الفهرس التشعبي
1. ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
2. ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
3. ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
4. ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
5. ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
6. ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح
7. ثقافة التلبيس (7) : الإسلام دين العدل لا المساواة
8. ثقافة التلبيس (8) : ( مصطلح : الإسلام السياسي ) ..
9. ثقافة التلبيس (9) : قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
10. ثقافة التلبيس ( 10 ) : مصطلح : " الآخر " ..!
11. ثقافة التلبيس ( 11 ) : قولهم:لابد من فتح المجال لجميع المذاهب في السعودية!!
12. ثقافة التلبيس ( 12 ) : خلطهم بين الحب الشرعي للوطن والحب الوثني !
13. ثقافة التلبيس ( 13 ) : عدم تكفير اليهود والنصارى ..!
14. ثقافة التلبيس ( 14 ) : الوسطْ .. الغلطْ
15. ثقافة التلبيس ( 15 ) : ( مصطلح التنوير )
16. ثقافة التلبيس ( 16 ) : تعظيم الفلسفة والمطالبة بتدريسها
17. ثقافة التلبيس ( 17 ) :تقسيم أهل السنة إلى "حنابلة-أشاعرة-ماتريدية " .. !(1/1)
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
يستعمل دعاة التقريب بين أهل السنة والمبتدعة هذا المصطلح كثيراً في كتاباتهم محاولة منهم خلط الحق بالباطل وتمييع قضايا "السنة" و"البدعة" وما يترتب عليها من أحكام. ويزعمون أنه يجب أن تلتقي طوائف الأمة الإسلامية وتتآلف مع بقاء كلٍ منها على عقيدته وآرائه يعلنها على الملأ ، وينشرها مهما كانت! ما دام يصدق عليه أنه من "أهل القبلة"؛ ويعنون بهم من يستقبل القبلة في صلاته مهما كانت عقائده (كفرية) أو مخالفة للكتاب والسنة! دون تفريق.
ولا يرضون –بعد هذا- لأحدٍ أن يرد على أهل البدع أو يكشف انحرافاتهم؛ لأن هذا –عندهم- مما يفرق "أهل القبلة"!
ويجهل هؤلاء الواهمون أو يغفلون عدة حقائق تبين هذا المصطلح وما يراد به عند أهل العلم. هذه الحقائق باختصار هي:
1- أن هذا المصطلح مقتبس من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته). أخرجه البخاري.
2- أن المقصود من هذا الحديث –كما بين العلماء- أن المسلم المصلي لا يجوز تكفيره وإخراجه من الإسلام؛ بل يبقى على هذا الأصل؛ إلا أن يأتي بأمر مكفِّر.
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: (فيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك ) . فتح الباري (1/592).
ولهذا فقد أخرج البخاري عقب هذا الحديث ما يوضحه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله).
فهذا الحديث متعلق بمسائل "التكفير"، وأنه لا يجوز تكفير المسلم –وإن كان مبتدعاً- بكل ذنب، ما لم تكن بدعته مكفرة.(2/1)
3- قال الطحاوي في عقيدته: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين).
قال ابن أبي العز في شرحه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا". ويشير الشيخ –رحمه الله- بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحلَّه.
والمراد بقوله: "أهل قبلتنا" من يدَّعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: "ولا نكفرِّ أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه) . (شرح العقيد الطحاوية، ص 426-427، ط: التركي والأرنؤط).
وقال في الموضع المشار إليه (ص 432-434) : ( قوله: "ولا نكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله".
: أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين" يشير الشيخ –رحمه الله- إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم –رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير، بابٌ عظُمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه – في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.(2/2)
فطائفة تقول: لا نكفِّر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة: المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل كافراً مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب "السنة" بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) [الأنعام: 68].
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب. بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب؛ كما تفعله الخوارج..). انتهى كلام ابن أبي العز – رحمه الله - .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان؛ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعضهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يُعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يُطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد) (الفتاوى، 7/618-619).(2/3)
وقال –أيضاً-: (قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذا كان فعلاً منهياً عنه؛ مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان، وأما إن تضمن ترك ما أمر الله به من الإيمان؛ مثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به). (الفتاوى، 20/90).
قال الدكتور إبراهيم الرحيلي معلقاً: (لكن ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنب منصوصاً على الكفر به كفراً أكبر؛ كترك الشهادتين، أو ترك الصلاة.. وأن لا يكون الذنب مما ينافي الإيمان بالله). (موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع، 1/182).
وقال الشيخ سليمان بن سحمان – رحمه الله - راداً على بعض من اغتر بمقالة "عدم تكفير أهل القبلة" ليحملها على الجهمية: (وأما ما ذكرته من استدلال المخالف بقوله صلى الله عليه وسلم "من صلَّى صلاتنا.." وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فإن هذا فرضه ومحلّه في أهل الأهواء من هذه الأمة ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام ؛ كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون؛ لأن أصل الإيمان الثابت لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله، والعمدة استصحاب الأصل وجوداً وعدماً، لكنهم يُبَدّعون، ويضللون، ويجب هجرهم، وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف.
وأما الجهمية وعباد القبور: فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام) . (إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية، ص 157).(2/4)
وقال الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله-: (الآن لما فشا الجهل واشتدت غربة الدين، ظهر ناس من الذين يتسمون بالعلم، ويقولون: لا تكفِّروا الناس، يكفي اسم الإسلام، يكفي أنه يقول: أنا مسلم، ولو فعل ما فعل، لو ذبح لغير الله، لو سب الله ورسوله، لو فعل ما فعل ، ما دام أنه يقول: أنا مسلم فلا تكفره!! وعلى هذا يدخل في التسمي بالإسلام الباطنية والقرامطة، ويدخل فيه القبوريون، ويدخل فيه الروافض، ويدخل فيه القاديانية، ويدخل فيه كل من يدعي الإسلام، يقولون: لا تكفروا أحداً، ولو فعل ما فعل، أو اعتقد ما اعتقد، لا تفرقوا بين المسلمين . سبحان الله! نحن لا نفرق بين المسلمين، ولكن هؤلاء ليسوا مسلمين؛ لأنهم لما ارتكبوا نواقض الإسلام خرجوا من الإسلام، فكلمة لا تفرقوا بين المسلمين، كلمة حق والمراد بها باطل، لأن الصحابة رضي الله عنهم لما ارتد من ارتد من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم، ما قالوا: لا تفرقوا بين المسلمين؛ لأنهم ليسوا مسلمين ما داموا على الردة، وهذا أشد من أنك تحكم لكافر بالإسلام، وسيأتيكم أن من الردة، من لم يكفر الكافر، أو شك في كفره، فهذه المسألة وهي من لم يكفِّر الكافر أو شك في كفره فهو كافر مثله، وهؤلاء يقولون لا تكفروا أحداً ولو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: لا إله إلا الله، أنتم واجهوا الملاحدة واتركوا هؤلاء الذين يدعون الإسلام!! نقول لهم: هؤلاء أخطر من الملاحدة؛ لأن الملاحدة ما ادعوا الإسلام، ولا ادعوا أن الذي هم عليه إسلام، أما هؤلاء فيخدعون الناس ويدّعون أن الكفر هو الإسلام، فهؤلاء أشد من الملاحدة، فالردة أشد من الإلحاد –والعياذ بالله-، فيجب أن نعرف موقفنا من هذه الأمور ونميزها ونتبينها؛ لأننا الآن في تعمية ، فهناك ناس يؤلفون ويكتبون وينتقدون ويحاضرون، ويقولون: لا تكفروا المسلمين، ونقول: نحن نكفر من خرج عن الإسلام، أما المسلم فلا يجوز تكفيره) .(2/5)
(سلسلة شرح الرسائل، ص 213-215).
قلت: فحق – بعد هذا – أن يقال لدعاة "التقريب الموهوم" ما قاله المتنبي:
فإن الجرح ينفر بعد حين *** إذا كان البناء على فساد !
فلا لقاء ولا تآلف ولا تقارب بين الفرق الإسلامية ما لم تلتق على عقيدة السلف ومنهجهم. وأما بغير ذلك "فستبقى حزازات النفوس كما هي".
والخلاصة: أن هذا المصطلح لا يؤيد دعاوى العصرانيين ونحوهم ممن يريد أن يُلبس الحق بالباطل، ويساوي بين أصحاب الصراط المستقيم بغيرهم من المبتدعة المنحرفين. بل تبقى أحكام المبتدعة كما هي: من ارتكب منهم مكفراً كفرناه، ومن لم تخرجه بدعته عن الإسلام ناصحناه وبينا انحرافه وخطأه، وتعاملنا معه بما هو مقرر في كتب أهل العلم (انظر مثلاً: رسالة الدكتور إبراهيم الرحيلي "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع").
وقدسئل الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-: كيف يتعامل الإنسان الملتزم بالسنة مع صاحب البدعة؟ وهل يجوز هجره؟
فأجاب: ( أقول: إن البدع تنقسم إلى قسمين: بدع مكفرة، وبدع دون ذلك، وفي كلا القسمين يجب علينا نحن أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق ببيان الحق دون أن نهاجم ما هم عليه إلا بعد أن نعرف منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) فندعوا أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته، والحق مقبول لدى كل ذي فطرة سليمة، فإذا وُجد العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم، على أن بيان باطلهم في غير مجادلتهم أمر واجب.
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ؛فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره: إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه..) (الفتاوى، 1/35).
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..(2/6)
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
.(2/7)
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
هذه الحلقة هي الثانية من سلة (ثقافة التلبيس) التي أنوي نشرها –لاحقاً- في رسالة واحدة، فأتمنى من قارئيها –وفقهم الله للخير- أن يزودوني بما يجدونه عليها من ملاحظات أو زيادات. وقد كانت الحلقة الأولى عن مصطلح (أهل القبلة) . أما حلقة اليوم فتتحدث عن مصطلح (الإصلاح) الذي شاع ذكره وكثر تداوله في وسائل الإعلام هذه السنوات القريبة –لاسيما في بلاد التوحيد- فلا يكاد يمر أسبوع أو أسبوعان –أو شهر على أكثر تقدير!- إلا ونسمع عن ندوة تعقد عن (الإصلاح)، أو مقال يُحبر في (الإصلاح).. وهكذا. فكلٌ يدعي وصلاً بهذا (الإصلاح) مهما اختلفت المشارب أو التوجهات؛ مما أحدث ربكة في أذهان المتابعين، وعجباً كثيراً عندما يرون التباين الواضح والمتناقض بين مدعي (الإصلاح) ؛ مما أورث تساؤلاً لديهم عن: من (المصلح) الحقيقي من هؤلاء المدعين ؟! لأن (الإصلاح) مصطلح مجمل يستعمله المصلح والمفسد في آن واحد. وكما قال ابن القيم –رحمه الله-: (أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل) (شفاء العليل، 1/324).
وقال –أيضاً-: (أصل ضلال بني آدم: الألفاظ المجملة، والمعاني المشبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهاناً مخطبة) (الصواعق، 3/927).
قلت: ومصطلح (الإصلاح) في القرآن الكريم نوعان :
1- الإصلاح الصادق؛ وهو إصلاح الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ ممن يدعو إلى توحيد الله وعبادته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن تنتشر الطاعات والخير، وتندثر السيئات والشر.
قال الشيخ ابن سعدي في تفسيره (1/51): (الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به؛ لهذا خلق الله الخلق وأسكنهم الأرض)
ومن هذا الإصلاح الحق ما قاله شعيب عليه السلام لقومه (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت). ثم نهاهم عن الإفساد المضاد للإصلاح :(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).(3/1)
قال ابن كثير في تفسيره (2/231): (فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك؛ كان أضر ما يكون على العباد).
وهذا الإصلاح الصادق إذا كثر حملته وظهروا وتصدروا الأمة كان ذلك أمنة –بإذن الله- أن تصيبهم العقوبة ويعمهم الهلاك؛ كما قال تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
قال الطبري في تفسيره (15/530): (يقول تعالى ذكره: وما كان ربك يا محمد ليهلك القرى التي أهلكها، التي قص عليك نبأها ظلماً وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم؛ ظلماً. ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم، وركوبهم السيئات).
2- الإصلاح الكاذب: وهو إصلاح المنافقين والمفسدين ممن يُلبسون على الأمة بتسمية إفسادهم إصلاحاً! كما قال تعالى عن أسلافهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) لكن الدعاوى لا تنفع أصحابها إن لم تكن حقيقة؛ ولذا رد الله عليهم وبين كذبهم بقوله (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
قال الطبري –رحمه الله- في تفسيره (1/289-290): (والإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، فدلك جملة الإفساد.. فكذلك صفة أهل النفاق: مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربّهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بالتصديق والإيقان بحقيقته، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها).
وقال في تفسير قوله تعالى (ألا إنهم هم المفسدون) (1/291): أي (المخالفون أمر الله عز وجل، المتعدون حدوده، الراكبون معصيته، التاركون فروضه)(3/2)
وذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (1/32): أن فسادهم هو: (الكفر) و(العمل بالمعاصي) و(النفاق).
وقال القرطبي في تفسير قول المنافقين (إنما نحن مصلحون) (1/204): (إنما قالوا ذلك على ظنهم؛ لأن إفسادهم عندهم إصلاح).
وقال الراغب: تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح؛ لما في قلوبهم من المرض؛ كما قال (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) وقوله: (وزين لهم الشيطان ما كانون يعملون) وقوله: (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
وقال القاشاني: (كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا –لأنفسهم خاصة- لتوغلهم في محبة الدنيا)، أي على حساب الدين.
(انظر: محاسن التأويل للقاسمي، 1/252).
وقال ابن سعدي في تفسيره (1/50): (جمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح! قلباً للحقائق، وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقاً. وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها، فهذا أقرب للسلامة، وأرجى لرجوعه).
وقال سيد قطب في الظلال (1/44): (والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدًا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية)
وقال الطاهر بن عاشور في تفسيره (1/284): (إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع... –إلى أن قال- فالإفساد في الأرض، منه: إفساد المساعي؛ كتكثير الجهل، وتعليم الدعارة، وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين المصلحين. ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق (تفسدوا) تأكيداً للعموم) .(3/3)
قلت : فليتنبه المسلم بعد هذا إلى الفرق بين الإصلاحين ؛ حتى لا ينخدع بدعاوى أهل النفاق – لاكثرهم الله - .
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
.(3/4)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
هذا المصطلح يستخدمه البعض في مجال العلم للدلالة على "ترك الميل في بحث قضية من القضايا، والوقوف موقف العدل والإنصاف"1 ويعدون التلبس به مما يمدح به الباحث، ويدل على عدم حيفه واستجابته لعواطفه التي قد تخالف ما يظهر له من حقائق .
ولكن لو نظرنا إلى معنى هذا المصطلح في اللغة لوجدناه لا يدل على شيء من هذا. فقد جاء في لسان العرب (مادة: حيد): "حاد عن الشيء: يحيد حيداً وحَيَداناً ومحيداً وحيدودة : مال عنه وعدل". ومثله في القاموس المحيط. فلا رابط بين معناها في اللغة وما استخدمت له في مجال العلم. إلا أن يراد أن يميل الإنسان أثناء البحث عن (الهوى) الذي يصده عن الحق، كما قال تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله..) الآية، فعندها يحسن استعمال مصطلح (العدل) الذي يغني في هذا الباب، وقد أمر الله المؤمنين في كتابه بأن يتصفوا به أثناء تصديهم للحكم بين الناس أو بين الأفكار، قال سبحانه (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقال (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالمسلم مطالب بالعدل في ما يصدره من أحكام، وهو أن يضع الشيء في موضعه الذي وضعه الله فيه شرعاً، فيمدح ما مدحه الله ويذم ما ذمه، ويدور مع ما دل عليه الكتاب والسنة، ولو خالف بذلك عواطفه أو أهواءه، فضلاً عن عواطف وأهواء الآخرين.(4/1)
والذي يظهر أن مصطلح (الحياد) تسرب إلى المجال العلمي من المجال السياسي؛ حيث عرف هذا المصطلح حديثاً في عالم السياسة (بعد الحربين العالميتين) بمعنى عدم التحيز إلى أحد من الطرفين المتصارعين، وذلك بعد أن ذاق العالم ويلات الحربين. يقول الدكتور عبد المنعم زنابيلي في كتابه (تطور مفهوم الحياد عبر المؤتمرات الدولية، ص 5): "الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ظاهرة من الظواهر السياسية لعالم كابد الحرب العالمية الثانية"، وهو يعني "عدم التحزب لأجل غير محدود" (ص 13)، والحياد في السياسة نشأ كما يقول الدكتور أحمد زكي بدوي في معجم المصطلحات السياسية والدولية (ص 115): "بتأثير الجو العام الذي كان يسود العلاقات الدولية بسبب الحرب الباردة، وقد تجسد بشكل عملي لأول مرة في مؤتمر باندونج".
وهذا الحياد -كما تقول موسوعة السياسة للكيالي (2/594)-: "إمكانية من إمكانيات الخيار التي يحق للدول اللجوء إليها في حال قيام نزاع مسلح لا يعنيها أو لا يتعلق بها بصورة مباشرة" ، ومن خلاله -كما يقول الدكتور زنابيلي، (ص17)-: "تهدف الدولة المحايدة .. إلى تجنيب شعبها وأرضها مختلف الاحتمالات الناجمة عن الصراعات المسلحة"، وأكثر من استعمل هذا المصطلح ودعا إليه الدول الآسيوية والأفريقية التي اكتشفت بأنها قد أصبحت مجرد دمية تحركها الدول المتقدمة في صراعاتها المتنوعة، فبادرت إلى إطلاق هذا المصطلح؛ لتحمي نفسها ومصالحها من شرور ذلك الصراع بين الكتلتين (الشرقية والغربية).
ثم استعمل هذا المصطلح في مجال البحث العلمي للدلالة على ترك الميل مع العواطف في بحث قضية من القضايا والوقوف منها –كما يزعمون- موقف الإنصاف، فأصبح الباحث (المسلم المتأثر بهذا المصطلح) يعرض المسائل العلمية عرضاً دون هوية، أو ميل للانتصار للحق أو مدافعة للباطل! ليثبت للآخرين بأنه (محايد)! أو لا يُحكم عواطفه بل عقله ! .(4/2)
ويتضح خطأ هذا المصطلح وخطورته في ذات الوقت عندما يتلبس به الباحث المسلم أثناء حديثه عن أمور الديانات والعقائد، حيث يضطره تأثره بهذا المصطلح واغتراره به إلى أن يستحيي من نصر الحق والمدافعة عنه، والفخر والفرح بالتزامه.
قد تقول: لا يلزم كل هذا؛ لأن الباحث المسلم عندما يتعرض لتلكم المسائل أو غيرها (بحياد) فإن ذلك سيوصله –حتماً- إلى الحق والصواب فيها، وهو ما يوافق الكتاب والسنة، لأن الشرع والعقل (المحايد) يلتقيان ولا يتناقضان، وبهذا نضمن قبول الآخرين لهذا الحق والصواب الذي تمحض نتيجة هذا الموقف الحيادي لا العاطفي .
فأقول: قد يكون هذا صحيحاً في المسائل الظاهرة التي يدركها العقل. ولكنه ليس بصحيح في المسائل الكثيرة المتعلقة بالإيمان والتسليم، لا سيما في مجال الغيبيات والعقائد. أو المسائل التي يتوهم المحايدون أنها تعارض العدل!؛ كأحكام أهل الذمة، وأحكام المرأة. أو المسائل التي لم تتبين حكمتها لكثير من الناس، فمثل هذه المسائل تجعل الباحث المسلم في محك خطير بين أن يرفضها وينكرها متابعة منه لما يسمى الحياد العلمي، وبين أن يقبلها ويُسلم بها استجابةً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اختار الأولى صدق عليه قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)، وإن اختار الثانية كان من المرحومين الذي قال الله فيهم (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) .
ويتضح لك هذا بالمثال : فإن الباحث المسلم عندما يتعرض لقضية جريان الشمس من عدمه، هو بين أمرين: إما أن يمارس ما يسمى بالحياد العلمي، فيعتقد ثبوت الشمس ودوران الكواكب حولها؛ متابعة منه لما أقامه علماء الغرب من دلائل علمية –زعموا- على هذا الأمر. ويُبطل غيره ولو كان قد قرره القرآن بصراحة ووضوح، وهو أن الشمس ليست بثابتة، بل تجري؛ كما قال تعالى (والشمس تجري لمستقر لها).(4/3)
والأمثلة على هذا كثيرة لا يسعها المقام لا سيما –كما قلت سابقاً- في مسائل الغيبيات، أو في أحكام المرأة، أو أحكام أهل الذمة، حيث تتصادم النصوص الشرعية (الصريحة) مع ما يظنه المتأثرون بالحياد إنصافاً أو عدلاً! فيبقون بعدها محتارين بين ما يعلمونه يقيناً من نصوص الشريعة، وبين ما تلبسوا به من حياد كاذب خدعهم به الآخرون. وهذا ابتلاء عظيم صرفه الله عمن عظم وحيه وشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فعلى الباحث المسلم أن يتقي الله ربه، ويحذر من الانسياق وراء هذه المصطلحات المخادعة التي هي في حقيقة أمرها تؤول إلى تعظيم العقل البشري القاصر على حساب النصوص الشرعية، كما أنها تجعل من المسلم إنساناً (مادياً) (متمرداً) لا يقبل التسليم لما قاله الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والله يقول (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم)، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد .
-----------------
[1] منهج كتابة التاريخ الإسلامي؛ للأستاذ محمد بن صامل العلياني (ص145) وقد نبه وفقه الله على خطأ استعمال هذا المصطلح وغيره من المصطلحات المشابهة .
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
.(4/4)
ثقافة التلبيس (4)
" المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
التبشير " بالمجتمع المدني " هو الموضة الجديدة على ألسنة وأقلام العلمانيين والعصرانيين من ذوي " اللحى الليبرالية " ! ؛ فلا يكاد يخلو حديث أو مقال لهم دون الإشارة أو الدعوة إليه بصفته البلسم الشافي لجميع أدواء الأمة وخلافاتها ، وإنقاذها من " الماضويين " " السلفويين " ... الخ !!
وهذا " المجتمع المدني " - كما سيأتي - مخلف آخر من مخلفات و " استوكات " المجتمع الغربي العلماني المصدرة إلينا - كالعادة - ليتلقفها الأذناب ويروجوا لها تمهيدا لإدخال مجتمعاتنا ومسخها داخل المنظومة الغربية .. فلا عجب أن يحتفي به " بنو علمان " من متبعي سنن من كان قبلنا حذو القذة بالقذة ، حتى قال قائلهم : ( إن المجتمع المدني والعلمانية مطلوبان في المجتمع العربي ) ! ( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 31 ) .
ولكن العجب أن يتابعهم على هذا : أفراد الطائفة المخذولة المسمون " بالعصرانيين " أصحاب " اللحى " من مدعي الأسلمة !!
ويلزمهم - في نظري - أمران :
1- إما أن يكونوا يجهلون حقيقة هذا المصطلح " العلماني " ، ومصادمته الصريحة للإسلام ، ولكنهم سمعوا القوم يرددونه فرددوه تبعًا لهم كالببغاء عقله في أذنيه ! ، وهذه مصيبة ؛ أن يدعوا إلى أمر لايعلمون حقيقته .(5/1)
2- وإما أن يكونوا يعلمون حقيقة هذا المصطلح ، فهم يتبنونه عن علم ، ومع سابق الإصرار والترصد . وهذا ما أميل إليه !! واعذروني على إساءة الظن بهم ؛ لأن مقالاتهم وأحوالهم التي ظهرت وتبينت للمسلمين تؤكد ظني ، فلم يعد هناك مجال للمجاملة أو إحسان الظن .. فلا فرق بين الطائفتين " العلمانية ، والعصرانية " سوى هذه " اللحى " التي هي شعار تتطلبه هذه المرحلة ! - وإلا فالجميع - كما تبين في مواقف عديدة - بسبب تضخم الحياة الدنيا في عقولهم يأملون باستبعاد الإسلام وأحكامه عن دنياهم .. ظانين أنهم بهذا الفعل يلحقون بركب الغرب ، غير متعظين بتجارب إخوانهم في بلاد إسلامية كثيرة حكموها بعلمانيتهم وبتحجيمهم للإسلام وأهله ، فلم يخلفوا بعدهم سوى البؤس الديني والدنيوي ، متجاهلين عن عمد فشل إسقاط النموذج الغربي على الإسلام الذي لم يكن في يوم ما معارضًا لأي تقدم دنيوي مفيد .
بل إنني أرى أن أصحاب " اللحى الليبرالية " أخطر وأخبث من " بني علمان " ؛ نظرًا لإنخداع المسلمين بظواهرهم ، وخلفيتهم الشرعية . ولهذا تجد " بني علمان " قد سلموا لهم راية الإفساد ، ومكنوهم من المنابر ، وأغرقوهم بالمديح والثناء في مقالات وكلمات تجمع عندي منها الكثير .. ليس حبًا فيهم ، ولكن ليتخذوهم حصان ( بل حمار ! ) طروادة يغزون به حصون الأمة من داخلها .(5/2)
وقد أعجبتني كلمة - مناسبة لهذا المقام - قالها الشيخ سلمان العودة في رده القديم على الغزالي ؛ قال ( ص 88 ) : ( فرح بكتب الشيخ هذه كثير من أصحاب الفكر المنحرف ؛ سواء كانوا يساريين أو علمانيين ، أو غيرهم ، فطاروا بها كل مطار ، وصوروها ونشروها ، ووزعوها ونشروا مقتطفات منها في كل وسيلة . وهم يعتبرون فكر الشيخ " مرحلة مؤقتة يواجهون بها الدعاة في هذه المرحلة .. وبعدما تتجاوز المرحلة هذا الأمر سوف يتجاوز هؤلاء فكر الشيخ ، ويعتبرونه فكرا قديما عفى عليه الزمن ، وينتقلون إلى كاتب آخر يكون أكثر تحررا وانفتاحا ، ومرونة من فكر الشيخ ) .
المجتمع المدني :
لقد أحببت أن أبين - بإيجاز - لإخوتي الكرام : حقيقة هذا المصطلح الوافد الذي بدأ يشنف أسماعنا وأبصارنا صباح مساء ، لكي لا يغتر أحد " بدسمه " ويغفل عن " سمه " ، ونكون على حذر من مكر أعداء الإسلام ممن يتمنون أن يحصروه داخل المسجد ، كما حصره أسيادهم داخل الكنيسة . وليهلك - بعد هذا - من هلك عن بينة .
وسيكون هذا التوضيح والبيان بواسطة نقولات صريحة عن مفكرين متنوعين هضموا هذا المصطلح ، وجهر كثير منهم بمناقضته للإسلام واتكائه على " العلمانية " " اللادينية " :
نشأته وماهيته :
- نشأ هذا المصطلح لدى الغرب بعد صراعهم المرير مع الكنيسة وما يسمونه " الحكم بالحق الإلهي " ؛ يهدفون من خلاله إلى تنحية دينهم " المحرف " عن شؤون الحياة الدنيا ؛ لأنه يعارضها .
- يقول الدكتور كمال عبداللطيف : (من بين المفاهيم السياسية التي أصبحت تستعمل بوفرة في الكتابات السياسية العربية المعاصرة ؛ مفهوم المجتمع المدني ، ولا شك أن اتساع دائرة استعماله في حقل هذه الكتابة يندرج ضمن دائرة العناية المستجدة في الفكر السياسي العربي بالمنظومة الليبرالية) . (المجتمع المدني ، ملاحظات حول تشكل المفهوم وتطوره ، ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، عدد 55 ، ص 64 ) .(5/3)
-ويقول - أيضًا - : ( اقترن المجتمع المدني بالمجال الدنيوي ، حيث يتخلص مجال السياسة من إرث العصور الوسطى المسيحي الكنسي ، أي من هيمنة المقدس ، وتصبح الدولة والقوانين والمؤسسات نتاجاً للتجربة التاريخية المستقلة عن مجال الروحي في صورته الدينية ) . ( السابق ، ص 66 ) .
- و( قد أوضح كل من جون لوك وجان جاك رو سو أهمية المجتمع المدني كمحصلة للتعاقد في تنظيم المجتمع ، انطلاقاً من شرعية المصلحة ، وضد كل وصاية سماوية) . ( السابق ، ص 66 ) .
- ( قد دخل المجتمع المدني في أوروبا حوالي عام 1400م بجملة دلالات أتى بها الخطيب والأديب الروماني ماركوس توليوس شيشرون في القرن الأول قبل الميلاد) . ( من عناوين المجتمع القادم ، سهيل عروسي ، ص 157 ) .
- لقد ( ظهرت فكرة المجتمع المدني مقابلاً ونقيضاَ للسلطة الدينية المسيحية ولنموذج الدولة الشمولية . ولقد نشأ هذا المفهوم في مناخات الصراع مع الكنيسة وأنموذج الدولة الشمولية تواصلاً مع مفهوم الديمقراطية وحرية الفرد وتشجيعاً لمبادراته باعتبار الأصل ، وحدأ من تمدد الدولة والكنيسة معاً بعد أن تم تحرير الدولة باعتبارها نشاطاً دنيوياً محكوماً بالعقل والقانون ، وبعد أن انتقلت فكرة السيادة المطلقة التي كانت للكنيسة باعتبارها تجسيداً للمسيح الذي تجسد فيه الرب ). ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ، الغنوشي ، ص 54 ) .(5/4)
- ( يرتبط ظهور مصطلح " المجتمع المدني " بظهور نظريات العقد الاجتماعي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في المجتمعات الغربية للدلالة على مجتمع المواطنين الأحرار الذين اختاروا بإرادتهم الطوعية حكومتهم ، وظل هذا المصطلح متداولاً في أوساط المفكرين الاجتماعيين وبخاصة هيغل وماركس إلى أواخر القرن التاسع عشر ، ثم انحسر عن الحياة الفكرية والسياسية وانطوى في زوايا النسيان طوال القرن العشرين ، وعاد إلى اللمعان والظهور وبقوة في العقد الأخير من القرن العشرين ، حيث شاع استعماله في أدبيات العلوم الاجتماعية ، وراج في الأوساط الأكاديمية والعلمية سواء على المستوى العالمي أو العربي ) . ( الأستاذ عبد الحميد الأنصاري :نحو مفهوم عربي إسلامي للمجتمع المدني ، ، مجلة المستقبل العربي عدد 272ص 95 ) .
- لقد ( ظهر مصطلح " المجتمع المدني " في مقابل " المجتمع الطبيعي "من ناحية ، "والمجتمع الديني" من ناحية أخرى ، وذلك في أول نشأة المصطلح في سياق نظريات التعاقد خلال الفترة الممتدة من النهضة إلى القرن الثامن عشر في أوربا وكان المصطلح محملاً بشحنه دنيوية أرضية ضد فكرة الحق الإلهي التي كانت تحكم المجتمع الأوربي) . ( السابق ، ص 96 ) .
- ( إن المجتمع المدني قد تبلور في سياق نظريات التعاقد كما نادى به فلاسفة العقد الاجتماعي إبان القرن الثامن عشر ، تعبيراً عن المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة ، وتأسست على عقد اجتماعي ) . ( السابق ، 103 ) .
- ( إن المجتمع المدني نشأ من خلال نضال المجتمعات الغربية ضد السلطة التي كانت تجمع بين المدني والكنسي بهدف الفصل بينهما ، وهو المبدأ الذي عارضه الإسلام باعتباره نظاماً كلياً شمولياً) . ( السابق ، 102 ) .(5/5)
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة أنظمة من القيم والمعتقدات : الليبرالية والرأسمالية والعلمانية ، وهي لا تتحقق مع القيم الإسلامية) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يقوم المجتمع المدني على قيم نسبية تسمح بالاختلاف والتنوع ، ولا توجد للمجتمع المدني قيم مطلقة .. بينما قيم المؤسسات الدينية والأحزاب الإسلامية مطلقة ، وتقوم على حراسة قيم مطلقة) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يشكل المجتمع المدني البنية التحتية للديمقراطية ، وهو أشبه بالشرايين والقنوات التي يجري فيها السائل الحيوي للديمقراطية ، وهما وجهان لعملة واحدة هي " الحرية " . وإذا كان من المسلمات أنه لاتنمية من دون ديمقراطية ، فكذلك لاديمقراطية من غير مجتمع مدني يكون كالأب الشرعي أو الأم الحاضنة التي تضمن للديمقراطية النمو والاستمرار والازدهار) . ( السابق ، 97 ) .
- ( المجتمع المدني هو بالأساس ذلك المجتمع غير الديني ، أي المجتمع المنعتق سياسياً من السلطة المطلقة الدينية التيوقراطية). ( المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي ،توفيق المديني ، ص 45 ) .
- ( العلمانية روح المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 67 ) .
- ( المجتمع المدني مؤسس على العقلانية والعلمانية) . ( السابق ، ص 68 ) .
- ( إن الحرية الفردية تشكل أساس المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 68 ) .
- (إن التحرر السياسي في المجتمع المدني قد قاد إلى تحرر الإنسان من الدين) . ( السابق ، ص 69 ) .
- ( يقيم – أي المجتمع المدني – الدولة على أساس دنيوي ، ملغيًا المفهوم القديم القائم على الحكم بالحق الإلهي ) . ( مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي د / أحمد شكر الصبيحي ، ص 120) .
- ( إن المجتمع المدني قرين الفكر الغربي ) . ( السابق ، ص 17 ) .(5/6)
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها : الليبرالية ، وثانيها : الرأسمالية ، وثالثها : العلمانية . وهذه القيم والمعتقدات الثلاثة بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا تتفق مع القيم الإسلامية ) . ( السابق ، ص 41 ) .
- ( كان مجرد تعبير عن انتقال مبدأ السيادة من السماء "الحكم بالحق الإلهي" إلى الأرض "الحكم على أساس العقد الاجتماعي" ) . (المجتمع المدني ، دراسة نقدية ، د/ عزمي بشارة ص 12) .
- و ( يرى مجدي حماد - أيضًا - : أن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها الليبرالية ، وثانيها الرأسمالية ، وثالثها العلمانية ) . ( إشكالية مفهوم المجتمع المدني ، د كريم أبوحلاوة ، ص 150 ) .(5/7)
-( ومن هنا يُعرف المجتمع المدني أو العلماني بأنه المجتمع المستقل في تنظيم حياته المدنية ـ الاجتماعية عن أية افتراضات مسبقة عن ، ولوجود الإنسان ومجتمعه . ومن هنا كذلك ينبغي أن تكون علاقات العيش الإنساني ـ الاجتماعي في المجتمع المدني محكومة بنواظم العقل ـ العلم البشري ، حسبما تقوله العلمانية ، لكن نواظم العقل متبدلة بتبدل مراحل العيش والارتقاء الإنساني ، ومتغيرة بتغير المكان والزمان وإن كانت محكومة بمبدأ أساسي هو الحفاظ على مبدأ الوجود واستمراريته ، ومن ثم الوجود الآمن والعادل . في مثل هذه الحال تكون الاعتقادات الإيمانية الأيديولوجية الفكرية شأنا خاصاً من شؤون الضمير الفردي في اعتقاداته وآرائه الفكرية والإيمانية والاجتماعية والسياسية ، وإلا فإن فرض رأي ضمير على ضمير آخر هو بداية التسلط ، ومن ثم العنف المتبادل ، فالمجتمع المدني إذن ، آو العمران على لغة ابن خلدون ، يفترض فكرة " العقد الاجتماعي " بين أطراف المجموعة الاجتماعية وبين البشر عموما ، وفي مثل هذه الحالة يمكن للحكومة أن تكون حكما ومراقبا ، وليس مجرد ممثل لأيديولوجية آو طبقة مسيطرة ) .( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 26 – 27 ) .(5/8)
-( ومن هنا نستطيع القول إن المجتمع المدني ترتيب جديد للمجموعات الاجتماعية لا يأخذ بعين الاعتبار رغبة أي من التنظيمات والعقائد الاجتماعية والشخصية الموروثة في فرض نفسها على المجتمع ، حتى وإن تماسست في مؤسسات ، كالدين والطائفية والعشيرة ، بل والحزب السياسي ، بل ويقاوم رغبة أو محاولة أية مجموعة اجتماعية السيطرة على باقي المجموعات باسم الصحة المطلقة لعقيدتها ، وفي المقابل تحاول العلمانية والمجتمع المدني ترتيب علاقات وحياة المجموعات سلميا ، وجعل العقل والعلم والدين والمصلحة المشتركة ، أي الاعتراف المتبادل بالمصالح وحرية الاعتقاد ووجوب الاحتكام إلى المؤسسات التمثيلية البشرية غير المقيدة بأية صفة إطلاقية دينية كانت أم دنيوية ، فالعلمانية لا تتطلب التخلي عن العقيدة والرأي بل وتعرف أن هذا غير ممكن ، لكنها تريد الامتناع عن فرض هذا الرأي بأي شكل من أشكال العنف والضغط أو الإكراه ، حتى ولو كان ذلك علي شكل ترغيب أو ترهيب ) . ( السابق ، ص 27 ) .
- ( المجتمع المدني هو نقيض المجتمع الديني كما هو معروف ) . ( السابق ، ص 29 ) .
معوقات تحقيق المجتمع المدني لدى العلمانيين :
-( دون تحقيق مجتمعات مدنية في بلداننا العربية عوائق شتى ، يحصرها بعض الباحثين في أربع نقاط :
الأولي :.....الثانية :.......
الثالثة : منظومة العلاقات والتفاعلات القائمة على الدين الإسلامي ) !! . ( الواقع العربي وعوائق تكوين المجتمع المدني ، فهمية شرف الدين ، مجلة المستقبل العربي ، ص 42 ) .(5/9)
- ( لا يختلف معظم المحللين والباحثين الاجتماعيين على أن المنظومة التربوية السائدة في المجتمعات العربية هي سبب رئيسي من أسباب تأخر المجتمعات العربية ) . (تقف منظومة تربوية متكاملة تبدأ من الأسرة وتنتهي في شبكة العلاقات السياسية أي في تلك العلاقة مابين " رب البيت " و " رب الوطن " و " رب العالمين " يجمع بينها جميعها مفهوم الطاعة الذي ينتج الولاء و التبعية ، وعندما تكون الطاعة هي القيمة الأولي في المجتمع تنتفي الإرادة ، وينحسر الاختيار الحر) . !! ( السابق ، 46، 47 ) .
