تكوين الملكة الفقهية
أ. د. محمد عثمان شبير
تقديم
عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي جعل الفهم والمعرفة للأمور، وحسن الإدراك والتبصر بالمقاصد، والتقدير للعواقب، من بشائر الخيرية وسبل النهوض والارتقاء، وجعل النفرة للفقه في الدين واكتساب المعرفة الميدانية، واكتشاف السنن الفاعلة في الحياة والأحياء، وتوعية المجتمع بقوانين الحركة الاجتماعية والتاريخية، مصدر العبرة والعظة وتحقيق الحذر والوقاية الحضارية، فقال تعالى: (... فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذر ون ) (التوبة:122).
والصلاة والسلام على الرسول المعلم، الذي بيّن أن مناط خيرية الإنسان عند الله الفقه في الدين، فقال: (من يُرِد الله به خيرًا يفقِّهْه في الدين ) (متفق عليه)، ذلك أن الفقه في الدين كسب من الإنسان وتوفيق واصطفاء من الله.
وكان من دعائه المأثور واللافت لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (اللهم فقِّهه في الدين وعلمه التأويل ) (حديث صحيح، أخرجه أحمد)، فكان ابن عباس ببركة هذا الدعاء، حبر الأمة وعالمها، وأحد منارات فقه الصحابة العظيم.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة الثاني والسبعون: (تكوين الملكة الفقهية)، للأستاذ الدكتور محمد عثمان شبير، في سلسلة (كتاب الأمة) التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في دولة قطر، مساهمة في تحقيق الوعي الحضاري والوقاية الثقافية، ومحاولة إخراج الأمة المسلمة من جديد، اهتداءً بظروف وشروط الميلاد الأول، لأن نهوض أي مجتمع ومعاودة إخراجه منوط إلى حدٍ بعيد بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأول، والتدليل على أن سبب التخلف والسقوط الحضاري إنما أصاب عالم المسلمين بسبب الانسلاخ عن القيم الإسلامية وانكماش الفقه في الدين، لا بسبب الاستمساك بها.(1/1)
والشاهد التاريخي قائم على أن فترات التألق والإنجاز كانت مترافقة مع الالتزام بشريعة هذا الدين والإيمان بعقيدته التوحيدية والانتماء إلى الأمة المسلمة، وأن الإشكالية الثقافية والحضارية اليوم بالنسبة لعالم المسلمين هي في محاولات دراسة الواقع الإسلامي وما لحق به من إصاباتٍ في ضوء أصول وقيم ومسيرة تاريخية حضارية غريبة عنه، أو بتعبير آخر عن هذا الخلل: قياس واقع مجتمع بأصول وقيم حضارة مجتمع آخر، علمًا بأن الفعل الاجتماعي لا يتكرر، ذلك أن القطيعة الثقافية والتاريخية مع معرفة الوحي، وعدم القدرة على تجريد القيم الإسلامية من قيد التاريخ والجغرافيا، أو من قيد الزمان والمكان، وتوليدها في كل زمان ومكان، هي الإشكالية الحقيقية، وهي سبب المعاناة.
ولعل الفقه الحقيقي هو في امتلاك القدرة على تحقيق المناط -بالمصطلح الفقهي- أو القدرة على تجريد النص من قيد الزمان والمكان، والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس، ومعالجته لمشكلاتهم، واستشرافه لمستقبلهم، فقد باتت قولة الإمام مالك رحمه الله المبكرة: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها )، بعد رحلة التجربة المرة، تكاد تكون مسلمة حضارية.
لكن يبقى السؤال الكبير، الذي ما يزال مطروحًا على مدارس الإصلاح ومناهج المصلحين: لماذا تراجعنا ? وكيف نحقق النهوض ونتحقق بالوراثة الحضارية ? ذلك أننا جميعًا أصبحنا نعبر عن قناعتنا من على منابر متعددة أن الإشكالية هي في الانسلاخ عن الإسلام، فلماذا كان الانسلاخ ? وكيف نضع منهج العودة، ونترسم سبيل الخروج أو الإخراج من جديد؟
أما أن سبب التراجع والسقوط هو في الانسلاخ عن القيم الإسلامية، وأن سبيل الخروج هو في العودة إلى الالتزام بالإسلام، فهو شعار ما يزال يتولى طرحه الخطباء والوعاظ من على منابرهم، فإذا نزلوا عن المنابر عاد كثير منهم مع الأمة إلى مألوفهم ومعروفهم، وكأنهم بطرح هذا الشعار خرجوا من عهدة التكليف.(1/2)
أما بيان كيفية العودة للالتزام بقيم الدين ورسم الطريق، ووضع المنهج، والاجتهاد في فهم الواقع واستطاعاته، وتحديد موقعه بدقة من مسيرة النبوة وقيام المجتمع الأول المشهود له بالخيرية، والتعرف إلى الأسباب والسنن التي كانت تحكمه، والتبصر بآلية السقوط والنهوض، والاجتهاد في محل تنزيل النص، ومدى توفر الإمكانية المطلوبة لتنزيله وحصول التكليف به، والنظر في المقاصد والمآلات والعواقب والتداعيات لتحقيق الخير في الحاضر، وحسن العاقبة في المستقبل، استجابة لقوله تعالى: (ذلك خير وأحسن تأويلا ً) (النساء:59)، فيبقى مهمة الفقهاء الخبراء والمفكرين والمستبصرين المتمكنين من معارف الوحي ومدارك العقل.
