تنبيه الأمة على وجوب الأخذ
بالكتاب والسنة
كتبه الفقير إلى الله
سليمان بن ناصر العلوان
في شهر شوال الموافق 26/10/1412هـ
القصيم – بريدة
قام بتفريغ هذه المادة إخوانك في شبكة الدفاع عن السنة
http://www.d-sunnah.net/forum/index.php?
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن الواجب على جميع العباد امتثال أمر رب الأرض والسموات ، وأمر المبعوث رحمة للعباد ، وطرح كل قول يخالف الكتاب والسنة دون شقاق أو عناد ، فإن ذلك تمام الانقياد الذي هو شرط من شروط لا إله إلا الله .
فلا توحيد إلا بطاعة الله ورسوله ، ولا فوز ولا فلاح إلا بتقديم الكتاب والسنة على آراء الرجال ، التي هي محط أنظار قابلة للرد والقبول ، وما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويرد سوى المبعوث بالفرقان ، وما من إمام من الأئمة إلا وله أقوال مرغوب عنها عند أولى النهى والأبصار ، فالسعيد من تمسك بالوحيين وان جفاه الطغام . والشقي من نبذهما من أجل التمسك بآراء الرجال .(1/1)
وإني لما رأيت كثيرا من الناس ،نبذوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم تعضيما لمحض الآراء ،وتعصبا لمذهب من هو عرضة للنسيان والخطأ ،وعادوا من لا يتعصب لمذهب معين ويلتزمه جهلا منهم بكتاب ربهم الذي أنزل على خير الورى أحببت أن اكتب هذه الرسالة في وجوب الأخذ بالكتاب والسنة ورد المسائل المتنازع فيها إليهما ،كي تتوحد الأقوال على وفق الأدلة الشرعية ،ويقل الخلاف بل يضمحل عند الرجوع إلى حبل الله المتين المنزل على الرسول الأمين وتستقيم الأرض على طاعة رب الأرض والسموات على رغم أنوف المبطلين لأنه مما لا يخفى أن أعظم شيء أضر بكثير من أهل العلم والدين وأخرهم عن اللحوق بسلفهم هو التعصب المذهبي والجمود على مذهب من ينتمون إليه دون نظر في الأدلة الشرعية وترجيح ما يقتضي الدليل ترجيحه.
وكم جر هذه التعصب من سقوط بلاد إسلامية بسبب تفرقها وتعصبها وعدم تمسكها واعتصامها بالكتاب والسنة .
وثم مصيبة يندى لها الجبين وهي أن الكثير من المتعصبين لأئمة المذاهب الأربعة وغيرهم جمعوا مع الحشف سوء الكيل فهم يعادون أهل التجرد للدليل ويلمزونهم بذلك ، بل يرمونهم بالمنكرات وعظائم الأمور زورا وبهتانا كي ينفروا عنهم لما من الله عليهم به من تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم .(1/2)
ولكن لا ضير على أهل التوحيد الخالص من جعجعة المرجفين ، ولمز المبطلين فصيحتهم كمثل دخان ، وهذه سنة الله في عباده المؤمنين ، وما على المسلم إلا الصبر والاحتساب حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا وليتأس بمن قبله فقد تناولتهم الألسنة البذيئة من أعدائهم وخصومهم واخرجوا من ديارهم وأوطانهم كما جرى ذلك لأئمة الإسلام وهداة الأنام فكيف بمن كان في آخر الزمان مع غربة الدين بين الأنام ، قال الرسول الأمين المبعوث رحمة للعالمين صلى عليه ربنا إلى يوم الدين : ( بدا الإسلام غريبا وسيعود كما بدا فطوبى للغرباء )(1) .
فالمسلم غريب بين الكفار والسني غريب بين أهل البدع ، وكلما قوي إيمان العبد قويت غربته .
فالمتمسك بالسنة حق التمسك في هذا الزمان غريب بين الناس يشار إليه بالأصابع لتباين منهجه مع مناهجهم وطريقته مع طريقتهم وسبيله مع سبيلهم .