حكمه :
- " المجتمع المدني " مجتمع علماني كما سبق باعتراف أهله والمعجبين به ، فهو يساوي بين الإسلام والديانات المحرفة أو البشرية ، ويهمشه ، ويبعده عن مجالات الحياة ؛ وهذا كفر لاشك فيه . وليطالع من يريد الزيادة : رسالة ( العلمانية ) للشيخ سفر الحوالي - حفظه الله - ( فصل : حكم العلمانية في الإسلام ) . وكتاب ( كسر الصنم العلماني ) للأستاذ محمد شاكر الشريف - سلمه الله - .
- ( إن مفهوم المجتمع المدني ( أوروبياً ) مرتبط بجدلية التاريخ الأوربي ، ولا يجوز ترجمة تطور هذا المفهوم على دولة الإسلام في مختلف مراحلها ذلك أن دولة الإسلام دولية موضوعية جمعت الدين والدنيا) . ( مجلة الفيصل ، العدد 202 ، العرب والمجتمع المدني ، د / عمر فوزي نجاري ، ص 19 ) .
تنبيهات :
التنبيه الأول : قال العلماني محمد كامل الخطيب :( بالنسبة للمجتمع العربي تحديداً ، فالدعوة للمجتمع المدني العلماني ، ما تزال جديدة جدة عملية التمدين ، وربما يمكن تأريخ ابتدائها بتلك الرسالة التي أرسلها إبراهيم باشا ابن محمد علي إلى متسلم اللاذقية في 24 ربيع الثاني 1248 ، ( 1809 م ) وفيها يقول :
" الإسلام والنصارى جميعهم رعايانا، وأمر المذهب ماله بحكم السياسة ، فيلزم أن يكون كل بحاله ، المؤمن يجري إسلامه والعيسوي كذلك ، ولا أحد يتسلط على أحد " .(5/10)
وبعد إبراهيم باشا ، الذي قارب العلمانية لأسباب إدارية وسياسية ، أتى المفكرون ؛ فدعا للعلمانية والمجتمع المدني كتاب ومفكرون من أمثال شبلي شميل ولطفي السيد وعبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق وطه حسين وجبران خليل جبران وعبد الرحمن الشهبندر وسلامة موسى وقسطنطين زريق وغالبية المفكرين القوميين والماركسيين ، وربما كانت الأنظمة العربية التي تحكم باسم الفكر القومي من آثار الدعوة للمجتمع المدني والعلمانية في العصر الحديث ، على الرغم من أنها لم تستطع ممارسة وتحقيق إلا القليل القليل من سمات المجتمع المدني ، ومن العلمانية ، بل إنها ، وفي حالات كثيرة ناقضت المجتمع المدني والعلمانية في ممارساتها وسياساتها ، فمزقت المجتمع وعملت على تهديده ) .( مرجع سابق ، ص 28 – 29 ) .
التنبيه الثاني : فتن بعض الإسلاميين بالمجتمع المدني كما فتنوا قبله بالديمقراطية !! كل هذا لأجل الهرب من تسلط الدول العربية التي عاشوا فيها ؛ كمصر وتونس وغيرها ؛ فأصبحوا كما قيل : كالمستجير من الرمضاء بالنار !
والعجب أن صراخهم ملأ الفضاء دعوة وتبشيرًا بالدولة الإسلامية التي يسعون إليها ! فيما هم - في الواقع - يلمعون الأنظمة الكفرية ( الديمقراطية ، المجتمع المدني .. ) ، فماهذا التناقض ؟! ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) ؟
ألا يدل هذا على أنهم لا زالوا غير مقتنعين بالحكم الإسلامي ؟!
وأنهم لازالوا يخلطون بينه وبين " الحكم الديني " الذي وجد في الغرب ؟!
وإلا فلماذا يتجاوزونه ويجتهدون في " ترقيع " أفكار الغرب ، وجلبها لديار المسلمين ؟! أليس هذا من الخيانة والتلبيس على الأمة ؟!
والمضحك أن هؤلاء الإسلاميين عندما تبنوا أفكار الغرب زعموا أنهم سيجرون عليها بعض " التعديلات " لتكون مناسبة لنا !(5/11)
فزعم بعضهم ( كالقرضاوي ) المفتون بالديمقراطية أن ( السلطة المنتخبة لاتملك حق التشريع فيما لم يأذن به الله . لا يملك أن تحل حرامًا أو تحرم حلالا ) !! ( انظر : كتابه : الحلول المستوردة ، ص 77-78 ) . وأن ( لا مجال للتصويت في قطعيات الشرع ) !! ( انظر : فتاوى معاصرة 2/646) .
وهل سيقر لك سدنة الديمقراطية بهذا التحكم في ديمقراطيتهم ؟! إنك إن فعلت ذلك لن يكون " المعدل " ديمقراطية !! وإنما سيكون إسلاما ! فريح بالك وادع للإسلام مباشرة ! ( انظر الرد عليه تفصيلا في كتاب : القرضاوي في الميزان ) .
ثم جاء آخر من " الترقيعيين " وهو الغنوشي مبشرًا بالمجتمع المدني الذي سيخلصنا من " الدول المتسلطة " وألف كتابًا بعنوان ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ) أتى فيه بما لم تستطعه الأوائل ! حيث خالف إجماع العارفين بالمجتمع المدني وأهله عندما قال ( ص 104 ) : ( لاتعتبر العلمانية فكرة مساعدة على نشأة المجتمع المدني ) !! ، وعندما زعم ( ص 108 ) : ( أن فكرة العلمانية ..ضد المجتمع المدني ) !! كل هذا لأجل تلميع صورة هذا المجتمع العلماني بين المسلمين .
قد يقول قائل : لماذا لانعذر القرضاوي والغنوشي في دعوتهم للديمقراطية والمجتمع المدني ، وهم قد عاشوا في مجتمعات جمعت بين الحكم بالطاغوت والظلم ، فبعض الكفر أهون من بعض ؟ وكفر الديمقراطية والمجتمع المدني قد يقبله العالم بخلاف الدعوة للحكم الإسلامي ؟
أقول :
1- لو سلك هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع الحكام - كافرهم أو ظالمهم - لما تعرضوا لما تعرضوا له ، ولما اضطروا لقبول هذه الكفريات .( وتفصيل هذا يطول ) وقارن حالهم بحال دعاة السنة في تلك البلاد كيف أثمرت دعوتهم ، لولا أن أفسدها هؤلاء عليهم بحماقاتهم .(5/12)
2- أنهم - من واقع حالهم - غير مضطرين أبدا لهذه الكفريات كلها ، التي تقضت أعمارهم في سبيل تقريرها في بلاد المسلمين . فلوا ركزوا جهودهم على بيان أهمية الحكم بالشريعة ، وحسنوه للحكام وللناس لكان خيرا لهم ، فإن قبل منهم وإلا فهم معذورون ........ ولكن : فاقد الشيئ لايعطيه !
3- أنهم عندما دعوا لما سبق من كفريات لم يقروا بمخالفتها للإسلام ، وأنهم إنما أكرهوا عليها . بل ادعوا أنها لاتنافي الإسلام مجرين عليها تعديلاتهم الخيالية . وهذا تلبيس ومكابرة .
ماعذر الحامد والفالح والطريفي ؟!
أولئك عاشوا في بلاد متسلطة لم تحكم بالشرع ، ولم يعذروا بانحرافهم عن المنهج الشرعي في التعامل مع الولاة الذي قادهم إلى تلكم الكفريات . فماظنك بأناس يعيشون في بلاد التوحيد والدعوة ، التي يحكم فيها بالشرع ، وتظهر فيها السنة وأهلها ، والفضيلة وحماتها .. ثم يستبدلون هذا كله بالدعوة والتلميع لذلك المجتمع المدني " الكفري " ؟!
أما الحامد : فهو الدكتور عبدالله الحامد ، " الأديب " المعروف الذي جعل ديدنه في كل لقاء يعمل معه : المناداة بهذا المجتمع المدني الذي سيخلصنا من الإستبداد و .. و .. الخ الشعارات ! ( انظر لقاءه مع قناة الجزيرة مثلا ) . وقد ألف لأجل هذا كتابيه : " المجتمع المدني سر نهوضهم وانحطاطنا " !! و " نظرية المجتمع المدني في الإسلام " . ولي معه جولة قادمة - إن شاء الله - .
وأما الفالح : فهو الدكتور متروك الفالح ، أحد دكاترة جامعة الملك سعود ، ألف كتابًا " وصفيًا " بعنوان " المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية - دراسة مقارنة لإشكالية المجتمع المدني في ضوء تريف المدن " . حاول فيه كغيره اجراء " تعديلات " و " تحكمات " على مجتمعه المدني ليتوافق مع واقعنا . ( انظر ص 151 من كتابه ) .(5/13)
وأما الطريفي : فهو عادل بن زيد الطريفي ، كاتب صحفي مغرم بالتعالم ولوك المصطلحات الغربية ، بدأ من صحيفة المحايد ، ثم انتقل إلى جريدة الوطن . كتب مقالا بعنوان " أين هو المجتمع المدني في مشروعات الإصلاح العربية ؟ " ( الوطن / 1279) : يبشر فيه الدول العربية بفوائد الأخذ بالمجتمع المدني ! ويحذرهم من " الأصولية الدينية " !! و" الانغلاق السلفوي " !! وقد رد عليه الأستاذ سعيد الغامدي - وفقه الله - .
قد يقال : عذرهم أنه يوجد في مجتمعنا " أثرة " ، وقد وقع على بعضهم " ظلم " فروا منه إلى هذه الأفكار التي تقيهم من التسلط .
فأقول : سبحان الله ! أيفر من " الظلم " إلى " الكفر " ؟!
أيفر من دولة إسلامية فيها أثرة ، لكن أعلام التوحيد والشريعة والفضيلة فيها ظاهرة مرفوعة ، أهلها مجتمعون ... إلى " مجتمع مدني كفري " ترتفع فيه أعلام الكفر والبدعة ، والتحزب والتفرق ، ويرتع فيه أرباب الخنا والرذيلة بقوانين تحميهم !!
عجبًا لكم !
أليست ( الفتنة أشد من القتل ) ؟!
ثم أقول : لو التزم هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع ولاتهم لما وقع عليهم هذا الظلم . فلماذا الإثارة ومنازعة الأمر أهله ؟ وقد تبين وتأكد للعقلاء عبر التاريخ أن هذا المسلك التصادمي يفسد ولا يصلح ، والواقع شاهد .
ولو اشتغل هؤلاء بالدعوة إلى دين الله وتوحيده وناصحوا من ولاه الله أمرهم ؛ لبوركت جهودهم وأثمرت كغيرهم ممن نفع الله بهم البلاد والعباد . لكنهم أشغلوا أنفسهم فيما حذرهم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من " عدم منازعة الأمر أهله " فضروا أنفسهم وأضروا غيرهم . ثم لجؤا إلى هذه الدعوات " الكفرية " التي ظنوها تنقذهم مما هم فيه ، حتى أشربوها في قلوبهم - والعياذ بالله -
وأقول لهم أيضا : ومايدرينا أنكم لو تسلطتم علينا أن لا تظلموا ولاتستأثروا !! وحال إخوانكم في دول أخرى تمكنوا منها لا يبشر بخير !(5/14)
ختامًا : أسأل الله أن يبصر شباب الإسلام بانحرافات من يزعمون " الإصلاح " ومجابهة الظلم والأثرة وهم يقودونهم إلى " الكفر " والإنسلاخ من الدين وهم لايشعرون .. وأن يجعلهم متنبهين لما يراد بهم : لاتخدعهم زخارف الألفاظ ولا تدغدغهم الشعارات الكاذبة .
والله الموفق .
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
.(5/15)
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
الاختلاف بين الناس أمر واقع ومشاهد، لا يستطيع أن ينكره عاقل، إنما يأتي التلبيس عندما يزعم البعض أن هذا الاختلاف أمر يرضاه الله عز وجل ويحبه، وأنه الغاية من خلقه بني آدم! ويحملون على هذا المعنى الباطل قوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) ويسيئون فهم قول بعض المفسرين عند هذه الآية: "وللاختلاف خلقهم" فيظنونه يشهد لباطلهم.
وينتج عن هذا: أن لا يروا بأساً في تفرق المسلمين واختلافهم على مذاهب وفرق شتى، بل هذا عندهم من باب "التنوع" و"التعددية" اللذين يثريان الحياة الإسلامية ويزيدانها بهاء !
فتجد أحدهم يفتخر بوجود الفرق البدعية والمنحرفة في تاريخ المسلمين ، ويعد هذا دليلاً على تسامح المسلمين وقبولهم "الرأي الآخر" !
ولم يكتف بعض غلاتهم بتسويغ الاختلاف بين المسلمين، حتى ذهب يسوغ اختلاف الكافرين، ويعده –أيضاً- من باب "التعددية" التي يحبها الله عز وجل ويرضاها لعباده !! فعنده أن اليهودية والنصرانية وغيرها شرائع صحيحة ومتنوعة، جميعها موصلة إلى الله عز وجل، لا فرق بينها عنده !
فها هو من يسمى المفكر الإسلامي ! محمد عمارة يؤلف كتاباً بعنوان "الإسلام والتعددية" يقول فيه (ص 9): (وفي إطار تعددية الشرائع تحت جامع الدين الواحد جاء الحديث في القرآن الكريم عن نجاة أصحاب الشرائع المتعددة إذا هم جمعتهم جميعاً أصول:
1- الإيمان بالألوهية الواحدة.
2- والإيمان باليوم الآخر والبعث والحساب والجزاء .
3- والعمل الصالح في الحياة الدنيا.
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) !!
نعوذ بالله من الكفر والضلال.(6/1)
ففي هذا القول من هذا المفكر الجاهل إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة من تكفير كل من لم يدن بدين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال سبحانه (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال (إن الدين عند الله الإسلام) وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: "فمن لم يقر باطناً وظاهراً بأن الله لا يقبل ديناً سوى الإسلام فليس بمسلم، ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليس مسلم إلا من آمن به واتبعه باطناً وظاهراً فليس بمسلم، ومن لم يُحَرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم باتفاق المسلمين" (الفتاوى 27/463-464).
وليس المقام مقام إيراد جميع الأدلة القاضية بكفر اليهود والنصارى. ( انظر : محمد عمارة في الميزان ) .
أما الآية التي استدل بها عمارة لترويج باطله فهي (تتناول من كان قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: "إن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم " ) . (انظر : دعوة التقريب، للدكتور أحمد القاضي 1/49-50) .
هذا عن عمارة: أما غيره فقد كان أقل جرأة وتقحماً للضلال منه ؛ لعلمه بخطورة تصحيح أديان الكفار ومذاهبهم ، فاكتفى بتسويغ الخلاف بين الفرق الإسلامية المتنوعة، مدعياً أن هذا من قبيل "التعددية" و"التنوع" المحمود!(6/2)
وخير مثال لهؤلاء: الدكتور محمد سليم العوا الذي ألف كتاباً سماه "التعددية في الإسلام" أقر فيه الاختلاف بين الفرق المنتسبة للإسلام، وسوغ لها انحرافها عن الحق بالدعاوى السابقة، ورد حديث "الافتراق" ثم قال (ص 28): (فالأخوة الذين يعولون عليه في رفض التعددية، أو في تعداد الفرق الإسلامية عليهم أن يرجعوا إلى أهل الرواية؛ حتى يقفوا على مدى صحته)! وأهل الرواية عنده هم محمد عمارة!! الذي نقل تكذيبه للحديث.
وعمارة والعوا وأضرابهما ممن لم يتشربوا العقيدة الصحيحة التي توضح لهم الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية لله عز وجل -كما سيأتي- يقعون حتمًا في هذا الخلل العقدي الخطير.
لكن ما بال من تلقى العقيدة السلفية الصافية منذ نعومة أظفاره يتابع هؤلاء على انحرافهم ، ويقع فيما وقعوا فيه ؟!
فها هو الأستاذ إبراهيم البليهي – هداه الله - في مؤتمر الحوار الوطني الأخير يثني على هذا الاختلاف بين المسلمين ويسوغه ، ويزعم أنه "هو علة وجودهم" كما يقول! ويحمل على هذا الفهم الباطل قوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).
وها هو الأستاذ محمد المحمود الكاتب بجريدة الرياض ( 5/6/1425) يكتب مقالاً إنشائيًا بعنوان "مسائل الخلاف : شرعية مع وقف التنفيذ " ، يقول عن الخلاف بين الأمة ( فكذلك ينبغي أن يدوم ويعمم بأقصى درجة ممكنة ) !! ثم يدعو إلى السماح بتطبيق كل خلاف مهما كان على أرض الواقع ! وفاته أن نهاية هذه الدعوة ستؤول إلى الزندقة والتنصل من أحكام الشريعة ، لكن بأسلوب يُزعم له أنه شرعي ! كما قال الشاعر الماجن :
فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج *** في كل مسألة بقول إمام !
يعني بذلك : شرب النبيذ وعدم الحد في اللواط على رأي أبي حنيفة ، والوطء في الدبر على ما يُعزى لمالك ، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي .
كيف أتي هؤلاء ؟!(6/3)
لقد أُتُوا من عدم تفريقهم بين إرادة الله الكونية التي لا تستلزم الرضا والحب، وبين إرادته الشرعية التي تستلزم ذلك .
فالكفر والمعاصي –مثلاً- واقعة بإرادته سبحانه الكونية، ولا يستلزم ذلك محبته لها ورضاه عنها، بخلاف الإيمان والعمل الصالح فهي واقعة بإرادته الكونية، وهو مريد لها شرعاً بما يستلزم محبته ورضاه عنها.
والقرآن قد وردت فيه آيات كثيرة تدل على كل واحدة من الإرادتين والمشيئتين.
فمن آيات الإرادة الكونية قوله تعالى (وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له).
ومن آيات الإرادة الشرعية قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( إن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه ، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره ) . ( المنهاج 7 /72) .
وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص 79): (المحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خَلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.
فالإرادة الشرعية: هي المتضمنة للمحبة والرضى.
والكونية: هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث).
فهؤلاء المفكرون عندما رأوا أن الله قد أراد هذا الاختلاف والتفرق بين البشر كوناً وقدراً ظنوا أن هذا مما يحبه الله ويرضاه! فرضوا به وسوغوه ، فيلزمهم على هذا تسويغ الكفر والمعاصي والرضا بها وعدم إنكارها !! لأنها واقعة بإرادة الله.
ولو فرقوا بين الإرادتين لما وقعوا فيما وقعوا فيه، ولعلموا أن وقوع الاختلاف والتفرق بين البشر كوناً وقدراً لا يستلزم الرضا به ومحبته وتسويغه ، بل هو مما يبغضه الله سبحانه وتعالى ويأمر عباده بإنكاره وعدم الوقوع فيه –كما سيأتي إن شاء الله-.(6/4)
فقوله تعالى ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) أي أراد بإرادته الكونية أن لا يقسر الناس على الايمان قسرًا ، بل جعل لهم مشيئة وإرادة ، ليكون الناس بعد ذلك فريقين : فريقًا للاختلاف وفريقًا للرحمة ، وهذا ما عناه بعض المفسرين عندما قال : " وللاختلاف خلقهم " .
وليس معناها كما يظن عمارة ومن معه أن الله أذن لهم بالاختلاف ورضيه !
قال الطبري: (إن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق، ثم عقب ذلك بقوله (ولذلك خلقهم) فعم بقوله (ولذلك خلقهم) صفة الصنفين؛ فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له.
فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفين غير ملومين على اختلافهم إذ كان لذلك خلقهم ربهم، وأن يكون المتمتعون هم الملومين ؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم؛ إلا من رحم ربك فهداه للحق، ولعلمه وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكفار والتقي والسعيد). (15/537-538).
وسئل مالك عن قول الله (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير (الطبري: 15/536).
وقال ابن حزم: (قد نص الله تعالى على الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به؛ وإنما أراده تعالى إرادة كون، كما أراد كون الكفر وسائر المعاصي). (الإحكام في أصول الأحكام، 5/64).(6/5)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوله تعالى (وما خلقت الجن الأنس إلا ليعبدون): (اللام لبيان الجملة الشرعية المتعلقة بالإرادة الشرعية؛ كما في قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله (يريد الله ليبين لكم) الآية، وقد تكون لبيان العاقبة الكونية؛ كما في قوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) الآية، وهكذا كقوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) أي خلق قوماً للاختلاف وقوماً للرحمة) (الفتاوى 4/236).
وقال أيضًا : (خلق قوماً للاختلاف، وقوماً للرحمة) الفتاوى 4/236).
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي : (قوله: (ولذلك خلقهم) أي اقتضت حكمته أنه خلقهم ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة؛ ليتبين للعباد عدله وحكمته؛ وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء) (تفسيره 3/470).
وقال الشيخ حمد العثمان عن قوله تعالى ( ولايزالون مختلفين .. الآية ) :
( وبعض الجهال يستدل بهذه الأدلة على وجوب التسليم والإذعان للاختلاف، لأن الله أراده! وهذا يلتبس على من لا يفرق بين ما أراده الله وقضاه كوناً، وما أراده وقضاه شرعاً.
فالخلاف مما قضاه الله وأراده كوناً لحكمة بالغة، حتى يتميز المتبع من المبتدع، ويقوم المتبع بمجاهدة المبتدع بالحجة والبيان.
فالخلاف كالكفر باعتبار إرادة الله له كونا، فالله لا يحبه، ولكنه سبحانه شاءه وأراده إرادة كونية قدرية ). ( دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون ، ص 30).
ثم هذه الدعوة الباطلة التي يدعو إليها هؤلاء بتسويغهم الاختلاف بين الأمة تنافي الآيات والأحاديث الآمرة لها بعدم التفرق والاختلاف ، والمحذرة لهم من هذا الأمر الذي وقع فيه من قبلهم .(6/6)
ومن ذلك قوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة : ( لا تختلفوا ) .
( وانظر باقي الأدلة في كتاب " الاعتصام " للشاطبي ، رسالة " وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ، للشيخ جمال بادي " ورسالة " إتمام النعمة والنعمة في ذم اختلاف الأمة ، للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن " ورسالة " ذم الفرقة والاختلاف في الكتاب والسنة ، للشيخ عبدالله الغنيمان " ).
فالأمة الإسلامية مأمورة بتجنب الاختلاف ، فإن وقع شيئ منه ؛ فهي مأمورة بحسمه بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، لا تسويغه ومدحه ؛ كما يظن أولئك.
قال المزني: ( ذم الله الاختلاف، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة ) يعني قوله تعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) وقوله (وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول).
فإن قيل : وماذا نصنع بتفرق الأمة الحالي واختلافها إلى فرق ومذاهب شتى ؟!
فالجواب :
1 - أن لا نرضى هذا التفرق والاختلاف ، ولا نسوغه وندعي أنه أمر مشروع .
2- أن نحاول حسمه بالرجوع للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ، وننكر على أهل البدع والمخالفات بدعهم ومخالفاتهم ، ونناصحهم ( بالضوابط الشرعية التي بينها العلماء ) .
3- فإن استجابوا فالحمد لله ، وإن لم ينتهوا فإننا نثبتُ على الحق والتحذير مما خالفه ، ولا نتنازل عن شيئ منه لأجل تقريب موهوم معهم . قال تعالى ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ، وقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) .
هل يدخل أهل السنة في أهل الاختلاف المذموم ؟!
قد يقول قائل : وماذا عن أهل السنة المختلفين في مسائل الفقه ، هل يدخلون في أهل الاختلاف الذين ذمهم الله تعالى ؟!(6/7)
فالجواب ماقاله الشاطبي رحمه الله :
( قد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال " أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضيرهم " .
يعني : لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها يقطع العذر ، بل لهم فيه أعظم العذر ، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع ، أتى فيه بأصل يُرجع إليه ، وهو قول الله تعالى ( فإن تنازعتم في شيئ فردوه إلى الله والرسول ) فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يُرد إلى الله ، وذلك رده إلى كتابه ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك رده إليه إذا كان حيًا ، وإلى سنته بعد موته ، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم .
إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى ( ولا يزالون مختلفين ) أم لا ؟
والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه :
أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكور مباينون لأهل الرحمة ؛ لقوله ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) ، فإنها اقتضت قسمين : أهل اختلاف ومرحومين ، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف ، وإلا كان قسم الشيء قسيماً له، ولم يستقم معنى الاستثناء .
والثاني : أنه قال فيها ( ولا يزالون مختلفين ) فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم ، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت ، وأهل الرحمة مبرؤن من ذلك ؛ لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة ، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريًا لقصد الشارع فيها ، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره ، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول ، فلم يكن وصف الاختلاف لازمًا له ، ولا ثابتًا ، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع .(6/8)
والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة ؛ وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم ، بحيث لا يصح إدخالهم في قسيم المختلفين بوجه ، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودًا من أهل الاختلاف – ولو بوجه ما – لم يصح إطلاق القول في حقه : إنه من أهل الرحمة . وذلك باطل بإجماع أهل السنة .
الرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربًا من ضروب الرحمة ، وإذا كان من جملة الرحمة ، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجًا من قسم أهل الرحمة ) . (الاعتصام 3/122-124) ( وانظر : مقدمات في الأهواء ، للشيخ ناصر العقل ،ص 32).
قلت : يعني بالرابع : مثل قول الإمام أحمد لما قال لمن ألف كتاب الاختلاف :" سمه كتاب السعة " ، ومثل قول عمر بن عبدالعزيز عندما قال : " ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا ، لأنه لو كان قولا واحدًا كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يُقتدى بهم ، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة " .
وهذا كما قال القاضي إسماعيل : ( إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي ، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا . ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا )
قال ابن عبدالبر معلقًا : ( كلام إسماعيل هذا حسن جدًا ) .( جامع بيان العلم ، ص 395).
وقال الدكتور عبدالسلام المجيدي : ( المراد من كون الاختلاف رحمة ومن قول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إن صح عنه : هو السعة في جواز أصل الاجتهاد ، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا ؛ حل لمن بعدهم ، فالرحمة في جواز أصل الاجتهاد ، وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية ، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف ) . ( لا إنكار في مسائل الخلاف ، ص 154-155) .(6/9)
إذًا : فليس معنى التوسعة في الخلاف التشهي بين الأقوال المختلفة ، كما يظن البعض . قال شيخ الإسلام : ( وأما قول القائل : كلٌ يعمل في دينه الذي يشتهي ، فهي كلمة عظيمة يجب أن يُستتاب منها ، وإلا عوقب ، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل ، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون ما يشتهيه أو يهواه ) . ( الفتاوى 22/240) ( وانظر : دراسة نقدية ..للعثمان ) .
فأهل السنة – ولله الحمد – مجتمعون على أصول واحدة ، وخلافاتهم الفقهية يُرجع فيها إلى الدليل ، فإن كانت من المسائل الاجتهادية – وهي قليلة – عذر بعضهم فيها بعضًا ، ولم يُنكر عليه . وإن كانت ليست مسألة اجتهاد ، بل الدليل فيها بيّن ؛ أنكر على المخالف .
( ولمعرفة الفرق بين المسائل الخلافية التي يُنكر فيها على المخالف ، والمسائل الاجتهادية التي لايسوغ فيها الإنكار ؛ ارجع إلى هذه الرسائل المهمة : " الاختلاف وماإليه " للشيخ محمد عمر بازمول ، و " حكم الإنكار في مسائل الخلاف " للدكتور فضل إلهي ، و " حجج الأسلاف في بيان الفرق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف " للشيخ فوزي الأثري ، وبحث " الإنكار في مسائل الخلاف " للدكتور عبدالله الطريقي ، منشور في مجلة البحوث ، عدد 47 ) .
وبهذا تجتمع الأمة على الحق وتأتلف ، وتستجيب لقوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ) .
أما من يريد بقاء الأمة على اختلافاتها ، ويسوغ لها ذلك ، فهو مريد لها استمرار الهوان والضعف ، سواء قصد هذا أم لم يقصده ، كما قال تعالى ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .
والله الهادي والموفق .
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)(6/10)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
.(6/11)
ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح
كثر الحديث من بعض الإعلاميين بعد أحداث العنف التي مرت بها بلادنا عن " التسامح " ، مطالبين بنشر ثقافته بين الناس بدلا عما يسمونه " ثقافة العنف والكراهية " !
والتسامح كلمة قريبة من نفوس المسلمين ، محببة إليهم ؛ لما تحمله من معانٍ سامية جاءت نصوص شرعية كثيرة بالثناء على أهلها ؛ كحديث " رحم الله عبدا سمحًا إذا باع سمحًا إذا اشترى سمحًا إذا تقاضى " وحديث " اسمح يُسمح لك " وحديث " دخل رجل الجنة بسماحته " .. إلى غيرها من الأحاديث الصحيحة . ( انظر : صحيح الترغيب والترهيب للألباني ، 2/326 ومابعدها ) .
ولكن : قد عودنا علماء الإسلام النابهين عند الحكم على مصطلح حمال أوجه ؛ كمصطلح " التسامح " أن نستفصل من مطلقه عما يريد به ؟ فإن أراد حقًا أيدناه ، وإن أراد باطلا رددناه عليه وبينا مغالطته وتلاعبه بالألفاظ . لا سيما إذا كان مروج هذا المصطلح من غير المأمونين على دين المسلمين وأخلاقهم ! ومن متابعي دعوات الغرب وأفكارهم .
ـــــــــــــــــــــــــ
ومصطلح " التسامح " هذا قد كان له وهج عند الغربيين في فترة من تاريخهم القريب الحافل بالصراعات الدينية بين طائفتي " الكاثوليك و البروتستانت " على وجه الخصوص .
ثم جاءت الدعوة إلى التسامح من بعض مفكريهم لإنقاذ المجتمع الغربي من هذا الصراع الذي راح ضحيته ألوف من الفريقين .
ويعنون بالتسامح الذي دعوا إليه : نشر العلمانية اللادينية، وتقبل ما يسمونه التعددية مهما كانت ، وأن يُجعل الدين مجرد علاقة بين المرء وربه ، لادخل لها بشئون الحياة .
وقد أجاد الدكتور عبدالرحمن بدوي في مقدمته الحافلة لرسالة " جون لوك " عن التسامح في تتبع نشأة هذه الفكرة بين المفكرين الغربيين ، وأسبابها ، وملخصها . ( فليرجع إليها من يريد التوسع ص 7-61) .(7/1)
فإن كان للنصارى عذر في الدعوة إلى هذه الفكرة العلمانية التي تخلصهم من تسلط رجال الدين " المحرف " وطغيانهم ، فما عذر بعض أبناء المسلمين من الكتاب والكاتبات عندما يتهافتون لترويج هذه الفكرة العَلمانية التي تعارض أحكام الإسلام خاتم الأديان الذي تكفل الله بحفظه ، وجعله صالحًا مصلحًا لأتباعه إلى يوم الدين ؟!
أقوال أهل الإسلام في مصطلح " التسامح " :
قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ:"التسامح موجود في الدين الإسلامي، قال تعالى: ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيئ فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ) ، (وأن تعفوا أقرب للتقوى ) الآية.
ليس التسامح خاصاً بما يُنشر عن دين المسيح عيسى ابن مريم، بل التسامح في الإسلام، لكن تسامح الإسلام تسامحٌ في حزم؛ أي أنه يُشرع التسامح في الموضع الذي يكون فيه التسامح خيراً.
أحياناً لا يكون التسامح خيراً، ولهذا قيد الله عز وجل العفو بالإصلاح فقال: ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) ؛ لأن العفو أحياناً لا يكون حميداً ، أحياناً يكون العفو سبباً لتسلط الأشخاص واستمرارهم في شرورهم، وإذا أُخذوا بالحزم وعوقبوا بما تقتضيه جرائمهم من العقوبة، كان في هذا خير كثير وكف أذى، ولهذا يجب ألا نحكم العاطفة في العفو عن الجناة في كل حال، بل يجب أن يكون لدينا رأفة ورحمة ، وأن يكون لدينا حزم وعزيمة وقوة.
ألم تسمعوا قول الله ـ عز وجل ـ : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فنهى الله تعالى عن الرأفة للزاني والزانية، مع أن الرأفة مطلوبة، ومن أسماء الله الرؤوف لكن الرأفة لها محل، والحزم والأخذ بالعقوبة له محل آخر). (اللقاء الشهري (11/7 ـ 8).(7/2)
وقال الشيخ محمد بن إسماعيل معلقاً على هذه الكلمة: "اعلم ـ أخي المسلم ـ أن بعض الناس يخلطون بين لفظة (التعصب) ولفظة (التسامح) خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإذا سمعك أحدهم مثلاً تقول: "لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني، لأنه لا يدخل الجنة"، اعتبر هذا تشدداً وتعصباً، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وَعدّ نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام !!
ولكشف النقاب عن هذا الخلط نقول:
إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة، فالتعصب: أن تعامل الذميِّ اليهودي أو النصراني بحيف، وتبخسه حقه، والشرع يأبى ذلك ولا يرضاه، والتسامح: أن تعامله بالعدل والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والألطاف، وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك، وأن تصله إن كان من قرابتك، غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك، ولا من زكاة فطرك، لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين، ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين، وشرط هذا كله أن لا يكون محارباً.(7/3)
ومع هذا يجب عليك أن تعتقد اعتقاداً حازماً لا تردد فيه أنه على باطل، وأنه إن مات كافراً لا يجوز الترحم عليه ولا الدعاء له بالمغفرة، قال تعالى: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ) من الخير ؛كصدقة، وصلة رحم، وإغاثة ملهوف ( فجعلناه هباء منثورا ) ، لا ثواب له في الآخرة، وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد منهم ولي أو قديس كما يقولون، لأن الولاية أو القداسة نتيجة العمل الصالح المقبول، وعملهم غير مقبول، لبطلان دينهم المخالف للإسلام ( ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) . وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، لا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه الإمام أحمد ومسلم، فمن جوز وجود ولي منهم أو تبرك بأحد قديسيهم، فقد تخلى عن عقيدته ودينه، إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما ظن المخلطون الواهمون، لكنه تنازل عنها، يلزم منه الخروج من الدين، لأنه مبني على العقيدة، فإذا فُقِدت فُقِد، فينبغي عدم إقراره على كفره، وعدم الرضا به، وبغضه ببغض الله تعالى له، وعدم موالاته وموادته قال تعالى: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) ، وعدم التشبه به، وعدم إنكاحه المؤمنة، وعدم بداءته بالسلام، وأن يضطره إلى أضيق الطريق فهذا كله من التمسك بالدين وليس من التعصب في شيء، والتفريط فيه ليس تسامحاً، ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى أعلم) . ( عودة الحجاب، (1/274).
وقال الدكتور أحمد القاضي: "إن مفهوم التسامح الذي يتكئ عليه دعاة التقريب مفهوم فضفاض يتضمن حقاً وباطلاً، يحتم ضرورة الاستفصال عن المدلول المراد:(7/4)
فإن أريد بالتسامح : العفو والصفح في المعاملة، بالتنازل عن بعض الحقوق الشخصية مالية أو معنوية، أو ما يحيله الشرع الإسلامي إلى اجتهاد ولاة أمور المسلمين في معاملة الحربيين من المنِّ أو الفداء، حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية، أو منح الذميين والمعاهدين والمستأمنين في المجتمع الإسلامي حقوقاً مدنية، وإذناً في البقاء على دينهم وعباداتهم، من غير إكراهٍ لهم على اعتناق الإسلام، فهو حقٌ جاء به الإسلام، وحفل به تاريخه، وفاق به جميع الأنظمة القديمة والحديثة، وقد شهد له بذلك الأعداء ، فهو بهذا المدلول فضيلة خلقية، ومنهجٌ نبيل في العلاقات الدولية، والتنظيم الاجتماعي، لا يثلم عقيدة، ولا يهدر كرامة، ولا يضيع حقاً.
وإن كان التسامح يعني المداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، وتسوية المسلمين بالمجرمين، وإدانة سبيل السابقين الأولين من المؤمنين، وإباحة جناب المجتمع المسلم لجحافل المنصرين والملحدين لإشاعة الفاحشة الفكرية والخلقية في الذين آمنوا، باسم "الحرية الدينية" و"التعددية الثقافية"، و"التنوع الحضاري"، وما شابهها في زخرف القول، بحجة تحسين صورة الإسلام والمسلمين في أذهان الغربيين، فما هذا بتسامح، بل خنوع واستخذاء، ونزع للباس التقوى.(7/5)
يقول أحد دعاة التقريب: "إن التسامح يعد خطاً حضارياً يقضي بمنح الآخرين حرية التعبير عن الآراء والأفكار التي تغاير الآخرين، كما يسمح بالعيش وفقاً للمبادئ والمعتقدات التي لا ندين بها سوية، إن التسامح أصبح إذاً مسألة لا يمكن فصلها عن الحرية وحقوق الإنسان، إن التسامح يجب أن يشمل الجميع، وكل الأديان على وجه الأرض، إن العالم العربي مدعوٌ في المستقبل القريب إلى أن لا يواصل تجاهله لوجود عدة بلايين من البشر على وجه البسيطة، من الذين لا يدعون الانحدار من إبراهيم، ولا يعني ذلك أبداً أن حضاراتهم وأنماط تفكيرهم غير جديرة بالتقدير والاحترام، مثلما هو الشأن لحضارتنا ونمط تفكيرنا، بل يجب علينا إذاً نحن المسلمين أن نطبق على الآخرين ما نطالب به لأنفسنا".
هذا مؤدى مفهوم التسامح الذي ينادي به دعاة التقريب، يضفي عباءته الفضفاضة على كل مشركٍ وثني، فضلاً عن اليهودي والنصراني، ويمنحه التقدير والاحترام من جهة حضارته وعقيدته، ويتيح له أن يجهر بالسوء من القول!