ولعل في بعض الآثار الواردة عن حال تخلف الأمة عندما يكثر الخطباء ويقل الفقهاء، يفسر الكثير من الحال التي نحن عليها اليوم.. فلا أعتقد أن أية أمة تمتلك من المنابر والمحاريب والجمهور المتلقي عن طواعية واختيار، والذي يمكن اعتباره من أعلى درجات الإمكان الحضاري، ما تمتلكه الأمة المسلمة.. لكن تبقى النتائج محزنة، وما ذلك -في رأينا- إلا بسبب غياب الفقهاء والحكماء والمفكرين والباحثين الدارسين القادرين على تحديد مواطن الخلل، ومن ثم وضع منهج الخروج، في ضوء النصوص المعصومة من معارف الوحي.
فالخطيب قد يلهب المشاعر ويثير الحماس ويهيئ الأمة، وذلك قد يكون مطلوبًا في بعض الحالات للتعبئة، لكن الفقيه هو الذي يقوم بدور المعلم الذي يربي العقل ويبصر بالطريق، ويضع الأوعية الشرعية لحركة الأمة، في ضوء الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة، ويمتلك دقة النظر في محل تنزيل النص على الواقع.(1/3)
وقد لا نكون مغالين إذا قلنا: بأنه يصعب علينا في كثير من الأحيان، إذا تجاوزنا تاريخ الزمان وجغرافية المكان، أن نحدد زمان ومكان الكثير من الخطب وأهدافها وجدواها! إضافة إلى أن قضايا الأمة ومشكلاتها لا تعالج بالحماس وارتفاع المنابر فقط، وإنما تعالج بفقه الأسباب ومعرفة السنن، وإدراك علل السقوط والنهوض. واستيعاب الحاضر وتحديد موقعه من مسيرة النبوة لتحقيق الاقتداء الصحيح، وذلك باستشراف الماضي وعبرته، واستبصار المستقبل واحتمالاته وتداعياته.. فليس الفقه الذي نقصده هنا هو في حفظ كتاب وسرعة استذكار مسائل، مع استمرار العجز عن توليد مثال غير مثال الأقدمين، الذي ما يزال يتداول وينقل من كتاب إلى آخر مع تغيير الطباعة ونوعية الورق، وقد يكون هذا متوفرًا للكثير من حملة الفقه اليوم.
لذلك فقد تتحول بعض الخطب والحالة هذه، من تقديم حلٍ إلى صناعة مشكلة، لأنها قد تعبئ الشباب وتجمع الجمهور وتوجههم صوب أهداف كبرى، ومن ثم يغيب الفقهاء عن وضع الأوعية الشرعية والمشروعة لحركة الأمة، وإيجاد المناهج والبرامج والخطط لمسيرتها، فيتحرك جمهور الشباب المتحمس على غير بصيرة وبمجازفات تقودهم إلى تقديم التضحيات الكبيرة التي لا تتناسب مع الإنجازات الهزيلة، أو الهزائم الموقعة في إحباطات قد تؤدي في كثير من الأحيان، وغالبًا عند الذين لا يستطيعون التفريق بين الصورة والحقيقة، إلى شكوك في جدوى القيم الإسلامية وقدرتها على انتشال الأمة، لذلك قد يسهل على أعداء الإسلام استخدامهم كرصيد جاهز للتضحية لتصفية الحسابات بدمائهم، في ذات الوقت الذي قد يتحول فيه الكثير من الخطباء لطرح قضايا جديدة تجمع الأمة وتلهب المشاعر، دون أن نفكر في دراسة أسباب الفشل وعدم بلوغ النتائج لمحاولة استدراكها في مستقبل الأمة.. ويبقى هذا هو عمل الفقيه أو الفقه الغائب.(1/4)
ولعل من القضايا المهمة والجديرة بالطرح والاستدعاء والمناقشة وتوسيع دائرة الرأي حولها، هي في وضوح أو إيضاح الأهداف التي لا بد أن يُؤهل الفقيه القادر على تحقيقها، وطبيعة المعادلات الاجتماعية الإقليمية والدولية التي لا بد من استيعابها، وما هي الشروط والمناهج المطلوبة للإعداد ? ذلك أن الإنتاج الحالي فيما يلاحظ عليه من تكرار الأنماط الواحدة التي قد لا تخرج في عمومها عن أن تكون نسخًا متحركة من الكتب المتوفرة في المكتبة، أو هي على أحسن الأحوال طبعات جديدة لكتب قديمة، بل لعل الكتب القديمة أكثر حفظًا ودقة نظر.