قال سهل بن عبد الله :
( عليكم بالأثر والسنة ، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم ، والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه ، وأذلوه وأهانوه ) .
قال العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله –:
__________
(1) هذا الحديث مروي من طريق جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم أبو هريرة وحديثه عند مسلم في صحيحيه (2/175-176-نووي) وغيره كأحمد وابن ماجه...
وعبد الله بن مسعود وحديثه عند الترمذي : (5/19)وغيره.
وعبد الله بن عمر وحديثه عند مسلم : (2/176- نووي) وغيره.
وأنس بن مالك وحديثه عند ابن ماجه: (2/1320) وغيره.
وسعد ابن أبي وقاص وحديثه في المسند: (1/184).
وعمرو بن عوف بن زيد بن ملحة المزني وحديثه عند الترمذي : (5/19)وغيره.
وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء وأبو أمامة وواثلة بن الأسقع وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.(1/3)
( رحم الله سهلا ما اصدق فراسته ، فلقد كان ذلك وأعظم ، وهو أن يكفر الإنسان بتجريد التوحيد والمتابعة ، والأمر بإخلاص العبادة لله ، وترك عبادة ما سواه والأمر بطاعة رسول الله صلى الله علية وسلم ، وتحكيمه في الدقيق والجليل )(1) .
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( يأتي على الناس زمان ، الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر ) (2)
وهؤلاء هم الغرباء حقا .
(وأهل هذه الغربة ، هم أهل الله حقا فإنهم لم يأووا إلى غير الله ، ولم ينتسبوا إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به ، وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم، فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم ، بقوا في مكانهم ، فيقال لهم : " ألا تنطلقون حيث انطلق الناس ؟ فيقولون : فارقنا الناس ، ونحن أحوج إليهم منا اليوم وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده" فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو أنس ما يكون إذا استوحش الناس، وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا ، فوليه الله ورسوله والذين آمنوا ، وان عاداه اكثر الناس وجفوه )(3) .
__________
(1) تيسر العزيز الحميد: (ص61)
(2) رواه الترمذي في جامعه : (6/538-تحفة الأحوذي) بسند ثلاثي، قال: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري بن ابنة السدي الكوفي أخبرنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره وقال بعده :هذا حديث غريب من هذا الوجه . وعمر بن شاكر روى عنه غير واحد من أهل العلم وهو شيخ بصري.
قال ابن حجر في التقريب : (2/57)في عمر بن شاكر ضعيف ورواه ابن عدي في الكامل : (5/1711) في ترجمة عمر بن شاكر وابن بطة في الإبانة : (1/196) والحديث ضعيف ولكن له شواهد من حديث أبي هريرة عند أحمد : ()2/390 وحديث ابن مسعود وحديث أبي ثعلبة الخشمي.
(3) مدارج السالكين : (3/206)(1/4)
وهؤلاء الغرباء هم : ( القابضون على الجمر حقا ، واكثر الناس بل كلهم لائم لهم ، فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم )(1) .
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله .
فصل
اعلم أنه لا يجوز لأي أحد من الناس أن يوجب على العباد إلا ما أوجبه الله ورسوله أو يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله .
فمن أوجب شيئا لم يوجبه الله ورسوله أو حرم شيئا لم يحرمه الله ورسوله فقد شرع من الدين مالم يأذن به الله ولا تجوز طاعته في هذه الحالة لأنه يأمر بمعصية الله ورسوله وقد دل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله ورسوله .
وقد أمرنا الله جل وعلا بطاعة رسوله في نحو ثلاثة وثلاثين موضعاً(2) من كتابه فلا يحل مخالفتها إذ أنه عين الضلال وعين المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد عمت البلوى في هذا الزمان فلا يقبل الكثير منهم إلا آراء الرجال. أما الكتاب والسنة فقد رغب عنهما الكثير ممن سفه نفسه وأعلن عليها بالفجور ولا يعول عليهما إلا عند الحاجة كالميتة لا تؤكل إلا عند الضرورة .
