الجمهورية اليمنية
جامعة عدن
نيابة الدراسات العليا والبحث العلمي
كلية التربية عدن
قسم اللغة العربية
تنوع خطاب القرآن الكريم في
العهد المدني
((دراسة لغوية))
رسالة مقدمة إلى قسم اللغة العربية بكلية التربية- بعدن، لنيل درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها.
إعداد الطالب:
صالح عبد الله منصور مسود العولقي
بإشراف :
الأستاذ المشارك. د. عبدالله صالح عمر بابعير
1429هـ -2008م
الجمهورية اليمنية
جامعة عدن
نيابة الدراسات العليا والبحث العلمي
كلية التربية عدن
قسم اللغة العربية
تنوع خطاب القرآن الكريم في
العهد المدني
((دراسة لغوية))
رسالة مقدمة إلى قسم اللغة العربية بكلية التربية- بعدن، لنيل درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها.
إعداد الطالب:
صالح عبد الله منصور مسود العولقي
بإشراف :
الأستاذ المشارك. د. عبدالله صالح عمر بابعير
1429هـ -2008م(1/1)
D
إعلان
يعلن قسم اللغة العربية أنه تقرر بمشيئة الله تعالى مناقشة رسالة الماجستير الموسومة بـ:
صالح عبد الله منصور مسود العولقي صالح عبد الله منصور مسود العولقي صالح عبد الله منصور مسود العولقي ... ... ... ... ... ... ... ...
وذلك يوم السبت الموافق 14/6/2008م في تمام الساعة العاشرة والنصف صباحًا
أ. مشارك. د. عبد الوهاب عبده راوح أ. مشارك. د. عبد الوهاب عبده راوح أ. مشارك. د. عبد الوهاب عبده راوح أ. د. عبد المنعم أحمد صالح أ. د. عبد المنعم أحمد صالح أ. د. عبد المنعم أحمد صالح
أ. مشارك. د. عبد الله صالح بابعيرأ. مشارك. د. عبد الله صالح بابعيرأ. مشارك. د. عبد الله صالح بابعير(1/1)
F
سيرة ذاتية:
أولاً البيانات الشخصية:
الاسم: صالح عبدالله منصور مسود العولقي.
تاريخ ومكان الميلاد: 1975م-أبين.
السكن: حي يسلم صالح وحدة عمر علي.
الحالة الاجتماعية: متزوج وأب لأربعة من الأبناء.
الهاتف المحمول: 777103765.
ثانياً: البيانات المهنية:
المهنة الحالية: مدرس.
مكان العمل: مكتب التربية والتعليم م/أبين.
تاريخ شغل الوظيفة: 1996م.
ثالثاً: المؤهلات العلمية:
-بكلاريوس : لغة عربية ، كلية التربية زنجبار .
-دبلوم عالي: لغة عربية، كلية التربية عدن.
رابعاً: مؤهلات أخرى:
-دبلوم برمجة وصيانة كمبيوتر.
-دورات مختلفة في مجال الحاسوب.
-دورة في مجال الإدارة المدرسية الحديثة.
- دورة في مجال وسائل التعليم الحديثة.
خامساً: الخبرات الميدانية:
1- 96/98م : العمل كمدرس في مدرسة الثورة بمديرية خنفر.
2- 99م: مدرس في ثانوية الفاروق للبنين جعار.
3- 2000/2006م : وكيل ثانوية الفاروق للبنين بجعار.
4- حالياً : مدرس بمدرسة الحمزة بمديرية خنفر بعد أن قدمت استقالتي من الإدارة المدرسية من أجل التفرغ للدراسة.
سادساً: المساهمات العملية والاجتماعية:
1-عضو لجنة الرقابة والتفتيش بجمعية التربويين م/أبين.
2-المسئول الإعلامي بجمعية المتبرعين بالدم في محافظة أبين.
3-عضو مساهم في إذاعة أبين المحلية.
4-عضو في جمعيتي: أصدقاء البيئة والهلال الأحمر اليمني في محافظة أبين.(1/1)
قال الله تعالى:
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة : 255]
إقرار المشرف
أشهد أن إعداد هذه الرسالة الموسومة بـ ( تنوعُ خطابِ القرآنِ الكريمِ في العهدِ المدنيِّ دراسةٌ لغوية)، المقدمة من الطالب: صالح عبدالله منصور مسود العولقي، قد أنجزت تحت إشرافي بجميع مراحلها المختلفة، في كلية التربية بعدن، وأرشحها للمناقشة.
... ... ... المشرف العلمي:
الأستاذ المشارك د. عبدالله صالح عمر بابعير
التوقيع:
بناء على توصية المشرف العلمي، أرشح هذه الرسالة للمناقشة.
... ... ...
أ. مساعد د. سالم علي سعيد
رئيس قسم اللغة العربية بكلية التربية عدن.
... ... ... ... التوقيع:
قرار لجنة المناقشة
نشهد، نحن رئيس لجنة المناقشة وأعضاءَها، أنَّا قد أطلعنا على الرسالة العلمية، الموسومة بـ ( تنوعُ خطابِ القرآنِ الكريمِ في العهدِ المدنيِّ دراسةٌ لغويةٌ)، المقدمة من الطالب: صالح عبدالله منصور مسود العولقي، وتم مناقشة الطالب في ما احتوته رسالته، وما له علاقة بها، ونرى بأنها جديرة بالقبول لنيل درجة الماجستير، في اللغة العربية وآدابها، بتقدير عام ( ).
نوقشت هذه الرسالة بتاريخ: 10 / جمادى الثانية / 1429هـ .
الموافق: 14 / 6 / 2008م.
لجنة المناقشة:
1-الأستاذ. د. عبدالمنعم أحمد صالح ... ... رئيسًا.
التوقيع:
2-الأستاذ المشارك. د. عبدالوهاب عبده راوح ... عضوًا.
التوقيع:
3-الأستاذ المشارك. د. عبدالله صالح بابعير ... عضوًا ومشرفًا.
التوقيع:
الإهداء
إلى والديَّ المحبين........(1/1)
إلى أخويَّ محمد ومهدي ..........
إلى أخواتي جميعًا.........
إلى زوجي الغالية.......
إلى أبنائي فاطمة ومحمد وندى وعبدالله.........
إلى أعمامي وأخوالي...........
إلى عائلتي كلها..........
بمن فيهم روح جدي وجدتي رحمهما الله تعالى.....
إلى كل من أراد لي الخير............
وكل من تمنى لي التوفيق.............
وكل من مدَّ لي يد العون..........
أهديكم جميعًا هذا العمل من خالص قلبي ومحبتي، سائلاً الله - جل جلاله - أن يجعله في ميزان حسناتي وحسناتكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الباحث
كلمةُ شكرٍ وامتنانٍ(1/2)
إلى كل الذين مدوا لي يد العون بغير استثناء، وأخصُّ منهم أستاذي الدكتور عبدالله بابعير إذ أثقلت عليه، وأشعر بما عاناه معي في أثناءِ مراحل إعداد الرسالة، إذ قرأها وأعاد ذلك غير مرة، على الرغم من كثرة مشاغله، وبذل مجهودًا كبيرًا معي في البحث عن مصادر البحث ومراجعه ، وبذل غايته بأمانة واقتدار، مع علمي بأنَّ شهادتي فيه مجروحة ولكنَّ الواجب يُملي عليّ ذلك، أسأل الله تعالى أن يطيل في عمره؛ لننتفع بعلمه الغزير وتواضعه الجمِّ، كما أشكر لجنة المناقشة إذ قبلت مناقشة هذه الرسالة لإبداءِ آرائها السديدة عليها، التي آمل أن تعينني في تحقيق غايتي من البحث، و أشكر الإخوة في مكتبة مسجد أبي ذر الغفاري بخور مكسر، في محافظة عدن، على ما قدموه من المساعدة بالكتاب والمشورة والنصح، إذ لمست منهم من التعاون والمساعدة ما لم ألمسه في المكتبات الأخرى، وأخصُّ بالشكر أيضًا الأستاذ محمد بن ناصر العولقي المسئول المالي بالاتحاد العام للأدباء والكتاب اليمنيين، على إسهامه في دعمي معنويًا وأدبيًا وماديًا للمواصلةِ في بحثي، وعلى ما لمسته منه من حب للتعليم، وأشكر الأستاذ حسين محمد ناصر، المدير العام لمكتب الثقافة م/ أبين، على النصيحة في بعض مسائل البحث، وأشكر كل من نسيت شكرهم الآن، ولكنهم يرجون ثواب الله بوقوفهم إلى جانبي.(1/3)
مقدمة
j
المقدمة:
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلن تجد له وليًا مرشدًا.
أما بعد...
فإن هذا البحث يسعى إلى القيام بدراسة لغوية لموضوع: تنوع خطاب القرآن الكريم في العهد المدني، بوصفه مرحلة من مراحل خطاب القرآن الكريم، التي خاطب المولى عز وجل في أثنائها خلقه على اختلاف دياناتهم وأجناسهم ومعتقداتهم- كما سيأتي لاحقًا-، وقد كنت متوخيًا من هذه الدراسة تحقيق جملة من الأمور منها:
1- دراسة خطاب القرآن الكريم في العهد المدني.
2- رصد الظواهر النحوية والدلالية في خطاب ذلك العهد وتحليلها.
3- تسليط الضوء على التطورات اللغوية في تنوع موضوعات خطاب الله تعالى لخلقه، وعلى تنوع المخاطبين، مِن خَلْقِ الله - عز وجل - ، وعلى تنوع طريقة الخطاب القرآني لهم.
وأما سبب اختيار هذا الموضوع فيأتي من كون (تنوع الخطاب في العهد المدني) يعد حقلاً خصبًا للبحث والتحليل بوصف العهد المدني إحدى مراحل الخطاب القرآني، وهي الأكثر تأثيرًا في عديدٍ من أنماط الحياة، ومن هنا يغدو الدافع الأول لاختياري هذا الموضوع محاولة الإسهام في إضافة جديدٍ للبحث والتحليل في الدراسات اللغوية، بالنظر إلى شحة ما أنجز من هذه الدراسات في هذا الحقل منفردًا، فقد تناولت أكثر الدراسات القرآن جملة واحدة ولم تتناوله في فترةٍ من نزوله.
الدراسات السابقة:(1/1)
لم أطلع إلى الآن على موضوعٍ تناول هذا المجال بالتحديد، بعد أن قمت بمراسلة بعض الجامعات العربية والمراكز المتخصصة، عبر المواقع الإلكترونية، وسؤال عددٍ من أساتذتي واستشارتهم في الموضوع، غير أني علمت أن هناك رسالة قد نوقشت في المملكة العربية السعودية تحت عنوان ( تنوع خطاب القرآن الكريم في العهد المكي، دراسةٌ أسلوبيةٌ وموضوعيةٌ)، ولكنني لم أجدها، ولم أقف عليها، على الرغم من مراسلتي لمواقع إلكترونيةٍ متعددةٍ، فالرسالة لم تكن بحوزتهم، ووقع في يدي وأنا في آخر البحث كتاب موسوم بـ (تلوين الخطاب في القرآن الكريم دراسة في علم الأسلوب وتحليل النص)، تناول فيه المؤلف بعض صور تلوين الخطاب في القرآن المكي والمدني، وهذا ليس موضوع بحثي، ولكنني استفدت منه في تناول بعض قضايا الدراسة، كالتنوع في الصيغ الصرفية والتركيبية، وقد وقفت على كتابٍ للدكتور تمام حسان موسوم بـ(البيان في روائع القرآن) أرشدني إليه أستاذي الدكتور عبدالله بابعير، فاستفدت منه أيما استفادة، على أنني وجدت بعض الدارسات التي تناولت جانبًا مما تناولتُه بالبحث، كـ(آيات النفاق في القرآن الكريم دراسة لغوية)، وهي رسالة ماجستير، للباحث منير أحمد عبدالله الطيب،قدمت لجامعة عدن، وكذلك (العدول في صيغ المشتقات في القرآن الكريم)، وهي رسالة ماجستير، للباحث جلال الحمادي، قدمت لجامعة تعز، وقد استفدت منهما في مسائل الصيغ الصرفية والعدول عنها، في خطاب العهد المدني.
تقسيم الدراسة:
تم تقسيم الدراسة على الآتي:
? المقدمة.
? التمهيد : تم فيه الحديث عن معنى كلمة (خطاب)، في اللغة، وفي النص القرآني، وفي الدراسات الأسلوبية الحديثة، وتم الحديث أيضًا عن السور المدنية: عددها ومميزاتها وخصائصها، بعد ذلك تم ذكر اختلاف العلماء في بعضها وترجيح مدنية بعض السور.
وبعد ذلك قسمت الدراسة على ثلاثة فصول، وفي كل فصلٍ أربعة مباحث، والفصول مع مباحثها هي:(1/2)
? الفصل الأول: تنوع افتتاحات السور المدنية: وتناولت فيه أربعة مباحث، هي: استهلال السور المدنية بالبسملة وعدمها، و بدء السور المدنية بالأحرف المقطعة، وبدء السور المدنية بالأدوات النحوية، و بدء السور المدنية بالأفعال والأسماء، وكان افتتاحي بهذا الفصل لأن افتتاح الخطاب بالبسملة والأدوات النحوية و الأفعال و الأسماء خطاب عام لكل الخلق، فهو وإن كان موجهًا إلى معينٍ فقد يدخل في حكمه شخصٌ أو جماعة آخرون.
? الفصل الثاني: تنوع المخاطبين في الخطاب المدني، وتناولت فيه: خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، و خطاب الله تعالى لأهل الإسلام، و خطاب الله تعالى لأهل الكتاب وللمشركين، وخطاب الله تعالى للفئات الأخرى، وهذا القسم من الخطاب كان موجهًا إلى طوائف معينةٍ، ولم يدخل في خطابهم غيرهم لأنهم معنيون بهذا الخطاب.
? أما في الفصل الثالث فتناولت مستويات اللغة لتنوع الخطاب المدني، مستعرضًا في ذلك المستوى الصوتي، والمستوى الصرفي، و المستوى النحوي، والمستوى الدلالي في الخطاب المدني، في كلا نوعي الخطاب المدني السابق: الخطاب العام والخطاب الخاص.
ثم أعقبت الدراسة بخاتمة للبحث، تناولت فيها خلاصة ما توصلت إليه من نتائج البحث.
وقد حاولت في هذه الدراسة الاستفادة من الوصف منهجًا، والتحليل إجراءً، كما يبرز في كتب الدراسات اللغوية القديمة والحديثة، إذ يصلح ذلك المنهج لهذه الدراسة، وقد كانت هذه الدراسة ببدء الخطاب، ففي هذا البدء يتم تناول أجزاء الكلمة؛ إذ هي التي افتتح الخطاب المدني بها؛ فالخطاب المدني بدأ بحروف المباني (الأحرف المقطعة)، ثم بالأدوات النحوية، ثم بالاسم والفعل، وهذا ما تتألف منه جُمل الخطاب في العهد المدني.(1/3)
ثم كان الفصل الثاني في تعلق الخطاب المدني بالمخاطبين؛ إذ سعى الباحث فيه لإثبات التنوع في خطاب القرآن الكريم في العهد المدني من حيث المخاطبين بالخطاب، فهم على أقسام كما يظهر من تقسيمات الفصل، ثم تنوع خطاب القرآن لهم من حيث صيغ الخطاب التي خوطبوا بها في هذا العهد، إذ هي ثلاث صيغ رئيسة عند كل مخاطب، وكانت تلك الصيغ هي المرتكز الذي بُني عليه الخطاب في العهد المدني، ثم تنوع خطاب القرآن من حيث موضوعات الخطاب الذي خوطبوا به في تلك الصيغ الثلاث، وقد أراد الباحث من هذا الأمر إيجاد التنوع في ماهية الموضوعات التي خاطب الله بها كل قسم من المخاطبين، ثم ماهية أساليب الخطاب، سواء أكانت تلك الأساليب من حيث التركيب أم كانت من حيث التعبير، وأخيرًا خرج الباحث بالتنوع من حيث غايات الخطاب في العهد المدني لكل المخاطبين، على أن الباحث في أثناء بحثه قد يعرض بعض صور الاختلاف بين الخطاب في العهد المدني والخطاب في العهد المكي–مما ظهر للباحث بالاستقراء للأمور الواضحات–، أما الخوض في تفصيلات الاختلافات بين آيات العهد المكي، وآيات العهد المدني فلم يعرض الباحث له ولم يلتفت إليه؛ إذ ليس هو بموضوع البحث، وإنما هي أمور نبه عليها الباحث حتى إذا قام بها غيره، كانت بدايات عمله منطلقة منها.
أما الفصل الثالث فقد كان لدراسة مستويات اللغة في خطاب العهد المدني، إذ قمت في هذا الفصل بتناول آيات الخطاب التي قمت بجمعها من افتتاحات السور ومن تنوع المخاطبين وخطابهم وغاياته، ودرستها من غير تخصيص لمخاطب دون غيره في الدراسة، ومن غير تخصيص لافتتاح دون غيره، إذ إن هذا الفصل هو الدراسة اللغوية للتنوع في خطاب القرآن للعهد المدني، على أنني قد أذكر عند بعض الآيات أن هذه الآية كانت خطابًا لمعينين؛ حتى أنبه على أن موضوع البحث هو ما خاطب الله تعالى به مخلوقاته.
وكنت اعتمدت أمورًا، ورموزًا في عملي هذا، وهي على النحو الآتي:(1/4)
1- قمت بتخريج الأبيات الشعرية على دواوين شعرائها، الذين تمكنت من العثور على دواوينهم، ومن لم أجد ديوانه خرّجت أبياته على كتب اللغة والأدب التي وقفت عليها، غير أنني وقعت على أبيات لم أجد من خرّجها في كتب اللغة والأدب، ولكنها موجودة في كتب التفسير والسيرة فرجعت إليها وخرجتها منها، بعد أن أعيتني الحيل، وذكرت ذلك في موضعه.
2- قمت بتخريج القراءات القرآنية من كتب القراءات، إلا إن بعض تلك القراءات لم تذكر في الكتب التي وقعت عليها، ولكنها ذكرت في كتب التفسير؛ فخرّجتها عليها؛ لأني لم أجدها في كتب القراءات.
3- وضعت في فهرس مصادر البحث ومراجعه رموزًا دالة على بعض الأمور، وهذه الرموز هي:
* وضعت رمز (–) بين اسمين أو حرفين هجائيين، ويعني الاشتراك في ما بينها، أو بين عامين ميلادي وهجري وحينئذٍ يعني المُوافق.
* وضعت حرف (د) في قائمتي، وقد عنيت به كلمة (من غير، أو بدون) إذا كان موضوعًا في أول الحروف الهجائية، و عنيت به كلمتي (دار النشر) إذا جاء في وسط الحروف الهجائية.
* وضعت حرف (ن) ويعني كلمة (النشر).
* وضعت في الفهارس حرف (ط) للدلالة على كلمة (رقم الطبعة) إذا جاء بعدها رقم، و للدلالة على كلمة (مكان الطبع أو تاريخه) إذا جاء قبله حروف الهجاء.
* وضعت حرف (ت) وأعني به كلمة (تاريخ)، إذا جاء قبله أو بعده حروف الهجاء، وأعني به (تحقيق) أو(تصحيح) أو (تعليق) إذا جاءت بعده النقطتان المتعامدتان (:).
* وضعت حرف (م) وأعني بها (مكان النشر).
فإن أصبت، في ما كتبت وعملت، فذلك فضل من الله تعالى عليَّ، ولا أدعي لنفسي الفضل، فإنها أمارة بالسوء والمنكر، ثمَّ هو فضل لأستاذي الدكتور بابعير؛ إذ نبهني على كثير من مسائل البحث.(1/5)
وإن أخطأت، في ذلك، فهذا يرجع لقلة علمي وقلة خبرتي بهذا المجال، ثم عذري أنني حاولت الإدلاء بدلوي في بابٍ لم أهتدِ إلى سابقٍ لي فيه، سائلاً الله أجر المجتهد، إذ الخطأ من نفسي ومن الشيطان؛ وقد أبى الله تعالى أن يكون كتاب صحيح غير كتابه، والله وليي في ذلك، وأتمنى أن يغفر لي زلتي وخطئي، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(1/6)
تمهيد
? مفهوم الخطاب :
للخطاب مفهومان، المفهوم الأول أصيل، ثابت، بسيط (غير مركب) عرفته العرب وورد في القرآن الكريم، وفي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفي المعجمات اللغوية الأولى، أما المفهوم الثاني، فإنه معاصر ذو طبيعة تركيبية يتعدى بها الدلالة اللغوية، إلى الدلالة الفلسفية، والدلالة السياسية، وتتضح الفروق بين دلالات الخطاب بحسب السياقات التي ترد فيها.
مفهوم الخطاب على المستوى اللغوي :
جاء في صحاح الجوهري: ((الخَطْبُ: سبب الأمر... تقول: ما خَطْبُكَ. وخَطبت على المنبر خُطْبَةً بالضم.
وخاطبه بالكلام مُخاطَبةً وخِطابًا. وخَطَبْتُ المرأة خِطْبَةً بالكسر؛ واختطب أيضًا فيهما. والخطيبُ: الخاطبُ. والخِطِّيبى: الخِطْبَةُ. قال عديّ بن زيد يذكر قصد جذيمةَ الأبرشِ لِخِطْبةِ الزَبَّاء(1):
لِخِطِّيبى التي غَدَرَتْ وَخانَتْ ... ... وهُنَّ ذواتُ غائِلَةٍ لُحِينَا
والخِطْبُ: الرجل الذي يَخْطُبُ المرأة. ويقال أيضًا هي خِطْبُهُ وخُطْبَتُهُ للتي يَخْطِبُها. وخَطُبَ بالضم خَطابَةً بالفتح: صار خطيبًا... واختطب القومُ فلانًا، إذا دعوه إلى تزويج صاحِبَتِهِمْ))(2).
__________
(1) البيت له في تفسير القرطبي (3/189)، والمستقصى في أمثال العرب، للزمخشري (1/243)، و في العين، مادة (خطب)، (4/222)، واللسان (1/360)، ولم أقف عليه في غيرها مما وقع تحت يدي من الكتب.
(2) الصحاح للجوهري، مادة (خطب)، ( 1/147 ).(1/1)
وجاء في المصباح المنير: ((خَاطَبَهُ مُخَاطَبَةً و خِطَابًا وهو الكلامُ بين متكلمٍ وسامعٍ ومنه اشتقاقُ (الخُطْبَةِ) بضمِ الخاءِ وكسرِها باختلافِ معنيينِ فيقالُ في الموعظةِ (خَطَبَ) القومَ وعليهم من بابِ قَتَلَ (خُطْبَةً) بالضمِ وهي فُعْلَة بمعنى مفعولةٍ نحو (نُسْخَةٍ ) بمعنى منسوخةٍ وغرفةٍ من ماءٍ بمعنى مغروفةٍ وجمعها(خُطَبٌ) مثل غُرفَة وغُرَف فهو (خَطِيبٌ) والجمعُ (الخُطَبَاءُ) وهو (خَطِيبُ) القومِ إذا كانَ هو المتكلمُ عنهم و (خَطَبَ) المرأةَ إلى القومِ إذا طلبَ أن يتزوجَ منهم ... و (الخَطْبُ) الأمرُ الشديدُ ينزلُ والجمعُ (خُطُوبٌ) مثل فَلْس وفُلُوس..))(1).
__________
(1) المصباح المنير، لأحمد بن محمد الفيومي، مادة (الخاء مع الطاء وما يثلثهما)، ( 1/173 ).(1/2)
ولا يختلف هذا المفهوم عند سائر أصحاب المعجمات؛ ففي معجم ألفاظ القرآن الكريم ((خاطبَهُ مُخَاطبةً: تَكلَّمَ مَعهُ، وَالخَطْبُ: الشَّأنُ الذي تَقَعُ فِيهِ المُخَاطَبَة))(1)، وجاء عند الزبيدي بالمعنى نفسه، إذ قال: ((والخِطَابُ والمُخَاطَبَةُ : مُرَاجَعَةُ الكَلاَمِ وقَدْ خَاطَبَهُ بالكَلاَم مُخَاطَبَةً وخِطَابًا وهُمَا يَتَخَاطَبَانِ قال الله تعالى: { وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا } (2)، وفي حديث الحَجَّاجِ « أَمِنْ أَهْلِ المَحَاشِدِ والمَخَاطِبِ »(3) أَرَادَ بالمَخَاطِبِ الخُطَب جُمِعَ على غيرِ قِيَاسٍ كالمَشَابِهِ والمَلاَمِحِ وقِيلَ هو جَمْعُ مَخْطَبَةٍ والمَخْطَبَةُ: الخُطْبَةُ والمُخَاطَبَةُ: مُفَاعَلَةٌ من الخِطَابِ والمُشَاوَرَة أَرَادَ: أَأَنْتَ من الذينَ يَخْطُبُونَ النَّاسَ ويَحُثُّونَهُم على الخُرُوج والاجتماعِ لِلْفِتَنِ))(4).
__________
(1) مفردات ألفاظ القرآن الكريم، للراغب الأصفهاني ( 286 ).
(2) هود : 37.
(3) لم أجده في كتب التراجم والطبقات، التي تعرضت لحياة الحجاج بن يوسف الثقفي، ووقعت عليها.
(4) تاج العروس، للزبيدي، باب الباء الموحدة، مادة (خ ط ب)، ( 1/ 470 ).(1/3)
ويأتي الخطاب في اللغة أيضا بمعنى المحاورة، فمن ذلك تفسير المفسرين لقوله تعالى: { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [ الكهف: 34]، إذ ذكر ذلك الزمخشريُّ في سياق تفسيره للآية، أن: ((يحاوره: يُراجعُهُ الكلامَ ))(1)، وشاركه في هذا التفسير كل من: الفخر الرازي(2)، والقرطبي(3)، وأبي حيان الأندلسي(4)، والشوكاني(5)، وقريب من هذا قول الطبري بأن معنى المحاورة: المخاطبة والكلام(6)، وهذه النقول تدعو إلى القول بتقارب معاني مصطلحات: (الخطاب والكلام والحوار) من المنظور اللغوي.
مفهوم الخطاب على مستوى السياق القرآني :
__________
(1) الكشاف ( 2/674 ).
(2) ينظر: تفسير مفاتيح الغيب، للرازي ( 11/126 ).
(3) ينظر: الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ( 10/403 ).
(4) ينظر : البحر المحيط، لأبي حيان ( 6/123 ).
(5) ينظر: فتح القدير، للشوكاني ( 1043 ).
(6) ينظر: تفسير الطبري ( 9/246 ).(1/4)
... تعددت في القرآن مادة ( خ ط ب ) ثماني مراتٍ(1)، ووردت بصيغة (خطاب) ثلاث مرات: في قوله تعالى: { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزّنِي فِي الْخِطَابِ } [ سورة ص : 23]، أي قهرني في الكلام(2)، وفي قوله تعالى: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } [سورة ص: 20]، و((فصلُ الخطابِ: الحكمُ بالبينةِ، أو اليمينِ، أو الفقهُ في القضاءِ، أو النُّطْقُ بأمَّا بعدُ))(3)، كما وردت هذه الصيغة في قوله - عز وجل - : { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } [ النبأ: 37]، أي كلامًا(4).
... ونحن نلحظ في سياق ورود لفظ (خطاب) في الآيات القرآنية الثلاث، أن الخطاب قُرِن بالعزة، وبشدة البأس، وبالحكمة، وبالعظمة والجلال لله تبارك وتعالى. وهذا مجال فسيح للتأمل والاستبصار والتدقيق في اكتناه المعنى العميق للفظ (خطاب)، مما يخرج به عن المفهوم اللغوي بحسبانه مراجعة الكلام، أو أنه الكلام الذي يقصد به الإفهام، ويرتقي به إلى مستوى أرفع، شديد اللصوق بمعانٍ سامية تتفاوت بين العزة { وَعَزّنِي فِي الْخِطَابِ } والحكمة { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } ، والعظمة الربانية والجلال الإلهي { رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرّحْمَنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } .
مفهوم الخطاب على مستوى المفهومات الحديثة :
__________
(1) وردت هذه المادة في القرآن الكريم ، في المواضع الآتية : البقرة : 235، ويوسف : 51، والحجر: 57، وطه :95، والقصص : 23، والذاريات :31، والمؤمنون : 27، والفرقان : 63.
(2) ينظر: تفسير الطبري ( 21/179 ).
(3) القاموس المحيط، باب الباء فصل الخاء مادة (خطب)، ( 104 ).
(4) ينظر: الدر المنثور، للسيوطي ( 8/399 ).(1/5)
... الخطاب اصطلاح فلسفي(1)، إذ ذكر أبو البقاء أن: ((الخطاب اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه ))(2).
وقد احترز (( باللفظ عن الحركات والإشارات المفهمة بالمواضعة، و بالتواضع عليه عن الألفاظ المهملة، و بالمقصود به الإفهام عن كلام لم يقصد به إفهام المستمع فإنه لا يسمى خطابًا، وبقوله لمن هو متهيئ لفهمه عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم، والكلام يطلق على العبارة الدالة بالوضع، وعلى مدلولها القائم بالنفس، فالخطاب إما الكلام اللفظي أو الكلام النفسي الموجه نحو الآخرين للإفهام))(3).
... إن هذا الأمر دعا إلى التفريق بين مفهومي الخطاب والكلام، كما عند الطوفي، الذي وكده بقوله: (( ليس الخطاب هو الكلام والمكالمة،وهي توجيه الكلام من كل واحد منهما إلى صاحبه، لأنا نقول خاطبه بالكلام، فلو كان الخطاب هو الكلام، لكان التقدير: كالمه أو كلمه بالكلام، فيكون تكرارًا أو تأكيدًا ... نعم استعمل الخطاب في الاصطلاح بمعنى الكلام، فصار حقيقة اصطلاحية))(4) ، ودعوى المتقدمين إلى القول بالتفريق بين المفهومين– منهم أبو هلال العسكري في فروقه اللغوية(5)–؛ هو (( ما جعل القرافي في شرح التنقيح يعدل عن لفظ (خطاب الله) إلى لفظ (كلام الله) قال: لأن الخطاب والمخاطبة لغة، إنما يكون بين اثنين، وحكم الله تعالى قديم، فلا يصح فيه الخطاب، وإنما يكون في الحادث، وهذا القول منه كان بناء على أمرين:
__________
(1) ينظر: الخطاب الإسلامي بين الأصالة والمعاصرة، د. عبدالعزيز التويجري، موقع إلكتروني.
(2) الكليات، لأبي البقاء الكفوي ( 658 )، وينظر: الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي ( 1 / 136).
(3) الكليات (658 ).
(4) شرح مختصر الروضة، للطوفي ( 1 / 250 ).
(5) ينظر: الفروق في اللغة، لأبي هلال العسكري ( 27 ).(1/6)
أحدهما: أن كلام الله معنى قائم بالنفس(1)، فلا يظهر منه لغيره حتى يكون خطابًا.
والثاني : أن الله سبحانه وتعالى قديم، فلا يصح أن يكون معه في الأزل من يخاطبه ))(2).
ودخل اصطلاح الخطاب الفكر السياسي المعاصر، فصار الخطاب السياسي مشتملاً على الحمولة الفكرية والمضمون الأيديولوجي، مما يجعل الخطاب السياسي للجماعة معبرًا عن عقيدتها السياسية واختياراتها المذهبية، فالخطاب في هذا المقام ليس مجرد أسلوب للتبليغ، وطريقة للتعبير عن الرأي والموقف، ولكنه الوعاء المعبر عن الروح والعقيدة والفلسفة، فـ(( ما من خطاب إلا ويعبر عن ذاتية المخاطب، ويعكس هويته ويترجم فكره)) (3).
__________
(1) هذا الكلام مردود لأن كلام الله تعالى بالحرف والصوت. ينظر: شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز (179 وما بعدها) ففيه تفصيل للمسألة، وينظر كذلك الكليات ( 658).
(2) شرح مختصر الروضة ( 1 / 251 ).
(3) الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، لـ د. يوسف القرضاوي (268).(1/7)
... غير أن الدراسات الأسلوبية الحديثة عنيت بموضوع الخطاب، فرأي دي سوسير أن مصطلح الخطاب يرادف مصطلح الكلام(1)، لذا يختلف عن مصطلح اللغة لأنه فرق بين اللغة والكلام(2) في قوله: (( إن اللغة والكلام عندنا ليسا بشيء واحد، فإنما هي منه بمثابة قسم معين وإن كان أساسيًا، والحق يقال، فهي في الآن نفسه نتاج اجتماعي لملكة الكلام ومجموعة من المواضعات يتبناها الكيان الاجتماعي ليمكن الأفراد من ممارسة هذه الملكة. وإذا أخذنا الكلام جملة بدا لنا متعدد الأشكال متباين المقومات موزعًا في الآن نفسه، إلى ما هو فردي، وإلى ما هو اجتماعي ... أما اللغة فهي على عكس ذلك، كل بذاته ومبدأ من مبادئ التبويب ))(3)، وبناءً على ذلك تعددت مفهومات الخطاب، بعدِّه كلامًا، بتعدد المدارس والاتجاهات لما بعد الحداثة الأدبية، فتنوعت رؤية الأسلوبيين لمفهوم الخطاب واختلفت المصطلحات التي تحدد القالب العام لمفهوم (الخطاب)، ومن تلك المفهومات التي قيلت لتعريف مصطلح الخطاب، ما يأتي(4):
أ- إن الخطاب ملفوظ طويل أو متتالية من الجمل. (هاريس)
ب- إن الخطاب هو كل لفظ يفترض متكلمًا ومستمعًا، وعند الأول هدف التأثير في الثاني بطريقة ما. (بنفنست)
ج- إن الخطاب نص محكوم بوحدة كلية واضحة، يتألف من صيغ تعبيرية متوالية، تصدر عن متحدث فرد، يبلغ رسالة ما. (هارتمان وستورك)
__________
(1) ينظر: تحليل الخطاب من اللسانيات إلى السيميائيات، لـ أحمد يوسف، موقع إلكتروني.
(2) هذا قول لغويي العرب الذين ذكروا أن الخطاب هو الكلام كما مر في المفهوم اللغوي للخطاب.
(3) محاضرات في الألسنية العامة، دي سوسير، تر: يوسف غازي ومجيد النصر ( 21 ).
(4) ينظر التعريفات في: الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، لـ د. عبدالله إبراهيم ( 108 ).(1/8)
د- إن الخطاب مجموعة من الملفوظات بوصفها تنتمي إلى نفس التشكيلة الخطابية، فهو ليس وحدة بلاغية أو صورية قابلة لأن تتكرر إلى ما لا نهاية، بل هو عبارة عن عدد محصور من الملفوظات التي تستطيع تحديد شروط وجوده، إنه تاريخي من جهة أخرى، جزء من الزمن، وحدة وانفصال في التاريخ ذاته، يطرح مشكلة حدوده الخاصة، وألوان قطعيته وتحولاته والأنماط النوعية لزمانيته بدل أن يطرح مشكلة انبجاسه المباغت وسط تواطؤ الزمن.(ميشيل فوكو) (1) .
... تكاد معظم التعريفات السابقة لمفهوم (الخطاب) تجمع على أنه نص من الملفوظات التي يراد بها إفهام الآخرين(2)، والتأثير فيهم، فالخطاب هو (( كل منطوق به موجه إلى الغير بغرض إفهامه مقصودًا مخصوصًا ))(3) وإن تنوعت تعبيراتهم في ذلك.
وقد قسمت تلك الدراسات الأسلوبية الحديثة الخطاب على قسمين، على النحو الآتي:
1- خطاب لغوي نفعي (عادي): يستخدم في الكلام اليومي لقضاء الحاجات الأساسية بين عموم الناس.
2- خطاب لغوي مكرس (أدبي) : يستخدم في اللغة الأدبية العليا(4).
وخلاصة القول: أن الخطاب يحتاج في تكونه إلى ثلاثة عناصر أساسية، هي(5):
1- الباث : الذي يقوم بعملية إنتاج النص الخطابي وإرساله.
2- المتلقي: الذي يستقبل النص الخطابي، ويقوم بتفكيكه وتحليله.
3- الخطاب (النص) : الرسالة أو الموضوع الذي أرسله الباث إلى المتلقي.
__________
(1) ينظر: التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو، لـ د. السيد ولد أباه (110).
(2) ينظر: التوقيف على مهمات التعاريف، لمحمد عبدالرؤوف المناوي ( 316 ).
(3) اللسان والميزان، لـ د. طه عبدالرحمن، ( 215 )، وينظر: الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، لزكريا بن محمد الأنصاري ( 68 ).
(4) ينظر: الأسلوبية والأسلوب، لـ د . عبدالسلام المسدي (101)، ومقالات في الأسلوبية، لـ د. منذر عياشي (145).
(5) ينظر: استراتيجيات الخطاب، لعبد الهادي بن ظافر الشهري (39) .(1/9)
وهذه العناصر الثلاثة يمكن تمثلها أفقيًا بما يأتي:
المخاطب ... ... خطابًا ... ... ... المخاطب
لذلك تناولي لمفهوم الخطاب سيتم بتناول الكلام الموجه من الله تعالى لخلقه، سواء أكان المخاطبون به من البشر أم من غيرهم، ولن يتم تناول الخطاب بمفهوم المحاورة لأن هناك دراسات تناولت هذا الجانب(1)، بل سيتم تناول خطاب الله تعالى الموجه إلى خلقه على اختلاف أجناسهم واختلاف عقائدهم،واختلاف أزمانهم، في السور المدنية، وهذا يعني أنني لن أتناول الآيات المدنية التي في السور المكية للأسباب الآتية:
1– لم أجد في تلك الآيات أمرًا مغايرًا لما دار عليه الخطاب في السور المدنية، سواء أفي الموضوع أم في الأسلوب والغاية.
2– هناك تشابه بين بعض الآيات المكية والمدنية من حيث الموضوع والخطاب، فرأيت أن ترك المتشابه إلى المحكم أولى من أخذه؛ لئلا يلتبس الأمر في الدراسة.
3– اختلاف المفسرين في عدِّ هذه الآيات مكية أو مدنية؛ لكون قسم من الآيات لا دليل نقلي على كونها مكية أو مدنية، وإنما خضع عدُّها مكية أو مدنية إلى الاجتهاد، إذ لا دليل على عدِّ تلك الآيات مكية أو مدنية إلا الاجتهاد أو الرأي، وكلاهما أمر محتمل القبول أو الرفض، وترك الاستدلال بتلك الآيات أولى من الأخذ بها لوجود الاحتمال، فدخول الاحتمال في الأمر يبطل الاستدلال به.
? مفهوم العهد المدني: حده، وعدد سوره وخصائصها:
إن علم المكي والمدني بدأ بشكل روايات تناقلها الصحابة والتابعون، ولم يرد في ذلك بيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن المسلمين في زمانه - صلى الله عليه وسلم - لم تكن بهم حاجة إلى هذا البيان، كيف وهم يشهدون الوحي والتنزيل، ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عيانًا، (( وليس بعد العيان بيان )) (2).
__________
(1) كما في (محاورات الأنبياء لأقوامهم في القرآن الكريم دراسة أسلوبية) وهي رسالة دكتوراه للدكتور نجيب السودي.
(2) مناهل العرفان، للزرقاني ( 1 / 196 ) .(1/10)
هذا الأمر هو ما جعل العلماء من بعدهم، يعتمدون في تحديد السور المكية والسور المدنية على منهجين(1)، هما:
1- المنهج السماعي (النقلي): المبني على الأحاديث المسندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبوت الأخبار عنه - صلى الله عليه وسلم - بأن هذه السورة أو تلك مكية أو مدنية.
2- المنهج الاجتهادي (العقلي) : المبني على اجتهادات العلماء في تحديد خصائص الأسلوب وموضوعات السورة، التي يريدون تحديد ما إذا كانت مكية أو مدنية، وكان السبب لهذا الاجتهاد، عدم ورود الأحاديث التي تبين نسبة هذه السورة أو تلك.
وكان من نتائج هذين المنهجين أن اعتمد العلماء على ثلاثة أساسات للتمييز بين السور المكية والسور المدنية، تمثلت تلك الأساسات في الآتي(2):
الأول – الاعتداد بزمن النزول، فالمكي: ما نزل قبل الهجرة وإن كان بغير مكة، والمدني: ما نزل بعد الهجرة وإن كان بغير المدينة.
الثاني – الاعتداد بمكان النزول، فالمكي: ما نزل بمكة وما جاورها كمنى، وعرفات والحديبية. و المدني: ما نزل بالمدينة وما جاورها كأحد، وقباء وسلع(3).
الثالث – الاعتداد بالمخاطب، فالمكي: ما كان خطابًا لأهل مكة، والمدني: ما
كان خطابًا لأهل المدينة.
... جمع بعض الباحثين في الدراسات القرآنية الفروق الحاصلة في خصائص وضوابط السور المكية والمدنية، فكانت تلك الخصائص والضوابط ظاهرة في الأمور الآتية(4):
1– ضوابط السور المدنية:
__________
(1) ينظر: مباحث في علوم القرآن، للقطان ( 59-60 )، والمكي والمدني في القرآن، لعبد الرزاق حسين ( 1 / 127 ) .
(2) ينظر: البرهان في علوم القرآن ( 1 / 187 )، والإتقان ( 1 / 23 )، ومباحث في علوم القرآن ( 60 – 61 ) .
(3) هذه أسماء مناطق وجبال بالقرب من مكة والمدينة.
(4) تنظر تلك الضوابط والمميزات في : الإتقان ( 1/47 )، ومناهل العرفان ( 1/167 )، ومباحث في علوم القرآن ( 62-64 )، والمكي والمدني ( 1/159 ) وما بعدها.(1/11)
اختصت السور المدنية بعدد من الضوابط، هي:
أـ كل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية.
بـ كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية، سوى سورة العنكبوت فإنها مكية(1)، إلا الآيات الإحدى عشرة الأولى فإنها مدنية.
جـ كل سورة فيها مجادلة أهل الكتاب فهي مدنية.
دـ كل سورة فيها إذن بالجهاد أو ذكر له وبيان لأحكامه فهي مدنية.
هـ كل آية فيها الخطاب بقوله - سبحانه وتعالى - : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } فهي مدنية(2).
2– المميزات الموضوعية للسور المدنية وخصائص الأسلوب :
انمازت السور المدنية بجملة من الموضوعات والخصائص من مثل:
أـ بيان العبادات، والمعاملات، والحدود، ونظام الأسرة، والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع.
بـ مخاطبة أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتاب الله، وتجنيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم.
جـ الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسياتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين.
دـ طول المقاطع والآيات، في أسلوب يقرر الشريعة، ويوضح أهدافها ومراميها.
هـ المناظرة بين اليهود والنصارى.
وـ سهولة ألفاظها وخلوها من الغريب اللغوي في الغالب.
__________
(1) لأن حركة النفاق كانت حركة مدنية.
(2) سيأتي لاحقا أن هذا الضابط مخروم، وليس بصحيح لأسباب متعددة منها:
أ ... سورة الحديد بدأت بهذه الآية والراجح أنها سورة مكية.
ب ... ليس المراد بهذا النداء أهل الإسلام فقط، بل تعداهم إلى المنافقين وأهل الكتاب. حتى المشركون والناس أجمعون نودوا بهذا النداء، على ما سيتم توضيحه لاحقا في الفصل الثاني من هذه الدراسة.(1/12)
زـ حديثها عن العقيدة، ولكن هذا الحديث لا يأخذ المساحة التي كان يأخذها في السور المكية؛ لأنه هنا للتذكير، واحتل المساحة الأكبر موضوعان جديدان هما: التنظيمات والتشريعات، والجهاد في سبيل الله(1).
تلك الضوابط والمميزات هي التي اعتدّ بها العلماء للفصل في إثبات مكية السور أو مدنيتها،لأن التفصيل في السور، أمكية هي أم مدنية قضية كبرى، شغلت المتقدمين والمتأخرين، ومن خلال تتبع كتب التفسير وعلوم القرآن، التي استطعت الوصول إليها، خلصت إلى النتائج الآتية :
1- هناك سور اتفق على أنها مدنية :
وقد حصرت هذه السور في المجموعة الآتية(2):
1– البقرة ... 2– آل عمران ... 3– النساء ... 4– المائدة
5 – الأنفال ... 6– التوبة ... 7– النور ... 8– الأحزاب
9– الفتح ... 10– الحجرات ... 11– المجادلة ... 12– الحشر
13– الممتحنة ... 14– الجمعة ... 15–المنافقون ... 16– الطلاق
17– التحريم ... 18– النصر
و زاد بعضهم (3) سورتي { محمد والحديد } إلا أن هناك من ذكر اختلاف العلماء في مدنيتهما أو مكيتهما، وسيأتي ذكره إن شاء الله في موضعه قريبًا.
2- السور المختلف في مكيتها أو مدنيتها :
أوصل بعضهم عدد السور المختلف فيها إلى اثنتي عشرة سورة(4)، ولكن بعد الرجوع إلى كتب تراثنا الإسلامي، عثرت على واحدة وثلاثين سورة، ذكر أهل العلم اختلافهم فيها، أمكية هي أم مدنية ؟، ومن هذه السور التي ذكروها ما يأتي:
1– الفاتحة ... 2– الرعد ... 3– الرحمن ... 4– الصف
5– التغابن ... 6– المطففين ... 7– القدر ... 8– البينة
9– الزلزلة ... 10– الإخلاص ... 11– الفلق ... 12– الناس
__________
(1) ينظر: دراسات قرآنية، لمحمد قطب ( 265 ).
(2) ينظر: مناهل العرفان (1/168 )، ومباحث في علوم القرآن ( 53 ) .
(3) ينظر: أنفسهما.
(4) ينظر: مباحث في علوم القرآن ( 53 ).(1/13)
... وبعض المتقدمين قد ذكروا الخلاف في هذه السور، وسأحاول التفصيل في الجدول الآتي، مبيّنًا أرجحية مكية السور أو مدنيتها، مع ذكر بعض المراجع التي ذكرت الخلاف في هذا الموضوع (1):
جدول يبين السور المختلف فيها مع ذكر مرجع الخلاف
م ... اسم السورة ... الترجيح ... بعض الكتب التي ذكرت الخلاف
1 ... الفاتحة ... مكية ... تفسير القرطبي (1/115)، الإتقان( 1/30 )، فتح الباري (8/159).
2 ... الرعد ... مكية ... القرطبي (9/278)، الرازي(10/3 )، البرهان (1/188).
3 ... الحج ... مكية ... القرطبي (12/1)، البرهان (1/187)، الإتقان ( 1/32 ).
4 ... الزلزلة ... مدنية ... القرطبي (20/146)، الإتقان (1/36 ).
5 ... الإنسان ... مكية ... القرطبي (19/118)، البحر المحيط ( 8/391 )، الإتقان ( 1/34 ).
6 ... المزمل ... مكية ... البحر المحيط ( 8/358 ).
7 ... العاديات ... مكية ... البحر المحيط ( 8/502 )، الإتقان ( 1/36 ).
8 ... الرحمن ... مكية ... القرطبي (17/151)، الإتقان ( 1/33 ).
9 ... الصف ... مدنية ... القرطبي (18/77)، الإتقان ( 1/34 ).
10 ... العنكبوت ... مكية ... البحر المحيط( 7/138 )
11 ... التغابن ... مدنية ... القرطبي (18/131)، البحر المحيط( 8/76 )، الإتقان ( 1/34 ).
12 ... المطففين ... مكية ... القرطبي (19/250)،البرهان (1/194)، الإتقان ( 1/34 ).
13 ... البلد ... مكية ... البحر المحيط ( 8/472 )، الإتقان ( 1/35 ).
14 ... الفجر ... مكية ... البحر المحيط ( 8/465 )، الإتقان ( 1/35 ).
15 ... الليل ... مكية ... القرطبي (20/80)، البحر المحيط ( 8/482 )، الإتقان (1/35).
16 ... التين ... مكية ... القرطبي (20/110)، البحر المحيط ( 8/489 ).
17 ... التكاثر ... مكية ... القرطبي(20/168)،البحر المحيط ( 8/507 )،الإتقان (1/36).
18 ... قريش ... مكية ... البحر المحيط ( 8/513 ).
19 ... الكوثر ... مكية ... البحر المحيط ( 8/518 )، الإتقان ( 1/37 ).
20 ... الكافرون ... مكية ... ناسخ القرآن ومنسوخه للنحاس ( 775 )، البحر المحيط ( 8/520 ).
__________
(1) اعتمدت في غالب الترجيحات على: خصائص السور والآيات المدنية، لعادل أبي العلاء( 63 ) وما بعدها.(1/14)
21 ... الإخلاص ... مكية ... البحر المحيط ( 8/527 )، الإتقان ( 1/37 ).
22 ... الفرقان ... مكية ... القرطبي (13/1)، البحر المحيط ( 6/480 )،الإتقان (1/32 ).
23 ... سبأ ... مكية ... القرطبي (14/258).
24 ... محمد ... مدنية ... القرطبي (16/223)، الإتقان ( 1/32 ).
25 ... الحديد ... مكية ... الإتقان ( 1/33 ).
26 ... البينة ... مدنية ... ناسخ القرآن ومنسوخه (775)، البحر المحيط ( 8/479 ).
27 ... الفلق ... مدنية ... الإتقان ( 1/37 )، خصائص السور المدنية (114).
28 ... الناس ... مدنية ... البحر المحيط ( 8/531 )،الإتقان ( 1/37 )،خصائص السور(114).
29 ... القدر ... مكية ... البحر المحيط ( 8/495 )، الإتقان ( 1/36 ).
30 ... الأعلى ... مكية ... القرطبي (20/13)، الإتقان ( 1/34 ).
31 ... العصر ... مكية ... القرطبي (20/178)، البحر المحيط ( 8/509 ).
3- السور المتفق على مكيتها :
هي بقية سور القرآن الكريم، علمًا بأن هذه السور ليست مجالاً للدراسة.
تأسيسًا على ما سبق ذكره، من تحديد السور المكية والمدنية، خلصت إلى أن السور المدنية، هي السور الآتية:
1– البقرة ... 2–آل عمران ... 3– النساء ... 4– المائدة ... 5– الأنفال
6– التوبة ... 7– النور ... 8– الأحزاب ... 9– الفتح ... 10– الحجرات
11–المجادلة ... 12– الحشر ... 13–الممتحنة ... 14– الجمعة ... 15– المنافقون
16– الطلاق ... 17–التحريم ... 18– النصر ... 19– الزلزلة ... 20– الصف
21– التغابن ... 22– محمد ... 23– البينة ... 24– الفلق ... 25– الناس
وما سوى تلك السور فهي سور مكية .
كان الغرض من التمييز بين السور المكية والسور المدنية، معرفة السور التي سوف تتناولها الدراسة بالبحث في قضاياها اللغوية، على وجه الدقة وليس التخمين.
علمًا بأن الدراسة سوف تتناول آيات الخطاب في تلك السور فقط، بالإضافة إلى آيات افتتاح السور في العهد المدني، خوفًا من الإطالة من جهة، ومن جهة أخرى رغبة في الاختصار، لأن جلَّ أساليب القرآن متشابهة، وإن تنوعت مواضعها في السور.(1/15)
... وإن البحث الطويل وراء إثبات مكية السورة أو مدنيتها، له فوائد ترجع بنتائجها على الباحثين والدارسين للقرآن الكريم وعلومه، والدارسين للغة العربية وفروعها، ويمكن ذكر تلك الفوائد على النحو الآتي(1):
1– الاستعانة به – أي علم المكي والمدني – في تفسير القرآن الكريم، إذ يساعد على فهم الآية وتفسيرها تفسيرًا صحيحًا، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويستطيع المفسر في ضوء ذلك، عند تعارض المعنى في آيتين، أن يميز الناسخ من المنسوخ.
2– تذوق أساليب القرآن الكريم والاستفادة منها في أسلوب الدعوة إلى الله، فإن لكل مقام مقالاً، ومراعاة مقتضى الحال من أخص معاني البلاغة.
3– الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية.
4– الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالمًا من التغيير والتحريف.
5– بيان عناية المسلمين بالقرآن الكريم واهتمامهم به، إذ لم يكتفوا بحفظ القرآن فحسب، بل تتبعوا أماكن نزوله، وما كان منها قبل الهجرة وما كان بعدها.
وعلم المكي والمدني علم له رجاله الذين بحثوا فيه وتطرقوا لمسائله، وظهرت فيه مؤلفات كثيرة، منها – على سبيل المثال لا الحصر(2)– :
1- ( نزول القرآن )، للضحاك بن مزاحم الهلالي.
2- ( نزول القرآن )، لعكرمة أبي عبدالله القرشي.
3- ( تنزيل القرآن )، لمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
4- ( التنزيل في القرآن )، لعلي بن الحسن بن فضال الكوفي.
5- ( تنزيل القرآن)، لأبي زرعة عبدالرحمن بن زنجلة.
و من الرسائل العلمية المتعلقة بالمكي والمدني :
1- (أهم خصائص السور والآيات المكية ومقاصدها)، رسالة دكتوراه للدكتور /أحمد عباس البدوي.(مطبوع)
__________
(1) ينظر: مناهل العرفان (1/166) ، مباحث في علوم القرآن (58-59)، المكي والمدني في القرآن (1/134).
(2) ينظر في ذلك: المكي والمدني في القرآن الكريم ( 1/63 ) وما بعدها.(1/16)
2- (خصائص السور والآيات المدنية : ضوابطها ومقاصدها)، رسالة ماجستير للباحث/ عادل أبي العلاء .(مطبوع)
3- (المكي والمدني في القرآن الكريم: دراسة تأصيلية نقدية للسور والآيات من أول القرآن إلى نهاية سورة الإسراء)، رسالة ماجستير للباحث/ عبدالرزاق حسين أحمد.(مطبوع)
...(1/17)
الفصل الأول
تنوع افتتاحات سور الخطاب في العهد المدني
الفصل الأول
تنوع افتتاحات سور الخطاب في العهد المدني
المبحث الأول:
استهلال سور الخطاب المدني بالبسملة وبعدمها
المبحث الثاني:
بدء سور الخطاب المدني بالأحرف المقطعة
المبحث الثالث:
بدء سور الخطاب المدني بالأدوات النحوية
المبحث الرابع:
بدء سور الخطاب المدني بالأفعال و الأسماء(1/1)
الفصل الأول المبحث الأول
استهلال السور المدنية بالبسملة وبعدمها
- توطئة.
- سبب افتتاح السور القرآنية بالبسملة.
- سبب عدم افتتاح سورة التوبة بالبسملة.
... توطئة:
... إن القارئ في القرآن الكريم، والناظر له، يجد أن جميع سوره (المكية والمدنية) بدئت في استهلالها بالبسملة، عدا سورة التوبة – وهي سورة مدنية – ، هذا الأمر جعلني أتساءل عن سبب ذلك.
... لقد تناول الأولون، في كتبهم ومؤلفاتهم البسملة بالدراسة والبحث، ولكن بحثهم فيها كان من جانبها الشرعي الديني، وفي البسملة وأحكامها ألفت الكتب، التي أذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، ما يأتي(1):
1- كتاب البسملة الأكبر، لأبي شامة المقدسي.
2- كتاب البسملة، لأحمد بن علي المدني.
3- كشف الستور المسدلة على أوجه أسرار البسملة، للشيخ منصور بن مصطفى الحلبي.
4- أحكام القنطرة في أحكام البسملة، لعبد الحي بن عبد الحليم اللكنهوي.
... وفي هذا المبحث سوف تتناول الدراسة البسملة من محاور لغوية ودلالية متعددة، حتى يمكن الإحاطة بالبسملة: معانيها ودلالتها – قدر المستطاع– و يتم الوصول إلى النتائج المرجوة من هذا المبحث.
__________
(1) ينظر: فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، لعبد الحي بن عبد الكبير الكتاني (1/25، 54، 436، 517) و( 2/594، 973، 1084).(1/1)
... فأما في معنى كلمة البسملة، فقد ذهب العلماء إلى أن هذه الكلمة منحوتة وهي– أي البسملة– اسم للفظ (بسم الله)، وهذا اللفظ ((صيغ على مادة مؤلفة من حروف الكلمتين: باسم والله، وعلى طريقة تسمى النحت ))(1)، وقد أطلق المولدون(2) مفهوم البسملة على قول بسم الله الرحمن الرحيم ((اكتفاءًً واعتمادًا على الشُّهرَةِ، وإنْ كانَ هذا المنحوتُ خاليًا من الحاءِ والراءِ، اللذينِ هما من حروفِ (الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ)، فشاعَ قولُهم: بَسْمَلَ في معنى قالَ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، واشتُقَ من فِعلِ بَسْمَلَ(3) مصدرٌ هو البسملةُ، كما اشتُقَ من هَلَّلَ مصدرٌ هو الهيللةُ وهو مصدرٌ قياسيّ لِفعْلَلَ))(4).
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير ( م1/ج1/ص137 ).
(2) هذا قول الماوردي في تفسيره، كما نقله عنه السمين الحلبي في الدر المصون في علوم الكتاب المكنون(1/13).
(3) هذه مسألة خلافية في أصل الاشتقاق آلمصدر هو الأصل أم الفعل. ينظر : الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري ( 1/235)، علما بأن هذه الكلمة اجتمعت ومصدرها في قول عمر بن أبي ربيعة :
لَقَدْ بَسْمَلَتْ لَيلَى، غَدَاةَ لَقِيتُهَا، ... ... ... فيَا حبَّذَا ذَاكَ الحَديثُ المُبَسْمَلُ
البيت في : ديوان عمر بن أبي ربيعة (306)، وعمر بن أبي ربيعة، لـ د. جبرائيل جبور ( 3/174).
(4) تفسير التحرير والتنوير ( م1/ج1/ص137 ).(1/2)
... هذا القول: بأن البسملة تعني (بسم الله)، من غير ذكر (الرحمن الرحيم) نصره جماعة من أصحاب اللغة و أصحاب التفسير، كابن منظور في لسان العرب(1)، وابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير(2)، وذهب إلى القول بأن البسملة تعني (بسم الله الرحمن الرحيم) جماعة منهم ابن السكيت(3)، والقرطبي(4).
... جدير بالذكر: أن المصادر التي اشتقت منها أسماؤها سبعة، ((بَسْمَلَ في بسمِ اللهِ، وسَبْحَلَ في سُبْحَانَ اللهِ، وحَيعَلَ في حيَّ على الصلاةِ، وحَوقَلَ في لا حولَ ولا قوة َإلا باللهِ، وحَمدَلَ في الحمدُ للهِ، و هَلَّلَ في لا إلهَ إلا اللهُ، وجَيعَلَ إذا قالَ جُعِلتُ فِدَاك، وزَادَ الطَّيقَلَةَ في أطالَ اللهُ بَقاءَكَ، والدَّمْعزَةَ في أدامَ اللهُ عِزَّكَ))(5).
... والبسملة التي ستدرس في هذا المبحث سيتم تناولها من جوانب متعددة، ليتم بها الوصل إلى الهدف المرجو من المبحث، وهو علاقة كل ذلك بحذفها من افتتاح سورة التوبة المدنية وذكرها في افتتاح جميع السور الأخرى، مدنية أو مكية.
سبب افتتاح السور القرآنية بالبسملة:
__________
(1) ينظر: لسان العرب، مادة (بسمل)، ( 11/56 ).
(2) ينظر: تفسير التحرير والتنوير (م1/ج1/ص137 ).
(3) ينظر: إصلاح المنطق لابن السكيت ( 303).
(4) ينظر: تفسير القرطبي (1/92).
(5) المزهر في علوم اللغة للسيوطي ( 1/372)، وينظر: تفسير التحرير والتنوير (م1/ج1/ص137 ).(1/3)
عُدَّت البسملة من براعة الاستهلال في الخطاب، لأن جميع السور القرآنية تشرح جوانب من ربوبية الله الرحمن الرحيم وتبينها، فالبسملة تذكير بأن ما من شيء إلا وباسم الله بدايته ووجوده، وقد ((نقل العلامة أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله تعالى افتتح كل كتاب بها، وروى السيوطي، فيما نقله عنه السرميني، والعهدة عليه: بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة كل كتاب))(1)، ورجح السَّرمِيني أن البسملة من خصوصيات هذه الأمة، ووافقه القرطبي في تفسيره(2)، ويرد هذا الرأي الذي يزعم أنها من خصوصيات هذه الملة، ما جاء في القرآن الكريم من سورة النمل، في قصة سليمان - عليه السلام - أنه أرسل رسالة إلى ملكة سبأ، قال الله - سبحانه وتعالى - على لسانها: { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [النمل: 30]، ويرده أيضا الإجماع، الذي ذكره التونسي(3)، و ((روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب باسمك اللهم إلى أن نزلت: { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } (4) فأمر بكتابة (بسم الله) حتى نزلت: { قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرّحْمَنَ } (5) فأمر بكتابة (بسم الله الرحمن) إلى أن نزلت آية النمل، فأمر بكتابة (بسم الله الرحمن الرحيم).))(6).
__________
(1) تفسير روح المعاني للألوسي ( م1/ج1/68 ).
(2) ينظر: تفسير القرطبي ( 1/90 ).
(3) ينظر : روح المعاني ( م1/ج1/68 ).
(4) هود : 41.
(5) الإسراء: 110.
(6) صبح الأعشى في صناعة الإنشا لأحمد بن علي القلقشندي ( 6/211 ).(1/4)
و ذهب بعضهم إلى القول بأن سبب افتتاح السور بالبسملة يرجع إلى أن (( البسملة قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم في هذه السورة حق، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي وبري))(1)، وقد قال الأستاذ الإمام محمد عبده:« إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس، إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم ... بتغليظ وتبليد» (2).
وقيل (( كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه، فالباء مفتاح اسمه البصير، والسين مفتاح اسمه السميع، والميم مفتاح اسمه الملك، والألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه اللطيف، والهاء مفتاح اسمه الهادي، والراء مفتاح اسمه الرازق، والحاء مفتاح اسمه الحليم، والنون مفتاح اسمه النور، ومعنى هذا كله، دعاء الله تعالى ثم افتتاح كل شيء))(3).
وسواء أكان الرأي الأول أم كان الرأي الأخير هو السبب في الافتتاح بالبسملة، فلا اختلاف في المعنى بين كل الآراء، لأنها جميعًا تدل على التبرك باسم الله قبل القيام بالعمل، كما أن الأوامر قد جاءت من الله - سبحانه وتعالى - ، ومن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالافتتاح باسم الله قبل القيام بالأعمال والأفعال، ومن هذه الأوامر أذكر – على سبيل المثال لا الحصر– ما يأتي:
1- قال الله تعالى: { فَسَبّحْ بِاسْمِ رَبّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 74، والواقعة: 96، والحاقة: 52].
2- قال الله تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ } [ العلق: 1].
3- قال الله - عز وجل - : { فَكُلُواْ مِمّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام: 118].
__________
(1) تفسير القرطبي ( 1/91 ).
(2) تفسير التحرير والتنوير ( م1/ج1/ص151 ).
(3) تفسير القرطبي ( 1/91 ).(1/5)
4- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« أغلقْ بابَك واذكرِ اسمَ اللهِ، وأطفئ مصباحَكَ واذكرِ اسمَ اللهِ، وخمِّرْ إناءَكَ واذكرِ اسمَ اللهِ، وأوكِ سِقَاءَك واذكرِ اسمَ اللهِ » (1).
5- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« مَن كانَ لمْ يذبحْ، فليذبحْ باسمِ اللهِ » (2).
6- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« يا غلامُ سمِّ اللهَ وكُلْ بيمينِكَ وكُلْ مِمَا يَلِيْكَ » (3).
7- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« كلُّ أمرٍ لا يُبدَأُ فِيهِ بـ( بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ ) فهو أبترُ»(4).
سبب عدم افتتاح سورة التوبة بالبسملة:
تأسيسًا على ما سبق، وصلنا إلى نقطة مهمة من تنوع افتتاح الخطاب المدني بالبسملة ألا وهي عدم افتتاح سورة التوبة بالبسملة، فهذا الأمر شغل المفسرين واللغويين، وكانت نتيجة ذلك أن خرجوا بأقوال مختلفة في سببه، وهذه الأقوال جاءت على النحو الآتي(5) :
__________
(1) رواه : أحمد في مسنده (3/319) برقم (14474)، والبخاري في صحيحه (3/1195) برقم (3106)، وأبو داود في سننه (3/339) برقم(3731)، من حديث جابر.
(2) رواه: البخاري في صحيحه ( 1/334 ) برقم ( 942 )، ومسلم في صحيحه ( 3/1551 ) برقم (1959)، وغيرهم من حديث جندب بن جنادة.
(3) رواه : البخاري من حديث عمرو بن أبي سلمة ( 5/2056 ) برقم ( 5061 ) ، ومسلم ( 3/1599 ) برقم( 2022)، وابن ماجة في سننه ( 2/1087 ) برقم( 3267 )، والبيهقي في السنن الكبرى ( 7/277 ) برقم ( 14389) وغيرهم.
(4) رواه الخطيب في تاريخه، والسبكي في طبقات الشافعية ، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وهو ضعيف جدًا، ضعفه الشيخ الألباني. ينظر: إرواء الغليل( 1/29 ) برقم ( 1 ).
(5) تنظر هذه الأقوال جميعها في : تفسير القرطبي ( 8/61 )، وتفسير ابن كثير ( 1/332 )، والبرهان، للزركشي ( 1/263 )، والدر المنثور، للسيوطي ( 1/20 ).(1/6)
القول الأول : قيل كان من شأن العرب – في الجاهلية– إذا كان بينهم وبين قوم عهد، وأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابًا، ولم يكتبوا فيه بسملة، فلما نزلت (براءة) بنقض العهد الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين، بعث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى مكة، في حجهم سنة عشر للهجرة، فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل، على ما جرت به عادتهم في نقض العهد، من ترك البسملة(1)، ويرد هذا القول أن القرآن توقيفي أولاً، ثم ما كان علي - رضي الله عنه - ليفعل أمرًا لم يأمره به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فترك البسملة منه - رضي الله عنه - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بقولها وتلاوتها على الناس في موسم الحج ذاك ثانيًا.
__________
(1) ضعف هذا القول الشيخ الشنقيطي في أضواء البيان ( 2/281 ).(1/7)
القول الثاني: روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (( قلت لعثمان - رضي الله عنه - ما حملكم إلى أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئتين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال، فما حملكم على ذلك، قال عثمان: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات، فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل، وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا منها فظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم)) (1).
القول الثالث: روي عن عثمان، وروي ذلك عن ابن عجلان: أنه بلغه أن سورة براءة كانت تعدل البقرة أو قربها فذهب منها، فلذلك لم يكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم (2)، وقال سعيد بن جبير كانت مثل عدد آيات سورة البقرة(3).
__________
(1) رواه : أحمد في مسنده ( 1/57 ) برقم ( 399 )، وأبو داود في سننه ( 1/208 ) برقم ( 786 )، والترمذي في سننه ( 5/272 ) برقم ( 3086 )، والحاكم في مستدركه ( 2/241 ) برقم ( 2875 )، والبيهقي في السنن الكبرى ( 2/42 ) برقم (2205 )، ومحمد بن عبدالواحد المقدسي في الأحاديث المختارة ( 1/494 ) برقم ( 365 ).
(2) لم أجده في ترجمة ابن عجلان، ولا في كتب الحديث التي أطلعت عليها.
(3) لم أجده في ترجمته، ولا في كتب الحديث التي أطلعت عليها.(1/8)
القول الرابع: قول أبي عصمة، وخارجة وغيرهما قالوا: لما كتبوا المصحف، في خلافة عثمان، اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال بعضهم: براءة والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم: هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال إنهما سورتان، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان معًا، وثبتت حجتهما في المصحف، وهذا القول يشبه في معناه ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني.
القول الخامس: قال ابن عباس - رضي الله عنه - :« سألت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لِمَ لمْ يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم، قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان» (1)، ومثله عن ابن عيينة والمبرد(2).
القول السادس: هو رأي ابن عربي بأن سر حذف البسملة من بداية سورة التوبة هو أن سورة التوبة عند من لم يجعلها من سورة الأنفال يكفيها اسمها، وهو التوبة بمعنى الرجعة الإلهية على العباد بالرحمة والعطف، ولم تحتج للبسملة لقيام الاسم مقامها، لأن الرجعة على العباد لا تكون إلا بالرحمة(3)، ويرد هذا القول أن البسملة تبرك بتقديم اسم الله تعالى قبل القيام بالعمل(4)، وليست رجعة على العباد بالرحمة.
__________
(1) الحديث رواه الحاكم في مستدركه ( 2/360 ) برقم ( 3273 ).
(2) ينظر : فتح الباري( 8/314 )، والسيرة الحلبية، لعلي الحلبي (1/401).
(3) نقله عنه الألوسي في تفسيره ( م6/ج10/61 ).
(4) ينظر: أحكام القرآن، للجصاص ( 1/19 )، ومعاني القرآن، للأخفش ( 1/147 ).(1/9)
... وأرجح الأقوال القول الثاني، وهو رأي القشيري(1)، وهو ما أذهب إليه، وأما الرد على أصحاب القول الخامس، وإن كان أبين، فنقول (( إن كان لتركها وجه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتَّبري ... وهو وجه ضعيف، وسبب ضعفه أنه في الاسم الله من البسملة ما يطلبه، والبراءة هي من الشريك لا من المشرك، فإن الخالق كيف يبرأ من المخلوق، ولو تبرأ منه، من كان يحفظ وجوده عليه، والشريك معدوم، فتصح البراءة منه، فهي صفة تنزيه، تنزيه الله تعالى من الشريك والرسول - صلى الله عليه وسلم - من اعتقاد الجهل، ووجه آخر من ضعف هذا التأويل الذي ذكرته، وهو أن البسملة موجودة في أول سورة { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لّمَزَةٍ } (2)، و { وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ } (3)، وأين الرحمة من الويل ))(4).
... على أن الدكتور فريد قبطني ذكر أن السبب في حذف البسملة من سورة التوبة يرجع إلى علة رقمية(5)، بين أحرف البسملة وسورة التوبة من جهة وبين موقعها من سور المصحف من جهة أخرى، ويتلخص هذا الرأي بأن كلمات البسملة الأربع تتكون من تسعة عشر حرفًا(6)، هي كما في الجدول الآتي :
بسم الله الرحمن الرحيم
بـ ... سـ ... ـم ... ا ... لـ ... لـ ... ـه ... ا ... لـ ... ـر ... حـ ... ـمـ ... ـن ... ا ... لـ ... ـر ... حـ ... ـيـ ... ـم
1 ... 2 ... 3 ... 4 ... 5 ... 6 ... 7 ... 8 ... 9 ... 10 ... 11 ... 12 ... 13 ... 14 ... 15 ... 16 ... 17 ... 18 ... 19
__________
(1) ينظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للمباركفوري ( 8/381 ).
(2) الهمزة: 1.
(3) المطففين: 1.
(4) تفسير الألوسي ( م6/ج10/61 ).
(5) ينظر: طلوع الشمس من مغربها – علم للساعة ، لـ د. فريد قبطني ، ت: أحمد أمين الحاج ( 49 ) وما بعدها .
(6) هذا الرأي فيه زلل إذ رأى أستاذي الدكتور بابعير أن هذا العدد غير صحيح، فألفات الوصل ليست حروفًا من أصل الكلمات بل هي زوائد، وألفات المد غير المرسومة- في لفظ الجلالة وفي الرحمن- لم يعتذّ بها، فعلى ذلك تصير أحرف البسملة ثمانية عشر حرفًا.(1/10)
وسورة التوبة تقع في الرقم (9) من ترتيب سور المصحف الكريم، ولم تحتو على البسملة، في حين احتوت سورة النمل الواقعة في الرقم (27) على بسملة في داخلها، زيادة على البسملة في أولها، ومن السورة (9) إلى السورة (27) يوجد (19) سورة، والأمر متعلق بعبارة متكونة من (19) حرفًا، وقد ورد العدد (19) في القرآن، في الآية (30) من سورة المدثر قال تعالى: { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [المدثر: 30]، و (( قال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى: { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } ]الإسراء: 46[ قال: معناه إذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود قال من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد فالبسملة تسعة عشر حرفًا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } وهم يقولون في كل أفعالهم بسم الله الرحمن الرحيم فمن هنالك هي قوتهم وببسم الله استضلعوا قال ابن عطية ونظير هذا قولهم في ليلة القدر إنها ليلة سبع وعشرين مراعاة للفظة هي من كلمات سورة إنا أنزلناه ونظيره أيضًا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه فإنها بضعة وثلاثون حرفًا فلذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول، قال ابن عطية وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم.)) (1)، كما أن الآية (30) من سورة النمل هي التي تحوي الحروف التسعة عشر المكونة للبسملة الداخلية، كما في الشكل الآتي:
السورة 27– الآية 30 البسملة الموجودة داخل السورة (19حرفا )
السورة 74– الآية 30 ورود العدد (19 )
__________
(1) تفسير القرطبي(1/92 ).(1/11)
ويذهب الباحث بعيدًا لتقوية رأيه هذا، عبر إحصاء دقيق لألفاظ (بسم الله الرحمن الرحيم)، ليؤكد قوله بأن السبب في ذلك يرجع إلى الرقم (19) لأنه من وجهة نظره عظيم، ثم بحث في مضاعفاته، التي هي مدار هذه النتيجة، التي ظن أنها وراء الحكمة من عدم ذكر البسملة في بداية (سورة التوبة)، وبحث في تعدد ألفاظ الكلمات التي تكونت منها البسملة لتدل على الرقم (19)، ملخصًا ذلك في الآتي(1):
1- القرآن الكريم يتألف من (114) سورة، وهذا العدد يساوي ( 19 x 6 ).
2- كلمة اسم تتكرر في القرآن كله (19) مرة.
3- كلمة الله تتكرر في القرآن (698) مرة وهذا العدد يساوي ( 19 x 42 ).
4- كلمة الرحمن تتكرر (57) مرة وهذا العدد يساوي ( 19 x 3 ).
5- كلمة الرحيم تتكرر (114) مرة، وهذا العدد يساوي ( 19 x 6 ).
وللفائدة أكثر يرجع إلى كتابه، مع أنني لا أؤيد هذا الرأي لما ذكره ابن عطية من أن ذلك من ملح التفسير وليس من متين العلم(2)، إذ هو قائم على الحدس والظن، ثم إن ((دفع هذا وفق منهجهم أيسر من تتبعه، فكلمة الرحيم – على طريقتهم– لم ترد في القرآن (114) مرة كما قرروا... ونلوذ بالقرآن لنجد أنها قد وردت ( 115 ) مرة ))(3).
__________
(1) تنظر تلك الإحصاءات في: طلوع الشمس من مغربها ( 52 ) وما بعدها، و براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور، لـ د. محمد بدري عبدالجليل (150).
(2) ينظر الصفحة السابقة من هذا البحث.
(3) براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور( 150 ).(1/12)
الفصل الأول المبحث الثاني
بدء السور المدنية بالأحرف المقطعة
– دراستها بالنظر إلى ماهيتها.
– دراستها بالنظر إلى رأي العلماء فيها.
– دراستها وتحليلها نحويا.
... ذكرت في المبحث السابق أن البسملة كانت أول ما لفت نظري لتنوع خطاب القرآن الكريم في العهد المدني، فخرجت منها بالحصيلة السابقة، ولكن ما إن خرجت منها حتى شد انتباهي (الأحرف المقطعة) أو ما يسميها بعضهم بـ(الأحرف النورانية)(1).
... هذه الأحرف المقطعة في أوائل سورتي البقرة وآل عمران لافتة للنظر، إذ إن كل سور العهد المدني لم تبدأ بهذه الأحرف، سوى هاتين السورتين، اللتين ورد في فضلهما أحاديث كثيرة، وفيهما آيات جاء فيها أحاديث خاصة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ،وهذا مظهر من مظاهر تنوع خطاب القرآن في العهد المدني، إذ إن استخدام تلك الأحرف لم يرد بكثرة في العهد المدني، فهل لهذا الأمر تعلق بهذه الأحرف، أو إن هذا الأمر متعلق بشيء آخر؟
... الأحرف المقطعة المتمثلة في (الم)، كما في رسم المصحف ((حينَ ينطقُ بها القارئُ أسماءٌ لحروفِ التهجيِّ التي يُنطقُ في الكلامِ بمسمياتِها، وإن مسمياتَها الأصواتُ المكيفةُ بكيفياتٍ خاصةٍ تحصلُ في مخارجِ الحروفِ، ولذلكَ إنَّما يقولُ القارئُ:" ألفْ لامْ مِّيمْ" مثلاً ولا يقولُ: " اَلَمَ " وإنِّما كتبوها في المصاحفِ بصورِ الحروفِ التي يُتَهَجَّى بها في الكلامِ، التي يقومُ رسمُ شكلِها مقامَ المنطوقِ بهِ في الكلامِ، ولم يكتبوها بدوالِ ما يقرأونها بهِ في القرآنِ لأنَّ المقصودَ التهجيّ بها، وحروفُ التهجيِّ تُكتبُ بصورِهَا لا بأسمائهَا. وقِيلَ لأنَّ رسمَ المصحفِ سُنَّةٌ لا يُقاسُ عليهِ))(2).
... وردت الأحرف المقطعة في فواتح تسع وعشرين سورة، مكية ومدنية، هي:
__________
(1) مصطلح ذكره تقي الدين الحموي الأزراري في خزانة الأدب ( 2/451 ).
(2) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور ( م1/ج2/ص206 ).(1/1)
م ... الأحرف المقطعة ... السور التي وردت فيها تلك الأحرف
1 ... الم ... البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة.
2 ... المص ... الأعراف
3 ... الر ... يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر.
4 ... المر ... الرعد
5 ... كهيعص ... مريم
6 ... طه ... طه
7 ... طسم ... الشعراء، القصص
8 ... طس ... النمل
9 ... يس ... يس
10 ... ص ... ص
11 ... حم ... غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
12 ... حم عسق ... الشورى
13 ... ق ... ق
14 ... ن ... القلم
... ... لو جئت إلى التحليل العددي لهذه الأحرف المقطعة التي وردت في القرآن كله، لوجدت أن عدد هذه الأحرف، بعد حذف المكرر منها، هو أربعة عشر حرفًا، تمثل نصف عدد الحروف الهجائية، وقد ظهرت الأحرف المقطعة في أوائل تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم، وهذا يدفعني إلى القول بأن القرآن الكريم قد ذكر نصف الحروف الهجائية في بدء سوره، للدلالة على بقية الحروف، إذ ذكر الجزء وأراد به الكل(1)، وهذا من باب الإعجاز البلاغي، ولحظت بالتأمل– أيضًا– أن تَعداد مجموعات الأحرف المقطعة، التي ذكرتها سابقًا، تمثل أيضًا أربع عشرة مجموعة حرفية، وهذه الأحرف المقطعة جمعت في قولهم:((نصُ حكيمٍ قاطعٌ لهُ سرٌ ))(2)، كما أن هذه الأحرف قد جاءت مختلفة الأعداد: فوردت (ص، ق، ن) على حرف واحد، و( طه، طس، يس،حم) على حرفين، و(الم، الر، طسم) على ثلاثة أحرف، و(المر، المص) على أربعة، و(كهيعص، حم عسق )على خمسة أحرف، وسبب ذلك ((أنَّ بنيةَ كلامِهم على حرفٍ وحرفينِ إلى خمسةِ أحرفٍ فكذا هنا))(3)، ولكن الأحرف التي بدأ الخطاب المدني بها هي ثلاثة فقط، كما أوضحت ذلك في الجدول السابق.
كتابة الأحرف المقطعة وقراءتها:
__________
(1) ينظر: إعجاز القرآن، للباقلاني ( 96 )، والبرهان في علوم القرآن ( 1/178 ).
(2) تفسير ابن كثير ( 1/38 ).
(3) تفسير البيضاوي (1/43 ).(1/2)
... في السور القرآنية المبدوءة بحرف واحد فقط، مثل ( ص، ن، ق ) لها في العربية وجهان من حيث الكتابة فـ(( إن نويت به الهجاء تركته جزمًا وكتبته حرفًا واحدًا وإن جعلته اسمًا للسورة، أو في مذهب قسم كتبته على هجائه (نون) و(صاد) و(قاف)... لأنه قد صار كأنه أداة، كما قالوا:(رجلان) فخفضوا النون من (رجلان) لأن قبلها ألفًا، ونصبوا النون في (المسلمون والمسلمين ) لأن قبلها ياءً وواوًا ))(1).
... وأما في القراءة لها فلا بد من ((الهجاءِ موقوفٌ عليها في كلِّ القرآنِ، وليسَ بجزمٍ يسمى جزمًا، وإنَّما هو كلامٌ على جزمِهِ نيةُ الوقوفِ على كلِّ حرفٍ منهِ... وإنما قرأ القراء: { الَمَ اللّهُ } في آلِ عمرانَ، ففتحوا الميمَ لانَّ الميمَ كانتْ مجزومةً لنيةِ الوقفةِ عليهَا(2)، وإذا كانَ الحرفُ يُنوى بهِ الوقوفُ، نُوى بمَا بعدَهُ الاستئنافُ، فكانتِ القراءةُ:" ا ل مَ الله ُ " فتركتِ العربُ همزةَ الألفِ من اللهِ، فصارتْ فتحتُهَا في الميمِ لسكونِهَا(3)، ولو كانتِ الميمُ جزمًا مُستحِقًا للجزمِ لكسرتْ، كمَا في { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنّةَ } (4)))(5).
__________
(1) معاني القرآن، للفراء ( 1/9 ).
(2) ينظر: الحجة في القراءات، للحسين بن أحمد بن خالويه ( 105 )، والغاية في القراءات العشر، لأبي بكر أحمد بن الحسين النيسابوري ( 123 )، والسبعة في القراءات، لأبي بكر أحمد بن موسى البغدادي ( 200 ).
(3) قال ابن خالويه في كتابه الحجة في القراءات: " الحجة لمن أسكن وقطع الألف أن الحروف التي في أوائل السور عَلَم لها، فوجب أن تأتي ساكنة فقطعت الألف، لأنها عوض من الهمزة في إله.
ولمن فتح الميم وجهان: أحدهما: أنه نقل إليها فتحة الهمزة ولينها، فعادت ألف وصل كما يجب لها، أو فتح الميم لسكون الياء قبلها، ووصل الألف على أصلها ". ينظر: الحجة ( 105 ).
(4) يس : 26.
(5) معاني القرآن، للفراء ( 1/9 ).(1/3)
... إن تلك الأحرف المقطعة،الواردة في فواتح السور القرآنية،جاءت مشتملة على أنصاف أجناس صفات الحروف(1)، على أنني في هذا المبحث سوف أتناول بالدراسة هذه الأحرف، لأن كلام السابقين فيها لم يفصل بعضها عن بعض، ولأنها جميعًا حروف مبانٍ تجمعها صفة عدم معرفة معناها على الوجه الدقيق، وتساويها في القراءة لها عند عامة المسلمين، ودراستي ستكون من نواحٍ،هي :
1– دراستها بالنظر إلى ماهيتها.
2– دراستها بالنظر إلى رأي العلماء فيها.
3– دراستها نحويًا.
أولا : دراستها بالنظر إلى ماهيتها:
... اختلف العلماء في هذه الأحرف من جوانب مختلفة، مثل نسبتها، وكذلك أمن المحكم هي أم من المتشابه؟، وكانت أقوالهم تمثل آراءهم واتجاهاتهم في نظرتهم لمعاني هذه الأحرف، وسأبدأ الحديث عنها من حيث نسبتها.