إن الغرب الذي يخطب هؤلاء التقريبيون وده، لا يكف ليلَ نهار عن تشويه الإسلام في وسائل الإعلام والسخرية من أهله، ولا يعوزه للقيام بهذا الصد عن سبيل الله وجود تصرفات طائشة مرفوضة تتسم بالعنف والعدوان من بعض المنتسبين إلى الإسلام، كما لن يوقفه بالمقابل اطراح هؤلاء التقريبيين بين أيديهم في ضعة وانخذال، فتلك عقيدة راسخة، وطبيعة متأصلة في نفوسهم، منذ فجر الإسلام ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ، ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) .(7/6)
إن كل جريمة ترتكبها مجموعة دينية أو عرقية أو ثورية في أنحاء العالم، لا تنسب في لغة الإعلام الغربي إلى الدين الذي تنتمي إليه تلك المجموعة، أو حتى الفرد، إلا حين تصدر عن مسلمين، فيقال رأساً: (الإرهاب الإسلامي) و(الإرهابيون المسلمون)، ولا يقال لجرائم الصرب الفظيعة في البوسنة وكوسوفا (إرهاب أرثذوكسي)، ولا لعمليات الألوية الحمراء في إيطاليا (إرهاب كاثوليكي)، ولا لتفجيرات الجيش السري الإيرلندي (إرهاب بروتستانتي)، ولا لأعمال القمع التي يمارسها الجيش الإسرائيلي يومياً (إرهاب يهودي)، بل لا يقال لمجازر الهنود القوميين، وهدمهم لمساجد المسلمين (إرهاب هندوسي)، ولا لعمليات الجيش الأحمر الياباني (إرهاب بوذي). كما لا توصف حملات التشويه والتشهير الإعلامي ضد الإسلام في الغرب بالتطرف وعدم التسامح. ودعاة التقريب، بحكم ثقافاتهم الغربية غالباً، يدركون هذه الحقائق جيداً ، فلا يزيدهم ذلك إلا تقرباً إلى الخصم الذي لا يمل من الابتزاز.
إن تحسين صورة الإسلام في أذهان الغربيين، والناس أجمعين، وإبراز محاسن الإسلام، لا يكون إلا بالتمسك به، والتأدب بآدابه، والدعوة إليه، ولا يكون أبداً بانتقاصه، واجتزائه، والتخلي عن شيء منه قرباناً إلى الكافرين، وموالاةً لهم من دون المؤمنين.
يقول الأستاذ سيد قطب : "إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الآيات، كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي" ) . ( دعوة التقريب بين الأديان، (4/1525ـ1528) .
ـــــــــــــــــــــــــ(7/7)
ويقول الدكتور محمد يحيى : (إن دعوى (التعددية) تخفي وراء مظهر التسامح والرحابة الفكرية البراق دعوةً عنصرية لفرض ثقافات وقيم وتوجهات الغرب على الثقافات الأخرى ، وبالذات على الإسلام بوصفه ديناً وعقيدة وثقافة .
وبجانب ذلك : فإن دعوة (التعددية) تسوي بين جميع الأطراف الداخلة فيها ، فلا يصبح هناك حق وباطل ، أو جيد ورديء ، أو أعلى و أدنى ، بل الكل سواء طالما أنه دخل في سياق (التعددية) ، فلا يوجد فرق بين بوذي ، وهندوسي ، ، وبهائي ، وقادياني ، ويهودي ، ونصراني ، وزرادشتي ... ومسلم ؛ لأن الجميع أديان وعقائد داخلة في (التعددية) ، فليس لأحد منها فضل على الآخر أو الحق في القول : بأنه دين الحق .
والمحصلة النهائية مرة أخرى هي علمنة الإسلام ، أي : نزع القداسة والمنزلة الإلهية عنه ، وتحويله إلى نِحلة بشرية الوضع تضاف إلى النّحَل البشرية الوضع أو " العلمانية " ! ) .
ويقول – أيضًا - : ( تفاخر العلمانية الأوروبية ويتباهى معها وكلاؤها المحليون في البلاد الإسلامية بأن أعظم إنجازاتها كانت في إحلال روح التسامح الديني محل التعصب الذي رمزوا له بمحاكم التفتيش المشهورة في التاريخ ، التي لا يذكر أحد في العادة أن الكثير من ضحاياها كانوا من مسلمي الأندلس المقهورة قبل أن يكونوا من النصارى أنفسهم ، وأياً كانت الحال فقد أقام العلمانيون وعلى مدى ما يقارب العقد من السنين في بلادنا المسلمة محاكم تفتيش خاصة بهم نصبوها على صفحات الجرائد
والمجلات وموجات الأثير ومنابر الثقافة التي سلمت لهم ، بل وجُعلت حكراً خاصاً بهم ) .
ويقول - أيضًا – في مقال بعنوان " خطاب السماحة " :(7/8)
( أصبحت الساحة الفكرية الإسلامية في بعض البلاد العربية حكراً على أنواع محددة وضيقة النطاق من الخطاب ؛ تمليها اعتبارات السياسة ، والتوجيه من أعلى ؛ خدمةً لمصالح وتوجهات لا علاقة لها بالإسلام بل على العكس : لها أوثق صلة بالتيارات العلمانية أو اللادينية . ومن أنواع الخطاب هذه ما يمكن أن نسميه بخطاب (السماحة) أو (التسامح) ، الذي اكتسب مكانة احتكارية في لغة الحديث والفكر الرسمي لأرباب ما يسمى بالمؤسسات الدينية في بلد مركزي مثل مصر ؛ التي
أقصر هذه الملاحظات عليها . ووفق هذا النوع من الخطاب نسمع دائماً مجموعة من العبارات والتوصيفات تتكرر من طراز : (الإسلام دين السماحة) ، أو (سماحة الإسلام) ، أو (الإسلام شريعة التسامح) وأشباهها . ويقترن بالإلحاح المتكرر (والممل) على أمثال هذه التوصيفات قصر الحديث في الموضوعات الإسلامية الفكرية أو الشرعية أو العقدية على المادة التي تفيد هذا التسامح أو توظف للدلالة عليها ، كما تلوي أعناق الخطب والعظات والمناسبات الإسلامية بتعسف واضح لكي يقتصر مغزاها ومعناها ومداها على إثبات هذا التسامح وفق المفهوم الذي يراه دعاة هذا الخطاب .
ويثير خطاب السماحة بهذا المعنى مشكلة أولية عندما يصبح هو الخطاب الوحيد أو الرئيس الذي يشغل الساحة الإسلامية ، ويُفرض على جمهور المسلمين . وهذه المشكلة هي ضياع سعة نطاق الفكر الإسلامي وثرائه وغناه ، والشعور بالنفور وعدم التصديق الذي ينتاب السامع لهذا الخطاب ؛ عندما يجد أن الإسلام كله قد اختزل في مفهوم واحد ، وأنه مفهوم قفز فجأة إلى السطح ، وفُرض فرضاً بفعل الظرف السياسي المشغول هو الآخر بهمٍّ وحيد ألا وهو مكافحة ما يسمى تارة بالإرهاب وتارة بالتطرف .(7/9)
والوضع الاحتكاري لخطاب السماحة هذا يؤدي في الواقع إلى إلغاءٍ للإسلام على مستويين : أولهما : هو مستوى الدعوة والفكر كما أسلفت ، عندما لا يعود هناك ما يقال للجماهير المسلمة في المنابر ووسائل الإعلام سوى كلمة واحدة هي أن
الإسلام دين التسامح ، وتختزل كل عقيدته وشريعته وتعاليمه في هذا الوصف المبهم الغامض . أما المستوى الآخر والأكثر خطورة فهو أن التسامح أو السماحة وفق المفهوم الذي يروّج له يعني في حقيقة الأمر إلغاء الدين الإسلامي نفسه ؛ من فرط
الحرص على ما يوصف بأنه حساسيات ومشاعر الآخرين (غير المسلمين) ، ويقودنا هذا إلى البحث بشكل أكثر عمقاً في محتوى هذا المفهوم كما ينشره القائلون به ضمناً وصراحة .
إن الذين يروّجون لخطاب السماحة كما أسميه ويختزلون الإسلام على سعته ؛ لا يقصدون أبداً ما يترامى إلى الذهن المسلم في معان تقترن بهذا المفهوم كما تعلمها من تعاليم دينه ؛ فليس المقصود سلوكاً شخصياً من اللين والرقة والسهولة في
التعاملات ، والبعد عن الخشونة والجلافة ، وليس المقصود البعد عن اللدد في الخصومة والتشفي والملاهاة والجدل والرفث ، وليس المقصود الحلم والأناة والصبر الجميل وحسن السياسة والكياسة في العلاقات ، وليس المقصود سعة الصدر وسعة
الرأي والجدل بالتي هي أحسن ورحابة الذهن في الفهم .
في الجملة : ليس المقصود سلوكاً وقيماً ومشاعر وتوجهات شخصية يتسم بها المسلمون في تعاملاتهم الاجتماعية على تنوعها من تجارية أو فكرية أو غير ذلك ؛ بل المقصود حسبما نقرأ ونستدل هو مسلك يراد له أن يسود على صعيد العقيدة(7/10)
والشريعة وأحكامها ، وعلى صعيد العلاقات بالذات مع غير المسلمين وليس في علاقات المسلمين بعضهم مع بعض . ومفهوم السماحة والتسامح كما يروّج له هذا الخطاب الاحتكاري المغرض يعني ببساطة : أن يتساهل المسلمون في الطرح العقدي والتشريعي ويخفّضون منه ، أو حتى يخفونه في علاقاتهم مع العقائد والأديان الأخرى ، والدول والهيئات والتيارات العالمية التي تمثلها ؛ وذلك بحجة مزعومة هي الحفاظ على السلام والوئام الدولي . فالتسامح والسماحة كما يرى أولئك هو ألا يجعل المسلم من عقيدته وشريعته بتعاليمها وأحكامها حاجزاً يعوقه عما يسمى بالتعاون الدولي ، مع عقائد وأديان أخرى حتى وإن كان ممثلو هذه العقائد أفراداً وجماعات يمارسون الاحتلال والاستيطان والتبشير والتنصير والقتل والتنكيل بالمسلمين !
والسماحة لديهم هي ألا يطرح المسلمون عقيدتهم التوحيدية في وجه عقائد غيرهم الشركية أو المنحرفة ؛ حتى ولو كان هذا الطرح لا لشيء إلا ليحفظوا أبناءهم من زيغ تلك العقائد وهي تُروّج بينهم ليل نهار بكل أدوات الاتصال من
التعامل الشخصي ، إلى البث على الأقمار الصناعية والإنترنت . والتسامح في نظرهم هو أن ينحّي المسلمون عقيدتهم وشريعتهم جانباً ، أو يبعدوهما تماماً في تعاملاتهم مع غير المسلمين من شتى الأطراف الدولية ؛ فهذا هو التحضر والمسلك التعاوني حتى ولو كان هؤلاء من غير المسلمين لا يتعاملون مع المسلمين إلا من منطلق عقيدتهم وتعاليمهم هم سواءً أكانت دينية أم دنيوية .(7/11)
وغني عن البيان أن هذا المفهوم للسماحة أو التسامح الذي يُفرض فرضاً على الساحة الفكرية الإسلامية إلى حد احتكارها ، لا ينطلق من حرص على دين أو عقيدة أو حتى تعاون مزعوم مع غير المسلمين ؛ بل هو نتاج وضع معروف من أوضاع التبعية للغرب تحرص فيه النخب العلمانية صاحبة السلطة والنفوذ على أن تُرضي الأسياد في الغرب من يهود ونصارى وملحدين ؛ بأن تضمن لهم أن الإسلام الذي يخافون منه سيظل أسيراً مقيداً لا يطاولهم في مجال العقيدة ، ولا يصاولهم في
مجال بناء الحضارة والوصول إلى القلوب والعقول . ومفهوم التسامح والسماحة بهذا المعنى الخاص الذي يُروّج به من خلال بعض الدوائر المشبوهة يصبح مفهوماً غير حضاري أو إنساني ؛ بل مجرد أداة لقمع الفكر والطرح الإسلامي وكبته وتكبيله عن
أن ينطلق ويسري ، بحجة غريبة هي أن طرح هذا الفكر والعقيدة والتمسك والاعتزاز بهما ينافي فكرة السلام العالمي والتعاون الدولي رغم أن غير المسلمين على اختلاف نحلهم لا ينطلقون في تعاملاتهم الدولية إلا من هذا السياق العقدي الخاص بهم .
وليس أدل على ما نقول به من انحراف هذا المفهوم وشذوذه من أن الذين يروّجون له يطبقونه على من يشاؤون ولا يطبقونه على المسلمين ، وكأن سماحة الإسلام قصد بها أن تسري على الكفار ولا تسري على المؤمنين ، وإذا قرأنا
الصحف وتابعنا الإعلام فسنجد أن دعاة السماحة يستقبلون حاخامات إسرائيل وكنسيي الأمريكان ؛ لكنهم عندما يختلفون مع علماء يفترض أنهم زملاء بل وأساتذة لهم يركبهم اللدد في الخصومة ويشردون بهم بين قاعات المحاكم وعسف الأجهزة الإدارية والأمنية .
ويقف كبير دعاة التسامح ليدافع عن أستاذ جامعي أنكر وحي القرآن ليقول عنه إنه مجتهد قد يصيب وقد يخطئ ؛ لكنه في الوقت نفسه يستغل منصبه المسيطر على المساجد ليفصل ويُوقِف الأئمة الفضلاء ، واصفاً إياهم بالإرهاب والتطرف ،(7/12)
لا لشيء سوى أنهم راجعوه في بعض مواقفه التي فاحت منها رائحة التحلل من الدين مثل إغلاق المساجد ، وتحويل الخطب والمواعظ بالأمر إلى ترويج أفكار العلمانيين .
ولو استعرضنا التعبير المشهور الذي راج في بعض الأوساط (الثورية) لقلنا : إن لسان حال خطاب التسامح يعلن أن (السماحة كل السماحة لأعداء الإسلام والغرب ولا سماحة للمسلمين) ، والتسامح مع حاخامات الصهاينة وقساوسة الشرق
والغرب بل حتى جزاري الصرب ؛ أما شباب الإسلام ودعاته فليس لهم إلا السجن والقتل والمنع والحظر !
إن السماحة أو التسامح من القيم الإسلامية بل والإنسانية ، وقبل كل شيء يجب ألاّ يتحول الإسلام أو يُختزل في كلمات مبهمة تُروّج ؛ لا من باب نشر الفكرة الإسلامية (على تهافت هذه الطريقة) ؛ وإنما لكي ترضى عن الإسلام جهات علمانية
هي بطبعها لن ترضى عن المسلمين إلا إذا اتبعوا ملتها ). ( مجلة البيان ، الأعداد بالترتيب : 100، 116، 134) .
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه(7/13)
ثقافة التلبيس (7) : الإسلام دين العدل لا المساواة
يخطئ بعض الكتّاب والمؤلفين والمتحدثين عندما يصفون الإسلام بأنه ( دين المساواة ) هكذا بإطلاق ، ويعدون هذا الوصف منقبة له إذ ساوى بين الناس جميعًا – كما يزعمون - .
وتجد هذا كثيرًا عند حديثهم عن موقف الإسلام من غير المسلمين ، أو موقفه من حقوق الإنسان ، أو موقفه من المرأة ..
متوهمين أن " صفة المساواة " صفة مدح في جميع أحوالها ، فيلزمهم على هذا أن يساووا بين أحكام المسلم وأحكام الكافر ، وبين أحكام الرجل وأحكام المرأة ، وهي مما جاءت الشريعة بالتفريق بينها .
وقد فعل هذا العصريون للأسف ! عندما واجهتهم النصوص الشرعية التي تمايز بين من سبق ، فأخذوا يتكلفون طريقة التخلص منها ! إما بردها ، أو التغافل عنها ، أو تأويلها ..
حتى وصل بهم الحال إلى أن جعلوا المسلم - في الدنيا - كالكافر – والعياذ بالله - . بل تجاوز بعضهم في الضلال حتى جعلهم متساوين في أحكام الآخرة ! مشاقة لله عز وجل ، واتهامًا مبطنًا له جل جلاله بالظلم في أحكامه .
ومن طالع كتاباتهم علم هذا .
فيصدق على هؤلاء قوله تعالى : {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} ، وقوله تعالى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ، وقوله {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} .
وكذلك فعلوا في أحكام الرجل وأحكام المرأة إذ ساووا بينهما ، معتقدين أنهم بهذه الطريقة ينصرون المرأة المسلمة ، محملينها ما لم يُحمّلها الله .
وماعلم هؤلاء أن المساواة المطلقة لا وجود لها إلا في أذهانهم ، وأنها مخالفة ومعاندة لقضاء الله الشرعي والقدري .(8/1)
فقد فاوت سبحانه بين مخلوقاته ، ويسر كلّ مخلوق لما خُلق له . فالشمس غير القمر ، والرجل غير المرأة ... وهكذا . وفاوت كذلك بين من أطاع أمره ممن خالفه ، فجعل لكل واحد أحكامه التي تخصه بسبب اختياره وعمله .
فلو وفق هؤلاء الكتاب لأنزلوا كل مخلوق منزلته التي أنزله الله إياها ، موقنين بأن الله لا يظلم أحدا .
ولو وفق هؤلاء لقيدوا مساواتهم تلك ولم يُطلقوها ، فقالوا مثلا : الناس متساوون في الخلقة ، أو متساوون في حب زينة الحياة الدنيا ، أو في كراهية الظلم .. الخ مما جاءت الشريعة بتقرير المساواة فيه بين الناس .
وقل مثل ذلك في قضية الرجل والمرأة ؛ فتقيد المساواة ولا تُطلق ؛ فيقال مثلا : المرأة مساوية للرجل في التكليف ، أو في الجزاء الأخروي .... وهكذا ، مما جاءت الشريعة بتقرير مساواتهما فيه .
أما الإطلاق فلا ..
لأنه يلبس على الناس ، ويعارض قضاء الله وأحكامه - كما سبق - .
ومن الأمثلة على ماسبق : مافعله الدكتور فؤاد عبدالمنعم في كتابه " مبدأ المساواة في الإسلام " من محاولة متكلفة لتحقيق هذه المساواة التي لعلها ترضي الآخرين ! فأثبت الجهاد على النساء لعلهن يساوين الرجل ! ( ص 97 ) . وادعى أن للكفار ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ! ( ص 110 ) . وتبرأ من أن يكون للرق مكان في عالمنا الإسلامي ! ( ص 147) . ... الخ تكلفاته الباردة التي دعاه غليها افتتانه بهذه المساواة المطلقة الباطلة . رغم أنه اعترف في ( ص 67 ) : ( أن فقهاء الشريعة الإسلامية القدامى لم يتعرضوا في أبحاثهم لمبدأ المساواة ) . وقد صدق ! لأن علماء المسلمين لايقولون بهذا الباطل المناقض للنصوص الشرعية .. بل يرددون كثيرًا - اتباعًا للنصوص - أن الإسلام دين العدل .
ومن الأمثلة أيضًا :(8/2)
ما فعله صاحب كتاب " الإسلام والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين " د / عبدالمنعم بركه عندما زعم أن الكفار الذميين لهم الحق في تولي الوظائف العليا في دولة الإسلام ولو كانت الوزارة ! ( 198 ، 240 ) . وأن شهادتهم كشهادة المسلم ! ( 256 ) . وأن الجزية تسقط عنهم في هذا الزمان ! ( ص 312.. ) . وأنهم يساوون المسلمين في القصاص والدية ! ( 226 ) . وأنهم وأنهم .... الخ تمحلاته وتكلفاته التي يريد من خلالها إظهار الإسلام بمظهر المساواة الباطلة .
هذان مثالان لما جرته هذه العبارة الباطلة المخادعة .
فالواجب أن تُستبدل عبارة ( الإسلام دين المساواة ) بعبارة ( الإسلام دين العدل ) ؛ لأن العدل وضع الشيئ في موضعه الذي أراده الله له ، دون مجاوزة أو نقص .
وماعلمتُ أحدًا نبه على هذه المسألة كما نبه الشيخ العلامة محمد بن عثيمين - رحمه الله - في دروسه وكتبه ‘ إذ أفاد وأجاد في تقريرها .
ومن ذلك قوله - رحمه الله - في " شرح العقيدة الواسطية " ( 1 / 180-181 ) :
( إن من الناس من يستعمل بدل العدل المساواة ؛ وهذا خطأ ، لا يقال : مساواة ؛ لأن المساواة تقتضي التسوية بين شيئين ، الحكمة تقتضي التفريق بينهما ، ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون : أي فرق بين الذكر والأنثى ؟ سووا بين الذكور والإناث ، حتى إن الشيوعية قالت : أي فرق بين الحاكم والمحكوم ؟ لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد حتى بين الوالد والولد، ليس للوالد سلطة على الولد ، وهلمَّ جرّا .
لكن إذا قلنا بالعدل وهو " إعطاء كل أحدٍ ما يستحقه " : زال هذا المحذور ، وصارت العبارة سليمة ، ولهذا لم يأت في القران أبداً : " إن الله يأمر بالتسوية " لكن جاء : { إن الله يأمر بالعدل } ، { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } .(8/3)
وكذب على الإسلام مَن قال : إن دين الإسلام دين المساواة ، بل دين الإسلام دين العدل ، وهو الجمع بين المتساوين والتفريق بين المفترقين .
أما أنه دين مساواة فهذه لا يقولها مَن يعرف دين الإسلام ، بل الذي يدلك على بطلان هذه القاعدة أن أكثر ما جاء في القرآن هو نفي المساواة : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ، { قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور } ، { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } ، { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } ، ما جاء ولا حرف في القرآن يأمر بالمساواة أبدًا إنما يأمر بالعدل ، وكلمة العدل أيضا تجدونها مقبولة لدى النفوس ،
فأنا أشعر أن لي فضلاً على هذا الرجل بالعلم ، أو بالمال ، أو بالورع ، أو ببذل المعروف ، ثم لا أرضى بأن يكون مساوياً لي أبدًا ). . اهـ كلامه رحمه الله
وهذه بعض الأحكام الشرعية التي يختلف فيها الرجل عن المرأة استفدتها - بتصرف - من كتاب الدكتور مروان القيسي " المرأة المسلمة بين اجتهادات الفقهاء وممارسات المسلمين ، ص 123- 134) ، ومن أراد الزيادة في هذا فعليه برسالة " الأحكام التي تخالف فيها المرأة الرجل " للأستاذ سعد الحربي ، وخاتمة كتاب " حسن الأسوة " لصديق حسن خان .
الأحكام والمسائل التي ثبت فيها التفريق بين الرجل والمرأة:(8/4)
1- الميراث: قال تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، وقال تعالى : (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم) .
2- الشهادة وفيها تفصيل كما يأتي:
أ- لا تُقْبَل شهادة النساء في القصاص والحدود كافةً كحد الشُّرْب وقطع الطريق والقتل بالرِّدة وكذلك التعزيز فلا بد في كل هذه من شهادة رجلين إلا الزنا واللواط وإتيان البهائم فلا يُقْبَل فيها أقلُّ من أربعة رجالٍ لقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ" .
ب- ما يَطَّلِع عليه الرجال عادة كالنَّسب والطلاق والرَّجْعة والخُلْع والولادة والنكاح والوصية والتوكيل في المال فلابد فيها من شهادة رجلين .
ج- المعاملات المالية كالبيع والقَرْض والإجارة والرهن والوديعة والإقرار والغَصْب والوقْف، وكذلك قتل الخطأ لأن حقًا ماليًا يترتب عليه، فيكفي في هذا كله رجلان أو رجل وامرأتان لقوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) .
د- ما لا يطَّلِعُ عليه الرجال عادةً وتَغْلِب على النساء معرفته والاطلاع عليه فتُقْبل فيه شهادة امرأتين كعُيُوب النساء تحت ثيابهن والولادة والبَكارة والثيوبة والقرْن (انسداد مَحَل الجماع بِعَظْم) والرتق (انسداد محل الجماع بلحم) والبَرَص. ولا يصح ما رُوِي عن حُذَيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة وحدها»(8/5)
ه- الرضاعة: وتقبل فيها شهادة امرأة واحدة عدل لقوله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري من حديث عقبة بن الحارث رضي الله عنه «كَيْفَ وَقَد زَعَمَتْ أنها قد أرْضَعَتْكُما» وتَرجم له البخاري بقوله: «باب شهادة المُرْضِعة» .
و- رؤية هلال رمضان وتُقبل فيه شهادة رجل مسلم واحدٍ عدلٍ أو شهادة مسلمةٍ واحدةٍ على السواء.
3- العقيقة: وهي ما يُذْبح من الأنعام عند الولادة إذ يُعَق عن الذكر شاتان وعن الأنثى شاة. قال صلى الله عليه وسلم «عَنِ الغُلامِ شاتان مُكَافِئتانِ وعن الجارية شاة».
4- الجهاد بالنفس فلا يجب على المرأة، وإنما تُجاهد بِمالها وكذلك بالحج «فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله هل على النساء جهادٌ؟ قال: نعم عليهن جهادٌ لا قتال فيه: الحَج والعُمرة» .
5- زيارة القبور .
6- العورة: ففي حين أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة فإن المرأة كلها عورة في النظر. وينشأ عن هذا الفرق تَفْرِقةٌ في اللباس. ذلك أن المرأة مأمورةٌ بسَتر جسدها كله. وفي حين أن الرجل مأمورٌ بألا يتجاوز ثوبه كعبيه والأفضل أن يكون لمنتصف ساقيه فإن للمرأة رخصةً في جر الإزار لأنه يكون أستر لهن قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ جَرَّ ثَوْبَهَ خُيَلاء، لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إليه يومَ القِيامةِ فَقَالتْ أُمُّ سَلمةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النساءُ بِذِيُولِهِنَّ؟ قال: يُرْخِينَ شِبْرًا، فقالت: إِذَنْ تَنْكَشِفُ أقْدامُهنَّ، قال: فَيُرْخِيْنَهُ ذِراعًا لا يَزِدْنَ عَلَيه» .
7- بول الصبي والصبية: ذلك أن بول الصبي الذي لم يُجاوِز سنَتَين يكفيه النَّضْح. أما بول الصبية فلابد فيه من الغَسل، قال صلى الله عليه وسلم «بول الغُلام يُنْضَح، وبول الجارية يُغْسَل» .(8/6)
8- السفر: فلا يجوز للمرأة أن تسافر سفرًا مُعتَبَرًا عُرْفًا إلا بِصُحبَة زَوج أو مَحْرَم حتى لو كان السفر للحج. وما ذهبت إليه بعض المذاهب من جواز سفرها في رِفْقَة النساء فلا يصح، وذلك لمعارضَتِهِ للأحاديث الصحيحة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُسافر امرأةٌ إلا مع ذِي مَحْرَم ٍولا يَدْخُلُ عليها رَجَلٌ إلا ومَعَها مَحْرَم».
9- ومما تفترق به المرأة عن الرجل اختصاص الأم بقدْرٍ زائدٍ من البِرِّ عن الأبِ. فعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال:«جاء رَجَلٌ إلى رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ أَحَقُّ الناسِ بِحُسْنِ صَحابَتي؟ قال أُمُّكْ. قال: ثُم مَن؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أبوك» . وعن المُغِيرة بن شُعْبة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ عليكُم عُقوقَ الأمهات ووأْدَ البنات» . فَخَص الحديثُ بالذكر عقوق الأمهات عِلمًا بأن عقوق الوالدين كليهما مُحَرَّمٌ.
10- ومما تفترق فيه النساء عن الرجال أنه ليس لهن وسَط الطريق، وأنه ينبغي عليهن اجتناب الرجال في الطُّرُقات قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ للنساءِ وَسَطُ الطريق».
11- اختصاص البنات بقدْرٍ زائدٍ في التربية عن الأنباء. قال صلى الله عليه وسلم: «من كان له ثلاثُ بناتٍ، فَصَبَر علَيهنَّ، وأَطْعَمََُنَّ وسقاهُنَّ وكساهُنَّ من جِدَتِه، كُنَّ له حِجابًا مِنَ النارِ يَومَ القِيامةِ» ، وقال صلى الله عليه وسلم «مَنْ ابْتُلِيَ مِن هذِهِ البناتِ بشئٍ، فأَحْسَنَ إليهِنَّ، كن له سِتْرًا مِن النار» .(8/7)
12- تقديم النساء على الرجال في الحضانة، ذلك أنه في حالة افتراق الزوجين عن بعضٍ فإن الأم أحق بحضانة الأولاد من الأب ما لم تتزوج، فعن عمرو بن العاص أن امرأةً قالت: «يا رسولَ اللهِ إنَّ ابْنِي هذا كان بطْنِي له وِعاءً وحِجْري له حِواءً، وثَدْيِي له سِقاءً، وزَعَم أبوه أن ينْزِعَه مِنِّي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ أحقُّ بِهِ ما لم تُنْكَحي».
13- الاغتسال في الحمامات العامة: فقد حَرَّمهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء. ومن أباحَهُ من الفقهاء للنُّفَساء والمريضة فقد استدل على ذلك بحديثٍ غير صحيح. والصواب أن دخول المسلمة الحمام العمومي لا يصح. ولو بمئزرٍ لما ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن كان يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يدْخُلِ الحَمَّامَ بغيرِ إزارٍ، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخِرِ فلا يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الحمام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَجْلسْ على مائدةٍ يُدارُ عليها الخَمْرُ» .
14- الملاعنة: فهي خاصة بالرجل دون المرأة. فللرجل أن يَشْهَد أربع شهاداتٍ على زوجته بالزنا. قال تعالي: ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) .
وبما أنه لم يَرِدْ نَصٌّ بخصوص قذف المرأة لزوجها بالزنا فيظل الحكم كما هو ، أي أنه يُطْلَب منها إحضار ما يَكْمُل به نِصاب الشهادة وإلا جُلِدت حد القذف.
15- الوِلاية في الزواج: فليس للمرأة أن تُزوِّج امرأةً أُخْرى، ولا أن تُزَوِّج نَفْسَها قال صلى الله عليه وسلم:«لا تُزِوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا تُزَوِّج المرأةُ نَفْسها».
16- وجوب استئذان الزوجة زوجها إن أرادت أن تصوم تَطَوُّعًا في حين لا يجب عليه أن يستأذنها إن أراد أن يفعل ذلك.(8/8)
17- التعدد في الزواج: فقد أباح الشرع الإسلامي للرجل أن يتزوج أربعاً دون أن يبيح للمرأة أن تتزوج بأكثر من رجل. ولا يصح أبدًا التساؤل عن الحكمة في ذلك؛ لأنه أمرٌ واضحٌ لا يحتاج لجواب، فاختلاط ُالأنساب أمرٌ واردٌ في تَعَدُّدِ الأزواج دون تعدد الزوجات.كما أن الفِطرة والذَّوق البشرِيَّين يَسْتهجِنانِ أشد الاستهجان تعدد الأزواج بينما يَقْبلان تعدد الزوجات.
18- ولاية أمور المسلمين ويشمل المنع من السياسة والقضاء قال صلى الله عليه وسلم «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوا أمْرَهُمُ امْرأةً».
19- التعطُّر خارج المنزل فَيَحْرُم عليها ذلك بخلاف الرجل، قال صلى الله عليه وسلم: «أيُّما امرأةٍ استَعْطَرَت ثم خرجت، فَمَرَّت على قَومٍ لِيجِدوا رِيْحَها فهي زانيةٌ، وكلُّ عَينٍ زانية» .
20- إباحة الذهب والحرير، فهو أمرٌ خاص بالنساء دون الرجال. قال صلى الله عليه وسلم: «حُرِّمَ لِباسُ الحريرِ والذَّهَبِ على ذُكُورِ أُمَّتِي وأُحِلَّ لإِناثِهِم» .
21- الحداد، فلم يُشْرَع للرجل على زوجته المتوفاة، وشُرِع للمرأة على زوجها المتوفَّى. قال صلى الله عليه وسلم:«لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤْمِنُ بالله واليوم الآخِرِ أن تَحِدَّ على مَيتٍ فَوقَ ثلاثِ لَيالٍ، إلا الزوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا».
22- العدة للمُتوفَّى عنها زوجها والمطلقة قال تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، وقال تعالى: ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ). وليس على الرجل عِدةٌ لكنه يمُنَع من الزواج حتى تنتهي عدة زوجته الرابعة .(8/9)
23- اتباع الجنائز، لنهي النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن اتباع الجنائز وهو ماصح عن أم عطية رضي الله عنها قولها: "نهانا رسول الله عن اتباعِ الجنائز.. " . أما الرجال فإن اتباع الجنائز في حقهم مُستَحَبٌ.
24- إنزال الميت في القبر: فهو خاص بالرجال يَتَوَلَّوْنَه.
25- اقتسام غنائم الحرب: فالمرأة ليست مُكَلفةٌ بالقتال، لكن إذا أَذِن لها الإمام واشتركت في المعركة يُرضَخ لها إن قاتلت؛ بمعني أن الإمام يعطيها عطاءً غير محدد، لكن دون أن تُعْطَي حِصةً كحِصَص المُقاتلين.
26- الختان: ففي حين أن الختان فَرْضٌ على كل مسلمٍ ذكر، فإنه ليس كذلك بالنسبة للنساء فلا يُخْتَن إلا إن ظهرت لختان بعضهن حاجة. أما إن لم تكن حاجة فلا ختان، وذلك يختلف من امرأةٍ لامرأة.
27- وثَقْب الأُذُنِ جائزٌ بحق النساء حرامٌ على الذكور؛ لأنهم ممنوعون من جَعْل الأقراط في آذانهم.
28- وفي حين أن للمرأة خَضْب يَديْها ورِجْليها بالحناء فإنه ليس للرجل أن يفعل ذلك قال صلى الله عليه وسلم «طِيْبُ الرَّجلِ ما ظَهَرَ رِيْحُه وخَفِيَ لَوْنُه، وطِيب النساء ما ظهر لونه وخَفِيَ ريحه».
29- ولا يجوز للمرأة أن تحْلِق رأسها بخلاف الرجل؛ لما في ذلك من المُثْلَة، ولما فيه من التشبُّه بالرجال وكل ذلك مُحرَّم.
30- استحقاقها المهر عند الزواج وليس ذلك للرجل.(8/10)
وبعد فإن الدارس للفروق آنفةَ الذِكْرِ بين الرجل والمرأة يجد أن تلك الفروق راجعةٌ لأسبابٍ معينةٍ اقتضاها العدل بين الجنسين، وأن المساواة بينهما في مثل هذه الحالات من التفريق تؤدي إلى الظلم. وكما هو معلومٌ أن المساواة في كثيرٍ من الأحيان تؤدي إلى الظلم، وأن العدل كثيرًا ما يقتضي التفرقة والتفريق بإعطاء كلَّ ذِي حقٍ حقَّه، وتكليف كل مُكَلَّفٍ بما يناسب قدراته ويتناسب مع طبيعته. ولذا فإن كل مساواةٍ يقتضيها العدل وتقتضيها الفطرة حققها الإسلام فعلاً بين الجنسين كالمساواة في الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف وفي الثواب والعقاب. أما التكاليف الشرعية فقد سَوَّى الإسلام بين الرجل والمرأة في كل ما من شأنه أن لا يُلْحِق ظلمًا بأحدهما بتحميله فوق طاقته. أو بتكليفه بما لا يتناسب مع طبيعته الذَّكَرِية أو الأُنثوية ؛ كإعفاء المرأة من الجهاد، والاختلاف في اللباس نظرًا لاختلاف أجساد الجنسين. وإن الفاحص لكثيرٍ من الفروق بين الجنسين في التكاليف يجد أنها من باب التنوع والاختصاص في المهام والوظائف، . فهما يكملان بعضهما بعضاً والمجتمع بحاجةٍ لكِليهما، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال:«النساء شقائقُ الرجال» ) .
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح(8/11)
ثقافة التلبيس ( 8 ) : ( مصطلح : الإسلام السياسي ) ..
من المعلوم أن الدين الإسلامي خاتم الأديان الذي ارتضاه الله لعباده ؛ كما قال تعالى : ( ورضيتُ لكم الإسلام دينًا ) قد جاء كاملا شاملا لكل نواحي الحياة : الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. الخ
ولكن هذا الأمر لم يرض أعداءه من الغربيين وأتباعهم اللادينيين الذين أرادوه كغيره من الأديان الأخرى المحصورة في علاقة الإنسان بربه ، وأمر الآخرة فقط ، دون أن يكون له سلطان وهيمنة على دنيا الناس . أو كما يقول أحد رموزهم - كاذبًا - : ( أراد الله للإسلام أن يكون دينًا ، وأراد به الناس أن يكون سياسة ) ! ( الإسلام السياسي ، محمد سعيد العشماوي ، ص 7 ) .
ولهذا فقد اجتهدوا في الترويج لفكرة " فصل الدين عن السياسة " وما يدعمها من شعارات ومصطلحات .
ومن تلك المصطلحات : مصطلح " الإسلام السياسي " الذي أطلقه أولئك على كل جماعة إسلامية تهتم بقضايا الأمة .
وقد بحثتُ عن مصدر هذا المصطلح ، وماقيل عنه ؛ فتحصل لي التالي :
قال الأستاذ عطية الويشي في كتابه " حوار الحضارات " ( ص 210 ) : ( أول من استخدم هذا المصطلح هو هتلر ، حين التقى الشيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين آنذاك ، إذ قال له : إنني لا أخشى من اليهود ولا من الشيوعية ، بل إنني أخشى الإسلام السياسي ! ) .(9/1)
وقال الدكتور محمد عمارة في كتابه " الإسلام السياسي والتعددية السياسية من منظور إسلامي " ( ص 5 - 6 ) : ( إنني لا أستريح كثيرًا لمصطلح " الإسلام السياسي " رغم شيوع هذا المصطلح ، وصدور الكثير من الكتابات حول هذا الموضوع وتحت هذا العنوان . وفيما أذكر ، وفي حدود قراءاتي ، فإن أول من استخدم مصطلح " الإسلام السياسي " هو الشيخ محمد رشيد رضا . لكنه استخدمه في التعبير عن الحكومات الإسلامية التي سماها " الإسلام السياسي " ويعني الذين يسوسون الأمة في إطار الأمة الإسلامية . لكن مصطلح الإسلام السياسي يُستخدم الآن ، ومنذ العقود الثلاثة الماضية وصعود المد الإسلامي والظاهرة الإسلامية ، بمعنى : الحركات الإسلامية التي تشتغل بالسياسة ، وفي هذا المصطلح " الإسلام السياسي " شبهة اختزال الإسلام في السياسة ؛ لأنه ليس هناك إسلام بدون سياسة ) .
وقال الأستاذ علي صدر الدين البيانوني المراقب العام للاخوان في سوريا :
( بالنسبة لمصطلح " الإسلام السياسي " ، إنه مصطلح ناشئ أصلاً عن الجهل بالإسلام، الذي جاء بالعقيدة والشريعة، خلافاً للمسيحية التي جاءت بالعقيدة فقط، ونادت بإعطاء ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.
