النصاب من المال القدر الذي تجب فيه الزكاة إذا بلغه، نحو مائتي درهم وخمس من الإبل.(5/150)
ولو لصغير أو مجنون، لعموم الأَخبار(1) وأقوال الصحابة(2) فإن نقص عنه فلا زكاة إلا الركاز(3)
__________
(1) كقوله «أعلمهم أن عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم» رواه الجماعة، وقوله «ابتغوا في أموال اليتامى، لا تستهلكها الصدقة» رواه الشافعي وغيره، ولغير ذلك.
(2) عمر وعلي وغيرهما، واعتمد أحمد رحمه الله وغيره على أقوال الصحابة. وقال: عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة. وقال الشيخ: تجب في مال اليتامى عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو مروي عن عمر وعائشة وعلي وابن عمر وجابر، قال عمر: اتجروا في أموال اليتامى، لا تأكلها النفقة. وروي عن الحسن بن علي، وهو قول عطاء وجابر بن زيد، ومجاهد وابن سيرين وغيرهم. اهـ. ولأنها مواساة، وهما من أهلها. وأبو حنيفة وافق في المعشرات والفطر، وعلل ما سوى ذلك بأنها تطهير ولا ذنب لهما، والغالب أنها تطهر وليس شرطًا، واتفقنا على وجوب العشر والفطر، وإن كان تطهيرًا في أصله وقوله «رفع القلم عن ثلاثة» المراد رفع الإثم والوجوب، وهي إنما تجب في مالهما، ويطالب بها وليهما، ومقصود الزكاة سد خلة الفقير في مال الأغنياء، شكرًا لله، وتطهيرًا للمال، ومالهما قابل لأداء القربات والنفقات.
(3) فلا يشترط فيه بلوغ نصاب، لأن شبهة بالغنيمة أكثر من الزكاة، فلهذا وجب فيه الخمس، ولا يمنعه الدين، وظاهر عباراتهم إطلاق النقص فيما سوى الركاز ولو يسيرًا، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، قال الشارح: وهو ظاهر الأخبار، فينبغي أن لا يعدل عنه. وفي الفروع وغيرها أن الصحيح من المذهب والذي عليه أكثر الأصحاب أنها لا تضر حبة وحبتان، وأنه لا اعتبار بنقص داخل في الكيل، وجزم به غير واحد من الأئمة، وحكي اتفاقهم عليه، ويجب فيما زاد على النصاب بالحساب في الحب ونحوه اتفاقًا، وفي النقدين عند الجمهور، لخبر رواه الأثرم وغيره، وروي عن علي وابن عمر، ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة. لا في أوقاص السائمة للأخبار.(5/151)
.
(و) الرابع (استقراره) أي تمام الملك في الجملة(1) فلا زكاة في دين الكتابة لعدم استقراره، لأنه يملك تعجيز نفسه(2) (و) الخامس (مضي الحول)(3). لقول عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» رواه
__________
(1) إجماعًا كسائمة وغلة أرض، وشجر وقف على معين، إن بلغت نصابًا وليست ملكًا تامًا، فإن معنى تمام الملك أن لا يتعلق به حق غيره، بحيث يكون له التصرف فيه على حسب اختياره، وفوائده عائدة عليه.
(2) ويمتنع من الأداء، فلا تجب وفاقًا، وقال الموفق: بغير خلاف علمناه، ولهذا لا يصح ضمانها، ولا تجب فيما ليس بتام الملك. وفاقًا لمالك والشافعي، كالموقوف على غير معين قولاً واحدًا، وكالمساكين أو مسجد ورباط ونحوهما، كمال موصي به في وجوه بر، أو يشترى به وقف، وأما على معين فالمذهب وجوبه للعموم، وأما المرأة إذا طلقت قبل الدخول وتنصف المهر فإنه لا يلزمها زكاة ما سقط منه، وذكر غير واحد هذه الأربعة شروطًا للوجوب كالحول.
(3) على نصاب تام من أثمان وماشية وعروض تجارة، إجماعًا، وهذا الضرب يعتبر فيه الحول عند عامة المسلمين، والضرب الثاني ما تجب الزكاة بوجوده كالحبوب والثمار لا يعتبر فيها الحول، وإنما يستقر وجوبها فيها بجعلها في البيدر.(5/152)
ابن ماجه(1) ورفقًا بالمالك ليتكامل النماءُ فيواسي منه(2) ويعفى فيه عن نصف يوم(3) (في غير المعشر) أي الحبوب والثمار(4).
__________
(1) وهو من رواية حارثة بن محمد، وقد ضعفه جماعة، وروى الترمذي معناه من حديث ابن عمر «من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول» وعن الحارث عن علي «إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم» وذكر في الذهب نحو ذلك «فما زاد فبحساب ذلك» قال الحارث: فلا أدري أعليّ قال: فبحساب ذلك. أم رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ «وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول» رواه أبو داود، وأخرج مالك أن أبا بكر لم يكن يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول، قال البيهقي: المعتمد في اشتراط الحول على الآثار الصحيحة عن أبي بكر وعثمان وابن عمر وغيرهم. وقال شيخ الإسلام: الحول شرط في وجوب الزكاة في العين والماشية، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عماله على الصدقة كل عام، وعمل بذلك الخلفاء، لما علموه من سنته، قال ابن عبد البر: وعليه جماعة الفقهاء قديمًا وحديثًا.
(2) والنماء لا يتكامل قبل الحول، ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال، فلا بد لها من ضابط، لئلا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن المتقارب، فيفنى المال، والمقصود المواساة على وجه لا يصير فقيرًا، بأن يعطي من ماله قليلاً من كثير بعد الحول، ليتمكن من تحقيقها في الوجود فيحصل النماء المانع من حصول ضد المقصود.
(3) وقطع به في المبدع والمنتهى، وصححه في تصحيح الفروع، قال في المحرر: لأنه لا ينضبط غالبًا، ولا يسمى في العرف نقصًا.
(4) فلا يشترط فيها مضي الحول، إنما هي نماء في نفسها، تؤخذ الزكاة منها عند وجودها، ثم لا تجب فيها زكاة ثانية، لعدم إرصادها النماء.(5/153)
لقوله تعالى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (1) وكذا المعدن والركاز والعسل، قياسًا عليهما(2) فإن استفاد مالاً بإرث أو هبة ونحوهما(3)، فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول(4) (الإنتاج السائمة، وربح التجارة(5).
__________
(1) فنفى اعتبار الحول في الحبوب ونحوها، وأثبت الوجوب وقت حصولها.
(2) أي على الحبوب والثمار، فإنها تؤخذ منها عند وجودها، ثم لا تجب فيها إلا أن يكون المعدن أثمانًا فتجب عند كل حول، لأنها مظنة النماء من حيث أنها قيم الأموال، وقال الشيخ: أما الذهب والفضة ففيه الزكاة عند أخذه عند مالك والشافعي وأحمد، وزاد أحمد: الياقوت والزبرجد، والبلور والعقيق والكحل، والزرنيخ، وأبو حنيفة يجعل فيها الخمس، وأما ما يخرج من البحر كاللؤلؤ والمرجان فلا زكاة فيه عند الجمهور.
(3) كأجرة وصداق وعوض خلع.
(4) لما تقدم، وقال في الفروع: ويستقبل بالصداق وعوض الخلع والأجرة بالعقد حولاً، عينًا كان أو دينًا، مستقرًا أو لا، نص عليه، وفاقًا للشافعي، وكذلك مالك في غير نقد، للعموم، ولأنه ظاهر إجماع الصحابة، وعنه حتى يقبض ذلك وفاقًا لأبي حنيفة، وعنه لا زكاة في صداق قبل الدخول حتى يقبض، فيثبت الانعقاد والوجوب قبل الدخول، قال المجد: بالإجماع. لكن يستقبل بصداق ونحوه من عقد، وبمبهم من تعيين.
(5) النتاج بكسر النون الولد، والتجارة بكسر التاء، يقال: تجر يتجر بضم الجيم، تجرًا بإسكانها وتجارة، فهو تاجر، وقوم تجر كصاحب وصَحْب، وتِجَارٌ وتُجَّارٌ بالضم وتشديد الجيم كفجار وفجار.(5/154)
ولو لم يبلغ) النتاج أو الربح (نصابًا، فإن حولهما حول أصليهما) فيجب ضمها إلى ما عنده (إن كان نصابًا)(1). لقول عمر: اعتد عليهم بالسخلة ولا تأْخذها منهم. رواه مالك(2) ولقول علي: عُدّ عليهم الصغار والكبار(3) فلو ماتت واحدة من الأُمَّات فنتجت سخلة انقطع، بخلاف ما لو نتجت ثم
__________
(1) يبني كل واحد منهما على حوله، ويزكي النتاج والربح لحول الأصل وفاقًا، وقال الشيخ: عند جمهور أهل العلم. وعند مالك إذا تم عند الحول بربحه ففيه الزكاة.
(2) وروى عن سفيان الثقفي أن عمر بعث مصدقًا، وكان يعد عليهم السخل، فقالوا: تعد علينا السخل، ولا تأخذ منها شيئًا، فلما قدم على عمر ذكر ذلك له، فقال عمر: نعد عليهم السخلة يحملها الراعي، ولا نأخذها، ولا نأخذ الأكولة ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل الغنم، ونأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء المال وخياره. والسخلة بفتح السين وإسكان الخاء، جمعها سخال بكسر السين وسخل، وهي من ولد الضأن، والمعز، تطلق على الذكر والأنثى، من حين تولد إلى أن تستكمل أربعة أشهر، فإذا بلغتها وفصلت عن أمها، فأولاد المعز جفار، الواحدة جفرة، والذكر جفر، فإذا رعى وقوي فهو عتود، وجمعه عتدان، وهو في ذلك جدي، والأنثى عناق بفتح العين، ما لم يأت عليه الحول، فإذا أتى عليه الحول فالذكر تيس، والأنثى عنز، ذكره الأزهري وغيره.
(3) قال في المبدع وغيره: ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة، وقول الفقهاء عامة، ولأن السائمة تختلف وقت ولادتها، فإفراد كل واحدة يشق، فجعلت تبعًا لأماتها، ولأنها تابعة لها في الملك، فتتبعها في الحول، وربح التجارة كذلك معنى، فوجب أن يكون مثله حكمًا.(5/155)
ماتت(1)، (وإلا) يكن الأَصل نصابًا (ف) ـحول الجميع (من كماله) نصابًا(2) فلو ملك خمسًا وثلاثين شاة، فنتجت شيئًا فشيئًا، فحولها من حين تبلغ أربعين(3) وكذا لو ملك ثمانية عشر مثقالاً وربحت شيئًا فشيئًا، فحولها منذ بلغت عشرين(4) ولا يبني الوارث على حول الموروث(5) ويضم المستفاد إلى نصاب بيده من جنسه أو في حكمه(6).
__________
(1) أي لم ينقطع، وهذا تفريع على قوله: إلا نتاج السائمة، ولا ينقطع بموت الأمات والنصاب تام بالنتاج اتفاقًا، قال بعضهم: كذا يقال «أُمَّاتٍ» وإنما يقال: أمهات في بنات آدم فقط، ويقل أُمَّاتٍ بدون هاء.
(2) أي فمبتدأ حول الجميع يعني الأمات والنتاج، أو رأس المال وربحه، من كماله نصابًا، وكمل بفتح الميم وضمها وكسرها، والكمال التمام، وفيه ثلاث لغات أردأها الكسر، حكاه الجوهري وغيره.
(3) أي فابتداء حولها من حين كملت أربعين، وإذا تم الحول من حين كملت وجبت، وتقدم حكاية الإجماع في اشتراط مضي الحول. وإن كان قد خالف معاوية وابن عباس، فالخلفاء حجة على من خالفهم، وهو مذهب فقهاء المدينة، وفقهاء الأمصار.
(4) يعني مثقالاً ووزنه ثنتان وسبعون حبة من الشعير، ويأتي.
(5) ذكره الإمام أحمد وابن عبد البر وغيرهما إجماعًا، بل يستأنف حولاً من حين ملكه.
(6) أي يضم المستفاد من إرث أو هبة ونحو ذلك إلى نصاب بيد المستفيد من جنس ما استفاد، كذهب إلى ذهب أو عرض إلى عرض، ونحو ذلك، أوفي
حكمه أي حكم جنسه كفضة إلى ذهب، أو عروض تجارة، كما لو ملك عشرين مثقالاً ذهبًا في المحرم، ثم عشرة في صفر، فتضم إلى العشرين، فمثال ما هو من جنسه الأول، ومثال ما هو في حكمه كمائة درهم فضة، ملك بعدها عشرين مثقالاً ذهبًا.(5/156)
ويزكي كل واحد إذا تم حوله(1) (ومن كان له دين أو حق) من مغصوب أو مسروق أو موروث مجهول ونحوه (من صداق وغيره)، كثمن مبيع وقرض(2) (على مليء) باذل (أو غيره أدى زكاته إذا قبضه لما مضى) روي عن علي(3)
__________
(1) أي ويزكي كل واحد من النصاب إذا تم حوله، ومن المستفاد كذلك، فلو كان بيده مئتا درهم، مضى عليها ستة أشهر، ثم ملك مائة درهم بإرث أو هبة، زكى النصاب إذا مضت الستة الأشهر الباقية، وزكى المستفاد بالإرث أو الهبة إذا مضى عليه حول من وقت استفادته، قال ابن قندس: إذا كان عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض حولها، فاشترى أو اتهب مائة، فلا تجب عليه حتى يمضي عليه حول أيضًا. اهـ. قال الوزير: اتفقوا على أن المستفاد لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، كبقية الأموال، وما ليس من جنسه، ولا في حكمه فله حكم نفسه.
(2) بيان لقول الشارح ونحوه، والمراد بالصداق المعين والمبهم، إلا أن حول المعين من حين العقد، والمبهم من وقت التعيين كما تقدم.
(3) وابن عمر وعائشة، رواه أحمد وغيره، قال في المبدع وغيره: ولم يعرف لهم مخالف، قال في الفروع: واختاره الأكثر، وذكره صاحب الهداية والمحرر ظاهر المذهب، وفاقًا لمالك والشافعي، وجزم به جماعة في المؤجل، وفاقًا لأبي حنيفة، ولصحة الحوالة به والإبراء. وقال: من دينه حال على مليء باذل زكاه
على الأصح وفاقًا، إذا قبضه لما مضى، وعنه: يلزمه إذا كان على مليء باذل في الحال. وهو قول عثمان وابن عمر، والشافعي وإسحاق وغيرهم، وقال الشيخ – في الصداق تمر عليه السنون -: أقرب الأقوال قول من لا يوجب فيه شيئًا بحال حتى يحول عليه الحول، أو يوجب فيه زكاة واحدة عند القبض، والأول قول أبي حنيفة، والثاني قول مالك، وقيل بهما في مذهب أحمد، وأضعف الأقوال قول من يوجبها للسنين الماضية، حتى مع العجز عن قبضه، فإن هذا القول باطل من وجوه. اهـ. والمليء الثقة، يقال: مليء الرجل وملؤ صار مليئًا أي ثقة، فهو غني باذل، وإذا كان على معسر ثم قبضه بعد سنتين مثلاً، فإنه يزكيه لسنة من الماضي، وقال أصحاب الرأي، واختاره الشيخ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وحفيده، وعليه الجمهور. وقال في الفروع وغيره: ولا زكاة في دين مؤجل، أو على معسر، أو مماطل، أو جاحد قبضه، ومغصوب ومسروق وضال رجع فيه، وما دفنه ونسيه، وموروث له أو غيره وجهله، أو جهل عند من هو، في رواية صححها صاحب التلخيص وغيره، ورجحها بعضهم، واختاره ابن شهاب وشيخنا، وفاقًا لأبي حنيفة، قال في المبدع: وروي عن عثمان وابن عمر، لأنه غير تام الملك، وهو خارج عن يده وتصرفه، ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، وهو مفقود هنا، وقال الشيخ: وهو رواية عن أحمد، واختارها وصححها طائفة من أصحابه، وذكر أن دين الابن على أبيه بمنزلة الضال، فإنه غير متمكن من المطالبة به، ووجه أنه بمنزلة دين الكتابة.(5/157)
.
لأَنه يقدر على قبضه والانتفاع به(1) قصد ببقائه عليه الفرار من الزكاة أولا(2).
ولو قبض دون نصاب زكاه(3) وكذا لو كان بيده دون نصاب وباقيه دين أو غصب أو ضال(4) والحوالة به أو الإبراء كالقبض(5) (ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب)(6) فالدين وإن لم يكن من جنس المال مانع من وجوب الزكاة في قدره(7)
__________
(1) أي فنجب فيه لما مضى، وتعليله غير مؤثر فيما على غير المليء.
(2) أي قصد من له حق على مليء أو غيره ببقائه الفرار من أداء زكاته. أو لم يقصده، زكاه إذا قبضه لما مضى.
(3) أي من حين قبضه لما مضى.
(4) يرجو وجوده زكى ما بيده بحسبه، لأنه ملك نصابًا ملكًا تامًا، أشْبَهَ مَا لو قبضه كله، أو كان بيده كله، ويزكي باقيه إذا قبضه، وتجب في مودع، وليس للمودع إخراجها بغير إذن مالكها، لتوقف الإجزاء على النية.
(5) أي والحوالة به كالقبض، وكذا الحوالة عليه، أو الإبراء به كالقبض في وجوب أدائها.
(6) في الأموال الباطنة، كالنقدين والعروض، على المذهب، قال الوزير: وقال أحمد: الدين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة رواية واحدة، وقال شيخ الإسلام: الدين يسقط زكاة العين عند مالك وأبي حنيفة وأحمد، وأحد قولي الشافعي، وهو قول عطاء والحسن والأوزاعي وغيرهم. واحتجوا بما رواه مالك عن السائب قال: سمعت عثمان يقول: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده، حتى تخلص أموالكم تؤدون منها الزكاة. اهـ. وقد قاله بمحضر من الصحابة فدل على اتفاقهم عليه، ولأن الزكاة وجبت مواساة للفقراء، وحاجة المدين كحاجة الفقير أو أشد.
(7) فيسقط من المال بقدر الدين المانع، كأنه غير مالك له، ثم يزكي ما بقي من المال إن بلغ نصابًا، قال مالك: إن كان عنده عروض توفي الدين زكى العين، وجعلها في مقابلة الدين، وفي المبدع: إن كان عليه دين وله دين مثله، جعل الدين في مقابلة ما في يده، نص عليه، فلو كان له مائة من الغنم، وعليه ما يقابل ستين منها، فعليه زكاة الأربعين، فإن قابل الدين إحدى وستين فلا زكاة عليه لنقص النصاب.(5/158)
.
(ولو كان المال) المزكى (ظاهرًا) كالمواشي والحبوب والثمار(1) (وكافرة كدين)(2) وكذا نذر مطلق(3).
__________
(1) هذا المذهب، وحكاه الوزير رواية عنه، وعند أبي حنيفة كل دين مطالب به إلا في المعشر، وقال ابن عباس وابن عمر: يخرج ما استدان على ثمرته وأهله، ويزكي ما بقي. قال أحمد: وإليه أذهب، لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلاً أو بقرًا أو غنمًا لم يسأل أي شيء على صاحبها، وعن أحمد: لا يمنع الدين وجوبها في الأموال الظاهرة، وفاقًا لمالك والشافعي وغيرهما، لعموم «في خمس من الإبل صدقة» «فيما سقت السماء العشر» ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث السعاة إلى أرباب الأموال الظاهرة، وكذلك الخلفاء بعده، ولم ينقل أنهم سألوا أربابها: هل عليكم دين؟ ولأن أنفس الفقراء تتشوف إليها، بخلاف الباطنة، وقال أبو البركات: لا يمنع الظاهر مطلقًا. وقال شيخ الإسلام: لم أجد فيها نصًا عن أحمد، واستظهر أنه لا يمنع، وقال الحافظ الزركشي الشافعي: والظواهر الواردة بإيجاب الزكاة في الأموال تشهد لهذا القول بالصحة. وأما الركاز فلا يمنع الدين الخمس منه بلا نزاع. لأنه بالغنيمة أشبه.
(2) أي إذا كان عليه كفارة تنقص النصاب فلا زكاة عليه، كما أنه لا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب، لا سيما في الأموال الباطنة.
(3) ضد المعين، مثل أن يقول: لله علي مائة درهم، كدين في حكم نقص النصاب.(5/159)
وزكاة ودين حج وغيره(1) لأنه يجب قضاؤه، أشبه دين الآدمي(2) ولقوله صلى الله عليه وسلم «دين الله أحق بالوفاء»(3) ومتى برئ ابتدأ حولاً(4) (وإن ملك نصابًا صغارًا انعقد حوله حين ملكه)(5) لعموم قوله عليه السلام «في أربعين شاةً شاةٌ» لأنها تقع على الكبير والصغير(6).
__________
(1) كإطعام في قضاء رمضان، فلو كان له خمس من الإبل، وأربعون من الغنم، وحول الإبل متقدم على حول الغنم. وجب عليه دين شاة في الغنم، فينقص نصابها، فلا يجب فيها زكاة، سواء أخرج الشاة بالفعل أو لا، فإن كان حول الغنم سابقًا وجب عليه شاتان.
(2) أي لأن الكفارة والنذر المطلق والزكاة ودين الحج ونحوه يجب عليه قضاؤه، فأشبه دين الآدمي في المنع من وجوب الزكاة في قدره.
(3) متفق عليه، أي أحق أن يقضى، كما هو رواية في الصحيحين وغيرهما، وفي رواية «اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» أي اقضوا الله حقه اللازم عليكم من نذر وغيره، فالله أحق بأداء الواجبات، ولا فرق بين الواجب بأصل الشرع، أو بإيجابه على نفسه.
(4) ولم يبن على حوله قبل شغل ذمته بدين الله، أو دين آدمي «وبرئ» زيد من دينه يبرأ مهموز، من باب تعب، براءة سقط عنه طلبه، وبرئ منه مثل سلم وزنًا ومعنى.
(5) كفصلان وعجاجيل وسخال.
(6) من الغنم، وكذا في ثلاثين من البقر، وخمس ذود من الإبل، ولاعتداد عمر وعلي وغيرهما عليهم بالسخلة.(5/160)
لكن لو تغذت باللبن فقط لم تجب، لعدم السوم(1) (وإن نقص النصاب في بعض الحول) انقطع، لعدم الشرط(2) لكن يعفى في الأثمان وقيم العروض عن نقص يسير كحبة وحبتين، لعدم انضباطه(3) (أو باعه) – ولو مع خيار – بغير جنسه انقطع الحول(4) (أو أبدله بغير جنسه، لا فرارًا من الزكاة انقطع الحول) لما تقدم(5).
__________
(1) لا لعدم الكبر، ويتصور فيما لو أبدل كبارًا بصغار في أثناء الحول، أو نتجت الكبار ثم ماتت قبل الحول.
(2) لأن وجود النصاب في جميع الحول شرط للوجوب ولم يوجد. وسواء كان النقص في وسط الحول أو طرفيه، وسواء وجبت في عينه أو قيمته، فلو كان عنده أربعون من الغنم، فمضى عليها عشرة أشهر، ثم ماتت واحدة انقطع الحول، ثم إن ملك شاة ابتدأ حولاً من حين تمامها أربعين.
(3) لكون النصاب في ذلك ليس تحديدًا، بخلاف نصاب الثمار والحبوب ونحوها، وتقدم أنه لا يضر عند الجمهور.
(4) سواء كان للبائع أو المشتري أو لهما، ولو حال عليه الحول في مدة الخيار كانت زكاته على المشتري، فإن عاد إليه بفسخ أو غيره استأنف الحول، ولا ينقطع بيع فاسد.
(5) من عدم الشرط لوجوب الزكاة ولم يوجد، وكذلك ما خرج به عن ملكه من إقالة، أو فسخ بنحو عيب، ورجوع واهب في هبة، ووقف وهبة، وجعله ثمنًا أو مثمنًا أو صداقًا أو أجرة. وقال الخلوتي: قوله: أو أَبْدَلَه ... يغني عنه قوله:
أو باعه. إلا أن يحمل الأول على ما فيه إيجاب وقبول. والثاني عن المعاطاة. وقال عثمان: وقوله: لا فرارًا الخ، استدراك مما يفهم من الإطلاق في مبدأ الحول، فإن ظاهر كلامهم أنه من الملك دائمًا، والواقع أنه ليس على إطلاقه، بل منه ما يكون مبدؤه من الملك، ومنه ما يكون من التعيين، كما بينه المصنف.(5/161)
ويستأْنف حولا، إلا في ذهب بفضة وبالعكس، لأَنهما كالجنس الواحد(1) ويخرج مما معه عند الوجوب(2) وإذا اشترى عرضًا لتجارة بنقد، أو باعه به، بني على حول الأَول(3) لأَن الزكاة تجب في قيم العروض، وهي من جنس النقد(4) وإن قصد بذلك الفرار من الزكاة لم تسقط(5) لأَنه قصد به إسقاط حق غيره فلم تسقط(6).
__________
(1) فلم ينقطع الحول بإبدال أحدهما بالآخر، بل يضم كل منهما إلى الآخر، بخلاف نحو إبل بغنم أو بقر. أو أحدها بنقد أو بعرض.
(2) أي ويخرج عنه مما معه منهما عند تمام الحول، ويجوز من الآخر.
(3) يعني الخارج عن ملكه إجماعًا، وكذا أموال صيارف، تكرر الإبدال أولاً، وفاقًا، لئلا يفضي إلى سقوطها فيما ينمو، ووجوبها في غيره، والأصول تقتضي العكس.
(4) أي في ضم بعضها إلى بعض، فلا ينقطع الحول بإبدال بعضها ببعض.
(5) يعني الزكاة بذلك مطلقًا، ونص أحمد: إذا كان قبل الحول بنصف عام. وصحح ابن تميم تأثير ذلك بعد مضي أكثر الحول.
(6) أي الزكاة بذلك القصد، وبالياء. يعني حق غيره، عقوبة له بنقيض قصده، وقد عاقب الله تعالى الفارين من الصدقة فقال: { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ ا الْجَنَّةِ } الآيات، عاقبهم بذلك لفرارهم من الزكاة، ولئلا يكون ذريعة إلى إسقاطها جملة، لما جبلت عليه النفوس من الشح، قال الشيخ: قول أحمد في الاحتيال، ووجوبها معه كقول مالك، كما دلت عليه سورة (نون) وغيرها من الدلائل، وقال: لا يحل الاحتيال لإسقاط الزكاة، ولا غيرها من حقوق الله عز وجل.(5/162)
كالمطلق في مرض الموت(1) فإن ادعى عدم الفرار وثم قرينة عمل بها(2) وإلا فقوله(3) (وإن أبدله بـ)ـنصاب من (جنسه) كأربعين شاة بمثلها أو أكثر (بنى على حوله)(4) والزائد تبع للأَصل في حوله كنتاج(5) فلو أَبدل مائة شاة بمائتين، لزمه شاتان إذا حال حول المائة(6) وإن أَبدله بدون نصاب انقطع(7).
__________
(1) أي فرارًا من الإرث فإنها ترثه. ويأتي في الفرائض إن شاء الله تعالى.
(2) يعني بالقرينة، ورد قوله: لدلالة القرينة على كذبه، وذلك كمخاصمة مع ساعٍ جاء في أثناء الحول.
(3) أ ي وإن لم يكن ثم قرينة قبل قوله بلا يمين في عدم الفرار، لأنه الأصل، ولا يعلم إلا منه، ولو اتهم، وإذا مضى الحول وجبت في عين المال.
(4) وهذا مذهب مالك، وإن ظهر على عيب بعد وجوب الزكاة فله الرد، ولا تسقط عنه الزكاة، لاستقرارها بمضي الحول.
(5) وفاقًا، وقاسه الموفق وغيره على عرض تجارة يبيعه بنقد، أو يشتريه به، يبني بالاتفاق، وحكى النووي وغيره إجماع المسلمين على وجوب الزكاة فيما زاد على النصاب للأخبار.
(6) وإن باع مائتين بمائة زكى المائة.
(7) أي الحول لعدم وجود الشرط.(5/163)
(وتجب الزكاة في عين المال) الذي لو دفع زكاته منه أجزأت(1) كالذهب والفضة والبقر والغنم السائمة ونحوها(2) لقوله عليه السلام «في أربعين شاةً شاةٌ» «وفيما سقت السماءُ العشر» ونحو ذلك(3) و"في" للظرفية(4) وتعلقها بالمال كتعلق أَرش جناية برقبة الجاني(5) فللمالك إخراجها من غيره(6).
__________
(1) احترازًا مما دون خمس وعشرين من الإبل، فإنها لا تجب في عينها.
(2) كحبوب وثمار، بخلاف عرض التجارة، فتجب في ذمة المزكي، فعليه لكل حول زكاة، وما وجبت في عينه فليس عليه إن لم يزك حولين فأكثر إلا زكاة واحدة. قال في الإنصاف: بلا نزاع.
(3) مما سيأتي وغيره، ولقوله تعالى { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وهو مذهب جمهور العلماء، أبي حنيفة ومالك، وإحدى الروايتين عن الشافعي.
(4) فتدل على كون مدخولها ظرفًا لمتعلقها، ولأن الزكاة تختلف باختلاف أجناس المال وصفاته، حتى وجبت في الجيد والرديء، فكانت متعلقة بعينه.
(5) وكتعلق الدين بالتركة، لا في عين المال، كتعلق دين برهن ونحوه، فلا تصير الفقراء شركاء لرب النصاب، ولو كان المال غائبًا لم يقدر على الإخراج منه لم تلزمه، حتى يتمكن من الأداء.
(6) أي إخراج الزكاة من غير النصاب، بلا رضى الساعي وفاقًا، فله أن يستدين مثلاً من غير النصاب من جنسه ويخرج، كما لسيد الجاني فداؤه بغير ثمنه.(5/164)
والنماءُ بعد وجوبها له(1) وإن أَتلفه لزمه ما وجب فيه(2) وله التصرف فيه ببيع وغيره(3) فلذلك قال (ولها تعلق بالذمة) أي ذمة المزكي، لأَنه المطالب بها(4) (ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء)(5).
__________
(1) أي للمالك وفاقًا، كولد الجانية لا يتعلق به أرش الجناية.
(2) أ ي وإن أتلف المالك النصاب، بعد وجوب الزكاة، لزمه ما وجب في التالف، وهو قدر زكاته وفاقًا، لا قيمة النصاب، ولو باع النصاب، تعلقت بذمته، بغير خلاف، كما لو تلف.
(3) أي وللمالك التصرف في النصاب، ببيع ونحوه، ووطء أمة للتجارة، وغير ذلك من سائر التصرفات، وله إتلافه وفاقًا، ولا يرجع بائع بعد لزوم بيع في قدرها، إن قدر على إخراجها من غيره، فإن تعذر، فسخ في قدرها.
(4) وعنه: تجب في الذمة، وتتعلق بالنصاب، اختاره الخرقي وأبو الخطاب والشيخ وغيرهم.
وقال ابن عقيل: هو الأشبه بمذهبنا. فعلى المذهب لو لم يزك نصابًا حولين فأكثر لزمه زكاة واحدة، وعلى هذا القول يزكي لكل حول.
(5) وفاقًا للشافعي، لمفهوم «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» فإنه يدل على الوجوب بعد الحول مطلقًا، ولأنها حق للفقير، فلم يعتبر فيها إمكان الأداء، كدين الآدمي، ولأنه لو اشترط لم ينعقد الحول الثاني حتى يتمكن من الأداء، وهو ينعقد عقب الأول إجماعًا، واحتج القاضي وغيره بأن للساعي المطالبة، وفاقًا لمالك، ولا يكون إلا لحق سبق وجوبه.
قال الوزير: فهم مجمعون على أن المال إذا تلف بعد إمكان الأداء أن الزكاة لا تسقط.(5/165)
كسائر العبادات، فإن الصوم يجب على المريض والحائض(1) والصلاة تجب على المغمي عليه والنائم(2) فتجب في الدين والمال الغائب ونحوه كما تقدم(3) لكن لا يلزمه الإخراج قبل حصوله بيده(4) (ولا) يعتبر في وجوبها أيضًا (بقاءُ المال)(5) فلا تسقط بتلفه، فرط أو لم يفرط(6).
__________
(1) والعاجز عن أدائه، وكذا الزكاة عبادة، فلا يعتبر في وجوبها إمكان أدائها.
(2) أي فكما أن الصلاة تجب على المغمي عليه والنائم، فكذا الزكاة ليس من شرطها إمكان الأداء بل هو شرط للزوم الإخراج.
(3) في قوله: من مغصوب ومسروق. الخ. وتقدم كلام أهل العلم في ذلك.
(4) استدراك من قوله المتفرع عن قوله: ولا يعتبر الخ. يفيد أن إمكان الأداء شرط لوجوب الإخراج، لا لوجوب الزكاة، فيعتبر التمكن من الأداء، وفاقًا لمالك والشافعي، فلا يضمنها قبل التمكن، وظاهر الخرقي مطلقًا، واختاره في النصيحة والمغني والمستوعب وشيخ الإسلام، وذكره جماعة رواية.
(5) الذي وجبت فيه، ويتجه: بيده؛ لا نحو غائب لأن ما ليس بيده لا يلزمه أن يخرج زكاته قبل حصوله، وقال عثمان: أي ليس شرطًا في كل من وجوب الزكاة ولزوم إخراجها بخلاف سابقه.
(6) أي فلا تسقط زكاة النصاب الذي تلف بيده، لأنه عين تلزمه مؤونة تسليمه إلى مستحقه، فيضمنه بتلفه في يده، كعارية ونحوها. سواء فرط أو لم يفرط. وما لم يكن تحت يده تسقط زكاته، وعنه: تسقط إذا لم يفرط، فيعتبر التمكن من الأداء مطلقًا، واختار الشيخ وجمع: تسقط بتلفه إذا لم يفرط على كلا الروايتين أما لو أمكنه الأداء فلم يزك لم تسقط، كزكاة الفطر وكالحج. وقال ابن رجب: وجوب الزكاة عن الغائب إذا تلف قبل قبضه مخالف لكلام أحمد. وقال الموفق: والصحيح تسقط بتلف المال إذا لم يفرط، لأنها تجب على المواساة، فلا تجب مع عدم المال، وفقر من تجب عليه. وقال في الفروع: وكل دين سقط قبل قبضه لم يتعوض عنه سقطت زكاته وفاقًا.(5/166)
كدين الآدمي(1) إلا إذا تلف زرع أو ثمر بجائحة قبل حصاد وجذاذ(2) (والزكاة) إذا مات من وجبت عليه (كالدين في التركة)(3) لقوله عليه السلام «فدين الله أحق بالوفاء»(4) فإن وجبت، وعليه دين برهن، وضاق المال قدم(5).
وإلا تحاصَّا(6) ويقدم نذر معين، وأُضحية معينة(7).
__________
(1) أي كما لا يسقط دين الآدمي بتلف مال ونحوه.
(2) وكذا بعدهما قبل الوضع في الجرين ونحوه، لعدم استقرارها قبل ذلك، كما سقط الثمن إذا تلفت الثمرة بجائحة وأولى، وعبارة الموفق ومن تابعه: قيل الإحراز. وعبارة المجد: قبل جذه. قال الزركشي: إذ الوجوب منوط بالوضع في الجرين. قال في الفروع: لو نقص بالتلف عن نصاب زكى الباقي بقسطه وفاقًا.
(3) فلا تسقط بالموت وفاقًا، ولو لم يوص بها كالعشر، إلا عند أبي حنيفة: أنه لا يخرج إلا أن يوصى به، والجمهور على خلافه.
(4) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفي لفظ «فدين الله أحق أن يقضى» «اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء». فيخرجها وارث وغيره، لأنها حق واجب، فلا تسقط بالموت، كدين الآدمي، وهو لا يسقط بالموت.
(5) أي دين الآدمي من الرهن على الزكاة، فإن فضل شيء صرف في الزكاة.
(6) أي وإن لم يكن الدين برهن تحاصا، الزكاة ودين الآدمي، للتزاحم كديون الآدميين.
وفي شرح المنتهى: ومقتضى تعلقها بعين المال تقديمها على دين بلا رهن.
(7) أ ي ويقدم نذر معين، كهذه الشاة ونحو ذلك على الزكاة، وعلى الدين، وتقدم أضحية معينة على الدين، فلا يجوز بيعها فيه، سواء كان له وفاء أو لم يكن، لأنه تعين ذبحها، فلم تبع في دينه، كما لو كان حيًا.
وكذا لو أفلس حي وله أضحية معينة، أو نذر معين فيخرج، ثم دين برهن، ثم يتحاص بقية ديونه من زكاة وغيرها.(5/167)
باب زكاة بهيمة الأنعام(1)
وهي الإبل والبقر والغنم(2) وسميت بهيمة الأَنعام لأَنها لا تتكلم(3) (تجب) الزكاة (في إبل) بخاتي أو عراب(4).
__________
(1) بدأ بها اقتداء بالشارع صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولأن أكثر العرب إذ ذاك حول المدينة بادية أهل نعم؛ ودلت الأحاديث الصحيحة المستفيضة، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم على وجوبها، وكذلك كتب أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، وأجمع عليه المسلمون.
(2) وقال القاضي عياض: النعم الإبل خاصة. فإذا قيل «الأنعام» دخل فيها البقر والغنم. اهـ. والإبل بكسر الباء، وقد تسكن للتخفيف، ولا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة، والجمع آبال، والبقر اسم جنس، الواحدة بقرة للذكر والأنثى، ويقال الوحدة باقورة، والبقور والتبقير والبقرات كلها بمعنى البقر، والغنم اسم جنس مؤنثة، لا واحد لها من لفظها، يطلق على الذكور والإناث.
(3) وتقدم أنه لإبهام صوتها.
(4) وبدأ بها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين فرض زكاة الأنعام، وبالصديق في كتابه لأنس، ولأنها أعظم النعم قيمة وأجسامًا، وأكثر أموال العرب وأنفسها { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } والبخاتي جمع بختي، وهو المتولد بين العربي والعجمي، منسوب إلى بختنصر، وهي إبل غلاظ ذات سنامين، والعراب جمع عربي، إبل جرد ملس، حسان الألوان، وإنما كانت سواء لأن
اسم الإبل يتناولهما، واختلافهما في الصنف لا يخرجهما من النوع، قال الوزير وغيره: أجمعوا على أن البخاتي والعراب، والذكور والإناث في ذلك سواء.(5/168)
(وبقر) أهلية أو وحشية، ومنها الجواميس(1) (وغنم) ضأْن أو معز، أَهلية أو وحشية(2) (إذا كانت) لدَرًّ ونسل، لا لعمل(3) وكانت (سائمة) أي راعية للمباح(4).
__________
(1) واحدها جاموس، فارسي معرب، قال الأزهري: أنواع البقر منها الجواميس، وهي أنبل البقر، وأكثرها ألبانًا، وأعظمها أجسامًا، ومنها العراب، وهي جرد ملس حسان الألوان كريمة، ومنها الدرنانية، التي تنقل عليها الأحمال، قال ابن فارس: برق أظلافها وجلودها، ولها أسنمة، ولا نزاع في الجواميس، بخلاف البقر الوحشية، فالجمهور على أنه لا زكاة فيها كما سيأتي.
(2) هي غنم معروفة توجد في بعض المواضع، وليست هي الظباء، لأن الظباء لا زكاة فيها بغير خلاف.
(3) لأنها تكثر منافعها، فيطيب نماؤها بالكبر والنسل، فاحتملت المواساة، زاد في الفروع: وتسمين، لاحترازهم عن المتخذة للعمل اهـ. أي فلا تكون السائمة المستلزمة شرعًا لوجوب الزكاة، كما لو أسامها للتجارة لم يكن فيها إلا زكاة التجارة. فإن كانت لعمل فلا زكاة فيها، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال ابن تميم وغيره: لا زكاة في عوامل أكثر السنة ولو بأجرة، قال الحجاوي: فعلى هذا إن لم تكن تعمل أكثر السنة ففيها الزكاة، ولا شيء يخالفه.