ومن العجائب والعجائب جمة أن كل متمذهب بمذهب ينكر على صاحب المذهب الآخر عدم انتمائه إليه ولا أدري ما هو الدليل الذي دلهم على مذهب غيرهم حتى يعلنوا النكير على أتباع المذاهب الأخرى ؟!
وقد أقسم الله بنفسه في سورة النساء أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي والأمي في الصغير والكبير في جميع الأمور،
فقال تعالى: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ً)سورة النساء آية :65
والله تبارك وتعالى لم يوجب على أي فرد من الناس طاعة شخص بعينه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) مدارج السالكين : (3/207)
(2) قال أحمد : (نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعاً...)(1/5)
فقد أمرنا بطاعته وعدم الخروج عن أمره لأنه مبلغ عن الله فلا يأمر إلا بما يحبه الله ولا ينهى إلا عما يكرهه الله .
قال تعالى : (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) سورة آل عمران آية:132
فهذه الآية يأمر الله تعالى بها عباده أن يطيعوه ويطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم ، والأمر يقتضي الوجوب على الصحيح إلا لصارف و لا صارف له هنا .
بل الآيات كثيرة تؤكد هذا الوجوب، ثم إنه من المعلوم إذا ثبت الأمر يدل على الوجوب أن مخالفه آثم وعاص لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لأن مخالفة الأمر معصية .
قال تعالى : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) سورة النور آية:63
فرتب الله تعالى على مخالفة الأمر الفتنة أو العذاب الأليم.
قال الإمام أحمد – رحمه الله- : (أتدري مالفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك)
قال تعالى : ( ومن يطع الله والرسول يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . وذلك الفوز العظيم .ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) سورة النساء الآيتان 13-14
وقال تعالى : (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم . وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين) سورة النور آية 54
فهذه الآيه فيها الأمر من الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الله تعالى قال: (وإن تطيعوه تهتدوا ) فلا يحصل الإهتداء إلا بطاعته لأن الآية فيها فعل الشرط تخلف جوابه.
فعلى هذا لا يحصل اهتداء إلا بطاعته فإن وجدت الطاعة حصل الإهتداء وإلا فلا.
ولذلك رتب الله على طاعته وطاعة رسوله الفوز والفلاح في سورة الأحزاب فقال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ) سورة الأحزاب آية 71(1/6)
وقال تعالى مبينًا ما أعد للمتولين عن طاعته وطاعة رسوله : (ومن يتول يعذبه عذابا أليما) سورة الفتح آية 71
وقال تعالى حاكما بالضلال المبين على من عصاه وعصى رسوله : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) سورة الأحزاب آية 36
ومخالفة الأمر معصية كما تقدم.
وقال تعالى ، ناهيا عباده عن التقدم بين يدي الله ورسوله : (يا أيها الذين أمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله .واتقوا الله أن الله سميع عليم) سورة الحجرات آية 1
وأي تقدم اعظم من مخالفة أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأقوال من يخطيء ويصيب وبعلم ويجهل.
وقال تعالى ، آمرا لنا بأخذ أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقيها بالقبول دون توقف : (وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا ) سورة الحشر آية 7
وما الأحاديث الدالة على وجوب طاعة الرسول والأخذ بسنته صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة جدا.
منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ...الحديث)(1)
قوله صلى الله عليه وسلم (من رغب عن سنتي فليس مني)(2)
__________
(1) هذا الحديث مروي من طريق العرباض بن سارية رضي الله عنه وهو مخرج عند الإمام أحمد : (4/126-127)، وأبي داود في السنة في باب لزوم السنة : (12/358-359-عون المعبود)، والترمذي في باب :ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع: (5-43-رقم 2676)، وابن ماجة: (1/16-رقم 43)
، والدارمي : (1/44-45)، وابن حبان : (رقم 102-موارد)، والحاكم: (1/95-96) ،وصححه الترمذي والحاكم وغيرهما.