أ– اختلافهم في نسبة الأحرف المقطعة، أعربية هي أم غير عربية؟
__________
(1) ينظر: الكشاف، للزمخشري ( 1/71 )، و تفسير البيضاوي (1/42 ) .(1/4)
... ذهب المفسرون واللغويون، من المتقدمين والمتأخرين، إلى القول بأن هذه الأحرف، في أوائل سور القرآن الكريم–المكي والمدني–، أحرف هجاء عربية، وإن كانوا قد اختلفوا في تأويلهم لمعاني هذه الأحرف ولمقصود القرآن بها، وهذا المذهب هو الذي يترجح عندي، وخالف هذا القولَ بعضُهم كسيبويه في كتابه عند حديثه عن (حاميم)، إذ قال:«ومما يدلُّ على أنَّ حاميمَ ليسَ من كلامِ العربِ أنَّ العربَ لا تدري ما معنى حاميم، وإنْ قلتَ إنَّ لفظَ حروفِهِ لا يشبهُ لفظَ حروفِ الأعجميِّ فإنَّه قد يجيءُ الاسمُ هكذا وهو أعجميٌ قالوا قابوسُ ونحوه من الأسماءِ»(1) ومن الباحثين المعاصرين سعد عبدالمطلب العدل، زعم أن الأحرف المقطعة هي كلمات وجمل تفسرها اللغة الهيروغليفية (المصرية القديمة)، وقد جاءت – في رأيه – بمعان لا يمكن تفسيرها إلا بعد معرفة اللغة الهيروغليفية ودراستها، ولهذا حكم على هذه الأحرف بأنها ليست عربية الأصل(2).
__________
(1) الكتاب ( 3/259 )، وبمثله قال المبرد في المقتضب ( 3/355 ).
(2) ينظر: كتاب ( الهيروغليفية تفسر القرآن الكريم ) لسعد عبد المطلب العدل، مطبعة مدبولي، مصر، إذ لم أجده إلا في موقع إلكتروني، نتيجة للفتوى، ولم يكن موزعًا على صفحات لأتمكن من الإحالة عليها، على أنه يثير بهذا الزعم قضية الأعجمي المعرب في القرآن.(1/5)
... ويجمع ذلك الباحثَ بسيبويه القولُ بأعجمية الأحرف المقطعة، وقد رد المجمع الفقهي الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي على ما طرحه الباحث (العدل) في كتابه، ومما جاء في هذا الرد قولهم:(( ما جاء به الكاتب واشتمل عليه كتابه، قول على الله بغير علم، مخالف لنصوص الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأئمة التفسير والأثر، قال تعالى: { لّسَانُ الّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مّبِينٌ } [النحل: 103] ، و قال سبحانه: { نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مّبِينٍ } ]الشعراء 193–195[ ... فهذه النصوص وغيرها صريحة في الدلالة على أن القرآن إنما نزل بلغة العرب، وهي لغة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ... ولقد أجمع المفسرون منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم على عربية هذه الألفاظ، ولم يرد – ولو على قول ضعيف – أن هذه الألفاظ ليست عربية))(1).
__________
(1) جريدة الشرق الأوسط ، عدد ( 9177 )، النسخة الإلكترونية ، الثلاثاء 21 ذو القعدة 1424هـ ، الموافق 13 يناير ( كانون الثاني)، 2004م.(1/6)
... هذه الفتوى، المقرونة بالأدلة، تغني عن أي رد سيقال إنكارًا على مزاعم هؤلاء، ولكن مع هذه الفتوى يمكننا أن نستدل بقول الباقلاني، في رد حجة سيبويه الذي قوَّى بها رأيه، إذ قال الباقلاني: «لو كان أعجميًا لكانوا يحتجون في ردِّهِ – أي كفارُ قريشٍ–، إمَّا بأنَّ ذلك خارجٌ عن خطابهم، وكانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفةِ معناه، وبأنَّهم لا يبينُ لهم وجهُ الإعجازِ فيه، لأنَّه ليس من شأنهم ولا من لسانهم، أو بغيرِ ذلك من الأمورِ، وأنَّه إذا تحدَّاهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزُوا عنه وجبتِ الحجةُ عليهم بهِ»(1)، ثم ((كيف يزعمُ زاعمٌ أنَّها واردةٌ في معانٍ غيرِ معروفةٍ، مع ثبوتِ تلقي السامعينَ لها بالتسليمِ، من مؤمنٍ ومعاندٍ، ولولا أنَّهم فهموا منها معنًى معروفًا دلتْ عليهِ القرائنُ لسألَ السائلونَ وتورَّكَ المعاندونَ. قال القاضي أبوبكرٍ بنُ العربيِّ: لولا أنَّ العربَ كانوا يعرفون لها مدلولاً بينهم لكانوا أوَّلَ من أنكر ذلك على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، بل تلا عليهم: (حم، فصلت، وص) وغيرَها فلم ينكروا ذلك مع تشوفِهم إلى عثرةٍ وحرصِهم على زلةٍ، قلتُ: وقد سألوا عن أوضحِ من هذا، فقالوا: { وما الرحمنُ } (2)))(3)، ومما يرد به على هؤلاء أيضا أن اللغة (الهيروغليفية) تختلف في صورة حروفها عن صورة الأحرف الهجائية العربية، فعلى سبيل المثال: الهيروغليفية هي صور ورسوم ترمز إلى جمل، وهذه الأحرف المقطعة ليست رسومًا ولا صورًا بل هي أحرف هجاء.
ب– اختلاف المفسرين في إمكانية تأويل هذه الأحرف:
وقف المفسرون أمام إمكانية تأويل هذه الأحرف موقفين(4):
__________
(1) إعجاز القرآن، للباقلاني ( 61 ).
(2) الفرقان: 60.
(3) تفسير التحرير والتنوير ( م1/ج2/ص210 ).
(4) ينظر: الإتقان في علوم القرآن ( 3/9 ).(1/7)
الموقف الأول: ذهب فيه جماعة من المفسرين إلى القول بأن هذه الأحرف هي مما استأثر الله بعلمه، فردوا علمها إلى الله تعالى ولم يفسروها، حكاه القرطبي في تفسيره(1)عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود - رضي الله عنهم - ، و((قاله الربيع بن خيثم، والشعبي، والثوري واختاره أبو حاتم بن حبان)) (2).
الموقف الثاني: هو مذهب الجمهور من المفسرين، أن هذه الأحرف ليست من المتشابه الكلي الذي استأثر الله بعلمه بل يمكن تأويل معناها، وإن اختلفوا في ذلك التأويل لمعناها(3).
وسبب اختلافهم هو: رأيهم في هذه الأحرف أمن المتشابه هي أم من المحكم؟
... والجواب فيه تفصيل (( فإن كان المراد أنها من المتشابه النسبي، الذي قد يخفى على قوم، فنعم، وإن كان المراد أنها من المتشابه الكلي، الذي لا يعلمه أحد إلا الله، فلا، ومن أدخلها في المتشابه الكلي فقد أخطأ، لأن السلف قد تعرضوا للقول فيها، ولو كانت من المتشابه الكلي لما قالوا فيها شيئًا))(4).
... ومن الأدلة أيضًا على أن هذه الأحرف التي في بداية الخطاب المكي والمدني، ليست من المتشابه الكلي، أن الآية التي في سياق الحديث عن المتشابه من القرآن (( يقول الله تعالى فيها: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهم وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } (5)...
... وبيان ذلك أن للتأويل عند السلف معنيين(6):
__________
(1) ينظر: تفسير القرطبي ( 1/154 ).
(2) نفسه.
(3) ينظر: تفسير ابن كثير (1/37 ).
(4) مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر لـ د. مساعد بن سليمان الطيار(78).
(5) آل عمران: 7.
(6) ينظر: أضواء البيان، للشنقيطي ( 1/168 ).(1/8)
أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول إليه أمره، ومنه قوله تعالى: { وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقًّا } [يوسف: 100] وقوله تعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ فَهَل لّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } [الأعراف: 53]، أي حقيقة ما اخبروا به من أمر المعاد.
الثاني: أن التأويل بمعنى التفسير والبيان والتعبير عن الشيء، كقوله تعالى: { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36]، أي تفسيره.
... فإن أريد بالتأويل المعنى الأول، فالوقف على لفظ الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها، وما تؤول إليه لا يعلمه على الجلية إلا الله - عز وجل - ، ويكون { وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } مبتدأ و { يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } خبره.
... وأما إن أريد بالتأويل المعنى الثاني: فالوقف على { وَالرّاسِخُونَ } لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به، بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه. وعلى هذا يكون قوله: { يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } حال منهم، وجائز في اللغة أن يكون الحال من المعطوف دون المعطوف عليه، ومن ذلك قوله تعالى: { وَجَآءَ رَبّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفّا } [الفجر: 22]، فالحال هنا من المعطوف دون المعطوف عليه(1) ))(2).
ثانيا : دراستها بالنظر إلى رأي العلماء فيها:
__________
(1) ينظر: تفسير ابن كثير ( 1/328 ).
(2) جهود ابن عبدالبر في علوم القرآن – دراسة وموازنة، للباحث محمد بن عبدالله القحطاني ، رسالة ماجستير( 305 ) وما بعدها.(1/9)
... ... مر سابقًا أن المفسرين قد وقفوا عند هذه الأحرف المقطعة موقفين، أرجحهما أنها من المتشابه النسبي الذي يعلمه بعض أهل العلم، وقد اختلفوا في معاني هذه الأحرف، ولهذا جعلت هذا الجزء للحديث عن تأويل المفسرين وعلماء اللغة لمعاني هذه الأحرف المقطعة، ووجدت أفضل كتب العلماء، التي تناولت هذا الأمر هو كتاب (التحرير والتنوير) لابن عاشور، الذي عرض فيه جميع أقوال المفسرين واللغويين وتخريجاتها، إذ عرض فيه واحدًا وعشرين قولاً حول معناها(1)، وقد خلصت منها إلى عدة أقوال لها أدلة وقوة، في مضمونها، وما سواها أقوال لأهل العلم غير أنها لا ترتقي إلى مرتبة تلك الأقوال، فقد بدأ ابن عاشور في تفسيره للأحرف المقطعة، التي بدأ الخطاب المكي والمدني بها، بأن قسم أقوال العلماء فيها على ثلاثة أنواع هي:
1- ما يرجع إلى أنها رموز اقتضبت من كلم أو جمل، فكانت أسرارًا يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة.
2- ما يرجع إلى أنها حروف وضعت بهيئات أسماء أو أفعال.
3- ما يرجع إلى أنها حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك.
... ويدخل تحت كل نوع فروع، تصل بالأقوال إلى واحد وعشرين قولاً، كما ذكرت سابقًا، فأما الأقوال التي لها وجه من القوة– في سبب بدء الخطاب المدني بتلك الثلاثة الأحرف–، في هذه المسألة، فهي(2):
__________
(1) ينظر: تفسير التحرير والتنوير (م1/ج2/ص207 ) وما بعدها.
(2) ينظر: تفسير الرازي ( م1/ج2/ص7)، وتفسير التحرير والتنوير (م1/ج2/ص207 ) وما بعدها، وبراعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور ( 109– 174 ).(1/10)
القول الأول: أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجمل (أي بحساب أبي جاد)، قاله أبو العالية، أخذ بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال:«جاء أبو ياسر بن أخطب وحيي بن أخطب وكعب الأشرف، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن (الم)، وقالوا: هذا أجل هذه الأمة من السنين إحدى وسبعون سنة(1) فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال لهم: (ص) و(المر)، فقالوا: اشتبه علينا الأمر، فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير» (2)، وليس في جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم بعدَّة أحرف أخرى من هذه الأحرف المقطعة تقرير لعدها رموزًا لمدة دوام هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيدًا لزعمهم على نحو طريقة النقض في الجدل، أما ضحكه - صلى الله عليه وسلم - فهو تعجب من جهلهم، وليس إقرارًا لصحة رأيهم.
القول الثاني: أنها رموز، كل حرف رمز إلى كلمة، فـ (الم) معناه أنا الله أعلم، و(المر) أنا الله أرى، و(المص) أنا الله أفصل. رواه أبو الضحى عن ابن عباس(3).
وهذا القول ضعيف لأن لا ضابط له ولا قاعدة، فهو قد أخذ بمقابلة الحرف مرة بالحرف الأول من الكلمة: كما في الألف في (الم) فإنه أول كلمة (أنا)، ومرة بمقابلة الحرف الأوسط من الكلمة: كاللام في (الم) قابلها باللام في (الله)، وهذا لم يفعله في الحرف الأول الألف، ثم في الحرف الأخير (الميم) قابله بالحرف الأخير من كلمة (أعلم)، وأما الصاد في (المص) فقابله بالحرف الأوسط من كلمة (أفصل)، وهذا كله بغير ضابط ولا قاعدة.
__________
(1) أي إنهم حسبوا، وفقا لحساب أبي جاد، فكانت النتيجة أن لكل حرف رقمًا معينًا ومجموع هذه الأحرف من الأرقام هو واحد وسبعون، فالألف( 1 ) واللام ( 30 ) والميم ( 40 )، فالمجموع ( 71 ).
(2) رواه البخاري في التاريخ الكبير ( 2/208 ) برقم (2209 ).
(3) ينظر: تفسير القرطبي (1/ 155).(1/11)
واستدلوا على صحة ما ذهبوا إليه بقياسهم على لغة العرب، من تكلمها بالأحرف المقطعة بدلاً من الكلمات التي تتألف منها تلك الأحرف، نظمًا ونثرًا، وهذا باب في اللغة يعرف بباب الحذف(1)، فمن ذلك قول الشاعر(2): (الرجز)
بالخَيرِ خَيرَاتٍ وَإِنْ شَرًَّا فَأ
وَلا أُرِيدُ الشَرَّ إِلا أنْ تَأ
أراد وإن شرًا فشر، وأراد أن تشاء، فأتى بحرف من كل كلمة، وقال الشاعر(3): (السريع)
قُلنَا لَهَا يَومًَا قِفِي قَالَتْ قاف
لا تَحْسَبِي أنَّا نَسِينَا الإيجَاف
__________
(1) ينظر ذلك في: الخصائص لابن جني ( 2/360 وما بعدها ).
(2) البيت نُسبَ للقيم بن أوس من بني ابن ربيعة في النوادر في اللغة، لأبي زيد الأنصاري(126)، والمحكم لابن سيده (2/193)، والكامل في اللغة والأدب للمبرد ( 1/338 )، ونسبه ابن منظور في اللسان (15/88 ) إلى حَكِيم بن مُعَيَّة التَّمِيمِي، وبلا نسبة في الكتاب، لسيبويه (3/321)، وإعراب ثلاثين سورة، لابن خالويه (137)،.
(3) البيت بلا نسبة في الخصائص (1/30)، و الصاحبي في فقه اللغة، لابن فارس ( 126 )، وتهذيب اللغة، للأزهري (15/679)، ولسان العرب (9/359)، وخزانة الأدب، للبغدادي الشاهد 932 ( 11/344 ).(1/12)
أراد قالت: وقفت. وفي الحديث: «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة» (1)، قال شقيق: هو أن يقول اق مكان اقتل(2). وفي الحديث: «كفى بالسيف شا»(3) أي شاهدًا، وفي الكامل للمبرد(4)، من قصيدة لعلي بن عيسى القمي، وهو مولد: (المتقارب)
ولُبسُ العَجَاجَةِ والخَافِقَاتِ ... تُرِيكَ المَنَا بِرُؤُوسِ الأسَلْ
أي تريك المنايا.
وقال لبيد بن ربيعة(5): (الكامل)
__________
(1) الحديث رواه أبو يعلى في مسنده ( 10/306 )، برقم ( 5900 )، والبيهقي في السنن الكبرى ( 8/22 )، باب ( تحريم القتل )، كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، ورواه نعيم بن حماد في الفتن ( 1/184 )، برقم (484)، موقوفا على سعيد بن المسيب. وأما حديث أبي هريرة فإنه من رواية يزيد بن زياد الشامي، وضعفه الجرجاني في الكامل في ضعفاء الرجال ( 7/259 )، وابن حجر في تلخيص الحبير ( 4/14 ) برقم ( 1679 )، وغيرهم، فالحديث ضعيف .
(2) ينظر: تفسير القرطبي ( 1/156 ).
(3) الحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه ( 9/434 )، وقد حكم عليه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير بأنه مرسل ولم يرد هذا اللفظ في صحيح مسلم، لأن في رواية مسلم " كفى بالسيف شاهدا " وهي رواية الإمام أحمد أيضا. ينظر: تلخيص الحبير ( 4/85 )، برقم ( 1812 ).
(4) البيت في الكامل في اللغة والأدب، للمبرد (1/337) وبلا نسبة في مجمع الأمثال، للميداني ( 1/168 ).
(5) البيت في ديوان لبيد بن ربيعة (138)، وله في نقد الشعر، لقدامة بن جعفر (220)، والخصائص (2/437)، ومعجم ما استعجم، للبكري ( 1/420 )، وشرح اختيارات المفضل، للتبريزي ( 3/1622)، والعمدة، لابن رشيق القيرواني (1/25 )، واللسان (15/294)، وشرح التصريح(2/180)، والدرر (6/208)، وبلا نسبة في كتاب العين(1/173)، وشرح الجمل، لابن عصفور(2/593)، وشرح التسهيل (3/289)، وأوضح المسالك (3/93)، ومعجم ما استعجم (1/420).(1/13)
دَرَسَ المَنا بِمُتالِعٍ(1) فَأَبانِ ... وَتَقادَمَت بِالحُبْسِ فَالسُّوبَانِ(2)
أراد درس المنازل.
وقال علقمة الفحل (3): (البسيط)
كَأَنَّ إِبريقَهُم ظَبيٌ عَلى شَرَفٍ ... مُفَدَّمٌ بِسَبا الكَتّانِ مَلثومُ
أراد بسبائب(4) الكتان، وهناك أمثلة أخرى ذكرها ابن عاشور في تفسيره(5)، من باب التوسع، لا من باب الاستدلال على قوة هذا القول، كما ذكر هو.
ثم إن هذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف: لا تخلو أن تكون إحدى مجموعتين:
1- المجموعة الأولى: ما حذف منها حرفان، مثل (منا، بسبا)، أو ما حذف منها حرف واحد، كقول عبدالله بن الزبعري (6): (الرمل)
حينَ حَكَّتْ بِقُباءٍ بَرْكَهَا ... وَاستَحَرَّ القَتلُ في عَبدِ الأَشَلْ
يريد عبد الأشهل من الأنصار(7).
__________
(1) التلعة: أرضٌ مرتفعة غليظة، وربما كانت مع غِلَظِها عريضة يتردّد فيها السّيلُ ثم يدفع منها إلى تلعةٍ أسفلَ منها، ينظر : العين (2/71 ).
(2) أبان اسم لجبل والحبس موضع والسوبان جبل كذلك. ينظر: نقد الشعر، بهامش ( 220 ).
(3) البيت في ديوان علقمة بن عبده الفحل (70)، وهو له في نقد الشعر ( 219 )، والأغاني، لأبي الفرج الأصفهاني ( 21/203 )، والخصائص (2/437 )، وشرح اختيارات المفضل ( 3/1622 )، والعمدة (1/225)، ولسان العرب (1/457)، وبلا نسبة في الكامل (2/936)، والمثل السائر، لأبي الفتح الموصلي (2/106)، وشرح الجمل، لابن عصفور(2/593).
(4) السبائب جمع سبيبة وهي شقة من الثياب أي نوع كان وقيل هي من الكتان. ينظر: لسان العرب، مادة (سبب)، ( 1/457 ).
(5) ينظر: تفسير التحرير والتنوير (م1/ج2/ص209 ) وما بعدها.
(6) البيت لابن الزبعري في معجم ما استعجم (3/1045)، وطبقات فحول الشعراء، لابن سلام ( 1/238 )، والاشتقاق، لابن دريد ( 122 )، ولسان العرب (10/398)، وبلا نسبة في الخصائص ( 1/81 )، ولسان العرب، مادة (شنبل)، (11/373).
(7) ينظر: الخصائص ( 1/81 ).(1/14)
2– المجموعة الثانية: ما ذكر فيها الحرف بمسماه وليس باسمه، مثل (قاف)، في حين جاءت الأحرف المقطعة في القرآن الكريم بأسماء الحروف، ولذلك لا يصلح الاستشهاد بالأبيات السابقة والأحاديث على تقوية هذا الرأي.
القول الرابع: وهو قول جماعة من المتكلمين، واختاره الرازي(1)،أنها أسماء للسور التي وقعت فيها، قاله زيد بن أسلم، ونسب لسيبويه في كتابه(2)، ونسبه صاحب الكشاف(3) للأكثر، ويعضده – عندهم– وقوع هذه الأحرف في أوائل السور(4)، ولهذا جعلت أسماء علامة على تلك السور، وسميت بها كما تقول: الكراسة (ب)، والرزمة (ج)، وقاسه القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف فقد سَمَّوا(لامًا) الطائي والد حارثة، وسموا الذهب عينًا(5)، والسحاب غينًا(6)، والحوت نونًا(7)، والجبل قافًا(8)، وحاءٌ اسم لبئر، ولموضع في الشام(9).
__________
(1) ينظر: تفسير للرازي ( م1/ج2/ص10 ).
(2) ينظر: الكتاب ( 3/257 ).
(3) ينظر: الكشاف، للزمخشري ( 1/64 ).
(4) واستدلوا بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح مسلم ( 2/599 )، برقم ( 879 ): " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم) السجدة، وهل أتى على الإنسان ".
(5) التبر ما كان من الذهب غير مضروب فإذا ضرب دنانير فهو عين. ينظر: اللسان، مادة(ذهب)، ( 4/88 ).
(6) الغين لغة في الغيم وهو السحاب وقيل النون بدل من الميم أنشد يعقوب لرجل من بني تغلب يصف فرسا:
كأنَّي بينَ خَافِيتِي عُُقابٍ ... تُريدُ حمامةً في يومِ غَينِ
أي في يوم غيم. ينظر : لسان العرب، مادة (غين)، ( 13/316 ).
(7) ينظر: لسان العرب، مادة (أيم)، ( 12/41 ).
(8) قاف جبل محيط بالأرض. ينظر: مختار الصحاح للرازي، مادة(قوف)، ( 1/232 ).
(9) ينظر: معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري الأندلسي، (الحاء والهمزة)، ( 1/413 ).(1/15)
و من شواهدهم أيضًا قول الشاعر(1): (الطويل)
يُذَكّّرُني حَامِيمَ والرُّمحُ شَارِعٌ ... فهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبلَ التَّقَدُّمِ
فقد أراد الشاعر أن صاحبه يُذكِّرهُ، بعد أن قدر عليه وقتله، مع أن الإمام عليًا - رضي الله عنه - نهى عن قتله في موقعة الجمل(2)، وقال الكميت(3): (الطويل)
وَجَدنَا لَكُم في آلِ حَامِيمَ آيةً ... تَأوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعرِبُ
ويرد هذا القول بأن:
1- الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى، وقد وجدنا هذه الأحرف مقروءة من السور.
2- بعض السور اتحدت فيها هذه الأحرف مثل (الم، الر، حم)، ولكن لم توضع أسماء للسور مثل (ص، يس، ق، طه)، وهذا يدل على أنها ليست بأسماء للسور.
__________
(1) البيت منسوب لشريح بن أوفي في لسان العرب مادة (حمم)، (12/151)، والأشتر النخعي في الاشتقاق (145)، وعصام بن مقشعر البصريّ في معجم الشعراء للمرزباني (270)، و بلا نسبة في الخصائص (2/181)، والمقتضب(1/238)، ولسان العرب مادة (ثور)، (4/111)،.
(2) ذكر ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري ( 8/553–555 ) أن القائل هو شريح بن أوفى العبسي أو العنسي وذكر القصة هناك، والقصة أيضا في فصل المقال شرح كتاب الأمثال للبكري( 1/313 ).
(3) البيت له في الكتاب ( 3/257 )، والمقتضب ( 1/238 )، والمزهر في علوم اللغة ( 1/246 )، واللسان ( 12/150 )، وخزانة الأدب عند الشاهد 302( 4/291)، و بلا نسبة في أسرار العربية (1/40)، ولسان العرب، مادة (حيا)، (14/211).(1/16)
القول الخامس : يقضي بأن هذه الأحرف أقسام أقسم الله تعالى بها، كما أقسم بالقلم تنويهًا، لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله تعالى، وأصول التخاطب والعلوم، كما قاله الأخفش(1)، وقد ضعف هذا القول بأنها لو كانت مُقْسمًا بها لذُكر حرف القسم إذ لا يُحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين(2)، وبأنه قد ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو قوله تعالى: { نَ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } [القلم: 1] و { حمَ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } [الزخرف : 1–2]، ورأى صاحب الكشاف(3) أنهم قد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد، حتى قال الخليل في قوله - عز وجل - : { وَالْلّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنّهَارِ إِذَا تَجَلّىَ وَمَا خَلَقَ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ } [الليل: 1–3] :«الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء. ألا ترى أنك تقول: والله لأفعلن ووالله لأفعلن فتدخل واو العطف عليها كما تدخلها على الباء والتاء» (4)، بمعنى أن حرفي الواو التاليين للواو الأولى هما للعطف لا للقسم.
... والجواب عن رأي الزمخشري – عند من ذهب إلى تقوية هذا القول– أن كراهية الجمع بين قسمين تندفع بأنهم جمعوا بين قسمين في لغة العرب، قال النابغة(5): (السريع)
__________
(1) ينظر: معاني القرآن للأخفش ( 1/170 ).
(2) ينظر: إعراب القرآن للنحاس (3/474)، والإنصاف في مسائل الخلاف (1/399).
(3) ينظر: الكشاف (1/67 ).
(4) الكتاب لسيبويه ( 3/501 )، وينظر: الكشاف ( 1/67 ).
(5) البيت منسوب للنابغة في: ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري (1/46)، وشرح أدب الكاتب، للجواليقي ( 185 )، وليس في ديوانه.(1/17)
واللِّهِ واللِّهِ لَِنعمَ الفتى الأعْرَجُ لا النّكْسُ ولا الخَامِلُ(1)
ويمكننا دفع استشهادهم ببيت النابغة بأن (والله) الثانية توكيد للأولى، أو بأن الواو الثانية واو عطف، كما في رأي الخليل.
وقال بعضهم في قوله تعالى: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ } [ البقرة: 1] إن:((موضع القسم في قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [البقرة: 2]، فلو أن إنسانًا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه لكان كلامه سديدًا، وتكون ( لا ) جواب القسم... فإن قيل: ما الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدق ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة، فأقسم أن القرآن من عنده))(2)، ويكون قسمه بها تنبيهًا على عظم موقعها، وعلى عجزنا عن معارضة كتابه المؤلف منها، فإن قيل: لو كان قسمًا، لكان فيه حرف القسم، قالوا: إن حرف القسم يحتاج إليه إذا كان المقسم به مجرورًا، فأما إن كان مرفوعًا نحو: (أيمُ الله)، أو منصوبًا نحو: (يمينَ الله)، فليست به حاجة إلى ذلك(3)، وسيأتي الرد على قولهم هذا عند الحديث عن التحليل الإعرابي لهذه الأحرف(4).
__________
(1) النكس: الفسل من الرجال مشبه بالنكس من السهام وهو الذي انكسر فوقه فجعل أسفله أعلاه، وقيل هو الرجل الجبان. ينظر: لسان العرب مادة ( نكس ) ( 6/ 241 )، والخامل هو الساقط الذي لا نباهة له. ينظر: مختار الصحاح، مادة(خمل)، ( 80 ).
(2) تفسير القرطبي ( 1/156 ).
(3) ينظر: مفهوم التفسير والتأويل، د. الطيار ( 80 ).
(4) ينظر صفحة (24-25) من هذا البحث.(1/18)
القول السادس: أنها سيقت مساق التَّهجِّي، مسرودة على نمط التعديد في التهجية، تبكيتًا للمشركين، وإيقاظًا لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلوَّ عليهم كلام مؤلف من هذه الأحرف، وكأنه يغريهم بمحاولة المعارضة، بعد أن تحداهم بالإتيان بسورة من مثله، ويستأنس لأنفسهم بالبدء في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق، تعريضًا بهم، بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم، ليكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزًا لا معذرة لهم فيه، قال في الكشاف:«وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزلة» (1)، وقال ابن عاشور:«وهو الذي نختاره، وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور، أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ } (2)، فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته، ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد، فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره، وأن التهجي معروف عندهم للتعليم، فإذا ذكرت حروف التهجي على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون أنهم عوملوا معاملة المتعلم» (3) ، ويقوي هذا القول تعقيب هذه الأحرف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابته إلا في ثلاث سور(4)،
__________
(1) الكشاف ( 1/69 ).
(2) البقرة : 23( وهي سورة مدنية )، و يونس : 38 ( وهي سورة مكية ).
(3) تفسير التحرير والتنوير ( م1/ج2/212 ).
(4) هذه السور هي : العنكبوت، والروم، ومريم ، وكلها سور مكية، إلا الآيات الأول من سورة العنكبوت لأنها مدنية كما ذكرت في التمهيد..(1/19)
ووجه تخصيص بعض تلك الأحرف بالتهجي دون بعض، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه، ولعله لمراعاة فصاحة الكلام، ويقويه كذلك أن معظم مواقع هذه الأحرف في أوائل السور المكية عدا البقرة وآل عمران، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة، وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة أولي(1).
... والذي يظهر من الكلام السابق أن هذه الأحرف ليس لها معنى، ولها مغزى، و هذا مبني على أن الحرف في لغة العرب لا معنى له، والقرآن نزل بلغتهم، كما قال الله - سبحانه وتعالى - { إِنّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لّعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف: 2]، والعرب لم تجعل للحرف المفرد معنى، ولهذا قال سيبويه، في تقسيم الكلام:«اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل»(2)، فإن قول سيبويه (جاء لمعنى) يريد به التفريق بين أحرف المبنى وأحرف المعنى(3)، وأحرف المبنى التي لا معنى لها هي أحرف الهجاء، ولهذا لا نتطلب لهذه الأحرف معنى محددًا تدل عليه، وقد ذهب الراغب الأصفهاني إلى القول بأن قوله تعالى: { الَم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِين } [البقرة: 1-2]، جاء ((تنبيهًا على أن هذا الكتاب مركب من هذه الحروف التي هي مادة الكلام))(4)، وقال:«إن المفهوم من هذه الحروف، الأظهر بلا واسطة، ما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة ... وهو أن هذه الحروف لما كانت عنصر الكلام ومادته التي يتركب منها، بين تعالى أن هذا الكتاب من هذه الحروف التي أصلها عندكم، تنبيهًا على إعجازهم، وأنه لو كان من عند البشر لما عجزتم – مع تظاهركم – عن معارضته»(5).
__________
(1) ينظر: تفسير التحرير والتنوير (م1/ج2/ص213 ).
(2) الكتاب لسيبويه ( 1/12 ).
(3) ينظر: الكواكب الدرية شرح متممة الآجرومية للأهدل ( 1/29 ).
(4) مقدمة جامع التفاسير للراغب الأصفهاني ، ت: أحمد حسن فرحات ( 86 ).
(5) نفسه ( 105 ).(1/20)
... ولعل هذا القول هو الراجح، لما ذكره العلماء من الحجج، ولما له من مناسبة التحدِّي التي لا يستطيع أحد من المخالفين إنكارها.
... وبناءً على ما ذكرت رأيت أن خطاب الله تعالى بالأحرف المقطعة كثر في العهد المكي؛ لتبكيت الكافرين وإظهار منزلتهم المتدنية، في حين نرى أن الله تعالى لم يستخدم تلك الأحرف المقطعة في العهد المدني لأن العرب في ذلك العهد دخلوا في الإسلام فلم يكونوا أميين بعد أن تعلموا القراءة والكتابة، كما هو معروف في كتب السيرة، وقد استخدم الله تعالى تلك الأحرف في افتتاح سورتي البقرة وآل عمران لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة، وقصد التحدي في القرآن النازل بمكة أولي(1)، ولذا لم يُعِد الخطاب بتلك الأحرف في غير تلك السورتين.
ثالثا : دراستها نحويًا:
خلصت في الأقوال السابقة إلى أن معاني هذه الأحرف المقطعة–التي بدأ الخطاب المدني بها– مختلف فيها، وتبعًا لهذا الاختلاف اختلفت رؤاهم النحوية وتحليلاتهم لهذه الأحرف، وتعددت أقوالهم فيها، وقد جمعت هذه الأقوال في الآتي:
1- أنها أسماء حروف التهجي ، بمعنى أن الميم اسم لـ (مه)، والعين اسم لـ (عه)، وأن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظم من جنس ما تنظمون من كلامكم، فلا محل لها حينئذ من الإعراب(2).
2- أنها موقوفة، لا معربة ولا مبنية(3).
3- أنها معربة، بمعنى أنها صالحة للإعراب وإن اختلَّ شرطه وهو التركيب، وإليه مال الزمخشري في تفسيره(4)، وبناء على هذا القول اختلفوا في موقعها الإعرابي على ثلاثة أقوال(5)هي:
__________
(1) ينظر: تفسير التحرير والتنوير (م1/ج2/ص213 ).
(2) ينظر: الدر المصون ( 1/79 )، وهو ما رجحه في كتابه.
(3) ينظر: إعراب القرآن، للنحاس (1 /177)، والتبيان في إعراب القرآن، للعكبري ( 1/14).
(4) ينظر: الكشاف ( 1/73 ).
(5) ينظر : إعراب القرآن (1 /177)، والتبيان في إعراب القرآن ( 1/14).(1/21)
أولها: الجرّ على القسم، كما مرّ سابقًا، وحرف القسم محذوف، وبقي عمله بعد الحذف لأنه مراد، فهو كالملفوظ به، كما قالوا: (اللهِ ليفعلن) في لغة من جرَّ(1).
ثانيها: موضعها النصب، وفيه وجهان: أحدهما على تقدير حذف حرف القسم، كما تقول: (اللهَ لأفعلن)، والناصب له فعل محذوف تقديره (التزمتُ اللهَ) أي اليمين به، ومنه قول الشاعر(2): (الوافر)
إِذا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّريدُ
والآخر: هو مفعول به لفعل محذوف تقديره (اتل الم) أو (اقرأ الم).
ثالثها : موضعها رفع على أنها مبتدأ وما بعدها خبر، وتقدير الكلام على هذا أن (الم) في كلا السورتين مبتدأ و(ذلك) خبر المبتدأ، وقيل هي خبر والمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام على ذلك: (هذه الم).
__________
(1) ينظر: التبيان في إعراب القرآن ( 1/14 ).
(2) البيت لم أهتد إلى قائله، وهو من غير نسبة في الكتاب ( 3/69 و498)، وشرح أبيات سيبويه، للنحاس (182)، والمفصل ( 1/487)، والكشاف ( 4/358 )، وشرح المفصل، لابن يعيش ( 9/92 )، واللسان مادة ( أدم ) (12/9 ).(1/22)
... وأرجح هذه الأقوال: القول الداعي إلى أن لا محل لها من الإعراب لأنها (( بمنزلة حروف التهجي فهي محكية ولو أعربت ذهب معنى الحكاية... لأنك لم ترد أن تخبر عنها بشيء))(1)، كما أن التركيب شرط مهم من شروط الإعراب(2) وهذا خلاف ما أراد الزمخشري نصرته، بقوله إنها صالحة للإعراب وإن اختل شرط التركيب، والشرط عند أصحاب الأصول إذا فات فلا بدل له(3)، و((حقيقة الشرط هو ما كان عدمه يستلزم عدم الحكم، فهو وصف ظاهر منضبط يستلزم ذلك أو يستلزم عدم السبب لحكمة في عدمه تنافي حكمة الحكم أو السبب، بيانه أن الحول شرط في وجوب الزكاة فعدمه يستلزم عدم وجوبها، والقدرة على التسليم شرط في صحة البيع فعدمها يستلزم عدم صحته، والإحصان شرط في سببية الزنا للرجم فعدمه يستلزم عدمها))(4).
... فمن ذلك يظهر لنا أن الشرط في التركيب لصحة إعراب الكلام غير وارد في هذه الأحرف، كما أن الحروف لا معنى لها، فهذه حروف مبان، وليست بأسماء متمكنة ولا أفعال مضارعة فتعرب، ولا هي بأسماء غير متمكنة ولا أحرف جاءت لمعنى فتبنى(5)، ثم إن هذه الأحرف مجزومة الآخر، ساكنة، ولهذا لم يتحقق فيها أهم مطالب النحو، وهو أمن اللبس، فلا يستطيع أحد أن يجزم أنها مجرورة بحرف قسم محذوف، وأنَّى له هذا مع سكونها وعدم تحركها، فوجب أن تعدَّ بلا محل من الإعراب.
__________
(1) إعراب القرآن للنحاس (1 /177).
(2) ينظر: الكواكب الدرية للأهدل ( 1/27).
(3) ينظر: الفروع، لمحمد بن مفلح المقدسي ( 1/224 )، والإنصاف، للمرداوي ( 1/382 )
(4) إرشاد الفحول، للشوكاني ( 1/27 ).
(5) ينظر: الكتاب ( 1/12 ).(1/23)
الفصل الأول المبحث الثالث
بدء السور المدنية بالأدوات النحوية
- في أنواع الأدوات التي ابتدأ خطاب السور المدنية بها، ووظائفها، ودلالاتها.
- الأدوات الثنائية الأحرف.
- الأدوات الثلاثية الأحرف.
من تنوعات خطاب القرآن الكريم في العهد المدني، بدؤه بالأدوات النحوية، التي جاءت في بدايات عدد من سوره، ولم تأتِ في السور المدنية الأخرى، إذ ورد ذكر هذه الأدوات في بدايات خطاب الله تعالى لخلقه بالسور المدنية، لتدل على تنوع أساليب الخطاب وتعدده، فمن التوكيد بـ(إن)، إلى التحقيق والتوقع بـ (قد)، والشرط بـ (إذا) وغيرها مما سيأتي ذكره.(1/1)
... وهذه الأدوات تكرر ذكرها وذكر غيرها، في أثناء آيات سور العهد المكي والمدني، ولهذا أفردت لها مبحثًا خاصًا بها؛ حتى لا أعود بالحديث عنها في كل مبحث من المباحث الآتية، وجعلت هذا المبحث في الأدوات النحوية، التي جاءت في أوائل السور المدنية، وقد يقول قائل : لم بدأت الحديث أولاً بالأحرف المقطعة، ثم أعقبتها بالحديث عن الأدوات، إذ الأولى أن تبدأ الحديث بالاسم ثم الفعل ثم تختم حديثك بالأدوات، فأقول: صحيح أن رتبة الاسم مقدمة على رتبة الفعل لأنه يستغني بنفسه عن طلب فعل، وأن الفعل فرع عليه، ومفتقر إليه، ولا يستغني عنه، ويفيد مع اسم واحد، أما الحرف فلا يفيد مع اسم واحد فحقه التأخر لأنه يجب أن يعلق بشيء، ولكن هذا من حيث الوظيفة، أما من حيث المعنى فإن الأدوات بابها التقدم(1)، وهذا ما دفع ابن جني في خصائصه إلى قوله : ((ويجوزُ أنْ يكونوا قدَّمُوا الفعلَ في الوضعِ قبلَ الاسمِ وكذلِكَ الحرفَ، وذلِكَ لأنَّهم وَزَنُوا حِينَئذٍ أحوالَهم وعرفُوا مصايرَ أمورِهم، فعلموا أنَّهم محتاجونَ إلى العباراتِ عن المعانيِّ وأنَّها لا بُدَّ لها من الأسماءِ والأفعالِ والحروفِ، فلا عليهم بأيِّهَا بدأوا أبالاسمِ أم بالفعلِ أم بالحرفِ لأنَّهم قد أوجبوا على أنفسِهِم أنْ يأتُوا بهنَّ جُمَعَ، إذ المعاني لا تستغني عن واحدٍ منهن، وهذا مذهبُ أبي علي وبهِ كانَ يأخذُ ويُفتي))(2)، وبناء على ذلك الرأي بدأت حديثي مقدمًا القول في الأدوات (حروف المعاني) على القول في الاسم والفعل، ثم إنني راعيت أن أولى السور في القرآن بدأت بالأحرف المقطعة وثاني السور كذلك، أما السورة الثالثة في ترتيب المصحف الشريف فبدأت بالأدوات، وكلهن سور مدنية فلم أشأ المخالفة لهذا الترتيب في تناولي للموضوع.
__________
(1) ينظر: الخصائص ( 1/225 ).
(2) نفسه ( 2/30 ).(1/2)
الأدوات: مصطلح كوفي استخدمَهُ السِّيوطيُّ في الإتقانِ(1)، في مقابل ما يسميه البصريون بحروف المعاني وقد رجح الدكتور مهدي المخزومي اصطلاح الكوفيين لما فيه من دقة في الدلالة واختصار في اللفظ (2).
إن الأداة هي لفظة تستعمل للربط في الكلام وتدل على معنى في غيرها أو هي ((كلمةٌ تربط بين جزأي الجملةِ أو بينهما وبين الفضلةِ، أو بين جملةٍ وجملةٍ مثل أدواتِ الشرطِ والاستفهامِ، وحروفِ الجرِّ والعطفِ))(3)، وقد رأى ابن هشام أن الأداة (حرف المعنى) هو (( ما دل على معنى في غيره فقط))(4)، وهذا التعريف هو قول الجزولي وغيره من المحققين(5)، وهو التعريف الذي اعتمدته للأدوات، لأن قوله (ما دل) أولى من قولهم (ما جاء) لأن الحدود الحقيقية دالة على ذات المحدد بها، وقوله (دل على معنى) بيان العلة التي جاء لأجلها، ولا ينتقض هذا التعريف بـ (أين وكيف) لوجهين: أحدهما : أنهما مع دلالتهما على معنى في غيرهما دالان على معنى في أنفسهما وهو المكان والحال، وحصل الاحتراز عنهما بالقول (فقط)، والأمر الثاني الذي لا ينتقض به هذا التعريف هو أن دلالتهما على معنى في غيرهما من جهة تضمنهما معنى الحرف عارض ليس بثابت فيهما(6).
وإذا كانت الأداة تستعمل للربط والتعليق الذي يعد الوظيفة المهمة والعامة التي تقوم بها الأداة(7) داخل التركيب اللغوي فما هو حكم آخرها داخل هذا التركيب؟
__________
(1) ينظر: الإتقان ( 2/140 )، واستخدمه أبو عمرو الداني في الأحرف السبعة للقرآن ( 34 ).
(2) ينظر: مدرسة الكوفة، لـ د. مهدي المخزومي (310).
(3) معجم الشامل في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها، لمحمد سعيد إسبر وبلال جنيدي (66).
(4) رسالة المباحث المرضية ( 1/40 ).
(5) ينظر: اللباب لأبي البقاء العكبري ( 1/50 )، وتقريب المقرب لأبي حيان ( 41 ).
(6) ينظر: اللباب ( 1/50 ).
(7) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها، لتمام حسان (123).(1/3)
إنها لا تأتي إلا مبنية لذا نجد أن ((حكمَ الأدواتِ ثباتُ آخرِها على لفظٍ واحدٍ))(1).
ومسألة دلالة الأدوات على معانٍ كامنة فيها تحتاج إلى بحث، لبيان صحة ذلك أو عدمها، علمًا بأن النحاة قد أجمعوا على أن الحرف الذي جاء لمعنى لا يدل على معنى في نفسه(2)، إلا أن الشيخ بهاء الدين بن النحاس خرق هذا الإجماع، حين علَّق على (المقرب) بالقول بدلالة الحرف على معنى في نفسه، لأنه يرى أن من يعرف اللغة يفهم من (هل) معنى الاستفهام(3)، وليس كلامه بصواب لأننا (( لا نجد لها معاني معجمية، لأن لا جذور لها في تكوينات المعجم. أما كون معناها يظهر في غيرها من الأسماء والأفعال، فالزجاجي يبين هذه المسألة بقوله:« وأما حد حروف المعاني... فهو أن يقال: الحرف ما دل على معنى في غيره(4)، نحو من وإلى وثم، وما أشبه ذلك، وشرحه أن (من) تدخل في الكلام للتبعيض، فهي تدل على تبعيض غيرها لا على تبعيضها نفسها، وكذلك إذا كانت لابتداء الغاية كانت غاية غيرها، وكذلك سائر وجوهها»(5). ))(6)، وهذا يعني أن الأدوات تدل على معانٍ وظيفية تفهم من خلال السياق الذي ترد فيه، لا من خلال المعنى المعجمي لذلك الحرف، لأن الأدوات ذوات افتقار إلى الضمائم، بمعنى أنها مفتقرة إلى سياق ترد فيه(7).
والأدوات التي افتتح بها الخطاب المدني تنقسم من حيث المبنى على أقسام هي كالآتي:
1- الثنائية المبنى وهي: قَدْ، لَمْ، يَا.
2- الثلاثية المبنى وهي: إذا، إنَّ.
__________
(1) معجم الشامل في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها (66).
(2) ينظر: همع الهوامع ( 1/ 26-27 ).
(3) ينظر: نفسه.
(4) ينظر: المفصل (379)، واللباب (1/50)، ورسالة المباحث المرضية (1/40).
(5) الإيضاح في علل النحو (54).
(6) ظاهرة النيابة في العربية، رسالة دكتوراه لـ د. عبدالله صالح بابعير (290).
(7) ينظر : اللغة العربية معناها ومبناها ( 127 ).(1/4)
الأدوات النحوية التي بدأ الخطاب المدني بها:
أ- الأدوات الثنائية الأحرف:
1- الأداة (قد):
وهي التي جاءت في بدء خطاب القرآن في سورة المجادلة في قوله تعالى: { قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللّهِ } [المجادلة: 1].
و(قد) أداة تحقيق(1) لكونها تفيد وقوع الفعل بعدها، فدخول (قد) على الجملة الفعلية يفيد مفاد (إن واللام) في الجملة الاسمية، أي يفيد توكيدًا قويًا(2)، وهي تدخل على الفعل الماضي اتفاقًا(3)، كما في قوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } [الأنفال: 31]، وقد تدخل على الفعل المضارع وتفيد التحقيق كذلك، كما في قوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } [النور: 64]، أي قد علم، فحصول العلم محقق لله تعالى(4)، إلا إنها جاءت في بداية سورة المجادلة أداة توقع؛ لكونها تفيد توقع الفعل وانتظاره(5)، لأن (خولة)(6)
__________
(1) ينظر: حروف المعاني للزجاجي ( 13 )، والجنى الداني ( 259 )، ومغني اللبيب ( 1/231 ) ، والإتقان ( 2/212 )، وهمع الهوامع ( 2/596).
(2) ينظر: تفسير التحرير والتنوير (م13/ج18/ص8 ).
(3) ينظر: حروف المعاني للزجاجي ( 13 )، والجنى الداني ( 259 )، ومغني اللبيب ( 1/231 ) ، والإتقان ( 2/212 )، وهمع الهوامع ( 2/596).
(4) ينظر: تفسير الرازي ( م12/ج22/ص44 )، والكشاف ( 3/265).
(5) ينظر: الجنى الداني ( 255 ).
(6) هي المرأة التي جادلت رسول الله في زوجها، والمفسرون مختلفون في اسمها، فقال بعضهم: خولة بنت ثعلبة، وقال بعضهم: اسمها خويلة بنت ثعلبة.وقال آخرون: هي خويلة بنت خويلد .وقال آخرون: هي خويلة بنت الصامت. قال آخرون: هي خويلة ابنة الدليج، ينظر: تفسير الطبري ( 23/219 )، ورجح تسميتها التي أثبتناها القرطبي في جامعه ( 17/269 )..(1/5)
كانت تتوقع سماع الله لشكواها(1)، ومعنى التوقع الذي تؤذن به الأداة (قد) في مثل هذا: يؤول إلى تنزيل الذي يتوقع حصول أمر لشدة استشرافه له منزلة المتردد الطالب، فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر(2)، ولعلنا نتساءل عن دلالة التوقع الموجودة في صيغة (قد) مع الفعل الماضي، فالتوقع انتظار وقوع الفعل في المستقبل، والماضي قد وقع فعله، فكيف يتوقع وقوع ما وقع؟، ولأن صيغة (قد فعل)(3) لا تأتي دائمًا بمعنى التوقع، بدليل قوله تعالى : { قَالُواْ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } [مريم :27] ، فهم لم يكونوا يتوقعون ذلك الفعل منها،ولكنني أقول: إن الدلالة على التوقع حاصلة من تلك الصيغة بتضافر قرائن السياق والمقام، لأن الشكوى التي قالتها المجادلة قيلت قبل إجابة الله تعالى لها، فوقعت الإجابة من الله تعالى بتفريج همِّ المرأة بعد الشكوى التي قالتها(4).
__________
(1) ينظر: تفسير الكشاف ( 4/484 ).
(2) ينظر: تفسير التحرير والتنوير (م13/ج18/ص8 ).
(3) أطلقت عليها صيغة ( قد فعل ) لأن ( قد ) مع الفعل لازمة له وتقوم مقام الجزء منه، ولأجل ذلك لا يجوز الفصل بينهما إلا في ضرورة الشعر. ينظر : رصف المباني ( 393 )، و حروف المعاني لعبد الحي الكمال ( 106 ).
(4) ينظر: روح المعاني ( م15/ج28/ص5 ).(1/6)
ووردت هذه الأداة في الخطاب المدني لتقريب الزمن الماضي من الزمن الحال(1)، وهذا يلزم مجيء (قد) مع الفعل الماضي الواقع حالا اصطلاحية، سواء أكانت ظاهرة كما في قوله تعالى: { وَقَدْ دّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } [المائدة : 61]، ذكر الله (( عند الدخول كلمة (قد) فقال: { وَقَدْ دّخَلُواْ بِالْكُفْرِ } وذكر عند الخروج كلمة (هم) فقال: { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } قالوا: الفائدة في ذكر كلمة (قد) تقريب الماضي من الحال، والفائدة في ذكر كلمة (هم) التأكيد في إضافة الكفر إليهم))(2)، أم مضمرة كما في قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 38]، والتقدير: وقد كنتم أمواتًا فأحياكم(3)، كما وردت هذه الأداة في الخطاب المدني بمعنى التقليل(4)، والمراد به تقليل متعلق الفعل، كما في قوله تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } [ النور : 64]، فإن علمه بما هم عليه هو أقل معلوماته، لأنه يعلم ما يحاولون إسراره ويعلم ما في الكون عامة(5).
ومن المعاني التي جاءت بها (قد) في الخطاب المدني التكثير(6)، كما في قوله تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ } [البقرة : 144]، أي كثيرًا ما نرى تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفًا للوحي(7) .
2- الأداة (لم):
__________
(1) ينظر: حروف المعاني للزجاجي (13)، والجنى الداني ( 256 )، ومغني اللبيب ( 1/228 ).
(2) تفسير الرازي ( م6/ج2/ص41 ).
(3) ينظر: تفسير القرطبي ( 1/249 ).
(4) ينظر: الجنى الداني ( 257 )، ومعنى اللبيب ( 1/230 ).
(5) ينظر: تفسير الكشاف ( 3/266 )، وتفسير التحرير والتنوير ( م9/ج18/ص312 ).
(6) ينظر: مغني اللبيب ( 1/231 ).
(7) ينظر: روح المعاني ( م2/ج2/12 ).(1/7)
بدأ خطاب القرآن بهذه الأداة في سورة البينة، إذ قال الله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ } [البينة: 1]، فهي حرف شديد المعنى للنفي ولهذا ((لم يجز العربي تعليق مجزومها المنفي على الشرط، فلا يقال : لم يذهب زيد إلا إذا جاء عمرو بينما يصح ذلك بـ(لن) للفارق الكبير في خصائص (الميم) في نهاية المصادر، لمعاني الجمع والضم، بينما خصائص (النون) في نهاية المصادر لمعاني الرقة والخفة والاستكانة والاستقرار))(1)، ولهذا تدخل على الفعل المضارع فتصرف معناه إلى المضي، نحو قوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ } ، وبهذا أشبهت حرف الشرط (إن) الذي يدخل على الفعل الماضي وينقل معناه إلى المستقبل(2).
__________
(1) حروف المعاني بين الأصالة والحداثة ( 83 ).
(2) ينظر: أسرار العربية ( 1/292 ).(1/8)
قد يتغير معنى (لم) في خطاب السور المدنية، إذا دخلت عليها همزة الاستفهام ، لأنها ستدل بالاستعانة بها على التقرير والتوبيخ، مع أن عملها الجزم لا يزال باقيًا(1)، كما في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّواْ السّبِيلَ } [النساء: 44]، وقد تخرج (لم) في الخطاب المدني إلى معان أخرى(2)، كالتذكير كما في قوله تعالى: { أَلَمْ أَقُلْ لّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [البقرة: 33]، والتخويف كما في قوله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوَاْ أَنّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدًا فِيهَا } [التوبة: 63]، والتنبيه والتعجب كما في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49].
__________
(1) ينظر: رصف المباني ( 280 ).
(2) ينظر: جواهر الأدب، للإربلي (257).(1/9)
ولم تأت (لم) محذوفة من الخطاب المدني- كما وجدنا ذلك في (قد)- لأنها مع الفعل الذي بعدها كشيء واحد(1)، فهي على ذلك (( من العناصرِ التوسيعيةِ(2) الخاصةِ بالجملةِ الفعليةِ ذاتِ الفعلِ المضارعِ وتحملُ ثلاثَ وظائف: وظيفةً عامةً هي النَّفي، ووظيفةً خاصةً بالتأثيرِ الإعرابي على الفعلِ وهي الجزمُ، ووظيفةً خاصةً بتحديدِ زمنِ الفعلِ في المضي، وهذا ما نصَّ عليه النحويونَ، فقد صرَّح ابنُ السَّراج بأن (لم) من الحروفِ الجازمةِ التي لا يقعُ موقعَها غيرُها ولا تحذفُ من الكلامِ إذا أريدتْ، وهي تدخلُ على الأفعالِ المضارعةِ واللفظُ مضارعٌ والمعنى معنى الماضي، تقولُ: لم يقمْ زيدٌ أمسِ ))(3).
3- الأداة (يا النداء):
__________
(1) ينظر: رصف المباني ( 281 ).
(2) العناصر التوسيعية ثلاثة أنواع:عناصر خاصة بالجملة الاسمية كالحروف الناسخة، وعناصر خاصة بالجملة الفعلية كأدوات النفي (لم، لن، لما) وأدوات الاستقبال (السين وسوف)، وعناصر مشتركة كالتوابع وغيرها. ينظر: السلب ومظاهره في العربية ، د. علاء إسماعيل الحمزاوي بهامش ص(32).
(3) السلب ومظاهره في العربية ( 32 ).(1/10)
يذهب اللغويون إلى القول بأن معناها الأول هو: النداء والتنبيه(1)، وقد وردت في بدايات الخطاب للسور المدنية في قوله تعالى : { يَا أَيّهَا النّاسُ } [النساء : 1]، وفي قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } [ المائدة: 1] (2)، وفي قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ } [الأحزاب: 1] (3)، فهذه الأداة تتكون من حرفين هما الياء والألف، وهذان الحرفان جوفيان يخرجان مترافقين مع حركة الفك السفلي باتجاه المصدر مما يشير إلى أسفل (عند الياء) وإلى أعلى (عند الألف) فيدل الأول على الدنو والثاني على العلو والامتداد، بمعنى أنهما صاعدان في النطق من تحت إلى فوق(4)، ولهذا استخدمت هذه الأداة في نداء البعيد(5)، وقد تستخدم لنداء القريب على سبيل التوكيد(6)، وقيل إنها مشتركة بين البعيد والقريب لكثرة استعمالها(7)،ولكثرة استعمالها قدروا حرف النداء محذوفًا(8)
__________
(1) ينظر: الجنى الداني ( 354 )، ومغني اللبيب ( 1/488)، والإتقان ( 2/259 ).
(2) وكذلك الحجرات : 1، والممتحنة: 1.
(3) وكذلك الطلاق: 1، والتحريم: 1.
(4) ينظر: حروف المعاني بين الأصالة والحداثة ( 26 ).
(5) ينظر: الجنى الداني ( 354 ).
(6) ينظر: رصف المباني ( 451-452 )، ومغني اللبيب ( 1/488 ).
(7) ينظر: الجنى الداني ( 355 ).
(8) الحذف لهذه الأدوات أنكره جماعة من العلماء، منهم أبو بكر بن العربي، ونقل كلامه ابن جني في خصائصه إذ قال : " حذف الحروف ليس بالقياس لأن الحروف إنما دخلت الكلام لضرب من الاختصار، فلو ذهبت تحذفها، لكنت مختصرا لها أيضا، واختصار المختصر إجحاف به"..الخصائص لابن جني (2/273)، ومنهم السيوطي في الأشباه والنظائر في النحو (1/80 )، لأن الحكم بزيادة حرف من حروف المعاني أو حذفه ينافي وضعه للدلالة على المعنى، وهذا القول، عدم جواز القول بحذف الحرف أو زيادته، هو قول البصريين {الأشباه والنظائر 1/80 } ، ولهذا أوجبوا تأويل ما دخل عليه حرف المعنى بما يتوافق مع ذلك المعنى ومع غرضه صيانة عن الحكم بالزيادة أو الحذف.
ورأي الكوفيين بجواز حذف الأدوات أصوب، لأن الأدوات، ومنها حروف الجر والنصب والجزم وحروف النداء، تحذف في الكلام ويظهر ما يدل عليها من حركات إعرابية على الأسماء والأفعال التي قدر حذف الأداة قبلها. ينظر ذلك في: كتاب(اللامات) لأبي القاسم عبدالرحمن بن إسحاق (1/66)، وتفسير البحر المحيط (6/49)، والإنصاف في مسائل الخلاف (2/575)، و التبيان في إعراب القرآن (1/ 79)، ومغني اللبيب (1/298).(1/11)
قبل المنادى بها(1)، نحو قوله تعالى: { رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِه } [البقرة: 286]، والحذف لهذا الأداة، يأتي في نداء الخلق لخالقهم من باب تعظيم المُنَادَى، وتَنْزِيهِهِ؛ لحذف (يا) من آيات الخطاب المدني(2)، وعلة ذلك أن في حذف (يا) من نداء الرَّب معنى التَّعْظِيم والتنزيه؛ وذلك ((أنَّ النداء فيه طرَف من معنى الأمر؛ لأنَّكَ إذا قُلْتَ: يا يزيدُ فمعناه: تعال يا زَيْدُ أدعوك يا زَيْدُ ، فحُذِفَتْ (يا) من نداء الرَّبِّ ليزول معنى الأمر وينقص، لأنَّ (يا) تُؤكِّده، وتُظهرُ معناهُ، فكان في حذف (يا) الإجلال، والتعظيم، والتنزيه)) (3)، كما لا يخفى على أحد، ولكن نداء لفظ الجلالة في الخطاب المدني استعاض بميم مشددة تلحق في آخره لتدل على أسلوب نداء، سواء أكان الأسلوب بحذف حرف النداء والتعويض عنه بالميم، كما في رأي البصريين(4)، أم كان الأسلوب بحذف الأداة وعدم التعويض عنها والميم هنا للتخفيف، كما في رأي الكوفيين(5)،
__________
(1) ينظر: الجنى الداني ( 355 ).
(2) كما في الآية السابقة، وفي: البقرة: 127، و128، 129، 200، 201، وآل عمران: 8، 9، 16،53، 147، 191،192، النساء: 75، 77، والمائدة: 83، 114، وغيرها كثير.
(3) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للحلبي ( 3/252).
(4) ينظر: أسرار العربية (211).
(5) ينظر: نفسه..(1/12)
وعلى كل حال فهذه الميم لم تدخل في آيات الخطاب المدني إلا في ثلاثة موضع: أولها توجيه من الله تعالى بقولها، كما في قوله تعالى: { قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } [آل عمران: 26]، وأما الموضعان الآخران فكانا خطابًا من الخلق لخالقهم، كما في قوله تعالى: { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مّنَ السّمَآءِ } [المائدة: 114]، وقوله تعالى: { وَإِذْ قَالُواْ اللّهُمّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السّمَآءِ } [الأنفال: 32].
غير أن لـ(يا النداء) معنى آخر جاء في خطاب السور المدنية تمثل في التنبيه، لا النداء، كما في نحو قوله تعالى: { يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ } [النساء: 73]، فـ (يا) في هذا الموضع حرف تنبيه، لا حرف نداء، هذا مذهب قوم من النحويين(1)، وذهب آخرون إلى أنها، في ذلك، حرف نداء، والمنادى محذوف(2). والتقدير: يا هؤلاء ليتني (( وضعف هذا الرأي بوجهين: أحدهما: أن (يا) نابت مناب الفعل المحذوف، فلو حذف المنادى لزم حذف الجملة بأسرها، وذلك إخلال. والثاني: أن المنادى معتمد المقصد، فإذا حذف تناقض المراد، وذهب ابن مالك في التسهيل إلى تفصيل ذلك. وهو أن (يا) إن وليها أمر أو دعاء فهي حرف نداء، والمنادى محذوف، وإن وليها (ليت) أو (رب) أو (حبذا) فهي لمجرد التنبيه))(3).
__________
(1) ينظر: التبيان في إعراب القرآن ( 1/372 )، ومغني اللبيب ( 1/488 ).
(2) ينظر: التبيان في إعراب القرآن ( 1/372 )، ومغني اللبيب ( 1/488 ).
(3) رصف المباني ( 453 ).(1/13)
... و الملاحظ على هذه الأداة في الآيات التي افتتح بها الخطاب في العهد المدني أنها لم تدخل مباشرة على الاسم الذي بعدها إلا بوساطة (أي)؛ و فائدة (أي) ((أنك ترى الجملةَ إذا هي دخلت ترتبطُ بما قبلها وتأتلفُ معه، وتتَّحدُ به، حتى كأنَّ الكلامين قد أُفرِغا إفراغًا واحدًا، وكأنَّ أحدهما قد سبك في الآخرِ، هذه هي الصورةُ حتى إذا جئت... فأسقطتها رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه ورأيته لا يتصل به ولا يكون منه بسبيل حتى تجيء)) (1)، ورأى الرازي أن: ((قول القائل يا رجل يدل على النداء وقوله يا أيها الرجل يدل على ذلك أيضًا وينبئ عن خطر خطب المنادي له أو غفلة المنادى أما الثاني: فمذكور وأما الأول: فلأن قوله:(يا أي) جعل المنادى غير معلوم أولاً فيكون كل سامع متطلعًا إلى المنادى، فإذا خصَّ واحدًا كان في ذلك إنباء الكل لتطلعهم إليه، وإذا قال يا زيد أو يا رجل لا يلتفت إلى جانب المنادى إلا المذكور إذا علم))(2)، كما أن ذلك الاجتماع بين الأداة و (أي)، يحصل لأن هذه الأداة لا تدخل على الأسماء المعرفة بـ (ال) مباشرة(3)، والسبب في ذلك أن أداة النداء تفيد التعريف و(ال) تفيد التعريف، وتعريفان في كلمة لا يجتمعان(4)،
__________
(1) دلائل الإعجاز للجرجاني (243).
(2) تفسير الرازي (م13/ج25/190).
(3) هذه مسألة خلافية. ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف ( 2/335) وما بعدها، وذكر الأستاذ عبدالسلام هارون في كتابه (الأساليب الإنشائية في النحو العربي ) أن يا النداء تجتمع مع ( ال ) التعريف في أربعة مواضع هي: لفظ الجلالة ، الجملة المحكية، اسم الجنس المشبه به، وضرورة الشعر. ينظر: الأساليب الإنشائية في النحو العربي (139-140 ).
(4) ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف ( 2/337)..(1/14)
وأما الأسماء الأعلام التي نوديت في سور العهد المدني، كما في قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55]، فإنها-أي الأسماء- تعرى عن تعريف العلمية وتعرف بالنداء(1)، ولم يكن نداء الله تعالى لموسى عليه السلام فقط، إذ استُخْدِمت (يا) في الخطاب المدني لنداء الأفراد كما في النداء لموسى - عليه السلام - ، وفي نداء الله تعالى لآدم - عليه السلام - في قوله تعالى: { يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } [البقرة: 33]، أو لنداء جماعة سواء أكانت تلك الجماعة معروفة، كما في نداء الله تعالى لبني إسرائيل في قوله تعالى: { يَا أهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [آل عمران: 70]، أم غير معروفة، كما في نداء الله تعالى للناس جميعًا، في افتتاحه لسورة النساء.
الملاحظ أن الله تعالى في الخطاب المدني لم يوجه نداء بهذه الأداة إلى غير العقلاء على العكس مما كان في خطابه تعالى في العهد المكي؛ إذ نادى اللهُ تعالى النارَ في قوله تعالى: { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69]، وهذا ما لا نجده في خطاب العهد المدني، إذ وجَّهَ الله تعالى خطابه في هذا العهد إلى الأنبياء والمرسلين والمؤمنين والناس والجن والملائكة-العقلاء-، لتوجيههم إلى ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم؛ ولكن في الخطاب المكي كان خطاب تلك الكائنات التي لا تعقل لتذكير المخاطبين بقدرته العظيمة في خطاب العهد المكي، ثم كان توجيه المخاطبين العقلاء بتوجيهه الرشيد في العهد المدني.
ومع ما تقدم لم يُستخدم في خطاب العهد المدني أيُّ أداة أخرى للنداء في جميع سوره وآياته حتى المختلف فيها.
ب - الأدوات الثلاثية الأحرف:
1- الأداة (إذا):
__________
(1) ينظر: نفسه ( 2/338).(1/15)
قيل إنها أصل كلمة (إذن) التي تكتب أحيانا (إذا)(1)، وهو قول مردود لعدم التوافق في المعنى بين (إذن) الجزائية و (إذا) الظرفية، ولذلك أنكره الألوسي في تفسيره إذ رأى أن ((ليست (إذن) هذه الكلمة المعهودة وإنما هي (إذا) الشرطية حذفت جملتها التي يضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ ))(2)، وكذلك القرطبي إذ قال: « وأصل (إذا) إذ أن - ومعناه حينئذ - فضم إليها أن، واستثقلوا الهمزة فحذفوها»(3)، أما المواضع التي وردت فيها (إذا)، في بدايات السور المدنية، فهي: في قوله تعالى: { إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } [النصر: 1]، وفي قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة: 1]، وفي قوله تعالى : { إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون: 1].
(إذا) ظرف للزمان المستقبل، مضمنة معنى الشرط، وتختص بالدخول على الجمل الفعلية(4) وتقع في بداية الكلام، وتدل على وقت محدد، نحو: إذا خرجت خرجت(5).
__________
(1) ينظر: الجنى الداني ( 363 ) إذ ذكر أن هذا رأي الكوفيين، ولكن التحقيق أن هذه ليست الناصبة للمضارع؛ لأن (إذن) تختص به وتعمل فيه، ولا يعمل إلا ما يختص، و( إذا) لا تختص به بل تدخل على الماضي. ينظر: مسائل إذن، د. أحمد بن محمد القرشي، بحث، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد ( 119 )، ص ( 409 ) وما بعدها.
(2) روح المعاني ( ج11/292 )، وينظر: الإتقان ( 2/153 ).
(3) تفسير القرطبي ( 10/4).
(4) ينظر: همع الهوامع (2/180).
(5) ينظر: حروف المعاني لعبد الحي حسن كمال ( 148 ).(1/16)
و الملاحظ في الفعل الذي بعد (إذا) الظرفية، في الآيات السابقة، أنه فعل ماضٍ، وهو غالب ما يأتي بعدها من الأفعال(1)، سواء أكان مبنيًا للمعلوم أم كان مبنيًا للمجهول، وقد يكون الفعل الذي يأتي بعدها مضارعًا، كما جاء في إحدى السورة المكية، عند قوله تعالى : { وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } [ الشورى: 29]، وجاء الفعل المضارع بعد (إذا) الظرفية في شعر العرب أيضًا، ومثاله قول أبي ذوئب الهذلي(2) : (الكامل)
والنَّفسُ رَاغِبَةٌ إذا رَغَّبتَهَا وإذا تُرَدُّ إِلى قَلِيلٍ تَقنَعُ
إذ وردت (إذا) مع الفعل المضارع والفعل الماضي في البيت السابق، فهي إذا دخلت على الفعل المضارع قد تجزمه لضرورة الشعر كما في قول الشاعر(3): (الكامل)
واسْتَغْنِ، ما أَغْناكَ رَبُّكَ، بالغِنَى وإِذَا تُصِبْك خَصاصَةٌ فَتَجَمَّلِ
__________
(1) ينظر: مغني اللبيب (1/127).
(2) البيت لأبي ذؤيب في ديوان الهذليين (1/3)، وشرح أشعار الهذليين لأبي سعيد الحسن بن الحسين السكري ( 1/11 )، والعقد الفريد لابن عبدربه (3/253)، وشرح اختيارات المفضل للتبريزي (3/1693)، ومغني اللبيب (129)، والخزانة عند الشاهد 67 ( 1/402 )، والدرر اللوامع(3/102)، وبلا نسبة في إعراب القرآن للنحاس(1/482)، وهمع الهوامع(2/133).
(3) البيت نسب إلى عبد قيس بن الخفاف في لسان العرب، مادة (كرب)، (1/712)، وإلى حارثة بن بدر الغداني في غرر الفوائد ودرر القلائد للمرتضى (1/383)، وشرح اختيارات المفضل ( 3/1558 )، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ( 8/393)، ورجح أن يكون البيت لحارثة وليس لعبد قيس، وبلا نسبة في إعراب القرآن للنحاس (1/481) و(4/432)، وإعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج (3/887)، وشرح التسهيل (2/139) و(3/400)، ومغني اللبيب (128، 131،916)، والأشباه والنظائر للسيوطي (1/335)، وهمع الهوامع (1/206)، وخزانة الأدب (4/227).(1/17)
والجزم يكون لفعل الشرط، كما في قول النمر بن تولب(1): (الكامل)
وَإِذا تُصِبكَ خَصاصَةٌ فارجُ الغِنى وَإِلى الَّذي يُعطي الرَغائِبَ فَارغَبِ
كما أن (إذا) الشرطية لم تدخل على الأسماء في السور المدنية، إلا إنها
جاءت في نحو قوله تعالى : { إِذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ } [التكوير: 1]، وما شابهها من الآيات المكية، ولكنها تستدعي فعلاً محذوفًا يفسره المذكور، لأن من المرجح لدي أن (إذا) الظرفية لا تدخل على الجملة الاسمية(2).
... قد تخرج (إذا) في سياقات السور المدنية عن دلالتها على المستقبل، فتدل على الماضي-كما جاءت (إذ) للدلالة على المستقبل(3)-كما في قوله تعالى : { وَلاَ عَلَى الّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } [ التوبة: 92]، وقوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضّوَاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائمًا } [ الجمعة: 11].
__________
(1) البيت في ديوان النمر ( 337 )، وله في طبقات فحول الشعراء ( 1/161 )، والأغاني ( 22/282 )، وخزانة الأدب للبغدادي (1/313 )، وبلا نسبة في شرح التسهيل (2/140)، والجنى الداني (367)، وجمهرة اللغة (320) وشرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ لجمال الدين محمد بن مالك (191)
(2) تنظر هذه المسألة في : المقتضب ( 4/128)، والمفصل ( 1/28 ) ، وهمع الهوامع (1/133).
(3) وذلك كما في قوله تعالى: { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } [آل عمران: 152]، وآيات أخر.(1/18)
ومثله من شعر العرب قوله(1): (الوافر)
وَنَدمَانٍ يَزِيدُ الكَأسَ طِيبًَا ... ... سُقِيتُ إِذا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ
2- الأداة (إنَّ) المشددة المكسورة الهمزة:
__________
(1) البيت للبُرْج بن مسْهِر الطائي في شرح ديوان الحماسة للتبريزي (2/86)، وشرح أبيات حماسة أبي تمام المنسوب لأبي العلاء المعري ( 2/802 ) وفيه قول الشاعر: سقيت وقد تغورت. وقال المعلق على الشرح، في هامش الصفحة ذاتها، : " قد وفوقها إذا وهي عند الفسوي إذا وفوقها قد وفي بقية النسخ إذا "، واللسان مادة (عرق)، (10/243)، وهو للبُرْج بن الجُلاس في الأغاني (14/14) وبلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس(145)، وشرح شذور الذهب (453) ومغني اللبيب (130).(1/19)
بدأ خطاب القرآن في العهد المدني بهذه الأداة في سورة الفتح، في قوله تعالى : { إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مّبِينًا } [ الفتح: 1]، والمعنى الرئيس لـ(إن) التوكيد(1)، كيفما استعملتها، ويظهر التوكيد بها من حرف النون (( التي هي حرف يعود إلى خاصية البطون أو الصميمية في طريقة النطق بصوتها، فصوتها يخرج من صميم الذات ... واستعملها العرب للتعبير عن معاني الانبثاق في حركة من الداخل إلى الخارج))(2)، والتوكيد بها في هذا الموضع لأن هذا الافتتاح له علاقة بسورة الأحقاف(3)، إذ قال الله تعالى فيها: { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } [الأحقاف: 9]، ثم درى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ما يفعل به(4)، وهذا التوكيد من الله تعالى بإلحاق (نا) المتكلم بأداة التوكيد يفيد تنزيل المتوقع منزلة الواقع له(5)، ولهذا موقع جليل من الإعجاز، إذ لم يتم فتح مكة بعد، وإنما كان صلح الحديبية(6)، فهذا توكيد من الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالفتح وإن لم يكن واقعًا بعد، وقال الرازي: ((وأما الفتح فلم يكن لأحد غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعظمه بقوله تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا } وفيه التعظيم من وجهين أحدهما : (إنا) وثانيهما : لك، أي لأجلك على وجه المنة)) (7)، وذهب البقاعي إلى أن التوكيد جاء للإعلام بالصفة المقتضية للرحمة(8)، فلهذه الأداة عمل واحد فقط، هو أنها إذا دخلت على الجمل الاسمية فإنها تغير لفظها دون معناها(9)،
__________
(1) ينظر: الإتقان ( 2/173 ).
(2) حروف المعاني بين الأصالة والحداثة ( 98 ).
(3) ينظر: تفسير الطبري(22/100).
(4) ينظر: نفسه.
(5) ينظر: روح المعاني (م8/ج14/120 ).
(6) ينظر: نفسه.
(7) تفسير الرازي (م4/ج28/79).
(8) ينظر: نظم الدرر للبقاعي (6/83).
(9) ينظر: أسرار العربية لأبي البركات الأنباري ( 1/35-37 )..(1/20)
كما في قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 115]، فـ(إن) غيرت اللفظ بأن نصبت الاسم ورفعت الخبر، ولكنها لم تغير المعنى لأن معناها التوكيد والتحقيق، والتوكيد والتحقيق لشيء لا يغير من معناه(1)، إذ إن الأداة (إنَّ) تقوّي ذلك المعنى الأول، لا تغيره.
__________
(1) ينظر: نفسه ( 1/ 36 )، ورصف المباني ( 118 ).(1/21)
الفصل الأول المبحث الرابع
بدء السور المدنية بالأفعال و الأسماء
- افتتاح السور المدنية بالأفعال.
- افتتاح السور المدنية بالأسماء.
لا يخلو كلام الله من عنصري الكلام الأساسيين وهما الاسم والفعل، سواء أفي افتتاح السور المدنية أم في أثنائها، وهما قسيما الأدوات في تكوين الجمل ودلالاتها ومعانيها اللغوية، فالناظر في خطاب الله للناس جميعًا، في العهد المدني، يجد أن هناك سورًا افتتح الله آياتها بالأفعال أو بالأسماء لما فيها من دلالات ومعان لغوية جليلة.
إن تركيب الفعل يدل على إحداث شيء من العمل وغيره، وهذا يدل على أن الفعل أعم من العمل(1)، فهو (( كلمة دلت على معنى مختص بزمان دلالة الإفادة))(2)، أو ما دل على معنى في نفسه مقترنًا بأحد الأزمنة الثلاثة(3).
__________
(1) ينظر: الكليات ( 680 ).
(2) الحدود للرماني ( 67 ).
(3) ينظر: شرح شذور الذهب ( 32 )، وأوضح المسالك ( 1/27 )، وقطر الندى ( 39 ).(1/1)
أما الاسم فهو لفظ مركب من أصوات، له معنى، خالٍ من الزمان، فهو علامة على المسمى(1) يدل على معنى كما يقول المبرد(2)، و((لا يلزم منه الزمان الخارج عن معناه لبنيته.))(3) وقد قُسِّمَ معناه المفرد قسمين: يكون شخصًا وغيرَ شخص(4). فأما الشخص فنحو رجل وفرس، إذ نجد أن هذه الأسماء ((تنوب في تصور المعاني في نفوس السامعين مناب المسميات أنفسها لو شاهدوها، فإذا قال القائل: رأيت جملاً؛ تصور من هذا الاسم في نفس السامع ما كان يتصوره من المسمى الواقع تحته لو شاهده. فلما ناب الاسم من هذا الوجه مناب المسمى في التصور كان المتصور من كل واحد منهما شيئًا واحدًا.))(5) وأما غير الشخص فنحو الأكل والضرب واليوم والليلة، وإن كان اليوم والليلة يدلان على الزمان فهما أسماء وليسا أفعالاً، لأن الفعل يدل على زمان ومعنى، أما اليوم والليلة فيدلان على الزمان فقط، ومن هنا يبقى الخطاب المدني هو المحدد الأول والأخير لدلالة الاسم على وفق قصديته وإرادته، أو الفعل على وفق زمنه ودلالته.
إن الكلمة المنطوقة أيًا ما كانت،أصوات معبرة عن دلالة كامنة في المباني اللغوية على مختلف مستوياتها، والاسم أعلاها لأنه هو المسند إليه.
الأفعال و الأسماء التي افتتح بها الخطاب المدني:
__________
(1) ينظر: لسان العرب (14/397).
(2) ينظر: المقتضب (1/3).
(3) الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي (1/ 21).
(4) ينظر: الأصول في النحو لأبي بكر محمد بن سهيل بن السراج (1/ 36).
(5) الاسم والمسمى، لابن السيد البطليوسي (33).(1/2)
... افتتح الله تبارك وتعالى غالب خطابه للناس، في السور المدنية، بالأفعال(1)، ولهذا قدمت دراسة الأفعال على دراسة الأسماء، في هذا المبحث من الفصل، ثم لأن صور الأفعال التي بُدئ بها الخطاب المدني متعددة، فمن فعل ماض إلى فعل مضارع إلى فعل أمر، كما سيأتي، أما الأسماء التي افتتحت بها السور المدنية فهي الاسم النكرة والاسم الموصول فقط.
الافتتاح بالأفعال:
افتتح الله تعالى خطابه بالأفعال الآتية:
1– الافتتاح بالفعل (سبح) والفعل (يسبح):
جرى خطاب الله تعالى بالافتتاح بالفعل الماضي (سبح) في قوله تعالى: { سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } [الحشر: 1](2)، أما الفعل المضارع (يسبح)، ففي قوله تعالى: { يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } [الجمعة: 1] (3)، و فعل التسبيح يدل على التكثير والمبالغة، ومعنى التكثير والمبالغة أن جميع ما في السماوات والأرض يكثرون من التسبيح لله تعالى، في كل زمان ومكان، وهذه الدلالة على الديمومة في التسبيح لله تعالى جاءت من الآتي:
أ صيغة الفعل الثلاثية المزيدة بحرف (المضعفة العين)، تدل على التكثير والمبالغة(4).
__________
(1) هذا الأمر ظهر بالاستقراء لافتتاحات السور المدنية .
(2) والصف: 1.
(3) والتغابن: 1.
(4) ينظر: الدلالة الإيحائية في الصيغة الإفرادية، لـ د. صفية مطهر(86).(1/3)
ب تنوع الصيغ الصرفية للفعل، في الخطاب المدني، إذ جاء الفعل (سبح) في افتتاح السور المدنية بصيغة الماضي(1)، وجاء بصيغة المضارع(2)، كما جاء بصيغة المصدر في أثناء الآيات المدنية(3)، وجاء بصيغة فعل الأمر، كما في قوله تعالى : { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } [النصر: 3] ، هذا ما دعا المفسرين إلى القول بديمومة هذا الفعل، من مخلوقات الله تعالى، فمجيء الفعل بصيغة (( الماضي والمضارع، لأنها غير مختصة بوقت دون وقت، بل هي مسبحة أبدًا في الماضي وتكون مسبحة أبدًا في المستقبل))(4)، وفي التسبيح، قال الزركشي: ((هذه كلمةٌ استأثر اللهُ بها فبدأَ بالمصدرِ منها في بني إسرائيلَ لأنَّه الأصلُ، ثمَّ الماضي (سَبّحَ لِلّهِ) في ... الحشرِ والصفِ، لأنه أسبق الزمانين، ثم المستقبل في الجمعةِ والتغابنِ، ثم بالأمرِ في سورةِ الأعلى؛ استيعابًا لهذه الكلمةِ من جميعِ جهاتِها، وهى أربعٌ: المصدرُ والماضي والمستقبلُ والأمرُ المخاطب فهذه أعجوبةٌ وبرهانٌ)) (5)، وهذا الافتتاح بذكر التسبيح بذاته وبإيقاعاته يهز القلوب هزًا، ويوقع فيها الرهبة والخشية، كما يوقع فيها الرغبة الحية في الخلوص لله والالتجاء إليه، لأن التسبيح تنزيه الحق عن نقائض الإمكان والحدوث(6)، وفي معجم العين ((سُبْحانَ اللهِ: تنزيه لله عن كل ما لا ينبغي أن يُوصَف به، ... سَبَّحْتُ تَسبيحًا للهِ أي: نزَّهتُه تنزيهًا))(7)، وجاء مثله في القاموس المحيط(8)،
__________
(1) كما في سورتي الحشر والصف .
(2) كما في سورتي التغابن والجمعة .
(3) كما في قوله تعالى : { سبحان الله عما يشركون } [الحشر : 23]، وغيرها.
(4) تفسير الرازي ( م15/ج29/ص311 ).
(5) البرهان (1/165).
(6) ينظر: التعريفات للجرجاني ( 80 ).
(7) العين ( 3/151 ).
(8) ينظر: القاموس المحيط ( 284-285 )..(1/4)
وفي اللسان ((قال أَبو إِسحق من قرأَ سَبْخًا(1) فمعناه قريب من السَّبْح وقال ابن الأَعرابي من قرأَ سَبْحًا فمعناه اضطرابًا ومعاشًا ومن قرأَ سَبْخًا أَراد راحة وتخفيفًا للأَبدان قال ابنُ الفَرَج سمعت أَبا الجَهْم الجَعْفَرِيِّ يقول سَبَحْتُ في الأَرض وسَبَخْتُ فيها إِذا تباعدت فيها ومنه قوله تعالى: { وكلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُون } (2)، أَي يَجْرُونَ ولم يقل تَسْبَحُ لأَنَّه وصفَهَا بفعلِ مَن يعقلُ وكذلك قوله { والسَّابحاتِ سَبْحًا } (3)، هي النجوم تَسْبَحُ في الفَلَكِ أَي تذهب فيها بَسْطًا كما يَسْبَحُ السابحُ في الماء سَبْحًا وكذلك السابح من الخيل يمدّ يديه في الجري سَبْحًا... وسَبَحَ اليَرْبُوعُ في الأَرض إِذا حفرَ فيها وسَبَحَ في الكلامِ إِذا أَكثرَ فيه والتَّسبيحُ التنزيهُ وسبحانَ اللهِ معناه تنزيهًا للهِ من الصاحبةِ والولدِ وقيل تنزيهُ اللهِ تعالى عن كلِّ ما لا ينبغي له... وقيل قولُه { سُبْحَانَكَ } (4) أَي أُنزهك يا ربُ من كلِّ سوءٍ وأُبرئك... وكذلك تسبيحه تبعيده وبهذا استدل على أَن سبحان معرفة إِذ لو كان نكرة لانصرف ...
__________
(1) قرأ الجمهور قوله تعالى: ( إن لك في النهار سبحًا طويلاَ) [المزمل: 7]، وقرأ الضحاك وابن مسعود (سبخًا). ينظر: تفسير الطبري (12/285)، و إعراب القراءات السبع وعللها، لابن خالويه (2/405)، ومختصر في شواذ القراءات لابن خالويه ( 164)، وتفسير القرطبي ( 19/41)، ومفردات ألفاظ القرآن (394)، ومعجم القراءات (10/145).
(2) سورة يس : 40.
(3) النازعات: 3.