(4) لا المملوك، سواء كان رعيها بنفسها أو بفعل غاصب لما ترعاه، فليست معلوفة، ولا عوامل، وإنما هي ترعى بغير كلفة، ولا مشقة، ولا خسارة، والسوم الرعي، ويقال: سامت الماشية تسوم سومًا. وأسمتها أي أخرجتها إلى المرعى، وسميت سائمة لأنها تَسِم الأرض أي تعلمها.(5/169)
(الحول أو أكثره)(1) لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنة لبون» رواه أحمد وأبو داود والنسائي(2) وفي حديث الصديق «وفي الغنم في سائمتها» إلى آخره(3).
__________
(1) نص عليه، لأن علف السوائم يقع عادة في السنة كثيرًا، ويندر وقوعه في جميعها، لعروض موانعه، من نحو مطر وثلج، فاعتباره في كل العام إجحاف بالفقراء، والاكتفاء به في بعضه إجحاف بالملاك، فالاعتبار بالأكثر تعديل بينهما؛ قال الشيخ: إذا كانت راعية أكثر العام، مثل أن يشتري لها ثلاثة أشهر أو أربعة، فإنه يزكيها؛ هذا أظهر قولي العلماء.
(2) وفي آخره أيضًا: «إذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها شيء، إلا أن يشاء ربها» فقيد بالسوم، وأبدل البعض من الكل، وأعاد المقيد مرة أخرى، وذلك أدل دليل على اشتراط السوم.
(3) أي تجب في سائمتها، فجعل الوجوب مختصًا بالسائمة، والإبل في معنى الغنم، وهذا الحديث في الصدقة، فرقه البخاري في عشرة مواضع من كتابه، بإسناد واحد، وهو أصل عظيم يعتمد، وذلك أنه لما استخلف أبو بكر كتبه لأنس، وكان عليه نقش الخاتم، ثلاثة أسطر، محمد رسول الله، محمد سطر، ورسول سطر، والاسم الشريف سطر. كتبه صلى الله عليه وسلم ولم يخرجه إلى العمال، حتى أخرجه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، قال أحمد: لا أعلم في الصدقة أحسن منه. اهـ. وعن علي «ليس في العوامل شيء» رواه أبو داود، والدارقطني، عن ابن عباس، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والمعنى في ذلك أن القصد منها الانتفاع بظهرها، لا الدر والنسل، أشبهت البغال والحمير.(5/170)
فلا تجب في معلوفة، ولا إذا اشترى لها ما تأْكله، أَو جمع لها من المباح ما تأْكله(1) (فيجب في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض) إجماعًا(2) وهي ما تم لها سنة(3) سميت بذلك لأن أمها قد حملت(4) والماخض الحامل، وليس كون أمها ماخضًا شرطًا(5) وإنما ذكر تعريفًا لها بغالب أحوالها(6).
__________
(1) لعدم السوم، وكذا لو اعتقلت بنفسها، أو علقها غاصب.
(2) نقل إجماع الأمة في ذلك خلائق، لما في الصحيح من حديث أنس أن أبا بكر لما وجهه إلى البحرين، كتب له: هذه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها ورسوله، وفيه «فإذا بلغت خمسًا وعشرين، إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض أنثى» وعند مالك في كتاب عمرو نحوه، وغيرهما من الصحابة، وما روى عن علي: في خمس وعشرين خمس شياه. فقال النووي وغيره: اتفقوا على ضعفه. وقال ابن المنذر: لا يصح ذلك عنه؛ وحكاه إجماعًا، والمخاض بفتح الميم، أي بنت ناقة مخاض.
(3) ودخلت في الثانية، بلا خلاف، والسنة واحدة السنين، نقصت منها واو أو هاء وأصلها سنهة وسنوة، وجمعها سنهات وسنوات، حذفت لامها، ونقلت حركتها إلى النون.
(4) أي في الغالب.
(5) لأنها إذا تم لها سنة أجزأت، ولو لم يحصل الوصف.
(6) وليس تسميتها بذلك شرطًا، فإن عدمها أجز ابن لبون ذكر إجماعًا، لحديث أنس «فإن لم يكن فيها بنت مخاض، ففها ابن لبون ذكر» رواه أبو داود.(5/171)
(و) يجب (فيما دونها) أي دون خمس وعشرين (في كل خمس شاة)(1) بصفة الإبل إن لم تكن معيبة(2) ففي خمس من الإبل كرام سمان شاة كريمة سمينة(3) فإن كانت الإبل معيبة، ففيها شاة صحيحة، تنقص قيمتها بقدر نقص الإبل(4) ولا يجزئُ بعير ولا بقرة، ولا نصفا شاتين(5)
__________
(1) إجماعًا، حكاه الموفق والوزير وغيرهما، لما في الصحيح من حديث أنس «في أربع وعشرين من الإبل فما دونها، في كل خمس شاة» ونحوه في الموطإ وغيره عن عمر وغيره، ولا يجب فيما دون خمس شيء إجماعًا، لما في الصحيحين «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» وقوله «ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل، فليس فيها صدقة». وقال الخطابي وغيره: حديث أبي سعيد هذا أصل في مقدارها، وإسقاطها فيما دونه، ويأتي، والشاة الواحدة من الغنم، تقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، وأصلها شاهة وشوهة، ولهذا إذا صغرت عادت الهاء، فقيل: شويهة والجمع شياه.
(2) أي تكون الشاة المخرجة عن الإبل كحال الإبل، في الجودة والرداءة والتوسط، فإن كانت الإبل صحيحة، أخرج شاة صحيحة، على قدر قيمة المال.
(3) نسبتها في الكرم والسمن نسبة الإبل المخرج عنها.
(4) فلو كانت الإبل مراضًا، وقومت لو كانت صحاحًا بمائة، وكانت الشاة فيها قيمتها خمسة، ثم قومت مراضًا بثمانين، فتجب فيها شاة قيمتها أربعة.
(5) ذكرًا كان البعير أو أنثى، نص عليه، ولو كان البعير أو البقرة أو نصفا الشاتين أكثر قيمة من الشاة، لأنها غير المنصوص عليه، وقيل تجزئ إن كانت قيمته قيمة شاة وسط فأكثر، بناء على إخراج القيمة، وفاقًا لأبي حنيفة لحديث أبي بن كعب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقًا، فمررت برجل، فلما جمع لي ماله، فلم أجد فيه إلا بنت مخاض، فقلت له: أد بنت مخاض، فإنها صدقتك. فقال: ذلك ما لا لبن فيه، ولا ظهر، وما كنت لأقرض الله ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية سمينة فخذها. فقلت: ما أنا بآخذ ما لم أومر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أحببت أن تعرض عليه ما عرضت علي فافعل. فخرج بها معي، حتى قدمنا عليه، فقال له «ذلك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه، وقبلناه منك»، فقال: ها هي ذه. فقبلها ودعا له بالبركة؛ رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح أو حسن، وزاد عبد الله أن الراوي أخذ منه زمن معاوية ثلاثين حقه، وقال النووي: فلو بذل الحامل ونحوها قبلت منه عند أهل العلم كافة، إلا داود، وقوله مزيف لا أصل له. وقال أيضًا: واجبها الشاة فإن أخرج بعيرًا أجزأ وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف، لأنه يجزئ عن خمس وعشرين، فعن ما دونها أولى، وحكى الموفق وغيره الإجماع على جواز سن أعلى من الفرض من جنسه، والبعير يقع على الذكر والأنثى، وجمعه أبعرة وأباعر، سمي به لأنه يبعر. والبعير من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس. وقال الجوهري: إنما يقال له بعير إذا أجذع.(5/172)
.
وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أَربع شياه، إجماعًا في الكل(1) (وفي ست وثلاثين بنت لبون)(2).
ما تم لها سنتان، لأَن أُمها قد وضعت غالبًا، فهي ذات لبن(3) (وفي ست وأربعين حقة)(4) ما تم لها ثلاث سنين، لأَنها استحقت أن يطرقها الفحل، وأَن يحمل عليها وتركب(5) (وفي إحدى وستين جذعة)(6) بالذال المعجمة، ما تم لها أَربع سنين، لأَنها تجذع إذا سقط سنها(7)
__________
(1) حكاه غير واحد، وقال الموفق وغيره: وهذا كله مجمع عليه، وثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) إجماعًا، لحديث أنس، وفيه «فإذا بلغت ستًا وثلاثين، إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى».
(3) وليس شرطًا، بل تعريفًا لها بغالب أحوالها كما تقدم.
(4) إجماعًا، لما في الصحيح من حديث أنس وفيه «فإذا بلغت ستًا وأربعين، إلى ستين، ففيها حقة طروقة الجمل» ولما في الموطإ وغيره.
(5) وتعريفها بذلك مجمع عليه، وقد دخلت في السنة الرابعة.
(6) إجماعًا، لما في الصحيح وغيره «فإذا بلغت إحدى وستين، إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة». وهو غاية كمالها، وهذا آخر أسنان الزكاة، وهو نهاية الحسن درًا ونسلاً وقوة، واعتبر في الجميع الأنوثة، لما فيها من رفق الدر والنسل.
(7) وقد دخلت في السنة الخامسة، وتجزئ عنها ثنية لها خمس سنين، والأسنان المذكورة للإبل قول أهل اللغة، واتفاق الأئمة. وقال الأزهري وغير واحد: إذا وضعت الناقة ولدًا في أول النتاج، فولدها ربع، والأنثى ربعة، وإن كان في آخره فهو هَبْع، والأنثى هَبَعة. فإذا فصل عن أمه فهو فصيل، فإذا استكمل الحول، ودخل في الثانية فهو ابن مخاض، والأنثى بنت مخاض، وواحدة المخاض خلفة، من غير جنس اسمها. وإنما سمي بذلك لأن أمها قد ضربها الفحل فحملت، ولحقت بالمخاض من الإبل وهي الحوامل، فلا يزال ابن مخاض السنة الثانية كلها. فإذا استكمل سنتين، ودخل في الثالثة فهو ابن لبون، والأنثى بنت لبون، فإذا مضت الثالثة، ودخل في الرابعة فهو حق، والأنثى حقة، سميت
بذلك لأنها استحقت أن تركب، ويحمل عليها، فإذا دخلت في الخامسة، فالذكر جذع، والأنثى جذعة. فإذا دخلت في السادسة، فالذكر ثني، والأنثى ثنية، فإذا دخلت في السابعة، فالذكر رباع، والأنثى رباعية، فإذا دخل في الثامنة، فالذكر سدس وسديس، لفظ الذكر والأنثى فيه سواء، فإذا دخل في التاسعة، فهو بازل، والأنثى بازل. فإذا دخل في العاشرة، فهو مخلف، ثم ليس له اسم، لكن يقال: مخلف عام، ومخلف عامين، وبازل عام، وبازل عامين، لطلوع بازله وهو نابه، ثم لا اسم له بعد ذلك.(5/173)
.
وهذا أعلى سن يجب في الزكاة(1) (وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان) إجماعًا(2) (فإذا زادت عن مائة وعشرين واحدة فثلاث بنات لبون)(3).
__________
(1) يعني الجذعة بالإجماع.
(2) حكاه الوزير والشيخ وغيرهما ممن يحكي إجماع أهل العلم، لما في الصحيح وغيره قال «فإذا بلغت ستًا وسبعين، إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين، إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان، طروقتا الجمل»، وروى مالك كتاب عمرو بن حزم، بنحو ما تقدم من حديث أنس، قال ابن المنذر وغيره: هذا مجمع عليه إلى عشرين ومائة.
(3) قال أبو عمر: وهو قول الزهري وأبي ثور وأبي عبيد، ومحمد بن إسحاق، وأئمة أهل الحجاز، وصححه الوزير؛ وفي المبدع: وهو المختار للعامة. قال الشيخ: وهو أولى عند العلماء، قال مالك: إذا زادت واحدة على عشرين ومائة، فالساعي بالخيار، بين أن يأخذ حقتين، أو ثلاث بنات لبون، وعند الكوفيين يستقبل الفريضة، وحجة الجمهور حديث أنس، وهو صحيح صريح، وما خالفه ضعيف أو دونه.(5/174)
لحديث الصدقات الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عند آل عمر بن الخطاب. رواه أبو داود والترمذي وحسنه(1) (ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقه)(2) ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأَربعين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي
__________
(1) ولفظه «فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون» وقال: والعمل على هذا الحديث، عند عامة الفقهاء. ورواه أبو داود عن سالم مرسلاً، وفيه «فإذا كانت مائة وإحدى وعشرين، ففيها ثلاث بنات لبون» ولظاهر كتاب أبي بكر الذي في الصحيح، ولفظه «فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة» ولكتاب عمرو بن حزم، الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن، فيه الفرائض والسنن، وذكر نحوًا مما تقدم. قال الحاكم: إسناده صحيح، وهو من قواعد الإسلام. وبهذه الفرائض اشتهرت كتب الصدقات، من رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه.
(2) لما في الصحيح، عن أنس وكتاب عمرو بن حزم وغيرهما، وعليه جماهير العلماء. قال الشيخ: الإمام أحمد وأهل الحديث متبعون في الزكاة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، آخذين بأوسط الأقوال الثلاثة، أو بأحسنها، فأخذوا في أوقاص الإبل بكتاب الصديق ومتابعيه، المتضمن أن في الإبل الكثيرة في أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف الكتاب الذي فيه استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين، فإنه متقدم على هذا، لأن استعمال عمرو بن حزم على نجران كان قبل موته بمدة، وأما كتاب الصديق فإنه كتبه ولم يخرجه إلى العمال، حتى أخرجه أبو بكر.(5/175)
مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وهكذا(1) فإذا بلغت مائتين، خير بين أربع حقاق، وخمس بنات لبون(2) ومن وجبت عليه بنت لبون مثلاً وعدمها، أو كانت معيبة، فله أن يعدل إلى بنت مخاض، ويدفع جبرانًا، أو إلى حقة ويأْخذه(3)
__________
(1) أي في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. ويقال فيما بين الفرضين – كما بين خمس وعشر -: وَقَص، ووَقْص. بفتح القاف وإسكانها. والمشهور في كتب اللغة فتحها، وفي كتب الفقهاء إسكانها. وقد يستعمل فيما لا زكاة فيه كأربع. وجمعه أوقاص، وقال القاضي: الشنق مثل الوقص، قال الأصمعي: يختص بأوقاص الإبل، والوقص هنا يختص بالبقر والغنم. وأخرج الدارقطني عن عبيد بن صخر، قال: عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عماله على اليمن «ليس في الأوقاص شيء» وفي السنن نحوه من حديث ابن عباس.
(2) لوجود مقتضى كل من الفرضين، فيخير للأخبار، وليس للساعي تكليفه غير ما وجد منهما وفاقًا؛ وإذا بلغت أربعمائة خير بين ثمان حقاق، أو عشر بنات لبون، وإن أخرج أربع حقاق وخمس بنات لبون جاز، وقال ابن رجب: بلا خلاف.
(3) أي الجبران إذا دفع الحقة عن بنت اللبون، فإن عدم انتقل إلى ثان وثالث من أسفل أو فوق؛ وهذا مذهب الشافعي. وعند أبي حنيفة إن شاء أخذ القيمة، وإن شاء أخذ أفضل منها وأعطي الزيادة. قال الشيخ: ومالك رحمه الله إنما روى كتاب عمرو بن حزم. وليس فيه ما في كتاب أبي بكر من الزيادة، وهذا شأن العلماء. اهـ. وكتاب أبي بكر في الصدقات قال فيه «ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده حقة. وعنده جذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين.
ومن بلغت عنده صدقة الحقة، ولسيت عنده إلا بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي شاتين، أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون، وعنده حقة، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهمًا أو شاتين» رواه البخاري وفيه «ومن بلغت صدقته بنت مخاض، ولسيت عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه، وليس معه شيء» وروى مالك كتاب عمرو بمثل هذا أو قريب منه، إلا ذكر البدل مع العشرين، وفي المغني وغيره: الحقّ والجذع والثني أولى بالإجزاء عن بنت مخاض من ابن اللبون، لزيادة سنه، ولا يجبر نقص بالذكورية في غير بنت مخاض، لظاهر الحديث، والمصدق بتخفيف الصاد الساعي، والمالك بشدها.(5/176)
.
وهو شاتان أو عشرون درهمًا، ويجزئُ شاة وعشرة دراهم(1).
ويتعين على ولي محجور عليه إخراج أَدون مجزئٍ(2) ولا دخل لجبران في غير إبل(3).
__________
(1) فلا يقال: إنه لا بد أن يكون المخرج إما شاتين أو عشرين درهمًا. بل يجوز النصف دراهم، والنصف شاة، وكذا في ثان وثالث، كما يجوز إخراج الكفارتين من جنس، قال الخطابي: يشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل الشاتين أو عشرين درهمًا تقديرًا في جبران الزيادة والنقصان، ولم يكل الأمر في ذلك إلى اجتهاد الساعي وغيره، لأن الساعي إنما يأخذ منهم الزكاة عند المياه غالبًا، وليس هناك حاكم، ولا مقوم يفصل بينهما إذا اختلفا، فضبطت بقيمة شرعية، قطعًا للتنازع وأخذ الشاتين أو دفعهما لا نزاع فيه، والخيرة لرب المال.
(2) مراعاة لحظ المحجور عليه، ولا يجوز له أن يعطي الفضل من مالهما.
(3) لأن النص إنما ورد فيها، فيقتصر عليه، والقياس ممتنع، لأن غيرها ليس في معناها، لأن الغنم لا تختلف فريضتها باختلاف سنها. وما بين الفريضتين في البقر يخالف ما بين الفرضين، فامتنع القياس.(5/177)
فصل في زكاة البقرة(1)
وهي مشتقة من: بقرت الشيءَ. إذا شققته(2) لأَنها تبقر الأرض بالحراثة(3).
__________
(1) والأصل فيها السنة والإجماع، ففي الصحيح عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها، إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها، وتطؤه بأخفافها» الحديث، وإذا ثبت الوعيد في هذا الحق، فالزكاة أولى. ونسخ الأصل لا يلزم منه نسخ الفحوى، على الأشهر، وقال الشيخ: قد ثبت عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ صدقة البقر، من كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة. رواه أحمد والترمذي. وكذلك في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كتبه لعمرو بن حزم. ورواه مالك في موطئه عن معاذ، وحكى أبو عبيد والموفق وغيرهما الإجماع عليه، وإنما لم يذكر زكاة البقر في حديث أبي بكر، والكتاب الذي عند آل عمر، لقلة البقر في الحجاز. فلما بعث معاذًا إلى اليمن، ذكر له حكم البقر، لوجودها عندهم، مع أن وجوب الزكاة في البقر مجمع عليه: قال الشيخ: والجواميس بمنزلة البقر؛ حكى ابن المنذر فيه الإجماع. ومن شرطها أن تكون سائمة، لما في حديث علي «ليس في العوامل صدقة» رواه أبو داود، وروي عن علي ومعاذ وجابر أنهم قالوا: لا صدقة في البقر العوامل. ولأن النماء معتبر في الزكاة، ولا نماء في غير السائمة.
(2) بفتح التاء فأصل التبقر التفتح والتوسع.
(3) أي تشقها فيوضع البذر ونحوه في تلك الشقوق، والبقر اسم جنس، يعم الذكر والأنثى والعراب والجواميس، وكذا البقرة، ودخلت عليها الهاء على أنها واحدة البقرات.(5/178)
(ويجب في ثلاثين من البقر) أَهلية كانت أَو وحشية(1)(تبيع أو تبيعة) لكل منهما سنة(2) ولا شيء فيما دون الثلاثين، لحديث معاذ حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن(3).
__________
(1) وكذا ما تولد بينهما. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا كانت الأمات. وقال ابن القيم: إنما يتصور في واحد أو اثنين، أو ثلاثة يكمل بها النصاب. فأما نصاب كامل متولد من الوحش والأهلي فلا وجود لذلك. وعن أحمد: لا زكاة في الوحشية وفاقًا، وقال الوزير وغيره: اتفقوا أنه لا زكاة فيها، إلا في إحدى الروايتين عن أحمد. وقال الشيخ: لا زكاة في بقر الوحش عند الجمهور. وقال الموفق وغيره: هو قول أكثر أهل العلم، وهو أصح، لأن اسم البقر عند الإطلاق، لا ينصرف إليها؛ وليست من بهيمة الأنعام،ولا تجزئ في الأضحية، ولا تجب في الظباء إجماعًا، قال في المبدع: اختيار الموفق أولى، لأن الواجبات لا تثبت احتياطًا، وصححه الشارح، لأنها تفارق البقر الوحشية صورة وحكمًا، والإيجاب من الشرع ولم يرد، ولا يصح القياس، لوجود الفارق.
(2) ودخل في الثانية، وهو جذع البقر، وسمي تبيعًا لأنه يتبع أمه في المسرح، والجمع أتبعة وتبائع، وهو الذي استوى قرناه، قد حاذى قرنه أذنه غالبًا، وقال القاضي: هو المفطوم من أمه، فهو يتبعها ويقوى على ذلك.
(3) سنة عشر من الهجرة، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمن، أن لا آخذ من البقر شيئًا، حتى تبلغ ثلاثين. رواه البيهقي وغيره، وللدارقطني والبزار عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا أو تبيعة. ولأنه صلى الله عليه وسلم أوجب في الثلاثين؛ وأجمع المسلمون عليه، حكاه ابن المنذر والوزير وغيرهما، والأصل عدم الوجوب فيما دونها، فليس فيما دونها شيء؛ وهو قول جمهور العلماء، إلا ما حكي عن ابن
المسيب والزهري لعدلها بالإبل. وليس فيما حكي عنهما نص ولا إجماع ولا قول صاحب، بل النص دال على خلافه.(5/179)
(و) يجب (في أربعين مسنة) لها سنتان(1) ولا يجزئُ مسن، ولا تبيعان(2) (ثم) يجب (في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة)(3) فإذا بلغت ما يتفق فيه الفرضان كمائة وعشرين خير(4).
__________
(1) إجماعًا، لحديث معاذ: وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة. ومن كل أربعين مسنة، رواه الخمسة، وحسنه الترمذي. وصححه النسائي وابن حبان والحاكم، قال ابن عبد البر: هو حديث متصل ثابت. ولا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ، وأنه النصاب المجمع عليه، وروي من حديث علي مرفوعًا، وابن مسعود، ويجزئ إخراج أنثى أعلى منها بدلها، والمسنة هي التي قد صارت ثنية سميت مسنة لزيادة سنها، ويقال لها ثنية، وهي التي ألقت سنًا غالبًا، وتجذع البقرة في الثانية، وتثني في الثالثة، ولا فرض فيها غير هذين السنين، ثم هو رباع في الرابعة، وسدس في الخامسة، ثم ضالع في السادسة، وهو أقصى أسنانه، يقال: ضالع سنة، وضالع سنتين فما زاد.
(2) إذا كانت ذكورًا وإناثًا، لعدم إجزاء الذكر في الزكاة غير التبيع في ثلاثين بقرة، وابن اللبون، أو ذكر أعلى منه مكان بنت مخاض إذا عدمها، لأن الأنثى أفضل، لما فيها من الدر والنسل، وقد نص الشارع على اعتبارها، وكالأربعين من البقر. وفي بعض النسخ: وفي ستين تبيعان.
(3) لخبر معاذ رضي الله عنه عند الخمسة، ورواية أحمد الآتية، ولا نزاع في ذلك يعتد به.
(4) أي بين أن يخرج أربعة أتبعة، أو ثلاث مسنات وفاقًا، للخبر، وكإبل ولاتفاق الفرضين.(5/180)
لحديث معاذ، رواه أحمد(1) (ويجزئ الذكر هنا) وهو التبيع في الثلاثين من البقر، لورود النص به(2) (و) يجزئُ (ابن لبون) وحق وجذع (مكان بنت مخاض) عند عدمها(3) (و) يجزئ الذكر (إذا كان النصاب كله ذكورًا) سواء كان من إبل أو بقر أو غنم(4) لأن الزكاة مواساة، فلا يكلفها من غير ماله(5).
__________
(1) من حديث يحيى بن الحكم، عن معاذ: أمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعًا، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع، قال: وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك سنًا إلا أن يبلغ مُسِنّةً أو جذعًا، وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها.
(2) وهو قوله صلى الله عليه وسلم «من كل ثلاثين تبيع أو تبيعة».
(3) لنص الشارع، ولأنه يمتنع من صغار السباع، ويرعى الشجر بنفسه، ويرد الماء، لكن ليس بأصل، لكونه لا يجزئ مع وجودها، بخلاف التبيع فيجزئ في الثلاثين، وما تكرر منها، وأما الأربعون وما تكرر منها فلا يجزئ إلا الإناث للنص. وإن شاء أخرج مكان الذكور إناثًا لورود النص بها، فإذا بلغت مائة وعشرين، خير المالك بين إخراج ثلاث مسنات أو أربعة أتباع.
(4) باتفاق الأئمة، ومفهومه أنه لو كان أكثر النصاب ذكورًا، لم يجز له أن يخرج ذكرًا، وهو كذلك، صرح به في الإقناع وغيره، وهو مذهب مالك والشافعي؛ وقال الشيخ: وهو مذهب أحمد وجماعة من العلماء. اهـ. لأن الأنثى أفضل، لما فيها من الدر والنسل. وقد نص الشارع على اعتبارها في الإبل، وفي الأربعين من البقر غير التبيع.
(5) وفي كتاب الصديق «إن كانت عنده، فإن لم تكن عنده» الخ وتقدم ولقوله تعالى { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } .(5/181)
فصل في زكاة الغنم(1)
(ويجب في أربعين من الغنم) ضأْنًا كانت أو معزًا، أَهلية أو وحشية (شاة)(2) جذع ضأْن أو ثني معز(3).
__________
(1) سميت بذلك لأنه ليس لها آلة الدفاع، فكانت غنيمة لكل طالب، والأصل في وجوبها السنة والإجماع. ففي الصحيح وغيره عن أنس أن أبا بكر كتب له: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها ورسوله. إلى أن قال «وفي صدقة الغنم – في سائمتها – إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة ففيها شاتان؛ فإذا زادت على مائتين ففيها ثلاث شياه. فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة». قال الشيخ: وهذا متفق عليه في صدقة الغنم، عند أهل العلم. والضأن والمعز سواء، والسوم شرط في الزكاة، إلا عند مالك وتقدم.
(2) إجماعًا في الأهلية، وأما الوحشية فتقدم أن أحمد انفرد بوجوبها فيها. وكذا ما تولد بينهما أي ففية الزكاة، ومذهب أبي حنيفة ومالك: إن كانت الأمات أهلية. وتقدم أنه لا زكاة في الوحشية اتفاقًا.
(3) عند الجمهور، لحديث سريد بن غفلة، قال: أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن والثنية من المعز، ولأنهما يجزيان في الأضحية، فكذا هنا. وجذع الضأن ما تم له ستة أشهر عند الأكثر؛ والضأن مهموز، ويجوز تخفيفه بالإسكان. وهو جمع، واحده ضائن، كراكب وركب، ويقال في الجمع أيضًا ضأن، كحارس وحرس، ويجمع أيضًا على ضئين، وهو فعيل بفتح أوله، والأنثى ضائنة، بهمزة بعد الألف ثم نون، وجمعها ضوائن وثني المعز ما تم له سنة، والمعز اسم جنس، الواحد ماعز، والأنثى ماعزة، والمعزى والأمعوز بضم الهمزة والمعيز بفتح الميم بمعنى المعز.(5/182)
ولا شيء فيما دون الأربعين(1) (وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان) إجماعًا(2) (وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه(3) ثم ) تستقر الفريضة (في كل مائة شاة)(4) ففي خمسمائة خمس شياه، وفي ستمائة ست شياه، وهكذا(5).
__________
(1) إجماعًا حكاه الوزير وغيره، لحديث أبي بكر في الصحيح وغيره «فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فلا شيء فيها إلا أن يشاء ربها».
(2) حكاه غير واحد، لحديث أبي بكر وغيره. وقال الوزير وغيره: أجمعوا على أن أول النصاب في الغنم أربعين فيها شاة، وأنه لا شيء في زيادتها إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة وجب فيها شاتان.
(3) إجماعًا، إلى أربعمائة ففيها أربع شياه وفاقًا؛ وحكى الوزير الإجماع على أنها إذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة؛ فإذا بلغت أربعمائة ففيها أربع شياه. ثم في كل مائة شاة. والضأن والمعز سواء.
(4) وفاقًا، فعلى هذا لا يجب شيء إلى أربعمائة، فيجب أربع شياه. قال الشيخ: وهو أصح الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي وجمهور الأصحاب، لحديث أبي بكر، والكتاب الذي عند آل عمر وغيرهما.
(5) ففي سبعمائة سبع شياه، وثمانمائة ثمان شياه، وكلما زاد في كل مائة شاة. لما تقدم في الصحيح وغيره، وفي كتابه في الصدقات الذي عمل به أبو بكر بعده حتى توفي. وعمر حتى توف يرضي الله عنهما. وفيه «وفي الغنم من أربعين شاة شاة، إلى عشرين ومائة. فإذا زادت شاة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإذا زادت بعد، فليس فيها شيء حتى تبلغ أربعمائة. فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة» رواه الخمسة إلا النسائي.(5/183)
ولا تؤخذ هرمة ولا معيبة لا يضحى بها، إلا إن كان الكل كذلك(1) ولا حامل، ولا الرُّبى التي تربي ولدها(2) ولا طروقة الفحل(3).
__________
(1) أي هرمات أو معيبات بذهاب عضو أو غيره، فيجزئ منه، لأن الزكاة مواساة، فلا يكلفها من غير ماله؛ وإن لم يكن الكل كذلك فلا، لحديث أبي بكر في الصحيح وغيره؛ قال «ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس، إلا أن يشاء المصدق» قال الشيخ: وعليه جماعة فقهاء الأمصار، لأن المأخوذ في الصدقات العدل، كما قال عمر: وذلك عدل بين غذاء المال وخياره. وتقدم. وقال تعالى { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } ولقوله عليه الصلاة والسلام «ولكن من أوسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خياره، ولم يأمركم بشراره» والهرمة الشاة الشارف، وهي كبيرة السن، وذات عوار بفتح العين التي بها عيب، وبالضم التي ذهبت عينها. ولا يجزئ ذلك في الصدقة.
(2) اتفاقًا، وقيل هي التي في البيت لأجل اللبن. وقال أهل اللغة: هي قريبة العهد بالولادة، قال الأزهري: يقال هي في ربابها بكسر الراء، ما بينها وبين خمس عشرة ليلة. وقال الأموي: هي ما بينها وبين شهرين. قال أبو زيد: الربى من المعز والضأن، وربما جاء في الإبل بضم الراء، على وزن فعلى، وجمعها رباب، والحامل هي التي في بطنها ولدها. وعبر بعضهم بالماخض. قال عمر: لا تأخذ الربى ولا الماخض وهي التي قد حان ولادها.
(3) أي التي طرقها لأنها تحمل غالبًا.(5/184)
ولا كريمة، ولا أَكولة(1) إلا أن يشاء ربها(2) وتؤخذ مريضة من مراض(3) وصغيرة من صغار غنم(4) لا إبل وبقر، فلا يجزئُ فصلان وعجاجيل(5).
__________
(1) والكريمة واحدة الكرائم، وهي النفيسة الجامعة للكمال الممكن في حقها، من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف، وهي التي تتعلق بها نفس صاحبها، وضدها الئيمة. والأكولة بفتح الهمزة وضم الكاف: السمينة المعدة للأكل، أو كثيرة الأكل، فتكون سمينة، وضدها الهزيلة؛ وفاقًا، لقوله صلى الله عليه وسلم «إياك وكرائم أموالهم» متفق عليه، وفيه إشارة إلى أن أخذها ظلم، ولا يؤخذ فحل الضراب اتفاقًا.
(2) أي يشاء إخراج الربى وهي الحامل، أو طروقة الفحل، أو الكريمة أو الأكولة، فيجوز وفاقًا، لأن المنع لحقه، فله إسقاطه؛ ولقبوله صلى الله عليه وسلم سنًا أعلى، وقوله «فإن تطوعت بخير آجرك الله».
(3) أي من نصاب كله مراض، وتكون وسطًا في القيمة. لأن الزكاة وجبت مواساة، وتكليف الصحيحة عن المراض إخلال بها؛ ولما تقدم من قوله «ولكن من أوسط أموالكم»، وقال الوزير: أجمعوا على أنه يؤخذ من المراض بصفتها.
(4) وهي ما دون ستة أشهر من الضأن؛ وستة من المعز، قال الشافعي: إنما يؤخذ من الصغار صغيرة من الغنم خاصة.
(5) بحيث لو أبدل كبارًا بصغارٍ في أثناء الحول، أو نتجت الكبار، ثم ماتت قبل الحول، وقال شيخ الإسلام: قيل يأخذ منها. وقيل يشتري كبارًا، ولم يفرق، والفقهاء استدلوا بقول أبي بكر: لو منعنوني عناقًا. ولا يدل أنهم دفعوها، ولم ينقل، ولقوله في بعض روايات الحديث «عقالاً»، وإنما خاطبهم
بذلك من باب التحدي، وأجمعوا أنها لا تؤخذ العناق في الكبار، لا من صغار وكبار؛ لقول عمر: اعتد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم. قال الموفق: وهو مذهب علي، ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة، فكان إجماعًا.(5/185)
وإن اجتمع صغار وكبار، وصحاح ومعيبات، وذكور وإناث أُخذت أُنثى صحيحة كبيرة، على قدر قيمة المالين(1) وإن كان النصاب نوعين، كبخاتي وعراب، وبقر وجواميس، وضأْن ومعز، أُخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين(2)
__________
(1) أي الصغار والكبار وما عطف عليها، وفاقًا، فيقوم كبارًا ويعرف الفرض، ثم صغارًا كذلك، ثم يؤخذ بالقسط، وكذا صحاح ومعيبات، أو ذكور وإناث؛ فلو كانت قيمة المخرج إذا كان النصاب كبارًا صحاحًا عشرين، وقيمته إذا كان صغارًا مراضًا عشرة، وكان النصف من هذا والنصف من هذا، وجب إخراج صحيحة كبيرة قيمتها خمسة عشر. لا مريضة لقوله { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } ولقوله صلى الله عليه وسلم «ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، إلا أن يشاء المصدق».
(2) قال شيخ الإسلام: بلا خلاف بين الفقهاء. وقال الموفق وغيره: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في ضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض. وحكاه ابن المنذر ثم قال: إذا ثبت هذا فإنه يخرج في الزكاة من أي الأنواع أحب، سواء دعت الحاجة إلى ذلك أو لا. والأولى أن يخرج من النوع، ومن أخرج عن النصاب من غير نوعه ما ليس في ماله جاز، إن لم تنقص قيمته عن الواجب، ويجزئ من أعلى فرض من جنسه وفاقًا، لحديث كعب وغيره. لا القيمة في سائمة أو غيرها، وفاقًا لمالك والشافعي، لقوله «خذ الحب من الحب، والإبل من الإبل، والبقر من البقر، والغنم من الغنم» رواه أبو داود. ولغيره من الأحاديث، والجيرانات المقدرة في خبر الصديق وغيره، تدل على أن القيمة لا تشرع.
وقال الشيخ وغيره: صدقة المال تجب بسبب المال، من جنس ما أعطاه الله. وجوزه أبو حنيفة وسفيان والبخاري وغيرهم. وقال: باب العرض في الزكاة. أي جواز أخذه، قال ابن رشيد: وافق البخاري الحنفية، مع كثرة مخالفته لهم؛ لكن قاده إلى ذلك الدليل. وحكى الشيخ عن الناس فيه ثلاثة أقوال: الإجزاء بكل حال، كما قاله أبو حنيفة، وعدم الإجزاء كما قاله مالك والشافعي، والقول الثالث الإجزاء عند الحاجة، مثل ما يجب عليه شاة في زكاة الإبل، وليست عنده، ومن يبيع عنبه ورطبه قبل اليبس؛ قال: وهذا المنصوص عن أحمد صريحًا، وهو أعدل الأقوال. فإن الأدلة الموجبة للعين نصًا وقياسًا كسائر أدلة الوجوب. ومعلوم أن مصلحة وجوب العين، قد يعارضها أحيانًا في القيمة من المصلحة الراجحة، وفي العين من المشقة المنتفية شرعًا.
وقال أيضًا: يجوز إخراج القيمة في الزكاة، للعدول إلى الحاجة والمصلحة، مثل أن يبيع ثمرة بستانه؛ إذ قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك؛ ومثل أن يجب عليه شاة وليست عنده، أو يكون المستحقون طلبوا القيمة لكونها أنفع لهم. اهـ. ولقول معاذ لأهل اليمن حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لأخذ زكاتهم: ائتوني بعرض ثياب، خميص أو لبيس في الصدقة، مكان الشعير والذرة، أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. ذكره البخاري تعليقًا بصيغة الجزم. ولما تقدم في الصحيح وغيره «في خمس وعشرين بنت مخاض، فإن لم تكن فابن لبون». وهذا نص في دفع القيمة وغير ذلك. ولأنه مال زكوي فجازت قيمته، كعروض التجارة، ولأن القيمة مال، فأشبهت المنصوص عليه، ولأنه لما جاز العدول – بأن يخرج زكاة غنمه غيرها بالإجماع – جاز العدول من جنس إلى جنس، ولأن الخليط يرجع على شريكه بالقيمة وغير ذلك، ومقصود الزكاة سد فاقة الفقراء، ولا يختلف ذلك باختلاف صور الأموال إذا حصلت القيمة، قال في الشرح: هذا فيما عدا صدقة الفطر.(5/186)
.
......................................................
(والخلطة) بضم الخاء أَي الشركة(1) (تصير المالين) المختلطين (كـ)ـالمال (الواحد)(2) إن كان نصابًا من ماشية(3) والخليطان من أهل وجوبها(4) سواء كانت خلطة أعيان بكونه مشاعًا(5).
__________
(1) ومثل العشرة وزنًا ومعنى، جائزة في الجملة، وهي ضربان، أن يكون المال مشتركًا، مشاعًا بينهما، أو أن يكون بينهما ماشية متميزة، ولا اشتراك بينهما، لكنهما متجاوران مختلطان، على ما يأتي، فالأولى خلطة اشتراك وأعيان، والثانية خلطة أوصاف وجوار؛ وكل واحدة تؤثر في الزكاة، إيجابًا وإسقاطًا، وتغليظًا وتخفيفًا، وحكى أبو حامد في تعليقه إجماع المسلمين على أنه لا فرق بين الخلطتين في الإيجاب، وسواء كان تأثيرها في إيجاب الزكاة أو إسقاطها، أو في تغيير الفرض.
(2) في المؤن، فوجب أن تكون زكاته زكاة المال الواحد، لأنه لو لم يكن كذلك لما نهى الشارع عن جميع المتفرق، وعكسه، خشية الصدقة، وهو مذهب مالك والشافعي.
(3) حولاً كاملاً، فلا تؤثر فيما دونه إجماعًا، وأما سائر المال فلا تجب فيه، لأن ما زاد بحسابه فلا تأثير، وقيل: تؤثر مطلقًا، وخصها الأكثر بخلطة الأعيان.
(4) أي الزكاة، فلو كان أحدهما ليس من أهل الزكاة ككافر أو مكاتب أو مستغرق فوجوده كعدمه.
(5) يعني المال بين اثنين فأكثر، سميت خلطة أعيان لأن أعيانها مشتركة، وقال الشيخ: الخلطاء في الماشية إذا كان مال كل منهما متميزًا عن الآخر. فإن لم يكن متميزًا فهما شريكان.(5/187)
بأَن يكون لكل نصف أو نحوه(1) أو خلطة أوصاف بأن تميز ما لكل(2) واشتركا في «مراح» بضم الميم وهو المبيت والمأْوى(3)، و«مسرح» وهو ما تجتمع فيه لتذهب للمرعى(4) و«محلب» وهو موضع الحلب(5).
__________
(1) كثلث أو ربع، بأن ملكوه بنحو إرث أو شراء، واستمر بلا قسمة.