ونحن هنا لا نرمي هنا إلى وضع الخطباء في مقابل الفقهاء الخبراء، إنما ندعو إلى تكامل الأداء الإسلامي، حيث لا يغني جانب عن آخر، ذلك أن المشكلة كل المشكلة في متحمسين لا فقه لهم ولا خبرة لديهم، وأن الكثير منهم يعيش في عزلة عن واقع الحياة ومعاناة الناس، وقد يعاني من تعطيل الطاقات، أو هو خارج المجتمع.
ولو أدركنا أبعاد العمل الإسلامي المتكامل بشكل سليم ومتوازن، لأبصرنا مواقع الخطباء ودورهم في التحفيز والتحضير، ومجالات الفقهاء ومهامهم في قيادة رشيدة لجماهير الأمة.
وهنا قضية قد يكون من المفيد طرحها والتوقف عندها بما يسمح به المجال، وهي أن من الأمور التي تكاد تكون محسومة على مستوى الفكر والعقيدة والفعل والممارسة، أن الإسلام دين شامل لجميع جوانب الحياة، وأن تشريعه ومنهجه ينتظم الحياة جميعًا، فهو نظام للحياة بكل مجالاتها، هذا على الأقل عند المؤمنين به، وأصحاب النظرة الموضوعية ممن لا يؤمنون به، قال تعالى: (...ما فرطنا في الكتاب من شيء ... )(الأنعام:38)، الأمر الذي يقتضي أن يوجد الاجتهاد ويتولد الفقه الذي ينير الطريق ويبين حكم الله ورؤية الإسلام في شعب المعرفة جميعًا، وفي التطبيقات العملية والفعل البشري، وعدم الاقتصار على الفقه التشريعي القانوني، إن صح التعبير.(1/5)
ذلك أن غياب الرؤية الإسلامية أو الفقه الإسلامي الشامل عن أي موقع وعدم امتداده يعني وجود الفراغ الذي يسمح بدخول (الآخر)، أو يؤذن باستدعاء (الآخر) ليصنع للناس رؤيتهم، ويضع لهم أوعية ومناهج لحركتهم، وفلسفات لمعارفهم، في مجال التربية والتعليم والاجتماع والنفس والاقتصاد وسائر المعارف الإنسانية. وهذا لا يعني، ولا يجوز أن يعني، خروج الفقه التشريعي من دائرة العلوم الإنسانية، لأنه يقع في الصميم منها، لكنه يبقى' يغطي بعض جوانب نظام الحياة لا كلها.
لذلك نرى أنه لابد من إعادة طرح مفهوم الفقه من جديد والخروج به عن المعنى الاصطلاحي أو المدلول الاصطلاحي، والعودة به إلى مفهومه الشامل، إلى مدلول الفقه الحضاري، الذي يشمل الأبعاد الحضارية بكل فضاءاتها، فيكون هناك مناهج استنباط، أو علوم أصول فقه: تربوي، ومجتمعي، وسياسي، واجتماعي، واقتصادي، ومعرفي بشكل عام، ليغطي جميع شعب المعرفة وجوانب الحياة، ولا يقتصر على الجانب التشريعي فقط.
وعليه يمكن القول: إن آيات القرآن الكريم كلها آيات أحكام، أحكام تربوية، وأحكام اجتماعية، وأحكام سياسية وتشريعية، وأحكام أخلاقية، وليس آيات الأحكام في الحقيقة مقتصرة على ما يستنبط منها الحكم التشريعي.(1/6)
وبالإمكان القول: إن نمو الفقه التشريعي، والتبحر فيه، وإنتاج هذه الثروة الضخمة التي تفتقدها الأمم الأخرى، وما حققه من الحماية والمناعة التشريعية والعطاء القانوني، يعتبر من المفاخر الثقافية والتشريعية والقانونية والاجتهادية، وأنه إنما جاء وامتد وتولد كثمرة للوجود الواقعي الإسلامي، وأن الدولة والأمة المسلمة في عصورها الزاهرة كانت تتوفر في ظل الإسلام واستقرار نظامه وأحكامه على وظائف المعارف الأخرى عمليًا في المجالات جميعًا ولو لم تفرد بتعاريف ومصطلحات ، لأن وظيفة هذه المصطلحات كانت متوفرة وقائمة، حيث كان المسلمون في موضع العطاء، لذلك لم تكن الحاجة قائمة لفقه مؤسس في المجالات الأخرى.