(2) أخرجه البخاري : (9/104-فتح الباري)، ومسلم: (2/1020-رقم 1401) وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.(1/7)
قوله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى . فقالوا يا رسول الله : من يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )(1)
وأعظم الناس وأقواهم تمسكا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هم الصحابة- رضي الله عليهم-.
ومن أعجب ما وقفت عليه من حقيقة الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ،وتعظيم أمره ما فعله الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة – رضي الله عنه – وأرضاه ، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعه وهو يقول : اجلسوا فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ من خطبته ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: (زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله)(2)
فصل
كان السلف – رضوان الله عليهم – يشتد نكيرهم على من خالف الأحاديث بالآراء والتعسفات المريضة ،وربما هجروه تعظيما للسنة وتوقيراً لها.
__________
(1) أخرجه البخاري : (13/249-فتح الباري)، وأحمد في مسنده: (2/22361) وغيرهما من حديث عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة : (4/66) اخرج البيهقي بسند صحيح من طريق ثابت عن ابن أبي ليلى كان النبي صلى الله عليه وسلم. يخطب فدخل عبد الله بن رواحة ... الحديث ثم قال: (وأخرجه من وجه آخر إلى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة والمرسل أصح سنداً)، وذكر في مجمع الزوائد : (9/316)من حديث عائشة وقال: (رواه الطبراني في الأوسط) وفيه ابراهيم بن إسماعيل بن مجمح وهو ضعيف، وانظر سير أعلام النبلاء: (1/232)(1/8)
فروى مسلم في صحيحه عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم, يقول: (لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها. قال فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن، قال فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ، ما سمعته سبه مثله قط . وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول: والله لنمنعهن)(1)
وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مغفل أنه رأى رجلا يخذف فقال له :لاتخذف ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف – أو كان يكره الخذف – وقال: إنه لا يصاد به صيد ولا ينكأ به عدو، ولكنها قد تكسر السن وتفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الخذف –أو كره الخذف – وأنت تخذف ؟! لا أكلمك كذا وكذا)
وروى البخاري في( صحيحه 3/475-فتح) عن الزبير بن عربي قال : سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما، عن استلام الحجر، فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله ، قال قلت : أرأيت إن غلبت. قال اجعل: (أرأيت باليمن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله)
قال الحافظ ابن حجر: على قول ابن عمر : اجعل أرأيت باليمن، وإنما قال له ذلك لأنه فهم منه معارضة الحديث بالرأي فأنكر عليه ذلك وأمره إذا سمع الحديث أن يأخذ به ويتقي الرأي.
__________
(1) مسلم : (4/161) ورواه البخاري في صحيحه : (2/327،351،382-فتح الباري) ولكن المرفوع منه فقط.(1/9)
وقال ابن عباس – رضي الله عنهما -: ( والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله . أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتحدثونا عن أبى بكر وعمر)(1)
قال العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمهم الله - : ( فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر.وهما هما. فما تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه . ويجعل قوله عيارا على الكتاب والسنة ، فما وافقه قبله وما خالفه رده أو تأوله فالله المستعان.
وما أحسن ما قال بعض المتأخرين:
فإن جاءهم فيه الدليل موافقا ……لما كان للآبا اليه ذهاب
رضوه وإلا قيل: هذا مؤول ………ويركب للتأويل فيه صعاب
ولا ريب أن هذا داخل في قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ]سورة التوبة آية 31[(2)
وقال أبو السائب : (كنا عند وكيع : فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي : أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول أبو حنيفة هو مثله قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : الإشعار مثلة ، قال فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا . وقال : أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول: قال إبراهيم . ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا)(3)
وهذا الذي ينبغي أن يفعل فيمن رام الوقوف أمام النصوص ومعارضتها بقول فلان وفلان، بحجة انه اعلم منك!!