(4) وردت هذه اللفظة في السور المدنية الآتية: البقرة: 32، وآل عمران: 191، والمائدة: 116، والنور: 16، وفي بعض السور المكية.(1/5)
سبحانًا ليس بمصدر سَبَّحَ إِنما هو مصدر سَبَحَ، وفي التهذيب سَبَّحْتُ الله تسبيحًا وسُبْحانًا بمعنى واحد فالمصدر تسبيح والاسم سُبْحان يقوم مقام المصدر))(1).
... أما سبب التكرار لهذا الفعل في آيات الخطاب المدني، فلأن مَن وجد منه التسبيح عند وجود العالم، بإيجاد الله، غير من وجد منه التسبيح بعد وجود العالم، وكذا عند وجود آدم وبعد وجوده(2)، وهذا التسبيح إما قول أو مقال حال، على خلاف بين المفسرين(3)، و ذكر الله تعالى (سبحان) في القرآن الكريم في خمسة وعشرين موضعًا(4)، في كل واحد منها إثبات صفة من صفات المدح، ونفي صفة من صفات الذم ولكن الكلمة وردت في أثناء الخطاب المدني للدلالة على أحد معنيين هما(5):
أ التنزيه: وجاء بمعنى أنا المنزه عن الصاحبة والولد، قال الله تعالى: { وَقَالُواْ اتّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ } [البقرة: 116]، وبمعنى: أنا المنزه عن وصفهم وقولهم، قال تعالى : { اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُوَاْ إِلَهًا وَاحِدًا لاّ إِلَه إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ } [التوبة: 31].
ب التعجب: وجاء بمعنى أنا الذي أعلم لا بتعليم المعلمين ولا بإرشاد المرشدين، قال تعالى: { قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [البقرة: 32].
__________
(1) لسان العرب، مادة (سبح)، ( 2/471-473)، وينظر: تهذيب اللغة ( 4/ 196 ).
(2) ينظر : تفسير الرازي (م15/ج29/312 )، وروح المعاني (م15/ج27/ص253).
(3) ينظر: تفسير الرازي (م15/ج29/312).
(4) ينظر: بصائر ذوي التمييز ( 2/83 ).
(5) ينظر: نفسه.(1/6)
... والفعل (سبح) عدي باللام(1) تارة، كما في افتتاح خطاب السور المدنية، وعدي بنفسه مرة أخرى، كما في قوله تعالى : { وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الأحزاب: 42]، وفي قوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [الأعراف: 206]، وأصله التعدي بنفسه، لأن معنى التسبيح التنزيه والتبعيد، كما في معجمات اللغة المذكورة سابقًا.
2– الافتتاح بفعل الأمر (قل):
__________
(1) هذه اللام إما أن تكون بمنزلة اللام في: نصحت لزيد، يقال: سبح الله، كما يقال: نصحت زيدا، فمجيء اللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول؛ وإما أن تكون لام التعليل أي أحدث التسبيح لأجل الله تعالى، أي لوجهه خالصا. ينظر: تفسير النسفي ( 4/222 ).(1/7)
جاء هذا الافتتاح في قوله تعالى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ } [الفلق: 1]، وفي قوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ } [الناس: 1]، وقرأ الجمهور { قل أعوذ } بالهمزة وقرئ بحذفها ونقل حركتها إلى اللام(1)، ونظير هذه القراءة(2) جاء في قوله تعالى: { فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطّيْرِ فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ } [البقرة: 260]، وهذا الاستفتاح بفعل الأمر في خطاب الله تعالى للناس ورد في خمس سور: ثلاث منها مكية(3)، واثنتان مدنيتان هما سورة الفلق وسورة الناس، و ((هاتان السورتان نزلتا معًا (4)...
__________
(1) تنظر القراءة في التذكرة في القراءات السبع، لأبي الحسين طاهر بن عبدالمنعم بن غلبون (1/123-124)، والتيسير في القراءات السبع، لأبي عمر الداني (38)، والكشاف (4/828)، وتفسير البيضاوي (3/201)، والنشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/408-409)، و إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربع عشر[ة]، للبنَّاء أحمد بن محمد الدمياطي(83)، وفتح القدير (1995)، ومعجم القراءات، لعبداللطيف الخطيب (10/645).
(2) تنظر القراءة في مختصر في شواذ (قراءات) القرآن لابن خالويه (183)، والتذكرة في القراءات السبع (1/123-124)، والتيسير في القراءات السبع (38)، والكشاف (4/828)، وتفسير الرازي ( م16/ج30/197 )، والنشر في القراءات العشر (1/408-409)، و إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربع عشر[ة](83).
(3) هذه السور هي: سورة الجن، وسورة الكافرون، وسورة الإخلاص.
(4) ينظر: لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي( 238 ).(1/8)
فلذلك قرنتا مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح بـ { قل أعوذ } و عقب بهما سورة الإخلاص، لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات وبالقوافل وقدمت الفلق على الناس و إن كانت أقصر منها لمناسبة مقطعها))(1)، والأمر بالقول ((له أهمية كبيرة هنا، ولو حذف الفعل لاختل المعنى المقصود. { قل } للإفصاح عن ضعفه والتجائه إلى ربه، فكلمة (قل) هي من باب الإفصاح والإعلان عن حاجة الإنسان إلى ربه جل وعلا، وهو يفصح عن حاجته هذه بنفسه وينطقها بلسانه. وفيها قتل للغرور، لأن الكبر والغرور يمنعان المرء أحيانًا من طلب الإعانة وهو في حاجة شديدة إليها، ولأن الذي يطلب المعونة من غيره يمتنع عن الغرور، ولا يكتفي الإنسان بالشعور بالحاجة إلى ربه لكن ينبغي أن يعلن حاجته لربه، سواء أكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الناس...
(
__________
(1) أسرار ترتيب القرآن، لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( 161 )، وينظر: أسباب النزول للواحدي ( 346 – 347 ).(1/9)
قل): في هذا الإعلان قتل بل علاج للكبر والغرور الذي في نفس الإنسان والذي قد يودي به إلى الطغيان. { إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَن رّآهُ اسْتَغْنَى } (1) لذلك لابد من قولها باللسان ولا يجوز النطق بالاستعاذة دون الأمر (قل)، وهذا القول من أسباب الطاعة، فإذا استعنا بالله ليعصمنا من الشرور فإنها من أسباب الطاعة له سبحانه. وإذا صاحب الاستعاذة شعور بالنفس بالحاجة إلى غياث المستغيثين ليأوي إلى ركن شديد فهذا الشعور بالحاجة إلى مولاه فهذا الشعور يلين القلوب القاسية ))(2)، وهذا الأمر يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ أعيُنِها لأن الله تعالى عيَّنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليعوذ بها(3)، كما أن صيغة الأمر الموجهة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستعملة في معنيي الخطاب، من توجهه إلى معين وهو الأصل، ومن توجهه إلى كل من يصح خطابهم من الخلق، فهو من استعمال المشترك اللفظي في معنييه(4)، ومعنى فعل الأمر: فعل موجبه ومقتضاه.
3–الفعل المضارع (يسأل):
__________
(1) العلق: 6-7.
(2) لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، لإبراهيم السامرائي ( 181- 182 ).
(3) ينظر: بدائع الفوائد (2/429)، والتحرير والتنوير (م15/ج30/ص625 ).
(4) ينظر: التحرير والتنوير (م15/ج30/ص625 ).(1/10)
جاء الافتتاح بالفعل المضارع (يسأل) في الخطاب المدني في قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [الأنفال: 1]، والسؤال المذكور في هذه الآية إما أن يكون في (( استدعاء معرفة أو ما يؤدي إلى المعرفة، واستدعاء مال، أو ما يؤدي إلى المال. فاستدعاء المعرفة جوابه باللسان، واليد خليفة له بالكتابة أو الإشارة. واستدعاء المال جوابه باليد، واللسان خليفة لها إما بوعد، أو برد. تقول: سألته عن الشيء سؤالاً، ومسألة. وقال الأخفش: يقال: خرجنا نسأل عن فلان وبفلان(1).))(2)، وقال بعضهم: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } مجادلة، كما جادلوك يوم بدر فقالوا: أخرجتنا للعير، ولم تعلمنا قتالاً فنستعد له(3). والسؤال الذي في هذا الافتتاح سؤال استخبار لا سؤال طلب لأنهم كانوا يستفتونه عنها، وقيل: هو سؤال طلب. قاله الضحاك وعكرمة(4)، وقيل: (عن) صلة أي: يسألونك الأنفال، وهكذا قراءة ابن مسعود بحذف عن(5). جاء – سابقًا– أن استخدام الفعل (سأل) يكون إما لاستدعاء معرفة أو ما يؤدي إليها؛ فيتعدى حينئذ بنفسه وبعن(6)،
__________
(1) ينظر: تاج العروس، مادة(سأل)، ( 14/ 323 ).
(2) روح المعاني ( م6/ج9/ص233).
(3) ينظر: تفسير ابن كثير ( 2/288 ).
(4) ينظر: تفسير البغوي ( 3/325 ).
(5) وهي قراءة سعد بن أبي وقاص والحسين وولديه زيد ومحمد الباقر وغيرهم. ينظر: مختصر في شواذ القراءات (48)، و المحتسب لابن جني (1/272)، وتفسير البغوي ( 3/325 )، والمحرر الوجيز لابن عطية ( 2/496 )، ومعجم القراءات (3/257)، والقراءات الشاذة وتوجيهها النحوي لـ د. محمود أحمد الصغير ( 342 ).
(6) ينظر: البحر المحيط (4/456)، وروح المعاني (م6/ج9/ص233)، والتحرير والتنوير (م5/ج9/ص248)، وتاج العروس ( 14/325 )..(1/11)
قال السموأل(1): (الطويل)
سَلي إِن جَهِلتِ الناسَ عَنّا وَعَنهُمُ فَلَيسَ سَواءً عالِمٌ وَجَهولُ
__________
(1) البيت للسمؤال في ديوانه ( 10 )، وديوان الحماسة لأبي تمام (1/31)، والبيان والتبيين (1/479)، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي (1/31)، والمقاصد النحوية، لبدر الدين العيني(1/439)، وشرح أبيات الحماسة المنسوب للمعري(1/89)، وفيه اختلاف في البيت بقوله: سلي إن جهلت الناس عنا فتخبري....، وهو في المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي ( 1/293 )، وخزانة الأدب للبغدادي عند الشاهد 858 (10/354)، وللسموأل أو للحلاج الحارثي في تخليص الشواهد (237)، وبلا نسبة في شرح الألفية لابن الناظم (54)، وقطر الندى ( 103)، وشرح ابن عقيل (1/218).(1/12)
أو يتعدى بالباء كما في قوله تعالى : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [المعارج: 1]، ولكن الباء هنا جاءت بمعنى (عن)، فقوله سأل بعذاب أي عن عذاب(1)، وإما أن يكون استخدام الفعل لاستدعاء مال أو ما يؤدي إليه فيتعدى بنفسه كقوله تعالى: { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } [الممتحنة: 10]، أو بمن(2) كقوله تعالى: { وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ } [النساء: 32]، وقد يتعدى لمفعولين، ومثال ذلك، في الخطاب المدني، قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [الأحزاب: 53]، وقد يكون السؤال في الخطاب المدني استفهاميًا، ولكنه خرج عن غايته إلى التذكير والتوبيخ، نحو ما جاء في خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: { سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ } [البقرة: 211]، ولم يقترن الجواب عن السؤال بالفاء في الآية التي في سورة الأنفال؛ لأن الجواب عنها ربما لا يحتاج إلى البيان في ذلك الوقت بالذات؛ فما كان جوابه يتطلب الذكر مباشرة فإن الله تعالى يعقبه بالفاء، لأن تأخير البيان في المسائل الأصولية غير جائز، وأما تأخيره في المسائل الفروعية فجائز(3)،
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (12/225).
(2) ينظر: روح المعاني ( م6/ج9/ص233 ).
(3) ينظر: تفسير الرازي ( م11/ج22/ص118)، وروح المعاني ( م9/ج16/ص383 )..(1/13)
لذا لم يؤتَ بالفاء في الأمر بالجواب في آيات الخطاب المدني كما قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [الأنفال: 1]، وفي قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ } [البقرة: 219]، وقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السّبِيلِ } [البقرة: 215]، وقوله سبحانه : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [البقرة: 220]، وفي بعض آيات الخطاب المكي كما في قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي } [الإسراء: 85]، إلى غير ذلك من الآيات(1)، ولكن اتصال جواب السؤال بالفاء للتعقيب ذُكِر في الخطاب المكي في آية واحدة فقط هي قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفًا } [طه: 105]، وفي هذا دلالة على أن ما جاء من سؤال في هذه الآية أهم مما جاء في الآيات الأخر؛ وكون ما اقترن بالفاء هو الأهم، فلأن الأمر بالجواب المقترن بالفاء للمسارعة إلى الذب عن الدعوة السابقة، والآية التي لم يقرن الأمر فيها بالفاء لم تسق هذا المساق كما لا يخفى (2)، وذهب الشهاب الخفاجي إلى القول بأن:«الظاهر أنه إنما قرن بها هنا ولم يقرن بها ثمة، للإشارة إلى أن الجواب معلوم له قبل ذلك، فأمر بالمبادرة إليه بخلاف ذاك» (3)،
__________
(1) كما في سورة البقرة: 189، 217، 222، والمائدة: 4، والكهف: 83.
(2) ينظر: تفسير الرازي ( م8/ج15/ص118)، روح المعاني ( م9/ج16/ص383 ).
(3) حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (6/392)..(1/14)
ومعلوم أن القول بأن الجواب عن سؤال الروح، وعن سؤال المحيض ونحو ذلك لم يكن معلومًا له - صلى الله عليه وسلم - فما ذكره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه(1). وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال :« ما كان أمة أقل سؤالا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - سألوا عن أربعة عشر حرفًا فأجيبوا» (2)، وضمير الفاعل في { يَسْأَلُونَكَ } ليس عائدًا على مذكور قبله، وإنما تفسره وقعة بدر، فهو عائد على من حضرها من الصحابة(3)، والكاف: خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، و { يَسْأَلُونَكَ } افتتاح بأسلوب خبري، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال كان ذلك من الإخبار بالمغيب، وإن كانت نزلت بعد السؤال، وهو المنقول في أسباب النزول(4)، فيكون ذلك حكاية عن حال مضت.
__________
(1) ينظر: تفسير الرازي ( م8/ج15/ص118)، روح المعاني ( م9/ج16/ص383 ).
(2) الإتقان ( 2/315 )، وذكر تلك السؤالات هناك.
(3) ينظر: تفسير الرازي ( م8/ج15/ص117)، والبحر المحيط ( 4/456 ).
(4) ينظر: لباب النقول في أسباب النزول( 216 ).(1/15)
إن الملاحظ، في أجوبة الأسئلة التي وردت في القرآن الكريم عمومًا، أن الله تعالى أجاب عنها بقوله لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : (قل)، وفي حين أن الجواب بصيغة (فقل) مع فاء التعقيب في الخطاب المكي، وفي صورة ثالثة-في الخطاب المكي- ذكر السؤال ولم يذكر الجواب، كما في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا، فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } [النازعات: 43-42]، وفي صورة رابعة-في الخطاب المدني- ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ (قل)، ولا لفظ (فقل)، وهو في قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186]، ولا بد لهذه الأشياء من الفائدة، فأقول: أما الأجوبة الواردة بلفظ (قل) فلا إشكال فيها؛ لأن قوله تعالى (قل) كالتوقيع في ثبوت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكالتشريف في كونه مخاطبًا من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ(1)، وأما الجواب بـ (فقل) مع فاء التعقيب، فالسبب فيه أن قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } سؤال عن قدمها وحدوثها(2)، وهذه مسألة أصولية فكأن الله سبحانه وتعالى قال: يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب، فإن الشك فيه كفر، أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم إذ لم يذكر فيها فاء التعقيب، أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال الله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } ولم يقل فقل إني قريب، فتدل على تعظيم حال الدعاء(3)، وأما عدم ذكر الجواب فلأن السؤال كان عن أمر غيبي لا يعلمه أحد إلا الله تعالى، فكيف سيجيب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء لا يعلمه إلا بتعليم الله تعالى له، ووقت قيام الساعة مما استأثر الله بعلمه؛ فلم يطلع عليه أحدًا من خلقه.
__________
(1) ينظر: تفسير الرازي ( م8/ج15/ص117).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر: تفسير الرازي ( م8/ج15/ص117).(1/16)
ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد(1).
الافتتاح بالأسماء:
افتتح الله تعالى السور المدنية بالأسماء في المواضع الآتية:
1– الافتتاح بالأسماء النكرات: افتتح الله تعالى خطابه بالأسماء النكرات في قوله تعالى: { بَرَآءَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 1]، وفي قوله تعالى: { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ لّعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ } [النور: 1]، وما يظهر هنا هو أن الله تعالى قد افتتح هذه السور بأسماء نكرات، وتلك الأسماء النكرات من حيث معناها اللغوي ترجع إلى الآتي:
__________
(1) ينظر: تفسير التحرير والتنوير (م5/ج9/ص248 ).(1/17)
أ– (براءة) مصدر، كالثناءة والدناءة. و هذا المصدر (براءة)، عند أهل اللغة، من الفعل ((أَبْرَأُ بَراءةً وبَرِئتُ إليْكَ مِنْ فلانٍ أَبْرَأُ بَرَاءةً فليسَ فيها غير هذه اللغَةِ قال الأَزهَري وقد رووا بَرَأتُ مِنَ المَرَضِ أَبْرُؤ بُرْءًا قال ولم نجِدْ فيما لامه هَمْزةٌ فَعَلْتُ أَفْعُلُ قال وقد استقصى العلماءُ باللغَةِ هذا فلم يجدُوهُ إِلا في هذا الحرْف ثم ذكرَ قرَأْتُ أَقْرُؤُه وهَنَأْتُ البعِيرَ أَهْنُؤُه وقولهُ عزَّ وجلَّ { بَرَآءَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } ... وأَبْرأْتُه مِمَّا لي عليْهِ وبَرَّأْتُهُ تَبْرِئةً وبَرِئَ مِنَ الأَمْرِ يَبْرَأُ ويَبْرُؤُ والأَخِير نادِرٌ. بَراءة وبَراءً الأَخِيرة عن اللحياني قالَ وكذلِكَ في الدَّينِ والعُيوبِ بَرِئَ إِليكَ مِنْ حَقِّكَ بَراءة وبَراءً وبُروءًا وتبرُّؤًا وأَبرَأَكَ مِنهُ وبَرَّأَكَ وفي التنزيلِ العزيزِ { فَبرّأَهُ اللّهُ مِمّا قَالُواْ } (1)، وأَنا بَرِيءٌ مِنْ ذلِكَ وبَراءٌ والجمْعُ بِراءٌ مثل كَرِيمٍ وكِرامٍ وبُرَآءُ مِثل فقِيه وفُقَهاء وأَبراء مثل شريفٍ وأَشرافٍ وأَبرِياءُ مثل نَصِيبٍ وأَنْصِباء وبَرِيئون وبَراء وقال الفارسي البُراءُ جمعُ بَريء وهو مِنْ بابِ رَخْلٍ ورُخالٍ وحكى الفرَّاءُ في جَمْعِهِ بُراء غير مصروفٍ على حذفِ إِحدى الهمزَتين وقالَ اللحياني أَهلُ الحجاز يقولون أَنا مِنك بَراءٌ قال وفي التنزيل العزيزِ { إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ } (2) وتَبَرَّأْتُ مِن كذا وأَنا بَراءٌ مِنهُ وخَلاءٌ لا يُثَنَّى ولا يجمَع لأَنهُ مصدَرٌ في الأَصْل مِثل سَمِعَ سَمَاعًا فإِذا قلت أَنا بَرِيءٌ مِنهُ وخَلِيٌّ منهُ ثنَّيتَ وجَمَعْتَ وأَنَّثْتَ ولغةُ تميمٍ وغيرِهم مِن العَرَبِ أَنا بَرِيءٌ وفي غيرِ موضعٍ مِن القرآنِ إِني بَرِيءٌ))(3).
__________
(1) الأحزاب: 69.
(2) الزخرف: 26.
(3) لسان العرب، مادة (برأ)، ( 1/32-33 ).(1/18)
ب– (سورة) من أَسْأَرْتُ، يعني: أَفْضَلْتُ، كأنها قطعت من القرآن، والسورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة، ومن لم يهمز، جعلها من سور المدينة سورًا(1)، جاء في لسان العرب: ((قال أَبو الهيثم السُّورَةُ من سُوَرِ القرآنِ عندنا قطعةٌ من القرآنِ سبقَ وُحْدانُها جَمْعَها كما أَن الغُرْفَةَ سابقةٌ للغُرَفِ، وأَنزلَ اللَّهُ عزّ وجلّ القرآنَ على نبيه شيئًا بعد شيءٍ وجعله مفصلاً وبيَّن كلَّ سورةٍ بخاتمتِهَا وبادئتِهَا وميَّزَها من التي تليها؛ قال وكأَن أَبا الهيثم جعلَ السُّورَةَ من سُوَرِ القرآنِ من أَسْأَرْتُ سُؤْرًا أَي أَفضلت فضلاً إِلا أَنَّها لمَّا كثرتْ في الكلامِ وفي القرآنِ تُرِكَ فيها الهمزُ كما تركَ في المَلَكِ)) (2)، وقال النابغة للنعمان بن المنذر(3): (الطويل)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... ... ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
__________
(1) ينظر: تاج العروس، مادة (سور)، ( 6/553 ).
(2) لسان العرب، مادة (سور)، ( 4/387 ).
(3) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ( 73 )، ونقد الشعر ( 82 )، وديوان المعاني ( 1/15 )، وروي في العمدة لابن رشيق (2/170 ) بقوله: وذلك أن ...، وهو في صبح الأعشى (2/14)، وخزانة الأدب للبغدادي (9/468)، وتاج العروس، مادة (سور)، (6/552)، واللسان، مادة (سور)، (4/386).(1/19)
قرئت الأسماء النكرات في تلك السور بالرفع والنصب، فقراءة الرفع قراءة عامة الناس(1)، وقراءة النصب هي قراءة ((عمر بنِ عبدِ العزيزِ ومجاهدٍ وعيسى بنِ عمرٍ الثقفيِّ البصريِّّ وعيسى بنِ عمرٍ الهمدانيِّ الكوفي وابنِ أبي عبلةَ وأبي حيوةَ ومحبوبِ عن أبي عمرٍو وأمِ الدرداءِ))(2)، ويمكن تخريج تلك القراءات على ما سيأتي:
قرأ العامة { براءة } ، وكذلك { سورة } ، بالرفع، وفيها وجهان(3) :
__________
(1) ينظر: مختصر في شواذ (قراءات) القرآن ( 32)، وإعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه (2/99)، والمحتسب (2/100)، والكشاف ( 2/ 230 )، وتفسير الرازي ( م8/ج15/ص225 )، والبحر المحيط ( 5/4 )، وإتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربع عشر[ة]، للبنَّاء الدمياطي (408)، والبدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة، للنشّار (1/131)، ومعجم القراءات (3/339) و(6/221).
(2) روح المعاني ( م10/ج18/ص112 )، وينظر القراءة في: مختصر في شواذ القراءات (51 و32)، و إعراب القرآن للنحاس (3/127)، وإعراب القراءات السبع وعللها، (2/99)، والمحتسب، لابن جني (2/100)، والبحر المحيط (5/4)، والتبيان في إعراب القرآن (2/963)، وفتح القدير (1203)، وإتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربع عشر[ة]، للبنَّاء الدمياطي (408)، ومعجم القراءات( 6/221).
(3) ينظر: إعراب القرآن للنحاس (2/201)، والتبيان في إعراب القرآن (2 /634)، والمغني (1/824)، وشرح قطر الندى (125)، وفتح القدير ( 682 ).(1/20)
أحدهما : أن تكون مبتدأ، قاله أبو عبيدة والأخفش والزركشي(1) والخليل(2)، والجملة بعدها صفة لها، وذلك هو المسوغ للابتداء بالنكرة، وصار معنى الكلام: البراءة من الله ورسوله، إلى الذين عاهدتم من المشركين(3)، والسورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا، و { أنزلناها } مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة(4)، كما أن النكرة موصوفة بما يدل عليه التنوين كأنه قيل: سورة عظيمة، كما قيل في (شَرٌّ أَهَرَّ ذا نَابٍ)(5)، ومجمع عند أصحاب اللغة على جواز الابتداء بالنكرة المخصصة(6)، إذ ذكر النحويون الوصف مسوغًا للابتداء بالنكرة(7)، يقول ابن هشام : «ولا يبتدأُ بنكرةٍ إلا إنْ حصلتْ به فائدةٌ، كأنْ يُخْبَرُ عنها بمختصٍ مقدمٍ ظرفٍ أو مجرورٍ 000 أو تكونَ موصوفةً»(8)، وقيل جاز الابتداء بهما لما فيهما من معنى الدعاء، والكلام فيهما وارد على الحكاية(9)، أو تقديرها فيما يتلى عليك سورة، وهو قول الفراء(10)،والمبرد(11)وابن هشام الأنصاري(12).
وفي خبر المبتدأ النكرة الوارد في السور السابقة وجهان:
__________
(1) نقل قولهم الزركشي، وأيده في : البرهان ( 3/143 ).
(2) ينظر: الجمل في النحو ( 205 ).
(3) وهو ما رجحه القرطبي في تفسيره ( 8/63 ).
(4) ينظر: تفسير أبي السعود ( 4/67 )، وروح المعاني ( م10/ج18/ص112 )، والإيضاح في علوم البلاغة للقزويني (50 ).
(5) مجمع الأمثال للميداني ( 1/370 ).
(6) ينظر: الأصول في النحو (1 /59)، والخصائص (1/299)، وهمع الهوامع (1/404)، وفتح القدير (682)، وشرح قطر الندى (117).
(7) ينظر: تقريب المقرب لأبي حيان الأندلسي ( 49 ).
(8) أوضح المسالك ( 1/203 ).
(9) ينظر: روح المعاني ( م10/ج18/ص112 ).
(10) ينظر: معاني القرآن ( 2/243 ).
(11) نقله عنه القرطبي في تفسيره ( 12/158 ).
(12) ينظر: شرح قطر الندى ( 125 ).(1/21)
أحدهما: أنه في سورة (براءة) قوله تعالى : { إلى الذين عاهدتم } ،أما في سورة النور فالجملة من قوله: { الزانية والزاني } وما بعدها، وإلى هذا نحا ابن عطية، فإنه قال: «ويجوز أن تكون مبتدأ، والخبر { الزانية والزاني } وما بعد ذلك، والمعنى : السورة المنزلة والمفروضة كذا وكذا، إذ السورة آيات مسرودة لها بدء وختم»(1).
والثاني: أن الخبر محذوف، أي : في ما يتلى عليكم براءة، أو في ما أنزلنا سورة أنزلناها الخ، وذُكِرَ أن القصد من هذه الجملة الامتنان والمدح والترغيب، لا فائدة الخبر ولا لازمها وهو كون المخبر عالمًا بالحكم للعلم بكل ذلك، والكلام في ما إذا قصد به مثل هذا إنشاء وليس بإخبار(2)، واختار السالكوتي(3) أن الجملة خبرية مراد بها معناها إلا إنها أوردت لغرض سوى إفادة الحكم أو لازمه.
والوجه الثاني من وجهي الرفع: أن تكون خبرًا لمبتدأ محذوف،أي : هذه براءة، وهذه(4)سورة، وقال أبو البقاء:« { سورة } بالرفع على تقدير: هذه سورة(5)»(6).
__________
(1) المحرر الوجيز ( 4/160 ).
(2) ينظر: روح المعاني ( م10/ج18/ص112 )
(3) ينظر: نفسه.
(4) وأشير إليها بـ ( هذه ) تنزيلا لها منزلة الحاضر المشاهد.
(5) وهذا الأمر واقع لأن من شأن العرب أن يضمروا لكل معاين نكرة كان أو معرفة ذلك المعاين، "هذا" و"هذه"، فيقولون عند معاينتهم الشيء الحسن: "حسن والله"، والقبيح: "قبيح والله"، يريدون: هذا حسن، وهذا قبيح. ينظر: تفسير الطبري (10/58 ).
(6) التبيان في إعراب القرآن ( 2/963 ).(1/22)
وعلى ذلك لا تكون { سورة } مبتدأ، لأنها نكرة، و (( العرب لا تكاد تبتدئ بالنكرات قبل أخبارها إذا لم تكن جوابًا، لأنها توصل كما يوصل الذي، ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة، فيستقبح الابتداء بها قبل الخبر إذا لم تكن موصولة، إذ كان يصير خبرها إذا ابتدئ بها كالصلة لها، ويصير السامع خبرها كالمتوقع خبرها، بعد إذ كان الخبر عنها بعدها، كالصلة لها، وإذا ابتدئ بالخبر عنها قبلها، لم يدخل الشك على سامع الكلام في مراد المتكلم))(1)، وقولهم هذه سورة أنزلناها يحتمل أن يكون قد خصها بهذا الافتتاح لأمرين(2):
أحدهما: أن المقصود الزجر والوعيد، فافتتحت بالرهبة كسورة التوبة.
الثاني: أن فيها تشريفًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بطهارة نسائه كما في سورة النور.
ورد هذا القول بأن مقتضى المقام بيان شأن هذه السورة الكريمة، لا بيان أن في جملة ما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة شأنها كذا وكذا(3)، ولكن حملها على السورة الكريمة بمعونة المقام يوهم أن غيرها من السور الكريمة ليست على تلك الصفات(4).
__________
(1) تفسير القرطبي ( 18/65 ).
(2) ينظر: تفسير أبي السعود (4/67-68)، وفتح القدير ( 1203).
(3) ينظر: فتح القدير ( 1203).
(4) ينظر: تفسير أبي السعود ( 4/67-68 ).(1/23)
وأما ما ذكره القرطبي في تفسيره من تعليل لعدم عدِّ تلك النكرات مبتدأ، فمشكل على ظاهره، إذ كيف يرون أنها: (لا تكون مبتدأ) مع تقديرهم: فيما يتلى عليك (سورة) وهي نكرة، وكيف يعللون المنع بأنها نكرة مع تقديرهم لخبرها جارًا مقدمًا عليها، وهو مسوغ للابتداء بالنكرة؟! ولهذا إعرابها مبتدأ هو الأصوب في رأيي، واستشكل أبو حيان على وجه الاشتغال جواز الابتداء بالنكرة من غير مسوغ، ومعنى ذلك أنه ما من موضع يجوز (فيه) النصب على الاشتغال إلا ويجوز أن يرفع على الابتداء، وهنا لو رفعت { سورة } بالابتداء لم يجز، إذ لا مسوغ، فلا يقال: (رجلاً ضربته) لامتناع (رجل ضربته)، ثم أجاب بأنه إن اعتقد حذف وصف جاز، أي: سورة معظمة أو موضحة أنزلناها فيجوز ذلك(1).
أما قراءة النصب، ففيها من التخريج أوجه هي:
أولا : الأوجه المتفق عليها في تخريج قراءة النصب للسورتين:
أحدها: أنها منصوبة بفعل مقدر غير مفسر بما بعده، وهذا القول ذهب إليه ابن عطية في محرره، إذ قال عند سورة التوبة تقديره : « أي : الزموا براءة، وفيه معنى الإغراء»(2)، ولنا أن نقدر الفعل بإضمار (اسمعوا براءة)، وهذا الرأي هو الأرجح لقراءة النصب لما سيأتي ذكره لاحقًا من الردود على الأقوال الأخرى، وأما في سورة النور فالفعل المقدر: (اتل سورة) أو(اقرأ سورة)، ورأى د. أحمد مختار البرزة أن الفعل المحذوف يفضل أن يقدر بفعل طلبي تقديره ((امتثلوا سورة، مناسبة للأمر في { فاجلدوا } ))(3).
__________
(1) ينظر: البحر المحيط ( 6/427 ).
(2) المحرر الوجيز ( 3/4 )، وينظر: فتح القدير ( 682 ).
(3) أساليب التوكيد من خلال القرآن الكريم لـ د. أحمد مختار البرزة ( 87 ).(1/24)
الثاني: أنها منصوبة على الإغراء، أي: اسمعوا براءة، و اسمعوا سورة، قاله الزمخشري(1)، فمحل أنزلنا، في سورة النور، النصب على الوصفية، ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء، لضعفها في العمل لما أن عملها بالحمل على الفعل(2).
ثانيا الأوجه التي زيدت في تخريج قراءة النصب في سورة النور فقط، ولم تخرج بها قراءة النصب في سورة التوبة:
أحدها : أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده، والمسألة من الاشتغال وتقدير الفعل في الاشتغال: (أنزلنا سورة أنزلناها)، ويشهد له من القرآن الكريم، قوله تعالى: { وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل: 5] وغيرها (3)، ومن كلام العرب قول الربيع بن ضبع بن وهب الفزاري(4): (المنسرح)
والذّئْبَ أَخْشَاهُ إنْ مَرَرْتُ بهِ وَحْدِي وأَخْشَى الرِّياحَ والمَطَرَا
__________
(1) ينظر: الكشاف ( 3/211 ).
(2) ينظر: البحر المحيط ( 6/427 ).
(3) كالنحل: 31، وفاطر: 33، وآيات أخر.
(4) البيت للرُبيع بن ضبع الفزاري في الجمل في النحو للفراهيدي ( 133)، والكتاب لسيبويه (1/90)، وشرح الجمل لابن هشام (135)، والمقاصد النحوية (2/529)، والنوادر في اللغة لأبي زيد الأنصاري (159)، وديوان المعاني (2/224 )، وجمهرة الأمثال ( 1/237 )، ومجمع الأمثال ( 2/180 )، واللسان مادة (ضمن)، (13/260)، وخزانة الأدب للبغدادي الشاهد الخامس والأربعين بعد الخمسمائة ( 7/359 )، وبلا نسبة في المحلى لأبي بكر أحمد بن الحسين بن شقير النحوي (81)، وإعراب القرآن للنحاس(1/507) و(2/122) و(5/134)، وشرح الجمل لابن عصفور (2/164)، وأوضح المسالك(3/114).(1/25)
والثاني : أنها منصوبة على الحال من الضمير(ها) في { أنزلناها } والحال من المكني يجوز أن يتقدم عليه، قاله الفراء(1)، وعلى هذا يكون الضمير في { أنزلناها } ليس عائدًا على { سورة } بل على الأحكام، كأنه قيل: أنزلنا الأحكام سورة من سور القرآن(2)، فهذه الأحكام ثابتة بالقرآن بخلاف غيرها فإنه قد ثبت بالسنة، وربما يقال: يجوز أن يكون الضمير للسورة الموجودة في العلم من غير ملاحظة تقييدها بوصف، و { سورة } المذكورة موصوفة بما يدل عليه تنوينها فكأنه قيل: أنزلنا السورة حال كونها سورة عظيمة، ولا يخفى أن كل ذلك تكلف لا داعي إليه مع وجود الوجه الذي لا غبار عليه(3).
وأنكر الدكتور البرزة ترجيح كون النصب من باب الاشتغال فقال : « ولا يترجح النصب على الاشتغال – أنزلنا سورة أنزلناها– فليس الكلام في توكيد التخصيص وإنما في الأمر والتنفيذ، فتقدير فعل الطلب أنسب للمعنى. وهم لا يجيزون في مثل النكرة { سورة } الاشتغال إذ لا تصلح للابتداء لفقدان المسوغ إلا أن يقدروا صفة محذوفة (سورة عظيمة) فغير الاشتغال أرجح في هذا الموضع. وإذا كانت قراءة الرفع { سورة } تفيد التعظيم فقراءة النصب تفيد معنى الإلزام والإيجاب» (4).
... هذه الأوجه خاصة بسورة النور؛ إذ لا ضمير في فعل بعد (براءة) ليعود عليها، بل لا وجود لفعل بعد (براءة ) ليقدر فيه ضمير عائد على (براءة) في سورة التوبة.
__________
(1) ينظر: معاني القرآن للفراء ( 2/244 ).
(2) ينظر: البحر المحيط ( 6/427 ).
(3) ينظر: نفسه، وفتح القدير (1203).
(4) أساليب التوكيد من خلال القرآن الكريم ( 87 ).(1/26)
كان حديثي عن هاتين الكلمتين مسهبًا لأنني لم أجد في خطاب الله تعالى عند افتتاحه سور القرآن الكريم عامة الافتتاح باسم نكرة؛ إذ جرى الخطاب القرآني بالافتتاح إما بالاسم المعرف كما في سور العهد المكي، كالافتتاح بالحاقة والقارعة وغيرها، أو كان الافتتاح بغير ذلك من الكلمات التي هي إما أفعال، سواء أكانت ماضية أم كانت مضارعة، على ما مرَّ سابقًا، وقد يفتتح الخطاب المكي باسم نكرة (ويل)، في سورة الهمزة وسورة المطففين، إذ افتتح الله تعالى الخطاب بلفظة (ويل) فقال الله تعالى: { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لّمَزَةٍ } [الهمزة: 1]، وهذه الكلمة تعني عجبًا(1)، قال سيبويه: ((وأمَّا قوله تعالى جدُّه { وَيْلٌ يَوْمَئذٍ لِلْمُكَذَّبيِنَ } (2) و { وَيْلٌ لِلْمُطَفَّفِينَ } (3) فإِنّه لا ينبغي أن تقول إنّه دعاءٌ ههنا لأنّ الكلام بذلك قبيح واللفظ به قبيحٌ ولكنّ العبادَ إنَّما كُلَّموا بكلامهم وجاء القرآنُ على لغتهم وعلى ما يَعنون فكأَنَّه واللهُ أعلمُ قيل لهم وَيلٌ لِلْمُطَفَّفِينَ ووَيْلُ يَوْمَئِذٍ لِلمُكَذَّبِينَ أي هؤلاءِ ممن وجب هذا القولُ لهم لأنَّ هذا الكلامَ إنّما يقال لصاحب الشّر والهلَكةِ فقيل هؤلاء ممن دخل في الشرّ والهلكة ووجَبَ لهم هذا))(4)، وإن كان بعض المفسرين يروي الخلاف في معنى هذه اللفظة(5)، فعلى ذلك كان افتتاح الله تعالى بهذين اللفظين (سورة ، وبراءة) من تنوع الخطاب في العهد المدني.
2– الافتتاح بالاسم الموصول:
__________
(1) ينظر: لسان العرب، مادة (ويب)، (1/806).
(2) جاءت هذه الآية في خمس عشرة سورة، منها، الطور: 11، والمطففين: 10، وباقي مواقعها في سورة المرسلات.
(3) المطففين: 1.
(4) الكتاب (1/331).
(5) ينظر: تفسير الرازي (م16/ج32/92)، وتفسير أبي السعود (5/901)، وفتح القدير (1973).(1/27)
الاسم الموصول هو ما يحتاج إلى الصلة، والضمير العائد من الصلة إلى الموصول(1)، وكان افتتاح الله تبارك وتعالى بالاسم الموصول في قوله تعالى : { الّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ أَضَلّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 1]، والافتتاح بالاسم الموصول في هذه السورة يفيد العموم، إذ ((المرادُ بقولِه { الّذِينَ كَفَرُواْ } ... فيه وجوهٌ الأولُ: هُم الذينَ كانُوا يُطعمونَ الجيشَ يومَ بدرٍ، منهم أبو جهلٍ والحارثُ ابنا هشامٍ، وعتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعةَ، وغيرُهم. الثانيُّ: كفارُ قريشٍ. الثالثُ: أهلُ الكتابِ. الرابعُ: هو عامٌ يدخلُ فيه كلُّ كافرٍ))(2)، ومع ذلك لا يمكن تخصيص الموصول الاسمي لأنه من صيغ العموم، إذ اللفظ عام يتناول كل كافر(3)، وهو لجمع المذكر العاقل خاصة(4)، كما في افتتاح سورة (محمد) أو ((ما نزلَ منزلتَهُ نحو { إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأعراف: 194] نَزَّلَ الأصنامَ لما عبدُوهَا منزلةَ مَنْ يعقلُ ولذا عادَ عليها ضميرُ العقلاءِ في قولِه بعد { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [الأعراف:195]))(5)، وهو من التنوع في خطاب القرآن الكريم في العهد المدني إذ اشتمل على خطاب عام لكل كافر، وهذا مما التفتت إليه الدراسة إذ وجدت أن الخطاب في العهد المدني لم يبدأ بذكرٍ للموصول الاسمي إلا في هذه السورة، بل إن الخطاب القرآني عامة لم يبدأ البتة بالاسم الموصول إلا إذا سبقته أداة النداء، كما رأينا ذلك في أداة النداء (يا)(6).
__________
(1) ينظر: شرح شذور الذهب ( 183- 184 ).
(2) تفسير الرازي ( م14/ج28/ص37 ).
(3) ينظر: البحر المحيط (8/73).
(4) ينظر: تقريب المقرب ( 45 ).
(5) همع الهوامع ( 1/321 ).
(6) ينظر: صفحة ( 31-34) من البحث.(1/28)
والاسم الموصول المبدوء به في قوله تعالى: { الّذِينَ كَفَرُواْ } يجوز فيه الرفع على الابتداء(1) والخبر الجملة من قوله: { أَضَلّ أَعْمَالَهُمْ } ، ويجوز نصبه على الاشتغال(2) بفعل مقدر يفسره { أَضَلّ } من حيث المعنى، أي خيب الذين كفروا، وفي الابتداء بالموصول والصلة المتضمنة كفر الذين كفروا ومناوأتهم لدين الله تشويق لما يرد بعده من الحكم المناسب للصلة، وإيماء بالموصول وصلته إلى علة الحكم عليه بالخبر أي لأجل كفرهم وصدهم، وبراعة استهلال للغرض المقصود(3)، والألف واللام في الاسم الموصول ليسا للتعريف لأنه إنما يتعرف بصلته لا بالألف واللام(4)، بدليل أخواتها نحو (من وما) فلو كانت الألف واللام فيه للتعريف لأدى ذلك إلى أن يجتمع فيه تعريفان وذلك لا يجوز(5)، والناظر في هذا الافتتاح يجد أن صلة الموصول الاسمي خبرية. ووجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمي إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل فهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية(6).
__________
(1) وهو ما رجحه النحاس في إعرابه للقرآن (4/177).
(2) ينظر: التبيان في إعراب القرآن (2/1160).
(3) ينظر: التحرير والتنوير ( م12/ج29/ص73 ).
(4) ينظر: أسرار العربية ( 1/210 )، وهمع الهوامع (1/319).
(5) ينظر: أسرار العربية ( 1/327 ).
(6) ينظر: روح المعاني ( م1/ج1/ص599 ).(1/29)
الفصل الثاني المبحث الأول
خطاب الله سبحانه و تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -
- خطاب الله سبحانه وتعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالآتي:
1- بصيغة المخاطب.
2- بصيغة الغائب.
3- بصيغ أخرى.
- غايات خطاب الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .
توطئة:
من الأمور المسلم بها عند المسلمين أن من الأنبياء من بعث إلى قوم(1) أو قبيلة(2) أو قرية معينة(3)، وأن نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بُعِثَ إلى الإنس والجن كافة، فهو بشير ونذير وداع إلى الله وسراج منير؛ لذا اختلف خطاب الله تعالى إليه، عن خطابه إلى الأنبياء الآخرين أو الأقوام الآخرين؛ لأمور متعددة منها(4):
1– أن خطاب الله لأنبيائه في القرآن الكريم كان لشيء حدث في زمن مضى وانقضى؛ لذلك ذكره الله تعالى على سبيل السرد لشيء حدث من قبل، وجاء هذا السرد ليحكي لنا وقائع ما حدث.
2– أن خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - كان مستمرًا ولم ينته في أثناء نزول القرآن، بل إن القرآن اكتمل نزوله والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما زال حيًا.
3– لم يرد في الخطاب المدني نقل لمحاورة صدرت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلامه مع الآخرين إلا ما جاء في آية واحدة، هي قوله تعالى: { وَإِذَ أَسَرّ النّبِيّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمّا نَبّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمّا نَبّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } [التحريم: 3].
__________
(1) كما بعث الله تعالى ذا النون إلى ألف شخص أو يزيدون كما في سورة الصافات.
(2) كحال أنبياء بني إسرائيل.
(3) كما في قصة المرسلين في سورة يس.
(4) ينظر: محاورات الأنبياء لأقوامهم في القرآن الكريم دراسة أسلوبية، لـ د. نجيب علي السودي ( 47 – 48 ) بتصرف.(1/1)
4– أن القرآن الكريم معجزة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وهو خطاب دعوته الموجه لهذه الأمة. فإذا أردنا أن ندرس محاورات النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجب أن ندرس آيات القرآن جميعها بما فيها قصص الأنبياء السابقين، لأنها النص الذي خاطب به محمد - صلى الله عليه وسلم - الناس في زمانه.(1/2)
قال القاضي عياض:« و مما ذكر من خصائصه وبرِّ الله تعالى به أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم، فقال تعالى: { يا نوحُ } (1)؛ { يا إبراهيمُ } (2)؛ { يا مُوسَى } (3)؛ { يا عِيسى } (4)؛ { يا داودُ(5) } ؛ { يا زكريا(6) } ؛ { يا يحيى(7) } وهكذا، ولم يخاطب محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلا بقوله - عز وجل - { يا أيُّها النبيُّ(8) } ، { يا أيُّها الرسولُ(9) } ، { يا أيُّها المُزّملُ(10) } ، { يا أيُّها المُدّثرُ(11) } ...
__________
(1) هود: 32، 46، 48، والشعراء: 116، وكلها سور مكية.
(2) هود : 76، ومريم : 46، والأنبياء: 62، والصافات: 104، وكلها سور مكية.
(3) ذكر هذا النداء في أربعة وعشرين موضعا من القرآن الكريم، ولكن تنوع المنادي لموسى - عليه السلام - ، فمرة من الله تعالى، كما في: الأعراف: 144، طه: 11، 17، 19، 36، 40، 83، النمل: 9، 10، القصص: 30، 31، ومرة من بني إسرائيل كما في: البقرة: 55، 61، والمائدة: 22، 24، والأعراف: 138، القصص: 19، 20، ومرة من السحرة، كما في: الأعراف: 115، وطه: 65، ومرة من فرعون وقومه، كما في: الأعراف: 134، والإسراء: 101، وطه: 57، 49.
(4) نودي عيسى - عليه السلام - في القرآن الكريم في أربعة مواضع فقط، ولكن تنوع المنادي له في تلك المواضع، فمرة من الله تعالى، كما في: آل عمران: 55، والمائدة: 110، 116، ومرة من الحواريين، كما في: المائدة: 112.
(5) سورة ص: 26.
(6) مريم: 7.
(7) مريم: 12.
(8) نودي النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ في ثلاثة عشر موضعا من القرآن الكريم، هي: الأنفال: 64، 65، 70، والتوبة: 73، والأحزاب: 1، 28، 45، 50، 59، والممتحنة: 12، والطلاق: 1، والتحريم: 1، 9، وكلها سور مدنية.
(9) المائدة: 41، 67.
(10) المزمل: 1، وهي سورة مكية.
(11) المدثر: 1، وهي سورة مكية.(1/3)
وقال بعضهم: ومن فضله، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى خاطب الأنبياء بأسمائهم، و خاطبه بالنبوة والرسالة في كتابه، فقال : { يا أيُّها النبيُّ... } ، { يا أيُّها الرسولُ .. } »(1).
وحين دعا الأعراب نبيَّنا باسمه أو كنيته نهاهم عن ذلك وقال { لاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [النور: 63]؛ وأمرهم بتعظيمه وبتفخيمه ونهاهم عن التقديم بين يديه وعن رفع أصواتهم فوق صوته وعاب من ناداه من وراء الحجرات إلى غير ذلك، كما هو ظاهر في سورة الحجرات.
وقال ابن قيم الجوزية: « فلما كمل له أربعون أشرق عليه نور النبوة وأكرمه الله تعالى برسالته وبعثه إلى خلقه واختصه بكرامته وجعله أمينه بينه وبين عباده... » (2).
وقال الإمام القرطبي: « إذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه– أي نبيه - صلى الله عليه وسلم - – بقول: { يا أيها النبي ... } . فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له - صلى الله عليه وسلم - قال: { يا أيها الرسول.. } »(3).
طريقة خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :
تنوعت خطابات الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ،من حيث الصيغة ومن حيث موضوع تلك الصيغة، على أنواع يمكن إجمالها في ما يأتي:
1- خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الخطاب: وهذه الصيغة تعددت في خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على أنواع هي:
أولاً: الخطاب بالضمير (أنت، أو بكاف الخطاب): ويشمل الكلمات التي خوطب فيها - صلى الله عليه وسلم - بلفظ ( أنت ) وبـ ( كاف الخطاب)، كما في المواضع الآتية:
__________
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، للقاضي عياض ( 1/41 )، وينظر: تفسير الرازي ( م16/ج32/6 ).
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد - صلى الله عليه وسلم - ( 1/77 ).
(3) تفسير القرطبي ( 18/148 ).(1/4)
أ– الخطاب بلفظ ضمير المخاطب : أنت، وهذا الخطاب من الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - ؛ لإظهار مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند خالقه، كما في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال: 33]، إذ نفى الله تعالى استئصال كفار قريش، ما دام النبي - صلى الله عليه وسلم - موجودًا فيهم وماداموا يستغفرون الله تعالى(1)، على أن هذا الضمير قد يحذف كما في خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الأمر، وسيأتي بيان ذلك.
ب– الخطاب بما يحوي كاف المخاطب: وهو صيغ متعددة، تشتمل على:
__________
(1) ينظر: فتح القدير (661).(1/5)
– خطاب الله لرسوله بإضافة الكاف إلى اسم الـ(رب): ربك، وهذه الصيغة إما أن تكون من تلوين الخطاب لتحقق غاية مرجوة منه، كما في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]، قال أبو السعود: «وتلوينُ الخطاب بتوجيهه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصةً للإيذان بأن فحوى الكلامِ ليس مما يهتدى إليه بأدلة العقلِ كالأمور المشاهدة التي نبه عليها الكفَرَةَ بطريق الخطاب، بل إنما طريقُه الوحيُ الخاصُّ به - عليه السلام - ، وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره - عليه السلام - من الإنباء عن تشريفه - عليه السلام - ما لا يخفى» (1)، وإما أن يكون الخطاب من الله تعالى لوصف حاله كما في قوله تعالى: { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ } [الأنفال: 5]، فـ ((هذه الحالُ كحال إخراجِك يعني أن حالَهم في كراهتهم لِما رأيتَ مع كونه حقًا كحالهم في كراهتهم لخروجك للحرب وهو حقٌّ أو في محل النصبِ على أنه صفةٌ لمصدر مقدرٍ في قوله تعالى: { الأنفال لِلَّهِ } أي الأنفالُ ثبتتْ لله والرسولِ مع كراهتهم ثباتًا مثلَ ثباتِ إخراجِ ربِّك إياك من بيتك في المدينة أو من المدينة))(2)، وتكون هذه الصيغة باقتران لواحق إلى كلمة (ربك)، كميم الجمع، ويقصد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب الخطاب للجماعة والمراد به واحد، أو المراد به هو ومن معه من الصحابة فعلى ذلك يكون الخطاب من الالتفات من الواحد إلى الجماعة، كما في قوله تعالى: { يَا أيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ وَأَحْصُواْ الْعِدّةَ وَاتّقُواْ اللّهَ رَبّكُمْ } [الطلاق: 1].
__________
(1) تفسير أبي السعود (1/79).
(2) نفسه (1/97).(1/6)
– الخطاب بكاف المخاطب متصلاً بأسماء تخصُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وهذه الأسماء إما أن تكون من مكونات بدن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو ما اشتمل عليه، مثل (نفسه) فحينئذ يكون الخطاب من الله تعالى إليه بما هو قادر على القيام به، كما في قوله تعالى: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 84]، أو (وجهه) وحينئذ يكون خطاب الله تعالى له بتحديد مكان يتجه إليه بوجهه، كما في قوله تعالى { قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَآءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة: 144]، أو (قلبه)، وحينئذ يكون الخطاب من الله تعالى له بتحديد المكان الذي يحفظ فيه القرآن، كما في قوله تعالى: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لّجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ } [البقرة: 97]، أو (يمينه)، وهنا جاء الخطاب من الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - لبيان ما تفضل به الله تعالى عليه - صلى الله عليه وسلم - ، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَيْكَ } [الأحزاب: 50.(1/7)
وإما أن تكون تلك الأسماء لأشخاص من قرابته، كعماته أو بناته أو أزواجه وباقي عشيرته، كما في قوله تعالى: { يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } [الأحزاب: 50]، وقد يخاطبه الله تعالى بإضافة الكاف إلى أهله جميعًا، مظهرًا عمل نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، من ترك الدنيا وما فيها ابتغاءً لوجه الله تعالى، كما في قوله تعالى: { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [آل عمران: 121]. أو أن تكون تلك الأسماء تدل على المكان، مثل (قريته) إذ كانت أحب البقاع إليه - صلى الله عليه وسلم - لذا كان خطاب الله تعالى في تحديد المكان دقيقًا، فهو يذكر العام (القرية) ثم يتنزل بعد ذلك إلى الخاص (القبلة) ثم (البيت)، كما في قوله تعالى: { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِي أَشَدّ قُوّةً مّن قَرْيَتِكَ الّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ } [محمد: 13]، و(قبلته) ذكرت في قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } [البقرة: 145]، أما (بيته) ففي قوله تعالى: { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ } [الأنفال: 5].(1/8)
أو أن تكون تلك الأسماء تدلُّ على ما علَّق الله عليه نجاته يوم القيامة، كـ(الذنب)، في قوله تعالى: { لّيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخّرَ } [الفتح: 2]، أو (الصلاة)، كما في قوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لّهُمْ } [التوبة: 103]، أو يكون الخطاب بإظهار ما يريد المنافقون فعله به - صلى الله عليه وسلم - كـ(الخيانة)، كما في قوله تعالى { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } [الأنفال: 71].(1/9)
– الخطاب بضمير الخطاب (الكاف) المتصلة بظروف أو بأدوات نحوية، ومن أمثلة الظروف: (حول) التي تدل على الإحاطة به والاجتماع به من كل جوانبه(1)، لذا كان خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - لبيان السبب الذي بوساطته يصل إلى قلوبهم بالأساليب والوسائل السريعة، كما في قوله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } [آل عمران: 159]، أو يخاطبه الله تعالى بالظرف(عند) مظهرًا لحضور الشيء ودنوه إذ إن هذا الظرف يحتمل الزمان والمكان(2)، كما في قوله تعالى: { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ } [النساء: 81]، أو يخاطبه الله تعالى بالظرف (قبل) ليدلَّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشي في طريق قد سار عليه رسل آخرون فهو تالٍ لهم، إذ لم يكن أول من وقع عليه التكذيب، نحو قوله تعالى: { فَإِن كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } [آل عمران: 184]. أما الأدوات النحوية التي اتصلت بها كاف الخطاب، فمنها حروف الجر كـ(الباء) التي ستدلُّ على مصاحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لغيره من الأنبياء في الشهادة على أهل الكتاب وغيرهم من الأمم من باب تقريعهم وتوبيخهم(3)،
__________
(1) ينظر: اللسان، مادة (حول)، (11/185).
(2) ينظر: حروف المعاني للزجاجي ( 1).
(3) ينظر: فتح القدير (381)..(1/10)
كما في قوله تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هََؤُلآءِ شَهِيدًا } [النساء: 41]، و(عن) التي جاءت لتدل على مجاوزة الله تعالى لعمل قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بعد أن عاتبه على ذلك العمل(1)، كما في قوله تعالى: { عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } [التوبة: 43]، و(من) التي جاءت في الخطاب لتدلَّ على مرادفة(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - لإخوانه من الأنبياء الآخرين، في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [الأحزاب: 7]، وقد خصَّهم الله تعالى بالذكر مع اندراجهم في النبيين اندراجًا بينًا للإيذان بمزيد فضلهم وكونهم من مشاهير الأنبياء(3). كما خاطب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بحرف الجرِّ (على) ليدلّ على ظنِّ الأعراب أنهم تفضلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن (على) تدلّ على الاستعلاء(4)،
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (14/272).
(2) ينظر: مغني اللبيب (424).
(3) ينظر: روح المعاني (م12/ج21/233).
(4) ينظر: حروف المعاني للزجاجي (23)..(1/11)
كما في قوله تعالى: { يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [الحجرات: 17]، ومنها أدوات التوكيد، كـ(إن) التي جاءت في سياق أمر الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بعدم متابعة المخالفين له، كما في نحو قوله تعالى: { وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذًَا لّمِنَ الظّالِمِينَ } [البقرة: 145]، وخاطبه الله تعالى بما يحفظ حياته وحياة أصحابة عند أداء الطاعات بالظرف (مع)، في قوله تعالى: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ مّعَكَ وَلْيَأْخُذُوَاْ أَسْلِحَتَهُمْ } [النساء: 102].(1/12)
– دخول كاف الخطاب على أفعال ماضية: سواء أكانت تلك الأفعال في سياق التوكيد لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، لذا أُمِرَ بتبليغ تلك الرسالة، كما في قوله تعالى: { إِنّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } [البقرة: 119]، وفي قوله تعالى: { إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا } [النساء: 105]، أم كانت في سياق الشرط إذ يقتضي الشرط أن يقوم بما أمره الله تعالى بعد تحقق فعل الشرط، كما في قوله تعالى: { فَإِن رّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لّن تَخْرُجُواْ مَعِي أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِي عَدُوًّا } [التوبة: 83]، وقوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة: 186]، وقوله تعالى: { فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61]، أم كانت في سياق الإخبار وهذا الخطاب من الله تعالى جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل النصرة له - صلى الله عليه وسلم - ، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64]، رأى أبو السعود أن هذه الآية: ((شروع في بيان كفايتِه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في مادة خاصةٍ وتصدير الجملة بحرفي النداء والتنبيه للتنبيه على مزيد الاعتناء بمضمونها، وإيراده عليه الصلاة(1/13)
والسلام بعنوان النبوة للإشعار بعليتها للحكم))(1)، أو أن يخاطبه الله تعالى بما يفضح به المنافقين(2)، كما في قوله تعالى: { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطّوْلِ مِنْهُمْ } [التوبة: 86]، وقد يقع الفعل في هذه الصيغة خطابًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن المراد به غيره(3)، كما في قوله تعالى: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } [النساء: 79].
__________
(1) تفسير أبي السعود (2/373).
(2) ينظر: تفسير الطبري (14/411).
(3) ينظر: تفسير البغوي (2/252).(1/14)
– دخول كاف الخطاب في أفعال مضارعة: وهذه الأفعال تختلف عن الأفعال الماضية في الدلالة على الوقت الحاضر للخطاب، إذ الأفعال السابقة كان الزمن فيها قد مضى وانقضى، ولكن الأفعال المضارعة لا يزال الزمان جاريًا فيها ولم ينقضِ، مثل الفعل (يسأل) في قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ } [الأنفال: 1]، وغيرها من الآيات التي جاء فيها ذكر السؤال على ما مرَّ الحديث عنها(1)، وهذه الأفعال المضارعة منها ما جاء بصيغة الإثبات، كما في قوله تعالى: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ } [البقرة: 137]، إذ هذه الكفاية إما بقتلهم بالسيف، وإما بجلائهم عن الجوار، وقد فعل الله بهم ذلك عاجلاً وأنجز وَعْده، فكفى نبيّه - صلى الله عليه وسلم - بتسليطه إيّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلّ بعضًا(2)، وجاءت هذه الصيغة في قوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال: 30]، ففي هذه الآية أخبر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن مشركي قريش يريدون جعله ثابتًا(يثبتوك) في مكانه وهو أعم من أن يكون بالربط أو الحبس أو الإثخان بالجراح حتى لا يقدر على الحركة(3)، وكذلك الحال في القتل والإخراج، وصيغ تلك الأفعال جاءت مستقبلة بالنسبة لفعل المكر لأن غاية مكرهم تحصيل واحد من هذه الأفعال(4)، فالآية أشارت إلى تردد قريش في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ينظر صفحة (42) وما بعدها من هذا البحث.
(2) ينظر: تفسير الطبري (3/116).
(3) ينظر: روح المعاني (م6/ج9/285) وما بعدها.
(4) ينظر: التحرير والتنوير (م5/ج9/327).(1/15)
ومن هذه الأفعال المضارعة ما جاء منفيًا، كما في قوله تعالى: { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } [التوبة: 44]، وهذا الخطاب إعلام من الله لنبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بعلامات المنافقين: فإن من علاماتهم التي يُعرفون بها تخلُّفهم عن الجهاد في سبيل الله، باستئذانهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (14/274).(1/16)
– الخطاب بالكاف بصيغة الجمع أو التثنية: وهذا الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - جاء بأنواع منها: الأول: خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الصحابة، مثل كلمة (أعمالكم) التي جاءت لتحتمل التهديد والبشارة(1)، فهي في شأن المنافقين تهديد، وفي شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين بشارة، كما في قوله تعالى: { وَلَوْ نَشَآءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 30]، و كلمة (أيديكم) التي جاءت لتدلّ على غلبة المؤمنين على الكافرين بعد أن أخذ منهم الفداء(2)، في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ قُل لّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مّنَ الأسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مّمّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [الأنفال: 70]، الثاني: خطابه تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الجمع، وهذا ظهر في كلمة (قلوبكم) التي خاطب الله تعالى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما في قوله تعالى: { وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } [الأحزاب: 51]، إذ قوله تعالى(قلوبكم) أي قلبه لأنه يميل إلى بعض مَنْ عنده مِن النساء دون بعض بالهوى والمحبة(3)، فلذلك وضع عنه الحرج في ما وضع عنه من ابتغاء من ابتغى منهن، وعزل من عزل منهن تفضلاً منه تعالى عليه - صلى الله عليه وسلم - بذلك وتكرمة(4)، والقسم الثالث: جاء الخطاب فيه بصيغة المثنى، كما في (تحاوركما)، في قوله تعالى: { قَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللّهِ وَاللّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [المجادلة: 1].
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (22/185)، وروح المعاني (م14/ج26/117).
(2) ينظر: تفسير الطبري (14/72).
(3) ينظر: نفسه (20/296).
(4) ينظر: نفسه.(1/17)
3-الخطاب بالضمير (الكاف) مقدَّرًا: كما في قوله تعالى: { إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } [النصر: 1]، إذ إن الفعل (جاء) جاء في سورة النصر بغير كاف الخطاب، ولكنه جاء في سور مدنية بذكر كاف الخطاب، كما في قوله تعالى: { إذا جاءك المنافقون } [المنافقون: 1]، وفي قوله تعالى: { وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذًَا لّمِنَ الظّالِمِينَ } [البقرة: 120]، لهذا قوله تعالى: { جَآءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْح } ، قدَّره الرازي بـ ((إذا جاءك نصر الله والفتح)) (1).
ثانيا: مجيء صيغة الخطاب بالنداء له - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) تفسير الرازي ( م16/ج32/152 ).(1/18)
وهذا يشمل توجيهه في أمور الدين والدنيا، إذ نودي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ (الرسول والنبي)، وإن (( في الفرق بين الرسول والنبي أمورًا (أحدها) الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله و(الثاني) أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول، ومن لم يكن مستجمعًا لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول، وهؤلاء يلزمهم أَلا يجعلوا إسحق ويعقوب وأيوب ويونس وهرون وداود وسليمان رسلاً لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ و(الثالث) أن من جاءه الملك ظاهرًا وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول، ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولاً، أو أخبره أحد من الرسل بأنه رسول الله، فهو النبي الذي لا يكون رسولاً وهذا هو الأولى))(1)، فمقام الرسول لذلك أرفع من مقام النبي؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً(2)، إلا أن أبا هلال العسكري رأى غير ذلك(3)، ورأيه ليس بصواب، لما فيه من دعوى تفضيل النبي على الرسول(4).
__________
(1) تفسير الرازي ( م12/ج23/50 ).
(2) ينظر: شرح العقيدة الطحاوية ( 1/390 ).
(3) ينظر: الفروق في اللغة ( 284 ).
(4) ينظر: نفسه.(1/19)
فخطاب الله تعالى لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بلفظ (الرسول) يدلُّ على تعظيم قدره - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يرد نداؤه بصفة الرسولِ إلا في أثناء الخطاب المدني، فهذه الصيغة لم ترد في الخطاب المكيِّ البتة؛ لأن خطاب الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بلفظ (الرسول) يدل على إثبات رسالته - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، وكأن في ذلك ردًا من الله تعالى على اليهود الذين زعموا بأنه - صلى الله عليه وسلم - نبي للعرب فقط، وتوكيدًا من الله على صدق رسالته إلى العالمين، أما نداء الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بصفة النبي فجاء في سورة الأحزاب، مثلاً، لأغراض خمسة هي: ((الأول:لافتتاح غرض تحديد واجبات رسالته نحو ربه.
والنداء الثاني : لافتتاح غرض التنويه بمقام أزواجه واقترابه من مقامه .
والنداء الثالث : لافتتاح بيان تحديد تقلبات شؤون رسالته في معاملة الأمة .
والنداء الرابع: في طالعَة غرض أحكام تزوجه وسيرته مع نسائه.
والنداء الخامس: في غرض تبليغه آداب النساء من أهل بيته ومن المؤمنات)) (1).
ثالثا: مجيء صيغة الخطاب بإلحاق تاء المخاطب للأفعال:
__________
(1) التحرير والتنوير (م10/ج21/249).(1/20)
سواء التي تلحق بالفعل الماضي كما في الفعل (رأى) لتدل على معاينة النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعل المنافقين، في قوله تعالى: { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُودًا } [النساء: 61]، ففي هذه الآية خاطب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالفعل (رأيت) ثم ذكر اسم المنافقين، وأظهر اسمهم في موضع يستحق عود الضمير عليهم؛ لتوكيد وسمهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم(1) أي رأيتهم لنفاقهم { يَصُدُّونَ } أي يعرضون { عَنكَ صُدُودًا } أي إعراضًا(2)، وذكر المصدر في هذا الموضع للتأكيد والمبالغة(3)، وخاطب الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالفعل (استغفر) في قوله تعالى: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ } [المنافقون: 6]، فقوله ((تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : سواء يا محمد على هؤلاء المنافقين الذين قيل لهم تعالوا يستغفر لكم ر سول الله { أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ } ذنوبهم { أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } يقول: لن يصفح الله لهم عن ذنوبهم، بل يعاقبهم عليها))(4)، أم التاء التي تسبق الفعل المضارع، مثل الفعلين (ابتغى و حرم)، في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } [التحريم: 1]، إذ كان هذا الخطاب من الله استفهامًا يراد منه معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الأمر(5)، والفعل (درى)، إذ جاء في خطاب الله تعالى لتقرير مضمون ما قبله وتعليله(6)
__________
(1) ينظر: روح العاني (م4/ج5/104).
(2) ينظر: تفسير البغوي (2/243).
(3) ينظر: تفسير الرازي (م5/ج10/162).
(4) تفسير الطبري (23/400).
(5) ينظر: تفسير القرطبي (18/184).
(6) ينظر: فتح القدير (1789)..(1/21)
في قوله تعالى: { وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } [الطلاق: 1]، وجاء خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بالفعل (رأى) في قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفّى الّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [الأنفال: 50] فهو هنا بصيغة المضارع ولكنه((بمعنى الماضي لأن { لَوْ } الامتناعية ترد المضارع ماضيًا ... أي ولو رأيت { إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة } الخ لرأيت أمرًا فظيعًا، ... والقصد ... استمرار امتناع الرؤية وتجدده))(1)، وجاء هذا الفعل بحذف حرفه الأخير في سياق تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد همزة الاستفهام، في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ } [الحشر: 11]، وقد يتقدم الأفعال التي خوطب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أدوات نحوية، كأداة النصب، كما في قوله تعالى: { لّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَى مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَحَقّ أَن تَقُومَ فِيهِ } [التوبة: 108]، وقد يقع الفعل المضارع في سياق الشرط، كما في قوله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاّ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا } [آل عمران: 75]، وقد يقع الشرط في خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بغرض التوكيد؛ ولهذا تلحق (ما) بأداة الشرط وتلحق النون بالفعل لتوكيده أكثر(2)،
__________
(1) روح المعاني (م6/ج10/24).
(2) ينظر: التبيان في إعراب القرآن ( 2/629 )..(1/22)
كما في قوله تعالى: { وَإِمّا تَخَافَنّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ } [الأنفال: 58].
رابعا: خطاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الأمر: إن أفعال الأمر التي خاطب الله تعالى بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - متنوعة، ولهذا قسمتها على الأقسام الآتية:
القسم الأول: خطاب الله تعالى لنبيه بفعل الأمر (قل): الذي جاء في سياقات مختلفة من الخطاب المدني وشمل عددًا كبيرًا من الآيات منها:
1– آيات ابتدأت بلفظ (قل)(1) أو (وقل) وفيها توجيهات من الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بما يصلح أحوال المجتمع، كما في قوله تعالى: { وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ } [النور: 31]، وما أشبهها من الآيات(2).
__________
(1) ينظر صفحة ( 41 ) من هذا البحث، وقد جاء فعل الأمر (قل) ، في اثنين وعشرين موضعًا، من خطاب العهد المدني.
(2) كما في التوبة: 105.(1/23)
2– آيات احتوت على لفظ (وقل) في مواضع غير أول الآيات، وتأتي غالبًا ردًا على حجج الخصوم، كما في قوله تعالى: { فَإنْ حَآجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي للّهِ وَمَنِ اتّبَعَنِ وَقُلْ لّلّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاُمّيّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ } [آل عمران: 20]، أو آيات تجيب الكفار عن أسئلتهم أو اعتراضاتهم بلفظ (قل)، كما في قوله تعالى: { وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّامًا مّعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا } [البقرة: 80]، إذ الجواب هنا فيه تبكيت لهم وتوبيخ(1)، وقوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ } [البقرة: 91]، وفي هذا الموضع أيضًا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ذلك تبكيتًا لهم إذ قتلوا الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة وهي لا تسوّغه(2)، ويحتمل أن يكون أمرًا لمن يريد جدالهم أيًّا كانوا(3)، وجاء فعل الأمر بزيادة الفاء الواقعة في جواب الشرط، في أوله، كما في قوله تعالى: { فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } [آل عمران: 61]، وقد ذكرت سبب زيادة هذه الفاء عند الحديث عن الفعل (سأل)، الذي افتتح به خطاب الله تعالى في سورة الأنفال(4).
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م1/ج1/480).
(2) ينظر: نفسه (م1/ج1/511).
(3) ينظر: نفسه.
(4) ينظر صفحة (43) من هذا البحث، وما بعدها.(1/24)
القسم الثاني: وفيه اشتمل الخطاب على أفعال أمر أخرى وهي أفعال كثيرة أو أفعال نهي: فأما أفعال الأمر فمثل الفعل (اتق) كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ } [الأحزاب: 1]، والملاحظ أن أفعال الأمر والنهي التي خوطب بها النبي كانت مسبوقةً بلفظ النداء له بالصفة (النبي أو الرسول) للاحتراس وجبر ما يوهمه الأمر والنهي من النقص فيه(1)، ورأى البغوي أن: ((أمره بالتقوى للمتلبس بها، أمر بالديموية عليها والازدياد منها. والظاهر أنه أمر للنبي، وإذا كان هو مأمورًا بذلك، فغيره أولى بالأمر. وقيل: هو خطاب له لفظًا، وهو لأمّته))(2)، وجاء الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - بالأفعال (احكم، واحذرهم، واعلم) في قوله تعالى: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَاعْلَمْ أَنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } [المائدة: 49]، قال ابن عاشور: «يجوز أن يكون قوله { وَأَنِ احْكُم } معطوفًا عطفَ جملة على جملة، بأن يجعل معطوفًا على جملة { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } [ المائدة : 48 ]، فيكون رجوعًا إلى ذلك الأمر لتأكيده، وليبنى عليه قوله: { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ } كما بُني على نظيره قوله: { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة : 48] وتكُون (أنْ) تفسيرية. و(أنْ) التفسيريّة تفيد تقويّة ارتباط التّفسير بالمفسَّر، لأنّها يمكن الاستغناء عنها، لصحّة أن تقول: أرسلتُ إليه افْعَل كذا، كما تقول: أرسلت إليه أنِ افعَلْ كذا.
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م12/ج21/217) وما بعدها.
(2) تفسير البغوي (6/312 ).(1/25)
فلمّا ذكر الله تعالى أنّه أنزل الكتاب إلى رسوله رتّب عليه الأمر بالحكم بما أنزل به بواسطة الفاء فقال: { فَاحْكُم بَيْنَهُم } [المائدة : 48 ]، فدلّ على أنّ الحكم بما فيه هو من آثار تنزيله. وعطَف عليه ما يدلّ على أنّ الكتاب يأمر بالحكم بما فيه بما دلّت عليه (أنْ) التفسيرية في قوله: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } ، فتأكَّد الغرض بذِكْره مرّتين مع تفنّن الأسلوب وبداعته، فصار التّقدير: وأنزلنا إليك الكتاب بالحقّ أنِ احكم بينهم بما أنزل الله فاحكم بينهم به. وممّا حسَّن عطفَ التّفسير هنا طولُ الكلام الفاصِل بين الفعل المفسَّر وبين تفسيره. وجعله صاحب الكشاف(1) من عطف المفردات. فقال: عُطف { أَنِ احْكُم } على { الكِتاب } في قوله: { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ } [المائدة : 48] كأنّه قيل: وأنزلنا إليك أنِ احْكُم. فجعل (أنْ) مصدريّة داخلة على فعل الأمر، أي فيكون المعنى: وأنزلنا إليك الأمر بالحكم بما أنزل الله كما قال في قوله: { إِنّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } [نوح : 1]، أي أرسلناه بالأمر بالإنذار، وبيّن في سورة يونس (105) عند قوله تعالى: { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا } أنّ هذا قول سيبويه(2) إذ سوّغ أن توصل (أنْ) المصدريّة بفعل الأمر والنّهي لأنّ الغرض وصلها بما يكون معه معنى المصدر، والأمرُ والنّهي يدلاّن على معنى المصدر، وعلّله هنا بقوله: لأنّ الأمر فعل كسائر الأفعال(3). والحملُ على التفسيرية أوْلَى وأَعرب، وتكون (أنْ) مقحمة بين الجملتين مفسّرة لفعل { أنْزَل } من قوله: { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ } ؛ فإنّ { أَنزَلَ } يتضمّن معنى القول فكان لحرف التّفسير موقع.»(4)،
__________
(1) ينظر: الكشاف (1/674).
(2) ينظر: الكتاب (3/154) وما بعدها.
(3) ينظر: نفسه (3/160).
(4) التحرير والتنوير (م4/ج6/405)..(1/26)
وتنوعت السياقات التي جاءت فيها الأفعال فمثلاً: جاء الفعل (اتبع) في سياق أمر الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بإتباع الوحي، كما في قوله تعالى: { وَاتّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ } [الأحزاب: 2]، والفعل (انظر)، جاء في سياق الأمر كذلك ولكنه يدل على التدبر والتفكر، سواء أكان في افتتاح الآية، ردًا على قولهم ودعواهم، كما في قوله تعالى: { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ } [النساء: 50]، بعد قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49]، أم في أثناء الآية، كما في قوله تعالى: { مّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ وَأُمّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاَيَاتِ ثُمّ انْظُرْ أَنّى يُؤْفَكُونَ } [المائدة: 75]، وجاء الفعل (بشر) تذييلاً للآية، في قوله تعالى: { وَأُخْرَى تُحِبّونَهَا نَصْرٌ مّن اللّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [الصف: 13]، وأما الفعل (بلغ)، في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة: 67] فقد جاء في سياق النداء، والفعلان (جاهد واغلظ)، في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } (1)[
__________
(1) والآية نفسها وردت في سورة التحريم: 9..(1/27)
التوبة: 73] جاءا في سياق النداء كذلك ولكن المنادى اختلفت صفته، ففي الآية الأولى كان (الرسول) هو المنادى لأن الخطاب موجه له من الله تعالى ليتعامل مع أهل الكتاب، الذين هم منكرون لرسالته ومقرون بنبوته على العرب فقط، أما في الآية الثانية فكان (النبي) هو المنادى؛ لأن الخطاب موجه له من الله تعالى للتعامل مع العرب المشركين، الذين هم منكرون لنبوته أصلاً وغير مقرين بها، والرسالة أعلى درجة من النبوة على ما مرّ، أما الفعل (أعرض وعظ)، في قوله تعالى: { أُولََئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ } [النساء: 63] فقد جاءا بعد إظهار الله تعالى لسببهما، وأما الأفعال التي جاءت في سياق النهي، على الرغم من قلتها في خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، إذ لم ترد صيغة النهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - في خطاب العهد المدني إلا في مواضع قليلة هي: قوله تعالى: { لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وّيُحِبّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ } [آل عمران: 188]، وفي قوله تعالى: { لاَ يَغُرّنّكَ تَقَلّبُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ } [آل عمران: 196]، وفي قوله تعالى: { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } [النساء: 107]، وفي قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ } [المائدة: 41]، وفي قوله تعالى: { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } [التوبة: 108]، وفي قوله تعالى: { لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ } [النور: 57]، وقد كانت هذه الأفعال قليلة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مطيعًا لله تعالى على الدوام.(1/28)
فقد جاءت لتدعوه إلى عدم الحزن، أو لتظهر له كيفية معاملة المنافقين، إذ كيف يعصي ربه وهو يداوم على طاعته.
القسم الثالث: اشتمل الخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأفعال أتت على ألسنة الكفار أو المنافقين خطابًا له - صلى الله عليه وسلم - مثل ائذن وراعنا(1).
__________
(1) لم أذكر الأفعال التي خوطب فيها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من غير الله سبحانه وتعالى، اعتمادًا على غاية موضوعي، وهي خطاب الله لخلقه فقط، وليس خطاب الخلق لبعضهم.(1/29)
القسم الرابع: اشتمل على أفعال أمر موجهة بلفظ الجمع: أي خطاب له - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه مثل (اعتزلوا وفأتوهن) في قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } [البقرة: 222]، والفعل (استقيموا)، في قوله تعالى: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } [التوبة: 7]، وكذلك الأفعال (فطلقوهن وأحصوا واتقوا) في قوله تعالى: { يَا أيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ وَأَحْصُواْ الْعِدّةَ وَاتّقُواْ اللّهَ رَبّكُمْ } [الطلاق: 1]، وما شابهها من الأفعال. على أنني أخذت من كل فعل آية وصورة للدلالة على أمر الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر الواضح، ولكن قد يحتمل فعل الأمر أو النهي، الذي يُخاطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من معنى؛ فتوضحه دلالة السياق كما في قوله تعالى: { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ } [الأحزاب: 48]، فإن الفعل (دع)، يحتمل معنيين هما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدع أذاهم ولا يقوم به مرة أخرى، على أساس أنه المخاطب بهذا الخطاب وهو الذي يؤذي الكفار، ويحتمل أن يكون أمرًا من الله تعالى له بألاَّ يلتفت إلى أذاهم له – أي أذى الكفار له – ويكون الخطاب من الله تعالى له بالفعل من باب الإرشاد له - صلى الله عليه وسلم - بدعوتهم باللين والرفق وعدم مقابلة سيئاتهم بسيئة منه(1)،
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن د. تمام حسان ( 1/171 )، وذكر هناك أمثلة أخرى..(1/30)
وهو الأرجح كما يظهر من السياق .
2- خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الغائب وتشتمل على الآتي:
أولاً: الخطاب بضمير الغائب المنفصل: (هو) أو (هما) و (هم) وهذا يدلّ على التنوع في خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الغائب، لذا قسّمتها على أقسام هي:
-الأول خطابه - صلى الله عليه وسلم - بصيغة المفرد في قوله تعالى: { وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61].
-الثاني: خطابه - صلى الله عليه وسلم - بصيغة المثنى، التي تجمعه - صلى الله عليه وسلم - وآخرين معه، إذ جاء في ذكره - صلى الله عليه وسلم - هو وأبي بكر - رضي الله عنه - في قوله تعالى: { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40]. -الثالث: خطابه - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الجماعة، التي تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الصحابة - رضي الله عنهم - ، كما في قوله تعالى: { لَكِنِ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [التوبة: 88].(1/31)
ثانيًا: الخطاب بـ(هاء) الغائب مضافًا إليها أسماء تنتمي إليه - صلى الله عليه وسلم - : مثل (ربه) كما في قوله تعالى: { آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ } [البقرة: 285]، و(نفسه)، كما في قوله تعالى: { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نّفْسِهِ } [التوبة: 120]، و(أزواجه)، كما في قوله تعالى: { وَإِذَ أَسَرّ النّبِيّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } [التحريم: 3]، وهذه الصيغة فيها ما لا يخفى من التعظيم لقدره - صلى الله عليه وسلم - والتنويه برفعة محله المنيف(1).
ثالثًا: خطابه - صلى الله عليه وسلم - بـ (هاء) الغائب المتصلة الفعل: مثل الفعل (اتبعوه)، في قوله تعالى: { لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } [التوبة: 117]، وكذلك جاء خطاب الله تعالى له بالأفعال (تنصروه ونصره وأخرجه وأيده)، التي في قوله تعالى: { إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لّمْ تَرَوْهَا } [التوبة: 40].
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م15/ج28/57).(1/32)
رابعًا: خطابه - صلى الله عليه وسلم - بإلحاق الأدوات بـ (هاء) الغائب: وهذه الصيغة جاءت على قسمين: القسم الأول: أن تدل هذه الهاء على المفرد: كما في اتصالها بالحرف (إلى)، في قوله تعالى: { آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ } [البقرة: 285]، أو الحرف(على)، في قوله تعالى: { فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } [التوبة: 40]، أما القسم الثاني: فجاءت فيه الـ (هاء) متصلة بالأدوات النحوية، ولكن بإلحاق (ميم الجمع) بها، كما في قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوَاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوَاْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [التوبة: 113].
خامسًا: الخطاب بضمير الغائب المستتر: وهذا الضمير إما أن يكون مفردًا موجهًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الفعل (يستحيي)، في قوله تعالى: { إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ } [الأحزاب: 53]، وإما أن يكون موجهًا إلى الصحابة ويعود الضمير المفرد عليه - صلى الله عليه وسلم - كما في الفعل (نهاكم)، في قوله تعالى: { وَمَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ } [الحشر: 7]، وإما أن يكون موجهًا إلى مفرد معين ويعود فيه الضمير كذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - كبعض الأفعال مثل (نبأها)(1)، وما يشبه ذلك.
3- خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بصيغ أخرى: وتشتمل على الآتي:
__________
(1) التحريم: 3.(1/33)
أولاً: خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بلفظ (الرسول): أو بلفظ (رسول)، كما جاء في ذكره - صلى الله عليه وسلم - في خطاب الله تعالى لبني إسرائيل وبيان حالهم معه، إذ قال تعالى: { وَلَمّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ } [البقرة: 101]، والصيغ المشابهة، التي تلحق بها الضمائر، مثل: (رسوله) (1)، في قوله تعالى: { هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ } [الصف: 9] ، وكذلك (رسولنا)، كما في قوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ } (2)[المائدة: 15] ، وكذلك وردت تلك اللفظة بصيغة الجمع في خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - ليشمل خطابه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - مجتمعًا مع إخوانه من الرسل في مثل لفظة (رسله)(3)، أو(المرسلين)، التي وردت في قوله تعالى: { تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [البقرة: 252].
__________
(1) علمًا بأن هذه اللفظة لم ترد قط في الآيات المكية وإنما جاءت بهذه الصيغة في أربعة عشر موضعًا من السور المدنية، هي: آل عمران: 101، النساء: 136، التوبة: 7، 16، 26، 33، 86، 97، والفتح: 26، 27، 28، والحشر: 6، 7، والآية التي ذكرتها.
(2) والمائدة: 19.
(3) جاءت هذه اللفظة في ثلاثة مواضع من السور المدنية هي : البقرة: 285، وآل عمران: 179، والحشر: 6، وفي سورتين مكيتين.(1/34)
ثانيًا: خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بصيغة النبي(1): مثل ما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64].