فوظيفة المصطلح ومدلوله موجودة، وإن غاب المصطلح نفسه. ولعل الإشكالية أصبحت اليوم بوجود المصطلح والجدل حول مفهومه في الحضارة المعاصرة على حساب مدلوله ووجوده العملي.
والحقيقة العملية التي لا بد من تسجيلها أن الفقه التشريعي الذي أنتجه المسلمون من نصوص الوحي، شكَّل ولا يزال الترسانة القانونية والتشريعية أمام الفكر القانوني الوافد المؤيد بالقوة والسطوة والطغيان، ولم يمكن تجاهله في الأنشطة القانونية المختلفة على الرغم من ضعف الأمة المسلمة وتقهقرها، بل نستطيع القول: بأنه كان من أهم مرتكزات الحماية والمناعة الحضارية للأمة.
لذلك نرى اليوم، على الرغم من محاولات تغييب الشريعة عن واقع الأمة، لأسباب وذرائع واهية، من عدم تحضير المجتمع وتوفر مؤهلاته، فإن الفقه التشريعي ما يزال يفرض وجوده وعطاءه واستمراره بقوته الذاتية.(1/7)
وفي تقديرنا أن دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بأن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، فأصبح ببركة دعائه صلى الله عليه و سلم وتوجيهه حبر الأمة وفقيه الصحابة، ليكون ذلك قدوة ووجهة لكل مسلم. فإن الفقه في الدين، فيما نلمحه من هذا الدعاء، يعني الفقه الشامل لكل جوانب الحياة شمول الدين نفسه، وأن الجزء الثاني من الدعاء: (وعلمه التأويل)، ليس المقصود بالتأويل هنا التفسير والبيان والاستنباط فقط، وإنما الفقه الاجتماعي والحضاري الذي يدرك السنن الفاعلة في الحياة وتحولاتها الاجتماعية وقانون الحركة الاجتماعية والتاريخية، ويبصر بالمآلات والعواقب والنتائج، التي توصل إليها المقدمات: (وعلمه التأويل).
فالحياة ليست عبثًا، وإنما هي خاضعة لسنن لا بد من إدراكها ومعرفة مدى إمكانية الإنسان المداخلة فيها، ومدافعة سنة بسنة.. والذي لا يدرك السنن ولا يقدر التداعيات ولا يبصر العواقب والتأويل (المآل)، فمن أين له الفقه، ولو حفظ جميع المتون، فإنه لا يخرج عن أن يكون أحد الكتب أو الموسوعات، أو (الكاسيتات) بالتعبير المعاصر.
إن العلم بالعواقب والمآلات وتقدير التداعيات واستيعاب السنن الفاعلة، هو الفقه الحقيقي الغائب اليوم بالأقدار المطلوبة عن حياة المسلمين الفكرية والثقافية، أو ما يمكن أن نطلق عليه بالفقه الحضاري أو الفكر الاستراتيجي.
إن اقتصار مفهوم الفقه على المدلول الاصطلاحي (الفقه التشريعي)، أدى إلى اختزال آيات القرآن والاقتصار على آيات وأحاديث الأحكام، دون سواها من سائر القرآن، وكأن بقية الآيات إنما تنزلت للتبرك ولا أحكام فيها، وبذلك غابت الكثير من الجوانب الحياتية عن مجال الفقه، أو غاب الفقه عنها، ومن أخطرها الفقه الاجتماعي والتربوي، أو فقه السقوط والنهوض، أو ما يمكن نطلق عليه: فقه السنن.(1/8)
لذلك نرى غلبة المدلول الاصطلاحي على الاستدلال في بعض الآيات القرآنية التي يمكن أن تكون واضحة الدلالة والسياق في المجال الاجتماعي، مثل قوله تعالى: (...فاعتبروا يا أولي الأبصار )(الحشر:2). فقد وردت الآية لتحكي قصة يهود بني النضير في سورة الحشر، وأن ما حل بهم من الإخراج والتشريد كان بسبب ما فعلوه، وخاطب الله المؤمنين بقوله: (فاعتبروا يا أولي الأبصار )، ليكون المسلمون على حذر وعبرة، فلا تنتقل إليهم علل الأمم السابقة، فيحل بهم ما حل بها. ومع ذلك اقتصر الاجتهاد في هذه الآية على استنباط دليل الفقه التشريعي، فكانت أحد أدلة القياس عند علماء أصول الفقه، علمًا بأن دليل القياس التشريعي يعتبر أحد مدلولاتها وليس غاية مقصدها.. فالقضية واضحة أشد الوضوح في أنها دليل أو أصل في الفقه الاجتماعي والسياسي والحضاري، ومع ذلك نجد أن الاستدلال بها ذهب إلى مجال الفقه التشريعي!