إنك حين تجرّد الإسلام من بعده التشريعي، لا يبقى إسلاماً، وإنما يتحوّل إلى شيء آخر. إن الإسلام دينٌ شاملٌ لكل جوانب الحياة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. فليس هناك إسلام سياسيّ، وإسلام اقتصادي، وإسلام اجتماعي.. بل هو إسلامٌ واحد، شاملٌ لكلّ جوانب الحياة، ولذلك نرفض مقولة " الإسلام السياسي " ) . ( موقع الجماعة على شبكة الأنترنت ) .(9/2)
وفي حوار أجرته صحيفة الراية القطرية في 24 مايو 2002م مع الدكتور ساجد العبدلي، الأمين المساعد للشؤون الإعلامية في الحركة السلفية الكويتية ؛ قال عن هذا المصطلح : ( هذا المصطلح يحمل تشويها كبيرا للمقاصد الشرعية من العمل السياسي، وقد يعطي إيحاء بأن هناك إسلام سياسي وآخر دعوي وآخر خيري وهكذا، بينما الإسلام واحد ، وهو دين شامل لا يتجزأ لكل مناحي الحياة، ولم يكن المسلمون يفصلون بين العمل السياسي والدعوة في يوم من الأيام ، بل كانت جميعها كلا متكاملا. هذا المصطلح " الإسلام السياسي " نتج في جملة ما نتج عنه عن الميول التجريدية التي تركز على فهم الإسلام كدين عبادة وتكاليف عبادية أكثر من كونه نظاما سياسيا وتنظيميا للدولة واجتماعيا، أي أن النظرة صارت تشدد على الدين والمعتقد أكثر من النظام والنهج والكيانية الإسلامية المنشودة ) .
ويقول الدكتور جعفر شيخ إدريس في مقال مهم له عن هذا المصطلح :
( عبارة "الإسلام السياسي" كأختها "الأصولية" صناعة غربية استوردها مستهلكو قبائح الفكر الغربي إلى بلادنا وفرحوا بها، وجعلوها حيلة يحتالون بها على إنكارهم للدين والصد عنه. فما المقصود بالإسلام السياسي عند الغربيين؟ كان المقصود به أولاً الجماعات الإسلامية التي انتشرت في العالم العربي وفي باكستان والهند وأندونيسيا وماليزيا وغيرها تدعو إلى أن تكون دولهم إسلامية تحكم بما أنزل الله تعالى.
- ما الذي يأخذه خصوم الإسلام السياسي عليه؟
أما الغربيون فاعتبروه أولاً ظاهرة غريبة بعد سني الحكم الاستعماري الذي ظنوا أنه وطَّد الحكم العلماني على المنهاج الغربي، ووضع أسساً متينة للتبعية وضمان المحافظة على المصالح الغربية. فشق عليهم أن تنبت في بلاد المسلمين نابتة تعارض هذه العلمانية التي يرونها تعم العالم بأسره. كيف تنشأ جماعات تسير عكس هذا التيار العالمي، وتدعو إلى الرجوع إلى حكم ديني إسلامي؟(9/3)
وثانياً: لأن الرأي السائد بينهم ـ لا أقول الذي يعتقده كل واحد منهم ـ هو أن الدين ينبغي أن يكون شأناً فردياً بين العبد وربه، لا مدخل له في الحياة العامة ولا سيما السياسية منها التي يرون أن تكون متروكة لما يراه الناس، وأن تكون مبنية على المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم.
وثالثاً: لأن الرأي الشائع بينهم أن النصوص الدينية محدودة بزمانها ومكانها الذي ظهرت فيه، وأنها لذلك ينبغي أن لا تفهم على ظاهرها، بل يجب أن تؤوَّل تأويلاً يجعلها متناسبة مع ثقافة العصر.
ورابعاً: لأن منهم من ظن أن الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله ـ تعالى ـ ظاهرة جديدة لم تكن في الإسلام من قبل؛ فلذلك ناسب أن توصف بالإسلام السياسي تمييزاً له عن الإسلام الديني.
وخامساً: لأنهم رأوا فيها صورة من صور استغلال الدين للمآرب السياسية.
لهذه الأسباب وأمثالها كانوا وما يزالون شديدي العداوة الفكرية والعملية للجماعات التي تتسم بما أسموه بالإسلام السياسي، يحرشون الحكومات عليها، ويدعونها لكبتها حتى لو كان ذلك على حساب الديمقراطية التي كانت سائدة آنذاك في العالم الإسلامي، التي استفادت منها تلك الجماعات. ويكتبون الكتب والمقالات، ويسخرون سائر وسائل الإعلام لحربها. ينصرهم في هذه الحرب أذنابهم المنافقون في بلاد المسلمين الذين يقتاتون على فضلات فكرهم ودعاياتهم. وقد امتدت حربهم في أيامنا هذه للدول التي تؤمن بمبدأ تطبيق الشريعة.(9/4)
ولما كان الغربيون يرون أن ما هم عليه من دين أو فكر أو ثقافة أو حتى عادات في المأكل والملبس والجد واللعب، بل وما كان لهم من تاريخ وما مارسوه من تجارب، وسائر ما ألفوا من جوانب الحياة، هو الأمر الطبيعي، وأن ما خالفه هو الشذود الذي يحتاج إلى تفسير؛ فقد اجتهد بعضهم في أن يجد تفسيراً لهذه (الظاهرة). فكان مما سلُّوا به أنفسهم أنها نتيجة لظروف طارئة هي الحكم القهري والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري الذي ابتليت به البلاد التي ظهرت فيها هذه الحركات ولا سيما العالم العربي، وأن علاجها لذلك هو الضغط على تلك الحكومات لتكون أكثر انفتاحاً وديمقراطية، ومساعدتهم على شيء من النمو الاقتصادي يحسن من أوضاع الشباب المتذمرين؛ فإذا ما حدثت هذه الإصلاحات، وزالت الأوضاع القديمة زالت بزوالها نتائجها التي من أهمها ظاهرة الإسلام السياسي.
ونقول إن ما ذكروه من أسباب ربما كان فعلاً من عوامل تشجيع ما يسمونه بظاهرة الإسلام السياسي، لكن مما لا شك فيه أنه ليس منشأها. فكل من له أدنى معرفة بدين المسلمين وتاريخهم يعلم أن قضية الالتزام بما أنزل الله في شؤون السياسة والحكم هي أمر عريق فيه: في نصوص كتابه، وسنة نبيه، وأقوال علمائه. وأن تصديق ذلك في واقعه التاريخي الذي لم يعرف شيئاً اسمه الحكم العلماني، وأن هذا الحكم إنما فرض عليه من خارجه يوم استولت جيوش الغرب على بلاده. وحتى هذه العلمانية الدخيلة لم تبلغ مبلغ علمانيتهم في مدى بُعدها عن الدين، حتى إن الكثيرين منهم لينفون أن تكون حكومة من حكومات العالم الإسلامي علمانية، ويرون أنه من الخطأ لذلك أن توضع الإسلامية (بمعنى النشاط السياسي للحركات الإسلامية) في مقابل العلمانية .(9/5)
وإذن فالقول بأنها مجرد استغلال للدين لتحقيق أهداف سياسية ليس بصحيح أيضاً: أولاً: لأن من أعظم من دعا إلى الحكم بما أنزل الله وبيَّن أنه جزءٌ لا يتجزأ عن دين الإسلام علماء أعلام لم تكن لهم أطماع سياسية، ولا كانت لهم في يوم من الأيام علاقة بالأحزاب الإسلامية السياسية؛ علماء من أمثال: الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز بن باز.
هل استغل بعض الأفراد وبعض الجماعات الدينَ لتحقيق أهداف دنيوية سياسية أو غير سياسية؟ نعم! وقد ظل كثير منهم يفعل ذلك على مر التاريخ، ومع كل رسالات السماء. ولا أعرف كتاباً تطرَّق لهذه المشكلة وبيَّن أسبابها وأنواع مرتكبيها ونتائجها وحذر منها مثل كتاب الله تعالى. فعلى الذين يتحدثون عن هذه المشكلة أن يعلموا أنهم لم يأتوا بجديد. إن هؤلاء يدعوننا لأن نترك ديننا؛ لأن بعض الناس استغله لأسباب سياسية. ولو تابعنا منطقهم هذا لتركنا بناء المساجد؛ لأن بعض المنافقين استغل بناءها لأسباب سياسية، فاتخذها: {ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } [التوبة: 107].
وكانوا مع ذلك يحلفون بأنهم ما أرادوا إلا الحسنى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى} [التوبة: 107].(9/6)
ولو أتبعناه لتركنا الإنفاق في سبيل الله؛ لأن بعض الناس يتخذ ما ينفق مغرماً (أي غرامة) ويتربص بنا الدوائر، ولقررنا أن لا يكون لنا علماء؛ لأن بعض علماء السوء يستغل علمه لأغراض دنيوية: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 98 - 100].
وكما أن بعض الناس يستغل الدين لتحقيق أهداف سياسية فيكون انحرافه بسبب سوء قصده، فإن آخرين ينحرفون بسبب سوء فهمهم وقلة علمهم، فيحاولون تحقيق بعض الأهداف السياسية بوسائل وطرق مخالفة لدين الله وتحريفاً له وفتنة للناس عنه؛ فهل نترك العمل السياسي على أساس ديني؛ لأن بعض الناس يسيء فهم الدين؟(9/7)
يقول بعض الغربيين: (لكن المشكلة أن كل إنسان يمكن أن يدَّعي أن فهمه هو الفهم الصحيح للتوراة أو الإنجيل أو القرآن، بل يزعم بعضهم أنه [يعني القرآن] كالكتاب المقدس: العهد القديم والعهد الجديد ـ بإمكانك أن تجد فيه أياً ما تريد لتسوّغ به كل ما تريد تقريباً) ، نقول فرق بين أن يدّعي مدّع أن ما استدل به من قول يدل على ما يريد وأن يكون دالاً فعلاً على ما يريد. أما القرآن فنحن نعلم أنه ـ وهو كتاب الله ـ لا يمكن أن يدل على الشيء ونقيضه {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
يقول بعضهم: «إذا سلَّمنا بهذا فتبقى مشكلة هي أن النص بحسب معناه الذي تدل عليه ألفاظه ويدل عليه سياقه لا يتناسب مع ثقافة العصر؛ فلا بد إذن من تأويله لجعله مناسباً معها. لكن أليست هذه دعوة إلى خداع النفس؟ أنت تقرأ نصاً تقول: إنه كلام الله، وتفهمه على وجهه الصحيح، ثم تقول: إن هذا الذي فهمته لا يتناسب مع ما أريد، لذلك يجب أن أغيِّره لكي أجعله مناسباً مع ما أهوى، ثم تقول: إن هذا الذي هويت هو ما عناه الله ـ تعالى ـ بكلامه. هل يقول هذا إنسان مؤمن؟ بل هل يقول هذا إنسان أمين يحترم نفسه؟ إنك إما أن تعتقد أن ما يقوله الله هو الحق كما قاله، وإما أن تعتقد أنه ليس بالحق أو ليس بالعدل، فتقول: إنه لا يمكن أن يكون كلام الله، فتكفر بالكتاب الذي كنت تظن أنه كلام الله. أما أن تجمع بين الفهم الصحيح والتحريف فلا. وهذا الأمر المنكر خُلُقاً وديناً هو الذي حذرنا الله ـ تعالى ـ من الاطمئنان إلى ممارسيه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].(9/8)
تأمل قوله ـ تعالى ـ: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي إنهم فهموا ما قال الله ـ تعالى ـ وتصوروه على وجهه الصحيح، ثم عمدوا إلى تحريفه وهم يعلمون أنهم محرفون له.
ثم نقول: إن الدين الحق إنما جاء لنفع الناس في دنياهم وآخرتهم، فلا يمكن أن يكون فيه ما يمنع من الأخذ بشيء هو من ضرورات العصر، أما أهواء العصر وما يشيع فيه من قيم وأفكار وعادات وتقاليد فإن الدين لم يأت لموافقتها، بل جاء لإقرار ما فيها من حق وإنكار ما فيها من باطل؛ فالمعيار هو كلام الله لا أهواء البشر.
ثم إن كثيراً مما يسمى بثقافة العصر مما يخالف الدين الحق ليس هو في حقيقته بالأمر الجديد الذي يقال إنه مما امتاز به عصرنا، وإنما هو الثقافة التي اتسمت بها الجاهلية على مر العصور. خذ مثلاً استبشاعهم للحدود ـ ولا سيما حد الزنا ـ ودعوتهم إلى تغييره. هذا الحد موجود في التوراة، لكن اليهود غيروه حتى قبل مجيء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان الذي دعاهم إلى ذلك هو فُشُوُّ الزنا بينهم ولا سيما في أشرافهم. وهذا هو عين السبب الذي يدعو الغربيين وأمثالهم إلى استبشاع هذا الحد. إن الناس إذا فشت فيهم الفاحشة واعتادوها مات فيهم الشعور بأنها فاحشة، ودعك أن تكون جريمة تستحق هذه العقاب الأليم! ) . ( مجلة البيان ، العدد 202 ) .
تنبيه : مما يؤخذ على كثير من الإسلاميين الذين اهتموا بالجانب السياسي في الإسلام - رغم جهودهم المشكورة - أنهم في المقابل هونوا أو قل اهتمامهم بالجانب العقدي والتربوي فيه ؛ فغلبت السياسة عليهم حتى أنستهم مهمة الدعاة الأولى ؛ وهي الدعوة إلى دين الله كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؛ دون تحريف أو زيادة . وإنكار ما يخالفه من الشركيات والبدع .(9/9)
بل - للأسف - وصل الحال ببعض المنخرطين في الهم السياسي من أبناء الإسلام أن رق دينهم ، وكثرت تنازلاتهم ومداهناتهم للآخرين ؛ حتى كادوا يستوون في أمرهم مع العلمانيين وغيرهم من المخالفين .
فلابد لعقلاء الأمة وذوي الرأي فيها أن يتنبهوا لهذا الأمر الخطير . ويعطوا كل مقام حقه ؛ دون إفراط أو تفريط . والله الموفق .
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح
ثقافة التلبيس (7) : الإسلام دين العدل لا المساواة(9/10)
ثقافة التلبيس ( 9 ) : قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
تتردد كثيرًا في كتابات المعارضين والمخالفين لشريعة الإسلام عندما يُلزمون بأحكامها عبارات خطيرة ؛ مثل : " الحق المطلق لا يملكه أحد " أو " لا أحد يدعي امتلاك الحقيقة " أو " الحق نسبي " ... وغيرها من العبارات المشابهة التي اتخذها هؤلاء حلا سريعًا يلجأون إليه عندما يريدون التملص والتخلص من التزام الحق الذي جاءت به الشريعة ؛ حيث تكون الأمور فوضى لا ضابط لها ، ولاحقيقة ثابتة يعرفها الناس ويتحاكمون إليها ! بل أنت تعتقد أن هذا الأمر " حقيقة " وغيرك يعتقد خلافه " حقيقة " ، وكلاكما على صواب ، ولايُنكر أحد على أحد..! فتُمرر جميع أنواع " الكفر " أو " الشبهات " أو " الشهوات " على احتمال أن تكون هي " الحقيقة المنشودة " !!
وقد أحببتُ في هذه الحلقة أن أكشف وجوه التلبيس في هذه العبارات ، وبيان خطورتها على قائلها ، مقدمًا بذكر نماذج لمن يقول بها ، ثم تعريف بأول من قال بها ، مع بيان كيفية الرد عليها ؛ والله الموفق :
نماذج من أقوال المرددين لهذه العبارات الخطيرة !
- ( لا أحد يملك الحقيقة الملكية المطلقة ) . (الممنوع والممتنع، علي حرب، ص180) (وانظر أيضاً: كتابه: نقد الحقيقة، ص 2).
- ( يجب أن يكون واضحاً في غاية الوضوح: أن المطلق مطلق، ولكن الفهم البشري والتفسير البشري لأي جانب من جوانب المطلق هو فهم نسبي" ) .(تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها، د. محمد جابر الأنصاري، ص83).
- ( ينبني الدين على حقيقة مطلقة كلية هي الوحي ولما كانت الفلسفة تضع في اعتبارها تعددية المواقف والآراء، ونسبية الحقيقة –أي كونها موزعة من حيث الاحتمال المفتوح بين الناس جميعاً- فإن التصادم بينهما قائم لا محالة ) . (آفاق فلسفية عربية معاصرة، طيب تيزيني، ص 167)(10/1)
- ( ما بعد الحداثة هو عالم صيرورة كاملة، كل الأمور فيه متغيرة، ولذا لا يمكن أن يوجد فيه هدف أو غاية ، وقد حلت ما بعد الحداثة مشكلة غياب الهدف والغاية والمعنى بقبول التبعثر باعتباره أمراً نهائياً طبيعياً، وتعبيراً عن التعددية والنسبية والانفتاح، وقبلت التغير الكامل والدائم). (السابق، ص 322).
- ( النسبية: هي الرأي الذي يقول بأن الحقيقة نسبية وتختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر) . (السابق، ص 329).
- ( ارتكزت التعددية بمعناها المعرفي على الفكرة القائلة بأن لا أحد يملك الحقيقة كلها، وبالتالي ليس من حق أحد مصادرة آراء وأفكار الآخرين ) . (إشكالية مفهوم المجتمع المدني، د. كريم أبو حلاوة، ص 42).
- ( لن تكون متقدماً أو صاحب أمل في التقدم؛ إذا قبلت الرأي على أنه حقيقة، والحقيقة على أنها مطلقة وليست نسبية ) . (من هنا يبدأ التغيير، تركي الحمد، ص 347).
- ( إن المنطلق الأول للبحث عن الحقيقة هو القناعة بنسبيتها ) . (البحث عن الحقيقة، عبدالله بن حمد المعجل، ص 13).
- جون ستيوارت مل ( يرى أن التسامح يمتنع معه الاعتقاد في حقيقة مطلقة). (ملاك الحقيقة المطلقة، مراد وهبة، ص 193).
- ( العلمانية من حيث هي التفكير في النسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق). (السابق، ص 228).
- ( كل مجتمع لا يعترف بالتعددية العقائدية والسياسية هو مجتمع تنقصه الأنسنة إلى حد كبير . لماذا ؟ لأن الاختلاف والتنوع في الرأي والفكر شرط من شروط تحرر الذهن من التحجر والانغلاق ) .( هاشم صالح ، معارك من أجل الأنسنة ، محمد أركون ، ص 16 ) .
- (إن اعتماد الشك في التفكير الفلسفي ، والأخذ بنسبية الحقيقة : هو التسامح بعينه ) ( محمد عابدالجابري ، قضايا الفكر المعاصر ، ص20 ) .(10/2)
- ( إن فكرة الحقيقة المطلقة تؤسس لدى حاملها شرعية امتشاق السلاح دفاعًا عنها ، ليس هذا السلاح قطعا هو الفكر ؛ فمالك الحقيقة لا يجادل ) . ( عبد الإله بلقزيز ، نهاية الداعية ، ص 70 ) .
- ويقول شاكر النابلسي معددًا مواصفات المجتمع المدني الذي يطمح إليه ! : ( إن القيم في المجتمع المدني نسبية ، وهذه النسبية تجعل القيم متغيرة غير ثابتة . لا احتكار للحقيقة في المجتمع المدني ، وعدم الاحتكار يقود المجتمع المدني إلى التسامح لا إلى التعصب ، وإلى الانفتاح لا إلى الانغلاق ) . ( صعود المجتمع العسكري ، ص 205-206) .
- وانظر : "الفكر الإسلامي والتطور" لفتحي عثمان ؛ (ص 15-16) . ومقال : ( ملاك الحقيقة وتصنيف الناس ) لمحمد بن عبداللطيف آل الشيخ ، جريدة الجزيرة ، 26/8/1425 . وانظر - أيضًا - : " التطور والنسبية في الأخلاق " للدكتور حسام الألوسي . ( وهو متطرف في الأخذ بهذا المبدأ الخطير ! ) .
أول من قال بـ( نسبية الحقيقة ) :
أول من قال بها هم السوفسطائيون - وعلى رأسهم كبيرهم الفيلسوف بروتاغوراس - الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد ؛ حيث كانت اليونان تموج بمجموعة من الأفكار والمذاهب المتباينة المتنوعة ؛ فلجؤا لهذا القول في تأييد الآراء المتناقضة ؛ إما شكًا في الجميع ، أو للتخلص من جهد طلب الحقيقة .
يقول الدكتور علي سامي النشار: ( نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة "إن الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكاك بعد، فطبقوها على الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء –كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر) . ( مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 191 ) .(10/3)
ويقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين: (وكانت هذه الجماعة تنكر وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية). (السلم في علم المنطق للأخضري، ص7 ) .
- ( لقد عبر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه "عن الحقيقة" الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله "إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعاً" وفي هذه العبارة القصيرة تكمن الثورة الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر. إنها تعني بالنسبة لنظرية المعرفة أن الإنسان الفرد هو مقياس أو معيار الوجود، فإن قال عن شيء إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً، فالمعرفة هنا نسبية، أي تختلف من شخص إلى آخر بحسب ما يقع في خبرة الإنسان الفرد الحسية، فما أراه بحواسي فقط يكون هو الموجود بالنسبة لي، وما تراه أنت بحواسك يكون هو الموجود بالنسبة لك، وهكذا ). (مدخل لقراءة الفكر الفلسفي عند اليونان، للدكتور مصطفى النشار، ص70 -71).
فتعاليمهم - كما يقول مؤلفا " قصة الفلسفة اليونانية - ( تعاليم هدامة لكل نظام اجتماعي ؛ للدين ، للأخلاق ، لكل نظم الدولة ) . ( ص 69) .(10/4)
وللزيادة عن السوفسطائيين ؛ انظر : " تاريخ الفلسفة اليونانية " ليوسف كرم ، و " الفلسفة اليونانية : تاريخها ومشكلاتها " لأميرة مطر ( ص 115 ومابعدها ) ، و " تاريخ الفلسفة اليونانية " لماجد فخري ، و " التعريفات " للجرجاني ، و " قصة الإيمان " لنديم الجسر ( ص 36-37) ، و " فلسفة الأخلاق " للدكتور توفيق الطويل ( ص 47-49 ) ، و " مختصر تاريخ الفلسفة " للمختار بنعبد لاوي ( ص 13-14) ، و " الموسوعة الفلسفية " للدكتور عبدالمنعم الحفني ( 482 ومابعدها ) ، و " المعجم الفلسفي " للدكتور مراد وهبة ( ص 444 وما بعدها ) ، و" ربيع الفكر اليوناني " لبدوي ( 165-180) ، و" قصة الفلسفة اليونانية " ( ص 62-72) ، و مقال " السوفسطائيون " لزكي نجيب محمود ، مجلة الرسالة ، صفر ، 1353.
وفي العصر الحديث :
تلقف أصحاب المذهب " البراجماتي " هذه الفلسفة ؛ لأنها تناسب مذهبهم النفعي المصلحي المتلون :
- ( ليس من شك لدى أحد الآن أن بروتاجوراس هو الجد الأول للبراجماتيين المعاصرين؛ سواء على المستوى الفلسفي، أو على المستوى الحياتي؛ إذ لا يمكن فهم أقوال هؤلاء البراجماتيين معزولة عن آراء جدهم الأكبر ، فحينما يقول وليم جميس: "إن الحقيقي ليس سوى النافع الموافق المطلوب في سبيل تفكيرنا تماماً، كما أن الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب في سبيل مسلكنا" و"أن المطلق ليس صحيحاً على أي نحو" . فهل يمكن أن نشك لحظة في أنه وأقرانه يمثلون بروتاغوراس العصر الحالي؟! لقد كان شيللر –وهو أحد كبار الفلاسفة البراجماتيين- على حق حينما كتب كتاب " why protagoras not plato معلناً أن بروتاغوراس هو جدهم الأول ) . (فلاسفة أيقظوا العالم، د. مصطفى النشار، ص 77).(10/5)
- (إن المذهب البراجماتي حين يقرر أن مقياس صحة الأفكار يتوقف على نتائجها، فهو بذلك يجعل الحقيقة نسبية غير ثابتة، أي تتغير وفقاً للظروف وأحوال الأفراد والمجتمعات ) . (تطور الفكر الغربي، لمجموعة من الباحثين، ص 424).
- البراجماتية (تعيد إلى ذاكرة التاريخ نسبية السوفسطائية التي تزعم أن الفرد مقياس كل شيء). (أعلام الفلسفة الحديثة، د. رفقي زاهر، ص 171).
- ( الفلسفة البراجماتية تتلخص اليوم في أفكار موجزة ؛ من أشهرها : .. الحقائق نسبية ، ولايمكن الوصول إلى حقيقة مطلقة ) . ( مقال : الطريق إلى العقلية الأمريكية ، محمد فالح الجهني ، مجلة المعرفة ، شوال 1425). ( وانظر : قصة الفلسفة اليونانية ، ص 71).
أقوال علماء الإسلام في السوفسطائية :
لقد عرف علماء الإسلام خطورة هذه الفكرة السفسطائية التي تخلط الحق بالباطل ، وتُشكك المسلمين في دينهم ، وتساوي بينه وبين الديانات المحرفة والباطلة بدعوى التماس الحقيقة ! ، لاسيما وهناك من المنحرفين من يُغذي هذه الفكرة وينشرها ؛ وعلى رأسهم غلاة المتصوفة أهل وحدة الوجود ، ممن يقول قائلهم ؛ وهو ابن عربي : ( فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير ، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه ، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها ؛ فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد) . ( ابن عربي ، سميح الزين ، ص 101).
لقد قسم علماء الإسلام السوفسطائيين - كما يقول الشيخ أحمد شاهين - ثلاثة أقسام : ( العِندية ، والعنادية ، واللاأدرية : فالعندية ترى أن حقائق الأشياء تابعة لعقائد المؤمنين بها ؛ لأنهم أقيسة الحقائق . والعنادية تجزم بأن لاحقائق في الكون ؛ لا في ذاتها ولابالقياس إلى المؤمنين بها . وأما اللاأدرية فهي التي تتوقف عن الحكم في كل شيئ ؛ فهي لا تجزم بوجود ولا بعدم ) . ( " السوفسطائيون في نظر العرب " مقال في مجلة الأزهر ، م 21 ، ص 760-763) .(10/6)
ويقول الشيخ عبدالقادر بدران في حاشيته على " روضة الناظر " ( ص 246-247) : ( وهم فرقٌ ثلاث : إحداهن اللاأدرية ؛ سموا بذلك لأنهم يقولون لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه بل نحن متوقفون في ذلك. الثانية : تسمي العنادية نسبة إلى العناد؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً وعمدتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض والقدح في كل مذهب بالاشكالات المتجهة عليه من غير أهله. الثالثة : تسمى العندية نسبة إلى لفظ "عند" ؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس ، فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده ) . ( وانظر : شرح المواقف للجرجاني ؛ ص 42-43) .
1 - وقد رد عليهم جميعًا ابن حزم في كتابه " الفِصل في الملل والأهواء والنِحل " ( 1/44-45) ؛ ويهمنا رده على فرقة " العِندية " التي يُقلدها دعاة النسبية . قال رحمه الله : ( ويقال – وبالله التوفيق- لمن قال هي حق عند من هي عنده حق، وهي باطل عند من هي عنده باطل : إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل ، وإنما يكون الشيء حقاً بكونه موجوداً ثابتاً، سواء اعتُقد أنه حق أو اعتُقِد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدوماً موجوداً في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال.
وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق، فمن جملة تلك الأشياء التي تُعتَقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق بطلانُ قولِ من قال إن الحقائق باطلة ، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق. وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء، فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق !! مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل ألبتة، إذ حسُّه يشهد بخلافها. وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المُتَنَطِّعين على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق ) .(10/7)
2- ورد عليهم - أيضًا - ابن الجوزي في " تلبيس إبليس " ( ص 41 ) ؛ قائلا : ( قال النوبختي : قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مراً، ويجده غيره حلواً. قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه، محدث عند من اعتقد حدوثه، واللون جسم عند من اعتقده جسماً، وعرض عند من اعتقده عرضاً. وهؤلاء من جنس السوفسطائية ؛ فيقال لهم : أقولكم صحيح؟ فسيقولون : هو صحيح عندنا، باطل عند خصمنا. قلنا : دعواكم صحة قولكم مردودة ، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم ! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه ) .
3- وقال ابن قدامة رادًا على من نُقل عنه مثل هذا القول من علماء المسلمين : ( وقول العنبري: كل مجتهد مصيب . إن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده، فمحال؛ إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقاً، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها. فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية؛ فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات). (روضة الناظر 20/419-420).
وقال - أيضًا - : ( قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه ) . (روضة الناظر، 2/425) ، ( وانظر : المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، ص314).(10/8)
4- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( حكي عن بعض السفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل ) . (الفتاوى 19/ 135) .
وقال عنه - أيضًا - : ( هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه ... وأما كون آخره زندقة فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب وإن شاء أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفر وزندقة ) .(الفتاوى 19/144 -145).
بعض أقوال المعاصرين في مقولات أهل السفسطة :
1- يقول الأستاذ بسطامي سعيد : ( هل حقائق الدين نسبية؟ .. إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها، قالت العصرانية ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق و"إن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري".
والكاتب الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلاً أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة وإن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها.
وقضية النسبية Relativism في الحق truith أو في الأخلاق ethich قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة ، وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يوماً ما أن تحل لغزاً ؟!(10/9)
وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية ؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً شاملاً، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض.
وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يُسأل ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به ، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم ؟!
الأهم من ذلك أن يُسأل : هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة "ذوق"، لا تقوم على منهج علمي محدد، أو معايير منضبطة ؟.
إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك.(10/10)
قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأً في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات والقول بأن حقائق الدين مسألة نسبية يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية ! فقول لا تسنده حجة ولا يمكن قبوله) . ( مفهوم تجديد الدين ، ص 214-215) .
2- ويقول الأستاذ غازي التوبة : ( نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أن تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى.
فمن المعروف أن الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص "الإنجيل المقدس" الذي كان ثابتاً والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعددة تناقض النص الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين ( المحرف ) والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكن الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم، وصار الربط منذئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة.
ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين: الغربية والإسلامية، كان أبرز صور التصادم بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص "القطعي الثبوت القطعي الدلالة" في الثقافة الإسلامية ) . ( مجلة المجتمع ، العدد 1337 .(10/11)
3- ويقول الدكتور أحمد عبدالرحمن : ( الفلسفة النسبية هي السند الفكري الأخير والمرجع النهائي، لكل التيارات المناوئة لمبدأ "الثبات الإسلامي" في العقيدة والشريعة والأخلاق والنظم، سواء كانت وضعية منطقية، أو ماركسية، أو وجودية أو براجماتية.
فالنسبية فلسفة تزعم أن الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، والمبادئ التشريعية، والنظم الاجتماعية والسياسية، كلها تتبدل وتتغير بتغير الزمان والمكان ، فما كان حقاً بالأمس لابد أن ينقلب باطلاً اليوم أو غداً، وما كان عدلاً لدى اليونان قبل قرون من الزمان يستحيل أن يظل كذلك إلى اليوم، لا فرق في ذلك بين قانون وضعي وشريعة دينية ، وبهذا التصور الشامل للفلسفة النسبية يقرر أنصار التجديد أن الشعر المقفى، واللغة الفصحى، والعمارة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية إلخ إلخ، كانت صالحة لعصر النبوة والراشدين، ولكنها لا يمكن أن تصلح لنا اليوم، ولا مفر أمامنا من أحد أمرين: إما نقل نظائرها الأوروبية العصرية، وإما التخلف عن العصر والفناء تبعاً لذلك!
وأحسب أن فلسفة بهذا الوصف وهذا الامتداد والتشعب في حياتنا الدينية والفكرية والتشريعية والثقافية لجديرة بأن ندرسها، ونتفهمها، ونقومها: وهذا هو ما أرجو أن أنجزه في هذه الكلمة بأقصى ما يسعني من الإيجاز.
لقد ولدت النسبية في حجر السوفسطائيين، الذين صاغوها في العبارة المشهورة "الإنسان معيار كل شيء" بمعنى أنه هو الذي يحدد الحقائق العلمية، والقيم الخلقية ، وبوسعه أن يعدلها، أو يلغيها، أو يستبدل بها غيرها، وقد تصدى لهم سقراط، مدافعاً عن موضوعية الحقيقة والقيمة واستقلالهما عن إرادة الإنسان وشهواته.
وماتت النسبية دهراً طويلاً، ثم بعثت من جديد وشاعت في الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث...). ( أساطير المعاصرين ، ص 169 – 170 )
كيف ترد على من يردد هذه السفسطة ؟!(10/12)
من يردد هذه الفكرة إما أن يكون مسلمًا أو غير مسلم . وغير المسلم إما أن يكون ملحدًا أو غير ملحد . فالملحد تُقام عليه الأدلة البينة الدالة على وجود الله ؛ ثم إذا آمن بذلك أقيمت عليه وعلى غير الملحد من الكفار الأدلة الدالة على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ( وتراجع في ذلك الكتب المختصة بهذا ) فإذا آمن به لزمه أن يؤمن بكل ما جاء به من عند الله ؛ ومن ذلك أن الإسلام هو خاتم الأديان ، وهو الحق الذي لايقبل الله غيره . ثم يُلحق بالمسلم - كما سيأتي - .
وأما إن كان من يُردد هذه الفكرة أحد من يُظهر الإسلام ؛ فإنه يُقال له : هل تعني بهذه العبارات أن الحق قد يكون في الإسلام وقد يكون في غيره من الديانات المحرفة أو الباطلة ؟! فإن قال : نعم ! قيل له : هذه ردة صريحة وكفر بدين الله ؛ القائل ( ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ، والمخبر بأن الإسلام هو " الحق " في عدة آيات ؛ منها قوله ( إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا ) ، وقوله ( وكذب به قومك وهو الحق ) ، وقوله ( قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولايُحرمون ما حرم الله ورسوله ولايدينون دين الحق ) ، وقوله ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ) ، وقوله ( قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ) ، وقوله ( والذي أنزل إليك من ربك الحق ) ، وقوله ( وقل الحق من ربكم ) ، وقوله ( والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق ) .(10/13)
فإن قال : معاذ الله أن أقول بهذا ؟! ولكني أعني : أن لا أحد يدعي امتلاك الحق من " المسلمين " . فيقال له : ولكن هذا يناقض الفكرة التي ترددها ! لأنك حصرت الحقيقة في أهل الإسلام ! فهذا يدل على بطلان ما تُردد . ولكن تنزلا معك يقال : هل تعني بذلك أن الحق قد يكون عند أهل السنة وقد يكون عند غيرهم من أهل البدع ؛ كالصوفية والرافضة والمعتزلة ..الخ . فإن قال : نعم . قيل له : سبق أنك أقررت بأن الحق هو الإسلام ؛ فلننظر أي هؤلاء يسير على الإسلام الذي أرسل لأجله محمد صلى الله عليه وسلم دون تحريف ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أهل الإسلام يفترقون إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة . فلما سئل : من هي ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي " ، وقال : " من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد " . وماكان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه معروف معلوم ؛ قد جاءت به نصوص الكتاب والسنة وآثار الصحابة ، وما حدثت هذه الفرق إلا بعدهم باتفاق الجميع .
فإن قال : بل أنا أعني أن الحق داخل إطار أهل السنة ؛ ولكنه يختلف باختلاف أهل العلم والأشخاص . فيقال : يكفينا هذا منك ! فلماذا لا تعلنه عندما تردد تلك العبارات الموهمة ؟!
ثم الواحد من أهل السنة إن كان عاميًا سأل العلماء الثقات . وإن كان عالمًا أو طالب علم مميز بين الأدلة رجح ما يدل عليه الكتاب والسنة . مع ملاحظة الفرق بين المسائل " الاجتهادية " التي لم يتبين فيها الدليل فلا حرج من الاختلاف فيها مع نية طلب الحق لا التشهي ، وبين المسائل " الخلافية " التي تبين فيها الدليل ووضح " الحق " فلا عبرة بالمخالف ؛ مع حفظ مكانته إن كان من أهل الفضل . ( ويُراجع في هذا الكتب والرسائل المصنفة في الاختلاف ؛ كرسالة " الاختلاف وما إليه " للشيخ بازمول ) .
أسأل الله الهداية والتوفيق للمسلمين ، وأن يُجنبنا الحيرة والشك وحال أهل الريب .(10/14)
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح
ثقافة التلبيس (7) : الإسلام دين العدل لا المساواة
ثقافة التلبيس ( 8 ) : ( مصطلح : الإسلام السياسي )(10/15)
ثقافة التلبيس ( 10 ) : مصطلح : " الآخر " ..!
( مع الحملة العسكرية المتصاعدة التي ابتدأتها راعية الصليب في العصر الحاضر على بعض الدول الإسلامية، والتي يُنتظر –حسب ما يخطط له الصليبيون والصهيونيون- أن تعم دول العالم الإسلامي –عرباً وعجماً- بدأ يكثر الكلام وترتفع الأصوات في وسائل النشر المتعددة بالحديث عن "الآخر"، حتى أصبح هذا اللفظ بمثابة مصطلح يتداول بين الكتاب، وفي المناقشات والحوارات، وبدأت تغزو أسماعنا مقولات: "ما الموقف من الآخر" و"العلاقة بالآخر" و"ينبغي أن لا تنفي الآخر" و"ينبغي التسامح مع الآخر"، "التعاون مع الآخر" ولابد أن يكون هناك "موقف حضاري وتعددي من الآخر" ومطلوب "القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر" و"الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده، وأفكاره بعيداً عن ضغوط الإكراه وموجات النفي والإلغاء" و"إعادة الاعتبار إلى الآخر وجوداً ورأياً ومشاعر" و"اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيق الهوة مع الآخر".
