حاجة البشر
إلى
الأمر بالمعروف
والنّهي عن المنكر
لسَمَاحَةِ الشَّيْخِ العَلَّامَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ
ـ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى ،ورَعَاهُ ـ
قام بتنسيق الكتاب ونشره :
سَلمَانُ بْنُ عَبْدِ القَادِرِ أبُوْ زَيْدٍ
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ولِوَالدَيْهِ، ولِمَشَايخِهِ، ولجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ.
تَقْدِيمُ فَضِيلةِ الشَّيْخِ العَلاَّمَةِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عَبدِ الرَّحمنِ الجِبْرِين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد الله الذي خلقنا للعبادة، وفرض علينا أن نجاهد فيه حق جهاده، أحمده وأشكره، وأسأله الفضل والزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهي أعظم شهادة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نصره ربه وبلغه مراده، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، ومن تابعهم في العمل والنية والإرادة.
أما بعد:
فإن من آمن بالله -تعالى- ربًّا، ورضي بالإسلام دينا، واتبع شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- وجب عليه أن يكمل ما التزمه من الاتباع والاقتفاء، والتمسك بالشريعة، والعمل بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما أوصى أصحابه بقوله: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ "(1) وحينما أخبر بقوله: " المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد "(2).
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2676)، وأبو داود برقم (4607)، وابن ماجه برقم (42)، وأحمد في المسند: (4/ 126، 127).
من حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية: (8/200)، والهيثمي في مجمع الزوائد: (1/ 172)، والمتقي الهندي في كنز العمال: (1071)، والزيلعي في نصب الراية: (2/ 190)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. قال المنذري: (1/ 41): إسناده لا بأس به، وضعفه الألباني. انظر: السلسلة الضعيفة (327).(1/1)
وأخبر " أن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء "(1).
وفسَّرهم بأنهم الذين: " يصلحون عند فساد الناس "(2) أو: " يصلحون ما أفسد الناس "(3) أو: الذين يفرون بدينهم من الفتن(4) وأخبر بأن: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير "(5) ويريد بالقوة القوة المعنوية، وهي الجرأة على إظهار الحق، والدعوة
__________
(1) لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا فطوبى للغرباء . أخرجه مسلم برقم (145).
(2) أخرجه الطبراني في الكبير: (6/202)، وفي الصغير: (1/104). وفي الأوسط، وأورده الهيثمي في المجمع: (7/278)، وابن عدي في الكامل: (2/462)، من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-. وفي أسانيدهم بكر بن سليم الصواف، قال ابن عدي: وهو من جملة الضعفاء، فالحديث بهذا الإسناد ضعيف، لكنه يرتقي بالطرق والروايات الأخرى.
(3) جزء من حديث أخرجه الترمذي برقم (2630)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو نعيم في الحلية: (2/10- 98)، وأورده البغوي في شرح السنة: (1/ 120- 121)، وابن عدي في الكامل: (6/ 280)، من حديث عمرو بن عوف المزني -رضي الله عنه- من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده، والحديث بهذا اللفظ ضعيف؛ لأن فيه كثير بن عبد الله، قال الشافعي: ركن من أركان الكذب. وضعفه ابن المديني، وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. فهذا الإسناد ضعيف جدا، لكن الحديث صح من طرق أخرى وأصله في مسلم.
(4) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص:187). والبيهقي في الزهد الكبير: (206). وأبو نعيم في الحلية: (1/25)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وفيه سفيان بن وكيع بن الجراح، قال ابن حجر في التقريب: صدوق إلا أنه ابتلي بورَّاقِهِ فأدخل عليه ما ليس من حديثه فسقط حديثه، فالحديث ضعيف جدًّا بهذا الطريق.
(5) جزء من حديث أخرجه مسلم برقم (2664) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.(1/2)
إليه، وعدم هيبة الناس، وعدم الخوف إلا من الله -تعالى- فلذلك كله كان من واجبات الإسلام الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي شرطه الله -تعالى- لكون هذه الأمة خير الأمم، بقوله -تعالى- : ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ?.
فمتى قامت بهذا الشرط وتحققت بهذا الوصف، نصرها الله -تعالى- ومكن لها في الأرض، كما قال -تعالى- : ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ? ومتى أخلت بهذا الشرط سلبت هذه الخيرية، وأوشك أن ينزل بها العذاب، كما حكى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك عن بني إسرائيل، حيث قال: " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، أن كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم على بعض.
ثم قال: ? لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ? الآيات، ثم قال: كلا والله لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضا، ثم يلعنكم كما لعنهم "(1) رواه أحمد وأهل السنن بعدة روايات، وحسنه الترمذي.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4336). والترمذي برقم (3047) بنحوه. وابن ماجه برقم (4006) بنحوه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.(1/3)
وقد حكى الله عن بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت، أن بعضهم نهى وأنكر، وبعضهم سكت أو وبخ من وعظهم، فأنزل الله العذاب بالمعتدين، ونجى الذين ينهون عن السوء، فقال -تعالى- : ? وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ? فأهلك الظالمين، وأنجى الناهين، وسكت عن الذين قالوا: لِمَ تعظون.
وقد روى أبو داود وابن حبان في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون، إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا "(1) وهذا وعيد شديد، وخطر كبير يهدد الأمة عند انتشار المنكرات وعدم تغييرها، وهو أن العقوبة إذا نزلت عمت الصالح وغيره، كقوله -تعالى- : ? وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ?.
وفي حديث زينب أم المؤمنين قالت: " يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث "(2) متفق عليه
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4339). والطبراني في الكبير (2/ 378). وابن حبان (1839، 5594). وأورده التبريزي في المشكاة (5143).
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (3346) و(3598) و (7059) و (7135). ومسلم برقم (2880).(1/4)
وفي حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عند أبي داود وغيره: " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم لا يغيروا؛ إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب "(1).
وروى الحاكم وصححه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم "(2).
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: " أمرني رسول الله -عليه الصلاة والسلام- بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا.. "(3). الحديث.
وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- : " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم "(4). رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4338). والترمذي برقم (2169) و(3059) بنحوه. وابن ماجه برقم (4005) بنحوه. وأحمد في المسند: (1/ 2، 5، 7، 9). قال الترمذي: في الباب عن عائشة وأم سلمة والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمر وحذيفة: وهذا حديث صحيح. وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (1): إسناده صحيح. وقال الأرناؤوط في شرح السنة (14/ 344): إسناده صحيح.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (2/189، 190- 2/163). والحاكم (4/96). وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 262). قال الحاكم: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه). قال أحمد شاكر في تحقيق المسند (6521): إسناده صحيح. وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/ 421).
(3) أخرجه الإمام أحمد (5/ 159) والبيهقي في السنن الكبرى (10/ 91). وأورده التبريزي في المشكاة (5259).
(4) أخرجه أحمد في المسند (6/156). وأخرج بعضه ابن ماجه (4004). وأورده الهيثمي في المجمع (7/66). وإسناده ضعيف.(1/5)
وكل هذه الأحاديث وأمثالها تفيد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان ما يترتب على تركه من عموم العقاب، وانتشار المنكرات، وتمكن العصاة، وكثرة الشرور، وذلك مما يبين أهمية هذا الواجب، ولزوم الأمة القيام به أتم قيام.
ولذا كان جهابذة الأمة وعلماء السنة يذكرون بالغيرة على حرمات الله، وإنكار المنكر مهما كانت درجة أهله، ويؤيدهم من في زمانهم من الخلفاء والملوك، ويمكنونهم من القضاء على الفساد وأهله.
ومن أقرب مثال ما حكى لنا الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد -رحمه الله تعالى- أن الملك عبد العزيز -رحمه الله- عينه وجماعة معه بمكة بوظيفة الحسبة، فاشترطوا ثلاثة شروط:
الأول : إعطاؤهم الصلاحية في الحبس والجلد، وإتلاف أجهزة اللهو، ودنان الخمر، والدخان والنارجيل، وهدم القباب التي على القبور، وعقوبة من يبتدع في الدين كالموالد ونحوها.
الشرط الثاني: العفو عن الأخطاء إذا حصلت منهم، وتحمل أرش ذلك، ولو أدى إلى قتل الأبرياء أو إتلاف ما لا يحق إتلافه، فالإمام يتحمل ذلك.
الشرط الثالث: أن لا يسمع فيهم قول قائل، ولا وشاية واشٍ، ولو تكلم فيهم كبير أو أمير أو وزير، وذلك أن الأعداء لهم كثير.
وقد أعطاهم الملك -رحمه الله- ذلك كله، مما كان سببا في تطهير البلد الحرام، والقضاء على الفساد، بعد أن كان متمكنا هناك عشرات السنين.
وهكذا في جميع البلاد السعودية، فلقد كان هذا الملك -رحمه الله- كلما خرج ضحى من منزله، وجد الناس صفوفا ببابه من أصحاب المظالم والشكاوى، فيقول لهم: من كان يريد شكوى الشيخ عمر بن حسن ورجال الهيئة فلا يتكلم، فإنا لا نسمع شكواه، وهكذا أولاده بعده -رحمهم الله تعالى- ووفق الأحياء لنصرة الحق والدين.(1/6)
ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه المنزلة، اهتم العلماء بأحكامه، وما يتعلق بهذه الولاية، وكتبوا في ذلك قديما وحديثا، وأفضل من توسع فيه من المتأخرين الشيخ حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله تعالى- حيث ألف فيه رسالة قيمة، طبعت قبل ثلاثين عاما، بعنوان: القول المحرر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد كتبت في هذا الموضوع أجوبة على ما رفعه إليّ بعض طلبة العلم من الأسئلة التي لها صلة برجال الحسبة وواجبهم، وواجب الأمة نحوهم، ووجوب هذا الأمر على الأمة في الجملة، وقد رتبها بعض الإخوان وصححوها، وخرجوا الأدلة فيها، وأضافوا إليها أجوبة نسخوها من أشرطة المحاضرات، تتعلق بالدعاة والمصلحين، وما يقال فيهم، وحيث إن فيها بعض الفوائد لمن قصد الحق، فقد أذنت بطبعها، رجاء أن تعم الفوائد لمن أراد الله به خيرا، مع اعترافي بالنقص والتقصير، والتماسي من الإخوة طلبة العلم أن ينبهوني على ما قد أقع فيه من الأخطاء والمخالفات، والله عند لسان كل قائل وقلبه، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد اللَّه بن عبد الرَّحمن الجِبرين
المُقدِّمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ?.
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ?.(1/7)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ? .
أما بعد:
فإن الله -عز وجل- امتَنَّ على هذه الأمة ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال -تعالى- : ? لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ? .
فقد بعثه ربه إلى الإنس والجن عامة ينذرهم من الشرك، ويدعوهم إلى التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، والبراءة من الشرك وأهله، والولاء للتوحيد وأهله.
وقد أخذ -صلى الله عليه وسلم- على هذا نحوا من ثلاث عشرة سنة بمكة ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة
فلما استقر فيها أمر ببقية الشرائع. وإن مما أمر به -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال الله -تعالى- : ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? فاستجاب لأمر ربه فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ودعا إلى الله حتى بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونَصَح الأمة.
وإن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منزلة عظيمة، فقد جاء ذكره في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، فهو من أهم الخصائص التي تميزت بها الأمة المحمدية، قال -تعالى- : ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ?.
ومن الآيات التي ذكرت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قوله -تعالى- :
? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?.(1/8)
وقوله -تعالى- : ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ?.
وقوله تعالي: ? يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ?.
وقوله -تعالى- : ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ?.
والآيات في ذلك كثيرة.
ومن الأحاديث التي حثت وأكدت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم "(1).
وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم "(2).
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة الرسل جميعا، وإن أكبر معروف هو: معرفة الله وتوحيده. وأكبر منكر هو: الكفر بالله وعبادة غيره معه.
وهو أيضا وظيفة أتباع الرسل الصادقين، الذين اتبعوا الرسل بصدق وإخلاص، ولم يبتدعوا في دين الله -تعالى-.
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2169). وأحمد في مسنده: (5/388). والبيهقي (10/93). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الألباني في صحيح الجامع (6947): حديث حسن.
(2) أخرجه أبو داود برقم (4336). والترمذي برقم (3047) بنحوه. وابن ماجه برقم (4006) بنحوه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.(1/9)
ومن المقرر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما تصلح به المجتمعات وبدونه تعتريها الآفات، وتنعدم الأخلاق ويسود الفساد ويؤخذ العامة بذنب الخاصة، قال -تعالى- : ? وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ?.
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون نظام المجتمع وقوامه.
ونظرا لأهمية هذا الموضوع فقد قمت بجمع وترتيب هذه الرسالة من محاضرات ودروس ومؤلفات وفتاوى فضيلة شيخنا العلامة الإمام: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين وفقه الله للصواب، ثم أضفت إليها مجموعة من الأسئلة في نفس الموضوع، ثم عرضتها على فضيلته فصححها، وأجاب على جميع الأسئلة فيها، ثم أذن لي بنشرها عَلَّ الله أن ينفع بها.
والشيخ عبد الله بن جبرين -حفظه الله- ممن قاموا بهذا الواجب بقدر الاستطاعة، فدعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فدروسه ومحاضراته وفتاواه حفظه الله تنطق بذلك.
فإننا نرى ويرى الجميع أن وقت الشيخ -حفظه الله- كله صرف في خدمة هذا الدين.
فمن أول النهار حتى الثانية والربع ظهرا قبل تقاعده يجلس -حفظه الله- في الرئاسة العامة للإفتاء، فيرد على الأسئلة عبر الهاتف، وأخرى يجيب عليها مشافهة، وأخرى يجيب عليها كتابة، وهكذا يستمع إلى قضايا المراجعين، ويكتب لهم ما يريدون، فيشفع لهذا، ويساعد ذاك، ولا يرد أحدا في طلبه -حفظه الله ورعاه-.
ثم يخرج -حفظه الله- من الرئاسة آخر موظف، حتى أنني رأيته ورآه غيري -عند خروجه من الرئاسة- يطفئ الأنوار التي في الممرات حرصا منه -حفظه الله- على عدم الإسراف.
وبعد العصر حتى المغرب يستقبل الناس في منزله ويجلس معهم، ويرد على أسئلتهم ويلبي مطالبهم.
وبعد المغرب حتى بعد العشاء يلقي الدروس والشروح في بعض المساجد.
ثم يعود للبيت فيبحث ويقرأ الكتب والرسائل التي تُقدَّم له لمراجعتها.(1/10)
وبعد الفجر يلقي بعض الدروس والشروح... وهكذا(1).
فكم ساعة ينام الشيخ خلال الأربع والعشرين ساعة؟! إنه قد جعل أكثر وقته لخدمة هذا الدين العظيم.
فنسأل الله أن يحفظ شيخنا، ويمد في عمره في خدمة هذا الدين، وأن يكتب ذلك في موازين حسناته، وأن يجعله من أهل الجنة وأهل الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.
وبهذه المناسبة فإنني أشكر كل من ساهم معي في إعداد هذا الكتاب، وتزويدي ببعض الأسئلة والاستفسارات لعرضها على فضيلة الشيخ والإجابة عليها، وأخص بالذكر الأخ الفاضل علي بن عبد الله العماري، والذي كان له دور طيب وكبير في جمع كثير من الأسئلة، وذلك بمقابلة بعض العاملين في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعرفة أهم النقاط والمشاكل التي تواجههم، ثم صياغتها على شكل أسئلة، ومن ثم تم عرضها على فضيلة الشيخ والتي قام بالإجابة عليها، فجزاه الله خير الجزاء على ما قدم، وكتب ذلك في ميزان حسناته إنه سميع مجيب.
وختاما:
نسأل الله -تعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، لا رياء فيه ولا سمعة، وأن يكتبه في موازين أعمالنا، وأن يبارك به ويجعل له القبول، وأن يعم بنفعه، إنه سميع مجيب والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكتبه
أبو أنس علي بن حسين أبو لوز
صباح الثلاثاء
5/3/ 1416هـ الموافق 1/8/ 1995م
الرياض - حي الخالدية
ص. ب 31271- الرمز: 11497
تنويه وتوضيح كتبه الأخ علي العماري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
__________
(1) هناك ترجمة موجزة عن حياة فضيلة شيخنا الشيخ عبد الله بن جبرين وفقه الله، وهي مطبوعة ضمن الجزء الأول من مجموع فتاوى ورسائل الشيخ من جمعي وترتيبي (أبو أنس).(1/11)
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد فضل الله هذه الأمة على غيرها من الأمم بأن جعلها خير أمة أخرجت للناس، كما قال -تعالى- : ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ? ذلك لتشريفه إياها بحمل مهمة الأنبياء والرسل، ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا شك أن أعظم المعروف هو توحيد الله بالعبادة، وأعظم المنكر الشرك بالله، كما قال -تعالى- : ? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ? وأن العمل بهذه الشريعة وقاية للأمة من الأخطار والشرور، كما قال -تعالى- :
? وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ? فلم يقل صالحون، بل قال: مصلحون، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتبين من مفهوم هذه الآية أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درع واقٍ لهذه الأمة بإذن الله من نزول العذاب.(1/12)
وأن تركه سبب لنزول العذاب، كما قال -تعالى- : ? لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ? وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " إن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يده، أوشك الله أن يعمَّهم بعقاب من عنده "(1). والآيات والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة.
ولأهمية هذا الموضوع؛ فقد قمت بكتابة مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بهذه الشعيرة وعرضتها على شيخنا العلامة ليجيب عليها، حتى تكون نورا ومنهجا لمن سلك هذا الباب.
ثم أنني التقيت بالأخ الفاضل / أبو أنس علي بن حسين أبو لوز وعرضت عليه فكرة وجود كتاب يختص بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع فتاوى في المسائل المتعلقة بهذا الموضوع، فوجدته يحمل نفس الفكرة تماما؛ بل وجدته قد بدأ العمل بها وقطع فيها شوطا، وتم الاتفاق بيننا على العمل سويا من أجل إخراج ذلك الكتابة، ثم ما لبثت حتى سافرت إلى الخارج لمدة من الزمن، فقام الأخ / أبو أنس بإعداد الكتاب وعزو الآيات وتخريج الأحاديث، وجمع عدد كبير من الأسئلة، ثم عرض الكتاب على شيخنا العلامة الشيخ عبد الله الجبرين فقرأه الشيخ وصححه، وأجاب على ما يشكك فيه، فجزى الله شيخنا خير الجزاء على ما قدم، وأجزل له المثوبة والأجر.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4338). والترمذي برقم (2169) و(3059) بنحوه. وابن ماجه برقم (4005) بنحوه. وأحمد في المسند: (1/ 2، 5، 7، 9). قال الترمذي: في الباب عن عائشة وأم سلمة والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمر وحذيفة: وهذا حديث صحيح. وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (1): إسناده صحيح. وقال الأرناؤوط في شرح السنة (14/ 344): إسناده صحيح.(1/13)
كما أشكر الأخ أبا أنس الذي تكفل بإخراج هذا الكتاب رغم غيابي تلك المدة، ولقد بذل فيه كل ما يقدر من جهد، كما لا أنسى جهد الأخ المحترم الشيخ / عبد الرحمن بن حسن النصار الذي يعمل في سلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد ساعدني كثيرا في وضع الأسئلة.
وفي الختام أسأل الله أن يتقبل منا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن لا يحرمنا الأجر من عنده، وأن يثبتنا على ديننا، إنه جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكتبه
العبد الفقير إلى ربه
علي بن عبد الله بن عبد الله العماري
ص. ب (4344)- الدمام
في 15/3/1418هـ
مفهوم المعروف ومفهوم المنكر
لِمَ سمي المعروف معروفا والمنكر منكرا
وضح العلماء المعروف فقالوا: إنه كل ما هو من طاعة الله، فكل ما أمر الله به وأحبه ورضيه فهو معروف.
فالمعروف هو الطاعات والحسنات والقربات، سواء كانت من الفرائض، أو من النوافل.
وسُمِّي المعروفُ معروفًا ؛ لأنه الذي تعرفه النفوس، وتألفه وتحبه وتركن إليه، وتشهد بملاءمته وموافقته الفطرة وموافقته للمصالح، وأن فعله فيه الخير، وأن ما يترتب على فعله من القربات أفضل مما يترتب على غيره، وهذا عام في كل الأمور الشرعية، ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- ما أمر بأمر إلا وهو غاية المصلحة وغاية المناسبة.
أما المنكر فهو المعاصي والمحرمات، فكل ما حذر ونهى الله عنه وأكد في النهي عنه فهو منكر.(1/14)
وسُمِّيَ المنكرُ منكرًا ؛ لأنه مما تنفر منه النفوس السليمة والفطر المستقيمة، وتبغضه وتكرهه، وتشهد بنكارته وقبحه -ولو لم يأت به شرع- ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- ما حرم شيئا إلا وفيه ضرر على النفوس أو العقول أو الأبدان أو الأموال؛ لأنه -سبحانه وتعالى- أعلم بمصالح عباده، فلا يحرم عليهم شيئا إلا وهو ضار لهم، إما في الحال، وإما في المآل! سواء كان هذا المحرم من المأكولات أو الأعمال. فالمحرمات التي حرمها الله من المكاسب أو من المطاعم ونحوها، كلها منكر، وكذا فعلها منكر، فما حرمت إلا لما فيها من ضرر، سواء كانت معاملة: كمعاملات الربا والغش والخداع، وما أشبهها، أو كانت من المأكولات: كأكل لحم الخنزير والميتة والمسكرات، وما أشبهها.
ويقال ذلك في الأعمال؛ تلك الأعمال التي حرمها الله -تعالى- كالكذب وشهادة الزور والزنى والفواحش ما ظهر منها وما بطن. فما حرم ذلك إلا لما فيه من المضرة.
فإذا علم المسلم حقيقة هذه المنكرات، وعرف الدليل على نكارتها وقبحها، والحكمة في تحريمها، والمضرة في حصولها والعمل بها، فعند ذلك تجده ينفر منها، ويبتعد عن القرب منها ومن أهلها، ويجعله ذلك يبحث عن ضدها وهو فعل الخيرات، ذلك أن الله -تعالى- من حكمته أنه ما حرم شيئا إلا وجعل ما يقوم مقامه من الأعمال التي فيها مصلحة.
فلما حرم الله الزنى أباح النكاح، ولما حرم الربا أباح البيع وسائر المكاسب، ولما حرم الكذب أباح الصدق وجعل فيه النجاة، ولما حرم القول السيئ أباح القول الحسن... وهكذا في سائر الأعمال.
فكل شيء حرمه الله فإنه لمضرته وهو منكر، ويأثم فاعله بفعله لهذا المنكر، وكل شيء أمر به فإنه معروف، يتقرب به فاعله إلى الله، ويكون من أهل المعروف، والله أعلم.
تعريف المعروف وتعريف المنكر
سئل فضيلة الشيخ حفظه الله: ما تعريف المعروف ؟ وما تعريف المنكر ؟
فأجاب:(1/15)
المعروف: ما أمر الله -تعالى- به في كتابه، أو على لسان رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-.
والمنكر: ما نهى الله -تعالى- عنه وحرمه في كتابه، أو على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وسمي هذا معروفا : لأن النفوس السليمة تعرفه وتفضله وتشهد بحسنه وتقبله وتستحسن التعبد به.
وسمي هذا منكرا لأن النفوس والفطر السليمة تنكره، وتنفر منه وتستقبح فعله، ولا عبرة بمن تغيرت فطرته وانحرف عن مقتضى العقل فاستحسن القبيح واستقبح الحسن، فأولئك هم عمي البصائر ممن فاته الخير والرشاد فانعكست أفهامهم:
? وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ?.
الفرق بين الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وسئل حفظه الله: هل هناك فرق بين الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
فأجاب: الدعوة إلى الله هي: النصح والتوجيه والترغيب في الخير والتحذير من الشر، وبيان آثار الطاعة وآثار المعصية، وهي المذكورة في قوله -تعالي- : ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?.
وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو: أمر الناس بأنواع الطاعة فرضها ونفلها، ونهيهم عن المعاصي صغيرها وكبيرها، وذلك يستدعي الإلزام أو ما يقدر عليه، فإن قدر على إلزام العاصي بالفعل وجب عليه، وإن عجز اقتصر على الإنكار بالقلب؛ مع اعتزال العصاة وبغضهم والتحذير منهم، ليدل على أنه قد أنكر عليهم ما فعلوه من المعاصي أو ما تركوه من الطاعات.
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الآيات والأحاديث الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سئل الشيخ حفظه الله ورعاه: ما الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟(1/16)
فأجاب: قال الله -تعالى- : ? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ? فالأمر للوجوب، أي يلزم أن يكون منكم جماعة يتولون هذا العمل، فإن لم تفعلوا فعليكم الإثم جميعا.
وقال -تعالى- : ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ? فجعل صفة الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس الأمر والنهي، وقدمه على الإيمان.
وقال -تعالى- في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- : ? يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ? وأمته تبع له في هذه الصفات.
وقال -تعالى- : ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ? بدأ بهذه الصفة للمؤمنين وقدمها على الصلاة.
والآيات كثيرة معروفة، وأما الأحاديث فمنها:
قوله -صلى الله عليه وسلم- : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "(1). رواه مسلم وهو عام في كل من رأى منكر وعرف أنه منكر.
وقال -صلى الله عليه وسلم- : " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعن من قبلكم "(2). أي الزموا بفعل المعروف وترك المنكر.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه ابو داود برقم (4336). والترمذي برقم (3047) بنحوه. وابن ماجه برقم (4006) بنحوه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.(1/17)
وقال -صلى الله عليه وسلم- : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه "(1).
وهذا وعيد شديد على ترك تغيير المنكر. والله أعلم.
متى يكون الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر فرض عين؟
وسئل حفظه الله ورعاه: متى يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين ؟
فأجاب: يكون فرض عين إذا ظهرت المعاصي وأعلنها أهلها وكثروا وتمكنوا، فهنالك يجب الإنكار على كل فرد من المسلمين، ويتعين على كل من رآهم أن ينكر بحسب قدرته، أي بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن عجز فبقلبه.
كما أن من رأى منكرا وقدر على إزالته، وعرف أن غيره لا يقدر، فإنه يتعين عليه، فهو مكلف بإزالته بحسب القدرة، ومتى تمكن أن يزيل المنكر أو يخففه تعين ذلك عليه، ولم يجز له تركه، ولو كان غيره أقدر منه، إذا عرف أن هذا المنكر محرم، ولا يجوز له تأخيره حتى يفعل المعصية، فمن رأى رجلا اختطف امرأة للفجور بها، أو صبيا لفعل الفاحشة، فعليه حتما السعي في تخليصهما، وليس له إرجاء ذلك حتى يأتي غيره، فإن هذا إقرار للمنكر، فقد يفرغ ذلك المختطف من الزنى ونحوه قبل أن يجيء من ينكر عليه، وفي ذلك تمكين للمعاصي والعصاة من نيل مرامهم من المحرمات.
معنى قوله تعالى: ? وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ?
وسئل فضيلته: ما معنى قوله -تعالى- : ? وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? ؟
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4338). والترمذي برقم (2169) و(3059) بنحوه. وابن ماجه برقم (4005) بنحوه. وأحمد في المسند: (1/ 2، 5، 7، 9). قال الترمذي: في الباب عن عائشة وأم سلمة والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمر وحذيفة: وهذا حديث صحيح. وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (1): إسناده صحيح. وقال الأرناؤوط في شرح السنة (14/ 344): إسناده صحيح.(1/18)
فأجاب: هذا استفهام تقرير، أي لا أحد أحسن قولا من الدعاة إلى الله -تعالى- وأهل العمل الصالحين المقرين المعترفين بأنهم من المسلمين.
وهذه الآية نزلت في مكة، فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قرأ أول هذه السورة على عتبة بن الوليد بمكة كما ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره، وقد قيل: إن هذا الداعي هو النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا شك أنه أولى من يدخل في معنى الآية، إلا أنها عامة في كل الدعاة إلى الله -تعالى- أي إلى دينه وشرعه وعبادته والإخلاص له في القول والعمل؛
ولهذا قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- بعد أن تلا هذه الآية فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، وقد قيل: إن الآية نزلت في المؤذنين، ولا شك أن المؤذن داخل في عمومها، لكنها نزلت قبل شرعية الأذان، والله أعلم.
معنى قوله تعالى:
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ?
وسئل أثابه الله: ما قولك في قول الله -تعالى- : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? ؟
فأجاب: يقول -تعالى- أصلحوا أنفسكم وقوموها بالعمل الصالح، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والنصح للمسلمين، وإظهار الحق، والتحذير من أسباب العذاب، فإذا فعلتم ذلك فقد اهتديتم، فلا يضركم بعد ذلك من ضل وعصى، ولم يقبل منكم، فالمعنى أن الإنسان يحرص على إصلاح نفسه، والاهتداء بشرع الله الذي منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمتى عمل بذلك فقد اهتدى، وحينئذ لا يضره من ضل عن الهدى، وسلك سبيل الردى، ولو كان أقرب قريب.(1/19)
وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ ولهذا ثبت أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب "(1).
وقد قال جماعة من الصحابة: إنه لم يأتِ زمان هذه الآية، لقد روى الترمذي وصححه عن أبي ثعلبة الخشني قال: سألت عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودعِ العوام، فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن على دينه مثل القابض على الجمر "(2) أي لكثرة المخالف وقلة الموافق.
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه- يوشك أن يأتي زمان تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم. رواه عبد الرزاق.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4338). والترمذي برقم (2169) و(3059) بنحوه. وابن ماجه برقم (4005) بنحوه. وأحمد في المسند: (1/ 2، 5، 7، 9). قال الترمذي: في الباب عن عائشة وأم سلمة والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمر وحذيفة: وهذا حديث صحيح. وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (1): إسناده صحيح. وقال الأرناؤوط في شرح السنة (14/ 344): إسناده صحيح.
(2) أخرجه أبو داود برقم (4341). والترمذي برقم (3060). وابن ماجه برقم (4014). وابن حبان (1850). قال الترمذي: حديث حسن غريب.(1/20)
وعلى هذا فلا يجوز الاحتجاج بهذه الآية على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في هذه البلاد، حيث إنها -والحمد لله- بلاد إسلامية، وفيها قبول الدعوة، وتمكين الدعاة وأهل الحسبة من الأمر والنهي، بخلاف بعض البلاد التي يحصل فيها اضطهاد للدعاة، وإهانة للمصلحين، واتهام لهم بأنهم ثوريون ومتهورون، ثم مطاردتهم وإيداعهم في السجون أو طردهم وإبعادهم عن بلادهم، والله المستعان.
المداراة في أمور المعتقد بقصد جمع كلمة المسلمين مع اختلاف عقائدهم
وسئل سلمه الله: هل تجوز المداراة في أمور المعتقد بقصد جمع كلمة المسلمين مع اختلاف عقائدهم ؟
فأجاب: المداراة معناها التساهل والقرب من العصاة وأهل البدع ومخالطتهم، ولين الكلام معهم.
فإن كان قصد الفاعل تقريبهم إلى التوبة والتمسك بالسنة، والبعد عن المعاصي، بما يفعله ذلك الناصح من حسن الخلق، وإظهار محاسن الإسلام، حتى ينبسط ذلك المدعو ويصيخ ويستمع إلى النصيحة، فتصل إلى قلبه، ويتصور صحة ما يدعوه إليه ذلك الناصح، وبطلان ما هو عليه من البدع والمخالفات، فتحصل التوبة والرجوع إلى الحق، فهذه المداراة فيها خير ومنفعة.
فأما إذا عرف أن هذا المبتدع لا يرعوي، ولا يقبل النصيحة، وأنه مقتنع بعقيدته، لا يريد بها بديلا، فلا تجوز مداراته، ولا القرب منه، فضلا عن إكرامه واحترامه، ورفع مقامه، مما هو تشجيع له على بدعته أو كفره.(1/21)
فأغلب الرافضة، والكثير من النصارى متمسكون بدينهم ومعتقدهم، لا يتحولون عنه إلا أن يشاء الله -تعالى- رغم قراءتهم القرآن وكتب السنة، وقيام الحجة عليهم، فلا فائدة في دعوتهم؟ بل هم يصدون عن الحق ويأبون سماعه، ويحذرون عوامهم من الانصياع إلى أهل السنة أو سماع الدعوة إلى العقيدة، فلا فائدة في جمعهم مع المسلمين، وهم يكفرون أهل السنة، ويحاولون تحويلهم عن العقيدة الصحيحة، أو القضاء على كل من خالفهم، ففي اجتماعهم مع أهل السنة ضرر كبير على الحق وأهله، والله المستعان.
هل كتم الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئا من أمر الدين مداراةً ؟
وسئل فضيلة الشيخ: هل كتم الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئا من أمر الدين مدارة خوفا على الدعوة؟
فأجاب: لا يجوز اعتقاد ذلك، فمن اعتقد أنه -صلى الله عليه وسلم- كتم شيئا مما أوحي إليه فقد اعتقد نقص الشريعة، وخيانة النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد روى البخاري عند تفسير قوله -تعالي- : ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ?.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: " من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب، وهو يقول: ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ?".
وفي الصحيح أيضا عنها -رضي الله عنها- قالت: " لو كان محمد -صلى الله عليه وسلم- كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية: ? وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ?"(1).
وقد أخبر الله -تعالى- أن وظيفته البلاغ، فقال -تعالى- : ? إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ?.
وقال -تعالى- : ? مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ?.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (177)- 287.(1/22)
وحيث إنه -صلى الله عليه وسلم- قد أمر بالبيان والبلاغ، فإننا نعتقد أنه بلغ البلاغ المبين، وبين للناس ما نزل إليهم، كما أمره الله -تعالى- بذلك.
ومن قرأ سيرته، وسبر أخباره، عرف ما بذله من جهد في البلاغ والدعوة، حتى كان يعرض نفسه على القبائل في المواسم، فيقول: " من يجيرني حتى أبلغ كلام ربي "(1) رواه أبو داود وغيره
ولما عرض عليه عمه أبو طالب أن يتوقف عن دعوة المشركين، قال: والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، ما تركت هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه(2) فكيف مع ذلك يظن أنه كتم شيئا من أمر الدين مداراة خوفا على الدعوة؟! فإن هذا ينافي كمال الدين.
وقد أخبر الله -تعالى- أنه أكمله بقوله -تعالى- : ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ? وشهد الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في حجته بقولهم:
" نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت "(3) فمن ظن هذا الكتمان فقد ظن به ظن السوء، فعليه التوبة من ذلك، واعتقاد أنه -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ رسالة ربه كما أمر. والله أعلم.
شروط وأركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سئل فضيلة الشيخ: ما شروط وأركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2925). وأبو داود برقم (7434). وابن ماجه برقم (201). والدارمي برقم (3354). وأحمد في المسند: (3/ 395) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- وغيره. قال الترمذي: هذا حديث غريب صحيح.
(2) أخرجه ابن إسحاق في المغازي (1/ 284-285) انظر: سيرة ابن هشام. وقد ضعفه العلامة الألباني في السلسلة الضعيفة رقم (909)- (2/ 310).
(3) جزء من حديث حجة الوداع أخرجها مسلم برقم (1218) - 147، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.(1/23)
فأجاب: ركن الشيء هو جانبه الأقوى، كأركان البيت وهي حيطانه التي يعتمد عليها سقفه، وقيل: ركن الشيء جزء ماهيته، كأركان الصلاة، وهي الأقوال والأفعال التي بمجموعها تقبل الصلاة.
وأما الشروط فهي: لوازم الشيء وما لا يتم إلا به، كالمقدمات التي يتوقف وجوده أو وجوبه عليها.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتكون من أربعة أركان: الآمر، والأمر، والمأمور، والمأمور به.
فالأول: هو الفاعل الذي يوجه الأمر إلى غيره.
والثاني: هو الصيغة أو العبارة التي يتكلم بها، أو يشير بها ليفهم عنه الأمر الذي يريد حصوله وهو المعروف، أو يريد تركه وهو المنكر.
والثالث: هو الشخص الذي يوجه إليه الكلام، ويطلب منه الفعل أو الترك.
والرابع: هو الفعل أو القول المراد حصوله أو الابتعاد عنه.
وأما الشروط: فيشترط في الآمر الناهي أن يكون: مسلما، عاقلا، عالما، حسن التأديب، عاملا بما يأمر به، تاركا ما ينهى عنه، قادرا على الأسلوب الحسن والتعبير المقنع.
فالشرط الأول: الإسلام: فلا يجوز أن يتولى وظيفة الحسبة الكافر، أو المبتدع، أو العاصي، فإنه مأمور بإصلاح نفسه، وإزالة نقصه وعيبه، مع أن المعتاد عدم إخلاصه في الدعوة، وحرصه على تبرير موقفه، واعتذاره عن نفسه، ولو تعين في هذه الوظيفة وأعطي عليها أجرا لما قبل الناس منه مع مخالفته لما يأمر به، أو ينهى عنه، وقد وبخ الله -تعالى- اليهود بقوله: ? أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ? والخطاب عام لكل من فعل كفعلهم.
الشرط الثاني: العقل: وضده الجنون، أو السفه والخبال، وهو الذي لا يحسن التصرف، ولا يعقل المصالح، ولا يفرق بين الخير والشر، فمثل هذا لا يتولى وظيفة الحسبة، لأنه ناقص نقصًا ظاهرًا، لا ينتفع بكلامه معه.(1/24)
الشرط الثالث: العلم: وهو أن يكون المحتسب عالما بما يأمر به، عالما بما ينهى عنه، متحققا أن هذا معروف وهذا منكر بالأدلة الصحيحة الواضحة، بخلاف الجاهل بالأحكام فإنه قد يلتبس عليه الحق بالباطل، فيظن المعروف منكرا، أو المنكر معروفا.
ولا شك أن أغلب الواجبات والمحرمات ظاهرة الحكم، لا يخفى أمرها على من نشأ في بلاد الإسلام، وسمع القرآن وأدلة الأحكام، فإن معرفة وجوب الصلاة وأدائها في الجماعة، وتحريم الزنى والتبرج والخمر والغناء ونحوها ممن لا تخفى على مسلم، حتى من ابتلي بها، فإنه يعترف بتحريمها، وإنما الذي يخفى بعض ملحقاتها كبعض مسائل البيوع، والعقود والخصومات ونحوها.
الشرط الرابع: حسن التأديب: فإن من كان صلفا شديد العقوبة نفر منه الناس، ولم يقبلوا أمره ونهيه، وكثرت عليه الوقائع، وانتشرت سمعته السيئة لشدة بطشه، وزيادته في العذاب على قدر الحاجة، ومثل هذا لا يطول بقاؤه، وكثيرا ما يلصق به من الأفعال والوقائع ما لا حقيقة له.
الشرط الخامس: التطبيق: وهو أن يكون ممتثلا لما يرشد إليه، بعيدا عن فعل المنكرات، أو القرب منها، منزها نفسه وأهله عن الشبهات وأهلها، حتى لا يرد قوله بفعله.
الشرط السادس: القدرة على التعبير الحسن والأسلوب المقنع، والقول اللين اللطيف، الذي يصل إلى القلوب وتطمئن إليه النفوس، بخلاف الجاهل بذلك فإنه لا يقدر على الإنكار بحكمة، وسلاسة قول، بل يُنْفر بتعبيره ونبزه غيره بالجهل والكفر، والكلمات النابية، فيقل الانتفاع بأمره ونهيه. والله أعلم.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الرسل وأتباعهم
لا شك أن وظيفة الرسل التي بعثوا بها، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن أكبر المعروف هو: معرفة الله وتوحيده، وأكبر المنكر هو: الكفر بالله وعبادة غيره معه.