(2) أي من الخليطين أو الخلطاء عن الآخر، كأن يكون لأحدهما شاة، وللآخر تسع وثلاثون، أو لأربعين أربعون، أو لثلاثة مائة وعشرون، كما يأتي وسميت بذلك لأن نصيب كل واحد موصوف بصفة تميزه عن الآخر.
(3) أي يشترط في خلطة الأوصاف اشتراكهما في مراح، قال الجوهري المراح بالضم حيث تأوي إليه الإبل والغنم بالليل، وبالفتح الموضع الذي تروح منه، والمبيت من مدر أو شعر أو لا، وهو الذي تبيت فيه، وتأوي إليه، والمأوى بفتح الميم والواو، لأن اسم الزمان والمكان من معتل اللام مفتوح العين مطلقًا.
(4) جزم به في التلخيص والرعاية وغيرهما، وقدمه في الفروع وغيرها، قال الزركشي: وهو أولى، رفعًا للتكرار. وهو الصحيح، وقال ابن حامد: المرعى والمسرح شرط واحد، وإنما ذكر أحمد المسرح، ليكون فيه راع واحد، وقال الشارح: هو المرعى، تبيت وترعى فيه الماشية.
(5) لا اتحاد الإناء، فلو حلب هذا ماشيته في أهله، والآخر في موضع آخر فلا خلطة، و«محلب» بفتح الميم واللام، من باب نصر، وأما بكسر الميم فالإناء يحلب فيه، وهو الحلاب أيضًا، والمكان هو المراد هنا، لا الإناء كما وضحه، قال الموفق: ليس المراد خلط اللبن في إناء واحد، لأن هذا ليس بمرفق، بل مشقة، لما فيه من الحاجة إلى قسمة اللبن.(5/188)
و«فحل» بأَن لا يختص بطرق أَحد المالين(1) و«مرعى» وهو موضع الرعي ووقته(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة(3)
__________
(1) المخلوطين إن اتحد النوع، قال الموفق: معنى كون الفحل واحدًا أن لا يكون فحولة أحد المالين لا تطرق غيره. اهـ. فإذا اختلف كالضأن والمعز والجاموس والبقر لم يضر اختلاف الفحل للضرورة، وكما لو كان مال أحدهما ذكورًا والآخر إناثًا ولا يعتبر أن يكون مملوكًا لهما، والفحل هو المعد للضراب.
(2) نص عليه، لحديث سعد بن أبي وقاص سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «الخليطان ما اجتمعا على الحوض والفحل والراعي» رواه الدارقطني وغيره. وأبو عبيد، وفيه بدل الراعي المرعى، وضعفه أحمد؛ والرعي يلزم من اتحاده اتحاد موضعه، ففيه استعمال المشترك في معنيين، وهو سائغ عند جمهور العلماء؛ وقال الشيخ: تعتبر بثلاثة شروط، وقيل بشرطين، وقيل بشرط، وهو الدلو والحوض والمراح والمبيت والراعي والفحل؛ وقيل بالراعي وحده؛ فإن به يجتمعون في غير ذلك. ووجه في الفروع العرف في ذلك، ولا تعتبر النية في الخلطة إجماعًا، بل تؤثر الخلطة ولو وقعت اتفاقًا، أو بفعل راع.
(3) خطاب للمالك من جهة؛ وللساعي من جهة، أمر كل واحد أن لا يحدث شيئًا من الجمع والتفريق، خشية الصدقة؛ فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة، فيجمع أو يفرق لتقل. والساعي يخشى أن تقل الصدقة، فيجمع أو يفرق لتكثر الصدقة، كما لو كان لثلاثة مائة وعشرون شاة، وجمعوها، أو كان لهم تسعون ففرقوها. وعكسه الساعي، ومقتضاه أن للخلطة تأثيرًا في تخفيف المؤن، فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم.(5/189)
وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية»(1) رواه الترمذي وغيره(2) فلو كان لإنسان شاة، ولآخر تسعة وثلاثون، أو لأربعين رجلاً أربعون شاة، لكل واحد شاة، واشتركا حولاً تامًا، فعليهم شاة على حسب ملكهم(3) وإذا كان لثلاثة مائة وعشرون شاة، لكل واحد أربعون، ولم يثبت لأَحدهم حكم الإنفراد في شيء من الحول، فعلى الجميع شاة أثلاثًا(4)
__________
(1) أي العدالة بمقتضى الحصص، فشمل أنواع المشاركة، والمراد هنا خلطة الأوصاف، كأن يكون بينهما أربعون لكل واحد عشرون، فيأخذ المصدق من أحدهما شاة، فيرجع المأخوذ من ماله على خليطه بنصف شاة، وقاله الشيخ وغيره، ويجزئ إخراج خليط بدون إذن خليطه ولو مع حضوره، والاحتياط بإذنه.
(2) عن سالم عن أبيه، ورواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الترمذ، وقال البخاري: أرجو أن يكون محفوظًا. وله في صحيحه من حديث أنس ونحوه، وللدارقطني وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة» والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي كما تقدم في الخبر، وبقية الشروط في معنى هذه الثلاثة، ولأن هذه الشروط تؤثر في الرفق بالخلطاء، فوجب اعتبارها كالراعي والفحل، وخلاف الحنفية لهذا النص غير مسموع، وإن اختل شرط من الشروط بطل حكمها، لفوات شرطها؛ وصار وجودها كالعدم، فيزكى كل مال على حدته إن بلغ نصابًا.
(3) على الأول ربع عشر شاة، وباقيها على الآخر، وعلى كل واحد من الأربعين ربع عشر شاة، وهكذا حكم ما زاد أو نقص من نصيب كل من الخلطاء.
(4) وللساعي أخذها من أي أموالهم شاء، ويرجع مأخوذ منه على خليطه بقيمة القسط الذي قابل ماله من المخرج يوم الأخذ، ويرجع بقسط زائد أخذه ساع بقول بعض أهل العلم، قال ابن تميم: إذا أخذ الساعي فوق الواجب بتأويل، أو أخذ القيمة أجزأت في الأصح، ورجع عليه بذلك. قال في الفروع: وإطلاق الأصحاب يقتضي ذلك. وقال الشيخ: والإجزاء هو الصواب. وهل يرجع على شريكه بما أخذ الساعي ظلمًا؟ حكى شيخ الإسلام قولين، واستظهر أنه يرجع على شريكه بما أخذ منه.
وقال: من صودر على مال فأكره أقاربه أو شركاؤه فلهم الرجوع، لأنهم ظلموا لأجله ولأجل ماله. وقال: لأنه يلزم العدل في هذا الظلم، ولأن النفوس ترضى بالتخصص، ومن لم يقل به لزمه من الفساد، ما لا يعلمه إلا رب العباد. واحتج بقضية ابن اللتبية، حتى قال – فيمن ألزمهم الإمام بزكاة، وفيهم من ليس له نصاب – إن كان المطلوب هو مقدار ما فرضه الله على من تجب عليه الزكاة اختصت بأدائه، وإن كان على سبيل الظلم اشترك فيه الجميع بحسب أموالهم، وإن ثبت حكم الإنفراد لهما أو لأحدهما في بعض الحول، قدم الإنفراد عليها، لأن الأصل المجمع عليه، فيزكي كل واحد ماله على حدته، وفي أثنائه مثل أن يكون لرجل نصاب ولآخر دونه، ثم اختلطا في أثناء الحول، فإذا تم حول الأول فعليه شاة، فإذا تم حول الثاني من الخلطة، فعليه زكاة الخلطة ثلث شاة.(5/190)
.
ولا أثر لخلطة من ليس من أهل الزكاة(1) ولا فيما دون نصاب(2) ولا لخلطة مغصوب(3).
وإذا كانت سائمة الرجل متفرقة ، فوق مسافة قصر فلكل محل حكمه(4) ولا أَثر للخلطة ولا للتفريق في غير ماشية(5) ويحرمان فرارًا لما تقدم(6).
__________
(1) وفاقًا كالكافر والمكاتب، والمدين دينًا يستغرق ما بيده، لأنه لا زكاة في ماله، فلم يكمل به النصاب.
(2) إجماعًا، لأنه لا شيء فيه، لو كان لواحد، فبين الشركاء من باب أولى، وكذا إن كان بينهما مسافة، اختاره الموفق وغيره.
(3) لإلغاء تصرف الغاصب في المغصوب.
(4) أي بنفسه، يعتبر على حِدَتِهِ، إن كان نصابًا وجبت فيه الزكاة، وإلا فلا، نص عليه، لكن قال ابن المنذر: لا أعلم هذا القول عن غير أحمد. وعنه: يضم مال الواحد بعضه إلى بعض مطلقًا، وفاقًا للعموم. قال في المبدع: هي قول أكثر العلماء، واختيار أبي الخطاب، وصححه في المغني والشرح. فإن كان بينهما دون المسافة فهي كالمجتمع، يضم بعضها إلى بعض، ولم تؤثر التفرقة إجماعًا. وأما في غير الماشية، فلا تؤثر تفرقة البلدان قطعًا.
(5) أي من النقود، وعروض التجارة، والثمار، ونحو ذلك، وحكي إجماعًا، لأن الخبر لا يمكن حمله على غير السائمة، لوروده فيها؛ ولأن الزكاة تقل بجمعها تارة، وتكثر أخرى، لما فيها من الوقص فتؤثر نفعًا تارة، وضررًا أخرى، وسائر الأموال، لا وقص فيها، فلو أثرت لأثرت ضررًا محضًا برب المال، فإذا اشترك اثنان في شيء من ذلك، لم تؤثر الشركة، فإذا بلغت حصة كل واحد نصابًا زكاه، وإلا فلا. وعلم مما تقدم اختصاص زكاة السائمة بالخلطة، والجبران في الإبل والوقص، وتأثير التفرق في مسافة القصر على القول المرجوح.
(6) أي يحرم التفريق والخلطة فرارًا من الزكاة، لما تقدم من النهي عنه، في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة».(5/191)
باب زكاة الحبوب والثمار(1)
قال الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ } (2) والزكاة تسمى نفقة(3) (تجب) الزكاة (في الحبوب كلها) كالحنطة والشعير والأَرز والدخن(4).
__________
(1) والعسل والمعدن والركاز وغير ذلك، والأصل في زكاة الحبوب والثمار الكتاب والسنة والإجماع.
(2) من الثمار والحبوب التي أنبتناها لكم؛ قال البغوي وغيره: هذا أمر بإخراج العشور من الثمار والحبوب. وقال تعالى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال ابن عباس: حقه الزكاة المفروضة. وقد استفاضت السنة بذلك، ويأتي بعضه، وأجمع المسلمون على وجوبها في البر والشعير، والتمر والزبيب، حكاه ابن المنذر وابن عبد البر والشيخ وغيرهم.
(3) لقوله تعالى { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ } .
(4) الحنطة معروفة، وجمعها حنط، كقربة وقرب، وتطلق على البر والقمح والسمراء، والعلس بفتح العين وهو نوع منها باتفاق، يكون منه في الكمام حبتان وثلاث، ويبقى بعد دياسه كل حبتين منه كمام، لا يزول إلا بالرحى الخفيفة، أو بمهراس، والسلت بالضم نوع منه، لونه لون الحنطة، وطبعه طبع الشعير في البرودة، وقال في الفروع وغيره: هو أشبه الحبوب بالشعير في صورته. والأرز هو الحب المعروف، وفيه ست لغات كأمن وأسد وعتل وعضد ومد وقفل. والدخن بالضم الجاورس كما في القاموس والصحاح، وفي المحكم: حب الجاورس أو الدخن أصغر أملس جدًا.(5/192)
والباقلاء والعدس والحمص(1) وسائر الحبوب (ولو لم تكن قوتًا)(2) كحب الرشاد والفجل والقرطم(3).
__________
(1) والجلبان والذرة واللوبيا، والترمس والقت، والماش والكرسفة والحلبة والخشخاش. والسمسم نبات يستخرج من حب الشيرج، ويقال لها «القطنيات» بكسر القاف وتشديد الياء، سميت بذلك لأنها تقطن في البيوت أي تتخذ؛ يقال: قطن إذا أقام، قال الماوردي: هي الحبوب المقتاتة سوى البرى والشعير، «والباقلاء» يمد مخففًا، ويكتب بالألف، ويقصر مشددًا ويكتب بالياء؛ ويقال له الفول؛ «والعدس» نبات له حب معروف يؤكل، الواحدة عدسة. «والحمص» بضمتين وشد الميم، وكسرها البصريون، وفتحها الكوفيون، وأما «الجلبان» فيقال له الهرطمان، حب متوسط بين الحنطة والشعير، و«الذرة» حب ونبات معروفان، و«اللوبيا» يمد ويقصر معرب، و«الترمس» بوزن بندق، حب عريض أصغر من الباقلاء، و«القت» حب يطبخ، ويدق ويختبز منه في المجاعات. و«الماش» حب كالكرسفة، يؤكل مطبوخًا، الواحدة ماشة. و«الكرسفة» القطنة، ولعلها مصحفة من الكرسنة بالنون، نبات له حب في غلف، تعلفه الدواب، و«الحُلبْةُ» معروفة، و«الخشخاش» نبات يحمل ألوانًا بيضًا منوم مخدر.
(2) مما ييبس ويبقى، مما يكال ويدخر، وهو مذهب مالك، زاد الشافعي: ويقتات؛ لأن الإقتيات ضروري للحياة، فأوجب الشارع منه شيئًا لأرباب الضرورات، بخلاف ما يؤكل تنعمًا أو تأدمًا.
(3) ونحوها من سائر الحبوب، مما تقدم وغيره، لقوله عليه الصلاة والسلام «ليس فيما دون خمسة أو ساق من حب ولا تمر صدقة» مفهومه أنه إذا بلغ خمسة أو ساق من حب ففيه الصدقة، وهو شامل بظاهره كل حب، وكذا علل أحمد وغيره أنه يطلق عليه اسم حبوب، واسم طعام وحب الرشاد معروف؛ والرشاد نبات حريف الطعم، مفرض الورق، والفجل بضم الفاء، وزن قفل، بقلة معروفة، والقرطم بكسر القاف والطاء وضمهما، لغتان مشهورتان، وصحح ابن قندس وغيره الكسر، وهو حب العصفر.(5/193)
والأَبازير كلها كالكسفرة والكمون(1) وبزر الكتان والقثاء والخيار(2) لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «فيما سقت السماءُ والعيون العشر» رواه البخاري(3).
__________
(1) والكراويا والشونيز، والشمر والخيار، والبطيخ بأنواعه، والأبازير جمع بزر، حب يبذر للنبات، والمراد أبازير القدر، والكسفرة بضم الكاف والفاء، وفيها لغات كسبرة وكزبرة، بضم أول كل منهما وثالثه، وقيل إنه معرب، والكمون بفتح الكاف وتشديد الميم معروف.
(2) ونحوها من البزور والبقول، كحب الرشاد والفجل والخردل والباذنجان، والبقلة الحمقاء والخس والجزر ونحوها، وكبزر البقول كلها، كالهندباء والكرسف والبصل وبزر قطونا ونحوها، وبزر الرياحين جميعها، وبزر بفتح الباء وكسرها، كل حب يبذر، الواحدة بزرة، وجمعه بزور وأبزار، وجمع الجمع أبازير، والكتان بفتح الكاف نبات له زهر أزرق، تنسج منه الثياب، وله بزور، يعتصر منه زيت يستصبح به، والقثاء بفتح القاف وقد تضم، نوع من النبات، ثمره يشبه ثمر الخيار، والخيار بكسر الخاء المعجمة، نوع من القثاء، قال الجوهري: ليس بعربي.
(3) ولمسلم من حديث جابر «وفيما سقي بالسانية نصف العشر» وغير ذلك وقوله «فيما سقت السماء» يعني بالمطر أو الثلج أو البرد أو الطل، فما علاك فهو سماء، والعيون الأنهار الجارية التي يسقى منها بإساحة الماء، من غير اغتراف له، وفي لفظ «ما سقت الأنهار، أو كان عَثَرِيًا العشر» وأجمع على ذلك أهل العلم.(5/194)
(وفي كل ثمر يكال ويدخر)(1) لقوله صلى الله عليه وسلم «ليس فيما دون خمسة أَوسق صدقة»(2) فدل على اعتبار التوسيق(3).
__________
(1) وهذا مذهب مالك والشافعي في الادخار، وقال أحمد وغيره: ما كان يكال ويدخر، ويقع فيه القفيز، ففيه الزكاة. وقال مالك والشافعي: الذي يجب فيه الحق هو ما ادخر خاصة. وفائدة الخلاف، أن الإمام احمد يجب عند العشر في السمسم وبزر الكتان، والكمون والكراث والخردل، واللوز والفستق ونحوها، وعندهما لا تجب فيه، وأما أبو حنيفة فعنده تجب في الخضروات كلها.
(2) متفق عليه، ولمسلم وأحمد وغيرهما «ليس فيما دون خمسة أو ساق من ثمر ولا حب صدقة» والأوسق والأوساق جمع وسق، ووسقت الشيء ضميت بعضه إلى بعض. والصدقة الزكاة.
(3) فإن التقدير بالكيل يدل على صحة إناطة الحكم به، قال الخطابي وغيره: هذا الحديث ونحوه دليل في أن الزكاة إنما تجب فيما يوسق ويدخر من الحبوب والثمار، دون ما لا يكال ولا يدخر، من الفواكه والخضراوات ونحوها، وعليه عامة أهل العلم. وقال شيخ الإسلام: وأما أحمد وغيره من فقهاء الحديث، فيوجبون الزكاة في الحبوب، كالثمار التي تدخر، وإن لم تكن تمرًا أو زبيبًا، كالفستق والبندق، جعلا للبقاء في المعشرات بمنزلة الحول في الماشية والجرين، فيفرق بين الخضروات وبين المدخرات، وقد يلحق بالموسق الموزونات، كالقطن على إحدى الروايتين، لما في ذلك من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وزاد مالك: تؤخذ من الثمار ذوات الأصول كلها، ما ادخر وما لم يدخر، ورجح في مواضع أن المعتبر في وجوبها نية الادخار، لوجود المعنى المناسب لإيجابها.(5/195)
وما لا يدخر لا تكمل فيه النعمة، لعدم النفع به مآلا(1) (كتمر وزبيب) ولوز وفستق وبندق(2) ولا تجب في سائر الثمار(3)
__________
(1) أي في الزمن المستقبل، فلا تجب فيه عند جمهور أهل العلم؛ لأن ما لا يدخر لم تكمل ماليته، لعدم التمكن من الانتفاع به في المآل، أشبه الخضر.
(2) وسماق ونحو ذلك، فتجب في الثمر المكيل المدخر، كتمر بأنواعه، وزبيب بأنواعه، لحديث عتاب بن أسيد في الكرم «تخرص كما يخرص النخل، فتؤدى زكاته زبيبًا، كما تؤدي زكاة النخل تمرًا» رواه أبو داود والترمذي وغيره عن عتاب مرسلاً، ولأن ثمرة النخل والكرم تعظم منفعتها، لأنها من الأقوات، والأموال المدخرة، وقد أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم على وجوبها في التمر والزبيب. و«لوز» معروف إما حلو أو مر، وشجره يقارب الرمان، وورقه مستطيل، وعلل بأنه مكيل، و«فستق» بضم الفاء والتاء معرب، وحكي فتح التاء ثمرة معروف، و«بندق» بضم الباء والدال معرب، ثم شجرة البندقية، فتجب فيها الزكاة، لأنها مكيلة مدخرة، ونقل صالح وعبد الله: ما كان يكال ويدخر ففيه العشر. قال في المبدع: اختاره جماعة، وجزم به آخرون.
(3) كالجوز والأجاص، والكمثرى والتفاح، والخوج والسفرجل، والرمان والنبق والزعرور والموز والأترج ونحو ذلك، لأنها ليست مكيلة ولا مدخرة، وقال عمر: هي من العضاه. وقال الأصحاب: والتين والتوث والمشمش والزيتون والعناب ونحو ذلك، لانتفاء كيلها. واختار الشيخ وغيره وجوبها في التين، لأنه يدخر، واستظهر في الفروع والإقناع وغيرهما وجوبها فيه. وفي التوث والمشمش لأنه يدخر كالتمر، وكذا الزيتون، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، واختاره المجد والقاضي وغيرهما؛ وصوبه في تصحيح الفروع، لأنه حب مكيل، ينتفع بدهنه الخارج منه، أشبه السمسم؛ والكتان إذا بلغ خمسة أوسق فيزكى، نص عليه؛ وإخراج زيته أفضل، وفاقًا لهما، وفي الإنصاف: تجب في العناب على الصحيح، واستظهره في الفروع، وجزم به الموفق وابن عقيل وغيرهما، لأنه مدخر.(5/196)
.
ولا في الخضر والبقول(1).
__________
(1) الخضر بضم ففتح، والخضروات جمع، والبقول جمع بقل، ما نبت في بزره، لا في أصل ثابت أي ولا تجب الزكاة في الخضر كاللفت ونحوه، ولا في البقول كفجل وثوم وبصل وكراث، وجزر وبطيخ وقثاء وخيار، وباذنجان وسلق وكرنب وقنبيط ونحو ذلك، لحديث علي مرفوعًا «ليس في الخضراوات صدقة» وعن عائشة معناه، رواهما الدارقطني، وروى الترمذي وغيره وضعفه أن معاذًا كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الخضراوات فكتب إليه «ليس فيها شيء» ونحوه عن موسى بن طلحة، رواه الأثرم، وروي بألفاظ متعددة، عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الترمذي: لا يصح فيه شيء، وقال: العمل عليه عند أهل العلم، أنه ليس في الخضروات صدقة. وقال البيهقي: إلا أنها من طرق مختلفة، يؤكد بعضها بعضًا؛ ومعها أقوال الصحابة، ثم روى عن عمر وعلي وعائشة وغيرهم.
وقال الخطابي وغيره: يستدل بحديث «ليس فيما دون خمس أوسق صدقة» أنها لا تجب في شيء من الخضراوات، وهو دليل في أنها إنما تجب فيما يوسق ويدخر، من الحبوب والثمار، دون مالا يكال من الفواكه والخضروات ونحوها؛ وعليه عامة أهل العلم. اهـ. وتركه صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده – وهي تزرع بجوارهم، ولا تؤدي زكاتها لهم – يدل على عدم وجوبها فيها، وأن تركها هو السنة المتبعة. وقال أحمد: ما كان مثل الخيار والقثاء، والبصل والرياحين، فليس فيه زكاة، إلا أن يباع، ويحول على ثمنه الحول. وجزم به جماعة، ولا تجب في قطن وكتان، وقنب وزعفران وورس ونيل، وفوة وغبيراء، وبقم وحناء، ونارجيل وهو جوز الهند، شبيه بالنخلة، لكنها تميل بصاحبها حتى تدنيه من الأرض.(5/197)
والزهور ونحوها(1) غير صعتر وأشنان وسُمَّاق(2) وورق شجر يقصد(3) كسدر وخطمي وآس، فتجب فيها، لأَنها مكيلة مدخرة(4) (ويعتبر) لوجوب الزكاة في جميع ذلك (بلوغ نصاب(5) قدره) بعد تصفية حب من قشره، وجفاف غيره، خمسة أوسق(6).
__________
(1) كالورد والعصفر والزعفران، والبنفسج والنرجس والينوفر، والخيري وهو المنشور، ولا في نحو ذلك، كالطلع والورق، والسعف والخوص والليف، والتبن وقشور الحب، والحطب والخشب وأغصان الخلاف، والحشيش والقصب الفارسي وفاقًا، وحكى الإجماع المجد وغيره، وكذا لبن الماشية وصوفها.
(2) ونحوها، فتجب فيها، لأنها مكيلة مدخرة، و«صعتر»، ويقال سعتر، نبت طيب الرائحة، بزره دون بزر الريحان، و«أشنان» نوع من الحمض، معروف يغسل به، وسماق بوزن رمان ثمر يشتهى شديد الحموضة.
(3) أي للادخار.
(4) أشبهت البر، وقال في الفصول: لا زكاة فيه رواية واحدة. وذكره أبو يعلى، ولأن ثمر النبق لا تجب فيه، فورقه أولى، وجزم به في المغني. والشرح، وقال الزركشي: هو اختيار العامة.
(5) أي في جميع ما تقدم، مما تجب فيه، كمال نصاب، وهذا الشرط الأول.
(6) واحدها وسق بفتح الواو وكسرها، والأشهر الفتح. قال الهروي: كل شيء جمعته فقد وسقته، والتصفية التنقية من الأغثاء، والنبت الذي لا خير فيه، وتصفية الحب تنقيته من قشره الذي عليه، والجفاف اليبس، وغيره الحب الثمر والورق، واعتبرت التصفية والجفاف لأن التوسيق وكمال الادخار لا يكون إلا بعدهما، فوجب اعتبارهما، قال الموفق وغيره: إلا الأرز والعَلس يدخر في قشره، فإن نصاب كل واحد منهما مع قشرة عشرة أوسق، ولو صفي الأرز والعلس فنصاب كل منهما خمسة أوسق، قال في الإنصاف: بلا نزاع.(5/198)
لحديث أبي سعيد الخدري يرفعه «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» رواه الجماعة(1) والوسق ستون صاعًا(2) وتقدم أنه خمسة أرطال وثلث عراقي(3) فهي (ألف وستمائة رطل عراقي)(4).
__________
(1) أحمد والبخاري ومسلم وأهل السنن الأربعة، ورواه غيرهم، وتقدم لمسلم «من حب ولا ثمر» بالمثلثة، وله نحوه عن جابر، وقال الخطابي وغيره: حديث أبي سعيد أصل في بيان مقادير ما يحتمل الأموال من المواساة، وإيجاب الصدقة فيها، وإسقاطها عن القليل الذي لا يحتملها، لئلا يجحف بأرباب الأموال، ولا يبخس الفقراء حقوقهم. وإذا بلغتها أنواع هذه الأموال وجب فيها الحق، وقال ابن عبد البر: فيه إيجاب الصدقة في هذا المقدار، ونفيها عما دونه، وأجمع أهل العلم أنما زاد ففيه الزكاة، وحكاه النووي وغيره، وأنها لا تجب في أقل من خمسة أوسق، وهو مذهب جماهير العلماء، مالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
(2) قال ابن المنذر وغيره: بغير خلاف، وأنه المعتمد في تقديره، ولابن ماجه وغيره «الوسق ستون صاعًا».
(3) يعني الصاع، في باب الغسل.
(4) تقريبًا، فلا يؤثر النقص اليسير، قال في الإنصاف: وهو الصواب. قال الشيخ: والرطل البغدادي ثمانية وعشرون درهمًا، والدراهم هي هذه التي هي من زمان عبد الملك، كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل، فبلغ النصاب بها ألفًا وستمائة رطل.(5/199)
وألف وأربعمائة وثمانية وعشرون رطلاً، وأربعة أسباع رطل مصري، وثلاثمائة واثنان وأربعون رطلاً وستة أسباع رطل دمشقي، ومائتان وسبعة وخمسون رطلاً، وسبع رطل قدسي(1) والوسق والمد والصاع مكاييل، نقلت إلى الوزن، لتحفظ وتنقل(2) وتعتبر بالبر الرزين(3) فمن اتخذ مكيلا يسع صاعًا منه، عرف به ما بلغ حد الوجوب من غيره(4).
__________
(1) وما وافق تلك في الزنة، وتقدم.
(2) أي قدرت بالوزن، فلا يزاد ولا ينقص منها، وتنقل من الحجاز إلى غيره، والنقل تحويل الشيء من موضع إلى آخر. فلا بد من تحديد، وليست صنجًا.
(3) وهو الذي يساوي العدس في وزنه، واعتبروا الصاع به، لأنه المتوسط من المكيلات وزنًا.
(4) أي غير البر الرزين، فإن المكيل يختلف في الوزن فمنه ثقيل كتمر وأرز، ومنه متوسط كبر وعدس،ومنه خفيف كشعير وذرة، فالاعتبار في ذلك بالمتوسط، فمن أخذ خمسة أرطال وثلثا من البر، ثم كال به ما شاء من خفيف وثقيل عرف ما بلغ حد الوجوب، من غيره الذي لم يبلغه بالوزن، ونص أحمد وغيره من الأئمة أن الصاع خمسة أرطال وثلث، بالحنطة من الرزين، وهو الذي يساوي العدس، وقال الداودي وغيره: معياره الذي لا يختلف أربع حفنات، بكَفّي الرجل المعتدل الخلقة. وذكر صاحب القاموس وغيره أنه جربه فوجده صحيحًا، وأما عَلَس وأرْز يدخران في قشريهما فعشرة أوسق، إذا كان يخرج مصفى منهما النصف وتقدم، ولا يقدر غيرهما من حنطة ونحوها، لعدم جريان العادة به، ونصاب ما لا يكال، كالزعفران والقطن والورس بالوزن، ألف وستمائة رطل عراقي ... اختاره وصححه أكثر الأصحاب.(5/200)
(وتضم) أنواع الجنس من (ثمرة العام الواحد) وزرعه (بعضها إلى بعض) ولو مما يحمل في السنة حملين (في تكميل النصاب)(1) لعموم الخبر(2) وكما لو بدا صلاح إحداهما قبل الأُخرى(3) سواء اتفق وقت إطلاعها وإدراكها أَو اختلف، تعدد البلد أو لا(4).
__________
(1) وفاقًا، ولو اختلف النوع، وتعدد البلد، كما سيأتي، لاتحاد الجنس، ولأنها ثمرة عام واحد، كمعقلي وإبراهيمي، فيضمان في تكميل النصاب، وكعلس إلى حنطة، لأنه نوع منها، وسلت إلى شعير، لأنه نوع منه، وذكر الجويني أن تمر المدينة مائة وعشرون نوعًا ستون أحمر وستون أسود، وليس المراد بالعام هنا اثني عشر شهرًا، بل وقت استغلال المغل من العام عرفًا، وأكثره عادة ستة أشهر، بقدر فصلين، قال ابن نصر الله: ولهذا اجتمعنا أن من استغل حنطة أو رطبًا، آخر تَمّوز من عام، ثم عاد واستغل منه في العام المقبل أول تَمّوز أو قبله في حزيران لم يضما، مع أن بينهما دون من الإثني عشر شهرًا، ويأتي قول الشيخ: تضم الحبوب، وكذا القطاني بعضهما إلى بعض، ولو كان بعضه صيفيًا وبعضه شتويًا، وكذلك الثمرة. إلى آخره، وما يحمل في السنة مرتين، كالذرة والنخل الذين يحملان في السنة مرتين فضم بعضه إلى بعض، لأنه ثمرة عام واحد.
(2) يعني قوله «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» فإنه دليل على وجوبها فيما يوسق ويكال من الحبوب والثمار.
(3) قال في المبدع: وهو محمول على اختلاف الأنواع كالبرني والمعقلي.
(4) نص عليه في العام الواحد، كما تقدم، و لا تأثير لأجل تعدد البلد. ولعامل كل بلد أخذ حصته وفاقًا.(5/201)
(لا جنس إلى آخر) فلا يضم بر لشعير، ولا تمر لزبيب، في تكميل نصاب، كالمواشي(1) (ويعتبر) أيضًا لوجوب الزكاة فيما تقدم (أن يكون النصاب مملوكًا له وقت وجوب الزكاة) وهو بدو الصلاح(2) (فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط(3) أو يأْخذه بحصاده)(4) وكذا ما ملكه بعد بدو الصلاح بشراء أو إرث أو غيره(5).
__________
(1) فإنه لا يضم جنس البر إلى الشعير، ولا التمر إلى الزبيب، ولا إلى غيرهما من الثمار، كما أنه لا تضم غنم إلى إبل أو بقر إجماعًا، ولا تضم الأثمان ولا الحبوب إلى السائمة، ولا السائمة إلى الحبوب والثمار، وعنه: تضم الحنطة إلى الشعير. وهي أظهر الروايتين، وفاقًا لمالك، وقال الشيخ: يضم القمح والشعير والسلت في الزكاة، وتضم القطاني بعضهما إلى بعض، ولو كان بعضه صيفيًا وبعضه شتويًا، إذا كان لواحد، وإلا فلا.
(2) في الثمر، واشتداد الحب في الزرع، وهذا هو الشرط الثاني، ولو باعه ونحوه بعد بدو الصلاح فزكاته عليه، خرص أم لا، كما لو باع السائمة بعد الحول.
(3) لعدم ملكه وقت الوجوب.
(4) أو دياسه ونحوه أو تصفيته أو نطارته ونحو ذلك، والحصاد قطع الزرع ونحوه من: حصدته أحصده حصدًا.
(5) كهبة وعطية وصدقة وعوض خلع أو صلح أو إجارة ونحو ذلك، لأنه لم يكن مالكًا له وقت الوجوب.(5/202)
(ولا فيما يجتنيه من المباح، كالبطم والزعبل) بوزن جعفر، وهو شعير الجبل(1) (وبزر قطونا) وحب نمام (ولو نبت في أرضه) لأنه لا يملكه بملك الأرض(2) فإن نبت بنفسه ما يزرعه الآدمي، كمن سقط له حب حنطة في أرضه، أو أرض مباحة ففيه الزكاة، لأنه يملكه وقت الوجوب(3).
فصل(4)
__________
(1) قاله الموفق وغيره، والبطم الحبة الخضراء أو شجرها، الواحدة بطمة.
(2) هذا هو المشهور من المذهب، وكذا كزبرة، وعفص وأشنان وسماق ونحو ذلك، وعنه: تجب فيه الزكاة وفاقًا، لأنه مكيل ومدخر قوتا، وقال ابن الجوزي: هو المذهب. وقال غيره: هو قياس المذهب. لأنه أوجبه في العسل، فهنا أولى. «وقطونا» بفتح القاف وضم الطاء، يمد ويقصر، بزر معروف، هو حب الربلة، و«نمام» بالموحدة نبت طيب الرائحة، سمي بذلك لسطوع رائحته، وبالمثلثة نبت قصير ضعيف، لا يطول، وحبه معروف يؤكل.
(3) ولأنه لا يشترط لوجوبها فعل الزرع، وكذا إن كانت مملوكة للغير، وكان لا على وجه الغصب ولم يتملكه رب الأرض، قال الخلوتي: فما يوهمه كلامه من التقييد ليس مرادًا.
(4) في قدر الواجب في الحبوب والثمار، قال شيخ الإسلام: قد اتفق العلماء على المقدار المأخوذ من المعشرات للخبر.(5/203)
(يجب عشر) وهو واحد من عشرة(1) (فيما سقي بلا مؤنة) كالغيث والسيوح، والبعل الشارب بعروقه(2).
__________
(1) قال في المبدع: إجماعًا، «وعشر» بضم الشين وإسكانها، وكذا التسع وما قبله إلى الثلث، ويقال: عشر بفتح العين وكسر الشين، ومعشار.
(2) إجماعًا حكاه النووي والشيخ وغيرهما، لما في الصحيح من حديث ابن عمر «فما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا العشر». ولمسلم عن جابر «فيما سقت الأنهار والغيم العشر» وللشافعي وغيره عن معاذ قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: وأن آخذ مما سقت السماء العشر. وفي الموطإ وغيره «العيون والبعل» وقال الشيخ وغيره: هو ما شرب بعروقه، يمتد بها في الأرض، ولا يحتاج إلى سقي، من الكرم والنخل. وأطلق غيره فقال: هو ما يكون في أرض ندية، تشرب عروقه من رطوبة الأرض، لا ما يعيش بغيث، عكس المعروف اليوم بنجد، قال الشيخ: والعثري ما تسقيه السماء، وقيل يجمع له ماء المطر فيصير سواقيًا، يتصل الماء بها. اهـ. وقيل: سمي عثريًا لأنه يجعل في مجرى الماء عاثورًا، فإذا صدمه الماء تراد، فدخل تلك المجاري فتسقيه. والسيوح جمع سيح، وهو الماء الجاري على وجه الأرض من الأنهار والسواقي ونحوها، يقال: ساح يسيح، ولو كان بإجراء ماء حفيره أو ثراه، والغيث المطر، والمؤنة تهمز ولا تهمز فعولة، وقال الفراء: مفعلة من المأن وهو التعب والشدة، وقال الأزهري: منت فلانًا أمونة. إذا قمت بكفايته، والأصل الهمز، غير أن العرب آثرت تركه كأرى، وأثبتوه في «رأيت». ولا يؤثر مؤنة حفر الأنهار والسواقي. وتنقيتها وسقي، في نقص الزكاة، لقلة المؤنة، وكذا من يحول الماء في السواقي، لأنه لا بد منه، وكحرث الأرض.(5/204)
(و) يجب (نصفه) أي نصف العشر (معها) أي مع المؤنة، كالدولاب تديره البقر، والنواضح يستقى عليها(1) لقوله عليه السلام في حديث ابن عمر «وما سقي بالنضح نصف العشر» رواه البخاري(2) (و) يجب (ثلاثة أرباعه) أي أرباع العشر (بهما) أي فيما يشرب بلا مؤنة وبمؤنة نصفين، قال في المبدع: بغير خلاف نعلمه(3) (فإن تفاوتا) أي السقي بمؤنة وبغيرها (ف) الاعتبار (بأكثرهما نفعًا)
__________
(1) إجماعًا حكاه غير واحد، والدولاب للدوالي، جمعه دواليب، ومثله الناعورة يديرها الماء، وكل آلة يحتاج إليها في ترقية الماء إلى الأرض، والنواضح جمع ناضح، وهي الإبل والبقر وسائر الحيوانات، يستقى بها الماء من بئر أو نهر، للزروع والنخيل والأشجار وغيرها.
(2) وغيره، ولمسلم وغيره عن جابر «وفيما سقي بالسانية نصف العشر» وللشافعي وغيره عن معاذ «وما سقي بالدوالي نصف العشر» قال النووي وغيره: هو قول أهل العلم. والنضح السقي بالسواني، من إبل أو بقر، وغيرهما من الحيوانات، سمي بذلك لأنه ينضح الماء أي يصيبه، وسميت سواني لأنها يستقي بها الماء من البئر، يقال منه: سنا يسنو. إذا سقى به.
(3) وحكى الإجماع عليه غير واحد، ولأن كل واحد منهما لو وجد في جميع السنة لأوجب مقتضاه، فإذا وجد نصفه أوجب نصفه.(5/205)
ونموًا(1) لأن اعتبار عدد السقي، وما يسقى به في كل وقت يشق، فاعتبر الأكثر كالسوم(2) (ومع الجهل) بأكثرهما نفعًا (العشر) ليخرج من عهدة الواجب بيقين(3) وإذا كان له حائطان، أحدهما يسقى بمؤنة، والآخر بغيرها ضما في النصاب(4) ولكل منهما حكم نفسه، في سقيه بمؤنة أو غيرها(5) ويصدق مالك فيما سقى به(6) (وإذا اشتد الحب، وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة)(7).
__________
(1) لا المدة وعدد السقي، وفي الفروع: فإن كان أحدهما أكثر، فالحكم له وفاقًا.
(2) أي فإنه اعتبر في السوم أكثر الحول، فمثله السقي بفتح السين وبكسرها ما يسقى به الأرض أو الزرع.
(3) ولأن الأصل وجوبه كاملاً.
(4) إن كانا من جنس واحد، وإن كان أحدهما مغايرًا للآخر، كنخل وعنب فلا.
(5) فيخرج مما يشرب بمؤنة نصف عشره، ومما يشرب بغيرها عشره.
(6) بلا يمينه لأنه مؤتمن، ولأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم، لأنها حق لله، فلا يستحلف فيه كالصلاة.
(7) أي على مالكه، وفاقًا لمالك والشافعي وجمهور أهل العلم، فلو باعه أو وهبه بعد ذلك، قبل الخرص أو بعده فزكاته عليه، لا على المشتري والموهوب له، «وبدا» بإسكان الألف غير مهموز، أي ظهر نضجه، وطاب أكله.(5/206)
لأنه يقصد للأَكل والإقتيات كاليابس(1) فلو باع الحب أو الثمرة، أو تلفا بتعديه بعد، لم تسقط(2) وإن قطعهما أو باعهما قبله فلا زكاة(3) إن لم يقصد الفرار منها(4) (ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر) ونحوه، وهو موضع تشميسها
__________
(1) ولأنه وقت خرص الثمرة، لحفظ الزكاة، ومعرفة قدرها، فدل على تعلق وجوبها به.