__________
(1) هذه اللفظة وردت في القرآن الكريم في ثمانية وعشرين موضعًا، منها ست وعشرون موضعا في السور المدنية هي: آل عمران: 68، والأنفال: 64، 65، 70، والتوبة: 61، 73، 117، والأحزاب: 1، 6، 13، 28، 30، 32، 38، 45، 50، 53، 56، 59، والحجرات: 2، والممتحنة: 12، والطلاق: 1، والتحريم: 1، 3، 8، 9، وموضعان في سورة مكية هي سورة الأعراف: 157، 158.(1/35)
ثالثًا: خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - باسمه الصريح (محمد) و(أحمد)(1): ورد خطاب الله تعالى لرسوله بتسميته باسمه الصريح (محمد) في أربعة مواضع من القرآن الكريم، كلها في السور المدنية(2)، منها قوله تعالى: { وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ } [آل عمران: 144]، أما ذكره - صلى الله عليه وسلم - باسم (أحمد) فجاء على لسان نبي الله عيسى - عليه السلام - ، في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُم مّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيّ مِنَ التّوْرَاةِ وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6]، و هذا الأمر قد جعل المفسرين يذهبون إلى القول بأن الاسم (أحمد) فيه الهمزة (( للمبالغة في الحمد، وله وجهان: أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل، وهو أكثر حمدًا لله من غيره، والثاني: أنه مبالغة في المفعول، أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثرهم مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها))(3)، وهذا الاسم (أحمد) علم لنبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعليه قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - (4): (الكامل)
__________
(1) ينظر: ذكر القرآن الكريم للرسول - صلى الله عليه وسلم - لـ د. محمد زكي محمد خضر ( 91 ) وما بعدها.
(2) هي: آل عمران: 144، والأحزاب: 40، ومحمد: 2، والفتح: 29.
(3) تفسير البغوي ( 8/108 ).
(4) البيت في ديوان حسان بن ثابت ( 66)، وله في تفسير البغوي ( 8/108 )، والسيرة النبوية لابن هشام ( 4/523 )، والطبقات الكبرى لابن سعد ( 2/323 )، والروض الأنف في شرح السيرة النبوية للسهيلي ( 7/566 )، وسبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي (1/502) و ( 12/282 ).(1/36)
صَلّى الإِلَهُ وَمَن يَحُفُّ بِعَرشِهِ ... وَالطَيِّبونَ عَلى المُبارَكِ أَحمَدِ
وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :« إنَّ لي أسماءً أنا محمدٌ وأنا أحمدُ وأنا الحاشرُ الذي يحشرُ الناسُ على قدمي وأنا الماحي الذي يمحو اللهُ بي الكفرَ وأنا العاقبُ»(1)، وهذا جعل العلماء يتعقبون تسميته - صلى الله عليه وسلم - بأحمد ومحمد إذ إن أشهر استعمالات لفظ (اسم) في ((كلام العرب ثلاثة استعمالات:
أحدها: أن يكون بمعنى المسمى...
الاستعمال الثاني: أن يكون الاسم بمعنى شهرة في الخير...
الاستعمال الثالث: أن يطلق على لفظ جعل دالاً على ذات لتميز من كثير من أمثالها، وهذا هو العلم.
__________
(1) الحديث رواه: أحمد (4/80)، والبخاري ( 3/1299) برقم (3339) وفي (4/1858) برقم (4614)، ومسلم ( 4/1828 ) برقم (2354)، والترمذي ( 5/135 ) برقم(2840)، والنسائي في السنن الكبرى(6/489 ) برقم(11590)، وابن حبان ( 14/219 )، برقم(6313)، وغيرهم من أصحاب السنن والمسانيد.(1/37)
ونحن نجري على أصلنا في حمل ألفاظ القرآن على جميع المعاني التي يسمح بها الاستعمال الفصيح... فنحمل الاسم في قوله: { اسْمُهُ أَحْمَدُ } على ما يجمع بين هذه الاستعمالات الثلاثة، أي مسماه أحمد، وذكره أحمد، وعلمه أحمد، ولنحمل لفظ أحمد على ما لا يأباه واحد من استعمالات (اسم) الثلاثة إذا قرن به وهو أن أحمد اسم تفضيل يجوز أن يكون مسلوب المفاضلة معنيًا به القوة فيم هو مشتق منه، أي الحمد وهو الثناء، فيكون أحمد هنا مستعملاً في قوة مفعولية الحمد، أي حمد الناس إياه، وهذا مثل قولهم : «العود أحمد»(1)، أي محمود كثيرًا. فالوصف بـ { أَحْمَدُ } بالنسبة للمعنى الأول في اسم أن مسمى هذا الرسول ونفسه موصوفة بأقوى ما يحمد عليه محمود فيشمل ذلك جميع صفات الكمال النفسانية والخُلُقية والخلقية والنسبية والقومية وغير ذلك مما هو معدود من الكمالات الذاتية والعرضية.
ويصح اعتبار { أحْمَدُ } تفضيلاً حقيقيًا في كلام عيسى - عليه السلام - ، أي مسماه أحمد مني، أي أفضل، أي في رسالته وشريعته... وهذا يفيد تفضيله على عيسى بفضيلة دوام شريعته... وبفضيلة عموم شرعه للأحكام ...
والوصف بـ { أحْمَدُ } على المعنى الثاني في الاسم، أن سمعته وذكره في جيله والأجيال بعده موصوف بأنه أشد ذكر محمود وسمعة محمودة.
وهذا معنى قوله في الحديث « أنا حاملُ لواءِ الحمدِ يومَ القيامةِ »(2) وأن الله يبعثه مقامًا محمودًا(3).
__________
(1) المثل في فصل المقال في شرح كتاب الأمثال (1/252)، وفي جمهرة الأمثال (2/32، 41)، ومجمع الأمثال للميداني (1/233) و(2/34-35)، وفي المستقصى في أمثال العرب (1/335)، وغيرها.
(2) الحديث رواه: الترمذي ( 5/587 ) برقم (3616)، وضعفه بقوله: حديث غريب.
(3) هذا ما جاء في قوله تعالى: { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } [الإسراء: 79]، وهي سورة مكية.(1/38)
ووصف { أحْمَدُ } بالنسبة إلى المعنى الثالث في الاسم رمز إلى أنه اسمه العلم يكون بمعنى: أحمد، فإن لفظ محمد اسم مفعول من حمد المضاعف الدال على كثرة حمد الحامدين إياه كما قالوا: فلان مُمَدَّح، إذا تكرر مدحه من مادحين كثيرين. فاسم (محمد) يفيد معنى : المحمود حمدًا كثيرًا ورمز إليه بأحمد )) (1).
رابعًا: خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بصفاته: كوصفه - صلى الله عليه وسلم - بـ (ثاني اثنين)، كما في قوله تعالى: { إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } [التوبة: 40]، و (شاهد ومبشر)، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا } [الأحزاب: 45]، و (بشير ونذير)، كما في قوله تعالى: { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [المائدة: 19]، و (رءوف ورحيم)، كما في قوله تعالى: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ } [التوبة: 128]، و(خاتم النبيين)، كما في قوله تعالى: { مّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَكِن رّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النّبِيّينَ } [الأحزاب: 40]، ووصفه الله تعالى بأعلى مقام وصل إليه رسول من الرسل وهو مقام (العبودية)، كما في قوله تعالى: { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ } [البقرة: 23].
__________
(1) التحرير والتنوير ( م13/ج28/183- 185 ).(1/39)
خامسًا: خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بوصف حاله مع أصحابه المؤمنين: كالمفردات التي في قوله تعالى: { لّقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَافُونَ } [الفتح: 27]، فإن (آمنين و محلقين ومقصرين)، هي أوصاف لحالهم بالمشتقات، وأما قوله تعالى (لا تخافون) ، فهو وصف لهم بالجملة الفعلية. أو وصفه معهم بـ (المفلحون)، كما في قوله تعالى: { لَكِنِ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [التوبة: 88].
سادسًا: خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بتنزيهه من الصفات التي لا تليق به: كما في (غير مسمع) من قوله تعالى: { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدّينِ } [النساء: 46]، أو كما في (أذن) من قوله تعالى: { وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61].(1/40)
سابعًا: خطاب الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بأسماء الإشارة: كما في صيغة المفرد في اسم الإشارة (هذا)، في قوله تعالى: { إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهَذَا النّبِيّ } [آل عمران: 68]، فقوله تعالى: { هَذَا النّبِيّ } فيه تعظيم له - صلى الله عليه وسلم - وتشريف، وإظهار لأولويته بإبراهيم من جهة كونه من ذريته أولاً، ومن جهة موافقته لدينه في كثير من أمور الشريعة ثانيًا(1)، وقال ابن عاشور: «واسم الإشارة في قوله: { هَذَا النّبِيّ } مستعمل مجازًا في المشتهر بوصف بين المخاطبين ...والنبي ليس بمشاهد للمخاطبين بالآية، حينئذ، ولا قُصدت الإشارة إلى ذاته. ويجوز أن تكون الإشارة مستعملة في حضور التكلم باعتبار كون النبي هو الناطق بهذا الكلام... والاسم الواقع بعد اسم الإشارة...هو الذي يعين جهة الإشارة مَا هي»(2).
غايات خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - :
مما مرَّ بنا سابقًا لحظنا تنوع خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في آيات الخطاب المدني، سواء أفي استعماله تعالى لأسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أم في استعماله للضمائر، أم لأفعال الأمر التي خوطب بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أم في النداءات التي في القرآن الكريم ولا سيما في العهد المدني – موضوع الدراسة– عهد تأسيس الدولة، ولعل هذا هو سبب جعل التعليم والتأديب للنبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه يظهر بتلك الصورة البليغة في غالب الخطاب المدني، وفي هذا الموضع سأتناول غايات خطاب الله تعالى في العهد المدني للنبي - صلى الله عليه وسلم - . التي تتلخص في الآتي:
__________
(1) ينظر: فتح القدير (293).
(2) التحرير والتنوير (م3/ج3/277).(1/41)
1-توكيد صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - بأساليب اللغة المختلفة: وذلك ظاهر في آيات كثيرة منها قوله تعالى: { إِنّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا } [النساء:163]. وقوله تعالى { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ } [البقرة: 108]
2-بيان حفظ الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - من كلِّ سوء وشر قد يصيبه: وهذا ظاهر في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [المائدة: 67]
3-إجابة المستفتين والسائلين من المسلمين وغيرهم، من ربهم على لسانه - صلى الله عليه وسلم - : وهذا ظاهر في قوله تعالى في الآيات الآتية: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَآءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ } [النساء: 127]، وقوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ } [الأنفال: 1]، وغيرها من آيات السؤال والفتيا.
3-التثبيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : وقد انقسم تثبيت الله تعالى له على الآتي:
-تثبيته - صلى الله عليه وسلم - بإخباره بمصير المكذبين به : كما في قوله تعالى: { وَلاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضُرّواْ اللّهَ شَيْئًا } [آل عمران: 176](1/42)
-تثبيته - صلى الله عليه وسلم - بتوكيد صدق رسالته من الله تعالى: كما في قوله تعالى: { إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّكَ لَرَسُولُهُ } [المنافقون: 1]
4-توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كيفية الدعوة لهذا الدين: كما في قوله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ } [آل عمران : 159]، وقوله تعالى: { فَإنْ حَآجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي للّهِ وَمَنِ اتّبَعَنِ وَقُلْ لّلّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمّيّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وّإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران: 20].
5-إيضاح آداب تعامل المؤمنين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - : كما في قوله تعالى: { لاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63]، وقوله تعالى: { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لّمْ يَذْهَبُواْ حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنّ الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَاْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } [النور: 62].(1/43)
6-إخباره - صلى الله عليه وسلم - بحال المنافقين في تعاملهم مع المسلمين: كما في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نُهُواْ عَنِ النّجْوَى ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا اللّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [المجادلة: 8]، وقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الحشر: 11].
7-أمر الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - بحسن العشرة لأهل بيتِه - صلى الله عليه وسلم - وبتعليمهن الدين: كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رّحِيمًا } [الأحزاب: 59]، وغيرها من الآيات.(1/44)
8-التذكير له - صلى الله عليه وسلم - بالوحي، بما صنع الله بالمكذبين والجاحدين لآياته: كما في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّي الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } [البقرة: 258]، وقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطّيْرُ صَآفّاتٍ كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [النور: 41]
9-تلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور فيها النُّصح للناس جميعًا: كما في قوله تعالى: { قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } [النور: 30]، وقوله تعالى: { قُل لّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاّ تُمَتّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً } [الأحزاب: 16].
10-التلقين للنبي - صلى الله عليه وسلم - بما يدحض حجج أهل الكتاب و الكفار والمنافقين: كما في قوله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَى حَتّى تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ قُلْ إِنّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى } [البقرة:120]، وقوله تعالى: { أَمْ تَقُولُونَ إِنّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ } [البقرة: 140]، وقوله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم } [المائدة:18](1/45)
الفصل الأول
تنوع افتتاحات سور الخطاب في العهد المدني
الفصل الأول
تنوع افتتاحات سور الخطاب في العهد المدني
المبحث الأول:
استهلال سور الخطاب المدني بالبسملة وبعدمها
المبحث الثاني:
بدء سور الخطاب المدني بالأحرف المقطعة
المبحث الثالث:
بدء سور الخطاب المدني بالأدوات النحوية
المبحث الرابع:
بدء سور الخطاب المدني بالأفعال و الأسماء(1/1)
الفصل الثاني المبحث الثاني
خطاب الله سبحانه و تعالى لأهل الإسلام
- خطاب الله سبحانه و تعالى للمؤمنين.
- خطاب الله سبحانه و تعالى للمنافقين.
* خطاب الله سبحانه و تعالى للمؤمنين
يذكر علماء الشرع أن دين الإسلام ينقسم على ثلاث مراتب هي الإسلام والإيمان والإحسان(1)، ويعد الإسلام مرتبة الإعمال الظاهرة، والإيمان مرتبة الإعمال الباطنة، والإحسان أعلى المراتب(2)، أما ((الإحسان فهو أعمُّ من جهة نفسه وأخصُّ من جهة أهله والإيمان أعمُّ من جهة نفسه وأخصُّ من جهة أهله من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخصُّ من المؤمنين، والمؤمنون أخصُّ من المسلمين)) (3).
ومن حيث اللغة نجد أن كلمتي الإسلام والإيمان من الألفاظ المشتركة المعاني، كلفظة (باع) التي تدل على مقابلتها (اشترى)، فلو قلنا: باع محمدٌ السيارة، فيلزم أن نعرف أن هناك من اشتراها، ولو قلنا: اشترى علي السيارة، فيلزم أن يكون هناك من باعها إياه، ولكن لو قلنا: باع محمدٌ السيارة واشتراها علي، لحصل التمايز بين دلالة الكلمتين، وهكذا الأمر في كلمتي الإسلام والإيمان فإنهما تدل إحداهما على الأخرى إذا فصلتا، ولكن إذا اجتمعتا في آيةٍ اختلف معناهما، فـ(( الإسلام والإيمان كل منهما شرطه في الآخر )) (4) ولأوضح ذلك أكثر ألجأ إلى الحجة القرآنية، ففي القرآن الكريم خاطب الله تعالى أهل الإسلام بقوله: { يا أيُّها الذينَ آمنوا } في مواضع كثيرةٍ، فهل هذا يعني أن الذين أسلموا لا يدخلون في هذا الخطاب؟!
__________
(1) استنادًا إلى حديث سؤال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الآتي، ينظر: شرح العقيدة الطحاوية ( 390 ).
(2) ينظر: نفسه.
(3) نفسه، وينظر: شرح صحيح مسلم للنووي ( 1/145)، و مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 7/10).
(4) البرهان في علوم القرآن ( 3/476 ).(1/1)
قطعًا لا، ولنأخذ على سبيل الاستشهاد كلام أهل الشريعة في هذه المسألة، قال ابن عبد البر ما نصه: «قال أبو عمر: أكثر أصحاب مالكٍ على أن الإسلام والإيمان شيءٌ واحدٌ ذكر ذلك ابن بكيرٍ في الأحكام واحتج بقول الله عز وجل { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ } (1) بيت منهم، قالوا وأما قوله جل وعز: { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلََكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا } (2) فأسلمنا هنا بمعنى استسلمنا مخافة السنان والقتل كذلك قال مجاهدٌ وغيره، قال إسماعيل: والدليل على ذلك في الآية قوله { وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } قال قتادة: ليس كل الأعراب كذلك لأن الله قال: { وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَتّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ } (3) الآية، وأما الأحاديث في معنى حديث أبي قلابة المذكور في أن الإسلام وصف بغير ما وصف به الإيمان فكثيرةٌ جدًا منها ...
__________
(1) الذاريات: 35- 36.
(2) الحجرات: 14.
(3) التوبة: 99.(1/2)
عن يحيى بن يعمرَ أنه سمع عبدالله بن عمر يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحدٌ حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا أنه يسأله ويصدقه قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال: صدقت، فعجبنا أنه يسأله ويصدقه وذكر تمام الحديث(1)، وأنا اختصرت منه صدرًا... وقد ذهبت طائفةٌ من أهل الحديث إلى أن الإيمان والإسلام معنيان بهذا الحديث وما كان مثله وبحديث ابن شهابٍ عن عامر بن سعدٍ بن أبي وقاصٍ عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم قسمًا فأعطى قومًا ومنع بعضهم قال: فقلت: يا رسول الله أعطيت فلانًا وفلانًا ومنعت فلانًا والله إني لأراه مؤمنًا، فقال: لا تقل مؤمنًا ولكن قل مسلمًا (2)،
__________
(1) الحديث رواه أحمد في مسنده ( 1/51 ) برقم(367)، ومسلم في صحيحه( 1/37 ) برقم(8)، وأبو داود في سننه (4/223) برقم(4695)، والنسائي في سننه (8/97) برقم(4990)، وابن خزيمة في صحيحه (4/127 ) برقم(2504)، والبيهقي في السنن الكبرى ( 4/324 ) برقم(8393)، وفي باب ما ترد به الشهادة ( 10/203 )، وغيرهم.
(2) الحديث رواه أبو نعيم في حلية الأولياء بلفظ : «عن سعد ابن أبي وقاص، قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا فأعطى ناسًا ومنع آخرين، فقلت: يا رسول الله أعطيت فلانًا وهو مؤمن، قال: " لا تقل مؤمنًا قل مسلم "». ينظر(6/191)، وقال:صحيح ثابت متفق عليه..(1/3)
روى هذا الحديث عن ابن شهابٍ جماعةٌ منهم معمر وابن أبي ذئبٍ وصالح بن كيسان وابن أخي ابن شهابٍ بألفاظٍ مختلفةٍ ومعنى واحدٍ، قال: وقال معمرٌ: قال ابن شهابٍ { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلََكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا } (1) قال ابن شهابٍ فيرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل، وهذا الذي قاله ابن شهابٍ أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل خلاف ما تقدم من الآثار المرفوعة في الإسلام وما بني عليه ... وعلى القول بأن الإيمان هو الإسلام جمهور أصحابنا وغيرهم من الشافعيين والمالكيين وهو قول داود وأصحابه وأكثر أهل السنة والنظر المتبعين للسلف والأثر ... وهو قول الشيعة»(2)، وذكر ابن حجرٍ العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري ما نصه: (( نقل أبو عوانة الإسفرايني في صحيحه عن المزني صاحب الشافعي الجزم بأنهما عبارةٌ عن معنى واحدٍ وأنه سمع ذلك منه، وعن الإمام أحمد الجزم بتغايرهما ولكل من القولين أدلةٌ متعارضةٌ، وقال الخطابي: صنف في المسألة إمامان كبيران وأكثرا من الأدلة للقولين وتباينا في ذلك والحق أن بينهما عمومًا وخصوصًا، فكل مؤمنٍ مسلمٌ، وليس كل مسلمٍ مؤمنًا. انتهى كلامه ملخصًا ومقتضاه أن الإسلام لا يطلق على الاعتقاد والعمل معًا بخلاف الإيمان فإنه يطلق عليهما معًا ويرد عليه قوله تعالى: { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا } (3)
__________
(1) الحجرات: 14.
(2) التمهيد لابن عبد البر ( 9/247- 251 ).
(3) المائدة: 3..(1/4)
فإن الإسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معًا، لأن المعتقد ليس بذي دينٍ مرضي وبهذا استدل المزني وأبو محمدٍ البغوي فقال في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام هنا أسمًا لما ظهر من الأعمال، والإيمان لما بطن من الاعتقاد وليس ذاك لأن الأعمال ليست من الإيمان ولأن التصديق ليس من الإسلام، بل ذاك تفصيلٌ لجملةٍ كلها شيءٌ واحدٌ، وجماعها الدين ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - :«أتاكم يعلمكم دينكم»(1)، وقال سبحانه وتعالى: { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا } (2)، وقال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَة مِنَ الْخَاسِرِينَ } (3) ولا يكون الدين في محل الرضا والقبول إلا بانضمام التصديق. انتهى كلامه الذي يظهر من مجموع الأدلة أن لكل منهما حقيقةً شرعيةً، كما أن لكل منهما حقيقةً لغويةً، لكن كل منهما مستلزمٌ للآخر بمعنى التكميل أن العامل لا يكون مسلمًا كاملاً إلا إذا اعتقد فكذلك المعتقد لا يكون مؤمنًا كاملاً إلا إذا عمل ... وقد حكى ذلك الإسماعيلي عن أهل السنة والجماعة قالوا: إنهما تختلف دلالتهما بالاقتران فإن أفرد أحدهما دخل الآخر فيه.
وعلى ذلك يحمل ما حكاه محمد بن عبد البر عن الأكثر أنهم سووا بينهما... وما حكاه الألكائي وابن السمعاني عن أهل السنة أنهم فرقوا بينهما على ما في حديث جبريل والله الموفق))(4)، بعد هذا القول يظهر تساوي الكلمتين في المعنى إذا افترقتا، كما قدمت سابقًا، والآن سيتم تناول خطاب الله تعالى للمؤمنين اعتمادًا على ذلك.
طريقة خطاب الله تعالى لعباده المؤمنين
__________
(1) هذا جزء من حديث عمر بن الخطاب عن الإسلام والإيمان والإحسان، وسيأتي تخريجه لاحقًا.
(2) المائدة: 3.
(3) آل عمران: 85.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني ( 1/114- 115 ).(1/5)
تنوع خطاب الله تعالى لعباده المؤمنين، فقد ((قسم الله المؤمنين... أربعة أقسامٍ، وجعل لهم أربعة منازلٍ بعضها دون بعضٍ، وحث كافة الناس(1) أن يتأخروا عن منزلٍ واحدٍ منهم. الأول: الأنبياء الذين تمدهم قوةُ الإلهيةِ، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من قريبٍ. ولذلك قال تعالى: { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } (2) الثاني: الصديقون وهم الذين يزاحمون الأنبياء في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانًا من بعيدٍ ... الثالث: الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين. ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكانٍ قريبٍ، كحال حارثة حيث قال: «كأني أنظر إلى عرش ربي» (3)، وإياه قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «أعبد الله كأنك تراه»(4) الرابع: الصالحون، وهم الذين يعرفون الشيء باتباعات وتقليدات الراسخين في العلم، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيدٍ في مرآةٍ.
__________
(1) لم تضف كافة في القرآن الكريم إلى المؤكد، ولكنني أثبت ما نقلته من المؤلف؛ لأنه حق له ولا يجوز لي تغييره والتعدي عليه.
(2) النجم: 12.
(3) الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ( 6/170) برقم(30423)، والطبراني في المعجم الكبير ( 3/266 ) برقم(3367)، والهيثمي في مجمع الزوائد باب حقيقة الإيمان و كماله ( 1/57 )، وغيرهم كابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم، والبيهقي في شعب الإيمان، ونعيم بن حماد في الفتن، والبيهقي في الزهد الكبير، وابن المبارك في كتاب الزهد، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة، والحديث في إسناده يوسف بن عطية، ضعفه العقلي في الضعفاء ( 4/455 ) برقم(2085)، وكذلك ضعف الحديث ابن حجر في الإصابة (597- 598)، وذكر أسبابًا أخرى لتضعيف الحديث، بالإضافة إلى حجة العقيلي.
(4) هذا جزء من حديث عمر بن الخطاب المتقدم عن الإسلام والإيمان والإحسان.(1/6)
وإياه قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»(1) انتهى كلامه ... وقال عكرمة: النبيون محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ، والصديقون أبو بكرٍ - رضي الله عنه - ، والشهداء عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - ، والصالحون صالحو أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ))(2)، ولتنوع المؤمنين على أنواعٍ، تنوع خطاب الله تعالى لهم على أنواعٍ- ذكرت منها في المبحث السابق خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، والآن أذكر خطاب الله تعالى للمؤمنين عمومًا-. ويمكن إجمال خطاب الله لهم فيما يأتي:
1- خطاب الله تعالى لأهل الإسلام بصيغة الخطاب: وهذه الصيغة تعددت على أنواعٍ هي:
أولاً: الخطاب بالضمير (أنتم، أو بكاف الخطاب): ويشتمل على الكلمات التي خوطب فيها أهل الإسلام بلفظ (أنتم) وبـ (كاف الخطاب) في المواضع الآتية:
__________
(1) هذا جزء من حديث عمر بن الخطاب المتقدم عن الإسلام والإيمان والإحسان.
(2) البحر المحيط ( 3/287-288 ).(1/7)
أ-الخطاب بلفظ ضمير المخاطب : أنتم، وهذا الخطاب وقع في قوله تعالى: { هَآ أَنْتُمْ أُوْلآءِ تُحِبّونَهُمْ وَلاَ يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ } [آل عمران: 119] وهذا الخطاب من الله تعالى تنبيه للمخاطبين بأنهم مخطئون في اتخاذهم بطانة لا تستحق محبتهم(1)، واستخدم الله تعالى اسم الإشارة (أولاء) للتوبيخ كأنه ازدرى بهم لظهور خطئهم في ذلك الاتخاذ(2)، إذ بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية، فقال { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ، وجاء الخطاب لأهل الإسلام بصيغة الضمير أنتم في سياق الاستفهام في قوله تعالى: { فَهَلْ أَنْتُمْ مّنتَهُونَ } [المائدة: 91]، ولكن المراد من الاستفهام الردعُ والمنع، لأن الأمر بلغ غايته، ولأن الأعذار قد انقطعت بالكلية حتى إن العاقل منهم إذا خُلِّي ونفسه بعد ذلك لا ينبغي أن يتوقف في الانتهاء(3)، لذا كان هذا الاستفهام أمرًا لهم بالانتهاء(4)،
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م3/ج4/62).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر: نفسه (م5/ج7/24).
(4) ينظر: تفسير البغوي ( 3/94 )..(1/8)
ووقع الخطاب لهم كذلك في سياق الشرط لحفظ أموالهم في أثناء السفر بقوله تعالى: { يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُم مّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنّآ إِذًا لّمِنَ الآثِمِينَ } [المائدة: 106]، أو في سياق التوكيد لهم بما يزيد من إيمانهم وتقواهم عن طريق إخبارهم بإحاطته تعالى بكل أعمالهم، كما في قوله تعالى: { أَلآ إِنّ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } [النور: 64].
ب- الخطاب بما يحوي كاف المخاطب: وهو أقسامٌ متعددةٌ، تشتمل على الآتي:(1/9)
- خطاب الله للمؤمنين بلفظ(ربكم): كما في قوله تعالى: { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلآفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوّمِينَ } [آل عمران: 125]، لأن الربُّ هو المتولي لتربيتهم(1) ونصر دينهم، فالظاهر من الخطاب إفهامهم القتال، ويكون فائدة ذكر نزول الملائكة البركة بهم وإرهاب الكفار بمن يرونه منهم(2)، وجاء خطاب الله تعالى لهم أيضًا بهذه الصيغة في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحًا عَسَى رَبّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } [التحريم: 8] إذ أعاد الله خطاب المؤمنين وأعاد نداءهم في السورة ذاتها مرتين، هذه الثانية، والمراد منه أن الله عزَّ وجل يفعل ذلك لا محالة(3)، لكن جيء بصيغة الإطماع للإشعار بأن ذلك تفضل منه سبحانه(4)، وفي هذا الإطماع وجهان(5): أحدهما: أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بعسى ولعل، فيقع ذلك منهم موقع القطع والبت.
__________
(1) ينظر: مختار الصحاح، مادة (ربب)، (96).
(2) ينظر: نظم الدرر (2/149-150).
(3) ينظر: فتح القدير (1798).
(4) ينظر: روح المعاني (م15/ج28/238).
(5) ينظر: الكشاف (4/574).(1/10)
والثاني: أن يجيء به تعليمًا للعباد وجوب التأرجح بين الخوف والرجاء، ووجدت خطاب الله تعالى لهم بهذه الصيغة في قوله تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } [الأنفال: 9]، وهنا يقال فيه ما قيل في آية سورة آل عمران السابقة؛ لأن الرب هو المربي والمحسن إليهم، كما جاءت هذه الصيغة كذلك في قوله تعالى: { مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مّنْ خَيْرٍ مّن رّبّكُمْ } [البقرة: 105]، قال البقاعي: «فكأنه قيل: لهم عذاب أليم لأنهم يودون لكم خيرًا؛ فسماعكم من جملة عذابهم، لأنه واقع على خلاف ودادتهم مع ما يدخر لهم في الآخِرَة بكفرهم وتمنيهم كفركم، ولا يخفى ما فيها وفي التي بعدها من التحريض على الكتاب الذي لا ريب فيه»(1)، وجاء خطاب الله تعالى لهم بهذه الصيغة في قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ } [البقرة: 198]، وهذا الخطاب لأنه مربيهم والمحسن إليهم فالفضل يرجع إليه ويصدر عنه.
__________
(1) نظم الدرر (1/211-212).(1/11)
-الخطاب بكاف المخاطب متصلةً بأسماءٍ تخصُّ المؤمنين: وهذه الأسماء إما أن تكون من تكوين أجسادهم، أو ما اشتملت عليه، كـ(قلوبهم)، في قوله تعالى: { لاّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِالّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة: 225]، و(صدورهم)، كما في قوله تعالى: { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } [آل عمران: 154]، و(الوجوه والأيدي والأرجل)، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطّهّرُواْ وَإِن كُنتُم مّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ } [المائدة: 6]، و(أنفسهم) كما في قوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ } [البقرة: 110]، أو أن تكون الأسماء مما يسكنون إليه كـ(بيوتهم)، في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا } [النور: 27]، أو أن تكون الأسماء من أسماء القرابات، كـ(زوجاتهم)، كما في قوله تعالى: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } [البقرة: 223]، و(أولادهم)، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ } [المنافقون: 9]، و(آبائهم وأمهاتهم) وغيرهم، كما في قوله تعالى: { لّيْسَ عَلَى(1/12)
الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ } [النور: 61]، أو ما فيه نجاتهم يوم القيامة كـ (العمل الصالح)، كما في قوله تعالى: { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [التوبة: 105]، و(الصلاة)، كما في قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [البقرة: 143] إذ الإيمان في هذا الموضع بمعنى الصلاة(1)، أو ما يقيم لهم حياتهم، كـ(أداة الصيد)، في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مّنَ الصّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } [المائدة: 94].
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (3/167).(1/13)
– الخطاب بكاف الخطاب المتصلة بأدواتٍ نحويةٍ: كأداة التوكيد(إن) في قوله تعالى: { وَقَدْ نَزّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنّكُمْ إِذًا مّثْلُهُمْ } [النساء: 140]، وهذا يقتضي الابتعاد عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحة، فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم، لذا دخلت (إنَّ) في تعليل النهي، وهذا التعليل غير داخل تحت ما أنزل الله تعالى في كتابه(1)، كما دخلت أداة التوكيد (أنَّ) في خطاب الله تعالى لأهل الإسلام في قوله تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنّ وَلَكِن لاّ تُوَاعِدُوهُنّ سِرًّا } [البقرة: 235]، وهذا السياق يحتمل نوعًا من التوبيخ لهم على هذه الفعلة(2) لأنهم سيذكرونهن في قلوبهم(3). و كان خطاب الله تعالى لهم بالكاف المتصلة بأداةٍ من أدوات الترجي والطمع(4)، والترجي هو الطمع في المحبوب والإشفاق في المكروه(5)، كما في قوله تعالى: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران: 103]، أو متصلة بأداةٍ من أدوات الجر، كـ(اللام) في قوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } [البقرة: 75] فالخطاب هنا استفهام استنكاري(6)
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م4/ج5/253).
(2) ينظر: الكشاف (1/311).
(3) ينظر: تفسير البغوي ( 1/283).
(4) ينظر: لسان العرب، مادة (لعل)، ( 15/54 ).
(5) ينظر: مغني اللبيب ( 1/201 ).
(6) ينظر: فتح القدير (108)..(1/14)
لأنه تعالى يئس من إيمان اليهود؛ فيعني بخطابه: لأجلكم سيؤمنون!، أو على تضمين الفعل (آمن) معنى (استجاب)، أي: أتطمعون أن يستجيبوا لكم(1)، فهذه اللام المقترنة بالكاف ((في قوله: { لَكُمْ } لتضمين { يُؤْمِنُواْ } معنى يُقِرُّوا، وكأنَّ فيه تلميحًا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى: { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة : 146] الآية فما أبدعَ نسج القرآن! ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل { يُؤْمِنُواْ } مُنزَّلاً منزلة اللازم تعريضًا بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم)) (2)، وجاء خطاب الله تعالى لهم باقتران الكاف بحرف الجر (الباء) في قوله تعالى: { وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يَتّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ } [التوبة: 98]، وهذه (الباء) فيها وجهان(3):إما أنَّها متعلقةٌ بالفعل قبلها، أو أنها حالٌ من «الدَّوائر» وعلى هذا تتعلق بمحذوفٍ، والأول أظهر(4).
__________
(1) ينظر: نفسه.
(2) التحرير والتنوير (م1/ج1/567).
(3) ينظر: نظم الدرر (3/378).
(4) ينظر: نفسه.(1/15)
– دخول كاف الخطاب على أفعالٍ ماضيةٍ: كما في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [البقرة: 143] وهذا الخطاب استطرادٌ لمدح المؤمنين أو توكيد لمدحهم؛ لرد الإنكار عليهم من أهل الكتاب، بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء على أهل الكتاب يوم الجزاء وشهاداتهم مقبولة فلا وجه لإنكار أهل الكتاب عليهم(1)، وجاء اقتران(الكاف) بالفعل الماضي في قوله تعالى: { وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا } [آل عمران: 103]، وغيرها من آيات العهد المدني القليلة في خطاب الله تعالى للمؤمنين بالأفعال الماضية.
مما ظهر نجد أن الله تعالى لم يخاطب المؤمنين بالأفعال الماضية، إلا للتذكير بنعمه عليهم، إذ كان جلُّ خطاب الله تعالى لهم بالأفعال المضارعة لبيان الدين وأمور الحياة، فقد كانوا المكلفين بتنفيذ أوامر الدين في ذلك الوقت.
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م2/ج2/5).(1/16)
– دخول كاف الخطاب على أفعالٍ مضارعةٍ: وهذه الصيغة هي أكثر ما خاطب الله تعالى به المؤمنين في العهد المدني، كقوله تعالى: { وَيُزَكّيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 151] وكان خطاب الله لهم في ما سبق من الأفعال لأن تطهيرهم من الشرك ناشئ عن إظهار المعجزة، لمن أراد الله تعالى توفيقه، أما قوله تعالى { وَيُعَلّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ } فهو صفة أثر(1) أخرت؛ لأن تعليم الكتاب وتفهيم ما انطوى عليه يكون بعد التخلي عن دنس الشرك، وجاء خطاب الله تعالى بالفعل المضارع في قوله تعالى: { إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ } [الممتحنة: 9] قال الرازي، في معنى هذه الآية بعد أن تعرَّض للآية السابقة لها: «والمعنى: لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا رحمة لهم لشدتهم في العداوة، وقال أهل التأويل: هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة، وقوله تعالى...: { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } يريد أهل البر والتواصل ... ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم فقال: { إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ ... أَن تَوَلّوْهُمْ } وفيه لطيفة: وهي أنه يؤكد قوله تعالى: { يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ } (2)»(3) ،
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م2/ج2/28).
(2) الممتحنة: 8.
(3) تفسير الرازي (م15/ج29/306)..(1/17)
وقد يسبق الفعل المضارع في الخطاب المدني أداةٌ من الأدوات النحوية، كأداة النصب وأداة الشرط المجتمعتين في آية واحد، في قوله تعالى: { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فإنْ قَاتَلُوكم فَاقْتلُوهُم } [البقرة: 191]، أو أداة الجزم ليدّل الخطاب على وجوب الابتلاء كما في قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [البقرة: 214]، أو لام القسم ونون التوكيد المجتمعتين، في قوله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصّابِرِينَ } [محمد: 31]، وتدلان على توكيد وقوع الابتلاء، أو أداة النفي في قوله تعالى: { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لاَ يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } [آل عمران: 120]، أو اجتماع أداة الشرط ولا النافية، كما في قوله تعالى: { إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ } [التوبة: 40]، فـ (( هذه كلمتان: إن الشرطية ولا النافية، ومن العجب أن ابن مالكٍ على إمامته ذكرها في شرح التسهيل من أقسام (إلا) ))(1).
ثانيًا: النداء لهم بلفظ (يا أيها الذين آمنوا) على سبيل الخطاب لهم:
__________
(1) مغني اللبيب ( 1/102 ).(1/18)
وهذا النداء جاء في آياتٍ كثيرةٍ من الخطاب المدني، وجاء لغاياتٍ متعددةٍ، كما سيظهر لاحقًا(1)، وأهم غايةٍ لخطاب الله تعالى لأهل الإسلام بأسلوب النداء هي تنبيههم على أن الكلام التالي للنداء خطابٌ مهمٌ ينبغي التنبه له، فمن نداءات الله تعالى لأهل الإسلام ما جاء في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ } [البقرة: 172]، وهو خطابٌ يأمر الله تعالى فيه عباده بما يقيم لهم الأبدان، لذا استوى فيه الأنبياء وأهل الإسلام؛ لأن الله تعالى قال لأنبيائه: { يَا أَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحًا } [المؤمنون: 51]، وناداهم الله تعالى بخطابٍ يحفظ فيه حقوق الآخرين، وعلمهم فيه كيفية التجارة وحفظ الحقوق، كما في قوله تعالى: { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مّسَمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ } [البقرة: 282]، وخاطبهم الله بالنداء لهم بما يحفظ لهم الدين أيضًا، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدّواْ مَا عَنِتّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الآيات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } [آل عمران: 118]، أو يحفظ لهم النفس والدين
__________
(1) ينظر صفحة (88) وما بعدها من هذا البحث.(1/19)
معًا، كما في قوله تعالى: { يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ } [الأنفال: 15]، أو بما يحفظ لهم العرض، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنّ إِلَى الْكُفّارِ لاَ هُنّ حِلّ لّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلّونَ لَهُنّ وَآتُوهُم مّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ } [الممتحنة: 10]، وناداهم آمرًا إياهم بما يحفظ المكان، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [التوبة: 28]، ونادهم آمرًا إياهم بعدم التشبه بالكفار من أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيرًا مّنَ الأحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [التوبة: 34]، وكذلك عدم التشبه بالمنافقين، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزّى لّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [آل عمران: 156]، وغيرها من غايات النداء التي ستأتي لاحقًا إن شاء الله تعالى.(1/20)
وأنبه أن النداء بـ (يا) انماز خطاب الله تعالى لأهل الإسلام به عن غيرهم، بشكل لافت للنظر؛ إذ نادى الله تعالى الرجال من أهل الإسلام بـ (يا)، ونادى أيضًا النساء من أهل الإسلام بهذه الأداة كما في خطاب الله تعالى لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ أخبرهن أنهن أفضل في المنزلة، فقال تعالى: { يَا نِسَآءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَآءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ } [الأحزاب: 32]، وليس هذا فحسب بل إن الله تعالى أخبرهن أنهن أعظم في العقاب في قوله تعالى: { يَا نِسَآءَ النّبِيّ مَن يَأْتِ مِنكُنّ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا } [الأحزاب: 30]، ولم يقع في آيات الخطاب المدني نداء لنساء من غير أهل الإسلام.
ثالثًا: مجيء صيغة الخطاب بإلحاق تاء المخاطب بالأفعال: وهذه الصيغة تنوعت على قسمين: القسم الأول: خطاب جماعة من الذكور بتاء المخاطب: وهذه التاء إما أن تأتي في أول الفعل أو في آخره، فمثال مجيئها في آخر الفعل، مجيئها في فعل الظن (حسب) في قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ } [آل عمران: 142]، وقُرنتِ التاء بالفعل اليقيني (آمن) في قوله تعالى: { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ } [البقرة: 137]، وأما تاء الخطاب التي تجيء في أول الفعل فهي التي في قوله تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [آل عمران: 110]، وقد تسبق هذه الأفعال بعض الأدوات كـ (لا الناهية) كما في قوله تعالى: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ } [آل عمران: 139].(1/21)
... القسم الثاني: الخطاب بالتاء للمثنى من نساء أهل الإسلام: كما في قوله تعالى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنّ اللّهَ هُوَ مَوْلاَهُ } [التحريم: 4].
وقد تحذف التاء تخفيفًا من الفعل المضارع في خطاب العهد المدني(1)، كما في قوله تعالى: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرّقُواْ } [آل عمران: 103]، وقوله تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: 2]، وقوله تعالى: { وَلاَ تَيَمّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } [البقرة: 267]، وجاء مثله عن العرب إذ قال شاعرهم(2): (البسيط)
تَعَاطَسُونَ جَمِيعًا حَوْلَ دَارِكُمُ ... ... فَكُلُّكُمْ يَا بَنِي حَمْدَانَ مَزكُومُ
أراد بالفعل (تتعاطسون) فحذف التاء لاجتماع المتماثلين.
رابعًا: خطاب أهل الإسلام بصيغة الأمر: وهذه الصيغة انقسمت على قسمين هما:
أ – القسم الأول: فعل الأمر (قولوا)، وقد أفردته لأن الخطاب به تلقيني، فهم يرددون ما أملاه ربهم عليهم، كما في قوله تعالى: { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } [الحجرات: 14].
__________
(1) سبب هذا الحذف هو الثقل باجتماع المتماثلين.
(2) البيت لم أجده في كتب اللغة والأدب التي وقعت عليها، وهو من شواهد البحر المحيط ( 1/291 )، والدر المصون في علوم الكتاب المكنون ( 1/285 ).(1/22)
ب – القسم الثاني: جاء الخطاب بأفعال أمر أخرى وهي أفعالٌ كثيرةٌ: إذ الغاية من أوامر الله تعالى توجيه أهل الإسلام إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخِرَة. والظاهر أن التنوع في الأوامر والنواهي كان ظاهرًا في العهد المدني أكثر لأنه عهد بناء الدولة الإسلامية على أسسٍ متينةٍ من توجيهات الله تعالى الحكيمة لهم، فهو خالقهم والأعلم بمصالحهم، ومن الأوامر التي وجهها الله تعالى لأهل الإسلام ما يأتي:
{ وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ } [البقرة: 148]
{ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلّ مَا رُدّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوَاْ إِلَيْكُمُ السّلَمَ وَيَكُفّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ } [النساء: 91]
وقد جاء الأمر من الله تعالى يراد به الإرشاد وليس الوجوب(1)، كما في قوله تعالى: { وَأَشْهِدُوَاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282]، وغيرها من أوامر الله تعالى لأهل الإسلام، التي خرجت عن ظاهر الخطاب بها(2).
2- خطاب الله تعالى لأهل الإسلام بصيغة الغائب وتشتمل على الآتي:
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (6/83)، وما بعدها.
(2) ينظر مثلاً ما تم ذكره في صفحة (189) من هذا البحث.(1/23)
– ضمير الغائب المنفصل: (هم) أو (هو) ويراد بهما بعض أهل الإسلام. فأما ضمير المفرد (هو)، فإن الله تعالى خاطب به مفردًا غير معينٍ من أهل الإسلام، ويريد بذلك خطاب كل المكلفين من المسلمين بذلك الضمير؛ إذ يصلح لهم إذا اتصفوا بتلك الصفة التي اتصف بها هذا المفرد، كما في قوله تعالى: { فَإن كَانَ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيّهُ بِالْعَدْلِ } [البقرة: 282]، وأما ضمير الجمع فخاطب الله تعالى به أهل الإسلام غالبًا بعد أن يذكر قبله اسم الإشارة (أولئك)، كما في قوله تعالى: { فَاتّقُواْ اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْرًا لأنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [التغابن: 16]، وقلت غالبًا؛ لأن الله خاطب أهل الإسلام بهذا الضمير في القرآن، ولم يسبقه اسم الإشارة في مواضع من آيات العهد المدني، منها: قوله تعالى: { والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخِرَة هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4].(1/24)
– اقتران هاء الغائب بالأدوات النحوية: فأما الأدوات النحوية التي اقترنت بها (هاء) الغائب في خطاب العهد المدني؛ للدلالة على أهل الإسلام، فجاءت على قسمين: القسم الأول: إلحاق الهاء للأداة بصيغة المفرد لتدل على كل من اتصف بهذه الصفة من أهل الإسلام من غير تحديدٍ لمعينٍ، وهذا ورد في قوله تعالى: { إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } [البقرة: 173]، أما القسم الثاني: فقد ألحق الخطاب المدني ميم الجمع إلى الهاء في خطابه مع أهل الإسلام، واستعمل أدوات الجر غالبًا، كـ (لام الجر) في قوله تعالى: { وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [المائدة: 9]، وكـ (على)(1)، و(في)(2)و(الباء)(3)، غير أن الخطاب المدني قرن هاء الغائب بالظرف (بين)، الملحق به ميم الجماعة، في قوله تعالى: { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مّمّا قَضَيْتَ } [النساء: 65].
3- خطابهم بالصيغ الأخرى: وهذه الصيغ على أنواع هي:
أولاً: خطاب المؤمنين بأسماء الإشارة: وهذه الصيغة جاءت لتدل على الجماعة، في قوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ } [البقرة: 218]، إذ جاء اسم الإشارة (أولئك) للدلالة على مدح اللهِ لأهل الإسلام(4).
__________
(1) ينظر الآية (157) من سورة البقرة.
(2) ينظر الآية (164) من سورة آل عمران.
(3) ينظر الآية (170) من سورة آل عمران.
(4) ينظر: نظم الدرر (1/233).(1/25)
ثانيًا: خطاب المؤمنين بالأسماء الموصولة: كان خطاب الله تعالى لأهل الإسلام بالأسماء الموصولة ظاهرًا في السور المدنية، والخطاب بهذه الصيغة كان متنوع الدلالة، إذ خاطب الله أهل الإسلام بالاسم الموصول (الذين)، للدلالة على العموم كما في قوله تعالى: { الّذِينَ اسْتَجَابُواْ للّهِ وَالرّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 172]، وقوله تعالى: { وَالّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ آوَواْ وّنَصَرُوَاْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [الأنفال: 74]، فـ (( هذه الآية فيها تعظيم المهاجرين والأنصار وهي مختصرةٌ إذ حذف منها بأموالهم وأنفسهم وليست تكرارًا؛ لأن الآية السابقة(1) تضمنت ولاية بعضهم بعضًا، وتقسيم المؤمنين إلى الأقسام الثلاثة، وبيان حكمهم في ولايتهم ونصرهم، وهذه تضمنت الثناء والتشريف والاختصاص وما آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم )) (2)، وخاطب الله تعالى الأفراد من أهل الإسلام بذاك الاسم، ومع ذلك نجد أن خطابه تعالى يجيء بصيغة الجمع ليشمل الخطاب جميع أهل الإسلام، كما في خطاب الله تعالى لأبي بكرٍ الصديق(3)
__________
(1) الآية السابقة هي قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أوليآء بعضٍ والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيءٍ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ والله بما تعملون بصيرٌ } [سورة: الأنفال - الآية: 72].
(2) البحر المحيط ( 4/523 ).
(3) ينظر: أسباب النزول للواحدي (270)..(1/26)
- رضي الله عنه - في قوله تعالى { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } [النور: 22]، وفي قوله: { الّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ مّا هُنّ أُمّهَاتِهِمْ إِنْ أُمّهَاتُهُمْ إِلاّ اللاّئِي وَلَدْنَهُمْ } [المجادلة: 2]، إذ يذكر في أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في أوس بن الصامت - رضي الله عنه - لما ظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة(1)، على أن هذا الموصول لا يعني أوسًا فقط، بل يدلّ على كل من وقع في هذا الأمر من أهل الإسلام إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما في رأي الأصوليين(2)، وجاءت هذه الصيغة كذلك في خطاب الله تعالى لنعيم بن مسعودٍ الأشجعي(3) في قوله تعالى: { الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } [آل عمران: 173].
__________
(1) ينظر الهامش (6) في صفحة (29)، من هذا البحث.
(2) ينظر: مناهل العرفان في علوم القرآن (1/93)، والمختصر في أصول الفقه، لعلي بن محمد بن علي البعلي (110)، والإبهاج في شرح المنهاج، لعلي بن عبد الكافي السبكي (2/185)،.
(3) ينظر: معاني القرآن للفراء ( 1/247 ).(1/27)
تأسيسًا على ذلك وجدت خطاب الله تعالى في العهد المدني لم يأتِ فيه ذكر لأفراد من أهل الإسلام بصيغة غير الجمع في الخطاب، حتى إن كان المخاطب به واحدًا فقط، إلا في موضعٍ واحدٍ ذكر الله تعالى فيه فردًا من المسلمين، وهذا الفرد أما أن يكون من الذكور وهو زيد بن حارثة - رضي الله عنه - ، حين ذكره الله في قوله: { وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرًا زَوّجْنَاكَهَا } [الأحزاب: 37]، أو من الإناث كما في ذكر الله تعالى للمرأة المؤمنة التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، في قوله تعالى: { وَامْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب: 50].
وقد يأتي الخطاب بالاسم الموصول الدال على الفرد من الجماعة، ولكن المراد منه كل فردٍ، إذا اتصف بما وصف به هذا الفرد، كما في قوله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } [المائدة: 3]، وقوله تعالى: { لقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 21]، والملاحظ في هذا الخطاب وجود ظاهرة الالتفات، إذ انتقل الله تعالى من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد، وهو فردٌ من تلك الجماعة، وعلى السياق نفسه قال الله تعالى في موضعٍ آخرٍ: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الآخر } [الممتحنة: 6].(1/28)
ثالثا: خطاب أهل الإسلام بصفاتهم: لقد وصف الله تعالى أهل الإسلام بصفاتٍ كثيرةٍ في خطابه لهم، ومن تلك الصفات التي وصفهم الله بها، وصفُهم بـ(الرجال) في قوله تعالى: { مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُواْ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 23]، وما جاء في قوله تعالى: { التّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدونَ الآمرون بِالْمَعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 112]، وتكفيهم تلك الصفات من الله فخرًا، وتتويجًا لأعمالهم في الدنيا، ونجاةً يوم القيامة من عذاب الله.
غايات خطاب الله تعالى لأهل الإسلام
يمكن تلخيص غايات خطاب الله تعالى لأهل الإسلام، من النداءات فقط- إذ جاء بعدها أمرٌ أو نهي- في خمسة أمورٍ هي(1):
1- الأمر بتقوى الله تعالى: وهذا نراه في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ } [التوبة: 19].
2- الأمر بطاعة الله تعالى وطاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم - : وهذا نراه في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ } [الأنفال: 20]، وقوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الأنفال: 24].
__________
(1) ينظر للفائدة أكثر في كتاب الشيخ الجزائري ( نداءات الرحمن لأهل الإيمان ) فإنه خصصه لذكر النداءات ثم أخذ أقوال المفسرين في تأويلها.(1/29)
3- الأمر بعدم موالاة الكفار: وهذا نراه في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِي إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } [آل عمران: 100 – 101]، وقوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ } [النساء: 144].
4- الأمر بقتال الكفار : وهذا نراه في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ، وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرّفًا لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ } [الأنفال: 15 – 16]، وقوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ } [التوبة:123].
5- نصائحٌ وأوامرٌ من الله تعالى لأهل الإسلام في العبادات والمعاملات: وهذه نراها في نحو الآيات الآتية:
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } [آل عمران: 200]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انْظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة: 104].
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للّهِ إِن كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة:172]
{(1/30)
يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ، أَيّامًا مّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 183 – 184]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَآءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنّ إِلاّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [النساء: 19]
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوَاْ أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء: 29] وغيرها كثير.
* خطاب الله تعالى للمنافقين:(1/31)
... ما جعلني لا أذكر المنافقين في زمرة غير المسلمين، مع أن الله تعالى قد حكم عليهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار(1)، وقال عنهم أبو حيان في البحر: «كان المشركون ثلاثةً منافقٌ ومن في قلبه مرضٌ ومرجفٌ. فالمنافق يؤذي سرًا والثاني يؤذي المؤمن بإتباع نسائه والثالث يرجف بالرسول يقول: غلب، سيخرج من المدينة، سيؤخذ، هزمت سراياه»(2)، أن الله تعالى خاطب المنافقين في غير ما آيةٍ بقوله: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } (3)، والسبب الآخر الذي جعلني أذكرهم هنا أن النفاق أمرٌ باطني لا يستطيع الإنسان معرفة صاحبه، ولنا ما ظهر من الناس، وهو إعلانهم الشهادتين، أما أمرهم فإلى الله تعالى، وأما السبب الثالث وهو أهم الأسباب فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل المنافقين في زمنه معاملة المسلمين، مع علمه بهم، نفرًا نفرًا(4)، ومن معلوم الدين أن المنافقين قسمان: منافقون نفاقًا أكبر خارجون عن الملة، ومنافقون نفاقًا أصغر غير خارجين عن الملة(5)، وما يهمنا في هذا المبحث هو كيفية خطاب الله تعالى لهؤلاء المنافقين وأساليب اللغة التي ذكرها الله تعالى للتأثير فيهم.
طريقة خطاب الله تعالى للمنافقين
تنوع خطاب الله تعالى لأهل النفاق، على أنواعٍ يمكن إجمالها في الآتي:
1- خطاب الله تعالى للمنافقين بصيغة الخطاب: وهذه الصيغة تعددت على أنواع هي:
أولاً: الخطاب بالضمير (أنتم، أو بكاف الخطاب): وهذه الصيغة ظهرت في الآتي:
__________
(1) قال تعالى: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا } [النساء: 145]
(2) البحر المحيط ( 7/250 ).
(3) سيأتي بيانه لاحقًا في موضعه.
(4) لقوله تعالى : { ولو نشآء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم } [محمد: 30].
(5) ينظر: رسالة في أسس العقيدة لـ محمد بن عودة السعوي ( 53 )، وكتاب التوحيد للشيخ الفوزان ( 22 ).(1/32)
-الخطاب بلفظ ضمير المخاطب : أنتم ، هذا الضمير جاء في آيةٍ واحدة فقط، مع خلافٍ بين أهل التفسير في المراد منها(1)، وهي قوله تعالى: { مّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ } [آل عمران: 179]، ورجَّح الزمخشري في تفسيره أن الخطاب في { أَنْتُمْ } ((للمصدقين جميعًا من أهل الإخلاص والنفاق، كأنه قيل: ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها– من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعًا– حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم، ثم قال: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } (2) أي وما كان الله ليؤتي أحدًا منكم علم الغيوب، فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها { ولَكِنَّ اللهَ } يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأن في الغيب كذا، وأن فلانًا في قلبه النفاق وفلانًا في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة اطلاعه على المغيبات. ويجوز أن يراد: لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم. كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله، فيجعل ذلك عيارًا على عقائدكم وشاهدًا بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها، فإن ذلك مما استأثر الله به.))(3).
__________
(1) ينظر: تفسير البغوي ( 2/141 )، والكشاف ( 1/473 )، وروح المعاني ( م3/ج4/213 ).
(2) آل عمران: 179.
(3) الكشاف ( 1/473 ).(1/33)
- الخطاب بما يحوي كاف المخاطب: وجاءت هذه الصيغة، في كل آيات العهد المدني، بصورة واحدة فقط، وكانت هذه الصورة باتصال الكاف بأسماءٍ تخصُّ المنافقين: إذ جاءت هذه الصيغة في خطاب الله تعالى لهم بالتهديد في قوله تعالى: { مّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [النساء:147].
ثانيًا: النداء بلفظ يا (أيها الذين آمنوا) على سبيل الخطاب : وهذا النداء ورد في ثلاثة مواضع من آيات العهد المدني، هي قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ } [البقرة: 208]، قال الرازي في تفسيره: «في الآية إشكال، وهو أن كثيرًا من المفسرين حملوا السلم على الإسلام، فيصير تقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام، والإيمان هو الإسلام، ومعلوم أن ذلك غير جائز، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون وجوهًا في تأويل هذه الآية:
(أحدها) أن المراد بالآية المنافقون، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، أي آثار تزيينه وغروره في الإقامة على النفاق، ومن قال بهذا التأويل احتج على صحته بأن هذه الآية إنما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله: { وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } [البقرة : 204] الآية فلما وصف المنافق بما ذكر دعا في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب وترك النفاق .(1/34)
و(ثانيها) أن هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي - عليه السلام - أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحوم الإبل وألبانها، وكانوا يقولون: ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام، وواجب في التوراة، فنحن نتركها احتياطًا فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة، أي في شرائع الإسلام كافة، ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقادًا له وعملاً به، لأنها صارت منسوخة { وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ } في التمسك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة، والقائلون بهذا القول جعلوا قوله: { كَآفّةً } من وصف السلم، كأنه قيل: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام اعتقادًا وعملاً.
و(ثالثها) أن يكون هذا الخطاب واقعًا على أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي - عليه السلام - فقوله: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } أي بالكتاب المتقدم { ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً } أي أكملوا طاعتكم في الإيمان وذلك أن تؤمنوا بجميع أنبيائه وكتبه فادخلوا بإيمانكم بمحمد - عليه السلام - وبكتابه في السلم على التمام، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في تحسينه عند الاقتصار على دين التوراة بسبب أنه دين اتفقوا كلهم على أنه حق بسبب أنه جاء في التوراة: تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض، وبالجملة فالمراد من خطوات الشيطان الشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة.(1/35)
و(رابعها) هذا الخطاب واقع على المسلمين { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } بالألسنة { ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً } أي دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من العمر ولا تخرجوا عنه ولا عن شيء من شرائعه»(1)، ولا يخفى على ذي لبٍّ أن كل تلك الوجوه من التأويل محتملة في ذلك الخطاب، وعلى هذا يصح أن يُقْصَدَ بتلك الآية المنافقون، وأهل الكتاب والمشركون، لذا سأستدل بها هناك على نداء الله تعالى لهم بهذه الصيغة، إذ لا يوجد ما يمنع من الاستدلال بها على صحة قولي بأن النداء بلفظ (يا أيها الذين آمنوا) خرج في بعض آيات العهد المدني عن نداء أهل الإسلام إلى نداء غيرهم، وعلى ذلك يتمُّ التفريق بين المطلوبين بذلك النداء بوساطة السياق الذي يرد فيه النداء، على أنني رأيت الله تعالى خاطب المنافقين بهذه الصيغة أيضًا في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [النساء: 136]، وفي هذه الآية أيضًا، ذكر الرازي أن ظاهر الآية ((مشعر بأنه أمر بتحصيل الحاصل، ولا شك أنه محال، فلهذا السبب ذكر المفسرون في تفسيرها وجوهًا وهي منحصرة في قولين: الأول: أن المراد بقوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } المسلمون، ثم في تفسير الآية تفريعًا على هذا القول وجوه: الأول: أن المراد منه يا أيها الذين آمنوا دوموا على الإيمان واثبتوا عليه، وحاصله يرجع إلى هذا المعنى: يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحاضر آمنوا في المستقبل، ونظيره قوله { فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلَه إِلا اللّهُ } [محمد : 19] مع أنه كان عالمًا بذلك.
__________
(1) تفسير الرازي ( م3/ج5/225-223 )، وينظر: تفسير البغوي ( 1/240 )، والكشاف ( 1/280 )، وتفسير البيضاوي(1/230)، وروح المعاني ( م2/ج2/146 ).(1/36)
وثانيها: يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال. وثالثها: يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجميلة آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية. ورابعها: يا أيها الذين آمنوا بالدلائل التفصيلية بالله وملائكته وكتبه ورسله آمنوا بأن كنه عظمة الله لا تنتهي إليه عقولكم، وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا تنتهي إليها على سبيل التفصيل عقولنا. وخامسها: روي أن جماعة من أحبار اليهود جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال - صلى الله عليه وسلم - :« بل آمنوا بالله وبرسله وبمحمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت هذه الآية فكلهم آمنوا»(1).
__________
(1) لم أقف على هذه الحديث في ما وقفت عليه من كتب الحديث.(1/37)
القول الثاني: أن المخاطبين بقوله { آمَنُوا } ليس هم المسلمون، وفي تفسير الآية تفريعًا على هذا القول وجوه: الأول: أن الخطاب مع اليهود والنصارى، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن. وثانيها: أن الخطاب مع المنافقين، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب، ويتأكد هذا بقوله تعالى: { مِنَ الّذِينَ قَالُوَاْ آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [المائدة : 41] وثالثها: أنه خطاب مع الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره، والتقدير: يا أيها الذين آمنوا وجه النهار آمنوا أيضًا آخره. ورابعها: أنه خطاب للمشركين تقديره: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله))(1)، وجاء النداء لهم بهذه الصيغة أيضًا في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مّبِينًا } [النساء: 144]، وهنا يرى الألوسي أن((المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين؛ وقيل: المراد بالموصول المخلصون، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل: قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء، وإلى ذلك ذهب القفال))(2)، ولا حاجة بي للإطالة في هذا الموضع؛ إذ النقول السابقة تكفي لما ذهبت إليه من خطاب الله تعالى للمنافقين ولأهل الكتاب وللمشركين بهذه الصيغة، لأن الآية تحتمل كل هؤلاء، ولا حجة في تضييق معناها، وحصره بفئة دون أخرى.
__________
(1) تفسير الرازي ( م6/ج11/76 )، وينظر: الكشاف ( 1/609 )، وتفسير البيضاوي ( 1/122-123 ).
(2) روح المعاني ( م4/ج5/260)، وينظر: تفسير ابن عطية (2/128).(1/38)
رابعًا: خطاب المنافقين بصيغة الأمر: لم ترد هذه الصيغة إلا في آيات النداء التي نادى الله تعالى بها المنافقين، وإلا فخطاب الله تعالى لهم كان بصيغة الغائب، تحقيرًا لشأنهم، وزجرًا لهم، بخلاف خطابه تعالى للمؤمنين، وبخلاف خطابه تعالى لأهل الكتاب كما سيأتي لاحقًا، وهذه الظاهرة تدعو لتأملها وتدبرها، لفهم الخطر العظيم من حركة النفاق على الإسلام.
2- خطاب الله تعالى للمنافقين بصيغة الغائب: وتشتمل على الآتي:
– الخطاب بضمير الغائب المنفصل: (هم)، وهذا هو الضمير الذي خاطبهم الله به، إذ المنافقون كتلة واحدة وطينة واحدة لا اختلاف بينهم، يجمعهم هدفٌ واحدٌ هو ضرب الإسلام من الداخل، قال تعالى: { هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَنفَضّواْ وَلِلّهِ خَزَآئِنُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَكِنّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ } [المنافقون: 7].
– الخطاب بإلحاق هاء الغائب بالفعل: وهذا أكثر خطاب الله تعالى للمنافقين في القرآن الكريم، فغاية الله تعالى من ذلك زجرهم وإعادتهم إلى الدين الحق، وتسفيه أفعالهم، ومن شواهد هذه الصيغة، ما جاء في خطاب الله تعالى لهم مبينًا حقدهم وحسدهم في قوله تعالى: { وَمَا نَقَمُوَاْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لّهُمْ } [التوبة: 74]، ومبينًا للمسلمين حالهم حين يتنزل القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوَاْ إِنّ اللّهَ مُخْرِجٌ مّا تَحْذَرُونَ } [التوبة: 64].(1/39)
– الخطاب بإلحاق الأدوات النحوية بهاء الغائب: وهذه الصيغة وردت مع حرف الجر (اللام)، ليدلّ على استحقاقهم العذاب، كما في قوله تعالى: { فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة:10]، لأن ((المعنى أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا ثبات أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعلاء شأنه يومًا فيومًا. وذلك كان يؤثر في زوال رياستهم ... فهؤلاء لما اشتد عليهم الغم وصف الله تعالى ذلك فقال: { فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا } أي زادهم الله غمًا على غمهم بما يزيد في إعلاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيم شأنه. الثاني: أن مرضهم وكفرهم كان يزداد بسبب ازدياد التكاليف)) (1)، وخاطبهم الله تعالى بحرف الجر (على)، كما في قوله تعالى: { وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّآنّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ } [الفتح:6]، والمراد من هذا الخطاب أن الله تعالى يعذبهم تعذيبًا خاصًا زائدًا على تعذيبهم الذي استحقوه بسبب النفاق(2)؛ دلّ على ذلك قوله { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السّوْء } ،لأنها تدل على الإحاطة بهم لا محالة(3)، كما أن الابتداء بذكر المنافقين في التعذيب قبل المشركين كان لتنبيه المسلمين على أن كفر المنافقين خفيّ فربما غفل المسلمون عن هذا الفريق أو نسوه(4)،
__________
(1) تفسير الرازي (م1/ج2/72).
(2) ينظر: فتح القدير (1651).
(3) ينظر: نفسه.
(4) ينظر: التحرير والتنوير (م12/ج26/152)..(1/40)
لأنهم كانوا أشد على المؤمنين من الكافرين؛ فالمؤمن يتوقى المشرك، ولكنه كان يخالط المنافق لظنه بإيمانه، وهو كان يفشي أسراره(1)، وخاطبهم الله تعالى بإلحاق (الهاء) بحرف الجرِّ من، في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِيَّ } [الأحزاب: 13] وهذا الخطاب يُظْهِرُ ما يخفونه في صدورهم من نواحٍ متعددة: الأول: أن مرادهم الفرار لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجًا لمقالتهم وإيذانًا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم(2)، الثاني: أن قولهم: { يَاأَهْلَ يَثْرِبَ } عدلوا به ((عن الاسم– الذي وسمها به النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وطيبة مع حسنه– إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديمًا مع احتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف(3) إظهارًا للعدول عن الإسلام))(4)، الثالث: أنهم أكدوا بنفي الجنس لكثرة مخالفتهم في ذلك فقالوا: { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي لا إقامة أو لا موضع إقامة في مكان القتال ومقارعة الأبطال { فَارْجِعُواْ } إلى منازلكم هربًا، أو إلى دينكم الأول(5)، وخاطبهم الله تعالى بإلحاق حرف الجر (عن) بالهاء للدلالة على المجاوزة في قوله تعالى: { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [النساء: 81]، وقد تقرن هاء الغائب بأداة التوكيد (إن) للدلالة على توكيد أفعالهم، كما في قوله تعالى: { إِنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة: 84]، أو (أن)، كما في قوله تعالى: { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلّ عَامٍ مّرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ } [التوبة: 126].
__________
(1) ينظر: تفسير الرازي (م14/ج32/85)
(2) ينظر: روح المعاني (م12/ج21/242).
(3) ينظر: لسان العرب، مادة (ثرب)، (1/235)، ومختار الصحاح، مادة (ثرب)، (35).
(4) نظم الدرر (6/83).
(5) ينظر: نفسه، وروح المعاني (م12/ج21/242).(1/41)
– الخطاب بضمير الغائب المتصل بالأسماء الخاصة بهم: كما في قوله تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوَاْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } [التوبة: 74]، فهنا خاطب الله تعالى الفرد بصيغة الجمع لأن المقصود بـ (إسلامهم، يحلفون) شخص واحد هو عبدالله بن أبي، كما في أسباب النزول(1).
3- خطابهم بالصيغ الأخرى: وهذه الصيغ انقسمت على ثلاثة أقسام:
__________
(1) ينظر: أسباب النزول للواحدي (206).(1/42)
أولاً: خطابهم بأسماء الإشارة: وهذه الصيغة وردت في قوله تعالى: { وَيِقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالرّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } [النور: 47] وهذه الإشارة ((للإيذان ببعد منزلتهم في الكفر والفساد أي وما أولئك الذين يدّعون الإيمان والطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في العقد والعمل { بِالْمُؤْمِنِينَ } ، أي المؤمنين حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسوا بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص والثبات عليه، ونفي الإيمان بهذا المعنى عنهم مقتض لنفيه عن الفريق على أبلغ وجه وآكده ولذا اختير كون الإشارة إليهم)) (1)، واسم الإشارة ((راجع إلى الذين تولوا لا إلى الجملة الأولى، وأيضًا فلو رجع إلى الأول يصح ويكون معنى قوله: { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } أي يرجع هذا الفريق إلى الباقين منهم فيظهر بعضهم لبعض الرجوع عما أظهروه)) (2)، وخاطبهم الله تعالى بهذا الاسم في قوله تعالى: { أُولََئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا } [النساء: 63]، وهو هنا أيضًا ذمٌّ لهم على ما يخفونه في صدورهم.
__________
(1) روح المعاني (م10/ج18/285).
(2) تفسير الرازي (م12/ج24/22).(1/43)
ثانيًا: الخطاب بالأسماء الموصولة: وفي خطاب الله تعالى لهم بهذه الأسماء إما أن يكون شاملاً جميع المنافقين كـ (الذين) في قوله تعالى: { الّذِينَ يَتَرَبّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ اللّهِ قَالُوَاْ أَلَمْ نَكُنْ مّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوَاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 141]، وغيرها من الآيات، وقد يخاطبهم الله تعالى بالاسم الموصول (من) للدلالة على من اتصف بخصال النفاق، وليس الخطاب، حينئذٍ، موجهًا إلى شخصٍ معينٍ بل يصح أن يكون لكل واحدٍ منهم، كما في قوله تعالى: { وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8]، قال أبو حيان في تفسيره: « و(من) في قوله: { وَمِنَ النّاسِ } للتبعيض، وأبعد من ذهب إلى أنها لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيءٌ مبهمٌ فيبين جنسه. والألف واللام في الناس للجنس أو للعهد، فكأنه قال: ومن الكفار السابق ذكرهم من يقول ولا يتوهم أنهم غير مختومٍ على قلوبهم، كما ذهب إليه الزمخشري(1) فقال: فإن قلت كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقين غير مختومٍ على قلوبهم؟ وأجاب بأن الكفر جمع الفريقين وصيرهم جنسًا واحدًا، وكون المنافقين نوعًا من نوعي هذا الجنس مغايرًا للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء لا يخرجهم من أن يكونوا بعضًا من الجنس، انتهى»(2).
ثالثًا: وصفهم بصفاتهم: لقد تحدث الله تعالى عن المنافقين بصفاتهم، التي عُرفوا بها ، على أن تلك الصفات جميعها صفات ذمٍّ لا مدحٍ، وهذا ما لم يخاطب الله تعالى به المؤمنين في القرآن الكريم، أما تلك الصفات التي ذكرها الله تعالى عنهم فهي:
__________
(1) ينظر: الكشاف ( 1/93-94 ).
(2) البحر المحيط ( 1/52 )، وينظر معناه في : روح المعاني ( م2/ج2/234 ) وما بعدها.(1/44)
1- الكسل والخداع والمراء وقلة ذكر الله تعالى: إذ قال الله تعالى: { إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوَاْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً } [النساء: 142].
2- الشك وعدم الثقة في النفس أوفي اختياراتهم: وهذا ظاهرٌ في قوله تعالى لهم: { مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلآءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلآءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } [النساء: 143].
3-الكذب: قال الله تعالى: { إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1].
4-الضرر للدين بالطرائق الممكنة كافةً: قال الله تعالى: { وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [التوبة: 107].
وغيرها من الصفات التي لم يستخدمها الله تعالى مع المؤمنين البتة، كالصمم والبكم والعمى، في قوله تعالى: { صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [البقرة: 18]، وعدم الإيمان، في قوله تعالى: { وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة: 8]، والاستهزاء بالدين وبالمؤمنين، في قوله تعالى: { وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوَاْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة:14] ...الخ.
غايات خطاب الله تعالى للمنافقين:(1/45)
... مما مرّ في خطاب الله تعالى للمنافقين،كانت الغاية منه دفعهم لترك ما هم عليه من النفاق والمكر بالدين وبالمسلمين، وإرجاعهم إلى الدين الحق واتباع الرسول حق الاتباع، ويظهر ذلك في خطاب الله تعالى لهم بصيغة الغائب التي فيها الاحتقار لهم وإهانتهم على تلك الأفعال، على أن هذا الرجوع يتطلب تحقيق أمورٍ أربعةٍ مجتمعةٍ في قوله تعالى: { إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا، إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 146]، فرجوعهم إلى دائرة الإيمان يقتضي ما يأتي:
1-التوبة. ... ... ... ... ...
2-الإصلاح.
3-الاعتصام بالله.
4-الإخلاص في الدين.(1/46)
الفصل الثاني المبحث الثالث
خطاب الله سبحانه و تعالى لأهل الكتاب وللمشركتن
-خطاب الله سبحانه و تعالى لأهل الكتاب.
- خطاب الله سبحانه و تعالى للمشركين.
* خطاب الله سبحانه و تعالى لأهل الكتاب:
وقفنا في المبحث السابق على طرائق خطاب الله تعالى لأهل الإسلام وغاياته، ولكننا في هذا المبحث سنتعرض لخطاب الله تعالى لطائفةٍ أخرى من أصحاب الديانات السماوية، هم أصحاب الديانتين السابقتين للإسلام: اليهود والنصارى.
لقد تعددت تسميات الله سبحانه وتعالى لأهل الكتاب في خطابه لهم في العهد المدني، فمن تلك التسميات تسميته لهم بأهل الكتاب، إذ لا تطلق هذه اللفظة على المسلمين البتة فهي ((لقبٌ في القرآن لليهود والنصارى الذين لم يتدينوا بالإسلام لأن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل إذا أضيف إليه (أهل)، فلا يطلق على المسلمين: أهل الكتاب، وإن كان لهم كتابٌ، فمن صار مسلمًا من اليهود والنصارى لا يوصف بأنه من أهل الكتاب في اصطلاح القرآن، ولذلك لما وصف عبدالله بن سلامٍ في القرآن وصف بقوله تعالى: { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [الرعد: 43] وقوله: { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } [الأحقاف: 10]، فلما كان المتحدث عنهم آنفًا صاروا مؤمنين بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فقد انسلخ عنهم وصف أهل الكتاب، فبقي الوصف بذلك خاصًا باليهود والنصارى، فلما دعا الله الذين اتبعوا المسيح إلى الإيمان برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ووعدهم بمضاعفة ثواب ذلك الإيمان، أعلمهم أن إيمانهم يبطل ما ينتحله أتباع المسيحية بعد ذلك من الفضل والشرف لأنفسهم بدوامهم على متابعة عيسى - عليه السلام - فيغالطوا الناس بأنهم إن فاتهم فضل الإسلام لم يفتهم شيءٌ من الفضل باتباع عيسى مع كونهم لم يغيروا دينهم))(1).
__________
(1) التحرير والتنوير ( م13/ج27/429-430 ).(1/1)
... وأما التسمية الثانية لليهود والنصارى في آيات العهد المدني، فهي إطلاق اسم (بني إسرائيل)(1)عليهم، و (( إسرائيل اسمٌ أعجمي، وقد ذكروا أنه مركبٌ من –إيل– اسمٍ من أسمائه تعالى، و (إسرا) وهو العبد، أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر – وهو لقب سيدنا يعقوب - عليه السلام - ...وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب – تأكيدًا لتحريكهم إلى طاعته–... لأن الطبائع تميل إلى اقتفاء أثر الآباء – وإن لم يكن محمودًا– فكيف إذا كان؟ ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب – بناءً على أن الحسنة في نفسها حسنة– وهي من بيت النبوة أحسن– والسيئة في نفسها سيئة– وهي من بيت النبوة أسوأ))(2)، وقال بعضهم: «إسرا مشتقٌ من الأسر، وهو الشد، فكأن إسرائيل معناه الذي شده الله وأتقن خلقه. وقيل أسرى بالليل مهاجرًا إلى الله تعالى فسمي بذلك. وقيل أسر جنيًا كان يطفئ سرج بيت المقدس، وكان اسم الجني إيل، فسمي إسرائيل، وكان يخدم بيت المقدس، وكان أول من يدخل، وآخر من يخرج قاله كعبٌ. وقيل: أسرى بالليل هاربًا من أخيه عيصو إلى خاله، في حكايةٍ طويلةٍ ذكروها، فأطلق ذلك عليه. وهذه أقاويلٌ ضعافٌ ... وإذا جمعته جمع تكسيرٍ قلت : أساريل، وحكي: أسارلة وأسارل»(3)، وروي في سبب تسميته بهذا الاسم (( عن أبي مجلزٍ أن ملكًا سماه بذلك بعد أن صرعه وضرب على فخذه)) (4).
__________
(1) ينظر: البحر المحيط ( 1/173 )، ولهذا الأمر يخطئ الناس الآن في دعوتهم لدولة بني إسرائيل باسم إسرائيل لأنهم أبناءٌ له وليسوا هم إسرائيل نفسه.
(2) روح المعاني ( 2/383- 384)، وينظر: تفسير الرازي ( م2/ج1/32 )، وذكر الرازي فيه أنه خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب - عليه السلام - .
(3) البحر المحيط (1/171-172 ).
(4) روح المعاني ( م3/ج4/4 ).(1/2)
... أما التسمية الثالثة التي أطلقها عليهم الخطاب القرآني في العهد المدني فهي تسميتهم بالمؤمنين، وجاء ذلك في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم في السور المدنية(1)، وهذه المواضع الثلاثة هي قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ } [البقرة: 208] ، إذ قال الطبري: «قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في { الّذِينَ آمَنُواْ } المصدقون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبما جاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم(الإيمان)، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض»(2)، و قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [النساء: 136] ، وهنا قال السيوطي: «أخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ } الآية.
__________
(1) ذكر بعضهم الخلاف في المراد بها من الناس فلينتبه، وللإفادة أكثر يرجع إلى كتب التفسير للآيات المذكورة.
(2) تفسير الطبري: ( 4/256-257)، وينظر: تفسيرالبغوي: (1/240)، والبحر المحيط: ( 2/120 ).(1/3)
قال: يعني بذلك أهل الكتاب، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل، وأقروا على أنفسهم بأن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بعث الله رسوله، دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق، فمنهم من صدق النبي واتبعه، ومنهم من كفر»(1)، وفي قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصّادِقِينَ } [التوبة: 119] ، يقول الألوسي في هذه الآية: «الخطاب قيل : لمن آمن من أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله تعالى ورسوله الله - صلى الله عليه وسلم - على الطاعة: وجوز أن يكون عامًا لهم ولغيرهم فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في الدين نية وقولاً وعملاً، وأن يكون خاصًا بمن تخلف وربط نفسه بالسواري»(2).
وبهذا يظهر أن خطاب الله تعالى بـ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ } لم يكن قاصرًا على أهل الإسلام فقط، بل تجاوزهم ليكون خطابًا لأهل الكتاب، وقد رأينا سابقًا أن هذا النداء لم يكن قاصرًا كذلك على المؤمنين من أهل الإسلام بل شمل كذلك المنافقين(3)، وهذه صورةٌ بديعةٌ من تنوع خطاب الله تعالى لخلقه بندائهم بالتسمية نفسها، ولكن الذي يميزها هو سياق الخطاب.
وما نعلمه يقينًا أن خطاب الله تعالى لأهل الكتاب اعتمد على تقسيمهم على تقسيماتٍ متعددةٍ، من تلك التقسيمات التي اعتمدها الله تعالى في خطابه لأهل الكتاب، ما يأتي:
__________
(1) الدر المنثور: (1/414- 415)، وينظر: الكشاف: ( 1/609-610 )، والبحر المحيط: ( 3/371 ).
(2) روح المعاني: ( م7/ج11/64-65 ).
(3) ينظر صفحة (90)، وما بعدها من هذا البحث.(1/4)
1-تقسيمهم على طائفتين: يهودٍ ونصارى، ونجد ذلك في قوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [آل عمران: 65]، والتوراة كتاب اليهود، والإنجيل كتاب النصارى، ولم يكتف أهل الكتاب بالمحاجة وإنما زعموا أن { لَن يَدْخُلَ الْجَنّةَ إِلاّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [البقرة: 111]، وأصروا على ذلك لاعتقادهم بصحة دينهم، { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [البقرة: 135]، فرد الله تعالى عليهم زعمهم عند كلا قوليهم وكلا زعميهم.(1/5)
2-تقسيمهم على قسمين: علماء وأميين،قال الله تعالى: { لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ } [آل عمران: 113-114]، وأثبت الله تعالى لهم العلم في قوله تعالى: { لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 162]، وسوّغ الله تعالى جهل الجاهلين من أهل الكتاب بكتابهم بأمورٍ: منها ما ترجع إلى خلقهم، كالنسيان، قال الله تعالى: { وَمِنَ الّذِينَ قَالُواْ إِنّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مّمّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة: 14]، ومن أسباب الجهل كتمان علمائهم للعلم عن عمدٍ لتحقيق غرضٍ مادي، قال الله تعالى: { إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاّ النّارَ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة: 174]، وقال الله تعالى: { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً } [آل عمران: 187]، أو لتحريف(1/6)
العلماء الكتاب المنزل عليهم من الله، قال تعالى: { وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 78]، وقد يحرفه الجهال أنفسهم بعد معرفتهم بكل ما جاء فيه عنادًا واستكبارًا، قال الله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 75].(1/7)
3-تقسيمهم على قسمين: معاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وغير معاصرين،فأما المعاصرون له - صلى الله عليه وسلم - فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطبهم كما يأمره الله تعالى، قال الله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوَاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلّواْ كَثِيرًا وَضَلّواْ عَن سَوَآءِ السّبِيلِ } [المائدة: 77]، أو أن يخاطبهم الله تعالى بنفسه، كقوله تعالى: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهكَ وَإِلَه آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 133]، أما غير المعاصرين فهم قسمان: قسمٌ مضى في الزمان الأول، فهؤلاء خاطبهم الله تعالى ونقل لنا شيئًا من أخبارهم، قال الله تعالى: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوَاْ إِلاّ بِحَبْلٍ مّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } [آل عمران: 112]، وقد خاطبهم الله تعالى بالفعل المضارع (يكفرون ويقتلون) في هذه الآية تعليلاً لسبب ضرب الذلة والمسكنة(1)،
__________
(1) ينظر: روح المعاني ( م3/ج4/47 )..(1/8)
وهناك طائفةٌ من أهل الكتاب غير المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - ستأتي في آخر الزمان، قال الله عنهم: { وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [النساء: 159]، فـ(( الهاء في { موته } كنايةً عن عيسى - عليه السلام - ، معناه: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى - عليه السلام - ، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحدٌ إلا آمن به حتى تكون الملة واحدةً، ملة الإسلام.
وروينا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلاً يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويقتل الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنةً ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون »(1)، وقال أبو هريرة:« اقرأوا إن شئتم: { وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قبل موت عيسى بن مريم، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مراتٍ»(2) )) (3).
4-تقسيمهم على قسمين: محبِّين للمسلمين وغير محبين،وهذا ظاهرٌ في قوله تعالى: { لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنّ أَقْرَبَهُمْ مّوَدّةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [المائدة: 82].
__________
(1) الحديث رواه البخاري في صحيحه ( 3/1272 ) برقم(3264)، ومسلم في صحيحه ( 1/135) برقم(155)، وأبو عوانة في مسنده ( 1/98 ) برقم(311)، والبيهقي في السنن الكبرى ( 9/180 ).