والرسل قد أمروا بذلك، كل منهم يقول لقومه: ? اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ?.(1/25)
وإذا كانت هذه وظيفة الرسل، فإنها أيضا وظيفة أتباعهم، الذين هم حقا صادقون في اتباعهم؛ فعليهم أن يقوموا بهذا العمل، ومن قام بهذا العمل فهو مأجور؛ لأنه على ثقة بأن الله -سبحانه- يحشره معهم، ويثيبه الثواب الجزيل الذي أثاب به أنبياءه ورسله.
ولا شك أن خاتم الرسل وهو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أكد هذا الباب- باب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر- ورغب فيه: فتارة يذكر الفوائد التي تترتب على فعله، وتارة يذكر المفاسد التي تترتب على تركه، وذلك بقوله وبفعله -صلى الله عليه وسلم-.
فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بتغيير المنكر، وحذر من إقراره فقال -صلى الله عليه وسلم- : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "(1).
حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أجل أوصاف الأمة وأهمها
سئل فضيلة الشيخ: ما حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
فأجاب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الرسل وخاتمهم نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأول وصف وصفه الله به في الكتب السابقة قوله -تعالى- : ? الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ?.
ولا شك أن المعروف أهمه التوحيد، وهو الذي بدأ بالدعوة إليه.
والمنكر أهمه الشرك، فبدأ بالنهي عنه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.(1/26)
كذلك أيضا أمته -صلى الله عليه وسلم- تبع له في ذلك، وقد ذكر الله أن أَجَلَّّ أوصافهم وأهمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال -تعالى- : ? كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ?.
فقدم الأمر والنهي على الإيمان، مع أن الإيمان شرط لهما، ولكن لأهميتهما وللحاجة إليهما، ولإعلانهما وإظهارهما بدأ بهما.
والأمة متى أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر تمكن المعروف، وقل المنكر، وظهر أمر الله وانقمع أعداء الله، وذلت كلمتهم وعلا دين الله وشرعه، وتمكن الإسلام والمسلمون.
أما لو تكاسل الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتواكلوا، ورأى كل منهم المنكر وصد عنه وسكت. فماذا تكون الحالة؟
لا شك أن أهل الكفر والمعاصي سيقوون، وستكون لهم كلمة ونفوذ، وسيعلنون شرهم وباطلهم، وحينئذ يظهر أهل الباطل، ويذل أهل الحق، ويبقى المؤمن خائفا يعبد ربه بخفية، وإذا أظهر العمل بالشريعة أوذي واستهزئ به، وهذا هو الواقع في كثير من البلاد والدول التي مُنِعَ عندهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقتصر على رجال الحسبة؟
وسئل الشيخ جعله الله في المهديين: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقتصر على رجال الحسبة ؟
فأجاب: ليس مقتصرا على رجال الحسبة، بل يعم كل قادر على الأمر والنهي، فإن النصوص باقية على عمومها، فكل من رأى منكرا فعليه تغييره والنهي عنه، أو رأى من ترك المعروف وهو من أهله، فعليه أن يأمره به ويحرص على الإلزام به بقدر الاستطاعة، ولا يجوز ترك ذلك مع القدرة، لأنه يؤدي إلى إقرار المعاصي.(1/27)
ولا شك أن رجال الحسبة عليهم التكليف أشد، لأنهم عينوا أو وظفوا لذلك، فأصبح الأمر والنهي في حقهم واجبا عينيا بحسب ما أعطوا من الصلاحيات، فعليهم أن يقوموا بذلك بقدر الاستطاعة، وأن يفرغوا لذلك أوقاتهم، وأن يتابعوا العصاة ويتتبعوا أخبارهم، ليقضوا على أوكار الفساد، ويحاربوا الشرور قبل أن تستفحل ويصعب تلافيها.
ولكن معلوم أنهم أفراد معدودون وإمكانياتهم محدودة وأوقاتهم مشغولة، وليس في إمكانهم القضاء على جميع المنكرات، ولا يصل إليهم العلم بجميع ما يحدث في البلاد، رغم اتساعها وتباعد أطرافها، فهم يغطون جزءا من البلاد، ويبقى الكثير لا يصلون إليه إلا نادرا، فما لم يصلوا إليهم أو قصرت عنه معلوماتهم، أو إمكانياتهم فهذا الجزء البعيد عنهم يكلف به بقية المواطنين من أهله، أو من يعرف عنه شيئا، فيلزم من عرفه أن يغير منه ما يقدر عليه، وأن يأمر الناس وينهاهم ويبين لهم ويدعوهم إلى الخير، فإن أعجزه ذلك استعان بإخوانه وأعوانه وجيرانه من أهل الخير والتعاون على البر والتقوى، أو رفع الأمر إلى أهل الحسبة إذا استمر المنكر، كفتح المتاجر وقت الصلاة، وتأخر بعض الأفراد عن الجماعات ونحو ذلك.
رجال الحسبة عليهم المسؤولية وعندهم الصلاحية
وسئل أثابه الله ورزقه الجنة: إذا عرف مكان بالمعاكسات واختلاط الرجال بالنساء كالحدائق العامة أو الشواطئ أو الأسواق، لكن كان دور الهيئة (أي رجال الحسبة) ضعيفا أو قليلا، نظرا لكثرة الناس هناك، هل يجب في تلك الحالة وجود محتسبين يقومون بمساندة إخوانهم رجال الحسبة في عملهم أم يترك ذلك لموظفي الهيئة فقط؟(1/28)
فأجاب: لا شك أن رجال الحسبة عليهم المسؤولية وعندهم الصلاحية للتغيير باليد واللسان، فهم أول من يبدأ بالإنكار لهذه المنكرات، فإن عجزوا أو كثرت المنكرات وقل عدد الهيئة، جاز أو وجب على غيرهم الإنكار حسب القدرة، لكن يقتصرون على النصح والتوجيه، فإن أصر أحد أو عاند فلهم الاتصال بالمسئولين من رجال الدولة أصحاب السلطة، ويخبرونهم بموضع الاختلاط والتبرج والمعاكسات والاختطاف، وصفة أولئك العصاة في تلك الحدائق أو الشواطئ بما يتميز به، وإن عرف اسمه ذكر به، وتبرأ ذمة من أخبر به المسئولين وهم يقومون بالتغيير، فإن لم يفعلوا لزم الاتصال بهم مرة أخرى، أو بغيرهم ممن يقوم بالتغيير، حتى لا يوجد منكر. والله أعلم.
هل كل من رأى منكرا يجب عليه إنكاره ؟
وسئل وفقه الله: هل كل من رأى منكرا يجب عليه إنكاره، خاصة إذا كان من عوام الناس، ولا يعرف عنه معرفة العلوم الشرعية؟
فأجاب: متى عرف المسلم المنكر واتضح أنه منكر وحرام؛ فإن عليه أن يقوم بإنكاره حسب طاقته أي بيده، فإن عجز فبلسانه، فإن عجز فبقلبه.
ومعلوم أن المنكرات الظاهرة يعرف حكمها الخاص والعام، والعالم والجاهل، كترك الصلوات، والتخلف عن المساجد، والأكل في نهار رمضان، وتعاطي المسكرات، والقتل، والنهب، والغصب، والزنى، ونحو ذلك.
فكل من رأى منكرا وعرف أنه حرام، وجب عليه أن ينكره بحسب المراتب المذكورة في الحديث(1) ويكفي أن يقول: إن هذا حرام ولا يجوز لك، وسواء قدر على البيان وإيضاح المعنى أو لم يقدر.
__________
(1) وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده... الحديث . أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.(1/29)
ومتى عرف أن صاحب المنكر من المعاندين المُصرِّين عليه، وأنه قد نصح ولم يقبل، وأنه قد أعلن المنكر، وأن الناس يرونه ولم يسكتوا كلهم؛ بل لا بد أن قد تكرر عليه النصح ولم يقبل، جاز له أن ينكر بقلبه مع مفارقة العصاة والبعد عنهم. والله أعلم.
فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتمكن الدِّين ويعم الصلاح
إن فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة لا يمكن حصرها، ومن خلال تتبع الآيات والأحاديث وكلام السلف -رحمهم الله- فإننا نخلص إلى بعض هذه الفضائل فمن ذلك:
1 - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتمكن الدِّين ويعم الصلاح: قال -تعالى- : ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ?.
2- وفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسباب النصر على الأعداء: قال -تعالى- : ? وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ?.(1/30)
3- وفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحصل الأمن من الفتنة والهلاك العام: ففي الصحيحين عن أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعا يقول: " لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها- فقلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم! إذا كثر الخبث"(1). وقال -صلى الله عليه وسلم- : " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم اسْتَهَمُوا على سفينة... "(2) الحديث .
4- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مكفرات الخطايا: قال -صلى الله عليه وسلم- : " فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره، يكفرها: الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "(3).
5- وفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثواب كبير مما يزحزح الله القائم به عن النار.
قال -صلى الله عليه وسلم- : " إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل؛ فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعَزَل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظما من طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، عدد الستين والثلاثمائة فإنه يمسي يومئذ، وقد زحزح نفسه عن النار "(4).
__________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (3346) و(3598) و(7059) و(7135). ومسلم برقم (288).
(2) أخرجه البخاري برقم (2493) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-.
(3) أخرجه البخاري برقم (525) ومسلم برقم (144) من حديث عمر بن الخطاب وحذيفة -رضي الله عنهم-.
(4) أخرجه مسلم برقم (1007) من حديث عائشة -رضي لله عنها-.(1/31)
6- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب الظفر بعظيم الأجور: قال -تعالى- : ? لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ?.
7- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب التوفيق للدعاء والإجابة: قال -صلى الله عليه وسلم- : " مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم "(1).
8- وفي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رفع الحرج عن المتخلفين الضعفاء: قال -تعالى- : ? لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ?.
9- والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين: قال -تعالى- : ? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?.
10 - البشارة لمن قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال -تعالى- :
? التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ?.
11- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لرفع العذاب: قال -تعالى- :
__________
(1) أخرجه ابن ماجه برقم (452) عن عائشة -رضي الله عنها-. وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (3235/ 4004).(1/32)
? فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ?.
12- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجلب رحمة الله: قال -تعالى- :
? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ?.
هذه بعض فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها كثير، نسأل الله أن يوفقنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله أعلم.
فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إجمالا وتفصيلا
سئل -أَمَدَّ الله في عمره بالطاعة- هل لكم أن تبينوا لنا فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إجمالا وتفصيلا ؟
فأجاب: لا شك أن القائمين بهذه الوظيفة هم أهل الفضل والمن على بقية الناس، ذلك بأنهم قاموا بفرض الكفاية الذي أوجبه الله على جنس المسلمين، وأمرهم بأن يكلفوا به طائفة منهم تحصل بهم الكفاية، ويندفع بهم الشر، ويذل أهله، ويظهر بواسطتهم الحق وأمر الله، وتعلو كلمته على كلمة الكفر والفسوق والعصيان، ولذلك قال -تعالى- :
? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ? فجعل هذا الفرض على أمة أي طائفة من الناس يؤدون هذا الواجب على الأمة، حتى يحصل لهم الثواب على قمع الشر وأهله.(1/33)
فهذا الواجب الكفائي إذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، فإن تكاسلوا وتركوا العصاة والمخالفين يظهرون المعاصي ويجاهرون بالذنوب، فإن الإثم يعم الجميع، فعموم العقوبة دليل على تكليف الجميع.
وقد حذر الله العباد من الفتنة التي تعم أهل البلد أو المكان الذي تظهر فيه هذه الفتن والمنكرات، فقال -تعالى- : ? وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ? أي لا تقتصر على العصاة وحدهم، بل تعمهم وتعم الساكتين مع القدرة.
وعلى هذا فأهل الحسبة يحصل بهم أمن البلاد من العقوبات العامة، فمتى بذلوا جهدهم، وقاموا بالمقدور، أثابهم الله وهداهم، لقوله -تعالى- : ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ?.
فمتى ظهر هذا الأمر وقوي أهله، وأعطوا من الصلاحيات ما يخولهم للقضاء على بؤر الفساد، ومحو المعاصي، وإذلال أهلها، فإن الله -تعالى- يدفع البلاء عن البلاد، ويظهر فيهم الخير والصلاح، ويسود الأمن والطمأنينة، ويحيى العباد حياة طيبة، ويأمنوا على أنفسهم وأهليهم، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة الرسل وأتباعهم، فأهل الحسبة هم خلفاء الرسل وأتباعهم، والواجب أن يمكنوا من التغيير، ومن تنفيذ العقوبات على من سولت له نفسه الإقدام على المعصية، وأن تكون لهم الصلاحية التامة في الجلد والسجن والضرب والتأديب والتنكيل؛ حيث إنهم لا يهدفون إلى مصلحة تخصهم، بل يعملون نيابة عن الأمة، ومتى وقع منهم خطأ أو زيادة في العقوبة، ولو وصلت إلى القتل فلا يؤاخذون، ولا يحملون أرش الخطأ، فهم رجال الدولة وسلاحها.(1/34)
كما لا يجوز أن تصدق فيهم أقوال الخصوم الذين هم أعداء لهم وأعداء للدين، فإنهم بلا شك سيختلقون ضدهم ما لا حد له من الأكاذيب والترهات، ويلصقون بهم أقوالا وأفعالا لا يصدقها عاقل، ومرادهم بذلك شينهم والقدح فيهم، فإن لكل نعمة حاسد، فلا يقبل كلام الخصم في غيبة خصمه، وهكذا كان الأمر في حال قوة الإسلام وظهوره، والله المستعان.
مضار وعقوبة ترك الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يترتب عليه أخطار كثيرة على الفرد والمجتمع، ومن ذلك :
1- اللعن والإبعاد من رحمة الله :
قال -تعالى- : ? لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ?.
2- عدم استجابة الدعاء:
قال -صلى الله عليه وسلم- : " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، فتدعونه فلا يستجاب لكم "(1).
3- تعذيبهم بأنواع العقوبات:
قال -صلى الله عليه وسلم- : " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع، لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب "(2).
4- اسوداد القلب وتنكيسه:
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2169). وأحمد في مسنده: (5/388). والبيهقي (10/93). قال الترمذي : هذا حديث حسن. وقال الألباني في صحيح الجامع (6947). حديث حسن.
(2) أخرجه ابن ماجه برقم (4009). وأحمد في المسند (4/364، 366). عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-.(1/35)
ففي الحديث عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على قلب أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه... "(1) الحديث.
والحاصل أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه خطر عظيم وضرر كبير على الفرد والمجتمع، فليحرص كل واحد منا على هذا الواجب وهذا الأمر، حتى تكون نجاتهم ونجاة غيرهم، والله أعلم.
ما يترتب على إضاعة الأمر بالمعروف
والنهى عن المنكر
وسئل وفقه الله: ما مضار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
فأجاب: يترتب على إضاعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مضار ومفاسد كثيرة، يعم ضررها العصاة وغيرهم.
1- فمنها تمكن الأشرار وقوتهم وغلبتهم فمن ثم يعلنون المعاصي ويجاهرون بكفرهم وذنوبهم ومخالفاتهم، ولا يبالون بإظهار المخالفات، والتساهل بأمر الدين.
2- ومنها ضعف الحق وأهله وخوف المؤمن على نفسه من إظهار العبادات، والإنكار على من انتهك الحرمات، فيصبح أهل الخير أذلاء ضعفاء، يخفون عباداتهم وكأنهم أهل المنكرات، بحيث من عمل بالمعروف أو دعا إليه أُهين واضطهد وطرد.
3- ومنها عموم العقوبة للجميع فإن الله -تعالى- عاقب بني إسرائيل لما جالسوا أهل المعاصي والذنوب، وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم ? عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ?(2)
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (144).
(2) أخرجه أبو داود برقم (4336). والترمذي برقم (3047) بنحوه. وابن ماجه برقم (4006) بنحوه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.(1/36)
4- ظهور الكفر والبدع والمعاصي وانتشار الفساد، وغلبته في البلاد، بحيث يستعصي على الأمة علاجه، فإن الناس كلما تساهلوا بالذنب واحتقروه بالنسبة إلى غيره، وأقروه في بيوتهم وفي أقاربهم، أصبح مألوفا، لا ينكره الصغير ولا الكبير.
فقد كنا قبل ثلاثين عاما ننكر حلق اللحى، ونستبشع ذلك، ونهجر الحليق إذا قدرنا، ونشنع على الحالقين، ثم غلب هذا الذنب وكثر متعاطوه، فأصبح الذي ينكره كأنه ينكر شيئا مألوفا لا إثم على فاعله.
وهكذا قبل أربعين عاما ننكر على من اقتنى جهاز الراديو، حيث إنه يحتوي على الأغاني والملاهي، فأصبح مألوفا بعد حين، رغم ما يذاع فيه من اللهو واللعب والباطل، والأغاني الماجنة، والدعايات إلى المعاصي، سيما في الإذاعات الخارجية التي ترسلها دول كافرة، تقصد من ورائها إفساد الأخلاق والأديان.
ثم ظهر بعد ذلك جهاز الرائي (التلفزيون) فأنكره أهل الخير واستبشعوه، وشنعوا على من اقتناه، وقد أصبح أمرا عاديا مع أنه آلة فتاكة تبث السموم والشرور، سيما بعد ظهور البث المباشر بواسطة آلة الدش ونحوه.
وهكذا كنا ننكر على المصورين مجرد التصوير، ونستعظم هذا الفعل، وبعد مدة امتلأت المنازل من الصور، واشتملت الصحف والمجلات والشاشات على الصور الخليعة الفاتنة.
وهكذا كنا ننكر رؤية المرأة السافرة ولو كانت كافرة، ونلزم وليها بسترها وحجبها، فبعد مدة استشرى هذا الشر، وانتشر في الإذاعات المرئية وفي المدارس والأسواق، والمراكز الصحية وغيرها.
5- ومنها تمكن العلمانيين والمنافقين من الولايات الهامة، والمناصب الرفيعة التي تتعلق بمصالح المجتمع، وحينئذ يفرضون على الأمة ما يريدون، ويسعون في الأرض فسادا، ويقربون أمثالهم من الأشرار، ويتحكمون في الأمة حسب أهوائهم، فيصبح المسلم ذليلا مهينا محتقرا، والمنافق عالي القدم، يشمخ بأنفه، ويتكلم بملء شدقيه، وذلك من أسباب العقوبة السماوية. نسأل الله العافية.(1/37)
عقوبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سئل الشيخ حفظه الله -تعالى- ما عقوبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
فأجاب: عقوبته أخروية ودنيوية كما دلت على ذلك الآثار والأحاديث: قال الله -تعالى- : ? وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ? أي لا تختص بالظالم وحده، بل تعم الساكت والموافق والمتسبب.
وقد ذكر الله أن طائفة من بني إسرائيل اعتدوا في السبت، فنهاهم بعض الصالحين، وقال آخرون: ? لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ ? فقال -تعالى- : ? أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا ? فأنجى الناهين فقط.
وفي الحديث يقول -صلى الله عليه وسلم- : " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم وآكلوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم "(1).
وورد في الحديث: أن الجار يأخذ جاره في الآخرة، يقول: يا رب هذا خانني... رآني على منكر فلم ينهني عنه ذكره الإمام أحمد في الرسالة السنية ونحو ذلك من الأدلة.
وذلك: لأن مشاهدة العُصاة يعلنون الذنوب ويخالفون تعاليم الدين، ويدعون إلى المعاصي بأفعالهم، مما يسبب تمكن المعصية وظهورها، وذلك مما يسبب غضب الله وعقوبته العامة؛ حيث يعم الشر وينتشر، ويضعف أهل الخير وتذهب الغيرة من القلوب، فينزل الله العقوبة العامة بالعباد، ونعوذ بالله من الخذلان.
التهاون في الأمر بالمعروف والنهي
وسئل وفقه الله ورعاه: يُلاحظ على بعض الشباب المحسوبين على أهل الدين، التهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما نصيحتكم إليهم؟
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4336). والترمذي برقم (3047) بنحوه. وابن ماجه برقم (4006) بنحوه عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.(1/38)
فأجاب: لا شك أن الوجوب أو الندبية تعم كل قادر متصف بصفات الآمر والناهي، لا فرق بين الشباب والكهول والشيوخ، وحيث إن الشباب في هذه البلاد يغلب عليهم أن يكونوا قد درسوا وقرءوا وعرفوا الأدلة، فإن الآكدية عليهم أقوى لقدرتهم على إقناع العاصى، وإيراد الأدلة، ومعرفة المعروف والمنكر.
فننصح للشباب المثقفين الذين رزقهم الله علما ومعرفة، أن لا يتحيروا ولا يخجلوا من إظهار ما لديهم، وأن يأمروا وينهوا بقدر استطاعتهم، وذلك لأن الحكومة- أيدها الإله- بذلت جهدا كبيرا في تعليمهم وفي تفقيههم، وما ذلك إلا ليظهروا هذا العلم الذي تعلموه ودرسوه، ويمارسوا العلم والعمل، وذلك هو زكاة العلم، فليس من يعلم كمن لا يعلم.
ولا يجوز الكتمان ولا الخوف من الناس ولا تحقير النفس؛ بل إن في إظهار الأمر والنهي والتعليم عزة وشرف للمتعلم، ورفع لمرتبة العلم النافع والعمل الصالح.
نصيحة للمدرسين
وسئل حفظه الله -تعالى- هناك بعض المدرسين الذين يتلفظون ببعض الألفاظ الخبيثة، ولا يستطيع بعض الطلبة الرد عليهم، لأنه لا يملك الحجة القوية، ولا الجرأة!
فما نصيحتكم لهم، هل يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، علما بأن بعضهم يلوم نفسه لعدم تغيير المنكر؟ وكيف يقوى على قول الحق؟!
فأجاب: صحيح أن الطالب المبتدئ والصغير ليس له القدرة ولا الجرأة على أن يتكلم مع أستاذه الذي هو أكبر منه، والذي عنده مؤهل دراسي، والذي تصدى لأن يلقي هذه الدروس ونحو ذلك، ولكن غالبا قد يكون مع الطلاب فطرة وفهم، ومعرفة يعرفون بها الخير من الشر، ويستطيعون أن يفهموا الكلمة التي هي منكر، والتي فيها إقرار على المنكر ونحو ذلك، ولو كان الطالب في المرحلة الابتدائية أو نحوها.
ولكن ماذا يفعل الطالب في هذه الحال إذا رأى أو سمع منكرا من المدرس ؟!(1/39)
فأنا أرى أن يتكلم ولو بكلمة واحدة، مثلا يقول: يا أستاذ أخبرني بالدليل على هذه الكلمة، أو على هذا الفعل، فإذا أرشده إلى دليل غير مقنع، قال له: أرشدني إلى المراجع، التي نقلت منها هذا القول، والتي رجعت إليها، فإذا لم تكن مقنعة، قال له: لنرجع أنا وأنت إلى من هو أكبر منا، إلى مدير المدرسة مثلا، إلى الشيخ الفلاني، أو إلى المدرس الفلاني، الذي هو أعرف مني ومنك، ونبحث معه، حتى نعرف الصواب، فلا شك أنه إذا رأى من هذا الطالب -ولو كان مبتدئا- هذا الانتباه فسيقلل ذلك من جرأته.
أما إذا سكت الطلاب مع سماعهم لهم يسبون المتدينين، أو من يرخي اللحية -مثلا- أو يبيحون السفور، أو يبيحون التخلف عن الجماعة، أو يبيحون شرب الدخان أو نحو ذلك؛ لأنهم أدمنوا على ذلك وأَلِفُوه، فسكوت الطلاب على ذلك يعتبر إقرارا للمنكر، وفي النهاية ترسخ تلك المعلومات عندهم، فلو تكلم واحد منهم لانتبه الباقون، وعرفوا أن هذا منكر، أما إذا سكتوا فإنهم قد يظنون أنه جائز مثلا! والله أعلم.
حكم القعود مع المجاهر بالمعاصي
وسئل وفقه الله للحق: رجل اجتمع مع أصدقائه، وفي أثناء الجلسة يشربون المسكر، فهل اجتماع هذا الرجل مع أصدقائه وهم يشربون الخمر حرام عليه؟!
فأجاب: لا يجوز القعود مع الفسقة المعلنين بالمعاصي، كشرب الخمور، واستعمال آلات اللهو والأغاني المحرمة، والمزامير والطبول ونحوها، وعلى الإنسان أن ينصح أصدقاءه عن هذه المعاصي، ويحذرهم من العقوبة عليها، وآثارها السيئة، فإن لم يقبلوا فليبتعد عنهم، حتى لا يشقى معهم.
الجهر بالحق وعدم السكوت عن المنكرات
وسئل حفظه الله ورعاه: عُرض علي أن أخطب الجمعة، بشرط ألا أتكلم في الربا والحجاب والتبرج والسفور فهل أقبل ذلك؟
فأجاب: إذا كانت هذه المنكرات فاشية ومنتشرة في المجتمع الذي أنت فيه، فلا تقبل السكوت عنها، فإن السكوت عنها يعتبر إقرار لها، والواجب إنكار المنكر.(1/40)
ولا شك أن هذه من المنكرات التي حرمها الشرع، ولو أقرتها دولة من الدول واعتبرتها مباحة، فلا يجوز السكوت للأفراد الذين يعرفون أنها منكر؛ بل يلزم إنكارها، ومتى تمكن الخطيب من أن ينكرها في الخطبة، ويبين بشاعتها وشناعتها، ويستدل على ذلك بالنصوص، كقوله -تعالى- : ? وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ? وكذلك قوله: ? وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ? وما أشبهها من الأدلة، فلا يستطيع أحد أن يرد الأدلة التي دلالتها واضحة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أما إذا لم تكن هذه الأشياء موجودة في الأسواق وفي المجتمع الذي أنت فيه، فلا حاجة إلى ذكرها على الناس.
صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
إن من صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يبدأ بإصلاح نفسه قبل غيره، وذلك بأن يعرف الخير ويفعله، ويعرف الشر ويبتعد عنه، وبعد معرفته للخير وابتعاده عن الشر لا يقتصر على نفسه، بل عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يبدأ بغيره قبل أن يبدأ بنفسه، فإن الله -تعالى- يمقت ذلك(1) والفطر السليمة تنكر ذلك أشد الإنكار، فإن الإنسان الذي يبدأ بنفسه ويصلحها أولى وأقرب أن يتقبل منه وعظه وإرشاده وأمره ونهيه، على حد قول بعضهم:
مواعظ الواعظ لن تُقبلَا * * * حتى يعيها قلبه أولا
يا قوم من أظلم من واعظ * * * خالف ما قد قاله في الملا(2)
أظهر بين الناس إحسانه * * * وخالف الرحمن لما خلا
__________
(1) لقوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ?[سورة الصف:2، 3].
(2) أي: الملأ: وردت بتسهيل الهمزة للضرورة الشعرية.(1/41)
وكذلك قول بعضهم: إن المواعظ إذا ظهرت من القلب وصلت إلى القلب، وإذا ظهرت من اللسان لم تجاوز الآذان. فالذي يأمر بالمعروف ولكنه لا يمتثله، وينهى عن المنكر ويخالف فيفعله، لا تقع مواعظه موقعا سليما، ولو لم يظهره. فالموعظة الخالصة تعرف من الرجل الناصح، وذلك لحسن موقعها وحسن آثارها.
فعلى كل حال: إذا بدأ الإنسان بنفسه فأصلحها، انتقل إلى غيره. قال الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى * * * طبيب يداوي الناس وهو سقيم
يا أيها الرجل المعلم غيره * * * هلا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها * * * فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهنالك يقبل ما تقول ويهتدى * * * بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله * * * عار عليك إذا فعلت عظيم
وذلك أن الإنسان مأمور بأن يصلح حاله وحال أهله ومن هو مسؤول عنهم، فإذا أصلحهم لم يكن عليه أي اعتراض، ومن أراد الإنكار والاعتراض عليه وهو قائم بالحق، ومكمل له، لم يجد ما يعترض به.
أما إذا قصَّر الإنسان في نفسه، أو في أهل بيته، أو في أولاده، أو في من تحت يده، أو نحو ذلك، فإن الناس يعترضون عليه، ويقولون: لو كان صادقا لبدأ بأهل بيته، وبمن تحت يده.
وبالجملة: فمتى أراد الإنسان أن يكون لعمله أثر، فإن عليه أن يكمله ويأتي به على وجهه، حتى يرى أثره عليه، وإذا فعل ذلك فإن له أجرا كبيرا، وهو أن يثيبه الله -تعالى- مثل أجر من اهتدى على يديه، كما جاء في الحديث الشريف عنه -صلى الله عليه وسلم- : " من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار أو آثام من اتبعه، من غير أن ينقص من آثامهم شيئا "(1).
فعلى المسلم أن يعرف هذا الأمر، ويجتهد فيه حتى يُثاب عليه إن شاء الله -تعالى- ويسلم من العقاب.
ما يتصف به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2674) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.(1/42)
سئل الشيخ أيده الله وأطال في عمره بالطاعة: ما الصفات التي يجب أن يتصف بها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ؟
فأجاب: يتصف رجال الحسبة:
أولا: بالعقل والعلم والدين:
فإن العقل: زين الإنسان، وبه يحصل الاتزان، وبنقصه يتعرض الإنسان للكلام الرديء والأفعال القبيحة المحرمة، وهو هبة من الله -تعالى- يمن بها على من يشاء من عباده، فلا يجوز توظيف ناقص العقل، أو فاقده في شيء من الوظائف العامة.
وأما العلم فهو: أن يكون عليما بما يأمر به، أو ينهى عنه، حتى لا يأمر بالحرام أو ينهى عن الحلال، ويكون هذا عن طريق التعلم، والقراءة، ومعرفة الأدلة، وتتبع الأخبار، وقراءة الكتب التي تتعلق بالموضوع ونحوه.
وأما الدين فهو: أن يكون قائما بما يأمر به، فاعلا للمعروف في نفسه وأهله، تاركا للمنكر هو وأهله، حتى لا يكون مثل الذين قال الله فيهم: ? أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ? فإن الله يمقت على ذلك، كما قال -تعالى- : ? كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ?.
ثانيا: على الآمر والناهي استعمال الحلم، والتؤدة، والرفق فيما يقوله ويفعله، وترك العجلة أو التسرع فيما ينكره، قبل الثبات والتأني لقوله -تعالى- : ? إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ? والله أعلم.
هل يلزم من إنكار المنكر ألا يكون المنكر مرتكبا لذلك المنكر؟
وسئل حفظه الله: هل يلزم من إنكار المنكر ألا يكون المنكر مرتكبا لذلك المنكر؟(1/43)
فأجاب: لقد ورد الوعيد الشديد لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويفعل ما ينكره، ويرتكب المنكرات، فقال -صلى الله عليه وسلم- : " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحا، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: مالك يا فلان، ألم تكن تأمر فينا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"(1).
وجاء رجل إلى ابن عباس فاستأذنه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: إن لم تخف أن تفضحك ثلاث آيات من كتاب الله -تعالى- فافعل؛ فذكر له قول الله -تعالى- : ? أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ? وقوله -تعالى- عن شعيب عليه السلام: ? وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ?.
وقوله -تعالى- : ? كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ? وذلك أن اقتداء الناس بأفعال الداعي أقوى من اقتدائهم بأقواله.
ومع ذلك، فإنه يجوز للعاصي بنوع معصية أن يقوم بالدعوة إلى الله -تعالى- والنصح والإرشاد حيث إن السالم من المعاصي قليل، ولو لم يأمر وينهَ إلا المهذب السالم من كل ذنب لتعطل هذا الأمر، لندرة من يكون سالما من كل عيب، فإن العصمة إنما هي للرسل، ولكن إذا دعا الإنسان إلى خير فعليه أن يسارع إليه، ويسبق غيره إلى فعله، ولو كان مقصرا في آخر من أمور الطاعات، وكذا إذا نهى عن منكر وجب عليه أن يكون أبعد الناس عنه، ولو كان يفعل منكرا آخر، مع إضماره التوبة والنزع عن الذنوب، والحرص على الطاعات، ليكون قدوة خير في قوله وفعله. والله أعلم.
حكم من يتولى الأمر والنهي من أهل المعاصي
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3267) ومسلم (2989) عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-.(1/44)
وسئل حفظه الله ورعاه: هل يجوز أن يعمل بقطاع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جاهر بمعصية كحلق اللحى وإسبال الثياب أو شرب الدخان؟
فأجاب: لا شك أن رجال الحسبة قدوة لغيرهم، فواجب أن يكونوا قدوة حسنة ومثالا يحتذى، فلا يجوز أن يتولى هذا القطاع من هو من أهل المعاصي: كشارب الدخان، وحليق اللحية أو مقصرها، والمسبل في اللباس، أو سامع الأغاني ونحوها من المعاصي، بل يؤمر بأن يصلح نفسه حتى لا يدخل في قوله -تعالى- : ? أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ? فالبر هو العمل الصالح، فمن أمر به فعليه إصلاح نفسه قبل ذلك، والناس يقتدون بالأفعال أكثر من اقتدائهم بالأقوال، ولذلك يقول الشاعر:
مواعظ الواعظ لن تقبلا * * * حتى يعيها قلبه أولا
يا قوم من أظلم من واعظ * * * خالف ما قد قاله في الملا
أظهر بين الناس إحسانه * * * وخالف الرحمن لما خلا
وفي حديث أسامة -رضي الله عنه- مرفوعا: " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار فيقولون: ما لك يا فلان؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه "(1).
فعلى أهل الحسبة أن يصلحوا أنفسهم وإخوانهم، ويتطهروا عن المعاصي صغيرها وكبيرها، حتى يكونوا دعاة بالقول والفعل، والله أعلم.
رجل يأمر وينهى ولكنه مرتكب لمعصية
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (3267)، ومسلم (2989) عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه-.(1/45)
وسئل حفظه الإله -تعالى- رجل مُبتلًى بشرب الدخان، ولكنه متمسك بأمور دينه الأخرى إن شاء الله؛ من صلاة وزكاة وصوم وحج وتلاوة ونوافل وسنن، ويخشى الله في كل شيء، ويرى في بعض الأماكن والمجالس وغير ذلك من الأحوال تصرفات سيئة، ومزوحات فاحشة، وغيبة ونميمة، وترك صلاة، وغير ذلك من المنكرات، فينهرهم دائما، وينصحهم ويرشدهم إلى الخير، ويخبرهم أن هذه أعمال منكرة وباطلة، لكنهم ينهرونه ولا يؤاخذون به ولا يلتفتون إليه، ويتغامزون، إلا العقلاء منهم، ويقولون: هذا شارب دخان وينصحنا!! ينصح نفسه، فينحرج الرجل الطيب هذا ويتصبب عرقا، فهل على هذا الرجل أن يتوقف عن الإنكار والإرشاد، أو يستمر ولا يبالي بهم، ويجاهد في سبيل الله مهما حصل، فله شوق كبير إلى دوام النصيحة والإرشاد، ودعوة الناس إلى الخير، فما قول فضيلتكم جزاكم الله خيرا؟
فأجاب: عليه أن يستمر في نصحه وإرشاده، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ودعوته إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن(1) وأن يقنع من ينصحهم، ويقيم عليهم الحجة، ويأمرهم بقبول الحق ممن جاء به، ولو كان عاصيا أو عدوا، وأن يأخذوا بقوله ولا ينظروا إلى عمله، فإن على الحق نورا.
وعليه أن يحرص على التوبة من هذا الداء الدخيل وهو الدخان، ويقلع عنه بتاتا، ويعزم على تركه، ولو أحس بضرر، أو دوخة، أو ألم في أول الأمر، فمع الجزم والحزم يعينه الله، وعليه أن يهجر أهل التدخين ويبتعد عنهم، حتى يوفقه الله للإقلاع عن الدخان، وحصول السلامة منه، فهناك يقبل ما يقول، ويقتدى بالقول منه.
نصائح للشباب الملتزم
__________
(1) لقوله تعالى: ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ?[النحل، الآية: 125].(1/46)
وسئل نفع الله بعلمه الإسلام والمسلمين: أنا رجل أصلي وأقرأ القرآن وأعمل أعمال الخير، ولكن لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر فما نصيحتكم لي؟
فأجاب: ننصحك أن تقوم بما تستطيع من الأمر والنهي، فإنهما من واجبات الإسلام، ولا يقوم الدين ويكمل إلا بهما:
فأولا: عليك أن تتعلم وتعرف ما هو المعروف وما هو المنكر، حتى تكون على بصيرة من دينك.
وثانيا: عليك أن تتعلم الحكمة في الأمر والنهي، والأسلوب الحسن، والقدرة على التعبير المقنع، حتى تقدر على تصحيح العبارة التي تستعملها عند الأمر والنهي.
وثالثا: عليك أن تتفقد نفسك وتحرص على إكمالها، وتتلافى ما بك من العيوب والنقص والخلل، ليكون ذلك معينا على تقبل النصح الذي توجهه إلى غيرك.
ورابعا: عليك أن تبدأ بمنزلك ومحيطك، فتطهر البيت من المعاصي، وتحرص على إصلاح إخوتك وأقاربك، ومن لك صلة بهم، لقوله -تعالى- عن إسماعيل -عليه السلام- : ? وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ?.
ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " فالرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته "(1).
وخامسا: تحرص على إصلاح أقاربك وجيرانك وعشيرتك، لقوله -تعالى- :
? وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ? فهم أحق بنصحك وتوجيهك، وأنت على نجاتهم وخلاصهم أحرص.
وسادسا: تأمر وتنهى لمن تتصل به من الجيران والزملاء والخلطاء، فتنكر عليهم المنكر الكبير، ثم ما يليه، وتوبخهم على إظهار المنكر، ولو كان من الصغائر، وتبدي لهم نصحك ومحبتك وودادك، فذلك أرجى للقبول. والله الموفق.
الفرق بين النفاق والرياء وأيهما أضر
وسئل -وفقه الله- ما الفرق بين النفاق والرياء ؟ وأيهما أضر على المسلم الداعية؟
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (893). ومسلم برقم (1829). عن ابن عمر -رضي الله عنه-.(1/47)
فأجاب: كلاهما محرم وضار على الأمة أفرادا وجماعات، ولا شك أن النفاق شرهما، حيث إن المنافق -وهو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر- هو محل ثقة عند العامة، لأنهم يشاهدونه معهم في المساجد والمدارس والمجتمعات، يساهم في الخيرات، ويؤدي الصلوات، ويتصدق ويحج ويجاهد، مع أنه في الباطن ضد المسلمين، فهو يتربص بهم الدوائر، ويُطْلع الكفار على أسرار المسلمين، ومتى تمكن وحانت الفرصة وثب على إخوته وجيرانه كالأسد، وقتل وسلب ونهب، فلذلك قال -تعالى- : ? فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ? ووصفهم بقوله -تعالى- : ? الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ?(1/48)
فأما الرياء فهو أن يظهر أن عمله لله، وهو لا يريد به إلا التمدح والسمعة الحسنة عند الناس، ويدخل في الأعمال والأقوال، وهو مما يحبط العمل الذي قارنه، ويقول الله -تعالى- لأهله: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فانظروا هل تجدون عندهم من ثواب أعمالكم شيئا. وسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- الشرك الأصغر، وخافه على صحابته(1) ومنه أن يأمر بالمعروف ويتركه، وينهى عن المنكر ويفعله، فإن هذا من أكبر الرياء الذي يستحق به العقوبة في الآخرة. والله أعلم.