(2) «بَعْدُ» بالبناء على الضم، لحذف المضاف إليه، ونية معناه، أي بعد اشتداد الحب، وبدو الصلاح، لم تسقط الزكاة، سواء خرصت الثمرة أو لم تخرص، وإن اشترطها على المشتري صح، للعلم بها، فكأنه استثنى قدرها، ووكله في إخراجها.
(3) أي عليه وفاقًا، وقاله الشيخ وغيره، وهو ما إذا كان لغرض صحيح، كأكل أو بيع أو تحسين بقيتها، وينبغي تقييده في صورة البيع بأنه مع أصله، أو أن على المشتري القطع، وتجب فيما إذا كان البيع مع أصله على المشتري، إن كان من أهل الزكاة، ولا يجوز شرطها على البائع.
(4) فإن قصد الفرار من الزكاة وجبت عليه، لتفويته الواجب، بعد انعقاد سببه، هذا في صورة القطع والإتلاف واضح، وأما في صورة البيع، فينظر: هل تجب عليه كما تجب على المشتري، فتجب زكاتان علي عين واحدة؟ قال مرعي: ولعلها لا تجب عليه. وقال في الفروع: ولو ملك ثمرة قبل صلاحها، ثم صلحت بيده، لزمته زكاتها، لوجود السبب في ملكه، ولو صلحت في مدة خيار، زكاها من قلنا الملك له، ومتى صلحت بيد من لا زكاة عليه، فلا زكاة فيها، إلا أن يكون الأول قصد الفرار.(5/207)
وتيبيسها(1) لأنه قبل ذلك في حكم ما لم تثبت اليد عليه(2) (فإن تلفت) الحبوب أو الثمار (قبله) أي قبل جعلها في البيدر (بغير تعد منه) ولا تفريط (سقطت)(3) لأنها لم تستقر(4) وإن تلف البعض، فإن كان قبل الوجوب، زكى الباقي إن بلغ نصابًا، وإلا فلا(5).
__________
(1) أي البيدر بالشام والشرق، ويسمى بمصر الجرين، وكذا بالعراق، والمربد بالحجاز، والجوخان بالبصرة، ويسمى أيضًا المصطاح والطباية والفداء والقوع، وغير ذلك، لكل أهل جهة اصطلاح، والجميع اسم للموضع الذي تجمع فيه الثمرة، حتى يتكامل جفافها، والتيبيس بسط الشيء حتى يجف، والتشميس بسط الشيء في الشمس، ولا يلزم منه أن لا توضع في مخزنها بدونه، فقد توضع فيه الثمرة أو بعضها.
(2) فلم تجب فيه، فإنه لو اشترى ثمرة فتلفت بعطش ونحوه، رجع على البائع.
(3) يعني الزكاة، خرصت أو لم تخرص، قال ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما: أجمع أهل العلم على أن الخارص إذا خرص الثمر ثم أصابته جائحة قبل الجذاذ، فلا شيء عليه. وقيل: فائدة الخرص أمن الخيانة من رب المال، لا الوجوب.
(4) أي على المالك بدون وضعها في بيدرها ونحوه.
(5) أي وإن لم يكن الباقي نصابًا، فلا زكاة فيه، لقوله صلى الله عليه وسلم «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» وهو يعم حالة الوجوب، ولزوم الأداء.(5/208)
وإن كان بعده زكى الباقي مطلقًا، حيث بلغ مع التالف نصابًا(1)
__________
(1) يعني سواء بلغ الباقي نصابًا، أو لم يبلغ، لوجوب التالف عليه، لأنه متعد أو مفرد، وإن ادعى تلفًا قبل قوله وفاقًا، بلا يمين، إلا أن يدعيه بجائحة ظاهرة، فلا بد من بينة وفاقًا، ويحرم القطع مع حضور ساع بلا إذنه، ويسن أن يبعث الإمام خارصًا، إذا بدا صلاح الثمر، وهو مذهب مالك والشافعي وجماهير العلماء، لما روى أحمد وأبو داود وغيرهما، أنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر، يخرص عليهم النخل، قبل أن يؤكل؛ وفي الترمذي وغيره: يبعث إلى الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم. وفي المنتهى وغيره: لا تخرص الحبوب بلا خلاف. اهـ. وعمل المسلمين على خلافه، لإمكانه فيه كالثمر، وشرط في الخارص العلم بالخرص، والعدالة والحرية والذكورية، ويجب أن يترك في الخرص الثلث أو الربع لحديث «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وتركه توسعة لحاجة المالك، اختاره الشيخ وغيره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «خففوا على الناس، فإن في المال الوطية والأكلة والعرية» رواه أبو عبيد، وقال: الوطية السابلة، سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين، والعرية هي هبة ثمر نخلة أو نخلات لمن يأكله، والأكلة أهل المال يأكلون منه. وقال ابن عقيل، والآمدي وغيرهما: يترك قدر أكلهم وهديتهم بالمعروف، بلا تحديد، للأخبار الخاصة، وللحاجة إلى الأكل والإطعام والتناثر وغير ذلك، وهو قول أكثر العلماء. قال الشيخ: وتسقط فيما خرج من مؤنة الزرع والثمر منه، لأن الشارع أسقط في الخرص زكاة الثلث أو الربع، لأجل ما يخرج من الثمرة بالإكراء والضيافة وإطعام ابن السبيل، وهو تبرع، فما يخرج عنه لمصلحته التي لا يحصل إلا بها أولى بإسقاط الزكاة عنه، قال في الخلاف: وأسقط أحمد عن أرباب الزرع الزكاة في مقدار ما يأكلون، وإن ترك الساعي شيئًا من الواجب وجب إخراجها، لأنها لا تسقط بتركه، ولا يزكي ما نقص عما قال، لأنه لا زكاة عليه فيما ليس في ملكه.(5/209)
.
ويلزم إخراج حب مصفى(1) وثمر يابسًا(2) ويحرم شراءُ زكاته أَو صدقته، ولا يصح(3) ويزكي كل نوع على حدته(4)
__________
(1) إجماعًا، قال الشيخ: ويعتبر عندهم اليبس والتصفية في الحبوب، والجفاف في الثمار. اهـ. والتصفية التنقية والتنظيف من نحو تبن وقشر لا يؤكل ولا يدخر معه.
(2) إجماعًا لحديث عتاب بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرص العنب زبيبًا، كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا، ولا يسمى زبيبًا وتمرًا إلا اليابس، وقيس عليهما الباقي، وقال الشيخ: الزيت فيه من الزيتون، وما لا يزبب من العنب، ولا يتمر من الرطب، تخرج الزكاة من ثمنه أو غيره. وفي الإنصاف: إن احتيج لقطعه قبل كماله أخرج منه رطبًا وعنبًا. وتجب فيه إجماعًا، وإن قطعه قبل سقطت، وفرارًا تجب.
(3) بأن يشتريها بعد دفعها، ولو من غير من أخذها منه، لحديث عمر قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، وأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه» متفق عليه، قال ابن المنذر: يلزم من ذلك فساد البيع. ولأنه وسيلة إلى استرجاع شيء منه، استحياء أن يماكسه، وقيده في الوجيز: لغير ضرورة. وهو مراد من أطلق، وإن رجعت إليه بإرث جاز، لما رواه مسلم وغيره من حديث بريدة قال «وجب أجرك، وردها عليك الميراث» وكذا لو عادت إليه بهبة أو وصية ونحو ذلك.
(4) فيزكى الإبراهيمي على حدته، والمعقلي على حدته، والبر على حدته، والقمح على حدته، وإن كان نوعًا واحدًا أخذ منه بلا نزاع، وإن كان أنواعًا، فاختار الموفق وغيره أنه يجمع ويخرج من الوسط، بين أعلى وأدنى، لأن كل شيء
على حدته يشق، وقد رفعت المشقة والحرج شرعًا، وكالسائمة، ويؤخذ الواجب من الزرع والثمر بحسبه، جيدًا أو رديئًا، منه أو من غيره وفاقًا، ولا يجوز إخراج الرديء عن الجيد وفاقًا، ولا الإلزام بإخراج الجيد عن الرديء وفاقًا، وله أن يخرج الواجب منه مشاعًا أو مقسومًا، بعد الجذاذ أو قبله بالخرص، وفاقًا لمالك والشافعي لأنها مواساة.(5/210)
.
(ويجب العشر) أو نصفه (على مستأْجر الأَرض) دون مالكها كالمستعير(1) لقوله { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (2) ويجتمع العشر والخراج في أرض خراجية(3)
__________
(1) أي يجب على المستأجر، لأنه مالك للزرع، كالمستعير وفاقًأ وحكي إجماعًا، لعموم الأخبار، إلا أبا حنيفة في المستأجر، دون صاحبيه، لأن الغرم يتبع الغنم، فإذا استأجر إنسان من أهل الزكاة، فزرع أو غرس، فما أثمر مما تجب فيه فعلى المستأجر أو المستعير، دون المالك أو المعير، وكتاجر استأجر حانوتًا، وفي إيجابها على المالك إجحاف ينافي المواساة، وهو من حقوق الزرع، ولأنها زكاة مال، فكانت على مالكه كالسائمة، وأما المزارعة يجزء فعلى رب الأرض عشر سهمه، قال الشيخ: باتفاق الأئمة، ولم يقل أحد من المسلمين إن رب الأرض يقاسم العامل، ويكون العشر كله على العامل، فمن قال هذا فقد خالف إجماع المسلمين.
(2) أي يوم الجذاذ والقطع، أو يوم الكيل، وحقه الزكاة المفروضة، أمرهم تعالى بأدائها بعد أن ذكر ما أنعم به على عباده من الثمار، وأنه أباح لهم الأكل منها.
(3) وفاقًا لمالك والشافعي وجماهير العلماء، للعموم، فالخراج في رقبتها، والعشر في غلتها، ومن سبب الخراج التمكين من النفع، وسبب العشر الزرع والأرض الخراجية هي ما فتحت عنوة ولم تقسم، أو جلا أهلها خوفًا منا، أو صولحوا أنها لنا ونقرها معهم بالخراج.
قال الشيخ: وجمع الإمام أحمد وأهل الحديث بين العشر والخراج، لأن العشر حق الزرع، والخراج حق الأرض، وصاحبا أبي حنيفة قولهما قول أحمد أو قريب منه. ولأن الموضوع مختلف، وهو نفس الأرض والغلة، والسبب كذلك وهو الانتفاع بالأرض، وحصول النابت بها، فالخراج في رقبتها، والعشر في غلتها، إن كانت لمسلم، وهو مذهب مالك والشافعي وجمهور أهل العلم للعموم، والأرض العشرية لا خراج عليها، وهي المملوكة بإحياء، أو أسلموا عليها، أو أنها لهم بخراج، أو أقطعها الخلفاء، أو قسمت كأرض خيبر، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال الشيخ: سواء كانت الأرض ملكًا له، أو استأجرها، أو أقطعها له الإمام يستغل منفعتها، أو استعارها، أو كانت موقوفة عليه.
قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن كل أرض أسلم أهلها عليها قبل قهرهم، أنها لهم، وأن عليهم فيما زرعوا فيها الزكاة. فأرض الصلح كما قال، وكذلك أرض العنوة، إذا كان عليها خراج أدى الخراج وزكى ما بقي، فمن استأجر أرضًا للزرع، فعليه الزكاة، عند جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، وكذلك المقطعة، عليهم العشر، وهذا قول علماء الإسلام. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ العشر من الصحابة يعطيه لمستحقه، ويأمرهم أن يجاهدوا بما بقي من أموالهم، فمن أقطعه الإمام أرضًا للاستغلال والجهاد، ونبت الزرع على ملكه في أرض عشرية، فما يقول عالم أنه لا عشر عليه. وقال: من قال: إن العشر الذي أوجبه الله لمستحقي الصدقات يسقط؛ فقد خالف الإجماع. وقال: إذا كانت المقاسمة نصفين، فعلى الفلاح تعشير نصفه، وعلى المقطع تعشير نصفه، هذا على القول الصحيح، الذي عليه علماء المسلمين قديمًا وحديثًا.(5/211)
.
...........................................................
ولا زكاة في قدر الخراج، إن لم يكن له مال آخر(1) (وإذا أَخذ من ملكه أو موات) كرؤُوس الجبال(2) (من العسل مائة وستين رطلاً عراقيًا(3) ففيه عشره) قال الإمام: أَذهب إلى أَن في العسل زكاة، العشر، قد أَخذ عمر منهم الزكاة(4)
__________
(1) أي يقابل قدر الخراج، لأنه كدين الآدمي، وتقدم أنه يمنع، فكذا الخراج، فإن كان في غلتها ما لا زكاة فيه، جعله في مقابلة الخراج إن أوفى به، لأنه أحوط. وإن لم يكن لها غلة إلا ما فيه الزكاة، أدى الخراج من غلتها، وزكى الباقي إن بلغ نصابًا.
(2) أو أخذ من ملك غيره، لأن العسل لا يملك بملك الأرض كالصيد، وسواء كانت الأرض عشرية أو خراجية.
(3) وجملته ثلاثون صاعًا نبوية، وتقديره بها لما رواه الجوزجاني عن عمر، أن ناسًا سألوه فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع لنا واديًا باليمن، فيه خلايا من نحل، وإن ناسًا يسرقونها. فقال عمر: إن أديتم صدقتها، من كل عشرة أفراق فرقًا، حميناها لكم.
(4) يشير إلى ما تقدم، وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ في زمانه من قرب العسل، من كل عشر قرب قربة. رواه ابن ماجه والأثرم، وأبو عبيد وغيرهم، ولابن ماجه وغيره عن أبي سيارة، قلت: يا رسول الله، إن لي نحلاً. قال «فأد العشور» قال: فاحم لها جبلها. قال: فحمى لها جبلها. وغير ذلك من الآثار، قال شيخ الإسلام: أوجبها الإمام أحمد في العسل، لما فيه من الآثار التي جمعها، وإن كان غيره قد لم يبلغه إلا من طريق ضعيف، وتسوية بين جنس ما أنزل الله من السماء، وما أخرجه من الأرض. ولما رجع أن المعتبر في الخارج من الأرض الإدخار، قال: ولهذا تجب الزكاة عندنا في العسل، وهو رطب، ولا يوسق لكونه يبقى ويدخر. اهـ. ولأن العسل مأكول، متولد من الشجر، يكال ويدخر، فأشبه التمر، وقال المجد: القياس عدم الوجوب، لولا الآثار.(5/212)
.
ولا زكاة فيما ينزل من السماء على الشجر، كالمن والترنجبيل(1). ومن زكى ما ذكر من المعشرات مرة، فلا زكاة فيه بعد، لأنه غير مرصد للنماء(2).
__________
(1) والشيرخشك واللاذن ونحوها، لعدم النص، ولأن الأصل عدم الوجوب، «والمن» هو كل طل ينزل من السماء، على شجر أو حجر، يحلو وينعقد عسلآً، ويجف جفاف الصمغ، كالشيرخشت والترنجبين، وفي الصحاح: المن كالترنجبين. اهـ. والترنجبين هو المن المذكور في القرآن، شيء كان يسقط على الشجر، حلو يشرب.
(2) فهو كعرض القنية، بل أولى، ولنقصه بالأكل ونحوه. فإن الزكاة، إنما تتكرر في الأموال النامية، وما ادخر فهو منقطع النماء، متعرض للنفاد، ولأن الله علق وجوب الزكاة بحصاده، والحصاد لا يتكرر، وهذا قول جميع الفقهاء إلا الحسن، قال الماوردي: خالف الإجماع. وقال غير واحد من أهل العلم: لا تجب زكاة المعشرات بعد الأول، إذا كان زكاها زكاة معشرات، ولو ادخرها للتجارة، لأنها لا تصير لها إلا بعد البيع، كعرض القنية، لا إن كان بذره من عرض تجارة، وبذره بنية التجارة ففيه الزكاة، إذا حال عليه الحول، وأما تضمين أموال العشر والخراج فباطل، قال أحمد في حديث ابن عمر «في القبالات ربًا»: هو أن يتقبل بالقرية، فيها العلوج والنخل «ربًا» أي في حكمه في التحريم والبطلان. وعن ابن عباس: ألا وهي القبالات. والقبيل الكفيل والعريف.(5/213)
والمعدن إن كان ذهبًا أو فضة ففيه ربع عشره إن بلغ نصابًا(1) وإن كان غيرهما ففيه ربع عشر قيمته، إن بلغت نصابًا(2)
__________
(1) في الحال وفاقًا، لقوله تعالى { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ } وأقطع النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن الحارث المعادن القبلية، قال: فتلك لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم. رواه أبو داود ومالك وغيرهما، وكانوا يؤدون عنها الحق، وهو عمل المسلمين، قال الشيخ: وهو مذهب مالك والشافعي، وأما أبو حنيفة فيجعل فيه الخمس. اهـ. وإنما لم نلحقه بالركاز لأن الركاز مال كافر، أِشبه الغنيمة، وهذا وجب مواساة، وشكرًا لنعمة الغنى، فاعتبر له النصاب، كسائر الأموال، ولأنه مستفاد من الأرض، أشبه الزرع والثمر، والواجب فيه ربع العشر لقوله «في الرقة ربع العشر» والمعدن المكان الذي عدن فيه شيء من جواهر الأرض، وكل متولد في الأرض من غير جنسها، ليس نباتًا، وسمي معدنًا لعدون ما أنبته الله فيه، يقال: عدن بالمكان يعدن – بكسر الدال – عدونا: أقام، وقال الجوهري: سمي معدنًا لإقامة الناس فيه.
(2) أي وإن كان ما أخذ من المعدن غير الذهب والفضة، ففيه ربع عشر قيمته، إن بلغت قيمته نصابًا من الذهب أو الفضة في الحال وفاقًا، بعد السبك والتصفية، وإنما اعتبر النصاب بهما، لأنهما قيم الأشياء، وما سواهما من المعادن كثيرة، وتجب فيها الزكاة عندنا، فمنها الجواهر والبلور والعقيق، والكحل والزرنيخ والمغرة، والسندوس والنورة والكبريت، والزفت والملح والزئبق، والقار والنفط والياقوت، والبنفش والزبرجد، والزاج والفيروزج، والزجاج والموميان، واليتم والرخام والبرام، وغير ذلك مما يسمى معدنًا. قال ابن الجوزي: أحصيت المعادن فوجدوها سبعمائة معدن. وقال أحمد: كل ما وقع عليه اسم المعدن، ففيه الزكاة، حيث كان في ملكه، أو في البراري. جزم به في الرعاية وغيرها، وكذا إن كان
في ملك غيره، إن كان جاريًا، وإلا فلمالك المكان، لأنه جزء من أجزاء الأرض، ولا تتكرر زكاته كالمعشرات، غير نقد، لأنه معد للنماء، ولا زكاة في مسك وزباد، ومخرج من بحر كلؤلؤ ومرجان وزبرجد، وسمك ومسك وغيرها وفاقًا.(5/214)
.
بعد سبك وتصفية(1) إن كان المخرج له من أهل وجوب الزكاة(2) (والركاز ما وجد من دفن الجاهلية) بكسر الدال أي مدفونهم(3) أو من تقدم من كفار، عليه أو على بعضه علامة كفر فقط(4).
__________
(1) إن كان أثمانًا، لأنه قبل ذلك لا يتحقق إخراج الواجب، فلم يجب كالحبوب، أو كان منطبعًا كصفر ورصاص وحديد، أو لا كياقوت وعقيق، ويستقر الوجوب بإحرازه.
(2) فخرج الكافر والمكاتب، والمدين دينًا يستغرق النصاب أو ينقصه، فإنه لا زكاة عليه في المعدن ولا غيره، إلا نصارى بني تغلب فعليهم زكاتان. و«مخرج» بكسر الراء اسم فاعل من الثلاثي المزيد.
(3) قاله القاضي والموفق وغيرهما، وقال الخليل وابن سيده وغيرهما: قطع من ذهب أو فضة يخرج من الأرض أو المعدن. فلعل ما فسروه به لغة، وما فسره الآخرون شرعًا، وسمي ركازًا لأنه ركز في الأرض أي أقر، أو من الركوز أي التغييب، كما يقال: ركزت الرمح، وركزه يركزه بضم الكاف، ودفن الشيء يدفنه دفنًا ستره. والجاهلية ما كان قبل الإسلام، سموا بذلك لكونهم قبل الإسلام على الجهل الصرف. وألحق الشيخ بالمدفون حكمًا الموجود ظاهرًا بخراب جاهلي، أو طريق غير مسلوك ونحوه.
(4) لا علامة إسلام، فيعرف دفن الجاهلية بأن يوجد عليه أسماء ملوكهم أو صلبانهم، ونحو ذلك، وقال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمعت أهل العلم يقولونه، إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية، ما لم يطلب بمال، ولم يكلف فيه بنفقة، ولا كبير عمل، ولا مؤنة.(5/215)
(ففيه الخمس في قليله وكثيره) ولو عرضًا(1) لقوله صلى الله عليه وسلم «وفي الركاز الخمس» متفق عليه عن أبي هريرة(2) ويصرف مصرف الفيء المطلق، للمصالح كلها(3) وباقيه لواجده، ولو أجيرًا لغير طلبه(4).
__________
(1) من أي نوع كان من أنواع المال، كالنقدين والحديد والرصاص ونحوها قل أو كثر، في الحال وفاقًا، فلا يعتبر له حول، بخلاف المعدن والزرع، لكونهما يحتاجان إلى كلفة، فاعتبر لهما النصاب، وإتيانه بـ«لو» إشارة إلى خلاف أبي حنيفة، وأما النقد فإجماع كما يأتي.
(2) قال ابن المنذر وغيره: لا أعلم أحدًا خالف في هذا الحديث إلا الحسن، ولأنه مال مظهور عليه من مال الكفار، فوجب فيه الخمس كالغنيمة، وسواء كان واجده ذميًا أو صغيرًا أو مجنونًا.
(3) وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، وجمهور العلماء، لفعل عمر رضي الله عنه، لما أتاه رجل وجد ألفًا مدفونة خارج المدينة، فأخذ منها مائتي دينار، ودفع بقيتها إلى الرجل، رواه أبو عبيد، ولأنه مال مخموس كخمس الغنيمة.
(4) أي الباقي بعد الخمس من الركاز، إن كان قد أخرج الخمس من عينه، أو الباقي بعد ما يقابل المخرج عنه من غيره لواجده، لفعل عمر وعلي، فإنهما دفعا باقي الركاز لواجده، وتقدم أنه مال كافر مظهور عليه، فكان لواجده بعد الخمس كالغنيمة، ولو كان الواجد له أجيرًا لغير طلبه، كنقض جدار، وحفر بئر ونحوها. فهو له لا لمستأجره، فإن كان واجده أجيرًا فيه، فلمن آجره، لأن الواجد نائب عنه في استخراجه، لكن لو آجره لطلب ركاز، فوجد غيره، فهو لواجده، لأنه ليس أجيرًا لطلب ما وجده، ويجوز إخراج الخمس من غيره، وللإمام رده أو بعضه عليه، أو تركه له قبل قبضه كالخراج، لأنه فيء.(5/216)
وإن كان على شيء منه علامة المسلمين فلقطة(1) وكذا إن لم تكن علامة(2).
باب زكاة النقدين
__________
(1) أي فإن كان ما وجد، عليه علامة المسلمين بأسماء ملوكهم أو أنبيائهم، أو آية من القرآن، ونحو ذلك، أو على بعضه، ,على باقيه علامة الكفار، أو كان ما عليه علامة الإسلام عليه علامة الكفر، فليس ذلك بركاز، لأن ذلك قرينة صيرورته إلى مسلم، وكذا إن لم يوجد عليه علامة، كالأواني والحلي والسبائك فلقطة، يجرى عليه أحكام اللقطة الآتية في بابها، لانتفاء الشرط، وهو علامة الكفار.
(2) مطلقًا فلقطة، تغليبًا لحكم دار الإسلام، ولا يعلم زوال ملكه، وإن وجد الركاز في فلاة أو في ملك أحياه ونحوه، فله بلا نزاع، وإن وجده في ملك انتقل إليه، أو في ملك آدمي معصوم، فله في اصح الروايتين، والرواية الثانية: لمن انتقل عنه إن اعترف به، وإلا فلا. وإن وجده في أرض الحرب فركاز، وإن وجده بجماعة لهم منعة فغنيمة.(5/217)
أي الذهب والفضة(1) (يجب في الذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً(2).
__________
(1) وحكم المصوغ منهما، والتحلي بهما، وما يتعلق بذلك، وهما الأثمان، فلا تدخل فيهما الفلوس، ولو كانت رائجة، والأصل في زكاة النقدين الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم } وفي الصحيحين «ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار» الحديث واتفق أئمة الفتوى بأن المراد بالكنز المذكور في القرآن والحديث كل ما وجبت فيه الزكاة، فلم تؤد زكاته، وما أخرجت منه فليس بكنز، والكنز كل شيء مجموع بعضه على بعض، سواء كنزه في بطن الأرض أم على ظهرها، وقال الشيخ وغيره: دل القرآن والحديث على إيجاب الزكاة في الذهب، كما وجبت في الفضة، وحكى الإجماع غير واحد ممن يحكي الإجماع، وسيما بالنقدين للأخذ بهما والإعطاء، أو لجودتهما، أو لإخراج الزيف منهما.
(2) وفاقًا، وذكر ابن المنذر والشيخ وغيرهما أن الزكاة تجب في عشرين دينارًا، كما تجب في مائتي درهم، وأنه قد حكى مالك إجماع أهل المدينة، وما حكى خلافًا إلا على الحسن، وأما ما دون العشرين، فقال الشيخ، وغيره: إن لم تكن قيمته مائتي درهم، فلا زكاة فيه بالإجماع. وإن كان أقل من عشرين، وقيمته مائتي درهم، ففيه الزكاة بعض العلماء من السلف. اهـ. فإن كان أقل، وعنده ذهب أو عرض تجارة، أكمل به بلا نزاع.(5/218)
وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم) إسلامي(1) (ربع العشر منهما)(2) لحديث ابن عمر وعائشة مرفوعًا، أنه كان يأْخذ من كل عشرين مثقالاً نصف مثقال، رواه ابن ماجه، وعن علي نحوه(3) وحديث أنس مرفوعًا «في الرقة ربع العشر» متفق عليه(4).
__________
(1) بلا نزاع، حكاه ابن المنذر وابن عبد البر والشيخ وغيرهم.
(2) إجماعًا، مضروبين أو غير مضروبين، والحول شرط إجماعًا كما تقدم.
(3) رواه سعيد والأثرم، وفيه «وليس عليك شيء» يعني في الذهب «حتى يكون لك عشرون دينارًا، ففيها نصف دينار» وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده مرفوعًا «ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة» رواه أبو عبيد وغيره، وقال النووي وغيره: المعول فيه على الإجماع، وليس في الأحاديث الصحيحة تحديد كالفضة، ولكن أجمع من يعتد به في الإجماع على ذلك، وتقدم أنها لم تتغير المثاقيل في جاهلية ولا إسلام.
(4) وفيهما من حديث أبي سعيد «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ولمسلم عن جابر نحوه، قال ابن عبد البر وغيره: فيه إيجابها في هذا المقدار، ونفيها عما دونه. وقال الشيخ وغيره: وهو نص على العفو فيما دونها، وإيجاب لها في الخمس فما فوقها، وعليه أكثر العلماء. وذكروه مذهب الأئمة الثلاثة، وأبي يوسف ومحمد وغيرهم، وحكاه الموفق عنهم وعلي وابن عمر، وقال: ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة فكان إجماعًا، وفي الصحيح وغيره «فإن لم يكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها» ولأحمد وغيره عن علي وغيره نحوه، وفي رواية «وليس فيما دون المائتين زكاة» وقال البخاري: كلاهما عندي صحيح. والزيادة فيهما بحسابه، والأوقية أربعون درهمًا بلا نزاع، وبالمثاقيل مائة وأربعون مثقالا «والرقة» – بكسر الراء وتخفيف القاف – الفضة الخالصة، مضروبة كانت أو غير مضروبة، قيل: أصلها الورق فحذفت الواو وعوض عنها الهاء.(5/219)
والاعتبار بالدرهم الإسلامي، الذي وزنه ستة دوانق(1).
__________
(1) بكسر النون وفتحها، والكسر أفصح، وأجمع أهل العصر الأول على أنه ستة دوانق، فهو سدس درهم إسلامي، وكانت الدراهم في الجاهلية مختلفة، «بغلية» ثمانية دوانق، و«طبرية» أربعة، وفي الإسلام ستة، وأجمع أهل العصر الأول عليه، وقال القاضي وغيره: لا يصح أن تكون الدراهم والأوقية مجهولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، إلى زمن عبد الملك، وقد وجبت الزكاة في أعداد منها، وتصح بها المبايعات والأنكحة، كما في الأخبار الصحيحة، وإنما معنى ما نقل، أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام، وعلى صفة لا تختلف فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه، فجمعوا أكبرها وأصغرها، وضربوه على وزنهم، قال الزركشي: فصار عدلاً بين الصغير والكبير، ووافقت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودرهمه الذي قدر به المقادير الشرعية.
واختار الشيخ وغيره أنه لا حد للدرهم والدينار، فلو كان أربعة دوانق أو ثمانية، خالصة أو مغشوشة إلا درهمًا أسود، عمل به في الزكاة والسرقة وغيرهما؛ وقال: نصاب الأثمان هو المتعارف في كل زمن، من خالص ومشوب، وصغير وكبير، ولا قاعدة في ذلك. قال في الفروع: ومعناه أن الشارع والخلفاء الراشدين، رتبوا على الدراهم أحكامًا؛ فمحال أن ينصرف كلامهم إلى غير موجود ببلادهم أو زمنهم، لأنهم لا يعرفونه، ولا يعرفه المخاطب، ولا يراد ولا يفهم، وغايته العموم، فيعم كل بلد وزمنه بحسبه وعادته، وعرفه، أما تقييد كلامهم واعتباره بأمر حادث خاصة، غير موجود ببلادهم وزمنهم، من غير دليل كيف يمكن، وقال أحمد: قد اصطلح الناس على دراهمنا ودنانيرنا هذه، لا اختلاف فيها.(5/220)
والعشرة من الدراهم سبعة مثاقيل(1) فالدرهم نصف مثقال وخمسه، وهو خمسون حبة وخمسا حبة شعير(2) والعشرون مثقالاً خمسة وعشرون دينارًا وسبعا دينار وتسعه، على التحديد بالذي زنته درهم وثمن درهم(3) ويزكى مغشوش، إذا بلغ خالصه نصابًا وزنًا(4)
__________
(1) إجماعًا، والمثقال في الأصل مقدار من الوزن، أي شيء كان، ثم غلب إطلاقه على الدينار، والمثقال وزنه ثنتان وسبعون حبة، من حب الشعير الممتلئ، غير الخارج عن مقادير حب الشعير غالبًا.
(2) من المتوسط، مساحة ست شعرات من شعر البغل.
(3) على التحديد، والدنانير كانت تأتيهم مضروبة من بلاد الروم، وأول من ضربها في الإسلام عبد الملك بن مروان، وحرر نصاب الذهب بالجنيه الإنكليزي أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع جنيه، والفضة بالريال العربي ستة وخمسون ريالاً، مائة وأربعون مثقالاً، على ما اختاره الشيخ، وقواه شيخنا، وعلى القول الثاني خالصة اثنان وستون ريالاً، قال ابن أبي الفتح: وزن الذهب يزيد على وزن الفضة، المساوي جرمها لجرمه ثلاثة أسباع الفضة.
(4) وهذا مذهب مالك والشافعي، سواء كان من الذهب أو الفضة، والأفضل أن يخرج عنه ما لا غش فيه، فإن زكاه منه، فإن علم قدر الغش في كل دينار جاز، وإلا لم يجز، إلا أن يستظهر، فيخرج قدر الزكاة بيقين، وإن أسقط الغش، وزكى على قدر الذهب، كمن معه أربعة وعشرون دينارًا، سدسها غش، فأسقطه وأخرج نصف دينار جاز، لأنه لا زكاة في غشها، إلا أن يكون فيه الزكاة كالفضة، والغش أن يخلط بما يرديه، من حديد ونحوه، وقال أحمد: ليس لأهل الإسلام أن يضربوا إلا جيدًا. وقال غير واحد: تجوز المعاملة به، لعموم البلوى. وقال أحمد: لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب، بإذن السلطان، لأن الناس إذا رخص لهم، ركبوا العظائم. وكذا قال غيره، لما فيه من الإفتيات عليه.
قال الشيخ: ينبغي للسلطان أن يضرب للرعايا فلوسًا، تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم، ولا يتّجر ذو السلطان في الفلوس، بأن يشتري نحاسًا، فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب بقيمته، من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها ظلم عظيم، وإذا ضرب لهم فلوسًا أخرى، أفسد ما كان عندهم من الأموال، بنقص أسعارها، وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم، أنه نهى عن كسر سكة المسلمين، الجائزة بينهم، إلا من بأس، وقال: الكيمياء غش، وهي تشبيه المصنوع من ذهب أو فضة بالمخلوق، باطلة في العقل، محرمة بلا نزاع بين علماء المسلمين، لحديث «من غشنا فليس منا» ويقترن بها كثيرًا الكيمياء التي هي من السحر، ومن طلب زيادة المال بما حرمه الله، عوقب بنقيض قصده، كالمرابي، وهي أشد تحريمًا منه.(5/221)
.
(ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب) بالأَجزاء(1) فلو ملك عشرة مثاقيل، ومائة درهم، فكل منهما نصف
نصاب، ومجموعهما نصاب(2) ويجزئُ إخراج زكاة أحدهما من الآخر(3) لأن مقاصدهما وزكاتهما متفقة، فهما كنوعي جنس(4) ولا فرق بين الحاضر والدين(5) (وتضم قيمة العروض) أي عروض التجارة (إلى كل منهما)(6) كمن له عشرة مثاقيل، ومتاع قيمته عشرة أُخرى، أَو له مائة درهم، ومتاع قيمته مثلها(7) ولو كان ذهب وفضة وعروض، ضم الجميع في تكميل النصاب(8).
__________
(1) كالنصف والربع، لا بالقيمة، وفاقًا لمالك وأبي حنيفة، وصححه غير واحد، وأنه لا يسع الناس غيره، لأن الضم بالأجزاء متيقن، ورجع أحمد عن القول بعدم الضم.
(2) أي مجموع النصفين، العشرة من الذهب، والمائة من الفضة، نصاب كامل، بخلاف عشرة مثاقيل، وتسعين درهمًا، تبلغ قيمتها عشرة، فلا ضم إذًا وإن بلغ أحدهما نصابًا، ضم إليه ما نقص من الآخر.
(3) أي يجزئ إخراج زكاة أحد النقدين من الآخر، فيخرج ذهبًا عن فضة، وعكسه بالقيمة، لا فلوسًا عنهما.
(4) من حب أو ثمر، في ضم أحدهما إلى الآخر، وفي الاجتزاء بأحدهما عن الآخر.
(5) أي لا فرق فيما تقدم من الذهب أو الفضة، في وجوب الزكاة، بين الحاضر ضد الغائب، والدين وهو ماله أجله أو لا كقرض.
(6) قال الموفق وغيره: لا أعلم فيه خلافًا، وحكاه ابن الهمام إجماعًا.
(7) أي مائة درهم، لأن الزكاة إنما تجب في قيمة العروض، وهي تقوم بكل منهما، فكانا مع القيمة جنسًا واحدًا.
(8) أي ضم الجميع من الذهب والفضة وعروض التجارة، بعضها إلى بعض
في تكميل النصاب، جزم به الموفق وغيره، فلو ملك خمسة مثاقيل، ومائة درهم، وعروض تجارة، تساوي خمسة مثاقيل، ضم الكل وزكاه، لأن العروض مضموم إلى كل واحد منهما، فوجب ضمهما إليه. و«كان» هنا تامة أي وجد.(5/222)
ويضم جيد كل جنس ومضروبه، إلى رديئه وتبره(1) ويخرج من كل نوع بحصته(2) والأفضل من الأَعلى(3) ويجزيءُ إخراج رديء عن أعلى مع الفضل(4) (ويباح للذكر من الفضة الخاتم) لأَنه عليه السلام اتخذ خاتمًا من ورق، متفق عليه(5)
__________
(1) وفاقًا، كما تضم المواشي والحبوب والثمار، ولأنه إذا ضم أحد الجنسين إلى الآخر، فضم أحد النوعين أولى، و«التبر» بالكسر الذهب والفضة في تراب معدنهما، أو قبل أن يصاغا، فإذا صيغا فهما ذهب وفضة.
(2) كالحب والثمر، وتقدم اختيار الموفق أنه يزكى كل نوع من الوسط، وإن كان المال أنواعًا، متساوية القيمة، جاز إخراجها من أحدهما، ويخرج الذهب عن الفضة وعكسه، وصوبه في الإنصاف.
(3) لأنه أنفع للفقراء، ويخرج عن الجيد الصحيح من جنسه بلا نزاع، لأن إخراج غير ذلك خبيث، فلم يجز وكالماشية، ويجزئ من الرديء من جنسه، لأنها مواساة.
(4) أي الزيادة، كدينار ونصف رديء، عن دينار جيد، مع تساوي القيمة، لأنه أدى الواجب قدرًا وقيمة، أشبه ما لو أخرج من عينه، وإن أخرج من الأعلى بقدر القيمة دون الوزن، لم يجزئه وفاقًا.
(5) وفيه أنه نزع خاتم الذهب، وقال «والله لا ألبسه أبدًا» ولمسلم «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار» قال الشيخ: أما خاتم الفضة، فيباح اتخاذه، باتفاق
الأئمة، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اتخاذ ذلك، بخلاف الذهب، فإنه حرام باتفاق الأئمة الربعة، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك. اهـ. ولا بأس بجعل خاتم الفضة أكثر من مثقال، ما لم يخرج عن العادة، وقال الشيخ: لبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم، لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه، فإذا أباحت السنة خاتم الفضة، دل على إباحة ما في معناه، وما هو أولى منه بالإباحة، وما لم يكن كذلك، فيحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه، والتحريم يفتقر إلى دليل، والأصل عدمه، والورق بفتح الواو وكسر الراء، ويجوز إسكان الراء مع فتح الواو وكسرها قال الأكثر: هو مختص بالدراهم المضروبة. وقال جماعة: يطلق على كل الفضة، وإن لم تكن مضروبة، كما جزم به الشارح.(5/223)
.
والأَفضل جعل فصه مما يلي كفه(1) وله جعل فصه منه ومن غيره(2) والأَولى جعله في يساره(3).
__________
(1) أي استحبابًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، متفق عليه. وكان ابن عباس يجعله مما يلي ظهر كفه، وكذا علي بن عبد الله بن جعفر، قال في الإنصاف: وأكثر الناس يفعلون ذلك. وقال السيوطي: قال العلماء: أحاديث الباطن أكثر وأصح، فهو أفضل.
(2) لما في الصحيح وغيره عن أنس «فصه منه» ولمسلم: كان فصه حبشيًا. وقال أحمد: ليس به بأس. واحتج بفعل ابن عمر، ويجوز بلا فص، وحكى ابن حزم الاتفاق على أن التختم بجميع الأحجار مباح، من الياقوت وغيره.
(3) قال الدارقطني: المحفوظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره. قال الحافظ: وردت رواية ضعيفة أنه تختم أولاً في اليمين، ثم حوله إلى اليسار. أخرجه ابن عدي، واعتمد عليه البغوي، فجمع بين الأحاديث، وكان
ذلك آخر الأمرين. اهـ. وقال النووي: التختم في اليمين أو اليسار كلاهما صح فعله من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه في اليمين أفضل، لأنه زينة، واليمين به أولى. اهـ. وتختمه في اليمين في الصحيح عن ابن عمر، وأنس عند مسلم، وعند غيرهما عن ابن عباس وعلي، وعشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي اليسار عند مسلم عن أنس، وابن عمر عند أبي داود، وقال أبو زرعة وغيره: في اليمين أكثر وأصح.(5/224)
ويكره بسبابة ووسطى(1) ويكره أن يكتب عليه ذكر الله، قرآنا أو غيره(2).