(2) أنفسها.
(3) تفسير البغوي ( 2/308 ).(1/9)
5-تقسيمهم على قسمين: أمناء وغير أمناءٍ،ونجد ذلك في قوله تعالى: { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاّ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ إِلاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا } [آل عمران: 75].
6-كان خطاب الله تعالى لأهل الكتاب إما مباشرةً، أو عن طريق تلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقوم بخطابهم،فمن خطاب الله تعالى المباشر لهم، قوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ } [النساء: 171]، وأمر نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يأمرهم بمثل ذلك، فقال الله تعالى له: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ } [المائدة: 77].
طريقة خطاب الله تعالى لأهل الكتاب:
تنوعت صيغ خطاب الله تعالى لأهل الكتاب، على أنواعٍ يمكن إجمالها في الآتي: 1- خطاب الله تعالى لأهل الكتاب بصيغة الخطاب: وهذه الصيغة تعددت على أنواعٍ هي:
أولاً: الخطاب بالضمير (أنتم، أو بكاف الخطاب): وهذه الصيغة ظهرت في الآتي:(1/10)
-الخطاب بضمير المخاطب : أنتم، وهذه الصيغة جاءت في الغالب بعد أداةٍ من الأدوات النحوية، كحرف العطف (ثم) الذي دلّ على الاستبعاد في الوقوع وعلى التحقير، ولم يدل على الزمان(1)، في قوله تعالى: { ثُمّ أَنْتُمْ هَؤُلآءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنْكُمْ مّن دِيَارِهِمْ } [البقرة: 85]، على أن في اجتماع الضمير(أنتم) باسم الإشارة (هؤلاء) إشكال؛ ((لأن قوله: { أَنتُمْ } للحاضرين و { هَؤُلاء } للغائبين فكيف يكون الحاضر نفس الغائب، وجوابه من وجوه، أحدها: تقديره ثم أنتم يا هؤلاء، وثانيها: تقديره ثم أنتم أعني هؤلاء الحاضرين، وثالثها: أنه بمعنى الذي وصلته { تَقْتُلُونَ } ... ومثله في الصلة قوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسَى } [طه: 17] يعني وما تلك التي بيمينك، ورابعها: هؤلاء تأكيد لأنتم))(2)، وهذا يدل على استبعاد ما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم، والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك يا هؤلاء المشاهدون: يعني أنكم قوم آخرون غيرُ أولئك المقربين، تنزيلاً لتغير الصّفة منزلة تغير الذَّات كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به(3)،
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م1/ج1/491).
(2) تفسير الرازي (م2/ج3/185).
(3) ينظر: الكشاف (1/187)..(1/11)
أو جاء ضمير الخطاب بعد الظرف(إذ) الذي يتعلق بفعل مقدر يأتي للتذكير بما كان، كما في قوله تعالى: { أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مّسْلِمُونَ } [آل عمران: 80]، أو يأتي بعد أداة التنبيه، كما في قوله تعالى: { هَأَنْتُمْ هَؤُلآءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [آل عمران: 66]، فـ (( (ها) حرف تنبيهٍ، واطرد دخولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارةٍ نحو (ها أنا ذا) وكررت هنا للتأكيد، وذهب الأخفش(1) إلى أن الأصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاءً، ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم، وتعقبه أبو حيان(2) بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاءً في كلامهم إلا في بيتٍ نادرٍ(3)،
__________
(1) لم أجد هذا القول في معاني القرآن.
(2) ينظر: البحر المحيط ( 2/485 ).
(3) وهذا البيت هو قول جميل بثينة: (الكامل)
وأتَتْ صَواحبَهَا وقلنَ هَذَا الَّذي ... ... مَنَحَ المَودَّةَ غيرَنَا وَجَفَانَا.
يريد الشاعر أنها استفهمت عنه وأرادت ( أ ذا الذي ) فأبدلت الهمزة هاءً، وهذا البيت لم أجده في النسخة التي عندي من ديوان جميل، وإليه نُسب في لسان العرب مادة (ذا)، (15/450)، ولكنه رواه بقول: و(أتى)، وأورده أبو حيان في البحر المحيط ( 2/486 )، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب (2/554)، والمحتسب (1/181)، وشرح المفصل لابن يعيش (5/400)، والممتع في التصريف لابن عصفور (1/400)، ومغني اللبيب (455)، ولسان العرب مادة (ها)، (15/480).(1/12)
ثم الفصل بين الهاء المبدلة وهمزة (أنتم) لا يناسب؛ لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاءً، والإشارة للتحقير والتنقيص ))(1).
- الخطاب بما يحوي كاف المخاطب: ويشتمل على الآتي:
1 -الخطاب بكاف المخاطب متصلةً بأسماءٍ تخصُّ أهل الكتاب: جاء الخطاب بهذه الصيغة لتذكيرهم بآثامهم التي تلازمهم مع أن الله سيغفر لهم تلك الذنوب عند تحقيقهم لشرطه كما في قوله تعالى: { وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّدًا وَقُولُواْ حِطّةٌ نّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [البقرة: 58]، وعلى ذلك نجد أن غفران الله لخطاياهم متعلق بدخولهم الباب سجدًا وقولهم حطة.
2 – الخطاب بكاف الخطاب المتصلة بأدواتٍ نحويةٍ: وهذه الصيغة وردت مع حروف الجرِّ فقط، كـ (اللام)التي جاءت في سياق التوبيخ لهم، في قوله تعالى: { فَلِمَ تُحَآجّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } [آل عمران: 66]، و(على) التي جاءت في سياق الإنكار، في قوله تعالى: { وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } [البقرة: 85].
__________
(1) روح المعاني ( 3/312 )، وهذه الصيغة ( ها أنتم ) لم ترد في القرآن الكريم إلا في أربعة مواضع، كلها مدنية، فكانت خطابًا لأهل الكتاب كهذا الموضع، وخطابًا للمؤمنين، كما في آل عمران: الآية 119، والنساء: الآية 109، ومحمد: الآية 38.(1/13)
3 – الخطاب بدخول كاف الخطاب على أفعالٍ ماضيةٍ: وردت هذه الصيغة في ذمِّ الله تعالى لبني إسرائيل إذ كانوا يعاملون الأنبياء عليهم السلام أسوأ المعاملة، ففريقًا يكذبونه، وفريقًا يقتلونه، وما ذاك إلا لأن الأنبياء كانوا يأتونهم بالتشريعات المخالفة لأهوائهم وآرائهم، فلهذا كان ذلك يشق عليهم(1)؛ ولهذا قال تعالى لهم: { أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [البقرة: 87].
4 – الخطاب بدخول كاف الخطاب على أفعالٍ مضارعةٍ، وهذه الصيغة جاءت في آية واحدة فقط، إذ وردت في سياق الإخبار لهم على سبيل الإنكار عليهم لأنهم أدَّعوا على الأنبياء ما لم يقولوا به؛ إذ كانوا ينهونهم عن عبادة غير الله تعالى، قال تعالى: { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنّبِيّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مّسْلِمُونَ } [آل عمران: 80].
ثانيًا: النداء بلفظ يا (أيها الذين آمنوا) على سبيل الخطاب: وهذا الخطاب جاء في المواضع الآتية(2):
1- { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ } [البقرة: 208]
2- { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِي نَزّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِيَ أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [النساء: 136]
__________
(1) ينظر: تفسير ابن كثير (1/321).
(2) ينظر: صفحة (90) من هذا البحث، وما بعدها.(1/14)
ثالثًا: مجيء صيغة الخطاب بإلحاق تاء المخاطب بالأفعال: وهذه الصيغة وردت بسبق أداة استفهام للفعل المضارع المبدوء بتاء الافتعال على سبيل التقرير والتوبيخ لهم والتعجب منهم(1)، كما في قوله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44]، وقد تحذف أحدى التاءين من الفعل كما في قوله تعالى: { تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [البقرة: 85]، فالفعل (تظاهرون)، قرئ (تظَّهَّرون) بتشديد الظاء والهاء بعد إدغام التاء في الظاء(2)، و(( قرأ عاصمٌ وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء فحذفوا تاء التفاعل وأبقوا تاء الخطاب)) (3)، أي (تَظَهَّرون) من (تظاهر) وقرئ (( تتظاهرون على الأصل من غير حذفٍ ولا إدغامٍ(4)، وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتناصر من المظاهرة، كأن كل واحدٍ منهم يسند ظهره للآخر ليتقوى به، فيكون له كالظهر؛ قال(5) : -(الطويل)-
تَظَاهَرْتُمُ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ ... ... عَلَى وَاحِدٍ لاَ زِلْتُمُ قِرْنَ وَاحِدِ)) (6)
رابعًا: خطاب أهل الكتاب بصيغة الأمر: وهذه الصيغة جاءت على قسمين:
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م1/ج1/393).
(2) ينظر: مختصر في شواذ القراءات (7)، وتفسير البغوي ( 1/117 ) وما بعدها.
(3) تفسير البغوي ( 1/118 )، وينظر: الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، لمكي القيسي (1/2150)، والنشر في القراءات العشر (2/218)، وإتحاف الفضلاء البشر بالقراءات الأربع عشر[ة] (184).
(4) ينظر: أنفسها.
(5) البيت لم أقف عليه في كتب اللغة والأدب ولم أعرف قائله، وقد استشهد به القرطبي في تفسيره. ينظر: (2/20).
(6) الدر المصون في علوم الكتاب المكنون ( 1/285 ).(1/15)
القسم الأول: فعل الأمر (قولوا)، وذلك في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنّاسِ حُسْنًا } [البقرة: 83]، ويلحظ أن فعل الأمر (قولوا) جاء بعد صيغةٍ احتوت على تذكيرٍ لهم بالظرف (إذ)، لأنها لم ترد لمن عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما وردت على سبيل الحكاية لمَن سبق مِن أهل الكتاب.
القسم الثاني: اشتمل الخطاب فيه على فعل نهي وفعل أمرٍ: والفعل الأول جاء في آيات العهد المدني نهيًا لهم عن مجاوزة الحد في الدين، في قوله تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لّكُمْ } [النساء: 171]، أما الأمر فجاء لإيجاب إقامة الصلاة حق الإقامة وإيتاء الزكاة حق الإيتاء، في قوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مّعْرِضُونَ } [البقرة: 83].
2- خطاب الله تعالى لأهل الكتاب بصيغة الغائب وتشتمل على الآتي:
– الخطاب بضمير الغائب المنفصل: (هم)، إذ جاء خطاب الله لأهل الكتاب بهذا الضمير في سياقين متناقضين الأول مدح لبعضهم، وهذا المدح ظاهر في قوله تعالى: { لَيْسُواْ سَوَآءً مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران: 113]، أما السياق الثاني فجاء فيه الضمير لذمِّ بعضهم أيضًا، كما في قوله تعالى: { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [البقرة: 121].(1/16)
– الخطاب بإلحاق هاء الغائب بالفعل: كما في قوله تعالى: { وَلَمّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ } [البقرة: 101]، إذ الآية إنكار عليهم، والضمير لبني إسرائيل كلهم لا لعلمائهم فقط، والرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتنكير الرسول للتفخيم والتعظيم(1)، وجاء الخطاب لأهل الكتاب بإلحاق الهاء بالفعل في قوله تعالى: { وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللّهِ فَأَتَاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [الحشر: 2]، قال أبو السعود: «وتغييرُ النظم بتقديم الخبر وإسناد الجملةِ إلى ضميرِهم للدلالةِ على كمالِ وثوقِهم بحصانةِ حصونِهم واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزةٍ ومنعةٍ لا يُبَالى معها بأحدٍ يتعرضُ لهم أو يطمعُ في مُعازّتهم، ويجوزُ أن يكونَ مانعتُهم خبرًا لأنَّ وحصونُهم مرتفع على الفاعليةِ»(2)، وجاء هذا الخطاب بإلحاق الهاء بالأفعال المضارعة في قوله تعالى: { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146]، وفيه توكيد لنبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند علماء أهل الكتاب بتشبيه المعرفة الحاصلة من مطالعة الكتب بالمعرفة الحسية، في أن كلاً منهما يتعذر الاشتباه فيه(3)،وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس؛ لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولة بخلاف الأبناء فإنه لا يمر عليهم زمان إلا والأب يعرف ابنه(4)،
__________
(1) ينظر: تفسير أبي السعود (1/162)، وروح المعاني (م1/ج1/530).
(2) تفسير أبي السعود (5/702-703)، وينظر: الكشاف (4/499)، وروح المعاني (م15/ج28/57).
(3) ينظر: الكشاف (1/230).
(4) ينظر: روح المعاني (م2/ج2/18-19)..(1/17)
وذكر الله تعالى أبناءهم الذكور لأنهم أكثر مباشرة للآباء، وألصق بقلوبهم من البنات، لذا كان ظن اشتباه أشخاصهم أبعد(1).
– الخطاب بإلحاق هاء الغائب بالأدوات النحوية: وهذه الصيغة ورد ت في خطاب الله تعالى لأهل الكتاب، كما في إلحاق الهاء بـ(أن) التوكيدية، في قوله تعالى: { وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ اللّهِ } [الحشر: 2]، على أن الله تعالى لم يخاطبهم ابتداءً بالتوكيد وإنما خاطبهم بعد كلامٍ سابقٍ – كالآية السابقة – لذا لم يستخدم الحرف المشبه بالفعل (إنَّ) في خطابه مع أهل الكتاب البتة، و خاطبهم الله تعالى بالظرف (فوق) في قوله تعالى: { وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُواْ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رّبّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [المائدة: 66] على سبيل التوسعة. بمعنى أن الله سيفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض و سيكثر لهم الأشجار المثمرة والزروع المغلة و سيرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض تحت أرجلهم، ولكن ذلك بشرط إقامة أحكام الكتاب(2)، وخاطبهم الله تعالى بالظرف (قبل)، في قوله تعالى: { كَمَثَلِ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الحشر: 15]، فقوله تعالى { الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } كان بإدخال الجار فدلَّ على عدم استغراق زمان القبل بل على قرب هذا الزمن، من زمن المخاطبين ، وقد صرَّح الله تعالى بذلك حين قال في سياق خطابه لهم: { قَرِيبًا } .
3- خطابهم بالصيغ الأخرى: وهذه الصيغة انقسمت على قسمين هما:
__________
(1) ينظر: نفسه.
(2) ينظر: الكشاف (1/690) وما بعدها، وتفسير الرازي (م6/ج11/50)، وروح المعاني (م4/ج5/271).(1/18)
أولا: خطابه تعالى لهم بأسماء الإشارة: وهذا ظاهرٌ في قوله تعالى: { أُولَئِكَ الّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا والآخِرَة وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ } [آل عمران: 22]، لأنهم كانوا يكنزون الذهب ويقتلون الأنبياء(1)؛ فاستخدم الله تعالى في خطابهم (أولئك) ليدل على بعدهم في المنزلة، قال الألوسي عن اسم الإشارة بأنه: «للإيذان ببعد منزلتهم في فظاعة الحال» (2).
ثانيا: خطابه تعالى لهم بالأسماء الموصولة: وهذه الصيغة جاءت للدلالة على العموم، سواء أكانت في سياق المدح لهم كما في قوله تعالى: { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقّ تِلاَوَتِهِ } [البقرة: 121]، أم كانت في سياق الذم لهم، كما في قوله تعالى: { فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [البقرة: 59].
غايات خطاب الله تعالى لأهل الكتاب:
... لله عز وجل في خطابه مع أهل الكتاب غايةٌ واحدةٌ هي دعوتهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه من خلافٍ للإسلام ومعاداةٍ لأهله، وتنفيذ أوامر الله، واجتناب نواهيه، وهذا ظاهرٌ في ما مرَّ بنا من الآيات السابقة، وهم في هذا الأمر قد اختلفوا، في خطاب الله تعالى لهم، عن المؤمنين، في أن جميع أغراض الخطاب لهم كانت تتحدث عن أمر مخالفتهم للدين، وحربهم لأهل الإسلام، ولكن خطاب الله تعالى لأهل الإسلام كان في أمور الدنيا والدين، والمعاملات والعبادات وغيرها، لذا كان الخطاب من الله تعالى لأهل الكتاب أقل من حيث الصور التركيبية، عمَّا كان عليه الحال مع أهل الإسلام.
... ... * خطاب الله سبحانه و تعالى للمشركين:
__________
(1) ينظر: الآية التي قبلها.
(2) روح المعاني (م3/ج3/177).(1/19)
... الشرك جعل الناس أندادًا لله يعبدونهم ويدعونهم كما يعبدون الله ويدعونه، وما جعلني أضع المشركين في هذا المبحث هو جمع الله تعالى للمشركين وأهل الكتاب في آيةٍ واحدةٍ، في غير ما موضعٍ من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ } [البينة: 1]، ثم إن الأمر الجامع لهم هو الكفر بالله تعالى وبنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ولهذا تحالف هذان الطرفان في حربهم على أهل الإسلام كما في غزوة الخندق وغيرها.
طريقة خطاب الله تعالى للمشركين:
تنوعت صيغ خطاب الله تعالى للمشركين، على أنواعٍ يمكن إجمالها في الآتي:
1- خطاب الله تعالى للمشركين بصيغة الخطاب: وهذه الصيغة تعددت على أنواعٍ هي:(1/20)
أولاً: الخطاب بالضمير (كاف الخطاب): وهذه الصيغة ظهرت في الخطاب بكاف الخطاب المتصلة بأدواتٍ نحويةٍ: إذ وردت هذه الصيغة في خطاب الله تعالى للمشركين مع حروف الجر، كـ (اللام) في قوله تعالى: { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [التوبة: 3] إذ خطابهم الله تعالى فيها بقوله: { فَإِن تُبْتُمْ } من الكفر والغدر بنقض العهد { فَهُو } أي التوب { خَيْرٌ لَّكُمْ } في الدارين وفي هذا الأمر التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التهديد والتشديد(1)، لأن الآية تعود على خطاب الله تعالى في أول الآية، والفاء الأولى في (فإن) لترتيب مقدم الشرطية على الأذان المذيل بالوعيد الشديد، أما لفظ البشارة فكان وروده هنا على سبيل الاستهزاء بهم كما يقال: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم(2)، وهي– أي البشارة– تلوينٌ للخطاب وصرفٌ له عنهم إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - لأن البشارة { بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وإن كانت بطريق التهكمِ إنما تليق بمن يستطيع إخبارهم بالغيب(3)، وجاء خطاب الله تعالى لأهل الكتاب بهذه الصيغة مع أداة الترجي في قوله تعالى: { وَاذْكُرُوَاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الأنفال: 26]، فالخطاب هنا للتذكر لا لذكر اللسان، أي تَذَكروا، و(إذْ) دليل ذلك، أي اذكروا زمن كنتم قليلاً(4)،
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م6/ج10/70)، وفتح القدير (683).
(2) ينظر: تفسير الرازي (م8/ج15/231).
(3) ينظر: تفسير أبي السعود (2/382).
(4) ينظر: التحرير والتنوير (م6/ج/282)..(1/21)
وجيء بالجملة الاسمية (أنتم قليل) للدلالة على ثبات وصف القلة والاستضعاف فيهم(1)، كما أخبر بـ { قَلِيلٌ } وهو مفرد عن ضمير الجماعة؛ لأن قليلاً وكثيرًا قد يجيئان غير مطابقين لما جريا عليه(2)، فعِلَّة أمر الله تعالى لهم بالتذكر، لعلهم يشكرون الله على تلك النعمة.
__________
(1) ينظر: تفسير البغوي (3/347)، وتفسير ابن عطية (م2/ج6/5)، وروح المعاني ( م6/ج9/282 ).
(2) ينظر: التحرير والتنوير (م5/ج9/319).(1/22)
ثانيًا: مجيء صيغة الخطاب بإلحاق تاء المخاطب بالأفعال: وهذه الصيغة جاءت في خطاب الله تعالى لأهل الشرك في قوله تعالى: { إن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 19]، وهذا الخطاب من الله تعالى جاء بالتهكم والسخرية منهم(1)، ودليل هذا الأمر أن في (جاءكم الفتح) تشبيه بمجيء المُنجد، إذ جعل الخطابُ الفتحَ قادمًا إليهم. وهذا يقتضي أن النصر كان في جانبهم ولمنفعتهم، ولكن الواقع يخالف ذلك، فعُلم أن الخبر مستعمل في التهكم بقرينة مخالفته الواقع بمسمع المخاطبين ومرآهم(2)، وجاءت هذه الصيغة في آيات العهد المدني في سياق التهديد لهم، قال تعالى: { فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ حَسْبِي اللّهُ } [التوبة: 129] وفي هذه الآية التفات للكلام من خطاب المشركين إلى خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطَبُوا هُم به اعتمادًا على قرينة حرف (الفاء) فقيل له: { فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ حَسْبِي اللّهُ } ، والتقدير: فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله(3). فجاء الخطاب المدني بهذا النظم البديع الإيجاز مع ما فيه من براعة الإيماء إلى عدم تأهلهم لمخاطبة الله لهم بسبب توليهم عنه(4).
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م6/ج9/272)، وفتح القدير (656)، و التحرير والتنوير (م5/ج9/29).
(2) ينظر: التحرير والتنوير (م5/ج9/29).
(3) ينظر: نفسه (م6/ج11/73).
(4) ينظر: التحرير والتنوير (م6/ج11/73).(1/23)
ثالثًا: خطاب المشركين بصيغة الأمر: وهذه الصيغة جاءت في خطاب الله تعالى لهم، في قوله تعالى: { فَسِيحُواْ فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } [التوبة: 2]، ففي هذه الآية وجدنا ضمير الخطاب في فعل الأمر موجهًا إلى المشركين، فالكلام على ذلك من الالتفات. لأن التقدير: فليسيحوا في الأرض(1) بسبب عود الضمير في الفعل على الموصول (الذين) المذكور في الآية السابقة لها، ونكتة هذا الالتفات إبلاغُ الإنذارِ إليهم مباشرة(2) ليكون أبلغ في إخافتهم.
2- خطاب الله تعالى للمشركين بضمير الغائب الـ(هاء) : وهذه الصيغة انقسمت على الآتي:
__________
(1) ينظر: نفسه (م6/ج10/111).
(2) ينظر: نفسه.(1/24)
أولاً: الخطاب بإلحاق الهاء بالأسماء الخاصةِ بهم: وهذا الخطاب جاء في قوله تعالى: { وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوَاْ إِثْمًَا وَلَهْمُ عَذَابٌ مّهِينٌ } [آل عمران: 178]، فحاصل هذا الخطاب لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم، أو أن الذي نمليه خير لأنفسهم، أو أن الخيرية في الذي نمليه لهم ثابتة أو واقعة بناءً على حسبان خيريته لهم(1)، لأن هذا الإملاء كان حتى يزدادوا إثمًا ويحل عليهم العذاب، وفي هذا تحسيرهم ببيان أنه شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ(2)، وجاءت هذه الصيغة أيضًا في قوله تعالى: { وَإِن نّكَثُوَاْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوَاْ أَئِمّةَ الْكُفْرِ إِنّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلّهُمْ يَنتَهُونَ } [التوبة: 12]، وهنا أمر الله تعالى بقتلهم لأنهم نكثوا الأيمان وطعنوا في الدين، وقد عبّر الله تعالى بوضع الاسم الظاهر بدلاً عن الضمير فسمَّاهم (أئمة)، لأنهم صاروا بذلك رؤساء متفوقين على غيرهم؛ بنكثهم الأيمان وطعنهم في الدين(3).
__________
(1) ينظر: تفسير أبي السعود (1/456).
(2) ينظر: الكشاف (1/472) وما بعدها.
(3) ينظر: روح المعاني (م6/ج10/86).(1/25)
ثانيًا: الخطاب بإلحاق هاء الغائب بالفعل: وهذه الصيغة جاءت في قوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ } [البقرة: 193] (1)، فهي (( عطفٌ على { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } (2). والأول مسوقٌ لوجوب أصل القتال وهذا لبيان غايته، والمراد من الفتنة الشرك... ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف لقوله سبحانه: { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } (3) )) (4) وكان المطلوب من المشركين الإسلام أو القتل لأن مشركي العرب لا يسترقون، و لا تؤخذ منهم الجزية، على أصح الأقوال(5).
ثالثًا: الخطاب باقتران (هاء) الغائب بالأدوات النحوية: وهذه الصيغة وردت مع حرف الجرِّ: (اللام)، في قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } [المائدة: 104]، إذ أظهر الله تعالى عنادهم، وانقيادهم للداعي إلى الضلال(6)، ومع ذلك، حالهم عجيبة في أنّهم يقبلون ادّعاء آبائهم أنّ الله أمرهم بما اختلقوا من ضلالات، مثل البحيرة والسائبة وغيرها، ويعرضون عن دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلا حجّة!
3- خطابهم بالصيغ الأخرى: وهذا الخطاب اشتمل على الآتي:
__________
(1) ورد بمثلها في الأنفال: 39.
(2) البقرة: 190.
(3) الفتح: 16.
(4) التحرير والتنوير ( م12/ج26/80-82 ).
(5) ينظر: روح المعاني ( م14/ج25/62 ).
(6) ينظر: نفسه (م5/ج7/64).(1/26)
أولاً: خطاب الله تعالى للمشركين بأسماء الإشارة: وهذه الصيغة وردت في قوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ } [آل عمران: 91]، وفي هذه الصيغة دخلت الفاء على أداة النصب لتدل على أن الكلام مبني على الشرط(1)، لأن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر، ودخول الواو على (لو) جاء ليدل على الغضب لأن السيد يغضب ((على بعض عبيده، فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها البتة إلا أنه قد يقبل منه الفدية، فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضًا كان ذلك غاية الغضب. والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية، فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهبًا ولو كان واقعًا على سبيل الفداء تنبيهًا على أنه لما لم يكن مقبولاً بهذا الطريق، فبأن لا يكون مقبولاً منه بسائر الطرق أولى))(2).
__________
(1) ينظر: تفسير الرازي (م4/ج8/146).
(2) نفسه، وينظر: تفسير أبي السعود (1/383).(1/27)
ثانيا: خطابه لهم بالأسماء الموصولة: وهذه الصيغة وردت مع اسم من الأسماء الموصولة وهو (الذين) إذ جاء في قوله تعالى: { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [التوبة: 7]، وهذا الخطاب فيه إنكار لوقوع العهد لهم من الله تعالى(1)، فمعناه الجحد، أي: لا يكون لهم عهد عند الله، ولا عند رسوله، وهم يغدرون وينقضون العهد، ثم استثنى { إِلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُمْ } وهم المستثنون فيما سلف، لكون المعاهدة { عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } لزيادة بيان أصحابها وهم كفار قريش، إلا إن هذا الاستثناء منقطع لأنه بمعنى الاستدراك المشروط باستقامتهم على العهد(2).
ثالثا: خطابه لهم بصفاتهم: لقد وصف الله تعالى المشركين بصفاتٍ متعددةٍ، منها السَّفه، كما في قوله تعالى: { سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [البقرة: 142]، والمحادَّة كما في قوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ يُحَآدّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [المجادلة: 5]، والأمِّية كما في قوله تعالى: { هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ } [الجمعة: 2].
غايات خطاب الله تعالى للمشركين:
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (14/141).
(2) ينظر: تفسير أبي السعود (2/385).(1/28)
... لم تختلف غايات خطاب الله تعالى للمشركين عن غاياته مع أهل الكتاب، ولكن جعل الله تعالى لأهل الكتاب الفسحة، فإما الإسلام وإما الجزية والبقاء على دينهم، ولكن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو القتل، وهذا لأن أهل الكتاب أهل علمٍ قد يسلمون بعد أن يختلطوا بالمسلمين، ولكن المشركين أميون ليس عندهم إلا التمسك بما كان عليه الآباء، و لربما-أيضًا- لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم، ويعرفونه أفضل من أهل الكتاب- فهو من جنسهم - ولكنهم مع ذلك كابروا وحاربوه ومكروا معه المكر الكبير الذي لم يكن له جزاءٌ إلا رد المثل، ولعل السبب –أيضًا-أن الله تعالى أراد أن يجعل الجزيرة العربية كلها على ملةٍ واحدةٍ؛ حتى يفرغ العرب لدعوة الأقوام الآخرين إلى الدين بغير ما يشغل بالهم من القلق وبلبلة الفكر عند خروجهم من أرضهم، فالمنافقون وما يقومون به كافٍ للمسلمين، ولهذا قال الله فيهم: { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [الفتح: 16]، على أن الله تعالى في خطابه للمشركين لم يجعله حكرًا على الرجال فقط بل ذكر الله تعالى نساءً مشركاتٍ كنَّ تحت عبادٍ صالحين، نوعًا من العظة والتخويف للمشركين، وكدليل على أن الله تعالى لن يرحمهم، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من جنسهم ونسبهم، كما في قوله تعالى: { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لّلّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ } [التحريم: 10].(1/29)
الفصل الثاني المبحث الرابع
خطاب الله سبحانه وتعالى للفئات الأخرى
- خطاب الله تعالى للملائكة.
- خطاب الله تعالى للجن.
- خطاب الله تعالى للناس أجمعين.
- خطاب الله تعالى لأفراد مخصوصين ولجماعة مخصوصة.
...
سيتم في هذا المبحث تناول الفئات التي نزل القرآن الكريم وفيه خطابٌ لها، من الكائنات التي خلقها الله تعالى في العالمين، وفي هذا الإطار سيتم إن شاء الله تناولهم بحسب ترتيبهم الزمني في الخلق.
فمما هو معلومٌ من الدين أن الله تعالى خلق الملائكة أولاً ثم خلق الجن، ثم بني آدم، ولهذا يكون ترتيب المخاطبين بحسب هذا الترتيب المذكور، ولم أذكر هؤلاء المخاطبين في المباحث السابقة، لأن كل مبحثٍ من المباحث السابقة تناولت فيه الحديث عن طائفةٍ محددةٍ ممن كانوا في حيز التكليف، ولكن خطاب الله تعالى لهذه الطوائف، التي سيتم تناولها كان خطابًا قصيرًا وفي موضعٍ أو موضعين، لذا لم يكن بذلك الخطاب الذي يصح أن يستقل بمبحثٍ خاصٍ به، ثم إن خطاب الله تعالى لهم لم يرد بتلك الطرائق التي ذكرتها للطوائف السابقة، بل جاء إما على سبيل الحكاية بما أمر الله تعالى هؤلاء القوم كما هو الحال في خطابه تعالى مع الأنبياء السابقين كإبراهيم - عليه السلام - ، وموسى - عليه السلام - ، وعيسى - عليه السلام - ،أو صاحب الحمار، أو أن يكون خطاب الله تعالى لهم في أمر واقعةٍ واحدةٍ حصلت، كخطاب الله تعالى للملائكة في غزوة بدرٍ، و غزوة حنينٍ وغزوة الخندق، ولكن خاطبهم الله تعالى بالأمر في قصتهم مع آدم - عليه السلام - حين طلب منه أن يخبرهم بأسماء الأشياء، أو بذكرهم على سبيل معرفة الناس بهم، كما في خطاب الله تعالى للجن، أو ذكرهم من غير تحديد مخاطبٍ معينٍ إذ يصح أن يكون الخطاب لكل من سبق ذكره كما في خطاب الله تعالى للناس أجمعين.
* خطاب الله تعالى للملائكة:
انقسم خطاب الله تعالى للملائكة، في السور المدنية، على قسمين:(1/1)
القسم الأول: الخطاب القديم، وهذا الخطاب لهم إما هو خطاب استشارةٍ، مع علم الله تعالى القديم بذلك الأمر، فقد (( قيل: خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب؛ لا للمشورة، ولكن لاستخراج ما عندهم. وقيل: خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال، فيجابون بذلك الجواب، وقيل لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم))(1)، وفيه تعليمٌ لأمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بمبدأ الشورى. وهذا ظاهرٌ في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30]، فلما أخبرهم الله تعالى بخلقه لهذا الخليفة كان في استفهامهم ((استكشافٌ عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة وليس استفهامًا عن نفس الجعل والاستخلاف لأنهم قد علموه قبل، فالمسئول عنه هو الجعل ولكن لا باعتبار ذاته بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته، أو تعجبٌ من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الفساد مثلهم أو مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وقيل استفهامٌ محضٌ حذف فيه المعادل – أي: أتجعل فيها من يفسد أم تجعل من لا يفسد– وجعله بعضهم من الجملة الحالية– أي (أتجعل فيها– كذا– ونحن نسبح بحمدك) أم نتغير وعلى كل تقديرٍ ليست الهمزة للإنكار.))(2)، واستخدام الله تعالى للظرف (إذ) لتذكير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و حرف الجر (اللام) للتبليغ(3).
__________
(1) فتح القدير( 78 ).
(2) روح المعاني ( م1/ج1/352 ).
(3) ينظر: نفسه ( م2/ج2/348 ).(1/2)
وحتى يريهم الله تعالى الحكمة من الاستخلاف ومن الخلق لآدم أراهم الله تعالى بمثالٍ لهم حكمةَ خلق البشر، فقال تعالى: { وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَؤُلآءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاّ مَا عَلّمْتَنَآ إِنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [البقرة:31-32].
وإما أن يكون خطاب الله تعالى لهم خطاب أمرٍ، وهو الحاصل بعد خلق آدم - عليه السلام - ،وبعد تعليمه أسماءَ الأشياء، وهذا الخطاب جاء في قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ } [البقرة: 34].(1/3)
القسم الثاني: الخطاب الحديث – بالنسبة إلى العهد المدني الذي قيل فيه ذلك الخطاب – وهذا الخطاب هو خطاب الأمر لهم بتثبيت المؤمنين، كما في قوله تعالى: { إِذْ يُوحِي رَبّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12]، فالأمر (فثبتوا) للملائكة، وبقية الأوامر في موضع خلافٍ فقيل هي للملائكة وقيل هي للصحابة(1) - رضي الله عنهم - ، قال الألوسي في تفسيره: «وقوله سبحانه وتعالى: { فَاضْرِبُواْ } الخ جملة مستعقبة للتثبيت بمعنى لا تقتصروا على تثبيتهم وأمدوهم بالقتال عقيبه من غير تراخ، وكأن المعنى أني معكم فيما آمركم به فثبتوا واضربوا. وجيء بالفاء للنكتة المذكورة، ووسط { سَأُلْقِي } تصديقًا للتثبيت وتمهيدًا للأمر بعده، وعلى الاحتمالين تكون الآية دليلاً لمن قال: إن الملائكة قاتلت يوم بدر، وقال آخرون: التثبت بغير المقاتلة، وقوله عز وجل: { آمَنُواْ سَأُلْقِي } تلقين منه تعالى للملائكة على إضمار القول على أنه تفسير للتثبيت أو استئناف بياني، والخطاب في { فَاضْرِبُواْ } للمؤمنين صادرًا من الملائكة حكاه الله تعالى لنا، وجوز أن يكون ذلك الكلام من جملة الملقن داخلاً تحت القول، كأنه قيل: قولوا لهم قولي { سَأُلْقِي } الخ، أو كأنه قيل: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قولي { سَأُلْقِي } الخ، ولا يخفى أن هذا القول أضعف الأقوال معنى ولفظًا. وأما القول بأن { فَاضْرِبُواْ } الخ خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال، وأنى ذلك؟ والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الواقعة، وبالجملة الآية ظاهرة فيما يدعيه الجماعة من وقوع القتال من الملائكة»(2)،
__________
(1) ينظر: تفسير البغوي( 3/334 ).
(2) روح المعاني ( م6/ج9/258 )..(1/4)
ولأن الخطاب كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقت الحاجة إليه خاطب الله - عز وجل - الملائكة بصيغة المضارع في قوله: { إِذْ يُوحِي } ، فهذا الفعل يدل على أن وقت القول في أثناء المعركة،وعلى ذلك كان الخطاب بالفعل (فاضربوا) صادرٌ من الله للملائكة كما رجحّ ذلك الألوسي، وليس من الملائكة للمؤمنين.
... ... * خطاب الله تعالى للجن:(1/5)
هؤلاء الخلق لم يَرِد لهم خطابٌ من الله تعالى في العهد المدني، إلا ما جاء عامًا في الخطاب كـ { يَا أَيّهَا النّاسُ } ، فإن من أهل التفسير واللغة من عدَّ الجن في عموم معنى كلمة الناس لمعنى هذه الكلمة اللغوي(1)، ولم يرد لهم ذكرٌ في العهد المدني إلا في سورة الناس، إذ ذكر الله تعالى الجن بقوله: { مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ } [الناس: 6]، وورد من أسماء الجن اسمُ إبليس، قال تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [البقرة: 34]، وهو على أرجح الأقوال من الجن، و هذا الترجيح كان استدلالاً ((بقوله تعالى: { فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ } (2)، وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة – كما روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها(3)– خلقوا من النور وخلق الجن من { مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } (4)، وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكايةً عنه: { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } (5)،
__________
(1) ينظر: البحر المحيط ( 1/52 )، وروح المعاني ( م2/ج2/233-2334 )، والقاموس المحيط ( 579 ).
(2) الكهف: 50.
(3) الحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو في مسند أحمد ( 6/153 ) برقم(25235)، وفي صحيح مسلم (4/2294 ) برقم (2996)، وفي السنن الكبرى للبيهقي (9/3)، وفي مسند ابن راهويه ومسند عبد بن حميد، وشعب الإيمان للبيهقي، وغيرها.
(4) الرحمن: 15.
(5) الأعراف: 12، وسورة ص: 76..(1/6)
وعدَّ تركه السجود – إباءً واستكبارًا حينئذٍ– إما لأنه كان ناشئًا بين الملائكة مغمورًا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل، أو لأن الجن أيضًا كانوا مأمورين مع الملائكة، ولكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن، أو لأنه – عليه اللعنة– كان مأمورًا صريحًا لا ضمنًا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى: { إِذْ أَمَرْتُكَ } (1)، وضمير { فَسَجَدُوَاْ } راجعٌ للمأمورين بالسجود. )) (2)، وهذا الاسم علمٌ على واحدٍ من الجن نسبًا ومن الملائكة وظيفةً، في رأي الدكتور عودة خليل، ثم إن إبليس، كما هو معلومٌ من الدين، هو الشيطان(3) عند إطلاق هذا الاسم من غير تقييدٍ أو جمعٍ في القرآن الكريم، لأن الله تعالى قد استخدم اسم الشياطين للدلالة على شياطين الإنس والجن في عددٍ من الآيات(4).
__________
(1) الأعراف: 12.
(2) روح المعاني ( م1/ج1/365 ).
(3) ينظر: التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن، لـ د. عودة خليل ( 475 ).
(4) منها ما جاءت في البقرة: 34- 36.(1/7)
كما ذكر الله - عز وجل - الشياطين في الخطاب المدني في آياتٍ، قال تعالى: { وَاتّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [البقرة: 102]، والفعل { تَتْلُواْ } معناه تتبع أو تقرأ وهو حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، والأصل تلت، ((أي: ما تلت، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي، والماضي موضع المستقبل، وقيل: ما كانت تتلو أي تقرأ)) (1). والأخير قول الكوفيين(2). و المعنى المتبادر أن معنى كلمة ((الشياطين مردة الجن وهو قول الأكثرين، وقيل: المراد بهم شياطين الإنس، وهو قول المتكلمين من المعتزلة. وقرأ الحسن والضحاك (الشياطون)(3) على حد ما رواه الأصمعي عن العرب بستان فلانٍ حوله بساتون(4)، وهو من الشذوذ بمكانٍ حتى قيل: إنه لحنٌ،والشياطين جمع تكسيرٍ وإجراؤه مجرى الصحيح كما في بعض الشواذ { تَنزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطُونَ } (5) لغةٌ غريبةٌ جدًا))(6)،
__________
(1) تفسير البغوي ( 1/126 ).
(2) ينظر: روح المعاني ( م1/ج1/532 ).
(3) تنظر القراءة في: مختصر في شواذ القراءات (8)، وهمع الهوامع ( 1/176 )، وهي في اللسان ( 13/238 )، ومعجم القراءات (1/163).
(4) ذكره الزمخشري في الكشاف ( 1/199 ).
(5) الشعراء: 110.
(6) روح المعاني (م1/ج1/532 )..(1/8)
وقراءة (الشياطين) كجمعٍ للتكسير جاءت في القرآن في قوله تعالى: { وَإِذَا لَقُواْ الّذِينَ آمَنُواْ قَالُوَا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوَاْ إِنّا مَعَكْمْ إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة: 14]، وقد ذكر الله تعالى الشياطين بصيغة الإفراد في قوله تعالى: { فَأَزَلّهُمَا الشّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } [البقرة: 36].
وفي سورة الناس ذكر الله تعالى الجن قبل الإنس فقال تعالى: { مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ } [الناس: 6]، وسبب تقدم { الْجِنّةِ } على { النّاسِ } هنا أنهم أصل الوسواس بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِيّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } [الأنعام: 112]، لأن خبثاء الناس أشد مخالطةً للأنبياء من الشياطين، والجِنَّةُ اسم جمع جنِّيٍّ بياء النسب إلى نوع الجِنِّ(1).
* خطاب الله تعالى للناس أجمعين
__________
(1) قال ابن منظور: «والجنة الجن ومنه قوله تعالى { من الجنة والناس } أجمعين... سميت بذلك لأنها تخفى ولا ترى». اللسان، مادة، (جنن)، ( 13/93).(1/9)
تركز خطاب الله تعالى للناس أجمعين، في السور المدنية، في أسلوب النداء، وقد جاء ذلك في خمسة مواضع من السور المدنية، الأول: أمرٌ بما يصلح به الدين كقوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } [البقرة: 21]، والثاني: بما يصلح الأبدان التي تعبد الله، في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّاسُ كُلُواْ مِمّا فِي الأرْضِ حَلاَلاً طَيّبًا وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ } [البقرة: 168]، ثم زادهم الله تعالى أمرًا بزيادة الدين عن طريق تقواه في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء: 1]، وتوكيدًا على ذلك الأمر ذكرهم الله بإرساله الرسل إليهم بالحق، كما في قوله تعالى: { يا أيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء: 170]، و وكد رسالة رسوله بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - برهانٌ لا شك فيه، قال تعالى: { يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مّبِينًا } [النساء: 174].
* خطاب الله تعالى لأفراد مخصوصين وجماعة مخصوصة
لقد خاطب الله تعالى بالقرآن الكريم وتحديدًا في العهد المدني أفرادًا من الناس جاء ذكرهم على سبيل الحكاية، كالقصص القرآني، وهؤلاء المخاطبون انقسموا في خطاب الله تعالى على قسمين:
القسم الأول: هم الأفراد، وهؤلاء الأفراد ينقسمون على الآتي:(1/10)
أ-إما أن يكونوا أنبياء، كما في خطاب الله تعالى لآدم - عليه السلام - وزوجه، إذ كان خطاب الله تعالى لهما خطاب توجيهٍ وإرشادٍ بما يصلح من حالهما، قال الله تعالى: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظّالِمِينَ } [البقرة: 35]، ولم يُعِدِ الله تعالى الخطاب إليهما في غير هذه السورة وهذا الموضع من سور العهد المدني. وفي خطاب الله تعالى لإبراهيم - عليه السلام - ، وكان خطاب الله تعالى له بما يصلح قلبه ودينه، قال الله تعالى له: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مّلّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصّالِحِينَ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ } [البقرة:130-132] ، وبعد ذلك الأمر من الله تعالى له بالإسلام، أراد نبي الله - عليه السلام - أن يطمئن قلبه، فدارت بينه وبين الله - عز وجل - المحاورة الآتية في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىَ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لّيَطْمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ الطّيْرِ فَصُرْهُنّ إِلَيْكَ ثُمّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنّ جُزْءًا ثُمّ ادْعُهُنّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة: 260]، فكل خطاب الله تعالى له كان بذكر الظرف (إذ) لأنه يستخدم هذا الخطاب لإخبار المؤمنين بواقعة حصلت في الزمن الماضي(1).
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (5/485 )(1/11)
وقد خاطب الله تعالى زكريا - عليه السلام - ، في قوله: { قَالَ رَبّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [آل عمران: 40]، على أن هذا الخطاب يحتمل أن يكون من الملائكة له وليس من الله تعالى(1), لأن الله تعالى ذكر في الآية السابقة قوله: { فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي الْمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّهِ وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مّنَ الصّالِحِينَ } [آل عمران: 39]، قال الرازي : «قوله { رَبِّ } خطاب مع الله أو مع الملائكة، لأنه جائز أن يكون خطابًا مع الله، لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوه هم الملائكة، وهذا الكلام لا بد أن يكون خطابًا مع ذلك المنادي لا مع غيره، ولا جائز أن يكون خطابًا مع الملك، لأنه لا يجوز للإنسان أن يقول للملك: يا رب.
__________
(1) ينظر: تفسير البغوي ( 2/35 )(1/12)
والجواب: للمفسرين فيه قولان الأول: أن الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا - عليه السلام - ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى، و(الثاني) أنه خطاب مع الملائكة والرب إشارة إلى المربي، ويجوز وصف المخلوق به، فإنه يقال: فلان يربيني ويحسن إلي. »(1). وجاء في العهد المدني خطاب الله تعالى لمريم عليها السلام: وكان خطاب الله تعالى لها بالصورة نفسها التي استخدمها الله تعالى مع زكريا - عليه السلام - ؛ إذ جاء قوله تعالى: { قَالَتْ رَبّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران:47]، لأن النداء في الآية السابقة كان من الملائكة لها عليها السلام، وقد مرَّ بنا سابقًا جزء من خطاب الله تعالى لموسى - عليه السلام - ولعيسى - عليه السلام - عند حديثي عن أهل الكتاب، في المبحث السابق، فلا داعي لعوده هنا خوفًا من الإطالة.
__________
(1) تفسير الرازي ( م4/ج8/42 ).(1/13)
ب- وإما أن يكون هؤلاء الأفراد أشخاصًا مختلفًا في ماهيتهم، كما في خطاب الله تعالى لصاحب الحمار: وهذا هو الشخص الوحيد الذي ذكره الله تعالى في السور المدنية، على خلافٍ في اسمه واسم القرية التي مرَّ بها(1)، وعرض الله تعالى خبره في قوله تعالى: { أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 259].
__________
(1) قال البغوي في تفسيره : ((واختلفوا في ذلك المار، فقال قتادة وعكرمة والضحاك: هو عزير بن شرخيا، وقال وهب بن منبه: هو أرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون، وهو الخضر وقال مجاهد: هو كافر شك في البعث، واختلفوا في تلك القرية فقال وهب وعكرمة وقتادة: هي بيت المقدس، وقال الضحاك: هي الأرض المقدسة، وقال الكلبي: هي دير سابر أباد، وقال السدي: مسلم باذ، وقيل ديرهرقل، وقيل: هي الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وقيل: هي قرية العنب، وهي على فرسخين من بيت المقدس.)) تفسير البغوي ( 1/317 ).(1/14)
أما القسم الثاني: فهو خطابه تعالى لجماعةٍ مخصوصة من الناس، خالفت منهاجه الذي أنزله على رسله، وهذه الجماعة التي خاطبها الله تعالى هم (الصابئة)، قال تعالى: { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [المائدة: 69]، ففي هذه الآية دلالة على أنَّ الصابئينَ، مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلِّها، قُبلت توبتهم، إن صحَّ منهم الإيمان والعمل الصالح، لذا غيرهم أولى منهم بقبول توبته(1)، إن رجع وعمل صالحًا.
__________
(1) ينظر: تفسير أبي السعود ( 2/70 ).(1/15)
الفصل الثالث المبحث الأول
المستوى الصوتي في خطاب العهد المدني
- الفاصلة القرآنية في الخطاب المدني.
- الحكاية الصوتية في الخطاب المدني.
- المناسبة الصوتية في الخطاب المدني.
- حسن التأليف في الخطاب المدني.
إن النظام الصوتي للغة العربية يدرس الأصوات مستخدمًا في دراسته العناصر الآتية(1):
1– معطيات علم الأصوات، وهذه المعطيات هي أوصافٌ للحركات العضوية التي يقوم بها الجهاز النطقي، في أثناء النطق، وكذلك الآثار السمعية المصاحبة لهذه الحركات. ويقوم هذا الوصف على الملاحظة الذاتية أو الخارجية من قبل الباحث أو المتكلم.
2– طائفة من العلاقات العضوية الايجابية وطائفة من العلاقات الخلافية للتفريق بين أي صوتٍ وصوتٍ آخرٍ، ولو من جهةٍ واحدةٍ في الأقل، وقد تكون أكثر من جهةٍ، وذلك كالعلاقة بين الباء والميم، إذ تشتركان بالعلاقة العضوية في المخرج الشفوي والجهر(2)، وتفترقان بالقيمة الخلافية، فبينهما مقابلةٌ، من حيث الأنفية وعدمها والشدة وعدمها(3).
__________
(1) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها ( 34-35 ).
(2) ينظر: الأصوات اللغوية، لـ د. إبراهيم أنيس (45).
(3) ينظر: نفسه، وعلم الأصوات، لـ د. حسام البهنساوي (72).(1/1)
... فمعطيات علم الأصوات والعلاقات الخلافية هي العناصر التي يتكون منها النظام الصوتي في اللغة العربية، وفي ضوء ذلك سيتم تناول الدرس الصوتي في خطاب القرآن الكريم للعهد المدني، وتتبع القيم الصوتية في آيات الخطاب المدني، وقد قسمت القيم الصوتية، التي سيتم على ضوئها تناول الدرس الصوتي على أربع قيمٍ صوتيةٍ، سواءٌ آلآيات التي ذكرتها في الباب السابق أم التي لم أذكرها – خوفًا من الإطالة – وعنيت بالقيم الصوتية ((تلك الخصائص التي تتمايز بوساطتها الأصوات ويتعلق بها نوعٌ من المعاني تسمى بالمعاني الطبيعية، التي لا توصف آثارها بأنها عرفيةٌ ولا ذهنيةٌ، لأنها في الواقع مؤثراتٌ سمعيةٌ انطباعيةٌ ذات وقعٍ على الوجدان تدركها المعرفة ولا تحيط بها الصفة ))(1)، فمثال تأثيرها في الوجدان النغمة الموسيقية التي نطرب لها ثم لا نستطيع أن نقول لِمَ طربنا. والقيم الصوتية التي سيتم تناولها في هذا المبحث هي ما يأتي:
1– الفاصلة القرآنية. ... ...
2– الحكاية الصوتية.
3– المناسبة الصوتية. ... ... ...
4– حسن التأليف.
الفاصلة القرآنية في الخطاب المدني:
__________
(1) اللغة العربية معناها ومبناها ( 175 ).(1/2)
... ... الفاصلة القرآنية هي (( كلمة آخر الآية: كقافية الشعر(1) وقرينة السجع(2)، وقال الداني: كلمة آخر الجملة)) (3)، وقيل غير ذلك في تعريف الفاصلة(4)، ولكن الحسناوي خرج من كل تلك التعريفات بخلاصةٍ حدد فيها خمسة جوانب لدراسة الفاصلة القرآنية من خلالها هي(5):
1– موقع الفاصلة آخر الآية.
2– التشاكل في الحروف والمقاطع.
3– دورها في تحسين الكلام.
4– دورها في استراحة الكلام.
__________
(1) نقل السيوطي عن أكثر العلماء عدم جواز تسميتها قوافي لأن الله سلب عن القرآن اسم الشعر، والقافية من الشعر وخاصة به فلا تطلق على رؤوس الآي في القرآن الكريم. ينظر: إعجاز القرآن (103-109)، والإتقان ( 3/292 ).
(2) وهذه المسألة فيها خلاف على ثلاثة أقوال، أرجحها أن لا سجع في القرآن لأن السجع تكلف والقرآن بليغ في آياته، ثم ليس كل الفواصل متشابهة النهاية- على ما سيأتي-، وينظر لذلك في: إعجاز القرآن، لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني (110-119).
(3) الإتقان ( 3/290 )، وينظر: البرهان ( 1/53 ).
(4) ينظر: الفاصلة للحسناوي ( 26- 29 ).
(5) ينظر: نفسه ( 29 )، وعلم الأصوات في كتب معاني القرآن، لابتهال كاصد الزبيدي (197).(1/3)
5– توضيحها بالموازنة بينها وبين القافية أو السجع أو الاثنين معًا، فالقافية تتطلب التطابق التام بين عدد الحروف في آخر كل بيتٍ من القصيدة، أما الفاصلة فلا تلتزم شيئًا من ذلك، إذ تجري في عددٍ من الآيات على نمطٍ ولكنها سرعان ما تتحول عنه إلى نمطٍ آخرٍ. وفي خلال جريها على نمطٍ واحدٍ قد يكون ما يقدم عليه النمط مقصورًا على حرف مد فقط، كما في قوله تعالى: { خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ، وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة:7-9]، فلا تصلح إحدى الفواصل أن تقفو الأخرى في شعرٍ، وقد يقوم النمط على صفة حرف الفاصلة القرآنية، كالمد في أواخر الفواصل السابقة في (الواو والياء). لذا لا يراد بالفاصلة القرآنية مراعاة الحروف(1)، وإنما يراد المعنى قبل ذلك، ويلتقي الحرف بالمشابهة اللفظية مع المعنى(2).
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/193) ومابعدها.
(2) ينظر: نفسه.(1/4)
وأحيانًا لا يراعي الخطاب المدني الفاصلة بل قد تأتي مغايرةً لغيرها، وهذا دليلٌ على أن المقصود بالدرجة الأولى المعنى، ففي سورة الفلق – مثلاً –، وهي سورةٌ قصيرةٌ، نجد الفواصل القرآنية مختلفةً في آياتها، فالفاصلة الأولى والثانية فيها (فلق، خلق)، ثم الثالثة (وقب) والرابعة (عقد) والخامسة (حسد) وكل فاصلةٍ منهن تنهي معنى الآية عندها، قال الله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ، مِن شَرّ مَا خَلَقَ، وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِن شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [الفلق:1-5]، فالآية الأولى والثانية تتحدث عن الخلق، والثالثة تتحدث عن حضور الليل أو النجم، والرابعة عن عمل النساء للسحر، والخامسة عن حسد الناس، الذين يكونون من الرجال والنساء. ولكلٍ منهم ما يميزه من الآخر، فتنوعت الفاصلة لذلك، ولكنها اعتمدت الأصوات الشديدة(1) في نهاياتها وهي (القاف والباء والدال)، على أن هذه الأصوات تجتمع في صفة الجهر أيضًا، لتصير متصفة بعد ذلك بصفة القلقلة عند النطق بها(2)، لذا ناسبت تلك الأحرف ما في السورة من الاستعاذة من هذه الأمور العظيمة، ولو نظرنا إلى سورةٍ أخرى من السور الطوال، ولتكن سورة (آل عمران)، لرأيناها تتكون من مائتي آيةٍ قرآنيةٍ، وفواصلها جاءت – منذ أول آيةٍ فيها– مختلفةً بعضها عن بعضٍ، وانظر إلى التفصيل الآتي:
1– الآيات من (1–6) مختلفةٌ.
2– الآيات من (7–8) تنتهي بـ (الألباب والوهاب).
__________
(1) ينظر: الملخص المفيد في علم التجويد لمحمد أحمد معبد (85).
(2) ينظر: نفسه (92).(1/5)
3– ثم تختلف الفاصلة بعد ذلك بانتهائها بحرف (الدال) في الآية (9)، وهكذا يستمر الاختلاف في بقية الآيات، ففي الآيات الأُوَلِ، نجد الموضوعات مختلفةً في كل آيةٍ، وأما الآيات السابعة والثامنة فإن بهما اتصالاً بعد ذكر الله تعالى لصنفي المتعاملين مع آياته المتشابهة، فذكر المؤمنين، وهم يدعونه ليغفر لهم، ويتوب عليهم – إن أخطأوا في تأويل تلك الآيات وفي فهمها– ثم يعود السياق في الآيات إلى موضوعٍ آخرٍ، مترابطٍ مع الجو العام للسورة، فانتهت الفاصلة بأصواتٍ مجهورة(1)، كـ(الباء) التي لها تعلق بالشدة في الصوت والقلقلة له(2)، ووجدنا (الميم، والنون، واللام)، ظهرت في آخر حروف الفاصلة، لما لـ(الميم) في نهاية المصادر، من معاني الجمع والضم، ولـ (النون) في نهاية المصادر من معاني الرقة والخفة والاستكانة والاستقرار(3)، وجاءت (اللام) التي تعدُّ كذلك من الأصوات الأوضح في السمع(4)،ولأن (النون) من أوضح الأصوات الساكنة في السمع(5)؛ كانت أكثر الأصوات دورانًا في فواصل الآيات،ولأن تلك الحروف جميعًا أقرب الحروف إلى حروف اللين(6)(الواو والياء)، كان استخدامها في هذه السورة أكثر من غيرها، ووجدنا (الهمزة) التي تعدُّ من الحروف الشديدة، ولكنها جاءت في آيات قليلة لأنها تسقط عند النطق بها في رأس الفاصلة ويستعاض عنها بإطالة حرف المد الذي قبلها؛ لأن النطق بها يحتاج إلى جهد عضلي يزيد على ما يحتاج إليه أي صوت آخر(7)، وألفينا (الدال) التي من صفاته القلقلة(8)،
__________
(1) ينظر: الأصوات اللغوية (21)، وعلم الأصوات، لـ د. البهنساوي (50).
(2) ينظر: الملخص المفيد (85).
(3) ينظر: حروف المعاني بين الأصالة والحداثة ( 83 ).
(4) ينظر: نفسه.
(5) ينظر: الأصوات اللغوية (63).
(6) ينظر: نفسه (27).
(7) ينظر: نفسه (90).
(8) ينظر: علم الأصوات، لـ د. البهنساوي (67)..(1/6)
أو جدنا الفاصلة تنتهي بحرف متوسط الشدة كـ (الراء) (1) التي من صفاتها التكرير(2)، وقد تنتهي الفاصلة بأصوات مهموسة كـ(الطاء) (3) التي جاءت في الآية (120) من السورة، و(القاف) (4) التي جاءت في نهاية الآية (181) تتحدث عن سماعهم وارتباطه بقول الله وبالعذاب، وهو– أي سماعهم– للصوت المهموس (القاف) أكثر مبالغة في إظهار خوفهم، وإحاطتهم بالمنطوقات في ذلك اليوم من سماعهم للصوت المجهور؛ لأنهم يريدون الخلاص، لذا ناسبت جميع هذه الأحرف الموضوعات التي تناولتها الآيات في السورة.
... هذا التباين في حروف الفاصلة، يكشف عن الصراع الأصيل الدائم بين الجماعة المسلمة وعقيدتها من جهة، وأهل الكتاب والمشركين وعقائدهم من جهة أخرى هذا الصراع الذي لم يفتر منذ ظهور الإسلام – وبخاصة منذ مقدمه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وقيام دولته فيها – والذي اشترك فيه المشركون واليهود اشتراكًا عنيفًا يسجله القرآن تسجيلاً رائعًا دقيقًا،ففي الآيات تحديد لمفرق الطريق بين عقيدة التوحيد الخالصة وبين الشبهات والانحرافات. وتهديد لمن يكفر بالفرقان، وبيان لحال المؤمنين مع ربهم وموقفهم مما ينزل على رسله(5).
ويسود هذا التباين كذلك في سورة النور والحشر وغير ذلك من سور العهد المدني، إلا سورة (الناس) فقد جاءت الفاصلة على مقطع واحدٍ منذ بداية السورة إلى انتهائها وهو مقطع (ناس) وصورته (ص ح ح ص)، فموضوعها الناس وما يجتاحهم، في عبادتهم لربهم وملكهم وإلههم، وما يعرقل ذلك من وسوسة الشياطين من الجنة والإنس، لذلك توافق معنى الآيات مع جرس حرف السين الذي من صفته الهمس والصفير(6).
__________
(1) ينظر: الملخص المفيد (86).
(2) ينظر: علم الأصوات (54).
(3) ينظر: الأصوات اللغوية (61).
(4) ينظر: نفسه (84).
(5) ينظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب (1/353).
(6) ينظر: الأصوات اللغوية (75).(1/7)
... وأما علاقة قيمة الفاصلة الصوتية بالمعنى في خطاب العهد المدني، فذلك يكون على الأمور الآتية:
1– قد تكون الفاصلة جزءًا من تركيب الآية مكملاً لبنيتها فلا يتصور اكتمال المعنى إلا بها، كما في الفواصل التي أخذناها آنفًا.
2– قد تأتي الفاصلة بعد تمام المعنى فتكون تذييلاً للآية كالتعليق أو التعقيب على محتواها(1)
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/196)..(1/8)
كما في قوله تعالى: { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمًّا بِغَمّ لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنّ الأمْرَ كُلّهُ للّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ، إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [آل عمران:153-155]، ففي نهاية كل آيةٍ تذييلٌ من الله تعالى بعد انتهاء المعنى في الآية، فقوله تعالى: { وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وقوله تعالى { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } وقوله تعالى { إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } ، كلهنَّ جئنَ بعد تمام المعنى، فكُنَّ في موقع التذييل الذي أكسب الآية جمالاً على جمالها.(1/9)
3– قد تنتهي الفاصلة ولكن المعنى ما زال متصلاً بالآية الآتية، فلا يكون الانتهاء هو سبب الفاصلة، وإنما تحقق جرس ما يحيط بها من الفواصل الأخرى(1)، سواءٌ ألسابقة لها أم اللاحقة بها، كما في قوله تعالى: { نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ، مِن قَبْلُ هُدًى لّلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [آل عمران: 4]، فقوله تعالى: { مِن قَبْلُ هُدًى لّلنّاسِ } تابعٌ لقوله: { وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } ، في المعنى، وإن جاء في الآية التالية له، ووقع ذلك الأمر أيضًا في قوله تعالى: { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ، الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخِرَة هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة:2-5]، فالآيات (3-5) صفاتٌ للمتقين، وذلك يعني أن المعنى لم يتم عند الفاصلة الأولى، لأن الصفة تخصص الموصوف أو توضحه، وهو بدونها عامٌّ يحتاج إلى تخصيصٍ أو توضيحٍ، فعلى ذلك لم يكتمل معنى الآية الثانية إلا بالوصول إلى الآية الخامسة(2).
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/196).
(2) ينظر: تفسير الطبري (1/139).(1/10)
... مع ذلك، الفاصلة القرآنية توقيفيةٌ، إذ قد يتحقق تمام المعنى في اللفظ، وتتحقق فيه حروف الفاصلة ولكنه مع ذلك لا يعد من الفواصل(1)، كما في قوله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا تُحِبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّن يُرِيدُ الآخِرَة ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران: 152]، فإن قوله تعالى { مَآ أَرَاكُمْ مّا تُحِبّونَ } جاء على هيئة الفاصلة في هذه الآية والآيات السابقة لها والتالية لها، ولكنها لم تكن فاصلةً؛ لأن هذه المسألة توقيفيةٌ، ووقع ذلك أيضًا في قوله تعالى: { إِنّ اللّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ، هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَه إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [آل عمران: 6]، إذ لم يكن قوله تعالى: { كَيْفَ يَشَآءُ } ، حتى مع توافقه مع قوله تعالى: { وَلاَ فِي السّمَآءِ } ، فاصلةً قرآنيةً.
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/197).(1/11)
من ذلك نرى أن الفاصلة القرآنية في الخطاب المدني قيمةٌ صوتيةٌ، لها وظيفةٌ مهمةٌ يراعى فيها الجرس واللفظ، ومع ذلك يترخص فيها في جوانب معينةٍ كالنحو، فقد عرفنا أن الألف تنوب عن التنوين الذي بعد الفتحة عند الوقف(1)، ولكن هذا التنوين لا يجتمع بأداة التعريف (ال) حتى في قوافي الشعر البتة(2)، ولكنه اجتمع به في الفاصلة القرآنية، فهذه الظاهرة جاءت في آيات الخطاب المدنية، فمثلاً جاءت كلمة (السبيل) في سورة الأحزاب عند آخر قوله تعالى: { مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ } [الأحزاب: 4]، فهنا جاءت بصورة (السّبِيلَ)، في حين جاء ت وبعدها الألف، في أواخر السورة، قال تعالى: { يَوْمَ تُقَلّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللّهَ وَأَطَعْنَا الرّسُولاَ، وَقَالُواْ رَبّنَآ إِنّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلّونَا السّبِيلاْ } [الأحزاب:66-67]، فكلمة (السّبِيلاْ) مزيدةٌ بالألف في آخرها، وعلة ذلك أن الكلام في هذه الآيات عن هؤلاء، وهم يمدون أصواتهم بها في النار، على أنه ليس في أول السورة عذابٌ، فجاءت على حالها (السّبِيلَ) وليست (السّبِيلاْ)، فهي في الآية الثانية تصور الحالة الطبيعية من اصطراخهم في العذاب(3)،
__________
(1) ينظر: المحيط في أصوات اللغة العربية، للأنطاكي(1/65).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/200 ).
(3) ينظر: نفسه..(1/12)
وطلبهم للنجاة بعد انقطاع السبل فليس لهم إلا رفع الصوت أملاً في الرحمة- بعد مسِّ العذاب أجسامهم- والذهول عن التدبير، وتوقف العقل عن التفكير، فجاءت الألف تعبيرًا عن حالهم وهم يصطرخون في النار، وأما (الرّسُولاَ) بالألف فهو بيانٌ لوصولهم إلى منتهى الحسرة والندم على فوت طاعة الرسول(1).
وهنا مثالٌ آخرٌ على ذلك هو قوله تعالى: { وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَاْ } [الأحزاب: 10]، فكلمة (الظّنُونَاْ) تدل على أنها كثيرةٌ ومتشعبةٌ، فاختلفت عندهم(2)، ولذا جاءت بالإطلاق (الظّنُونَاْ)؛ فكان استخدام الألف لإطلاق العنان للظنون، و على ذلك يمكن أن يكون الألف واللام ((بمعنى الاستغراق مبالغة يعني تظنون كل ظن لأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئًا ويمكن أن يكون المراد ظنونهم المعهودة، لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله...ومن الكافر الظن السوء)) (3)، والفائدة في جمع الظنون هي أن الله تعالى لو قال: تظنون ظنًا، جاز أن يكونوا مصيبين فإذا قال: ظنونًا، تبين أن فيهم من كان ظنه كاذبًا، لأن الظنون قد تكذب كلها وقد يكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد. وقد يكون أحدهم مصيبًا إذ لا يمكن أن يكونوا كلهم مصيبين فقوله: (الظنونا) أفاد أن فيهم من أخطأ الظن ، ولو قال تظنون بالله ظنًا ما كان يفيد هذا(4).
... وأغلب الظن أن الغرض الأسمى من الفاصلة القرآنية في الخطاب المدني هو غرضٌ جمالي صوتي وإن توافق مع وظيفتها النحوية، أو الدلالية أو اختلف(5).
الحكاية الصوتية في الخطاب المدني:
...
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (20/330).
(2) ينظر: نفسه (20/221)، وتفسير البغوي (6/331).
(3) تفسير الرازي (م13/ج25/199).
(4) ينظر: تفسير الرازي (م13/ج25/199).
(5) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/202 ).(1/13)
الحكاية باب كبير من أبواب اللغة العربية، وهي تحتمل أن تكون بمعنى حكاية اللفظ المسموع، كما سمع، ولو تعارضت صورته مع حالته الإعرابية، كمن نسمعه يقول:«قابلت زيدًا اليوم»، فنسأله: «من زيدًا» بنصب زيدٍ(1).
__________
(1) ينظر: الكتاب (3/326)، واللمع (234)، وسر صناعة الإعراب (1/154)، وأسرار العربية (335)، وشرح قطر الندى (287)، وأوضح المسالك (4/279)، وهمع الهوامع (3/256).(1/14)
... وقد تعني أيضًا حكاية الجملة بعد القول(1)، وقد تعني ما عرفه اللغويون العرب باسم حكاية الصوت للمعنى(2)، بحيث يوحي جرس أصواتها بمعناها الذي رصد لها في المعجم، فيلتقي الجرس والمعنى عندئذٍ على مصادفةٍ ومحض اتفاقٍ، ولكن انتقاء اللفظ بقصد استعماله يكون عن تعمدٍ وحسن اختيارٍ(3). فمثلاً كلمة (وَسْوَاس) على صيغة (فَعْلال)، هي صيغةٌ تفيد التكرار في الفعل من حيث الدلالة، وقد سمي الشيطان بها، لأنه لا ينفك عن الوسوسة. كما أن صيغة (فَعْلال) تفيد المبالغة أيضًا، إذن كلمة (وَسْوَاس) تفيد المبالغة والتكرار. وقد جاء التعبير في سورة الناس بكلمة الوسواس وليس الموسوس، لأن (الموسوس) لا تفيد المبالغة، ولأنها تقال للشخص الذي تعتريه الوسوسة دون أن تفيد المبالغة(4)، وجاءت الاستعاذة من (شر الوسواس) وليس من شر الوسوسة فقط للدلالة على أن الاستعاذة إنما تكون من كل شرور الوسواس سواءٌ أكانت وسوسةً أم لم تكن(5)، والحرفان اللذان تتكون منهما هذه الكلمة هما (الواو والسين) فالواو حرفٌ شفوي احتكاكي مجهورٌ(6)، والسين حرفٌ أسناني لثوي مهموسٌ(7)، ولنتصور فيهما شخصًا يكلم الآخر بهمسٍ في كلامه ونقله، ليدل على صغر صوته في أثناء حديثه مع المستمع، كما أن صفة الهمس تصحب عادةً الكلام الخفي؛ لئلا يسمع معاني الكلمات وغاياتها أحدٌ من الحاضرين، وإلا فإنه سيسمع الصفير الذي هو من صفات حرف السين(8)،
__________
(1) ينظر: الجمل في النحو (172)، ومغني اللبيب (1/538)، وأوضح المسالك (4/279).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/202 )، ودلالة الألفاظ، لـ د. إبراهيم أنيس (46).
(3) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/202 ).
(4) ينظر: لمسات بيانية في نصوص من التنزيل ( 183 -184 ).
(5) ينظر: نفسه ( 200 ).
(6) ينظر: الأصوات اللغوية (21).
(7) ينظر: المحيط في أصوات اللغة العربية (1/26).
(8) ينظر: نفسه (1/16)..(1/15)
ولكن من غير أن يعرف مضمون الكلام الذي يدور، لذا تكرر حرف السين في هذه السورة لشدة توافقه مع المعنى، الذي تدور حوله السورة من الوسوسة والخفاء للكلام، وتكرر فيها المقطع (ناس) الذي يدل على التذبذب(1).
... ومن أمثلة حكاية الصوت للمعنى المراد من الكلمة، في الخطاب المدني، استعمال التشديد بعد قلب التاء من جنس ما بعدها ليدل على المبالغة في التثاقل(2)، كما في قوله
تعالى: { يا أيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ } [التوبة: 38]، فإن أصل الفعل هو (تثاقلتم) ولكن قلبت التاء ثاءً، وأدغمت فيها لأن اللغة العربية تنفر من تكرار الحرف الواحد(3)، فلما سكنت، اجتلبت لها همزة الوصل للتوصل إلى النطق بها(4)، لأن للتشديد عنصرين، أولهما ثاءٌ ساكنةٌ، والثاني ثاءٌ متحركةٌ، ونجد في سكون العنصر الأول إيحاءً بالسكون والإخلاد إلى الأرض، وعدم الرغبة في الخروج للجهاد(5)، مما يدل على أن صوت التشديد على حرف الثاء، يحكي الفعل الكائن منهم، كما في الآية السابقة، قال البقاعي: «أي تثاقلتم تثاقلاً عظيمًا، وفيه ما لم يذكروا له سببًا ظاهرًا بما أشار إليه الإدغام إخلادًا وميلاً { إِلَى الأرْضِ } أي لبرد ظلالها وطيب هوائها ونضج ثمارها، فكنتم أرضيين في سفول الهمم»(6).
__________
(1) ينظر: اللسان، مادة (ذبب)، (1/384).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/203).
(3) ينظر: اللغة العربية أداءً ونطقًا وإملاءً وكتابة، فخري محمد صالح (53).
(4) ينظر: فتح القدير (703).
(5) ينظر: تفسير الرازي (م8/ج16/61)، وروح المعاني (م6/ج10/137).
(6) نظم الدرر (3/317).(1/16)
... ومن أمثلة ذلك أيضًا قوله تعالى: { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة: 72]، فقد جرى في لفظة (فَادّارَأْتُمْ) مثل ما جرى لسابقه(1) إلا أن هذا الفعل يدل على محاولتهم الإفلات منه، فما يصل بهم إلى الغاية إلا بعد مشقةٍ وعناءٍ(2)، وهذا ما يوحي به السكون الذي يسبق الحركة في التشديد، فالسكون والحركة في الحرف المشدد يحكيان فعل اليهود من اختلافهم وتخاصمهم في نفي فعلتهم عن أنفسهم(3).
__________
(1) ينظر: تفسير البغوي (1/108)، وروح المعاني (م1/ج1/462).
(2) ينظر: تفسير الرازي (م2/ج3/133).
(3) ينظر: تفسير البغوي (1/108).(1/17)
... ومثله أيضًا قوله تعالى: { وَإِنّ مِنْكُمْ لَمَن لّيُبَطّئَنّ } [النساء:72-73]، فإن لفظة (لّيُبَطّئَنّ) بالتشديد للفعل (بطَّأ) تحكي المبالغة في التبطئة، فالمنافق يتثاقل عن الجهاد(1)، ولا يكتفي بذلك بل يثبط الناس عنه(2)، ولكنه إذا خرج إليه خرج متباطئًا، ليحمي نفسه من غائلات الجهاد ونوائبه–في ظنه–، والتشديد يدل على فعله مع إصراره على البطء في السير بسبب السكون الذي في الحرف المشدد، فهو يسبق حركته غير المرغوب فيها لذا حكى لنا ذلك السكون معنى الفعل من المنافقين، هذا بالإضافة إلى أن في الفعل ثلاثة أحرفٍ انفجاريةٍ(3)، هي الباء والطاء والهمزة، فيصعب النطق بها بسهولة لذا تثقل على لسان القارئ إجباريًا، ولكنها تثقل في حركة المنافق اختياريًا، قال سيد قطب: « وإن اللسان ليكاد يتعثر وهو يتخبط فيها حتى يصل ببطءٍ إلى نهايتها»(4)، فكيف بمن يقوم بفعل التبطئة وليس النطق بها فقط، وفي كل ذلك جاءت التبطئة بالثقل في الحركة لتحكي حال المنافقين.
__________
(1) ينظر: نفسه (2/248)، وروح المعاني (م4/ج5/118).
(2) ينظر: روح المعاني (م4/ج5/118).
(3) ينظر: المحيط في أصوات اللغة العربية (1/26).
(4) التصوير الفني في القرآن الكريم ( 92 ).(1/18)
... وفي حكاية الصوت للمعنى في الخطاب المدني تقديرٌ للتفخيم بما يدل على المبالغة في الحدث أو الصفة(1)، وقد يؤدي ذلك إلى استعمال كلمةٍ تشتمل على التفخيم في مقام المبالغة، ومن أمثلة ذلك في الخطاب المدني قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطًا } [البقرة: 143]، وقال تعالى: { فَكَفّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [المائدة: 89]، فعبر الله تعالى بالتوسط في كلا الآيتين وأراد بذلك معنى الحسن، وكان انتقاؤه للفظ الوسط لما فيه من تفخيم الطاء، لأن((الوسط اسمٌ للمكان الواقع بين أمكنةٍ تحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياءٍ محيطةٍ به، ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعضٍ عرفًا، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة طبعًا، كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلا بعد أكل ما في الجوانب فيبقى كثير العشب والكلأ، ووضعًا كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولةٍ، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤةٍ فيه، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كنايةً))(2).
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/204 )، ودلالة الألفاظ (46).
(2) التحرير والتنوير ( م2/ج2/17 )، وينظر معناه في روح المعاني ( م2/ج2/6 ).(1/19)
... ولو نظرنا إلى ما يسمونه بالمحسنات اللفظية البديعية لوجدنا هذا النوع من التحسين إنما هو واعٍ لما يمكن للقيم الصوتية أن تحمله من المعنى(1)، فظاهرة حكاية الصوت للمعنى المراد من الكلمة، هي إثارة ما في نفس المتلقي وتفاعله معها، ويصدق ذلك على الجناس(2) تامًا كان أم ناقصًا، وعلى المشاكلة(3) في اللفظين، كما في قوله تعالى: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [البقرة: 194]، وفي ما يأتي شواهدُ على الجناس:
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/206).
(2) وهو أن يتماثل الركنان وكل منهما مكون من كلمتين مع اختلاف المعنى. ينظر: شروح التلخيص، للتفتازاني وآخرين (4/414).
(3) وهي أن يسمي الشيء باسم مقارنه لوقوعه في صحبة ذلك المقارن تحقيقًا أو تقديرًا. ينظر: نفسه (4/309).(1/20)
1– قوله تعالى: { سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [التوبة: 95]، فهنا نجد فعل الإعراض يستعمل بمعنيين، فيكون من ذلك اتفاقٌ في اللفظ واختلافٌ في المعنى. فالإعراض المقصود بالفعل المضارع (لتعرضوا) يعني المسامحة والغفران(1)، ولكن الإعراض الذي في فعل الأمر، هو المغاضبة والترك والإهمال، والمعنى حينئذٍ: إن هؤلاء سيحلفون لكم طلبًا لغفرانكم، ولكن الله تعالى يأمركم بمغاضبتهم وإهمالهم، قال ابن عاشور: «وهذا ضربٌ من التقريع فيه إطماعٌ للمغضوب عليه، الطالب بأنه أجيبت طلبته، حتى إذا تأمل وجد ما طمع فيه قد انقلب عكس المطلوب، فصار يأسًا؛ لأنهم أرادوا الإعراض عن المعاتبة بالإمساك عنها واستدامة معاملتهم معاملة المسلمين، فإذا بهم يواجهون بالإعراض عن مكالمتهم ومخالطتهم، وذلك أشد مما حلفوا للتفادي عنه. فهم من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أو من القول بالموجب»(2).
2– قوله تعالى: { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا } [الحشر: 11]، وهذا شاهد الجناس الناقص بين كلمتي (أحدًا) و (أبدًا)، وكلاهما يحمل معنًى يختلف عن الآخر، ولكنهما يكادان يتفقان في الأصوات إلا في صوت الحاء والباء فالأول احتكاكي مهموسٌ، والثاني انفجاري مجهور(3).
...
المناسبة الصوتية في الخطاب المدني:
__________
(1) ينظر: التحرير والتنوير ( م6/ج11/9 ).
(2) نفسه.
(3) ينظر: الأصوات اللغوية (21).(1/21)
... ... وأعني بالمناسبة الصوتية أن يكون الصوتان المتجاوران أو اللذان يفصل بينهما حاجزٌ غير حصينٍ، على صورةٍ لا يرد فيها تنافر أحدهما مع الآخر لا في الأداء ولا في السمع(1)، وقيل: أن تكون الكلمات متوازناتٍ، سواءٌ أكنَّ متشابهاتٍ أم لا(2)، وتخضع بعض صور المناسبة الصوتية في اللغة العربية للتقعيد، ويظل بعضها الآخر للاختيار الأسلوبي، ومما يخضع للقاعدة(3):
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/215 ).
(2) ينظر: شرح الفريدة الجامعة ( 71 ).
(3) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/215 ).(1/22)
1– تفخيم (لام) لفظ الجلالة وترقيقه بحسب الصوت الذي يسبقه(1)، فإن هذه اللام تفخم إذا تقدمها فتحٌ أو ضمٌّ، فمثال الفتح الذي يسبق لفظ الجلالة قوله تعالى: { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ } [التحريم: 11]، ومثال الضم الذي يسبق لفظ الجلالة، ما في قوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوّوْاْ رُءُوسَهُمْ } [المنافقون: 5]، أو أن يتقدمها ساكنٌ بعد ضمٍّ نحو قوله تعالى: { وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } [البينة: 5]، أو ساكنٌ بعد الفتح نحو قوله تعالى: { وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ } [النور: 42]، وسبب هذا التفخيم قصد التعظيم لهذا الاسم، ولأن موجب الترقيق معدومٌ، إذ ترقق اللام إذا تقدمتها كسرةٌ نحو قوله تعالى: { هُمُ الّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَنفَضّواْ } [المنافقون: 7]، وقوله تعالى: { وَمَن لّمْ يُؤْمِن بِاللّهِ وَرَسُولِهِ } [الفتح: 13]، وسبب هذا الترقيق كراهية التصعيد بعد التسفل واستثقاله. ويشارك حرفَ (اللام) في هذه الأحكام حرفُ (الراء)(2).
2– تحريك ضمير الغيبة بحسب ما يسبقه أيضًا(3)، فإن سُبق الضمير بالضم فإنه يُضم، كما في قوله تعالى: { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [النور: 14]، وإن سبق بكسرٍ أو حرفٍ ساكنٍ قبله مكسورٍ، فإنه يكسر كما في قوله تعالى: { لَمَسّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور: 14].
__________
(1) ينظر: علم الأصوات (60-61)، والملخص المفيد (107).
(2) ينظر: الأصوات اللغوية (65)، والملخص المفيد (108).
(3) ينظر: الملخص المفيد (70).(1/23)
3– كسرة المناسبة قبل ياء المتكلم الظاهرة كما في قوله تعالى: { رَبِّ إِنّي لآ أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي } [المائدة: 25]، أو المحذوفة، كما في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } [البقرة: 126]، أو الكسرة التي قبل ياء المخاطبة في فعل الأمر، كما في قوله تعالى: { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ } [آل عمران: 43].
4– بناء الماضي والأمر على الضمِّ لفظًا لمناسبة واو الجماعة، كما في قوله تعالى: { قُولُوَاْ أَسْلَمْنَا } [الحجرات: 14]، وقوله تعالى: { وَقَدْ دّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } [المائدة: 61].
5– الفتحة الدالة على الألف المحذوفة، كما في قوله تعالى: { وَالّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [محمد: 17].(1/24)
... أما الجانب الأسلوبي الاختياري، من المناسبة في خطاب القرآن الكريم في العهد المدني، فيشتهر في إعراب الجوار (1)، وهو نوعٌ من الترخص في القرينة الإعرابية، ولا يكون الجرُّ بالجوار إلا في النعت والتوكيد وعطف النسق(2)، مع أننا وجدنا من النحويين من أنكر هذه الظاهرة وذهب إلى القول بشذوذها، كابن جني في المحتسب إذ قال:« إن الخفض بالجوار في غاية الشذوذ»(3)، وقد عارضه الإمام الشنقيطي في تفسيره إذ قال: «والتحقيق: أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين»(4)، ثم عرض أمثلة للجرِّ على الجوار في العطف والنعت من أشعار العرب ومن القرآن الكريم(5)، وأنا أوافق الإمام الشنقيطي في ما ذهب إليه، مع أن هذه الظاهرة لم ترد في الخطاب المدني إلا في عطف النسق، في قوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ } [البينة: 1]، فإن قوله تعالى (والمشركين) جاء مجرورًا والأصل فيه أن يكون معطوفًا على الاسم الموصول (الذين) (6)، الذي هو في محل رفعٍ اسم كان، ولكن لما كان ما قبل لفظ (المشركين) مجرورًا (أهل الكتاب)؛ جاء لفظ (والمشركين) على الخفض على الجوار في رأي الألوسي(7)،
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/215).
(2) ينظر: شرح شذور الذهب ( 1/428 ).
(3) المحتسب ( 2/297 )، وينظر: الخصائص (3/141).
(4) أضواء البيان (1/331).
(5) ينظر: نفسه.
(6) ينظر: روح المعاني ( م16/ج30/359 ).
(7) ينظر: روح المعاني ( م16/ج30/359 )..(1/25)
ومثله كذلك قوله تعالى: { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } [المائدة: 6]، بخفض (أرجلكم)، على الجوار(1)، في قراءةٍ(2)وأما المثال على إخضاع الحركة لما جاورها، كحركة البناء ففي قوله تعالى: { فَلأُمِّهِ الثّلُثُ } [النساء: 11] على قراءة حمزة والكسائي(3)، إذ قرأها (فَلإِمِّهِ) بكسر الهمزة، وذلك أن كسرة الإعراب التي على الميم أثرت في ضمة الهمزة فقلبتها كسرة(4)؛ وهذا التأثير يدلُّ دلالة واضحة على قوة الحركة(5).