__________
(1) قال ابن عبد البر في بيان جامع العلم: (2/195)وذكر عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن أيوب قال عروة لابن عباس ألا تتقي الله ترخص في المتعة فقال ابن عباس : سل أمك يا عرية فقا عروة : أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا فقال ابن عباس : فذكره . وانظر مسند الإمام أحمد : (1/337)، وكتاب الفقيه والمتفقه : (1/145)، والمطالب العالية : (360-361)
(2) تيسير العزيز الحميد : (544-545)
(3) جامع الترمذي : (3/250)، الفقيه والمتفقه: (1/149)(1/10)
وقال الشافعي رحمه الله في الرسالة (ص 450):
(أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي ، قال حدثنا ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ العقل، وإن احب فله القود ) قال أبو حنيفة ، فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا يا أبا الحارث ؟ فضرب صدري ، وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : تأخذ به !! نعم آخذ به . وذلك الفرض عليً وعلى من سمعه.
إن الله اختار محمدا من الناس فهداهم به وعلى يديه.
واختار لهم ما اختار له ، وعلى لسانه ،فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك .قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت)
وروى أبو يعلى في طبقات الحنابلة : (1/251) عن الفضل بن زياد بن أحمد بن حنبل قال: (بلغ ابن أبي ذئب ،أن مالكا لم يأخذ بحديث (البيعان بالخيار) فقال: يستتاب في الخيار فإن تاب وإلا ضربت عنقه .ومالك لم يرد الحديث ولكن تأوله على غير ذلك...).
وهكذا كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنا من كان ،ويهجرون فاعل ذلك ،وينكرون على من يضرب له الأمثال .ولا يسوغون غير الإنقياد له والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة ،ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان ، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولامؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) ،وبقوله تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ،ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وبقوله تعالى : (اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) وأمثالها.(1/11)
فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم : (ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا )يقول: من قال بهذا ويجعل هذا دفعا بصدر الحديث ،أو يجعل جهله بالقائل به حجة له في مخالفته وترك العمل به ،ولو نصح نفيه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الجهل.
وأقبح من ذلك عذره في جهله ،إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذا الإجماع ،وهو جهله على السنة والله المستعان .
ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام البتة قال: لا نعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نعرف من عمل به فإن جهل من بلغه الحديث من عمل به لم يحل له أن يعمل به كما يقول هذا القائل)(1).
فصل
في ذم التقليد
اعلم أن التقليد هو قبول قول القائل من غير معرفة لدليله (ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم ،وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم)(2)
ولذلك نهى العلماء –رحمهم الله-عن تقليدهم ،وما من إمام من أئمة الإسلام إلا ونقل عنه ما يدل على ذلك ،لأن الواجب على كل مسلم ومسلمة معرفة الهدى بدليله (3).
وقد تتابعت أقوال العلماء خصوصا الأئمة الأربعة –رحمهم الله – على وجوب الأخذ بالحديث وترك التقليد وهاك أقوالهم فإن فيها منفعة لقمعها أهل التعصب:
__________
(1) إعلام الموقعين : (4/244-245)
(2) إعلام الموقعين : (1/45)
(3) قال ابن أبي العز –رحمه الله-: (ولا نقول إن هؤلاء الأئمة وأمثالهم لا يجوز تقليدهم لآحاد العوام . وأنه يجب على آحاد العوام أن يكون مجتهدا كل مسألة تنزل به . فإن هذا قول ضعيف قاله بعض أهل الكلام وجمهور الأئمة والأمة على خلافه، وهو خطاء لأن أكثر العوام عاجزون عن معرفة الاستدلال على كل مسألة) اهـ "الاتباع": (ص43)(1/12)
فأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: ( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه )
وأما الإمام مالك رحمه الله فقد اشتهر عنه أخذه بالسنة والتمسك بها فلذلك كان رحمه الله من أشد الناس تمسكا بالسنة ودفعا للبدعة وهو القائل : (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ،وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه).