تلك عينة من العينات التي باتت تتردد على ألسنة الكثير من االكتاب والكاتبات . والمقصود بالآخر في هذا الكلام "غير المسلم" أي الكافر، وهذا الكلام موجه للمسلمين، ومن يطالعه يخيل إليه من النظرة الأولى أن المسلمين جماعة من المتخلفين المتوحشين الذين يعيشون حياة بعيدة عن معاني الرقي والتمدن والحضارة !! وأنهم لا ينظرون إلا لأنفسهم إما جهلاً وانغلاقاً، وإما تجبراً وكبراً، ثم يدلي كلٌ من هؤلاء الكتاب والمتحدثين برأيه في تعليم المسلمين كيف يكونون متحضرين متقدمين في تعاملهم مع "الآخر" وفي النظرة إلى "الآخرة" وموقفهم من "أفكار الآخر" ! وسأحاول بعون الله أن ألقي الضوء على هذه القضية على النحو التالي:
من "الآخر" ؟!(11/1)
كثير من المواطن المطروحة للنقاش في هذا الموضوع تذكر كلمة "الآخر" دون بيان المراد منها، وفي بعضها يبين أن المراد هو "غير الإسلامي"، ولفظ "الآخر" لغةً لا يحمل قيمة دلالية تتعدى أو تتجاوز معنى لفظ "غير" دون أن يكون في ذلك دلالة على المخالفة أو الموافقة؛ فالآخر قد يكون منا، وقد يكون من غيرنا ؛ قال الله تعالى: { وآخرين منهم لما يلحقوا بهم } .قال ابن جرير: "عني بذلك كل لاحق لحق بالذين كانوا صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم في إسلامهم من أي الأجناس؛ لأن الله – عز وجل- عمَّ بقوله: ( وآخرين منهم) " ؛ فهنا وصف "الآخر" بأنه منهم، مما يعني أن "الآخر" قد يراد به المخالف، كما يراد به الموافق، وعلى ذلك فإن هذا اللفظ واسع المعنى يشتمل على أنواع متعددة من الموافقة والمخالفة على تعدد درجاتها، وحينئذ لا ينبغي أن يساق الحديث عن "الآخر" مساقاً واحداً؛ بحيث يعم الجميع بحكم واحد أو موقف واحد. وقد ظهرت مواقف كثيرة قدمت فيها أوراق وبحوث أغلبها ينطلق من الحديث عن "الآخر" بغير تفريق بين أنواعه، والسلوك الذي يوصف بأنه علمي يستوجب التفصيل حتى لا يكون هناك تجاوز في الأحكام والمواقف.
أنواع "الآخر" :
"الآخر" قد يكون كافراً، وقد يكون مسلماً، والكافر أنواع: فمنه الكافر الحربي، والكافر الذمي، والكافر المعاهد.
والمسلم أنواع: فمنه المسلم الذي هو من أهل السنة والجماعة، ومنه من هو من أهل البدعة والضلالة. والبدع منها الغليظة المكفِّرة ومنها دون ذلك؛ وإزاء هذا التباين الشديد؛ فإن سَوْق الكلام عن "الآخر" سوقاً واحداً فيه ظلم كبير، وتجاوز للصواب بيقين، وهو مُوقع في أحد الأطراف: إما الإفراط، وإما التفريط، وقديماً قالوا: كلا طرفي قصد الأمور ذميم ) . ( ا.هـ من مقال الأستاذ محمد شاكر الشريف بمجلة البيان ، العدد 206 بتصرف يسير ) .(11/2)
قلتُ : ولكل ممن ذكره الأستاذ وفقه الله أحكامه التي تخصه ؛ فالتعامل مع الكافر الحربي يختلف عن التعامل مع الكافر الذمي أو المعاهد ، والتعامل مع المسلم يختلف عن التعامل مع الكافر ، والتعامل مع السني يختلف عن التعامل مع المبتدع .. وهكذا ؛ فمن الخطأ والانحراف المساواة بينهم جميعًا في أحكام واحدة .
وقد بين العلماء رعاهم الله هذه الأحكام المتعلقة بكل صنف ممن سبق ؛ فألفوا في " أحكام أهل الذمة " ، وكتبوا في " أحكام أهل البدعة " .. الخ .
أنموذج لمن يحاول " مساواة " الكافر بالمسلم عند الحديث عن الآخر :
الأمثلة كثيرة في كتابات المعاصرين ممن يخوضون بجهل وهزيمة نفسية في هذا الموضوع ؛ حيث التلبيس المتعمد وتتبع الشبهات والمتشابهات لكي يساووا " شر البرية " من أصحاب الجحيم بأهل الإيمان والإسلام ! ويتعجب المسلم لهذا الجلد والحماس في سبيل الهدف السيئ السابق ؟ هل هو لأجل إرضاء اليهود والنصارى ، والظهور أمامهم بمظهر المتمدن المتحضر ؟! فالله يقول ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) فأربعوا على أنفسكم ياقوم ؛ فإننا لم نر من الكفار وأهل الصليب خاصة - رغم مداهناتكم وتزلفكم لهم - سوى المزيد من الاستكبار والتسلط على المسلمين ( فكريًا وعسكريًا ) . فلا للأعداء أرضيتم ، ولا لدينكم أبقيتم .(11/3)
والمثال الذي أورده هنا هو كتيب لأحد مثقفي أهل اليمن ( أحمد الدغشي ) ؛ عنوانه " صورة الآخر في فلسفة التربية الإسلامية " قامت " مجلة المعرفة " عندنا بطباعته وتوزيعه مجانًا ! ؛ لعله يساهم في تحسين صورة المسلمين أمام أعدائهم بعد أحداث 11سبتمبر ( زعموا ) ! فعالجوا " التطرف " بـ " تطرف آخر " وتمييع لأحكام الإسلام إرضاء لخصومه ؛ وهيهات أن يرضوا - كما أخبر تعالى - . ولو أنهم وُفقوا لما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ ولبادروا بتبيين أحكام الإسلام " العادلة " التي تأمر بالبر والقسط مع الكافر ( غير الحربي ) مع البراءة من كفره ، وتنهى وتُشدد في أمر التعدي عليه ؛ دون أن ترفعه فوق مكانه الذي أراده الله له بسبب كفره . فكان بإمكانهم الرجوع إلى فتاوى كبار العلماء لدينا المتعلقة بهذا الموضوع ؛ أو الرجوع إلى كتابات الدعاة وأهل التربية من أهل العقيدة الصحيحة ؛ بدلا من الاقتيات من موائد العصرانيين والمداهنين .
مجمل كتيب الأستاذ اليمني يقوم على عبارة شهيرة يرددها بعض المفكرين عند حديثهم عن أحكام الكفار ؛ وهي : ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) ! يزعمون من خلالها أن أحكام الكفار كأحكام المسلمين سواء بسواء !
وهذه العبارة باطلة لا أصل لها كما بين العلماء ؛ وعلى رأسهم العلامة المُحدّث الألباني رحمه الله الذي بين تهافتها في مواضع كثيرة من السلسلة الصحيحة والضعيفة ، وأنها مخالفة للنصوص الشرعية الصحيحة المفرقة بين المسلم والكافر في الأحكام وفي الحال والمآل ( انظر مثلا : الضعيفة 5 /195-197) .
وقد رد الدكتور عبدالعزيز آل عبداللطيف على كتيب الدغشي السابق بمقال نُشر في مجلة " المعرفة " ( عدد شوال 1425) ؛ سأعرضه لاحقًا - إن شاء الله - .
يقول الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - :(11/4)
(الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمّد وآله وصحبه.. وبعد: فقد كثر على ألسنة بعض الكتاب أنه لا تجوز تخطئة المخالف، وأنه يجب احترام الرأي الآخر، وأنه لا يجوز الجزم بأن الصواب مع أحد المختلفين دون الآخر. وهذا القول ليس على إطلاقه؛ لأنه يلزم عليه أن جميع المخالفين لأهل السنة والجماعة على صواب ولا تجوز تخطئتهم، وهذا تضليل؛ لأنه يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: هم مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" .
ويلزم على هذا القول أيضا أن المخالف للدليل في مسائل الاجتهاد لا يقال له مخطئ، ولا يردّ عليه، وهذا يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد" فدل على أن أحد المجتهدين المختلفين مخطئ، لكن له أجر على اجتهاده ولا يتابع عليه؛ لأن اجتهاده خالف الدليل، وإنما يصحّ اعتبار هذا القول، وهو عدم الجزم بتخطئة المخالف، في المسائل الاجتهادية التي لم يتبين فيها الدليل مع أحد المختلفين، وهو ما يعبر عنه بقولهم: "لا إنكار في مسائل الاجتهاد"، و"الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد".
وهذا من اختصاص أهل العلم وليس من حق المثقفين والمفكرين الذين ليس عندهم تخصص في معرفة مواضع الاجتهاد وقواعد الاستدلال أن يتكلموا ويكتبوا فيه.
ولو كان لا يخطأ أحد من أصحاب الأقوال والمذاهب لكانت كتب الردود والمعارضات التي ردّ بها العلماء على المخالفين كلها مرفوضة، ولما كان لقوله تعالى "فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ" فائدة ولا مدلول؛ لأنه لا تجوز تخطئة المخالف، وهذا لازم باطل؛ فالملزوم باطل.(11/5)
وما نقرؤه وما نسمعه من اتهام للعلماء الذين يردّون على المخالفين بأنهم يحتكرون الصواب لهم، ويخطئون مَن خالفهم، وأنهم يصادرون الآراء والأفكار.. إلى آخر ما يقال؛ فهو اتهام باطل؛ فإن العلماء المعتبرين لا يحتكرون الصواب في أقوالهم، وإنما يخطئون مَن خالف الدليل، وأراد قلب الحقائق؛ فيردّون على مَن هذه صفته عملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". وقد ردّ الله - سبحانه وتعالى - على أهل الضلال في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وشرع لنا الردّ عليهم؛ إحقاقاً للحق، وإزهاقاً للباطل. ولولا ذلك لشاع الضلال في الأرض، وخفي الحق، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، بل شرع الله لنا ما هو أعظم من ذلك، وهو جهاد أهل الباطل بالسيف والسنان، وبالحجة والبيان؛ قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} .
وإذا كان حصل من بعض المتعالمين سوء أدب مع المخالفين، وتجاوز للحدود المشروعة في الردّ فهذا لا ينسب إلى العلماء، ولا يتخذ حجّة في السكوت عن بيان الحق، والردّ على المخالف. هذا ما أحببت التنبيه عليه {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه) .صالح بن فوزان الفوزان - عضو هيئة كبار العلماء جريدة الجزيرة عدد 11672/الأحد 27 رجب 1425 .
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح
ثقافة التلبيس (7) : الإسلام دين العدل لا المساواة(11/6)
ثقافة التلبيس ( 8 ) : ( مصطلح : الإسلام السياسي )
ثقافة التلبيس ( 9 ) : قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )(11/7)
ثقافة التلبيس ( 11 ) : قولهم:لابد من فتح المجال لجميع المذاهب في السعودية!!
هذه شبهة بدأت تتردد في " السعودية " بعد ما يُسمى أحداث 11 سبتمبر ، والفتنة التي حدثت جراءها . يقوم بترديدها بعض المناوئين لمنهج هذه الدولة " الإسلامي السلفي " : من العلمانيين وبقايا المتصوفة والرافضة ، الذين استغلوا هذه الأحداث مؤازرة مع الغربيين للضغط على الدولة للتخلي عما هي عليه من تمسك بالإسلام والسلفية .
ولكي يقبل الناسُ مطالبهم ؛ فإنهم يزعمون أنه لايليق بالدولة أن تتبنى مذهبًا واحدًا - هو المذهب الحنبلي كما يقولون ! - وتحجرَ على المذاهب الإسلامية الأخرى !
فتسألهم : ماهي هذه المذاهب التي يُحجر عليها في هذه البلاد ؟
فيقولون - في خلط متعمد - : المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والشيعي والصوفي !!
فيمزجون المذاهب ( الفقهية ) لأهل السنة بمذاهب أهل البدع ( العقدية ) بدعوى أن الظلم طالها جميعًا .
فيصدقهم بعض الطيبين ويردد ما يقولون تضامنًا مع المظلومين !
ولكشف هذا التلبيس لابد من معرفة هذه الأمور :
1 - أن هذه الدولة المباركة قامت في عقيدتها على تبني الإسلام الصحيح الوارد في الكتاب والسنة ، والذي كان عليه سلف هذه الأمة ؛ ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذ ، وهو الذي قام شيخ الإسلام المجدد محمد بن عبدالوهاب وتلاميذه - رحمهم الله - بتجديده والدعوة إليه ، وحمايته بالسلطان .
ولافرق في هذا بين " حنبلي " أو " حنفي " أو " مالكي " أو " شافعي " ؛ لأن الجميع من ( أهل السنة ) ، عقيدتهم واحدة .
وهذا ما أكده الشيخ محمد في رسائله وأقواله ؛ كقوله مثلا في رسالته إلى من يصل إليه من المسلمين :
( أخبركم أني ولله الحمد عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم الدين ) . ( الرسائل الشخصية ، ص 150 ) .(12/1)
أو قوله : ( وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد ؛ فنحن مقلدون الكتابَ والسنة ، وصالحَ سلف الأمة ، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة : أبى حنيفة النعمان بن ثابت ، ومالك بن أنس ، ومحمد بن إدريس ، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى ". ( الدرر السنية ، 97/1) .
أو قوله في رسالته إلى عبدالرحمن بن عبدالله : ( قلت لهم أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم ، فلما أبو ذلك نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب وذكرت ما قالو بعد ما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها فصرفوا ذلك وتحققوه ولم يزدهم إلا نفورا ) . ( الرسائل الشخصية ، ص 38 ) .
هذا في ( العقيدة ) : لا فرق بين الجميع ( الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ) عند الشيخ ؛ كلهم أهل سنة ، أصولهم واحدة ، ودعوتهم واحدة ، وهذه البلاد السلفية لهم جميعًا .
2 - أما في ( الفقه ) ؛ فكان أهل نجد - ومنهم الشيخ - كغيرهم من أهل البلاد الإسلامية الأخرى تفقهوا على مذهب من المذاهب الأربعة المنتشرة ؛ لتنضبط دراستهم .
ومع هذا فإن الشيخ وتلاميذه لا يتعصبون لغير الدليل الشرعي ؛ ولو خالف مذهب أحمد .
كذلك فإنهم لا يُنكرون على من تفقه على المذاهب الثلاثة الأخرى ؛ مادام سلفيَ العقيدة .
وهذا ما صرح به الشيخ : كما في قوله : ( وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة ، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقول جمهورها ) . ( الرسائل الشخصية ، ص 107) .(12/2)
قال الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله - : ( إن الشيخ – رحمة الله – ما جاء بمذهب مستقل ، وإنما هو في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وإذا ترجح عنده القول بالدليل أخذ به ولو لم يكن في مذهب الإمام أحمد ، يعني أنه لا يتعصب إلى الشخص ، وإنما يذهب إلى الحق ، فهو حنبلي ، ولكن إذا كان الدليل مع غير أحمد وفي غير مذهب أحمد فإنه يأخذ به ،لأن الإمام أحمد - رحمه الله – يأمر بهذا ، يأمر أن نتبع الدليل ، ولا نأخذ قوله ولا قول غيره ، قال رحمه الله : " عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان - هو سفيان الثوري رحمة الله - والله تعالى يقول: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) : أتدري ماالفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله - أي بعض قول الرسول صلى الله عليه وسلم - يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك " اهـ ؛ هذا قول الإمام أحمد ، فالشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب هو على مذهب الإمام أحمد ، إمام أهل السنة ، ولكنه لا يتعصب لمذهب أحمد ، بل متى وجد الدليل مع غيره أخذ بالقول الذي عليه الدليل ، وهذا موجود في فتاواه وفي رسائله ، موجود معروف مدون.هذا في الفقه ، أما في العقيدة فهو على عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة الأربعة ) . ( رد شبهات حول دعوة المجدد الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب ، ص 35-37) .
أخيرًا : يقول الدكتور ناصر القفاري رادًا على التلبيس السابق :(12/3)
( لقد توهم بعض الناس أن تعدد المذاهب الفقهية هو تعدد في الاتجاهات العقدية، ويبدو أن هذا الوهم قديم، ففي عصر ابن تيمية رُفع إليه سؤال يطلب منه صاحبه بيان الاعتقاد في مسألة وفق مذهب الشافعي، فأجابه الشيخ: بأن مذهب الشافعي هو مذهب سائر الأئمة، ومذهب الأئمة هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وهو ما نطق به الكتاب والسنة . وفي مجلس المناظرة المعقودة بشأن الواسطية قال الحاكم الذي يحضر المناظرة : "أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول هذا اعتقاد أحمد.." فأجابه شيخ الإسلام: بأن هذه عقيدة الأئمة وسلف الأمة التي تلقوها عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فهذه "عقيدة محمد، صلى الله عليه وسلم" . ( الفتاوى: 3/ 169 ) .<o:p> </o:p>
ولم يقتصر الأمر على مجرد توهم الاختلاف عند بعض العامة، بل تبعه في عصرنا ترويج لهذا المفهوم وإشاعة له، وبلغ الأمر أن أقيمت مراكز، وصنفت كتب، وصدرت مقالات في دوريات تتبنى هذه المفاهيم الخاطئة ؛ فمثلاً : قامت (دار التقريب ) في مصر وكان شعارها ومنهجها التقريب بين المذاهب الستة ! أي التقريب بين المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والزيدي والاثني عشري، أي إنها جعلت المذاهب الأربعة كالفرق المبتدعة المخالفة للسنة في الاعتقاد سواء بسواء !!(12/4)
وهذا تلبيس عظيم، حيث يُفتعل خلاف لا وجود له، وفرقة بين المذاهب الفقهية لا مكان لها، ويُدعى تقارب بين فرق بدعية الخلافُ معها قائم في أصول الاعتقاد ؛فيوهم الناس أن الخلاف بين الحنابلة والشافعية كالخلاف مع الرافضة، أي أن الخلاف في مسائل الاجتهاد كالاختلاف في أصول الاعتقاد، أو أنه لا اختلاف مع الرافضة في الاعتقاد، إنما هي خلافات يسيرة في أمور الفروع، أي أن ما عند الروافض من عقائد باطلة هي حق، وهذا حكمٌ على الباطل بأنه حق ، وصد لأبواب الهداية أمام المغرر بهم من الرافضة حيث يعتقدون أن ما عند السنة لا يختلف عما عندهم ؛ فيبحثون عن ضالتهم في غير السنة، أو يشكون في الإسلام ذاته إذا رأوا أن ما هم عليه فاسد في العقل، ومخالفٌ للفطَر ، وقيل لهم إن هذا بعينه هو ما عند أهل السنة ) . ( أصول الدين عند الأئمة الأربعة واحدة ، ص 51-52) .
قلت ُ : فليحذر أهلُ الإسلام من تلبيس أهل الباطل الذين يريدونَ صرفَهم عن الحق إلى باطلهم ، أو ثنيَهم عن التمسك به ، وليخبروهم أن لامكان في هذه البلاد لغير " أهل السنة " ؛ وأما غيرهم من المنافقين وأهل البدع فإنهم يعيشون فيها مكبوتين غير ظاهرين ؛ إلى أن يلحقوا بركب المؤمنين .
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح
ثقافة التلبيس (7) : الإسلام دين العدل لا المساواة
ثقافة التلبيس ( 8 ) : ( مصطلح : الإسلام السياسي )
ثقافة التلبيس ( 9 ) : قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
ثقافة التلبيس (10) : مصطلح : " الآخر " ..!(12/5)
ثقافة التلبيس(12) : خلطهم بين الحب الشرعي للوطن والحب الوثني !
يتردد عند كثير من الكتاب هذه الأيام الحديث عن " الوطنية " ، والتغني بحب الوطن ، دون ضوابط من البعض تمنعه عن الخلط بين الحب " الشرعي " للوطن المسلم ، بالحب غير الشرعي . ولاأذيع سرًا إذا ما قلتُ بأن لفظة " الوطنية " غير محببة لدى كثيرين ؛ بسبب ارتباطها أول نشأتها بالفكرة الانعزالية التي تقيم حاجزًا بين أبناء الإسلام إذا ما اختلفت أوطانهم ، وتُطغي حبهم لأوطانهم على حبهم لدينهم ؛ حتى قال قائلهم في وطنه :
ولو أني دُعيتُ لكنتَ ديني *** عليه أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي *** إذا فهتُ الشهادة والمتابا !
وهذه " وثنية " لا " وطنية " ؛ لا أظن مسلمًا يرضاها لنفسه - والعياذ بالله - .
وللفائدة ؛ فهذه الدعوة الوطنية " الوثنية " ابتدأت - باعتراف أحد دعاتها وهو الدكتور محمد عمارة - منذ الحملة الفرنسية على مصر ؛ يقول الدكتور : ( لقد كان الناس في مصر يفكرون تفكيرًا إسلاميًا يعرف الملة ولا يعرف الوطن ولا القومية ؛ فسلكت الأفكار الوطنية أو القومية التي ألقى الفرنسيون بذورها في تربة مصر إلى عقول الناس ) ( 1 )
ثم ازدادت هذه الفكرة الوثنية اشتعالا بسبب النصارى العرب - سواء القادمين من الشام إلى مصر أ الأقباط - فنفخوا فيها ونشروها ؛ لأنها تحقق لهم مصالحهم - كما لا يخفى - . ثم سرت في معظم بلاد المسلمين - للأسف - برعاية استعمارية ؛ يستفيد منها العدو في عزل بلاد المسلمين عن بعضها البعض ، وتشتيتها من خلال هذه الدعوة الجاهلية .
ويزداد الأسف ؛ عندما نرى بوادر لهذه الدعوة تسري إلى بلادنا من خلال كتابات هنا وهناك ؛ تحاول لبس الحق بالباطل ؛ وتعيد هذه الفكرة جذَعة في بلاد التوحيد ؛ في محاولة لصرف ( المملكة العربية السعودية ) عن دورها الإسلامي العظيم المنتظر منها في قيادة المسلمين إلى كل خير .(13/1)
لذا ؛ فقد أحببت أن أنتقي ما وقفت عليه من عبارات للشيخ العلامة ابن عثيمين - رحمه الله - ؛ يوضح فيها الفروق بين الحب الشرعي للوطن ، والحب الجاهلي ؛ لعل الله ينفع بها .
يقول الشيخ في شرح حديث " وإذا استنفرتم فانفروا " :
( ويجب على المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مره واحدة ؛ يجاهَد أعداء الله ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن لأنه وطن ، لان الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر ، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم ، لكن المسلم يدافع عن دين الله ، فيدافع عن وطنه لا لأنه وطنه مثلا ، ولكن لأنه بلد إسلامي فيدافع عنه حماية للإسلام .
ولهذا يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم ؛ يجب علينا أن نُذكر جميع العامة بأن الدعوة إلى تحرير الوطن وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة ، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية ، ويقال إننا ندافع عن ديننا قبل كل شي ؛ لأن بلدنا بلد دين وإسلام يحتاج إلى حماية ودفاع ، فلا بد أن ندافع عنه بهذه النية . أما الدفاع بنية الوطن أو بنية القومية فهذا يكون من المؤمن والكافر ولا ينفع صاحبه يوم القيامة ، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل ليُرى مكانه أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ". انتبه إلى هذا القيد ! إذا كنت تقاتل لوطنك فأنت والكافر سواء ، لكن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ممثلة في بلدك ؛ لأن بلدك بلد إسلام ، ففي هذه الحال ربما يكون القتال قتالا في سبيل الله .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله – أي يجرح – إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا اللون لون الدم والريح ريح المسك " .(13/2)
فانظر كيف اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله . فيجب على طلبة العلم أن يبينوا هذا والله الموفق ) . ( 2 ) .
وقال - رحمه الله - في شرح حديث " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " :
( ونحن إذا قاتلنا من أجل الوطن لم يكن هناك فرق بيننا وبين الكافر ؛ لأنه أيضا يقاتل من أجل وطنه . والذي يُقتل من أجل الدفاع عن الوطن فقط ليس بشهيد ، ولكن الواجب علينا ونحن مسلمون وفي بلد إسلامي ولله الحمد ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك ، الواجب أن نقاتل من اجل الإسلام في بلادنا .
انتبه للفرق : نقاتل من أجل الإسلام في بلادنا ، فنحمي الإسلام الذي في بلادنا ؛ سواء كان في أقصى الشرق أو الغرب ، فيجب أن تصحح هذه النقطة : فيقال : نحن نقاتل من أجل الإسلام في وطننا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي ، ندافع عن الإسلام الذي فيه .
أما مجرد الوطنية فإنها نية باطلة لا تفيد الإسلام شيئا ، ولا فرق بين الإنسان الذي يقول إنه مسلم والإنسان الذي يقول إنه كافر إذا كان القتال من أجل الوطن لأنه وطن .
وما يُذكر من أن " حب الوطن من الإيمان " وأن ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب . حب الوطن إن كان إسلاميا فهذا تحبه لأنه إسلامي ، ولا فرق بين وطنك الذي هو مسقط رأسك أو الوطن البعيد عن بلاد المسلمين كلها وطن إسلامي يجب أن نحميه .
على كل حال ؛ يجب أن نعلم أن النية الصحيحة هي أن نقاتل من أجل الإسلام في بلدنا أو من أجل وطننا لأنه إسلامي لا لمجرد الوطنية ) . ( 3 )
وقال - رحمه الله - عند حديث " من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء .." :
( بقي علينا : الذي يقاتل دفاعا عن بلده ؛ هل هو في سبيل الله أو لا ؟(13/3)
نقول : إن كنت تقاتل عن بلدك لأنها بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها بلد إسلامي فهذا في سبيل الله ، لأنك قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا . أما إذا قاتلت لأجل أنها وطن فقط ؛ فهذا ليس في سبيل الله ، لأن الميزان الذي وضعه النبي عليه الصلاة والسلام لا ينطبق عليه ، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة ، والله الموفق ) . ( 4 )
وقال - رحمه الله - تعليقًا على عبارات " النشيد الوطني " لما سئل عنها ؛ فلم يتوقف سوى عند عبارة " عاش المليك للعلم والوطن " قائلا :
( يُنظر أولا : هل العلم وهو جماد يُخاطب بمثل هذا الخطاب ؟
ثانيا : هل مثلا يقال لله والوطن ، أو عاش المليك للعلم والوطن ؟
ما معنى هذا الكلام ؟ أما قولنا : عاش المليك فلا بأس أن ندعوا له بالعيش الحميد والحياة الطيبة ، وأن يسدد الله خطاه وأن يدله على الخير ، هذا لابأس به ؛ بل من منهج السلف الدعاء لولاة الأمور بالصلاح والسداد ، لكن العبارة الثانية : " للعلم والوطن " ما معنى للعلم والوطن ؟ هل المعنى عاش للعلم وعاش للوطن ؟ أو المعنى أقول ذلك تعظيمًا للوطن ؟(13/4)
والحقيقة إن الذي ينبغي علينا هو أن نوجه شبابنا إلى التحمس للدين ، وليس للوطن من حيث إنه وطن ، ولهذا ترك الصحابة أوطانهم في الفتوحات الإسلامية وذهبوا يسكنون الكوفة والبصرة والشام ومصر ؛ لأن وطن المسلم هو ما يستقيم به دينه ، فكوننا نربي الأجيال على الدفاع عن الوطن أو ما أشبه ذلك ، دون أن نشعرهم بأننا نحمي وطننا ، أو ندافع عن وطننا من أجل ديننا ، لأن وطننا والحمد الله – أعني بذلك المملكة العربية السعودية – هي من خير أوطان المسلمين إقامة لدين الله ، فإذا كان الإنسان يريد بالوطنية ، أي أن وطننا هو أحسن الأوطان في الوقت الحاضر ، بالنسبة لإقامة الدين ، فأنا أدافع عن وطني لأنه الوطن الذي يطبق من أحكام الشريعة ما لا يطبقه غيره ، وإن كان عندنا خلل كثير ، فهذا لا بأس ، أما مجرد الوطنية فهذه دعوة فاشلة ) . ( 5 )
قلتُ : لعل عقلاء هذه البلاد يدركون الفارق بين الدعوتين ، فيُلحون على المعنى الشرعي الذي يُبرز أن رفعة وطننا وعزه ، وسبب محبتنا - بل محبة المسلمين له - والدفاع عنه أنه مأرز الإيمان ، ومنطلق الرسالة ؛ حيث لافخر لنا بغير هذا ؛ مع عدم إغفال تواصلنا مع المسلمين في كل مكان ، ودعمنا لقضاياهم ، وتصدرنا لها ، فهذا هو - والله - خير ما يبقى لأهل هذه البلاد ، وهو الذي يُحقق ما يهدف له من يريد نشر المحبة الحقيقية للوطن ، ويجعل المسلمين يتفاعلون معه . بخلاف المعنى الضيق الذي لايزيد الأمر إلا سوء مهما بذلنا واجتهدنا ؛ لأن معظم المسلمين - ولله الحمد - لاينقادون لغير المحبة الشرعية .
مع التنبه والحزم مع كل من يريد بث المعنى الوثني الضيق للوطنية ؛ الذي لايليق بهذه البلاد ؛ وينطبق عليه قوله تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } ؟(13/5)
ومن الاقتراحات التي أراها مناسبة لترسيخ المعنى الشرعي لحب الوطن في هذا البلاد ؛ أن نتبنى شعار : ( السعودية .. وطن الإسلام ) ؛ ليكون شعارًا لحملة وطنية يتم من خلالها إبراز مكانة هذه البلاد ، ومعنى الحب الشرعي لها ، واختيار الأفراد المناسبين للقيام بها . والله الهادي ..
-----------------
الهوامش :
( 1 ) الأعمال الكاملة للطهطاوي ، 1/41
( 2 ) شرح رياض الصالحين ، 1/27
( 3 ) السابق ، 1/56
( 4 ) السابق ، 1/285
( 5 ) الباب المفتوح 41-50/ص 37
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح
ثقافة التلبيس (7) : الإسلام دين العدل لا المساواة
ثقافة التلبيس ( 8 ) : ( مصطلح : الإسلام السياسي )
ثقافة التلبيس ( 9 ) : قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
ثقافة التلبيس (10) : مصطلح : " الآخر " ..!
ثقافة التلبيس (11) : قولهم:لابد من فتح المجال لجميع المذاهب في السعودية!!(13/6)
ثقافة التلبيس ( 13 ) : عدم تكفير اليهود والنصارى ..!
يمارس هذا التلبيس فريقٌ من المنافقين المؤاخين لليهود والنصارى ممن أشربت قلوبهم محبتهم حتى أداهم ذلك إلى أن يمدحوا أديانهم الباطلة ويعدوها أديانًا حقًة لا تثريب عليهم في اتباعها ، وأنهم لا يكفرون بهذا ! في مجاوزة منهم لحدود الله وأحكامه ، ووقوع في ناقض من نواقض الإسلام ، كلُ هذا طلبًا لرضاهم أو خلطًا بين تقدم بعضهم " دنيويًا " والحكم على أديانهم . وهذا ليس بمستغرب ممن قال الله عنهم ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا ) ، ولكنه مستغربٌ من بعض من يُسمون بالمفكرين الإسلاميين ! الذين هان عندهم الوقوع في هذا الناقض في سبيل أن يحظوا بوصف " التسامح " ، أو بسبب الهزيمة النفسية التي تمنعهم من الصدع والفخر بدين الله الذي جعله خاتم الأديان .
ولتأكيد ضلال اليهود والنصارى وأنهم على دين باطل بعد نسخه بدين محمد صلى الله عليه وسلم أمر اللهُ المسلمَ أن يسأله في كل يوم، وفي كل صلاة، وفي كل ركعة، أن يهديه الصراط المستقيم الصحيح المتقبل، وهو الإسلام، وأن يجنبه طريق المغضوب عليهم: وهم اليهود وأشباههم، الذين يعلمون أنهم على باطل ويصرون عليه، ويجنبه طريق الضالين: الذين يتعبدون بغير علم، ويزعمون أنهم على طريق هدى، وهم على طريق ضلالة، وهم النصارى ومن شابههم من الأمم الأخرى، التي تتعبد على ضلال وجهل، وكل ذلك ليُعلم أن كل ديانة غير الإسلام فهي باطلة، وأن كل من يتعبد الله على غير الإسلام فهو ضال، ومن لم يعتقد ذلك فليس من المسلمين، وفعله هذا من صور الموالاة التي يُحكم على باذلها بالكفر كما ذكر ذلك أهل العلم .(14/1)
ولمعرفة بداية التشكيك في كفر اليهود والنصارى وغيرهم ، ومراحل الدعوة إلى " وحدة الأديان " يُنظر : رسالة " محمد عمارة في الميزان " ( ص 354-370 ) ، ورسالة " دعوة التقريب بين الأديان " للدكتور أحمد القاضي " 4 مجلدات " ، ورسالة الشيخ بكر أبوزيد " الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان " . وإنما أكتفي هنا ببيان أدلة تكفير اليهود والنصارى ؛ كشفًا لهذا التلبيس :
الوجه الأول : في الأدلة من القرآن على كفر اليهود والنصارى :
وهي كثيرة جداً ، سأكتفي بأوضحها دلالة:
1- قال تعالى: ( إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيما ).(14/2)
قال ابن كثير: (يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى حيث فرّقوا بين الله ورسله في الإيمان ؛ فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك ، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية ، فاليهود عليهم لعائن الله آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم ، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران، والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم والله أعلم. والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فمن ردّ نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً إنما هو عن غرض وهوى وعصبية ، ولهذا قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله) فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله )يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله( أي في الإيمان )ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً( أي طريقاً ومسلكاً، ثم أخبر تعالى عنهم فقال: (أولئك هم الكافرون حقاً) أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به ؛ لأنه ليس شرعياً ، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه لو نظروا حق النظر في نبوته) . قلت : وهذه الآية أعتقد أنها كافية لمن يريد الهداية .
2- قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة... ).
قال ابن كثير: (أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب) .(14/3)
ففي هذه السورة تكفير لهم لعدم إيمانهم بالقرآن وهو البينة وعدم إقامتهم الصلاة والزكاة، ثم أخبر أنهم في نار جهنم ؛ فقال تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) قلت: قد يوحي الشيطان إلى أحد أن هذه السورة في (الذين كفروا من أهل الكتاب) وهم من لم يقيموا دينهم مثلاً. فيقال: لو صح ذلك لقيل إن الله تعالى كفّرهم لأجل عدم إيمانهم بالقرآن وإقامتهم الصلاة والزكاة وهم مشتركون في هذا - طيبهم وخبيثهم - وهذا واضح ، ويقال ثانياً: إن الله تعالى قال: (من أهل الكتاب والمشركين) فيلزم أن في المشركين من يمكن أن يكون مؤمناً! وهذا ما لا يقول به عاقل .
3- قال تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم).
4- قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) الخطاب لجميع أهل الكتاب أن يدعوا اعتقادهم الشركي في المسيح وعزير ؛ فإن لم يفعلوا ذلك فهم ليسوا مسلمين.
5- قال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون).
6- قال تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً)
7- قال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون).
8- قال تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولاً). قال ابن كثير: (يقول تعالى آمراً أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا).(14/4)
9- قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً). فمن كفر برسول واحد فقد ضل ضلالاً بعيدًا .
10- قال تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام...) الآية. وقوله: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا على فترة من الرسل) قلت: فإذا كفتهم رسلهم. فلماذا يرسل الله تعالى إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ؟!
11- قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
12- قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس).
13- قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) وتأمل قوله تعالى: (جميعاً) فهو تأكيد لعموم الرسالة لكي لا يُسْتثنى أحد من يهود أو نصارى .
الوجه الثاني : ما يشهد على كفرهم من السنة:
وسأكتفي منها بالأدلة الصريحة وأقلل منها اكتفاءً بما سبق من آيات القرآن :
1- قال صلى الله عليه وسلم : "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار" قال النووي في شرح مسلم)(2/188) : ( وقوله صلى الله عليه وسلم لا يسمع بي أحد من هذه الأمة أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته ، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيهاً على من سواهما ، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتاباً فغيرهم ممن لا كتاب له أولى ، والله أعلم ) .
2- قال صلى الله عليه وسلم: " لو تابعني عشرة من اليهود لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم" رواه مسلم . أي أنهم غير مسلمين إذا لم يتابعوه صلى الله عليه وسلم .(14/5)
3- وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه : ( أن رجلاً أسلم ثم تهود. فأتاه معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو عند أبي موسى- فقال: ما لهذا؟ قال : أسلم ثم تهود . قال : لا أجلس حتى أقتله قضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ( . والشاهد: قول معاذ )قضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) لأنه معلوم عندهم أن من أسلم من اليهود والنصارى ثم رجع إلى دينه قتل لأنه مرتد ، ولم يقل أحد أن الأديان كلها توصله إلى النجاة ! وإلا لتركه الصحابة وشأنه واختياره .
4- وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث التجلي يوم القيامة " .. ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنه السراب فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا فيتساقطون..." وذكر الحديث .
الوجه الثالث: أن المسلمين قد أجمعوا على كفر اليهود والنصارى(14/6)
ولم يشذ أحد منهم غير غلاة الصوفية وفرق الزندقة الذين لا يُعدون من جملة المسلمين . قال ابن حزم في مراتب الإجماع ( ص119 ) : ( واتفقوا على تسمية اليهود والنصارى كفاراً ) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (12/496) : ( قد ثبت في الكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة) ، وقال (12/499) : (نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة والمقرين بالجزية على كفرهم) وقال (35/201) : (إن اليهود والنصارى كفار كفراً معلوماً بالاضطرار من دين الإسلام) . ولقد نقل القاضي عياض - رحمه الله تعالى- الإجماع على كفر من لم يكفر الكافر، وذلك عند كلامه عن تكفير من صوب أقوال المجتهدين في أصول الدين حيث قال: "وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك" ( الشفا ، 2/603) . وقال أيضاً (2/610) : "... ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده، واعتقد إبطال كل مذهب سواه، فهو كافر بإظهار ما أظهره من خلاف ذلك" . وقال الحجاوي - رحمه الله تعالى - : " من لم يكفر من دان بغير الإسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر" ( كشاف القناع ،6/170) . وذكر الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- من نواقض الإسلام: "الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر" .(14/7)
وقال الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب - رحمهم الله تعالى-: "فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه كافر بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر" . ( رسالة أوثق عرى الإيمان ، ص 61) . وقال الشيخ عبدالله أبابطين في " الانتصار لحزب الموحدين والرد على المجادل عن المشركين ، ص 43 " : " قد أجمع العلماء على كفر من لم يُكفر اليهود والنصارى أو يشك في كفرهم " . هذا إجماع أهل الإسلام في قديم الدهر وحديثه استنادًا إلى نصوص الوحي.