__________
(1) ينظر: إعراب القرآن للنحاس (2/9)، والإنصاف في مسائل الخلاف (2/468)، وشرح شذور الذهب (429)، وأضواء البيان للشنقيطي (1/331).
(2) ينظر: إعراب القرآن للنحاس( 2/603 )، وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وحمزة ويحيى عن عاصم وأبي جعفر وخلف. ينظر: حجة القراءات (221)، والحجة في القراءات ( 242 ).
(3) ينظر: الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ( 120 ).
(4) ينظر: طرائق التخلص من التقاء الساكنين، لـ د.عبدالله بابعير (126).
(5) ينظر: في التطور الصوتي، لمحمد جواد النوري (120).(1/26)
ومن المناسبة الصوتية أيضًا أن الثلاثي(1) الساكن العين إذا كان اسمًا غير صفةٍ وجمع جمعًا بالألف والتاء حركت عينه بمثل حركة الفاء، سواء أكان تأنيثه حال الإفراد بالتاء كسَجْدَاتٍ في (سَجْدَة) أم كان بغير التاء كدَعْدَاتٍ في (دَعْد)، ولكن إن جاز في مكسور الفاء ومضمومها تسكين العين لم يجز في مفتوح الفاء إلا إتباع حركة العين حركة الفاء للمناسبة، ولكن هذه المناسبة تحكمها الفاء، فهي تركيبيةٌ فإذا لم تكن العين ساكنةً(2)، كما في قوله تعالى: { فَتَلَقّى آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } [البقرة: 37]، لزمت العين حركتها وامتنع الإتباع، وإذا لم تكن العين مفردةً بل كانت مشددةً كما في قوله تعالى: { بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ } [النور: 61]، فلا مجال للإتباع، وإذا كانت العين الساكنة واوًا أو ياءً كما في قوله تعالى: { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لّكُمْ } [النور: 58]، وفي قوله تعالى: { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } [المائدة: 48]، بقيت عين الكلمة على سكونها(3)، أما في ما عدا ذلك فإننا نجد الخطاب المدني يميل إلى الربط بين الفتحة وحرف الحلق في أول الكلمة، كما في قوله تعالى: { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } [البقرة: 167]، وفي غير هذا تسود الضمة على هذا الجمع(4)
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/218 ).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر: نفسه.
(4) ينظر: نفسه..(1/27)
كما في قوله تعالى: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ } [البقرة: 17]، وقوله تعالى: { وَيَتّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ } [التوبة: 99]، وقوله تعالى: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [البقرة: 194]، وقوله تعالى: { إَنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [الحجرات: 4].
وقد تدعو المناسبة الصوتية وصف اللفظ بصفةٍ من مادة اشتقاقه(1) كما في قوله تعالى: { وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ } [آل عمران: 14]، إذ عدل الخطاب المدني، بالاختيار، عن لفظ المضعّفة(2) إلى لفظ (المقنطرة) سعيًا إلى إيجاد المناسبة بين الموصوف وصفته وإلى تحميل العبارة دلالةً إضافيةً على معنى التراكم، والمبالغة(3)، وذلك من شأن العرب قديمًا(4).
من المناسبة الصوتية في الخطاب المدني أن يأتي ثاني اللفظين من مادة اشتقاق الأول وإن اختلف جرسهما الصوتي(5)، كما في قوله تعالى: { وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران: 187]، ومثله قوله تعالى: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ } [آل عمران: 159]، و قوله تعالى: { وَإِن يَتَفَرّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاّ مّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا } [النساء: 130]، فهناك مناسباتٌ اشتقاقيةٌ بين كل من (اشتروا ويشترون) وبين (فتوكل والمتوكلين) وبين (سعته وواسعًا)، وهناك آياتٌ آخر في الخطاب المدني أكثرها في سورة آل عمران.
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/218 ).
(2) ينظر: تفسير الطبري (6/249).
(3) ينظر: نفسه.
(4) ينظر: روح المعاني ( م3/ج3/161 ).
(5) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/219).(1/28)
أحب أن أضيف هنا في مسألة المناسبة أنها إن كانت بحسب القواعد التي تم سوقها آنفًا، فلا فضل في رعايتها لأسلوبٍ على آخرٍ، بل إن شجاعة الصياغة، قد تتمثل في عدم رعايتها(1)، وهذا ما جاء في الخطاب المدني، في قوله تعالى: { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [الفتح: 10]، إذ جاء ضمير الغائب من (عَلَيْهُ) مضمومًا(2)، على الرغم من الياء الساكنة التي قبله، مع أن الخطاب المدني يراعي أن ينسجم مع تلك القواعد التي تحكم هذا النوع من المناسبة في عموم أحواله(3).
وأما المناسبة الفنية التي لا تحكمها قاعدةٌ، فهي التي نجدها في الفاصلة القرآنية؛ إذ ذكرت سابقًا أن طبيعة الفاصلة القرآنية إتيانٌ بخواتيم الآيات طبقًا لاختيار الخطاب المقصود، بحيث يكون ثمة مناسبة صوتية بين رأسي الآيتين.
حسن التأليف في خطاب العهد المدني(4):
__________
(1) ينظر: نفسه (1/216).
(2) وهي قراءة حفص والزهري وابن محيص و ابن عباس وابن إسحاق.ينظر: السبعة في القراءات (394)، والتذكرة في القراءات الثمان (2/560)، والحجة لابن خالويه (329 -330)، وحجة القراءات لابن زنجلة (672)، وإعراب القراءات السبع وعللها (2/328)، والنشر في القراءات (1/304 -305)، وإتحاف فضلاء البشر (509).
(3) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/216).
(4) ينظر: نفسه (1/220-228).(1/29)
... ... ليس لهذا الأمر قواعد محددةٌ(1)، ولكن المتأخرين من البلاغيين ربطوا بين حسن التأليف ومخارج الحروف، فرأى السبكي في كتابه (عروس الأفراح)، – نقلاً عن السيوطي في مزهره–(2) أن رتب الفصاحة متفاوتةٌ فإن الكلمة تخف وتثقل من حرفٍ إلى حرفٍ لا يلائمه قربًا أو بعدًا، ثم قسَّم مخارج الحروف على ثلاث مجموعاتٍ، أنشأ بينها احتمالاتٍ للتأليف، فخرج منها بتقسيم تراكيب الكلمة ذات الأصول الثلاثة للكلمة على اثني عشر تركيبًا(3)، ورتب الفصيح وغير الفصيح على توالي أصول الكلمة، بحسب هذه المجموعات، على النحو الآتي(4):
1– الانحدار من المخرج الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى ... ... نحو ع د ب.
2– الانتقال من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط ... ... ... نحو ع ر د.
3– الانتقال من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى ... ... ... نحو ع م هـ.
4– ... وهكذا مضى يعدد التراكيب الاثني عشر، ولكن الدكتور تمام حسان أنكر هذا الترتيب لأن استقصاء الإمكانات التي تحتملها الكلمة بالنظر إلى الإحصاء الرياضي، تتم بضرب (33x3x) فتكون الاحتمالات سبعةً وعشرين احتمالاً، لا اثني عشر احتمالاً، كما ذهب إلى ذلك السبكي ووافقه السيوطي(5).
__________
(1) ينظر: المزهر (1/147)، والإيضاح في علوم البلاغة (7)، و البيان في روائع القرآن ( 1/220 ).
(2) ينظر: المزهر ( 1/156-157 ).
(3) ينظر: المزهر ( 1/156-157 ).
(4) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها ( 267 -268 ).
(5) ينظر: نفسه ( 268 ).(1/30)
... ومع هذا لا يختصُّ حسن التأليف بالمخارج فقط، وإنما يتعدى ذلك إلى الاعتداد بصفات الحروف، فكما يتنافر الصوتان بسبب مخرجيهما يتنافران أيضًا بسبب صفتيهما(1)؛ فالاستعلاء لا ينسجم مع الاستفال ولا ينسجم الإطباق والانفتاح، ولا الصفير والتفشي(2)، لهذا امتنع توالي الجيم والصاد للسبب الأول، وامتنع توالي الجيم والقاف للسبب الثاني، ولهذا السبب أيضًا وصفت (مستشزرات) بالتنافر لتجاور الصفير والتفشي(3)، في قول امرئ القيس(4): (الطويل)
غَدائِرُهَا مُسْتَشزِرَاتٌ إِلى العُلا ... تَضِلُّ العِقَاصُ في مَثْنًّى وَمُرسَلِ(5)
__________
(1) ينظر: الملخص المفيد في علم التجويد (85).
(2) ينظر: نفسه (85) وما بعدها.
(3) ينظر: المزهر (1/147)، والإيضاح في علوم البلاغة (7).
(4) البيت له في ديوانه (44)، وشرح المعلقات السبع للزوزني ( 22 )، والمزهر ( 1/147 )، وفي المثل السائر ( 1/192 )، وصبح الأعشى ( 2/275 )، وخزانة الأدب للبغدادي عند الشاهد الرابع والعشرين بعد الثمانمئة ( 10/139 )، واللسان ( 4/405 ).
(5) الغديرة خصلة الشعر، والعقصة الخصلة المجموعة من الشعر. ينظر: شرح المعلقات ( 22 ).(1/31)
وحسن التأليف في خطاب القرآن الكريم في العهد المدني، ظهر في تلاؤم حروف الكلام في السمع، وسهولته في اللفظ، ووقع المعنى في القلب(1)، فالخطاب المدني فيه من حسن التأليف للأصول الثلاثة للكلمات ما لا مزيد عليه، واقرأ ما شئت منقبًا ولن تجد إلا العذوبة والسلاسة على اللسان فلا نبوة فيه ولا تنافر(2)، فمن ذلك قوله تعالى: { اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزّجَاجَةُ كَأَنّهَا كَوْكَبٌ دُرّيّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاّ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } [النور: 35]، إذ تنساب الكلمات على اللسان بيسر، فلا تعثر في نطقها ولا تنافر في أصولها الثلاثة، أو في ما أضيف إليها من اللواصق واللواحق. ونجد ذلك أيضًا في قوله تعالى: { اللّهُ لاَ إِلَه إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255]، وقد أخذت آيات طويلة لما فيها من إظهارٍ لحسن التأليف في الخطاب المدني.
__________
(1) ينظر: إعجاز القرآن، للباقلاني (298).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/228).(1/32)
ولكن للخطاب المدني حالات للترخص من حسن التأليف، بما يشبه القبول بتتابع الأصوات كيفما اتفق، وهذا الأمر ظاهرٌ في النواحي الآتية(1):
أ– الالتزام بخصوص الزوائد في الكلمة:
... ذكر الدكتور تمام حسان أن ما سبق من كلام السبكي يصدق على الأصول الثلاثة الاشتقاقية للكلمة(2)، أما الزيادات فتزاد في الكلمة بلفظها، كما تقرره القواعد الصرفية، مع قطع النظر عن الصوتين المتواليين، وأضرب مثالاً على ذلك بمادة ( ت ب ع)، فإذا أردنا صياغة فعلٍ منها على وزن (تفاعل) ألحقنا بأولها تاءً ثانيةً دون أن نعبأ بتوالي التاءين فقلنا (تتابع)، فإذا أردنا صياغة مضارعٍ مسندٍ إلى تاء الغائبة – مثلاً– قلنا (تتتابع) غير عابئين بتوالي التاءات الثلاث، ومثله في خطاب القرآن في العهد المدني ورود الكلمة مبدوءةً بتاءين زائدتين، فيلجأ حينئذٍ إلى الإبقاء عليها كما هي بعد أن يدغم التاء الثانية في التاء التي من أصل الفعل، كما في قوله تعالى: { وَلاَ تَتّبِعُوَاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّواْ مِن قَبْلُ } [المائدة: 77]، وقد تجتمع تاء واحدة فقط مع تاء الفعل، فتبقى في خطاب العهد المدني كما هي، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلّوْاْ قوْمًا غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ } [الممتحنة: 13]، ولقد وجدنا خطاب القرآن في العهد المدني يلجأ إلى حذف هذه الزوائد لغايات صوتية، كما في حذف التاء الأولى من قوله تعالى: { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالألْقَابِ } [الحجرات: 11]، وقد ذكرت سابقًا أمثلة أخرى على هذه الظاهرة في الفصل الثاني عند خطاب الله تعالى لأهل الإسلامِ(3).
ب– الالتزام باللواصق:
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/224 ).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر صفحة (84) من هذا البحث.(1/33)
... المقصود باللواصق تلك العناصر الصوتية التي تلتصق بأول الكلمة أو آخرها لتضيف إلى الكلمة معنًى صرفيًا(1)، كهمزة المضارع (أقول)، وتاء التأنيث، ونون التوكيد، ونون النسوة وغيرها(2)، ومَثَلُ هذه اللواصق مَثَلُ أحرف الزيادة إذا أتي بها جاءت بلفظها، مهما جاورها من الأمثال أو الأشباه، ومصداقًا لذلك وجدت في خطاب العهد المدني قوله تعالى: { لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ } [آل عمران: 81]، فعند توكيد الفعل (تؤمن) – المنتهي بالنون– بنون التوكيد الثقيلة، وهي نونان الأولى ساكنةٌ والثانية متحركةٌ، اجتمع لدينا ثلاث نوناتٍ متماثلة اللفظ والمخرج والصفات، ولم يحل ذلك دون اجتماعهن معًا، ولكن إن كانت الأولى من هذه النونات ليست من بنية الكلمة فإن خطاب القرآن في العهد المدني يقوم بحذفها، كما في قوله تعالى: { لَتُبْلَوُنّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيرًا } [آل عمران: 186]، فإن الفعلين (تُبْلَوُنّ وتَسْمَعُنّ) حذف منهما النون علامة الرفع، لأنها ليست من أصل الكلمة فالأصول الثلاثية للكلمتين هي ( بلي وسمع)، وهذا أيضًا واقعٌ في (لَتَنصُرُنّهُ) إذ حذفت منه نون الرفع للفعل و واو الجماعة؛ فحذف الأولى لتوالي الأمثال، وحذف الثانية لالتقاء الساكنين.
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/225 ).
(2) ينظر: الخصائص (1/176)، وأسرار العربية (45).(1/34)
... و اجتمعت التاء والطاء في قوله تعالى: { إِنّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } [المائدة: 53]، ووجدت ذلك أيضًا في قوله تعالى: { لَئِن بَسَطتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي } [المائدة: 28]، وفي تواليهما مجاورة الاستعلاء للاستفال(1)، اللتان هما صفتان متعاكستان للحرفين، وكذلك نجد أن الطاء هي لام الكلمة والتاء في الآية الأولى للتأنيث وفي الآية الثانية للخطاب، فالطاء بخصوصها لا يمكن الاستغناء عنها لأنها لام الكلمة، والتاء في الموضعين لا يمكن الاستغناء عنها كذلك، لدلالتها في كل موضع على معنًى خاصٍ بها، ولهذا جاء الترخص في خطاب القرآن الكريم في العهد المدني باجتماعهما معًا. وقد اجتمعا بأسبقية التاء على الطاء في قوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ } [البقرة: 75]، لأن في كلمة (أفتطمعون) ثلاثة لواصقٍ هي همزة الاستفهام في أوله، وفاء العطف بعدها تتلوهما تاء المضارعة للمخاطبين (أهل الإسلام).
ج– الالتزام عند مفصل الكلمتين بتكوين كل منهما :
__________
(1) ينظر: المحيط في أصوات اللغة العربية (1/27).(1/35)
... ومثاله قوله تعالى: { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِيِ } [المائدة: 110]، فهنا التقت الذال والتاء في قوله تعالى (وَإِذْ تُخْرِجُ) ومخرجهما متقاربٌ(1)، فالذال تنطق بوضع طرف اللسان في طرف الثنايا العليا(2)، والتاء تنطق بوضع ظهر اللسان في ملامسة داخل الثنايا العليا وجزءٍ من اللثة(3)، والحكم في قراءة هذا الاجتماع الإدغام، ولكن ذلك الحكم لا يتحقق في هذا الموضع، إذ هو واحدٌ من المواضع التي يخاف فيها على القارئ من الإدغام، في رأي ابن الباذش في الإقناع(4)، وذلك لأن كلمة (إذ) كلمةٌ مستقلةٌ تبدأ بهمزةٍ مكسورةٍ وتنتهي بذالٍ ساكنةٍ، في حين (تُخْرِجُ) كلمةٌ أخرى مستقلةٌ تبدأ بتاء المضارعة، ولو ذهب أحد الصوتين لذهبت الكلمة التي هو منها، فلا مناص حينئذٍ من الترخص في التأليف للمحافظة على الكلمتين ثم المحافظة على المعنى(5).
__________
(1) ينظر: الملخص المفيد ( 74- 75 ).
(2) ينظر:الأصوات اللغوية (47).
(3) ينظر: نفسه (61)، والملخص المفيد (78).
(4) ينظر: الإقناع ( 176)، وما بعدها.
(5) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/227).(1/36)
ومثاله أيضًا قوله تعالى: { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ } [المائدة: 12]، ففي هذه الآية التي خاطب الله تعالى بها بني إسرائيل، التقت الدال والضاد عند مفصل الكلمتين على الرغم من اتصال مخرجيهما(1) واشتراكهما في بعض الصفات(2)، ولكن هذا الاجتماع عولج في القراءة إما بقلقلة الدال كما في قراءة حفصٍ، وإما بالإدغام كما في قراءة ورشٍ(3)، وهكذا خففت وطأة الترخص في الآية.
__________
(1) ينظر: الملخص المفيد ( 74 ).
(2) من تلك الصفات اجتماعهما في طائفة الأحرف الانفجارية والمجهورة، كما في رأي علماء الأصوات المحدثين. ينظر: الأصوات اللغوية (48)، والمحيط في أصوات اللغة العربية (1/26-27).
(3) تنظر القراءتان في: حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع، للشاطبي ( 46 ).(1/37)
الفصل الثالث المبحث الثاني
المستوى الصرفي في خطاب العهد المدني
- النظام الصرفي في اللغة العربية.
- صيغ الفعل في سور الخطاب المدني.
- صيغ المصدر في سور الخطاب المدني.
- صيغ المشتقات في سور الخطاب المدني.
- العلاقة بين البنية الصرفية والمعنى في سور الخطاب المدني.
- التبادل بين الصيغ الصرفية في سور الخطاب المدني.
النظام الصرفي في اللغة العربية:(1/1)
الصرف في اللغة: التغير، ومنه قوله تعالى: { وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ الْمُسَخّرِ بَيْنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ } [البقرة: 164]، أي تغيرها(1)، وفي الاصطلاح: هو ((العلم الذي به تعرف كيفية صياغة الأبنية العربية وأحوال هذه الأبنية التي ليست إعرابًا ولا بناءً))(2)، لذا يبحث علم الصرف في أحكام بنية الكلمة العربية وما قد يطرأ عليها من تغيرٍ بزيادةٍ أو نقصانٍ أوصحةٍ أو إعلالٍ وشبه ذلك(3)، فهو كل دراسةٍ تتصل بالكلمة أو أحد أجزائها، وتؤدي إلى خدمة العبارة أو الجملة، أو تؤدي إلى اختلاف المعاني النحوية(4)، لذا يختلف الصرف عن النحو في أنه يدرس الكلمة المفردة، في حين يدرس النحو الكلمة وهي داخل الجملة(5)، وهذه الكلمة التي يدرسها علم الصرف، يرى الدكتور تمام حسان أنها ((صيغة ذات وظيفةٍ لغويةٍ معينةٍ في تركيب الجملة تقوم بدور وحدةٍ من وحدات المعجم، وتصلح لأن تفرد أو تحذف أو تحشى، أو يغير موضعها، أو يستبدل بها غيرها في السياق، وترجع مادتها غالبًا إلى أصولٍ ثلاثةٍ، وقد تلحق بها زوائد))(6)، فمن ذلك نجد أن التغير في بِنية الكلمة يؤدي إلى تغيرٍ في المعنى، سواء أكان التغير بالزيادة أم كان بالنقصان، قال الزمخشري: «وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم... ويقولون إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى»(7).
ويقوم البحث في علم الصرف على ثلاث دعائم مهمةٍ هي(8):
__________
(1) ينظر: لسان العرب، مادة (صرف)، ( 9/189 ).
(2) المنصف شرح التصريف ( 1/4 ).
(3) ينظر: شرح ابن عقيل ( 4/191 ).
(4) ينظر: المرشد في الصرف، لنظمي حلمي الجمل ( 6 ).
(5) ينظر: المنصف لابن جني ( 1/3 ).
(6) مناهج البحث في اللغة، لـ د. تمام حسان ( 232 ).
(7) الكشاف ( 1/49 ).
(8) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها ( 25-26 و 85 ).(1/2)
1– مجموعة من المعاني الصرفية التي يرجع بعضها إلى تقسيم الكلم، ويعود بعضها الآخر إلى تصريف الصيغ كالإفراد وفروعه، والتكلم وفروعه، والتذكير والتأنيث، والتعريف والتنكير.
2– طائفة من المباني، بعضها صيغ مجردة، وبعضها لواصق، وبعضها زوائد، وبعضها مباني أدوات.
3– طائفة من العلاقات العضوية الإيجابية، وهي وجوه الارتباط بين المباني وطائفة أخرى من القيم الخلافية أو التقابلات، كالعلاقة الايجابية بين (ضَرْب) و(شَهْم) من حيث تشابههما في صيغة (فَعْلَ)، وكالمقابلة التي تمثلها القيمة الخلافية بين أحدهما والآخر من جهة المعنى، فأولاهما مصدر وثانيهما صفة مشبهة، وتفرق اللغة بين الكلمة وصاحبتها بمثل هذه المقابلات، كالتجرد في مقابل الزيادة، والصيغة في مقابل الصيغة الأخرى، والتكلم في مقابل الخطاب والغيبة، والاسمية في مقابل الفعلية، وهلم جرَّا.
وفي دراستي الصرفية لسور خطاب القرآن الكريم في العهد المدني، سأتناولها من حيث: الصيغة وتنوعها في آيات الخطاب، والمشتقات، وتناوب الصيغ في سور الخطاب المدني، ودلالة تلك الصيغ، وعلاقة الصيغة الصرفية بالمعنى في سور الخطاب المدني.
صيغ الفعل في سور الخطاب المدني:
تعدُّ الصيغة الفعلية إحدى الوسائل التي تعبر عن الزمن في النظام الصرفي في العربية، وربما لا تفصح صيغة الفعل عن الزمن؛ فيعول حينئذٍ على السوابق واللواحق الواردة في تركيب الفعل، أو على السياق الذي ورد فيه الفعل.
وقد ورد الفعل في سور الخطاب المدني على صيغٍ كثيرةٍ، منها الصيغ الآتية:(1/3)
1– صيغة الفعل الماضي (فَعَلَ): سواء المجرد أم المزيد بحروف الزيادة أم الملحق به اللواصق، ومن تلك الآيات التي وردت فيها هذه الصيغة، قوله تعالى: { جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لّلنّاسِ } [المائدة: 97]، فالفعل (جَعَلَ) على صيغة (فَعَلَ) الثلاثي المجرد، وهذه الصيغة أكثر ورودًا في خطاب العهد المدني(1)، لأنها أكثر دورانًا في الكلام من غيرها، وهذا ما وكَّده سيبويه بقوله: «وإنما كان فَعَلَ كذلك لأنه أكثر في الكلام، فصار فيه ضربان، ألا ترى أن (فَعَلَ) فيما تعدى أكثر من (فَعِلَ)، وهي في ما لا يتعدى أكثر، نحو قَعَدَ وجَلَسَ»(2)، ونجد في خطاب العهد المدني الفعل (قالوا)، على صيغة (فعلوا) بزيادة واو الجماعة، جاء في خطاب الملائكة لله - عز وجل - ، في قوله تعالى: { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [البقرة: 30]، وهناك صيغة أخرى للفعل الماضي المجرد بكسر عين الفعل كـ(رَضِيَ) في قوله تعالى: { لقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ } [الفتح: 18]، و (فَرِحَ)، و(كَرِهَ) في قوله تعالى: { فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوَاْ أَن يُجَاهِدُواْ } [التوبة:81]، وصيغة ثالثة لهذا الفعل وردت في الخطاب المدني، وهي صيغة (فَعُلَ)، كما في قوله تعالى: { كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللّهِ } [الصف: 3]، ، وهذا يرجع إلى أن الكلام المفتوح الحرف يروق للمتكلم وللمستمع؛ لما يوحي به من حركة ونشاط وحيوية وإرادة بالنسبة إلى الكلام المكسور الذي يشير إلى الانهزام والخضوع وبالنسبة إلى الضم الذي يدل على التراكم والتفاقم والركود(3)،
__________
(1) ينظر: الدلالة الإيحائية في الصيغة الإفرادية، لـ د. صفية مطهر (46) وما بعدها.
(2) الكتاب (4/ 104).
(3) ينظر: فلسفة الحركات في اللغة العربية، بحث، لـ أ..أحمد الأخضر غزال، مجلة اللسان العربي (م10/ج1/ص70).(1/4)
على أن هذا التغير في حركة عين الفعل يدل على أن للفعل معنًى يختصّ به مع كل حركة منهن، فالفتحة دليل على العمل الصادر عن الفاعل بإرادة منه، والكسرة دليل على تأثر الفاعل من طرف العالم الخارجي لأنه يقع على الفاعل بغير إرادة منه، والضمة تعطي معنى حصول الشيء للفاعل لا حصولاً طارئًا أو مؤقتًا بل بكثرة ودوام حتى النهاية(1).
2– صيغة الفعل المضارع (يَفْعَلُ) و (يفْعِل) و(يَفْعُل): هذه الصيغ وردت للفعل المجرد وللفعل المزيد، وجاءت تلك الصيغ في سور الخطاب المدني مجتمعةً، في قوله تعالى: { إِنّ اللّهَ لاَ يَسْتَحْيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } [البقرة: 26].
__________
(1) ينظر: فلسفة الحركات في اللغة العربية (م10/ج1/ص70).(1/5)
3– صيغة (فَاعَل): وتدل هذه الصيغة على المشاركة(1)، إذ المشاركة ((لنسبة أصله إلى أحد الأمرين متعلقًا بالآخر))(2) وقال سيبويه: «اعلم أنك إذا قلت: فاعلته، فقد كان من غيرك إليك مثل ما كان منك إليه حين قلت فاعلته»(3)، ومن شواهدها في سور الخطاب المدني، الفعل (قَاتَلَ) في قوله تعالى: { قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ } [التوبة: 30]، وقد خاطب الله تعالى المنافقين بهذه الصيغة في السور المدنية فقال لهم: { يَحْسَبُونَ كُلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ } [المنافقون: 4]، وكما نرى في الآيتين السابقتين فإن هذه الصيغة جاءت دعاءً عليهم من الله تعالى، ثم لحق هذا الدعاء صيغة استفهام، فيها تعجب من الفعل الذي قاموا به في (أنَّى يؤفكون) ، كما أن هذه الصيغة وردت بالأمر من الله تعالى للمؤمنين في خطابه لهم فقال: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [الأنفال: 39].
__________
(1) ينظر: الدلالة الإيحائية للصيغة الإفرادية (82).
(2) شرح الشافية للرضي (1/ 95).
(3) الكتاب (4/ 68).(1/6)
4– صيغة (تَفَاعَل): وتدل هذه الصيغة على المشاركة(1)، لذا يقع الحدث بهذه الصيغة من اثنين، في لحظة واحدة، بحيث يشترك الطرفان في أصله، ومن ذلك في خطاب العهد المدني قوله تعالى: { ويَسْأَلُونَكَ عنِ اليَتامَى قُلْ إصْلاَحٌ لَهُم خَيْرٌ وإِنْ تُخَالِطوهُمْ فإِخْوانُكُمْ } [البقرة: 220]، نُسب أصل تخالطوهم الذي هو المخالطة إلى أمرين(2) هما: ضمير الجماعة المتصل الواقع فاعلاً، وأيضًا ضمير الجماعة المتصل (هم) والمراد به اليتامى(3)، وجاءت هذه الصيغة في خطاب الله تعالى للمؤمنين لتدل على المطاوعة(4)، في قوله تعالى: { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } [البقرة: 191].
5-صيغة (يفاعل): وهي تدل على ما تدل عليه سابقتها، كما في (يُخَادِعُونَ و يُرَآءُونَ) في قوله تعالى: { إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوَاْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النّاسَ } [النساء: 142]، فالفعل (يرآءون) يدل على أنهم يتظاهرون في صلاتهم، وهذا التظاهر من معاني هذه الصيغة(5)، إذ إنهم يظهرون للناس من أنفسهم ما ليس عندهم(6).
__________
(1) ينظر: الدلالة الإيحائية للصيغة الإفرادية (82).
(2) ينظر: شرح الشافية، للرضي (1/ 96).
(3) ينظر: نفسه.
(4) ينظر: المقتضب، للمبرد (1/ 78).
(5) ينظر: شرح الشافية(1/ 96)، وشذا العرف (43).
(6) ينظر: المقتضب، للمبرد (1/ 78).(1/7)
6– صيغة (فَعَّلَ): وهذه الصيغة تأتي للدلالة على تكثير الفعل من الفاعل(1)، كما في قوله تعالى: { سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } [الحشر: 1]، وكما في خطابه مع المنافقين في (بطأ) و(قتل)، جاء الأول بصيغة المضارع، في قوله تعالى: { وَإِنّ مِنْكُمْ لَمَن لّيُبَطّئَنّ } [النساء: 72]، والثاني بصيغة الماضي، في قوله تعالى: { أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً } [الأحزاب: 61]، فالآيات السابقة تدل على كثرة العمل للفعل من الفاعلين(2)، وكذا على المبالغة فيه كما في (قُتِّلوا)، والدلالة على التكثير في تلك الأفعال، جاءت سواء أفي تكثير جانب الخير، في تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى، أم في تكثير جانب الشرّ، في تبطئة المنافقين والتهديد بقتلهم أينما وجدوهم، إن لم يتوبوا. كما تدل صيغة (فعَّل) على تعدية الفعل إلى مفعولين(3)، في قوله تعالى: { وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَآءَ كُلّهَا } [البقرة:31].
__________
(1) ينظر: الدلالة الإيحائية (86).
(2) ينظر: شرح الشافية (1/92).
(3) ينظر: نفسه (80).(1/8)
7– صيغة (افْتَعَلَ): وهي من صيغ الفعل الثلاثي المزيد بحرفين، لتدل على المبالغة في الفعل(1)، كما في الفعل (احتمل)، في قوله تعالى: { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مّبِينًا } [النساء: 112]، والفعل (ارتاب) في خطاب الله تعالى للمؤمنين، في قوله تعالى: { إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } [الطلاق: 4]، وصورته هنا بحذف عين الفعل (الألف) لالتقاء الساكنين. وجاء هذا الفعل سالمًا في خطاب الله تعالى للمنافقين، في قوله تعالى: { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدّدُونَ } [التوبة: 45]، كما أن هذه الصيغة وردت بصورة الفعل المضارع مع تغيرٍ في الحروف فالفعل (اختان)، جاء بصورة المضارع في خطاب الله تعالى للمؤمنين في قوله تعالى: { عَلِمَ اللّهُ أَنّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } [البقرة: 187]، وهذا في معرض التوبة لهم من الله تعالى، ثم إن الله تعالى عبَّرَ عن فعلهم بصيغة المضارع المنقول إلى الزمن الماضي بقرينة (كنتم)، والماضي ينقطع، بدخول المضارع، عن الزمن، ولكن المنافقين لا يزالون على هذه الحالة؛ لذا جاء هذا الفعل من الله تعالى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بصيغة المضارع فقال له عنهم: { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } [النساء: 107]، وقد تدل صيغة (افتعل) على الاجتهاد في تحصيل الفعل نحو اكتسب(2)، إذ هناك من العلماء من فرق بين كسب واكتسب، كسيبويه(3) وابن منظور(4)
__________
(1) ينظر: شرح الشافية ( 1/110 )، وشذا العرف ( 44-45 )، والدلالة الإيحائية للصيغة الإفرادية (79) وما بعدها.
(2) ينظر: شرح الشافية (1/ 110).
(3) ينظر: الكتاب (4/ 74).
(4) ينظر: اللسان، مادة (كسب)، (1/716)..(1/9)
مثلاً؛ إذ البناء الأساسي كسب هو بمعنى أصاب(1)، أما اكتسب فهو بمعنى اجتهد في تحصيل الإصابة بأن زاول أسبابها(2)، ومن ذلك قوله تعالى: { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286]، وهناك من لم يفرق بينهما وعدهما بمعنى واحد(3).
8– صيغة (تَفَّعَلَ): وهي من صيغ الفعل الثلاثي المزيد بحرفين: التاء في أوله وتضعيف عينه(4)، وتأتي هذه الصيغة لمعانٍ متعددةٍ: منها التكلف(5) كـ(تصَّبر وتحلَّم) أي تكلَّف الصبر وتكلَّف الحلم، وقد وردت هذه الصيغة في خطاب الله تعالى للمنافقين في قوله تعالى: { قُلْ هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوَاْ إِنّا مَعَكُمْ مّتَرَبّصُونَ } [التوبة: 52]، وكما في خطاب الله تعالى لنساء المؤمنين في قوله تعالى: { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } [البقرة: 228].
9– صيغة (اسْتَفْعَلَ): وهي من صيغ الثلاثي المزيد بثلاثة أحرفٍ، ومن معانيها(6):
أ– الطلب حقيقةً(7)، كاستغفرت الله، أي طلبت مغفرته، ومن شواهد هذه الصيغة ما جاء في طلب المنافقين الاستئذان من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في قوله تعالى: { اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطّوْلِ مِنْهُمْ } [التوبة: 86]، واستئذانهم طلب بالعفو عن ذهابهم للجهاد في سبيل الله تعالى، وجاءت هذه الصيغة أيضًا في نهي المؤمنين عن إتباع أعمال الكافرين في (تستقسموا) من قوله تعالى: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ } [المائدة: 3].
__________
(1) ينظر: نفسه.
(2) ينظر: شرح الشافية (1/ 110).
(3) ينظر: نفسه (1/ 108).
(4) ينظر: الدلالة الإيحائية (90).
(5) ينظر: نفسه.
(6) ينظر: شذا العرف ( 46-47 ).
(7) ينظر: الكتاب ( 4/70).(1/10)
ب– القوة، كاسْتُهْتِرَ واسْتَكْبَرَ، أي قَوِيَ هَتْرُهُ وكِبرُه(1)، وهذه الدلالة جاءت في قوله تعالى: { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ } [المجادلة: 19]، فكأنما ملكهم الشيطان وقوي سلطانه عليهم(2)؛ لذا أنساهم ذكر الله تعالى، وهل يقع النسيان إلا بعد زوال قوة العقل عن التذكر؟!، إذ لا تزول تلك القوة منهم إلا بقوة تحكم شيء ما على عقولهم وتفكيرهم؛ فيطيعونه بلا تدبرٍ ولا تفكرٍ، وما من قوةٍ تجعل الإنسان يتذكر أشد من قوة الإيمان التي سلبها الشيطان منهم، ومثله أيضًا الفعل (استهزأ)، إذ ذكره الله تعالى عن المنافقين بصيغة المضارع، فقال عنهم: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } [التوبة: 65].
ثانيًا: صيغ المصدر في سور الخطاب المدني:
... المصدر ((كلمة تدل على حالةٍ أو حدثٍ دون الإشارة إلى زمنٍ معينٍ))(3)، أو هو ((الاسم الدال على حدثٍ مجردٍ من الزمان كالقيام والقعود والكتابة))(4)، ويجب فيه أن يشتمل على أحرف فعله الماضي الأصلية والزائدة(5).
والمصادر أنواع منها مصادر الثلاثي، وغير الثلاثي، والمصدر الميمي.
1– مصادر الثلاثي:
__________
(1) ينظر: شذا العرف (47).
(2) ينظر: تفسير الطبري (12/25)، وتفسير البغوي (8/62).
(3) شذا العرف ( 74 ).
(4) الكتاب ( 4/21 ).
(5) ينظر: تصريف الأسماء والأفعال ( 130-131 )، وجامع الدروس العربية ( 1/160 ).(1/11)
مصادر الأفعال الثلاثية سماعية غالبًا(1)، إذ ليس لها ضوابط قياسية ثابتة(2)، ودليل ذلك أنك تجد الفعل الواحد قد يأتي له أكثر من مصدرٍ كالفعل (لقي) فمن مصادره (لقاءً)، و(لقيانًا)، و(لقيًا)، وكذلك الفعل (مكث) و(وجد) و(فاض) و(سقى) وغيرها من الأفعال(3)، وأرجع العلماء ذلك الأمر إلى ما يأتي(4):
1– اختلاف لغات العرب.
2– اختلاف المعنى الدال عليه ذلك المصدر.
ومصادر الثلاثي المجرد التي وردت في سور الخطاب المدني هي:
أ– صيغة (فَعْل): وهذه الصيغة جاءت في الخطاب المدني في (ضَرْب) من قوله تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ } [محمد: 4]، وفي المصدر(أَمْر) و (أَمْن) و(خَوْف)، من قوله تعالى: { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ } [النساء: 83]، وكذلك (كَرْه) في قوله تعالى: { لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَآءَ كَرْهًا } [النساء: 19]، فكل هذه المصادر جاءت في خطاب الله تعالى لأهل الإسلام، ومنه المصدر (جهد) من قوله تعالى: { أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنّهُمْ لَمَعَكُمْ } [المائدة: 53]، في خطاب الله تعالى لأهل النفاق.
__________
(1) ينظر: شذا العرف ( 77 ).
(2) ينظر: الكتاب ( 4/21 ).
(3) ينظر: معاني الأبنية ( 18 ).
(4) ينظر: نفسه ( 18- 19 ).(1/12)
ب– صيغة (فَعَلَ): وهذه الصيغة جاءت في قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } [البقرة: 243]، وقوله تعالى: { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ } [البقرة: 19]، فهذا المصدر ورد بمعنى الخوف من الموت، فكأنما هذا المصدر لا يرد إلا في الخوف المجهول السبب، لأن الله تعالى خاطب المؤمنين بهذا المصدر، وكان مكسور الفاء ساكن العين، في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } [النساء: 71]، وقوله تعالى: { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ... أَن تَضَعُوَاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } [النساء: 102] الآية، فالفرق بين المصدرين، كما هو ظاهر في المواضع، أن الأول: يعبّر عن حال المنافق والكافر، بأنهم خائفون على الدوام لعدم إيمانهم بالله وعدم إحساسهم بما يقويه، أما المؤمنون فإن الله تعالى ناصرهم وهم واثقون بذلك، ومع هذا لا بد لهم من الحِذْر وهو التأهب والإعداد كأنهم يحذرون أن يغدر بهم في مواطن الموت الأكيدة(1)، والتي ليست متحققة عند المنافقين، فإن المصدر عند المنافقين والكفار، جاء في حال سفرهم وهم ألوف، وفي حال إنزال المطر من السماء، ولكن المصدر في خطاب الله تعالى للمؤمنين كان في موطن الجهاد، وهو موطن يتحقق فيه الموت فيتطلب حِذْرًَا حقيقيًا، حِذْرًَا يتضمن الحَذَرَ(2)، الذي في المواطن الأخرى.
__________
(1) ينظر: لسان العرب، مادة (حذر)، (4/175).
(2) ينظر: فتح القدير (395).(1/13)
ج – صيغة (فِعْل): وهذه الصيغة وردت في خطاب الله تعالى للمنافقين بقوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ } [النور: 11]، وعند خطاب الله تعالى لأهل الإسلام في (رجس) (1) من قوله تعالى: { إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } [المائدة: 90]، وفي (إثم) من قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ } [المجادلة: 9]، على أن المصدر (إثم) كان أكثر دورانًا في سور الخطاب المدني منه في السور المكية، إذ لم يرد هناك إلا في أربعة مواضع فقط(2)، لما فيه من التأديب والتعليم لهم، لأن الإثم هو ((الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم، وقيل: ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب)) (3)، ومن هذا الوزن المصدر (حِذْر)، المذكور آنفًا.
د– صيغة (فُعْل): وهذه الصيغة وردت في قوله تعالى: { وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة : 217].
هـ – صيغة (فِعَال): وهذه الصيغة تدل على الإباء والهياج وانتهاء زمن الفعل (4)، كما في قوله تعالى: { إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَارًا } [الأحزاب: 13]، وكما في قوله تعالى: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ } [النور: 33].
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م5/ج7/22).
(2) هي الأنعام: 29، والأعراف: 33، والشورى: 37، والنجم: 32.
(3) روح المعاني (م1/ج1/492).
(4) ينظر: الكتاب ( 4/11-12 ).(1/14)
و – صيغة (فَعَال): وهذه الصيغة وردت في قوله تعالى: { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } [الجمعة: 2]، فهذه الصيغة جاءت في السياق بيانًا لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم، وإزاحةً لما عسى أن يتوهم من تعلمه من الغير(1)،وإنما كان ضلالهم ضلالاً مبينًا لأنه أفحش ضلال(2)، ومن شواهد هذه الصيغة (فساد) من قوله تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ } [المائدة: 32]، إذ جاءت هنا في رأي الرازي لتدل على الإحاطة بمعاني كثيرة، قال في تفسيره: «بغير فساد في الأرض، وإنما قال تعالى ذلك لأن القتل يحل لأسباب كثيرة، منها القصاص وهو المراد بقوله { مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرضِ } ومنها الكفر مع الحراب، ومنها الكفر بعد الإيمان، ومنها قطع الطريق وهو المراد بقوله تعالى بعد هذه الآية { إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } [المائدة: 33 ] فجمع تعالى كل هذه الوجوه في قوله { أَوْ فَسَادٍ فِي الأرضِ } »(3)، فهو على هذا المعنى اسم مصدر وليس مصدرًا إذ إن معناه إفساد(4)، ومنها أيضًا (خبال) من قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [آل عمران: 118]، إذ جاءت هذه الكلمة في هذا السياق الدال على المبالغة في فعلهم؛ لأنهم لا يَدَعون جهدهم في مضرة المؤمنين وإفسادهم(5).
__________
(1) ينظر: تفسير أبي السعود (5/722).
(2) ينظر: التحرير والتنوير (م13/ج28/210).
(3) تفسير الرازي (م6/ج12/218).
(4) ينظر: نفسه.
(5) ينظر: تفسير الرازي (م4/ج8/218).(1/15)
ز – صيغة (فُعُول): وهذه الصيغة تأتي من الثلاثي اللازم المفتوح العين(1)، ومن شواهد هذه الصيغة، قوله تعالى: { إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ } [التوبة: 83]، وهذا المصدر جاء لتوبيخهم، أي إنّهم أحبّوا القعود ورضوا به، في قوله تعالى: { فَرِحَ الْمُخَلّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ } [التوبة:81]، فزادهم الله منه(2)، على أن (مقعدهم) مصدر ميمي يعني بقعودهم(3)، والقعود مستعمل هنا في ترك الغزو تشبيهًا للترك بالجلوس(4). ومن شواهد هذه الصيغة أيضًا، قوله تعالى: { رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُودًا } [النساء: 61]، والمصدر هنا مؤكد لفعله(5).
ح – صيغة (فُعْلان): ومن شواهد هذه الصيغة في خطاب السور المدنية، قوله تعالى: { وَلَيَزِيدَنّ كَثِيرًا مّنْهُمْ مّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [المائدة: 68]، فالمصدر في هذا السياق يدل على شدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد، وعدم إفادتهم من دعوتهم إلى الدين(6)، وقد سمّى الله تعالى ما يعترضهم من الحقد في قلوبهم لهذا الدّين (طُغيانًا)؛ لأنّ الطغيان هو الغلوّ في الكفر(7) واقتحام المكابرة مع عدم الاكتراث بلوم اللاّئمين، و جاء المصدر ( بهتان) و (سبحان) في قوله تعالى: { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16]، ليدلان على المبالغة في إنكار الشيء والتعجب من وقوعه(8).
__________
(1) ينظر: شذا العرف ( 76 ).
(2) ينظر: التحرير والتنوير (م6/ج10/283).
(3) ينظر: نفسه (م6/ج10/280).
(4) ينظر: نفسه (م/ج10/215).
(5) ينظر: الدر المصون (2/382).
(6) ينظر: روح المعاني (م4/ج6/292).
(7) ينظر: اللسان، مادة (طغي)، (15/7).
(8) ينظر: تفسير البغوي (6/25).(1/16)
ط – صيغة (فِعْلان): وهذه الصيغة، بكسر فاء الكلمة، من شواهدها ما جاء في الخطاب المدني، في قوله تعالى: { أَفَمَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مّنَ اللّهِ } [آل عمران: 162]، إذ جاء المصدر في سياق ((الاستفهام للإنكار، أي: ليس من اتبع رضوان الله في أوامره، ونواهيه، فعمل بأمره، واجتنب نهيه كمن باء: أي: رجع بسخط عظيم، كائن من الله، بسبب مخالفته لما أمر به، ونهى عنه)) (1)، والمصدر رضوان يعنى أنهم أرضوا الله بفعلهم ذلك(2)، وجاءت هذه الصيغة أيضًا في الآية [174] من السورة نفسها.
2– مصادر غير الثلاثي:
... وهذه المصادر مقيسة(3)، ومن صيغها الواردة في السور المدنية، ما يأتي:
__________
(1) فتح القدير(326).
(2) ينظر: تفسير الطبري (7/414).
(3) ينظر: تصريف الأسماء والأفعال ( 136 ).(1/17)
أ – صيغة (إِفْعَال): وتأتي من (أَفْعَلَ-إِفْعَالاً)، وقد يحدث لها إعلال في البناء، يظهر في حذف ألف (إِفْعَال) والتعويض منها بهاءٍ في آخر المصدر، بسبب اعتلال (عينه)(1)، فتنقل حركتها إلى الفاء وتقلب ألفًا؛ لتحركها بحسب الأصل؛ وانفتاح ما قبلها بحسب الآن، ثم تحذف الألف الثانية لالتقاء الساكنين، وتعوض منها التاء، كـ (أقام إقامة) و (أناب إنابة)، وقد ((أثبتت الهاء لئلا تحذفها فتجحف، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها)) (2)، كما في قوله تعالى: { رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ } [النور: 37]، ومن شواهد صيغة (إفعال) في سور الخطاب المدني (إحسان) من قوله تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [النساء: 36]، و(إرصاد) في قوله تعالى: { وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ } [التوبة: 107]، على أنه قد يحدث لصيغة (إفْعَال) تغير في الصيغة فتجيء على وزن (فَعَال)، بحذف الألف، وحينئذٍ تسمى هذه الصيغة اسم المصدر(3)، ومن شواهدها في سور الخطاب المدني قوله تعالى: { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [آل عمران: 37]، ولم يقل (إنباتًا)، قال أبو السعود: « { نَبَاتًا حَسَنًا } مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد، وقيل: بل لفعلٍ مضمرٍ موافقٍ له تقديره فنبتت نباتًا حسنًا»(4)،
__________
(1) ينظر: شذا العرف ( 78 ).
(2) تفسير القرطبي (12/280).
(3) ينظر: شذا العرف ( 79 ).
(4) تفسير أبي السعود ( 1/354 )..(1/18)
والفرق بين بنية المصدر واسمه (( أن المصدر هو اسم الحدث الجاري على فعله، أمَّا اسم المصدر فهو اسم الحدث غير الجاري على فعله، أما الأصوليون فلا يفرقون بينهما لفظيًا فكل لفظٍ دلَّ على حدثٍ عندهم هو مصدر، سواء جرى على فعله أم لم يجرِ، وفرَّق بينهما بعضُهم من حيث المعنى لا اللفظ)) (1)، وقيل: إن في اسم المصدر زيادةً في المعنى(2)، فإن الإنبات لا يكون إلا من زارعٍ، وهو يدل على الشدة والعسر في العمل، ولكن اسم المصدر (نباتًا) يدل على لطف الله تعالى بها، إذ أخرجها بيسرٍ من الأرض، وكأنها تنتمي إليها وليست بغريبةٍ عنها، أما الإنبات فيكون بغرس الشجرة في الأرض، سواء أكانت صالحةً للنبات في تلك الأرض أم لا، و(نباتًا) يقين بأنها صالحة لتلك الأرض فهي منها، وخرجت بغير زارعٍ ظاهرٍ يقوم عليها إلا الله عز وجل.
ب – صيغة (انْفِعَال): وهي تدل على التغير والتبدل(3)؛ لأن هذا المصدر يفيد المطاوعة(4)، كما في قوله تعالى: { وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبّطَهُمْ } [التوبة: 46]،.
ج – صيغة (تَفَعُّّل): وهذه الصيغة أتت من الفعل المضعف العين، والمزيد بتاءٍ في أوله، ومن شواهدها، في سور الخطاب المدني، قوله تعالى: { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [النور: 33]، فمعنى الآية: إذا أرَدْنَ، وليس معناها الشرط، لأن إكراههن على الزنا لا يقع إن لم يردْن تحصنًا(5)، فإن لم تُرِد التحصن بغت طوعًا، وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج الغالب، لأن الغالب أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن (6).
__________
(1) ظاهرة النيابة في العربية (221).
(2) ينظر: روح المعاني ( م3/ج3/223 ).
(3) ينظر: نفسه (م6/ج10/160).
(4) ينظر: التحرير والتنوير (م6/ج10/215).
(5) ينظر: الدر المصون (6/218).
(6) ينظر: نفسه.(1/19)
د– صيغة (تَفْعِيل): وتأتي من الفعل المضعف العين(1)،كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ صَلّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56]، إذ جُعِل السلامُ تحية عند اللقاء للبدء بالتأمين، فقد كان العرب إذ التقوا أحدًا توجّسُوا خِيفة منه، لذا يدفع كلاهما ذلك الخوف بالإِخبار بأنه مُلق على مُلاقيه سلامة وأمنًا(2)، ومثله المصدر (توفيق) في قوله تعالى: { إِنْ أَرَدْنَآ إِلاّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } [النساء: 62] (3)، فهو في هذا الموضع يظهر كذب المنافقين بقولهم: ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك (إِلاَّ إِحْسَانًا) لا إساءة (وَتَوْفِيقًا) بين الخصمين، ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطًا لحكمك، ففرج عنا بدعائك، وهذا وعيد لهم على فعلهم، وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم(4). وقد تحذف هذه التاء من المصدر (تَفْعِيل) وينقل إلى اسم مصدر، كما في خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: { فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحًا جَمِيلاً } [الأحزاب: 28]، وجاء أيضًا في خطاب الله تعالى للمؤمنين، في قوله تعالى: { فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحًا جَمِيلاً } [الأحزاب: 49]، ودلالة اسم المصدر هنا على اليسر، كما في دلالته في صيغة (إنباتًا)، فلا حاجة بي للإطالة.
هـ -صيغة (فِعَال): من شواهد هذه الصيغة في الخطاب المدني، قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [البقرة: 217].
__________
(1) ينظر: الكتاب ( 4/79 ).
(2) ينظر: التحرير والتنوير (م11/ج22/28).
(3) والتوبة: 107.
(4) ينظر: الكشاف (1/558).(1/20)
و – صيغة (فَعْلال): وهذه الصيغة تأتي من الفعل الرباعي المضاعف، ويجوز فيها الفتح والكسر(1)، لتدل على اسم الفاعل نحو (وَسْوَاس) من قوله تعالى: { مِن شَرّ الْوَسْوَاسِ الْخَنّاسِ } [الناس: 4]، ومعناها هنا (الموسوس) (2)، وجاءت هذه الصيغة في الخطاب المدني بكسر الفاء في نحو (زِلْزَال) من قوله تعالى: { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيدًا } [الأحزاب: 11]، وهذا المصدر دل على المبالغة في الزلزلة، قال البغوي: «حُرّكوا حركة شديدة»(3).
3– المصدر الميمي:
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م12/ج21/240).
(2) ينظر: شذا العرف (79).
(3) تفسير البغوي (6/331).(1/21)
... وهو يدل على ما يدل عليه المصدر الأصلي(1)، أو اسم المصدر تجوزًا(2)، غير أنه يبدأ بميمٍ زائدةٍ، ويصاغ من الثلاثي على وزن (مَفْعَل) بفتح الميم والعين وسكون الفاء، فإذا كان الفعل الثلاثي مثالاً محذوف الفاء في المضارع، فيكون مصدره (مَفْعِل) بكسر العين كـ(مَوعِد)، و(مَوضِع)(3)، أما غير الثلاثي فإنه يصاغ على وزن اسم المفعول، كالمنْطَلَق والمنقَلَب(4)، على أن هناك فرقًا بين المصدر الميمي والمصدر الأصلي يظهر في أن المصدر الميمي يحمل معنى الذات غالبًا، فهو – أي المصدر الميمي– يدل في نهاية الأمر على فاعله، وهو أكثر توكيدًا للمعنى من المصدر الأصلي(5)، ومن شواهد هذا المصدر قوله تعالى: { وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [التغابن: 3]، فإن قوله تعالى (المصير) يختلف عن معنى المصدر (الصيرورة)، بأن الأول يعني انتهاء الأمر إليه في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالاً أو اشتراكًا، والثاني لا يدل على ذلك(6)، ومن شواهد هذا المصدر في سور الخطاب المدني أيضًا، قوله تعالى: { عَسَى اللّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُم مّنْهُم مّوَدّةً } [الممتحنة: 7]، وقوله تعالى: { وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يَتّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ } [التوبة: 98]، ويدل هذا المصدر كذلك على صيغة المصدر(فُعُول) كما مرَّ بنا قريبًا(7)،
__________
(1) ينظر: الشافية في علم التصريف، للدويني (28)، والوافية نظم الشافية، للنيسابوري (27).
(2) ينظر: شرح شذور الذهب (526)، وهمع الهوامع (3/66).
(3) ينظر: شذا العرف (73).
(4) ينظر: معاني الأبنية (34).
(5) ينظر: نفسه (34-35).
(6) ينظر: روح المعاني (م15/ج28/179).
(7) ينظر صفحة (148) من هذا البحث..(1/22)
لذا نجد الخطاب المدني يلجأ أحيانًا إلى العدول بين المصادر في الآية نفسها؛ فيعدل عن المصدر القياسي إلى المصدر الميمي في سياق الحديث عن أهل المغفرة (1)، كما في قوله تعالى: { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ } [آل عمران: 157]، ثم إن من الملاحظ في الخطاب المدني أنه لا يتوسع في استعمال المصادر الميمية ما يتوسعه في استخدام المصادر الأخرى؛ لأنه لا يوقع المصدر الميمي حالاً في الغالب(2)، لما للمصدر الميمي من زيادة الدلالة على الحدث بما يشير إلى المكان والوجهة، إذ يحمل المصدر الميمي عنصرًا ماديًا(3).
ثالثًا: المشتقات في سور الخطاب المدني:
... الاسم المشتق هو ((ما أُخذ من غيره ودل على ذاتٍ))(4)، وهو عند الصرفيين سبعة أسماءٍ هي اسم الفاعل واسم المفعول وصيغ المبالغة والصفة المشبهة واسم التفضيل واسما الزمان والمكان واسم الآلة(5)، ولكنني سأدرس ما استطعت إيجاده منها في سياق خطاب القرآن في سور العهد المدني.
__________
(1) ينظر: إشكالية الصيغة في المصدر الميمي، بحث ، لـ د. مصطفى النحاس، مجلة المجمع (ج86 ص167).
(2) ينظر: معاني الأبنية (35)، ومثال ذلك ينظر في صفحة (191) من هذا البحث.
(3) ينظر: نفسه.
(4) شذا العرف (74).
(5) ينظر: المفصل (1/274)، وشرح شذور الذهب (1/491).(1/23)
فصيغة (اسم الفاعل) تشتق من الفعل المبني للمعلوم، للدلالة على من وقع منه الفعل أو من قام به(1)، فهو الوصف الدال على الفاعل الجاري على حركات المضارع وسكناته(2)، ولا يخلو إما أن يكون معرفًا بـ (ال) أو مجردًا منها، وهو يختلف عن الصفة المشبهة بأنها أدوم منه وأثبت في الزمن(3)، ويصاغ من الفعل الثلاثي على وزن (فاعل) فإن كان أجوف معلاً قلبت ألفه همزةً(4)، ومن غير الثلاثي يصاغ على وزن مضارعه بإبدال حرف المضارعة ميمًا مضمومةً وكسر ما قبل الآخر(5)،
__________
(1) ينظر: شرح الكافية (2/198).
(2) ينظر: المنهج الصوتي للبنية العربية، لـ د.عبد الصبور شاهين (114).
(3) ينظر: مغني اللبيب (1/598)، ورسالة في اسم الفاعل، للإمام أحمد بن قاسم العبادي (72).
(4) من أمثلة ذلك قوله تعالى: { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين } [البقرة: 177].
(5) ينظر: المفصل ( 1/304 )..(1/24)
وعلى ذلك جاءت صيغة اسم الفاعل في سور الخطاب المدني في قوله تعالى: { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لّمْ يَذْهَبُواْ حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ } [النور:62]، وقوله تعالى: { فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } [محمد: 13]، ومن شواهد تعريفه بـ (ال) قوله تعالى: { وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]، وكذلك قوله تعالى: { الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور: 2]، وقد جاءت صيغة اسم الفاعل مجموعةً جمع مذكر سالمًا في قوله تعالى: { يَوَدّواْ لَوْ أَنّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ } [الأحزاب: 20]، وأما صيغة (مُفْعِل)، فمن شواهدها في سور الخطاب المدني قوله تعالى: { وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة: 72]، وقوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاّ خَطَئًا } [النساء: 92]، وجاءت مجموعةً جمع مذكر سالمًا في حالة النصب، في قوله تعالى: { قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا } [الأحزاب: 18]، وجاءت مجموعةً بألفٍ وتاءٍ في قوله تعالى: { أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مّنكُنّ مُسْلِمَاتٍ مّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَارا } [التحريم: 5].(1/25)
أما صيغة (اسم المفعول) فهي صفة تؤخذ من الفعل المبني للمجهول للدلالة على حدثٍ وقع على الموصوف بها على وجه الحدوث والتجدد(1)، وتصاغ من الثلاثي على وزن (مَفْعُول)، ومن غير الثلاثي تصاغ كما يصاغ اسم الفاعل، ولكن بفتح ما قبل الآخر(2)، فإذا كان الفعل أجوفًا فيحدث لاسم المفعول إعلال تقتضيه القواعد الصرفية(3)، ومن شواهد صياغته من الثلاثي ما جاء في قوله تعالى: { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنّ } [الممتحنة: 12]، وقوله تعالى: { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } [الأحزاب: 6]، كما أن اسم المفعول جاء على جمع المذكر السالم في قوله تعالى: { ملْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوَاْ } [الأحزاب: 61]، وفي قوله تعالى: { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ } [النساء: 143]، وقوله تعالى: { وَاذْكُرُوَاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ } [الأنفال: 26]، وقد وردت صيغة (اسم المفعول) من الفعل الثلاثي المضعف العين، في قوله تعالى: { إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ } [التوبة: 60]، وفي قوله تعالى: { وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مّشَيّدَةٍ } [النساء: 78]، وهناك صيغ، جاءت في سور الخطاب المدني، ذكر المفسرون أنها بمعنى اسم المفعول منها:
__________
(1) ينظر: أوضح المسالك ( 3/232 ).
(2) ينظر: شذا العرف ( 88 ).
(3) ينظر: تأملات في بعض ظواهر الحذف الصرفي ، لـ د. فوزي حسن الشايب(56).(1/26)
1– (رَهْبَةً) في قوله تعالى: { لأنتُمْ أَشَدّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مّنَ اللّهِ } [الحشر: 13]، رأى الزمخشري في تفسيره أنه: «مصدر رهب المبني للمفعول، كأنه قيل: أشد مرهوبيةً»(1)، ومثله، قال الألوسي: « { رَهْبَةً } مصدر من المبني للمفعول، لأن المخاطبين وهم المؤمنون مرهوب منهم لا راهبون»(2).
2– (بُنْيَانُ) في قوله تعالى: { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } [التوبة: 110]، قال الألوسي: « فالبنيان مصدر أريد به المفعول»(3).
أما صيغ المبالغة، فهي أسماء تدل على معنى اسم الفاعل مع توكيد المعنى والمبالغة فيه ولا تشتق إلا من الفعل الثلاثي(4)، وكل صيغةٍ منها تتفاوت في المبالغة كما قال أبو هلالٍ العسكري في فروقه اللغوية(5)، ويرى الدكتور فاضل السامرائي أن أبنية المبالغة قسمان: الأول: ما يختلف عن الآخر لتأدية معنًى جديدٍ، والثاني: ما تدل صيغته على معنًى في المبالغة لا تدل عليه الصيغة الأخرى(6)، وأشهر صيغ المبالغة ما يأتي:
1– صيغة (فَعَّال): وهي تدل على كثرة القيام بالفعل، كـ (علاَّم وصبَّار)، وهذا البناء يقتضي المداومة على الفعل لأن صاحب الفعل مداوم عليه(7)، ومن شواهد هذه الصيغة في سور الخطاب المدني، قوله تعالى: { إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ } [المائدة: 109]، وقوله تعالى: { إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّانًا أَثِيمًا } [النساء: 107]، وجاءت هذه الصيغة على جمع المذكر السالم في قوله تعالى: { سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسّحْتِ } [المائدة: 42].
__________
(1) الكشاف ( 4/506 ).
(2) روح المعاني ( م15/ج28/82 ).
(3) نفسه ( م7/ج11/33 ).
(4) ينظر: جامع الدروس العربية ( 1/193 ).
(5) ينظر: الفروق في اللغة ( 80 ).
(6) ينظر: معاني الأبنية ( 106-107 ).
(7) ينظر: شرح الشافية ( 2/85 ).(1/27)
2– صيغة (فَعُول): وهذه الصيغة تفيد التكثير والمبالغة في الشيء وتوكيده مع التشديد على ذلك(1)، كما في (رءوف) من قوله تعالى: { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ } [التوبة: 128]، وهي أيضًا تدل على من كان قويًا على الفعل والتحمل(2)، ومما ورد في سور الخطاب المدني من هذه الصيغة قوله تعالى: { وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً } [الأحزاب: 72].
3– صيغة (فَعِيل): وتدل على المبالغة في الفعل(3)، ومن شواهد هذه الصيغة في سور الخطاب المدني، قوله تعالى: { وَمَن تَوَلّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [النساء: 80]، وقوله تعالى: { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ } [الجمعة: 7]، وقوله تعالى: { وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المجادلة: 6].
أما الصفة المشبهة فتصاغ من الفعل الثلاثي اللازم للدلالة على الحدث ومن قام به أو اتصف به على معنى الدوام والثبوت(4)، وسميت صفة مشبهة؛ لأنها تشابه اسم الفاعل في الدلالة على موصوفٍ بالحدث، وتتصرف مثله في الإفراد والتثنية والجمع(5)، وهي مثله في سلوكه التركيبي إذ تحل محل الفعل وترفع فاعلاً(6)، وأوزانها كثيرة، منها:
1– صيغة (فَعِل): كما في قوله تعالى: { وَيَتَوَلّواْ وّهُمْ فَرِحُونَ } [التوبة: 50].
2– صيغة (فَعَل): وهي صيغة مشتركة بين المصدر والصفة المشبهة، ومن أمثلة الصفة المشبهة قوله تعالى: { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا } [التوبة: 42].
__________
(1) ينظر: الكتاب ( 1/110 )، واللمع (173).
(2) ينظر: الأصول في النحو (1/124)، وشرح قطر الندى (270)، وشرح شذور الذهب (530)، وأوضح المسالك (3/219).
(3) ينظر: الكتاب ( 1/115 ).
(4) ينظر: الشافية في علم التصريف ( 25 )، وشرح قطر الندى ( 277 ).
(5) ينظر: الواضح في النحو الصرف قسم الصرف، لـ د. الحلواني ( 181 ).
(6) ينظر: نفسه.(1/28)
3– صيغة (فَعِيل): وهي لمن كان الفعل ملابسًا له كالطبع والخلقة(1)، ومن شواهدها في سور الخطاب المدني، قوله تعالى: { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ } [التوبة: 128].
4– صيغة (فَعْلاء): ومن شواهدها، قوله تعالى: { إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ } [البقرة: 69].
على أن هناك صيغًا أخرى(2) مثل (فَعْلَة) (3)، و(فِعْلَة) (4)، و(أفعل) (5).
أما اسم التفضيل فهو الاسم المصوغ للدلالة على أن شيئين اشتركا في صفةٍ،وزاد أحدهما على الآخر في تلك الصفة(6)، وله معنى آخر هو أن يؤخذ مطلقًا، ثم يضاف لا للتفضيل على المضاف إليهم، لكن لمجرد التخصيص(7)، فلا تفضيل في (أول)(8)، و إن كان يستعمل كما يستعمل أفعل التفضيل من كونه صفة للواحد والمثنى والمجموع بلفظ واحد كما في قوله تعالى: { وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ } [البقرة:41] ،وفي (أحرص) كذلك(9)، إذ قال تعالى: { وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } [البقرة: 96]، على أن اسم التفضيل يأتي في الخطاب المدني بصور هي(10):
__________
(1) ينظر: همع الهوامع ( 3/75 ).
(2) ينظر: شرح الشافية (1/144).
(3) تنظر سورة الأحزاب: 13.
(4) تنظر سورة الناس: 6.
(5) تنظر سورة البقرة: 18، إذ جاءت هذه الصفة مجموعة جمع تكسير.
(6) ينظر: المفصل (120)، وشرح قطر الندى (280)، وشذا العرف ( 93 ).
(7) ينظر: المفصل (120)، ومعاني النحو، لـ د. فاضل السامرائي (4/317).
(8) ينظر: المصباح المنير، مادة (آل)، (1/30).
(9) ينظر: نفسه.
(10) ينظر: المفصل (120)، واللباب (1/447)، وشرح شذور الذهب (534)، ومعاني النحو (4/317).(1/29)
1– أن يكون نكرةً غير مضافٍ، وبعده حرف الجر (من) وفي هذه الحال يكون اسم التفضيل مفردًا مذكرًا في جميع أحواله(1)، ومن شواهد هذه الصيغة قوله تعالى: { إِذْ جَآءُوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُم } [الأحزاب: 10]، وقوله تعالى: { وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة: 191]، كما أن هذه الصيغة قد تأتي بحذف حرف الجر (من)، الواقع بعد اسم التفضيل كما في قوله تعالى: { وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [التوبة: 62]، وقد تحذف الهمزة من أول اسم التفضيل للعلم بذلك، وهذه الصيغة لم ترد إلا في اسم التفضيل (خير) أو (شرّ)(2)، إذ ورد اسم التفضيل (شرّ) بحذف الهمزة في قوله تعالى: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } [الأنفال: 22]، وفي قوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة:60]، أما اسم التفضيل (خير) فقد ورد بحذف الهمزة في قوله تعالى: { فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } [البقرة:54]، وفي قوله تعالى: { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } [النساء:128].
__________
(1) ينظر: شذا العرف (93).
(2) ينظر: اللباب (1/447)، ومعاني النحو (4/311) .(1/30)
2– أن يكون نكرةً مضافًا إلى نكرةٍ أخرى، وهو في هذه الحال مفرد مذكر أبدًا، ومما ورد في سور الخطاب المدني، من هذه الصيغة قوله تعالى: { لّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَى مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ أَحَقّ أَن تَقُومَ فِيهِ } [التوبة: 108].
3– أن يكون اسم التفضيل مضافًا إلى معرفةٍ، ومنه قوله تعالى: { وَهُوَ أَلَدّ الْخِصَامِ } [البقرة: 204].
4– أن يكون اسم التفضيل معرفةً، وفي هذه الحال يجب أن يكون مطابقًا للمفضل، وفائدة دخول (ال) عليه جعله في أعلى درجات المفاضلة(1)، ومن شواهده قوله تعالى: { إِنّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [النساء: 145]، وقوله تعالى: { لَئِن رّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الأعَزّ مِنْهَا الأذَلّ } [المنافقون: 8].
العلاقة بين البنية الصرفية والمعنى:
سأنطلق من القول بأن (( أصغر وحدة أسلوبية، أي المادة الأساس هي الكلمة أو ما يسمى بالمفردة، وأن هذه المفردة تتكون من دالٍ ومدلولٍ)) (2)، ومقصود الدال والمدلول هو اللفظ و المعنى، فاللفظ والمعنى قضية كبرى شغلت الأولين فوقفوا بين مغلبٍ كفة اللفظ على المعنى كالجاحظ(3)، ومغلبٍ كفة المعنى على اللفظ كابن جني(4)، على أن المدارس الأسلوبية الحديثة أعلنت: أنه لا يمكن القول بالتقدم كثيرًا في هذا الميدان(5)، وحتى يتم دراسة تعلق المعنى بالصيغة الصرفية للكلمة، وهو معلوم من اللغة بالضرورة، فسأبحث في التغيرات التي طرأت على معاني بعض الآيات القرآنية في الخطاب المدني، بسبب تبدلاتٍ في الصيغ الصرفية، ومن تلك التبدلات، في الصيغ الصرفية ما يأتي:
1- التبادل بين الصيغ الاسمية:
__________
(1) ينظر: معاني النحو ( 4/320 ) .
(2) الأسلوبية، لجورج مولينيه، تر: بسام بركة ( 191 ).
(3) ينظر: الحيوان ( 131 ).
(4) ينظر: الخصائص ( 2/64 ).
(5) ينظر: الأسلوبية لمولينيه ( 162 ).(1/31)
ويظهر هذا الأمر في العدول عن بعض الصيغ الاسمية إلى غيرها في سور الخطاب المدني، وهذا الظهور واضح في الآتي:
أ– العدول عن تعريف الاسم إلى تنكيره:
ويقع هذا الأمر لأن الاسم إما أن يكون معرفةً أو نكرةً، وكل منهما يفيد معنًى لا يفيده الآخر(1)، فالاسم المعرف بالألف واللام يعدُّ من أقرب المعارف إلى النكرات، يقول ابن يعيش:«فالألف واللام أبهم المعارف وأقربها من النكرات ولذلك نعتت بالنكرة، كقولك: إني لأمر بالرجل غيرك فيمنعني وبالرجل مثلك فيعطيني، لأنك لا تقصد رجلاً بعينه... ويدل على ذلك أن من المعرف بالألف واللام ما يستوي في معناه ما فيه الألف واللام، وما لا (لام) فيه، نحو شربتُ ماءً، والماء، وأكلت خبزًا، والخبر، ولذلك لم يمتنع أن ينعت ما فيه الألف واللام المبهم»(2)، فالاسم لا يكتسب قيمته البلاغية لكونه نكرةً أو معرفةً، وإنما للموقع الذي وقع فيه، وهو ما بينه الإمام عبدالقاهر الجرجاني في حديثه عن نظم الكلام، مستشهدًا بقوله تعالى: { وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } [البقرة: 96]، إذ قال:«إذا أنت رجعت إلى نفسك وأذكيت حسك وجدت لهذا التنكير ... حسنًا وروعةً ولطف موقعٍ لا يغادر قدرته وتجدك تعدم ذلك مع التعريف وتخرج عن الأريحية والأنس إلى خلافهما، والسبب في ذلك أن المعنى على ازديادٍ من الحياة لا الحياة من أصلها، وذلك أنه لا يحرص عليه إلا الحي»(3).
__________
(1) ينظر: الإتقان في علوم القرآن ( 1/291 ).
(2) شرح المفصل ( 5/87 ).
(3) دلائل الإعجاز ( 222 ).(1/32)
... ومن هذا العدول ما جاء في خطابه تعالى لبني إسرائيل، إذ قال تعالى: { بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ } [البقرة: 61]، فقد جاءت كلمة (الحق) معرفةً في هذا الموضع، ولكنها جاءت نكرةً في خطاب الله تعالى لهم بقوله: { إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ } [آل عمران: 21]، وكذلك في السورة نفسها جاء قوله تعالى: { كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقّ } [آل عمران: 112]، فقد عُرِّفَ لفظ (الحق) في سورة البقرة وجاء منكرًا في موضعين من سورة آل عمران، ولهذا علاقة قوية بالسياق، ففي بيان الفرق بينهما قال ابن الزبير في (ملاك التأويل):«لما كانت الآية الأولى في سورة البقرة إنما هي في سلفهم ممن لم يشهد أمر محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - . وقد وقع الإفصاح فيها بكفرهم بعد تعريفهم بذكر آلاء ونعم ... فناسب حال أولئك الذين لم يشاهدوه ما وقع التعبير به من قوله: { بِغَيْرِ حَقّ } إذ ليس المعرف في قوة المنكر المرادف لقولك بغير سببٍ، وأيضًا فقد تقرر عندهم في كتابهم أن مسوغ قتل النفس بغير حق(وتقدم قتل النفس) قال تعالى: { وكَتَبْنَا عَلِيهِمْ فِيهَآ– أي في التوراة– أنَّ النَّفسَ بالنَّفسِ } (1)، وتقرر أيضًا في كتابهم رجم الزاني المحصن...
__________
(1) المائدة: 45.(1/33)
فقوله: { بِغَيْرِ حَقّ } أي بغير وجه الحق المبيح للقتل، فالألف واللام للعهد في المسوغ المتقرر في شريعتهم فقد افترق قصد الآيتين، وأما الأولى من آيتي آل عمران فخاصة بالمتمادين منهم على الكفر، ولا تتناول الآية من أولها إلى آخرها خلافه، فهي كالآية الثانية فيما أعطته ودلت عليه من التمرد والتمادي على الضلال فناسبها التنكير كالتي بعدها وهما معًا بخلاف آية البقرة إذ لم يتقدم في هاتين ما تقدم في تلك»(1)، ومن العلماء من رأى أن التنكير في سورة آل عمران أبلغ من التعريف في سورة البقرة كما هو رأي البقاعي(2)، ورأيه أرجح لأنه على عادة أفعال الحكماء في الابتداء بالأخف فالأخف(3).
__________
(1) ملاك التأويل لابن الزبير ( 1/215-217 ).
(2) ينظر: نظم الدرر ( 2/47-48 ).
(3) ينظر: نفسه.(1/34)
ومن العدول في هذه الصيغة ما جاء في قوله تعالى: { فَاتّقُواْ النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة: 24]، إذ جاء لفظ (النار) منكرًا في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ قُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم: 6]، فرأى أبو حيان أن التعريف في سورة البقرة جاء بعد أن كانت الكلمة نكرةً في سورة التحريم التي نزلت قبل البقرة(1)، فهو ممن رجح أن سورة التحريم مكية، وقال البقاعي:«وتعريف النار... لأن أخبار القرآن بعد ثبوت أنه منزل من عند الله معلومة مقطوع بها، فهو من باب تنزيل الجاهل منزلة العالم تنبيهًا على أن ما جهله لم يجهله أحد»(2)، فالآية الأولى كانت لكفار قريشٍ ولمن أنكر رسالة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ، لهذا عرَّف الله النار لهم إذ لم يروها حتى ذلك الحين، واستخدم الله في تعريفها الألف واللام، ولكن في سورة التحريم كان خطاب الله تعالى للمؤمنين الذين قد دخل الإيمان بأركانه في قلوبهم فهم يعرفونها، ولهذا صغَّر الله تعالى خطرها عليهم حتى يرى الآخرون هذه الحقيقة فيتقوا النار كما اتقاها المؤمنون بإيمانهم.
ب– العدول عن صيغ الإفراد إلى التثنية أو الجمع، والعكس:
العدول عن صيغةٍ من الصيغ العددية إلى أخرى يعدُّ انحرافًا في الأسلوب، أو عدولاً عما كان يتوقعه المخاطب، إلى شيءٍ آخرٍ لم يتوقعه لأغراضٍ فنيةٍ، وهذا العدول سأتناوله
من ثلاثة أوجهٍ هي:
__________
(1) ينظر: البحر المحيط ( 8/292 ).
(2) نظم الدرر ( 1/70 ).(1/35)
الأول: العدول عن صيغة الإفراد إلى الجمع: ومن ذلك قوله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب: 36]، فالأصل في الضمير من (لَهُمُ) و (مِنْ أَمْرِهِمْ) أن يكون مفردًا لعوده على (مُؤْمِنٍ) وما عطف عليه وهما واحد، لكن الخطاب المدني عدل عن ذلك؛ لأن الكلام ورد في سياق النفي فكان الجمع مناسبًا له، لأن الضمير رجع إلى معنى العموم لا إلى لفظ المفرد(1)، وذهب أبو السعود إلى القول بأن الضمير الثاني في (مِنْ أَمْرِهِمْ) للرسول - صلى الله عليه وسلم - وجاء بصيغة الجمع لتعظيمه(2)، ورأيه ليس بصواب لأن (ومِن) تبعيضية، و(أمرهم) بمعنى شأنهم وهو جنس، أي أمورهم. وعلى ذلك يكون المعنى: ما كان اختيار بعض شؤونهم مِلْكًا يملكونه بل يتعين عليهم إتباع ما قضى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا خيرة لهم(3)، ثم إن الأصل في الضمير أن يعود على الأقرب(4)، ليكون الكلام عنهم على خط واحد.
__________
(1) ينظر: فتح القدير ( 1407 ).
(2) ينظر: تفسير أبي السعود ( 4/322 ).
(3) ينظر: التحرير والتنوير (م11/ج22/28).
(4) ينظر: الإتقان ( 1/281-285 )، والنحو الوافي، لعباس حسن ( 1/255-256 ).(1/36)
الثاني: العدول عن صيغة الجمع إلى صيغة الإفراد في أحدِ التفسيرين: ومن هذا قوله تعالى: { إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } [المائدة: 90]، فهنا جاء الضمير مفردًا في قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوهُ) مع أنه يعود على مجموعة أشياء، قد فصلها الخطاب هي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، وعِلَّة حمل الآية على أن الضمير راجع إلى المحرمات الأربع ؛ لما فيه من إفادة التسوية بين فعل هذه المحرمات كما رجحه الزمخشري(1)، هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى فإن لفظ (رجس) بمنزلة الصفة في الآية، والمقصود بالحكم هو المحرمات الأربع، فكان رجوع الضمير إلى الموصوف أولى من رجوعه إلى الصفة.
الثالث: العدول عن صيغة الإفراد إلى التثنية في أحدِ التفسيرين: ومنه قوله تعالى: { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [النساء: 135]، جاء الضمير بصيغة التثنية في قوله تعالى: (بهما) وكان حق الكلام أن يقال (أولى به)؛ لأنه يحيل إلى اسم (يكن) وهو المشهود عليه، قال الزمخشري: « فإن قلت: لم ثنى الضمير في (أولى بهما) وكان حقه أن يوحد، لأن قوله: { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا } في معنى إن يكن أحد هذين؟ قلت: قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله: { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا } لا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغني وجنس الفقير، كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الغني والفقير، أي بالأغنياء والفقراء»(2)، والظاهر أن الضمير هنا بمنزلة اسم الإشارة، فكأنه قال: فالله أولى بهذا وهذا، وهذا ما يحتمله كلام ابن العربي في أحكامه(3).
2– التبادل بين الصيغ الفعلية:
__________
(1) ينظر: الكشاف ( 1/708 ).
(2) نفسه ( 1/609 ).
(3) ينظر: أحكام القرآن لابن العربي ( 1/639 ).(1/37)
وفي هذا الجزء سأبحث مغايرة صيغ الأفعال بين الماضي والحال والاستقبال، تلك المغايرة التي من شأنها أن تحدث نوعًا من الترابط النصي عن طريق المقابلة بين صيغتين مختلفتين، وقد ظهر العدول عن صيغةٍ إلى صيغةٍ أخرى من الأفعال في قوله تعالى: { فَفَرِيقًا كَذّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [البقرة: 87]، إذ كان المتوقع من الخطاب أن يقال الفعل بـ(قتلتم)؛ لأن الفعل السابق له فعل ماضٍ، ولكنْ عُدِل في السياق عن ذلك إلى المضارع لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم؛ إما بسبب الفاصلة القرآنية(1)، أو بسبب أنهم ما زالوا يريدون قتل الرسل(2) بدليل محاولتهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسم تارةً، وبإلقاء الحجارة عليه من مكانٍ عالٍ تارةً أخرى، ومن هذا العدول قوله تعالى: { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوَاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسّوَءِ وَوَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } [الممتحنة: 2]، فأغلب الأفعال وردت في جواب الشرط بصيغة المضارع، وكان المتوقع من الكلام أن يأتي الفعل (ودوا) بالصيغة نفسها فيقال: ويودوا لو تكفرون، ولكن جاء الفعل ماضيًا ليدل على أنهم ودوا قبل كل شيءٍ كفركم وارتدادكم، بمعنى أنهم((يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعًا: من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض،وردكم كفارًا. وردكم كفارًا أسبق المضار عندهم وأولها، لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم)) (3).
ومن العدول هنا العدول بين صيغ الأفعال نفسها، كما في ما يأتي:
__________
(1) ينظر: التحرير والتنوير (م1/ج1/598).
(2) ينظر: البحر المحيط ( 1/301 ).
(3) الكشاف ( 4/512 ).(1/38)
أ– العدول من (فَعَّل) إلى (أَفْعَل): وهذه الصيغة وردت في قوله تعالى: { نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } [آل عمران: 3]، ولعلّ السبب في ذلك أن الله تعالى (نَزّلَ) القرآن منجمًا في خمسٍ وعشرين سنةً، في حين (أَنْزَلَ) التوراة والإنجيل نزلةً واحدةً دون تفريقٍ، وهو قول الزمخشري(1)، ولكن ابن عاشور عارض هذا الرأي في تفسيره فقال بأن: «التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كمّيته... إلاّ أن يقال: إنّ العدول عن التعدية بالهمز، إلى التعدية بالتضعيف، لقصد ما عُهد في التضعيف من تَقوية معنى الفعل، فيكون قوله: { نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } أهمّ من قوله: { وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ } للدلالة على عظم شأن نزول القرآن»(2)، وأما رأي الزمخشري فهو مردود(3)؛ لأن الله تعالى قال في خطاب العهد المكي: { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان: 32 ] فجمع بين التضعيف وقوله: { جُمْلَةً وَاحِدَةً } . ومما يردُّ به على الزمخشري أيضًا أنّ التوراة والإنجيل نزلا مفرّقَين كشأن كلّ ما ينزل على الرسل في مدة الرسالة(4)، وهو الحق: إذ لا يعرف أنّ كتابًا نزل على رسول دفعة واحدة(5).
ومن العدول أيضًا، قوله تعالى: { فَلَمّا نَبّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } [التحريم: 3]، وما قيل في الشاهد السابق يمكن قوله هنا.
__________
(1) ينظر: نفسه (1/364).
(2) التحرير والتنوير (م3/ج3/147-148).
(3) ينظر: البحر المحيط (2/378).
(4) ينظر: التحرير والتنوير (م3/ج3/148).
(5) ينظر: نفسه.(1/39)
ب– العدول من (فَعَل) إلى (أَفْعَل): وهذه الصيغة وردت في قوله تعالى: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } [البقرة: 50]، فصيغة (فَعَلَ) كانت السبب في (أفْعَل) ولهذا تبودلت الصيغ هنا بين ( فرق) و (أنجى) و( أغرق)، لأن فرق يدل على شدة التفرقة وذلك إذا كانت الأجزاء المفرقة أشد اتصالاً(1)، لذا كانت تمهيدًا للمنة لأنه سبب الأمرين: النجاة والهلاك، وهو مع ذلك معجزة لموسى - عليه السلام - (2)، وقيل { أَغْرَقْنَا } فائدته: تتميم النعمة فإن هلاك العدو نعمة؛ ومشاهدته نعمة أخرى، و { فَرَقْنَا } فائدته: إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها، ويتعرفوا إعجازها، والفائدة من ذلك: تحقيق الإغراق والإهلاك وتثبيتهما(3).