مراتب تغيير المنكر
درجات الإنكار
سئل الشيخ أيده الله -تعالى- ما درجات الإنكار ؟ وعلى من تجب؟
فأجاب:
أولا: يجب الإنكار باليد؛ بأن يزيل المنكر ويذهب أثره، كتكسير آلات اللهو والأغاني، وتفريق المجتمعات على الموسيقى وعلى القمار واللعب، وكإقامة الجالسين وقت الصلاة وتوجيههم إلى المساجد، وكإلزام النساء الكاشفات بالحجاب الشرعي، وعقوبة من يعاكس النساء أو يمد نظره إلى العورات، وإراقة الخمور وتكسير دنانها وَمَعَامِلِهَا، وإقامة الحدود على من سكر أو زنى أو سرق بحسب القدرة.
__________
(1) لحديث محمود بن لبيد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله -عز وجل- لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/428، 429)، وأورده الهيثمي في المجمع (10 / 102، 222). والتبريزي في المشكاة (5334). والمنذري في الترغيب (1/68). قال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد وغيره. ثم نقل عن الحافظ قوله: وقد رواه الطبراني بإسناد جيد. وصححه الألباني، انظر: صحيح الترغيب (1/ 17) حديث رقم (29).(1/49)
وثانيا: إذا لم يقدر على ذلك وخاف الضرر ومنع من الإنكار والتغيير باليد، فإنه يغير بلسانه، وذلك بمواجهة العاصي ومخاطبته، وإنكار ما هو متلبس به، وذلك بعد النصح والتوجيه والإقناع؛ بأن هذا محرم شرعا، وأن فيه عقوبة في الآخرة، أو حد في الدنيا، ويذكر له شيئا من العقوبات التي تحدث بسبب الذنوب.
وثالثا: إذا خاف الضرر أو عرف عدم القبول أو زيادة المنكر، بالرد الشنيع والسخرية بالآمر والناهي، اقتصر على الإنكار بالقلب، وذلك بإظهار الكراهية لأهل الذنوب، والبعد عنهم، وهجرهم وبغضهم، والتحذير من شرورهم، وإظهار الشماتة بهم واحتقارهم وإذلالهم، ولو كانوا أقارب أو رؤساء.
ولا شك أن هذا واجب على جميع أفراد المسلمين، فلم يخص الإنكار بالقلب بأحد دون أحد، أما أهل القدرة والصلاحية كأعضاء الحسبة، فالواجب أن يمكنوا من التغيير باليد، ومن العقوبة الزاجرة عن المخالفات، كما أن على الدعاة والعلماء الإنكار باللسان لقدرتهم على البيان، وإقامة الحجة وقطع المعذرة، وبيان حال المعاصي وآثارها السيئة.
حدود الاستطاعة في تغيير المنكر
وسئل حفظه الله: يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(1) ما حدود هذه الاستطاعة؟ بينما نجد الكثير قد أخذوا بآخر الحديث. أي: قلبه؟
فأجاب:
حد القدرة باليد كون المغير عنده صلاحية وأهلية لإزالة هذا المنكر، وتمكن من القضاء عليه، دون خوف من ضرب أو سجن أو إهانة، فعليه الإقدام على التغيير حتى يزول المنكر، ويغيب عن الأعيان.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.(1/50)
وحد القدرة باللسان خوفه من أهل المعاصي وتكاثرهم عليه، وخشيته على نفسه القتل أو الطرد والأذى، مع قدرته على البيان، وتمكنه من إيضاح الأدلة وإظهار الحق، وإقناع أهل المنكر بشناعة ما هم عليه، ولعل هذا أيضا يشرع مع القدرة على الإتلاف، حتى يوافقوا على تمكينه من إزالة المنكر باليد.
أما إذا خشي من الرد الشنيع، والسخرية به، ورد قوله عليه، وعلم عدم التأثر بالنصح والتوجيه، فإنه يقتصر على الإنكار بالقلب، ويقول: اللهم إنه منكر وإنا له منكرون: ويفارقهم، ويبتعد عنهم، حتى يسلم من إثم المعصية. والله أعلم.
معنى قوله: وذلك أضعف الإيمان
وسئل الشيخ أطال الله بقاءه ونفع به الإسلام: يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "(1) رواه مسلم
فهل المقصود أنه مجرد ما يرى الشخص المنكر يغيره بيده مباشرة؟ وما المقصود بقوله: وذلك أضعف الإيمان ؟
فأجاب: لا شك أن الحديث يدل على وجوب تغيير المنكر، ولكنه ذكر أن الناس على مراتب: فمن الناس من يكون معه قدرة وسلطة يستطيع أن يغير المنكر بيده، فيكسر آلات اللهو ويزيلها مثلا، وكذلك يقيم من هو جالس في أوقات الصلوات، ويغلق المتاجر التي تفتح في أوقات الصلوات.
وهكذا أيضا يرد كل عاص عن معصيته، فهذا إذا كان له هذه القدرة، وجب عليه التغيير باليد، لكن يكون ذلك بالتي هي أحسن، لا بالشدة والعنف، التي تكون منفرة، أو موقعة لأولئك الذين يغير عليهم في إساءة الظن بهؤلاء الدعاة، وهؤلاء المغيرين.
فإن أدى ذلك إلى إساءة الظن بهم، وإلى رميهم مثلا بالتسرع، أو بالشدة، أو بالعنف، أو ما أشبه ذلك، انتقل الأصل إلى التغيير باللسان، فالتغيير باللسان يكون بالنصح وبالتوجيه، وبالتحذير وبالتخويف.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.(1/51)
فإذا خاف على نفسه أنه إذا تكلم ظلم وضرب، واضطهد وأذل، وأهينت كرامته، ولا يقبل منه، ولا ينتفع بقوله، بل يزيد كلامه في عتوهم، وفي ظلمهم، وفي قسوتهم، وفي معصيتهم، فيقال في هذه الحال: له أن يقتصر على أضعف الإيمان، وهو الإنكار بالقلب.
والإنكار بالقلب يستلزم هجر أولئك العصاة، والبعد عنهم ومقتهم، والتحذير منهم، وتحقير شأنهم، وبيان خطئهم لغيرهم، فإذا أنكر ذلك وابتعد عنه ثبت بذلك أنه ممن أنكره بقلبه.
وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " وذلك أضعف الإيمان " معناه: أن من لم يكن معه هذا الإنكار بالقلب؛ بل رضي وسالم، وأنس واستحسن، أو ظهر منه الاستحسان؛ فإن ذلك يدل على اضمحلال الإيمان في قلبه، ولهذا في حديث ابن مسعود الآخر أنه -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر بعض العصاة الذين يفعلون بعض المعاصي أو لا ينكرونها قال: " فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "(1). أي من لم يكن معه كراهية بقلبه لهؤلاء، وإنكار لما هم عليه فليس في قلبه إيمان، والله أعلم.
كيفية إنكار المنكر بالقلب
وسئل الشيخ بارك الله في علمه: كيف يكون إنكار المنكر بالقلب ؟
فأجاب: يرى ذلك في آثاره، فالقلب خفي، ولكن آثاره ظاهرة، ومن آثاره أن تبغض مجالس المعاصي، وأن تهجر العصاة وأن تحذرهم، وتحذر من شرهم، أما الذي يجالسهم، ويضاحكهم، ويمازحهم، وهم على معاصيهم، وعلى خمورهم وعلى زمرهم، وعلى لهوهم وباطلهم، ثم يقول: إني أنكر بقلبي!
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (50) من حديث عبد الله بن مسعود، وتمامه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن... الحديث.(1/52)
أقول له: أنت لست بصادق، فإن الإنكار بالقلب يلزم منه بغض العصاة ومقتهم، وتحقير شأنهم، وعيبهم ونشر مخازيهم على وجه التحذير منها، وبذلك يصدق في الإنكار بالقلب وهو أضعف الإيمان.
متى يعذر المسلم إذا أنكر بقلبه؟
وسئل حفظه الله ورعاه: متى يعذر المسلم إذا أنكر بقلبه فقط؟
فأجاب: ورد في الحديث أن الإنكار بالقلب هو أضعف الإيمان كما في حديث أبي سعيد المشهور(1). وفي حديث آخر: " ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "(2) وهذا يتصور فيمن رأى المنكر ظاهرا معلنا وأهله قد تمكنوا وصار لهم قوة ومنعة، ومعهم علم ومعرفة بالمنكر، ولكن عندهم شبهة أو يتعللون بمصلحة أو قياس فاسد.
__________
(1) حديث أبي سعيد هو قوله: من رأى منكرا فليغيره بيده... سبق تخريجه.
(2) أخرجه مسلم برقم (50) من حديث عبد الله بن مسعود، وتمامه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن... الحديث.(1/53)
والفرد من المسلمين ليس عنده قوة ولا منعة ولا قدرة له على التغيير باليد، ويخشى إذا نطق ونصح أن يتضاعف المنكر بسبه أو عيبه أو إيصال الأذى إليه وإلى من هو مثله، كما يحصل في كثير من الدول التي تنتمي إلى الإسلام؛ لكنها تعاقب من تكلم بمعروف أو خير وتودعهم في السجون وتسميهم إرهابيين، فمثل هذا إذا سكت وأنكر بقلبه فهو معذور، ويقول لإخوانه: اللهم إنه منكر وإنا له منكرون، ويسلم من الإثم، وعليه مع ذلك مخالطة الصالحين وحثهم على الإنكار حسب القدرة، كما عليه البعد عن أهل المنكرات وهجرهم سيما في المجالس التي يعلنون فيها المنكر: كالدخان، والأغاني، والمسكرات، والقدح في الدعاة، وتتبع العثرات، فالبعد عنهم أسلم من أن تعمه العقوبة ويشترك في الذنب. والله أعلم.
هل يلزم من إنكار المنكر مظنة الاستجابة؟
وسئل الشيخ أدخله الله فسيح جناته: هل يلزم من إنكار المنكر مظنة الاستجابة؟
فأجاب: لا يتوقف الإنكار على غلبة الظن بالاستجابة بل عليه أن ينكر ولو ظن عدم القبول منه، فلعل في إنكاره عليهم باللسان ما يخوفهم من التشهير بأمرهم، فإن الذي ينكر عليهم لا بد أن يتصور حالهم، وقد يعرف أشخاصهم، أو موضع اجتماعهم، وما يعملونه من اللهو واللعب، والقمار والدخان، والمسكر والمخدر والأغاني، والتشبيب بالنساء، وفعل ما يدعو إلى العهر والفواحش، ونحو ذلك، فمتى أنكر هذا بكلمة ولم يتأثروا، ثم الثاني والثالث كذلك، فمع تكرار الإنكار يعتريهم الخجل، وسوء السمعة، والخوف من فضحهم، ونشر خزيهم، فلعل ذلك مما يؤثر في نفوسهم، ويحملهم على الترك لهذه المعاصي ولو خوفا من الناس، فعلى هذا لا يحقر المسلم هذا الإنكار، ولا يغلبه الحياء أن يقول كلمة حق، يصدع بها أمام أولئك العصاة، وعليهم إثم الرد والترك، وهو يسلم من إثم الإقرار، وترك الإنكار، والله الهادي إلى سواء السبيل.
هل الإنكار علنا من منهج السلف؟(1/54)
وسئل الشيخ وفقه الله لما يحب ويرضى: نسمع من بعض العلماء إنكارا للمنكر، وتصحيحا لما أفسد الناس، كما أننا نسمع من بعض العلماء ردودا على هؤلاء، ويقولون: إن هذا خروج على ولي الأمر، وليس من باب إنكار المنكر، وإن هذا ليس من منهج السلف، أي الإنكار علنًا فهل الإنكار علنًا من منهج السلف؟
فأجاب: الواجب على الإنسان إذا أنكر على شخص، أن يخصه بالإنكار كبيرا كان أو صغيرا، فيتصل به، ويقول: إنني أنتقد عليك كذا وكذا، وأن هذا أمر منكر، وأنه لا يصح أن يصدر منك، ولا من أحد يدين بالإسلام مثل هذا الأمر، فينصحه سواء فيما بينهما. ولا يشهر بأمره، ولا يقول: إن فلانا فعل كذا وكذا.
وهذا الإنكار سرا بين المنكر، وصاحب المنكر هو الأصل. فالمسلم يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح، لكن عذر هؤلاء الأخوة، الذين يذكرون بعض المنكرات، ويشهرون مصدرها في المنابر مثلا، أو في الندوات أو ما أشبه ذلك، عذرهم أن أهل المنكر يعلنون منكرهم ويظهرونه، سواء في الإذاعة الصوتية، أو الإذاعة المرئية، أو في الصحف اليومية أو الأسبوعية، فيقولون: حيث إنهم يعلنون منكرهم ويظهرونه، فلا بد أن نشخصهم، وننبه على هذا المنكر الذي أشهروه علنًا، حتى لا يقال: إننا نسكت على الباطل. هذا عذرهم.
أما فيما يتعلق بالمسؤولين ورجال الحسبة ونحوهم فالمستحسن أنه لا يشخص أحد منهم، ولا يقال: إن المسؤول الفلاني أو الأمير الفلاني فعل كذا أو فعل كذا علنًا، وذلك لما يسببه هذا من الفتنة والأذى لأهل الخير، لأنهم قد يساء الظن بهم، فيقال: إنهم يحملون حقدا عليهم، أو ما أشبه ذلك. بل يكف عن ذكر الأشخاص وتذكر المعاصي على وجه العموم وبذلك تبرأ الذمة. والله أعلم.
حكم النصيحة مع الشدة(1/55)
وسئل فضيلة الشيخ وفقه الله: هل تعد الصراحة في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع شيء من شدة العبارة أو التفصيل إذا لزم الأمر، هل يعد ذلك خروجا على الأئمة؟ وهل يعد رد التعليمات المخالفة للدين خروجا على الأئمة؟ وما رأيك في من يتهم الآمرين بالمعروف من الدعاة بأنهم خوارج ودعاة فتنة، حفظك الله؟
فأجاب: لا يعد ذلك من الشدة؛ بل كل من رأى شيئا من النقص أو من التقصير، أو من المنكر، فإن عليه أن ينكره، وعليه أن يبينه لمن ظهر منه ذلك المنكر، ولو كرره مثلا، ولو كان في عبارته شيء من الشدة أو القسوة، لا يعد ذلك خلعا للطاعة، ولا يعد ذلك خروجا على الجماعة، ولا يعد ذلك ردة أو نقضا للبيعة، بل يعد من باب النصيحة.
والداعي الذي يدعو إلى الله -تعالى- عليه أن يبين ما يدعو إليه، وعليه أن يفند المعاصي والمنكرات التي ينكرها ويبين نكارتها، ويبين الدليل عليها.
وإذا بين ذلك للأمة أو للشعوب أو للأفراد أو للخواص فإن ذلك من باب النصيحة، ولا يسمى ذلك خروجا، ولا يسمى هذا الناصح خارجيا؛ لأن الخوارج هم الذين يسلون السيوف على الأئمة، ويخرجون عن الطاعة كليا ويكفرون الأمة التي تطيع الأئمة، أو تطيع الولاة، ويكفرون كل الأمة أو كل الشعوب التي تدين لذلك الوالي، ويرون أن كل من أطاعهم فإنه يستباح قتله، ويقتلون من قدروا عليه صغيرا أو كبيرا أو امرأة أو رجلا، حتى أنهم قتلوا امرأة حاملا بقروا بطنها لما كانت تبعا لولاية علي، أي أن زوجها كان من أتباع علي -رضي الله عنه-.
هذا هو الخروج وهؤلاء هم الخوارج، فأما من نصح وأدى النصيحة، وتكلم بها، ولو أظهر ذلك وقال مثلا: إن هذا منكر، وإن الواجب إنكاره على الأفراد وعلى الخواص والعوام فلا يسمى هذا خروجا.
الإنكار إذا أتي بمضرة كالسجن أو الضرب
وسئل نفع الله به الإسلام والمسلمين: إذا كان الإنكار يأتي على صاحبه بمضرة كالسجن أو الضرب فهل يجب إنكاره؟ أو يتركه تجنبا للمفسدة؟(1/56)
فأجاب: في هذه الحال يراعى الأصلح، والنفع العام.
* فإن كان في سجنه وضربه ضرر على غيره من الدعاة والمنكرين، فله السكوت حتى لا يمنع الجميع، أو يُزَنّوا(1) كلهم بالتهور والتسرع والجهل والغلو، أو يتهموا بالخروج ومحاولة الانقلاب، وخلع البيعة ونبذ الطاعة، ويساء بهم الظن، ثم يعمهم العقاب ويتعدى إلى غيرهم ممن يظن أنه على طريقتهم، ففي هذه الحالة ينظر في الأصلح، ويقتصر الآمر والناهي على النصيحة الفردية، وعلى المكاتبة والمجادلة بالتي هي أحسن، سيما إذا كان ذلك المنكر مما لصاحبه تأويل أو عذر، أو فيه خلاف، أو له فيه مصلحة مقصودة ونحو ذلك.
* أما إذا ظهر منكر لا تأويل فيه، ولا شبهة لصاحبه، ولا مصلحة مقصودة يمكن اعتبارها، ففي هذه الحالة يجب الإنكار ممن له صلاحية، ولو أدى ذلك إلى محاكمة أو ضرب أو سجن أو تشريد، حيث يعتبر ذلك من مصلحة الأمة وحفاظا على دينها، وخوفا عليها من العقوبة العامة، والخاصة، والله أعلم.
الإنكار باللسان في الأسواق
وسئل الشيخ حفظه الله: هل يجوز خروج بعض الإخوة في بعض الأيام إلى الأسواق لإنكار المنكر باللسان ؟ وماذا تنصح به الإخوة وتأمرهم بتطبيقه؟
فأجاب: تغيير المنكر مأمور به في كل حال سواء في الأسواق، أو في الطرق، أو في المجتمعات، أو نحو ذلك لعموم الحديث: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه..." (2).
__________
(1) يُزَنّوا أي: يُتَّهموا.
(2) أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.(1/57)
ولا شك أنه إذا كان عنده استطاعة على أن يقنع أهل المنكر بما هم عليه، وأن ينصحهم، وأن يأمرهم بالكف عن إظهار ذلك المنكر؛ سواء كان سماعا كغناء، أو فعلا كالتدخين والتبرج، واللمس والاحتكاك والاختلاط بين الرجال والنساء، أو نحو ذلك كما هو موجود في الأسواق، فإذا كان عند الإنسان قدرة واستطاعة على أن يزيل ذلك، أو يخففه، فعليه أن يفعل ذلك، وعليه أن يستعمل مع ذلك الحكمة وأن يتكلم بلين ولطف، وألا يتمادى فيما يسبب تشويشا، أو شيئا من المشاغبات، التي يحصل منها شقاق ونزاع ومضاربة، بحيث تكثر وتكبر المسألة، فليقتصر على مجرد النصح والتخويف، وإذا لم يستطع ذلك غيَّره بقلبه، أو أخبر به من هو قادر على تغييره باليد أو نحو ذلك. والله -تعالى- أعلم.
الواجب نحو من يفعل المنكر في بيته
وسئل حفظه الله: متى يجب على أعضاء هيئة الأمر بالمعروف الإنكار على شخص يفعل المنكرات في بيته؟
فأجاب: مثل هذا لا يختص الإنكار عليه بأعضاء الهيئة؛ بل على كل من علم حالته أن ينصحه وينكر عليه ما يفعله، فإن كان لا يظهر أثر ذلك، بل هو مستخف بمعصيته، فعلى كل من عرف ذلك أن يكرر النصح له والتحذير من سوء العاقبة وعقوبة الذنب، وآثاره السيئة، ولا شك أن أعضاء الهيئة أولى من يبدأ بنصيحة المسلمين عما عرفوه من السيئات التي تختفي في البيوت.
أما إذا كانت المعاصي في البيوت، ولكن تظهر علاماتها كأنتل التلفزيون وجهاز الدش فإن على الهيئة الإنكار علانية، حيث إن أصحابها قد أعلنوها وأظهروها لكل من مر بهم، فلا حاجة إلى النصيحة الخفية، لأنه قد لا يتأثر بها غالبا، ومع ذلك تبدأ بنصحه بانفراد، ثم تحذيره وتخويفه من المنكرات وآثارها، ولا تملك أكثر من ذلك، سواء كنت من أعضاء الهيئة أو من المواطنين لانتشارها وتمكنها، أما المعاصي الخفية، فينصح صاحبها خفية.
الواجب نحو من يفعل المنكر مستترا(1/58)
وسئل حفظه الله: إذا كان شخص يفعل المنكر في بيته -كشرب الخمر مثلا- ولكنه لا يخرج، بل يفعل المعصية وهو مستتر على نفسه دون أن يراه أحد، فما الواجب تجاهه؟
فأجاب: الواجب نصحه وتحذيره من فعل هذا الذنب الذي هو من أكبر الكبائر، وذكر ما ورد في عقوبته في الدنيا من الجلد والسجن، وفي الآخرة من الوعيد الشديد والتهديد الأكيد، وإذا اعترف بأنه يتعاطى المسكرات ويصر عليها ولم يرتدع، فإنه يشهد شاهدان على إقراره ثم يرفع بأمره إلى رجال الحسبة أو المحكمة الشرعية، لأجل إقامة الحد عليه، ثم أخذ التعهد أن لا يعود، وعقوبته بما يرتدع به إذا كان مدمنا مستمرا على ذلك.
أما إن لم يعرف حاله وإنما هو مجرد ظن أو تهمة خفية، فلا يُتََجَسَّس عليه، بل ينكر عليه إن ظهر منه رائحة أو قرائن ترجح تعاطيه، ويبين له ما في المعاصي عموما من العقاب الشديد، وينصح أن لا يقرب من أهل المحرمات، ويرشد إلى حضور مجالس الذكر والخير والخطب النافعة، التي تشرح حال العصاة وتوضح لهم تحريم المحرمات، ومع كثرة سماع النصائح والخطب والندوات، وقراءة النشرات والكتب والرسائل المفيدة في هذا الباب، يرجى الانتفاع بها مما يحصل بعده التوبة الصادقة، والله المستعان.
حكم من يتكرر منه المنكر
وسئل وفقه الله -تعالى- إذا عرف شخص بأنه معاكس للنساء، وقد تم نصحه من قبل لكنه وقع في ذلك مرة أخرى فما الحكم الشرعي فيه؟
فأجاب: لا بد من تكرار نصحه وتخويفه وتذكيره بالعقوبة العاجلة والآجلة، وأن فعله هذا دعاية إلى الفاحشة وفتح لباب الشر، وأنه يكون قدوة للمفسدين، ومتى عاد إلى هذه المعاكسات فمن صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عقوبة من فعل ذلك وتكرر منه، إما بحبس مدة معلومة، وإما بجلد، ثم أخذ التعهد عليه أن لا يعود، وكذا التعهد على ولي أمره، أو من يكفله ويمنعه عن العودة إلى مثل هذا الفعل، والله أعلم.
السكوت على المنكر(1/59)
وسئل فضيلته: ما رأيكم في داعية يرى المنكر ويسكت عليه بهدف إصلاحه فيما بعد ؟
فأجاب: قد يجوز ذلك إذا كان هذا المنكر متمكنا، ويصعب علاجه في أول مرة، وهناك منكرات أكبر منه، وقصد الداعية البداءة بالأكبر، رجاء القبول، ثم بعد ذلك يعود إلى الأصغر.
مثال ذلك: ما نقل عن بعض الدعاة أنه قدم على مناطق قد غمرها الجهل، حتى عبدوا القبور، واستباحوا الزنى والخمور، وشربوا الدخان، وأكلوا القات والشمة، ونحو ذلك، فبدأ هذا الداعية بالتعليم، وحثهم على تعلم القرآن وتدبره، وعالج الشرك ووسائله، وأقرهم على الدخان والقات والتبرج، لصعوبة التخلص منه، حتى إذا فقهوا وعرفوا الأحكام والحلال والحرام، هناك أقلعوا من أنفسهم، أو بين لهم حكمها وما يترتب عليها من المفاسد، مما حملهم على أن يتوبوا ويقلعوا عن جميع المعاصي.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يمر على من يلعب بالشطرنج أو الميسر ويتركهم، بحجة أنهم إذا منعوا من ذلك انشغلوا بما هو أكبر منه، كقطع الطريق، ففي مثل هذه الأحوال يجوز السكوت على بعض المنكرات، رجاء علاجها بعد ذلك بالتي هي أحسن.
فأما سكوت الداعية عن التغيير مع القدرة على النصح والتوجيه فلا يجوز إذا لم يكن هناك مبرر لهذا السكوت، كالسعي لعلاجهم بعد ذلك، فإن هذا السكوت يكون حجة لأهل المعاصي، بقولهم: فعلناه بحضرة العالم فلان وأقرنا، فيتمكن هذا المنكر ويصعب علاجه، حتى ولو كان من صغائر الذنوب، أو مما يتهاون به العامة، والله أعلم.
إنكار المنكر واعتزال الفتن
وسئل الشيخ نفع الله به الإسلام والمسلمين: كيف نوفق بين حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.. "(1) إلى آخره. وبيَّن ما بيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر من اعتزال الفتن.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.(1/60)
فأجاب: لا شك أن لكل مقام مقالا، فإذا رأى الإنسان نفعا ببقائه مع المجتمعات فعليه أن يبقى حتى يؤثر، وإذا رأى عدم نفع، فإن اعتزاله ونجاته بنفسه أفضل.
والمجتمعات على حالتين:
الأولى: مجتمع فيه خير وشر، ولكن الشر الذي فيه يقل، ويضعف عن مقاومة الخير، فالشر أهله ضعفاء، ففي هذه الحال عليك أن تبقى في هذا المجتمع، وأن تغير إذا قدرت على التغيير بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإذا لم تستطع فبقلبك.
والإنكار بالقلب معناه أن تتلفظ بالإنكار عند أهله، وتمقتهم وتحذر من الركون إليه، فإذا كان كذلك، فإنك على سبيل النجاة.
أما الحالة الثانية: فهو أن يتغلب أهل المنكر، وأن يَفْشُوَ منكرُهم، فيكثر في الأمة، ويكون أهل الخير أذلة، إن تكلم أحدهم قمع، وطرد، واضطهد! ففي هذه الحال فالنجاة له، في الاعتزال لأنه لا يأمن من الفتنة ولا يأمن من البلاء
وكثير من الناس كانوا في مجتمعات فاسدة وهم صالحون، ولكن مع طول المدة فسدوا قليلا قليلا، لأن هذا يورد عليه شبهة! وهذا يكسله عن الصلاة! وهذا يجره إلى شيء من المنكر! وهذا يجره إلى الدخان، وهذا يجره إلى الغناء، وهذا يقول له: لا بأس بذلك! حتى ينجرف ويصير كواحد منهم!! فإذا كان على هذا فنجاته بنفسه وبعده عن هذا الموضع هو السبيل إلى النجاة.
وهكذا فلكل مقام مقال.
وسائل وطرق الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هل وسائل الدعوة توقيفية؟
سئل الشيخ سلمه الله: هل تعتبر وسائل الدعوة إلى الله -عز وجل- توقيفية؟ بحيث لا يجوز استخدام الوسائل الحديثة في الدعوة إلى الله، كوسائل الإعلام وغيرها؟(1/61)
فأجاب: أمر الله -تعالى- بالدعوة إلى الخير، في قوله -تعالى- : ? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ? ولم يحدد وسيلة للدعوة، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس بعدة وسائل، وهكذا كان يبعث الدعاة إلى أقاصي البلاد وأطرافها، دون أن يحدد لهم وسائل يستعملونها، فكان منهم من يدعو بواسطة الخطب، وبواسطة المحاضرات، وبواسطة الجلسات، وكذا بما تيسر من الوسائل.
وحيث إنه لم يحدد لأصحابه وسائل خاصة، فإن الدعاة عليهم أن يستعملوا كل وسيلة مفيدة ومؤثرة في السامع، سواء كانت توقيفية أو جديدة، فقد ظهرت وسائل جديدة استخدمت في الدعوة إلى المعاصي وإلى الكفر والبدع، وحصل بسببها تأثير في السامعين الذين انصاعوا إليها وتابعوها، وكان الأولى أن تستغل في الخير وفي الدعوة إلى الله.
فقد استفيد كثيرا من وسيلة الكتب قديما وحديثا، ولم يكن هذا التأليف توقيفيا، كما استفيد من أجهزة تصوير الأوراق والمطابع، وحصل بها خير كثير، واستعملت الدعوة بواسطة الأشرطة الإسلامية، لتقابل الأشرطة الماجنة التي تفسد الأخلاق، وهكذا الإذاعة المسموعة والمرئية، فقد استفاد منها خلق كثير في أطراف البلاد، ومن أنكر نفعها فهو مكابر، ومن قال إنها -أي الوسائل- توقيفية فقد ناقض نفسه، حيث يجيز استعمال المطابع والكتب والنشرات مع حداثتها، والله أعلم.
الجمع بين إنكار المنكر
وصلة الرحم والدعوة برفق
وسئل أثابه الله: كيف الجمع بين إنكار المنكر وصلة الرحم والدعوة إلى الله -تعالى- برفق ولين في وقت واحد ؟(1/62)
فأجاب: المسلم العالم بالأحكام يعمل في كل موضع بما يناسبه، فلكل مقام مقال، فإنكار المنكر مع القدرة واجب، ولو كان الفاعل أبا أو ابنا، أو حبيبا، أو نسيبا، ومعناه إذا رأى الإنسان قريبه قد أظهر المنكر، فالإنكار عليه من حق القرابة، فتذكره بالمحبة والشفقة التي تقتضي الإخلاص في النصيحة، وتستلزم قبولها، فمتى عرف أنك تحب نجاته وإيصال الخير إليه، وتتمنى له أن يكون أصلح الناس وأفضلهم، فإنه يتقبل منك ويتأثر بنصحك وتوجيهك، فإن قدر منه العناد والرد لأول مرة، فإن من صلة الرحم تكرار النصح والوعظ والتذكير والتخويف، وذلك من حق القرابة، وكذا استعمال اللين واللطف وحسن المعاملة، والإرشاد إلى الخير، وعدم الانقطاع عن القريب العاصي، رجاء أن يخفف من معصيته، وأن يحصل منه الارعواء والإنابة، وذلك من صلة الرحم التي من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، كما ورد ذلك في الحديث(1).
فزيارة الأقارب العصاة قد تخفف من شرهم، إذا كان مع الزيارة شيء من التوجيه والتخويف، بلين ولطف وحسن عبارة، وتذكير بالتوبة وسعة الرحمة، ومن يستحقها، أما إذا تمادى العاصي في غيه وأظهر العناد والتنقص لأهل الخير واحتقار من ينصحه ويرشده من قريب أو بعيد، فالأولى والحال هذه هجره والبعد عنه؛ ولا يكون ذلك قطيعة؛ لأنه هجر لله -تعالى- يثاب عليه مع الاحتساب، والله أعلم.
ضوابط التعامل مع الناس برفق ولين
وسئل سلمه الله: ما الضوابط في التعامل مع الناس رفقا ولينا وشدة في الدعوة إلى الله وفي إنكار المنكر ؟
__________
(1) لحديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قال الله -عز وجل-: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن يصلها أصله، ومن يقطعها أقطعه فأبُتَّه أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 191). قال أحمد شاكر في تحقيق المسند (1659): إسناده صحيح.(1/63)
فأجاب: الناس يختلفون، فمنهم من يكون سريع التأثر فيكتفى بوعظه وتذكيره قليلا حتى ينيب ويتأثر بالموعظة، ويخوف بأثر المعصية وعقوبة الذنب.
ومن الناس من يكون شديد العناد، كثير العصيان، فمثل هذا يحتاج إلى طول مجادلة.
فأولا: يدعى باللين واللطف الذي قال الله فيه: ? فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ?.
ثانيا: يذكَّر بمبدئه ومَعَادِه، ويذكَّر بآيات الله ومخلوقاته.
ثالثا: يناقش فيما عنده من الشبهات وما يعلق بذهنه أو بقلبه من الصوارف حتى تزال تلك الشبهات من ذاكرته والغالب أنه يرجع.
فإذا عرف أنه شديد العصيان وبعيد التأثر والتقبل، فمثله يحتاج إلى العقاب بما يردعه ويردع أمثاله من المعاندين، من قبل الجهات المسئولة.
الإنكار في المسائل الخلافية
وسئل عفا الله عنه: قام أحد الإخوان بالإنكار بشدة على شخص في مسألة فيها خلاف بين العلماء، فرد عليه ذلك الشخص بقوله: لا يحق لك أن تنكر علي في هذا، فالمسألة فيها سعة، فهل صحيح أنه لا ينكر في المسائل الخلافية؟ وما حكم من ينكر على الغير في المسائل الخلافية ؟
فأجاب: المسائل الخلافية هي: التي تكون محل اجتهاد، وليس فيها نص صريح، ولا دليل صحيح يرجح أحد القولين، ووقع فيها الخلاف بين الأئمة المشهورين، وهي تتعلق بفروع الشريعة، فهذه لا ينكر فيها بشدة على أحد المجتهدين، مثل: الجهر بالبسملة، والقراءة خلف الإمام، والتورك في الثنائية، وقبض اليدين بعد الرفع من الركوع، وعدد تكبيرات الجنازة، ووجوب الزكاة في العسل وفي الخضروات والفواكه، والفطر بالحجامة، ووجوب الفدية على المحرم إذا نسي، وقص شعره أو تطيب ناسيا ونحو ذلك.(1/64)
أما إذا كان الخلاف ضعيفا ومصادما لنص صريح، فإنه ينكر على من تركه، ويكون الإنكار بالدليل، كرفع اليدين عند الركوع، والرفع منه، والطمأنينة في الركوع والسجود والرفع منهما، والتأمين مع رفع الصوت به في الجهرية، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في التشهد، ووجوب السلام للخروج من الصلاة، ونحو ذلك.
أما إذا كان الخلاف في العقائد؛ كصفة العلو، والاستواء، وإثبات الصفات الفعلية لله -تعالى- وخلق أفعال العباد، والتكفير بالذنوب، والخروج على الأئمة، والطعن في الصحابة، وصفة البداء لله -تعالى- والغلو في عليٍّ وذريته وزوجته، وإخراج الأعمال من مسمى الإيمان، وإنكار الكرامات، والبناء على القبور، والصلاة عندها، ونحو ذلك، فهذا ينكر على من خالف فيها بشدة؛ حيث إن الأئمة متفقون فيها على قول السلف، وإنما جاء الخلاف من المبتدعة أو من بعد الأئمة، والله أعلم.
استعمال الرفق مع إنكار المنكر
وسئل فضيلة الشيخ: كيف الجمع بين قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة : " إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه "(1) وقوله -صلى الله عليه وسلم- : " إذا رأى أحدكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "(2).
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (2593) من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
(2) أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.(1/65)
فأجاب: يستعمل الرفق مع إنكار المنكر فإن من رأى المنكر وتكلم مع صاحبه برفق ولين جانب، وحسن عبارة، بما يحصل به اقتناع العاصي، وتوبته وإقلاعه عن الذنب، فإن ذلك من الرفق المفيد، بحيث إن العاصي نفسه يزيل المنكر، ويقلع عنه فورا، لاقتناعه بخطئه، بعد أن يتضح له الدليل، ويستمع إليه بإنصات وتقبل، بخلاف ما إذا استعمل معه العنف والشدة والكلام الفاحش، ونبزه بالكفر والفسوق وتسفيه عقله والتنقص له، فإنه عادة ينفر ممن نصحه بهذا الأسلوب، ولا يُصِيخُ إلى كلامه، ويرد على الناصح بمثل كلامه، ويرميه بالذل والتصغير لشأنه، وأن مثله لا يقبل منه، ولا يصلح داعية ونحو ذلك، ولكن بعض الناس لا يتأثر بالنصح مع لين الكلام، وحسن الأسلوب، لأن قلبه قد أظلم واسود من المعصية، فمثل هذا يعامل بالقسوة والشدة، ويعاقب بما جعله الله زاجرا ولو بالقتل، كحال الكفار والمنافقين الذين أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم.
دعوة الناس وهم على منكراتهم
وسئل أطال الله في عمره بالطاعة: هل يجوز للداعية أن يدعو الناس وهم على منكراتهم ؟
فأجاب: يجوز ذلك كدعاء المشركين في حال شركهم، ودعاء المبتدعين في حال ابتداعهم، وهكذا سائر العصاة، وذلك أنه متى رأى مسلما يعمل منكرا، فالواجب عليه دعوته والإنكار عليه، كشارب الدخان، وحالق اللحية، والمستمع إلى الأغاني، والناظر في الصور الخليعة، والمرأة حال تبرجها وتكشفها ونحوهم، فدعاء هؤلاء وهم على منكراتهم يكون أولا بتذكيرهم ووعظهم، وتخويفهم من عذاب الله -تعالى- وترغيبهم في التوبة، وبيان حقيقتها، ثم بيان الدليل النقلي والعقلي على ذلك المنكر، وإظهار شناعته وبشاعته، ونكارته حسًّا وشرعا، وإقناع العاصي بسفاهة من يفعل مثله، وهذا الأسلوب جامع بين الدعوة إلى الله وبين تغيير المنكر بالتي هي أحسن.(1/66)
ولا بأس أيضا بدعوة الكفار كالنصارى والمبتدعة كالرافضة، فإنهم يدعون إلى الإسلام والسنة، وترك الكفر والبدعة، ولو كانوا حال الدعاء على منكر، كما لو كانوا في سماعهم أو لهوهم وطربهم، أو في معابدهم كالكنائس، والحسينيات أو في أعيادهم أو مآتمهم، كعيد الميلاد النصراني، ويوم عاشوراء عند الرافضة، وعيد الغدير عندهم، فدعاؤهم في تلك الحال يكون بتوبيخهم، وتسفيه أحلامهم، وإيضاح بدعتهم، وإن كان قليل الجدوى لكنه قد يؤثر أو يثير الانتباه. والله أعلم.
زيارة العصاة في بيوتهم
وسئل حفظه الله: هل يجوز زيارة العصاة في بيوتهم لغرض دعوتهم إلى الله ؟
فأجاب: تجوز هذه الزيارة إذا رُجي لها تأثير، حيث إن الكثير من العصاة قد انهمكوا في تلك المعاصي عن جهل أو تقليد، عندما شاهدوا كثرة من يتعاطاها، وانتشارها بين الأفراد والجماعات، فأهل الدخان رأوا كثرة المدخنين في الأسواق والطرق والمجالس والمراكب والدور ونحوها، وأهل الأغاني انخدعوا بانتشارها وفشوها في الإذاعات والأشرطة وعلى الألسن، وكثرة من يسمعها أو يبيعها، ولا يوجد من يعلن تحريمها ومنعها، والنساء اعتدن على السفور والتبرج، ورأين كثرة المتبرجات والمائلات المُمِيلات، بدون نكير، وهكذا غير ما ذكر من أنواع المحرمات الفاشية.
فمتى علمت أن فلانا قد أصر على ذنب وأظهره أو أخفاه، كترك الصلاة، أو التخلف عن الجماعة، وتعاطي شيء من المسكرات أو المخدرات والمفترات، أو نحو ذلك من المعاصي، وقصدته في منزله، وبدأته بتأطيد الصلة والصداقة، والوداد والشفقة، ثم ذكرت له أن من أسباب الزيارة النصح والتوجيه، وشخصت له ما تنتقده عليه، وبينت له الآثام، وما ورد من الوعيد في مثل هذا الذنب، فلا شك أن هذا الرجل سوف يستحي ويظهر الندم، ويعدك خيرا، ثم مع التكرار إليه منك ومن غيرك، ومع معرفة الحكم والاعتراف بالخطأ يؤول به ذلك إلى التوبة والإقلاع، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.(1/67)
إنكار المنكر مرة واحدة
وسئل وفقه الله: هل تبرأ الذمة لإنكار المنكر مرة واحدة أم أن الواجب الاستمرار؟
فأجاب: الإنكار بالقلب يلزم الاستمرار عليه، بأن يكره هذا العاصي ويمقته، ويظهر له الاحتقار والغضب، ولا يلقاه إلا بوجه مكفهر عابس، كي يشعر بأنه بغيض عند الناس، ذليل مهين، ولا ينخدع بمنصبه أو مكانته أو ثروته، أو كثرة من يشجعه، عندما يرى أهل الخير والصلاح ينفرون منه، ويحذرون من مجالسته، فهذه المعاملة مع هذا النوع لا تتوقف حتى يرجع إلى الحق ويقلع عن الذنب.