أقوال العلماء
- سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن من لم يُكفر اليهود والنصارى ويقول عنهم "أهل كتاب" فقط ؟!(14/8)
فقالت: " من قال ذلك فهو كافر ؛ لتكذيبه بما جاء في القرآن والسنة من التصريح بكفرهم ، قال الله تعالى : ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون .. ) الآيات من سورة آل عمران ، وقال : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم .. ) الآيات من سورة المائدة ، وقال : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .. ) الآيات من سورة المائدة ، وقال : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون .. ) الآيات من سورة التوبة ، وقال تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة .. ) الآيات من سورة البينة ، وقال : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة . وبالله التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء . الرئيس : عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، نائب رئيس اللجنة : عبدالرزاق عفيفي ، عضو : عبدالله بن غديان . ( فتاوى اللجنة ، 2/18) .
- ولما كتب أحدهم مقالاً في صحيفة "الشرق الأوسط" ينعى فيه على المسلمين الذين يكفرون اليهود والنصارى، ويدعي أنهم مؤمنون مثلنا! رد عليه الشيخ ابن باز –رحمه الله- بمقال نشر في فتاواه ( 8/196-201). جاء فيه: ".. وهذا الذي فعله - أي كاتب المقال- كفر صريح، وردة عن الإسلام، وتكذيب لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ".
- وسئل الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله- عن ما يبثه أحد الوعاظ بأوروبا من المتأثرين بالأفكار العصرانية من أنه لا يجوز تكفير اليهود والنصارى ؟!(14/9)
فقال: "... من أنكر كفر اليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه فقد كذب الله عز وجل، وتكذيب الله كفر، ومن شك في كفرهم فلا شك في كفره هو ... - إلى أن قال- إن كل من زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى دين الإسلام فإنه كافر، لا شك في كفره؛ لأن الله عز وجل يقول في كتابه: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)". ( الصحوة الإسلامية : ضوابط وتوجيهات ، ص 196-201) . وقال أيضًا - رحمه الله - : ( لا إسلام بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلا باتباعه، لأن دينه مهيمن على الأديان كلها ظاهر عليها، وشريعته ناسخة للشرائع السابقة كلها قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (والذي جاء مصدقاً لما مع الرسل قبله هو محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ). وقال تعالى: )هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله). وهذا يعم الظهور قدراً وشرعاً.(14/10)
فمن بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن به ويتبعه لم يكن مؤمناً ولا مسلماً بل هو كافر من أهل النار يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة –يعني أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أهل النار". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وبهذا يُعلم أن النزاع فيمن سبق من الأمم هل هم مسلمون أو غير مسلمين؟ نزاع لفظي، وذلك لأن الإسلام بالمعنى العام يتناول كل شريعة قائمة بعث الله بها نبياً فيشمل إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء ما دامت شريعته قائمة غير منسوخة بالاتفاق كما دلت على ذلك النصوص السابقة، وأما بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الإسلام يختص بما جاء به ؛ فمن لم يؤمن به ويتبعه فليس بمسلم.
ومن زعم أن مع دين محمد صلى الله عليه وسلم ديناً سواه قائماً مقبولاً عند الله تعالى من دين اليهود، أو النصارى، أو غيرهما ؛ فهو مكذب لقول الله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام ). وقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ). وإذا كان الإسلام اتباع الشريعة القائمة، فإنه إذا نسخ شيء منها لم يكن المنسوخ ديناً بعد نسخه ولا اتباعه إسلاماً ) . ( تقريب التدمرية ، ص 122-123) .
- وقال الشيخ بكر أبوزيد - وفقه الله - : " يجب على كل مسلم اعتقاد كفر من لم يدخل في هذا الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم، وتسميته كافراً، وأنه عدو لنا، وأنه من أهل النار... ولهذا: فمن لم يكفر اليهود والنصارى فهو كافر، طرداً لقاعدة الشريعة: من لم يكفر الكافر فهو كافر". ( معجم المناهي اللفظية ، ص 92 ) .(14/11)
وقال - أيضاً - ( ص 166 ) بعد أن ذكر بعض الأدلة على كفر اليهود والنصارى: "والحكم بكفر من لم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب؛ من الأحكام القطعية في الإسلام، فمن لم يكفرهم فهو كافر؛ لأنه مكذب لنصوص الوحيين الشريفين".
شبهة وجوابها
يحتج أهل التلبيس بآية : (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ) الآية ؛ ويزعمون أنها تشهد لقولهم الباطل ، وهذه الحجة قد رددها النصارى قبلهم ليدللوا بها على إيمانهم وعدم كفرهم ، وقد احتجوا بها في زمن شيخ الإسلام فكفانا الرد عليهم حيث قال: ( الجواب أن يقال : أولاً : لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم، فإنه يسوى بينكم وبين اليهود والصابئين، وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود كفار من بعث المسيح إليهم فكذبوه. وكذلك الصابئون من حيث بعث إليهم رسول فكذبوه، فهم كفار ، فإن كان في الآية مدح لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ففيها مدح دين اليهود أيضاً، وهذا باطل عندكم وعند المسلمين. وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل، وكذلك يقال لليهودي، إن احتج على صحة دينه.
وأيضاً فإن النصارى يكفرون اليهود، فإن كان دينهم حقاً لزم كفر اليهود، وإن كان باطلاً لزم بطلان دينهم فلابد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما، وقد سوت بينهما.
فعلم أنها لم تمدح واحداً منهما بعد النسخ والتبديل.. فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحًا ) ( الجواب الصحيح ، 2/62) .
توضيح أخير(14/12)
بعد أن عُلم أن كفر اليهود والنصارى أمرٌ مجمع عليه بين المسلمين ، ومن شك فيه أو خالفه فقد خرج عن الإسلام ، يحسن التنبيه إلى أمر قد يرد على أذهان بعض القراء ؛ وهو : هل يلزم من كفرهم وغيرهم أن يُعذبهم الله جميعًا في النار ؟ الجواب : لا يلزم هذا ؛ لأن أمر التعذيب مرتبط بقيام الحجة عليهم ؛ فمن قامت عليه استحق العذاب ، ومن لم تقم عليه لم يستحقه . أما في الدنيا فيُعامل الجميع معاملة الكافر ، ويُطلق عليهم بأنهم كفار .
سئل الشيخ ابن باز - رحمه الله - : " ماحكم من لم تبلغهم دعوة الإسلام ، هل هم كفار ؟ وهل مصيرهم إلى جهنم ؟ فقال : " حكمهم في الدنيا أنهم كفار ، أما مصيرهم في الآخرة فأحسن ما قيل في هذا الصنف من الناس أنهم يُمتحنون يوم القيامة ؛ فمن أطاع الأمر دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار ؛ لقول الله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) " . ( انظر : لقاءتي مع الشيخين ، للدكتور عبدالله الطيار ، 1 /87 ) . ولزيادة التوضيح يُنظر الرابط التالي : ( ايضاح الإشكال .. في مقال : أحمد بن باز ) . والله الموفق .(14/13)
ثقافة التلبيس ( 14 ) : الوسطْ .. الغلطْ
يعتقد البعض أن ( الوسط ) ممدوح في جميع الحالات ، مما يوقعهم في أخطاء - سواء بنية حسنة أو تعمد ، هذا لايهم - ، ويغيب عنهم أن هذا الاعتقاد منهم مجانب للصواب ، وأن ( الوسط ) لا يُمدح في كل القضايا ، إنما يُمدح إذا كان وسطًا بين طرفين مذمومين . أما إذا كان وسطًا بين ( حق ) و ( باطل ) ؛ فإنه يُذم كالباطل ، لأنه أصبح تلبيسًا على الناس ، وتكون النتيجة بعكس ما أراد صاحب هذا الوسط الغلط عندما أراد التقريب بين الحق والباطل بوسطيته المذمومة .
وقد أردتُ أن أذكر نماذج لمن غلطوا في فهم ( الوسط ) الصواب ، وتوهموه يصدق في كل القضايا ؛ فكانت النتيجة ضررًا على الأمة :
المثال الأول : فرقة ( السيخ ) الذين ظهروا في الهند . فمؤسس هذه الفرقة ( المدعو ناناك ) عندما رأى الخلاف بين " المسلمين " و " الهندوس " ساءه ذلك ؛ فاتخذ طريقة ( وسطًا ) بينهما ، فأحدث فرقة ( السيخ ) التي تخلط في تعاليمها بين الإسلام والهندوسية ! فأصبحت هناك فرقة ( ثالثة ) ! ثم مع الوقت أصبحت هذه الفرقة من أشد أعداء المسلمين . ( يُنظر : كتاب : السيخ العدو الخفي ، للشيخ محمد الشيباني ) .
المثال الثاني : مؤسس فرقة الأشاعرة ( أبو الحسن الأشعري ) ، رأى الخلاف قائمًا في عصره بين الحق المتمثل في أهل السنة ، والباطل المتمثل في فرقة المعتزلة ، فأراد ( التوسط ) بينهما ! فخلط بين الحق والباطل ، وكانت النتيجة : إحداث فرقة جديدة ! بل قال الإمام أبونصر السجزي في رده على الأشاعرة ( ص 177 ) : " والمعتزلة مع سوء مذهبهم أقل ضررًا على عوام أهل السنة من هؤلاء ؛ لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تُموه .. فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء " ، أي بخلاف الأشاعرة المُلبسين بخلطهم الحق بالباطل .(15/1)
المثال الثالث : حسن البنا ، الذي كان أهل السنة في عصره ظاهرين معروفين ؛ سواء تمثلوا في أنصار السنة أوغيرهم من العلماء ، وكان هناك أهل البدع ، فأراد ( التوسط ) بينهما ليؤلف بين المختلفين - في زعمه - ، فكانت النتيجة إحداث فرقة ثالثة تخلط الحق بالباطل !
والسبب .. الوقوع في ( الوسط ) ( الغلط ) .
الخلاصة
1- أن ( الوسط ) يُمدح إذا كان وسطًا بين طرفين مذمومَين .
2- ويُذم إذا كان ( وسطًا ) بين الحق والباطل . وتكون النتيجة بعكس ما أراد صاحبه ، كما قال الشاعر :
يُحللون بزعم منهمو عُقدًا ** وبالذي وضعوه زادت العُقدُ !
3- ويُذم الوسط - أيضًا - إذا كان في الأمور المتدرجة ، ضعفًا وقوة ، أو علوًا وسفلا .. مثال ذلك : لو قال أحد الطلاب : أنا سأختار الوسط فأحرص على أن يكون تقديري ( جيد جدًا ) لأنه ( وسط ) بين ( جيد ) و ( ممتاز ) ! نقول : أخطأت ؛ لأن هذا من الأمور المتدرجة . مثال آخر : مسلم يقول : أنا أتمنى أن أكون من أصحاب اليمين لأنهم ( وسط ) بين المقربين وأصحاب الشمال ! نقول - أيضًا - أخطأت .. وقس عليه .
والله الموفق ..
رابط الحلقات السابقة من " ثقافة التلبيس "
.(15/2)
ثقافة التلبيس ( 15 ) : ( مصطلح التنوير )
متابعة للحلقات التي نشرتها بعنوان " ثقافة التلبيس " على ( هذا الرابط ) .
هذه الحلقة عن مصطلح يكثر استخدامه والوصف به في كتابات الليبراليين المعاصرين ( الملتحين وغير الملتحين ! ) ، هو مصطلح " التنوير " ، وهو مصطلح جذاب وبراق ؛ كغيره من المصطلحات المشتركة ، حمالة الأوجه ، التي تُستخدم لتمرير الأفكار ( بنوعيها ) ، فالمحق يعني بها حقًا ، والمُبطل يعني بها باطلا ؛ قال شيخ الإسلام : ( قد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من وجهة اشتراك الأسماء ، وكثيرٌ من نزاع الناس فى هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة ، التي يفهم منها هذا معنى يثبته ، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه ) ( الفتاوى : 12/552 ) .
وهذه نقولات عن بعض العَلمانيين العرب عن هذا المصطلح ، والقصد منه ؛ ثم أتبعها بما يجليها من كلام أهل الحق - إن شاء الله - :
يقول د / عاطف العراقي في كتابه " العقل والتنوير " ( ص 14 ) : ( قد لا أكون مبالغاً إذن إذا قلت بأننا الآن في أمس الحاجة إلى السعي نحو التنوير الثقافي، التنوير الذي يقوم على تقديس العقل ، والإيمان بأن الثقافة الخالدة، إنما هي الثقافة الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان ، وبحيث تتحرر من العادات والتقاليد والرجعية ، وتنطلق ساعية إلى تحقيق سعادة الإنسان، بما تتضمن من آداب وعلوم وفنون سامية رفيعة ، وعن طريق التنوير نستطيع إرساء نظام ثقافي عربي جديد. إن أوروبا لم تتقدم إلا عن طريق السعي بكل قوتها وابتداء من عصر النهضة نحو تحقيق مبدأ التنوير ، وبحيث وجدنا ثقافة أوروبية جديدة، تختلف في أساسها ومنهجها عن ثقافة العصور الوسطى ) .(16/1)
ويقول د / عبدالرزاق عيد ، في كتابه " أزمة التنوير " ، ( ص 5 ) : ( إن الخطاب التراثي المحدَث انكب يصفي الحساب مع كل قيم التنوير التي أنتجها الزمن النهضوي، من خلال تجريمه، وتأثيمه، وتخوينه، بوصفه زمناً استعمارياً، زمن التشوه الذاتي والغزو الثقافي، ونزعم أنه لم ينتج وعياً مطابقاً بزمنه، بل طرح إشكالات غريبة عن واقع المجتمع العربي، حيث الهجانة، والإصلاحية، والقصور، وبلغ الأمر حد تخوين الإمام محمد عبده واتهامه بوطنيته... ) .
ويقول د / مراد وهبة في كتابه " مدخل إلى التنوير " ، ( ص 7 ) : ( إن ثمة فجوة حضارية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة ليس في الإمكان عبورها من غير مرور بمرحلتين : إحداهما : إقرار سلطان العقل ، والأخرى : التزام العقل بتغيير الواقع لصالح الجماهير. بيد أنه ليس في الإمكان تحقيق هاتين المرحلتين من غير مرور بعصرين: عصر الإصلاح الديني الذي حرر العقل من السلطة الدينية، وعصر التنوير الذي حرر العقل من كل سلطان ما عدا سلطان العقل ) .(16/2)
وقال ( ص 18-19 ) : ( الرأي الشائع والمألوف أن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، وهو عصر من صنع "الفلاسفة" وهو لفظ يُكتب دائماً بالفرنسية دلالة على أن التنوير، وإن كان ظاهرة أوروبية على الإطلاق، فهو ظاهرة فرنسية على التخصيص. وإن كان "الفلاسفة" قد مجدوا العقل، مثل اليونانيين، إلا أنهم تميزوا بفصل الفلسفة عن الميتافيزيقا التقليدية. فالعقلانية القديمة لم توفق في الربط بين العقل والحياة اليومية، ومن ثم انفصلت عن الوقائع العينية للحياة الحقيقية. وإذا كان التنوير معتزاً بأن يكون هو "عصر الفلسفة" ، فالفلسفة هنا، ليست هي الفلسفة بالمفهوم التقليدي، وإنما هي رؤية وضعية لنسق العالم، ولأنحاء الوجود الإنساني، فتؤسس العلوم والفنون على مبدأ العلية دون مجاوزة هذا العالم، ومن ثم يهتم الفيلسوف بالحياة في هذه الدنيا، وليس بالبحث عن الحقائق الأزلية، فيربط بين العقل والوقائع العينية. وقد تأثر فلاسفة التنوير بمفكرَين عظيمين هما: لوك ونيوتن ) .
ويقول ( ص 30 ) : ( خلاصة القول : إن مهمة التنوير الأساسية لم تكن معرفة طبيعة الإنسان، وإنما تغيير المجتمع من أجل تغيير سلوك الإنسان، على أسس عقلانية ومادية ) .
قلتُ : هذه مجرد نماذج من كلامهم تبين المقصود ، وأنه مجرد استنساخ لما حصل في الغرب بعد تسلط الدين المحرّف " الكنيسة " ، ثم الثورة عليه بعد تمهيد من يُسمون فلاسفة التنوير لذلك ، وإحلال الأفكار الوضعية محله ، والاهتمام بعلوم الدنيا . ( كان هذا في فترة سابقة ، أما الآن فعاد كثيرٌ منهم للدين – ولو كان محرفًا - ) . ولتف6اصيل ما حصل في الغرب يُنظر كتاب الشيخ سفر الحوالي " العَلمانية " ، على ( هذا الرابط ) .(16/3)
قال الدكتور محمد يحيى: ( التنوير مصطلح يطلق في الفكر الغربي على مجموعة واسعة من الكتابات ظهرت بدءاً من أواسط القرن الثامن عشر الميلادي وإلى نهايته في أوساط الفلاسفة والمفكرين في فرنسا أساساً، ثم إلى درجة أقل في بريطانيا وألمانيا. وهذه الأفكار ظهرت وسط بيئة متشابكة من ردود الأفعال على الحكومات والطبقات المستبدة ( الملكية ) في تلك الحقبة، وعلى الأفكار الكنسية المصاحبة لها والمعضدة لها، كما ظهرت متأثرة بنضوج الفكر العقلاني ( كما أسموه ) الراجع بجذوره إلى عصر النهضة الأوروبية والمزدهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر كذلك. وظهرت تلك الأفكار على أعقاب التغيرات الكبرى التي حدثت في أوروبا ومهدت لها في القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر العلم، وعصر الثورة الصناعية، وعصر صعود الطبقة البورجوازية. وعصر الثورات الكبرى ( الأمريكية والفرنسية ) ، وعصر الفكر الحر، وعصر المذاهب الفلسفية الرئيسية ( الهيجلية والماركسية ) ، وتحدد مضمون الكم الفكري المؤسس لحركة التنوير في الأساس بالموقف من الدين وفكره ( وهو هنا المسيحية المحرفة ) ، كما رسم الفكر العقلاني الإنساني السابق على حركة التنوير والمصاحب لها، ولهذا اتسم فكر التنوير بعداء شديد ورفض للدين مسوَّغ بالعقلانية التي ترفض الغيبيات، وتجمع بين الدين وبين الخرافة والخزعبلات في وعاء واحد ) .(16/4)
أما دعاوى أهل التنوير في العالم الإسلامي ، فيقول عنها : ( ومن هنا فالتنوير السائر هو في حقيقته ليس تنويراً على الإطلاق بل محاكاة وتقليداً وجموداً على أفكار غربية سقطت حتى من سياقها التاريخي والثقافي الخاص ..وفوق هذا فالتنوير الذي يُروِّج له بعض الناس الآن ليس تنويراً بالمفهوم الذي قد يتبادر إلى الذهن ؛ من نشر للعلم والفكر والتأمل العقلي، بل هو لا يعدو ـ كما قلنا ـ إطلاق شعارات عامة غامضة موجهة كلها ضد الدين ( الإسلام ) ، في إطار خطة لا تنويرية ولا عقلية ولا علمية بل سياسية محضة، هي ما اصطلح على تسميته بسياسة مكافحة التطرف والإرهاب المزعومين والمنسوبين إلى الحركات الإسلامية وإلى دعاة الإسلام. وإذا كان من صدق في نية الحديث عن التنوير فكان يجب أن يكون كذلك عن الإسلام، وفي إطاره وخدمة لدعوته ) . ( مجلة البيان ، العدد 159 ) .
يقول الدكتور محمد السيد الجليند في كتابه " فلسفة التنوير بين المشروع الإسلامي والمشروع التغريبي " ( ص 12 – 17 ) : ( إن مصطلح التنوير -كغيره من المصطلحات العَلمانية- وفد إلينا من الغرب ضمن مجموع المصطلحات التي غزت ثقافتنا المعاصرة خلال حركة الاتصال الحديثة بين مصر والعالم الغربي -خاصة فرنسا- خلال القرنين الأخيرين.
ولقد نشأ هذا المصطلح في ظروف تاريخية عاشتها دول أوروبا شرقاً وغرباً، كانت ثقافة الشعوب في أوروبا خلالها قاصرة على ما تمليه عليهم سدنة الكنيسة ورجالها، وكانت السيطرة الثقافية واللاهوتية وتفسير الظواهر الطبيعية خاضعة لرجال اللاهوت الكنسي، لا يجوز مخالفتها، باعتبار ذلك وحياً لا تجوز مخالفته...(16/5)
ومن المعروف تاريخياً أن موقف الكنيسة وآراء رجالها كانت في العصور الوسطى تمثل الجهل والتخلف والخرافة، فلقد طلبوا من المسيحيين الإيمان والإذعان لآرائهم في تفسير الظواهر الكونية مدعين أن الدين ( الكنيسة ) يختص بتفسير هذه الظاهرة، وإن الخروج عليها كفر وإلحاد، ويكون جزاؤه الطرد من رحمة الكنيسة.
ومن المفيد أن ننبه هنا إلى أن موقف الأديان من الكون وظواهره هو الإيمان بما هو موجود على ما هو عليه في الوجود، دون أن يفرض الدين تفسيراً معيناً لهذه الظاهرة أو تلك، تاركاً ذلك كله لمنطق العلم وما يصل إليه العقل من اكتشافات وعلاقات بين الأسباب والظواهر، دافعاً للعقل أن يعمل ويكتشف القوانين ويدرك العلاقات، جاعلاً الكون كله خاضعاً لسلطان العقل بحثاً واكتشافاً وتسخيراً وتوظيفاً. ومن هنا كان الكون كله آية دالة على خالقه، وكان أكثر العلماء اكتشافاً لقوانين الكون وأكثرهم إدراكاً للعلاقات أشدهم خشية لخالق هذا الكون. هذه نقطة تحتاج إلى بسط وتفصيل أحسب أن له مجالاً آخر، ولكن أردنا أن ننبه هنا إلى السقوط الذي وقعت فيه الكنيسة بفرض آرائها على العلماء ودعوى احتكارها تفسير الظواهر الكونية، ووجوب الخضوع لتفسيراتها وقبول آرائها في تفسيرهم للظواهر الطبيعية، وترتب على ذلك ميلاد حركة التنوير الرافضة للكنيسة ولآرائها، معلنة أن ما يدعيه رجال الكنيسة باطل لاحق فيه، جهل لا يسنده علم، خرافة لا يقبلها العقل.
ولما كان رجال الكنيسة هم الممثلون للدين. فقد فتش العلماء فيما يطالبهم رجال الكنيسة الإيمان به والاعتقاد بصحته، فوجدوا أن هذه الآراء، وتلك التفسيرات، خرافة لا يقرها العقل، وجهل لا يقبله العلم، وظلام وتخلف لا يثبت أمام النقد ومنطق العلم، فأعلنوا ثورتهم على هذه الآراء وتلك الخرافات التي ارتبطت في أذهانهم بالكنيسة ورجالها.(16/6)
وبدأت قصة هذا الصراع المرير بين الكنيسة والعلماء منذ أيام كوبرنيق ، الذي أعلن عن آرائه في الطبيعيات والفلك ومركز الكون، وكلها على نقيض ما يدعيه رجال الكنيسة، وانسحب ذلك الموقف بكامله على الدين بمفهومه العام.
لم ينتبه العلماء إلى ضرورة التفرقة بين رأي رجال الكنيسة والدين الصحيح في مفهومه العام. وصار الدين عندهم -كما عرفوه من رجال الكنيسة- تجسيداً للتخلف والجهل والخرافة. وأصبح رجل الدين رمزاً لكل هذه المعاني. فهو داعية للجهل. محارب للعقل. رافض للعلم، ولا شك عندي - أن هذه الكوكبة من العلماء التي عاشت هذه المعركة كان ينقصها العلم بالدين الصحيح، الذي نزل على عيسى عليه السلام، فضلاً عن جهلهم التام بالإسلام واحتضانه للعلم، وتكريمه للعلماء، ولا شك عندي أيضاً أن رجال الكنيسة الذين أعلنوا هذه الحرب التاريخية على العلم والعلماء قد أساءوا إلى المسيحية، وأفسدوا بموقفهم هذا حركة التاريخ المعاصر. فلا انتصروا لدينهم، ولا حققوا النصر على عدوهم، بل كانوا بموقفهم هذا الباب الطبيعي الذي فتح على مصراعيه لدعاة الإلحاد والثورة على الكنيسة والدين معاً، حيث صوروا الموقف على أنه صراع بين الدين والعلم، وليس بين رجال الكنيسة والعلماء بين العقل والخرافة، بين النور والظلام بين التقدم والتخلف، وكان مفهوم التنوير يعني التحصن بمنطق العلم والعقلانية، ضد هذا الدين ورجاله، الذين يمثلون الجهل والخرافة، فكان لابد أن ينتصر العلم في مواجهة الجهل، وينتصر العقل في مواجهة الخرافة، والتقدم في مواجهة التخلف.(16/7)
وكان مصطلح التنوير هو المعبر عن نتيجة هذه المعركة التي حسمها التاريخ والواقع لصالح العلم والعقل والنور ضد الكنيسة وآرائها، ولقد صورت المعركة كلها على أنها صراع بين الدين، بمعناه العام، وكل معاني التنوير التي هي العقلانية والتقدم، وانتقلت المعركة بكل ملابساتها وظروفها إلى عالمنا العربي بدون أن يفطن دعاة التنوير في عالمنا العربي إلى أن الإسلام ليس هو الكنيسة، ولا عالمنا العربي هو أوروبا، ولا الحضارة الإسلامية هي الحضارة الأوروبية في عصورها المظلمة، فليس الدين عندنا رافضاً للعلم، ولا محارباً للعقل.
وأخذ دعاة التنوير عندنا يصورون المعركة في بلادنا على أنها صراع بين الإسلام والعلم، بين الدين والعقل، بين ضرورة التخلص من الماضي، والنهوض بالمستقبل، وكان النموذج الغربي في نظرهم هو المثل والقدوة التي ينبغي أن نحذو حذوها، ونسير في ركابها ، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلناه معهم.
وأصبحت الثنائية التناقضية بين الدين والعلم عنواناً لحركة التنوير، وملازمة لها في بلادنا، فكما رفض العلماء في أوروبا الكنيسة، وأعلنوا الحرب عليها، دليلاً على التنوير ، أخذ دعاة التنوير عندنا بنفس المبدأ، فأعلنوا الحرب على الإسلام ورجاله، لكي يعلنوا عن أنفسهم أنهم تنويريون ودعاة التنوير، وكما أعلن العلماء في الغرب أن الدين -الكنيسة- خرافة، ورجاله رموز للجهل، أخذ دعاة التنوير في بلادنا يلصقون نفس التهم بالإسلام ورجاله، ولو أنصف هؤلاء الدعاة إلى التنوير لبدأوا دعوتهم من حيث بدأ الإسلام، الذي يجعل العلم ديناً وفريضة، ويجعل حاكم العقل في عالم الشهادة ميزاناً لا يخطئ، ولو أنصفوا لفرقوا بين الإسلام والكنيسة، وبين الشرق والغرب ) .
تنبيهان :
1- مقال مناسب لهذا الموضوع ، عنوانه : ( يا بني علمان .. ماقولكم في اليابان ؟ )(16/8)
2- مدعو التنوير لدينا ، لن تجدهم - جميعًا - يواجهون الإسلام " بصراحة " ، كما فعل قدواتهم في الغرب ؛ لعلمهم بخطورة هذا وحساسيته ، لذا لجأ معظمهم إلى محاولة هدمه من الداخل ؛ بفكرتهم الماكرة : " تاريخية النص " ، التي تُعطل نصوص الكتاب والسنة ، وتُفرغها من محتواها الحقيقي ، والوصول لهدفهم بهذا الالتفاف . ( وتوضيح هذا في محاضرة للشيخ محمد المنجد " الفهم الجديد للنصوص " ، التي سينشرها موقع الألوكة بعد أيام – إن شاء الله - ) . والله الهادي ...(16/9)
ثقافة التلبيس ( 16 ) : تعظيم الفلسفة والمطالبة بتدريسها
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الأستاذ عبدالله المطيري – هداه الله – وهو أحد الصحفيين المنكفئين على كتب الفلسفة ، يقول : (لا يزال الفكر الفلسفي بعيدا عن التأثير ، ولا يحظى بمشروعية واعتراف داخل المنظومة الفكرية المسيطرة ، بل إنه، أكثر من ذلك، يواجه إقصاء حادًا ورفضًا مسبقًا ، وتُشن على متبني هذا الفكر الحروب المتتالية ..- إلى أن يقول - المشكلة العميقة في ثقافتنا هذه أن مصادر المعرفة التي يستقي منها الناس عادة معارفهم لا تحتوي مصدر العقل بمعناه الواسع والشامل والفاعل ! – إلى أن يختم - إذن تبدو الحاجة إلى الفلسفة اليوم أشد من أي وقت آخر ) .
وقبل أيام نُشر خبر يقول : ( ضمن الفعاليات التي يحتويها نادي الرياض الأدبي، اعتمد النادي تأسيس قسم "للحلقة الفلسفية" حيث تنعقد جلسات بشكل دوري لمناقشة مفاهيم وأبحاث وإصدارات فلسفية، وهي ندوة دورية تتم داخل النادي الأدبي بأعضائها التأسيسيين، وتعتبر هذه الحلقة الدورية أول نشاط فلسفي رسمي في السعودية، حيث تُستبعد "الفلسفة" من المناهج التعليمية، بما فيها التعليم العالي، وتقتصر المناهج على التحذير من الفلسفة، كما تدرس آراء تكفّر الفلاسفة مثل آراء ابن تيمية عن ابن عربي والغزالي عن ابن رشد .. يشار إلى أن الحلقة الفلسفية بدأت أنشطتها بورش حوارية " مغلقة " ) !(17/1)
تذكرت حين قرأت ما سبق مقولة واحد من أذكياء العالم ، قالها بعد أن خبر حقيقة الفلسفة ، وحقيقة معظميها – أعني أبا حامدٍ الغزالي - في مقدمة رسالته الشهيرة " تهافت الفلاسفة " ( ص 26-28) ، حيث قال : ( أما بعد فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء بمزيد الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين: من وظائف الصلوات، والتوقي عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عند توقيفاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين بفنون من الظنون، يتبعون فيها رهطاً يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون، ولا مستند لكفرهم غير تقليد سماعي إلفي ؛ كتقليد اليهود والنصارى، إذا جرى على غير دين الإسلام نشؤهم وأولادهم، وعليه درج آباؤهم وأجدادهم، ولا غيرُ بحث نظري صادر عن التعثر بأذيال الشُبه، الصارفة عن صَوب الصواب، والانخداع بالخيالات المزخرفة كلامع السراب، كما اتفق لطوائف من النظّار في البحث عن العقائد والآراء، من أهل البدع والأهواء.
وإنما مصدر كفرهم سماعهم أسماء هائلة، كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأمثالهم، وإطناب طوائف من متبعيهم وضُلالهم في وصف عقولهم، وحسن أصولهم، ودقة علومهم الهندسية والمنطقية والطبيعية والإلهية، واستبدادهم -لفرط الذكاء والفطنة- باستخراج تلك الأمور الخفية، وحكايتهم عنهم أنهم مع رزانة عقولهم وغزارة فضلهم منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل، ومعتقدون أنها نواميس مؤلفة ، وحيل مزخرفة.(17/2)
فلما قرع ذلك سمعهم، ووافق ما حكي من عقائدهم طبعهم، تجملوا باعتقاد الكفر تحيزاً إلى غمار الفضلاء بزعمهم، وانخراطاً في سلكهم ، وترفعاً عن مسايرة الجماهير والدهماء، واستنكافاً من القناعة بأديان الآباء، ظناً بأن إظهار التكايس في النزوع عن تقليد الحق بالشروع في تقليد الباطل جمال، وغفلة منهم عن أن الانتقال إلى تقليدٍ عن تقليدٍ خرقٌ وخبال. فأية رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق المعتقد تقليداً بالتسارع إلى قبول الباطل تصديقاً ، دون أن يقبله خبراً وتحقيقاً ! والبله من العوام بمعزل عن فضيحة هذه المهواة، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانةٍٍ بتراء ، والعمى أقرب إلى السلامة من بصيرةٍ حولاء ) .
قلت : هذه هي الحقيقة – وإن كانت مرّة عند البعض - ، فلم يجنِ العالم الإسلامي - بل العالم كله - من الفلسفة والتفلسف سوى المزيد من النزاعات والحيرة والتشكيكات ؛ لأنها أقحمت نفسها في جوانب كثيرة من مسائلها في مجال ليس مجالها ، مجالٍ لا يمكن التعرف عليه عن غير طريق الوحي الإلهي ؛ ولهذا ضلت وأضلت ، وقد قال تعالى منبهًا أهل الإسلام أن لا يتبعوا أثرهم : { ولا تقفُ ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } .
ولم يتقحم " قلة " من شبابنا هذا الطريق - للأسف - إلا محبة للتفرد والتميز على أقرانهم ، وامتثالا لمقولة " وإني لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل " .. وللأسف أن يكون هذا على حساب دين المرء وعقيدته . فليتقِ الله هؤلاء أن يكونوا ممن قال الله عنهم : ( ليحملوا أوزارهم وأوزارًا من أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء مايزرون ) .. وليُسخروا كتاباتهم وجهودهم – إن كان عندهم شيئ من حب التميز والتفرد – فيما ينفع الأمة ؛ من مجالات العلم المفيد : الرياضي والطبي والتقني ... الخ ، فهذا خيرٌ لهم في الدنيا والأخرى .(17/3)
ولبيان أن الفلسفة حشرت نفسها في أمور لا تُعرف إلا بالوحي ، يُقال :
- أهم مباحث الفلسفة – كما يقول الدكتور عرفان عبدالحميد فتاح في رسالته " المدخل إلى معاني الفلسفة " ( ص 2734باختصار ) :
( أولاً: مباحث الوجود "الميتافيزيقا" – الانطولوجيا :حيث يبحث الفيلسوف في أصل العالم وصفة هذا الأصل وعدده: هل الأصل المنشئ للموجودات عنصر واحد "المذاهب الواحدية" ، أم عنصران "المذاهب الثنائية" ، أم متعددة وكثيرة مذاهب التعدد؟
وما طبيعة هذا العنصر أو العناصر التي تقوّم بها الأشياء، أهو مادي خالص فلا شيء في الوجود غير المادة، وأن الحركة والحياة، وغيرهما مما يظن البعض أنها تشهد بوجود النفس أو الروح ليست في الحقيقة إلا وظيفة من وظائف المادة التي تتميز بطبيعتها بالتنوع والحركة والقوة والتفكير " المذهب العقلي " ، أم روحي خالص " المذهب الروحي" ؟
وهل هذه المادة الجوهرية المنشئة للأشياء قديمة أزلية أبدية فلا شيء يكون عن عدم، ولا شيء مما هو موجود ينتهي إلى العدم " المذهب الإلحادي "، فيمتنع القول بالخلق والحدوث ، بل وبالخالق المبدع المصور للأشياء أيضاً ؟ أم أن الموجودات سواء كانت من طبيعة مادية أو عقلية أو روحية لها بداية في الزمان، فهي مخلوقة حادثة خلقتها إرادة عليها، تعلم ما تفعل وتخلق ما تشاء " مذهب التأليه" ؟
وهل الموجودات في تغير متصل وسيلان دائم، يستحيل معه الدوام المطلق والمؤقت والنسبي، أم أن الأشياء والموجودات: واحد، كل ثابت، وأن التغير عرضي فيها.
وإذا كان العالم مخلوقاً لله: فما صلة الإله الخالق بالعالم المخلوق؟ هل خلقه وركز فيه قوانينه ثم تركه وشأنه .. الخ .(17/4)
ثانياً: مباحث المعرفة " الابستمولوجيا :ينصرف الفلاسفة في هذا المبحث إلى دراسة: المعرفة الإنسانية وهل هي ممكنة؟ أم ممتنعة. وإذا كانت ممكنة، فما حدود هذه المعرفة، أهي احتمالية ترجيحية، أم يقينية ومطلقة، وما وسائل اكتسابها، وما طبيعتها. وإذا كانت المعرفة ممكنة. فما مصدرها وما طبيعتها ووسيلة اكتسابها: أهي معارف مصدرها العقل الذي فيه مبادئ فطرية موروثة لم تشتق من تجربة، أم أن المعارف مصدرها الحس، أم أن مصادر المعرفة هي الحس والعقل معاً، أم أن مصدر المعرفة اليقينية لا الحس ولا العقل وإنما : الذوق الباطني والتجربة الروحية، والكشف والإلهام والبصيرة؟!
ثالثاً: مباحث القيم " الأكسيولوجيا :وفيها ينصرف الفكر إلى دراسة القيم الأخلاقية ؛ مثل : الحق والخير والجمال ، وهل هذه القيم: مبادئ ومثل مجردة، عامة غير مشخصة؛ تتجاوز الزمان والمكان؛ ومن ثم فهي: أزلية أبدية متغيرة؟ أم أن ما يسمى بالقيم المطلقة، ليست إلا عوائد وضعية، وعادات اجتماعية وانفعالات شخصية ومشاعر ذاتية ووجدانية فردية؟ وإذا كانت ثمة قيمة مطلقة، فهل هي "عينية موضوعية" ؛ بمعنى أن لها وجوداً مستقلاً عن العقل الذي يدركها؛ وأن الأشياء والموجودات لها صفات ذاتية لازمة لها، وأن مهمة العقل الكشف عنها بالرؤية المباشرة وبالحدس، أم أن هذه القيم ليس إلا معان تتبع الإرادة الإلهية فالحُسْنُ ما أمر به الله وأراده، والقبح ما نهى عنه الله ولم يرده ؛ لأن العقل عاجز عن إدراك ذلك لنفسه وبنفسه ؟ ) .(17/5)
قلت : وكل هذه المباحث الثلاثة وتفصيلاتها السابقة ، إما : قد كفانا الشرع مؤنتها ؛ فوضحها وبينها ، أو : لم يُكلفنا تطلب بعضها ، والخوض فيها ؛ لسببين : الأول : أنه غير مجدٍ ولا موصلٍ لنتيجة - كما سبق - ، بل ستظل العقول تتخالف وتتضارب فيه دائمًا وأبدًا ؛ لأنها حشرت نفسها في أمر قد حُجب عنها ، وفي خاتمة أمرها ستكون كما قال القائل : يُحللون بزعم منهمو عُقَدًا .. وبالذي وضعوه زادت العُقَدُ . السبب الثاني : أن الأولى والأجدى والأوجب أن تخوض العقول في عالم الشهادة ؛ تعتبر به ، وتكتشفه ، وتُبدع من خلاله ماينفعها في دينها ودنياها .