ج – العدول من (فُعِّل) إلى (أُفْعِل): وهذه الصيغة جاءت في قوله تعالى: { وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ } [محمد: 20]، ففي الآية إعلام بأن المؤمن كان ينتظر نزول الأحكام والتكليف ويطلب تنزيلها، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول: هلا أنزلت سورة. أما المنافق فإذا أنزلت السورة أو الآية وفيها تكليف، يشق عليه ذلك، فحصل التَّبَايُن بين الفعلين(4).
3– التبادل بين الصيغ الفعلية والاسمية والعكس:
__________
(1) ينظر: التحرير والتنوير(م1/ج1/494).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر: روح المعاني (م1/ج1/406).
(4) ينظر: تفسير البغوي (7/286)، وتفسير الرازي (م14/ج28/63)، وروح المعاني (م14/ج25/100).(1/40)
والغرض من هذا أن الصيغة الفعلية تدل على التجدد والتغير، في حين تدل صيغة الاسم على الثبات والدوام، فلهذا إن أراد الله تعالى الإخبار عما هو متجددٍ بما هو ثابت عدل عن الفعل إلى الاسم، وإن أراد العكس فعل بتغيير الصيغة، نوعًا من التلوين في خطابه لعباده، وهذا النوع من العدول وقع في آياتٍ من الخطاب المدني بألوانٍ متعددةٍ، كما في مثل ما يأتي:
أ – العدول من المصدر إلى الفعل المضارع: وهذا العدول جاء في قوله تعالى: { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 62]، فالخوف منفي على الدوام منهم، ولكن الحزن منفي عنهم على التجدد، لأن من استقر أجره عند ربه لا يلحقه حزن على ما مضى، ولا خوف على ما يستقبل(1)، فـ (( المعنى لا خوف عليهم من الضلال في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في العقبى، وقدم انتفاء الخوف؛ لأن انتفاء الخوف فيما هو آتٍ أكثر من انتفاء الحزن على ما فات. ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي... والمراد بيان دوام الانتفاء لا بيان انتفاء الدوام كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعًا لما تقرر في محله أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام، وذكر بعض الناس أن العدول عن لا خوف لهم أو عندهم إلى لا خوف عليهم للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم)) (2).
__________
(1) ينظر: البحر المحيط ( 1/242 ).
(2) روح المعاني ( م1/ج1/380-381 ).(1/41)
ب– العدول من الصفة المشبهة إلى الفعل المضارع: وهذا العدول جاء في قوله تعالى : { وَجِيهًا فِي الدّنْيَا والآخِرَة وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ، وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ } [آل عمران:45-46]، إذ قدَّمَ الله الاسم { وَجِيهًا } وهو حال عن عيسى - عليه السلام - ثم الجار والمجرور، ثم الفعل وأتى به مضارعًا؛ لدلالته على التجدد، بخلاف الوجاهة، فإن المراد ثبوتها واستقرارها، والاسم متكفل بذلك، والجار قريب من المفرد، فلذلك ثنى به، إذ المقصود ثبوت تقريبه(1).
ج – العدول من اسم الفاعل إلى الفعل المضارع: وهذا العدول ورد في قوله تعالى: { إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لّوْنُهَا تَسُرّ النّاظِرِينَ } [البقرة: 69]، فاللون ثابت، وسرور الناظرين متقلب، لذا عدل الله تعالى عن الاسم إلى الفعل، ليدل على التجدد عند الناظرين.
د – العدول من فعل الأمر إلى المصدر: وجاء ذلك في قوله تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ } [محمد: 4] فهذا في قوة داوموا واثبتوا على ضرب الرقاب(2).
__________
(1) ينظر: الدر المصون ( 2/95-96 ).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/22)، والدلالة الإيحائية (154).(1/42)
الفصل الثالث المبحث الثالث
المستوى النحوي في خطاب العهد المدني
- النظام النحوي في اللغة العربية.
- الرتبة في النحو، والخطاب المدني.
- الارتباط والربط في النحو، والخطاب المدني.
- قضايا نحوية لم ترد إلا في الخطاب المدني.
النظام النحوي في اللغة العربية
... ... يقوم النظام النحوي في اللغة العربية على دعائم متعددةٍ هي(1):
1– طائفة من المعاني النحوية العامة، كالخبر والإنشاء وفيه الإثبات والنفي والتوكيد، وكالطلب وفيه الأمر والنهي والاستفهام والدعاء والتمني والترجي والعرض والتحضيض وكالإفصاح وفيه الشرط والقسم والتعجب والمدح والذم.
2– مجموعة من المعاني النحوية الخاصة أو معاني الأبواب المفردة كالفاعلية والمفعولية والحالية،وهلم جرَّا.
3– مجموعة من العلاقات التي تربط بين المعاني الخاصة، وتكون قرائن معنويةً عليها حتى تكون صالحةً عند تركيبها لبيان المراد منها، وذلك كعلاقة الإسناد والتحضيض والنسبة والتبعية.
4– ما يقدمه علم الصرف والصوتيات لعلم النحو من المباني الصالحة للتعبير عن معاني الأبواب، وتلك الصالحة للتعبير عن العلاقات القائمة فيما بينها، فليس النحو إلا المباني التي يقدمها له الصرف وتتناسب صوتيًا.
5– وأخيرًا تأتي القيم الخلافية أو المقابلات بين أفراد كل عنصرٍ مما سبق، وبين بقية أفراده كأن ترى الخبر في مقابل الإنشاء، أو الشرط في مقابل الطلب، أو المدح في مقابل الذم، أو المتقدم رتبةً في مقابل المتأخر، وهلم جرَّا.
__________
(1) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها ( 36-37 ).(1/1)
... من هذه الملاحظات نجد أن النظام النحوي ليس من شأنه أن يستبين بوساطة قرينةٍ لفظيةٍ أو معنويةٍ مفردةٍ(1)، (( بل لا بد أن يتضافر عدد من القرائن على بيان المعنى؛ ذلك بأن اللغة ظاهرة إنسانية، والإنسان بطبعه قلما يكتفي لإدراك شيءٍ بقرينةٍ واحدةٍ تدل على هذا الشيء، وإنك إن سألت شخصًا ما عن عنوانٍ تريد الوصول إليه، ولم تكن تعرفه من قبل، فإن هذا الشخص لا يكتفي بتعداد اتجاهات الطريق الذي تسأله عنه إلى العنوان، وإنما تجده بعد وصف الطريق وإيراد نقط منعرجك إلى اليمين وإلى الشمال، يعمد إلى تحديد العنوان المطلوب بعددٍ من القرائن أيضًا، فهو من ثلاثة طوابقٍ وعلى يمين الطريق وتحته مكتبة ومحل بقالةٍ، وهو على ناصية شارع كذا وكذا... وهكذا يعدد القرائن ليعين قدرة السائل على معرفة العنوان المقصود، وهكذا الجملة العربية فهي ذات ملامحٍ يتضح بها معناها، وهذه الملامح هي القرائن بأنواعها اللفظية والمعنوية والسياقية، التي من شأنها أن تتعدد لضمان إدراك المعنى، فهي جميعًا تتضافر لبيان المعنى الواحد وتدعيمًا لقدرة السامع على إدراك هذا المعنى، فإذا اتضح المعنى ببعضها أمكن بسبب أمن اللبس أن يتم الترخص في بقيتها)) (2).
الرتبة في خطاب العهد المدني:
... الرتبة في النحو قسمان: أحدهما الرتبة المحفوظة، كتقدم الاسم الموصول على صلته والموصوف على صفته، وتأخير البيان عن المبين، والمعطوف بالنسق عن المعطوف عليه، والتوكيد عن المؤكد، والبدل عن المبدل منه، وصدارة الأدوات في الأساليب النحوية المختلفة، وتقدم حرف الجرَّ على المجرور، وحرف العطف على المعطوف، وأداة الاستثناء على المستثنى، وحرف القسم على المقسم به، وواو المعية على المفعول معه، والمضاف على المضاف إليه(3).
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/229 )، وما بعدها.
(2) البيان في روائع القرآن ( 1/229-230 ).
(3) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها ( 207 ).(1/2)
... أما النوع الثاني من الرتبة في النحو العربي فهو الرتبة غير المحفوظة كرتبة المبتدأ مع الخبر، ورتبة الفاعل مع المفعول به، ورتبة الضمير مع مرجعه، ورتبة الفاعل مع التمييز في تركيب المدح، ورتبة الحال والفعل المتصرف، ورتبة المفعول به والفعل(1).
... وهناك صورة أخرى من صور الترتيب أسماها الدكتور تمام حسان بترتيب الأشباه(2)، وذهب إلى أنها تكون عند توالي النعوت والأحوال والأخبار والمتعاطفات، وأن المقصود بالأشباه أفراد من طائفةٍ من طوائف الكلام؛ فتثور حينئذٍ قضية ترتيبها والنظر إلى أيها أولى بالتقديم من سواه(3). ولقد اختار خطاب القرآن الكريم في العهد المدني أن يبني التقديم والتأخير على مبدأ القصر والطول؛ فما كان من أفراد الطائفة قصيرًا كان أولى بالتقديم مما هو أطول منه. لذا حافظ الخطاب في العهد المدني على هذا المبدأ؛ فجعل الكلمة المفردة أولى بالتقديم من الجملة المركبة، وجعل الجملة المركبة أولى بذلك من شبه الجملة، وجعل شبه الجملة مقدمًا على الجملة التامة التكوين، فلا يصرفه عن ذلك إلا أمن لبس أو تمام معنى(4)، ومن شواهد هذا الترتيب في أجلِّ صوره، ما جاء في الآيات الآتية:
1– قال الله تعالى: { أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } [البقرة: 19]، وصف الله تعالى
الصيب بشبه جملةٍ ثم بجملةٍ وعطف على الظلمات كلماتٍ يساويانها طولاً(5).
__________
(1) ينظر: نفسه.
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/74).
(3) ينظر: نفسه.
(4) ينظر: نفسه.
(5) ينظر: نفسه.(1/3)
2– قال الله تعالى: { الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النّارِ،الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } [آل عمران: 16-17]، فهنا وجدنا خطاب العهد المدني يعطف على الموصول بالصفة ويعلَّق بآخر المعطوفات جارًا ومجرورًا(1)، وهناك ملاحظة أخرى هي أنه جاء بالأوصاف الثلاثة الأولى من الفعل الثلاثي المجرد، مرتبة الحروف كما في تكوينها الألفبائي، أما الوصف الرابع فجاء من الفعل الثلاثي المزيد بالهمزة، والوصف الخامس جاء من الفعل الثلاثي المزيد بالألف والسين والتاء، فجعل كلاً من تلك الأوصاف المذكورة في الآية التالية لآية الموصول: مرتبةً على ذلك الأساس، فالترتيب الأول كان في الترتيب الألفبائي للحروف، ثم أعقب ذلك بترتيبها على أساس أكثرها حروفًا من حيث التكوين والصيغة(2).
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن( 1/232).
(2) ينظر: نفسه.(1/4)
3– قال الله تعالى: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا } [آل عمران: 103]، فهنا جاء الخطاب القرآني بعطف (وَلاَ تَفَرّقُواْ) على الأمر بالاعتصام من قبيل توكيد الأمر بالنهي(1)، فكان ذلك كأنه جملة واحدة. وكذلك عطف جملتين بوساطة الفاء على(كُنْتُمْ أَعْدَآءً) لأن الفاء رتبت كل جملةٍ من الثلاث على سابقتها فأصبحن جميعًا جملةً واحدةً(2). ويقال ما يشبه ذلك في العلاقة بين (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ) وما عطف عليها من قوله (فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا) لأن الجملة الثانية جاءت من موقع الطباق مع الأولى والعدول عن نتيجتها المنطقية، فإذا ترابطت جمل الآية في ثلاث مجموعاتٍ؛ ظهرت مطابقة ترتيبها للمبدأ المذكور آنفًا(3).
... وأعود إلى موضوع الرتبة المحفوظة إذ يرى الدكتور تمام حسان أنها لا تتخلف؛ وذلك بسبب ارتباط المعنى بها وهذا معنى كونها قرينة لفظية(4)، ولكن الرتبة غير المحفوظة قد تأذن أحيانًا بالتقديم أو التأخير، وهو ما يراه الدكتور تمام حسان تشويشًا للرتبة يتحتم فيها أحيانًا عكسها، إذا اقتضت ضرورة التركيب(5)؛ فيصبح العكس رتبةً محفوظةً كرتبة تقديم الضمير المتصل بالفعل على الفاعل، كما في قوله تعالى: { إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ } [المنافقون: 1].
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م3/ج4/31).
(2) ينظر: تفسير الرازي (م4/ج8/181).
(3) ينظر: علة ترتيب هذه الصفات في البحر المحيط ( 2/400)، ونظم الدرر (1/170)، واللغة العربية معناها ومبناها ( 207 ).
(4) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/ 233 ).
(5) ينظر: نفسه.(1/5)
... بناءً على ذلك وجدنا التركيب في خطاب العهد المدني يتّسم بحرية اللغة؛ فيخالف القيود التي وضعها النحاة لأغراضٍ بيانيةٍ، يصل إليها دون تضحيةٍ بوضوح المعنى، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: { يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة: 269]، إذ المعروف في الفعل (آتى) أن الآخذ هو المفعول الأول وأن المأخوذ هو المفعول الثاني، وبهذا يكون الأصل في التركيب أن يقال: ((يؤتي من يشاء الحكمة))(1)، بدليل أن الخطاب التزم ذلك في الشق الثاني من الآية فقال تعالى: { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } ، فقدم المفعول الأول الذي تحول إلى نائب عن الفاعل مستتر، للدلالة على أنه الآخذ، وسبب التقديم في خطاب العهد المدني الاهتمام بالمفعول الثاني لأنه أعظم(2)، كما أن التركيب الأول سيقع فيه لبس في معنى (يؤتي من يشاء الحكمة) لأن الحكمة قد تُعْرَبُ مفعولاً به للفعل (يَشَآءُ) فلا نجد هناك مفعولاً ثانيًا للفعل (يُؤتِي)، ومنه قوله تعالى: { إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ } [آل عمران: 55]، قال القرطبي: «على التقديم والتأخير لأن الواو لا توجب الرتبة والمعنى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء»(3)، وجاء كذلك في قوله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ } [البقرة: 140]، فالكلام هنا على التقديم والتأخير، إذ المعنى لو كان إبراهيم وبنوه يهودًا أو نصارى، ثم إن الله تعالى كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه، ولكن لما استحال ذلك الفعل من الله تعالى مع عدله وتنزيهه عما لا يليق، علمنا أن الأمر ليس كذلك(4)،
__________
(1) البحر المحيط ( 2/320-321 ).
(2) ينظر: تفسير أبي السعود ( 1/304 ).
(3) نفسه (4/99).
(4) ينظر: تفسير الطبري (3/124)..(1/6)
وهذه حكمة بالغة من الله تعالى في خطابه مع خلقه، إذ ليس القرآن إلا كتابًا أحكمت آياته، وجاء بلسانٍ عربي مبين.
... وهناك نوع آخر من عدم حفظ الرتبة للوفاء بمطالب أسلوبية من رعاية فاصلةٍ أو غير ذلك(1)، كما في قوله تعالى: { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } [الأحزاب: 26]، إذ إن السامع يتوقع من التفصيل عند سماعه { فَرِيقًا تَقْتُلُونَ } أن يقول الله تعالى ( وفريقًا تأسرون)، ولكن رعاية الفاصلة آثرت حفظ الرتبة في النهاية بعد عدم حفظها في البداية، بسبب الجانب الصوتي الجمالي للفاصلة القرآنية، ويلاحظ مثل ذلك أيضًا حتى مع تباعد المواقع في الخطاب المدني؛ إذ نجد في سورة البقرة قوله تعالى: { بَل لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مّا يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 88]، ثم نجد في سورة النساء قوله تعالى: { وَلَكِن لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً } [النساء: 46]، وكلاهما خطاب لبني إسرائيل، ولا نملك إلا أن نرى أن رعاية الفاصلة سبب في الفرق بين الرتبة هنا والرتبة هناك.
... ومن عدم حفظ الرتبة كذلك ما جاء في خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، في قوله تعالى: { وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلآءِ شَهِيدًا } [النساء: 41]، إذ جاء في سورة النحل– وهي مكية– بقوله تعالى: { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآءِ } [النحل: 89].
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/73).(1/7)
... وتأتي بعض تلك الرخص في الرتبة كسرًا للرتابة في الأسلوب واتقاءً لما يسببه ذلك من الإملال كما في تحوير التركيب بين الجملتين: الاسمية والفعلية في تركيب (يريد الله) في آيات سورة النساء(1)، إذ قال الله تعالى: { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا، يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا } [النساء:26-28]، فالمطلوب في الآية الأولى والثالثة عرض إرادة الله تعالى لأهل الإسلام وعرض الخير الذي يريده لهم، ولكن الآية الثانية كان المطلوب فيها الموازنة بين إرادة الله تعالى وإرادة الذين يتبعون الشهوات؛ لذا قُدّم الاسم على الفعل فيها(2)، وهذا التقديم جاء لبيان كمالِ منفعة ما أراده الله تعالى وكمال مضرة ما يريد الفَجَرة؛ ولذلك أيضًا غُيّر الأسلوب إلى الجملة الاسمية للدلالة على دوام الإرادة(3)،
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/73).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر: تفسير أبي السعود (1/512)، وتفسير الرازي (م5/ج10/68-70)..(1/8)
ومنه قوله تعالى: { وَاتّقُواْ يَوْمًا لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } [البقرة: 48]، إذ جاء هذا السياق في السورة نفسها ولكن مع عدم مراعاة المتقدم والمتأخر، في قوله تعالى: { وَاتّقُواْ يَوْمًا لاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة: 123]، ففي هذه الآيات خطاب لبني إسرائيل، ولكن الآية الأولى كان الأمر لإخافتهم بهذا اليوم، ثم كانت صورة إخافة الله تعالى لهم في عدم قبول شفاعة الناس فيهم، في حين جاء توكيد ذلك في الآية الثانية، فاستحقوا عدم قبول العدل منهم أنفسهم أولاً، ثم من الناس بعد ذلك(1)، قال ابن عاشور: «وهو تفنن، والتفنن في الكلام تنتفي به سآمة الإعادة مع حصول المقصود من التكرير. وقد حصل مع التفنن نكتة لطيفة إذ جاءت الشفاعة في الآية السابقة مسندًا إليها المقبولية فقدمت على العدل بسبب نفي قبولها ونفي قبول الشفاعة لا يقتضي نفي أخذ الفداء فعطف نفي أخذ الفداء للاحتراس، وأما في هذه الآية فقدم الفداء لأنه أسند إليه المقبولية ونفي قبول الفداء لا يقتضي نفي نفع الشفاعة»(2).
الارتباط والربط في الخطاب المدني:
__________
(1) ينظر: تفسر الطبري (2/574)، وتفسير أبي السعود (1/183).
(2) التحرير والتنوير (م1/ج1/698).(1/9)
... لكل من نوعي الجملة العربية نمط واحد، فالجملة الاسمية تتكون من مبتدأ وخبرٍ، والجملة الفعلية تتكون من فعلٍ وفاعلٍ، وقد يكون مع الفعل المتعدي مفعول أو أكثر، ولكن شرط الجملة العربية أن تكون مفيدةً، وهذه هي فائدة الخطاب كما ذكرت في التمهيد؛ إذ ليس الخطاب إلا إفهامًا وتأثيرًا في الآخرين، والسعي للفائدة هو سبب الاتصال اللغوي، ومن هنا كان من الضروري لنمط الجملة أن يشتمل على قرائن تؤدي إلى الحفاظ على المعنى. ولو أن الجملة قنعت بالاشتمال على ركنيها دون غيرهما من الفضلات لهان الأمر، ولكان يكفي أن نعلم أن الكلام يدور حول المبتدأ بوساطة الخبر، أو حول المرفوع بعد الفعل بوساطة فعله، ولكنّ الجملة قد تطول أحيانًا، وقد يعطف عليها مثلها أو أمثالها، فيكون بين أول الكلام وآخره مسافة طويلة أو قصيرة، لذا نجد أن للربط بين أجزاء التركيب وظيفة إنعاش الذاكرة لاستعادة المذكور سابقًا بوساطة إحدى وسائل الارتباط(1)، لأن الارتباط ((يكون بين معنيين داخل الجملة أو بين جملتين، إذا كانت العلاقة بينهما وثيقةً، تشبه علاقة الشيء بنفسه))(2)،
__________
(1) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها(191)، ونظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية، لـ د. مصطفى حميدة ( 161-189 ).
(2) نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية ( 146 )..(1/10)
لذا تنوعت صور الارتباط في خطاب العهد المدني على أنواع متعددة منها: الارتباط بعلاقة الإسناد بين الفعل وفاعله والمبتدأ وخبره، والارتباط بعلاقة التعدية بين الفعل ومفعوله كما في قوله تعالى: { اللّهُ لاَ إِلَه إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ } [البقرة: 255]، و الارتباط بعلاقة الإضافة بين المضاف والمضاف إليه سواء أكان المضاف إليه فعلاً أم كان اسمًا، كما في قوله تعالى: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنّكَ أَنتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ } [المائدة: 109]، و الارتباط بالملابسة بين الحال وصاحبها، كما في قوله تعالى: { وَإِذَا قَامُوَاْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النّاسَ } [النساء: 142]، و الارتباط بعلاقة الظرفية بين الفعل والظرف، سواء أكان هذا الظرف للزمان، كما في قوله تعالى: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهكَ } [البقرة: 133]، أم كان الظرف للمكان، كما في قوله تعالى: { نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [آل عمران: 3]، و الارتباط بعلاقة التحديد بين الفعل والمفعول المطلق المبين للنوع، كما في قوله تعالى: { إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مّبِينًا } [الفتح: 1]، أو المفعول المطلق المبين للعدد كما في قوله تعالى: { فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مّيْلَةً وَاحِدَةً } [النساء:(1/11)
102]، و الارتباط بعلاقة السببية بين الفعل والمفعول لأجله،كما في قوله تعالى: { وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً } [المائدة: 38]، و الارتباط بعلاقة التمييز بين التمييز والمميز، كما في قوله تعالى: { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } [البقرة: 51]، و الارتباط بعلاقة الوصفية بين النعت المفرد ومنعوته، كما في قوله تعالى: { وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ } [النساء: 1]، و الارتباط بعلاقة البدلية بين البدل والمبدل منه، كما في قوله تعالى: { إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ } [الفتح: 26]، و الارتباط بعلاقة التوكيد بين التوكيد والمؤكد، كما في قوله تعالى: { هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ } [الصف: 9] (1)، أو بين الفعل والمفعول المطلق، سواء أكان المفعول المطلق لفعلٍ ظاهرٍ كما في قوله تعالى: { يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } [آل عمران: 13]، أم كان المفعول المطلق لفعلٍ محذوفٍ يقدر من لفظ المفعول المطلق، كما في قوله تعالى: { مّا يَكُونُ لَنَآ أَن نّتَكَلّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16]، أو كان هذا المنصوب نائبًا عن المصدر في موضع المفعول المطلق كما في قوله تعالى: { وَاذْكُر رّبّكَ كَثِيرًا } [آل عمران: 41].
__________
(1) والتوبة: 33.(1/12)
... وأما الربط، فهو الوسيلة المتوسطة بين أجزاء((الجملة أو الجملتين تصطنعها اللغة لأمن اللبس في الارتباط، أو لأمن اللبس في الانفصال بين الجملتين أو الجملة))(1)؛ لذا نجد أن الربط في تركيب خطاب القرآن في العهد المدني، الأصل فيه أن يكون بإعادة اللفظ؛ لأنه أدعى للتذكير، وأقوى ضمانًا للوصول إلى المعنى(2)، كما في قوله تعالى: { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفّارَ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مّقِيمٌ } [التوبة:67-68]، فهنا نلحظ التكرار في قوله تعالى (الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ)، بعد طول المسافة من الآية السابقة إلى هذه الآية، ليقويّ التذكر؛ فبدلاً من أن يقول الله تعالى (وعدهم) ويحصل نسيان بعد طول المسافة بين الوعد والموعودين به(3)، أعاد الله تعالى ذكر (المنافقين والمنافقات).
__________
(1) نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية ( 146 ).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر: تفسير التحرير والتنوير (م6/ج10/255).(1/13)
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة:71-72]، وغيرها من آيات خطاب العهد المدني، وقد يكون التكرار لا لتنشيط الذاكرة وإنما لأَمْنِ اللبس، كما في قوله تعالى: { وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [المائدة: 38]، فلو أن ضميرًا وضع موضع ثاني لفظي الجلالة لاحتمل أن جملة (والله عزيز حكيم) حالية، ولكان المعنى من هذا الخطاب أن كسبهما النكال مرتبط بحال عزة الله وحكمته فقط، تعالى الله عن هذا المعنى السقيم(1). ومثله قوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمّ يُغْلَبُونَ وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ إِلَى جَهَنّمَ يُحْشَرُونَ } [الأنفال: 36]، فلو قيل وهم إلى جهنم يحشرون؛ لكان المعنى إن كونهم مغلوبين ملابسًا لحشرهم إلى جهنم، وليس بيانًا لمصيرهم يوم القيامة(2).
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/131).
(2) ينظر: تفسير البغوي (3/356).(1/14)
... وقد يغني عن إعادةِ لفظ الكلمة إعادةُ المعنى، وهذا وارد في خطاب العهد المدني، في باب المبتدأ والخبر في قوله تعالى: { تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [الأحزاب: 44]، فهنا صلح ربط المبتدأ بالخبر؛ لأن الخبر هو عين المبتدأ في المعنى؛ فالتحية هي السلام، والسلام هو التحية(1)، فلذلك هذا العود قريب في أهميته من إعادة الذكر(2). وثمة نوع آخر من وسائل إنعاش الذاكرة، في خطاب العهد المدني، هو إعادة ذكر صدر الكلام بعد أن حال بينه وبين ما يتعلق به فاصل طويل من الكلام، وجعله مظنة النسيان؛ فإذا أعيد صدر الكلام إلى الذاكرة اتضحت العلاقة بما يليه وينتمي إليه، ومن شواهد هذا النمط قوله تعالى: { وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [البقرة: 89]، فحين طال الفاصل بين (لَمّا جَآءَهُمْ) وجوابها، تكررت لتقوية الربط والارتباط، وكذلك قوله تعالى: { وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ وَلََكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [البقرة: 253]، فهنا تكررت عبارة (وَلَوْ شَآءَ) لسببين، هما(3):
1– لتوقي توالي استدراكين بـ (لكن)، لا يدري ماهية ارتباط ثانيهما بعناصر الجملة.
2– لإرادة التذكير بصدر الخطاب بعد أن بَعُدَت المسافة به عن سابقه.
__________
(1) ينظر: اللسان، مادة (سلم)، ( 12/298 ).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/132).
(3) ينظر: نفسه (1/133).(1/15)
و(( قيل: الجملة تكررت توكيدًا للأولى، قاله الزمخشري(1). وقيل: لا توكيد لاختلاف المشيئتين، فالأولى: ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، والثانية: ولو شاء الله أن يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا))(2).
__________
(1) ينظر: الكشاف ( 1/326 ).
(2) البحر المحيط ( 2/274 ).(1/16)
... كما أن الحرف قد يتكرر، كما في قوله تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ والآصَالِ } [النور: 36]، فحرف الجر (في) تكرر هو ومجروره ثلاث مراتٍ هي (في بيوت– يذكر فيها– يسبح له فيها)، وكلها ترجع إلى البيوت حتى يتم التذكير بها، كما أن الضمير قد يتكرر في سور الخطاب المدني، كما في قوله تعالى: { هُوَ اللّهُ الّذِي لاَ إِلَه إِلاّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ، هُوَ اللّهُ الّذِي لاَ إِلَه إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدّوسُ السّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبّرُ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللّهُ الْخَالِقُ البارئ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ يُسَبّحُ لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر:22-24]، فالضمير(هو) تكرر سبع مراتٍ في ثلاث آياتٍ من الخطاب: في ثلاث مراتٍ منها اُتْبِعَ الضمير بلفظ الجلالة (الله)، وفي مرتين جاء الضمير في سياق التهليل، أما الباقي فاُتْبِعَ بأسماءٍ حسنى، ولولا هذا التكرار للضمير لجاءت أسماء الله التسعةَ عشرَ المذكورة في الآية متتابعةً من غير فاصلٍ، وذلك فيه إخلال هو أبعد ما يكون عن خطاب القرآن الكريم(1)، فلما كان شأن هذه الصفات عظيمًا ناسب أن يتكرر في افتتاح الجملة بضمير الشأن(2).
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/ 135 ).
(2) ينظر: التحرير والتنوير (م13/ج28/118) وما بعدها.(1/17)
... كان ذلك في شأن الربط بإعادة الذكر في صوره المختلفة في خطاب العهد المدني، ولكن الربط بإعادة الذكر، يتعذر أحيانًا ويقبح في أحيانٍ أخر؛ إذ لا يكون ثمة مفر من اللجوء إلى غيره من طرائق الربط الأخرى، كالضمائر(1)، ومن شواهد تعذر الربط بإعادة الذكر والاستعاضة عنه بالضمائر، ما جاء في قوله تعالى: { إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيرًا وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 35]، فلو تصور أحد من الناس، أن الله تعالى ذكر في هذا الخطاب بدلاً عن ضمير الغائبين في (لهم) كل الطوائف المذكورة سابقًا في خطابه، فهل سيكون ذلك مقبولاً عنده؟، إن الربط بإعادة الذكر يصل في هذا الخطاب إلى درجة التعذر(2)، وأما القبح في إعادة الذكر فمن شواهده، ما جاء في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ } [الأحزاب: 50]، فلو تمت إضافة لفظ (أجور) إلى مرجع الضمير، وهو (أزواجك) لظهر أن جملة الصلة لم تشتمل على ضميرٍ رابطٍ، وإنما اشتملت على اسمٍ ظاهرٍ لا يفيد في ربط الموصول بصلته، وفي ذلك قبح بسبب إعادة الذكر للاسم الظاهر(3)، ومن شواهد القبح في إعادة ذكر الاسم، ما جاء في قول الشاعر(4): (
__________
(1) ينظر صفحة (175) وما بعدها من هذا البحث.
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/ 136 ).
(3) ينظر: نفسه (1/136-137).
(4) البيت بلا نسبة في شرح التسهيل (1/208)، وشرح التصريح على التوضيح، للأزهري (1/140)، وشرح شذور الذهب (184)..(1/18)
الطويل)
سُعَادُ الَّتِي أَضْنَاكَ حُبُّ سُعَادَا وَإِعْرَاضُهَا عَنْكَ اسْتَمَرَّ وَزَادَا
وكذلك قول مجنون ليلى(1): (الطويل)
فيَارَبَّ لَيلَى أنْتَ في كُلِّ مَوطِنٍ وأنْتَ الَّذِي في رَحْمَةِ اللهِ أَطْمَعُ
... على أن التكرار جاء رابطًا في خطاب الله تعالى مع خلقه، في مواضع لم يكن فيها فصل بمسافةٍ طويلةٍ في سور العهد المدني، ومن ذلك قوله تعالى: { أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مّهِينًا } [النساء: 151]، وفائدة وضع الاسم الظاهر موضع المستتر التذكيرُ بوصف الكفر الشنيع، وقد يراد من (وأعتدنا للكافرين) جميع الكافرين؛ لذا يُعدّ المذكورون سابقًا داخلين فيهم دخولاً أوليًا.
__________
(1) البيت لمجنون ليلى في شرح ابن عصفور( 1/183)، والمقصد النحوية (1/308 )، والدرر اللوامع (1/286)، وبلا نسبة في شرح التصريح (1/140)، ومغني اللبيب (1/277، 655، 707)، وهمع الهوامع (1/339)، ولم أجده في ديوانه.(1/19)
... ويغني في الخطاب المدني، عن إعادة الذكر أسماءُ الإشارة، كما في قوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا... } [النساء:150-151]، وقوله تعالى: { وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [المائدة: 86]، كما أن عدم المطابقة في اللفظ تؤدي إلى الربط بلفظٍ فيه مدح أو ذم، ومن ذلك ما جاء في خطاب الله تعالى: بلفظ (قوم) و(أولياء) و (القوم) و (أئمة)، كما في قوله تعالى: { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } [آل عمران: 140]، أي فقد مسهم أي أعداءكم من كفار قريش(1)، وهو هنا ذمٌّ لهم، وقال الله تعالى: { الّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوَاْ أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ } [النساء: 76]، أي فقاتلوا الذين كفروا لأنهم أولياء له(2)، وقوله تعالى في خطابه المنافقين: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلّ مّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلآءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } [النساء: 78]، أي ما لهم لا يكادون(3)،
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري( 7/236).
(2) ينظر: نفسه (8/547).
(3) ينظر: نفسه (8/557)..(1/20)
وجاء في خطابه تعالى مع عباده المؤمنين قال تعالى: { وَإِن نّكَثُوَاْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوَاْ أَئِمّةَ الْكُفْرِ إِنّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } [التوبة: 12] أي فقاتلوا الذين نكثوا عهدهم وطعنوا في دينكم(1).
... وفي الخطاب المدني استُخْدِمَت (ال) التي للتعريف رابطًا، على أن لها دلالاتٍ في كل صورها تمثلت في الآتي(2):
(ال)
(موصولة) ... ... ... ... ... ... ... ... للتعريف
إذا اتصلت بها صفة صريحة.
كما في قوله تعالى:(إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ)[البقرة: 153] ... للجنس ... ... للعهد
(مطلق) ... ... ... ... ... (نسبي)
يعرف بها الجنس مع إبهام كل فرد ... ... يعرف بها الجنس والمقصود إما عام للجنس
من أفراده، فهي في قوة (أي). كله أو خاص لأحد أفراده فهي كالضمير الغائب.
... ... ... ... ...
للعهد الذكري كما في قوله ... للعهد الذهني كما في قوله للعهد الحضوري وتكون لحاضر
تعالى { فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ تعالى { النّبِيّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ يعرف به المتكلم كما في:
فِي زُجَاجَةٍ الزّجَاجَةُ } [النور: 35] أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب: 6] أي هذا النبي. { وَهَذَا النّبِيّ } [آل عمران:68]
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (14/154).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/147 )، واللغة العربية معناها ومبناها (158).(1/21)
... ومن شواهد الربط بـ (ال) في الخطاب المدني قوله تعالى: { وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ } [النساء: 1]، فقوله تعالى (الأرحام) أي (أرحامكم) فـ (ال) ربطت بين الناس وأرحامهم(1)، ومنه كذلك قوله تعالى: { فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12]، أي (أعناقهم)، ومعنى الخطاب: فاضربوا فوق أعناق المشركين، بدلالة عود الضمير في (منهم) على المشركين(2)، ومن الشواهد أيضًا قوله تعالى: { إِذْ جَآءُوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } [الأحزاب: 10]، ففي (الأبصار) و (القلوب) و (الحناجر) ربط بـ(ال) مع الخطاب السابق لأن (ال) هي العهدية، أي (أبصاركم) و (قلوبكم) و (حناجركم) (3)، وكذلك (ال) الموصول الحرفي، يمكن جعله سببًا لمجيء الفاء في جوابه، نحو قوله تعالى: { الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [النور: 2]، فمعناها الذي يزنى فاجلدوه(4)،لأن تعريف { الزّانِيَةُ وَالزّانِي } تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبًا، وشأن (ال) الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعّد الوصف عن مشابهة الفعل، لذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما في تحقق الوصف في صاحبه(5)،
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (7/518-519).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر: التحرير والتنوير (م10/ج21/280).
(4) ينظر: نفسه (م9/ج18/145-146).
(5) ينظر: التحرير والتنوير (م9/ج18/145-146)..(1/22)
وكذلك قوله تعالى: { وَاللّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } [النساء: 16]، لأنه أمر، فحملت (ال) دلالة الشرط، اعتمادًا على المعنى، والدليل على ذلك ربط الجواب بالفاء، ومما يقوي ذلك مجيئه محملاً بدلالة الشرط في قوله تعالى: { وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38]، فالسياق جعل (ال) دالاً على الشرط حملاً على المعنى، فجرى مجرى الأسماء الموصولة التي أشبهت أسماء الشرط لدلالتها على العموم والمستقبل، وجاءت القرائن الدالة على قوة معنى الشرط فيه وهي دلالة الفاء لوجوب اقترانها بفعل الأمر إذا جاء جوابًا للشرط(1). ولأن حديثنا في الاستغناء عن إعادة الذكر بالضمير، فالضمير في الخطاب المدني قد يرجع على مذكورٍ سابقٍ له كما مرَّ سابقًا، وقد يرجع على مصدرٍ متصيدٍ من الفعل غير مذكورٍ في الجملة، كما في قوله تعالى: { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ } [التوبة: 3]، أي توبكم خير لكم(2)، وهذا المصدر الصريح جاء مفهومًا من الكلام السابق، لذا لم يرجع الضمير على اسمٍ ظاهرٍ(3)؛ وهنا ألفت النظر إلى ثلاث مسائل مهمة جاءت في خطاب العهد المدني، هي:
– رتبة الضمير والمرجع في الخطاب المدني.
– قرب المرجع وبعده من الضمير في الخطاب المدني.
– تطابق الضمير مع مرجعه.
__________
(1) ينظر: دلالة المعنى، لـ د. عبدالوهاب حسن حمد ( 10-11 ).
(2) ينظر: روح المعاني (م6/ج10/70).
(3) ينظر: معاني النحو( 1/62).(1/23)
... فأما المسألة الأولى: الأصل فيها أن يتقدم المرجع لفظًا ورتبةً(1)،إلا إذا تغير أحد عاملي التحكم وهما، اللفظ وأصل الرتبة(2)، فحينئذٍ قد يعود الضمير على متأخرٍ لفظًا ورتبةً، كما في قوله تعالى: { هُوَ اللّهُ الْخَالِقُ البارئ الْمُصَوّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبّحُ لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر: 24]، إذ الضمير (هو) مفسره اللفظ بعده، وفائدة هذا العدول في عود الضمير أن الله تعالى يريد من السامعين أن يستعظموا حديثه(3). أما مسألة قرب الضمير من مرجعه أو بعده عنه، في الخطاب المدني، فقد وجدت أن الضمير قد يتباعد أو يتقارب فيها مع مرجعه، فأما التقارب بين الضمير ومرجعه، فظاهر في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ } [الأحزاب: 50]، وأما التباعد بينهما فكما في قوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مّهِينًا } [النساء:150-151]. أما في المسألة الثالثة فوجدت أن الأصل في الضمير أن يتطابق مع مرجعه(4)، لكن إن كان المرجع جمعًا لغير العاقلات فالغالب في الضمير أن يعود عليه في جمع الكثرة بالإفراد، وفي جمع القلة بالجمع(5)،
__________
(1) ينظر: الإتقان ( 1/281-285 )، والنحو الوافي، لعباس حسن ( 1/255-256 ).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/150-151 ).
(3) ينظر: البحر المحيط ( 8/528 ).
(4) ينظر: معاني النحو (1/64).
(5) ينظر: نفسه..(1/24)
كما في قوله تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ } [البقرة: 233]، فجعل الخطاب المدني الضمير العائد على الأشهر مفردًا (الهاء) في (مِنْهَا)، وذلك لأنها أكثر من عشرة، وجعل ضمير الأشهر الحرم بالجمع، لأنها أربعة(1) فقال: (فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ)، وقال تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } [البقرة: 197]، فهنا عاد الضمير عليهن بالجمع لأنهن ثلاثة أشهر(2).
__________
(1) ينظر: همع الهوامع (1/253).
(2) ينظر: معاني النحو (1/64).(1/25)
... وكل أداةٍ داخلةٍ على جملةٍ لإفادة معنًى، فهي رابطة تقوى بها الصلة بين كل المفردات الداخلة في حيزها، كالنفي والأمر باللام والنهي والاستفهام والشرط والتعجب، والعطف والحروف المصدرية وأدوات الاستثناء، وحروف الجرِّ(1)، فأما النفي في الخطاب المدني فإن حروفه تنفي كل ما في حيزها، فإذا نفيت بـ (لا)، نفيت إسناد الخبر إلى اسمها فكانت (لا) بهذا النفي رابطة مفيدة في الإسناد، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: { فَمَن فَرَضَ فِيهِنّ الْحَجّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ } [البقرة: 197]، إذ نجد أن (لا) نفت جنس كل واحدٍ من هذه الثلاثة في أثناء الحج نفيًا قاطعًا، لا يرقى إليه شك، وهذا النفي هو ظاهر الآية ولكن معنى الآية نهي، قد يرتقي إلى الاجتناب بسبب المبالغة في النهي(2)، والتكرار لـ (لا). وأما الشرط فإنه يرتبط في الخطاب المدني بجوابه بوساطة أداة الشرط، كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7]، فلولا أداة الشرط لارتفع الفعلان وأصبح ثانيهما حالاً من الضمير (الكاف) (3)، وفي القسم –أيضًا– تربط الأداة القسم بجوابه، ولا يكون القسم إلا على زعم توكيد صحة القضية التي تسمى جواب القسم(4)،
__________
(1) ينظر: نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية ( 200- 202 ).
(2) ينظر: تفسير البغوي (1/227).
(3) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/153).
(4) ينظر: أسرار العربية (248)..(1/26)
ومن القسم بإظهار المقسم به في الخطاب المدني قوله تعالى: { زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَن لّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبّي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِمَا عَمِلْتُمْ } [التغابن: 7]، وقوله تعالى: { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمًْ } [النساء: 65]، وفي ما عدا هذين الموضعين من أقسام الخطاب المدني جاءت الأقسام بذكر أفعال القسم قبل الأداة، مثل (أقسم)، كما في قوله تعالى: { وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنّ قُل لاّ تُقْسِمُواْ } [النور: 53]، و (عاهد) كما في قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ } [التوبة: 75] (1)، وقد وجدت أن هذه الحالات قرنت فيها أداة الشرط بـ(لام) مفتوحة، وهذه (اللام) مهدت للقسم وآذنت بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط(2)، أو ذكر الله تعالى الاسم (ميثاق)، كما في قوله تعالى: { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [آل عمران: 187]، لأن أخذ الميثاق دال على جملة قسم مقدرة(3).
__________
(1) والفتح: 10.
(2) ينظر: همع الهوامع (2/492).
(3) ينظر: مغني اللبيب (533).(1/27)
... وهناك أدوات دخلت على الأجوبة، ولها وظيفتان هما الربط وإيضاح المعنى(1)؛ بجعل الأداة الداخلة على الجواب قرينةً على أن ما بعدها جواب وليس شيئًا آخرَ، ففي الشرط مثلاً إما أن يصلح الجواب أن يوضع في موقع الشرط، وحينئذٍ ليست به حاجة إلى رابطٍ ليتضح به كما في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُرْكُمْ } [محمد: 7]، فهنا يمكن للجواب أن يكون شرطًا بدليل قوله تعالى: { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الّذِي يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ } [آل عمران: 160]، إذ لا يصلح الجواب في الآية الأخيرة للوقوع في موقع الشرط، لأنه منسوخ بـ (لا) النافية للجنس، وهي لا تصلح للحلول محل فعل الشرط، لأن جملة الجواب جملة اسمية، ولهذا اقترن الجواب بالفاء(2)، لاحتمال ورود اللبس عليها، إذ لولا الفاء لصلحت جملة الجواب أن تكون حالاً من ضمير المخاطبين الذي في (ينصركم)(3)، ولظل السامع ينتظر الجواب الذي لا دليل على حذفه، إذ الحذف في أسلوب الخطاب لا يكون إلا بدليلٍ.
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/152).
(2) ينظر: الأصول في النحو (2/272).
(3) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/154-155).(1/28)
... ومن الأدوات الرابطة حروف العطف التي تربط بين المتعاطفين من جهة التشريك، أو ما بقي من المعاني الخاصة بكل أداة من أدوات العطف، ولكن الخطاب المدني قد ينقل الدلالة الوظيفية للحروف إلى دلالات أخرى، بوساطة نقل المعنى، كما في نقل دلالة (أو) إلى التسوية(1) في قوله تعالى: { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ } [التوبة: 80]، ونقل دلالة (أم) إلى الإضراب(2)، في قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُم مّثَلُ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [البقرة: 214]، ومن أدوات الربط: أداة الاستثناء التي تربط المستثنى بالمستثنى منه بإخراج المستثنى من حكم المستثنى منه، كما في قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى } [البقرة: 34]، فإبليس رفض الدخول في أمر السجود فأخرجه الله مما كان عليه من المنزلة، والملائكة سجدوا إلا إبليس خرج من حكم السجود، وعلى كلا الأمرين خرج إبليس من حكم المستثنى (الملائكة)، وحكم الفعل(السجود). والظرف يربط ما أضيف إليه بمتعلقه(3)،
__________
(1) ينظر: نفسه (1/363). ...
(2) ينظر: نفسه (1/364) وما بعدها.
(3) ينظر: نفسه (1/159)..(1/29)
سواء أكان المضاف إليه مفردًا ، كما في قوله تعالى: { فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } [البقرة: 198]، إذ ربط الظرف (عند) بين المشعر الحرام ومعنى الحدث (الذكر) فجعل الذكر جوار المشعر الحرام، أم كان المضاف إليه جملةً، ومنه قوله تعالى: { وَاذْكُرُوَاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الأنفال: 26]، إذ ربطت (إذ) بين سبق القلة بالعدد وبين الذكر، وبين النصر والرزق والإيواء(1).
... ومع ما ذكرته وجدت خطاب العهد المدني يترخص في قرينة الربط بالأدوات النحوية، كما في حذف أداة الاستفهام اعتمادًا على تنغيم الكلام، كما في قوله تعالى: { قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيّتِي } [البقرة: 124]، فإن قوله تعالى (ومن ذريتي) استفهام حذفت أداته(2)، وقد تحذف اللام الموطئة للقسم، كما في قوله تعالى: { وَإِن لّمْ يَنتَهُواْ عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسّنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [المائدة: 73]، لأن الجواب المذكور مقترن باللام، فهو جواب للقسم المقدر قبل الشرط(3)، وقد تحذف الأدوات الداخلة على ما يحل محل المفرد، كـ(الواو) الداخلة على جملة الحال(4)، في قوله تعالى: { فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلّ أُنَاسٍ مّشْرَبَهُمْ } [البقرة: 60]، وكذلك يترخص في حذف (قد)، التي مر بنا سابقًا الحديث عن حذفها(5).
__________
(1) ينظر: تفسير البغوي (3/347)، وتفسير ابن عطية (م2/ج6/5)، وروح المعاني ( م6/ج9/282 ).
(2) ينظر: تفسير الطبري (2/19).
(3) ينظر: مغني اللبيب (1/810).
(4) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/245).
(5) ينظر صفحة (30) من هذا البحث.(1/30)
... وتحذف الفاء العاطفة التي تدخل على المفردات، كما في قوله تعالى: { وَلاَ عَلَى الّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلّوْا وّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَنًا أَلاّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة: 92]، فالكلام هنا يعني أحد أمرين(1):
1– إذا ما أتوك فقلت: .............. تولوا..........
2– إذا ما أتوك قلت: ................ فتولوا..........
ولا مناص من تقدير الفاء في أحد الموقعين؛ ليكون الفعل الآخر جوابًا للشرط، فالفاء في المعنى الأول عاطفة على الشرط وفي الثاني عاطفة على الجواب، ويشير السياق إلى أن المعنى الأول هو المقصود؛ لسببين هما(2):
1– أن العفو عن هؤلاء المعسرين لم يترتب على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما على نواياهم بدليل أنهم تولوا وأعينهم باكية.
2– أولى بجملة الشرط، التي وقعت صلةً للموصول الاسمي، أن يتحد الضمير الرابط فيها بوقوعه في الشرط والجواب معًا، أي (إذا أتوك تولوا) مقدم على (إذا أتوك قلت)؛ ليكون الكلام عنهم،بوساطة الربط بالضمير،على طول الخط، وفي ذلك إشادة بهم وتكريم لهم(3).
قضايا نحوية لم ترد إلا في الخطاب المدني:
... مع دراستي للخطاب في العهد المدني وجدت قضايا نحوية في السور المدنية لم ترد في سور العهد المكي، وهي ما يأتي:
__________
(1) ينظر: روح المعاني ( م6/ج10/232 )، والبيان في روائع القرآن (1/ 249 ).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/249 ).
(3) ينظر: تفسير البغوي ( 4/84 ).(1/31)
1– عطف المرفوع على المنصوب في الظاهر: سواء أكان المرفوع بالحركات أم كان بالحروف، فمن عطف المرفوع على المنصوب بالحركات، قوله تعالى: { أَنّ اللّهَ بَرِيءٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } [التوبة: 3]، قال الألوسي مفسرًا الآية:«وقوله سبحانه: { وَرَسُولُهُ } عطف على المستكن في بريء، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف وأن يكون عطفًا على محل اسم (إن)»(1)، وأرى أن تخريج القراءة على العطف على المستكن في برئ أولى لما في الفصل بقوله: { مّنَ الْمُشْرِكِينَ } بين متحمله والمعطوف(2)، فعطفه على المنوي في بريء تقديره: ((بريء هو ورسوله من المشركين))(3)،لأن السامع يعلم من الرفع أن تقديره: ورسوله بريء من المشركين(4)، ففي هذا الرفع معنًى بليغٍ في الإيضاح مع الإيجاز في اللفظ، وهذه نكتة قرآنية بليغة، اهتدى بها ضابئ بن الحارث في قوله(5) : (الطويل)
ومَن يَكُ أَمْسَى بِالمَدِينَةِ رَحلُهُ ... فَإِنّي وَقَيّارٌ بِها لَغَريبُ
__________
(1) روح المعاني ( م6/ج10/69 ).
(2) ينظر: البحر المحيط ( 5/6 ).
(3) تفسير الرازي ( م8/ج15/231 ).
(4) ينظر: إعراب القرآن للنحاس (2/202)، والتبيان في إعراب القرآن (2/635).
(5) البيت منسوب إلى البرجمي في اللباب (1/213)، والإنصاف في مسائل الخلاف (1/94)، وخزانة الأدب للبغدادي (9/329) و (10/335، 336، 338-339 )، وهو بلا نسبة في الجمل في النحو (1/154)، والأصول في النحو (1/257) وسر صناعة الإعراب (1/372)، والمغني ( 1/618 )، والهمع (3/239)، والإيضاح في علوم البلاغة (81)، ورواه أبو زيد الأنصاري في النوادر في اللغة (20)، وابن منظور في اللسان ( 5/125) منسوبًا إلى البرجمي، ولكن بنصب قيار.(1/32)
برفع (قيار) لأنه أراد أن يجعل غربة جمله المسمى (قيارًا) غربةً أخرى غير تابعةٍ لغربته. أما عطف المرفوع على المنصوب بالحروف فجاء في قوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُونَ وَالنّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر } [المائدة: 69]، وهنا يترجح أن يجعل خبر (إن) محذوفًا دل عليه ما ذكر بعده من قوله: { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } الخ. ويكون قوله { وَالّذِينَ هَادُواْ } عطف جملةٍ على جملةٍ، فيجعل { َالّذِينَ هَادُواْ } مبتدأ، ولذلك حق رفع ما عطف عليه، وهو { وَالصّابِئُونَ } . وهذا أولى من جعل { وَالصّابِئُونَ } مبدأ الجملة وتقدير خبرٍ له، أي والصابئون كذلك، لأن ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان عدم تكلف ذلك(1)،واختار أبو السعود الرفع على الابتداء والخبر محذوف فـ (( قوله تعالى: { وَالصّابِئُونَ } رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به التأخر عما في حيز إن والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك، كقوله: فإني وقيار بها لغريب ... وقوله(2): (الوافر)
__________
(1) ينظر: الجمل في النحو (154-155)، وإعراب القرآن للنحاس( 2/31-32)، والأصول في النحو (1/253، 327)، و المفصل (394)، وأسرار العربية (1/147)، والإنصاف في مسائل الخلاف (1/186) وما بعدها، والتبيان في إعراب القرآن (1/451)، واللباب (1/212-213)، والمغني (1/617)، وأوضح المسالك (1/362)، وخزانة الأدب للبغدادي (10/317).
(2) البيت من شواهد الكتاب (2/156) ونسبه إلى بشر بن أبي خازم، وفي الانتخاب لكشف الأبيات المشكلة الإعراب (60)، والإنصاف في مسائل الخلاف (1/190)، وبلا نسبة في الأصول في النحو (1/253)، وإعراب القرآن للنحاس (2/32)، والمفصل (1/394)، وأسرار العربية (147)، وشرح الرضي على الكافية (4/351)، ودلائل الإعجاز (45)، وخزانة الأدب ( 10/315 ).(1/33)
وإلا فَاعْلَمُوا أَنّا وأنْتُم ... ... ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ
خلا أنه وسط بين اسم إن وخبرها دلالةً على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فغيرهم أولى بذلك، وقيل: الجملة الآتية خبر للمبتدأ المذكور، وخبر إن مقدر كما في قوله(1) : (المنسرح)
نَحنُ بِما عِندَنا وَأَنتَ بِما ... ... عِندَكَ راضٍ وَالرَأيُ مُختَلِفُ
وقيل: (النصارى) مرفوع على الابتداء كقوله تعالى: { وَالصّابِئُونَ } ، عطفًا عليه وهو مع خبره عطف على الجملة المصدرة بـ(إن) ولا مساغ لعطفه وحده على محل إن واسمها لاشتراط ذلك بالفراغ عن الخبر وإلا لارتفع الخبر بـ(إن) والابتداء معًا، واعتذر عنه بأن ذلك إذا كان المذكور خبرًا لهما، وأما إذا كان خبر المعطوف محذوفًا فلا محذور فيه))(2)، ولم يبعد الزمخشري عن القول بمثله (3)، على أن الرازي كان أوضح من تكلم في هذه الآية، وأكثرهم عرضًا للأدلة، فقال: «وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه:
__________
(1) البيت لقَيْس بن الخطيم في ملحق ديوانه (239)، والكتاب ( 1/75 )، ونسبه الجاحظ لعمرو بن امرئ القيس في البيان والتبيين (1/436)، ونسبه الأنباري لدرهم بن زيد الأنصاري في الإنصاف في مسائل الخلاف ( 1/95 )، وهو بلا نسبة في المقتضب (3/112)، وإعراب القرآن للنحاس( 2/212 )، واللباب (1/213)، والإيضاح في علوم البلاغة ( 81 )، والفصول المفيدة في الواو المزيدة، للعلائي (65)، واعتراض الشرط على الشرط ( 50 ) والمغني ( 1/810)، وهمع الهوامع (3/119)، وخزانة الأدب للبغدادي (4/256)، واللسان (3/360).
(2) تفسير أبي السعود ( 2/70 ).
(3) ينظر: الكشاف ( 1/693 ).(1/34)
الأول: وهو مذهب الخليل(1) وسيبويه(2) ارتفع الصائبون بالابتداء على نية التأخير، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصائبون كذلك، فحذف خبره، والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصابئين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالاً.... الوجه الثاني: وهو قول الفراء(3) أن كلمة { إن } ضعيفة في العمل ههنا، وبيانه من وجوهٍ: الأول: أن كلمة { إن } إنما تعمل لكونها مشابهةً للفعل، ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة.
الثاني: أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعمل في الاسم فقط، أما الخبر فإنه بقي مرفوعًا بكونه خبر المبتدأ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير...
الثالث: أنها إنما يظهر أثرها في بعض الأسماء، أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها، والأمر ههنا كذلك، لأن الاسم ههنا هو قوله { الذين } وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض.
إذا ثبت هذا فنقول: إنه إذا كان اسم { إن } بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب، فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف، والرفع على إسقاط عمله... والسبب في جواز ذلك أن كلمة { إن } كانت في الأصل ضعيفة العمل، وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف، فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه... وهو مذهب حسن... لأن الذي قالوه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيحٍ، وإنما تحصل الصحة عند تفكيك هذا النظم»(4)، والرأي عندي ما ذهب إليه الفراء لما ذكره من الأدلة، وهذا العطف لا شواهد عليه في الخطاب المكي.
__________
(1) ينظر: الجمل في النحو ( 154 ).
(2) ينظر: الكتاب ( 2/155 ).
(3) ينظر: معاني القرآن للفراء ( 1/105-108 ).
(4) تفسير الرازي ( م6/ج12/55-57 ).(1/35)
2– عطف المنصوب على المرفوع في الظاهر: وهذا الأمر ظهر في الآتي:
أ– قوله تعالى: { لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصّلاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضّرّاءِ } [البقرة: 177]، فالبارون في الآية أربعة هم: من آمن بالله ومن آتى المال، والموفون بعهدهم، والصابرون في البأساء، ولكن الواو العاطفة قبل (الصابرين) قرينة دالة على العطف، و(الصابرين) معطوفة على مرفوعاتٍ في الظاهر، وهي منصوبة، الأمر الذي جعل النحاة والمفسرين يبحثون عن تخريجٍ لذلك؛ فقال الألوسي: «نصب على المدح بتقدير أخص أو أمدح... ومجيء القطع في العطف ما أثبته الأئمة الأعلام... كقول الهذلي(1): (المتقارب)
ويَأْوِي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ وشُعْثًا مَراضِيعَ مِثْلَ السَّعالِي»(2)
__________
(1) البيت لأمية بن عائذ الهذلي في ديوان الهذليين (2/172)، وشرح أشعار الهذليين (2/507)، وهو من شواهد الكتاب ( 1/339 ) وشرح المفصل لابن يعيش( 1/70 )، والمقاصد النحوية (3/120)، وشرح التصريح(2/117)، واللسان (8/128)، ونسبه في الكتاب إلى أمية بن أبي عائذ في(2/66)، وفي الانتخاب لكشف الأبيات مشكلة الإعراب لابن عدلان(34)، وبلا نسبة في معاني القرآن للفراء(1/108)، وشرح الرضي على الكافية (2/323)، وشرح أبيات سيبويه للنحاس(116)، وشرح الجمل لابن عصفور(1/210) وأوضح المسالك ( 3/317 )، وخزانة الأدب للبغدادي ( 2/376 )، ورواه ابن منظور بجرِّ (شعث) في اللسان (8/127).
(2) روح المعاني ( م4/ج6/22 ).(1/36)
وعلة نصب الاسم، أن هذا الموضع فيه إطناب في الوصف وإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، لذا فصّل الرازي في إعراب (الصابرين) بقوله: «في نصب (الصابرين) أقوال. الأول: قال الكسائي هو معطوف على { ذوي القربى } كأنه قال: وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين: قال النحويون: إن تقدير الآية يصير هكذا: ولكن البر من آمن بالله وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين، فعلى هذا قوله: { والصابرين } من صلة (من)، قوله: { والموفون } متقدم على قوله: { والصابرين } فهو عطف على (من) (1) فحينئذٍ قد عطفت على الموصول قبل صلته شيئًا، وهذا غير جائزٍ لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسمٍ واحدٍ، ومحال أن يوصف الاسم أو يؤكد أو يعطف عليه إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه...
فإن قيل: أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة كقول القائل: إن زيدًا فافهم ما أقول رجل عالم، وكقوله تعالى: { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [الكهف : 30 ] ثم قال: { أولئك } ففصل بين المبتدأ والخبر بقوله: { إِنّا لاَ نُضِيعُ } قلنا: الموصول مع الصلة كالشيء الواحد، فالتعلق الذي بينهما أشد من التعلق بين المبتدأ والخبر، فلا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصلة.
__________
(1) ينظر: إعراب القرآن للنحاس ( 1/280 ).(1/37)
القول الثاني: قول الفراء(1): إنه نصب على المدح... والعرب تنصب على المدح وعلى الذم إذا طال الكلام بالنسق في صفة الشيء الواحد... ثم اختلف الكوفيون والبصريون في أن المدح والذم لِمَ صارا علتين لاختلاف الحركة؟ فقال الفراء(2): أصل المدح والذم من كلام السامع، وذلك أن الرجل إذا أخبر غيره فقال له: قام زيد فربما أثنى السامع على زيدٍ، وقال ذكرت والله الظريف، ذكرت العاقل، أي هو والله الظريف هو العاقل، ... وقال الخليل(3): المدح والذم ينصبان على معنى أعني الظريف، وأنكر الفراء ذلك لوجهين(4) الأول: أن أعني إنما يقع تفسيرًا للاسم المجهول، والمدح يأتي بعد المعروف. الثاني: أنه لو صح ما قاله الخليل لصح أن يقول: قام زيد أخاك، على معنى: أعني أخاك، وهذا مما لم تقله العرب أصلاً»(5)، وبمثله قال أبو السعود(6).
ب– قوله تعالى: { لَكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 162]، وما قيل في الآية السابقة يقال هنا أيضًا.
__________
(1) ينظر: معاني القرآن ( 1/310-311 ).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر: الجمل في النحو (90).
(4) ينظر: معاني القرآن، للفراء ( 1/311 ).
(5) تفسير الرازي ( م6/ج11/108 ).
(6) ينظر: تفسير أبي السعود ( 1/606 ).(1/38)
3– عطف المجرور بالمجاورة لفظًا على المرفوع محلاً: وهذا الأمر ظهر في قوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ } [البينة: 1]، فقد ذهب الألوسي إلى القول بأن (والمشركين) من المجرور بالمجاورة(1)، لحركة الجرِّ في (أهل الكتاب)، لأن (المشركين) معطوف على الموصول (الذين)، والموصول في محل رفعٍ اسم (كان)، والجرُّ بالمجاورة أجازه بعض النحويين (2)، فلذلك جاءت الآية من المجرور بالمجاورة، وذهب غيره إلى القول بأن (والمشركين) معطوف على (أهل الكتاب) وليس على اسم (يكن) لذا جُرَّ بالكسرة(3)، وما ذهب إليه الألوسي أصوب؛ لسببين هما:
أ-هناك اختلاف بين المشركين وبين أهل الكتاب، من حيث: الدين، والمعبود، لذا لا يصح أن يكونوا مجتمعين مع أهل الكتاب في تلك الأمور المختلفة تحت قوله تعالى: (الذين كفروا)، لأنهم زادوا على كفر أهل الكتاب عبادةَ غير الله، بغير دين سماوي.
ب-لو كان مقصود الآية بيان أن المشركين وأهل الكتاب جنس واحد؛ لذهب الخطاب إلى عدم التفريق بينهما في غايته، ولكننا وجدنا خطاب العهد المدني يفرّق بينهم في غايته، كما رأينا في المبحث الثاني من الفصل الثاني(4).
__________
(1) ينظر: روح المعاني ( م16/ج30/359 ).
(2) ينظر: شرح شذور الذهب ( 1/428-431 ).
(3) ينظر: الإنصاف في مسائل الخلاف (2/609،602)، والتبيان في إعراب القرآن (2/1279)، ولسان العرب (10/477).
(4) ينظر صفحة (111) من هذا البحث.(1/39)
4– مجيء خبر ما زال جملة فعلية: وهذا الأمر جاء في قوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } [البقرة: 217]، وفي قوله تعالى: { وَلاَ تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مّنْهُمْ } [المائدة: 13]، إذ لم يأت خبرٌ لـ (ما زال) جملةً فعلية في خطاب القرآن الكريم في غير هذين الموضعين فقط.
5– مجيء شبه الجملة في محل نصبٍ متعلقة بمحذوفٍ خبر (ما دام): كما في قوله تعالى: { إِنّا لَنْ نّدْخُلَهَآ أَبَدًا مّا دَامُواْ فِيهَا } [المائدة: 24]، وفي قوله تعالى: { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مّا دُمْتُ فِيهِمْ } [المائدة: 117]، وهنا أيضًا لم يأت خبرٌ لـ (مادام) متعلق بشبه جملة، في خطاب القرآن في غير هذين الموضعين فقط.
6– مجيء اسمٍ مبني في محل نصبٍ تمييز: في قوله تعالى: { إِن تُبْدُواْ الصّدَقَاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ } [البقرة: 271]، لأن (ما) الموصولة نكرة من غير صلة ولا صفة فهي تمييز(1)، لأنها في هذا الموضع تامة(2)، وإن كان بعضهم يرى أنها في هذا الموضع فاعل(3)، والأول أصوب، لأن الأصل فنعم شيئًا هي(4).
__________
(1) ينظر: المفصل (186، 362)، والتبيان في إعراب القرآن (1/220)، وشرح شذور الذهب (194)
(2) ينظر: التبيان في إعراب القرآن (1/367)، وأوضح المسالك (3 /280).
(3) ينظر: أنفسهما.
(4) ينظر: التبيان في إعراب القرآن (1/220).(1/40)
7– مجيء اسم فعل الأمر (عليكم): في قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [المائدة: 105]، قال ابن هشامٍ:«أي الزموا شأن أنفسكم»(1)، وعلى هذا ظهر أن (عليكم) اسم للفعل وبه انتصب (أنفسكم)؛ لأن اسم الفعل هو الجار والمجرور، و (على) وحدها لم تستعمل اسمًا للفعل(2)، وهذا الاسم لم يرد في غير هذا الموضع من القرآن الكريم.
__________
(1) شرح شذور الذهب (514).
(2) ينظر: الكتاب (1/250)، والمقتضب (3/211)، والتبيان (1/465).(1/41)
الفصل الثالث المبحث الرابع
المستوى الدلالي في خطاب العهد المدني
- مدخل.
- دور السياق في بيان الدلالة.
- تضييق دلالة الألفاظ في الخطاب المدني.
- التوسع في دلالة الألفاظ في الخطاب المدني.
- نقل دلالة الألفاظ في الخطاب المدني.
مدخل:
علم الدلالة هو العلم المختص بدراسة المعنى(1)، أو هو ذلك الفرع الذي يدرس الشروط الواجب توافرها في الرمز حتى يكون قادرًا على حمل المعنى(2)، فهو إذًا يبحث في التطور اللغوي لدلالة الألفاظ، إذ التطور اللغوي في ((معناه البسيط التغيير الذي يطرأ على اللغة، سواء في أصواتها أو دلالة مفرداتها، أو الزيادة التي تكتسبها اللغة أو النقصان الذي يصيبها))(3)، وإن النظر إلى المعنى الدلالي نظر في معاني الكلام بوساطة علمي اللغة والاجتماع؛ ذلك أن المعنى ينظر إليه من معنى المقال في حالٍ قالها المتكلم، في أثناء أدائه للخطاب، بنوعيه النطقي والكتابي، وعلم الدلالة فرع من فروع البحث في المعنى مما يؤدي في النهاية إلى أن تكون اللغة نظامًا عرفيًا يشرح العلاقة بين الرمز ومدلوله(4)، واحتياجنا إلى علم الاجتماع لأن اللغة ظاهرة اجتماعية وهي شديدة الارتباط بثقافة الناس الذين يتكلمونها ، ولهذا جاءنا البلاغيون بفكرة لكل مقامٍ مقال، فـ((إذا اختلفت المقامات لزم اختلاف مقتضيات الأحوال لأن اختلاف الأسباب في الاقتضاء يوجب اختلاف المسببات، إذ الاعتبار اللائق بهذا المقام غير الاعتبار اللائق بذلك، واختلافها عين اختلاف مقتضيات الأحوال، ومقتضى الحال في التحقيق هو الكلام الكلي المكيف بكيفيةٍ مخصوصةٍ ...
__________
(1) ينظر: علم الدلالة لـ د . أحمد مختار عمر ( 11 ).
(2) ينظر: نفسه.
(3) التطور الدلالي بين لغة الشعر العربي الجاهلي ولغة القرآن، لـ د. عودة خليل أبو عودة ( 45 ).
(4) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها ( 42 ).(1/1)
والحال أمر يقتضي أن يؤتى بالكلام على صفةٍ مخصوصةٍ تناسبه كالإنكار مثلاً إذا اقتضى أن يورد الكلام مع صاحب ذلك الإنكار مؤكدًا))(1)، فمراعاة المقام والحال محور علم الدلالة(2)، ودراسة مقام خطاب الله تعالى في السور المدنية، ينبغي أن يتم بمعرفة أن السور المدنية تتحدث عن العقيدة للتذكير، بعد أن تأسست عند أهل الإسلام في العهد المكي، ولكن التغير الذي حصل في العهد المدني هو في مجيء السور في مدة قيام الدولة الإسلامية، التي تحتاج إلى تنظيماتٍ وتشريعاتٍ وجهادٍ لحمايتها، لهذا احتل هذان الموضوعان معظم المساحة في السور المدنية(3)، ففي الخطاب المدني نجد ربطًا كاملاً بين العقيدة والشريعة(4)، ولا ينبغي أن يغفل موضوع فهم المقام والمقال(5). فمثلاً لفظة (الرعب) لم ترد إلا في السور المدنية، في أربعة مواضع(6)؛ لتثير معنًى أشد من الخوف في نفوس أهل الكتاب وفي نفوس المشركين، لعلهم يرجعون إلى الدين القويم، كما في قوله تعالى: { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللّهِ } [آل عمران: 151]، إذ جاءت اللفظة مصحوبة بالقذف والإلقاء، اللذينِ لا قدرة لأحدٍ على تحملهما مع قوة فاعل القذف والإلقاء، وهو الله تعالى.
__________
(1) أثر العناصر غير اللغوية في صياغة المعنى، بحث، رشيد بلحبيب، مجلة اللسان العربي العدد (49) لشهر يونيو 1999م، نقلاً عن الدسوقي في حاشية السعد ( 1/125 ).
(2) ينظر: نفسه.
(3) ينظر: دراسات قرآنية لمحمد قطب ( 265 ).
(4) ينظر: نفسه ( 269 ).
(5) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها ( 42 ).
(6) هذه المواضع هي: آل عمران: (151)، والأنفال: (12)، والأحزاب: (26)، والحشر: (2).(1/2)
ومن أمثلة اهتمام الخطاب القرآني في العهد المدني بأمور الشريعة ما ورد فيه، من كلمات وأسماء لم ترد في الخطاب المكي، كعبادة الحج ومتعلقاتها(1)، إذ لم يرد ذكر لهم إلا في خطاب العهد المدني فالحج لم يفرض إلا في سنة تسع للهجرة(2)، ومثله العمرة(3)، وكذلك اسم الكعبة(4)التي تقع أفعال الحج بجوارها، والاستطاعة في الحج(5) والميقات(6)، وعرفات(7)، وغيرها من متعلقات هذه العبادة. ومن الاهتمام بأمور الشريعة كذلك، عبادة الصوم ومتعلقاتها(8)، إذ لم يفرض الصيام إلا في السنة الثانية من الهجرة(9)، و من الاهتمام كذلك ما جاء من ذكر للنفاق وأوصاف المنافقين، إذ لم تظهر حركة النفاق إلا في العهد المدني، كما هو معلوم من كتب السيرة(10)، وأضرب مثلاً من مراعاة المقام، هو ما جاء في قوله تعالى: { سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ } [الحشر: 23]، فضمير (يشركون) عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين لم يزل القرآن يقرعهم بالمواعظ(11)،
__________
(1) ينظر: التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن (226-247).
(2) ينظر: المغني في فقه ابن حنبل، للمقدسي (5/5)، ونيل الأوطار للشوكاني (4/280)، وسبل السلام، للصنعاني (2/691).
(3) ينظر سورة البقرة: 158، 196.
(4) ينظر سورة المائدة: 95، 97.
(5) ينظر سورة آل عمران: 97.
(6) ينظر سورة البقرة:189.
(7) ينظر سورة البقرة: 198.
(8) ينظر: التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن (217-226).
(9) ينظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (4/422)، والمغني في فقه ابن حنبل (3/85).
(10) ينظر: التطور الدلالي (264-268).
(11) ينظر: التحرير والتنوير (م13/ج28/123)..(1/3)
وكذلك صيغة الفعل في سياق خطاب العهد المدني، إذ تعدُّ من أهم الأمور الدالة على الزمن، لذا قد يظهر في الخطاب المدني فعل مضارع ومعناه ماضٍ، بقرينةٍ مصاحبةٍ للفعل نحو قوله تعالى: { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ } [البقرة: 91]، فالفعل (تقتلون) معناه في الزمن الماضي، بدليل أن قتلهم للأنبياء كان ماضيًا، وسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقت الحاضر– آنذاك– ولو فتحت المجال للذهن لقلت: لعل الصيغة جاءت بالمضارع لأن في نيَّتهم قتل النبي(1) - صلى الله عليه وسلم - ، ونجد في استعمال الخطاب المدني تلوينًا بين الصيغ الفعلية، وفقًا لمقتضى المقام، وهذا ظهر واضحًا في قوله تعالى: { الّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ } [البقرة: 27]، فجميع أفعال هذه الآية أفعال مضارعة لأن المقصود إفادة تجدد نقض العهد والقطع والإفساد من الذين كفروا؛ لأن الموصول عائد عليهم(2)، وإن كان الخطاب لهم في الزمن الماضي.
__________
(1) ينظر: البحر المحيط ( 1/301 ).
(2) ينظر الآية 26 من سورة البقرة.(1/4)
وهناك طاقةٌ إيحائيةٌ في حكاية الصوت للمعنى المراد من الكلمة(1)، أسماها الدكتور إبراهيم أنيس بـ(الدلالة الصوتية) (2)، عبر إبداع خطاب العهد المدني ألفاظًا لم تكن من قبل أو تحويل ألفاظٍ عن معانيها التي كانت لها إلى معانٍ أخرى تتناسب مع إيحاء أصوات الألفاظ(3)، فما كان من هذا الإيحاء حسنًا حرص الخطاب المدني عليه بالألفاظ، وما كان سيئًا استعاض الخطاب المدني عنه ما يؤدي إليه من ألفاظٍ وعباراتٍ، ومن ذلك سؤال زكريا - عليه السلام - لربه عندما أخبر بما سيرزقه الله تعالى من الذرية(4) فقال: { رَبّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [آل عمران: 40]، في حين أن مريم عليها السلام حصل لها الأمر نفسه فقالت: { رَبّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ } [آل عمران: 47]، فأجاب الله تعالى زكريا - عليه السلام - بقوله : { كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } ، وأجاب مريم عليها السلام بقوله: { كَذَلِكَ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ،وذلك أن التعبير بلفظ (يَفْعَلُ) في حالة زكريا - عليه السلام - لا يثير في النفس خواطر سيئةٍ؛ فزكريا - عليه السلام - وامرأته زوجان فلا شبهة إن حملت المرأة من زوجها، وقد كان إخصابها بتسخير الله تعالى زوجها لذلك الأمر، وأما في حالة مريم عليها السلام فإن التعبير بلفظ (يَفْعَلُ) ربما أثار خواطر سيئةٍ عند بني إسرائيل، فاللفظ لهذا غير مناسبٍ للمقام والحال، ومن هنا جاء الفعل (يَخْلُقُ) متناسبًا مع السؤال بكيفية الولادة فهي لم تتزوج بعد(5).
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/212).
(2) ينظر: دلالة الألفاظ (46).
(3) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/212).
(4) ينظر: نفسه.
(5) ينظر: التحرير والتنوير ( م3/ج3/249 )، والبيان في روائع القرآن ( 1/212 ).(1/5)
... ونجد تلك الطاقة الإيحائية في حكاية الصوت للمعنى المراد من الكلمة(1)، أيضًا في قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنْثَيَيْنِ } [النساء: 11]، فلاشك أن المقيس عليه عند التقسيم هو نصيب الذكر، لأنه الذي يمثل الواحد الصحيح من الناحية الحسابية، ولو اعتدَّ خطاب الله تعالى للمؤمنين بذلك لقال (للأنثى نصف حظ الذكر) أو (للأنثى نصف الذكر) على حذف المضاف، ولكن لفظ (الذكر) من المشترك اللفظي، إذ يدل من بين معانيه على عضو الذكورة من الرجال، ولما كان الأمر كذلك، حال معنى الملكية الذي في اللام الجارة للأنثى دون أن يأتي لفظ الذكر بعد الأنثى على أي صورةٍ(2)، نظرًا لما يثيره ذلك من معنى ممجوجٍ مرفوضٍ، وهكذا جعل الله تعالى في خطابه للمؤمنين النصفَ وهو نصيب الأنثى مقيسًا عليه وجعل الواحد الصحيح، وهو نصيب الذكر، مقيسًا؛ فقيس نصيب الذكر بضعف نصيب الأنثى(3)، وقد أوثر هذا التعبير لنكتةٍ لطيفةٍ وهي الإيماء إلى أن حظ الأنثى صار في نظر الشرع أهمّ من حظ الذكر، إذ كانت الأنثى مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظها في أول ما يقرع الأسماع(4).
دور السياق في بيان الدلالة(5):
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/212).
(2) ينظر: نفسه (1/ 213 ).
(3) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/ 213 ).
(4) ينظر: التحرير والتنوير ( م3/ج4/257 ).
(5) ينظر صفحة (156) وما بعدها، في علاقة الصيغة بالمعنى، في هذا البحث.(1/6)
إن التركيب يولد معنًى جديدًا زائدًا على معنى المفردة المعجمي، لأن المعنى النحوي يعبر عن وظيفة اللفظة في التركيب، فينقلها عن دلالتها اللفظية، و ذلك يحصل بالإسناد والنسبة والإضافة والتعدية وغيرها(1)؛ لبيان ما تقوم به المفردة داخل التركيب من خلال التأليف، فالمعنى النحوي الأصلي يتم بالإسناد، وهو المعنى الأول أو أصل المعنى كما عبَّر عنه الجرجاني(2)، والمعاني البلاغية والدلالية متعلقة به، لأنه قد يعدل عن الأصل لغرضٍ دلالي، نحو قوله تعالى { وَلاَ تَكُونُوَاْ أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ } [البقرة:41] ، فقد عدل عن الجمع فلم يقل: أول الكافرين. وأخبر عنه بالمفرد (كافر)، لأن الخطاب وقع على حكماء بني إسرائيل وكبرائهم(3)، ولأن الأصل في الخبر أن يكون مشتقًا نكرةً، والوصف يصلح للإخبار عن معنى الجمع، لتضمنه الذات المقيدة بالحدث، والخبر وصف فيصح أن نقول: الجيش قائم وسائر ومهزوم ومسبوق، ولا يؤدي الجامد هذا المعنى كما نقول: فريق مؤمن وفريق كافر(4)، لأنه يصح تأويله بالفعل يؤمن ويكفر(5)، كما قال تعالى: { إِنّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [البقرة: 70 ].
__________
(1) ينظر ما تم ذكره في صفحة (169) وما بعدها، من هذا البحث.
(2) ينظر: دلائل الإعجاز ( 55 ).
(3) ينظر: تفسير الطبري (1/289)، وتفسير القرطبي (1/333).
(4) ينظر: تفسير الطبري (1/289).
(5) ينظر: تفسير القرطبي (1/333).(1/7)
ومنه قوله تعالى { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء: 58 ] ، فخرج الخبر إلى الأمر العام لجميع الأمة، لأن (يَأْمُرُكُمْ) فيه الإلزام والوجوب، وقد يكون بغير ذلك، إذ يتم العدول بالفعل الخبري عن صيغة الأمر للدلالة على التوكيد والإشعار بامتثال الأمر، وأن المخاطب جدير بالمسارعة لتنفيذه، وأنه أهل لتلقيه وتحمله فكأنه قد تحقق فعلاً، نحو قوله تعالى: { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ } [البقرة: 228]، وقوله: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233 ]، و قوله تعالى: { وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة: 234]، فظاهر هذا الكلام خبر إلا إن علماء المسلمين اتفقوا على أن النساء عليهن أن يعتددن لطلاقهن ثلاثة أقراءٍ إذا كان الحيض موجودًا، وأن يتربصن بأنفسهن إذا توفي عنهن أزواجهن أربعة أشهرٍ وعشرًا(1)، فعلم بإجماع المسلمين أن المراد بذلك الأمر، ومن ذلك قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ الصف 10 – 12] ، ويدل على إرادة الأمر جزم (يغفر) فلو لم يكن طلبًا لم يصح الجزم(2)،
__________
(1) ينظر: تفسير الطبري (2/525)، وتفسير القرطبي (3/165).
(2) ينظر: دلالة المعنى لـ د . عبد الوهاب حسن حمد ( 7-8 )..(1/8)
لهذا نجد أن ((المضارع المجزوم لا يستطيع التعبير عن الثبات الخبري والإسنادي والاستمرار وعدم التجدد، لأن الجملة الاسمية تحمل دلاليًا يقين المتكلم من حصول الجواب بصورةٍ قويةٍ مؤكدةٍ))(1).
وتنقسم الحروف على قسمين: عاملةٍ وغير عاملةٍ تبعًا لما تحدثه من معنًى في السياق، (( فما أخبرت به عن ذاتٍ أو حدثٍ عملت الجرّ لتعلقها بالاسمية، نحو قوله تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [المائدة: 45]، أي تقتل (بالنفس) إذا قتلتها، (والعين) تفقأ (بالعين) (والأنف) يجذع (بالأنف) (والأذن) تقطع (بالأذن) (والسن) تقلع (بالسن) (2). وما حددت أو قيدت حركة الذات فعملت على قطعها أو تعيينها لتعلقها بالفعلية جزمت وما صلحت للاثنين أي الذات وما يصدر عنها فكانت مشتركةً بينهما لم تعمل شيئًا كحروف الاستفهام والنفي والعرض والتحضيض والاستفتاح والعطف، لذلك صلحت الحرفية لتكون دليلاً لفظيًا على وضع الكلمة في قسمها الصحيح لبيان مدلولها في التراكيب المختلفة مع الضمائم والسوابق واللواحق واللواصق.))(3)، على أن الخطاب في العهد المدني في استعمالاته للألفاظ مرن لا يتقيد بحدودٍ ثابتةٍ بين الكلمات، فقد يستعمل الاسم استعمال الوصف، كما في قوله تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ } [المائدة: 18]، إذ المراد: الموصوفون بأبناء الله(4)، فأرادوا أن الله تعالى لنا كالأب في الحنو والعطف، ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة(5)،
__________
(1) نفسه ( 4 ).
(2) ينظر: تفسير الطبري (4/598)، وتفسير البغوي (1/63).
(3) دلالة الحرفية، لـ د. عبدالوهاب حسن حمد ( 2-3 ).
(4) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/53).
(5) ينظر: تفسير البغوي (3/33)..(1/9)
أو أرادوا بالأبناء المقربين أي نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم(1)، ويستعمل الاسم كذلك استعمال الظرف(2) كما في قوله تعالى: { وَقَالُواْ لَن تَمَسّنَا النّارُ إِلاّ أَيّامًا مّعْدُودَةً } [البقرة: 80]، إذ قولهم هنا معدودة أي محصورة قليلة، وكُنِّي ((بالمعدودة عن القليلة؛ لما أن الأعراب لعدم علمهم بالحساب وقوانينه تصوّر القليل متيسر العدد والكثير متعسره، فقالوا: شيء معدود أي قليل وغير معدود أي كثير، والقول بأن القلة تستفاد من أن الزمان إذا كثر لا يعد بالأيام، بل بالشهور)) (3).
__________
(1) ينظر: روح المعاني (م4/ج6/148).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن ( 1/54)، وقد ذكر أمثلة أخرى على ذلك.
(3) روح المعاني (م1/ج1/479).(1/10)
ويستعمل المصدر في الخطاب المدني استعمال الاسم العلم، كما في قوله تعالى: { فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَرًا زَوّجْنَاكَهَا } [الأحزاب: 37] إذ زيدٌ مصدرٌ للفعل (زاد) فهو زيدٌ، وكذلك يستعمل المصدر استعمال الوصف، لأن الأصل في الحال أن يكون وصفًا(1)، فإذا جاء الحال مصدرًا فقد تم استعمال المصدر استعمال الوصف حتى يصلح لأن يكون حالاً(2)، كما في قوله تعالى: { ثُمّ ادْعُهُنّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا } [البقرة: 260]، فـ (سعيًا) حال من فاعل يأتينك، أي يأتينك ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن (3)، والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبعد من الشبهة لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير، وأن أرجلها غير سليمة(4)، ومن شواهد هذا الاستعمال أيضًا، قوله تعالى: { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلّوهُمُ الأدْبَارَ } [الأنفال: 15]، فالمراد من (لقيتم الذين كفروا زحفًا) لقيتموهم زاحفين، قال الزمخشري في معنى (زحفًا): «حال من الذين كفروا. والزحف: الجيش الدّهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أي يدبّ دبيبًا، من زحف الصبي إذا دبّ على استه قليلاً قليلا(5)، سمي بالمصدر والجمع زحوف والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جمّ، وأنتم قليل فلا تفرّوا، فضلاً أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، أو حال من الفريقين. أي إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، أو حال من المؤمنين كأنهم أُشعروا بما كان سيكون منهم يوم حنين حين تولوا مدبرين»(6)،
__________
(1) ينظر: اللمع (62)، والمفصل (89)، و شرح ابن عقيل (2/253)، وشرح قطر الندى (234).