__________
(1) للنهي الصحيح عن ذلك في صحيح مسلم وغيره: نهاني أن أجعل خاتمي في هذه والتي تليها. يعني الوسطى والتي تليها، لا إبهام وخنصر، وظاهر الخبر: لا يكره بغير السبابة والوسطى، وإن كان الخنصر أفضل، اقتصارًا على النص، ويؤخذ منه أن مخالفة السنة بلا قصد المخالفة، لا كراهة فيها، حيث لم يرد نهي خاص، ما لم تتأكد السنة، كالوتر والرواتب، فإنه تكره المداومة على تركها، ويأثم كما تقدم، وأجمع المسلمون على أن السنة للرجل جعل خاتمه في خنصره.
(2) لدخول الخلاء به، ولعل المراد ما لم يكن المكتوب علمًا، كاسم لأبيه مشتملاً على اسم الله، وفي الرعاية: أو ذكر رسوله وقال الشيخ: وكتابة القرآن على الحياصة، والدرهم والدينار ونحوها مكروهة، فإنه يفضي إلى ابتذال القرآن وامتهانه، ووقوعه في المواضع التي ينزه القرآن عنها، وإن كان من العلماء من رخص في حمل الدراهم المكتوب عليها القرآن، فذلك للحاجة، ولم يرخص في كتابة القرآن عليها. وفي الفروع: ويتوجه احتمال: لا يكره ذلك، وفاقًا لمالك والشافعي وأكثر العلماء، لما في الصحيح في نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم. وورد عن كثير من السلف كتابة ذكر الله على خواتيمهم، ولا يجوز نقش صورة حيوان بلا نزاع، للنصوص الثابتة في ذلك، ويحرم لبسه.(5/225)
ولو اتخذ لنفسه عدة خواتيم، لم تسقط الزكاة فيما خرج عن العادة(1) إلا أن يتخذ ذلك لولده أو عبده(2) (و) يباح له (قبيعة السيف) وهي ما يجعل على طرف القبضة(3) قال أَنس: كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة. رواه الأَثرم(4) (و) يباح له (حلية المنطقة) وهي ما يشد بها الوسط، وتسميها العامة الحياصة(5).
__________
(1) فإن لم يخرج عن العادة ولو تعدد، لم تجب زكاته، لأنه حلي أعد لاستعمال مباح، قال في الإنصاف: الأظهر جواز لبس خاتمين فأكثر جميعًا. والمراد: إذا لم يخرج عن العادة، وكذا لبسهما في إصبع واحد، إلا إذا حصل تشبه بالنساء، قال ابن رجب: وهذا يدل على منع لبس أكثر من خاتم واحد، لأنه مخالف للعادة، وهذا يختلف باختلاف العوائد.
(2) يعني فتسقط، وإن كان لسرف أو مباهاة فقط، فقال في الفروع: تجب قولاً واحدًا.
(3) يعين مقبضة من فضة، واتفق الأئمة على جوازها.
(4) ورواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وعبارة الخرقي: لبيس في حلية سيف الرجل زكاة. أعم، وهي مقتضى كلام أحمد، وعليه اعتمد الموفق في شرحه، قال ابن هشام: كان سيف الزبير محلى بالفضة. رواه الأثرم، ولأنها حلية معتادة للرجل، أشبهت الخاتم.
(5) قاله الخليل، من الحوص، في الأصل التضييق بين شيئين، والأصل الحواصة، سير يشد به حزام السرج، قال الشيخ: وأما الحياصة، إذا كان بها فضة يسيرة فإنها تباح، على أصح القولين. اهـ. ولو اتخذ لنفسه عدة مناطق ونحوها، فاستظهر في الإقناع وغيره جواز ذلك، إن لم يخرج عن العادة، وأما حياصة الذهب فمحرمة للخبر.(5/226)
واتخذ الصحابة المناطق، محلاة بالفضة(1) (ونحوه) أي نحو ما ذكر، كحلية الجوشن والخوذة، والخف والران وحمائل السيف(2) لأن ذلك يساوي المنطقة معنى، فوجب أن يساويها حكمًا(3)، قال الشيخ تقي الدين: وتركاش النشاب والكلاليب(4).
__________
(1) ولأن حلية المنطقة معتادة للرجل، فهي كالخاتم.
(2) وكذا المغفر والنعل، ورأس الرمح، وشعيرة السكين، ونحو ذلك، كل تحليتها مباحة، كحلية المنطقة، «والجوشن» بالفتح والدرع، جمعه جواشن، «والخوذة» البيضة، وهي المغفر، جمعه خوذ كغرف، فارسي معرب «والخف» واحد الخفاف، وهو الخف المشهور، لأن هذه معتادة للرجل، فهي كالخاتم، «والران» كالخف، إلا أنه لا قدم له، وهو أطول من الخف، و«الحمائل» واحدها حمالة، بالكسر عند الخليل، وقال الأصمعي: لا واحد لها من لفظها وإنما واحدها محمل، وهي علائقه، ونحو ذلك، مباحة التحلية.
(3) يعني في إباحة التحلية، وهذا مذهب أبي حنيفة.
(4) أي بيسير ونحو ذلك، وقال: غشاء القوس والنشاب والقوقل، وحلية المهماز، الذي يحتاج إليه لركوب الخيل. وقال: لا حدَّ للمباح من ذلك. وقال: وأما الكلاليب التي تمسك بها العمامة، ويحتاج إليها، إذا كانت بزنة الخواتيم، كالمثقال ونحوه، فهو أولى بالإباحة من الخاتم، فإن الخاتم يتخذ للزينة، وهذا للحاجة. وذكر شعيرة السكين، وحلقة الإناء، ثم قال: وباب اللباس
أوسع من باب الآنية، وأنه يباح للرجل ما يحتاج إليه من ذلك، ويباح يسير الفضة للزينة، وكذلك يسير الذهب التابع لغيره، كالطراز ونحوه، في أصح القولين في مذهب أحمد وغيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الذهب إلا مقطعًا.(5/227)
لأنه يسير تابع(1) ولا يباح غير ذلك، كتحلية المراكب، ولباس الخيل، كاللجم وتحلية الدواة، والمقلمة والكمران والمشط والمكحلة والميل، والمرآة والقنديل(2) (و) يباح للذكر (من الذهب قبيعة السيف)(3).
__________
(1) وعلل المجد بأنه يسير فضة في لباسه.
(2) عند جمهور العلماء، وهو المصباح من زجاج، قال الشيخ: ويكسر، ويصرف في مصلحة المسجد وعمارته، والمراكب من سرج وأقتاب، وكحلية الركاب، «ولباس الخيل» ما يجعل على الخيل، كاللجم جمع لجام معروف، حديدة تجعل في فم الفرس، فارسي معرب، وكثر استعماله حتى سموا اللجام بسيوره وآلته لجامًا، وتحلية الدواة، هو ما يجعل على الدواة من الفضة، «والمقلمة» بهاء: وعاء قلم الكتابة، والمشط: آلة من خشب وغيره يمشط بها الشعر، وكحلى المواشط، وكذا تحلية المسرجة، والمروحة والمشربة، والمدهنة والمجمرة والآنية، وكتب العلم ونحو ذلك، والمنع من اتخاذه هو مذهب مالك والشافعي، وفيه الزكاة عند جماهير العلماء، إذا بلغ نصابًا، سواء حل له لبسه أو لا، أعد للتجارة كحلي الصيارف، أو لقنية أو ادخار أو لا، لأنها إنما سقطت في المباح، المعد للاستعمال، لصرفه عن جهة النماء، فيبقى ما عداه على مقتضى الأصل، وسواء كانت التحلية بفضة أو ذهب.
(3) وكذا خصصها أكثر الأصحاب، وهي ما على مقبضه من فضة أو حديد، وتقدم تعميم الخرقي وغيره.(5/228)
لأن عمر كان له سيف فيه سبائك من ذهب، وعثمان بن حنيف كان في سيفه مسمار من ذهب، ذكرهما أحمد(1) وقيدهما باليسير، مع أنه ذكر أن قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وزنها ثمانية مثاقيل، فيحتمل أنها كانت ذهبًا وفضة، وقد رواه الترمذي كذلك(2) (وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه) كرباط أسنان(3) لأن عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكُلاب، فاتخذ أنفًا من فضة، فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفًا من ذهب؛
__________
(1) والسبائك جمع سبيكة كسفينة، القطعة المذوبة، والمسمار معروف، وتقول «سمر الشيء» من باب نصر، وسمره أيضًا تسميرًا، وظاهرهما إباحة تحلية السيف، الشاملة للقبيعة وغيرها، كما هو مقتضى كلام أحمد، وعليه مشى الخرقي، واختار الشيخ والآمدي وغيرهما إباحته في السلاح والحلي.
(2) عن مزيدة بن مالك العبدي، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة. ولأبي داود عن معاوية: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الذهب إلا مقطعًا.
ورواه النسائي وغيره، وله عن ابن عمر نحوه، ومذهب أحمد والجمهور إباحة اليسير منه، في السلاح والحلي وغيرهما، واختاره الشيخ وغيره.
(3) وإن أمكن اتخاذه من فضة، لأنه ضرورة، فأبيح لأجلها، وربطه شده، وبابه ضرب ونصر.(5/229)
رواه أبو داود وغيره، وصححه الحاكم(1) وروى الأثرم عن موسى بن طلحة، وأبي جمرة الضبعي، وأبي رافع، وثابت البناني، وإسماعيل بن زيد بن ثابت، والمغيرة بن عبد الله، أنهم شدوا أسنانهم بالذهب(2) (ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر)(3).
__________
(1) وغيره، فأخرجه أهل السنن وغيرهم من عرفجة بن أسعد بن كرز التيمي السعدي، أحد فرسان الجاهلية، وكان قطع أنفه يوم الكُلاب بالضم، ماء بين الكوفة والبصرة، وقع فيه حرب في الجاهلية، بين ملوك كندة وتميم، ثم أسلم فاتخذ أنفًا مصنوعًا على صنعة الأنف من فضة، ليمنع به تشوه منظره، بذهاب أنفه، فأنتن عليه، أي فسد وتغير ريحه، فشق بقاؤه عليه منتنًا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذ أنفًا من ذهب، فدل على جواز اتخاذ أنف من ذهب.
(2) وهو ضرورة، فأبيح كالأنف إجماعًا، وكالقبيعة بل أولى، قال في المبدع: ويتوجه جوازه في الأنملة كالسن، وظاهره: يحرم يسير ذلك منفردًا كالإصبع والخاتم إجماعًا، وفي الصحيحين وغيرهما في خاتم الذهب: نزعه وطرحه، وقال «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار جهنم، فيجعلها في يده» وأما إذا كان فص الخاتم ذهبًا، وكان يسيرًا كمسمار ذهب في الخاتم جاز، اختاره المجد والشيخ، وهو ظاهر كلام أحمد في العلم، ومال إليه ابن رجب، وصوبه في الإنصاف، وذكره المذهب على ما اصطلحوه، وذكر أهل الخبرة أن الذهب لا ينتن، ولا يبليه الثرى، ولا يصديه الندى، ولا تنقصه الأرض ولا تأكله، فأما الفضة فإنها تبلى وتصدى، ويعلوها السواد وتنتن.
(3) وفاقًا، لأن الشارع أباح لهن التحلي مطلقًا، فلا يجوز تحديده بالرأي والتحكم، واتفقوا أنه يجوز لها لبس خاتم الفضة، كما يجوز لها لبس خاتم الذهب
إجماعًا، وفي المبدع: وظاهره أن ما لم تجر العادة بلبسه، كالثياب المنسوجة بالذهب، والنعال، لا يباح لهن، لانتفاء التجمل، فلو اتخذته حرم، وفيه الزكاة.(5/230)
كالطوق والخلخال، والسوار والقرط(1) وما في المخانق والمقالد والتاج، وما أشبه ذلك(2) لقوله صلى الله عليه وسلم «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها»(3) ويباح لهما تحل بجوهر ونحوه(4).
__________
(1) والقلادة والتاج والخاتم ونحو ذلك، «والطوق» بالفتح حلي يجعل للعنق، وكل ما استدار بشيء فهو طوق، والجمع أطواق، «والخلخال» كبلبال حلي معروف، تلبسه النساء في سوقهن، جمعه خلاخل وخلاخيل، «والسوار» بالكسر ويضم، ما تستعمله المرأة في يديها، جمعه أسورة، «والقرط» بالضم الشنف، المعلق في شحمة الأذن، أو القرط هو المعلق فيها، سواء كان درة، أو ثومة من فضة، أو معلاقًا من ذهب، جمعه أقراط وقراط، وفي الحديث «ما يمنع إحداكن أن تضع قرطين من فضة».
(2) من حلي النساء المعتاد وفاقًا، قل أو كثر، ولو زاد على ألف مثقال، حتى دراهم ودنانير معراة، أوفى مرسلة، «والمخنقة» القلادة الواقعة على المخنق، يقال: في أجيادهن مخانق «والمقالد» هي القلائد من الحلي، تجعل في عنق المرأة، «والتاج» الإكليل.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من طرق، عن جماعة من الصحابة، وصححاه، فدل على إباحة التحلي بهما لهن، وأجمع العلماء على ذلك، لهذا الخبر وغيره، ولأن المرأة محتاجة للتجمل والتزين لزوجها، فأباح الشارع لها ما تجمل به.
(4) كزمرد وماص، ولؤلؤ وياقوت، ولو في حلي، قال ابن حزم:
اتفقوا على جواز تحلي النساء بالجوهر والياقوت، واختلفوا في ذلك للرجال. وتقدم اتفاقهم على جواز التختم لهما بجميع الأحجار، ولا زكاة فيه، لأنه يعد للاستعمال، كثياب البذلة، إلا أن يعد للكراء أو التجارة، فيقوم ما فيه، تبعًا للنقد.(5/231)
وكره تختمهما بحديد وصفر ونحاس ورصاص(1) (ولا زكاة في حليهما) أي حلي الذكر والأنثى المباح(2) (المعد للاستعمال أو العارية)(3) لقوله عليه السلام «ليس في الحلي زكاة» رواه الطبراني عن جابر(4).
__________
(1) أي وكره لرجل وامرأة تختمهما بحديد وصفر ونحاس ورصاص، نص عليه في رواية الجماعة، وقال: أكره خاتم الحديد، لأنه حلية أهل النار، وكذا دملج ونحوه، مما في معنى الخاتم، وثبت في الصحيحين قوله «ولو خاتمًا من حديد» وهو مذهب الحنفية، وعليه فلا يكره، وما رواه أبو داود وغيره مرفوعًا «إنه حلية أهل النار» ففي صحته نظر، والله أعلم.
(2) وإن لم يستعمله أو يعره، وهذا مذهب مالك، وإحدى الروايتين عن الشافعي، والحلي بضم الحاء وتكسر، والضم أشهر وأكثر، وقد قرئ بهما في السبع، واللام مكسورة، والياء مشددة فيهما، جمع حلي بفتح الحاء وإسكان اللام، ما يزين به، من مصوغ المعدنيان والحجارة.
(3) أي المعد للبسه ونحوه أو عاريته، فلا زكاة فيه، ونقل الشيخ عن غير واحد من الصحابة أنه قال: زكاة الحلي عاريته. قال: والذي ينبغي إذا لم تخرج الزكاة أن يعيره، وهو رواية عن أحمد.
(4) بسند ضعيف، لكن يعضده الاستعمال في عصر النبوة بدون زكاة، وكونه لم يرصد للنماء، والزكاة إنما شرعت في الأموال النامية.(5/232)
وهو قول أنس وجابر، وابن عمر وعائشة وأسماء أُختها(1) حتى ولو اتخذ الرجل حلي النساء لإعارتهن أو بالعكس(2) إن لم يكن فرارًا(3) (وإن أُعد) الحلي (للكرى أو النفقة(4) أو كان محرمًا) كسرج ولجام وآنية(5).
__________
(1) قال الشيخ وغيره؛ وقال أحمد: فيه عن خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأمر أثر عائشة وابن عمر فرواه مالك، وأسماء وأنس رواه الدارقطني، وكونه لا زكاة فيه هو مذهب مالك والشافعي وأبي عبيد وغيرهم، وذكره الأثرم عن خمسة من التابعين، ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل مباح، أشبه ثياب البذلة، وعبيد الخدمة، ودور السكنى، وعنه: تجب، للعمومات، وحديث المسكتين عند أهل السنن، وحديث عائشة عند أبي داود، وفيهما كلام، وأجيب بالتخصيص أو النسخ، لتظاهر الآثار عن الصحابة، والإجماع على الإباحة، وقال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء.
(2) بأن تتخذ المرأة حلي الرجال لإعارتهم، وأما تشبه الرجل بالمرأة وعكسه فيحرم للخبر.
(3) أي من الزكاة في الصورتين فلا تسقط، معاملة له بنقيض قصده.
(4) كحلي المواشط، أو أعده للنفقة إذا احتاج إليه، أو لقنية أو ادخار، أو لم يقصد به شيئًا، وكذا المكروه، قال الشيخ وغيره، فهو باق على أصله في وجوب الزكاة. اهـ. لأن الذهب والفضة تجب فيهما الزكاة، ثم إن الصياغة والإعداد للباس والزينة والانتفاع، غلبت على إسقاط الزكاة، ثم جاء الإعداد للكرى فغلب على الاستعمال، وصار سببًا لإيجاب الزكاة، فصار أقوى مما قوي على إسقاطها.
(5) ومرآة ومشط ومكحلة وميل، ومسرجة ومروحة، ومشربة ومدهنة ومسعط، ومجمرة وملعقة، وقنديل، ومراكب الحيوان، وقلائد الكلاب، وحلية الركاب، وطوق الرجل، وسواره وخاتمه الذهب، وحلية كتب العلم، بخلاف المصحف فيكره، وحلية الدواة والمقلمة، والكمران والمشط، ونحو ذلك مما تقدم وغيره.(5/233)
(ففيه الزكاة) إن بلغ نصابًا وزنًا(1) لأنها إنما سقطت مما أُعد للاستعمال بصرفه عن جهة النماء(2) فيبقى ما عداه على مقتضى الأصل(3) فإن كان معدًا للتجارة، وجبت الزكاة في قيمته، كالعروض(4) ومباح الصناعة إذا لم يكن للتجارة، يعتبر في النصاب بوزنه، وفي الإخراج بقيمته(5).
__________
(1) وفاقًا، قال الشيخ وغيره: وما يحرم اتخاذه كالأواني ففيه الزكاة. وقال الزركشي وغيره: والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص، وفيها الزكاة، ولم يحك جمهور الأصحاب فيه خلافًا، وحكاه الوزير اتفاقًا، وقال الشيخ: إن كانت تكريه ففيه الزكاة، عند جمهور العلماء.
(2) فلم تحتمل الزكاة، كالعقار والأثاث.
(3) من وجوب الزكاة فيه، قال غير واحد: وإن كان ليتيم لا يلبسه، فلوليه إعارته، فإن فعل فلا زكاة فيه، وإن لم يعره ففيه الزكاة، نص عليه.
(4) إذا بلغ نصابًا وزنًا وفاقًا، بلغت قيمته النصاب أو لم تبلغ.
(5) أي والحلي المباح الصناعة، لعدم استعمال أو إعارة ونحوه، إذا لم يكن للتجارة، كالمعد للكرى أو النفقة، يعتبر في النصاب بوزنه.
وفي الإخراج بقيمته، لأنه لو أخرج ربع عشره وزنًا، لفاتت الصنعة المتقدمة شرعًا على الفقراء، وهو ممتنع، فلو كان وزن مائتي درهم، وقيمته مائتين وخمسين، زكاه زكاة مائتين وخمسين، والصناعة بالكسر والفتح، أخص من الحرفة، إذ لا بد فيها من المباشرة.
قال في الفروع: وإن انكسر الحلي، وأمكن لبسه، فهو كالصحيح وفاقًا، وإن احتاج إلى تجديد صنعة زكاه وفاقًا، ولا زكاة في الجوهر واللؤلؤ ونحوهما، وإن كثرت قيمته، أو كان في حلي، إلا أن يكون لتجارة، فيقوم جميعه تبعًا لنقد.(5/234)
ويحرم أن يحلى مسجد، أو يموه سقف أو حائط بنقد(1) وتجب إزالته وزكاته بشرطه(2) إلا إذا استهلك، فلم يجتمع منه شيٌ(3).
__________
(1) أو محراب ونحوه، بنقد ذهب أو فضة، وكذا سرج ولجام، ودواة ومقلمة ونحوها، بذهب أو فضة، كما تقدم، لأنه سرف وخيلاء، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التختم بخاتم الذهب، فتمويه نحو السقف أولى.
(2) أي إذا بلغ نصابًا بنفسه، أو بضمه إلى غيره، للعموم.
(3) أي بعرضه على النار، فإذا عرض عليها، ولم يجتمع منه ذهب ولا فضة، فلا تجب إزالته، ولا زكاته، لعدم المالية، ولما ولي عمر بن عبد العزيز، أراد جمع ما في مسجد دمشق، مما موه به من الذهب، فقيل له: إنه لا يجتمع منه شيء فتركه.(5/235)
باب زكاة العروض(1)
جمع عرض بإسكان الراء، وهو ما أُعد لبيع وشراء لأَجل ربح(2)
__________
(1) الأصل في وجوب الزكاة فيها عموم قوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وقوله { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } ومال التجارة أعم الأموال، فكانت أولى بالدخول، ولأبي داود عن سمرة: كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع. وقال عمر لحماس: أدَّ زكاة مالك. فقال: مالي إلا جعاب وأدم. فقال: قومها وأدَّ زكاتها. واشتهرت القصة من غير نكير، واحتج به أحمد وغيره، وقال المجد: هو إجماع. ولأنه مال نامٍ، فوجبت فيه الزكاة كالسائمة، وقال النووي في قوله «قد احتبس أدراعه وأعتده»: فيه وجوب زكاة التجارة،وهو قول جمهور السلف والخلف. وقال ابن المنذر والوزير وغيرهما: أجمع أهل العلم أن في العروض التي يراد بها التجارة الزكاة، إذا حال عليها الحول، سواء في ذلك الخيل والرقيق وغيرهما. وقال شيخ الإسلام: الأئمة الأربعة، وسائر الأمة إلا من شذ، متفقون على وجوبها في عرض التجارة، سواء كان التاجر مقيمًا أو مسافرًا، وسواء كان متربصًا، وهو الذي يشتري التجارية وقت رخصها، ويدخرها إلى وقت ارتفاع السعر، أو مديرًا كالتجار الذين في الحوانيت، سواء كانت التجارة بزًا من جديد أو لبيس أو طعامًا من قوت أو فاكهة او أدم أو غير ذلك، أو كانت آنية كالفخار ونحوه، أو حيوانًا من رقيق أو خيل أو بغال أو حمير أو غنم، معلفة أو غير ذلك، فالتجارات هي أغلب أموال أهل الأمصار الباطنة، كما أن الحيوانات الماشية هي أغلب الأموال الظاهرة. اهـ. ولا تصير للتجارة إلا بشرطين، أن يكون ملكها بفعله، والثاني: بنية التجارة، كما سيأتي.
(2) ولو من نقد، وقال أهل اللغة: هو جميع صنوف الأموال، غير الذهب
والفضة، من الحيوانات والثياب وغيرها، وحكى الوزير وغيره الإجماع على أن الخيل والبغال والحمير، إذا كانت معدة للتجارة، ففي قيمتها الزكاة، إذا بلغت نصابًا، وإن لم تكن للتجارة فلا، وترجم غيره بـ«زكاة التجارة» وهي أشمل، وأما الذهب والفضة فعين، وأما العرض – بفتح الراء – فهو جميع متاع الدنيا، من الذهب والفضة، فكل عرض بالسكون، داخل في العرض بالفتح، وليس كل عرض عرضًا، وله معان أخر معروفة، وأخرها لأنها تقوم بالنقدين، فكان حكمها مبنيًا عليهما.(5/236)
.
سمي بذلك لأنه يعرف ليباع ويشترى(1) أو لأنه يعرض ثم يزول(2) (إذا ملكها) أي العروض (بفعله)، كالبيع والنكاح والخلع، وقبول الهبة والوصية، واسترداد المبيع(3) (بنية التجارة) عند التملك(4).
__________
(1) تسمية للمفعول باسم المصدر، كتسمية المعلوم علمًا.
(2) ويفنى، تسمية له بما يؤول إليه، وفي اصطلاح المتكلمين: هو الذي لا يمر عليه زمنان.
(3) لأن ما لا يثبت به حكم الزكاة، بدخوله في ملكه، لا يثبت بمجرد النية، فاشترط الفعل معها. وفي الإقناع: إما بمعاوضة محضة، كالبيع والإجارة، والصلح عن المال بمال، والأخذ بالشفعة، والهبة المقتضية للثواب، أو استرداد ما باعه، أو غير محضة كالنكاح والخلع، والصلح عن دم العمد، أو بغير معارضة، كالهبة المطلقة، والغنيمة والوصية، والإحتشاش والاحتطاب، والاصطياد. قال الشيخ: وتجب في جميع أجناس الأجر المقبوضة.
(4) بأن يقصد التكسب بها، لأن الأعمال بالنيات، وحديث: ما نعده للبيع. والتجارة عمل، فوجب اقتران النية به كسائر الأعمال، ولأنها لم تكن
للتجارة خلقة، فلا تصير لها إلا بقصدها فيها، فهذان شرطان، لا تصير العروض للتجارة إلا بهما.(5/237)
أو استصحاب حكمها فيما تعوض عن عرضها(1) (وبلغت قيمتها نصابًا) من أحد النقدين(2) (زكى قيمتها) لأنها محل الوجوب، لاعتبار النصاب بها(3) ولا تجزئُ الزكاة من العروض(4).
__________
(1) أي استصحاب حكم نية التجارة، في جميع الحول، بأن لا ينوي قطعها فيما تعوض عن عرضها، بنية قنية، لأنه شرط أمكن اعتباره في جميعه، فوجب كالنصاب، ومتى نواها للقنية صارت لها، وسقطت الزكاة، قال الموفق: لا يختلف المذهب أنه إذا نوى بعرض التجارة القنية، أنه يصير للقنية، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي.
(2) فإنه يشترط لوجوب الزكاة، فيما أعد للتجارة من العروض، أن يبلغ قيمته نصابًا من الذهب أو الفضة، لا في نفس العرض، وثبت أنها تجب في قيمتها بلا نزاع، ويعتبر النصاب في جميع الحول، لأنه مال نام، كالماشية، ولقوله عليه الصلاة والسلام «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول». قال الشارح: لا نعلم فيه خلافًا.
(3) وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: تجب في عينها، ولكنه يعتبر القيمة، والقيمة إن لم توجد عينًا، فهي مقدرة شرعًا، وقدر الواجب ربع العشر بلا نزاع.
(4) لتعلقها بالقيمة، وعنه: تجزئ. لأنها الأصل، اختاره الشيخ وغيره، قال: ويقوى على قول من يوجب الزكاة في عين المال. وقال: يجوز العدول إلى
الحاجة والمصلحة، أو يكون المستحق طلب القيمة، لكونها أنفع له، واختار في الصحيح إخراج القيمة، واحتج بخبر معاذ.(5/238)
(فإن ملكها بـ) غير فعله كـ(إرث(1) أو) ملكها (بفعله بغير نية التجارة ثم نواها)، أي التجارة بها (لم تصر لها) أي للتجارة(2) لأنها خلاف الأصل في العروض، فلا تصير لها بمجرد النية(3) إلا حلي لبس، إذا نواه لقنية، ثم نواه للتجارة فيزكيه(4).
__________
(1) ونحوه مما يدخل قهرًا، لم تصر للتجارة، لأنه ليس من جهات التجارة، ولأنه ملكها بغير فعل، فجرى مجرى الاستدانة، قال ابن الهمام: تصح بنية التجارة فيما يشتريه بالإجماع، ولا تصح فيما يرثه بالإجماع، لأنه لا صنع له فيه أصلاً، فلا يصير لها.
(2) وفاقًا، حتى يبيعها، ويحول على ثمنها الحول.
(3) كالمعلوفة، ومجرد النية لا ينقل العرض عن الأصل وهو القنية وفاقًا، بل لا بد من الفعل من النية، إلا أن يكون اشتراها بعرض تجارة، فلا يحتاج إلى نية التجارة، بل يكفيه استصحاب حكمها.
(4) لأن الحلي أصله النقدان، والأصل فيهما وجوب الزكاة، فإذا نواها لها، فقد رده إلى الأصل، قال في الفروع: وحلي استعمال، نوى به القنية أو التجارة، فينعقد عليه الحول وفاقًا. وإن كانت عنده ماشية للتجارة نصف حول، فنوى بها الإسامة، انقطع حول التجارة واستأنف حولاً، وهذا مذهب أبي حنيفة، وقال الموفق: الأشبه بالدليل، أنها متى كانت سائمة من أول الحول، وجبت فيها عند تمامه، لأن السوم سبب لوجوبها، وجد في جميع الحول، فوجبت الزكاة به. والقنية – بضم القاف وكسرها – الإمساك للانتفاع، قال الجوهري: قنوت الغنم وغيرها، قنوة وقنوة، بكسر القاف وضمها، وقنيت أيضًا قنية وقنية بالكسر والضم، إذا اتخذتها لنفسك، لا للتجارة.(5/239)
(وتقوم) العروض (عند) تمام (الحول بالأَحظ للفقراء من عين) أي ذهب (أو ورق) أي فضة(1) فإذا بلغت قيمتها نصابًا بأحد النقدين، دون الآخر اعتبر ما تبلغ به نصابًا(2) (ولا يعتبر ما اشتريت به) لا قدرًا ولا جنسًا، روي عن عمر(3).
__________
(1) سواء كان من نقد البلد أو لا، وفاقًا لأبي حنيفة، لأن تقويمه بأحدهما أحظ لهم، فيقوم به عند تمام الحول، لعموم «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ولأنه وقت الوجوب، وقال مالك: إن كان مديرًا، لا يعرف حول ما يشتري ويبيع، جعل لنفسه شهرًا في السنة، يقوم فيه ما عنده ويزكيه مع ناضَّ ماله، وإن كان يتربص بها النفقات، لم يجب تقويمها عند كل حول، وتخصيص الفقراء لا مفهوم له، فيعتبر الأحظ لأصناف أهل الزكاة، ولعله ذكره اكتفاء، ولو قال: بالأحظ لأهل الزكاة. لكان أجود.
(2) ويؤدي منها، لأنها محل الموجب، لا من العروض، وقال الشيخ: قد يقومها بأكثر من السعر، وقد يأخذها من لا يحتاج إليها، وربما خسرت، فيكون في ذلك ضرر على الفقراء، والأصناف التي يتجر فيها، يجوز أن يخرج عنها جميعها دراهم بالقيمة، فإن لم يكن عنده دراهم، فأعطى ثمنها بالقيمة، فالأظهر أنه يجوز، لأنه قد واسى الفقراء فأعطاهم من جنس ماله. اهـ. وإن بلغت بكل نقد نصابًا، خير بينهما، وفاقًا لأبي حنيفة، وصحح غير واحد بالأنفع لأهل الزكاة. وصوبه في الإنصاف.
(3) رضي الله عنه، حيث قال: قومها. وأد زكاتها؛ واشتهرت القصة ولم تنكر، ولأن في تقويمها بما اشتريت به إبطالاً للتقويم بالأنفع، فإن بلغت قيمتها نصابًا بالدراهم فقط، قومت به، وإن كان اشتراها بالذهب، وكذا عكسه.(5/240)
وكما لو كان عرضًا(1) وتقوم المغنية ساذجة(2) والخصي بصفته(3) ولا عبرة بقيمة آنية ذهب وفضة(4) (وإن اشترى عرضًا بنصاب من أثمان أو عروض، بنى على حوله)(5) لأن وضع التجارة على التقليب والاستبدال بالعروض والأثمان(6) فلو انقطع الحول به، لبطلت زكاة التجارة(7).
__________
(1) بإسكان الراء، وهو ما سوى النقدين، أي فإنه لا يعتبر ما اشتريت به من العرض، فكذا أحد النقدين.
(2) بفتح الذال المعجمة، أي غير مغنية، وقيل: ليست بعربية. ولعل أصلها «ساذة» وفي أقانيم العجم: السذاج الذي لا نقش فيه، ومثلها الزامرة، والضاربة بآلة اللهو، وكل ذات صنعة محرمة، لأن الصنعة المحرمة لا قيمة لها شرعًا.
(3) أي خصيًا، لأن الاستدامة فيه ليست محرمة، وإنما المحرم الفعل، وقد انقطع.
(4) بل بالوزن، لأنها صنعة محرمة.
(5) أي الحول الأول وفاقًا.
(6) ولأن الزكاة في الموضعين تتعلق بالقيمة وهي الأثمان، والأثمان يبنى حول بعضها على بعض، والتقليب التصرف والنقل، «واستبدل الشيء بغيره» أخذه مكانه، والبدل العوض.
(7) أي فلو قلنا بانقطاع الحول، بأن لم يبن على حوله، لبطلت زكاة التجارة المجمع عليها، ولأن الزكاة في الموضعين، تتعلق بالقيمة وهي الأثمان، والأثمان يبنى حول بعضها على بعض، وإن لم يكن النقد نصابًا، فحوله من حين ملك قيمته نصابًا، لا من حين اشتراه.(5/241)
(وإن اشتراه) أو باعه (بـ)نصاب (سائمة لم يبن) على حوله(1) لاختلافهما في النصاب والواجب(2) إلا أن يشتري نصاب سائمة للتجارة بمثله للقنية(3) لأن السوم سبب للزكاة، قدم عليه زكاة التجارة لقوتها(4) فبزوال المعارض يثبت حكم السوم لظهوره(5) ومن ملك نصابًا من السائمة لتجارة، فعليه زكاة تجارة(6) وإن لم تبلغ قيمتها نصاب تجارة، فعليه زكاة السوم(7).
__________
(1) أي وإن اشترى عرض تجارة بنصاب من السائمة، أو باع عرض تجارة بنصاب من السائمة، لم يبن على حوله وفاقًا، وفي الإنصاف: بلا نزاع فيهما.
(2) فيكون ابتداء حوله من وقت اشترائه أو بيعه.
(3) فإنه يبني على حوله.
(4) أي التجارة، لكونه يكفي في وجوب الزكاة فيها نيتها حين التملك، ولوجوبها فيما أعد للتجارة، حصل السوم أو لا.
(5) أي على التجارة، فيزكى زكاة سائمة.
(6) وفاقًا لأبي حنيفة، لأن وضع التجارة على التقليب فهي تزيل سبب زكاة السوم وهي الاقتناء، لطلب النماء معه، وقيل: زكاة السوم، وفاقًا لمالك والشافعي. لأنها أقوى، للإجماع عليها، وتعلقها بالعين، واختار المجد وغيره: الأحظ للفقراء.
(7) قال في المغني والمبدع وغيرهما: بلا خلاف، لوجود سبب الزكاة بلا معارض، وإن سبق نصاب السوم زكي، وإذا حال حول التجارة زكى الزائد على النصاب، صوبه في الإنصاف، وإن اشترى أرضًا أو نخلاً للتجارة، فأثمر النخل، وزرعت الأرض، فعليه فيهما العشر، ويزكي الأصل للتجارة، وحيث أخرج عن الأصل والثمرة والزرع زكاة القيمة، لم يلزمه عشر للزرع والثمرة، وحكي اتفاقًا.(5/242)
وإذا اشترى ما يصبغ به ويبقى أثره، كزعفران ونيل ونحوه(1) فهو عرض تجارة، يقوم عند حوله(2) وكذا ما يشتريه دباغ ليدبغ به كعفص(3) وما يدهن به كسمن وملح(4) ولا شيء في آلات الصباغ، وأمتعة التجارة، وقوارير العطار(5) إلا أن يريد بيعها معها(6).
ولا زكاة في غير ما تقدم(7) ولا في قيمة ما أُعد للكراء، من عقار وحيوان(8) وظاهر كلام الأكثر: ولو أَكثر من شراء العقار فارا(9).
باب زكاة الفطر(10)
__________
(1) كعصفر وكشك وبقم وفوة، ونحو ذلك من سائر الأصباغ.
(2) وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، لاعتياض الصباغ عن الصبغ القائم بنحو الثوب، ففيه معنى التجارة.
(3) يقوم عند حوله، «والعفص» مولد أو عربي، أو شجرة من البلوط، تحمل سنة بلوطًا، وسنة عفصًا، يتخذ منه الحبر، ويدبغ به، وكذا القرظ ونحوه.
(4) مائي أو معدني، والسمن من الأنعام، أو الأشجار كالزيتون والسمسم، ونحو ذلك أي فهو عرض تجارة، يقوم عند حوله.
(5) والسمان والزيات، والعسال، ونحوهم وفاقًا، لأنه لا يبقى له أثر، ولا زكاة فيما لا يبقى له أثر.
(6) فيزكيه مال تجارة، وكذا آلات الدواب لحفظها، إلا أن يبيعها معها فمال تجارة.
(7) مما ذكره الماتن، وكذا الشارح، من العروض وغيرها.
(8) وغيرهما وفاقًا، لأنه لي بمال تجارة.
(9) أي من الزكاة، فلا زكاة فيه، لأنه لم يرصد للنماء، وصوب في تصحيح الفروع، وتبعه في الإقناع: يزكيه إذا كان فارًا، معاملة له بنقيض قصده، كالفار من الزكاة ببيع أو غيره.
(10) الأصل في وجوبها عموم الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } قال بعض السلف: زكاة الفطر.
ورواه ابن خزيمة مرفوعًا، والمعنى أنها وجبت على الخلقة، تزكية للنفس، وتنمية لعملها، ولعموم { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وفي الصحيحين وغيرهما، من غير وجه: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر. وحكى ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على وجوبها، وقال إسحاق: هو كالإجماع.
وهي صدقة تجب بالفطر من رمضان، طهرة للصائم من اللغو والرفث، فعن ابن عباس مرفوعًا: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. وتقدم ما يدل أنها فرضت مع رمضان، في السنة الثانية من الهجرة، ومصرفها كزكاة.(5/243)
هو اسم مصدر، من: أَفطر الصائم إفطارًا(1) وهذه يراد بها الصدقة عن البدن(2) وإضافتها إلى الفطر، من إضافة الشيء إلى سببه(3).
(تجب على كل مسلم) من أهل البوادي وغيرهم(4) وتجب في مال اليتيم(5) لقول ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، صاعًا من بر، أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأُنثى، والصغير والكبير من المسلمين(6)
__________
(1) لأن المصدر منه الإفطار.
(2) والنفس، وأما الفطرة فهي الخلقة، لقوله { ِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } قال في المبدع: وزعم بعضهم أنه مما يلحن فيها العامة، وليس كذلك، لاستعمال الفقهاء لها. والصدقة عطية يراد بها المثوبة من الله، سميت بها لأن بها يظهر صدق الرغبة في تلك المثوبة.
(3) والمقصود هنا المضاف لا المضاف إليه، وسبب وجوبها الفطر من رمضان، فأضيفت إليه لوجوبها به، وأما مناسبتها هنا فلأنها من الوظائف المالية.
(4) ممن تلزمه مؤنة نفسه، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا، حرًا أو عبدًا، وإن كان مكاتبًا، قال في الإنصاف: بلا نزاع. لدخوله في عموم النص، ولأنه مسلم تلزمه نفقته، فلزمته فطرته كالحر، ولا تجب على كافر ولا مرتد إجماعًا، وذكر البوادي لأن بعضًا قال بعدم وجوبها عليهم، منهم عطاء وربيعة، وظاهر الأخبار العموم.
(5) ويخرج عنه وليه من ماله، قال الموفق وغيره: لا نعلم أحدًا خالف فيه، إلا محمد بن الحسن، وعموم الخبر يرده.