فأما الإنكار باللسان فإنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فمن عرف بمحبة الخير والقرب من الصالحين، والتعاطف مع من ينصحه وينكر عليه، فمثل هذا لا تبرأ الذمة بالإنكار عليه مرة واحدة، بل يحتاج إلى تكرار النصيحة، ويزداد الوعظ والتذكير، ويكون الإنكار باللسان كلاما لطيفا لينا، رجاء أن يتأثر ويقلع ولو بعد حين.
أما من عرف عنه العناد والاستكبار، ورد الحق والتمادي في الغي، فأرى أن مثل هذا يكتفى بالإنكار عليه مرة واحدة باللسان، فإنه مع التكرار قد يبدر منه كلام سيئ يرد به النصيحة، فأقل ما يقول أمثال هذا عبارة: قد بلَّغت وقد نصحتنا، وجُزيت خيرا، أو أنا أعرف ما تقول، وهذا لا يخصني، والناس سواي كثير، أو عليك بنفسك، نحن نعلم كما تعلم، وما أشبه ذلك من العبارات، ولكن يعامل هؤلاء بالاحتقار والمقت، وإظهار الكراهية لأفعالهم، وتحذير الناس من مجالستهم، مخافة أن يستشري شرهم، ويفشو المنكر بسببهم. والله أعلم.
معرفة الدليل عند إنكار المنكر
وسئل فضيلته: هل يلزمني لإنكار منكر أو أمر بمعروف أن أعرف الدليل وإن كان ذلك المنكر واضحا عندي؟(1/68)
فأجاب: لا شك أن أدلة تحريم المحرمات معروفة مشهورة، يعرفها المسلمون بمجرد السماع، في المجالس والمواعظ، والخطب، والدروس، والقراءة في الكتب والرسائل، فعلى من أراد أن ينكر المنكر أن يتسلح بمعرفة الأدلة التي تفيد التحريم من الكتاب والسنة، وكلام السلف والأئمة، وكذا بمعرفة ما ورد من الوعد والوعيد، فإن ذلك أبلغ في قبول دعوته.
فإذا نهى عن الربا ذكر دليل التحريم من القرآن والسنة، ثم ذكر أدلة أخرى فيها الوعيد الشديد، والتهديد الأكيد، لمن تعاطى هذا المحرم خاصة، أو من فعل المعاصي والمخالفات عامة، وتعلم أيضا الجواب عن الشبهات التي يتشبث بها من يقع في هذا الذنب ويتعامل به، على حد قوله -تعالى- : ? ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ?.
وهكذا إذا نصح عن سماع الغناء، فإنه بحاجة إلى معرفة أدلة التحريم، ومعرفة ما ورد فيه من الوعيد الشديد والتهديد الأكيد، ومعرفة ما يدخل في هذا المسمى، ليقتنع من ينخدع بذلك.
أما من لم يحفظ الأدلة على الأحكام ولا الوعد والوعيد في ذلك، فإنه يكتفي بالنهي عن هذه الجريمة التي يجزم بتحريمها، أو يأمر بهذا العمل الذي يتأكد فرضيته، ويقرن بنهيه النصيحة والتخويف، وإذا طلب منه الدليل وهو لا يحفظه أحال الطالب على من هو أعلم منه، وجعل العلماء حكما بينه وبين ذلك العاصي، وفي ذلك كفاية ومقنع، والله أعلم.
طريقة إبعاد العصاة عن المنكر
وسئل الشيخ أطال الله بقاءه ونفع به المسلمين: أرى منكرا يرتكبه بعض الأشخاص ولا أستطيع نهيهم عن ذلك فما الطريق السليم لإبعادهم عن هذا المنكر؟
فأجاب: لا يخلو الحال من أن يكون عدد هؤلاء كثيرا أو قليلا.
فإذا كان العدد قليلا، فمن الممكن إقناعهم واحدا واحدا، حتى يبتعدوا عن هذا المنكر.(1/69)
وإذا كان العدد كثيرا، فليس في الإمكان النصح لإقناعهم وبيان الحق لهم إلا في الأماكن العامة، كخطب الجمعة، أو في الأماكن التي تجمعهم كالأسواق، وما أشبهها، هذا من حيث إنه منكر.
أما من حيث التغيير وردع الناس عنه، فهذا يختلف أيضا باختلاف المنكر، ويختلف باختلاف العاملين له. فالمنكرات تتفاوت، منها ما يصل إلى الكفر، ومنها ما هو معصية، ونحو ذلك، والذين يفعلون ذلك، منهم من يفعله لعذر، ومنهم من يكون متأولا، ومنهم من يكون مقلدا، ومنهم من يكون معاندا!
فأنت عليك أن تنظر إلى ذلك المنكر، وتحاول علاجه، وإن كان من الصغائر، كشرب الدخان، أو حلق اللحى، أو إسبال الثياب، أو التخلف عن صلاة الجماعة، أو سفور النساء، أو سماع الأغاني، أو شرب بعض المسكرات، أو بيع بعض المخدرات، أو ما شابه ذلك...
وهكذا أيضا الوسائل التي تؤدي إلى ذلك، فعليك أن تنصح من يفعل ذلك بالتي هي أحسن، وتجادلهم المجادلة التي تردعهم، وتبين لهم ما هم عليه، ويمكن أن تستعين بأهل القوة والمعرفة رجاء أن يقنعوهم، أو يأخذوا على أيديهم، وأن تبين للمسئولين خطر هذه المنكرات، وآثارها السيئة، على الأفراد، وعلى الجماعات، وذلك -إن شاء الله- طريق إلى حلها، أو طريق إلى تخفيفها.
متى يجب ستر العاصي؟
وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم من يكتشف شخصا ما على معصية ويستر عليه، ويكتفي بنصحه رجاء صلاحه وهدايته؟ وهل يأثم لأنه لم يدل عليه الجهات المختصة؟
فأجاب: يجوز الستر عليه إذا لم يكن من أهل التهاون بالمعاصي، ويعرف منه كثرة اقتراف الذنوب، وارتكاب المحرمات، ففي هذه الحالة ينصحه ويخوفه ويحذره من العودة إليها.
أما إن كان صاحب عادة وفسوق فلا تبرأ ذمته حتى يرفع بأمره إلى من يعاقبه بما ينزجر به.(1/70)
أما إن كانت المعصية فيها حق لآدمي كأن رآه يسرق من بيت أو دكان، أو رآه يزني بامرأة فلان، فلا يجوز الستر عليه، لما فيه من إهدار حق الآدمي وإفساد فراشه، وخيانة المسلم، وكذا لو علم أنه القاتل أو الجارح لمسلم، فلا يستره ويضيع حق مسلم؛ بل يشهد عليه عند الجهات المختصة بأخذ الحقوق، والله أعلم.
هل يصح الستر على المتلبس؟
وسئل عفا الله عنه: أنا أعمل رئيس هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحصل القبض على من تلبس بحد، فهل يصح لنا الستر فيما نرى فيه المصلحة ؟ أم أننا في حكم نائب السلطان، وإذا بلغت الحدود السلطان فلا شفاعة؟
فأجاب: لا شك أن الأحوال تختلف؛ فمن كان متظاهرا بالشر، ومعروفا بالفسق، وكثير العناد، ومظهره يدل على فساد طوية، فإنه يشدد عليه، ولا بد من عقابه بما يرتدع به، ومن كان ظاهره الصلاح وإنما سولت له نفسه لأول مرة، فإنه يُعفَى عنه، لحديث : " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم "(1). ومن هو بين ذلك يعاقب ببعض العقوبة، والله أعلم.
قول البعض: إن الإيمان في القلب
وسئل وفقه الله: نرى في زماننا هذا انتشارا لمذهب الجهم بن صفوان، حيث إذا أمرنا أحدا بالمعروف ونهيناه عن المنكر الذي هو واقع فيه قال لك: إن الإيمان في القلب، أو قال: يكفي أن تكون النية صالحة، فكيف نتعامل مع هؤلاء؟
فأجاب: روي من كلام الحسن البصري -رحمه الله- قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فأخبر بأن الذي في القلب يظهر على الأعمال.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4375) وأحمد في المسند (6/ 181). وابن حبان في صحيحه (1520) والبخاري في الأدب المفرد (465) عن عائشة -رضي الله عنها-. وللحديث شواهد كثيرة. وقد صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (362). وفي السلسلة الصحيحة (638). وقال الأرناؤوط في شرح السنة (10/ 330): حديث صحيح.(1/71)
فنحن نقول لهذا: اثبت لنا أنك مؤمن، هل تريد أن نشق عن قلبك حتى نرى أنه أبيض أو أسود؟! نحن إنما نعاملك بالظاهر، فإذا كان الظاهر لنا أنك فاسق، أو أنك عاصٍ، أو أنك طريد شريد، فنحن نبغضك على ما يظهر منك ونمقتك، ولو كان قلبك ما كان لخفائه علينا، ونحن لا نعاملك إلا بما يظهر لنا، فلو أننا أحسنَّا الظن بكل أحد من العصاة ممن يقول: أنا مؤمن أو مسلم، لم يبق أحد ينكر عليه، فإنه لا يوثق بأقوال كل أحد.
وعلى كل حال فإن هؤلاء الذين يتمادون في العصيان ويتركون العبادات والطاعات، ويدَّعون أن إيمانهم كامل وأن الإيمان يكفي فيه المعرفة بالقلب الذي هو مذهب الجهم. نقول: إنهم فسقة؛ سيما إذا تظاهروا بالعصيان، فلا نصدقهم، بل نعاقبهم بالعقوبة التي تردعهم وتردع أمثالهم.
وقد ثبت أن عمر -رضي الله عنه- قال ما معناه: إن ناسا كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم بالظاهر، فمن أظهر لنا خيرا أحببناه وقربناه وواليناه، ولو كان باطنه سيئا، ومن أظهر لنا شرا أبغضناه وعاديناه وعاقبناه، ولو كان قلبه طاهرا، أو كما قال، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " إني لم أُومَرْ أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم "(1) ولا شك أن من كان قلبه مؤمنا صادق الإيمان فإن أعماله تكون صالحة خالصة، موافقة للحق، ومن فسد قلبه فسد سائر جسده كما ورد في الحديث(2).
الاحتجاج بالقضاء والقدر
وسئل وفقه الله لكل خير: كيف نرد على من يفعل المنكر أو المعصية، فإذا ناقشناه أو نصحناه احتج بالقضاء والقدر ؟
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم برقم (1064) - 144، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري برقم (52) و (2051). ومسلم برقم (1599) عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه-.(1/72)
فأجاب: عليكم أن تقنعوه بأن الله أعطاه قوة وقدرة يتمكن بها من الفعل، وتنسب إليه الطاعة والمعصية التي يثاب عليها أو يعاقب، ولو كانت تلك القوة مسبوقة بقدر الله وقضائه، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولو لم يكن للعبد قدرة لما أمره ونهاه. فعلى هذا لا حجة لأهل المعاصي بالقضاء والقدر، فإن أصر على ذلك، فعليكم جلده وضربه، واحتجوا عليه بالقدر، فقد حضر سارق عند عمر بن الخطاب فاحتج بالقدر على السرقة، قال عمر -رضي الله عنه- أنت سرقت بقدر الله، وأنا أقطع يدك بقدر الله، مع أن هذا العاصي لا يرضى بالقدر في الاعتداء عليه، ولا في ترك الأسباب الدنيوية، بل تراه يغضب على من سبه، أو ضربه، أو أخذ ماله، ولا يرضى بالقدر، وكذا تراه يجتهد في التكسب والتجارة والحرث والكتابة والدراسة، ولا يحتج بالقدر، والله أعلم.
العمل في المؤسسات التي فيها منكرات
وسئل الشيخ نفع الله بعلمه: ما حكم العمل في المؤسسات التي فيها منكرات شرعية ؟
فأجاب: المنكرات توجد في كل مؤسسة وفي كل الشركات الكبيرة غالبا. فلا تخلو مؤسسة من وجود من يتساهل بالصلاة، أو من يحلق لحيته، أو من يسبل في لباسه، أو من يشرب الدخان، أو يسمع الغناء، أو نحو ذلك من المنكرات، ولو قلنا: لا يجوز العمل في مثل هذا كله، لم يجد أصحاب الخير لهم مجالا يشتغلون فيه، وإن وجود أصحاب الخير، وأصحاب الدين وأصحاب الصلاح في أي مجال هو مما يخفف من الشر، لأن وجودهم يجعل في أصحاب هذه المنكرات شيئا من الإهانة والذل، والشعور أن هناك من ينكر عليهم تلك المنكرات، ومن يبين خطأهم، ويفند شبهاتهم، ونحو ذلك.(1/73)
فإذا وجدت في عملك شيئا من المنكرات مثل الظلم، أو التبرج، أو وجود ظاهرة عدم النظام، أو ترك الصلوات، أو ما أشبه ذلك، أو وجود مبتدعة يعملون فيها من رافضة أو نحوها، فلا يترك لهم المجال، ولا تترك الشركة كلها لمثل هؤلاء، بل نزاحمهم، ونعمل فيها حتى يكون لنا مكانة، ويكون لنا ظهور، ويكون لنا معنوية، فيقل الشر، ويقوى الخير ويقوى أهله، وعلينا أن نحرص على تعلم العلوم كلها التي تتعلق بالدين والدنيا، وإذا تعلمناها، ونحن أهل عقيدة وصلاح ودين، وشغلنا الوظائف الحكومية بالعمل فيها فلن نترك مجالا ليتمكن الأشرار والمبتدعة فيها.
بخلاف ما إذا بقينا لم نتعلم هذه العلوم، ولو كانت دنيوية، ثم تولاها أولئك الأشرار، والمبتدعة، فإنهم يتحكمون فيها، ويولونها أصحابهم، ومن على نهجهم وعقيدتهم، فيكثر الأشرار، ويضعف الأخيار!
فمتى كان مدير المدرسة مثلا من أهل الشر أو البدعة، فإنه عادة لن يوظف فيها مدرسا إلا من كان على نهجه وشكله وعقيدته، وإن كان من أهل الخير فسح المجال لغيره من أهل الخير، وأدخلهم ومكن لهم وأبعد الأشرار عنها، وكذلك كل رئيس لدائرة؛ إذا كان صالحا فإنه يقرب أهل الخير، وأهل الصلاح، وإذا كان فاسدا ولَّى أهل الشر وأهل الفساد، وأبعد أهل الصلاح والإخلاص، وكذلك إذا تقدمت إلى عمل من الأعمال ومعك ما يؤهلك لذلك العمل ولم تقبل، فإن لك أن تراجع من هو فوق ذلك الذي ردك، وتذكر أنه ما قصد إلا إهانتك لأجل تمسكك وإخلاصك في عملك، ويدعي أنك ضد له، وأنك تعرقل سيره وعمله، فإذا شكوت إلى من فوقه، أو عرف أنك ستصل إلى الرئيس والوالي العام وتفضحه على تحيزه وتظهر المظلمة، فإنه سيخجل ويترك تشدده على من ليس على طريقته، ويتساهل في تقبل كل من تقدم للعمل ممن يحمل المؤهل المطلوب، ولو كان من أهل الخير والصلاح، فيكثر الصلاح، ويكثر أهله، والله أعلم.
الكذب والغش للوصول إلى المصلحة العامة
في إنكار المنكر(1/74)
وسئل الشيخ حفظه الله: هل يجوز الكذب والغش للوصول إلى المصلحة العامة في إنكار المنكر ؟
فأجاب: الأصل في الكذب التحريم، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا "(1). وقال الله -تعالى- :
? وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ? وفي الصحيح قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان "(2).
__________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (6094). ومسلم برقم (2607). عن عبد الله -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري برقم (33) و(2536) و(2598) و(5744). ومسلم برقم (59). عن أبي هريرة رضي الله عنه.(1/75)
وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- رخص في الكذب في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها(1) ؛ فينظر في تلك المصلحة العامة وما يترتب على حصولها، وما يترتب على فواتها، فإذا ترجحت المصلحة وانتفت المفسدة، جاز الكذب بقدرها، مع أنه يندب التعريض في الكلام، ففي المعاريض مندوحة عن الكذب، فعند سؤال المجرم كالقاتل والسارق والمزور، والفاجر والمتهم بالاعتداء على الأعراض والمحارم، إذا لم تقم عليه البينة، جاز الكذب عليه، ووعده بكذا ووعيده بكذا، حتى يعترف باختياره ليقام عليه حد الله، ولينزجر أمثاله عن التهاون بحقوق الأمة، والجرأة على انتهاك الأعراض وفعل الجرائم، وقد ورد في الحديث: " لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحا "(2) أما إذا كان المتهم يغلب على الظن براءته ويبعد أن يفعل مثل ما اتهم به فإنه لا يجوز الكذب عليه، كما لا يجوز التشديد في عقوبته لغلبة الظن ببراءته، بما اشتهر عنه من الصلاح والورع، والبعد عن الظلم والكذب، والله أعلم.
وجود البطاقة عند الآمر والناهي فيه مصلحة
وسئل الشيخ بارك الله فيه: هل يلزم للآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر أن يكون لديه بطاقة، للسماح له بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل يأثم الدعاة وطلبة العلم إذا لم يدعوا ويأمروا وينهوا في هذه الحالة؟ مع ذكر بعض الأدلة من القرآن والسنة، أو سيرة السلف الصالح؟
__________
(1) لحديث أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس أخرجه الترمذي برقم (1939). وأحمد في مسنده (6/ 459، 461).
(2) أخرجه النسائي برقم (4919) و(4920). وابن ماجه برقم (2538). وأحمد في مسنده (2/ 362، 402). عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.(1/76)
فأجاب: اشتراط البطاقات فيه مصلحة، وذلك لأنه ليس كل من يتصدى للدعوة يكون من أهلها، فقد يتصدى للدعوة من ليس أهلا لها فيفسد أكثر مما يصلح! أو يأمر بما يجب أن ينهى عنه! أو يقول بغير علم، أو نحو ذلك! فإن الله -تعالى- جعل من المحرمات القول بلا علم؛ بل قد يكون من أشد المحرمات، فلذلك يشترط أن يكون الذي يأمر بالمعروف، ويدعو إلى الله ممن عنده أهلية ومعه قدرة على ذلك، فيشترطون لهم مثلا مؤهلا دراسيا، وتَمَكُّنًا، وقدرة على مزاولة الدعوة، والقدرة على استحضار الأدلة، كما أنه لا بد في مجهول الحال أن يحمل تعريفات وتزكيات، ولا بد من اختبارهم لإظهار قدرتهم ومعرفتهم بالطرق التي يسلكها الدعاة، وما شابه ذلك.
ولما كانت هذه الشروط لا تتوفر جميعها في الكثير من الدعاة مع قدرة كثير منهم على مزاولة الدعوة، فلذلك لم تكن مجالات الدعوة ووسائلها محصورة في صعود المنابر، وإلقاء الخطب، وعقد المحاضرات، بل لها وسائل وطرق متعددة:
(أ) منها الدعوة الفردية: فإذا رأيت أحدا يفعل منكرا فإنه بإمكانك الاختلاء بصاحب المنكر، وبيانه له، وإرشاده إلى الصواب مع إقناعه وذكر الدليل له.
(ب) ومنها دعوة الجماعات: في المجالس العادية التي يحضرها عدد ممن يحبون المعاصي، وإن لم يكونوا عصاة، فتشغل هذه المجالس بالدعوة إلى الله -تعالى- وبقراءة الكتب النافعة، دون إشغالها بالقيل والقال مما لا فائدة فيه.
(ج) ومنها الدعوة في المجتمعات العارضة: في السيارة أو الطائرة، أو الفندق، أو في المستشفى، فتستخدم الدعوة في هذه المجتمعات العارضة، ويشغل الوقت في التذكير بالله -تعالى-.
(د) ومنها التعليم والقراءة الخاصة: فتجعل لعدد معين من الناس حلقة يقرأ أحدهم في كتاب، وتتولى أنت شرح ذلك الكتاب.
فَتَبَيَّنَ أن طرق الدعوة ووسائلها لا تحصر في الخطب والمحاضرات والندوات، أو الدعوة في الأسواق العامة، أو بالمكبرات، بل لها طرق أخرى ومنها ما ذكرنا، والله أعلم.(1/77)
هل الدعوة في المساجد فقط؟
وسئل حفظه الله: نحن مجموعة نحضر بعض المناسبات كالزواجات ونحوها، فنطلب من أحد طلبة العلم التفضل بإلقاء كلمة مفيدة نتذكر فيها أمور ديننا، فيقوم بعض الإخوة فيعترضون علينا، ويقولون: إن أردت أن تلقي كلمة فألقها في المسجد وإلا فاسكت، فما توجيهكم لهذا الأمر حفظكم الله -تعالى-؟
فأجاب: هذا خطأ، بل نقول: إذا اجتمعتم في مجلس أحدكم، فلا يضيع هذا المجلس، بل استغلوه واستعملوه فيما فيه فائدة، فيقرأ أحدكم مثلا بالقرآن، ويقرأ آخر بالتفسير، وآخر بالحديث، أو التوحيد، أو أي شيء من الكتب المفيدة، وهذا أفضل من أن ينشغل المجلس في القيل والقال.
ولا ينافي أن المساجد تلقى فيها المواعظ، بل المساجد والمجالس والنوادي والمدارس والسيارات وما أشبهها، لا مانع من أن يتكلم الإنسان فيها بما يفتح الله عليه فينصح إخوته؛ فإن تأثروا وقبلوا فهو حظهم في الدنيا والآخرة، وإن ردوا عليه ولم يتأثروا برئ من مغبة الكتمان، ولا حرج عليه إن شاء الله.
رأي الشيخ في المكتبات الخيرية
وسئل حفظه الله: ما رأيكم في المكتبات الخيرية خاصة وأن عليها من هم معروفون بالاستقامة والمنهج الصحيح، هل تخالف منهج السلف الصالح؟
فأجاب: سبحان الله!! لا يقول هذا عاقل، المكتبات الخيرية إذا كان القائمون عليها من أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يأتون بالمؤلفات المفيدة التي تتناول عقيدة السلف، وكذلك يأتون بما يرغب في الأعمال الصالحة وفي فضائلها، وكذلك يحثون على كتب الأخلاق، وكتب الآداب التي ترغب في الخير وتحذر من الشر فلا يقول عاقل: إنها تخالف منهج السلف. فالسلف دائما يحثون على كل ما يقوي الإيمان وعلى ما يكون سببا في زيادته.
تنظيم الزيارات، وتنظيم الرحلات بقصد الدعوة(1/78)
وسئل الشيخ وفقه الله -تعالى- نحن مجموعة من الشباب ندعو إلى الله، وعندنا مجلس خاص بنا نناقش فيه أوضاع الشباب المدعوين من تنظيم لزيارتهم، وتنظيم للرحلات الطويلة والقصيرة، مع وجود دروس خاصة بنا، وقد أنكر البعض علينا، مما أدى إلى تفرق كثير من الشباب، فهل هذا الفعل جائز أم لا؟
فأجاب: هذا العمل مفيد إن شاء الله -تعالى- ولا شك أن الشباب في هذا الزمان عندهم من الفراغ الروحي ما يجعلهم في حيرة من أمرهم، أو يميلون بسببه مع أدنى داعية إلى الشر والباطل، فلا جرم يتأكد جمعهم وتعاهدهم والحرص على حفظ أوقاتهم في دروس، أو رحلات، أو زيارات، أو نحو ذلك، ولا داعي إلى إنكار هذه الزيارة، التي هي من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، والمصلحة تقتضي مثل هذا المجلس الدوري، وإقامة هذه الدروس، وتنظيم هذه الأوقات، وترتيب الأعمال ومناقشة وضع الشباب الذين أصابهم كسل، أو تثاقل، رجاء أن يزدادوا نشاطا وأن يواصلوا عملهم، حتى لا يجتذبهم أهل الفساد والشر، فيصبحوا حيارى، أو ينجرفوا مع الضلال وأهله، فينقلبوا على أعقابهم، حيث إن الكثير منهم يعبدون الله على حرف، فمتى وفقوا لمن يثبتهم ويقوي عزائمهم، ويحثهم على المواصلة، استمروا في عملهم الصالح، والله الموفق.
أسلوب الوالد مع ولده في الدعوة
وسئل حفظه الله: حدث خلاف بين والدي وأخي الكبير، وذلك بسبب أن أخي يحلق لحيته، فطلب منه والدي بأن يرخي لحيته، وقال له: أنت قدوة لإخوانك، فكن قدوة لهم في الخير، ولا تكن قدوة في الشر.
ولكن أخي -هداه الله- لم يلبِّ طلب والدي، مما اضطر والدي بأن يستخدم معه أسلوب العنف والشدة والتهديد وقال له. لا ترى عيني عينك، ولا تسلم علي، ولا تدخل بيتي، وإن دخلت بيتي فسوف أحدث لك أمرا مكروها وستكون شماتة للناس. أما إذا أرخيت لحيتك فمنزلتك على العين والرأس.(1/79)
وسؤالي: ما رأيكم في أسلوب والدي في دعوة أخي، وما الأسلوب الأمثل في الدعوة في مثل هذه المسألة؟ وهل يجب على أخي تلبية طلب والدي في عدم دخول منزله؟
فأجاب: الأسلوب من الوالد فيه شدة وتنفير، وكان عليه أن يرفق به وينصحه، لكن لعله قد نصحه قبل هجره، ووبخه فلم يقبل، فجاء بهذا الفعل للزجر عن هذا الذنب، فأنتم انصحوا أخاكم رجاء أن يتوب ويعفي لحيته، ويطيع أباه ويطيع الله ورسوله، ويعود إلى حالته، فإن اعتذر أو شق عليه -كما يزعم- فانصحوا أباكم باستعمال اللين واللطف والرفق رجاء أن يتأثر الولد بذلك.
الإنكار على من يفعل المنكر في المجلس
وسئل سلمه الله: دعاني أحد إخوتي إلى وليمة في منزله، وأتيت أنا وأهلي، وعند جلوسي في مجلسه أشعل أحد المدعوين سيجارته، فطلبت منه أن يطفئها ولم يفعل، ثم أخبرت أخي بذلك، ولكن دون جدوى، فقمت من المجلس وأخذت أهلي مغادرا ذلك البيت، فعتب علي بعض الإخوة وقالوا: لماذا لم تخرج أنت فقط؟ لأن فعلك هذا يثير البلبلة والفتنة، فما رأي فضيلتكم في ذلك؟ وما المطلوب مني إذا دخن أحد، أو عمل أي منكر؟ سواء في بيت قريب أو صديق أو في بيتي؟ وهل علي إثم في ذلك؟ وما توصيتكم لمثل هؤلاء؟
فأجاب: إن التدخين حرام، كما أنه رذالة وهوان ومنقصة ومذلة، ولو عدوه رفعة وشرفا وفخرا، فإن أهل العقل والفضل قد اعترفوا بخسته وقبحه، فلا يجوز إعلانه، ولهذا فإن الدول الكافرة كأمريكا تمنع شربه في الطائرات التي مسافتها نحو ساعتين، والدول الراقية ومنها دولتنا -أيدها الله- تمنع شربه في الدوائر الحكومية، والواجب على المدخن أن يحترم أهل المجلس الذين هم أهل شرف ورفعة ونزاهة عنه، وقد يتضررون به، فإن لم يفعل فإن عليك هجر ذلك المجلس، والبعد عنه، ليشعر المدخنون بقبح فعلهم، وشناعة عملهم، ورجاء أن يمنعوا من المجالس العامة، فإن لم يمنعوا فلا بد من هجر صاحب المجلس حتى لا يقر المنكر أمام الناس والله أعلم.(1/80)
استخدام الكرة في الدعوة إلى الله
وسئل الشيخ أطال الله بقاءه: ما رأيكم في استخدام كرة القدم كوسيلة للدعوة إلى الله لجلب أعداد كبيرة من الشباب ؟ ومما لا يخفى على فضيلتكم اهتمام الشباب بهذه اللعبة.
فأجاب: هذه اللعبة يختلف القصد فيها، فمن الناس من يتخذها للنشاط والرياضة وتقوية البدن وتفتح الذهن، والتمرن على الحركة وإذهاب الكسل والخمول، فبهذا القصد تباح، بل قد يندب إليها حذرا من الضعف وانهيار القوى الحاصل مع الإخلاد إلى الأرض، ولزوم الفراش والسرير، والمركب الهنيء، الذي اعتاده الأكثر، فصعب عليهم العمل والسير والتقلب في الحاجات، فعلى هذا القصد لا مانع من اتخاذها كوسيلة دعوة للشباب، الذين يهوون هذا النوع من الرياضة، فإذا كان المجتمع كله جلوسا اعتراهم الملل والضجر، حتى يقوموا بمزاولة النشاط، وإعطاء النفس ما تهواه من هذا اللعب، ولو كان لهوا.
فأما من قصد من الكرة مجرد النظر ومشاهدة اللاعبين وتسريح الأنظار إليهم، وقضاء الوقت الطويل في التفكه والضحك عند مقابلتهم، دون أن يدخل في الميدان، ويقصد ما قصد الأولون، فلا أرى هذا سائغا، وهو ما يفعله الكثير من الذين يجلسون أمام التلفاز للتحديق نحو هذه المباريات.
وكذا ما يقصده الكثيرون الذين يحضرون هذه المباريات، جالسين على تلك المدرجات زمنا طويلا بدون أن يستفيدوا من زمانهم، وهذا هو إضاعة الوقت في غير فائد، والله أعلم.
أسلوب الدعوة في الأماكن المختلطة
وسئل الشيخ بارك الله في علمه: أنا طالب أدرس في كلية، يكثر فيها التبرج والسفور، وكثير من المنكرات -نسأل الله العافية- وكذلك تمتلئ هذه الكلية بكثير من الكفرة! والسؤال: كيف يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الكلية، رغم أن الكثير من الصالحين سلبيون في هذا المجال؟!(1/81)
فأجاب: لم يذكر هذا الطالب كيف هذا التبرج، مع أن بلادنا -ولله الحمد- ليس فيها جمع بين الطلاب والطالبات، بل لا تزال محتفظة بأن يجعل للطالبات مدارس خاصة من الابتدائية إلى ما فوقها، وللطلاب مدارس خاصة من الابتدائية إلى ما فوقها، فعلى هذا لا يوجد اختلاط ولا تبرج، ولكن يوجد تبرج في غير المدارس، وفي غير الكليات، وقد يوجد في بعض الكليات، أو المدارس النسائية مع أنه يأتي إليها موظفون من الرجال- للحاجة إلى ذلك- فالطالبات وكذلك المدرسات يؤخذ عليهن تعهد أن يحتفظن في المدرسة وخارج المدرسة بالحجاب، وأن يلتزمن بتعاليم الإسلام، وكذلك المعلمات كلهن من المسلمات وغير المسلمات يلتزمن بالعمل بتعاليم الإسلام، هذا فيما يتعلق بالمدارس.
أما إذا كان هذا الطالب مثلا ابتلي بأن يختلط بهؤلاء المدرسات، أو الطبيبات غير المسلمات، ويحتاج إلى أن يعاملهن بما يرغبهن في الإسلام ونحو ذلك، فإن عليه أن يظهر شعائر الإسلام ومحاسنه، ويشرحها لهن، ويبين أن الإسلام هو الدين الذي تتقبله العقول، والذي تشهد بحسنه الفطر، ويبين محاسنه ومساوئ الأديان الأخرى ونحو ذلك، ليكون ذلك سببا في تقبل هؤلاء غير المسلمات.
وقد يحصل الاختلاط في المستشفيات، والمستوصفات، ونحو ذلك! أو بعض الكليات الدراسية ككليات الطب، أو نحو ذلك.
فنقول: إن واجب المسلم أن ينكر ما يراه من المنكر الظاهر، ويبين وجه الإنكار، وإذا لم يستطع فإن عليه أن يرفع ذلك الأمر إلى من يستطيع لتبرأ به الذمة، ويسلم من العهدة.(1/82)
وأما ما ذكر أن هذه المدارس أو الكليات ككلية الطب مثلا، يحصل فيها اختلاط وتبرج وسفور وكثير من المنكرات، فإذا رأى منكرا في هؤلاء الكفار الذين يقومون بالتعليم، فعليه أن يذكرهم أولا بأنه أخذت عليهم العهود والمواثيق بألا يُظهروا شعائر دينهم ومعابدهم، وما يختص بها، وبألا يسبوا الإسلام، ولا ينتقصوا المسلمين، وألا يعملوا عملا يخالف تعاليم الإسلام، وعليه أن ينبههم على ذلك، وبهذا يغلبهم إن شاء الله.
وسائل أخرى في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
وقال الشيخ- حفظه الله- :
وإن من وسائل وطرق الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أولا: التواصي بالحق
فلا شك أنه من الواجب على كل مسلم بعد أن رزقه الله تعالى نعمة الإسلام، ووفقه للعمل به، فإن من واجبه أن يدعو إخوانه إلى الخير، وأن يحثهم على التمسك به، وأن يرغبهم في الثواب الآجل مع الثواب العاجل، ويحذرهم من نقمة ربهم وعقابه، فهذا و(3) كل مسلم.
وقد استدل العلماء على ذلك بسورة العصر؛ حيث حكم الله -تعالى- بخسران جميع الناس إلا من استثنى، فقال -تعالى- : ? وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ? أي أن كل الناس قد خسروا الدنيا والآخرة إلا هؤلاء الذين حققوا الإيمان، الذي هو الاعتقاد الصادق، وحققوا الأعمال الصالحة وأظهروها، وأصلحوا ما طلب منهم، ولم يقتصروا على أنفسهم، بل أوصوا غيرهم بما هم عليه: ? وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ? يعني الإيمان والعمل الصالح، وهذا التواصي يعم من كان قريبا أو بعيدا في النسب والمكان.
وهكذا المسلمون يوصي بعضهم بعضا، فالقريب تنصحه وتحثه على الخير، وتحذره من الشر، وتبين له طرق النجاة وسبلها، وتبين له الآفات التي في ضدها، وتحثه على أن يعمل بما يعلم، وتبين له آثار مخالفة العلم، وآثار المعاصي.(1/83)
أما المسلم البعيد، فإنك تراسله وتكاتبه، وتوصي من يذهب إليه، فإذا كان عامِيًّا أوصيته بما يناسب العوام، وإن كان من خواص أهل العلم أوصيته بما للخواص؛ فهذا تأمره بالعمل، وهذا تأمره بالتطبيق، وهذا تبين له ما يجهله، وهذا تنبهه على ما يغفل عنه، كلٌّ بحسبه، وهذا هو التواصي بالحق.
ثانيا: التواصي بالصبر
وهذا فيه إشارة إلى أن الذين يدعون إلى الحق ويعملون به، لا بد أن ينالهم شيء من الأذى، وشيء من التضييق عليهم والفتنة، ونحوها! فهذه سنة الله في عباده، حتى مع الرسل! فإنهم ابتلوا وأُوذوا، وكذلك أتباعهم في كل زمان ومكان، وذلك أنه لا بد أن ينالهم -إذا كانوا متحققين بالإيمان- شيء من الأذى وشيء من البلاء!
وهكذا واقع الكثير من الأئمة والعلماء في الزمن الماضي وفي كل زمان كما حصل للإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وأتباعهما، فمنهم من قُتل! ومنهم من حُبس! ومنهم من اضطهد! ومنهم من فُصل من عمله! ومنهم من أبُعد! ومنهم من أشهر بشهرة سيئة ظالمة! ومنهم من نشرت عنه نشرات خاطئة! وكل ذلك لم يصدهم عما هم عليه، بل صبروا وصابروا، وكانت لهم العاقبة.
وقد دل على ذلك قول الله -تعالى- : ? أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ?.
فكل من قال: آمنا لا يستبعد أن يفتن، لقول الله -تعالى- : ? وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ?.
يعني أنه يبتليهم، ويفتنهم؛ حتى يظهر معلوم الله فيمن كان صادقا ومن كان كاذبا!
ويقول -تعالى- : ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ? وهذا يقع كثيرا في الذين يتَّسمون بضعف الإيمان، فإذا أصابتهم فتنة أو نالهم أذى من الناس خافوا من الناس كخوفهم من الله!(1/84)
وعلى هذا فالذين ينالهم شيء من الحبس والأذى، والتخويف والتهديد، وأخذ الأموال وقتل الأولاد، وما أشبه ذلك ثم يصبرون ويحتسبون ويستمرون في الدعوة وبيان الحق، فهؤلاء هم صفوة الله الذين صبروا على هذا الابتلاء، وهم المؤمنون حقا، والعاقبة لهم : ? وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ? كما حقق ذلك لأوليائه، وكما دل على ذلك قوله -تعالى- : ? إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ?.
والله -تعالى- غني عن نصر عباده، ولكنه يبتلي العباد بهذه الدعوة، وبهذا الجهاد؛ ليظهر من يمتثل فيستحق الثواب، ومن يتكاسل فيستحق العقاب، ولو شاء الله لهدى الناس جميعا، يقول -تعالى- : ? لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ? فلو شاء الله لأظهر الحق، ولكنه يبتلي هؤلاء بهؤلاء، ليعظم الأجر لمن صبر، ولتقوم الحجة على من كفر.
ثالثا: التصدي لفتن هذا الزمان ومواجهة الكفار والمشركين حيث إننا ابتلينا بكثرة الفتن في هذه الأزمنة، وبكثرة الدعايات المضللة، فإن من واجبنا أن نتصدى لدحضها وردها، ولو نالنا ما نالنا من الأذى في ذات الله -تعالى-.(1/85)
لقد ابتلينا بالكفار الذين كفروا بعد إيمانهم كفرا صريحا! أما المعترفون بالخروج عن الإسلام كالنصارى، واللادينيين كالشيوعيين والدهريين، ونحوهم، فإنا نلاقي منهم مضايقات ومعاندات، ويظهرون التنقص للإسلام، والعيب للمسلمين، ورميهم بالضعف، وبالتأخر، والجمود والتقهقر لسبب الدين! فمثل هؤلاء نرد عليهم ردا عنيفا قويا إذا لم يؤثر فيهم الكلام اللين الذي أمرنا الله به في قوله -تعالى- : ? فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? وعلينا أن نبطل شُبَهَهُمْ التي يعيبون بها الإسلام وأهله، ثم نبين أن الفساد والشر والكفر فيما هم عليه من معتقدات واهية.
وقد ينخدع بهم بعض ضعاف الإيمان، فيجب أن نحرص على هؤلاء الضعاف، ونأخذ بأيديهم قبل أن ينخدعوا، ويتبعوا هؤلاء الذين ينعقون لهم؟ فيتبعونهم من غير تبصر، ومن غير معرفة وروية.
فإذا رأينا ضعاف الإيمان قد انخدعوا، وصاروا يمدحون الدول التي تدين بالكفر، ويصفونهم بأنهم أعلم، وأقوم، وأقوى! وأنهم اخترعوا وتقدموا، ونحو ذلك! وأنهم أهل الأمانة، والوفاء، والصدق، والمعاملة والعطاء، ونحو ذلك!! فإننا نقول: بل هم أهل الخيانة، والكذب والغدر... إلخ، وليسوا بأهل لشيء مما يمدحون به، والواقع يشهد بذلك.