(2) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/56).
(3) ينظر: الكشاف (1/337).
(4) ينظر: تفسير البغوي (1/324).
(5) ينظر: اللسان، مادة (زحف)، (9/129).
(6) الكشاف (2/195-196)..(1/11)
ويستعمل المصدر في الخطاب المدني استعمال الإنشاء(1)، سواء أكان المصدر مفردًا، كما في قوله تعالى: { وَالّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لّهُمْ } [محمد: 8]، فـ(تعسًا) أي أهلكهم الله لأن ثَمَّة دعاء(2) في هذا السياق، والتقدير: فتعسوا تعسهم، مثل تبًّا له، وويحًا له(3). وقصد من الإضافة اختصاص التعس بهم، ثم أدخلت على الفاعل اللام للتبيين فصار تعسًا لهم (4)، لأنه لا يُدعى على شخص إلا وهو مستحق له، فإذا أخبر تعالى أنه يدعو عليه دلَّ على تحقق الهلاك، لا سيما وظاهر اللفظ أن الدعاء منه عزَّ وجلَّ(5)، أم كان المصدر مضافًا، كما في قوله تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ } [محمد: 4] فهذا في قوة داوموا واثبتوا على ضرب الرقاب(6).
ويستعمل الفعل في الخطاب المدني استعمال الاسم، كما في قوله تعالى: { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } [الأحزاب: 13]، فإن: { يَثْرِبَ } اسم كانت تدعى به المدينة المنورة قديمًا(7)، ولكن صيغته صيغة (يَفْعِل)، وقد يستعمل الفعل في الخطاب المدني للتوكيد كما في قوله تعالى: { إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء: 11]، فالفعل (كان) جاء هنا بسقوط معنيي: الحدث والزمان منه؛ فاستعمل للتوكيد، لأن الله تعالى كان وما زال وسيظل عليمًا حكيمًا(8).
__________
(1) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/56).
(2) ينظر: تفسير البغوي (7/281).
(3) ينظر: التحرير والتنوير (م12/ج26/86).
(4) ينظر: نفسه.
(5) ينظر: روح المعاني (م14/ج25/68).
(6) ينظر: الدلالة الإيحائية (154).
(7) ينظر: لسان العرب، مادة (ثرب)، (1/235).
(8) ينظر: البيان في روائع القرآن (1/58).(1/12)
كان ذلك العدول في خطاب العهد المدني بالنقل وتعدد المعنى الوظيفي للمبنى الصرفي الواحد(1)، وهو موضوع واسع في التراكيب اللغوية وأساليبها المتنوعة يقوم على التفريق الدقيق بين أقسام الكلم من حيث المبنى والمعنى(2).
تضييق دلالة الألفاظ في الخطاب المدني:
ويسمى أيضًا تخصيص العام(3)، ويقصد به تحويل دلالة الكلمة من المعنى الكلي إلى المعنى الجزئي أو تضييق مجالها، فـ (( التخصيص الدلالي إطلاق الاسم العام على طائفةٍ خاصةٍ تمثل نوعها خير تمثيلٍ في نظر المتكلم، لأن الإنسان إذا وثق من أن محدثه قادر على فهمه أعفى نفسه من استعمال اللفظ الدقيق المحدد واكتفى بالتقريب العام... وفي ذلك يقول (ج. فندريس):«الكلمات العامة لا تكاد تستخدم في الاستعمال بقيمتها العامة، اللهم إلا إذا كان ذلك عند الفلاسفة، فكل واحدٍ من المتكلمين يطلقها على نوعٍ خاصٍ من أنواع النشاط، وقد تكلم علماء اللغة عن المعاني المختلفة لكلمة (عملية) فإن معناها يختلف تبعًا لما إذا كان الكلام في الجراحة، أم في المالية، أم في الفن الحربي، أم في شؤون الغابات، أم في الرياضة»(4)))(5).
ومن التخصيص الدلالي تخصيص كلمة (التوبة) (6) ومعناها في اللغة الرجوع(7)، وخصت بالرجوع عن الذنب(8). وكذلك تخصيص الجهاد، والصيام، والزكاة والصلاة، وغيرها من الكلمات التي خصصت معانيها في العهد المدني.
__________
(1) ينظر صفحة (157) وما بعدها، من هذا البحث.
(2) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها (12) وما بعدها.
(3) ينظر : علم الدلالة ( 245 ).
(4) اللغة لفندريس (257– 258). (نقلاً عن التطور الدلالي في العربية، د. حسين الصالح ( 82 ).)
(5) التطور الدلالي في العربية، د. حسين الصالح ( 82 ).
(6) ينظر مثلاً النساء: 17، 18، والتوبة: 104.
(7) ينظر: اللسان، مادة (توب)، (1/233).
(8) ينظر : نفسه.(1/13)
ويفسر علم اللغة الحديث سبب التخصيص بأنه نتيجة إضافة بعض الملامح التمييزية للفظ، فكلما زادت الملامح لشيءٍ ما قلّ عدد أفراده(1).
و قد (( تنبه اللغويون العرب القدامى إلى ظاهرة تخصيص الدلالة... وعرفوا علتها كذلك، وفي ذلك يقول أحمد بن فارسٍ مشيرًا إلى التطور الاجتماعي والثقافي الذي يؤدي إلى التطور اللغوي:«كانت العرب في جاهليتها على إرثٍ من إرث آبائهم في لغاتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم، فلما جاء الله ـ جل ثناؤه ـ بالإسلام حالت أحوال، ونسخت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ عن مواضع إلى مواضع أخر بزياداتٍ زيدت، وشرائعٍ شرعت، وشرائطَ شرطت... ومما جاء في الشرع: (الصلاة)(2)، وأصله في لغتهم: الدعاء(3)... وكذلك الصيام، أصله عندهم الإمساك (4)... ثم زادت الشريعة النية، وحظرت الأكل والمباشرة، وغير ذلك من شرائع الصوم. وكذلك (الحج)(5)، لم يكن عندهم فيه غير القصد(6)... وكذلك (الزكاة) (7) لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النماء (8)، وزاد الشرع ما زاده فيها»(9).
__________
(1) ينظر: علم الدلالة ( 246 ).
(2) ينظر مثلاً البقرة: 3، 43، 83، والنساء: 43، 77، والمائدة: 6، 12، والأنفال: 3، والتوبة: 11، 18، وغيرها.
(3) ينظر: اللسان، مادة (صلا)، (14/465).
(4) ينظر: نفسه، مادة (صوم)، (12/351).
(5) ينظر البقرة: 196، 197، والتوبة: 3.
(6) ينظر: اللسان ، مادة (حجج)، (2/227).
(7) ينظر مثلاً البقرة: 43، 83، 110، والنساء: 77، 162، والمائدة: 12، 55، والتوبة: 5، 11، والنور: 37، 56، والأحزاب: 33، وغيرها.
(8) ينظر: اللسان، مادة (زكا)، (14/358).
(9) الصاحبي في فقه اللغة ( 77-81 ).(1/14)
فهذه الألفاظ الإسلامية وغيرها كثير أصابها التطور الدلالي نتيجة التطور الاجتماعي والثقافي الذي طرأ على المجتمع العربي بعد مجيء الإسلام، وقد كان اللغويون الأوائل واعين لهذا الجانب من جوانب التطور اللغوي عارفين علله ومظاهره))(1).
و تغير العلاقة بين اللفظ والمدلول في الخطاب المدني يظهر في صورتين: إحداهما: تكون بإضافة مدلول جديد إلى كلمةٍ قديمة ذات مدلول خاص بها، والصورة الثانية: تكون بإضافة كلمة جديدة إلى مدلولٍ قديمٍ(2). والصورة الأولى من صور التغير الدلالي استحوذت على اهتمام الدارسين حتى كادت تنسيهم الصورة الثانية، بعدِّ اللفظ ثابتًا ومعناه هو المتبدل، لذلك لم تلق الصورة الثانية من صور التغير الدلالي ـ وهي بقاء المعنى ثابتًا وتغير اللفظ الدال عليه ـ قدرًا كافيًا من الاهتمام، ويبدو أن الأسباب الخاصة بتغير معاني الألفاظ، هي أنفسها أسباب تغير الألفاظ ذاتها أيضًا(3). فمن ذلك كلمة (الجهاد) (4) وهو اللفظ الذي جاء به الخطاب المدني بدلاً من الحرب والغزو والإغارة(5)، فتغير الدال على الحرب لتغير مفهومها في الأذهان، يقول الدكتور خليل عودة:«والجهاد بهذه الصيغة لم تصادفني فيما قرأته وبحثت فيه من دواوين الشعر الجاهلي . » (6). فهي استعمال إسلامي جديد ظهر في خطاب العهد المدني، إذ لم يشرع الجهاد قبل ذلك على المسلمين. ((ومن ذلك كلمة (الفتح) (7)
__________
(1) التطور الدلالي في العربية ( 83-84 ).
(2) ينظر : دور الكلمة في اللغة، لستيفن أولمان، ترجمة د. كمال بشر (152).
(3) ينظر: فقه اللغة وخصائص العربية (217).
(4) ينظر التوبة: 24، والممتحنة: 1.
(5) ينظر: لسان العرب، مادة (جهد)، (3/134).
(6) التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن (287).
(7) ينظر المائدة: 52، والأنفال: 19، والنصر: 1..(1/15)
التي جاءت في الخطاب القرآني بمعنى انتشار الإسلام بعد تحقيق النصر في ساحة المعركة، فهو نتيجة من نتائج النصر، وليس (الفتح) و (النصر) مترادفين كما تذكر معاجم اللغة(1)، ولم تكن العرب تعرف الفتح بهذا المعنى البتة.
وجاء في كتاب (المزهر) للسيوطي : «إن لفظ (الجاهلية) اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة، و(المنافق) (2) اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية.. »(3) .)) (4)، والصواب أن نقول: إن المصطلحين لم يردا إلا في خطاب العهد المدني؛ إذ حركة النفاق حركة مدنية، أما مصطلح الجاهلية فقد جاء في قوله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة: 50]، وفي [آل عمران: 154]، وفي [الأحزاب: 33]، وفي [الفتح: 26]، وكلها سور مدنية.
التوسع في دلالة الألفاظ في الخطاب المدني:
__________
(1) ينظر: التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن ( 303 ).
(2) ينظر مثلاً النساء: 61، 88، 138، والأنفال: 49، والتوبة: 64، 67، 68، والأحزاب: 1، 12، والفتح: 6، والمنافقون: 1، وغيرها.
(3) المزهر (1/240).
(4) التطور الدلالي في العربية ( 76 ).(1/16)
جاء التوسع الدلالي في الخطاب المدني في أمورٍ متعددةٍ منها: الألفاظ المشتركة المعنى: ففي خطاب العهد المدني ألفاظ تشترك في المعنى، إذ نجد أحيانًا أن الصيغة الواحدة يجتمع بها أكثر من معنًى مثل (يضآر) في قوله تعالى: { وَلاَ يُضَآرّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } [البقرة: 282]، فكلمة (يُضَارُّ) تحتمل الدلالة على الفاعل وعلى المفعول ولو أراد الخطاب تخصيص أيِّهم لفكَّ الإدغام(1)، كما في قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنّهُمْ شَآقّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال: 13]، بمعنى أنه لو أراد بـ(كاتب) الفاعل لقال (يُضَارِر) ولو أراد به المفعول لقال (يُضَارَر)؛ إذ المطلوب منع الضرر من الكاتب والشهيد ومنعه عنهما أيضًا، وعوض من أن يقول الخطاب المدني (ولا يضارِر ولا يضارَر كاتب ولا شهيد) جاء بالصيغة التي تحتمل المعنيين وهي كلمة (يضارّ) (2).
ومثله كذلك قوله تعالى: { لاَ تُكَلّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لّهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة: 233]، فهل المضارة هنا أيضًا مبنية للفاعل أو المفعول، فمن المحتمل أن تضر الزوجة زوجها بولدها، ومن المحتمل أن يضر الزوج زوجه بولده، فأراد الله تعالى المعنيين لكيلا يقع الضرر من أحدهما على الآخر فجاء بصيغةٍ تدل على المعنيين(3).
__________
(1) ينظر: تفسير أبي السعود (4/11).
(2) ينظر: تفسير القرطبي (3/372).
(3) ينظر: نفسه (3/152).(1/17)
ومن توسع المعنى في الخطاب المدني: الجمع بين الألفاظ والصيغ ذات الدلالات المختلفة: كقوله تعالى: { مَن ذَا الّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة: 245]، فالفعل أقرض مصدره إقراضٌ والفعل الثلاثي قرض مصدره قرضٌ. فجاء بالفعل الرباعي يقرض وماضيه أقرض، ولم يأت بمصدره إنما جاء بمصدر الفعل الثلاثي قرض. ولو رجعنا إلى معنى القرض في اللغة لوجدنا له معانيَ كثيرة منها المال والإقراض(1)، لذا القرض في الآية يحتمل المعنيين، فلو كان المقصود الإقراض لكان إعرابها مفعولاً مطلقًا، ولو كان المقصود المال لكان إعرابها مفعولاً به(2)، ومثله أيضًا قوله تعالى: { وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُضِلّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [النساء: 60]: فأضل يضل مصدره الإضلال، والضلال مصدر الفعل ضلّ (3). وهذا المصدر جاء في آيةٍ أخرى في قوله تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِينًا } [الأحزاب: 36]، فهنا جاء بالفعل من بناءٍ ولم يأت بمصدره، وإنما جاء بمصدر الفعل الثلاثي ضلَّ لأن الشيطان يريد أن يبدأ مرحلة أن يضل الإنسان(4) ولكن لا يريد أن يتبع، وإنما يريد الإنسان أن يتم ويكمل المرحلة بنفسه(5)؛ فيبتدع من وسائل الضلال ما لا يتصوره الشيطان نفسه. فلو جاء الخطاب في الآية بإضلال لكان هذا كله من الشيطان وحده ولكان المراد بها: أن الشيطان يضع الإنسان على طريق الضلال ويدفعه فيه، ولكن جاء اللفظ في هذا السياق دالاً على المعنيين، فالشيطان والإنسان مشتركان في عملية الضلال(6)،
__________
(1) ينظر: لسان العرب، مادة (قرض)، (7/216) وما بعدها.
(2) ينظر: التبيان في إعراب القرآن (1/193).
(3) ينظر: إعراب القرآن للنحاس (1/467)، والسابق (1/367).
(4) ينظر: التحرير والتنوير (م11/ج22/28).
(5) ينظر: فتح القدير(1407).
(6) ينظر: تفسير الرازي (م13/ج25/212)..(1/18)
لذا جاء الخطاب المدني بالمصدر ضلال في الآية ولم يقل (إضلالاً)، قال أبو السعود: « وضلالاً إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد كما في قوله تعالى: { وأنبتها نباتًا حسنًا } أي إضلالاً بعيدًا وإما مصدر مؤكد لفعله المدلول عليه بالفعل المذكور أي فيضلوا ضلالاً، وأيًا ما كان فوصفه بالبعد الذي نعت موصوفه للمبالغة»(1).
ومن مواطن توسع المعنى في الخطاب المدني: احتمال تعدد الوجوه الإعرابية للكلمة: وهذا الأمر جاء في كثيرٍ من آيات الخطاب المدني، كما في قوله تعالى: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } [النساء: 36]، فكلمة (شيئًا) هل تدل على شيءٍ من الأشياء مما يشرك الناس به من أوثانٍ وغيرها وعندئذ تعرب مفعولاً به، أو لا تشركوا به شيئًا من الشرك لأن الشرك أنواع، فتعرب حينئذٍ مفعولاً مطلقًا، إذ تحتمل المعنيين(2)، وكذلك قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 49]، فالفتيل هو الخيط في شق النواة(3) فهل الفتيل مفعول به، بعدِّهِ بمعنى الشيء الصغير، أو بمعنى: شيئًا من الظلم وإن كان فتيلاً، فحينئذٍ نعرب المصدر مفعولاً مطلقًا، لأن السياق يدل على الأمرين معًا(4)، ومثلها قوله تعالى: { فَبِظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا } [النساء: 160]، فالكثير من الصدِّ أم من الخلق أم من الوقت لأنها تحتمل كل هذه المعاني(5).
__________
(1) تفسير أبي السعود ( 1/542 ).
(2) ينظر: فتح القدير (379).
(3) ينظر: اللسان، مادة (فتل)، (11/514)، ومختار الصحاح، مادة (فتل)، ( 205 ).
(4) ينظر: التبيان في إعراب القرآن (2/828).
(5) ينظر: إعراب القرآن للنحاس (1/504)، والتبيان في إعراب القرآن (1/407).(1/19)
نقل دلالة الألفاظ في الخطاب المدني:
وهو أن يُنقل اللفظ من مجال استعماله المعروف فيه، إلى مجالٍ آخرٍ، ويشتمل هذا المظهر على شيءٍ من تطور الدلالة(1)، وقد نقل الدكتور أحمد مختار عمر عن فندريس(2) في معنى نقل الدلالة أنه (( الانتقال عندما يتعادل المعنيان من جهة العموم والخصوص (كما في انتقال الكلمة من المحل إلى الحال أو من المسبب إلى السبب أو من العلامة الدالة إلى الشيء المدلول عليه.. إلخ أو العكس) .)) (3) وغيرها، كما يكون (( انتقال مجال الدلالة لعلاقة المشابهة... في الاستعارة، التي هي عبارة عن تشبيهٍ حذف منه أحد طرفيه وأداة التشبيه، وطرفا التشبيه هما المشبه والمشبه به... والاستعارة أسلوب مهم من أساليب العرب في الكلام، وقد حفل كلامهم شعرًا ونثرًا بالاستعارة وبغيرها... وعلى وفق أساليبهم تلك نزل القرآن الكريم.
وفي ذلك يقول ابن قتيبة: « وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه، ففيها: الاستعارة والتمثيل والقلب، والتقديم والتأخير... وبكل هذه المذاهب نزل القرآن»(4).
... ويلحظ عبد القاهر الجرجاني النقل الدلالي في الاستعارة، وذلك عندما ينقل اللفظ من مجال استعماله الأول إلى مجالٍ آخرٍ كأنه العارية، فيقول:«اعلم أن الاستعارة في الجملة أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفًا تدل الشواهد على أنه اختص به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر أو غير الشاعر في غير ذلك الأصل، وينقله إليه نقلاً غير لازمٍ، فيكون هناك كالعارية»(5).
...
__________
(1) ينظر: علم الدلالة ( 247 ).
(2) ينظر: اللغة (256). (نقلاً عن علم الدلالة للدكتور أحمد مختار عمر (247).)
(3) علم الدلالة ( 247 ).
(4) تأويل مشكل القرآن، لابن قتيبة (20 – 21).
(5) أسرار البلاغة (22).(1/20)
وكلمة نافق مأخوذة من النفق وهو: سرب في الأرض مشتق إلى موضعٍ آخرٍ(1). هذا هو المعنى المادي للكلمة، وفي الإسلام اشتق منها مصطلح: النفاق والمنافق وهو وصف لمن يضمر الكفر ويظهر الإيمان، جاء في لسان العرب: سمي المنافق منافقًا للنفق وهو السرب في الأرض، وقيل: إنما سمي منافقًا لأنه نافق كاليربوع...
وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه وإن كان أصله في اللغة معروفًا(2).
ومن خلال استقراء هذه الأمثلة وأخرى غيرها، يتبين لنا صحة ما قاله علماء الدلالة القدامى والمحدثون من أن الدلالة تتجه في تطورها من المجال المحسوس إلى المجال المجرد.))(3).
مواطن الانتقال الدلالي في خطاب العهد المدني:
مما سبق نستطيع تحديد مواطن انتقال الدلالة في الخطاب المدني، بوساطة أمور متعددة،منها: انتقال الدلالة من المسبب إلى السبب: ومن شواهد هذا الانتقال قوله تعالى: { كُلّمَآ أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ } [المائدة: 64]، إذ المراد من إيقاد النار: إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين(4)، ومن ذلك قوله تعالى: { وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } [البقرة: 269]، المراد بهذا أن الإنسان إذا رأى الحكم والمعارف حاصلة في قلبه، ثم تأمل وتدبر وعرف أنها لم تحصل إلا بإيتاء الله وتيسيره، كان من أولي الألباب، لأنه لم يقف عند المسببات، بل ترقى منها إلى أسبابها، فالسبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب(5).
__________
(1) ينظر: لسان العرب، مادة (نفق)، (10/356 ).
(2) ينظر: نفسه، مادة (نفق)، ( 10/359 ).
(3) التطور الدلالي في اللغة العربية ( 88-90 ).
(4) ينظر: روح المعاني (م4/ج6/268).
(5) ينظر: تفسير الطبري(5/580)، وروح المعاني (م3/ج3/68).(1/21)
ومن مواطن الانتقال: انتقال الدلالة بوساطة الاستعارة: وهذا ظاهر في قوله تعالى: { صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً } [البقرة: 138]، فالمراد بـ (صبغة) دين الله، وسماه صبغة لأنه يُظهر أثرَ الدين على المتدين كما يَظهر أثرُ الصبغ على الثوب(1)، وجاء نقل المعنى بوساطة الاستعارة في الخطاب المدني، في قوله تعالى: { أُوْلَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُواْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تّجَارَتُهُمْ } [البقرة: 16]، إذ قال الطبري: «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وجهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترى مكان الثمن المشترى به، فقالوا: كذلك المنافق والكافر قد أخذا مكان الإيمان الكفر، فكان ذلك منهما شراء للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضًا من الضلالة التي أخذاها»(2)، ومن هذا النقل أيضًا ما جاء في قوله تعالى: { حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } [محمد: 4]،إذ المعنى: حتى تلقي الحرب أوزار أهلها، وقيل: حتى يضع المحارب أوزاره(3)،وقوله تعالى: { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيَئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مّبِينًا } [النساء: 112]، إذ جعل الخطاب المدني الذنوب تثقل وتوزن كالمحمولات، وهناك شواهد غير هذه كثير(4) .
__________
(1) ينظر: تفسير البغوي (1/157).
(2) تفسير الطبري (1/171).
(3) ينظر: نفسه (11/305).
(4) ينظر مثلاً البقرة: 214، وآل عمران: 187، والأحزاب: 46.(1/22)
ومن مواطن انتقال دلالة الألفاظ في الخطاب المدني: انتقال الدلالة بوساطة التمثيل: كما في قوله تعالى: { مّثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [البقرة: 261]، فهنا جعل الله أعمالهم الفاضلة مثل الثمار اليانعة، وقد شبه حالَ إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها وما أعطي من الثواب لهم بحال حبَّة أنبتت سبع سنابل، أي زُرعت في أرض نقية وتراب طيّب وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل. وحذف ذلك كله إيجازًا لظهور أنّ الحبّة لا تنبت ذلك إلاّ كذلك، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبّة لأنّ تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها، ومنه قوله تعالى: { إِنّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا } [البقرة: 275]، قال البغوي:«قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقول الغريم لصاحب الحق: زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى وقال: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } » (1)، على أن الانتقال بوساطة هذا الأمر كثير في السور المدنية(2).
__________
(1) تفسير البغوي (1/341).
(2) ينظر مثلاً البقرة: 113، آل عمران: 59، 73، 117، النساء: 11.(1/23)
ومن مواطن الانتقال الدلالي: انتقال الدلالة بوساطة التشبيه: وهذا الانتقال ظهر في آيات كثيرة في سور الخطاب المدني(1)، منها قوله تعالى: { وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَآءً حَتّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [النور: 39]، فهنا شبَّه الله تعالى أعمال الكفار بالسراب،والعلة الجامعة بينهما هي زوالهما وعدم الانتفاع بهما، وقوله تعالى: { وَلَمّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 101]، إذ شبههم الله بمن لا يعلم حينما فعلوا فعل الجاهل؛ ولكن اللفظ جاء ليدل على أنهم كفروا على علم(2).
__________
(1) ينظر مثلاً البقرة 13، 19، 108، النساء: 47، الأنفال: 5.
(2) ينظر: تفسير القرطبي (2/41).(1/24)
ومن مواطن انتقال الدلالة في الخطاب المدني: انتقالها بسبب عامل اللامساس(1): واللا مساس يطلق على كل ما هو مقدس أو ملعون، يحرم لمسه أو الاقتراب منه(2)، ويكثر في الألفاظ التي تعبر عن الحاجات الإنسانية والغرائز، والألفاظ التي ترتبط بالقذارة والدنس، لأن هذه الحاجات كثيرًا ما يكنَّى عنها بكناياتٍ معينةٍ. من ذلك ما جاء في العهد المدني من ذكر لكلمة: (الغائط) إذ هي اسم يقال ((للمطمئن من الأرض ... ولموضع قضاء الحاجة ... لأن العادة أن يقضي في المنخفض من الأرض حيث هو أستر له ... وكل ما انحدر في الأرض فقد غاط)) (3) ثم انتقلت دلالة ذلك الاسم لتدل على ((العذرة نفسها لأنهم كانوا يلقونها بالغيطان وقيل لأنهم كانوا إذا أرادوا ذلك أتوا الغائط وقضوا الحاجة فقيل لكل من قضى حاجته قد أتى الغائط يكنى به عن العذرة وفي التنزيل العزيز { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَآئِطِ } (4) وكان الرجل إذا أراد التبرز ارتاد غائطًا من الأرض يغيب فيه عن أعين الناس ثم قيل للبراز نفسه وهو الحدث غائط كناية عنه إذ كان سببًا له))(5).
__________
(1) ينظر : دلالة الألفاظ (139)، دور الكلمة في اللغة، لستيفن أولمان، تر: د.كمال بشر (174)، علم الدلالة (239 – 240).
(2) ينظر: التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه (203).
(3) لسان العرب، مادة (غوط)، (7/365).
(4) النساء: 43.
(5) لسان العرب، مادة (غوط)، (7/365).(1/25)
المحتويات ... الصفحة
إقرار المشرف ورئيس القسم ... ج
قرار لجنة المناقشة ... د
الإهداء ... هـ
كلمة شكر ... و
محتويات الدراسة ... ز
المقدمة ... ح-ل
التمهيد ... م-خ
الفصل الأول: تنوع افتتاحات سور الخطاب في العهد المدني ... 1-51
المبحث الأول: استهلال السور المدنية بالبسملة وبعدمها ... 3-10
المبحث الثاني: بدء السور المدنية بالأحرف المقطعة ... 11-25
المبحث الثالث: بدء السور المدنية بالأدوات النحوية ... 26-36
المبحث الرابع: بدء السور المدنية بالأفعال والأسماء ... 37-51
الفصل الثاني: تنوع المخاطبين في العهد المدني ... 52-119
المبحث الأول: خطاب الله سبحانه وتعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ... 54-73
المبحث الثاني: خطاب الله تعالى لأهل الإسلام ... 74-96
المبحث الثالث: خطاب الله تعالى لأهل الكتاب وللمشركين ... 97-111
المبحث الرابع: خطاب الله تعالى للفئات الأخرى ... 112-119
... الفصل الثالث: المستويات اللغوية لتنوع الخطاب في العهد المدني ... ... 120-199
المبحث الأول: المستوى الصوتي في خطاب العهد المدني ... 122-139
المبحث الثاني: المستوى الصرفي في خطاب العهد المدني ... 140-162
المبحث الثالث: المستوى النحوي في خطاب العهد المدني ... 163 -184
المبحث الرابع: المستوى الدلالي في خطاب العهد المدني ... 185-199
الخاتمة ... 200-203
مصادر البحث ومراجعه ... 204-226
ABSTRACT ... a-c(1/1)
الخاتمة
الخاتمة:
توصل الباحث في بحثه إلى المسائل الآتية:
1) استهلت جميع سور القرآن الكريم الخطاب بالبسملة، ما عدا سورة التوبة المدنية التي لم تفتتح بذلك لأسبابٍ ذكرها العلماء وقد رجحت أحد تلك الأقوال وهو القول القاضي بأن سبب ذلك يرجع إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بالافتتاح بها، إذ القرآن توقيفي.
2) افتتاحات القرآن الكريم تنوعت في العهد المدني، ولم يأت فيها بعض التراكيب التي كانت السور المكية تفتتح الخطاب بها كالقسم والاستفهام.
3) الأحرف المقطعة، التي افتتح خطاب الله تعالى بها، في العهد المدني، ثلاثة أحرف، هي (الألف واللام والميم)، ولهذه الأحرف علاقة بترابط معاني السور التي افتتحت بها وعلاقة بمضامينها، فموضوعات السور شبه موحدة ومسائلها كذلك.
4) أكثر افتتاحات خطاب الله تعالى في سور العهد المدني كانت بالأفعال، للدلالة على التجدد والتغير، وكان الافتتاح بالأسماء في ثلاثة مواضع فقط. وهذه الأفعال والأسماء تنوعت بين الأفعال المجردة والمزيدة وبين الأسماء النكرات والأسماء الموصولة، إذ لم تكن الأفعال أو الأسماء على صورةٍٍ واحدةٍ، إلا الفعل الماضي (سبح) الذي جاء بصور متنوعة في افتتاح السور المدنية ليدل على كثرة تسبيح الخلق لخالقهم.
5) خطاب الله تعالى في سور العهد المدني الموجه إلى المكلفين وغيرهم تنوع بحسب المخاطبين إلى: خطاب الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وخطاب الله لأهل الإسلام، وخطاب الله تعالى لأهل الكتاب وللمشركين، وخطاب الله تعالى للطوائف الأخرى.
6) خطاب الله تعالى في سور العهد المدني الموجه إلى المكلفين وغيرهم تنوع بحسب الصيغ إلى:
أ- خطاب شمل كل صيغ الخطاب المتعارف عليها، وهو خطاب الله تعالى لنبيه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - .
ب-خطاب كان أقل من الخطاب الأول فحذفت منه بعض صوره، وهذا خاص بأهل الإسلام.(1/1)
ج-خطاب كانت صوره أقل من سابقه وحذفت منه بعض الصيغ، وهذا خاص بالكافرين وأهل الكتاب.
د-أقل صور الخطاب كانت لعامة الخلق دون تحديد الجنس، كالملائكة والجن والناس.
7) اشترك خطاب الله تعالى بين أهل الإسلام والمخاطبين الآخرين، في صيغٍ من الخطاب منها: النداء لهم بلفظ (يا أيها الذين آمنوا)، وهذه ظاهرة عجيبة في خطاب الله تعالى في سور العهد المدني، فكل مخاطبٍ منهم مؤمن بما يعتقده من دينٍ سواء أكان ذلك الدين حقًا أم كان باطلاً، كأهل الكتاب والمشركين في باطلهم، وأهل الإسلام في حقهم، لذا صلح خطاب الله تعالى لهم بهذه الصيغة.
8) وجد الباحث أن خطاب الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بصيغة (يا أيها النبي)، و(يا أيها الرسول) لم يرد في خطاب الله تعالى في سور العهد المكي البتة، وإنما كانت من مميزات خطاب الله تعالى في سور العهد المدني وخصائصه، إذ كان خطاب السور المدنية يردُّ على إنكار أهل الكتاب لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلق كافة.
9) وجد الباحث أن ما ذكره المتقدمون من ضوابط للسور والآيات المدنية مخرومة، لذا تستحق إعادة بحث في تلك الضوابط والمميزات.
10) تنوع خطاب الله تعالى في سور العهد المدني باستخدام مستويات اللغة العربية: المستوى الصوتي، والمستوى الصرفي، والمستوى النحوي والمستوى الدلالي.
11) على المستوى الصوتي: اتسم خطاب الله تعالى في آيات العهد المدني بوقعٍ في الصوت يتناسب مع معنى الخطاب؛ لذلك تنوعت صوره الصوتية وتُرُخِّصَ في بعضها، ومن أهم قيمه الصوتية: الفاصلة القرآنية، والحكاية الصوتية، والمناسبة الصوتية، وحسن التأليف بين الحروف الأصول التي تكونت منها الكلمات.(1/2)
12) على المستوى الصرفي: كان خطاب الله تعالى في سور العهد المدني يلتزم صيغًا معينةً في الخطاب كما في صيغ الأفعال والمصادر والمشتقات، لكن هذه الصيغ لم تكن تلتزم في جميع الخطاب، فوجدنا خطاب الله تعالى في سور العهد المدني يترخص في تناوب بعض الصيغ عن بعضٍ، بل يستعيض ببعض الصيغ صيغًا أخرى لتدل على القوة والهيبة، و غيرها من الأغراض.
13) على المستوى النحوي: ساد خطاب الله تعالى في سور العهد المدني مراعاة الأصول النحوية كالرتبة والربط والارتباط، والإعراب، وهناك مسائل نحوية ظهرت في خطاب الله تعالى في سور العهد المدني، لم تكن في سور العهد المكي، لأسبابٍ وغاياتٍ بلاغيةٍ وبيانيةٍ، ولكنه مع ذلك أظهر بعض الترخص في تلك المسائل.
14) على المستوى الدلالي: وجدت خطاب الله تعالى في سور العهد المدني استخدم المشترك اللفظي، وكانت فيه تنوعات بوساطة تعميم بعض الصيغ التي وردت فيه، وتخصيص صيغٍ أخرى، ووجدت خطاب الله تعالى في سور العهد المدني ينقل دلالة بعض الألفاظ إلى دلالةٍ أخرى بوساطة أمور متعددة منها التشبيه والاستعارة والتمثيل وغيرها.
15) الألفاظ التي استعملت في خطاب الله تعالى في سور العهد المدني منها ما جاء استخدامه في سور العهد المكي، ولكن لم يكن له هذا المعنى الذي جاء في العهد المدني كالصلاة والزكاة والصيام والفتح، وغيرها من أمور الدين، ومنها ما جاء في سور العهد المكي، ولكن لم تختلف دلالته في العهد المدني عن دلالته في العهد المكي كأمور العقيدة، ومنها ما جاء في خطاب الله تعالى في سور العهد المدني، ولكنه لم يأت في سور العهد المكي البتة، كنداء الرسول ونداء النبي وكلمات (الأنفال) ودلالة (الفتح)، وغيرها مما ذكرته في طي الرسالة.(1/3)
16) توصل الباحث إلى أن خطاب الله تعالى في آيات العهد المدني كانت له غاية واحدة مشتركة في جميع الخطابات للمخاطبين كافة، ألا وهي أمر الخلق بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله بإتباع الدين القويم وعدم مخالفته.
17) قد يسلك خطاب الله تعالى في سور العهد المدني طريق الإطناب في عباراته، ولكن هذا الإطناب ليس مخلاً بفصاحة القرآن الكريم و بلاغته.
18) لم يدع الله تعالى في خطابه للمكلفين وسيلةً من وسائل الإيضاح للمراد من الخطاب إلا طرقها، فمن الأسلوب الإنشائي إلى الأسلوب الخبري إلى الإفصاحي، وهكذا دواليك، بل إن هذه الأساليب قد تخرج عن معانيها التي وضعت لها، إلى معانٍ أخرى، لتقوية صيغة الخطاب.
...(1/4)
مصادر البحث ومراجعه(1/1)
مصادر البحث ومراجعه
أولا ً: القرآن الكريم.
ثانياً:
- ... الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، لعلي بن عبد الكافي السبكي، ت: جماعة من العلماء، دار الكتب العلمية، بيروت، 1404هـ .
- ... إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربع عشر[ة]، للبنَّاء أحمد بن محمد الدمياطي، ت:الشيخ أنس مهرة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1422هـ –2001م.
- ... الإتقان في علوم القرآن، للحافظ جلال الدين السيوطي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1408هـ – 1988م.
- ... أثر العناصر غير اللغوية في صياغة المعنى، بحث، لرشيد بلحبيب، مجلة اللسان العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مكتب تنسيق التعريب، الرباط،العدد(47)،لشهريونيو1999م. http://www.arabization.org.ma/
- ... الأَحاديث المختارة، لأبي عبدالله محمد بن عبدالواحد بن أحمد المقدسي، ت: عبد الملك بن عبدالله بن دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1410هـ.
- ... الأَحرف السبعة للقرآن، لأبي عمرو الداني، ت: عبدالمهيمن طحان، مكتبة المنارة، مكة المكرمة، 1408هـ.
- ... الإحكام في أصول الأحكام، لأبي الحسن علي بن محمد الآمدي ، ت: سيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1404هـ.
- ... أَحكام القرآن، للإمام الحجة أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، ت: عبدالسلام محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ – 1994م.
- ... أَحكام القرآن، لمحمد بن إدريس بن محمد الشافعي، ت: عبدالغني عبد الخالق، دار الكتب العلمية، بيروت،1400هـ.
- ... أَحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبدالله المعروف بابن العربي، ت: علي محمد البجاوي، دار المعارف، القاهرة، د ت ط.
- ... إِرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني، ت: أبي مصعب محمد سعيد البدري، دار الفكر، بيروت، 1412هـ – 1992م.(1/1)
- ... إِرواء الغليل، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، ط 2، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405هـ – 1985م.
- ... الأَزمنة في اللغة العربية، لفريد الدين آيدن، دار العِبر للطباعة والنشر، أسطنبول، 1997م.
- ... الأَساليب الإنشائية في النحو العربي، لعبدالسلام محمد هارون، ط 3، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1402هـ – 1981م.
- ... أَساليب التوكيد من خلال القرآن الكريم دراسة تحليلية لنموذجين: الاشتغال طبيعته وإعرابه، التوكيد بـ ( إن ) النافية، لأحمد مختار البرزة، مؤسسة علوم القرآن، دمشق – بيروت، 1405هـ – 1985م.
- ... أَسباب النزول وبهامشه الناسخ والمنسوخ تصنيف أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي، لأبي القاسم هبة الله ابن سلامة، دار المعرفة، بيروت، د ت ط.
- ... استراتيجيات الخطاب، لعبدالهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004م.
- ... أَسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني، ط 4، ت: محمد رشيد رضا، دار المنار، القاهرة، د ت ط.
- ... أَسرار ترتيب القرآن، لأبي الفضل عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي، ت: عبدالقادر أحمد عطا، دار الاعتصام، القاهرة، د ت ط.
- ... أَسرار العربية، لأبي البركات الأنباري، ت: فخر صالح قدارة، دار الجيل، بيروت، 1415هـ.
- ... الأُسلوبية، لجورج مولينيه، ط 2، تر: بسام بركة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1427هـ –2006م.
- ... الأُسلوبية والأسلوب، لعبدالسلام المسدي، ط 3، الدار العربية للكتاب، ليبيا، د ت ط.
- ... الاسم والمسمى، لابن السيد البطليوسي، بحث، ت: أحمد فاروق، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، دمشق، 1972م.
- ... الأَشباه والنظائر في النحو، لجلال الدين السيوطي، ت: عبدالعال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، د ت ط.
- ... الاشتقاق، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد، ط 3 ، ت: عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، د ت ط.(1/2)
- ... إشكالية الصيغة في المصدر الميمي، بحث، لمصطفى النحاس، مجلة المجمع ج(86)،
www.arabicacademy.org.eg/admin/PrintingUpload/88/5%20
- ... الإصابة في تمييز الصحابة، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، 1412هـ – 1992م.
- ... إصلاح المنطق، لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق السَّكيت، ط 4، ت: أحمد محمد شاكر – عبدالسلام محمد هارون، دار المعارف، القاهرة، 1949م.
- ... الأَصوات اللغوية، لإبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1992م.
- ... الأُصول في النحو، لأبي بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي، ط 3، ت: عبدالحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1408هـ – 1988م.
- ... أَضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1408هـ – 1988م.
- ... الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم (دراسة نظرية تطبيقية)التوظيف البلاغي لصيغة الكلمة، لعبدالحميد أحمد يوسف هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، 2002م.
- ... إعجاز القرآن، للإمام القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني، ت: محمد عبدالمنعم خفاجي، دار الجيل ، بيروت، 1411هـ – 1991م.
- ... إعراب ثلاثين سورة، لأبي عبدالله الحسين بن أحمد بن خالويه، دار السرور ، بيروت، د ت ط.
- ... إعراب القراءات السبع وعللها، لأبي عبدالله الحسين بن أحمد بن خالويه، ت: عبدالرحمن بن سليمان العثيمين، مطبعة المدني، القاهرة، 1413هـ –1992م.
- ... إعراب القرآن، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس، ط 3، ت: زهير غازي زاهد، عالم الكتب، لبنان، 1409هـ – 1988م.
- ... إعراب القرآن المنسوب إلى الزجاج, ط 4, ت: إبراهيم الإبياري, دار الكتاب المصري – دار الكتاب اللبناني، القاهرة–بيروت , 1420ھ– 1999م .
- ... الأَغاني، لأبي الفرج الأصفهاني، ط 2 ، شرح وتعليق: سمير جابر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1412هـ – 1992م.(1/3)
- ... الاقتراح في علم أصول النحو، للإمام جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت: أحمد سليم الحمصي– محمد أحمد قاسم، جروس برس، د ت–م ط.
- ... أَنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بتفسير البيضاوي، لأبي سعيد عبدالله بن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي، دار صادر، بيروت، د ت ط.
- ... أَهم خصائص السور والآيات المكية ومقاصدها، لأحمد عباس البدوي، دار عمار، الأردن، 1420هـ – 1999م.
- ... أَوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، لجمال الدين ابن هشام الأنصاري، ط 5، ت: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الجيل، بيروت، 1399هـ – 1979م.
- ... الإنصاف في مسائل الخلاف، لأبي البركات عبدالرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري النحوي، ت: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الفكر، دمشق، د ت ط.
- ... الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، ت: محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث، بيروت ، د ت ط.
- ... آيات النفاق في القرآن الكريم (دراسة لغوية)، رسالة ماجستير، للباحث منير أحمد عبدالله الطيب، جامعة عدن، اليمن، 1423هـ-2005م.
- ... الإيضاح في علل النحو، لأبي القاسم الزجاجي، ط 4، ت: مازن المبارك، دار النفائس، بيروت، 1982م.
- ... الإيضاح في علوم البلاغة، لأبي عبدالله محمد بن سعد الدين بن عمر القزويني، ط 4، ت: السيد الجميلي، دار إحياء العلوم، بيروت، 1998م.
- ... البحر الزخار، لأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، ت: محفوظ الرحمن زين الله، مؤسسة علوم القرآن– مكتبة العلوم والحكم، بيروت – المدينة المنورة، 1409هـ.
- ... بدائع الفوائد، لأبي عبدالله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي المشهور بابن قيم الجوزية، ت: هشام عبدالعزيز عطا – عادل عبدالحميد العدوي – أشرف أحمد الجمال، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، 1416هـ – 1996م.(1/4)
- ... البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة، لأبي حفص عمر بن زين الدين قاسم بن محمد الأنصاري النشّار، ت: الشيخ علي محمد معوّض– الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، عالم الكتب، بيروت، 1421هـ –2000م.
- ... براعة الاستهلال في فواتح القصائد والسور، لمحمد بدري عبدالجليل، ط 2، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405هـ – 1984م.
- ... البرهان في علوم القرآن، لمحمد بن بهادر بن عبدالله الزركشي، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت، 1391هـ.
- ... بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، للفيروزآبادي، HTTP://WWW.ALMESHKAT.NET/BOOKS/OPEN.PHP?CAT=7&BOOK=2349
- ... البلاغة وقضايا المشترك اللفظي، لعبدالواحد حسن الشيخ، مؤسسة شباب الجامعة للطباعة والنشر، الإسكندرية، 1986م.
- ... البيان والتبيين، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، ت: المحامي فوزي عطوي، دار صعب، بيروت،1968م.
- ... تاج العروس من جواهر القاموس، للإمام أبي فيض السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي، ت: علي شيري، دار الفكر، بيروت، 1414هـ – 1994م.
- ... تاج اللغة وصحاح العربية المسمى الصحاح، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، ت: شهاب الدين أبو عمر، بإشراف مكتب البحوث والدراسات في دار الفكر العربي، دار الفكر العربي، 1418هـ – 1998م.
- ... التاريخ الكبير، لأبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، ت: السيد هاشم الندوي، دار الفكر، بيروت، د ت ط.
- ... التاريخ والحقيقة لدى ميشيل فوكو، للسيد ولد أباه، ط 2، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2004م.
- ... تأملات في بعض ظواهر الحذف الصرفي ، بحث، لفوزي حسن الشايب، حوليات كلية الآداب بجامعة الكويت، الحولية العاشرة، الرسالة الثانية والستون، لعام 1409– 1989م.
- ... تأويل مشكل القرآن، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الكوفي الدينوري، د د ن، القاهرة، 1966م.(1/5)
- ... التبصرة في القراءات السبع، للإمام المقرئ أبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي، ط 2، ت: المقرئ محمد غوث الندوي، الدار السلفية، الهند، 1402هـ – 1982م.
- ... التبيان في إعراب القرآن، لأبي البقاء عبدالله بن الحسين بن عبدالله العكبري، ت: علي محمد البجاوي، عيسى البابي الحلبي،القاهرة، د ت ط.
- ... تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد بن عبد الرحمن بن عبدالرحيم المباركفوري، دار الكتب العلمية، بيروت، د ت ط.
- ... تحليل الخطاب من اللسانيات إلى السيميائيات، بحث، لأحمد يوسف،
HTTP://WWW.DIFAF.NET/MODULES.PHP?NAME=NEWS&FILE=PR
- ... تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد، لابن هشام الأنصاري, ت: عباس مصطفى الصالحي, دار الكتاب العربي, بيروت, 1406هـ–1986م .
- ... التذكرة في القراءات الثمان، للإمام أبي الحسين طاهر بن عبدالمنعم بن غلبون المقرئ الحلبي، ت: أيمن رشدي سويد، سلسلة أصول النشر، د د-م-ت ط.
- ... تسهيل الفوائد و تكميل المقاصد، لجمال الدين محمد بن مالك الأندلسي, ت: محمد عبد القادر عطا – طارق فتحي السيد, دار الكتب العلمية, بيروت, 1422هـ– 2001 م .
- ... تصريف الأسماء والأفعال، فخر الدين قباوة، ط2، مكتبة المعارف، بيروت، 1994م.
- ... التصوير الفني في القرآن، لسيد قطب، ط 7، دار الشروق، بيروت – القاهرة، 1402هـ – 1982م.
- ... التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن، لعودة خليل أبو عودة، مكتبة المنار، الأردن، 1405هـ – 1985م.
- ... التطور الدلالي في العربية في ضوء علم اللغة الحديث، بحث، لحسين حامد الصالح، مجلة الدراسات الاجتماعية، جامعة العلوم والتكنولوجيا، اليمن، العدد الخامس عشر، يناير– يونيو، 2003م.
- ... التطور اللغوي مظاهره وعلله وقوانينه، لرمضان عبدالتواب، ط 3، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1417هـ-1997م.
- ... التعريفات، لعلي بن محمد بن علي الجرجاني، ت: إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ.(1/6)
- ... تفسير البغوي ( معالم التنزيل)، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، ت: محمد عبدالله النمر– عثمان جمعة – سليمان مسلم، دار طيبة للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض، 1411هـ.
- ... تفسير التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، د ت ط.
- ... تفسير العلامة أبي السعود ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د ت – م ط.
- ... تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، للإمام محمد فخر الدين ابن العلامة ضياء الدين عمر، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1414هـ – 1994م.
- ... تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، دار الفكر، بيروت، 1401هـ.
- ... التفسير الكبير المسمى البحر المحيط، لأبي عبدالله محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي، ط 2، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1411هـ–1990م.
- ... تفسير النسفي، للإمام أبي البركات عبدالله بن أحمد بن محمود النسفي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1408هـ – 1988م.
- ... تقريب المقرّب، لأبي حيان الأندلسي، ت: عفيف عبدالرحمن، دار المسيرة، بيروت، 1402هـ – 1982م.
- ... تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: السيد عبدالله هاشم اليمني المدني، د د ن، المدينة المنورة، 1384هـ – 1964م.
- ... تلوين الخطاب في القرآن الكريم دراسة في علم الأسلوب وتحليل النص، لطه رضوان طه رضوان، دار الصحابة للتراث بطنطا، مصر، 1428هـ – 2007م.
- ... التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبدالله بن عبد البر النمري، ت: مصطفى بن أحمد العلوي – محمد عبدالكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387هـ.
- ... تهذيب اللغة، لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري، ت: عمر سلامي – عبدالكريم حامد، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2001م.(1/7)
- ... التوقيف على مهمات التعاريف، لمحمد عبدالرؤوف المناوي، ت: محمد رضوان الداية، دار الفكر المعاصر– دار الفكر، بيروت– دمشق، 1410هـ.
- ... التيسير في القراءات السبع، للإمام أبي عمر عثمان بن سعيد الداني، ت: أوتو يرتزل، منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية، بيروت، 1416هـ-1996م.
- ... تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للعلاّمة عبدالرحمن بن ناصر السعدي، تقديم: الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل– الشيخ محمد بن صالح العثيمين، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والوزيع، بيروت، 1421هـ-2000م.
- ... الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة، لعبدالله إبراهيم، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1999م.
- ... جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لمحمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، دار الفكر، بيروت، 1405هـ.
- ... جامع الدروس العربية، للشيخ مصطفى الغلاييني، ط2، المكتبة العصرية، بيروت، 1408هـ –1987م.
- ... الجامع الصحيح سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ت: أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، د ت ط.
- ... الجامع الصحيح المختصر، لأبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، ط 3، ت: مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير واليمامة، بيروت، 1407هـ.
- ... جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، دار المعرفة، بيروت، 1408هـ.
- ... الجامع لأحكام القرآن، لمحمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، ت: أحمد عبدالعليم البردوني، ط2، دار الشعب ، القاهرة، 1372هـ.
- ... الجمل في النحو، للخليل بن أحمد الفراهيدي، ط 5، ت: فخر الدين قباوة، د م ط، 1416هـ.
- ... جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري، ط 2، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم – عبدالمجيد قطامش، دار الفكر، 1988م.
- ... الجنى الداني في حروف المعاني، للحسن بن قاسم المرادي، ت: فخر الدين قباوة – محمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ – 1993م.(1/8)
- ... جهود ابن عبدالبر في علوم القرآن – دراسة وموازنة، رسالة ماجستير، للباحث محمد بن عبدالله القحطاني، كلية أصول الدين بالرياض، المملكة العربية السعودية، 1419هـ.
- ... جواهر الأدب في معرفة كلام العرب، لعلاء الدين بن علي الإربلي، صنعه: إميل بديع يعقوب، دار النفائس، بيروت، 1412هـ– 1991م.
- ... حاشية الشهاب المسماه عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي، للقاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي، ت: عبدالرزاق المهدي، منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية، بيروت، 1417هـ-1997م.
- ... الحجة في القراءات السبع، لأبي عبدالله الحسين بن أحمد بن خالويه، ت: عبدالعال سالم مكرم، دار الشروق، بيروت، 1401هـ .
- ... حجة القراءات، لعبد الرحمن بن محمد بن زنجلة، ط 2، ت: سعيد الأفغاني، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1402هـ – 1982م.
- ... الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، لأبي يحيى زكريا بن محمد بن زكريا الأنصاري، ت: مازن المبارك، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1411هـ.
- ... حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع، للقاسم بن فيرة بن خلف الشاطبي، دار الكتاب النفيس، بيروت، 1407هـ .
- ... حروف المعاني، لعبد الحي حسن كمال، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1392هـ.
- ... حروف المعاني، لأبي القاسم عبدالرحمن بن إسحاق الزجاجي، ت: علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1984م.
- ... حروف المعاني بين الأصالة والحداثة، لعباس حسن، منشورات اتحاد الكتاب العرب، بدمشق، 2000م.
- ... حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ط 4، دار الكتاب العربي، بيروت، 1405هـ.
- ... الحيوان، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، ط3، ت: فوزي عطوي، دار صعب، بيروت،1982م.
- ... خزانة الأدب وغاية الأرب، لأبي بكر علي بن عبدالله الحموي الأرزاري، ت: عصام شعيتو، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1987م.(1/9)
- ... خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، لعبدالقادر بن عمر البغدادي، ت: محمد نبيل طريفي، منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ – 1998م.
- ... الخصائص، لأبي الفتح عثمان بن جني، ت: محمد علي النجار، عالم الكتب، بيروت، د ت ط.
- ... خصائص السور والآيات المدنية : ضوابطها ومقاصدها،لعادل أبي العلاء، دار المقلة للطباعة والنشر، المملكة العربية السعودية، د ت ط.
- ... الخطاب الإسلامي بين الأصالة والمعاصرة، لعبدالعزيز بن عثمان التويجري، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ( إيسيسكو)، 2003م.
- ... دراسات في الأدوات النحوية، لمصطفى النحاس، شركة الربيعان للنشر والتوزيع، الكويت، 1399هـ – 1979م.
- ... دراسات قرآنية، لمحمد قطب، ط 4، دار الشروق، بيروت – القاهرة، 1403هـ – 1983م.
- ... الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، لأحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي، ت: أحمد محمد الخراط، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1406هـ – 1986م.
- ... الدر المنثور، لعبدالرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي، دار الفكر، بيروت، 1993م.
- ... الدرر اللوامع على همع الهوامع شرح جمع الجوامع في علوم العربية، لأحمد بن الأمين الشنقيطي ، ت: عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلمية، الكويت، 1981م.
- ... دلالة الألفاظ، إبراهيم أنيس، ط 7، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1993م.
- ... الدلالة الإيحائية في الصيغة الإفرادية، لصفية مطهر، منشورات إتحاد الكتاب العرب بدمشق، دمشق، 2003م.
- ... محاضرات في الألسنية العامة، لدي سوسير، تر: يوسف غازي– مجيد النصر، دار نعمان للثقافة، بيروت، 1984 م .
- ... دلائل الاسم وعلاماته، بحث، لعبدالوهاب حسن حمد، (HTTP://WWW.MINSHAWI.COM/OTHER/ABDALWAHAB08.HTM)
- ... دلائل الإعجاز، لأبي بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الجرجاني، ت: محمد التُنجي، دار الكتاب العربي، بيروت،1415هـ-1995م.(1/10)
- ... دلالة الحرفية، بحث، لعبدالوهاب حسن حمد،
(HTTP://WWW.MINSHAWI.COM/OTHER/ABDALWAHAB02.HTM)
- ... دلالة المعنى، بحث، لعبدالوهاب حسن حمد،
(http://www.minshawi.com/other/abdalwahab10.htm)
- ... دور البنية الصرفية في وصف الظاهرة النحوية وتقعيدها، للطيفة إبراهيم، دار البشير، الأردن، 1414هـ – 1994م.
- ... دور الكلمة في اللغة، لستيفن أولمان، تر: كمال بشر، القاهرة، 1975م.
- ... ديوان امرئ القيس، دار صادر، بيروت، 1424هـ– 2003م.
- ... ديوان حسّان بن ثابت، شرحه وكتب هوامشه وقدّم له الأستاذ: عبدأ مهنَّا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986م.
- ... ديوان السموأل بن عادياء، ت: محمد حسين آل ياسين، مطبعة المعارف، 1374هـ – 1955م.
- ... ديوان عبيدالله بن قيس الرقيات، ت: محمد يوسف نجم، مطبوعات بيروت، بيروت، 1378هـ – 1958م.
- ... ديوان علقمة بن عبده بشرح الشنتمري، ت: لطفي الصقال – درية الخطيب، دار الكتاب العربي بحلب، سوريا، 1969م.
- ... ديوان عمر بن أبي ربيعة، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه فايز محمد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1425هـ-2004م.
- ... ديوان قيس بن الخطيم، ط 2، ت: ناصر الدين الأسد، دار صادر، بيروت، 1967م.
- ... ديوان لبيد بن ربيعة، دار صادر ، بيروت ، د ت ط.
- ... ديوان مجنون ليلى، شرح: يوسف فرحات، دار الكتاب العربي، بيروت، 1425هـ-2005م.
- ... ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري، مكتبة القدسي، القاهرة، د ت ط.
- ... ديوان النابغة الذبياني، قدم له و بوّبه و شرحه د . علي أبو ملحم, منشورات دار و مكتبة الهلال , بيروت, 1991 م .
- ... ديوان الهذليين، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1945 م.
- ... ذكر القرآن الكريم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لمحمد زكي محمد خضر،
(WWW.AL-MISHKAT.COM/RASOOL/INDEX.HTML)
- ... رسالة في أسس العقيدة، لمحمد بن عودة السعوي، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، 1425هـ.(1/11)
- ... رسالة في اسم الفاعل، للإمام أحمد بن قاسم العبادي، ت: محمد حسن عواد، دار الفرقان، عمان، 1403هـ.
- ... رسالة المباحث المرضية المتعلقة بـ ( من ) الشرطية، لجمال الدين بن هشام الأنصاري، ت: مازن المبارك، دار ابن كثير، دمشق – بيروت، 1408هـ.
- ... رصف المباني في شرح حروف المعاني، للإمام أحمد بن عبدالنور المالقي، ت: أحمد محمد الخراط، مجمع اللغة العربية بدمشق، دمشق، د ت ط.
- ... الرعاية في تجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، لأبي محمد مكي بن أبي طالب القيسي، ط2، ت: أحمد حسن فرحات، دار عمار، عمان، 1984م.
- ... روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للعلامة أبي الفضل السيد محمود بن عبدالله الألوسي، ت: محمد حسين العرب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1417هـ–1997م.
- ... الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، للإمام المحدث عبدالرحمن السهيلي، ت: عبدالرحمن الوكيل، مكتبة ابن تيمية – مكتبة العلم، القاهرة – جدة، 1414هـ – 1993م.
- ... زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام ابن قيم الجوزية، ط 14، ت: شعيب الأرناؤوط – عبدالقادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة – مكتبة المنار الإسلامية، بيروت– الكويت، 1407هـ.
- ... السبعة في القراءات، لأبي بكر أحمد بن موسى بن مجاهد العباس التميمي المشهور بابن مجاهد، ط 2، ت: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1400هـ .
- ... سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام، للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، ت: إبراهيم عصر، دار الحديث، القاهرة، 1992م.
- ... سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي، ت: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود – الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، 1414 هـ – 1993م.
- ... السلب ومظاهره في العربية ، بحث، لعلاء إسماعيل الحمزاوي (BOOK=2391&9WWW.SAAID.NET/BOOK/OPEN.PHP?CAT=).(1/12)
- ... سنن أبي داؤد، لأبي داؤد سليمان بن الأشعث السجستاني، ت: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، د ت ط.
- ... سنن ابن ماجة، لأبي عبدالله محمد بن يزيد القزويني، ت: محمد فؤاد عبدالباقي، دار الفكر، بيروت، د ت ط.
- ... سنن البيهقي الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي، ت: محمد عبدالقادر عطا، مكتبة دار الباز، مكة المكرمة، 1414هـ.
- ... سنن الدارقطني، لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني، ت: السيد عبدالله هاشم يماني المدني، دار المعرفة، بيروت، 1386هـ.
- ... السنن الكبرى، لأبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب النسائي، ت: عبدالغفار سليمان البنداري– سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، 1411هـ.
- ... سير أعلام النبلاء، لمحمد بن أحمد بن عثمان بن قيماز الذهبي، ط 9، ت: شعيب الأرناؤوط – محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1413هـ.
- ... السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون، لعلي بن برهان الدين الحلبي، دار المعرفة، بيروت، 1400هـ.
- ... السيرة النبوية، لأبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري، دار المنار للنشر والتوزيع، القاهرة، 1410هـ – 1990م.
- ... الشافية في علم التصريف، لأبي عمرو عثمان بن عمر الدويني النحوي، ت: حسن أحمد العثمان، المكتبة المكية، مكة المكرمة، 1415هـ –1995م.
- ... شذا العرف في فن الصرف، للشيخ أحمد الحملاوي، ت: الأستاذ عارف مطرجي، دار حراء، جدة، 1422هـ – 2002م.
- ... شرح أبيات سيبويه، لأبي جعفر أحمد بن محمد النحاس ، ت: زهير غازي زاهد، عالم الكتب – مكتبة النهضة العربية، بيروت، د ت ط.
- ... شرح أدب الكاتب، لأبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، ت: مصطفى صادق الرفاعي، دار الكتاب العربي، بيروت، د ت ط.
- ... شرح أشعار الهذليين، لأبي سعيد الحسن بن الحسين السكري، ت: عبدالستار محمد ومراجعة محمود شاكر، مكتبة دار العروبة، القاهرة، د ت ط.(1/13)
- ... شرح الألفية، لأبي عبد الله بدر بن محمد بن الإمام جمال الدين محمد بن مالك، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1424 ھ – 2003م
- ... شرح التسهيل المسمى تسهيل الفوائد و تكميل المقاصد، لجمال الدين محمد بن مالك الأندلسي, ت: محمد عبد القادر عطا– طارق فتحي السيد, دار الكتب العلمية, بيروت, 1422هـ- 2001 م .
- ... شرح اختيارات المفضل، للخطيب التبريزي، ط 2 ، ت: فخر الدين قباوة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407هـ – 1987م.
- ... شرح جمل الزجاجي، لابن عصفور الأشبيلي, ت : صاحب أبو جناح, عالم الكتب, بيروت, 1419هـ– 1999م .
- ... شرح التصريح على التوضيح، للشيخ خالد بن عبدالله الأزهري وبهامشه حاشية الشيخ يس بن زين الدين العليمي، ت: لجنة من العلماء، دار الفكر، د ت ط.
- ... شرح جمل الزجاجي، لابن هشام الأنصاري، ت : علي محمد عيسى، عالم الكتب، بيروت، 1406هـ – 1986م .
- ... شرح ديوان حماسة أبي تمام المنسوب لأبي العلاء المعري، ت: حسين محمد نقشة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1411هـ – 1991م.
- ... شرح شافية ابن الحاجب، للشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي، ت: محمد نور الحسن– محمد الزفراف– محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الكتب العلمية، بيروت، د ت ط.
- ... شرح شذور الذهب، لأبي محمد عبدالله جمال الدين بن هشام الأنصاري، ت: عبدالغني الدقر، الشركة المتحدة، سوريا، 1404هـ.
- ... شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز، ط 4، ت: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1391هـ.
- ... شرح الفريدة الجامعة في المعاني الرائعة، لشرف الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري الزبيدي، ت: عبدالرحمن عبدالله أحمد الحضرمي، وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء، 1406هـ – 1985م.
- ... شرح قطر الندى وبل الصدى، لأبي محمد عبدالله جمال الدين بن هشام الأنصاري، ط 11، ت: محمد محيى الدين عبدالحميد، القاهرة، 1383هـ.(1/14)
- ... شرح مختصر الروضة، لنجم الدين بن عبدالقوي الطوفي، ت: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت،1410هـ –1990م.
- ... شرح المعلقات السبع، لأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني القزويني، روجعت بمعرفة لجنة من الأدباء، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د ت ط.
- ... شرح المفصل، لابن يعيش ، المطبعة المنيرية، مصر، د ت ط.
- ... شرح الملوكي في التصريف، لابن يعيش، ت: فخر الدين قباوة، حلب، 1973م.
- ... شروح التلخيص وهي مختصر العلامة سعد الدين التفتازاني على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني ومواهب الفتاح في شرح تلخيص الفتاح لابن يعقوب المغربي وعروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح لبهاء الدين السبكي وقد وضع بالهامش الإيضاح لمؤلف التلخيص جعله كالشرح له وحاشية الدسوقي على شرح السعد، مطبعة البابي الحلبي، القاهرة، 1210هـ.
- ... شعر النمر بن تولب، لنوري حمودي القيسي، مطبعة المعارف، بغداد، 1969م.
- ... الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، ت: علي محمد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، د ت ط.
- ... الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها، لأبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا الرازي، ت: عمر فاروق الطباع، مكتبة المعارف، بيروت، 1414هـ – 1993م.
- ... صبح الأعشى في صناعة الإنشا،لأحمد بن علي القلقشندي، ت: يوسف علي طويل، دار الفكر، دمشق، 1987م.
- ... الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، ليوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، 2002م.
- ... صحيح ابن خزيمة، لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، ت: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، 1390هـ – 1970م.
- ... صحيح مسلم بشرح النووي، لأبي زكريا يحيى بن شرف الدين بن مري النووي، ط 2، دار إحياء التراث العربي، بيروت،1392هـ.
- ... طبقات فحول الشعراء، لمحمد بن سلام الجمحي، ت: أبي فهر محمود محمد شاكر، دار المدني، جدة – القاهرة، د ت ط.(1/15)
- ... الطبقات الكبرى، لأبي عبدالله محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري، ت: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968 م
- ... طرائق التخلص من التقاء الساكنين، بحث، لعبدالله صالح عمر بابعير، مجلة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث، بالرياض، مج 6 ع 4 ، شوال – ذو الحجة 1425هـ – ديسمبر– فبراير 2005م.
- ... طلوع الشمس من مغربها علم للساعة، لفريد قبطني، ت: أحمد أمين، المركز الدولي للبحث العلمي، 1999م. (www.cirs–tm.org).
- ... ظاهرة التقارض في النحو العربي، بحث،لأحمد محمد عبدالله، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد (59)، 2005م. (WWW.IU.EDU.SA/MAGAZINE/59).
- ... ظاهرة النيابة في العربية، رسالة دكتوراه، لعبدالله صالح عمر بابعير، الجامعة المستنصرية، العراق، 1997م.
- ... الضعفاء الكبير، لأبي جعفر محمد بن عمر بن موسى العقيلي، ت: عبد المعطي أمين قلعجي، دار المكتبة العلمية، 1404هـ – 1984م.
- ... العدول في صيغ المشتقات في القرآن الكريم، رسالة ماجستير، للباحث جلال الحمادي، جامعة تعز، اليمن، 1428هـ-2007م.
- ... العقد الفريد، لأبي عمر أحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي، ت: أحمد أمين – إبراهيم الإبياري – عبدالسلام محمد هارون، دار الكتاب العربي، بيروت، د ت ط.
- ... علم الأصوات، لحسام البهنساوي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1425هـ -2004م.
- ... علم الأصوات في كتب معاني القرآن، لابتهال كاصد ياسر الزيدي، دار أسامة للنشر، الأردن، 2005م.
- ... علم الدلالة، لأحمد مختار عمر، عالم الكتب، بيروت، د ت ط.
- ... علم اللغة العام، توفيق محمد شاهين، مكتبة وهبة، القاهرة، 1400هـ–1980م.
- ... عمدة الحافظ وعدة اللافظ، لجمال الدين محمد بن مالك، ت: رشيد عبد الرحمن العبيدي، نشر لجنة إحياء التراث في وزارة الأوقاف في الجمهورية العراقية، 1977م.(1/16)
- ... العمدة في محاسن الشعر وآدابه، لأبي علي الحسن بن رشيق القيرواني، ت: محمد محيي الدين عبدالحميد، مطبعة حجازي، القاهرة، 1353هـ – 1934م.
- ... عمر بن أبي ربيعة، لجبرائيل جبور، ط 3، دار العلم للملايين، بيروت، 1981م.
- ... العين، لأبي عبدالرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، ت: مهدي المخزومي – إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، بيروت، د ت ط.
- ... الغاية في القراءات العشر، للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري، ت: محمد غياث الجنباز، شركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض، 1405هـ – 1985م.
- ... غرر الفوائد ودرر القلائد، للشريف المرتضى علي بن الحسين، ط 2، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1967م.
- ... الفاصلة في القرآن، لمحمد الحسناوي، ط 2، دار عمار، الأردن، 1421هـ –2000م.
- ... فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، ت: محمد فؤاد عبدالباقي – محب الدين الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.
- ... فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1421هـ – 2000م.
- ... الفتن، لأبي عبدالله نعيم بن حماد المروزي، ت: سمير أمين الزهيري، مكتبة التوحيد، القاهرة، 1412هـ.
- ... الفروع وتصحيح الفروع، لمحمد بن مفلح المقدسي، ت: أبي الزهراء حازم القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ.
- ... الفروق في اللغة، لأبي هلال العسكري، ط 5، ت: لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1403هـ – 1983م.
- ... فصل المقال شرح كتاب الأمثال، لأبي عبيد البكري، ط 3، ت: إحسان عباس – عبدالمجيد عابدين، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1983م.(1/17)
- ... فلسفة الحركات في اللغة العربية، بحث، لأحمد الأخضر غزال، مجلة اللسان العربي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مكتب تنسيق التعريب، الرباط،العدد (10)، لعام 1973م.
- ... فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، لعبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، ط 2، ت: إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت،1982م.
- ... الفهرست، لأبي الفرج محمد بن إسحاق النديم، دار المعرفة، بيروت، 1398هـ.
- ... في التحليل اللغوي منهج وصفي تحليلي وتطبيقه على التوكيد اللغوي والنفي اللغوي وأسلوب الاستفهام، لخليل أحمد عمايرة، مكتبة المنار، الزرقاء–الأردن، 1407هـ–1987م.
- ... في التطور الصوتي، بحث، لمحمد جواد النوري، مجلة النجاح للأبحاث، جامعة النجاح الوطنية– نابلس، المجلد الثاني، العدد الخامس، 1990م.
- ... في ظلال القرآن، لسيد قطب، ط 15، دار الشروق، القاهرة، 1412هـ – 1985م.
- ... القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، ط 5، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1416هـ – 1996م.
- ... القراءات الشاذة وتوجيهها النحوي، لمحمود أحمد الصغير، دار الفكر، دمشق، 1999م.
- ... قراءات القراء المعروفين بروايات الرواة المشهورين، للمقرئ أحمد بن أبي عمر المعروف بالأندرابي، ت: أحمد نصيف الجنابي، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405هـ – 1985م.
- ... الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، لعبدالله بن قدامة المقدسي، ط 5، ت: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، 1408هـ.
- ... الكامل في ضعفاء الرجال، لعبدالله بن عدي بن عبدالله بن محمد الجرجاني، ط 3، ت: يحيى مختار غزاوي، دار الفكر، بيروت، 1409هـ.
- ... الكامل في اللغة والأدب، لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، ط 3، ت: محمد أحمد، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1418هـ – 1997م.(1/18)
- ... كتاب التوحيد، للشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، ط 4، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، 1423هـ.
- ... كتاب سيبويه، لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، سيبويه، ت: عبدالسلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، د ت ط.
- ... كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، دار الكتب العلمية، بيروت،1413هـ – 1992م.
- ... الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، لمكي بن أبي طالب القيسي، طبعة دمشق، د ت ط.
- ... الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ت: عبدالرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1417هـ– 1997م.
- ... الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي، ط 2، ت: عدنان درويش – محمد المصري، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1419هـ – 1998م.
- ... الكواكب الدرية شرح متممة الآجرومية، للشيخ محمد بن أحمد بن عبدالباري الأهدل، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1410هـ – 1990م.
- ... اللامات، لأبي القاسم عبدالرحمن بن إسحاق الزجاجي، ط 2، ت: مازن المبارك، دار الفكر، دمشق، 1405هـ – 1985م.
- ... اللباب في علل البناء والإعراب، لأبي البقاء عبدالله بن الحسين العكبري، ت: عبدالإله النبهان، دار الفكر، دمشق، 1416هـ – 1995م.
- ... لباب النقول في أسباب النزول، لأبي الفضل عبدالرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي ، دار إحياء العلوم، بيروت، د ت ط.
- ... لسان العرب، للعلامة أبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المعري، ط 3، دار صادر، بيروت، 1414هـ – 1994م.
- ... اللسان والميزان، لطه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1998م.
- ... اللغة العربية أداءً ونطقاً وإملاءً وكتابة، فخري محمد صالح، مطابع الوفاء، المنصورة– مصر، د ت ط.(1/19)
- ... اللغة العربية معناها ومبناها، لتمام حسان، ط 2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1979م.
- ... لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، لفاضل صالح السامرائي. (WWW.ISLAMIYYAT.COM/LMSAT–S.JPG). الكتاب الورقي صدر من دار عمار للطباعة والنشر، بالأردن، ط 2، 2001م، وعدد صفحاته (284) صفحة، لكن الطبعة كانت إلى سورة البلد فقط، في حين أن نسخة الانترنت، فيه إلى سورة الناس.
- ... اللمع في العربية، لأبي الفتح عثمان بن جني، ت: فائز فارس، دار الكتب الثقافية، الكويت، د ت ط.
- ... مباحث في علوم القرآن، لمناع القطان، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، 1413هـ – 1992م.
- ... مباحث لغوية من حياة اللغة العربية، لمناف مهدي محمد الموسوي، دار البلاغة للطباعة والنشر، بيروت، 1993م.
- ... المثل السائر، لأبي الفتح نصر الله بن محمد بن محمد بن عبدالكريم الموصلي، ت: محمد محيي الدين عبدالحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1995م.
- ... مجلس المجمع يدعو الكاتب إلى التوبة النصوح والبراءة مما كتبه وجادل به، وينبه المسلمين إلى عدم جواز نشره حتى لا يغتر به العوام، جريدة الشرق الأوسط، عدد (9177)، النسخة الإلكترونية، الثلاثاء 21 ذو القعدة 1424هـ، الموافق 13 يناير (كانون الثاني)، 2004م. نقل من موقع (www.alargam.com)
- ... مجمع الأمثال، لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، ت: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار المعرفة، بيروت، د ت ط.
- ... مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لعلي بن أبي بكر الهيثمي، دار الريان للتراث – دار الكتاب العربي، القاهرة– بيروت، 1407هـ.
- ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، لأبي العباس أحمد عبد الحليم بن تيمية الحراني، ط 2، ت: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، مكتبة ابن تيمية، د ت–م ط.
- ... محاورات الأنبياء لأقوامهم في القرآن الكريم ( دراسة أسلوبية)، لنجيب علي السودي، إصدارات وزارة الثقافة والسياحة، صنعاء، 1425هـ – 2004م.(1/20)
- ... المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، لأبي الفتح عثمان بن جني، ط 2، ت: عبدالحليم النجار وآخرين، طبع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1386هـ –1966م.
- ... المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للقاضي أبي محمد عبدالحق بن غالب بن عطية الأندلسي، ت: عبدالسلام عبدالشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ – 1993م.
- ... المحكم والمحيط الأعظم، لأبي الحسن الضرير علي بن إسماعيل بن سيده الحافظ الأندلسي المعروف بابن سيده اللغوي، ت: مصطفى السقا – حسين نصّار، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1958م.
- ... المحلى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن شقير النحوي البغدادي، ت: فائز فارس، مؤسسة الرسالة– دار الأمل ، بيروت، 1408 ھ – 1987م.
- ... المحيط في أصوات اللغة العربية ونحوها وصرفها، لمحمد الأنطاكي، ط3، دار الشرق، بيروت، د ت ط.
- ... مختار الصحاح، لمحمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي، ت: محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1415هـ – 1995م.
- ... المختصر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي الحسن علي بن محمد بن علي البعلي، ت: محمد مظهر بقا، جامعة الملك عبد العزيز، مكة المكرمة، د ت ط.
- ... مختصر في شواذ (قراءات) القرآن من كتاب البديع،لأبي عبدالله الحسين بن أحمد بن خالويه، ت: برجستراسر، المطبعة الرحمانية، مصر،1934م.
- ... مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو، لمهدي المخزومي،ط 2، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1958م.
- ... المدهش، لأبي الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد بن جعفر الجوزي، ط 2، ت: مروان قباني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985م.
- ... المرشد في الصرف، لنظمي حلمي الجمل، دار أسامة، الأردن، 1997م.
- ... المزهر في علوم اللغة وأنواعها، لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت: فؤاد علي منصور، منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ –1998م.(1/21)
- ... مسائل إذن، لأحمد بن محمد القرشي، بحث، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد(119)، 1423هـ – 2002م.
(119/14( WWW.IU.EDU.SA/MAGAZINE/HTM
- ... المستدرك على الصحيحين، لأبي عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ.
- ... المستطرف في كل فن مستظرف، لأبي الفتح محمد بن أحمد الأبشيهي، ت: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت 1986م.
- ... مسند أبي عوانة، لأبي عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرائيني، ت: أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، بيروت، 1998م.
- ... مسند الإمام أحمد بن حنبل، لأبي عبدالله أحمد بن حنبل الشيباني، مؤسسة قرطبة، مصر، د ت ط.
- ... المصباح المنير، لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، المكتبة العلمية، بيروت، د ت ط.
- ... المصدر في القرآن الكريم، لهادي نهر، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 1423هـ –2002م.
- ... معاني الأبنية، لفاضل صالح السامرائي، كلية الآداب، جامعة الكويت، الكويت، 1401هـ –1981م.
- ... معاني أبيات الحماسة، لأبي عبدالله النمري، ت: عبدالله عبدالرحيم عسيلان، مطبعة المدني، القاهرة، 1403هـ – 1983م.
- ... معاني التنوين،بحث، لعبدالوهاب حسن حمد، (www.minshawi.com/other/abdalwahab/htm.3)
- ... معاني القرآن، للأخفش سعيد بن مسعدة البلخي المجاشعي، ت: عبدالأمير محمد أمين الورد، عالم الكتب، بيروت، 1405هـ – 1985م.
- ... معاني القرآن، لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء، ط 3 ، ت: محمد علي النجار– أحمد يوسف نجاتي، عالم الكتب، بيروت، 1403هـ – 1983م.
- ... المعاني الكبير في أبيات المعاني، لأبي محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405هـ – 1984م.
- ... معاني النحو، لفاضل صالح السامرائي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الأردن، 1420هـ-2000م.(1/22)
- ... معجم الشامل في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها، لمحمد سعيد إسبر – بلال جنيدي، دار العودة، بيروت، 1981م.
- ... معجم الشعراء، لأبي عبد الله محمد بن عمران بن موسى بن سعيد بن عبيد الله المرزباني، ت: عبد الستار فراج ، دار إحياء الكتب العربية، بيروت، 1960م.
- ... معجم القراءات، لعبداللطيف الخطيب، دار سعد الدين للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1422هـ –2002م.
- ... معجم المصطلحات النحوية والصرفية، لمحمد سمير نجيب اللبدي، مؤسسة الرسالة – دار الفرقان، بيروت – الأردن، 1405هـ – 1985م.
- ... معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، لأبي عبيد عبدالله بن عبدالعزيز البكري الأندلسي، ط 3، ت: مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت، 1403هـ.
- ... معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس، ت: عبدالسلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، 1420هـ – 1999م.
- ... المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي وبذيله الشرح الكبير على متن المقنع لأبي الفرج عبدالرحمن بن أبي عمر بن قدامة، ط 2، دار هجر، القاهرة، 1992م.
- ... مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لجمال الدين ابن هشام الأنصاري، ط 6، ت: مازن المبارك – محمد علي حمد الله، دار الفكر، دمشق، 1985م.
- ... مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، ط 2، ت: صفوان عدنان داوودي، دار القلم – الدار الشامية، دمشق – بيروت، 1418هـ – 1997م.
- ... المفصل في صنعة الإعراب، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ت: علي أبو ملحم، مكتبة الهلال، بيروت، 1993م.
- ... مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر، بحث، لمساعد بن سليمان الطيَّار، (WWW.AHLALHDEETH.COM).
- ... المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية المشهور بشرح الشواهد الكبرى، لبدر الدين محمود بن أحمد بن موسى العيني، ت: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية ، بيروت، 1426 هـ– 2005م.(1/23)
- ... مقالات في الأسلوبية (دراسة)، لمنذر عياشي، منشورات إتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1990م.
- ... المقتضب، لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد، ت: محمد عبدالخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت، د ت ط.
- ... مقدمة جامع التفاسير مع تفسير الفاتحة ومطالع سورة البقرة، للإمام العلامة أبي القاسم الراغب الأصفهاني، ت:أحمد حسن فرحات، دار الدعوة، الكويت، 1984م.
- ... المكي والمدني في القرآن الكريم، لعبدالرزاق حسين أحمد، دار ابن عثمان للنشر والتوزيع، القاهرة، 1420هـ –1999م.
- ... ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل، للإمام الحافظ أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الغرناطي، ت: سعيد الفلاح، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1403هـ –1983م.
- ... الملخص المفيد في علم التجويد، لمحمد أحمد معبد، ط 4، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1418هـ – 1998م.
- ... الممتع في التصريف، لابن عصفور الاشبيلي، ت: فخر الدين قباوة، دار المعرفة، بيروت، 1987م.
- ... مناهج البحث في اللغة العربية، لتمام حسان، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1993م.
- ... مناهل العرفان في علوم القرآن، للشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني، ت: مركز البحوث والدراسات بمكتبة مصطفى الباز، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة– الرياض، 1417هـ – 1996م.
- ... المنصف شرح لتصريف المازني، لأبي الفتح عثمان بن جني، ت: إبراهيم مصطفى، مطبعة مصطفى الحلبي، القاهرة، 1954م.
- ... المنهج الصوتي للبنية العربية، لعبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1980م.
- ... موجز الأديان في القرآن، لعبدالكريم زيدان، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، 1423هـ – 2002م.
- ... موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب، للشيخ خالد بن عبدالله الأزهري، ت: عبدالكريم مجاهد، مؤسسة الرسالة، 1415هـ.(1/24)
- ... ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه، لهبة الله بن عبد الرحيم بن إبراهيم، ط 3، ت: حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1405هـ.
- ... النحو الوافي مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغوية المتجددة، لعباس حسن،د د –م– ت ط.
- ... نداءات الرحمن لأهل الإيمان، للشيخ أبي بكر جابر الجزائري، ط 3، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، 1417هـ – 1996م.
- ... النشر في القراءات العشر، للإمام أبي الخير محمد بن محمد الدمشقي الشهير بابن الجزري، ت: علي محمد الضباع، دار الكتب العلمية، بيروت، 1418هـ – 1998م.
- ... نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للإمام أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، ت: عبدالرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1415هـ –1995م.
- ... نظام الارتباط والربط في تركيب الجملة العربية، لمصطفى حميدة، مكتبة لبنان ناشرون– الشركة المصرية العالمية للنشر، بيروت– القاهرة، 1997م.
- ... نقد الشعر، لأبي الفرج قدامة بن جعفر، ط 3، ت: كمال مصطفى، مكتبة الخانجي للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، 1978م.
- ... النوادر في اللغة، لأبي زيد الأنصاري، ط 2، ت: سعيد الخوري الشرتوني اللبناني، دار الكتاب العربي، بيروت، 1387هـ– 1967م.
- ... نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، للعلامة القاضي محمد بن علي الشوكاني، مكتبة دار التراث، القاهرة، د ت ط.
- ... همع الهوامع شرح جمع الجوامع، لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت: عبدالحميد هنداوي، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د ت ط.
- ... الواضح في النحو والصرف قسم الصرف، لمحمد خير الحلواني، ط 4، دار المأمون للتراث، دمشق، 1417هـ –1987م.
- ... الواضح في النحو والصرف قسم النحو، لمحمد خير الحلواني، ط 3، مكتبة الشاطئ الأزرق، اللاذقية، 1979م.
- ... الوافية نظم الشافية، للنيسابوري، ت: أحمد حسن العثمان، المكتبة المكية، مكة المكرمة، 1415هـ-1995م.(1/25)
- ... الوفيات، لأبي المعالي محمد بن رافع السلامي، ت: صالح مهدي عباس – بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1402هـ.
- ... يتيمة الدهر، لأبي منصور عبدالملك الثعالبي، ط 2، ت: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م.
- ... اليهودية، لأحمد شلبي، ط 8، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1988م.(1/26)