(6) فرض بمعنى: ألزم وأوجب. وفي رواية «أمر بزكاة الفطر صاعًا» إلى آخره، ونص أحمد وغيره على ذلك كله وفاقًا، ويأتي حديث أبي سعيد «صاعًا من طعام، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب» ولم يرد في البخاري ولا في مسلم «من بر» بالموحدة، وإنما فيهما «من تمر» بالمثناة، ولأبي داود «من حنطة» وقال: ليس بمحفوظ.
و«صاعًا» تمييز أو بدل أو مفعول ثان، وذكر العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير وهو إجماع، وسواء كان من أهل القرى أو البوادي، بإجماع من يعتد به «من المسلمين» إجماعًا، دون الكافرين، لأنها طهارة، والكافر لا يطهره إلا الإسلام، فلا تجب عليه عن نفسه، باتفاق أهل العلم، ولا عن مستولدته المسلمة، حكاه ابن المنذر إجماعًا، ولا المسلم عن عبده الكافر، عند الجمهور.(5/244)
.
وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة. متفق عليه، ولفظه للبخاري(1) (فضل له) أي عنده (يوم العيد وليلته صاع، عن قوته وقوت عياله)(2) لأن ذلك أهم، فيجب تقديمه(3) لقوله صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول»(4).
__________
(1) أي قبل صلاة العيد، باتفاق أهل العلم، قال عكرمة { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } : هو الرجل يقدم زكاته يوم الفطر، بين يدي صلاته. وزاد البخاري: وكانوا يعطون – يعني الصحابة – قبل الفطر بيوم أو يومين، فكان إجماعًا منهم.
(2) وفاقًا، وقال الشيخ وغيره: هو قول الجمهور. ولا فطرة على من لم يفضل له صاع وفاقًا، إلا أبا حنيفة قال: لا تجب إلا على من يملك نصابًا أو قيمته، فاضلاً عن قوته ومسكنه ونحوه، «والقوت» ما يقوم ببدن الإنسان من الطعام، وهو المؤنة «وقاته» يقوته قوتًا بالفتح، وقياته، والاسم القوت بالضم «وضل» بفتح الضاد وتكسر، والمضارع من المفتوح بالضم، ومن المكسور مضموم أيضًا، ومفتوح، «والعيال» الأولاد، وعيال الرجل أهل بيته، الذين تجب نفقتهم عليه.
(3) أي تقدم قوته وقوت عياله على الفطرة، لأن القوت ضروري، وحفظ النفس مقدم، وفي الحديث، «إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم» ولا واجب مع ضرورة.
(4) أي قدم نفسك، ثم بمن تمون، فإن فضل عنده فضل، لزم الإخراج عنه، وإلا فهو أحق بإغناء نفسه، وفي صحيح مسلم «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلذي قرابتك».(5/245)
ولا يعتبر لوجوبها ملك نصاب(1) وإن فضل بعض صاع أخرجه(2) لحديث «إذا أَمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم»(3) (و) يعتبر كون ذلك كله بعد (حوائجه الأصلية)، لنفسه، أو لمن تلزمه مؤنته، من مسكن وعبد(4) ودابة وثياب بذلة، ونحو ذلك(5).
__________
(1) وقاله شيخ الإسلام وغيره، لأنه قد حصل له غنى هذا اليوم، فاحتمل ماله المواساة، ولعموم حديث ابن عمر، ولما رواه أبو داود قال «أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فسيرد الله عليه أكثر مما أعطاه» وقال أحمد: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر، على الغني والفقير. وظاهره صحة هذا الحديث عنده.
(2) صححه في التصحيح وغيره، كنفقة القريب وفرقوا بينه وبين الكفارة.
(3) وغيره، وقوله تعالى { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ولأنها طهرة، فوجب منها ما قدر عليه، كالطهارة بالماء.
(4) لمن يخدم مثله، بيان لحوائجه، جمع حاجة، والأصلية ضد الفرعية، والمؤنة فعولة، وقيل مفعلة، من «ألأين» التعب والشدة، أو من «الأون» الحرج، ويقال: مأنتهم. بالهمز، ومنتهم. بتركه، بناء على المؤنة، وكذا حلي امرأة للبس وكرى، يحتاج إليه، لأنه مما تتعلق به حاجته الأصلية، فلم يلزمه بيعه، كمؤنة نفسه يوم العيد، وما فضل عن حوائجه الأصلية وأمكن بيعه، أو صرفه في الفطرة وجبت به.
(5) كفراش وغطاء ووطاء وماعون، وما يشبهها وفاقًا، «وبذلة» بالكسر والفتح، أي مهنة في الخدمة، ومتى كان معسرًا لم تجب، وإن أيسر يوم العيد، فعنه: تجب، اختاره الشيخ.(5/246)
(ولا يمنعها الدين)، لأنها ليست واجبة في المال(1) (إلا بطلبه) أي طلب الدين، فيقدمه إذًا(2) لأن الزكاة واجبة مواساة، وقضاء الدين أهم(3) (فيخرج) زكاة الفطر (عن نفسه) لما تقدم(4) (و) عن (مسلم يمونه) من الزوجات والأقارب(5) وخادم زوجته إن لزمته مؤنته(6)، وزوجة عبده الحرة(7) وقريبه الذي يلزمه إعفافه(8).
__________
(1) وقاله ابن عقيل وغيره، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أبي حنيفة، لتأكدها كالنفقة، وكالخراج والجزية، وقال الشيخ: كما يطعم عياله يوم العيد.
(2) أي الدين على زكاة الفطر، لوجوب أدائه عندها، ولقوله «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» رواه أحمد.
(3) فيبدأ به، نص عليه، وهو رواية عن مالك، لأنه لا فضل عنده، قال في الفروع: واختاره الأكثر.
(4) من خبر ابن عمر، وقوله «ابدأ بنفسك» والأحاديث صالحة بذلك، والمراد إخراجها عن نفسه من ماله، وأما من أخرجها من مال من تلزمه نفقته فلا تجزئه.
(5) إن قدر وفاقًا، وقال الوزير: من أولاده الصغار، ومماليكه المسلمين، الذين ليسوا للتجارة.
(6) بأن لم يكن مكرى ولا معارًا، وإلا فلا تلزمه مؤنته، فكذلك فطرته.
(7) كما تجب نفقتها، بخلاف الأمة إذا تسلمها ليلاً فقط، فعلى سيدها.
(8) وهو من تجب عليه نفقته وفاقًا، وترتيبها كالنفقة.(5/247)
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «أَدوا الفطرة عمن تمونون»(1) ولا تلزمه فطرة من يمونه من الكفار، لأنها طهرة للمخرج عنه، والكافر لا يقبلها، لأنه لا يطهره إلا الإسلام، ولو عبدًا(2) ولا تلزمه فطرة أجير وظئر استأجرهما بطعامهما(3) ولا من وجبت نفقته في بيت المال(4) (ولو) تبرع بمؤنة شخص جميع (شهر رمضان)، أدى فطرته(5) لعموم الحديث السابق(6).
__________
(1) رواه البيهقي والدارقطني، وإسناده ضعيف، وصوب وقفه، ورواه أبو بكر في الشافي، من حديث أبي هريرة، «والفطرة» كأنها من الفطرة التي هي الخلقة، المرادة بقوله { فِطْرَةَ اللهِ } قال ابن تميم: قيل لها فطرة، لأن الفطرة الخلقة، وفي بعض طرق حديث ابن عمر «فرض صدقة الفطر، عن كل صغير وكبير، وحر وعبد، ممن تمونون» رواه الدارقطني، ولإطلاق «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وغيره.
(2) نص عليه، وفاقًا لمالك والشافعي، ولا تلزم الكافر عن عبده المسلم وفاقًا، لظاهر الخبر.
(3) وفاقًا، لأن الواجب هنا أجرة تعتمد الشرط في العقد، فلا يزاد عليها، كالأثمان، وكما لو كانت دراهم، وكذلك الضيف وفاقًا.
(4) كلقيط، لأن ذلك ليس بإنفاق، بل إيصال حق إلى مستحقه، ولا لقن لا مالك له معين، كعبد الغنيمة والفيء.
(5) نص عليه، وعليه أكثر الأصحاب.
(6) «أدوا الفطرة عمن تمونون» وعنه: لا تلزمه وفاقًا. وحكاه الوزير
اتفاقًا، إلا ما روي عن أحمد، واختاره أبو الخطاب، وصاحب الفائق، والموفق وغيرهم، وقال: هو قول أكثر أهل العلم. قال الشارح: وهو الصحيح. وصوبه في تصحيح الفروع، والحديث محمول على من تلزمه مؤنته، لا حقيقة المؤنة، بدليل وجوبها على الآبق، ويحمل قول أحمد على الاستحباب، لعدم الدليل، ولأن سبب الوجوب وجوب النفقة، بدليل وجوبها لمن تجب له.(5/248)
بخلاف ما لو تبرع به بعض الشهر(1) (فإن عجز عن البعض) وقدر على البعض (بدأ بنفسه) لأن نفقة نفسه مقدمة، فكذا فطرتها(2) (فامرأته) لوجوب نفقتها مطلقًا(3) ولآكديتها، ولأنها معاوضة(4) (فرقيقه) لوجوب نفقته مع الإعسار(5).
__________
(1) ولو لم يبق إلا ليلة، لأنه يصدق عليه اسم البعض، ولو كان الكثير، هذا على ما مشى عليه الأكثر، وعلى القول الثاني، الذي عليه الجمهور؛ لا تلزمه من باب أولى، وكذا إن مانه جماعة، جزم به في الإقناع وغيره.
(2) مقدمة على فطرة غيره، فهي تبنى على النفقة، لخبر «ابدأ بنفسك» وخبر «أنفقه على نفسك» وفي الإنصاف: بدأ بنفسه، بلا نزاع.
(3) معسرًا كان أو موسرًا، وموسرة هي أو معسرة، بخلاف الأقارب، وحكم فطرتها فيمن تدفع إليه، حكم فطرته، وكذا غيرها.
(4) أي ووجه البداءة بفطرة امرأته، آكدية نفقتها عليه، ولأن نفقتها معاوضة، فتأكد تقديمها.
(5) فتجب فطرته عليه إجماعًا، وقال ابن عقيل: ويحتمل تقديمهم على الزوجة، لأن فطرتهم متفق عليها، وكذا عبيده، لأنهم ملكه وفاقًا، ولعله ما لم تجب نفقتهم على العبد، فكذا فطرتهم.(5/249)
ولو مرهونًا أو مغصوبًا، أو غائبًا، أو لتجارة(1) (فأُمه) لتقديمها في البر(2) (فأَبيه) لحديث: من أَبر يا رسول الله؟(3) (فولده) لوجوب نفقته في الجملة(4).
__________
(1) اتفاقًا، إلا أبا حنيفة فقال: لا يلزمه ذلك، لأنها زكاة، ولا تجب في مال واحد زكاتان. وعموم الأحاديث في وجوبها على الحر والعبد، يشملهم، وفي الحديث «ليس على المسلم في عبده صدقة، إلا صدقة الفطر» وهي إنما تجب على البدن، ونفقتهم واجبة، فكعبيد القنية، «والغائب» الذي لا تعلم حياته، تجب فطرته، إذا علم أنه حي، قال ابن المنذر: في قول أهل العلم «والرقيق» المملوك، واحد أو جمع «والرق» بالكسر العبودية، وبالفتح ما يكتب فيه، وبالضم مارق من ماء البحر والنهر.
(2) أي على الأب وغيره من سائر الأقارب، وتكرير حقها وتأكده، وضعفها عن التكسب.
(3) قال «أمك» قال: ثم من؟ قال «أمك» قال: ثم من؟ قال «أباك» ولحديث «أنت ومالك لأبيك».
وقال الوزير: اتفقوا على أنه يجب على الابن الموسر – وإن سفل – زكاة الفطر عن أبويه، وإن عليا، إذا كان معسرين، إلا أبا حنيفة، وقال مالك: إلا عن أجداده.
(4) لأن الفطرة كالنفقة، أي فلا تجب له على كل حال، كما لا تجب النفقة على كل حال، ولو قال: لقربه، ولوجوب نفقته بالنص. لكان أولى، فأما ولده الصغير، فلأن نفقته ثابتة بالنص والإجماع، فكذلك فطرته، حتى قيل بتقديمه على الزوجة، وأما الكبار فالجمهور على أنه يجب عليه أن يخرج عنهم؛ إذا كانوا في عياله، إلا أبا حنيفة.(5/250)
(فأقرب في ميراث) لأنه أولى من غيره(1) فإن استوى اثنان فأكثر، ولم يفضل إلا صاع، أُقرع(2) (والعبد بين شركاء عليهم صاع) بحسب ملكهم فيه، كنفقته(3) وكذا حر وجبت نفقته على اثنين فأكثر، يوزع الصاع بينهم، بحسب النفقة(4) لأن الفطرة تابعة للنفقة(5) (ويستحب) أن يخرج (عن الجنين) لفعل عثمان رضي الله عنه(6) ولا تجب عنه(7).
__________
(1) فقدم كالميراث، ولحديث مسلم «فإن فضل شيء، فلذي قرابتك».
(2) بينهم كأولاد، وإخوة، وأعمام. ولم يفضل ما يكفيهم أقرع بينهم، لتساويهم، وعدم المرجح.
(3) وحكاه الوزير وغيره اتفاقًا، إلا أبا حنيفة فقال: لا تجب عليهم. وأنهم اتفقوا على أنه لا يلزم المكاتب أن يخرج عن نفسه، إلا أحمد، وحكي عن مالك والشافعي أن السيد يزكي عنه.
(4) كجد، وأخ لغير أم.
(5) لقوله «عمن تمونون» وغيره.
(6) واتفق عليه الأئمة الأربعة وغيرهم، وعن أبي قلابة: كان يعجبهم الفطر عن الحمل، في بطن أمه.
(7) يعني عن الجنين، حكاه ابن المنذر: إجماع من يحفظ عنه، من علماء الأمصار. والجنين ما استتر في بطن أمه، فإن خرج حيًا فهو ولد، وإن خرج ميتًا فهو سقط.(5/251)
لأنها لو تعلقت به قبل ظهوره، لتعلقت الزكاة بأجنة السوائم(1) (ولا تجب لـ) زوجة (ناشز)(2) لأنها لا تجب عليه نفقتها(3) وكذا من لم تجب نفقتها لصغر ونحوه(4)، لأنها كالأجنبية، ولو حاملاً(5) ولا لأَمة تسلمها ليلاً فقط(6) وتجب على سيدها(7) (ومن لزمت غيره فطرته) كالزوجة والنسيب المعسر(8) (فأخرج عن نفسه بغير إذنه) أي إذن من تلزمه (أَجزأَت)(9).
__________
(1) ولا قائل بذلك، فصار الجنين كذلك، لا تجب عنه، ولأنه لا تثبت له أحكام الدنيا، إلا في الإرث والوصية، بشرط خروجه حيًا.
(2) أي لا تجب على الزوج فطرة الزوجة الناشز، وقت وجوب زكاة الفطر، وفاقًا لمالك والشافعي.
(3) كغير المدخول بها، إذا لم تسلم إليه.
(4) كحبسها، وسفرها لقضاء حاجتها أو حج نفل، ولو بإذنه.
(5) بخلاف النفقة، فإنها لا تجب لها، بل لحملها.
(6) دون نهار، لأنها زمن الوجوب عند السيد.
(7) لأن نفقتها على سيدها، فكذا فطرتها، إلا أن يشترط تسلمها نهارًا، أو يبذله له سيد.
(8) أي القريب، لما تقدم، وليس المراد به من كان من جهة الزوجة، كأخيها ونحوه، فإنها لغة عامية.
(9) أي من مال نفسه، وهل يجزئ إخراج أهله عنه، أم لابد من الوكالة؟ استظهر ابن ذهلان: لا تجزئ إلا بوكالة، إلا إن أخرج عنه المتصرف والمخرج في حضوره وغيبته جاز، لأنه كالوكيل المطلق. وأما من أخرجها من مال، من تلزمه نفقته بدون إذنه، فلا تجزئ.(5/252)
لأنه المخاطب بها ابتداءً، والغير متحمل(1) ومن أَخرج عمن لا تلزمه فطرته بإذنه أَجزأَ، وإلا فلا(2) (وتجب) الفطرة (بغروب الشمس ليلة) عيد (الفطر)(3) لإضافتها إلى الفطر، والإضافة تقتضي الاختصاص والسببية(4) وأول زمن يقع فيه الفطر من جميع رمضان، مغيب الشمس من ليلة الفطر(5) (فمن أسلم بعده) أي بعد الغروب(6) (أو ملك عبدًا) بعد الغروب(7).
__________
(1) لكونها طهرة له، لا أصيل، وإن كان مخاطبًا بها، ولو لم يخرج من تلزمه فطرة غيره مع قدرته، لم يلزم الغير شيء، وله مطالبته بالإخراج، كنفقته.
(2) أي وإن لم يكن إخراجه عنه بإذنه، فلا تجزئ عنه، قال الآجري: هذا قول فقهاء المسلمين.
(3) وفاقًا لمالك والشافعي.
(4) يعني في قول صلى الله عليه وسلم «زكاة الفطر» فتجب بغروب شمس ليلة الفطر، حيث أضيفت إليه.
(5) لما تقدم من حديث ابن عمر وابن عباس: فرض صدقة الفطر من رمضان؛ فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر للصائم. والفطر من رمضان في الحقيقة، يحصل بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فوجب أن يتعلق الوجوب به.
(6) لم تلزم فطرته، لعدم وجود السبب الموجب لها.
(7) لم تلزم سيده فطرته.(5/253)
(أو تزوج) زوجة بعد الغروب(1) (أو ولد له ولد) بعد الغروب (لم تلزمه فطرته) في جميع ذلك، لعدم وجود سبب الوجوب(2) (و) إن وجدت هذه الأشياء (قبله) أي قبل الغروب (تلزم) الفطرة لمن ذكر، لوجود السبب(3) (ويجوز إخراجها) معجلة (قبل العيد بيومين فقط)(4) لما روى البخاري بإسناده عن ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) لم تلزم الزوج فطرة زوجته، لعدم وجود السبب.
(2) وهو وجود ما ذكر، قبل الغروب ليلة الفطر، فلا فطرة، وكذا لو أيسر بعد الوجوب، فلا فطرة وفاقًا، وعنه: إن أيسر يوم العيد وجبت، اختاره أبو العباس، لحصول اليسار في وقت الوجوب، فهو كالمتمتع إذا قدر على الهدي يوم النحر، وعنه: يخرج متى قدر. وقال الشيخ: من عجز عن صدقة الفطر وقت وجوبها عليه، ثم أيسر فأداها، فقد أحسن.
(3) اتفاقًا، فإن الاعتبار بحال الوجوب، بأن أسلم، أو تزوج، أو ولد له، أو ملك عبدًا، أو أيسر، وإلا فلا، ولا تسقط بعد وجوبها، بموت ولا غيره، قال في الإنصاف: بلا نزاع. وذكره المجد إجماعًا في عتق عبد، وتخرج من مال من وجبت عليه، فإن مات قبل أدائها، أخرجت من ماله، فإن كان عليه دين، وله مال يفي بهما قضيا، وإلا قضي بين الدين والفطرة بالجصص.
(4) باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم، وأجاز أبو حنيفة والشافعي أكثر من يومين، حتى من أول الشهر، والنص يدل لمالك وأحمد، وقيل: يجوز بثلاث ونحوها، إلى من تجمع عنده، ليفرقها يوم العيد قبل الصلاة. وفي الموطأ أن ابن عمر كان يبعث زكاة الفطر، إلى الذي تجمع عنده، قبل الفطر بيومين أو ثلاثة.(5/254)
صدقة الفطر في رمضان. وقال في آخره: وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين(1). وعلم من قوله: فقط. أنها لا تجزئٌ قبلهما(2)، لقوله صلى الله عليه وسلم «أَغنوهم عن الطلب في هذا اليوم»(3) ومتى قدمها بالزمن الكثير، فات الإغناءُ المذكور(4) (و) إخراجها (يوم العيد قبل) مضيه إلى (الصلاة أفضل)(5) لحديث ابن عمر، السابق أول الباب(6).
__________
(1) ففيه الإشارة إلى جماعتهم، فيكون بالإجماع، ولم يختلف الأصحاب في ذلك، ولا الأئمة، وقوله «أغنوهم عن السؤال في ذلك اليوم» لا يدفع ذلك، إذ ما قارب الشيء، أعطي حكمه.
(2) أي اليومين، كما هو مذهب مالك.
(3) رواه الدارقطني والحاكم وغيرهما، والإغناء عن الطلب يوم العيد ونحو ذلك، يقتضي أنه لا يجوز التقديم مطلقًا، خرج منه التقديم باليوم واليومين لما تقدم، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل.
(4) في قوله «أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» ومذهب مالك المنع قبل وجوبها، إلا إلى نائب الإمام ليقسمها في وقتها، بغير مشقة.
(5) أي صلاة العيد، وبعد طلوع الفجر الثاني وفاقًا، وصرح به غير واحد، من الأصحاب وغيرهم، وقال غير واحد: الأفضل إذا خرج إلى المصلى. وقوله: قبل مضيه. ليس شرطًا، بل مثله: قبل قدر صلاة العيد، حيث لا تصلي.
(6) وهو قوله فيه: وأمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
لفظ مسلم، ولفظ البخاري: وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، ولأبي داود، من حديث ابن عباس «من أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات». وقال عكرمة: يقدم الرجل زكاته يوم الفطر، بين يدي صلاته، فإن الله تعالى يقول { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } قال في الفروع: والأولى الاقتصار على الأمر بالإخراج، في الوقت الخاص، خرج التقديم باليوم واليومين لفعلهم.(5/255)
(وتكره في باقيه) أي باقي يوم العيد، بعد الصلاة(1) (ويقضيها بعد يومه) ويكون (آثمًا) بتأْخيرها عنه(2) لمخالفته أمره صلى الله عليه وسلم بقوله «أغنوهم في هذا اليوم» رواه الدارقطني، من حديث ابن عمر(3) .
ولمن وجبت عليه فطرة غيره، إخراجها مع فطرته مكان نفسه(4).
فصل(5)
__________
(1) لمخالفة الأمر، وخروجًا من الخلاف في تحريمها، وقال شيخ الإسلام وغيره: إن أخرها بعد صلاة العيد، فهي قضاء، لخبر ابن عباس «فمن أداها قبل الصلاة، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات» وقال ابن القيم: مقتضى قوله «من أداها قبل الصلاة». الخ. أنه لا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، وأنها تفوت بالفراغ من الصلاة، وصوبه، وقال: قواه شيخنا ونصره.
(2) إذا أخرها عمدًا إجماعًا، وقال ابن رشد: تأخيرها عن يوم العيد، حرام بالاتفاق. وقال الوزير: اتفقوا على أنها لا تسقط عمن وجبت عليه بتأخير، وهو دين عليه، حتى يؤديها.
(3) وهو عام في جميعه، وكان عليه الصلاة والسلام يقسمها بين مستحقيها بعد الصلاة، فدل على أن الأمر بتقديمها على الصلاة للاستحباب، ولأنها عبادة، فلم تسقط بخروج الوقت كالصلاة.
(4) أي المحل الذي المخرج فيه، بلا نزاع، كما لو وجبت عليه زكاة قريب، وهو في مكان غير الذي هو فيه، فيخرجها مع زكاته في مكانه، وظاهر عبارته الجواز، وعبر غيره بالوجوب، وعليه أكثر الأصحاب، قالوا: ومن وجبت عليه فطرة غيره، أخرجها مكان نفسه مع فطرته، وصوبه في تصحيح الفروع، لأنها طهرة للمخرج عنه، بخلاف زكاة المال، وهذا مذهب مالك والشافعي، وقيل: يخرجها مكانهما، قريبًا كان أو بعيدًا، قال في الفروع: قدمه بعضهم، وفاقًا لأبي يوسف، وحكي عن أبي حنيفة، لأنها كمال مزكى في غير بلد مالكه.
(5) أي في قدر الواجب، ونوعه، ومستحقه، وما يتعلق بذلك.(5/256)
(ويجب) في الفطرة (صاع) أربعة أمداد، وتقدم في الغسل(1) (من بر أو شعير(2) أو دقيقهما أو سويقهما) أي سويق البر أو الشعير، وهو ما يحمص ثم يطحن(3).
ويكون الدقيق أَو السويق بوزن حبه(4)
__________
(1) وكذا تقدم تعريفها، في زكاة الحبوب والثمار، وأن الصاع أربع حفنات، بكفي الرجل المعتدل الخلق، وعبر بعضهم: بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي، عند الجماهير. والحكمة كفاية الصاع للفقراء أيام العيد، وإن أخرج فوق صاع فأجره أكثر.
(2) هذا مذهب الجمهور في البر، وأما الشعير فإجماع، وما أحسن ما قيل:
زكاة رؤوس الناس في يوم فطرهم
إذا تم شهر الصوم صاع من البر
(3) رواه سفيان وهو ثقة، فتقبل زيادته، ولقوله «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» وهو مذهب أبي حنيفة، ولا ريب أن الغنى يحصل بالدقيق أكثر، قال المجد: بل هو أولى، لأنه كفي مؤنته، كتمر منزوع نواه، وعنه: لا يجزئ؛ وفاقًا لمالك والشافعي. وقال ابن القيم لما ذكر الخمسة الأنواع: وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، فإن كان قوتهم من غير الحبوب، كاللبن واللحم والسمك، أخرجوا فطرتهم من قوتهم، كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره، إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد، ومواساتهم، من جنس ما يقتات أهل بلدهم، وعلى هذا، فيجزئ إخراج الدقيق، وإن لم يصح فيه الحديث، وأما إخراج الخبز أو الطعام، فإنه وإن كان أنفع للمساكين، لقلة المؤنة والكلفة فيه، فقد يكون الحب أنفع لهم، لطول بقائه. ثم قال: إلا أن يكون أهل بلد، عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد، فيسوغ القول به.
(4) لتفرق الأجزاء بالطحن، ولو بلا نخل، لأنه بوزن حبه.
وقال الشيخ: يخرج بالوزن، لأن الدقيق يريع إذا طحن.(5/257)
(أو) صاع من (تمر(1) أو زبيب أَو أَقط)(2) يعمل من اللبن المخيض(3) لقول أبي سعيد الخدري: كنا نخرج زكاة الفطر – إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط. متفق عليه(4)
__________
(1) إجماعًا، ولا عبرة بوزنه، بل مكيل مثل مكيل البر، بأن يتخذ ما يسع صاعًا من جيد البر كما تقدم، ويحتاط في ثقيل التمر، وجوبًا إن أخرجه وزنًا.
(2) وفاقًا، ومكيله مثل مكيل البر، وهو بفتح الهمزة وكسر القاف، ويجوز إسكانها مع فتح الهمزة وضمها وكسرها.
(3) غير منزوع الزبد، معروف يابس، واختار شيخ الإسلام إخراج اللبن الحليب الخالص، عند فقد غيره، لأن الأصل المواساة. اهـ.
وقال ابن تميم وابن حمدان: وظاهر كلام الإمام أحمد إجزاء اللبن، وقواه في تصحيح الفروع، عند عدم الأقط.
(4) وفيهم من حديث أبي سعيد: كنا نخرج صاعًا من طعام. وفيه: حتى
قدم معاوية المدينة، فقال: إني لأرى مدين من سمراء الشام، تعدل صاعًا من تمر. فأخذ الناس بذلك، ولأبي داود.
من حديث ابن عمر: جعل نصف صاع حنطة، مكان صاع. وله وغيره، عن ابن المسيب وغيره نحوه، وعنه: لا يجزئ نصف صاع من بر، وفاقاً لمالك والشافعي، وفي خبر أبي هريرة: أو صاع من قمح، رواه الدارقطني، وله: «أدوا صاعًا من بر» وذكر ابن المنذر وغيره أن أخبار: نصف صاع. لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله «صاعًا من طعام» أي بر، لأن الطعام هو البر، في عرف أهل الحجاز، وقال الخطابي وغيره: قد كانت لفظة «الطعام» تستعمل في الحنطة عند الإطلاق، وقال: المراد بالطعام هنا الحنطة،وأنه اسم خاص له، ويدل عليه ذكر الشعير، وغيره من الأقوات، والحنطة أعلاها، فلولا أنه أرادها بذلك، لكان ذكرها على التفصيل، كغيرها من الأقوات، والجمهور يقولون: خالف معاوية أبو سعيد وغيره، ممن هو أطول صحبة منه وأعلم بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النووي: وظاهر الحديث والقياس على اشتراط الصاع من الحنطة كغيره، فوجب اعتماده.(5/258)
.
والأَفضل تمر، فزبيب(1) فبر، فأَنفع(2) فشعير(3) فدقيقهما، فسويقهما، فأَقط(4).
__________
(1) ولو كان التمر غير غالب قوت البلد، لفعل ابن عمر، ولأنه قوت وحلاوة، وأقرب تناولاً، وأقل كلفة، وعنه: البر. جزم به في الكافي، وفاقًا لمالك، ومذهب الشافعي: الأفضل البر مطلقًا.
(2) أي مما سوى الثلاثة المذكورة.
(3) أي فإن استوت فشعير.
(4) سواء كان قوته، أو لم يكن، أو وجدت الأربعة الباقية، أو عدمت، ويجزئ أحدها وإن كان يقتات غيره، بلا خلاف.(5/259)
(فإن عدم الخمسة) المذكورة (أَجزأَ كل حب) يقتات (وثمر يقتات) كالذرة، والدخن، والأَرز، والعدس، والتين اليابس(1) و (لا) يجزئ (معيب) كمسوس، ومبلول، وقديم تغير طعمه(2).
__________
(1) وكذا الدبس، والمظلا، ونحو ذلك وفاقًا، إذا كان قوته، لظاهر الحديث، والعدول عنه عدول عن المنصوص عنه، وعنه: يجزئ كل حب وثمر يقتات، ولو لم تعدم الخمسة، اختاره الشيخ وغيره، وقال: هو قول جمهور العلماء، مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. واحتج بقوله { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وبقوله «صاع من طعام» والطعام قد يكون برًا أو شعيرًا، وقال أيضًا: يخرج من قوت بلده، مثل الأرز وغيره، ولو قدر على الأصناف المذكورة في الحديث، وهو رواية عن أحمد، وقول أكثر العلماء. وقال في موضع آخر: هو قول أكثر العلماء، وهو أصح الأقوال، فإن الأصل في الصدقات، أنها تجب على وجه المساواة للفقراء. وذكر الآية والحديث، ثم قال: لأن هذا كان قوت أهل المدينة، ولو كان هذا ليس قوتًا لهم، بل يقتاتون غيره، لم يكلفهم أن يخرجوا مما لا يقتاتونه. اهـ. وكذا قال غير واحد: أي أهل بلد أو محلة قوتهم غير ذلك، فإنما عليهم صاع من قوتهم، كائنًا ما كان، وأنه قول جمهور العلماء. وقال ابن القيم وغيره: وهو الصواب الذي لا يقال بغيره، إذ المقصود سد خلة المساكين يوم العيد، ومواساتهم، من جنس ما يقتات أهل بلدهم، لقوله «أغنوهم في هذا اليوم» وصحح النووي أنه يتعين عليه غالب قوت بلده.
(2) تغيرًا ظاهرًا، للآية وفاقًا، إذ المعلوم أن القديم ليس كالحديث في الطعم، ولو كان أقل قيمة، و«المبلول» لأن البلل ينفخه، «والمسوس» لأن السوس أكل جوفه، وما لم يتغير طعمه ولا ريحه أجزأ لصلاحيته، والجديد أفضل.(5/260)
وكذا مختلط بكثير مما لا يجزئ(1) فإن قل زاد بقدر ما يكون المصفى صاعًا، لقلة مشقة تنقيته(2) وكان ابن سيرين يحب أن ينقى الطعام(3) وقال أحمد: وهو أَحب إلي(4) (ولا) يجزئ (خبز) لخروجه عن الكيل والادخار(5) (ويجوز أَن يعطى الجماعة) من أهل الزكاة (ما يلزم الواحد(6)
__________
(1) لأنه لا يعلم قدر المجزئ، كقمح اختلط بكثير زوان، وهي حبوب غير صالحة للأكل، ذكر الأطباء أن أكلها يورث خبالاً في العقل.
(2) أي فإن قل الخلط مما لا يجزئ، زاد بقدر ما يكون المصفى المخرج صاعًا، وأجزأ، لقلة مشقة تنقية الصاع المجزئ.
(3) وكذا غيره من السلف، وتقدم وجوب إخراج الحب مصفى.
(4) أي تنقية المخرج في صدقة الفطر، كالزكاة.
(5) فلا يعلم قدره، ويتغير بالبقاء، فتفوت منفعته على المساكين، وقال الوزير: اتفقوا على أنه لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز. اهـ. قال بعض الحنفية: إنه خلاف السنة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه إخراج القيمة في زكاة الفطر، قال أحمد: لا يعطي القيمة. قيل له: قوم يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة؟ قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: قال فلان، وقد قال ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا... الخ».
(6) لأنها صدقة، فيدخل تحت قوله { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } وقوله «فترد إلى فقرائهم» وقال الموفق وغيره: لا أعلم فيه خلافًا. ويمنع منها من يمنع من صدقة الأموال، ومن لغير حاجة نفسه، فقوله «طعمة للمساكين» نص في ذلك فتجرى مجرى الكفارات، وتعطى لمن هو أحوج، لحاجة نفسه، لا في المؤلفة والرقاب، وهذا أقوى دليلاً ممن قال: تجرى مجرى زكاة المال. قال الشيخ: ولا يجوز دفعها إلا لمن يستحق الكفارة، وهم الآخذون لحاجة أنفسهم.(5/261)
وعكسه) بأَن يعطى الواحد ما على الجماعة(1) والأَفضل أن لا ينقص معطى عن مدَّبّر، أو نصف صاع من غيره(2) وإذا دفعها إلى مستحقها، فأَخرجها آخذها إلى دافعها(3)، أو جمعت الصدقة عند الإمام، ففرقها على أَهل السهمان(4).
فعادت إلى إنسان صدقته جاز، ما لم يكن حيلة(5)
__________
(1) أي يجوز أن يدفع للواحد فيها ما يلزم الجماعة، كصدقة المال، ولما تقدم من الأدلة، وذكره النووي وغيره اتفاقًا، إلا ما روي عن الشافعي، وذكر الشيخ أنه قول جمهور العلماء، وقال: فإنهم يجوزون دفع صدقة الفطر إلى واحد، كما عليه المسلمون، قديمًا وحديثًا. وذكر أن ما كان على عهده صلى الله عليه وسلم وخلفائه وصحابته دفعها إلى الواحد، وأنهم لو رأوا من يقسم الصاع على بضعة عشر نفسًا لأنكروه، وعدوه من البدع، فإنَّ قدر المأمور به، صاع من تمر أو شعير، ومن البر إما نصف صاع، وإما صاع، على قدر الكفاية التامة للواحد من المساكين، فإذا أخذ المسكين حفنة، لم ينتفع بها، وكذلك من عليه دين، وإن جاز أن يكون مقصودًا في بعض الأوقات، كما لو فرض أن عددًا مضطرون، وإن قسم بينهم الصاع عاشوا، وإن خص به بعضهم مات الباقون، فهنا ينبغي تفريقه بين جماعة، لكن هذا يقتضي أن التفريق هو المصلحة.
(2) أي البر، كتمر وشعير، ليغنيه عن السؤال ذلك اليوم.
(3) أجزأت، لأن قبضه أزال ملك المخرج، وعادت إليه بسبب آخر، أشبه ما لو عادت إليه بميراث.
(4) بضم السين، أجزأت.
(5) أي تواطًا على عدم إخراج الزكاة، كأن يشترط عليه عند الإعطاء أن يردها إليه عن نفسه، فيمتنع الإجزاء، كسائر الحيل المحرمة، وهو المشهور في المذهب.
وقال أبو بكر: مذهب أحمد لا كشرائها فيجوز رجوع الصدقة فرضًا أو نفلاً إلى من تصدق بها في ثلاث صور، إذا دفعها إلى الإمام أو نائبه ثم ردها إليه، لأنها بلغت محلها، وأما إن تركها الإمام أو نائبه لصاحبها قبل القبض، لم تحل له، والثانية إذا ردها إليه الميراث، والثالثة إذا دفعها إلى من له عليه دين وردها إليه وفاء، بعد التمكن، إن لم يكن حيلة.
وإذا كان من تدفع إليه ببلد، مسافة قصر فأكثر، ولا يمكن دفعها إليه، فإن المستحق يوكل من يقبضها، فإن دفعها إلى جاره ونحوه، وقال: اقبضها لفلان الغائب. لم تجزه، صرح به أبا بطين وغيره.(5/262)
.
باب إخراج الزكاة(1)
يجوز لمن وجبت عليه الزكاة الصدقة تطوعًا قبل إخراجها(2) (ويجب) إخراج الزكاة (على الفور مع إمكانه)(3) كنذر مطلق وكفارة(4) لأَن الأَمر المطلق يقتضي الفورية(5).
__________
(1) أي زكاة المال المستقرة، وما يتعلق به، من حكم النقل والتعجيل ونحوه.
(2) ولم يزل المسلمون يتصدقون من الأموال الظاهرة والباطنة قبل الإخراج، فكان إجماعًا، بخلاف صوم التطوع، فإنه لا يقدم على الفرض.
(3) يعني قدرته على إخراجها في الجملة، وهو مذهب مالك والشافعي، لقوله تعالى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } والمراد الزكاة المستقرة، كزكاة المال، وأما زكاة الفطر، فتقدم أنها تجب بدخول ليلة العيد، مع أن الأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة.
(4) أي كما يجب إخراج النذر المطلق، كأن يقول: لله علي أن أصلي أربع ركعات. ولم يقيدها بوقت، أو: أن أصوم عشرة أيام. ولم يقيدها بشهر، ومثله موقت دخل وقته، وإخراج كفارة على الفور.
(5) ومنه { وَآتُوا الزَّكَاةَ } فإنه يقتضي الفورية بدليل { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرتُكَ } وبدليل أن المؤخر يستحق العقاب، ولو جاز التأخير لكان: إما إلى غير غاية؛ وهو مناف للوجوب، وإما إلى غاية، ولا دليل عليه، وفي الصحيح: صلى العصر فأسرع، فقيل له؛ فقال «خلفت في البيت تبرًا من الصدقة» وللشافعي وغيره عن عائشة، قال: «ما خالطت الصدقة مالاً إلا أهلكته» ولأنها عبادة تتكرر، فلم يجز تأخيرها، فإن أخرها أثم، وفاقًا لمالك والشافعي، وقول بعض الحنفية.(5/263)
وكما لو طالبه بها الساعي(1) ولأَن حاجة الفقير ناجزة، والتأْخير مخل بالمقصود(2) وربما أَدى إلى الفوات(3) (إلا لضرورة) كخوف رجوع ساع(4) أَو على نفسه، أَو ماله، ونحوه(5) وله تأْخيرها لأَشد حاجة(6) وقريب، وجار(7).
ولتعذر إخراجها من المال، لغيبة ونحوها(8)
__________
(1) فإن مطالبة الساعي بالزكاة، تقتضي الفورية إجماعًا، فكذا بطلب الله تعالى، وكعين مغصوبة، قال المجد بلزومه، وأما أبو حنيفة فإنما يوجب الفورية إذا طلبها الساعي «والساعي» هو العامل، «وسعى الرجل» يسعى؛ عمل وكسب، وكل من ولي شيئًا على قوم فهو ساع عليهم، وأكثر ما يقال ذلك، في ولاة الصدقة.
(2) أي فيجب إخراجها على الفور لذلك.
(3) بنحو طروء إفلاس، أو موت؛ ولأن النفوس طبعت على الشح، وهو أيضًا أخلص للذمة، وأنفى للحاجة، وأبعد من المطل المذموم، وأرضى للرب، وأمحى للذنب.
(4) أي على صاحب المال، إذا أخرجها هو بنفسه، مع غيبة الساعي، فله تأخيرها إذًا.