كذلك نبين أن ديانتهم منسوخة، وأنها لا تفيد أهلها، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهؤلاء الكفار الذين ابتلينا بهم يدسون فيما بيننا الشبهات، ويشوهون ديننا، وينشرون عن ديانتهم وما هم عليه ما ينخدع به ضعفاء البصائر، فيجب أن نتنبه لهم ونواجههم.
رابعا: مواجهة أهل البدع
ولقد ابتلينا أيضا بمن هم أكثر شرا من المشركين، وهم أهل البدع، الذين يدعون أنهم مسلمون، وهم براء من الإسلام، والإسلام الصحيح براء منهم.(1/86)
ومن هؤلاء الفرق التي تنتسب للإسلام وتتسمى بأهله، كمن يسمون أنفسهم (بالشيعة)، الذين ابتلينا بهم وظهروا فيما بيننا على أنهم مِنَّا، وهم أعداء للإسلام، أينما كانوا من قديم الزمان، وقد انخدع بهم كثير من الناس، فاعتقدوا أنهم مسلمون، وأنه لا فرق بيننا وبينهم، مع المشاهدة الظاهرة للفرق الشاسع؛ فهم لا يُصلُّون مع المسلمين ولا جماعات أهل السنة، ولا يعترفون لأهل السنة بفضل!
ثم هم يسبُّون صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويضللونهم، ويكفرون أكابرهم كالخلفاء الثلاثة ومن تبعهم! كذلك يردون السنة التي رووها، ويطعنون في القرآن! ويتهمون الصحابة بأنهم خانوا في القرآن وكذبوا ونقصوا منه، ويؤولون القرآن على حسب أهوائهم، ويفسرونه بحسب ما يلائم معتقداتهم ومذاهبهم الباطلة! وكتبهم الضالة تشهد بذلك، وقد نقل عنها من قرأها من الأئمة وغيرهم شيئا من الفضائح التي تدل على بعدهم عن الحق، وبعدهم عن الإسلام.
فقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن كتاب لهم يقع في عشرين مجلدا: أنهم يقولون في قوله -تعالى- : ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ? قالوا: البقرة عائشة بنت أبي بكر -رضي الله عنها-!!
فما هذه العقول السخيفة؟ مع أن الآية خطاب لقوم موسى لِلَّهِ ومتى وُجدت عائشة حتى يقال: اذبحوا تلك البقرة؟!.
كذلك يقولون في تفسير قوله -تعالى- : ? تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ? أنهما أبو بكر و عمر !! وهذا من حقدهم على الصحابة، ونحوهم من أتباعهم.
وكذا قالوا في قوله -تعالى- : ? يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ? أي أبي بكر و عمر(1/87)
كذلك يفسرون قول الله -تعالى- : ? مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ? أن البحرين هما علي وفاطمة : ? يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ? أي الحسن والحسين!! ومن طرائفهم قولهم: إن من أحب أبا بكر و عمر فقد أبغض عليا ؛ لأنهما -في زعمهم- من أكبر الأعداء لعلي ولأهل بيته. ونحو ذلك مما سوَّله لهم الشيطان.
وهذه بعض المغالطات التي يتعلقون بها، فمثل هؤلاء يجب الحذر منهم، والبعد عنهم، ومعرفة خطرهم على الإسلام والمسلمين.
وقد انتشر مذهبهم، وصاروا يدعون إليه بالباطن على حين يظهرون أمام الناس أنهم على حق! مع أنهم يكتمون ما هم عليه من الديانة الخاطئة، ويسمون ذلك تقية، ويقولون: إن من لا تقية له لا دين له! فتلقى أحدهم يلعن الرافضة، ويلعن من يدين بدينهم، ولكن ظاهرهم خلاف باطنهم، فهم على ما هم عليه من الحقد والبغض، ومتى تمكنوا أظهروا ما يريدون وما هم عليه من باطل.
ولا شك أننا ابتلينا بهؤلاء، فعلينا أن نأخذ حذرنا منهم، وأن نحذر من مخالطتهم، ومن القرب منهم، حتى لا تنتشر بدعتهم كما انتشرت -للأسف- في كثير من البلاد الإسلامية بسبب مخالطتهم لأولئك الرافضة، فينشرون بدعتهم بسرعة بين أولئك العامة الذين ينخدعون بتسويل أولئك الرافضة ومواعيدهم، وما يبذلونه من المال الكثير لنشر بدعتهم.
ومن البدع المضلة بدعة الذين ينكرون صفات الله -تعالى- ويردون على أهل السنة في إثبات ذلك! وهؤلاء منتشرون أيضا في كثير من البلاد التي تنتمي إلى الإسلام، كالطائفة التي تسمى (الإباضية). فإذا التقينا بمثل هؤلاء وجب أن نظهر لهم البغضاء والحقد، ولو كانوا بجوارنا أو معنا في عمل، ونمقتهم على ديانتهم، ونسفه أحلامهم وأخلاقهم، ونرد عليهم ردا غليظا، ونظهر الحق أمامهم، ونبين أخطاءهم، ونطلب منهم أن يبينوا أخطاءنا فنجيب عنها.(1/88)
وهكذا بقية المبتدعة إذا ابتلينا بهم فإنه يجب أن نحذرهم، ونحذر من الافتتان بهم، حتى يظهر المسلمون سالمين في عقيدتهم، وفي أعمالهم، إن شاء الله.
خامسا: مواجهة أهل المعاصي والكبائر:
ولقد ابتلينا كذلك بالدعاة إلى المعاصي وكبائر الذنوب وصغائرها، فوجد من ينشرها، ومن يدعو إليها، ومن يحسنها لمن يقع فيها، ونحو ذلك! ولا شك أن هذا من وساوس الشيطان، فالشيطان حريص على أن تظهر هذه المعاصي والمخالفات في المسلمين؛ لأن المعاصي تنقص ثواب التوحيد، وتوقع أهله فيما يضعف إيمانهم، ويضعف تماسكهم، ومع هذا فإن الدعاة إليها كثيرون!!
فهذا مثلا يدعو إلى ترك الاحتشام، وإلى تبرج النساء، وخروجهن ومزاحمتهن الرجال، ويدَّعي أن في ذلك تحرير للمرأة!! وأن المرأة شقيقة الرجل، وما إلى ذلك من ادعاءات باطلة مردها إلى معتقداتهم الزائفة، فيسمع بعض الجهلة ذلك فيعتقدونه صادقا، فيمكِّنون نساءهم من الخروج متبرجات ومن مزاحمة الرجال، ويمكنونهن أيضا من الحرفة والاشتغال إلى جانب الرجل، ونحو ذلك! وفي ذلك نبذ للحياء، ودعوة إلى الفساد، وإلى الزنا أو مقدماته، أو الفتنة أو الوقوع في مقدماتها! وهؤلاء الدعاة يجب أن نتنبه لهم، وأن نرد عليهم بما جاء به الإسلام، فإنه جاء بحفظ المرأة وصيانتها عن أن تبذل نفسها لما يعرضها للفتنة، ولما يجعلها منتهكة العرض، خارجة عن وضعها الذي تتسم به وهو الحياء والاحتشام، وعلينا أن نبين وظيفة المرأة وما يُطلب منها، فبذلك تبطل شبهة هؤلاء الدعاة إلى هذه الضلالات.(1/89)
كذلك الدعاة إلى بقية المعاصي وما أكثرهم، يجب أن يُحارَبوا، وأن نبين لهم ضلال ما يدعون إليه وخطأه، فمثلا من يدعو إلى إباحة الأغاني، مع كونها محرمة شرعا، ووسيلة إلى الفساد وإلى وقوع الفاحشة والمنكر، وكذا من يدعو إلى نشر أسباب الدعارة، كنشر الأفلام الخليعة، والصور الفاتنة، والنظر إليها، الذي يسبب الافتتان وحب الشر، وإثارة الغرائز، وبعثها إلى الفساد وإلى الزنى ونحو ذلك.
وما أكثر الذين يدعون إلى هذه الأمور الفاسدة التي تفسد الأخلاق والأديان، فيجب أن ننبه إلى الذين يروجون تلك الأفلام الخليعة ويدعون إليها، ويبيعونها ويؤجرونها، ويجب أن يُبيَّن للمسلمين ما فيها من المفاسد حتى يحذروها.
وهكذا الذين يدعون إلى ترك شيء من العبادات كترك الصلوات، أو التخلف عن الجماعة، وما أشبه ذلك، ويدعون أنه لا فائدة في ذلك، أو أنهم متى أدوا الصلاة -ولو في البيت- أو أخروها عن وقتها، أو نحو ذلك، فإنه قد حصل المقصود منها!! فنبين للناس خطأهم حتى يحذروا من الزلل، والوقوع في الخطأ الذي يسبب الانسلاخ من الدين -والعياذ بالله-.
وهكذا نبين أيضا خطأ الدعاة الذين يدعون إلى بقية المعاصي، كبيرها وصغيرها؛ حتى لا يقع العامة فريسة دعايتهم المضللة، فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث الشريف: " لعن الله من آوى محدثا "(1) والمحدث هو العاصي والمذنب، وكل من يجرم جريمة، والذي آواه بمعنى نصره وأيده وقواه، وحال دون أن يؤخذ الحق منه، أو يقام عليه الحد أو يؤخذ منه القصاص، أو ما أشبه ذلك.
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم برقم (1978)-43، 44، 45. من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.(1/90)
ويدخل في ذلك الكثير من الذين يدعون إلى التمكين للمعاصي، كالذين يدعون إلى إقامة المسارح، وأماكن الدعارة في البلاد الإسلامية، ويدعون أنهم يحفظون بذلك أموالهم؛ كما يحكي الكثير أنهم قالوا: إن أولادنا يذهبون إلى البلاد البعيدة بأموال طائلة، فينفقون تلك الأموال في سبيل شهواتهم المحرمة من شرب الخمور أو الزنى. قالوا: فعلينا أن نمكن لهم في بلادنا حتى يعود ذلك بالخير علينا، ولا تذهب أموالنا لحساب الدول الأخرى.
ولا شك أن هؤلاء لا يريدون بهذا البلد خيرا، بل يريدون أن تكون هذه الدولة كسائر الدول التي ينتشر فيها الشر ويباح فيها الخمر، ويُعلن فيها الزنى ونحو ذلك -والعياذ بالله-.
فهذه وقاحة عظيمة، والذين يفعلون ذلك ويقولونه يُعتبرون ممن أحلوا ما حرم الله ودعوا إلى المحرمات -والعياذ بالله-.
وواجبنا في هذه الأزمنة أن نقوم مجاهدين لله، فنجاهد في الله حق جهاده؛ ليتحقق لنا النصر والتأييد الذي ذكره الله تعالى في قوله: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ?.
أمثلة للمعروف وأمثلة للمنكر
أكبر أمثلة المعروف والمنكر
سئل الشيخ وفقه الله لكل خير: نود من فضيلتكم أن تبينوا لنا بعض الأمثلة المهمة للمعروف، وبعض الأمثلة المهمة للمنكر، مع ذكر الدليل باختصار؟
فأجاب:
أكبر أمثلة للمعروف هو: توحيد الله -تعالى- وإخلاص العبادة له: فهو الذي بدأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- وبدأ الأنبياء بدعوة أُممهم إليه، فتأمر كل مسلم بعبادة الله -تعالى- وتوضح لهم معناها وأنواعها، وما يترتب عليها من الثواب والأجر، فتأمر بالإكثار من دعاء الله -تعالى- والرغبة فيما عنده، وخشية الله والخشوع له والاستكانة بين يديه، وتأمر بمحبة الله -تعالى- ومحبة عبادته وطاعته، واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- وتلاوة كتابه وتدبره، وما إلى ذلك من أنواع العبادة القولية والعملية.(1/91)
وأكبر أمثلة للمنكر هو: الشرك بالله: فإنه الذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة، لقول الله -تعالى- : ? إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ?.
وليس الشرك أمرا كان فبان، أو وقع وانقطع، بل هو موجود وكثير في من يتسمى بالإسلام، فواجب الموحد أن ينهى من وقع منه شيء من وسائل الشرك أو أنواعه، سواء كان شركا أكبر، أو أصغر، كالاستغاثة بغير الله، ودعاء الأموات، والاعتكاف عند القبور، وتحري الصلاة عند القبور، والدعاء عندها، وكالحلف بغير الله، والاستعاذة بغيره، وتسويته بالمخلوق في الألفاظ، نحو: هذا من الله ومنك، ولولا الله وفلان، وكتعليق التمائم والتعاويذ والأوتار، ومثل إتيان السحرة والكهنة والمشعوذين والمنجمين، وتصديقهم فيما يقولون، وكتعظيم المخلوقين فعلا أو قولا، ووصفهم بصفات الخالق، سواء أحياء أو أمواتا، كعلم الغيب، والتصرف في الكون، وكالتحاكم إلى غير الله، وتقديم القوانين وأحكام الطواغيت على حكم الله، وأمثلة كثيرة واقعية في الأمة، يجب النهي عنها وتغييرها.
ومن أمثلة المعروف أيضا: الصلوات المكتوبة: فإنها الركن الثاني من أركان الإسلام، وقد كثر التهاون بها، فتركها خلق كثير، وهم ينتسبون إلى الإسلام، وقد قال عمر -رضي الله عنه- لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة(1).
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (1/39) في الطهارة (51)، عن المسور بن مخرمة: أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: نعم. ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فصلى عمر، وجرحه يَثْعَبُ دمًا.(1/92)
كما أن الكثيرين قد تهاونوا بأدائها جماعة، وهجروا المساجد، أو أخروها عن وقتها، وتركوا الطمأنينة فيها، فخف قدرها في نفوسهم، فهي من أولى ما يعتني به المحتسب، ويهتم بالأمر به، لتحصل فائدتها المذكورة في قوله -تعالى- : ? إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ?.
ومن أمثلة المعروف: أداء الزكاة المفروضة: فهي حق الله في الأموال، وقد قاتل الصحابة مانعيها، وقد كثر البخل بها ومنع إخراجها، أو الاكتفاء ببعضها، أو المحاباة بها، رغم الحاجة إليها في المجتمع.
وهكذا من أمثلة المعروف: تلاوة القرآن وتدبره، والاعتناء به، والحرص على حفظه وقد كثر الإعراض عنه وهجره، والانشغال عنه بما لا أهمية له من سماع إذاعات، أو قراءة صحف، أو النظر في الأفلام والصور، مما يصد عن ذكر الله وعن تلاوة كلامه، ونحو ذلك، فترى أكثرهم لا يعرفون القرآن ولا يفهمونه، ولو كانوا من حملة المؤهلات العالية والمناصب الرفيعة.(1/93)
ومن أمثلة المنكر الظاهرة: كثرة السحرة والكهنة والمشعوذين الذين يستخدمون الشياطين، ويذبحون لهم ويطيعونهم، ويضرون بالمسلمين، بما يحصل منهم من الأعمال السحرية، وتسليط أوليائهم من الجن على الأبرياء الأتقياء، فمثل هؤلاء عقوبتهم القتل، لقوله في الحديث: " حد الساحر ضربه بالسيف "(1) وقد افتتن الناس بهم، وكثر الذين يأتون إليهم، ويصدقونهم، مع قول النبي -صلى لله عليه وسلم- :
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (1460). والحاكم في المستدرك (4/ 360) عن جندب -رضي الله عنه-. قال أبو عيسى: هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه، وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع: هو ثقة ويروي عن الحسن أيضا، والصحيح عن جندب مرفوعا، والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم، وهو قول مالك بن أنس. قال الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر، فإذا عمل عملا دون الكفر فلم نَرَ عليه قتلا. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وإن كان الشيخان تركا حديث إسماعيل بن مسلم فإنه غريب صحيح. ووافقه الذهبي. وانظر: نيل الأوطار للشوكاني (7/ 362، 363). وقال ابن كثير في التفسير (1/207): قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعا. وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 48).(1/94)
" من أتى كاهنا أو عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- "(1) والواجب نهيهم عن هذا العمل الشركي، ودعوتهم إلى التوبة، أو الرفع بأمرهم إلى من يقيم الحد عليهم.
ومن أمثلة المنكر الظاهرة: الاعتداء على حقوق المسلمين، على الدماء والأموال والأعراض فقد كثر أهل الظلم والعدوان.
فكم سفكت الدماء؟!
وكم نهشت الأعراض؟!
وكم سلبت الأموال؟!
وكم نسمع وقائع السرقة والنهب والسلب، وأخذ المال بغير حق؟
ولا شك أن ذلك كله بسبب ضعف الإيمان، وقلة الخوف من الله -تعالى- وغلبة حب الدنيا ومتاعها على الآخرة، والواجب نحو هؤلاء تخويفهم وتحذيرهم من العقوبة العاجلة والآجلة، وكذا الأخذ على أيديهم، وإقامة الحد الشرعي بالقصاص وقطع الأيدي، والتنكيل الذي يردعهم ويزجر أمثالهم.
ومن أمثلة المنكر الظاهرة: كثرة من يتعاطى المسكرات والمخدرات كالخمور والحشيش، وحبوب الكنغو، وشرب الدخان، وأكل القات، والنارجيل والشمة ونحوها، وقد تمكنت هذه الشرور واستشرى ضررها، وفتكت بالمجتمع، واستعملها الأعداء سلاحا فتاكا بالعقول، وقد انهمك فيها ضعفاء البصائر، والسفهاء من المسلمين، فأتلفوا أموالهم، وقضوا على معنوياتهم، وهؤلاء أولى بالشدة والحزم، والأخذ على أيديهم، وعقوبتهم بالقتل والجلد وذلك لقطع دابرهم.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/408، 429، 476). وأبو داود برقم (3904). والترمذي برقم (135). والدارمي (1/ 259). وابن ماجه برقم (639) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-. وصححه الحاكم، وقواه الذهبي، وقال الحافظ العراقي في أماليه: حديث صحيح. وقال الأرناؤوط في شرح السنة (12/ 182): إسناده قوي. وقال أحمد شاكر في سنن الترمذي (1/ 244) عند الحديث رقم (135): وهذا إسناد صحيح متصل.(1/95)
ومن أمثلة المنكرات الظاهرة: التبرج والسفور في النساء وذلك موجود وكثير في الأسواق والمدارس، والمستشفيات والحافلات، كما توجد صور النساء اللاتي هن شبه عاريات في الصحف والمجلات والأفلام، وقد سبب ذلك الافتتان، وانتشار الزنى ومقدماته، واختطاف الفتيات من الأسواق، ومن أبواب المدارس والعيادات، كما سبب كثرة المعاكسات والمغازلات سرًّا وجهرًا، بواسطة المراسلات، والاتصالات الهاتفية، وتحديد المواعيد، والاتفاق بين الجنسين على فعل الفواحش، ونتج عن ذلك انتشار بيوت الدعارة، وتمكن فاحشة الزنى واللواط ومقدمات ذلك، وأكثر الأولياء في غفلة من نسائهم وأولادهم، منهمكون في ملذاتهم وشهواتهم، فابتلوا في محارمهم بمثل تلك الجرائم، ولو حصنوا أنفسهم، واقتصروا على الحلال لحفظهم الله في أهليهم وأولادهم، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عفوا تعف نساؤكم(1) وفي الحديث:
" احفظ الله يحفظك "(2). فعلى من لَاحَظَ شيئا من هذا المنكر أن يغيره بحسب القدرة، وأن ينبه أهل الغفلة من الأولياء على ما وقع فيه أهلوهم، من الفساد ومقدماته.
ومن أمثلة المنكر الظاهرة: عقوق الوالدين، وقطع الأرحام، والتهاجر بين الإخوان والأقارب مع ما ورد في ذلك من الوعيد الشديد، فإن حق الأبوين كبير، ولذلك قال تعالى : ? أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ?.
__________
(1) أورده الهيثمي في المجمع (8/ 81، 138- 9/ 129). والمنذري في الترغيب (3/ 493). والهندي في الكنز (13012) و(13013).
(2) أخرجه الترمذي برقم (2516). وأحمد في المسند (1/ 293، 303، 307). والحاكم في المستدرك (3/ 541). والقرطبي (6/ 398). والطبراني (2/ 238). وأورده النووي في الأربعين النووية رقم (19). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (2669) و(2763) و(2804): إسناده صحيح.(1/96)
ومن المنكرات الظاهرة: حلق اللحى، وترك الشوارب وهو خلاف ما جاءت به السنة، وفيه التشبه بالنصارى والكفار، وليس فيه جمال ولا زينة.
ومن المنكرات: التكبر والاختيال الواقع في الكثير من أهل الثروات والمناصب الرفيعة، ومن تكبر على الله وضعه.
كما أن من المنكرات: الإسبال في اللباس وإطالة الأكسية، كالمشالح والسراويلات، والقمص، ونحوها، وفيه وعيد شديد يعرفه أغلب من يفعله.
ومن المنكرات: الإسراف في الولائم وإفساد الأطعمة، وبذل الأموال الطائلة فيما لا فائدة فيه.
وكذا الغيبة والنميمة، والحسد، والظلم، والكذب، وشهادة الزور، ونحو ذلك. والله أعلم.
أنواع من المنكرات وكيفية إنكارها
أولا: الإنكار على الأهل والأقارب والجيران
سئل الشيخ جزاه الله خيرا: ما أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأهل والأقارب ؟ وما أمثل الطرق لدعوة الأم والأب إلى فعل المعروف وترك المنكر وذلك دون إيذائهم؟
فأجاب: هذا يحتاج إلى نظر ورَوِيَّة، لأن الأبوين لا يقبلان غالبا النصح والموعظة من أولادهما، ولو كانت للولد منزلة عند الناس، وكم حكى لنا كثير من كبار العلماء حكايات لأبويه معه، وما كان يلقاه منهما من صعوبات لا يلقى مثلها من الجمهور والعوام، بل ولا من الكفرة.
فإن نصح أحد إخوانه المتطرفين(1) نهره أبوه بقوله: اخسأ ما لك ولهذا؟! هذا مع منزلته وشهرته عند الناس، لكن أباه وأهل بيته لا يعتبرون ذلك، بل يحتقرونه.
__________
(1) المتطرفون هنا بمعنى المخالفين لشرع الله، والمرتكبين لبعض المعاصي، فهؤلاء يقال عنهم متطرفون، أما إطلاق هذه الكلمة على المتمسكين بالدين والمتبعين لمنهج الله وما أمرهم به ربهم فهذا خطأ كبير، ولا نسمع هذه الكلمة إلا من أعداء الله في كل مكان، فيتهمون الدعاة إلى الله وأهل السنة بألفاظ سيئة مثل: متطرفون أو متشددون أو متنطعون، أو.. إلخ. فنسأل الله أن يرد عنا كيد الأعداء وأن ينصر الإسلام والمسلمين. والله أعلم.(1/97)
وأمثل أسلوب في هذا استعمال الكلمة الطيبة، وضرب الأمثلة والاقتصار على قراءة مواعظ غيره من المشايخ، فإن نهروه وزجروه قال: ليس هذا كلامي، هذا كلام المشايخ والعلماء الأولين، وهذا من مؤلفاتهم، وليس لي فيه شيء، وهذا شريط العالم الفلاني، فيكرر ذلك عليهم، ويسمعهم ما يتعلق بالمعاصي من التخلف عن العبادات، والتساهل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أولادهم وبيوتهم ونحو ذلك.
ومعلوم أن الأبوين يكون لهما شيء من الشفقة على أولادهما، ولو كان الأولاد فسقة أو عصاة، فيرونهم مُصرِّين على المعاصي من التخلف عن الصلوات، وسماع الأغاني، والمثول أمام الأفلام الخليعة الفاتنة، وتعاطي المسكرات والمخدرات، وشرب الدخان، والكلام السيئ والقبيح ونحوها فتغلبهم الشفقة فلا يغيرون فيهم، أو يمنعونهم عنها، فيتمرن الأولاد على ذلك، ويبقون عليه مدة من الدهر، ومع علم الآباء بهذه الفعلات من أولادهم نجدهم ينكرون نسبتها إليهم إذا علموا أنه سيترتب عليها سجن أو ضرب، أو استحقاق عذاب من الله -تعالى- فنرى أحدهم يشفق على ولده من ذلك فيقول: ابني ليس فيه كذا! ابني منزه عن كذا.(1/98)
وهذا الفعل منهما منكر، والحيلة في هذا أن نبين له هذا المنكر الذي عليه ولده، ويناقش فيه مسألة مسألة، حتى يثبت عنده أنه منكر، ثم يبين له بعد ذلك إثم السكوت على هذا المنكر، وأنه شريكه في الإثم والعقوبة، كما قال -تعالى- : ? وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ? وقال -صلى الله عليه وسلم- : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه "(1).
فإن لم يقبل من ولده ما يأتي به من النشرات والصحف، والكتابات والأشرطة ولم يتأثر بها وأصر على ذلك، فعلى الولد أن يأتي بغيره ممن ينصح أبويه، إما يتصل بهما هاتفيا، أو يأتي إليهما، ويحذر الأب من الإصرار على هذا المنكر.
واعلم أن أولادك أيها المسلم لا ينفعونك في الآخرة، وأنك ستستغني عنهم في الدنيا، وأن الله سيجعل لك فرجا ومخرجا، متى أنكرت عليهم ورددتهم إلى الحق، وجاهدتهم في الله وأرجعتهم إليه، وسيكونون قرة عين لك في الدنيا والآخرة.
وعلى كل حال يجب على المسلم أن يحرص على هداية أبويه، وبيان الحق لهما رجاء أن يقبلا منه فيهتديان إلى طريق الرشاد.
نصيحة للشباب الذين يلاقون مضايقات من أهليهم
وسئل وفقه الله: قد يجد بعض الشباب المتوجه للخير نوعا من المضايقة من أهاليهم، وذلك بانتشار كثير من المنكرات في المنازل، والتي تكون بإشراف صاحب السلطة في المنزل من أب أو أم أو نحوهما، فما توجيهكم لهؤلاء الشباب؟ وهل يلجئون لتغيير المنكر بالقوة؟
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4338). والترمذي برقم (2169) و(3059) بنحوه. وابن ماجه برقم (4005) بنحوه. وأحمد في المسند: (1/ 2، 5، 7، 9). قال الترمذي: في الباب عن عائشة وأم سلمة والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمر وحذيفة: وهذا حديث صحيح. وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند (1): إسناده صحيح. وقال الأرناؤوط في شرح السنة (14/ 344): إسناده صحيح.(1/99)
فأجاب: نصيحتي للشباب أن يلتزموا بالدعوة إلى الخير وإنكار المنكر بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، ويمكن توسيط أصحاب الوجاهات والمنازل الرفيعة لدى الوالدين للنصح لكن لا يغير المنكر بالقوة، لأن ذلك يؤدي إلى المعاندة والمكابرة من أصحاب المنكرات، وفي ذلك توسيع للفجوة بين أهل الخير وأصحاب المعاصي.
ثم على هؤلاء الشباب أن يكثروا من دعاء الله -تعالى- في جوف الليل أن يهدي الضال من أهليهم وأن يعيده إلى الصواب.
كما أنه يندب أن يظهر لأبويه كراهة تلك المنكرات وبشاعتها، وكذلك يهددهما بمفارقة المكان إذا لم يطهر من هذه المنكرات، ويحذرهما من عواقبها السيئة في الدارين الدنيا والآخرة، وكذلك عليه أن يطيع أبويه في غير معصية الله، ويحرص على برهما وصلتهما حتى ولو خرج من منزلهما، وذلك حق عام للآباء والأمهات.
زيارة الأقارب الذين عندهم منكرات
وسئل أثابه الله: لي أقارب منهم من يترك الصلاة ومنهم من يشرب الدخان هل أتركهم؟
فأجاب: عليك أولا: النصح وتكرار النصيحة لهم لعل الله أن يهديهم بواسطتك، ثم إذا مقتوك واستهزءوا بك واحتقروا نصحك، ولم يقبلوا منك، فهناك ينبغي أن تقاطعهم ولو كانوا أقارب، إذا كررت النصح وبقيت معهم عدة أيام أو عدة أشهر وما زادهم إلا عتوا ونفورا، بل احتقروك وازدروا نصحك ولم يتقبلوا منك، فلا بأس أن تقاطعهم.
ثم متى رأيت أنهم لانوا فيما بعد، أو ظننت أنهم تابوا أو رجعوا، فإنك تعود إلى صلتهم، وعليك أيضا أن ترسل من ينصحهم أو تهدي إليهم نشرات، أو كتيبات، أو رسائل، أو أشرطة فيها شيء من المواعظ، لعل الله أن ينفعهم بذلك.
الجلوس مع الأقارب الذين يشاهدون الدش
وسئل وفقه الله -تعالى- هل يجوز لي عدم زيارة بعض أقاربي، إذا كان في بيوتهم بعض المنكرات، كالتلفاز والفيديو، مما ابتلينا بهما في هذا الزمان؟(1/100)
فأجاب: إذا كانوا عند زيارتك لهم يغلقون هذه الأجهزة، أو يخفضوا الصوت فلا يسمع، فلا بأس بالزيارة، إذا كان فيها نفع.
أما إذا كانوا عند زيارتك لهم يرغمونك على حضور مجالسهم، وفيها بعض المنكرات كشرب الدخان أو المسكرات، أو الأفلام الخليعة، أو الصور الفاتنة، وخشيت أن تفتن نفسك، فعليك أن تهجرهم، ويكون ذلك محبة منك، وحرصا منك على سلامة دينك وعرضك، والله أعلم.
وسئل حفظه الله ورعاه: هل يجوز الجلوس مع الأقارب الذين يشاهدون الدش مع عدم الإقبال عليه وإغلاقه ؟
فأجاب: لا يجوز إذا كان يعرض فيه صور قبيحة، وأفلام فاتنة هابطة، تفتن وتوقع الإنسان في الشرور، أو تدفعه إلى اقتراف المحرمات.
ولا شك أن أجهزة الدش مجلبة شر، لأنها تجلب من بلاد الكفار وبلاد المشركين الذين يريدون فتنة المسلمين، يعرضون صورا قبيحة بشعة، تدعو إلى العهر وإلى الفساد، وإلى اقتراف الزنى واللواط، وفعل المنكرات والفواحش، فنصيحتنا بعدم اقتراب هؤلاء، وبعدم مجالستهم على هذا المنكر.
أما مجالستهم بغير استعماله فتجوز إن كان ذلك مفيدا بمنحهم نصائح، أو عرض مسائل علمية، أو بحث في فوائد دينية، أو تفسير آيات قرآنية، أو شرح أحاديث نبوية، أو أحكام فقهية، أو حكم عربية، تشغلون بها المجلس، وتشغلون أنفسكم عن الخوض في الأعراض والقيل والقال، وعن سماع الفكاهات والخرافات والحكايات الماجنة.
فأما إن جلس مع من يخوض في الدنيا وملذاتها ويتفكه بأعراض الناس، ويعيب أهل الخير، ويظهر المنكر، ويحرص على وصم أهل الدين بكل عيب فلا يجوز، ولو كانوا من الأقارب والزملاء، والله أعلم.
أنسب طريقة لإخراج التلفاز من البيت
وسئل حفظه الله: ما أنسب طريقة لإخراج التلفاز من البيت إذا كان الأطفال قد تعلقوا به ؟(1/101)
فأجاب: بالتدريج، فيقنعهم بإغلاقه أكثر الأوقات، ويشغلهم بشيء غيره، فيشغلهم مثلا بالنوم مبكرين في أول الليل، أو يشغلهم في أول الليل بحل واجباتهم المدرسية وما أشبه ذلك، ثم يطفئون الأنوار وينامون بعد العشاء أو نحو ذلك حتى لا يألفوه، وبالنهار ينشغلون بالدراسة وبحل الواجبات وما أشبه ذلك، فإذا انشغلوا عنه مدة، بعد ذلك يتسلون عنه، فحينئذ يغلقه عنهم مدة أو أياما طويلة حتى ينسوه أو يغفلوا عنه وينشغلوا بما سواه، وبعد ذلك يسلمون منه إن شاء الله.
الإنكار على أخت تسمع الأغاني
وسئل فضيلته: لي أخت تسمع الأغاني، ولديها أشرطة غناء كثيرة، وموضوعة في درج مغلق ولا يعلم عنها أحد غيري في المنزل، فماذا أفعل معها؟ وهل إذا نصحتها ولم تسمع النصيحة يحق لي كسر الدرج وإتلاف تلك الأشرطة؟
فأجاب: عليك تكرار النصيحة لها مرة بعد مرة، ثم إخبار زوجها بذلك، أو أبويها؛ لأن هذه الأغاني مدعاة إلى الزنى وفعل الفواحش، سيما إذا كان فيها تغنج وتلحين، واشتملت الكلمات على التشبيب والتعريض، بوصف الخدود والقدود، وإظهار الحب والعشق ونحوه.
أما تكسير الدرج فأرى أن لا تفعلي وحدك، بل أخبري أبويك أو بقية أخوتك، فلعل الجميع أن يجتمعوا ويكسروه، ويتلفوا ما فيه من أشرطة، مسموعة أو مرئية.
ثانيا: الإنكار على النساء
الإنكار على التي تلبس العباءة
بطريقة مخالفة للشرع
سئل الشيخ وفقه الله: هل يجوز الإنكار على المرأة التي تلبس العباءة بطريقة مخالفة للشرع ؟(1/102)
فأجاب: لبس العباءة للنساء مشروع، وهو من أسباب الستر والاحتجاب، وطريقة لبسها بالنسبة للمرأة أن تضعها على رأسها، وأن تكون ساترة تغطي ظهور قدميها، أو ترخيها على الأرض ذراعا أو شبرا، فقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذيل المرأة فقال: " يرخين شبرا، قيل: إذًا تبدو أقدامهن، فقال: يرخين ذراعا، ولا يزدن على ذلك "(1).
ولا شك أن هذا دليل حرص الصحابيات على التستر حتى للأقدام.
ولا شك أن العباءة من أسباب الستر للبدن كله ومنه الأقدام، وقد أمرهن الله بإدناء الجلابيب، في قوله: ? يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ? والجلابيب هي: الأردية التي تلتف بها النساء، أي تدنيه على رأسها حتى يستر جميع البدن، فإذا لبست المرأة العباءة ووضعتها على الكتفين، أو قصرتها حتى بدت القدمان، فقد خالفت مقصد الشرع من إرخاء الذيل ومن إدناء الجلابيب، فيلزم إنكار الهيئة عليها، سيما إذا دخلت الأسواق التي يحصل بها الاختلاط، فلا تُمكَّن من الدخول بهذه اللبسة التي تلفت النظر، والتي فيها تشبه بلبس الرجال للمشالح ونحوها.
الإنكار على التي اتخذت النقاب لزيادة الجمال ولفت الأنظار
وسئل حفظه الله: هل ينكر على المرأة التي تلبس النقاب أو البرقع خاصة إذا كانت واضعة للكحل ؟
فأجاب: كان النقاب والبرقع فيما سبق من الأكسية التي يقصد بها ستر الوجه، وتغطية محاسنه، وكانت فتحات العين ضيقة، إنما هي بقدر الحدقة للنظر، فلذلك لا تمنع المرأة المسلمة من لباسه لما فيه من الستر والاحتشام، وإنما ورد النهي عنه في الإحرام(2).
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4117)، والترمذي برقم (1731)، والنسائي برقم (5351)، و(5352) و(5353) و(5354)، وأخرجه ابن ماجه برقم (3580) و(3583). عن أبي هريرة وابن عمر وأم سلمة -رضي الله عنهم-.
(2) لحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين أخرجه البخاري برقم (1838).(1/103)
فأما الآن فقد اتخذت هذه الألبسة لزيادة الجمال ولفت الأنظار، حيث إن المرأة تبدأ بالاكتحال وتجميل العين والحاجب والوجنة والأنف بقدر ما تستطيع، ثم توسع ثقب النقاب، بحيث يبدو أغلب الأنف ويبدو الحاجبان والوجنتان فيلوح بياض ذلك، وسواد الحدقة وسواد شعر الأهداب وشعر الحواجب، مع زيادة تسويده بالكحل الشديد السواد، فيجتمع شدة السواد مع شدة البياض للأنف وما حوله مما يكون لافتا للأنظار وسببا في الافتتان بهن.
وقد يكون فعلهن عن عمد إذا أردن دخول الأسواق التي تكتظ بالرجال، فلا تسأل عما يحصل من النظر إليهن، ومتابعتهن، وما وراء ذلك، فأرى والحال هذه شدة الإنكار عليهن وإلزامهن، إما بستر الوجه كله بالخمار الساتر الصفيق، وإما بمنعهن وهن على تلك الحال من دخول المجتمعات، وإما بمنعهن من هذا الزي واللباس الخاص الذي أصبح رمزا لكل من أراد الفتنة والفساد، وإلزامهن بستر الوجه بالخمار المعتاد، ومنعهن من التجمل فيه بمثل ما ذكرنا، والله أعلم.
الإنكار على التي تلبسن الكعب الطويل أو الملابس المفتوحة
وسئل وفقه الله: إذا أنكرنا على النساء اللاتي يلبسن الكعب الطويل أو الملابس المفتوحة، ولكن لم يستجبن فما الواجب علينا كأعضاء؟
فأجاب: حبذا لو تحصلتم على أمر يمنعهن من دخول الأسواق بهذه الألبسة المفتوحة، أو الكعب الطويل؛ حيث إن هذه الأكسية تلفت الأنظار وتوقع الشباب في الاقتراب منهن، ويغلب على ظن من رآهن كونهن من المومسات، وإذا قدر أنهن من أهل التعفف والصيانة والتحفظ فإن هذا اللباس تقليد منهن للمومسات، ودفع للشباب إلى ملاحقتهن والافتتان بهن.(1/104)
فإن لم تحصلوا على أمر يمنعهن فعليكم التخاطب مع أوليائهن، حيث إن الكثير منهن معها أحد محارمها: من زوج أو أب أو أخ، وتأمروه بمنعهن من هذا الزي الفاتن وإلا أخرجناه معهن من هذه المجتمعات، ومتى لم يكن معهن محرم فلكم مخاطبتهن بمشهد وبدون خلوة، ونصحهن عن هذا الزي الفاتن، وتهديدهن بالإيقاف والمنع من التجول في الأسواق، رجاء أن يحتشمن ويتوقفن عن مثل هذا اللباس الفاتن، والله أعلم.
السن المحدد الذي يجب به على المرأة لبس الحجاب
وسئل وفقه الله: ما السن المحدد الذي يجب به على المرأة المسلمة لبس الحجاب وعدم الظهور أمام الرجال الأجانب؟ لأننا إذا أنكرنا على بعض الفتيات قال لنا أولياؤهن: إنهن صغيرات في السن؟
فأجاب: السن المحدد للفتاة هو تمام تسع سنين، فإن الكثير من الفتيات تبلغ إحداهن وهي في العاشرة، فتأتيها الحيضة وتحسب قد بلغت، ومع ذلك يتساهل أهلها ويتركونها بدون تكليف، وهي قد وجبت عليها الصلاة والصيام، فكذا يلزمها الحجاب، وذلك لأنها بلغت مبلغ النساء، فلو تزوجت في ذلك السن لحملت إذا قدر الله ذلك.
فقد ذكر الشافعي أنه رأى امرأة سنها إحدى وعشرون، وقد صارت جدة(1) وقد قالت عائشة -رضي الله عنها- : " إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة "(2) أي عليها ما يلزم النساء، وإن كنا لا نلزمها بالتكاليف إلا بعد البلوغ، وهو الحيض، أو الإنبات، أو الاحتلام، ولكن معلوم أنها إذا كانت شابة حسنة المظهر قوية الشباب، فإن الفتنة تحصل برؤيتها وبظهورها، ولو كانت في السن العاشرة أو نحوها.