ولعل في الإطار نفسه يمكن أن ننظر إلى قوله تعالى: (... فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )(التوبة:122)، فالفقه في الدين بعمومه وشموله لا يقتصر على الفقه التشريعي، وإنما له شموليته التي يقتضيها شمول مفهوم الدين في الإسلام، وهو ما أطلقنا عليه مصطلح: الفقه الحضاري.. والفقه التشريعي كيان من كياناته.. والتعبير بالنفرة والتعبير بالحذر: (لعلهم يحذرون ) قد يكون أقرب للفقه الميداني والاجتماعي والسياسي والحياتي، الذي يحقق المعرفة من دراسة الواقع وينذر من العواقب ويحذر منها، منه إلى الاقتصار على حفظ النصوص الذي سوف يؤدي إلى فقه الكتب والأوراق، إذا لم يترافق مع النفرة الميدانية الواقعية، خاصة إذا علمنا أن مصطلح النفرة غالبًا ما يستعمل للدلالة على سرعة الاستجابة لداعي الجهاد ودخول الميدان.(1/9)
كما أن الآية في بعض أبعادها تدعو إلى النفرة للتخصص، والتفقه بكل شعب المعرفة، وربط الإيمان بالعالم: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة )، وربط الإخلاص والإيمان بالاختصاص والخبرة، فكل مؤمن عليم وخبير بتخصص من المعرفة هو فقيه ومستنفر لتحقيق الكفاية للمسلمين، وتأمين الحذر لأمته، والتبصير للمسلمين من التخلف والسقوط والوقوع في علل تدين الأمم السابقة التي أدت إلى هلاكها وانقراضها.
وفي ضوء هذا المفهوم الشامل لمصطلح الفقه في الدين -والفقه بالمعنى الاصطلاحي جزء منه- لا بد من إعادة النظر بمناهجنا المدرسية، وكلياتنا الشرعية، وموضوعات رسائلنا الجامعية، وأنظمتنا التعليمية، ومعاهدنا الشرعية، والشروط المطلوب توفرها، والمعارف المطلوبة لتكوين الملكة الفقهية القادرة على إنتاج الفكر والفقه الحضاري، أو العقلية الفقهية، والتقدم صوب شعب المعرفة جميعًا بأصول فقهية معرفية إسلامية في المجالات جميعًا، القادرة على تنزيل معرفة الوحي على واقع الناس، وتقويم هذا الواقع بها، المستبصرة للمستقبل في ضوء المنهج السنني، فسنة الله لا تتبدل ولا تتحول، وهي ماضية في الأمم والأزمان والأماكن جميعًا -حيث لا يخرج الماضي عن أن يكون مقدمة لنتائج وعواقب في المستقبل- فالتأثير في المستقبل وصناعته رهين بكيفية تقويم الحاضر والتعامل معه، ومدافعة قدر بقدر أحب إلى الله.. فالذي لا يفقه السنن لا يتمكن من المداخلة وحسن التقدير المستقبلي.(1/10)
وليس من قبيل المصادفة -ولا مكان للمصادفة والعبثية في هذا الكون- أن يطلق مصطلح السنة، التي تعني الطريقة المطردة والقانون الناظم الذي يحكم الحياة والأحياء، على ما ورد عن الرسول صلى الله عليه و سلم من قول أوفعل أو تقرير، فالسنة منهج حياة كامل.. لذلك فإن فقه تقويم الحاضر بقيم الدين في ضوء الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة يتطلب إدراك السنة أوالمنهج السنني، فلكل شيء سنة، ومن ثم القدرة على وضع الحاضر في موقعه المناسب من مسيرة السنة (السيرة النبوية) للاهتداء إلى كيفية التعامل معه في ضوء هدايات الوحي.
وهذا الإدراك المطلوب لفضاء مصطلح الفقه هو الذي يعيد للحياة انسجامها وتوازنها وضبط نسبها، وللمعرفة تكاملها، ولمعرفة الوحي مكانتها في هداية العقل، ويعيد الوئام بين الدين والعلم، ويحول دون الانشطار الثقافي والمعرفي بين العلم الديني والعلم المدني.