(5) كمعيشته، فله تأخيرها حينئذ، لما في تعجيلها من الضرر، وفي الحديث، «لا ضرر ولا ضرار» ولأنه يجوز تأخير دين الآدمي لذلك، فالزكاة أولى.
(6) أي ليدفعها لمن حاجته أشد ممن هو حاضر، وكذا لأفضل، وقيده كثير من المحققين بالزمن اليسير، لأنه قد تقرر أنه لا يجوز ترك واجب لمندوب، وظاهر كلام جماعة المنع.
(7) لأنها على القريب صدقة وصلة، والجار في معناه، وعنه: له أن يعطي قريبه كل شهر شيئًا، وينبغي أن يقيد الكل بما إذا لم يشتد ضرر الحاضر، لأن دفع ضررهم فرض، فلا يترك لحيازة فضيلة.
(8) أي لغيبة المال، ونحو الغيبة، كالمنع من التصرف فيه، وكغصبه، وسرقته، وكونه دينًا، إلى قدرته عليه، أو كان المالك فقيرًا، محتاجًا إلى زكاته، تختل كفايته ومعيشته بإخراجها، وتؤخذ منه عند يساره، لفعل عمر، ولأنها مواساة، فلا يكلفها من غيره.
ولو قدر أن يخرجها من غيره، ولإمام وساع تأخيرها عند ربها لمصلحة، كقحط ونحوه، لقوله «هي علي ومثلها» ولفعل عمر رضي الله عنه.(5/264)
(فإن منعها) أي الزكاة (جحدًا لوجوبها، كفر عارف بالحكم)(1) وكذا جاهل عرف فعلم وأصر(2) وكذا جاحد وجوبها، ولو لم يمتنع من أَدائها(3) (وأَخذت) الزكاة (منه(4).
__________
(1) إجماعًا، لتكذيبه لله ورسوله، وإجماع الأمة.
(2) أي ومثل من منعها جحدًا لوجوبها جاهل به، لقرب عهده من الإسلام، أو كونه نشأ ببادية بعيدة عن القرى، بحيث يخفى عليه وجوبها، وعرف وجوبها ليرجع عن الخطأ، «فأصر» أي على جحوده، كفر إجماعًا، لأنه مكذب لله ورسوله، وقوله «فعلم» ليس بقيد، ولهذا لم يذكره الأكثر، بل قالوا: عرف فأصر. وكذا لم يذكره في الصلاة.
(3) يكفر إجماعًا، لظهور أدلة الوجوب من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فلا عذر له.
(4) إن كانت وجبت عليه، لوجوبها عليه قبل كفره، فلم تسقط به كالدين، ولاستحقاق أهل الزكاة لها.(5/265)
وقتل) لردته، بتكذيبه لله ورسوله، بعد أَن يستتاب ثلاثًا(1) (أو بخلاً) أي ومن منعها بخلاً، من غير جحد (أُخذت منه) فقط قهرًا، كدين الآدمي، ولم يكفر(2) (وعزر) إن علم تحريم ذلك(3) وقوتل إن احتيج إليه(4).
__________
(1) إجماعًا، لقوله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة» وقال أبو بكر: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. متفق عليه.
(2) وإنما تؤخذ منه الزكاة، وهو مذهب مالك والشافعي، كما يؤخذ العشر وفاقًا «والبخل» بضم الباء وفتحها، وسكون الخاء وبفتحها، منع الفضل، والبخل شرعي وعرفي، فالشرعي: منع الواجب؛ كالزكاة ونحوها. والعرفي: منع ما يعد مانعه بخيلاً. وقوله «فقط» أي من غير زيادة وفاقًا، لحديث الصديق «من سأل فوق ذلك فلا يعطه» مع توفر الصحابة، ولم ينقل عنهم أخذ الزيادة، ولا قول به، ولأنه لا يزاد على أخذ الحق من المظالم، كسائر الحقوق، وقيل: وشطر ماله؛ إن علم تحريمه، لحديث «فإنا آخذوها وشطر ماله»، وهو من رواية بهز، قال الشافعي وغيره: حديث بهزلا يثبته أهل العلم، ولو ثبت لقلنا به. وإن غيب، أو كتم، وأمكن أخذها، أخذت من غير زيادة، وهو قول أكثر الفقهاء، لأنه لم ينقل أن الصحابة أخذوا زيادة عليها.
(3) يعزره إمام عادل أو نائبه، لارتكابه محرمًا، وإن كان جاهلاً – كحديث عهد بالإسلام – لم يعزر، لأنه معذور، وعرف وبصر، وأخذت منه فقط.
(4) يقاتله إمام يضعها في مواضعها، لاتفاق الصحابة مع الصديق على قتال مانعي الزكاة، ولأنها أحد مباني الإسلام، فإن تاب، وأخرجها، وإلا قتل حدًا، وأخذت من تركته، من غير زيادة، وكذا إن غيب، أو كتم، واستتيب فلم يخرج قتل حدًا، قال في المبدع: على الأصح، لظاهر الكتاب والسنة. وذكر الشيخ أن من أداها، لم تجز مقاتلته، للخلف في إجزائها.(5/266)
ووضعها الإمام في مواضعها(1) ولا يكفر بقتاله للإمام(2) ومن ادعى أَداءَها، أو بقاءَ الحول، أو نقص النصاب(3) أَو أَن ما بيده لغيره ونحوه، صدق بلا يمين(4).
__________
(1) أي وعلم أن الإمام يضعها في مواضعها قوتل، وإلا يضعها في مواضعها فلا.
(2) وفاقًا، لأن الصحابة لم يعتقدوا كفرهم، حين امتنعوا، ولقول عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. رواه الترمذي، وما ورد من التكفير فيه، محمول على جاحد الوجوب، أو التغليظ. قال الشيخ: ولو كان لمانعي الزكاة ديون، لم تقم يوم القيامة بالزكاة، لأن عقوبة الزكاة أعظم.
(3) أي ومن ادعى أداء الزكاة وقد طولب بها، صدق بلا يمين وفاقًا، أو ادعى بقاء الحول، أو ادعى نقص النصاب، أو زوال ملكه عن النصاب في الحول، أو تجدده قريبًا، صدق بلا يمين وفاقًا.
(4) أي وإن ادعى أن ما بيده من مال زكوي لغيره، أو أنه منفرد، أو مختلط، ونحوه مما يمنع وجوبها، أو ينقصها، كدعوى علف سائمة نصف الحول أو أكثره، أو نية قنية بعرض تجارة، أو أقر بقدر زكاته، ولم يذكر قدر ماله، صدق بلا يمين وفاقًا، لأنها عبادة مؤتمن عليها، فلا يستحلف عليها، كالصلاة والكفارة، قال في المبدع: وظاهره لا تشرع. نقل حنبل: لا يسأل المصدق عن شيء، ولا يبحث، إنما يأخذ ما أصابه مجتمعًا، وفي الفروع: يتوجه احتمال: إن اتهم.(5/267)
(وتجب) الزكاة (في مال صبي ومجنون)، لما تقدم(1) (فيخرجها وليهما) في مالهما(2) كصرف نفقة واجبة عليهما(3) لأَن ذلك حق تدخله النيابة، ولذلك صح التوكيل فيه(4) (ولا يجوز إخراجها) أي الزكاة (إلا بنية) من مكلف(5) لحديث «إنما الأعمال بالنيات»(6) والأولى قرن النية بدفع(7).
__________
(1) من العمومات، كقوله «في كل أربعين شاة شاة».
(2) أي الصبي والمجنون، وتعتبر نيته، كما تعتبر من رب المال، وحكي اتفاقًا.
(3) أي يخرجها عنهما كما أنه يصرف النفقة الواجبة عليهما.
(4) أي في الإخراج، كما صحت النيابة عنهما في النفقة ونحوها.
(5) لعدم أهلية غير المكلف لأداء الواجب، ولأن أداء الزكاة تصرف مالي، أشبه سائر التصرفات.
(6) وأداؤها عمل، وقال صلى الله عليه وسلم «لا عمل إلا بنية» وقال تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ولا نزاع عند الأصحاب في ذلك، إذا كان المخرج هو المالك، أو النائب عنه، كولي صبي ومجنون.
وقال الشارح: مذهب عامة أهل العلم أن النية شرط في إخراج الزكاة. قال الوزير: أجمعوا على أن إخراج الزكاة لا يصح إلا بالنية.
(7) فاعتبر بعضهم النية عند الدفع، وفاقًا لمالك والشافعي، فلو عزلها لم تكف النية، وقال أبو حنيفة: لا يصح أداؤها إلا بالنية مقارنة الأداء. وجوز بعضهم النية عند عزل مقدار الواجب منها، فاكتفي بوجود النية حالة العزل تيسيرًا.(5/268)
وله تقديمها بزمن يسير كصلاة(1) فينوي الزكاة، أَو الصدقة الواجبة، ونحو ذلك(2) وإذا أُخذت منه قهرًا أَجزأَت ظاهرًا(3) وإن تعذر وصول إلى المالك، لحبس أو نحوه، فأَخذها الإمام أو نائبه، أَجزأَت ظاهرًا وباطنًا(4) (والأَفضل أن يفرقها بنفسه) ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها(5).
__________
(1) أي يجوز له تقديم النية قبل الإخراج بزمن يسير، كما يجوز تقديم النية على الصلاة بزمن يسير، وتقدم، وكالطهارة والحج.
(2) كصدقة المال أو الفطرة، لا صدقة مطلقة، فلو نوى صدقة مطلقة لم تجز، ولو تصدق بجميع ماله، كصدقة نصاب من غير جنسه وفاقًا، ولأنها عبادة يتكرر وجوبها، فافتقرت إلى تعيين النية، وفاقًا كالصلاة، ولأن مصرف المال إلى الفقراء له جهات، فاعتبرت نية التمييز.
(3) يعني من غير نية رب المال، فلا يطالب بها ثنانيًا، بلا نزاع، وأما باطنًا فلا تجزئ، لعدم النية، اختاره أبو الخطاب وابن عقيل، والشيخ وغيرهم، إذ الزكاة عبادة، فلا تجزئ بغير نية من وجبت عليه كالصلاة، وقال: ما يأخذه ولاة الأمور، بغير اسم الزكاة، لا يعتد بها.
(4) لأن له إذاً ولاية على الممتنع، فقامت نيته مقام نيته، كولي صبي، وكالدين، ولأن له أخذها من الممتنع بالاتفاق، ولو لم تجزئه لما أخذها، وسواء المال الظاهر والباطن، وقيل: يجب دفع زكاة المال الظاهر إلى الإمام، ولا تجزئ بدونه، وهو قول الحنفية والمالكية، والقول القديم للشافعي.
(5) وصيانة لحقهم عن الجنابة عليه، وتفريج كربة مستحقها، مع إعطائها للأولى بها، وفي المنتهى وغيره: ويفرقها بنفسه، بشرط أمانته، فإن لم يثق بنفسه، فالأفضل له دفعها إلى الساعي، لأنه ربما منعه الشح من إخراجها أو بعضها، وعند أبي الخطاب: دفعها إلى الإمام العادل أفضل، واختاره ابن أبي موسى وغيره، للخروج من الخلاف، وزوال التهمة.(5/269)
وله دفعها إلى الساعي(1) ويسن إظهارها(2) (و) أن (يقول عند دفعها هو) أي مؤديها (وآخذها ما ورد)(3).
__________
(1) قال الشارح: لا يختلف المذهب أن دفعها للإمام جائز، سواء كان عدلاً أو غير عدل، وسواء الأموال الظاهرة والباطنة، ويبرأ بدفعها، تلفت في يد الإمام أو لا، صرفها من مصارفها أو لا، وقيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب، ويشربون بها الخمر. فقال: ادفعها إليهم، وللإمام طلبها من الأموال الظاهرة والباطنة إن وضعها في أهلها وفاقًأ وإن علم أنه لا يزكي، فعليه أن يقول: أدها، وإلا ادفعها إلي. وما يأخذه الولاة من العشر، وزكاة الماشية، وغير ذلك، فقال الشيخ وغيره: يسقط عن صاحبه، إذا كان الإمام عادلاً، يصرفه في مصارفه، باتفاق العلماء، فإن كان ظالمًا، لا يصرفه في مصارفه الشرعية، فينبغي لصاحبه أن لا يدفع الزكاة إليه، بل يصرفها هو إلى مستحقها، فإن أكره على دفعها إلى الظالم، بحيث لو لم يدفعها إليه يحصل له ضرر، فإنه يجزئه في هذه الصورة. اهـ. وللمالك أن يفرق زكاة ماله الباطن بنفسه، قال النووي: وهذا لا خلاف فيه، ونقل أصحابنا فيه إجماع المسلمين.
(2) سواء كان بموضع يخرجها أهله، أم لا، وسواء نفى عنه ظن السوء أم لا، لتنتفي عنه التهمة، ويقتدي به، وقوله { وَإِنْ تُخْفُوهَا } محمولة على صدقة التطوع.
(3) ندبًا، للآية والأخبار، والصلاة هنا الدعاء والتبريك، وليس بواجب، لأنه لم يأمر معاذًا به، ولا يجب على الفقير.(5/270)
فيقول دافعها «اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا»(1) ويقول آخذها: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا(2). وإن وكل مسلمًا ثقة جاز(3) وأَجزأَت نية موكل مع قرب(4) وإلا نوى موكل، عند دفع لوكيل(5) ووكيل عند دفع لفقير(6).
__________
(1) رواه ابن ماجه، ويحمد الله على توفيقه لأدائها «ومغنمًا» أي مثمرة، لأن التثمير كالغنيمة «ومغرمًا» أي منقصة، لأن النقص كالغرامة.
(2) لأنه مأمور به في قوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي ادع لهم، قال عبد الله بن أوفى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال «اللهم صل عليهم» متفق عليه، وهذا إذا كان الدافع ربها، وإلا دعا له بالغيبة، وللرسول الحاضر، كرد السلام.
(3) لأنها عبادة، والكافر ليس من أهلها، وغير الثقة لا يؤمن عليها، وظاهره ولو مميزًا، واشترط بعضهم التكليف، لأن المميز ليس أهلاً للعبادة، وصوبه في تصحيح الفروع، وتوسط عثمان وغيره، فاستحسن القول بجوازه مع القرب، دون البعد، ويجوز التوكيل في إخراج الزكاة وفاقًا.
(4) أي قرب زمن الإخراج، من زمن التوكيل، لأن الفرض متعلق بالموكل، ولا يضر تأخير الأداء بزمن يسير.
(5) لتعلق الفرض بالموكل، ووقوع الإجزاء عنه.
(6) أي وينوي وكيل عند الدفع أيضًا، كما ينوي الموكل، صححه الشارح وغيره، لئلا يخلو الدافع إلى المستحق من نية مقارنة أو مقاربة، ولا تجزئ نية وكيل وحده إجماعًا، ويشترط لإجزائها، وملك فقير لها قبضها، ولا يصح تصرفه قبله، ولو وكل الفقير رب المال في القبض من نفسه، وأن يشتري بها بعد ذلك ثوبًا أو نحوه صح.(5/271)
ومن علم أَهلية آخذ، كره إعلامه بها(1) ومع عدم عادته، لا يجزئه الدفع له إلا إن أَعلمه(2) (والأَفضل إخراج زكاة كل مال في فقراء بلده)(3) ويجوز نقلها إلى دون مسافة قصر، من بلد المال، لأَنه في حكم بلد واحد(4) (ولا يجوز نقلها) مطلقًا (إلى ما تقتصر فيه الصلاة)(5).
__________
(1) قال أحمد: لِمَ يُبكِّته؟ يعطيه ويسكت، ما حاجته إلى أن يقرعه؟، والمراد بالعلم هنا الظن.
(2) أي ومن علم أهليته، مع علمه بعدم عادته للأخذ، لم يجزئه دفعها له، لأنه لا يقبل زكاة ظاهرًا.
(3) أي المال ولو تفرق، أو كن المالك بغيره، بدليل الأحكام، ورخص السفر، ما لم تتشقص زكاة سائمة، ففي بلد واحد، وعلل المجد عدم النقل في الجملة، بأن فقراء كل مكان، لا يعلم بهم غالبًا إلا أهله، وكذلك تجب نفقة الفقير، على من علم بحاله، ويبذل الزكاة للمضطر، ويحرم نقلها إلى مضطر، أو محتاج، في مكان آخر، ويؤيده «أيما أهل عرصة، أصبح فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله» رواه أحمد.
(4) ويبدأ بالأقرب فالأقرب، فإن نقلها إلى البعيد، لتحري قرابة، أو من كان أشد حاجة، لا بأس به.
قال أحمد: لا بأس أن يعطي زكاته في القرى التي حوله.
(5) وفاقًا للشافعي، سواء نقلها لقريب، أو أشد حاجة، أو لثغر أو غيره، أو لاستيعاب الأصناف، وسواء كان الناقل لها ربها أو غيره.(5/272)
لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن «أَعلمهم أَن الله قد افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أَغنيائهم، فترد على فقرائهم»(1).
__________
(1) متفق عليه، وعن طاووس قال: في كتاب معاذ «خرج من مخلاف إلى مخلاف، فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته» رواه الأثرم، فيفرقها الساعي، في مكان رب المال وما قاربه، ويبدأ بأقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم، وعنه: يجوز النقل، ويجزئ، قال الشارح: وهو قول أكثر أهل العلم، لأنه دفع الحق إلى مستحقه، فبرئ كالدين، ولعموم قوله «فترد على فقرائهم» والضمير للمسلمين، ولقوله { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } إلى آخر الآية، ولم يفرق بين فقراء وفقراء، وقوله لقبيصة «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها» فدل على أنها كانت تنقل إليه، فيفرقها في فقراء المهاجرين والأنصار، واختار أبو الخطاب وغيره الجواز، لأن الأدلة في المسألة متقاربة، وقد وصلت إلى الفقراء، فدخلت في عموم الآية.
وقال الشيخ: يجوز نقل الزكاة وما في حكمها، لمصلحة شرعية، وإذا نقل الزكاة إلى المستحقين بالمصر الجامع، مثل أن يعطي من بالقاهرة، من العشور التي بأرض مصر، فالصحيح جواز ذلك، فإن سكان المصر إنما يعانون من مزارعهم، بخلاف النقل من إقليم إلى إقليم، مع حاجة أهل المنقول عنها، وإنما قال السلف: جيران المال أحق بزكاته، وكرهوا نقل الزكاة، إلى بلد السلطان وغيره، ليكتفي أهل كل ناحية بما عندهم من الزكاة، ولهذا في كتاب معاذ «من انتقل من مخلاف إلى مخلاف، فإن صدقته وعشره في مخلاف جيرانه» «والمخلاف» عندهم كما يقال «المعاملة» وهو ما يكون فيه الوالي والقاضي، وهو الذي يستخلف فيه ولي الأمر جابيًا، يأخذ الزكاة من أغنيائهم، فيردها إلى فقرائهم، ولم يقيد ذلك بمسيرة يومين، وتحديد المنع من نقل الزكاة، ليس عليه دليل شرعي.(5/273)
بخلاف نذر، وكفارة، ووصية مطلقة(1) (فإن فعل) أي نقلها إلى مسافة قصر (أَجزأَت)(2) لأنه دفع الحق إلى مستحقه، فبرئَ من عهدته، ويأْثم(3) (إلا أَن يكون) المال (في بلد) أو مكان (لا فقراءَ فيه، فيفرقها في أقرب البلاد إليه) لأَنهم أولى(4).
__________
(1) أي لم تقيد تلك بمكان معين، فله نقلها، ولو إلى مسافة قصر، والفرق كون الزكاة مواساة راتبة، فكانت لجيران المال، بخلاف هذه الأشياء، فإن كان النذر معينًا، بأن عينه الناذر لفقراء بلده، أو مكان معين، وجب صرفه لهم، لتعينهم، وكذا كفارة معينة، بأن قيدها الحالف بمكان معين، أو وصية، لم يجز إلا لما قيده به، من بلد معين، أو مكان معين.
(2) للعمومات، وفاقًا لمالك، واختاره أبو الخطاب، والموفق، وغيرهما، وظاهر كلامهم يعني مع الحرمة.
(3) يعني على القول بتحريم النقل، ولو لأجل رحم، أو شدة حاجة، والساعي وغيره في ذلك سواء، وله جعل الصرف إلى رب المال.
(4) أو ما بقي منها بعد مستحقي مكانه، وبعث معاذ إلى عمر صدقة من اليمن، فأنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابيًا، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس، فتردها في فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني. رواه أبو عبيد، قال الوزير: وأجمعوا على أنه إذا استغنى أهل بلد عنها، جاز نقلها إلى من هم أهلها. والمسافر يفرقها في موضع أكثر الإقامة فيه، ما لم يفض إلى تأخيرها.(5/274)
وعليه مؤنة نقل، ودفع، وكيل، ووزن(1) (فإن كان) المالك (في بلد وماله في) بلد (آخر أخرج زكاة المال في بلده) أي بلد به المال، كل الحول أو أكثره، دون ما نقص عن ذلك(2) لأن الأطماع إنما تتعلق به غالبًا بمضي زمن الوجوب، أو ما قاربه(3) (و) أخرج (فطرته في بلد هو فيه) وإن لم يكن له به مال، لأن الفطرة إنما تتعلق بالبدن كما تقدم(4).
__________
(1) أي وعلى من وجبت عليه مؤنة نقل زكاة، مع حله أو حرمته، وعليه مؤنة تسليمها إلى مستحقها كاملة، وذلك من تمام التوفية، وكتسليم المبيع، وهل يجوز أن يوكل الفقير من يقبضها من بلد المالك لأن وكيله كهو، وهي بعد قبض الوكيل في ملك الموكل أم لا؟ استحسن بعضهم الأول.
(2) نص عليه وفاقًا، وكذا إذا كان أكثر إقامته به فيه، وقال في الغاية: ومع تساوٍ يخير.
(3) ولئلا تنقل الصدقة عن بلد المال، ولأن المال سبب الزكاة، فوجب إخراجها حيث وجد السبب، متفرقًا كان البلد أو مجتمعًا، إلا في نصاب سائمة في بلدين، فيجوز في أحدهما، لئلا يفضي إلى تشقيص زكاة الحيوان، والمراد بالأطماع أطماع الفقراء، «وطمع في الشيء وبه» حرص عليه.
(4) أي من قوله: ومن وجبت عليه فطرة غيره، أخرجها مع فطرته، مكان نفسه.(5/275)
ويجب على الإمام بعث السعاة قرب زمن الوجوب، لقبض زكاة المال الظاهر، كالسائمة، والزرع، والثمار، لفعله عليه الصلاة والسلام، وفعل خلفائه رضي الله عنهم بعده(1) (ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل)(2) لما روى أبو عبيد في الأموال، بإسناده عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل من العباس صدقة سنتين(3).
__________
(1) يعني لقبض الزكاة كل عام، كما هو مستفيض، وجرى عليه عمل المسلمين، وقال تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ومن الناس من لا يزكي، ولا يعلم ما عليه، فإهمال ذلك، إضاعة للزكاة، وعن عبد الله بن عمرو مرفوعًا «تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم» رواه أحمد وأبو داود، وفي رواية «لا جلب ولا جنب، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا على مياههم» قال مالك: سنة السعاة أن يخرجوا أول الصيف، عند اجتماع أرباب المواشي بمواشيهم على المياه، للتخفيف عليهم، وعلى السعاة، واستظهر في الفروع عدم الوجوب، وأنه لم يذكر جماعة هذه المسألة بالكلية.
(2) اقتصارًا على ما ورد، وتركه أفضل، خروجًا من الخلاف، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز تقديمها حولاً واحدًا. وفي الرواية الأخرى: أكثر من حول. وما زاد عن الحولين فلا يجوز عندنا، رواية واحدة.
(3) ولفظ أحمد وأبي داود: أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك. «وأبو عبيد» هو الحافظ الفقيه، القاسم بن سلام، الأزدي، البغدادي، يقال: كان أبوه روميًا. ولد سنة مائة وأربع وخمسين، وله مصنفات كثيرة، منها «غريب الحديث» و«كتاب الأموال» وغيرهما، قال الحافظ: أحسن من صنف في الفقه وأجوده، توفي سنة مائتين وأربع وعشرين.(5/276)
ويعضده رواية مسلم «فهي علي ومثلها»(1) وإنما يجوز تعجيلها إذا كمل النصاب(2) لاعمَّا يستفيده(3).
__________
(1) أي تعجلتها منه، وفي لفظ غير مسلم «إنا تعجلنا منه صدقة عامين» ولفظ البخاري والنسائي «هي على صدقة، ومثلها معها»، «وعضده» نصره وأعانه، أي يتقوى ما رواه أبو عبيد برواية مسلم، لأنه يحتمل أن معناه: تعجلت منه صدقة سنتين، فصارت دينًا علي، وقيل: قبض منه صدقة عامين، العام الذي شكا فيه العامل، وتعجل صدقة عام ثان، وكما لو تعجل لعام واحد، ولأنه حق مال، أجل للرفق، فجاز تعجيله قبل أجله كالدين، وقطع في الشرح والمنتهى بصحة التعجيل قبل الشروع فيه، وقدمه في الفروع، ونصره ابن نصر الله وغيره، فهو كتعجيله عن الحول الثاني قبل دخوله.
(2) وفاقًا، لأنها سببها، فلم يجز تقديمها عليه، قال الموفق: بغير خلاف نعلمه «وكمل» بتثليث الميم، والضم أفصح، ويستعمل في الذوات والصفات، يقال: كمل. إذا تمت أجزاؤه، وكملت محاسنه، بمعنى التمام.
(3) أي لا يجوز تعجيل الزكاة عما يستفيده من النصاب، لأنه تعجيل عما ليس في ملكه، لعدم وجوده، فلو ملك بعض نصاب، فعجل زكاته، أو زكاة نصاب، لم يجزئه، وفي الإقناع: ولا قبل السوم. واستظهر في المبدع الإجزاء بعد طلوع الطلع والحصرم، واختاره أبو الخطاب، وقدمه في الفروع، لأن وجود ذلك كالنصاب، والإدراك كالحول، وحكم الزرع كذلك، وقال الشيخ وغيره: يجوز تعجيل الزكاة قبل وجوبها، بعد سبب الوجوب، عند جمهور العلماء، أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فيجوز تعجيل زكاة الماشية، والنقدين، وعروض التجارة،
إذا ملك النصاب، ويجوز تعجيل العشريات قبل وجوبها، إذا كان قد طالع الثمر، قبل بدو صلاحه، ونبت الزرع، قبل اشتداد حبه، فإذا اشتد حبه، وبدا صلاح الثمر، وجبت الزكاة، وصرح ابن نصر الله وغيره بجواز تعجيلها من ولي كمالك.(5/277)
وإذا تم الحول، والنصاب ناقص قدر ما عجله، صح وأَجزأَه(1) لأن المعجل كالموجود في ملكه(2) فلو عجل عن مائتي شاة شاتين، فنتجت عند الحول سخلة، لزمته ثالثة(3) وإن مات قابض معجلة، أَو استغنى قبل الحول، أَجزأَت(4) لا إن دفعها إلى من يعلم غناه فافتقر، اعتبارًا بحال الدفع(5).
__________
(1) ولو ظن ماله ألفًا، فعجل زكاته، فبان خمسمائة، أجزأه المعجل عن عامين.
(2) حقيقة أو تقديرًا، ولهذا يتم به النصاب، ويجزئه من ماله، وإن عجل عن أربعين شاتين منها، لحولين، لا يجزئه عنهما، وينقطع الحول لنقص النصاب.
(3) فكأن الحول حال على مائتين وواحدة، تفريع على قوله: لأن المعجل كالموجود في ملكه. ولو عجل من أربعين شاة شاة، فتم الحول عليها كذلك أجزأت، فلو نقصت شاة أخرى، وتم عليها الحول كذلك، استأنف حولاً إذا تمت، ولو تجزئه المعجلة، ولو عجل عن أحد نصابيه وتلف، لم يصرفه إلى الآخر، كما لو عجل شاة عن خمس من الإبل فتلفت، وله أربعون شاة، لم تجزئه عنها وفاقًا.
(4) لأنه أداها لمستحقها، كالدين إذا عجله المدين، وكما لو عدمت عند الحول، لأنه يعتبر وقت القبض، لئلا يمتنع التعجيل.
(5) وهو فيها غير مستحق لها لغناه، وكذا لكافر فأسلم، لأنه لم يدفعها إلى مستحقها، أشبه ما لو لم يفتقر، أو يسلم.(5/278)
(ولا يتسحب) تعجيل الزكاة(1) ولمن أَخذ الساعي منه زيادة أَن يعتد بها من قابلة(2) قال الموفق: إن نوى التعجيل(3).
باب أهل الزكاة(4)
__________
(1) في ظاهر كلام الأصحاب، وتقدم أن تركه أفضل، خروجًا من الخلاف، قال في الفروع: ويتوجه احتمال بأن تعتبر المصلحة.
(2) ذكره الشيخ وغيره، ولفظه: ما أخذه باسم الزكاة، ولو فوق النصاب بلا تأويل، اعتد به، وإلا فلا، وظاهره أن ما أهداه لعامل، أو أخذه العامل لا باسم الزكاة، بل غصبًا، لا يحتسب به من الزكاة.
(3) جمعًا بين رواية عدم الاحتساب بالزيادة، وبين الاحتساب، وكذا حمل المجد رواية الجواز، على أن الساعي أخذ الزيادة بنية الزكاة، إذا نوى التعجيل، فإن علم أنها ليست عليه، وأخذها، لم يعتد بها على الأصح، لأنه أخذها غصبًا.
(4) أي من يجزئ دفع الزكاة إليه، ومن لا يجزئ، وما يتعلق بذلك، من بيان شروطهم، وقدر ما يعطاه كل واحد، وصدقة التطوع، وحكم السؤال.(5/279)
وهم (ثمانية) أصناف(1) لا يجوز صرفها إلى غيرهم(2).
__________
(1) أي أهلها الذين جعلهم الله محلاً لدفعها إليهم، لا يجوز صرف شيء منها إلى غيرهم إجماعًا، قال أحمد: هي لمن سماهم الله تعالى، وأخرج أبو داود وغيره، عن زياد بن الحارث مرفوعًا: «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء» وقال للسائل «إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» وذلك لما اعترض بعض المنافقين على النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات، بين الله تعالى أنه هو الذي قسمها، وبين حكمها، وتولى أمرها بنفسه، ولم يكل قسمتها إلى أحد غيره، فجزأها تعالى لهؤلاء المذكورين.
(2) أي غير الذين جعلهم الله محلاً لها، قال الشارح وغيره: لا نعلم خلافًا أنه لا يجوز دفعها إلى غيرهم، إلا ما روي عن أنس والحسن، ولا يلتفت إلى قول يخالف النص، وقال ابن نصر الله: لو فقدت الأصناف الثمانية، فهل يسقط وجوبها، أو الأداء خاصة؟ لأن الأصناف شرط للأداء، لا للوجوب، لأن إيجابها – وإن كانت حكمته إغناء الأصناف فإنما شرع لأمر عام – لا يختلف حكمه لفقد ما شرع لسببه، كالقصر في حق من سافر، فلم يجد مشقة، فيبقى الواجب في ذمته، متى وجد مستحقه دفع إليه. وقال الشيخ: ويجب صرفها إلى الأصناف الثمانية إن كانوا موجودين، وإلا صرفت إلى الموجود منهم، ونقلها إلى حيث يوجدون. وقال: و لا ينبغي أن يعطى منها من لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته، لمن يحتاج إليها من المؤمنين، أو من يعاونهم، فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يعطى منها، حتى يتوب، ويلتزم أداء الصلاة.(5/280)
من بناءِ المساجد، والقناطر، وسد البثوق، وتكفين الموتى، ووقف المصاحف، وغيرها من جهات الخير(1) لقوله تعالى { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } الآية(2).
__________
(1) قال الوزير وغيره: اتفق الأئمة على أنه لا يجوز ولا يجزئ دفع الزكاة في بناء مساجد، وقناطر، ونحو ذلك، ولا تكفين موتى ونحوه، وإن كان من القربى، لتعيين الزكاة لما عينت له، «والقناطر» جمع قنطرة، بالقاف والنون، الجسر يبنى على الماء، للعبور معه، والبثق منبعث الماء من الكسر، في شط أو نهر ونحوهما.
(2) وتمامها { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قال الشيخ: وصدقة التطوع تدخل في آية الزكاة، بإجماع المسلمين، وكذا سائر المعروف. اهـ.
و«إنما» المفيدة للحصر تفصح بإثبات ما بعدها، ونفي ما سواه، وكذلك تعريف الصدقات بـ«ألْ» فإنها تستغرقها، وقال الشيخ: «إنما» للحصر، وإنما يثبت المذكور، ويبقى ما عداه، والمعنى: ليست الصدقة لغير هؤلاء، بل لهؤلاء؛ ومعلوم أنه لم يقصد تبيين الملك، بل قصد تبيين الحل، أي لا تحل لغير هؤلاء، فيكون المعنى: بل تحل لهم. وذكر ابن جرير وغيره أن عامة أهل العلم يقولون: للمتولي قسمتها، وضعها في أي الأصناف الثمانية شاء، وإنما سمى الله الأصناف الثمانية، إعلامًا منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها، لا إيجابًا بقسمتها بين الأصناف الثمانية، والصواب أن الله جعل الصدقة في معنيين، أحدهما سد خلة المسلمين، والثاني معونة الإسلام وتقويته.(5/281)
أحدهم (الفقراء، وهم) أَشد حاجة من المساكين، لأن الله تعالى بدأ بهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم(1) فهم (من لا يجدون شيئًا) من الكفاية(2) (أو يجدون بعض الكفاية) أي دون نصفها(3) وإن تفرغ – قادر على التكسب – للعلم لا للعبادة، وتعذر الجمع أُعطي(4) (و) الثاني (المساكين) الذين (يجدون أكثرها) أي أكثر الكفاية (أو نصفها)(5)
__________
(1) وبدأ بهما المصنف كغيره، اتباعًا للنص، وهم في أحكام الزكاة، غير المساكين، لأنهم إذا اجتمعوا افترقوا، وبالعكس، والفقير مشتق من فقر الظهر، فعيل بمعنى مفعول، أي مفقور، وهو الذي نزعت فقرة ظهره، فانقطع صلبه.
(2) البتة، ولا قدرة لهم على شيء بالكلية، وذلك أشد الحاجة.
(3) من كسب أو غيره، مما لا يقع موقعًا من الكفاية، ومثله بعضهم بالزمن والأعمى، لأنهما في الغالب كذلك، وربما لا يقدرون على شيء أصلاً، قال تعالى { لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ } الآية، قال الوزير: وهو الصحيح عندي، لأن الله عز وجل بدأ به، فقال { لِلْفُقَراءِ } الآية.
(4) أي تعذر الجمع بين التكسب والاشتغال بالعلم، أعطي من الزكاة بقدر حاجته، لاشتغاله بالعلم، وإن لم يكن العلم لازمًا له، قال الشيخ: ويجوز أخذه ما يحتاج إليه، من كتب العلم، التي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منها، بخلاف العبادة، والفرق بين العلم والعبادة تعدي العلم، وقصور العبادة.
(5) من كسب أو غيره، مفعيل من السكون، وهو الذي أسكنته الحاجة، قال تعالى { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } فسماهم مساكين ولهم سفينة، وروي «اللهم أحيني مسكينًا» ولا يجوز أن يسأل شدة الحاجة، فدل على أن المسكين أحسن حالاً من الفقير، وعنه: أنه فقير، والأول مسكين، وأن المسكين أشد حاجة، اختاره ثعلب وغيره، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، لقوله { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } وأجيب بأنه يجوز التعبير عن الفقير بالمسكين، وهما صنفان في الزكاة، وصنف واحد في سائر الأحكام، لأن كل واحد من الاسمين ينطلق عليهما.(5/282)
.
فيعطى الصنفان تمام كفايتهما مع عائلتهما سنة(1) ومن ملك – ولو من أثمان – ما لا يقوم بكفايته، فليس بغني(2).
__________
(1) من الزكاة وجوبًا، يتكرر بتكرر الحول، ما يكفيه إلى مثله، وكل واحد من عائلتهما مقصود دفع حاجته، فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد، ومن تمام الكفاية ما يأخذه الفقير ليتزوج، إن لم يكن له زوجة، واحتاج إلى النكاح.
(2) وفي الوجيز وغيره: وكفاية عياله؛ أي فليس بذي غنى، يمنعه من أخذ الزكاة، وإن كثرت قيمته، أو ملك عقارات أو غيرها، لا تقوم بكفايته، لقوله «حتى يصيب قوامًا من عيش، أو سدادًا من عيش» رواه مسلم، والسداد الكفاية، ولم يحك متقدموا الأصحاب خلافًا و«ما» موصولة، و«لا» نافية، والغني ما عده الناس غنيًا، قال الشافعي: قد يكون الرجل بالدرهم غنيًا مع كسبه، ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه، وكثرة عياله. وقال أحمد: إذا كان له عقار وضيعة، يستغلهما عشرة آلاف، أو أكثر، لا تكفيه، يأخذ من الزكاة. وقيل له: يكون له الزرع القائم، وليس عنده ما يحصده، أيأخذ من الزكاة؟ قال: نعم. قال الشيخ: وفي معناه ما يحتاج إليه لإقامة مؤنة، وإن لم ينفقه بعينه في المؤنة، وكذا من له كتب يحتاجها، للحفظ والمطالعة، أو لها حلي للبس أو كراء، تحتاج إليه، فلا يمنع ذلك الأخذ من الزكاة. قال: والغنى في باب الزكاة
نوعان، نوع يوجبها، ونوع يمنعها، والغنى هنا ما يحصل به الكفاية على الدوام، إما من تجارة، أو صناعة، أو أجرة عقار، أو غير ذلك، فمن كان محتاجًا، حلت له الزكاة، وإن ملك نصبًا، ومن لم يكن محتاجًا، لم تحل له، وإن لم يملك شيئًا، لحديث «لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة، رجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو سداد من عيش» وذكر قول عمر: أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا، ولأن في العرف أن من كان محتاجًا فهو فقير، فيدخل في عموم النص.(5/283)
(و) الثالث (العاملون عليها وهم) السعاة، الذين يبعثهم الإمام لأخذ الزكاة من أربابها(1) كـ(ـجباتها، وحفاظها) وكتابها، وقسامها(2) وشرط كونه مكلفًا، مسلمًا، أمينًا، كافيًا(3).
__________
(1) للنص والعمل المستمر المجمع عليه.
(2) بين مستحقيها، وعدادها وكيالها، ووزانها، وجماع المواشي، ورعاة وجمال، ومن يحتاج إليه فيها، لدخولهم في مسمى العاملين عليها، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث على الصدقة سعاة، ويعطيهم عليها، فبعث عمر، وأبا موسى، وغيرهما، وليس فيه اختلاف، مع ما ورد من النص.
(3) أي قادرًا على ذلك العمل وفاقًا، لأنها ضرب من الولاية، ولعل هذا الشرط متضمن لكونه: عالمًا بفرائض الصدقة، فقد قيل: من شرطه معرفة ما تجب فيه الزكاة، وجنسه. وقيل: إن كان من عمال التفويض. ولا تشترط حريته، وفاقًا للشافعي، لقوله «وإن استعمل عليكم عبد حبشي» ولا يشترط فقره إجماعًا، لحديث أبي سعيد «لا تحل لغني، إلا لخمسة، لعامل عليها» الحديث، والمراد بالأمانة هنا العدالة، ولأن غير الأمين لا تجوز توليته، وشرط كونه مسلمًا، لأنها ولاية على المسلمين، فاشترط الإسلام فيها، وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } وقال عمر: لا تأمنوهم وقد خونهم الله. ويأتي المنع من تولية أهل الذمة، في الجهاد إن شاء الله تعالى، وقيل: لا يشترط. لأن ما يأخذه بحق جبايته، ويجوز أن يكون حاملها وراعيها ونحوهما، وشرط التكليف، لأن غير المكلف مولى عليه، لعدم أهليته.(5/284)
من غير ذوي القربى(1) ويعطى قدر أَجرته منها، ولو غنيًا(2) ويجوز كون حاملها، وراعيها ممن منع منها(3).