__________
(1) نقله عنه جماعة من أصحابه، وقيل إنه رآها بصنعاء، قالوا: وهذا رآه واقعا. فدل على أنها حملت لدون عشر، وكذا بنتها.
(2) ذكره الترمذي عند الحديث رقم (1109). وروي عن ابن عمر مرفوعا.(1/105)
فعلى أولياء الأمور أن يحرصوا على حجب بناتهم في هذا السن وعدم التساهل في ذلك؛ سواء كان خروجها للدراسة أو للزيارة، أو للبقالة، وسواء كانت ماشية، أو راكبة، وسواء كانت وحدها، أو مع غيرها، فإن الفتنة تحصل في جميع ذلك، وقد تكون لجهلها أقرب إلى الانخداع والانجذاب لمن دعاها وأشار إليها لفاحشة، أو خلوة محرمة، والله المستعان.
أمر المرأة بتغطية الوجه مع ما في ذلك من خلاف
وسئل عفا الله عنه: بعض أعضاء الهيئة يأمرون النساء اللاتي من غير هذه البلاد بتغطية الشعر فقط، وإذا سألته: لماذا لا تأمرها بستر سائر جسدها بما في ذلك الوجه؟ قال: إن تغطية الوجه مسألة خلافية!! علما أن الوجه هو محل زينة المرأة، وإذا فتح المجال للنساء ستكون هذه الظاهرة سببَ التبرج.
فأجاب: الخلاف في الوجه ضعيف، وإنما خالف فيه أهل الأهواء الذين يحبون هذا التكشف، ويودون ظهور التبرج، وقد انخدع بهم بعض العلماء الذين أرادوا مجاراة الواقع، والتنزل على ما يحبه الناس ويميلون إليه.
والواجب على أعضاء الحسبة إلزام كل امرأة بستر وجهها سواء مسلمة أو غير مسلمة، وسواء كانت في المطاف أو المسعى أو الأسواق، أو غير ذلك، فإن الأدلة صريحة في وجوب ستره، كقوله -تعالى- : ? وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ? أي تدلي خمارها من رأسها إلى جيبها بما في ذلك الوجه. وقوله : ? يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ? أي يسترن أبدانهن كلها بالجلباب، والأدلة من السنة واضحة، والله أعلم.
نصح المرأة التي تركب مع السائق
وسئل وفقه الله: هل يجوز لعضو الهيئة نصح المرأة التي تركب مع السائق وحدها ؟ أم يجب إحضار ولي أمرها للتفاهم معه؟(1/106)
فأجاب: ركوب المرأة مع السائق وحدها ذريعة إلى فعل الحرام أو القرب منه، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما "(1). فمتى رأى العضو امرأة أوقفت سيارة لتركب فيها، أو رأى رجلا وقف عند امرأة أجنبية منه ليحملها، فله نصح كل منهما والسعي في منع هذه الخلوة، سيما إذا ظهر من كل منهما ما يوحي بالفاحشة وجريمة الزنى، ولا حرج عليه إذا رأى المرأة على ذلك أن يكلمها قبل الركوب، ويأمرها أن تنتظر إلى حضور وليها، فإن خاف أنها تبهته وترميه بالمراودة وتكذب عليه فلا يكلمها، إلا ومعه غيره ممن يشهد له بما يقول، وقبل ذلك يكلم صاحب السيارة وينصحه ويلزمه بترك إركاب المرأة وحدها، وأنه لا يجوز ذلك لما فيه من إساءة الظن ولُحُوق التهمة، وأما إذا اضطرت المرأة إلى دخول المستشفى أو السوق لحاجة، فإن عليها أن تستصحب إحدى جاراتها أو رفيقاتها لتزول الخلوة.
ضبط حالة اختلاء بين رجل وامرأة
وسئل وفقه الله: ما الواجب على عضو الهيئة إذا تم ضبط حالة اختلاء بين رجل وامرأة أو امرأة مع رجال أجانب ؟ هل يستر عليهم؟ أم يتم رفعهم لولي الأمر؟ خاصة إذا لم يقعوا في الفاحشة؟
__________
(1) جزء من حديث أخرجه الترمذي برقم (2165). وأحمد في مسنده: (3/446). من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-.(1/107)
فأجاب: أرى أن الحال تختلف بالنسبة إلى المقبوض عليهم، فإذا كان الرجل سيماه الخير وكلامه حسن واعتذر بعذر مقبول، بأنه أحسن فيها، وأركبها رحمة بها، ولم يكن له نية سيئة، أو ظهر من معرفته ما يدل على أنه لأول مرة، وأنه أخطأ في ذلك واعترف بالذنب، وتعهد أن لا يعود، وعرف من المرأة أنها غافلة ولا نية لها في فعل منكر، فأرى أن العفو عنهما أولى، ويدخل الساتر تحت قوله -صلى الله عليه وسلم- : " من ستر مسلما ستره الله "(1).
وقال -تعالى- : ? فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ? وفي الحديث: " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم "(2).
__________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري رقم (2442) و(6951). من حديث عبد الله بن عمرو -رضى الله عنه-. وأخرجه مسلم برقم (2580) من حديث سالم عن أبيه -رضي الله عنهما-. وأخرجه مسلم أيضا برقم (2699) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ: ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة
(2) أخرجه أبو داود برقم (4375) وأحمد في المسند (6/ 181). وابن حبان في صحيحه (1520) والبخاري في الأدب المفرد (465) عن عائشة -رضي الله عنها-. وللحديث شواهد كثيرة. وقد صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (362). وفي السلسلة الصحيحة (638). وقال الأرناؤوط في شرح السنة (10/ 330): حديث صحيح.(1/108)
أما إذا كان ذلك الرجل عليه آثار السوء، من حلق اللحية، والتمايل في المشية، وشرب الدخان، والكلام الدنيء، وكذا إذا تكرر منه الغزل والمعاكسة، ووجدت معه امرأة لا صلة له بها، ولا صداقة دينية، ولا قرابة، وقد خلا بها وتوجه بها إلى منزله أو إلى البرية للفجور، وكانت أيضا من المتبرجات الفاتنات اللاتي يدخلن الأسواق لعرض أنفسهن، وللدعاية إلى الفاحشة، فمثل هؤلاء لا يجوز الستر عليهم ولا الصفح عنهما، للجزم بأنهما من ذوي العادات السيئة، وأن ذلك قد تكرر منهما، وأن التعهد لا يزيدهما إلا تماديا في السوء، فمثل هؤلاء يلزم برفعهم إلى المراكز التي تنفذ فيهم ما يردعهم ويردع أمثالهم من أهل الفجور، ويكون سببا في قطع دابر الفساد والمفسدين، والله أعلم.
ثالثا: الإنكار في الأسواق والأماكن العامة والإنكار على بعض الأشخاص
الإنكار في الأسواق باللسان
سئل فضيلة الشيخ: فكّرت أنا وبعض الإخوة على أن نخرج بعض الأيام إلى السوق، وذلك لإنكار المنكر باللسان، فما رأيك في هذه الفكرة؟ وهل تنصح الإخوة بتطبيقها؟
فأجاب: تغيير المنكر مأمور به في كل حال سواء في الأسواق أو في الطرق أو في المجتمعات أو نحو ذلك؛ لعموم قوله -صلى الله عليه وسلم- : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه... "(1) الحديث.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.(1/109)
ولا شك أنه إذا كانت عنده استطاعة على أن يقنع أهل المنكر بما هم عليه، وأن ينصحهم، وأن يأمرهم بالكف عن إظهار ذلك المنكر؛ سواء كان المنكر سماعا كغناء، أو فعلا كالدخان، وكالتبرج، أو لمس النساء الأجنبيات أو الاحتكاك بهن، أو الاختلاط بين الرجال والنساء ونحو ذلك، كما هو موجود بالأسواق، فإذا كان عند الإنسان قدرة واستطاعة على أن يزيل ذلك أو يخففه فعليه أن يفعل، وعليه أن يستعمل مع ذلك الحكمة، وأن يتكلم بلين ولطف، وأن لا يتمادى بما يسبب تشويشا، أو بما يسبب شيئا من المشاغبات التي يحصل منها شقاق ونزاع ومضاربة وشيء من التناوشات ونحوها؛ بحيث تكثر وتكبر المسألة، فليقتصر على مجرد النصح والتخويف، وإذا لم يستطع إنكار المنكر بلسانه فعليه أن يغير بقلبه، ومن الإنكار بالقلب أن يخبر من هو قادر على تغييره باليد أو نحو ذلك، والله أعلم.
هل يجوز أن نتلف أشرطة الغناء والفيديو؟
وسئل أثابه الله ورزقه الجنة: هل يجوز أن نتلف أشرطة الغناء والفيديو التي تعرض المحرمات ؟ وهل يجوز هذا لكل أحد؟
فأجاب: هذه أشياء جديدة لم يتكلم فيها العلماء، ولو ظهرت في زمانهم لقالوا بإتلافها، لكن الأشرطة في العادة يمكن الانتفاع بها، وذلك بتسجيل شيء نافع عليها، كتسجيل القرآن والأحاديث أو غير ذلك، فإتلافها إفساد لمال يمكن الانتفاع بها. وكذلك أشرطة الفيديو أيضا يمكن أن يصور عليها شيء ينفع ويستفاد منه، وعلى هذا نقول: أنه لا يجوز إتلافها ما دام أنه يمكن الانتفاع بها.
الإنكار على أصحاب محلات التصوير الفيديو
وسئل حفظه الله: ما الواجب تجاه أصحاب استديوهات التصوير وأصحاب محلات الفيديو الذين يقومون بتعليق الصور على واجهة المحل؟(1/110)
فأجاب: عليكم نصحهم وتخويفهم وتحذيرهم من هذه الدعاية إلى الفتنة، فإن ذلك من الدوافع إلى اقتراف المنكر، فإن هذه صور محرمة، ثم هي على شكل امرأة واقفة كاملة الخلق، أو ناقضة الرأس، ولكنها فتنة لكل مفتون، فهي مما يثير الغرائز ويدفع إلى ارتكاب الفواحش، ومتى أصروا على استعمالها وقصدهم الدعاية إلى أماكنهم فلا بد من رفع أمرهم إلى ولاة الأمر لإزالة هذا المنكر، والله أعلم.
هل تبرأ الذمة عند رؤية منكر بالكتابة للهيئة
وسئل وفقه الله: هل تبرأ الذمة عندما نرى منكرا من المنكرات في المحلات العامة بالكتابة للهيئات والمسؤولين فيها ؟ أم يجب علينا الإنكار حالا على قدر الاستطاعة؟
فأجاب: لا شك أن المحلات العامة غالبا يكون المنكر فيها بارزا للعيان، يراه الخاص والعام، وذلك كالصور المجسمة المنصوبة في المعارض، كدعاية لبعض الأكسية، ومثل رفع صوت الأغاني بواسطة التلفاز وأشرطة الفيديو، وقد يكون خفيا كالسفور والتبرج عند خلوة المرأة بصاحب المعرض وحصول كلام رقيق ومعاكسة إلخ.
فأما البارز الظاهر فإن صاحبه يعرف حكمه، وقد أنكره عليه كثيرون، ولكنه متأول فتبرأ الذمة بإخبار أهل الحسبة وإبلاغهم كتابة أو مكالمة، ولا يكفي ذلك عن نصح صاحب المحل وتكرار نهيه مرة بعد مرة، رجاء أن يتأثر ويرتدع، أو يكون جاهلا بالحكم وانخدع بإقرار الجماهير.
وأما الخفي من المنكرات فلا بد من الإنكار من كل من رآه والتشديد عليه ومراقبته وتحذيره من العقوبة الرادعة، ثم إخبار أهل الحسبة بذلك، وهنالك تبرأ الذمة إذا رفع الخبر إليهم مرة بعد مرة، والله أعلم.
حكم إجابة الدعوات التي فيها بعض المنكرات
وسئل وفقه الله -تعالى- ما حكم إجابة الدعوات التي يحصل فيه بعض المنكرات مثل المراويس والطبول علما بأن الداعي إلى حضورها من المقربين، وفيها تلك المنكرات؟(1/111)
فأجاب: لا يجوز إجابة مثل هذه الدعوة مع ظهور هذه المنكرات، وكذا إذا ظهر شرب الخمور أو الدخان، أو الأفلام الخليعة، أو الاختلاط بين الرجال والنساء، أو التبرج والسفور، لكن إذا كنت قادرا على إزالة المنكر أو تخفيفه، أو إذا حضرت احترموك وتركوا هذه المنكرات فعليك الحضور لذلك، وإلا فلا تحضر ولو كان من الأقارب إلا بشرط إزالة المنكرات.
هل ينكر على من حضر المنكرات ولم ينكر
وسئل حفظه الله ورعاه: هل ينكر على من حضر إلى تلك المنكرات ولم يحصل منه إنكار وقد تكرر حضوره إلى تلك الأماكن عدة مرات؟
فأجاب: ينكر على من حضرها وأقرها، فإن ذلك من إقرار المنكرات، وسواء تكرر حضوره أو لم يتكرر، فلا يجوز حضور مثل هذه المنكرات إلا بشرط إزالتها أو الإنكار على أهلها، أو البعد عنها.
حكم من حضرها ولم ينكر وادَّعى الجواز
وسئل جعله الله في المهديين: إذا كان المدعو يحضر إلى تلك المنكرات؛ ولم يحصل منه إنكار، علما بأن عنده علم جيد، هل لنا أن ننكر عليه، حيث إنه يقول: هناك فرق بين السماع والاستماع، وهذا الكلام كما تعلمون ليس عليه دليل، فهل يترك هذا الشخص على ما هو عليه؟ أم لا بد من مناصحته إبراءً للذمة؟
فأجاب: من حضرها ولم ينكر، وادَّعى الجواز، واحتج بأن هناك فرقا بين الاستماع والسماع فلا حجة له، بل عليه أن ينكرها إذا كان معه علم وقدرة على إبطال شبهتهم، وعليكم الإنكار عليه، وتحذيره من الإقرار على المنكرات ولو بالبعد عنها، وعدم المداهنة لأهلها، ولو كان من ذوي القربى، والله أعلم.
حكم الملابس التي بها صور أو عبارات مخالفة
وسئل وفقه الله: يلاحظ على بعض الملابس التي يلبسها الأطفال صور أو عبارات مخالفة أو صور للصلبان فما واجب هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذلك؟(1/112)
فأجاب: يجب الإنكار على من لبسها، أو اقتناها، أو أوردها إلى بلاد الإسلام، ولو كانت للأطفال، فإن في إعلانها إظهار للشعائر الكفرية كالصلبان، وإظهار للمحرمات كالصور الحيوانية، وفي الحديث : " لا تدع صورة إلا طمستها "(1).
ولا شك أن رجال الحسبة هم المسئولون أولا عن إزالة هذه المنكرات، والقضاء عليها، لكن بقية المواطنين، سيما أهل العلم والصلاح والدين والمعرفة عليهم أيضا مسئولية إزالة هذه المحرمات، إما بالنصح لمن أوردها، وإما بالرفع لمن يزيلها.
أما إذا سكت الجميع وأعلن بيعها فإن ذلك إقرار للمنكر، وهو لا يجوز، ويخاف أن تعم العقوبة للجميع، والله أعلم.
عمل الشباب في المحلات التي لا يدخلها إلا النساء
وسئل حفظه الله: هل يجوز أن يعمل الشباب الذين أعمارهم لا تتجاوز الثلاثين في المحلات النسائية، التي لا يدخلها إلا النساء ؟ ثم ما الشروط التي ترونها -أثابكم الله- لمن عمل في هذا العمل الخطير؟
فأجاب: ننصح الشباب الذين دون الثلاثين عن العمل في ما يغشاه النساء، أو ما يحصل به اختلاط أو ما يستدعي مخاطبة النساء ومقاربتهن، كمحلات الأقمشة أو الذهب أو حوايج النساء التي يغلب شراؤهن لها، وما ذاك أن رؤية المرأة فتنة، ولو كانت محجبة، فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صرف بصر الفضل بن العباس عن النظر إلى تلك المرأة التي تسأل عن حج أبيها، وقال: " رأيت شابا ينظر إلى شابة فلم آمن أن يتدخل الشيطان بينهما " أو كما قال(2) مع أنها متحجبة ساترة وجهها وكفيها كما هي عادة نساء العرب، لكن النظر في هيكلها وقدها وطولها، أو قصرها وجرمها مع سماع كلامها من دواعي الفتنة.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (969). عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بلفظ: أن لا تدع تمثالا إلا طمسته.. وأخرجه النسائي برقم (2530)- (89/4) بلفظ: ولا صورة في بيت إلا طمستها
(2) أخرجه الترمذي برقم (885). وقال: حديث حسن صحيح.(1/113)
وقد ثبت : " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خرج ليلا مع صفية ليقلبها إلى منزلها فمر به رجلان فأسرعا، قال: على رسلكما إنها صفية ثم قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا "(1) مع أنها متحجبة، ولكن الخلوة بالأجنبية مظنة السوء.
ولا شك أن الشباب عندهم من الدوافع الغريزية غالبا ما يحصل به اندفاع نحو المعاكسة والكلام في العورات وذكر الاتصال الجنسي، مما يسبب ثوران الشهوة عند الجنسين، ولا يؤمن حصول مفسدة، فالأولى أن لا يكون في تلك الأماكن أحد من الشباب، سيما العزاب الذين تشتد بهم الغلمة غالبا، وأن يصرفوا في أماكن تناسبهم، والله أعلم.
الإنكار على أصحاب المحلات الذين يعملون بعد النداء الأول للجمعة
وسئل حفظه الله -تعالى- هل يجوز الإنكار على أصحاب المحلات التجارية الذين يعملون بعد النداء الأول للجمعة ؟ علما أننا نرى بعض الباعة يبيعون السواك عند الجوامع إلى بدء الخطبة، فهل هذا العمل جائز؟
فأجاب: نعم ينكر على أصحاب المحلات، ويؤمرون بإغلاق أسواقهم بعد النداء الأول، حيث إنه نداء لكل المكلفين بالصلاة أن يتأهبوا أو يستعدوا للصلاة، فإنهم بحاجة إلى الذهاب لبيوتهم للطهارة والاغتسال واللباس ونحوه، وهذا يستدعي وقتا في الذهاب والرجوع والعمل وهو الذي لأجله شرع النداء الأول.
ولا شك أن اشتغالهم إلى الأذان الثاني يفوت عليهم الخطبة أو بعضها أو بعض الصلاة غالبا، وهو أيضا فتح لأبواب التهاون بالصلاة، فإن الناس إذا تمادوا في حِرَفهم وأعمالهم وصناعاتهم حتى الزوال فاتتهم الصلاة أو بعضها غالبا.
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم (2470) وابن ماجه برقم (1779). عن صفية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-.(1/114)
فأما باعة السواك عند أبواب المساجد، فالغالب أنهم قد تطهروا، ولبسوا ثياب الصلاة، وأعدوا أنفسهم للصلاة، ولم يجلسوا هناك إلا بعد الأذان الأول عرضا لهذه المساويك على المصلين الذين إنما يتوافدون غالبا بعد النداء الأول، فهم يجلسون عند الأبواب، فمتى نودي للصلاة النداء الأخير طووا متاعهم ودخلوا المسجد فورا، فلا يفوتهم شيء من الصلاة، بخلاف أهل الأسواق الذين يجلسون في متاجرهم ومصانعهم من الصباح، فإنهم لا يستغنون عن الرجوع إلى منازلهم للاغتسال ونحوه، فمتى استمروا إلى الأذان الأخير فات عليهم الاغتسال أو الطهارة التامة، أو معظم الخطبة، فعليكم تكليفهم بالخروج وإغلاق المحلات، والله أعلم.
الإنكار على الشباب الذين يلعبون الكرة وقت الصلاة
وسئل حفظه الله: ما حكم من رأى بعض الشباب يلعبون الكرة أمام المسجد والإمام يصلي بالناس صلاة المغرب، فنصحهم بالصلاة فلم يستجيبوا له؟ وما حكم من رآهم يلعبون ولم ينكر عليهم ذلك؟
فأجاب: الكل على خطأ، ينظر في حال هؤلاء الشباب إذا كانوا قد بلغوا سن التكليف، يعني من العاشرة فما فوق، وجب ضربهم، ووجب تأديبهم ومنعهم عن اللعب وقت الصلاة، والانشغال عن الصلاة، وإذا كانوا دون سن البلوغ أي دون العاشرة، فعلى كل من مر بهم أن ينصحهم، وعلى جماعة المسجد إذا مروا بهم أن يحذروهم، وأن يحذروا آباءهم، وأن يتعاونوا جميعا على منعهم من اللعب وقت الصلاة، فإذا عجزوا عن ضربهم أو تأديبهم ومنعهم من اللعب وقت الصلاة فعليهم أن يتَّصلوا بأهل الحسبة والهيئة ليساعدوهم على ذلك.
الإنكار على العمال الذين يعملون وقت الصلاة
وسئل أثابه الله: أحيانا أمُر في طريقي إلى المسجد ببعض العمال الذين يعملون في البناء، فهل علي أن آمرهم بالصلاة؟ أم لهم الحق بالعمل ما دامت الصلاة لم تقم بعد؟(1/115)
فأجاب: عليك أن تأمرهم، وذلك لأنهم بعد الأذان يؤمرون بالتأهب، بخلع ثياب العمل مثلا، ولا بد أن يتنظف مثلا، ويستعد للصلاة، فالواجب إيقافهم بعد الأذان وإيقاف الأعمال حتى يؤدوا الصلاة، وبعد الصلاة يعودوا لعملهم، والصلاة لا تتجاوز نصف ساعة أو قريبا منها، وهذا لا يعطل العمل كما يظنه البعض، وإنما هذا من وسوسة الشيطان لهم، والله المستعان.
الوقوف أمام المحلات وقت الصلاة
وسئل وفقه الله: الصلاة أمرها عظيم، وهي الركن الثاني بعد الشهادتين، فما الواجب تجاه من يجاهر بالوقوف أمام المحلات وقت الصلاة ؟ أو من استمر في أداء عمله دون مراعاة لهذه الشعيرة؟ وإذا تكرر منه ذلك التقصير فما الواجب تجاهه شرعا؟
فأجاب: لا بد من الإنكار عليه وتكرار أمره من كل من رآه واقفا بعد الأذان أو بعد الإقامة، أو رآه في متجره أو في حرفته، أو في ملعبه أو في سيارته، فالإنكار عليه قد يسبب له الخجل والاستحياء من الناس فلا يبقى هناك، سواء توجه إلى المسجد أو إلى غيره، فإن استمراره في الوقوف أو في العمل منكر يجب إنكاره ولا خلاف، ولا خوف على من أنكر عليه، والتعاليم العامة تمنع من فعله الذي هو الترك الظاهر لهذه الشعيرة من شعائر الدين.
ثم إن الواجب على رجال الحسبة إذا تكرر منه العمل وقت الصلاة أن يعاقب بما يردعه، من إغلاق بابه أو سجنه أو جلده، حسب ما لديهم من التعليمات والصلاحيات، فمتى ظهر من أحد المسلمين ممن يعاند في الصلاة رفع بأمره إليهم، لإجراء ما يستحق من العقاب.
وأما الكفار فالواجب منعهم من العمل الظاهر وقت الصلاة، ووجوب إغلاق الأماكن وتوقيف الأعمال وقت الصلاة، ولو كانوا كفارا، كما يجب أن لا يقفوا في الطرق ولا أمام المساجد والناس يصلون، بل إما أن يكتنوا داخل بيوتهم، أو يسيروا في سياراتهم، حتى لا يُقتدى بهم في أفعالهم، ومن خالف وعاند فهو يستحق الجزاء الرادع، والله أعلم.
دور الهيئة نحو رجل لا يصلي ولا يشهد الجماعة(1/116)
وسئل فضيلة الشيخ: إذا عرف عن شخص أنه لا يصلي ولا يشهد الجماعة فما دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ذلك؟
فأجاب: سمعنا عن بعض أعضاء الهيئات أن لديهم من التعليمات عقوبة مثل هذا لأول مرة بالسجن، لمدة يوم أو يومين، وجلده عشر جلدات أو نحوها، ثم في المرة الثانية تضاعف عليه عقوبة السجن والجلد مع أخذ التعهد أن لا يعود، وكل ذلك إذا رفع فيه إمام المسجد ومؤذنه، حيث إن المطالب بذلك أولا الإمام الذي يطلب منه تفقد جماعة المسجد وتتبع أخبارهم، فمتى عرف أن فلانا لا يصلي جماعة طرق عليه الباب، أو اتصل به هاتفيا ونصحه وحذره وأسمعه التخويف وأنذره برفع خبره، فإن استمر على إصراره رفع بأمره إلى الهيئة بعد الإشهاد عليه وتكرار نصحه وتخويفه، والله أعلم.
رابعا: الإنكار على الكفار وأصحاب الملل كالبدع والخرافات
مخالطة الكفار في سبيل دعوتهم إلى الإسلام
سئل الشيخ سلمه الله: هل يجوز مخالطة الكفار من النصارى والهندوس وغيرهم، ومؤاكلتهم، والتحدث معهم، أو حتى مجاملتهم في سبيل دعوتهم إلى الإسلام؟
فأجاب: يجوز مخالطة الكفار ومجالستهم ومؤانستهم في سبيل دعوتهم إلى الله وشرح تعاليم الإسلام لهم وترغيبهم في اعتناق هذا الدين وبيان حسن العاقبة لأهله ووخيم العقاب لمن حاد عنه، ويغتفر في ذلك ما يقع من مصاحبة وإظهار مودة لهم، لما في ذلك من العاقبة الطيبة.
فأما إن عرف عنهم التمادي في الضلال، وعدم الانصياع إلى التقبل والتأثر باللين واللطافة، وازداد بعدهم عن الإسلام وأهله، فإن الأصل هجرهم، والبعد عنهم، لقوله -تعالى- : ? وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ?.(1/117)
ولا شك أن مخالطتهم ومؤاكلتهم مما يزيد في قدرهم عند العامة، وهم على الكفر وعداوة الإسلام، فيحصل من العامة توقير لهم، وتقديم لهم، على المسلمين، والقيام لهم وتصديرهم في المجالس ونحو ذلك؛ مما يدخل في الموالاة التي نهى الله -تعالى- عنها بقوله: ? لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ? وقوله -تعالى- : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ? والله أعلم.
الإنكار على الكفار المخالفات الظاهرة، من عمل القصات، ولبس السلاسل
وسئل وفقه الله: هل ينكر على غير المسلمين بعض المخالفات الظاهرة، من عمل القصات، ولبس السلاسل، ولبس الذهب ؟ أم يتركون لكونهم كفارا؟
فأجاب: ينكر عليهم إظهار ما يخالف شعائر الإسلام إذا كانوا بين المسلمين، وفي بلاد الإسلام، وذلك لأنه يؤخذ عليهم عند التعاقد الالتزام بتعاليم الدين والبلاد، وعدم فعل ما يخالف دين المسلمين، فلا يأكلون في رمضان علنًا، ولا يعملون علنًا وقت الصلاة، ولا يفتحون متاجرهم وقت الصلاة، فموجب هذه التعليمات وجوب التستر وترك التبرج لنسائهم، وترك القصات المنكرة لنسائهم، وترك رجالهم لبس الذهب والسلاسل، ونحو ذلك مما هو مخالف لشعائر الإسلام، ولا يجوز إظهارهم شرب الخمور وعملها وترويجها، وما أشبه ذلك، ولا يقال: إن دينهم يبيح لهم ذلك، لأن وجودهم بين المسلمين، يسبب الانخداع بهم، فيقلدهم الكثير من جهلة المسلمين، ويتشبه بهم العصاة، وتعظم المصيبة في المسلمين.
الواجب نحو العمالة غير المسلمة
وسئل فضيلته: انتشرت العمالة غير المسلمة في بلادنا، فما واجب المسلمين نحوهم من حيث الدعوة إلى الإسلام ؟(1/118)
فأجاب: الأولى بأصحاب الشركات والمؤسسات والورش وسائر الخدمات أن لا يتعاملوا مع الكفار ذكورا وإناثا، وأن يفضلوا استقدام المسلمين من أية بلاد، ففيهم كثرة ووفرة، في الباكستان و الهند و بنجلاديش و إندونيسيا وفي البلاد العربية: كمصر و المغرب و السودان ونحوها.
ولا شك أن في هذه الدول أفرادا مسلمين بحاجة إلى العمل، لفراغهم وفاقتهم، وأنه يوجد هناك من معهم خبرة ومعرفة بأنواع الأعمال، من حرفة وصناعة وقيادة وخياطة وهندسة، وغير ذلك من أنواع الأعمال، فإن الحاجة أم الاختراع، والصناعة في تلك البلاد موجودة من عشرات السنين.
ولا شك أن في استقدامهم تشجيعا للمسلمين وتقوية للإسلام في تلك الدول، وفيه أيضا ثقافة لهم وتعليما واطلاعا على معرفة أحوال المسلمين وتعاليم الدين.
أما وقد كثرت العمالة الكافرة وفضلهم -مع الأسف- كثير من أهل الشركات والمؤسسات، التي أسندت رئاستها لأفراد من غير المسلمين، فإن علينا أن ننتهز وجودهم بيننا فندعوهم إلى اعتناق الإسلام، عن طريق الدعاة المخلصين، والمترجمين، والنشرات الدينية، وترجمة المقالات أو الندوات التي تشرح محاسن الإسلام، والأشرطة المفيدة، وكذلك بدعوتهم بالأعمال، فإن المسلمين الأولين يدعون بأفعالهم، بحسن المعاملات والأخلاق الطيبة، والإيثار والصدق في المعاملة، والأمانة والنصح والإخلاص، مما يدعو إليه الإسلام، ويدفع غير المسلمين إلى اعتناق هذا الدين، فعلى جميع أفراد المسلمين أن يدعوهم بما يستطيعونه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
الواجب نحو الموظفين والعمال غير المسلمين
وسئل حفظه الله: ماذا يجب علينا نحو الموظفين، والعمال، والأجانب غير المسلمين ؟(1/119)
فأجاب: كثيرا ما يبتلى الإنسان بأن يعمل مع غير المسلمين، سواء أكان في شركات أم في دوائر حكومية، أم في مجالس، أم في مجتمعات أم في محلات تجارية، أم ما أشبه ذلك، فالواجب عليهم أن يظهروا الإسلام، وأن يشرحوا محاسنه أولا، وأن يبينوا تناقض غير المسلمين وتهافت شعاراتهم ودعاياتهم وما هم عليه، وأن يبينوا ما في الأديان الأخرى من تحريف وتغيير! ويدعوا أولئك العمال إلى الإسلام، والعمل به، أو على الأقل التستر، وعدم إظهار شيء يقدح في الإسلام أو يخالف تعاليم الإسلام. والله أعلم.
وجوب الإنكار على الكفار وخاصة في الأماكن العامة
وسئل نفع الله بعلمه الإسلام والمسلمين: يزعم البعض أن غير المسلمين إذا قدموا إلى بلاد المسلمين لا يجب إنكار المنكر عليهم لِلَّهِ فما الواجب في ذلك، خاصة إذا كانت المنكرات في الأماكن العامة؟!(1/120)
فأجاب: هذا قول خاطئ، وقد ذكر في كتب صدرت من الحكومة، وعممت على جميع الشركات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، بأنه يشترط على من قدم إلى البلاد الإسلامية أن يلتزم بأحكام الإسلام وتعاليمه، ولا يفعل ما يخل بشرف الإسلام، أو ينافيه، ويؤخذ عليه التعهد بذلك، ولو كانت ديانته نصرانية، أو مجوسية، أو بوذية، أو غير ذلك، ولعلكم تسمعون كلما أقبل رمضان، في الإذاعات الإسلامية أن الحكومة تلزم غير المسلمين ألا يظهروا الأكل في نهار رمضان أمام الناس، وعدم الاشتغال في أوقات الصلاة، والتقيد بأعمال الإسلام، فلا يظهرون أي منكر، ونلزمهم بترك الفواحش، وترك شرب الخمر علنًا، لأنها محرمة في دين الإسلام، وترك تعاطي المسكرات، أو المخدرات ونحوها، ولو كانت مباحة في دينهم، فإننا نقول: أنه ينكر عليهم، ويقال لهم: التزموا بشعائر الإسلام ما دمتم في بلاد الإسلام، وهذا من اشتراط الدولة -وفقها الله تعالى- عليهم؛ كما في قرارات موجودة في كتب صدرت من ملوك هذه الدولة، وصدق عليها، وعممت، وتوجد نسخ منها كثيرة عند هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعليكم أن تراجعوها.
وذكر علماء المسلمين قديما ما يتعلق بالكفار، وبينوا ما يلزمهم ما داموا في بلاد إسلامية وأن يرجعوا إلى تعاليم الإسلام، ويلزم المسلمين أن يعاملوهم بما فيه عز الإسلام، وبما فيه ذل الكفر، ولذلك يقولون في مؤلفاتهم: لا يجوز تصديرهم في المجالس، ولا القيام لهم، ولا بداءتهم بالسلام، ولا بكيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ ويمنعون من إحداث البيع -يعني محلات العبادة- ولا يرفعون بناءهم على بناء المسلمين، وإن كانوا من أهل الذمة فرضت عليهم الجزية، وعندما يسلمونها يمتهنون عند أخذها منهم، ويُطال وقوفهم وتجر أيديهم...إلخ.(1/121)
كل ذلك دليل على أن الإسلام هو دين الرفعة والعلو، وأن ما يخالفه من الأديان دين الذل ودين الضعف، وأن أهل الكفر يستحقون الإذلال، فيعاملون بذلك، ولو كانوا ذوي مناصب رفيعة أو ذوي أماكن مرموقة، أو ذوي شهادات ومؤهلات عالية، فإن الإسلام أولى بأن يرفع وأن يرتفع أهله، فالإسلام يعلو ولا يُعلى عليه.
وضع كتب لدعوة غير المسلمين
وسئل الشيخ جزاه الله خيرا: أنا أعمل في مكان يوجد به كثير من الأجانب، نصارى وبوذيون وغيرهم، ولي رغبة شديدة في دعوتهم إلى الإسلام ولكن لأنني لا أتقن اللغة الإنجليزية، فقد قمت مع بعض الزملاء بوضع مكتبة فيها بعض الكتب النافعة باللغة الإنجليزية، عسى أن تنفعهم، فهل برئت ذمتي بذلك؟
فأجاب: لعل ذلك -إن شاء الله- يكون مؤثرا فيهم، كما أنصحكم باستصحاب المترجمين إلى اللغات الأجنبية كالفلبينية، والهندية، والإنجليزية، وغيرها. فلو طلب منهم أن يأتوا إلى هذه المؤسسة أو الشركة ولو يوما في الأسبوع، لكان ذلك مفيدا، رجاء أن يؤثروا فيهم، أما أنت فقد أديت ما عليك من إحضار هذه الكتب، التي يرجى أن ينتفعوا بها إذا قرءوها، فيتأثروا إن شاء الله، ولك الأجر بقدر نيتك وعملك. والله الموفق والمعين.
كيفية الجمع بين دعوة غير المسلم للإسلام وعقيدة الولاء والبراء
وسئل وفقه الله: كيف أجمع بين دعوة غير المسلمين للإسلام وذلك من خلال حسن المعاملة، والابتسامة، والسلام عليهم، وبين عقيدة الولاء والبراء؟(1/122)
فأجاب: الغالب أن الذين يتقبلون الدعوة هم الجهلة منهم، فكثيرا من الذين يسلمون من النصارى أو البوذيين، أو الهندوس، أو غيرهم من الأديان الأخرى يغلب أنهم من عوام العمال، جاءوا من بلادهم للعمل، فرأوا الطمأنينة في الإسلام وفي المسلمين، ثم وفقهم الله لمن يشرح لهم شيئا من تعاليم الإسلام، ويترجمها لهم، فكان ذلك دافعا لهم إلى الإسلام، فأما كبارهم، وقادتهم وعلماؤهم، والمتضلعون منهم ونحوهم، فالغالب أن هؤلاء لا تفيد فيهم الدعوة، فكم دُعُوا؟! وكم بُيِّن لهم؟! وكم أعطوا من النسخ والتراجم؟! فأصروا وبقوا على عنادهم إلا من شاء الله، ولا ننكر أن هناك من اهتدى وأسلم من أكابرهم وعلمائهم وبالأخص من العجم ونحوهم، وإذا أراد الله بعبده الخير يَسَّر له الأسباب.
فلا تيأس من هدايتهم ودخولهم في الإسلام، ونقول لكل من ابتلي بداء المخالطة، ويريد دعوتهم إلى الإسلام: بأنه إذا رأى منهم شيئا من الميل إلى الإسلام، ورأى فيهم محبة للخير أيا كان، وعرف أن قصد هذا الإنسان هو أن يعرف الحق مع من كان؛ سواء مع المسلمين أو النصارى وأنه سيميل إليه ويفضله، ولو كان مخالفا لدين آبائه وأجداده وأسلافه فليفعل الوسيلة التي تكون سببا لتقبله ذلك، ولرجوعه عما هو عليه.
أما إذا ظهر له تصلبه في دينه وتمسكه به فيعامله بالشدة ويعامله بالغلظة، كما أمر الله بذلك في قوله -تعالى- : ? جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ?.
هل يجب إلزام الكافرات بالحجاب؟
وسئل حفظه الله: هل يجب إلزام الكافرات بالحجاب الشرعي في بلاد المسلمين ؟ أم أنه خاص بنساء المؤمنين؟(1/123)
فأجاب: بل يجب إلزام الكافرات بالحجاب الشرعي إذا دخلن بلاد الإسلام، فإن ذلك من واجبات المسلمين، فإن الحكومة -أيدها الله- قد عممت على الدوائر وعلى المؤسسات وعلى الشركات والأفراد أن كل من يتم التعاقد معه فلا بد من أخذ التعهد عليه أن يلتزم بتعاليم الإسلام، ويتمشى على ما يقتضيه الشرع من الأعمال الظاهرة، ولا فرق بين المسلم والنصراني والبوذي والسيخي والهندوكي وغيرهم.
ولا شك أن من تعاليم الإسلام تستر النساء وتحجبهن، سيما إذا دخلن الأسواق، أو المكاتب، والدوائر، والعبادات، أو المتنزهات، أو الطرق المسلوكة، أو السيارات المكشوفة، بحيث تبدو وجوههن وراء الزجاج، وذلك أن الفتنة عامة، فإن الناس إذا نظروا إليها ظن بعضهم جواز التكشف، أو تساهل الهيئة، رغم ما يحصل من المتابعة والاحتكاك بهن، والمعاكسات، واقتداء المسلمات بهن، فيحصل الضرر ويعم ظهور المنكر ويتمكن ويصعب تلافيه.