وقال رحمه الله : (ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم) لأنه معصوم فيما يبلغه عن الله وأما غيره فيؤخذ من قوله ما وافق الكتاب ب والسنة وما عداهم فيطرح خلافا لبعض الغلاة المتعصبين الذين يغلون في أئمتهم حتى قال بعضهم : (إن عيسى ابن مريم عندما ينزل يحكم بمذهب أبي حنيفة) وهذا غلو شديد وتعصب مهلك ومما ينسب أيضا إلى بعض المتعصبين من الحنفية : (كل آية أو حديث تخالف المذهب فهي مؤولة أو منسوخة)(1/13)
وهذا تعصب ينبىء عن قلة دين وغلبة هوى .وحكايته تغني عن رده ،وأقوال المتعصبة في مثل ذلك كثير، فيكاد يصبح التقيد بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، وكم جر هذا التعصب من فتن بين المسلمين وتفريق لكلمتهم وزعزعة في صفوفهم وإثارة للضغائن بينهم ،مع صرف الولاء والبراء لهذه المذاهب ،فكل متمذهب بمذهب ما يعادي صاحب المذهب الآخر(1) مع أن أئمتهم لا يرضون بذلك بل ينهون عنه أشد النهي وينعون أهله ،ورحم الله ابن أبي العز حيث يقول: (فمن تعصب لواحد معين غير النبي صلى الله عليه وسلم ،كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، ورأى أن قول هذا هو الصواب الذي ينبغي اتباعه ،دون قول الأئمة الباقين فهو جاهل ضال ،وإن اعتقد أنه يجب على الناس اتباعه دون غيره من هؤلاء الأئمة فإنه يخشى عليه)
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فقد اشتهر قوله في وجوب الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه .فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي)(2)
__________
(1) قال ياقوت الحموي في معجم البلدان : (1/209) في الكلام على أصبهان : (وقد فشا الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين ، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها ،ولا يأخذهم في ذلك إلَ ولا ذمة ،ومع ذلك فقلَ أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فاسدها...)
(2) وقال رحمه الله : (كل ماقلت : وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ولا تقلدوني) رواه ابن أبي حاتم في : (آداب الشافعي : ص67) وانظر الحلية لأبي نعيم : (9/106-107) والفقيه والمتفقه للخطيب : (1/150)(1/14)
وقال رحمه الله : ( أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد)
قال الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله رحمه الله : (بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم معنى ذلك في أي شيء كان أن يعمل به ولو خالفه من خالفه فبذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأجمع على ذلك العلماء قاطبة إلا جهال المقلدين وجفاتهم ،ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم ،كما حكى الإجماع على أنهم من أهل العلم أبو عمر بن عبد البر وغيره.
قال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) سورة الأعراف آية 3
وقال تعالى : (إن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلغ المبين) سورة النور آية 54(1/15)
فشهد تعالى لمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بالهداية ،وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم ليس بمهتد إنما المهتدي من عصا ه، وعدل عن أقواله ورغب عن سنته إلى مذهب أو شيخ ونحو ذلك ، وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم، ويصنف التصانيف في الحديث والسنن ، ثم بعد ذلك تجده جامدا على أحد هذه المذاهب ويرى الخروج عنها من العظائم ، وفي كلام أحمد: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان)(1) إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم إنما المذموم المنكر الحرام :الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة . نعم وينكر الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة بل إن قرؤوا شيئا من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنما يقرؤونه تبركا لا تعلما وتفقها ، أو لكون بعض الموقفين وقف على من قرأ البخاري مثلا فيقرؤونه لتحصيل الوظيفة لتحصيل الوظيفة لا لتحصيل الشريعة فهؤلاء من أحق الناس بدخولهم في قوله تعالى : (وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيها وساء لهم يوم القيامة حملا)سورة طه آية 99-100
وهذا الكلام كلام عظيم يعض عليه بالنواجذ وتشد الرحال من أجله مع العلم أن ما ذكره الشيخ رحمه الله من حال هؤلاء المقلدين وضلالهم المستبين غيض من فيض ونقطة من بحر وإلا فمن سبر حال المقلدين المتعصبين رأى العجب العجاب من اتباع الهوى والوقوع في الآصار والأغلال.