جنايات الفلسفة :
يقول الدكتور عبدالقادر الغامدي : ( قد عُلم وتبين أن الأوروبيين لم يتقدموا في الصناعة والعلوم التقنية ونحوها، المعاصرة إلا لما تخلوا عن فكر اليونانيين ، وخاصة منطق أرسطو، وما قام المنطق الحديث عند الأوروبيين إلا على أنقاض ذلك، يقول بوشنسكي: " الفلسفة الأوروبية الحديثة أهملت المنطق الصوري إهمالاً كبيراً، حتى لقد سقط في زاوية النسيان المهين " . وقد هاجم المنطق الأرسطي كبارُ الفلاسفة الأوروبيين المحدثين والمعاصرين الذين قدموا شيئاً في مجال العلوم الدنيوية هجوماً عنيفاً.
فقد ثار فرانسيس بيكون –أبو الحضارة الأوروبية- ضد تراثهم، وكان يرى ومن وافقه أن فكر اليونانيين هو سبب جمود العلم، لذلك كان مشروعه العلمي الذي سماه "الإحياء العظيم " في جانب كبير منه " الأورجانون الجديد " يعارض فيه منهج اليونانيين". وقال واصفاً جميع اليونانيين أنهم: "يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب ( المثمر ) بحيث كانت حكمتهم لفظية لا تثمر أية نتائج". ويقول في وصف دقيق ومشهور لفلسفة أفلاطون: "حديث عجائز عاطلين إلى شبان جاهلين" . ويرى أن هذا الوصف ينطبق على جميع الفلاسفة اليونانيين المتأخرين ) . ( عبدالرحمن بدوي ومذهبه الفلسفي .. ، ص 86-88) .(17/6)
الإسلام أطلق العقول في النافع .. وفطمها عن غير النافع ، لكن الفلاسفة وأتباعهم عكسوا الأمر :
يقول الدكتور محمد الصوياني عن الإسلام : ( في الشأن العقدي: أعيد التوحيد نقياً ، وتم نفي الصفات البشرية عن الله ؛ كالزوجة والابن والبنت والولادة.
في الجانب العبادي: جعل العبادة كلها محرمة ما لم يكن مصدرها الكتاب والسنة، وبذلك أنشئت سياج بالغة القوة للإبقاء على نقاء العبادات، والاحتفاظ بالنسخ الأصلية لكل عبادة ؛ كنتيجة للاحتفاظ بالنسخة الأصلية للقرآن والسنة.
في الجانب الدنيوي: أُطلق يد الإنسان في هذا الكون ليبتكر ويبدع ويعمر ويصنع ويخترع ويكتشف، تحت القاعدة التي غيرت وجه الكون، وأطلقت أوروبا من ظلمتها، تلك القاعدة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وبالآيات التي تحث على العلم التجريبي عند الجاهلية والمسيحية ) . ( العقل العربي ، ص 493 ) .
ويقول الدكتور سليمان دنيا – رحمه الله – " وهو خبير بالفلسفة " : ( ومما هو جدير بالاعتبار أن الدين قد قصر أمر الاعتقاد على : معرفة مصير الإنسان، وهو البعث والحياة والآخرة. والطريق التي حملت هذه المعرفة إليه، وهو الأنبياء والكتب والملائكة. والمصدر الذي بعث إليه بهذه المعرفة، وهو الله سبحانه وتعالى، وقصر أمر الشريعة على ما به صيانة الدماء والأرواح، والعقول والأعراض، والأموال"، ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) .
أما الكون -فيما عدا ذلك- بمجالاته الفسيحة: من فلك، وطب، ورياضيات، وعلوم أحياء، وعلم طبقات الأرض، وعلم الذرة، وعلم الفضاء، والإشعاعات الكونية، وغيرها، وغيرها، فهي كلها حق للإنسان يمارسها بكل ما يملك من حرية.(17/7)
وإذا كان للدين شيء يقوله بصددها فهو الحث على طلبها، والتشجيع على معرفتها؛ فقد رفع الإسلام شأن العالم إلى مدى تنحط دونه جميع الشئون ؛ ( قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون ) . ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط ) . ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) .
نعم لم يكن شأن الإسلام في هذه الناحية شأن الكنيسة التي ادعت علم كل شيء، وحق احتكار العلم بكل شيء.
إن الإسلام ترك للناس كل شيء، وحثهم على معرفة كل شيء، لأن العلم بالكون طريق إلى العلم بخالقه، وكلما كانت المعرفة بالخلق أتم وأكمل، كانت المعرفة بالخالق أتم وأكمل كذلك.
وسنرى فيما بعد أن العلم والدين أخوان متضامنان، لا عدوان متخاصمان ) . ( التفكير الفلسفي في الإسلام ، ص 245-246) .
قلت: ولهذا ؛ عقد ابن خلدون فصلا في مقدمته عنونه بـ " في إبطال الفلسفة وفساد منتحليها " .يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري : " إن ابن خلدون ، لرسوخ إيمانه الديني الأصولي ، قد هاجم الفلاسفة الميتافيزيقيين في الإسلام ؛ كالفارابي و ابن سينا ، واتفق مع الإمام الحافظ حجة الإسلام الغزالي في تخطئة الفلسفة التي تتعاطى بما وراء الوجود ، وبالميتافيزيقيا وبالغيبيات ، باعتبار أن هذه الأمور من اختصاص الدين لا من اختصاص العقل . أما العقل فمجاله الطبيعي دراسة التاريخ ، وعلم الاجتماع ، وعلوم المنطق والرياضيات ، والفيزياء ، أي باختصار : العلوم العلمية الداخلة في نطاق التجربة الإنسانية ، وقدرات العقل الإنساني " . ( لقاء التاريخ بالعصر ، ص 119 ) .
فصلٌ بديع عن أضرار الفلسفة وأهلها على الأمة :
وأختم بفصل بديع خطه قلم الشيخ عائض الدوسري في كتابه " هكذا تحدث ابن تيمية " ( ص ) ، قال فيه :(17/8)
( نعى ابن تيمية على الفلاسفة ومَن تابعهم من رُوَّاد المدارس الكلامية والعقلية إعمالهم العقل كأصل في هذا العالم الغيبي؛ إذ إنَّ هذا العالم غيب وغير مشهود، والعقل ليس من وظيفته الصعود إلى هذا العالم؛ إذ هو عالم موقوف على نزول الوحي، فأسماء الله وصفاته وسائر أمور الغيب توقيفية، ودور العقل فيها التلقي والفهم والاستيعاب، ثم العمل.
لكن الفلاسفة ومن تابعهم راموا الوصول لعالم الغيب بعقولهم المجردة، فضَلُّوا وأضَلُّوا، وأضاعوا أوقات الأمة وجهودها، وعطلوا عقولها الذكية في تسطير الأوهام، فكتبت آلاف الكتب في الفلسفة وعلم الكلام والمنطق، وعشرات الآلاف من الشروح، وتناظر الناس وتصارعوا فيما دخل عليهم منها.
وضاعت على الأمة مئات السنين وعقلها مخدر في تلك الأوراق الصفراء، تعيد وتكرر في كلام أرسطو وأفلاطون في الإلهيات، وفي الماهية والذات، والوجود والعدم، فعطل عقل الأمة عن مسرحه الحقيقي، ونقل إلى مكان ليس له إطلاقًا، فضاع العقل وضاع الدين!
يقول ابن خلدون عن الفلسفة: تصفحها كثير من أهل الملة، وأخذ من مذهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها.
ولو أن تلك الجهود الجبارة والعقول الذكية وُجِّهت إلى دراسة الهندسة والرياضيات والطب ونحوها، لعاد ذلك على الأمة بخير كبير ومنفعة عظيمة، تعود على الأمة بخير في دنياها، ولا تمس دينها بشيء؛ لأن تلك العلوم يقينية.
يقول ابن تيمية: إنَّ علم الحساب الذي هو علم بالكمِّ المنفصل، والهندسة التي هي علم بالكمِّ المتصل، علم يقيني لا يحتمل النقيض ألبتة.(17/9)
وفي المقابل يقول عن الفلسفة : " وأساطين الفلسفة يزعمون أنَّهم لا يصلون فيه – العلم الإلهي- إلى اليقين، وإنَّما يتكلمون فيه بالأولى والأحرى والأخلق، وأكثر الفضلاء العارفين بالكلام والفلسفة، بل وبالتصوف الذين لم يحققوا ما جاء به الرسول تجدهم فيه حيارى " . ومن يتأمل حقيقة الفلسفة اليونانية التي هي مصدر علوم فلاسفة الإسلام، يجد مدى تفاهة ما وصلت له في الإلهيات، فهؤلاء اليونان يعتقدون أنَّ الأفلاك آلهة تتصارع في السماء، وتلك مرحلة وثنية بدائية هي أقرب للأساطير – ميثولوجيا - منها للعقل، فما كان يدور فيها من خرافات وأساطير الأورفية، والإلياذة، والأديسا ونحوها، يدل على ذلك بوضوح تام.
ولم تختلف المدارس الفلسفية اليونانية (700 ق. م - 150م ) التي يزعم أنَّها فلسفية عن تلك الروايات والأساطير، فما اعتقده طاليس الملقب بأبي الفلسفة، وتلاميذه: انكسمدريس، وانكسمنس، وديمقريطس، وما ذهب إليه رواد المدرسة الفيثاغورسية اليونانية، ورواد المدرسة الإليائية: زينون، واكسانوفان، ورواد المدرسة الأيونية: هيروقليطس، وغيرهم في الإلهيات ليس إلا وثنية وخرافات.
وما ذهب إليه أفلاطون، وإن كانت مدرسته أقل خرافة ممن سبقها، إلا أنَّها لا تختلف كثيرًا في الإلهيات عمن سبقها، فنظرية (المُثل) و( العقول ) وغيرها ليست إلا خرافات وثنية.
صحيح أنَّه حصل التطور الكبير في الفلسفة اليونانية، وخاصة في الجانب الطبيعي على يد أرسطو الذي برع في الرياضيات إلى جانب براعته في المنطق والفلسفة، لكنه لم يختلف في تصوراته في الإلهيات عن تصورات قومه اليونان.(17/10)
والتصور الفلسفي اليوناني للعقل تصور في قمة السذاجة؛ حيث إنَّهم اعتقدوا أنَّ العقل كائن مستقل، أي: ليس حالة ذهنية مجردة، وإنما جوهر مستقل بذاته، حتى وصل بهم الأمر إلى اعتقاد أنَّ العقل الجوهر ليس إلَّا إله، ولذلك ذهب أرسطو إلى أنَّ كينونة الله هي عبارة عن ثلاثية الأبعاد: عقل، عاقل، معقول.
هذا التصور (الميثولوجي) كان موجودًا في الروايات (الأورفية) قبل وجود المدارس الفلسفية اليونانية؛ حيث كان اليونان يعتقدون أنَّ الأفلاك والنجوم والأجرام السماوية (آلهة) تُدَبِّر الكون، فالشمس، والقمر، والزهرة، وعطارد ... إلخ، ليست سوى آلهة يونانية مكونة من قسمين: هيكل الأفلاك، وعقولها.
ولذلك تطور هذا الفكر الخرافي منذ ذلك الزمن، ومرورًا بأرسطو، حتى وصل إلى الفيلسوف الغنوصي أفلوطين، الذي طوَّر نظرية (الفيض الإلهي)، وصاغها في نظريته (العقول العشرة)، أي: الأفلاك وعقولها، وأنَّها هي التي تدبر العالم، وأنَّ الله تعالى أوكل لها تنظيم العالم وتدبيره، وأما الله – تعالى عما يقولون - فقد جلس في برجه العاجي بعيدًا عن أحداث العالم، تاركًا أمر تصريف الكون الفسيح لهذه العقول (الأفلاك)، وأصبح فلك (القمر) هو المسؤول عن تدبير أمر العالم السفلي (الأرض) وما حولها.
هذه النظرية الخرافية تلقفها فلاسفة العالم الإسلامي ؛ كالفارابي وابن سينا، وفسَّروا بها (النبوة) على أنَّها قوة قُدسيَّة تستخدم قوة التخييل والقوى النفسانية لتلقي المعلومات عبر عملية (الفيض) اللاإرادي من العقول العشرة، ولذلك ذهب الفارابي وابن سينا إلى أنَّ الفيلسوف أفضل من النبي؛ لأنَّ النبي معلوماته قائمة على قوة التخييل، أما الفيلسوف فقائمة على القوة العقلية، وهذا خير دليل على الحصاد المر للفلسفات الوثنية التي توصف بأنَّها عقلية يعارض بها النقل وتقدم عليه.(17/11)
يقول ابن تيمية: فلسفة القدماء، فإنَّ فيها من التقصير والجهل في العلوم الإلهية ما لا يخفى على أحدٍ. وبيَّن ابن تيمية أنَّ العقلاء الذين خبروا كلام أرسطو وغيره من الفلاسفة في العلم الإلهي؛ علموا أنَّهم من أقلِّ الناس نصيبًا في معرفة العلم الإلهي، وأنَّهم أكثر الناس اضطرابًا وضلالًا، وكلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب.
ويقول ابن تيمية مبينًا حال الفلاسفة الذين استقوا دينهم من تلك الفلسفات:إنَّ الله قد أرسل رُسُله بالحقِّ، وخلق عباده على الفطرة، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رُسُله وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه ولم يتناقض، لكن هؤلاء – أي: الفلاسفة وأهل الكلام - أفسدوا فطرتهم العقلية، وشِرعتهم السمعية، بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق.
وإذا كان العقل ليس مكانه عالم الغيب، إذ دوره محصور في هذا العالم بالتلقي والفهم والعمل بما ينزل به الوحي؛ لأنَّ الله – سبحانه وتعالى - قد تكفل ببيان دينه، وتيسير شريعته لكل مدَّكِرٍ، وقد جاء الأنبياء بالدين أبيضًا ونقيًّا وسهلًا واضحًا لعموم الناس.ولذا فلا حاجة للبشر لأن يُضيعوا أوقاتهم وأعمارهم وعقولهم في تقصي حقائق الغيب من طريق غير طريق الوحي، الذي هو المعين الصافي.
وما ضل من ضل في الأمة إلا حينما صرف عقله من محله الصحيح إلى غير محله - أي: من عالم الشهادة إلى عالم الغيب - فبدلًا من أن تذهب الجهود وتوجه العقول الذكية لعالم الطبيعة وعلومها: كالهندسة، والرياضيات، والطب، والعمران ونحوها مما ينفع الأمة، وُجِّهت العقول الذكية للفلسفة والمنطق بحثًا عن الله، وعن صفاته وحقيقته.
فلا الحياة عُمِّرت، ولا الدين حُفِظ وصِين من عبث العابثين، بل زاد فيه العبث والتحريف والأوهام، ونشبت الخلافات والصراعات الدينية بين أبناء الأمة الإسلامية، وسالت الدماء، وقُتلت الأنفس، ولم يهتد هؤلاء إلى الحق، ولا ذاقوا برد اليقين.(17/12)
يقول ابن تيمية: وهكذا كل من أمعن في معرفة هذه الكلاميات والفلسفيات التي تعارض بها النصوص من غير معرفة تامة بالنصوص ولوازمها، وكمال المعرفة بما فيها، وبالأقوال التي تنافيها؛ فإنَّه لا يصل إلى يقين يطمئن إليه، وإنَّما تفيده الشك والحيرة، بل هؤلاء الحذَّاق الذين يدَّعون أنَّ النصوص عارضها من معقولاتهم ما يجب تقديمه؛ تجدهم حيارى في أصول مسائل الإلهيات، حتى مسألة وجود الرب تعالى وحقيقته، حاروا فيها حيرة أوجبت أن يتناقض هذا كتناقض الرازي، وأن يتوقف هذا كتوقف الآمدي.
ويُبيِّن شيخ الإسلام أنَّ أرباب العقول والمناهج الفلسفية هم من أكثر الناس حيرةً وضلالًا واضطرابًا، فهذا ابن واصل الحموي أفضل أهل زمانه في المنطق والفلسفة والكلام، يقول: أضطجع على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي، وأُقابل بين أدلة هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي شيء.
ثم يُعلق شيخ الإسلام عليه منبهًا ومشيرًا إلى اشتغاله فيما بعد فيما فيه فائدة له، قائلًا: ولهذا انتهى أمره إلى كثرة النظر في الهيئة – العمارة والهندسة - لكونه تبين له فيه من العلم ما لم يتبين له في العلوم الإلهية.
ثم يُبيّن الفرق بين إنتاج الفلاسفة العقلي وإنتاجهم الطبيعي، موضحًا أنَّ إنتاج الفلاسفة الطبيعي كالطب والهندسة والرياضيات جيِّد وصحيح، بخلاف إنتاجهم في الجانب المِيتَافِيزِيقِي الذي يزعمون أنَّه عقلي.
يقول ابن تيمية: فإنَّ الفلاسفة كلامهم في الإلهيات والكليات العقلية كلام قاصرٌ جدًّا، وفيه تخليطٌ كثيرٌ، إنَّما يتكلمون جيدًا في الأمور الحسية الطبيعية وفي كلياتها، فكلامهم فيها في الغالب جيِّد.(17/13)
وبيَّن ابن تيمية أنَّ العقلاء الذين خُبِّروا مذاهب الفلاسفة في العلم، يعلمون أنَّهم أقل نصيبًا في معرفة العلم الإلهي، وأنَّهم أكثر الناس اضطرابًا وضلالًا، أمَّا كلامهم في الحساب والعدد والرياضيات فغلطهم في ذلك قليل نادر، وكلامهم في الطبيعيات غالبه جيِّد.
فلو وُجِّهت عقول الأمة – قديمًا وحديثًا - إلى الإبداع في العالم الطبيعي، والاتباع في العالم الغيبي لكان لها اليوم شأن آخر غير الذي هي عليه الآن، لكنها – وللأسف الشديد - غلب على عقولها الذكية الابتداع في العالم الغيبي ، والاتباع في العالم الطبيعي، وأهدرت العقول والكتب في مؤلفات الفلسفة وعلم الكلام والمنطق وشروحه وحواشيه وتعليقاته، فصارت العقيدة صعبة المنال، وخاصَّة بِقِلِّةٍِ قليلة من أهل فنون المنطق والكلام ) . انتهى .
أسأل الله أن يهدي شباب المسلمين إلى ما فيه الخير لهم ولأمتهم ، وأن يصرفهم عن تضييع وتكرار الجهود فيما يضر ولا ينفع ، وأن يوفق القائمين على النوادي الفكرية والأدبية إلى ما يُحب ويرضى .
كتابان مهمان يتعلقان بالموضوع
1- موقف شيخ الإسلام من آرء الفلاسفة ، للدكتور صالح الغامدي - وفقه الله - .
2- جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية ؛ للدكتور محمد أحمد لوح - وفقه الله - . فقد عقد فصلا طويلا مهمًا ( ص 397 - 479 ) عن جناياتهم .
روابط مفيدة ، متعلقة بالمقال
موقف الغزالي من الفلاسفة
للأخ الشيخ : موسى بن محمد هجاد الزهراني - وفقه الله -
http://www.saaid.net/book/open.php?cat=89&book=1192
الأخطاء التاريخية و المنهجية في مؤلفات محمد أركون و محمد عابد الجابري: دراسة نقدية تحليلية هادفة ؛ للدكتور خالد كبير علال - وفقه الله - . وقد بين فيه أخطاء أرسطو
http://www.fustat.com/books/allal_5_8.doc
الرد على من عظم الفلاسفة الملاحدة
للشيخ سمير المالكي - وفقه الله -
http://www.saaid.net/Doat/samer/1.zip(17/14)
حكم دراسة الفلسفة
http://www.islamqa.com/ar/ref/88184
وللجنة الدائمة فتوى عن هذه المسألة ؛ يجدها القارئ في فتاواها : ( 2 / 40 ) .
الحلقات السابقة من " ثقافة التلبيس "
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/thkafa.htm
وأنقل أخيرًا : مقالا مهمًا للشيخ عبدالحليم محمود ، شيخ الأزهر - رحمه الله - عن الفلسفة ، نشره في مجلة البحوث الإسلامية قديمًا ؛ يحسن بالمهتمين الاطلاع عليه :
الفلسفة
عبد الحليم محمود
إن كثيرا من شبابنا الذين درسوا في الغرب قد فتن بالفلسفة ، كما فتن بها كثير من الذين تتلمذوا على كتب الغرب المترجمة إلى العربية ووصل الأمر إلى حد افتتان جامعاتنا في أقسامها النظرية بالفلسفة فدرسها الأساتذة في إعجاب وأيدوها .
واختلف الوضع الحاضر كثيرا عن نظرة أسلافنا إلى الفلسفة .
ولقد عارض الفلسفة جميع المحدثين وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل كما عارضها كثير من كبار المفكرين وعلى رأسهم الإمام ابن تيمية . ولقد كان للإمام ابن تيمية فضل كبير وأثر بالغ في بيان فساد علم المنطق الذي كان سائدا في الأوساط الإسلامية منذ أن كان " الكندي " و " الفارابي " و " ابن سينا " ، ولقد كتب الإمام ابن تيمية فيه كتبا من أنفس ما يكون وعلى الخصوص كتاب " الرد على المنطقيين " .
ولم يقتصر الإمام ابن تيمية على نقد المنطق وإنما عمل جهده على تسفيه كل فكرة منحرفة من أفكارهم ، ثم إنه من الذين بينوا في وضوح ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) . وكذلك فعل الإمام ابن حزم فقد نقد أيضا المنطق وتصدى لانحرافات الفلاسفة ، أما الكتاب الذي كان له أثر بالغ في انهيار الفكر الفلسفي فهو كتاب (تهافت الفلاسفة) وكلمة (تهافت) إنما تعني السقوط والانهيار والعنوان يعني إذن سقوط الفلاسفة وانهيارهم .(17/15)
وعلى سنة هؤلاء وعلى طريقهم سرت في هذا المقال مؤمنا بفكرة أسلافنا مقتنعا بها بعد دراسة فاحصة متأنية : فقد درست الفلسفة في أوربا ثم درستها فترة طويلة من الزمن وخرجت من كل ذلك مما خرج به أسلافنا- رضوان الله عليهم .
وإذا كان أسلافنا قد كتبوا عن الانحراف الفلسفي بأسلوبهم وعلى طريقتهم فلعله من الخير أن يتحدث الذين يسيرون على نهجهم إلى شبابنا بأسلوب ميسر بحيث يقنعهم بمنطق العصر الحاضر حتى لا يشق عليهم فهمه .
ومن أجل أن تستمر مسيرة أسلافنا في معارضة كل ما لا يلائم الجو الإسلامي كتبت هذا البحث وأرجو الله تعالى أن يهدي به وأن يهدي إليه وأن يكون عملا نافعا .
حينما نتحدث هنا عن الفلسفة فإنما نعني : البحث العقلي البحث في ما وراء الطبيعة وفي الأخلاق .
ونعني بما وراء الطبيعة : الإلهيات ، أو ما يسمى في عرف المتكلمين : العقائد .
ونعني بالأخلاق : معناها الشامل الذي يتضمن التشريع الذي يحرم المنكر ويردع الذين يفعلونه ، وقد يخالفنا هذا الباحث أو ذاك في هذا الذي نعنيه بالفلسفة ، ولكننا أحببنا أن نتفق والقارئ على اصطلاح محدود ، وفي إطار هذا الاصطلاح يسير بنا البحث .
يقول الأستاذ ( أندريه كرسن ) في كتابه : ( المشكلة الأخلاقية والفلسفية ) ما يلي : - " إن الفلسفة بمعناها الخاص قد دارت- ولا تزال تدور- حول طائفتين أساسيتين من المسائل :
(1) المسائل النظرية :
ما الكائن ؟
ما أصله ؟
ما المصير الذي ينتظره هو وما تفرع منه ؟
أفي طوق عقل الإنسان أن يضع حلولا لهذه المسائل ، أم أن ذلك في حكم المستحيل ؟
كل هاتيك المسائل تعتبر مسائل ميتافيزيقية ( ما وراء الطبيعة) .
(2) المسائل العلمية :
كيف يجب أن يكون مسلكنا في الحياة ؟
كيف نربي الناشئين تربية حسنة ؟
ماذا يجب لقيادة الدولة حتى تسير على النهج المستقيم ؟
كل هاتيك المسائل عليها تتوقف الأخلاق أو تستمد هي من الأخلاق .(17/16)
وهذا الذي ذكره الأستاذ أندريه كرسن هو رأينا الذي نسير على ضوئه في موضوعنا هذا .
إن كل من يتصفح تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام يجد مجموعة من كبار المفكرين بحثوا ، في تعمق ، الموضوعات الفلسفية هذه ، وانتجوا فيها انتاجا يتفاوت كما وكيفا بحسب شخصياتهم .
وبدأت هذه المجموعة بفيلسوف العرب : " أبو يعقوب الكندي ثم كان الفارابي وابن سينا وغيرهم .
ونتساءل الآن : لماذا كان المحدثون وكثير غيرهم خصوما للفلاسفة ؟
وما هي حكمتهم في ذلك ؟
إن موقفهم من الوضوح بمكان ، وذلك أن موضوع الفلسفة هو نفسه موضوع الدين . إن الدين : إلهيات وأخلاق تستند إلى الوحي ، والوحي معصوم ، والفلسفة إلهيات وأخلاق تستند إلى العقل ، والعقل يخطئ ويصيب ، وهو حينما يخطئ لا يعلم يقينا أنه أخطأ ، وحينما يصيب لا يعلم يقينا أنه أصاب .
ويقولون ، أو لسان حالهم يقول : " لقد ضمن الله لنا العصمة في الوحي ، ولم يضمن لنا العصمة في الآراء العقلية " .
وحينما أخذ المتفلسفون يترجمون كتب اليونان وغيرهم قال معارضو الفلسفة : " إذا كان ما عند اليونان في العقائد حقا فعندنا ما هو أحق منه وهو عقائد الإسلام ، لأنها بالأسلوب الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ونحن إذا في غنى عن عقائدهم . وإذا كان ما عندهم باطلا ؛ فنحن في غنى عن الباطل " ، وكذلك كان موقفهم من الأخلاق بمعناها العام : إن كانت أخلاق اليونان فاضلة فعندنا ما هو أفضل منها ولم تتم مكارم الأخلاق إلا في العهد الإسلامي . وإن كانت أخلاق اليونان فاسدة فنحن نعوذ بالله من كل فساد " .
وعارضوا الترجمة في الجانب الإلهي وعارضوها في الجانب الأخلاقي . . .
ولكنهم لم يعارضوها ، وإنما شجعوا عليها في جانب العلوم المادية : مثل الطبيعة ، والكيمياء والفلك . . وعارضوا التفلسف في الإلهيات والأخلاق بكل ما أتوا من قوة .(17/17)
ولكن التيار الفلسفي استمر في المجتمع الإسلامي ، وإذا كان قد تهافت في المشرق بتأثير الإمام الغزالي فإنه قد ازدهر في المغرب على لسان ابن ماجه وابن طفيل وابن رشد .
وكانت آمال وأماني فلاسفة الإسلام الوصول - عن طريق المحاولات العقلية المستمرة- إلى التوفيق بين الدين والفلسفة .
*والفلسفة في الإسلام إذن تحاول جاهدة أن تعلن في نوع من الدعاية المزخرفة أنها تتفق مع الدين فيما أتى به الدين ، وأنها لا تختلف عنه في مبادئها .
وعند كل فيلسوف في الإسلام وعند كل مؤرخ للفلسفة الإسلامية فقرات وفصول بعنوان التوفيق بين الدين والفلسفة سواء أكان هذا العنوان ظاهرا أم مستورا ، أنجحت الفلسفة في هذا أم أخفقت ؟ .
ومن أجل الإجابة على هذا السؤال نحب أن نتحدث أولا عن الجو الذي نشأت فيه الفلسفة .
إنها نشأت عند قدماء اليونان قبل الميلاد . وكانت اليونان فيما قبل الميلاد بقرون تدين بدين وثني : كانوا يؤمنون بمجموعة من الآلهة قابلة للزيادة عن طريق الزواج والتناسل . وهي آلهة تحب وتبغض وتتنازع وتتشاحن ، ويحاول بعضها أن يعتدي على الأعراض وعلى السلطان وهي في نزاع مستمر ، ثم هي تحابي من البشر من يقدم لها القرابين والأضاحي وتخذل من لم يفعل ذلك ، وكانت في مستواها الأخلاقي العام بعيدة عن الكمال والفضيلة وكان الإلف والتكرار والتعود يجعل هذا الوضع للآلهة وضعا عادية لا يثير نقدا ولا استنكارا .
بيد أنه نشأ في القرن الخامس والرابع والثالث قبل الميلاد في بلاد اليونان مجموعة كبيرة من المفكرين النابهين ، بل ومن العباقرة ، فكروا وتأملوا ونقدوا واستنكروا وانفصلوا عن الدين يعلنون ذلك في صخب أو في هدوء ، وفي كثير من الأحيان يسترون ذلك ويخفونه في نفوسهم ، ولكنهم على أي وضع كانوا ، ألفوا مذاهب آمنوا بها واعتقدوها : مذاهب بشرية لم تؤسس على وحي ولم ينزلها الله على لسان أنبيائه ورسله .(17/18)
ألفوا مذاهب تتصل بالله سبحانه وبالآخرة وبالسلوك الإنساني الذي يجب أن يلتزمه الإنسان .
إنها مذاهب مؤسسة على العقل : عنه تصدر ، ومنه تنبع ، وعليه تقوم إن العقل ينشئها ويسير معها خطوة فخطوة حتى يصل بها - في تدرج - إلى غايتها ، إنها مذاهب عقلية ، إنها مذاهب بشرية . إنها في المستوىالبشري .
وإذا كانت أسطورة الدين اليوناني هي التي دفعت هؤلاء المفكرين على ما أقدموا عليه فإن الأمر لم يكن كذلك فيما قبل .
كان الوضع فيما قبل : التفرقة بين مجالين من مجالي المعرفة :
1 - مجال المعرفة الحسية ، وهو مجال آلات المعرفة فيه الحواس ، وموضوعه المادة ، والعقل يجول فيه مستنبطا ومستنتجا ، فيؤلف فيه ويركب ويعيد تأليفه وتركيبه ، ويستخرج قوانينه وقواعده ، فتكون الحضارة ، ويكون العلم بمفهومه الغربي الحديث أو بمفهومه الكوني المادي : طبيعة وكيمياء وفلك .
2 - مجال المعرفة الروحية والأخلاقية ، وهو مجال ليست الحواس مصدره وليس العقل منشئه أو مبتدعه ، وإنما مرده إلى الوحي ينزله الله على ألسنة من يصطفيهم لحمل الرسالة من خلقه ، إنه من اختصاص الله تعالى يبينه على ألسنة رسله .
وسار الأمر على هذه الكيفية إلى العهد اليوناني القديم : فخاض الإنسان في مجال الحس - وهو اختصاصه - وخاض في مجال الروح بعقله ، وليس للعقل في مجال الغيب إلا محاولة الفهم ؛ إذ الإنشاء والابتداع في هذا المجال ليس للإنسان ، وليس من اختصاصه .
وجاءت المسيحية الصادقة الموحاة فردت الأمر إلى حالته الطبيعية : عالم الحس ، للإنسان أن يفكر فيه ويستنبط ، وعالم الروح يتفهمه الإنسان عن طريق الوحي .
ولكن التيار الفلسفي اليوناني- وقد أصبح سنة مألوفة - غزا الجو المسيحي وأخذ مكانته المرموقة بين المفكرين الغربيين فنشأ فيهم الفلاسفة ونشأت في أجوائهم الفلسفة .(17/19)
وأخذ فلاسفة الغرب يحاولون التوفيق بين المسيحية والفلسفة وكان أبرزهم في هذا المجال الفيلسوف ( توما الإكويني ) .
وإذا قرأت ( ديكارت ) تجده كأنه كان يمشي على الشوك وهو يتفلسف محاولا- ما استطاع إلى ذلك سبيلا- مداراة القساوسة وعلماء الدين والجو العام الفلسفي إذ يعلن ، في مجاملة بالغة ، أنه يؤيد الدين ولا ينحرف عنه وأنه يقدم إنتاجه ويعرضه على علماء الدين متقبلا ملاحظاتهم التي يوليها عنايته الفائقة ، كان هذا موقف ديكارت وغيره . .
*وكان الإسلام- من قبل ديكارت ومن قبل الإكويني - : يهدي للتي هي أقوم ، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ، ويقود الإنسانية نحو مرضاة الله تعالى ، ووضع الأمور في نصابها مبينا بأسلوب لا لبس فيه أن : العقيدة والأخلاق ونظام المجتمع والتشريع من أمر الله تعالى ، وقد شاء الله سبحانه أن يرسم للإنسانية طريقها المعصوم في كل ذلك فأرسل الرحمة المهداة ، خاتم النبيين - محمدا صلى الله عليه وسلم - : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا .
* ولكن الفلسفة اليونانية دخلت على استحياء في عهد المنصور ، وقوي جناحها في عهد المأمون ، وأصبح في الأمة الإسلامية فلاسفة .
والآن نتساءل : ما هي السمات العامة للفلسفة ؟
إنه لا يتأتى أن نحدد في صورة مقنعة موقف الإسلام من الفلسفة قبل تحديد سماتها العامة ، فما هي هذه السمات ؟(17/20)
وأول سمة من هذه السمات ، وهي أهمها ، وتعتبر كالمنبع الذي عنه تفيض السمات الأخرى- هي أن الفلسفة لا مقياس لها للتفرقة بين الحق والضلال ، بين الصواب والخطأ . فإذا اختلف فيلسوفان في أمر من أمور الفلسفة فإنهما لا يجدان مقياسا عقليا بحتا يرجعان إليه للحسم بينهما في موضوع الخلاف .
أما في العلم المادي فإن المقياس هو "التجربة" فإذا اختلف عالمان في أمر كوني رجعا إلى التجربة ، وهي تعلن في صراحة مشاهدة خطأ هذا وصواب ذاك .
ما هو ، في عالم الفلسفة ، الذي يجري مجرى التجربة في مجال العلم؟
لا شيء . . .
ما الذي يحسم الخلاف في عالم الفلسفة ؟
لا شيء . .
ما هو المرجع العقلي البحت من أجل الاتفاق في عالم الفلسفة ؟
لا مرجع .
ولقد شعر الفلاسفة بذلك : فقام اثنان من كبار عباقرة الفلسفة بمحاولة لإيجاد هذا المقياس ، وهما ( أرسطو ) في الماضي و ( ديكارت ) في العصور الحديثة .
ولقد أخفق كل منهما إخفاقا تاما كاملا .
ونبدأ الحديث عن أرسطو - ولا ننسى أننا في عالم الإلهيات : مجال الفلسفة الرئيسي - لقد فكر أرسطو وقدر ، ثم فكر وقدر ، وخرج على العالم بما يسمى ( المنطق الأرسطي ) أو ( المنطق الصوري) وأخذ هذا المنطق في عالم الفكر الفلسفي مجالا من الشهرة والعناية لا حد له . وأخذ في الجو الإسلامي شهرة ذائعة الصيت .
وتبناه جميع فلاسفة الإسلام ابتداء من ( الكندي ) في المشرق إلى ( ابن رشد ) في المغرب .
ولكن كثيرا من المسلمين ذوي الأصالة في الفكر الإسلامي أبانوا في وضوح أن المنطق الأرسطي منهار ، وأنه متهافت ، وأن الخلل في جوهره وأركانه وأنه خلل لا يصلح . وكان من هؤلاء ( ابن تيمية ) الذي كتب كثيرا في نقد المنطق ونقضه: لقد كتب في ذلك كتبا وكتب في ذلك فقرات منثورة هنا وهناك في خلال كتبه الكثيرة وفتاواه المستفيضة .
وممن كتب في نقد المنطق ونقضه: ابن حزم .
والمحدثون جميعا لا يجد المنطق عندهم ترحابا ولا قبولا .(17/21)
وقد كتبنا نحن ننبه على أن المنطق لا يحسم خلافا ولا يفصل حقا عن باطل . ومما كتبناه في المنهج الحديث والمنهج الأرسطي ما يلي: إن المقاييس هي:
أ- الاستقراء
ب- القياس
أما الاستقراء - وهو أساس المفهومات العامة والقضايا الكلية - فإنه:
1 - مبني كله على الحس: إنه استقراء محسات: إنه تتبع جزئيات ، لا تخرج عن نطاق الواقع ، أما المساتير فهو بريء منها كل البراءة ، لأنها لا تدخل في دائرة اختصاصه: فهو عاجز عن أن يخترق الحجب ليصل إلى ما وراء الطبيعة .
2 - ثم إن الاستقراء: تام ، وناقص . والتام - كما يعترف المناطقة - لا غناء فيه ولا فائدة .
أما الناقص- وهو المهم في نظرهم فإنه - في رأيهم أيضا - ظني ، وهو - لذلك - عرضة للتغيير ، في كل آونة .
" كل معدن يتمدد بالحرارة" تلك قضية من قضايا الاستقراء ، إنها قضية عامة شاملة ولكن المعادن لم تنكشف بعد بأكملها .
ومن الجائز أن يكتشف في الغد معدن لا يتمدد بالحرارة ، إنها إذن ، قضية مؤقتة ظنية ، تتبرأ من اليقين الفلسفي .
" والعلم المادي كما يقول أحد المفكرين- لا يعرف الكلمة الأخيرة في مسألة من مسائله- وإنما حقائقه كلها إضافية موقوتة . لها قيمتها . حتى يتكشف البحث عما يزيل هذه القيمة أو يغيرها " .
وهكذا قضايا الاستقراء ، إنها:
1 - خاصة بالطبيعة ، ولا شأن لها بما وراءها .
2 - ظنية ، لا تعرف اليقين .
أما القياس:
1 - فإنه مبني على الاستقراء ، إذ هو منطو دائما على كلية ، كلية استقرائية ، وما دامت قضايا الاستقراء ظنية- كما رأينا - وميدانها المحسات ، فنتائج القياس ظنية كذلك ، وميدانها المحسات .
2 - إن المناطقة لا يشترطون في مقدمات القياس ، أن تكون مسلمة صادقة في نفسها ، وإنما يشترطون أن يسلمها المتجادلون فحسب ، وقد تكون - كما يقول صاحب البصائر النصيرية: منكرة كاذبة في نفسها ، وفي هذه الحالة يكون القياس صحيحا ونتيجته باطلة .(17/22)
وإذا كان الأمر كذلك فما فائدة القياس الأرسطي؟ ما قيمته إذا كان لا يعول فيه إلا على أن تكون المقدمات مستوفية لشروط الإنتاج بحيث تستلزم النتيجة وإن لم تطابق النتيجة الواقع؟
ما قيمته إذا كان لا يحفل بصدق النتيجة أو كذبها؟
إنك إذا قلت: الكثير من العلم يؤدي إلى الاستقلال الفردي ، وكل ما يؤدي إلى الاستقلال الفردي مضر بالمجتمع ، فالكثير من العلم مضر بالمجتمع ، كان هذا قياسا صحيحا في نظر المناطقة الأرسطيين .