دور الهيئة تجاه مقابر المبتدعة
وسئل فضيلته: ما دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه مقابر المبتدعة كالرافضة الذين يعملون القباب، ويتخذون بعض القبور مكانا للدعاء وطلب الشفاعة والعياذ بالله؟
فأجاب: لا يجوز في بلاد الإسلام إقرار معابد الشرك الظاهرة، وكذا البدع والمحدثات المخالفة للشرع، ولا شك أن البناء على القبور حرام قد ورد التشديد فيه، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته "(1). أي هدمته حتى يساوي بقية القبور، وذلك لأن رفع القبر على المعتاد ذريعة إلى الاعتقاد فيه، والظن بأنه يقبل النذور وينفع من دعاه.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (969). عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بلفظ: أن لا تدع تمثالا إلا طمسته.. وأخرجه النسائي برقم (2530)- (89/4) بلفظ: ولا صورة في بيت إلا طمستها(1/124)
ثم إذا ظهر من بعض الناس المجيء إلى تلك القبور المشيدة والقباب، وخشعوا هناك وتمسحوا بالأضرحة، وهتفوا بالميت ونحو ذلك، فإن هذا شرك ظاهر يجب منعهم منه، كما يجب هدم تلك القباب، ومنع من يصلي عند القبور، أو يتحرى الدعاء عندها، فإن الجميع شرك، أو من وسائله، سواء من الهيئة أو من ولاة الأمور، حتى لا يبقى الشرك في بلاد الإسلام، والله أعلم.
لا يجوز تمكين الكفار من أداء عباداتهم في بلاد المسلمين
وسئل حفظه الله ورعاه: إذا تم ضبط مكان يقوم فيه بعض أصحاب الملل المخالفة بأداء شركيَّاتهم المخالفة للكتاب والسنة، فهل يجوز مصادرة مكبرات الصوت والأجهزة التي يستعملونها لصالح الجمعيات الخيرية الإسلامية في الخارج أم ماذا؟
فأجاب: لا شك أن أصحاب الملل الكافرة، مثل اليهود والنصارى والبوذيين والهندوس والسيخ والقبوريين والصوفيين الغلاة والروافض ونحوهم، إذا كانوا في داخل بلاد المسلمين حرم عليهم إظهار شيء من شركياتهم، وخواص أديانهم التي تخالف دين الإسلام، حيث إنهم يدخلون بلادنا لمصلحتهم، فيؤخذ عليهم التعهد أن لا يظهر شركهم وكفرهم، فلا يسبوا دين الإسلام، ولا يتنقصوا شيئا من شعائر الدين، وعليهم أن يُخْفُوا أعمالهم الخاصة بهم: كالخمور، والأكل في نهار رمضان، وتبرج نسائهم، بل لا يجوز أن يتعبدوا في بلاد الإسلام بعبادات كفرية كنصب معبودات، وإظهار صلبان، ومتى عثر عليهم في هذه الحالات وجب عقابهم وإلغاء عقودهم ومصادرة كل ما يستعينون به على إظهار كفرهم، كأجهزة التصوير ومكبرات الصوت ونحوها، فتصرف لصالح المسلمين في الداخل أو الخارج. والله أعلم.
خامسا: الإنكار على الولاة والحكام
ولاة الأمور بشر غير معصومين
سئل حفظه الله: هل الإنكار على ولاة أمور المسلمين يختص بالعلماء؟ أم واجب على كل مسلم؟(1/125)
فأجاب: معلوم أن ولاة الأمور بَشَر غير معصومين، فيقع منهم الاجتهاد الخاطئ، أو التأويل في فعل أو أمر يكون غيره أحسن منه، فهم بحاجة إلى من ينبههم على هذا الخطأ، وهم يفرحون ويستقبلون ما يرفع لهم من الإرشادات والنصائح.
ولكن حيث إن الغالب على ولاة الأمور الأهلية والمعرفة وتجربة الأمور، ومعرفة العواقب والنظر في الوقائع بعين البصيرة، والعمل على ما تقتضيه المصلحة العامة والخاصة، وعلى هذا فلا ينكر عليهم كل أحد؛ حيث إن في ذلك ما يشعر بنقصهم عن مستوى العامة، ولأن الأفراد قد يتخيلون ما لا يصلح إنكاره، وقد لا يشعرون بالأهداف والمصالح المقصودة.
لذلك على الأفراد مراجعة العلماء وإبداء الملاحظات لديهم، وإقناعهم، ثم العلماء يقومون بوظيفة البيان والنصح لولاة الأمور، ويكون ذلك على وجه النصيحة والمحبة دون إظهارٍ لِمَعَائِبَ، أو تتبع لعثرات، فإن المؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح، والله أعلم.
نصيحة للذين يقعون في أعراض الحكام
وسئل فضيلة الشيخ حفظه الله -تعالى- يقع كثير من الناس في أعراض الحكام من جهة، وفي أعراض العلماء من جهة ثانية فما توجيهكم لهؤلاء؟
فأجاب: هذا لا شك خطأ، فلا يجوز لأحد أن يتتبع العورات، ولا أن يسب أحدا ممن لا يستحق المسبة.
ولا شك أن الحكام تجب طاعتهم، لأن لهم حق الولاية، وحق الاستيلاء، وقد أمر الله بطاعتهم، وكذلك أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو ظهر منهم شيء من الضرر، لقوله -عليه الصلاة والسلام- : " اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك "(1)." عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيب"(2). جعل هذا كمثال.
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم برقم (1847)- 52 عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-.
(2) أخرجه البخاري برقم (7142) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.(1/126)
فعلينا أن نسمع للحكام ونطيع ما داموا يحكمون فينا شرع الله -تعالى- ولا يجوز أن نسب أحدهم، ولا أن نتتبع عوراتهم، ولا أن نطعن في ولايتهم، مما يؤدي إلى إثارة الأحقاد، ومما يسبب الفوضى، ويوغر عليهم الصدور، وهذا يسبب الفرقة بين المؤمنين؛ بل نحرص على جمع كلمة الإسلام والمسلمين على الأئمة الذين يقومون بأمر الله -سبحانه وتعالى- ولذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بطاعتهم وقال: " ما لم تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان "(1).
ولا شك أن الأئمة الأولين من أعلام الإسلام حذروا من الخروج على الأئمة والحكام، وذكروا ما في الخروج من الفتن، وحدث في صدر الإسلام من القتل والحبس وتفريق الكلمة بسبب أولئك الذين خلعوا الطاعة وفارقوا الجماعة، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على جور الولاة، وأخبر بأن: " من مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية "(2) أي من خلع الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية.
حكم لمز ولاة الأمور علماء وأمراء
وسئل فضيلته، عفا الله عنه: ما رأيكم فيمن يلمز ولاة الأمور علماء وأمراء؟ ويقوم بتوزيع النشرات ضدهم ؟ وما الحقيق بمثله؟
فأجاب: لا شك أنه خطأ من الفعل وغلط كبير، وذلك لأن الواجب هو النصح المباشر لكل من صدر عنه خطأ، أما إفشاء الأسرار والطعن في الولاة أو المسئولين أو في علماء الأمة، ونشر الفضائح ونشر الأسرار، فهذا مما يسيء السمعة، ومما يسبب الفضيحة، وهو نشر ما لا يجوز نشره، وإفشاء ما لا يجوز إفشاؤه، فبعض ما ينشر؛ بل أكثره مكذوب، وبعضه مغير فيه بزيادة أو نقص، وقد يكون هناك أعذار ومبررات لمن صدرت منه تلك الأفعال.
__________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (7056) ومسلم برقم (1841). عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-.
(2) جزء من حديث أخرجه مسلم برقم (1851). من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-.(1/127)
فنقول: لا يجوز توزيع هذه النشرات التي تحتوي على هذه الفضائح أو هذه الغلطات أو الأخطاء ونحوها؛ سواء كانت متعلقة بالولاة، أو متعلقة بأئمة المسلمين، وذلك لأن هؤلاء جميعا لهم نظرهم ولهم اجتهادهم، وقد تكون هناك مبررات لما صدر منهم، وهذا الذي يكتب أو يتكلم عنهم لم يدر ما سببه، ولم يدر ما عذرهم في ذلك، والغالب أن مثل هؤلاء الذين يتكلمون يغلب عليهم التساهل في النقل، فيصدقون كل ما قيل في المجالس، ولو على وجه المزاح أو على وجه الضحك، فإذا سمعوا كلمة تقدح في عالم، أو في عضو هيئة، أو في رئيس، أو في أمير أو نحو ذلك، أضافوا إليها أمثالها، وعلقوا عليها، ونشروها، وتكلموا في ذلك الشخص، وعدُّوا ذلك عيبا ونقصا ومثلبة، فيصدقهم الجهال، ويسيئون الظن بولاة أمورهم، وبعلمائهم ومسئوليهم، وإذا بحث عن حقيقة الأمر لم يعثر على صحة ما يقال، ولو صح فلا يجوز نقله ولا قوله، لما فيه من بث الفرقة والاختلاف.
وما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟
ننصح بعدم نشر تلك الأقوال وتلك النشرات، حتى تموت وتخمد، ولا يكون لها ذكر، ولا يفشو الكذب، وهذا الظلم والبهتان، أو هذا الكلام الذي له مبرر وعذر من الأعذار.
نصيحة لمن ينتقدون الحكومات والأنظمة
وسئل وفقه الله لكل خير: بعض الناس يملئون المجالس بأحاديث ينتقدون فيها الحكومات والأنظمة فما نصيحتكم؟
فأجاب: ننصح من يسمعهم أن يحذرهم، فالغالب:
أولا: أنهم يبنون هذا الكلام على ظنون وتوهمات لا حقيقة لها.
ثانيا: هم لا يعرفون الملابسات والأعذار التي قد تحيط بالحكومات ومسئوليها، وتحملهم على التصرفات التي قد يستنكرها عليهم الأفراد، لأن للحكومة عذرها الذي لو اطلع عليه الناس لعذرهم، لكثرة ما يتوارد عليهم من أمور.
ثالثا: أن هذا الذي يظهر العيب والانتقاد والطعن في الحكام أو في الولاة أو المسئولين أو نحو ذلك، قد خاطر بنفسه وعرضها للأخطار والأذيات.(1/128)
وقد يسبب كلامه سجنه ويسجن معه آخرون ممن هم أبرياء بسبب اجتماعهم به ولو مرة، وبسبب أنهم ظنوا أنه لا مانع ولا بأس ولا محذور في ذلك، فإذا فشا قول أو عيب في الحكام أو نحوهم وكان القائل واحدا، فإنه قد يبطش بالعشرات بسبب مقالة هذا الشخص، -ولو كانت حقيقة- في سبيل البحث عنه، هذا من حيث الواقع والمشاهد، إذ يتأذى ويتعذب أعداد بسبب مقولة شخص واحد فيها الانتقاد والاعتراض على مسئولي دولة ما.
وكذلك الذي يستخف بالولاة يعرض نفسه للعقوبة من العامة، حتى أنه أهل لأن يعاقبه الأفراد من الأمة، فضلا عن معاقبة المسئولين له.
فالنصيحة أن كل من عرف نفسه فعليه أن يشتغل بعيب نفسه.
هل اظهار العيوب منهج شرعي صحيح
وسئل أدخله الله الجنة: لكن على فرض صحة هذه العيوب هل هذا منهج مُرْضٍ شرعا في النصيحة؟
فأجاب: نعتبر أن النصيحة تحصل بدون ذلك، فتحصل بالاتصال بمن صدر منهم الخطأ، وبالخطابات الخاصة السرية، وما أشبه ذلك.
ونعتقد أن من أتته نصيحة وتحقق الصواب مع الناصح فعليه أن يقبل منه ويتأثر، ويغير ما وقع فيه من خطأ، أو على الأقل يبدي عذره، ويبين وجهة نظره، فالنصيحة حقيقة هي الاتصال المباشر الخاص، وذكر الانتقاد على ذلك الشخص، ثم ينظر كيفية الجواب، وقد قال بعض السلف: المسلم يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح.
واجب المسلم تجاه الحكام
وسئل حفظه الله ورعاه: ما واجب الفرد المسلم تجاه الحكام ؟
فأجاب: لا شك أن الواجب على كل فرد محبتهم إذا أقاموا الحقوق، ونصيحتهم إذا اعتراهم شيء من الخلل أو شيء من النقص، ما داموا يقبلون النصيحة ويفرحون بها، ويشجعون من يأتيهم ناصحا، وجمع الكلمة عليهم، وإظهار الاعتذار مما يصدر منهم من اجتهادات قد يكون فيها شيء من الخطأ الظاهر، وحث الشعب والرعية على السمع والطاعة، والحرص على محبتهم وموالاتهم، والسمع والطاعة لهم في المعروف.
حكم الدعاء لولي الأمر(1/129)
وسئل فضيلته: ما حكم الدعاء لولي الأمر ؟ وهل له حد يجعل من زاد فيه معتديا في الدعاء؟
فأجاب: الدعاء لولي الأمر وإمام المسلمين من أفضل القربات والسنن، وهو دأب العلماء المصلحين، جاء عن بعض السلف أنه قال: لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها للإمام؛ وذلك لأن صلاح الراعي فيه صلاح الرعية، واستقامة أمورهم، وتعدل أحوالهم، وفي قربه من الله قرب لهم.
وليس للدعاء لولي الأمر حد، فلو جعل المتحدث مجلسه كله في الدعاء لهم لكان هذا حسنا، وكذا يدعو لهم في الخطب وفي القنوت وفي المحاضرات، ويكثر من الدعاء لهم بأن يوفقهم الله ويسددهم ويعينهم، وأن يصلح بطانتهم ونحو ذلك.
ولا يعد بحال من زاد في الدعاء لولي الأمر معتديا في الدعاء؛ بل هو محسن.
مقاصد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات التي كلف الله بها أنبياءه وآخرهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد قام -صلى الله عليه وسلم- بهذا الواجب أكبر قيام، فقد بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه. ثم قام من بعده صحابته الكرام، ومن بعدهم التابعون وتابعوهم إلى يومنا هذا، ولا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة بهذا الركن وهذا الواجب إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد وعد الله القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعز والنصر والتمكين والرحمة والفلاح، وغير ذلك من الفضائل الكثيرة التي لا تحصى.
ولا يخفى على أحد أن العاملين في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجدون فيه من المشقة والصعوبة ما لا يجده العامل في أي مجال آخر، فهو تكليف ليس بالهين ولا باليسير، فهو مليء بالمخاوف والمكاره والمسئوليات.
فإذا كانت هذه صفته، وفيه ما فيه من المشقة والصعوبة، فما الذي يدفع أولئك الرجال الذين يسهرون ليلهم لهذا العمل؟
وما مقصود رجل الهيئة من الاستمرار فيه؟(1/130)
وللإجابة على هذا التساؤل فإننا نذكر بعض مقاصد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر(1) والتي جعلتهم يستمرون في هذا العمل العظيم:
المقصد الأول: تحقيق العبودية لله -تعالى- وحده لا شريك له: قال -تعالى- :
? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ? فالحكمة من خلق الإنسان هو عبادة الله وحده. وقد قام الرسل جميعا بالدعوة إلى تحقيق هذه العبادة من خلال بيان أكبر معروف، وهو توحيد الله، وبيان أكبر منكر، وهو الشرك بالله.
المقصد الثاني: رجاء الثواب المترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحصيل فضائله: والآيات والأحاديث المبينة لعظيم ثواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة، منها قوله -تعالى- : ? وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ?.
ومن الأحاديث، قوله -صلى الله عليه وسلم- : " أو ليس الله قد جعل لكم ما تصدقون؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة "(2).
بهذا وغيره يتبين ما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ثواب عظيم وفضل كبير.
المقصد الثالث: خوف العقاب والإثم على تاركه:
__________
(1) اختصرت هذه المقاصد من كتاب (مقاصد أهل الحسبة) من إعداد الأخ الفاضل: خالد بن عبد الرحمن الشايع، فقد أجاد حفظه الله وأفاد. ومن أراد التوسع في معرفة هذه المقاصد فليقرأ ذلك الكتاب، فجزى الإله كاتبه خير الجزاء، ونفع بما كتبه عامة المسلمين إنه سميع مجيب (أبو أنس).
(2) أخرجه مسلم برقم (1006)، من حديث أبي ذر -رضي الله عنه-.(1/131)
وفي هذا قول الله -تعالى- : ? لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ? وفي الحديث عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعونه فلا يستجاب لكم "(1).
فاحذر يا من تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يشملك عذاب الله وعقابه بإهماله وتركه.
المقصد الرابع: إجلال الله -تعالى- وإعظامه ومحبته والغضب له سبحانه على انتهاك محارمه: فقد أخبرت عائشة -رضي الله عنها- عن حال النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: " وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله -تعالى- فينتقم لله -تعالى- "(2).
يقول ابن القيم -رحمه الله- وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يرغب عنها، وهو بارد القلب! ساكت اللسان! شيطان أخرس! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين(3).
المقصد الخامس: النصيحة للمسلمين والرحمة بهم، والشفقة عليهم ورجاء إنقاذهم مما أسخطوا الله به:
قال -تعالى- : ? وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ?.
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2169). وأحمد في مسنده: (5/388). والبيهقي (10/93). قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الألباني في صحيح الجامع (6947): حديث حسن.
(2) أخرجه مسلم برقم (2328).
(3) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين: (2/ 176).(1/132)
وقال -صلى الله عليه وسلم- : " الدين النصيحة ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم "(1).
قال بعض السلف: أهل المحبة لله نظروا بنور الله، وعطفوا على أهل معاصي الله، مقتوا أعمالهم، وعطفوا عليهم ليزيلوها بالمواعظ عن فعالهم، وأشفقوا على أبدانهم من النار(2).
المقصد السادس: حماية المجتمع من أسباب تحلله وهلاكه والعمل على صلاحه وفلاحه:
روى البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا "(3).
والسفينة هنا بمثابة المجتمع الذي يعيشون فيه.
ولأن بتحقيقه -أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- تصلح الأمة ويكثر فيها الخير، وتظهر فيها الفضائل، وتختفي منها الرذائل، ويتعاون أفرادها على الخير، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله ويأتون كل خير، ويذرون كل شر.
وبإضاعته والقضاء عليه تكون الكوارث العظيمة والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة وتقسو القلوب أو تموت، وتظهر الرذائل أو تنتشر، وتختفي الفضائل، ويهضم الحق ويظهر صوت الباطل(4).
المقصد السابع: الغيرة والمروءة:
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (55). عن تميم الداري -رضي الله عنه-.
(2) جامع العلوم والحكم: (1/ 308).
(3) أخرجه البخاري برقم (2493) من حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه-.
(4) وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ابن باز.(1/133)
وقد ثبت في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم- : " إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه"(1).
فيلزم كل مؤمن أن يقوم في قلبه من الغيرة والمروءة ما يجعله حافظا لعرضه، منافحا عنه، حاذرا مما يخدشه، فإن الله -تعالى- يغار، ولا أحد أغير من الله، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- يغار، ولا أحد من الخلق أغير منه، والمؤمن يغار، وبحسب غيرته يكون له نصيب من تمام المتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به.
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- إذا ترحلت الغيرة من القلب، ترحلت منه المحبة، بل ترحّل منه الدين، والغيرة أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف(2).
حقوق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ليس مختصا بهيئة معينة
سئل الشيخ حفظه الله: ما حقوق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ؟
فأجاب: في بادئ الأمر أحب أن أوضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مختصا بهيئة معينة، ولا فرقة محدودة؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "(3).
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (5223) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) انظر الفوائد لابن القيم -رحمه الله-.
(3) أخرجه مسلم برقم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.(1/134)
ومن هذا المنطلق كان الواجب تعاون المسلمين مع رجال الحسبة، والشد على أيديهم، ومساعدتهم في إزالة المنكر، إذا لم يوجد أحد من رجال الحسبة في مكان وقوع المنكر، أما ما نسمعه من بعض ضعاف النفوس من أحاديث وروايات ملفقة عن رجال الهيئة؛ فإننا نعلم من أين تصدر هذه الأكاذيب، إنها من أناس مداومين على المعاصي والمنكرات، لا يبخلون بوقتهم للنيل من رجال الهيئة والتقليل من شأنهم، فالواجب أن نحسن الظن بمن رأيناه متصديا لإزالة المنكر، وذلك للأسباب التالية:
أولا: لأنه لا يعين إلا بعد اختبار وأهلية وخبرة.
ثانيا: لأنه قد أخذ عليه التعهد اللازم بألا يفعل إلا الأشياء المأمور بها.
ثالثا: لأنه كما يظهر من أهل الإيمان والثقة والتقوى، فيحجزه إيمانه عن أن يفتري، أو أن يتقول، أو أن يتهور، أو يفعل ما لا يجوز له فعله.
إذا فكيف نصدق أولئك الذين يفترون تلك الافتراءات، وهم دعاة الفساد وأهل الضلال؟!
وإذا قدر أن أحد رجال الحسبة تسرع في إحدى المرات فهل يعمم هذا على رجال الحسبة كلهم؟ لا؛ وإنما يختص به، بل نقول: إنه معذور لأنه مجتهد وله أجر الاجتهاد.
حكم التكلم بمثالب هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وسئل غفر الله له ولوالديه: ما حكم التكلم بمثالب هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومكاتب الدعوة والإرشاد، وهيئات جمع التبرعات لصالح المسلمين، وغيرها من المؤسسات الخيرية في المجالس العامة؟(1/135)
فأجاب: لا يتكلم في مثالبهم إلا من يبغضهم، فهم أهل الخير والصلاح، يدعون إلى الخير، وينشرون تعاليم الدين، ويشرحون محاسن الإسلام، ويوضحون ما فيها من المصالح، وما يترتب على فعل الخيرات وعمل الصالحات من النصر والتمكين، والعز والتأييد، وما يمن الله به على المسلمين بسبب ظهور الدين وتمكن أركانه وواجباته وتحقيقها، والعمل بما يحبه الله -تعالى- وترك ما نهى عنه؛ من الرزق ورغد العيش والسعة في المال والأمن في الأوطان، وما يحصل من العقوبات والعذاب ونزول المثلات وتسليط الأعداء بسبب المعاصي وانتشار الفساد.
ولا شك أن هؤلاء المبغضين للهيئات والدعاة أعداء للدين، لأنهم يحبون المعاصي، ويودون أن يتمكنوا من شرب الخمور، وفعل الزنى، وأكل الربا، وترك الصلوات، وسماع الأغاني، والسهر على اللعب واللهو والقمار، والنظر في الأفلام الخليعة والصور الفاتنة، ونحو ذلك من المعاصي التي ينهى عنها الدعاة والهيئات، فهؤلاء يجدون مضايقة من رجال الحسبة ومن الدعاة وأهل الصلاح، ويتمنون أن لو يخلو لهم الجو حتى يفعلوا ما يريدونه من المنكرات والفواحش، حيث إن قلوبهم مليئة بحب الفحشاء والمنكر؛ وحيث إن المعروف بغيض عندهم وثقيل في نفوسهم، فلم يجدوا ما يبررون به مواقفهم سوى تتبع العثرات ونشر الأخطاء وذكر المعائب والمثالب، والرمي للدعاة بالعظائم، التي هي كذب وبهتان عظيم.
فهؤلاء يتفكهون بأعراض الصالحين، ويحاولون أن يتنقصوهم، وكلما سمعوا قصة خيالية أو كلمة ألقيت في مجلس على وجه المِزاح، جعلوها حقائق، ويكذبون معها مئة كذبة، كفعل الكهنة وخدمة الشياطين(1).
__________
(1) يشير الشيخ إلى حديث عائشة -رضي الله عنها-، قالت: قلت: يا رسول الله! إن الكهان كانوا يحدثوننا بالشيء فنجده حقا، قال: تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة أخرجه البخاري برقم (5762) و(6213) و(7561). ومسلم برقم (2228).(1/136)
فعليكم أن تردوا عليهم كذبهم، وتشرحوا لهم فضل هؤلاء الدعاة ورجال الحسبة وأصحاب الجمعيات والمبرات الخيرية، وأهدافهم ومحاسنهم، وحسن مقاصدهم، وما يحصل بواسطتهم من قمع الأشرار، ودفع الفساد، وتخفيف الشرور والمنكرات:
? وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ? فاجتهدوا في الدفاع عن أهل الخير، حتى تذلوا هؤلاء المفسدين، وتبطلوا أكاذيبهم، ويظهر الحق وأهله ولو كره الكافرون، والله أعلم.
نصيحة لمن يلفقون التهم الكاذبة
على رجال الحسبة
وسئل فضيلته: إن مما عمت به البلوى في هذا الزمن اشتغال فئة من الناس بالطعن والافتراء ووضع القصص الملفقة على رجال الحسبة، لدرجة أنها أصبحت عندهم فاكهة لمجالسهم.
والأدهى من ذلك والأمر القذف في أعراضهم وتشويه سمعتهم.
والسؤال: ما حكم هؤلاء الذين يلفقون القصص والافتراءات الكاذبة إلى آخر ما ذكر في هذا السؤال؟ وما نصيحتكم لمن وقع وانجرف وراء هذه التيارات السالفة الذكر؟(1/137)
فأجاب: إن الكذب من حيث هو ذنب من كبائر الذنوب قال -تعالى- : ? إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ? وقد جعله النبي -صلى الله عليه وسلم- من علامات النفاق(1) ثم يزداد إثمه إذا ترتب عليه ظلم، وبهتان، وإساءة ظن، سيما في حق الأبرياء، وأهل العدل والغيرة وإنكار المنكرات، ولا شك أن الحامل لهؤلاء على الكذب والافتراء هو الحقد والبغض لأهل الخير، سيما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فإن الغالب أن أولئك المختلقين لهذه الوقائع التي لا حقيقة لها هم من أهل الفساد والفسوق، ومن الذين يهوون المعاصي، كترك الصلوات، وتعاطي المسكرات، وفعل فاحشة الزنى ومقدماته، والسهر على الأغاني، والصور الفاتنة، واللعب بالقمار، وتتبع العورات، والمعاكسات، ونحو ذلك، وقد عرفوا أن أهل الحسبة يحولون بينهم وبين ما يشتهون، فلم يجدوا بدا من القدح فيهم، والعيب، والثلب، واختلاق القصص، التي هي خيالات وهمية، ويفتريها أحدهم في مجلس وقد يقولها مازحًا، ثم يتلقفها الآخرون، وينشرونها في المجالس، ويتفكهون بأعراض أهل الدين والإصلاح.
ولا شك أن هذا من أكبر الظلم، فإن أهل الحسبة هم من خيرة عباد الله، مشهود لهم بالخير والنصح والغيرة، والحرص على نجاة الأمة من المعاصي وأسباب الفساد التي توجب غضب الرب ومقته.
فالواجب إحسان الظن بهم والذب عن أعراضهم، والرد على أعدائهم، وبيان ما لفق عليهم من الكذب والبهرج، حتى يتبين الحق لقاصده، والله الموفق للصواب.
اتهام رجال الحسبة بالتشدد أو الغلظة؟
وسئل وفقه الله: هل يجوز اتهام أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتهم الباطلة: كالتشدد أو الغلظة ؟
__________
(1) يشير الشيخ إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب... إلخ أخرجه البخاري برقم (33) و(2536) و(2598) و(5744). ومسلم برقم (59). عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.(1/138)
فأجاب: لا تصدر هذه التهم الباطلة إلا من أهل المعاصي والفساد، الذين قد اعتادت نفوسهم اقتراف الذنوب وفعل الفواحش: من سماع الأغاني، وشرب الخمور، والتكاسل عن الصلاة، والعكوف على الأفلام الخليعة، والصحف المليئة بالصور الفاتنة، والاحتكاك بالنساء الأجنبيات، ومحاولة استمالة المرأة لفعل الفاحشة ونحو ذلك.
ولما كان أعضاء الهيئة هم الذين يحاربون هذه الجرائم، ويعاقبون على اقترافها، ويقضون على بؤر الفساد، ويحولون بين هؤلاء المفسدين وبين مشتهاهم، لم يجدوا بدا من النيل منهم والقدح فيهم، بما هم منه براء، وإلصاق التهم بهم ورميهم بالتسرع والشدة والغلظة والجفاء، وأنهم جهلاء مُسِنُّونَ، لا يعرفون لين الكلام، ولا حسن العلاج، وما إلى ذلك.
والواجب الإنكار على مثل هؤلاء، ورد أكاذيبهم عليهم، والتحذير مما يرمون به أهل الحسبة من: الترهات، والأباطيل التي يختلقونها، أو يصدقون من اختلقها، أو يقولها أحدهم مازحا فيصدقه الآخرون، ويكثر تداولها ولا أصل لها، فالله المستعان.
الواجب نحو الذين يأكلون لحوم أعضاء الهيئات
وسئل حفظه الله: ما الواجب تجاه أصحاب المجالس الذين يأكلون لحوم أعضاء الهيئات والعاملين فيها؟
فأجاب: عليكم أن تردوا عليهم بما يبين خطأهم وإثمهم في ذلك، وقد حرم الله الغيبة لكل أحد، كما في قوله تعالى: ? أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ?.(1/139)
ولا شك أن هؤلاء الذين يتفكهون بأعراض الناس، وبالأخص أهل الخير والصلاح والجهاد، مثل أعضاء الهيئة، قد وقعوا في الغيبة المحرمة التي هي: ذكرك أخاك بما يكره، ولو كان فيه ما تقول(1) والغالب أن هؤلاء الذين يتفكهون بأعراض رجال الحسبة هم من أعداء الدعاة، ومن الذين شَرِقُوا بإنكار المنكر، والتغيير على من تلبس بشيء من المحرمات، ولما حيل بينهم وبين شهواتهم، رأوا أقرب ما يخفف عنهم أن يقضوا على إخوانهم، وأن يلوكوا ألسنتهم بما لَذَّ لهم وطاب، من أكاذيب وسخرية وتنقص، يعمرون به المجالس، وفي نظرهم أن ذلك مما يخفف عنهم ما في نفوسهم من الغيظ والحنق والحقد لأهل الخير.
فالواجب الإنكار عليهم، وحثهم على التوبة والنزع عن هذا العمل المشين، وإرشادهم إلى إصلاح أنفسهم، وتفقد كل منهم عيب نفسه، فهو أولى بهم من إشغال أوقاتهم في اكتساب الخطايا بالقدح والعيب والثلب في أولئك البرآء، والله المستعان.
نصيحة لمن يغتابون رجال الهيئات والعلماء
وسئل حفظه الله: إن من المحرمات التي استهان بها كثير من الناس؛ الاستهزاء والتكلم وغيبة رجال الهيئة وغيبة العلماء، والطعن في أعراضهم مع نسيان أعمالهم الفاضلة وحسناتهم المشهورة، فهل من كلمة توجيهية لهؤلاء؟
__________
(1) لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره ، قيل: أفرأيت إن كان في أخي مما أقول، قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته أخرجه مسلم برقم (2589).(1/140)
فأجاب: ذكر الله -تعالى- عقوبة المستهزئين، ومن ذلك قوله -تعالى- في سورة التوبة: ? الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? فهذا من الأدلة التي تنطبق على هؤلاء الذين يعيبون كل متطوع؛ سواء من الهيئات أهل الحسبة، أو من المتطوعين الذين يدعون إلى الله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهؤلاء الذين يلمزونهم ويعيبونهم يذكرون لهم فعلا واحدا أخطئوا فيه، وينسون عشرات الأفعال التي أحسنوا فيها والتي يمتدحون بها.
فكم من عاصٍ أخذوا على يديه؟!
وكم من عاقٍّ فضحوه؟!
وكم من معلن للفسق قمعوه وعابوه؟!
فهم يسهرون طوال الليل! وربما إلى الصبح في أمور المسلمين، وفي الأعمال التي تهم المسلمين، فيأتيهم مخابرة مثلا أن هناك رجل اختطف امرأة أو اختطف غلاما لفعل الفاحشة، أو أن هناك تجمع مختلط برجال ونساء ونحوه، أو أن هناك بيت دعارة يجتمع فيه الناس للفساد، أو أن هناك معمل خمر يباع فيه أو يشرب فيه أو يتعاطى فيه، فيأتون إلى تلك الأماكن ويراقبونها، ويأتون بأولئك العصاة فيستتيبونهم.
فهل ننسى هذه الأعمال التي عملوها؟
والتي ربما أنها سبب دفع الله -تعالى- عنا العقوبة.
كما ورد في بعض الأحاديث: لولا شيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع، لصب عليكم العذاب صبًّا(1).
فلا يجوز أن نذكر سيئة وقع فيها أحد أعضاء الهيئة، أو أحد الدعاة إلى الله وننسى عشرات الفضائل، فنكون كما قال القائل:
ينسى من المعروف طودا شامخا * * * وليس ينسى ذرة مِنْ مَنْ أسا
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي: (2/117، 3/160). وتلخيص الحبير لابن حجر: (2/97). والسنن الكبرى للبيهقي: (3/345). ومجمع الزوائد: (10/ 227). وتاريخ بغداد للخطيب: (6/64). وكنز العمال: (6012).(1/141)
يذكر مثقال ذرة إذا كانت سيئة، وينسى أمثال الجبال من الحسنات، والله المستعان.
واجب المسلم تجاه الدعاة إلى الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
الواجب تجاه رجال الحسبة
سئل فضيلة الشيخ: ما الواجب تجاه رجال الحسبة وأعضاء الهيئة ؟
فأجاب: إن الواجب علينا أن نعرف لهم قدرهم وذلك بالتالي:
أولا: أن نكون إلى جانبهم.
ثانيا: أن نعرف لهم حقهم.
ثالثا: أن نذب عن أعراضهم، ونعتذر عنهم، ونرد على من يفتري عليهم.
وبذلك -إن شاء الله- يذل أهل الباطل، ويعرف الناس كذبهم، وأن ذلك صدر عن عداوتهم للمعروف، وبغضهم له، ومحبتهم للمنكر، وعن رغبتهم في أن يبقوا على ما هم عليه من هذه المعاصي التي مرنت عليها نفوسهم.
الواجب نحو من يتهم الدعاة بتهم باطلة
وسئل الشيخ أمد الله في عمره وبارك فيه: ينتقد بعض المسلمين أخطاء الدعاة، التي قد تقع منهم أثناء الدعوة، فيكبرون حجمها، ويؤيدون علمها، ويتهمونهم بتهم باطلة، مثل الرجعية والتَّزمت! فما حكم ذلك؟ وما الواجب في ذلك على المسلمين؟
فأجاب:
أولا: يجب ألا يتولى وظيفة الدعوة إلى الله، ولا وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا الوعظ والإرشاد ونحو ذلك إلا من فيه الأهلية والكفاءة، وتكون عنده المقدرة على ذلك، وأن يعمل في ذلك بحكمة وبحسن تدبير وحسن تعبير وترو وتؤدة وثبات.
ثانيا: يجب إذا ما وقع أحد الدعاة في زلة، أو خطأ، أن تغفر له زلته، ذلك أنه ليس بمعصوم، فالكريم من عدت هفواته وأخطاؤه، فلا ينكر عليه لأول مرة، ولا المرة الثانية، بل يُبيَّن له خطؤُه، وسوف يرجع إن شاء الله إذا بُيِّن له ذلك، ولا يستمر على الخطأ إلا معاند.(1/142)
ثالثا: ما ذكره السائل هو حقيقة، وإنما يقع ذلك من الفسقة الذين يبغضون الدعاة إلى الله -تعالى- ويسوءهم ما يشهدونه من إقبال الشباب على الخير، والعمل الصالح، ومن الاهتداء الذي هو ملموس ومحسوس في كثير من شبابنا -وفقهم الله وهداهم- فيغيظهم ذلك، فيحاولون أن ينتقصوهم بما يقول السائل، بأنهم رجعيون! أو نحو ذلك، كما يقول بعض العلماء في قصيدة له:
يعيبون أهل الدين من جهلهم بهم * * * كما عابت الكفار من جاء من مضر
يقولون رجعيون لما تمسكوا * * * بنص من الوحيين كان له أثر
وهذه الأفعال قديمة، وهذا الوصف قديم يواجه كل من قام بالحق وصمد له، فإن نفوس الأشرار تتوجه إليه، وتعيبه، وترميه بما هو بريء منه.
يقول ملّا عمران في قصيدته التي ينصر فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب
الشيخ شاهد بعض أهل جهالة * * * يدعون أصحاب القبور الهمّدِ
إلى أن قال:
قالوا له يا فاجرا يا كافرا * * * ما ضره قول العداة الحسد
قالت قريش قبله للمصطفى * * * ذا ساحر ذا كاهن ذا معتدي
قالوا يعم المسلمين جميعهم * * * بالكفر قلنا ليس ذا بمؤكد
فإذا قالوا لك: إنك رجعي، وإنك متخلف، وإنك متزمت، وإنك متطرف أو فيك كذا، وكذا، فإن ذلك لا يضرك، فإنك إن شاء الله على هدى، وعلى استقامة، وعليك أن تصبر وتصابر، وتبين أن الرجعية إنما هي معصية الله، والخروج عن طاعته، والله أعلم.
الصراع بين الحق والباطل
وسئل حفظه الله: منذ بزوغ الرسالة المحمدية والأمة تشهد صراعا بين الحق والباطل، وكان من آثار هذا الصراع أن اضطهد وعُذب كثير من العلماء والدعاة إلى الله وأهل العقيدة السلفية، وذلك على مر العصور والأزمنة.(1/143)
وما ذاك إلا أن ذنبهم هو الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الحق للناس، ومن آثار هذا الصراع أيضا أن اتُّهم كثير من الدعاة والعلماء في عقيدتهم ودينهم وأعراضهم، ومن هؤلاء الذين عذبوا وسجنوا: الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيرهم كثير.
وإن أشد ما يلاقيه الدعاة إلى الله أن من يتهمهم يكون من بني جلدتهم، ويتكلم بلغتهم؛ بل ويدعي الإسلام، ثم تجده يتكلم بما يتكلم به في عقيدة هؤلاء وأعراضهم.
وليس الغريب أن يصدر هذا الكلام من الفسَّاق وأهل المعاصي ومن شابههم، ولكن الغريب أن يصدر مثل هذا الكلام من أناس نحسبهم من الدعاة ومن العلماء، فما الذي حملهم على هذا؟ نرجو من فضيلتكم بيان هذا الأمر وتوجيه نصيحة لهؤلاء؟
فأجاب: هذا القول لا يصدر من إنسان عاقل، يعرف العلماء والدعاة إلى الله وإلى دينه الحق، وإنما يصدر من جاهل بالحقائق أو من عدو للحق، ولدعاة الحق؛ وما ذاك إلا أن الدعاة والعلماء اشتهروا على مر العصور فيما بين الناس بالدعوة إلى الله، وانتشرت مقالاتهم ومؤلفاتهم في ذلك في أرجاء المعمورة، وانتفع بنصائحهم ومواعظهم وعلمهم الخلق الكثير، ولا شك أن هذا دليل على ثقتهم وعدالتهم ومحبتهم للحق، ومحبة الناس لهم، ولو لم يكن إلا أن لهم إقبالا على السنة وإقبال الناس على دروسهم ومؤلفاتهم. ولم يلاحظ عليهم، والحمد لله، ما يخل بعقيدتهم وما يقدح في ديانتهم ولا ما يرى أنه ضرر على الأمة. فهؤلاء الذين اشتغلوا بالطعن فيهم لا شك أن الذي حملهم على ذلك إما تجاهل بالحقائق الظاهرة الواضحة، وإما عداوة للحق، وإما حسد لهم على مكانتهم وشهرتهم التي نالوا بها هذا العلم وهذه الشهرة.(1/144)
إن علماء السنة والعقيدة السلفية معروفون ولله الحمد على مر العصور والأزمنة، من خلال دروسهم ومؤلفاتهم ولم يلاحظ عليهم شيء من البدع، ولكن الملاحظ عليهم أنهم يحاربون البدع ويح(8)ون الدعاة إلى الضلال، ويشهرون بهم ويفتكون فتكا واضحا بمن هو مبتدع أو داعية إلى البدع.
فحذروا من التنصير والنصارى وبينوا أساليبهم في دعوتهم إلى ضلالهم.