هذا الانشطار الثقافي أوالتعليمي أوالمعرفي -إن صح التعبير- هو الذي حوّل الأوهام والظنون والخيالات وردود الفعل في بعض صور التدين إلى حقائق، فحاصر العقل وعطله، باسم الانتصار للوحي أولمعرفة الوحي، دون إدراك أن العقل مناط التكليف ووسيلة فهم الوحي، وآلية الوحي في الاجتهاد والامتداد والتنزيل.. وهو الذي أخرج معرفة الوحي اليقينية المعصومة بالمقابل من دائرة العلم، فأدى ذلك إلى ضلال العقل وتعطيل عطاء الوحي.
لذلك نرى أن من أبجديات الفقه والاجتهاد إيقاظ العقل مناط التكليف والنظر، واسترداد عقلية الاجتهاد، والتحقق بفقه الوحي وضوابطه، وإدراك مكانته وموقعه من العقل بدقة.(1/11)
ولعل من الأمور المطلوب التأكيد عليها باستمرار، لتبقى حاضرة في الذهنية الإسلامية، لتمثل الجذوة المتقدة، والهاجس الدائم، الباعث على النمو والارتقاء، ومسوغ التقويم والمراجعة والتصويب، ومحرك التجديد والاجتهاد والتأهيل لحمل أمانة المسؤولية، ما يكاد يعتبر مسلمة من المسلمات المحسومة على مستوى الوحي، مصدر المعرفة المعصومة والعقل معًا، هي أن الرسالة الإسلامية خاتمة الرسالات السماوية، يقول تعالى: (ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين... )(الأحزاب:40)، وهذه السمة (الخاتمية)، التي تعني فيما تعني توقف خطاب السماء إلى البشر، يترتب على استيعابها والإيمان بها عدة قضايا، تأتي في مقدمتها قضية فقه الخطاب الإلهي -الوحي في الكتاب والسنة- والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس المستمر، وتقويم هذا الواقع بقيمه، والامتداد به، لأن النصوص تتناهى والحوادث لا تتناهى، فالاجتهاد والامتداد والاستمرارية من لوازم الخاتمية.
كما أن من مقتضيات الخاتمية وتوقف التصويب والتقويم لمسيرة الحياة من السماء، أن يتم التجديد والعودة إلى الينابيع الأولى في الكتاب والسنة، ونفي نوابت السوء من التقاليد والبدع والمنكرات، وإعادة معايرة الواقع بمعايير الوحي -وهو من عمل العقل المجتهد الذي يتحمل مسؤولية التجديد والتصويب والمعايرة- وعدم التقديم بين يدي الله ورسوله، والقدرة على تجريد النص من حدود الزمان والمكان وتوليده للأحكام في كل زمان ومكان.. وتحديد هذه المهمة والمسؤولية وتحملها ليس اجتهادًا وإنما نصًا يحمل إخبارًا وتكليفًا معًا.(1/12)
فقول الرسول صلى الله عليه و سلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها )(أخرجه أبو داود في الملاحم)، يحمل في طياته الإخبار بالحماية وامتداد العطاء السليم للخطاب الإلهي، حيث لا يصح عقلاً ولا شرعًا مخاطبة الناس وتكليفهم بنصوص منحولة وغير صحيحة، ومن ثم محاسبتهم على ذلك، لأنه من مقتضى المسؤولية سلامة التكليف وضمان حفظه.. كما يقتضي تكليفًا بمداومة التقويم، والمراجعة، والفحص، والاختبار للواقع، ومعايرته بالقيم المحفوظة: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحفظون )(الحجر:9)، والتطبيق المعصوم بتصويب وتسديد الوحي -فترة النبوة (القدوة)- حتى لا تحل التقاليد الاجتماعية والعادات محل التعاليم والقيم الشرعية.
وهذا التكليف يقتضي استشعار مسؤولية التجديد والاجتهاد، كما يقتضي استشعار مسؤولية التأهيل لممارسة الاجتهاد والتجديد بصفة دائمة، حتى لا يكون التوقف والاستنقاع الثقافي والحضاري.