وإذا قلت : الكثير من العلم يؤدي إلى التماسك الاجتماعي ، وكل ما يؤدي إلى التماسك الاجتماعي مفيد للمجتمع ، فالكثير من العلم مفيد للمجتمع ، كان هذا أيضا قياسا صحيحا عند المناطقة ، ومع ذلك فالنتيجتان متعارضتان .
3 - ومع كل هذا فالقياس استدلال دوري فاسد ، ذلك أن العلم بالنتيجة في نحو قولنا: محمد إنسان ، وكل إنسان ناطق ، فمحمد ناطق" متوقف على العلم بالكبرى ، والعلم بالكبرى متوقف على العلم بالنتيجة ، لأنك لا تستطيع أن تحكم بالناطقية على جميع أفراد النوع الإنساني ، إلا إذا تأكدت من ثبوت الناطقية لمحمد ، ولو كنت في شك من ذلك ، لما استطعت تعميم الحكم على جميع أفراد الإنسان ، وإذن تكون النتيجة متوقفة على الكبرى وتكون الكبرى متوقفة على النتيجة ، وعلى ذلك يكون القياس: استدلالا دوريا فاسدا ، فلا يعول عليه .
4 - وأخيرا ، فالمفروض: أن نتيجة القياس جديدة كل الجدة ، إنها استنتاج مجهول هو النتيجة - من معلوم ، هو المقدمات .
ولكن النتيجة متضمنة في المقدمات ، إنها ليست مجهولة ، والقياس إذن لا يؤدي إلى معرفة جديدة ، أو إلى استنتاج مجهول من معلوم ، إنه- إذا أردت الدقة- استنتاج معلوم من . . معلوم .
تلك هي موازين العقل- وهي موازين لا غناء فيها ولا جدوى منها فيما يتعلق بالإلهيات . العقل إذن قاصر فيما يتعلق بالأخلاق . وهو قاصر على الخصوص فيما يتعلق بالإلهيات .(17/23)
ومن هنا كان السبب في اقتصارها على الأخلاق والإلهيات .
وإذا كانت قد تحدثت في التشريع فإن التشريع داخل في نطاق الأخلاق .
أخفق إذن منطق أرسطو . واستمر الاختلاف بين الفلاسفة كما كان من قبل . واستمر الخلاف حتى بين المناطقة الأرسطيين: الكبار منهم والمغمورين ، بل حدث الاختلاف بين تلاميذ أرسطو نفسه ، وهم أتباع مدرسة واحدة هي المدرسة الأرسطية .
ومرت العصور ، وتوالت القرون ، وجاء ( ديكارت ) ، وبدأ ( ديكارت ) يتفلسف على استحياء وعلى حذر بالغ ، فما كان جو زعماء المسيحية في الغرب إذ ذاك يوحي بالاطمئنان أو السكينة ، لقد كان جوا رهيبا يأخذ على الظنة وينكل على الشبهة ، لا يتحرى عدالة ولا يستشعر رحمة .
وأخذ ( ديكارت ) يتحسس طريقه في حيطة بالغة: مداريا ، مجاملا ، مادحا ، متواضعا . .
وذات يوم أعلن أنه عثر على المنهج المعصوم .
وأنه على أساس من هذا المنهج سيقود الإنسانية إلى الحق . .
ورأى أن هذا المنهج صالح للكشف عن الحق في الكون وفي ما وراء الكون ، في الطبيعة وفي ما وراء الطبيعة .
ولكن التجربة أظهرت خطأه في أثناء حياته .
وأن الخلاف استمر حول آرائه في الإلهيات ، وآراء معاصريه ، وآراء من قبله ، كما كان الأمر من قبل أن يولد منهجه ، وأخفق منهج ديكارت كما أخفق من قبل منهج أرسطو . .
وبقيت الحقيقة التي لا شك فيها ، وهي أن الفلسفة لا مقياس لها . هذه هي السمة الأولى . .
السمة الثانية : ما دامت الفلسفة لا مقياس لها فهي إذن ظنية ، إنها ظنية وإن عجنت بمنطق أرسطو الذي أخفق ، وهي ظنية وإن خبزت بمنهج ديكارت الذي لم ينفع في قليل ولا في كثير ، إنها ظنية لأنه لا يتأتى أن تفرق فيها- ولا مقياس- بين الحق والضلال ، وستستمر هكذا إلى الأبد .
السمة الثالثة : مادام لا سبيل إلى اليقين في موضوعات الفلسفة فإن من البدهي أن: اختلاف الآراء فيها دائم" .(17/24)
وهذا هو الواقع حينما يتصفح الإنسان الفكر الفلسفي عبر القرون ، إن الاختلاف والجدل دائم مستمر منذ أن نشأ الفكر الفلسفي ، إنهم يختلفون حتى في المدرسة الواحدة .
وانظر مثلا إلى مدرسة سقراط فستجد تلاميذه يقرون بأستاذيته في احترام بالغ ، وفي تبجيل يشبه التقديس ، فإذا جئت إلى آرائهم في الإلهيات ، أو في الأخلاق ، فستجد الاختلاف والافتراق . . الاختلاف والافتراق بينهم وبين أستاذهم ، والاختلاف والافتراق بين بعضهم وبعض . .
بل إن الأمر يصل بالشخص الواحد إلى أن يختلف مع نفسه بحسب تطور حياته ، أو اختلاف بيئته أو اختلاف ما يقرأ من مصادر ثقافته .
وكل هذا واضح عبر العصور .
ومن غرائب الأمور أن الفلاسفة يعلمون علما يقينا ، ويعلمون أن كل فيلسوف أتى من قبلهم هدم آراء سابقيه جميعا: إنه لم يعترف بوصول أحدهم للحق ، إنه يخطئهم جميعا ولو لم يكن الأمر كذلك لأخذ بآرائهم ، واكتفى بما أخبروه ، أو بما أنشأه أحدهم من قبل .
ولكنه مع علمه بأن الفلسفة دائما إلى نقد ونقض فإنه لا يأبه بهذه المعرفة ويقيم مذهبه على أنقاض مذاهب سابقيه ، فيأتي من بعده ويهدمه ويقيم مذهبا مآله السقوط وهكذا دواليك :
السمة الرابعة : وما دام الاختلاف مستمرا فإن المسائل التي هي موضوع الفلسفة تستمر هي هي ، "إن مسائل الفلسفة لم تتغير على مر الدهور " .
ما هي مسائل الفلسفة؟ إنها: معرفة الله سبحانه وصفاته ، وصلته بالعالم خلقا وتصريفا ، وصلته بالإنسان قربا وتوجيها . . والبعث وكيفيته . . . والخلق الكريم الذي يمثل الفضيلة والكمال . . . والخلق السيئ الذي يمثل الشر والفساد . . . والنبوة والصلة بالله عن طريق الوحي: إثباتا وإنكارا ، ثم: هل المعرفة ممكنة؟ وفي كل هذه الموضوعات الكبرى وغيرها مما يتصل بها اختلف الفلاسفة وما زالوا . واستمرت هذه المسائل على مدى سبعة وعشرين قرنا تقريبا مثار بحث وجدل إلى الآن . .(17/25)
لم يصل الفلاسفة في واحدة منها إلى اليقين ، ولم توضع واحدة منها موضع الاتفاق .
السمة الخامسة : إن الاختلاف في مسائل الفلسفة ليس اختلافا في الإيجاب فحسب ، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة ما عدة حلول كلها إيجابية .
وليس اختلافا في السلب فحسب ، وذلك أنه قد يجوز أن يكون لمسألة واحدة عدة حلول كلها سليمة
إن الخلاف عام في الإيجاب وفي السلب وإنه ليصل إلى الإنكار المطلق وإلى الإثبات المطلق في كل مسألة ، وإنه ليصل بك أحيانا إلى طريق مسدود .
وإن الفكر الفلسفي ليصل بك أحيانا إلى إنكار السماء والأرض ، وما بين السماء والأرض ، ويقول لك: ليس في الوجود - يقينا- غيرك أنت وحدك .
وإن السمة الأخيرة هي سمة تؤدي إليها ، - لا مناص- السمات السابقة .
وإذا كانت السمات السابقة يسلم كل منها إلى الآخر ، فإنها جميعا تتكاتف لتؤدي إلى هذه السمة الأخيرة .
السمة الأخيرة : هذه السمة الأخيرة هي أن: " الفلسفة لا رأي لها " .
وقد تكون هذه السمة مفاجأة لبعض الناس ، كيف يتأتى أن تكون هذه الفلسفة التي ملأت الدنيا صياحا ، منذ نشأت ، ولم تكف- منذ أن نشأت للآن - عن الصياح: لا رأي لها؟
والأمر أيسر من أن يحتاج إلى استفاضة:
أما أولا: فلأن " الفلسفة لا رأي لها" . نتيجة واضحة لكل ما قدمنا .
وأما الثانية: فخذ أي مسألة من مسائل الفلسفة فستجد فيها الآراء التي تنكر ، والآراء التي تثبت ، إنك ترى الرفض والقبول في كل أمر .
والرفض فلسفة ، والقبول فلسفة .
وقد يكون الرأي توقفا على الرفض والقبول وهو فلسفة ، وقد يكون شكا في الرفض ، وشكا في القبول في آن واحد ، وهو أيضا فلسفة .
والشك إما أن يكون شكا في قيمة الآراء التي تعرض: نفيا أو إثباتا .
وإما أن يكون شكا في قيمة وسيلة المعرفة نفسها وهي الحواس والعقل .
وكل ذلك فلسفة في كل مسألة .(17/26)
وإذا تساءلت- وأنت على علم بالجو الفلسفي: جو المتاهات والوهم- ما الرأي الفلسفي في هذه المسألة أو تلك فستجد كل ما قدمناه ماثلا أمامك يثبت لك بما لا مرية فيه أنه: ( لا رأي للفلسفة ) .
وقبل أن نخلص إلى الخاتمة نذكر أمرا في منهج الفكر الفلسفي فيه عظة وفيه عبرة: إن محاورة " فيدون " لأفلاطون لها أهميتها لأكثر من وجه . منها أنها:
1 - محاورة يدور البحث فيها حول خلود النفس .
2 -وهي محاورة لا تتعارض فيها أهداف المناقشين ، وإنما تتحد وتتفق ويحب المناقشون أن يصلوا فيها إلى نتيجة محببة إلى نفوسهم وهي أن :( النفس خالدة) .
3 - إن الذين يدور بينهم الحوار فلاسفة من الذين له وزنهم واعتبارهم ، وأحدهم يسمونه " أبا الفلسفة" ويسمونه " أبا الفلاسفة" .
4 - المتحاورون ليسوا من مدرسة واحدة وإنما هم من مدرستين مختلفتين هما: مدرسة سقراط ، ومدرسة فيثاغورس ، وهما وإن كانتا متقاربتين فإنه ما من شك في أن جو سقراط العقلي يختلف عن جو فيثاغورس الروحي .
ولهذا الاختلاف فإن اتفاقهما على غاية واحدة :( إثبات خلود الروح) ومحاولتهما الاستدلال عليها له أهميته الخاصة .
5 - بيد أن الأمر الأساسي الهام الذي من أجله نتحدث في هذا الموضوع هو اتفاق المدرستين على أن " الوحي" فيما يتعلق بما بعد الطبيعة هو السفينة الأمينة الآمنة المتينة ، وأن العقل في مجال الإلهيات ، إن هو إلا عبارة عن لوح من الخشب إذا قابلته أو إذا وازنته بالوحي :(إن الوحي سفينة والعقل لوح خشب) .
لقد كان الحوار يدور بين سقراط واثنين من الفيثاغوريين هما : سيميا " و" قابس " وهما من كبار فلاسفة المدرسة الفيثاغورية .
وأخذ الجميع يجهدون ذهنهم في البرهنة على خلود النفس ويقيمون أدلة وتنقسم بعض أدلتهم إلى فروع ثم: " ويسكت سقراط ، ويسكت الجميع ، وبعد هنيهة يقول سيميا :(17/27)
إن العلم بحقيقة مثل هذه الأمور ممتنع أو عسير جدا في هذه الحياة ، ولكن من الجبن اليأس من البحث قبل الوصول إلى آخر مدى العقل ، فيجب:
إما الاستيثاق من الحق .
وإما - إن امتنع ذلك- استكشاف الدليل الأقوى والتذرع به في اجتياز الحياة .
كما يخاطر المرء بقطع البحر على لوح من خشب ، ما دام لا سبيل لنا إلى مركب أمتن وآمن ، أعني إلى وحي إلهي"
وبعد ذلك يعودون إلى البحث من جديد حتى:
يقتنع قابس ، ويعلن سيمياس أنه مقتنع أيضا ، إلا أن شعوره المزدوج بعظم المسألة وبالضعف البشري يضطره إلى بعض التحفظ بإزاء هذه الأدلة على وجاهتها .
فيسلم له سقراط بحقه في هذا التحفظ ، ويزيد قائلا:
بل إن المقدمات أنفسها مفتقرة إلى بحث أوكد .
إن هناك بحر الإلهيات ، وهناك البحر المائي .
وكما أن للبحر المائي آلة عبور هي السفينة ، فإن لبحر الإلهيات آلة عبور هي "الوحي" .
فإذا استعمل الإنسان العقل في عبور بحر الإلهيات ، فإنه يكون كإنسان يستعمل لوحا من خشب في عبور البحر المائي .
ولكن المضطر- حيث لا وحي- يستمسك بلوح الخشب- كما يقول سيمياس - " ما دام لا سبيل إلى مركب أمتن وآمن ، أعني إلى وحي إلهي" .
اليهود والفلسفة
ولعل القارئ الكريم يسمح بأن أتحدث عن الجو الذي عشته في بواكير حياتي الفلسفية ، لقد كان ذلك لأول عهدي بجامعة باريس حينما ذهبت إلى فرنسا للدراسة:
وأحب أن أصف الجو الذي عشته- بتوفيق الله - أثناءه .
دخلت الجامعة ، وبدأت الدراسة في علم الاجتماع وعلم النفس ، ومادة الأخلاق ، وتاريخ الأديان .
وكانت هذه المواد يتزعم دراستها وتدريسها الأساتذة اليهود ، أو الذين تتلمذوا على الأساتذة اليهود .
وكانت هذه المواد كلها تسير في تيار محدد ، هو: أنها ( علوم مجتمع) أي أنها لا تتقيد بوحي السماء ، ولا تتقيد بالدين على أنه وضع إلهي ، فهي تدرس موضوعاتها على أنها ظواهر اجتماعية ، وظواهر إنسانية .(17/28)
وبدأنا في الدراسة نسمع مختلف الآراء في نشأة الدين ، ومختلف الآراء في تفسير النبوة وينتهي الأمر برأي الأستاذ في الموضوع .
وليس في هذه الآراء- على اختلافها وتعددها- ما يتجه إلى أن الدين وحي من السماء أو أن النبي- أي نبي - موصول الأسباب بالسماء ، وإذا انتظرنا من ذلك الأستاذ أن يصحح الوضع . فيدلي في النهاية برأيه مثبتا الألوهية والنبوة هادما للآراء الأخرى واصفا لها: بأنها ضلال .
إذا انتظرنا ذلك منه فإننا نكون واهمين ، فإنه واحد من هؤلاء العشرات من الأساتذة في هذه المواد وما شابهها المنغمسين في تيار المادية .
لقد فسرت الجامعات الأوروبية العلم على أنه القواعد التي تقوم على التجربة والملاحظة . والتزمت أن تفسر وأن تشرح علم الاجتماع وعلم النفس وجميع الظواهر في الآفاق ، وفي الأنفس ، على هذا الأساس ، والتزمت ذلك أيضا في تاريخ الأديان .
هذه العلوم بالذات وفروعها تتكاتف لتقود الإنسان متعاونة متساندة إلى الإلحاد .
إن للدين- فيما يزعمون- نشأة إنسانية اجتماعية ، - وإن للخلق - فيما يروون- نشأة إنسانية واجتماعية ، وقد تواضع الناس على سلوك معين سموه: " فضيلة " وعلى سلوك آخر سموه : " رذيلة " .
ودراسة الدين والأخلاق إذن تتجه إلى النشأة والمظاهر وعوامل التطور وظواهر التطور . . وليس للوحي في الدراسة من نصيب اللهم إلا الوصف لظاهرة نشأت في المجتمع .
وكل الظواهر والمظاهر في هذه الدراسات اعتبارية نسبية متبدلة لا تثبت على حال ، ولا تستقر على وضع ، لأنها في كل يوم تتبدل حالا بحال . .
وهذه الأفكار تتكرر في هذه المواد: تسمعها في علم الاجتماع ، وتسمعها في علم النفس ، وتسمعها في دراسة مادة الأخلاق ، وتسمعها في دراسة تاريخ الأديان ، وتسمعها في دراسة العلوم المتفرعة من كل ذلك .(17/29)
والشاب الذي انتقل من الأقسام الثانوية إلى الجامعة يتأثر بأستاذه ، فإذا كان الأساتذة متكاتفين على هدم القيم الثابتة ، والمثل العليا التي يقررها الدين ، وتقررها الأخلاق ، إ ذا كان الأمر كذلك فإن الطالب الذي يعيش في أجواء تتعاون كلها على هدم عقائده ومثله وقيمه ينتهي به الأمر- في الأغلب الأعم من الحالات- بأن تنهار هذه القيم في شعوره .
ومن هنا كانت الظاهرة التي تجدها في طلبة الجامعات في أوربا من الاستخفاف بكثير من العقائد وبكثير من القيم وينتهي الطالب بالإلحاد ، أو على أقل تقدير بالإيمان الكامن الذي لا فاعلية له ، ولا تأثير في سلوك الإنسان .
وكنت - من غير شك- أضيق بكل ما يجري في هذه الدراسات ولكن الله -سبحانه وتعالى- ألهمني التفكير في قيمة وآراء الأساتذة أنفسهم في هذه المواد . وبدأت أفصل بين عالمين من المعرفة: عالم الماديات كالطب والطبيعة والكيمياء ، وهي أمور تحكمها التجربة ولا تتعارض مع الدين ، ولا اختلاف فيها . . وعالم التفكير المجرد في الدين والأخلاق والمجتمع .
وأخذت أدرس في أناة هذا الجانب الأخير من الزاوية التاريخية ، فوجدت أنه منذ أن بدأ التفكير ، بدأ في اللحظة الأولى الاختلاف فيه ، وبدأ كل زعيم من زعمائه ينتقد الآخرين في عصره ، وكل مفكري عصره ينتقدون المفكرين في العصر السابق عليه . . وهكذا الأمر .
وما من شك في أن هؤلاء الأساتذة الذين يدرسون لنا ينتقد بعضهم بعضا في آرائهم ، ويخطئ بعضهم بعضا ، كما ينتقدون السابقين عليهم ويخطئونهم ، وسيصنع من بعدهم صنيعهم فيوجهون إليهم النقد ويخطئونهم وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .(17/30)
لقد أخذ " دوركايم " اليهودي يعمل بمعاول هدامة في كل القيم والمفاهيم الدينية والأخلاقية ، وأخذ تلميذه الأكبر اليهودي " ليفي بروهل " ينهج منهجه ويسير على طريقه في علم الاجتماع وفي علم الأخلاق وكتاب " ليفي بروهل " : " الأخلاق وعلم العادات" - مثل واضح لهذا النوع من هدم القيم ، ومحاولة القضاء على كل المثل .
فكرت إذن في اختلاف الآراء ، أو في هدم بعضها البعض في مواجهة كل ما يقوله الأساتذة وكنت أقول في نفسي- في مواجهة كل أستاذ- سيهدمك المعاصرون لك ، وسيهدمك الذين يأتون من بعدك . ولكني في مواجهة كل هذه الآراء الإلحادية- كنت أتشبث بيقين لا شك فيه . كنت أقول في نفسي: إذا كانت الأخلاق نسبية ، فهل سيأتي الزمن الذي نعتقد فيه: أن الصدق رذيلة أو أن الشهامة شر ، أو أن الشجاعة سوء ، أو أن العفة جريمة . . أو أن كذا ، أو كذا . . ثم أعود إلى نفسي فأقول: كلا . . .
- وأتساءل من جديد في مجال العقائد: هل سيأتي اليوم الذي لا نقول فيه بوحدانية الله؟ أو لا نقول فيه بإرادته وعلمه؟
- وأعود إلى نفسي وأقول: كلا . . .
- كنت أحاول دائما أن أردد أن هؤلاء القوم يسيرون في طرق لا تنتهي إلى غاية .
ما هدفهم من ذلك؟
- وما كنت أجد الإجابة عن هذا السؤال آنئذ ، لكن عرفت فيما بعد أن هذا هو المنهج اليهودي الذي رسموه بعد تفكير طويل ، والتزموا به بكل الوسائل ، أو بكل الطرق ، وهو منهج التشكيك في القيم والمثل والعقائد والأخلاق .
يستخدمون هذا المنهج في المجالات المختلفة لإفساد المجتمعات وتحللها أخلاقيا ودينيا ، ويضيفون إليه العمل على إثارة العمال على أصحاب رؤوس الأموال ، وعلى إيجاد الضغائن والفتنة بين مختلف فئات الشعوب ، والثمرة التي يعملون دائبين على الوصول إليها: أن يكون المجتمع شاكا مليئا بالفتن ، وذلك سبيلهم إلى السيطرة .(17/31)
إن اليهود يهدفون من وراء كل ذلك إلى السيطرة على العالم ، إنهم يحطمون القيم والمثل حتى لا يكون في المجتمعات قوة من عقائد ، أو قوة من خلق ، ومن أجل ذلك تكاتفوا على أن تكون لهم الكلمة الأولى في الجامعات في علم الاجتماع وفي علم النفس ، وفي مادة الأخلاق ، وفي تاريخ الأديان ، ولم يكن من السهل علي أثناء هذه الدراسة الاستمساك الواثق بالقيم والمثل التي نشأت عليها ، لولا عون الله سبحانه ، وتوفيق منه ، ولولا لطف الله لصرت كواحد من هؤلاء الألوف الذين يدرسون في الجامعات الأوروبية ثم يخرجون منها ، وقد تحطمت في نفوسهم المثل الدينية الكريمة .
- وانتهيت من هذه الدراسة ، ثم كانت المرحلة التالية هي مرحلة " الدكتوراه " . ، وبعد تجارب هنا وهناك في مجالات مختلفة من الموضوعات ، وبعد تردد بين هذا الموضوع أو ذاك- هداني الله- وله الحمد والمنة- إلى دراسة ( الحارث بن أسد المحاسبي ) ولم يكن ذلك مصادفة ، وإنما هي هداية وتوفيق من الله سبحانه وتعالى ، وهي عناية أعجز عن شكر الله سبحانه وتعالى عليها .
- وانتهيت من دراسة" الدكتوراه" وأنا أشعر شعورا واضحا بمنهج المسلم في الحياة ، وهو منهج :"الاتباع" .
إن ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول كلمة موجزة عن هذا المنهج كأنها إعجاز من الإعجاز ، إنه يقول: " اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم " . وهي كلمة حق وصدق ثرية بالمعاني الطويلة العريضة ، يبرهن آخرها على أولها ، والنهي في وسطها يبرهن عليه أيضا آخرها: أي اتبعوا فقد كفيتم ، والكافي هو الله سبحانه وتعالى الذي أوحى الشرع والأصول والقواعد ، وطبق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كل ذلك وبينه ، فكان تطبيقه مقياسا وبيانا ومرجعا يرجع إليه المختلفون .(17/32)
" ولا تبتدعوا فقد كفيتم": إن الذي يبتدع هو من لا كفاية له ، ولكن الله - سبحانه وتعالى- بعد أن أكمل الدين ، وأتم النعمة ، فليس هناك من مجال ، ولا من حاجة إلى الابتداع . لقد كفانا الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم- كل ما أهمنا من أمر الدين . ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) .
وبعد أن وقر هذا المنهج في شعوري واستيقنته نفسي أخذت أدعو إليه: كاتبا ومحاضرا ومدرسا ثم أخرجت فيه كتابا خاصا هو كتاب :" التوحيد الخالص ، أو الإسلام والعقل " .
وما فرحت بظهور كتاب من كتبي مثل فرحي يوم ظهر هذا الكتاب ، لأنه من خلاصة تجربتي في حياتي الفكرية .
وهذا المنهج يفترض:
1 - مقاومة الغزو الفكري :
والغزو الفكري له مجالات مختلفة: هناك الغزو الفكري في العقائد يتمثل في كل هذا التراث الضخم الذي نقل إلى اللغة العربية فيما يتعلق بما وراء الطبيعة ، وهو تراث مختلف متعارض ، بل ومتناقض ، وهو نتاج بشري بكل ما يتسم به النتاج البشري من خطأ وضلال .
2 - والغزو الفكري في نظام المجتمع:
الذي حاول أن يفرض علينا نظام المجتمعات الأوروبية . وإذا نحن سرنا في تياره ، فإننا نصبح ولا شخصية لنا ولا ذاتية ونصبح وقد فقدنا رسالتنا التي كلفنا بتبليغها للناس ونشرها وهي رسالة الإسلام التي من أجلها كانت الأمة الإسلامية ، وبدونها تصبح الأمة الإسلامية ولا مبرر لوجودها .
3 - والغزو الفكري في مجال التشريع:
وهذا الغزو الفكري في مجال التشريع توجد أسسه وأصوله بصورة مشروعة في مختلف الأقطار العربية ممثلة في كليات الحقوق التي تنفق عليها الدولة وتعتمد شهاداتها .
وكليات الحقوق هذه دراستها غزو فكري ، واستعمار فكري ودراستها: أثر من آثار الاستعمار التي لم تزل بعد أن زال الاستعمار .(17/33)
وإذا كانت الأمم الواعية تحاول جاهدة أن تتخلص من وصمة الاستعمار بما فيها من شرور ورجس وآثام فإن الكثير من الدول العربية لم تحاول أن تتخلص من وصمة الاستعمار الصارخة الواضحة الممثلة في هذه الكليات .
إن هذه الكليات تخصص عشرين ساعة في الأسبوع للقوانين الأوروبية أي للفكر الأوربي في التشريع ، وتفرض على الطالب أن يستذكره ويستوعبه ويحفظه ويتمثله ، وينجح فيه في الامتحان .
أي أنها تفرض على الطالب أن يستعمر فكره الأوربيون في مجال التشريع ، وأن يلغي ذاتيته الإسلامية في هذا المجال ، وأن يكون تابعا للأوربيين في هذا المجال ، مقلدا لهم تجره عجلتهم ، مستسلما لغزوهم ، وبينما تخصص هذه الكليات عشرين ساعة أسبوعيا للفكر الأوربي في التشريع ، إذا بها تخصص ساعتين فقط للتشريع الإسلامي .
ولو أن هذه الكليات في فرنسا أو في إنجلترا لما فعلت أكثر من ذلك . . ومنهج الاتباع: إذن يقتضينا أن ننظر في جد في أمر هذه الكليات من أجل أن نتمثل الوطنية والإسلامية والعروبة .
وبعد: فإن منهج الاتباع هو الخلاصة الجوهرية لتجاربي الخاصة بالطريق الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في حياته وإذا سار فيه المسلم فردا أو سار فيه المجتمع مجتمعا ، فإن الله - سبحانه وتعالى- يكتب له الهدوء والطمأنينة والسعادة ، لأنه يكون في جو رباني مليء برعاية الله سبحانه وتعالى وعنايته وإن منهج الاتباع ينفي من الجو الإسلامي الانحراف الفكري: ثم إنه ييسر لنا رعاية الله تعالى وتوفيقه وحمايته ونصره ويجب نشره في جميع الأجواء الإسلامية: إنه المنهج الإسلامي .
( وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .
مجلة البحوث الإسلامية – عدد : محرم - جمادى الثانية لسنة 1400هـ .(17/34)
ثقافة التلبيس ( 17 ) :تقسيم أهل السنة إلى "حنابلة-أشاعرة-ماتريدية " .. !
بسم الله الرحمن الرحيم
- هذا التلبيس ينسب أصحابه عقيدة أهل السنة والجماعة لـ" الحنابلة " فقط ! ثم يجمعون بينهم وبين " الأشاعرة والماتريدية " تحت مسمى " أهل السنة والجماعة " !
- وهذا التلبيس يقع فيه ثلاثة أصناف :
الأول : بعض الأشاعرة والماتريدية ، بهدف إقحام عقيدتهم " البدعية " ضمن عقيدة أهل السنة ؛ لعلها تروج بين المسلمين ، أو لعل هذا يزيل الحرج الذي يجدونه في صدورهم عندما يوصمون بالبدعة.
الثاني : بعض أهل السنة - للأسف - ، ممن يسوؤهم تفرق الأمة الإسلامية إلى " سنة " ، و" أشاعرة .. " ، فيسعون – باجتهاد خاطئ - إلى هذا التلبيس ؛ لـ" جمع " كلمتها ، فيدَّعون أن أهل السنة ينقسمون إلى " أشاعرة وماتريدية وحنابلة " ! فالجميع متساوون في الحق ، فلا يُثرّب أحد على أحد ! . يظنون أنهم بهذا " التلبيس " والحل الخيالي يجمعون كلمة الأمة ، فيقعون فيما نهى الله عنه بقوله: ( ولاتلبسوا الحق بالباطل ) ، ويغشون الأمة ؛ حيث يزهد السني في دعوة المبتدعة إلى السنة ، ويبقى المبتدع على بدعته ؛ لظنه – بسبب تلبيسهم – أنه على الحق .
ثم نهاية " تجميعهم " أن تصبح الأمة كما قال الله : ( تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى ) . أوكما قال الشاعر :
فان الجُرح ينفر بعد حينٍ
إذا كان البناءُ على فسادِ
وهذا الصنف أكثر مايوجد في عصرنا الحاضر في بعض دعاة جماعة الإخوان المسلمين ، ومن تأثر بمنهجهم من " الدعاة " الذين تتمحور دعوتهم حول " التجميع " و " التركيز على الحاكمية " ..
الصنف الثالث : مقلد . رأى هذا التقسيم الخاطئ في كتب من سبقه ، فسار عليه .
نماذج ممن وقع في هذا التلبيس قديمًا وحديثًا :(18/1)
" العين والأثر " لعبد الباقي المواهبي الحنبلي ، ( ص 52) ، والسفاريني في " لوامع الأنوار " ، ( 1/ 73 ) ، و" المذاهب الفقهية الأربعة " ؛ لأحمد تيمور ، ( ص 95 ) ، و " تاريخ المذاهب الإسلامية " ؛ للشيخ محمد أبوزهرة ، ( ص 103 ) ، و " هكذا ظهر جيل صلاح الدين " ؛ للدكتور ماجد الكيلاني ، ( ص 43 ) ، و " العقيدة وعلم الكلام " ؛ للدكتور محمود الخالدي ، ( ص 71 ) ، و" شرح كتاب التوحيد " ؛ للشيخ الددو ، و " المنهجية العامة في العقيدة .. " ؛ لعبدالفتاح اليافعي ، ( ص 22 ) .ورسالة " أسس الاتفاق والاختلاف في قضايا أصول الدين بين متكلمي الحنابلة والأشاعرة .. " ؛ لمشعل الضفيري... وغيرهم .
كشف هذا التلبيس :
أن يُقال : الإمام أحمد - رحمه الله - ، والحنابلة من بعده ، ليس لهم أي اختصاص عن غيرهم من أهل السنة بعقيدة . فالإمام أحمد والإمام أبوحنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي – رحمهم الله – جميعهم على عقيدة واحدة هي عقيدة أهل السنة . وإنما اشتهرت نسبة عقيدة أهل السنة لأحمد ؛ لموقفه المشرِّف زمن المحنة أيام الخليفة العباسي المأمون ومن بعده . وإلا فلا تميز له عن غيره من أئمة أهل السنة في العقيدة .
ولأجل أن " التلبيس " السابق كان رائجًا زمن شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ فقد أبدأ فيه وأعاد ، وأطال القول ؛ لكشفه . ومن أقواله :(18/2)
قال - رحمه الله - : " وأحمد وغيره من علماء أهل السنة والحديث مازالوا يعرفون فساد مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة ، ولكن بسبب المحنة كثر الكلام ، ورفع الله قدر هذا الإمام فصار إمامًا من أئمة السنة وعَلمًا من أعلامها ؛ لقيامه بإعلامها وإظهارها ، واطلاعه على نصوصها وآثارها ، وبيانه لخفي أسرارها ، لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيًا . ولهذا قال بعض شيوخ المغرب : المذهب لمالك والشافعي ، والظهور لأحمد . يعنى أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد . وهو كما قال " . "منهاج السنة " ، ( 2 / 605-606 ) .
وقال - أيضًا - : " الإمام أحمد رحمه الله لما انتهى إليه من السنة ، ونصوص رسول الله ، أكثر مما انتهى إلى غيره ، وابتلي بالمحنة ، والرد على أهل البدع ، أكثر من غيره ؛ كان كلامه وعلمه في هذا الباب أكثر من غيره ، فصار إمامًا في السنة أظهر من غيره ، وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة العلماء الصلحاء ، قال : المذهب لمالك والشافعي ، والظهور لأحمد بن حنبل . يعنى أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام " ." الفتاوى " ، ( 3 / 170 ) .
وقال - أيضًا - : " والاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد ؛ لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع ، وإلا فهو كتاب الله وسنة رسوله ، حظ أحمد منه كحظ غيره من السلف : معرفته والإيمان به وتبليغه والذب عنه ، كما قال بعض أكابر الشيوخ : الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة ، والظهور لأحمد بن حنبل ... " ." درء التعارض " ، ( 2 / 327) .(18/3)
وقال – أيضًا - : " ولهذا ما زال كثير من أئمة الطوائف : الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وإن كانوا في فروع الشريعة متبعين بعض أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين ، فإنهم يقولون : نحن في الأصول أو في السنة على مذهب أحمد بن حنبل ، لا يقولون ذلك لاختصاص أحمد بقول لم يقله الأئمة ، ولا طعنًا في غيره من الأئمة بمخالفة السنة ، بل لأنه أظهر من السنة التي اتفقت عليها الأئمة قبله أكثر مما أظهروه ، فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة إليه ، وظهور المخالفين للسنة ، وقلة أنصار الحق وأعوانه ، حتى كانوا يشبهون قيامه بأمر الدين ومنعه من تحريف المبتدعين المشابهين للمرتدين بأبي بكر يوم الردة وعمر يوم السقيفة وعثمان يوم الدار وعلي يوم حروراء ونحو ذلك مما فيه تشبيه له بالخلفاء الراشدين فيما خلفت فيه الرسل وقام فيه مقامهم ، وكذلك سائر أئمة الدين كلٌ منهم يخلف الأنبياء بقدر ما قام به من ميراثهم وما خلفهم فيه من دعوتهم ، والله يرضى عن جميع السابقين الأولين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين " . " بيان تلبيس الجهمية " ، ( 2 / 91 – 92 ) .
بقي أن يُقال :
1- المذهب " الحنبلي " و " الحنفي " و " المالكي " و " الشافعي " ، هي مجرد مذاهب " فقهية " داخل إطار " أهل السنة " ، كغيرها من المذاهب " الفقهية " " السنية " التي اندثرت ؛ كمذهب الأوزاعي أو الليث بن سعد أو غيرهم من أئمة أهل السنة .
2- قد تجد في المنتسبين " فقهيًا " للمذاهب السابقة – خاصة من المتأخرين - من هو " سني " العقيدة ، موافق لأئمة تلك المذاهب . وقد تجد من هو بدعي العقيدة " أشعري أو ماتريدي " ، فهذا قد خالف الأئمة الأربعة في عقيدتهم السنية . ومثله يُقال له ما قاله الإمام السمعاني الشافعي : " فلا ينبغي لأحد أن ينصر مذهبه – أي الشافعي – في الفروع ، ثم يرغب عن طريقته في الأصول " . " فصول من كتاب الانتصار لأصحاب الحديث " ؛ للسمعاني ، ( ص 9 ) .(18/4)
فأهل السنة قد تجد فيهم " الحنبلي " و " الحنفي " و" المالكي " و " الشافعي " .
والأشاعرة والماتريدية قد تجد فيهم " الحنبلي " و " الحنفي " و" المالكي " و " الشافعي " .
3- يُنصح - للمزيد - بهذه الرسائل :
- (منهج الإمام مالك رحمه الله تعالى في إثبات العقيدة ) ؛ للشيخ سعود بن عبدالعزيز الدعجان .
- ( منهج الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في إثبات العقيدة ) ؛ للشيخ محمد بن عبدالوهاب العقيل .
- ( عقيدة الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رحمه الله تعالى ) ؛ للشيخ محمد الخميِّس .
- ( اعتقاد الأئمة الأربعة : أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد ) ؛ للشيخ محمد الخميِّس .
حمل رسالة ( أصول الدين عند الأئمة الأربعة واحدة )
للدكتور ناصر القفاري
http://kabah.info/uploaders/norh/asol.pdf
الحلقات السابقة من ( ثقافة التلبيس )
ثقافة التلبيس ( 16 ) : تعظيم الفلسفة والمطالبة بتدريسها
ثقافة التلبيس ( 15 ) : ( مصطلح التنوير )
ثقافة التلبيس ( 14 ) : الوسطْ .. الغلطْ
ثقافة التلبيس ( 13 ) : عدم تكفير اليهود والنصارى ..!
ثقافة التلبيس(12) : خلطهم بين الحب الشرعي للوطن والحب الوثني !
ثقافة التلبيس (11) : قولهم:لابد من فتح المجال لجميع المذاهب في السعودية!!
ثقافة التلبيس (10) : مصطلح : " الآخر " ..!
ثقافة التلبيس (9) : قولهم بـ ( نسبية الحقيقة )
ثقافة التلبيس (8) : ( مصطلح : الإسلام السياسي )
ثقافة التلبيس (7) : الإسلام دين العدل لا المساواة
ثقافة التلبيس (6) : مصطلح التسامح
ثقافة التلبيس (5) : مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
ثقافة التلبيس (4) " المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
ثقافة التلبيس (3) : مصطلح (الحياد)
ثقافة التلبيس (2) : مصطلح (الإصلاح)
ثقافة التلبيس (1) : مصطلح "أهل القبلة" !..
http://saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/thkafa.htm(18/5)