وحذروا أيضا من العلمانيين الذين يدعون إلى التفريق بين الإسلام وبين المسلمين والتفريق بين شعائر الإسلام، وبينوا أخطاءهم وأخطارهم.
فلأجل ذلك ثار عليهم هؤلاء العلمانيون وأتباعهم الذين انخدعوا بهم وظنوا أنهم دعاة سوء، وما علموا أنهم من أنصح الخلق للخلق.
إنهم والحمد لله معروفون بمحبتهم للخير، وبنصحهم للأمة وبإرشادهم للخير، ومعروفون أيضا بما وهبهم الله -تعالى- من فصاحة وفِقْهٍ للحقائق، وإدراك للوقائع التي يخاف منها ويحذر منها، فهم يحذرون من كل خطر يهدد كيان الأمة، ويحذرون من الأخطار التي ينشرها أعداء الدين، وكل نشرة فيها شيء من الدعوة إلى الباطل يبينونها ويحذرون منها، ولما كانوا صريحين في الجهر بالحق، وفي بيانه بأسلوب واضح لا غبار عليه، وفي التنبيه على الوقائع التي يحذر من الوقوع فيها ويخاف منها، كالضرر على العقيدة أو على الأعمال بعبارات جلية صريحة، أبغضهم هؤلاء العلمانيون وأشباههم، ونصبوا لهم العداوة، وصاروا يحذرون منهم، ويتقربون بذلك إلى رؤسائهم، أو إلى من يكون على نهجهم وطريقتهم، ويجمعون أخطاء لا حقيقة لها، ويجعلون من الحبة قبة، فيجعلون الخطأ اليسير خطأ كبيرا. ولا شك أن هذا من مساوئ أهل الضلال والعياذ بالله، فهم الذين يتتبعون الزلات ويحملون الكلام ما لا يحتمله.(1/145)
ولا شك أن ما وقع لإمام أهل السنة في زمانه الإمام أحمد بن حنبل من هذا القبيل، فإن أولئك المبتدعين الذين تقربوا من المأمون وغيره وأقنعوه بمذهبهم وبدعتهم، فأدى ذلك إلى حمل المأمون على الوقوف ضد أهل السنة وعلمائها، فحُبسوا وضُربوا وعُذبوا، واستمر الأمر على ذلك حتى نصر الله أهل السنة وفرج عنهم.
وما حدث لشيخ الإسلام من مكائد من أعدائه أهل الفرق والبدع مما أدى إلى سجنه وتعذيبه، ولكنه انتصر عليهم في النهاية.
وعلى مر العصور، وإلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يستمر الصراع بين الحق والباطل ولكن تكون الغلبة في النهاية لأهل الحق، إما في الدنيا بالنصر والتمكين، أو في الآخرة بالشهادة والمغفرة والجنة والفردوس الأعلى.
فالواجب علينا أن نحسن الظن بالدعاة إلى الله -تعالى- وأن نحبهم، وأن نتقرب إلى الله بمحبتهم، والله أعلم.
الواجب نحو من يظهر سلبيات الدعاة دون ذكر حسناتهم
وسئل فضيلة الشيخ: كيف نتعامل مع شباب نهجوا المنهج التشهيري والطعن في إظهار السلبيات فقط في بعض الدعاة وطلبة العلم، بحجة أنهم مبتدعة فلا تذكر حسناتهم، بل تذكر سيئاتهم للتحذير منهم؟
فأجاب: نقول: إن هؤلاء قد ضلوا كثيرا، وقد أخطئوا في فعلهم هذا، حيث إنهم لا يذكرون الحسنات؛ بل يقتصرون على السيئات.
ثم أيضا إذا نظرنا في تلك السيئات لم نجدها سيئات، كما يزعمون؛ بل هي حسنات واضحة، فلا يمكن أن تكون سيئة واضحة فيها ضرر على مسلم ملتزم بالإسلام أبدا، ولم نقرأ في كتاب من كتب هؤلاء الدعاة مقالة واضحة فيها ضرر على مسلم، لا في عقيدته ولا علمه، ولكن هؤلاء الذين يزعمون أنهم يحذرون من الأخطاء أو من السيئات، لا ندري كيف عثروا على تلك السيئات؟!(1/146)
فهم في الحقيقة يحملون الكلام ما لا يحتمله، ويحملون الجملة على محمل بعيد جدا، ويتكلفون في الطعن على تلك الجملة، ولو كانت بعيدة عما يقصدونه، وقد ثبت عن بعض السلف أنه قال: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرا، وأنت تجد لها في الخير محملا.
فإذا كانت تلك الجملة محتملة لعشرة احتمالات منها احتمال واحد حق، وباقي الاحتمالات خاطئة، حملناها على الاحتمال الذي هو حق، وتركنا الباقي لإحساننا الظن بقائلها، ولمعرفتنا بأنه لا يقصد إلا نصح الأمة، والتحذير من الأضرار التي تفتك بالأمة، والتي إذا تمكن أهلها أضروا بالعالم الإسلامي عامة، فنقول لهؤلاء: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين؟ نحن معكم على أن تأتوا بالكتاب كله ونبين لكم خطأكم وبُعد إدراككم. وكذلك هاتوا الأخطاء التي تزعمون كلها، ونبين لكم ما قبل كلامكم هذا وما بعده، وأنكم فهمتم خطأ.
ثم أنتم أيضا تخطئون خطأ آخر وهو كونكم تكتمون الحق، وتكتمون المحاسن، وتكتمون الحقائق، ولا تنشرون حسنة من الحسنات، وتقتصرون على المساوئ التي تظنون أنها مساوئ وهي بعيدة عما ظننتم.
وكذلك أيضا الواجب على العاقل المنصف أن يذكر الحسن والسيئ، فيذكر هذا إلى جانب هذا، حتى لو قدر أن هذا سيئ، وأنه كما يقول: إنه أخطأ وبعد عن الصواب، فعليه أن يذكر الأمرين جميعا، فيقول: هذه محاسنه، وهذه مساوئه، فيبين ما له وما عليه.
فأهل الإنصاف وأهل السنة يذكرون ما لهم وما عليهم، وأما أهل الضلال وأهل الباطل، فإنهم يقتصرون على ما لهم ويذكرونه ويوضحونه ويبينونه ويشرحونه، وأما الذي عليهم فإنهم يكتمونه: كمثل اليهود الذين عابهم الله بقوله -تعالى- : ? وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ?.(1/147)
ونعلم أيضا أن الإنسان ليس بمعصوم من الخطأ وأنه عرضة له، ولكن يجب إذا لوحظ عليه خطأ أن يبحث معه، فيقال: إنك أخطأت في كذا وكذا، فيبين له. ونحن نعرف أن كثيرا من المشايخ والدعاة إذا أوقفوا على خطأ وتحقق لهم أنه خطأ فإنهم يرجعون عنه إن شاء الله، لأن هدفهم الحق وقصدهم الذي قصدوه مقصد صالح حسن إن شاء الله.
ثم نعرف أيضا أن العالم أو الداعية مجتهد له أجر على اجتهاده، وإذا قدر أنه أخطأ فإنه مغفور له بجانب حسناتهم التي اشتهرت، والتي ظهرت للعالم عموما في أرجاء البلاد. فتغفر الزلات بجانب تلك الحسنات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران -يعني على اجتهاده وإصابته- وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر "(1) فهم مجتهدون فإن أصابوا فأجر الإصابة وأجر الاجتهاد موفر لهم إن شاء الله، وإن أخطئوا فخطؤهم مغفور ولهم أجر على اجتهادهم، ونعتقد أنهم إذا بين لهم أن هذا خطأ فلا بد وأن يظهروا الاعتراف والرجوع إلى الحق.
فنقول: متى وقفتم معهم على مجادلة وبينتم لهم؟ أنتم أيها الذين تضللون وتطعنون فيهم، هل اجتمعتم بهم في مجلس وناقشتموهم، وقلتم هذا خطأ؟! هل اجتمعتم أيضا بغيرهم ممن هو على نهجهم وناقشتموهم مناقشة؟! أما كونكم تخوضون في مجالس العامة، وتشهرون بأخطائهم وتذكرونها وتحذرون منهم، وتشهرون بأسمائهم بأنهم ضلال وبأنهم وبأنهم. فإنكم لن تصلوا إلى عشر معشار ما وصلوا إليه، ولا حَظَّ لكم في المنزلة التي أنزلهم الله إياها من المكانة في نفوس الناس، ولكن استروا أنفسكم كما يقول بعضهم:
ثكلتكم يا أجهل الناس فاستروا * * * مخازيكمُو لا تكشفوها فتشتهر
متى كنتم أهلا لكل فضيلة * * * متى كنتم حربا لمن حاد أو كفر
متى دستم رأس العدو بفيلق * * * وقنبلة أو مدفع يقطع الأثر
__________
(1) أخرجه البخاري برقم (7352) ومسلم برقم (1716) من حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه-.(1/148)
تعيبون أشياخا كراما أعزة * * * جهابذة نور البصيرة والبصر
فهم بركات البلاد وأهلها * * * بهم يدفع الله البلايا عن البشر
حكم تتبع طلبة العلم ونشر أخطاء غير صحيحة عنهم
وسئل حفظه الله: هل يجوز لشخص أن يقوم بتتبع طالب العلم الذي عرف وانتشر خبره، وأنه من أهل السنة والجماعة، وزكاه عدد من المشايخ والعلماء؛ بسبب وقوعه في خطأ أو أكثر؟
فأجاب: لا يجوز ذلك، فإن العالم إذا حمل العلم الشرعي الصحيح، وعمل به، ودعا إليه، وألف فيه، واشتهرت منزلته فيما بين الناس، وزكَّاهُ طلبة العلم وكبار العلماء، وشهدوا أنه على حق، وبأنه من أهل الحق، ولم يذكر عنه ما يسيء سمعته، ولا ما يقدح في عدالته، فالذي يطعن فيه لا يضره طعنه، وهذا ينطبق عليه قول الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها * * * فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
فلا يضر السحاب نبح الكلاب.
فمثل هذا الذي يطعن في العلماء المشهورين الذين لهم مكانتهم ولهم سمعتهم لا يؤبه له ولا يلتفت إليه، ولا يضرهم ما يتلفظ به من الأكاذيب، ولا ما يجمعه من الأسطر التي يأخذ مقاطع منها، ويطعن في كل كلمة لها احتمالات، ولا يبين ما قبلها وما بعدها، ويكون كالذي يأخذ شطرا لكلمة فيطعن بها، ويترك بقيتها.
ومعلوم أن الإنسان لو اقتصر على أول كلمة الإخلاص لكفر حتى يأتي بآخرها، فلو اقتصر على كتابة (لا إله) وأخذ يكررها لقلنا: إنك كافر، فكذلك الذي يقتصر على قطعة من جملة ويقول: إن هذا معنى كلام فلان، وأنه ضل بسبب هذا، نقول له: أخطأت، فلو أنك أكملت الجملة للناس لفهموا ما تقوله.(1/149)
ونقول: إنك أخطأت أيضا، فلو أنك أخذت جميع كلام ذلك العالم لوجدته أنه لا يقصد ما تريده، وأيضا ففي كلامه الذي في هذا الكتيب ما يزيل اللبس وما يوضح المقصد، والذي يأخذ قطعة خاصة فيجعلها مطعنا لا شك أنه ممن يتتبع العثرات، ويحمل الكلام ما لا يحتمله، فلا يؤبه له ولا يلتفت إلى قوله، ويكون الذي حمله على ذلك مثل الذي حمل اليهود على إنكار نبوة محمد، وهم يعرفون النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يعرفون أبناءهم، ولكن كما قال الله -تعالى- : ? أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ? وكما قال الله -تعالى- : ? حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ?.
فلا يلتفت إلى مثل هؤلاء الذين حملتهم شهرة هؤلاء العلماء ومكانتهم ولم يحصل لهم مثلها، فأرادوا بذلك أن يكون لهم أتباع كما يقال: [خالف حتى تعرف] أن يكونوا مخالفين الإفتاء؛ لتظهر لهم هذه المكانة. أو هذه الشهرة بين الناس.
ومع ذلك والحمد لله لم يؤثر كلامهم إلا في غوغاء الناس وفي جهلتهم الذين لا يؤبه لهم.
هل أسلوب المحاضرات يتوافق مع منهج السلف
وسئل حفظه الله: هل أسلوب المحاضرات في زماننا هذا يتوافق مع منهج السلف في الدعوة إلى الله والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهناك من يعيب بعض الدعاة على هذا الأسلوب وهذا المنهج، ويقول: إنه مخالف لمنهج السلف رحمهم الله؟
فأجاب: إن هؤلاء الذين يعيبون الدعاة؛ لم يشاركوا في الدعوة إلى الله، فنقول لهم: قوموا بالدعوة كما قاموا بها، أو بنصفها، أو بجزء منها، حتى يعرف الناس استقامتكم، ويعرفون ما تقومون به أنتم من هذه الدعوة.
فأما كونكم تتكلمون في الدعاة والعلماء وتؤلفون الكتب حولهم وتنتقدونهم فإن هذا عين الخطأ.(1/150)
فمن عاب الدعاة فليقم مقامهم في الدعوة، ولينصب نفسه معلما ومدربا وداعيا إلى الله، ويتولى الخطابة أو إلقاء المحاضرات أو المشاركة في الندوات، وليقم بواجبه الذي هو واجب الدعوة، وليكن له منزلة راقية عند الناس، بفصاحته وبيانه الذي أوتيه، ولا يقتصر على الحديث في المجالس، فإذا لم يفعل ولم يقم بهذه الدعوة فلا حَظَّ له في الإقبال ولا في التقبل ونحن نقول كما قال الشاعر:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم * * * من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
فأنتم إذا لم تقوموا بالدعوة فلا تطعنوا في الدعاة، وإن طعنتم فيهم فقوموا مقامهم، وبينوا للناس طريقة السلف في الدعوة ونحوها.
فالسلف -رحمهم الله- يسلكون مسالك في الدعوة إلى الله، فمنهم من يجلس في الحلقات الواسعة التي يجتمع فيها خمسة آلاف أو نحوهم، كما كان مجلس أبي بكر بن أبي شيبة عندما يجلس يحدث أو يَعِظ. وكذلك مجالس الإمام ابن الجوزي -رحمه الله- كان يعظ، فيجلس حوله مئات أو ألوف، ومع ذلك ليس هناك مكبر، وكلهم يستمعون إليه، ويجلس في الوعظ وفي التعليم، وكتبه موجودة، فحلقات العلم أو نحوها كالمحاضرات في زماننا هذا متى كانت مخالفة لطريقة السلف؟
والسلف -رحمهم الله- منهم من يجاهد، ومنهم من يتعبد، ومنهم من يعلم، ومنهم من يعظ ويرشد، ومنهم من يخطب، ومنهم من يحذر ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومنهم من يتخذ الولاية ونحو ذلك، وكل منهم نهج نهجا موافقا للحق إن شاء الله، ومن اتبع طريقتهم حشر معهم إن شاء الله.
نصائح وتوجيهات إلى العاملين في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
نصيحة لأعضاء الهيئة
سئل الشيخ وفقه الله: ما نصيحتكم لأعضاء الهيئة العاملين في الميدان، وذلك لكثرة ما يرون من منكرات؟
فأجاب: ننصح الجميع:(1/151)
أولا: بإخلاص النية وقصد إزالة المنكر، أو تخفيفه، لا رياء ولا سمعة، ولا لأجل الحفاظ على الوظيفة، أو المال المبذول، فمتى صلحت النية وهان على الإنسان أمر الدنيا بذل وسعه وأعمل جهده في إنكار المنكر حسب القدرة.
ثانيا: عليهم استعمال الرفق والتأني في الأمور وأن لا يفعلوا ما يكون بسببه عتاب أو حوار، وأن يشهدوا أهل العدالة على ما قالوا وما فعلوا.
ثالثا: عليهم الحرص على بذل الجهد في تغيير المنكرات وإنكارها وفعل ما يستطاع في القضاء عليها وإزالتها باليد أو باللسان أو بالسلطة التي يملكونها، أو برفع أمرها إلى المسئولين ومتابعة ذلك حتى يتم التغيير.
رابعا: عليهم الصبر والاحتساب على التعب والنصب والمشقة التي قد يلاقونها من سهر وجهد، ومن لوم وتوبيخ، ومن انتقاد واعتراض، مع إبداء الأعذار وبيان الآثار والأسباب والمبررات.
خامسا: عليهم إظهار الحق وإيضاحه والصبر عليه وإبداء كذب ما يذاع وينشر ضدهم من الأكاذيب وما يحاك لهم من المكائد، وأن هذه سنة الله في خلقه، حيث إن الأشرار يؤيد بعضهم بعضا، فلا يغتر بما يلصقون بالأعضاء من التهم والترهات التي يريدون بذلك عيبهم وثلبهم بها، فمتى تحملوا ذلك وأبدوا أعذارهم. نصرهم الله وقواهم، والله أعلم.
نصيحة لرجال الحسبة في زمن كثرت فيه الفتن
وسئل الشيخ حفظه الله: ما نصيحتكم لرجال الحسبة خاصة أننا نعيش في زمن كثرت فيه الفتن وقل فيه الصالحون؟
فأجاب: ننصحهم ونوصيهم بالصبر والاحتساب، والحرص على أداء المنوط بهم، وعلى ما تبرأ به الذمة، وذلك أن الأمة تحتج بهم، وتعلق عليهم التبعات فيما يظهر من المنكرات، فالناس في حقهم إما أن يلوموهم، وإما أن يعيبوهم، واللوم يجيء إذا قصروا أو تساهلوا فيما طلب منهم، أو ما هو من واجبهم، فيرميهم الناس بالإهمال والتغافل عن المنكرات، ويقدحون فيهم، فعليهم الصبر وعليهم الحرص على أن لا يجد أحد إليهم مدخلا.(1/152)
وعليهم إبداء أعذارهم فيما يظهر من الخلل والنقص في العمل، مع بذل الجهد في تغيير ما يقدرون عليه، وما يستطيعون الوصول إليه.
أما ما يرمون به من الجهل وقلة الفهم، ومن التهور والتسرع، ومن الغلو والشدة، فكل ذلك يصدر من أهل المعاصي والفساد، الذين يتمنون خلو الساحة لهم حتى يتمكنوا من نيل أغراضهم، والحصول على مشتهاهم من الخمور واللهو والأغاني والمعاكسات، وما يتبعها من الفواحش، ولا غرابة إذا تكلم هؤلاء في رجال الحسبة، وألصقوا بهم العيوب؛ لأنهم حالوا بينهم وبين ما يهوونه، فعليهم الصبر والتحمل وإبداء الأعذار والله المستعان.
الكتب التي ينصح بها لمن سلك طريق الأمر والنهي
وسئل حفظه الله: ما الكتب التي تنصحون بها من سلك طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
فأجاب: هناك كتب تتضمن الأدلة وبيان الحكم، وهناك رسائل وأبواب تتضمن الطرق والمناهج التي سلكها من يعمل بهذا العمل، وذلك مثل: (الأحكام السلطانية) للقاضي أبي يعلى (والأحكام السلطانية) للماوردي ويتضمنان واجب السلطان وما يعمله في تعيين من ينوب عنه.
وهناك رسالة (السياسة الشرعية) لابن تيمية وفيها توجيهات لولاة الأمور في إقامة الحدود والقضاء على المعاصي، ومعالجة الخصال المحرمة.
وهناك رسالة (الحسبة في الإسلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية أيضا تختص بعمل الهيئات، وما يسيرون عليه، وقد طبعت الرسالتان في مجموع الفتاوى الجزء الثامن والعشرون.
وفيه أيضا رسائل أخرى له تتعلق بالموضوع.
كما ننصح بقراءة الموضوع في كتاب (الآداب الشرعية) لابن مفلح فقد تكلم على ذلك بكلام جميل حسن.
وهكذا شروح الأحاديث كشرح النووي على مسلم و ابن حجر على الفتح في مواضع منه.
وقد كتب فيه أيضا المتأخرون، ومن أحسن من كتب فيه الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في رسالة بعنوان (القول المحرر) ففيها تفصيل عن الموضوع، والله أعلم.
مسائل عامة تتعلق بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر(1/153)
الذنوب التي يعتبر الإقدام عليها فسقا
سئل الشيخ حفظه الله -تعالى- ما الذنوب التي يعتبر الإقدام عليها فسقا ؟
فأجاب: الفسق هو: الخروج عن الطاعة بترك شيء من العبادات المفروضة، أو فعل شيء من المعاصي المحرمة.
وقد سمى الله بعض المعاصي فسقا كقوله -تعالى- : ? وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ? وقال -تعالى- : ? وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ? وقال -تعالى- : ? أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ ? وقال -تعالى- : ? وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ? وقال -تعالى- : ? وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ ? وقال -تعالى- : ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ? وقال -تعالى- :
? وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ?.
وقد جعل الله الفسق مقابل الإيمان، فقال -تعالى- : ? أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ? وقد اتفق أهل السنة على أن المعاصي وفعل المحرمات لا يخرج من الإسلام والإيمان، فسموا الفاسق عاصيا، ولو كانت معصيته من الكبائر التي هي دون الشرك، كالزنى، والسرقة، وأكل الربا، والكذب، وشرب الخمر، والقذف، والغيبة، والنميمة، والغلول، وشهادة الزور، ونحو هذا، وما ورد من الوعيد في هذه المعاصي فإنه محمول على الزجر والترهيب منها والله أعلم.
الأحكام الشرعية المتعلقة بالتعامل
مع الفاسق
وسئل وفقه الله وجعله من أهل الجنة: ما الأحكام الشرعية المتعلقة بالتعامل مع الفاسق ؟(1/154)
فأجاب: اتفق أهل السنة على أن المعاصي التي دون الشرك والكفر لا تخرج من الإيمان، وما ورد فيها من الوعيد بالنار ونفي الإيمان وعدم دخول الجنة فهو من أحاديث الوعيد التي تجرى على ظاهرها ليكون أبلغ في الزجر، ولا يخاض في تأويلها ويتكلف في الجواب عنها بما هو خلاف المتبادر، وتحمل على أن المراد التنفير والإبعاد عن فعل تلك المعاصي، ولهذا لا يجب عليه القتل، ولا يقاتل ولا يستباح ماله، ولا تطلق منه زوجته، ولا يحرم من ميراث قريبه، وإنما يقام عليه الحد الشرعي كالقصاص في النفس أو الطرف والرجم للمحصن الزاني، والقطع للسارق، والتعزير في المعاصي التي لا حد فيها.
وكذا يهجر إذا كان ذلك مما يزجره ويحمله على التوبة وتترك معاملته التي يفهم منها إقراره واستحسان ما هو عليه، وأما إذا كان الهجر لا يزيده إلا نفورا وتماديا في المعصية فلا يهجر، ولكن نظهر له البغض والاحتقار دون أن نظهر له بشاشة وتلطفا، ونحو ذلك ليكون ذلك أدعى للتوبة وللتحذير من الانهماك فيما هو فيه.
حكم مناصحة الفاسق
وسئل وفقه الله: ما حكم مناصحة الفاسق ؟
فأجاب: تجب مناصحته قبل هجره، وذلك إذا تحقق أنه وقع في معصية، فإن كان قد تاب وأقلع منها فإنه يدعى له بالقبول ويشجع على التوبة، فإن كان مُصِرًّا على المعصية: كالمدخن، والمسبل، والمتكاسل عن صلاة الجماعة، والمستمر على سماع الأغاني، أو على النظر إلى الأفلام الخليعة، والصور الفاتنة، أو على شرب المسكرات والمخدرات، أو على المعاملات الربوية، أو على أخذ الرشاوي وأكل المال بالباطل.(1/155)
ونحو ذلك، فالواجب نصحه وتحذيره وتخويفه من عقوبات الذنوب العاجلة والآجلة، ولا بد من تكرار النصح والتوبيخ وبيان العاقبة السيئة والوقائع الشديدة بأهل المعاصي، وأن لا يغتر بالإمهال وما هو فيه من السعة والراحة والاطمئنان إلى فعل هذه الذنوب، ويحسن أن ينصحه أهل العلم وأهل الدين والصلاح، فإنهم أقدر على البيان وإظهار الحجة وقطع المعذرة، والله أعلم.
الاهتمام بجانب دون الآخر
وسئل حفظه الله ورعاه: إذا اهتم عالم بجانب من الجوانب الشرعية نظرا لحاجة بلده إلى ذلك الجانب (كالاهتمام بالحاكمية في بلد لا يُحَكِّم شرع الله) هل هذا يدل على عدم اهتمامه بجوانب الشرع الأخرى؟
فأجاب: اعلم أن الواجب على كل فرد من الأمة الإسلامية أن يتعلم ما يلزمه العمل به وما يصح به عمله ويخرج به من العهدة، فيتعلم الطهارة الواجبة ونواقضها، وصفة الصلاة ومبطلاتها، ومقدار الزكاة إن كان من أهل الأموال الزكوية، وكذا تعلم الصيام وما يفسده، وتعلم العقود اللازمة والمحرمات الشرعية، وكذا تعلم العقيدة السليمة والعبادة بأنواعها وما يضادها، وكذا بقية العلوم الضرورية.
أما إذا عرف ما لزمه من العقائد والأعمال وأراد التوسع والتخصص فله أن يهتم بالعلم الذي تمس إليه حاجته كثيرا لوجود من يطعن فيه، أو من يخالفه، ولهذا اهتم السلف الصالح بعلم العقيدة لكثرة المخالفين فيها من أهل البدع والمحدثات، فأكثروا من الكتابة في إثبات الصفات والقرآن والكلام والإيمان ونحو ذلك، وعلى هذا فلا ينكر على من اهتم بأمر الحاكمية للحاجة الماسة في بلاده، أو اهتم بأمر التصوف أو بأمر الأولياء أو بالرد على القبوريين لوجودهم عنده وللاستعداد لمناقشتهم وقطع شبههم، أما بقية العلوم الزائدة على قدر الحاجة فلا يلزمه التوسع فيها، ولا يعتبر تركه استهانة بها، والله أعلم.
الشروط الواجبة في التناظر
مع المخالف أو الضال(1/156)
وسئل حفظه الله: ما الشروط الواجب توفرها في التناظر مع المخالف أو الضالِّ ؟
فأجاب: المناظرة هي المجادلة في المسائل التي يوجد فيها خلاف، وإن كان ضعيفا، وقد كان كثير من السلف ينهون عن مناظرة المبتدعة، ويأمرون بهجر مجالسهم والتحذير من سماع كلامهم مخافة أن تقع شبهة من شبهاتهم في القلب فيصعب التخلص منها، ومع ذلك فقد يجب رد شبهاتهم وتفنيد أباطيلهم، وذلك يتوقف على معرفة الحق والقول الصحيح بأدلته، وعلى معرفة ضعف تلك الشبه التي يتشبثون بها، وعلى معرفة قواعد الشريعة وأسسها، وعلى معرفة تهافت أدلة المبتدعة، ثم ذلك يكون عند الضرورة إلى مجادلتهم، والخوف من تمكن شبههم واشتهارهم عند العامة، كما ناظرهم الأئمة وعلماء الأمة: كأحمد في مسألة خلق القرآن، وابن تيمية في مسائل الصفات الفعلية، وشد الرحال لزيارة القبور ونحو ذلك.
الحكمة من النهي عن المجاهرة
وسئل وفقه الله: ما الحكمة من النهي عن المجاهرة ؟ ولماذا كل هذا الوعيد؟
فأجاب: المجاهرة هي إعلان المنكر، كالمعلن لشرب الدخان، أو الخمر، وحلق اللحى، وإعلان النساء للتبرج والسفور، وإعلان اختطاف النساء، أو معاكستهن ومتابعتهن، وإعلان ترك الصلاة ونحو ذلك.
ولا شك أن الذنب أعظم، والوعيد عليه أشد، والحكمة في النهي أنه جمع مع الذنب التهاون به أمام الجماهير، وفي ذلك دعوة إلى المعاصي بالفعل فَيُجَرِّئ الجهال على الذنوب، ويخفف أمرها، فيتهاونون بالحرمات، وبرجال الحسبة، عليه من الله ما يستحقه.
حكم استدراج الآخرين للايقاع بهم
وسئل أثابه الله ورزقه الجنة: ما حكم من يستدرج الآخرين للايقاع بهم أو توجيه الكلام معهم بطريقة معينة للحصول على أقوال معينة للإضرار بهم؟
فأجاب: لا يجوز ذلك لما فيه من الإضرار بالمسلم، وكذا خديعته واستدراجه حتى يتلقف منه زلة أو غفلة، أو كلمة يحملها ما لا تحتمله.(1/157)
ولا شك أن هذا ينافي النصيحة للمسلم الواجبة على كل فرد لإخوانه، فإنك متى سمعت أو علمت من أخيك زلة أو كلمة نابية، فعليك نصحه وإرشاده، وإيضاح الحق له، وتحذيره مما ينكر عليه، لعله ينيب ويرجع، ولا تفش سره، ولا تنقل كلامه إلى غيره كغيبة أو نميمة فتضر بأخيك، ومن ضار مسلما أضره الله، ومن شق على مسلم شق الله عليه(1) والله أعلم.
خاتمة في وجوب تقبل النصح من علماء المسلمين ودعاتهم ونبذ الفرقة والحزبية
يجب على كل فرد من أفراد المسلمين أن يتفقد نفسه ويحاسبها، فإذا أحس من نفسه بخلل أو نقص بادر إلى تغييره وإصلاح نفسه، وما وقع فيه من الخلل أو النقص أو التقصير.
وإن جاءك أحد من زملائك أو مشايخك أو أصدقائك وأهدى إليك نصيحة لأمر وجده عليك، فعليك أن تتقبل نصحه وإرشاده إن كان محقا فيما يقول، وتدعو له في وجهه وفي ظهر الغيب، وتشجعه على إرشاده إياك. ثم تعمل بما نصحك وأرشدك، فرحم الله من أهدى إلينا عيوبنا.
وإن كان لك عذر، اعتذرت عنه، وبينت أن عذرك في هذا النقص كذا وكذا.
ولا مانع من أن يعرض المسلم نفسه على مشايخه وزملائه ويقول: يا شيخ، أو يا فلان، أنا عملت كذا وكذا، وأريد أن ترشدني، أو يقول: يا فلان تعرفني منذ سنوات، فماذا تنتقد علي، وأي نقص تجده فيّ؟
فإن أرشده ونصحه فعليه أن يفرح ويُسرَّ؛ لأنه ما نصحك وأرشدك إلى الخير إلا لمحبته لك.
وعلى المسلم إذا سمع نصيحة لواعظ أن يسأل نفسه: هل هو ممن عمل بها وطبقها؟ أو أنه أهمل العمل بها أو أخل بشيء منها؟
__________
(1) لحديث أبي صرمة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه أخرجه أبو داود برقم (3635). والترمذي برقم (1940). وابن ماجه برقم (2342). وأحمد في المسند (3/453). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.(1/158)
فإذا رأى نفسه قصرت في شيء من ذلك فعليه أن يتلافاه ويراجع نفسه ليكون من الكُمَّل، والإنسان العاقل يحرص على أن يكون كاملا كمالا بشريا.
وعلى المسلم أيضا أن يكون من الحريصين على الدعوة إلى هذا الدين وهذا الإسلام، ومكافحة ومجاهدة أهل الباطل وأهل الضلال والرد عليهم ورد مكائدهم وضلالهم عليهم، وعلى بث تعاليم الإسلام وروحه بين المسلمين.
وكذلك على المسلم أن يكون ممن يعمل على جمع كلمة المسلمين علمائهم وعبادهم وطلابهم، حيث إن هدفهم وقصدهم واحد، وهو تحقيق الإسلام، وتحقيق التوحيد، وتحقيق العقيدة -عقيدة أهل السنة والجماعة- وكذلك كلهم على منهج واحد هو منهج السلف الصالح.
فإذا سمعنا أن فلانا يحقد على فلان فعلينا أن نجمع بينهما؛ فنسعى بالإصلاح بين الزملاء، والأقارب، والعلماء وغيرهم.
فإذا تبين الخطأ في جانب أحدهم فعليه أن يعتذر عن خطئه وأن يرجع عنه.
هذا هو و(3) المسلم الناصح لإخوانه
وكثيرا ما يقع الشقاق والفرقة والخلافات بين الشباب -وهذا ما يسوءُنا- فتجد هؤلاء متحزبين على أمر يخالفون فيه الآخرين، وهذا التحزب والفرقة هو مما يفرح الأعداء -أعداء الله وأعداء دينه- من المبتدعة، والضلال، ودعاة الكفر والمعاصي، فهم يحبون أن نكون أحزابا وشيعا : ? كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ?.
بينما هم -أي العلماء والدعاة ونحوهم- يحبون أن يكونوا حزبا واحدا، متكاتفين مجتمعين لتكون لهم السيطرة والسلطة.
فإذا كان الإسلام يدعو إلى الاعتصام بحبل الله، كما قال -تعالى- : ? وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ?.
ويذم الذين تفرقوا كما قال -تعالى- : ? إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ? كانوا شيعا يعني: أحزابا، وفرقا ضالة.(1/159)
وقال الله -تعالى- : ? مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ? فرقوا دينهم يعني: أنهم ساروا على منهج، وسار الآخرون على منهج آخر، ودين الله واحد.
فإذا كان دين المسلمين وعقيدتهم وكتابهم ونبيهم واحدا، فلماذا هذا التفرق ولماذا هذا التحزب؟
إن هؤلاء الذين فرقوا بين شباب المسلمين وأوقعوا الوحشة بينهم وبين علمائهم، وسببوا إساءة الظن بالعلماء والعباد، وأهل الخير والدعاة إلى الله، ونقلوا عنهم ترهات وأكاذيب، هم رسل الشياطين، ورسل أعداء الدين، الذين يصدون عن الخير، ويدعون إلى الشر، قال الله -تعالى- : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ?.
بدأ بشياطين الإنس قبل شياطين الجن، وأخبر بأن شياطين الجن توحي إلى شياطين الإنس بقوله -تعالى- : ? يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ ? يوحي بعضهم يعني: يوصي بعضهم بعضا بهذه الزخرفة، وهذا الباطل. ونحو ذلك؛ فإن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ويجادلونكم: ? وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ?.
فإذا علمنا أن هذه الإساءة، وهذه الظنون السيئة إنما يروجها أعداء المسلمين، وأولياء الشياطين، فلا ينبغي الإصغاء إليهم، وعلينا أن نحسن الظن بعلماء المسلمين، ونعذرهم إذا أخطئوا في الاجتهاد أو الرأي، ونعتذر عنهم، وإذا أشكل علينا شيء من أمرهم، فعلينا أن نتصل بهم ونستفسرهم، ولا نأخذ الأمور على علاتها، ولا نلقي كلاما على عواهنه، ولا نصدق كل ما يقال، أو كل ما يذاع، أو كل ما نسمع؛ بل يجب أن نتثبت من الأمور، ونتحقق من صحتها ونرد الباطل على من جاء به.(1/160)
وقد أمرنا الله -تعالى- بالتثبت والتبين، بقوله -تعالى- : ? إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ? أي: تثبتوا واصبروا، حتى يتبين لكم صحة ما جاء، أو يقال.
فإذا تثبتنا في هذه الأمور، رجي بذلك أن يحصل لنا التأني فيها، وأن نكون على بصيرة من أمرنا.
هذا كله مما ينبغي أن نتواصى به، وهو التثبت في الأمور، وإحسان الظن بعلماء المسلمين، ودعاتهم والمصلحين منهم. ومن علامة الإصلاح أو الصلاح الثناء الحسن من جماهير المسلمين لذلك الداعي، أو العابد، أو العالم، فإن هذه علامة واضحة في أن ذلك الداعي محبوب عند الله -تعالى- وعند عباده.
وقد ورد في صحيح مسلم وغيره : " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال: وجبت، وأثني على أخرى شرا، فقال: وجبت، ثم قال: هذا شهدتم عليه بالخير وأثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، فأنتم شهداء الله في الأرض "(1).
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أيضا بأن الله -تعالى- إذا أحب عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه أهل السماوات، ثم يوضع له القبول في الأرض، وكذا إذا أبغض عبدا(2) ودليل ذلك من القرآن قوله -تعالى- : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُالرَّحْمَنُ وُدًّا ? أي مودة في قلوب الناس.
يقول ابن مسعود -رضي الله عنه- إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وقوة في الجسم، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس، وإن للسيئة ظلمة في الوجه، وسوادا في القلب، ووهنا في الجسم، وضنكا في المعيشة، وبغضا في قلوب الناس.
__________
(1) أخرجه مسلم برقم (949). عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
(2) أخرج بعضه البخاري برقم (3209) و(6040) و(7485). وأخرجه مسلم برقم (2637). عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.(1/161)
ويقول الحسن ليتق الله أحدكم أن تلعنه قلوب الناس وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله في قلوبهم له بالبغضاء، وإن لم يعلموا عنه إلا شيئا ظاهرا.
ولكن لما أنه صار يستحسن المعاصي، ويخلو بها، جعل الله ظلمة في قلوب أهل الخير منه، وهذه علامة على أنه ممقوت عند الله وعند عباده.
وعلينا أن تكون أهدافنا ومقاصدنا لله -تعالى- وأن نقصد رضاه وحده، لا نقصد رضا أي مخلوق. نرضي الله -تعالى- ولو سخط علينا من سخط، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " من التمس رضا الله بسخط الناس -رضي الله عنه- وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس "(1). وفي رواية: " عاد حامده من الناس له ذاما "(2) وفي الحديث الآخر:
" إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تمدحهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره "(3).
__________
(1) أخرجه الترمذي برقم (2414) وابن حبان في صحيحه (1541 و1542- موارد) وأبو نعيم في الحلية. عن عائشة -رضي الله عنها-. وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 225). والمنذري في الترغيب (3/ 200). قال المنذري: رواه الطبراني بإسناد جيد قوي.
(2) رواه البزار كما في كشف الأستار برقم (3568) والهيثمي في المجمع (10/ 225) وابن حبان في صحيحه (277) والبيهقي في الزهد الكبير (890) عن عائشة -رضي الله عنها-. وإسناده حسن.
(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 106) و(10/ 41)، والبيهقي في الجامع لشعب الإيمان (1/ 525، 526) رقم (203)، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، وأعله بمحمد بن مروان السدي، وقال: ضعيف، وفيه أيضا عطية العوفي وهو صدوق يخطئ كثيرا وكان مدلسا.(1/162)
فعلينا أن نخلص أعمالنا لله -تعالى- وأن نقصد وجه الله ورضاه، لعل الله أن يقوي إيماننا ويثبتنا، فنكون من الذين يصدعون بالحق، الذين مدحهم الله بقوله : ? فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ?
فوصفهم بهذه الصفات، فبدأها بأنه يحبهم، وأنهم يحبونه، ثم ختمها بأنهم لا يخافون في الله لومة لائم، وقد أكد هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إحدى وصاياه السبع التي أوصاها لأبي ذر، ختمها -صلى الله عليه وسلم- بقوله : " وأن لا أخاف في الله لومة لائم، وأن أقول الحق وإن كان مرا.. "(1).
فإذا صدع المسلم بالحق ولو كان ثقيلا على نفسه أعزه الله -تعالى- وعذره الخاص والعام وعرفوا أنه ممن لا يخاف إلا الله -تعالى- وجعل الله له مخرجا، وحصلت له صفة التقوى، التي مدح الله عليها، ووعد عليها خيرا بقوله -تعالى- : ? وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ?.
والله -تعالى- أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند (5/159). وابن حبان (2/194) رقم (449). والبيهقي في السنن (10/ 91) وأبو نعيم في الحلية (1/159، 160) وصححه الأرناؤوط في تخريجه لابن حبان (2/ 194- إحسان).(1/163)