__________
(1) وهم مؤمنوا بني هاشم، وكذا مواليهم، وفاقًا للشافعي، ولأن الفضل والمطلب سألا النبي صلى الله عليه وسلم العمالة على الصدقة، فقال «إنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد» رواه مسلم وغيره، إلا أن يدفع إليه أجرة من غيرها.
(2) أي يعطي العامل قدر أجرته منها، ولو كان غنيًا، بغير خلاف، للخبر سواء جاوزت الثمن أو لا، لأنه أجرة، وقال ابن عبد البر: إجماعًا. وإن تلفت بلا تفريط، فمن بيت المال، وقال الشيخ وغيره: ويلزمه رفع حساب ما تولاه إذا طلب منه. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه ابن اللتبية حاسبه، وقال في الفروع: يلزمه مع التهمة.
(3) نحو كافر، أو من ذوي القربى، قال في الإنصاف: بغير خلاف. لأن ما يأخذه للعمل، لا للعمالة، بخلاف الجابي ونحوه، ولا يجوز للجابي قبول هدية من أرباب الأموال، ولا رشوة، وما خان فيه، أخذه الإمام، ليرده إلى مستحقه.(5/285)
الصنف (الرابع المؤلفة قلوبهم) جمع مؤلف(1) وهو السيد المطاع في عشيرته(2) (ممن يرجى إسلامه، أَو كف شره(3) أو يرجى بعطيته قوة إيمانه)(4) أو إسلام نظيره(5).
__________
(1) من التأليف، وهو جمع القلوب، وهم قسمان: كفار، ومسلمون، والمسلمون أقسام.
(2) ومن لم يكن كذلك فلا، وقال أبو حنيفة: حكمهم منسوخ، وعن مالك والشافعي قولان، الصواب الأول للنصوص، فيعطون إن احتيج إليهم، لوجود العلة، وبقاء المصلحة، «والعشيرة» القبيلة أبو بنو الأب الأدنون.
(3) فيعطى من يرجى إسلامه، لتقوى نيته في الإسلام، وتميل نفسه إليه، ليسلم، لقصة صفوان بن أمية’ أو ليحسن إسلامه، كما أعطى صناديد الطلقاء، وأشرافهم، أو من يخشى شره، فيرجى بعطيته كف شره، وشر غيره معه، قال ابن عباس: كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم قالوا: هذا دين صالح. وإلا عابوه. ولو كان المؤلف امرأة، كملكة الفرس.
(4) أو نصحه في الجهاد، لما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس، وعينيه بن حصن، وزيدًا الطائي، فقالت قريش: تعطي صناديد نجد؟ فقال «لأتألفهم» ولا يحل للمؤلف المسلم ما يخذه إن أعطي لكف شره، كالهدية للعامل، وإلا حل، وقال الخلوتي: لعله: ولو مسلمًا، خلافًا لما في الإقناع، وعمومه يشمل الخوراج وغيرهم كالعرب. اهـ. والإقناع مثل بالهدية، فعلم منه أنه المؤلف المعطى لكف شره، لا يختص بالكافر؛ كما توهمه بعضهم، وعلى هامش المنتهى، بخط أبا بطين: ولو مسلمًا على ما في الإقناع فلا مخالفة.
(5) لأن أبا بكر أعطى عديًا والزبرقان: رجاء إسلام نظرائهما «ونظير الشيء» مثله.(5/286)
أو جبايتها ممن لا يعطيها(1) أو دفع عن المسلمين(2) ويعطى ما يحصل به التأْليف، عند الحاجة فقط(3) فترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم، لعدم الحاجة إليه في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم(4) فإن تعذر الصرف إليهم، رد على بقية الأصناف(5) (الخامس الرقاب، وهم الكاتبون)(6).
فيعطى المكاتب وفاءَ دينه، لعجزه عن وفاء ما عليه، ولو مع قدرته على التكسب، ولو قبل حلول نجم(7) .
__________
(1) بأن يكونوا إذا أعطوا منها، جبوها ممن لا يعطيها.
(2) بأن يكونوا في طرف بلاد الإسلام، وإذا أعطوا منها، دفعوا الكفار، عمن يليهم من المسلمين، فيعطون من الزكاة، لدخولهم في مسمى المؤلفة.
(3) أي لا غيرها، لترك الخلفاء الإعطاء مع عدم الحاجة.
(4) فإن حكمهم باق، لإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة، من المسلمين والمشركين، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، وأعدل السياسة سياسته صلى الله عليه وسلم، ومنع وجود الحاجة على ممر الزمان، واختلاف أحوال النفوس، في القوة والضعف، لا يخفى فساده، واتباع سيرته صلى الله عليه وسلم أحق. قال الشيخ: ويجوز بل يجب الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه، وإن كان لا يحل له أخذ ذلك، كما في القرآن العزيز، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة من الفيء.
(5) قال المجد وغيره: لا أعلم فيه خلافًا.
(6) أي الذين لا يجدون وفاء، ولو مع القوة والكسب، لعموم الآية، وقال أبو حنيفة والشافعي: لأنهم من سهم الرقاب، وفي المبدع: لا يختلف المذهب أنهم من الرقاب، لقوله { فَكَاتِبُوهُمْ } ولأنه يملك المال على سيده، ويصرف إليه أرش جنايته، فكان له الأخذ من الزكاة، إن لم يجد وفاء، كالغريم، وأما الرقاب فلا نزاع في ثبوت سهمهم.
(7) لئلا يؤدي إلى فسخها عند حلول النجم ولا شيء معه، والأولى دفعها إلى سيده، قال في الإقناع وشرحه: ولو تلفت بيده أجزأت، كالغارم وابن السبيل.(5/287)
ويجوز أن يشتري منها رقبة لا تعتق عليه، فيعتقها، لقول ابن عباس(1) (و) يجوز أن (يفك منها الأسير المسلم) لأَن فيه فك رقبة من الأَسر(2) لا أن يعتق قنه أَو مكاتبه عنها(3).
__________
(1) ولعموم قوله { وَفِي الرِّقَابِ } وهو متناول للقن، بل صريح فيه، لأن الرقبة متى أطلقت، انصرف الإطلاق إليه، وهذا مذهب مالك، وظاهر عبارته: لا تعتق عليه مطلقًا، سواء كان برحم، أو تعليق، أو شهادة، بأن شهد على سيد عبد أنه أعتقه، وردت شهادته، فإنه إذا اشتراه يعتق عليه، قال في الفروع: ولو علق العتق بشرط، ثم نواه من الزكاة عند الشرط، لم يجزئه وفاقًا، وجعله المجد أصلاً للعتق بالرحم وفاقًا، لعود نفعها إليه.
(2) أشبه ما يدفع إلى الغارم، لفك رقبته من الدين، وهو من أفضل الأعمال، المنجية من العذاب، فإنه تعالى لما ذكر اقتحام العقبة، أخبر أن المنجي منها { فَكُّ رَقَبَةٍ } .
(3) لأنه بمنزلة إخراج العروض أو القيمة، ويشترط في الزكاة تميك المعطى وفاقًا، ليحصل الإيتاء، ولا يدفع زكاته إلى سيده، اختاره القاضي وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال المجد: هي أقيس، لأن تعلق حقه بماله، أشد من تعلق الوالد بمال ولده.(5/288)
(السادس الغارم)(1) وهو نوعان، أحدهما: غارم (لإصلاح ذات البين) أي الوصل(2) بأن يقع بين جماعة عظيمة – كقبيلتين، أو أهل قريتين – تشاجر، في دماء وأموال، ويحدث بسببها الشحناء، والعداوة(3) فيتوسط الرجل بالصلح بينهما، ويلتزم في ذمته مالاً، عوضًا عما بينهم، ليطفئ النائرة(4) فهذا قد أتى معروفًا عظيمًا، فكان من المعروف حمله عنه من الصدقة، لئلا يجحف ذلك بسادات القوم المصلحين، أَو يوهن عزائمهم(5).
__________
(1) وهو المدين، والغرم – في الأصل – لزوم ما يشق على النفس، وسمي الدين غرامًا لكونه شاقًا على الإنسان.
(2) فالغارم لإصلاح ذات البين، هو من غرم لإصلاح حال الوصل الفاسد، قال تعالى { فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } وقال { أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } وتقدم حديث قبيصة قال: تحملت حمالة، فقال له «أقم، حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها».
(3) ويتوقف صلحهم على من يتحمل ذلك، والتشاجر بالتاء، والشين، والجيم المضمومة، فاعل «يقع» أي يقع تخاصم.
(4) بالنون مهموز، العداوة والشحناء، يقال: بينهم نائرة أي عداوة، وعند العامة بالثاء المثلثة، وأما الثور، والثوران، فالهيجان، والوثب، ومنه: ثارت الفتنة بينهم «ويتوسط» أي بين المتخاصمين، فيكون وسيطًا ومصلحًا.
(5) عن تسكين الفتن، وكف المفاسد، وكانت العرب تفعل ذلك، فيحتمل الرجل الحمالة، ثم يخرج في القبائل يسأل، حتى يؤديه. فأقرت الشريعة ذلك، و«ويجحف» بضم الياء، وسكون الجيم، وكسر الحاء، من: أجحف به. إذا ذهب به.(5/289)
فجاءَ الشرع بإباحة المسألة فيها، وجعل لهم نصيبًا من الصدقة(1) (ولو مع غنى) إن لم يدفع من ماله(2) النوع الثاني ما أُشير إليه بقوله (أو) تدين (لنفسه) في شراء من كفار، أَو مباح، أَو محرم وتاب (مع الفقر)(3).
ويعطى وفاءَ دينه ولو لله(4)
__________
(1) لما في صحيح مسلم وغيره، عن قبيصة قال: تحملت حمالة، فقال «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها» وحديث أبي سعيد «لا تحل لغني إلا لخمسة» وذكر منهم الغارم، وكذا لو تحمل إتلافًا أو نهبًا عن غيره، أو ضمن عن غيره مالاً، وهما معسران.
(2) أي فيأخذ من الزكاة، ولو كان غنيًا، لأنه من المصالح العامة، فأشبه المؤلف والعامل، هذا إن لم يدفع من ماله، فإن دفع فلا، لأنه قد سقط الغرم، فخرج عن كونه مدينًا بسبب الحمالة، وكذا إن لم يكن حمل الدين، أو كان ما لزمه ضمانًا وأعسر، فلكل منهما الأخذ منها لوفاء دينه.
(3) بأن يشتري نفسه من الكفار، قال أبو المعالي: ومثله لو دفع إلى فقير مسلم، غرمه السلطان مالاً، ليدفع جوره، أو يستدين في نفقة نفسه، أو عياله، أو كسوتهم مع الفقر. قال الشارح وغيره: لا خلاف في استحقاق الغارمين لإصلاح نفوسهم، وثبوت سهمهم في الزكاة، وأن المدينين، العاجزين عن وفاء ديونهم، منهم. اهـ. أو يستدين في معصية، وشرب خمر، وزنا، وتاب. وإلا لم يجز، وتقدم قول الشيخ: إنه لا ينبغي أن يعطى منها من لا يستعين بها على الطاعة؛ وقال: فمن أظهر بدعة، أو فجورًا، فإنه يستحق العقوبة، بالهجر وغيره، واستتابته، فكيف يعان على ذلك.
(4) أي يعطى غارم وفاء دينه، بلا نزاع كمكاتب، لاندفاع حاجتهما، لقوله { وَالْغَارِمِينَ } ولو كان ما غرمه لله، فدين الله كدين الآدمي، وحكى ابن عبد البر وأبو عبيد الإجماع على أنه لا يقضى منها دين على ميت، غرم لمصلحة نفسه أو غيره.
وقال الشيخ: يجوز أن يوفى منها الدين على الميت، في أحد قولي العلماء، لأن الله قال { وَالْغَارِمِينَ } ولم يقل { وَالْغَارِمِينَ } ، الغارم لا يشرط تمليكه على هذا، وعلى هذا يجوز الوفاء عنه، وأن يملك لوارثه ولغيره.(5/290)
ولا يجوز له صرفه في غيره، ولو فقيرًا(1) وإن دفع إلى الغارم لفقره، جاز أن يقضي منه دنيه(2) (السابع في سبيل الله، وهم الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم)(3).
__________
(1) أي غير ما أعطي له، وإن كان فقيرًا، لأنه إنما يأخذ أخذًا مراعى.
(2) لملكه إياه ملكًا تامًا،ومن فيه سببان، أخذ بهما وفاقًا، والمذهب أن من أخذ بسبب يستقر الأخذ به، وهو الفقر، والمسكنة، والعمالة، والتأليف، صرفه فيما شاء، كسائر ماله، وإن دفع المالك إلى الغريم، بلا إذن الفقير صح، كقضاء الإمام عن الحي بلا وكالة.
(3) أي لا حق لهم في الديوان، وسموا به لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو، لقوله { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } ،وقوله { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله } وغير ذلك من الآيات والأحاديث، وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين، ولا خلاف في استحقاقهم، وبقاء حكمهم
في الديوان، إذا كانوا متطوعة، لأن من له رزق من بيت المال راتب يكفيه، فهو مستغن به وفاقًا، وأبو حنيفة يخص به الفقير، ومالك والشافعي وأحمد قالوا: يأخذ الغني منهم، كما يأخذ الفقير، «والديوان» بالكسر، وأصله «دوَّان» فعوض من إحدى الواوين ياء، لقولهم في جمعه دواوين، وأول من دون الدواوين في الإسلام عمر رضي الله عنه.(5/291)
أَولهم دون ما يكفيهم، فيعطى ما يكفيه لغزوه، ولو غنيًا(1) ويجزئُ أن يعطى منها لحج فرض فقير وعمرته(2) لا أَن يشتري منها فرسًا يحبسها، أو عقارًا يقفه على الغزاة(3) وإن لم يغز رد ما أَخذه(4).
__________
(1) ذهاباً وإيابًا، وثمن سلاح، ودرع، وفرس، ونحو ذلك، لأنه مصلحة عامة، ومتى ادعى أنه يريد الغزو، قبل قوله، ودفع إليه، دفعًا مراعى، من سائر ما يحتاج إليه، من آلات ونفقة.
(2) ويستعين به فيه، لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض، ولو لم يجب لفقره، ولأن الحج كالغزو، لقوله صلى الله عليه وسلم، «الحج والعمرة في سبيل الله» رواه أحمد وغيره، ولأبي داود في رجل جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اركبيها، فإن الحج من سبيل الله» وظاهر كلام أحمد والخرقي وغيرهما، جوازه في النفل أيضًا، وصححه جمع، لأنه من سبيل الله، ولا يحج بزكاة ماله، ولا يغزو، ولا يحج عنه بها، ولا يغزي.
(3) وفاقًا، وكذلك لا يشترى بها درعًا ونحوه، ولا دارًا، أو ضيعة، ونحوهما للرباط ونحوه، لأن الشراء المذكور لوقفه، ليس من الإيتاء المأمور به.
(4) أي وإن لم يغز من أخذ فرسًا وغيرها من الزكاة، رد الذي أخذه على الإمام وفاقًا، لأنه أعطي على عمل ولم يعمله.(5/292)
نقل عبد الله: إذا خرج في سبيل الله، أكل من الصدقة(1) (الثامن بن السبيل) وهو (المسافر المنقطع به) أي بسفره المباح، أَو المحرم إذا تاب(2) (دون المنشئ للسفر من بلده) إلى غيرها، لأَنه ليس في سبيل(3) لأن السبيل هي الطريق، فسمي من لزمها ابن السبيل، كما يقال: ولد الليل؛ لمن يكثر خروجه فيه، "وابن الماء"، لطيره، لملازمته له(4) (فيعطى) ابن السبيل (ما يوصله إلى بلده) ولو وجد مقرضًا(5).
__________
(1) ومفهومه: لا يجوز له الأكل قبل الخروج، لأن نفسه ليست مصرفًا لزكاته، كما لا يقضي بها دينه.
(2) لأن التوبة تجب ما قبلها، وإلا فلا، لأنه إعانة على المعصية، ولا يعطى في سفر مكروه، أو نزهة، لأنه لا حاجة إليه، ونبه بالمباح على ما هو أولى منه، كسفر الطاعة لحج، أو طلب علم، أو صلة رحم، وليس معه ما يوصله إلى بلده، أو منتهى قصده، وعوده إلى بلده، وظاهر كلامهم: لا فرق بين السفر الطويل والقصير، وتقدم أن ما سمي سفرًا تعلق الحكم به.
(3) لأن الاسم لا يتناوله حقيقة، نص عليه وفاقًا، وإنما يصير ابن سبيل في ثاني حال، ولأنه لم يصح عليه اسمه، بل مقامه ببلده مظنة الرفق به، وقال الشافعي: يدفع إليه كالمجتاز، في جواز الأخذ، وهو رواية عن أحمد.
(4) أي للماء، ولولد الليل لليل، وكل من لازم شيئًا سمي به في الغالب.
(5) أو متبرعًا بالأولى، وكذا لو كان موسرًا في بلده، لعجزه عن الوصول لماله، كمن سقط متاعه في بحر، أو ضاع منه، أو غصب فعجز عنه.(5/293)
وإن قصد بلدًا، واحتاج قبل وصوله إليها، أُعطي ما يصل به إلى البلد الذي قصده، وما يرجع به إلى بلده(1) وإن فضل مع ابن سبيل، أَو غاز، أَو غارم، أَو مكاتب شيءٌ رده(2) وغيرهم يتصرف بما شاء، لملكه له مستقرًا(3) (ومن كان ذا عيال، أَخذ ما يكفيهم)(4).
__________
(1) وإن كان فقيرًا في بلده، أعطي لفقره ما يكفيه سنة، ولكونه ابن سبيل ما يوصله، ولا خلاف في استحقاق ابن السبيل، وبقاء سهمه، ويدخل في ابن السبيل الضيف، قاله ابن عباس وغيره، والسائلون يعطون منها، وذكر غير واحد أنها جعلت لسد خلة المساكين، ومعونة الإسلام، وتقويته، فيلحق به من كان في مصلحة عامة للمسلمين، مدة قيامه بها.
(2) لأنهم لا يملكون ذلك من كل وجه، بل ملكًا مراعى، ولزوال السبب، فيجوز رد الفاضل، بزوال الحاجة، بخلاف الأصناف الأربعة، المذكورين أول الآية.
(3) فلا يردون شيئًا، لأن اللام في ذلك للملك، فثبت لهم ملكًا مستقرًا، فأهل الزكاة قسمان، قسم يأخذ بسبب يستقر الأخذ به، بلا نزاع في الجملة، وهو الفقر، والمسكنة، والعمالة، والتأليف، وقسم يأخذ بسبب لا يستقر الأخذ به، وهو الكتابة، والغرم، والغزو، والسبيل، فالقسم الأول، من أخذ شيئًا، صرفه فيما شاء، كسائر ماله؛ والثاني إذا أخذ شيئًا منها، صرفه فيما أخذه له فقط، لعدم ثبوت ملكه عليه، من كل وجه، فإنما ملكه مراعى، فإن صرفه في الجهة التي استحق الأخذ بها، وإلا استرجع منه، فالتعبير في الآية باللام للملك، وفي القسم الثاني ينادي على المراعاة في ذلك بـ«في» وهي للظرفية.
(4) أي ومن كان من الفقراء والمساكين ذا عيال، أخذ ما يكفي عياله، لأن الدفع للحاجة، فيتقدر بقدرها.(5/294)
لأَن كل واحد من عائلته مقصود دفع حاجته(1) ويصدق من ادعى عيالاً، أَو فقرًا، ولم يعرف بغنى(2)
__________
(1) فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد.
(2) لأن الظاهر صدقه، ولا يكلف يمينًا، ولا إقامة بينة، لأن ذلك لا يعلم إلا منه، ومن جهل حاله، وقال: لا كسب لي؛ ولو كان جلدًا، يخبره أنها لا تحل لغني، ولا لقوي مكتسب، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، ويعطيه بلا يمين وفاقًا، للخبر الصحيح، قال في الفروع: وإخباره بذلك يتوجه وجوبه، ولا يعطى أحد منهم مع غنى، لحديث قبيصة «لا تحل إلا لأحد ثلاثة» وتقدم، وحديث أبي سعيد «إلا لخمسة، العامل عليها، ومشتريها، والغارم، والغازي، ومسكين أهدى منها لغني»، وفي رواية «وابن سبيل منقطع به»، وإن كان غنيًا في بلده، وهذا مجمع عليه، ولقوله «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي».
رواه أبو داود والترمذي، وهو مفهوم الآية، ولو ادعى الفقر من عرف بغنى، لم يقبل إلا ببينة، وعن أحمد: يعتبر ثلاثة، للخبر. وفي الإنصاف: من ادعى أنه مكاتب، أو غارم، أو ابن سبيل، لم يقبل إلا ببينة بلا نزاع، وإن ادعى أنه غارم لذات البين، أغنى عن إقامة البينة.
ويستحب التعفف، لما في الحديث «ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله»، «لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه» ولا يأخذ الغني صدقة، ولا يتعرض لها، فإن أخذها مظهرًا للفاقة حرم، وفي الصحيحين «ومن يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه، فمثله مثل الذي يأكل ولا يشبع» وقال «إن هذا المال حلوة خضرة» شبهه – بالرغبة فيه، والميل إليه، وحرص النفوس عليه – بالفاكهة الخضراء المستلذة، فإن الأخضر والحلو مرغوب فيهما «فمن أخذه بغير شره ولا إلحاح» أي بغير سؤال «بورك
له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس، لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع» ويقبح السؤال مع الحاجة.
ومن له قدرة على الكسب، فصحح بعضهم أنه حرام، للأخبار، وكرهه بعضهم بشروط، إن لم يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول، فإن فقد أحدها حرم اتفاقًا، ومن أبيح له أخذ شيء من زكاة، وصدقة، ونحوهما أبيح له سؤاله، لظاهر «للسائل حق، وإن جاء على فرس» وهذا مذهب مالك والشافعي، ولأنه يطلب حقه، ويحرم سؤال ما لا يباح أخذه، قال ابن حزم وغيره: اتفقوا على أن المسألة حرام على كل قوي على التكسب، أو غني، إلا من تحمل حمالة، أو من السلطان، أو ما لا بد له منه. اهـ. ولا بأس بمسألة شرب الماء ونحوه، والاستعارة، والاستقراض، وسؤال الشيء اليسر، صرح به أحمد وغيره، ومن أعطي من غير مسألة، ولا استشراف نفس، مما يجوز له أخذه، استحب له أخذه، فإن استشرف، بأن حدث نفسه: سيبعث إلى فلان؛ سيعطيني فلان. فلا بأس بالرد، واختار أحمد وغير واحد الرد، وقال النووي: الذي عليه الجمهور: يستحب القبول، في غير عطية السلطان، وصحح: إن غلب الحرام حرمت، وإلا أبيحت، إن لم يكن في القابض مانع.(5/295)
.
(ويجوز صرفها) أي الزكاة (إلى صنف واحد)(1) لقوله تعالى { وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (2) ولحديث معاذ، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال:
«أَعلمهم أَن الله قد افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أَغنيائهم، فترد على فقرائهم» متفق عليه(3) فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفًا واحدًا(4) ويجزئ الاقتصار على إنسان واحد(5) ولو غريمه أَو مكاتبه(6).
__________
(1) وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وقول عمر، وحذيفة، وابن عباس وغيرهم، ويأتي ذكر جواز صرفها إلى شخص واحد، فالصنف أولى.
(2) فلم يذكر تعالى في هذه الآية إلا الفقراء.
(3) أي فقراء المسلمين بالإجماع.
(4) فدل على جواز صرفها إليه، ولما في استيعاب الثمانية من العسر، ويستحب صرفها في الأصناف الثمانية، حيث وجب الإخراج، خروجًا من الخلاف، وتحصيلاً للإجزاء يقينًا، ولا يجب الاستيعاب، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، كما لو فرقها الساعي إجماعًا، فإن قيل: الآية قاضية باختصاصهم بها، ووجوب الصرف إلى كل صنف منهم. قيل: ليست قاضية بذلك. وتقدم قول علماء الإسلام أن المراد أنها لا تخرج عنهم، لا لإيجاب قسمتها بينهم، وهو مدلول الكتاب والسنة، وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، والسلف بعدهم، قال الشيخ: ويجب تحري العدل بحسب الإمكان.
(5) اختاره في المحرر والإنصاف، وقال في المبدع: هو قول جماهير العلماء، ونص عليه، واختاره الأصحاب، لقوله { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ } الآية ولحديث معاذ وغيره.
(6) أي ويجوز الدفع إلى إنسان، ولو كان ذلك الإنسان غريمه، أو مكاتبه، أما الغريم فلكونه داخلاً في جملة الغارمين، ليقضي بها دينه، سواء دفعها إليه ابتداء، أو استوفى حقه منها، ثم دفعها إليه، وأما المكاتب فلكونه معه كالأجنبي في جريان الربا بينهما، ولأن الدفع تمليك، وهو من أهله، فإذا ردها إلى سيده بحكم الوفاء جاز، كوفاء الغريم.(5/296)
إن لم يكن حيلة(1).
__________
(1) نص عليه وقال: إن أراد إحياء ماله لم يصح، ولم يجزئه، وقيده في الوجيز وغيره بعدم الحيلة، قال بعضهم: المراد بالحيلة أن يعطيه بشرط أن يردها عليه من دينه، فلا يجزئه، لأن من شرطها تمليكًا صحيحًا، فإذا شرط الرجوع لم يوجد، ولأنها لله، فلا يصرفها إلى نفعه. وقال ابن القيم: إذا أفلس، وأعطاه منها بقدر ما عليه، فيصير مالكًا للوفاء، فيطالبه به، وهذه حيلة باطلة، سواء شرط عليه الوفاء، أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه، أو ملكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه، فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة، ولا يعد مخرجًا لها، لا شرعًا ولا عرفًا، كما لو أسقط دينه، وحسبه من الزكاة.
وقال الشيخ: الذي عليه الدين لا يعطيه، ليستوفي دينه، وقال في إسقاط الدين عن المعسر: أما زكاة العين فلا يجزئ بلا نزاع، وأما قدر زكاة دينه، ففيه قولان، أظهرهما الجواز، لأن الزكاة دين، وهنا قد أخرج من جنس ما يملك، بخلاف ما إذا كان ماله عينًا، وأخرج دينًا، فالذي أخرجه دون الذي يملك، فكان بمنزلة إخراج الخبيث عن الطيب، وهذا لا يجوز، ومنع صلى الله عليه وسلم المتصدق من شراء صدقته، ولو وجدها تباع في السوق، سدًا لذريعة العود فيما خرج عنه لله، ولو بعوضه، فإن المتصدق إذا منع من تملك صدقته بعوضها، فتملكه إياها بغير عوض أشد منعًا، وأفطم للنفوس عن تعلقها بما خرجت عنه لله.
قال ابن القيم: والصواب ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم، من المنع من شرائها مطلقًا، ولا ريب أن في تجويز ذلك، ذريعة إلى التحيل على الفقير، بأن يدفع إليه صدقة ماله، ثم يشتريها منه، بأقل من قيمتها، فمن محاسن الشريعة، سد هذه الذريعة. وقال: العلة الثانية قطع طمع نفسه عن العود في شيء أخرجه لله، بكل طريق.(5/297)
لأنه عليه السلام أَمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر(1) وقال لقبيصة: «أَقم يا قبيصة، حتى تأْتينا الصدقة، فنأْمر لك بها»(2) (ويسن) دفعها (إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم)(3) كخاله وخالته، على قدر حاجتهم، الأَقرب فالأَقرب(4) لقوله عليه السلام «صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة»(5).
فصل(6)
__________
(1) رواه أحمد، وفيه ابن إسحاق، ولفظه: أنه صلى الله عليه وسلم قال لسلمة «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك».
(2) أي بالصدقة، رواه مسلم وغيره، فدل الحديثان وغيرهما على جواز الاقتصار على شخص واحد، من الأصناف الثمانية، ولأنه لما لم يمكن استغراق الأصناف، حمل على الجنس، وكالعامل اتفاقًا، ولما في الاستيعاب من العسر، وهو منتفِ شرعًا.
(3) ولا يرثونه، بقدر حاجتهم إجماعًا.
(4) والأحوج فالأحوج، إجماعًا، وهي أفضل من العتق، لخبر ميمونة، مراعيًا المصلحة والحاجة، فيفرقها فيهم، على قدر حاجتهم، وإن كان الأجنبي أحوج، فلا يعطى القريب ويمنع البعيد، بل يعطى الجميع، والجار أولى من غير الجار إجماعًا، والعالم، والدَّيَّن، وذو العيلة، يقدمون على ضدهم، والصدقة زمن المجاعة لا يعدلها شيء، حتى قيل: الوصية بالصدقة، أفضل من الوصية بالحج، ومن الجهاد.
(5) رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، من حديث سلمان بن عامر، أي إحسان، وعطف، ورفق، وهم أولى من أعطي، للآيات، والأحاديث، ولأحمد وغيره من حديث أبي أيوب «أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح» لما فيه من الجمع بين الصدقة والصلة، والإحسان إلى من أساء إليه، وقهر النفس على بره.
(6) فيمن لا يجزئ دفع الزكاة إليه، وفضل صدقة التطوع.(5/298)
(ولا) يجزئ أن (تدفع إلى هاشمي)(1) أي من ينسب إلى هاشم، بأَن يكون من سلالته(2) فدخل فيهم آل عباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب(3) لقوله عليه السلام: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أَوساخ الناس» أخرجه مسلم(4).
__________
(1) حكاه الوزير وغيره اتفاق الأئمة، وكذا لا تجزئ إلى هاشمية.
(2) بضم السين ما انسل من الولد.
(3) ابن عبد المطلب، قال الشارح وغيره: لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة. وحكى الاتفاق على خمسة البطون غير واحد من أهل العلم، وأخرج بعض أهل العلم آل أبي لهب، لأن حرمة الصدقة عليهم كرامة لهم، ولذريتهم، حيث نصروه، في جاهليتهم وإسلامهم، وأبو لهب كن حريصًا على أذاه، فلم يستحقها بنوه، وعتبة ومعتب ابناه أسلما عام الفتح، وشهدا حنينًا، والطائف، ولهما عقب.
(4) وأول الحديث: أن المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، والفضل ابن العباس انطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المطلب: ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله جئنا لتؤمرنا على هذه الصدقات، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس. فقال «إن الصدقة لا تحل لآل محمد» الحديث، وعن أبي هريرة قال: أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كخ كخ، إرم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» وفي رواية «إنا لا تحل لنا الصدقة» يعني المفروضة، متفق عليه، وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة، فكل من حرمت عليه الزكاة، فله أخذها هدية وفاقًا، لأكله مما تصدق به على أم عطية، ولا خلاف في إباحة المعروف إلى الهاشمي، وفي الصحيحين «كل معروف صدقة».(5/299)
لكن تجزئ إليه إن كان غازيًا، أو غارمًا لإصلاح ذات البيت، أو مؤلفًا(1) (و) لا إلى (مطلبي) لمشاركتهم لبني هاشم في الخمس، اختاره القاضي وأصحابه، وصححه ابن المنجا، وجزم به في الوجيز وغيره(2). والأَصح: تجزئ إليهم، اختاره الخرقي، والشيخان، وغيرهم(3).
__________
(1) لجواز الأخذ بذلك مع الغنى، وعدم المنة فيه، واختار الشيخ، والقاضي، وأبو البقاء، وأبو صالح، وأبو طالب البصري، وأبو يوسف، والإصطخري، وغيرهم: جواز الأخذ لبني هاشم إذا منعوا الخمس، لأنه محل حاجة وضرورة. وقال الشيخ: يجوز لهم الأخذ من زكاة الهاشمي.
(2) وفاقًا لمالك والشافعي.
(3) كشيخ الإسلام وجزم به ابن البناء، وصاحب المنور، والمنتهى، والإقناع قال في العمدة: وآل محمد، بنو هاشم وموالهيم، وإذا أطلق الأصحاب الشيخين، فالمراد بهما الموفق والمجد، وفي العصور الأخيرة المراد بالشيخ: شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمهم الله تعالى.(5/300)
لأَن آية الأَصناف – وغيرها من العمومات – تتناولهم(1) ومشاركتهم لبني هاشم في الخمس، ليس لمجرد قرابتهم، بدليل أَن بني نوفل وبني عبد شمس مثلهم، ولم يعطوا شيئًا من الخمس(2) وإنما شاركوهم بالنصرة مع القرابة، كما أَشار إليه عليه السلام بقوله «لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام»(3) والنصرة لا تقتضي حرمان الزكاة(4) (و) لا إلى (مواليهما)(5) لقوله عليه السلام «وإن مولى القوم منهم» رواه أبو داود،
__________
(1) وخرج بنو هاشم بالنص، فبقي من عداهم على الأصل.
(2) ولأن بني المطلب في درجة بني أمية، وهم لا تحرم عليهم الزكاة إجماعًا، فكذا هم، وقياسهم على بني هاشم لا يصح، لأنهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشرف.
(3) رواه أبو داود وغيره وفيه «وإنما نحن وهم شيء واحد».
(4) وتقدم أنه كرامة لهم، وعلله صلى الله عليه وسلم بكونها أوساخ الناس، فحرمت عليه صلى الله عليه وسلم، وآله بني هاشم، ومواليهم فقط، لشرفهم.
(5) وهم الذين أعتقهم بنو هاشم، يعني وبنو المطلب، أما موالي بن هاشم. فهو المذهب، وفاقًا لأبي حنيفة، وأكثر الشافعية، والصحيح من مذهب مالك، وتحريم الصدقة على موالي بني هاشم، كتحريمها عليهم، قال الطحاوي: تواترت عنه صلى الله عليه وسلم الآثار بذلك. ولم يذكر بعض الأصحاب موالي آل بني المطلب، والأكثر ذكرهم، وأومأ أحمد في رواية إلى الجواز، وهو مذهب مالك، لأنهم ليسوا من آل محمد.(5/301)
والنسائي، والترمذي وصححه(1) لكن على الأَصح، تجزئ إلى موالي بني المطلب كإليهم(2) ولكل أَخذ صدقة التطوع(3) ووصية أَو نذر لفقراء(4) لا كفارة(5) (ولا إلى فقيرة تحت غني منفق)(6).
__________
(1) من حديث أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني، كيما تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسأله. فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال «إنا لا تحل لنا الصدقة، وإن مولى القوم منهم» وتجوز لموالي مواليهم، لأنهم ليسوا من القوم، ولا من مواليهم.
(2) ولم يتعرض الموفق لمواليهم، قال القاضي: لا نعرف فيهم رواية. والمراد «بالأصح» ما اصطلحوه وتقدم.
(3) أي ممن سبق أنه لا يجوز دفع الزكاة إليهم، من بني هاشم وغيرهم إجماعًا، لقوله «كل معروف صدقة» وقوله «إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة» قال في المبدع: ولا خلاف في جواز اصطناع المعروف إليهم. وفي الفروع: موادهم بجواز المعروف: الاستحباب؛ ولهذا احتجوا بقوله «كل معروف صدقة» ولأنهم إنما منعوا من الزكاة، لأنها من أوساخ الناس، والتطوع ليس كذلك.
(4) إجماعًا، لأنه لا يقع عليهما اسم الزكاة، قال في الفروع: ومعلوم أن هذا للاستحباب إجماعًا، وإنما عبروا بالجواز، لأنه أصل لم يختلف في تحريمه.
(5) لأنها صدقة واجبة بالشرع، أشبهت الزكاة، بل أولى، لأن مشروعيتها لمحو الذنب، فهي من أشد أوساخ الناس.
(6) وهو مذهب مالك والشافعي، كغناها بدينها عليه، وفاقًا، وكولد صغير فقير، أبوه موسر وفاقًا، بل أولى، للمعاوضة.(5/302)
ولا إلى فقير ينفق عليه من وجبت عليه نفقته من أَقاربه، لاستغنائه بذلك(1) (ولا إلى فرعه) أَي ولده وإِن سفل، من ولد الابن(2) أَو ولد البنت(3) (و) لا إلى (أَصله) كأَبيه، وأُمه، وجده، وجدته، من قبلهما وإن علوا(4)
__________
(1) أي بتلك النفقة، فلم يجز دفعها إليه، قال في الإنصاف: لا يجوز دفعها إلى غني، بسبب نفقة لازمة، على الصحيح من المذهب، وأختاه الأكثر، وحكي إجماعًا، في الولد الصغير.
(2) في حال تجب نفقتهما إجماعًا، وكذا إن لم تجب، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، لاتصال منافع الملك بينهما عادة، فيكون صارفًا لنفسه، وجوزها مالك، لسقوط نفقتهم عنده، وشيخ الإسلام وغيره، مع حاجتهم وعجزه و «سفل» أي نزل، بفتح الفاء من النزول، وبضمها، اتضع قدره بعد رفعة.
(3) نص عليه، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
(4) لأن ملك أحدهما في حكم ملك الآخر. وإذا كان كذلك لم يزل ملكه عنه، ومن شرط الزكاة زوال الملك، ولأن الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى والديه، في الحال التي تجب عليه نفقتهما، وإن كانت لا تجب لم تجز على الصحيح من المذهب، وقال شيخ الإسلام: يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والولد، إذا كانوا فقراء، وهو عاجز عن الإنفاق عليهم، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، ويشهد له العمومات. وقال: الأقوى جواز دفعها إليهم في هذه الحال، لأن المقتضى موجود، والمانع مفقود، فوجب العمل بالمقتضى، السالم عن المعارض المقاوم. وقال أيضًا: إن كان محتاجًا إلى النفقة، وليس لأبيه ما ينفق عليه، ففيه نزاع، والأظهر أنه يجوز له أخذ زكاة أبيه، وأما إن كان مستغنيًا بنفقة أبيه، فلا حاجة به إلى زكاته.
وقال: إذا كانت الأم فقيرة، ولها أولاد صغار، ولهم مال، ونفقتها تضر بهم، أعطيت من زكاتهم، وإذا كان على الولد دَيْنٌ لا وفاء له، جاز أن يأخذ النفقة من زكاة أبيه، في أظهر القولين، في مذهب أحمد وغيره.
وفي الصحيح – في الرجل الذي وضع صدقته عند رجل، فجاء ولد المتصدق فأخذها ممن هي عنده – فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمتصدق «لك ما نويت» وقال للآخذ «لك ما أخذت».
قال ابن رجب: إنما يمنع من دفع زكاته إلى ولده، خشية أن تكون محاباة، وإذا وصلت إليه من حيث لا يشعر، كانت المحاباة منتفية، وهو من أهل الاستحقاق.(5/303)
.
إلا أن يكونوا عمالاً، أو مؤلفين، أو غزاة، أو غارمين لذات بين(1) ولا يجزئ أيضًا إلى سائر من تلزمه نفقته(2) ما لم يكن عاملاً، أو غازيًا، أو مؤلفًا أو مكاتبًا، أو ابن
__________
(1) لأنهم إذا كانوا عمالاً، إنما يعطون أجرة عملهم، أو مؤلفين فللتأليف، أشبه ما لو كانوا أجانب.
(2) من أقاربه، أو مواليه، ممن يرثه بفرض أو تعصيب، كأخت، وعم، وعتيق، حيث لا حاجب، لغناه بوجوب النفقة، ولأن نفعها يعود إلى الدافع، وفي المبدع: ظاهر المذهب – وقدمه في الفروع – أنه يجوز دفعها إلى غر عمودي نسبه، ممن يرثه بفرض أو تعصيب، لقوله «والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة» فلم يفرق بين الوارث وغيره، وذكر الرواية الثانية، وأنها الأشهر.
ثم قال: وظاهره: أن من لا تلزمه نفقته – ولو ورثه – يجزئ الدفع إليه، قال في الإنصاف، وهو المذهب، نقله الجماعة، وكذا إذا لم يفضل عنه ما ينفقه عليهم، فأما ذووا الأرحام فالأصح أنه يدفع إليهم، لضعف قرابتهم.(5/304)