ومن مقتضيات الخاتمية أيضًا ولوازمها الخلود.. والخلود -يعني فيما يعني- أن الرسالة الإسلامية خالدة مجردة عن قيود الزمان والمكان، وتمتلك إمكانية الهداية والإصلاح لكل زمان ومكان وإنسان.(1/13)
وبعبارة أخرى: الخلود يعني أن الرسالة الإسلامية قادرة على إنتاج النماذج القائمة على الحق في المجالات المتعددة، المجسدة لقيم الوحي على مختلف المستويات، القادرة على تقديم الحلول والأحكام الشرعية لكل المشكلات الإنسانية، ورسم المسار السليم في كل زمان ومكان لحركة الإنسان، فردًا كان أو جماعة.. وتحقيق هذا الخلود والامتداد وتوليد الأحكام للحوادث والمشكلات المستجدة، لا يكون إلا بالاجتهاد، الذي يعني إعمال العقل في نصوص الوحي لاستنباط الأحكام، لذلك يمكن القول: بأن التوقف عن الاجتهاد والعطاء وتوليد الأحكام يعني محاصرة الخلود، وتعطيل الشريعة، والسماح بامتداد (الآخر) لمعالجة مشكلاتنا، والحكم بتاريخية الرسالة الإسلامية وعدم خاتميتها وخلودها.
لذلك نرى أن توقف الاجتهاد، أو قفل باب الاجتهاد، على الرغم من أنه اجتهاد غير ملزم، فإنه مناقض لخاتمية الشريعة وخلودها وتجديد فهمها في ضوء معطيات العصر، وتخاذل عن حمل أمانة المسؤولية، والمساهمة السلبية بفصلها عن الحياة من حيث الواقع، مهما كانت دعاوانا عريضة بأن الشريعة خالدة وصالحة لكل زمان ومكان، على مستوى الشعارات، لأننا عمليًا بإغلاقنا باب الاجتهاد مهدنا للوقوع في شرك أعداء الإسلام، وحكمنا بتاريخية الإسلام، وأنه إنما جاء لمعالجة مشكلات عصر معين، انقضى ذلك العصر وانقضت معه الحلول ووسائل العلاج التي لم تعد تصلح، وأن الحياة المعاصرة تقتضي علاجًا آخر مناسبًا لها.(1/14)
وأعتقد أن مسوغات إغلاق باب الاجتهاد عند من اجتهد في ذلك، سدًا للذرائع بحجة فساد الزمان وانعدام الأهلية، والخوف من دخول الساحة من يحسن ومن لا يحسن، ومن يملك المؤهل والشروط ومن لا يملكها، هو فوق كونه اجتهادًا يلغي اجتهادًا، فإنه محل نظر من الناحية الشرعية، وحكم مسبق على الأمة المعصومة، التي أخبر عنها الصادق المصدوق أنها لا تجتمع على خطأ، بالعقم والعجز، وتعطيل للخلود -كما أسلفنا- وإلغاء للشريعة من مواقع متعددة، وكأن الله الذي أنزل الشريعة الخاتمة الخالدة، وجعل الاجتهاد من مصادر تشريعها ومن لوازم خاتميتها وخصائص خلودها، لا يعرف تقلب الزمان والمكان وفساد العصور -والعياذ بالله!!- وكأننا هنا بإغلاق باب الاجتهاد نساهم بشكل سلبي في إلغاء الخاتمية ومحاصرة الخلود باجتهاد ظني، وقد قال تعالى: (وخاتم النبيين )، ونوقف عمليات التجديد والتصويب، ونؤذن بعودة الجاهلية، ودخلوها الساحة من جديد بخروجنا منها، بذرائع غير مقنعة وحالات استثنائية نعممها على الزمان والمكان.
أما ذريعة أن فتح باب الاجتهاد سوف يسمح بممارسة الاجتهاد لمن يحسنه ومن لا يحسنه -وهذا أمر طبيعي في كل المجالات- فالقضية محل نظر، حيث لا يستطيع أحد أن يملك توقيف عقول الناس وحجرها ومنعها من النظر والاجتهاد الفقهي والفكري ،لأن العقل سوف يواجه مشكلات لا بد أن يتعامل معها بصورة من صور التعامل.(1/15)
ومن ناحية أخرى، فإن إغلاق باب الاجتهاد منعًا لذريعة الفساد والعبث، لم يمنع من الاجتهاد وتوليد الأحكام وخاصة في مجال الفتاوى السياسية، أو فقه السلطان، وتفصيلها على الأحوال السياسية المتناقضة والرغبات والأهواء المتقلبة، حتى أصبحت أشبه بما يسمى: (فتاوى تحت الطلب)، بحيث أصبح الكثير ممن يمارس مثل هذا النوع من الاجتهاد والفتوى، يحاول أن يتعرف قبل أن يتورط عن رغبة السلطان، ليتم تفصيل الفتوى على المقاس المطلوب.. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.