فرحم الله من نصح نفسه واتبع الكتاب والسنة وإن خالفه من خالفه.
ولله در العلامة ابن القيم رحمه الله إذ يقول:
يا من يريد نجاته يوم الحسا………ب من الجحيم وموقد النيران
اتبع رسول الله في الأقوال والأ……عمال لا تخرج عن القرآن
__________
(1) تيسر العزيز الحميد : (ص546-548)(1/16)
وخذ الصحيحين اللذين هما ……لعقد الدين والإيمان واسطتان
واقرأهما بعد التجرد من هوى ……وتعصب وحمية الشيطان
واجعلهما حكما ولا تحكم على … ما فيها أصلا بقول فلان
ومما يشرح صدور المؤمنين ويقمع تعصب المتعصبين ما قاله الشيخ ابن عبد السلام رحمه الله قال: (ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه لايجد لضعفه مدفعا ،وهو مع ذلك يقلده فيه ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم جمودا على تقليد إمامه ، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده.
قال: وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه ،تعجب منه غاية التعجب من غير إسترواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجدها.
قال :وما رأيت أحدا يرجع من مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصر عليه مع عمه بضعفه وبعده فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد له ، ولا يعلم المسكين أم هذا المقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على ما ذكرته.
قال :ولم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقليد ولا تقيد بمذهب ولا إنكار على أحد من السائلين.(1/17)
إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصوبوها من المقلدين فإن أحدهم يتبع إمامه من بعد مذهبه عن الأدلة مقلدا له فيما قال كأنه نبي أرسل إليه ،وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب لايرضى به أحد من أولي الألباب)(1)
وأما الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فهو ناصر السنة قامع البدعة الصابر يوم المحنة فضائله مشهورة ومناقبه مأثورة له المرجع في العلم في زمانه ومع ذلك اشتهر عنه ذم التقليد حتى قال: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث اخذوا )
وأقوال العلماء رحمهم الله في ذم التقليد ووجوب الأخذ بالدليل كثيرة مشهورة .
__________
(1) منقول بواسطة السيوطي في كتابه "الرد من أخلد إلى الأرض": (ص140-141) وانظره في كتاب "قواعد الأحكام" لأبي محمد عبد العزيز بن عبد السلام : (2/305) إلا أن بعضا مما ذكره السيوطي نقلا عن ابن عبد لاسلام لم أجده في القواعد فليعلم.(1/18)
(فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك لأي عظيم من الأمة ،فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العلماء على كل من خالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم :أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق ، فإذا تعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر غير ه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ل أن يقدم ويتبع ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له . بل ذلك المخالف المغفور له . لا يكره أن يخالف أمره إذا ومتابعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ظهر أمره بخلافه ، كما أوصى الشافعي : إذا صح الحديث في خلاف قوله : (أن يتبع الحديث ويترك قوله وكان يقول : ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطيء ، وما ناظرت أحدا فباليت أظهر الحق على لسانه أو على لساني . لأن تناظرهم كان لظهور أمر الله ورسوله لا ظهور نفوسهم والانتصار لها وكذلك المشايخ والعارفون كانوا يوصون بقبول الحق من كل من قال الحق صغيرا أو كبيرا وينقادون لقوله ...))(1)
فصل
وبما تقدم ذكره من وجوب الأخذ بالكتاب والسنة ومن ذم التقليد والتعصي لآراء الرجال . لا يظن بنا ظان أننا نبطل النظر في كتب الأئمة الأربعة أو غيرهم من الأئمة أو نهدر حقوقهم ونهظمهم حقهم فإن هذا لا نقول به ولا نرتضيه وإنما نطالب بتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم لأن ذلك شرط من شروط لا إله إلا الله .
فلا يستقيم إسلام المرء حتى يجرد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) "الحكم الجديرة بالإذاعة" للحافظ ابن رجب رحمه الله (ص41-42)(1/19)
وهذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه ،فهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها لشبهة أنه أعلم بها منك فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النص أعلم به منك فهلا وافقته إن كنت صادقا.
فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم ، بل اقتدى بهم ، فإنهم أمروا بذلك فمتبعهم حقا من امتثل ما وصوا به لا من خالفهم في القول الذي جاء النص بخلافه أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم ومن هنا يتبين الفرق بين تقليد العالم في كل ما قال، بين الاستعانة بفهمه والاستضاءة بنور علمه(1) ، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب لدليله من الكتاب والسنة، بل يجعل ذلك كالحبل الذي يلقيه في عنقه يقلده به ولذلك سمي تقليدا بخلاف من استعان بفهمه واستضاء بنور علمه في الوصول إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإنه يجعلهم بمنزلة الدليل إلى الدليل الأول، فإذا وصل إليه استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره فمن استدل بالنجم على القبلة فإنه إذا شاهدها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى(2).
قال الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله رحمه الله: (فإن قلت : فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب ؟
__________
(1) قال ابن أبي العز –رحمه الله- في رسالته "الاتباع" ص43: (ومن ظن أنه يعرف الأحكام من الكتاب والسنة بدون معرفة ما قاله هؤلاء الأئمة وأمثالهم فهو غالط مخطيء) أقول : أقوال الرجال يستضاء بها في فهم الكتاب والسنة فإذا خالفت شيئا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ردت على قائلها فأقوالهم يحتج لها ولا يحتج بها كما ذكر ذلك غير واحد من المحققين.
(2) "الروح" لابن القيم : (ص390-391) طبعة دار الكتاب ،و (ص356-357) طبعة دار الكتب.(1/20)
قيل: يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم المتاب والسنة ،وتصوير المسائل فتكون من نوع الكتب الآلية، أما أن تكون هي المقدمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له كما قال تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) سورة النساء
وهذا آخر ما تيسر إيراده على سبيل الاختصار نصحا للمسلمين وغيرة عليهم أن تذهب أعمارهم تطلبا لقول فلان وفلان وشفاؤهم قريب منهم لو طلبوه لوجدوه .
ومن لم يشفه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويشفيه قول فلان وفلان فهذا على شفا جرف هار وهو في الغي والضلال الهائم.
ورحم الله العلامة ابن القيم حيث يقول :
من لم يكفيه ذان فلا كفا ……ه الله شر حوادث الزمان
من لم يكن يشفيه ذان فلا ……شفاه الله في قلب ولاأبدان
من لم يكن يغنيه ذان ……رماه رب العرش بالإعدام والحرمان
من لم يكن يهديه ذان فلا ……هداه الله سبل الحق والإيمان
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: ( فالحذر الحذر أيها الرجل من أن تكره شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو ترده لأجل هواك أو انتصارا لمذهبك أو لشيخك أو لأجل اشتغالك بالشهوات أو الدنيا فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله والأخذ بما جاء به بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع الرسول ما سأله الله عز وجل عن مخالفة أحد فإن من يطيع
أو يطاع تبعا للرسول وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أطيع فاعلم واسمع وأطع واتبع ولا تبتدع تكن أبتر مردودا عليك عملك بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع ولا خير في عامله والله أعلم )(1).
__________
(1) "فتاوى شيخ الإسلام" : (16/528،529)(1/21)
تمت الرسالة بحمد الله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه الفقير إلى الله
سليمان بن ناصر العلوان
في شهر شوال الموافق 26/10/1412هـ
القصيم - بريدة(1/22)