إن مجال الاجتهاد مثل سائر المجالات يدخله الغث والسمين، والمؤهل ومدعي التأهيل، لكن الكثير من الاجتهادات سوف تطرد من الساحة ولا يكتب لها الصمود والبقاء والتطبيق لتهافتها وسقوطها.. فوعي الأمة وعصمتها كفيل بإسقاط كل فتوى واجتهاد لا تصيب الصواب ولا يتحقق صاحبها بالعلم والصلاح.. ولا تتلقى الأمة إلا عن أهل الثقة والخبرة، فكم من العبث تاريخيًا مورس على الأحكام الإسلامية ولم يكتب له الحياة والاستمرار.. فالله يحمي دينه ويحفظه، ويهيئ من يدفع عنه، ويوفق ويكتب القبول لمن ينصره.
لذلك أعتقد أن الخوف من دخول ساحة الاجتهاد من لا يحسن ذلك مبالغ فيه جدًا، ولا يجوز أن ينتهي إلى الحكم بإغلاق باب الاجتهاد، لأن الحق والصواب قادر على هزيمة الباطل.. والشر من لوازم الخير.. والتدافع بين الحق والباطل من سنن الحياة.. ولا يصح إلا الصحيح.
فليجتهد الناس بحسب إمكاناتهم.. وإذا كان الإنسان غير مؤهل للنظر والاجتهاد فسوف يكون مرفوضًا من أهل العلم والخبرة والمجتمع بعامة، لأنه يحمل عملة رديئة مزيفة لا تشتري شيئًا.. فوعي الأمة كفيل بمحاصرة الخروج والانحراف.(1/16)
والإسلام دين حياة كامل.. والمسلم معرض بقدر علمه واستطاعته لقدر من النظر في الحل والحرمة لممارساته، بعيدًا عن الكهانات الدينية، فالقضية قضية علم يحاصر الجهل مهما ادعى الجاهل أنه عالم. ونحن هنا لا ندعو لأن يدخل الساحة من يحسن ومن لا يحسن، وإنما نقول: بأن الذي لا يحسن سوف يخرج عمليًا من الساحة لأن بضاعته مزجاة.. وبعض ما يمكن أن يترب على دخوله من مخاطر وإصابات، قد تكون مطلوبة ليأخذ الناس حذرهم، وهذه الإصابات لا يمكن أن تعادل المفاسد والإصابات الكبرى التي تترتب على إقفال باب الاجتهاد.
وناحية أخرى لا بد من التوقف عندها في هذا المجال، وهي ما تواضع عليه العلماء من أدوات الاجتهاد وشروطه المطلوب توافرها فيمن يقدم على عملية الاجتهاد.
وفي ضوء أن هذه الشروط في معظمها اجتهادية، شأنها شأن الكثير من القواعد الأصولية، وحيث إنه لم يتوفر لها إجماع يمنحها قدرًا من القطعية، لذلك تبقى باستمرار محلاً للنظر والاجتهاد، حيثما تطورت أدوات البحث.. ذلك أن بعض الشروط التي قد تبدو ضرورية في عصر له أدواته العلمية والمعرفية، قد تتراجع أهميتها وقيمتها في عصر آخر، إضافة إلى أن الأمة جميعها مخاطبة ببذل الجهد والاجتهاد لإقامة الأحكام الشرعية والتعبد لله، كل بقدر استطاعته العلمية والجسمية والمالية، وأن التشاور والحوار والمناقشة والمثاقفة والمجادلة كفيلة إلى حدٍ بعيد بتصفية الاجتهادات الواهية والمغرضة والمنحازة والمذهبية والطائفية، وهكذا، وسوف لا يمكث في الأرض إلا الصالح الذي ينفع الناس.(1/17)
ونحن هنا لا نقول بإطلاق الحبل على الغارب، وإشاعة الفوضى، وإلغاء قيمة التخصص التي نلح دائمًا على توفرها، وإنما نرى أن فتح المجال للفكر والاجتهاد المحكوم بقيم الكتاب والسنة، وعصمة عموم الأمة وغيرتها وحرصها على دينها، ومدافعة العلماء العاملين مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه و سلم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) (أخرجه البيهقي، وصححه الإمام أحمد والعلائي)، يشكل سدًا أمام العابثين، وسوف لا يحمل من المخاطر ما يحمله إغلاق باب الاجتهاد، حيث لم يغلق عمليًا إلا على أهل التقوى والصلاح والخوف، أما أولئك الذين احترفوا كسر الحواجز وتوهين القيم والعبث بتراث الأمة، وتحريف الكلم عن مواضعه والتأويل الفاسد، فلم يمنعهم شيء من علم أو دين. والواقع شاهد على ذلك، وقد تكون المشكلة أننا نرفض الكهانات في الإسلام ويمارسها بعضنا عمليًا.
ولسنا بحاجة إلى معاودة القول: بأن إغلاق باب الاجتهاد يلغي عقل الأمة ويحد من مسيرتها، ويحاصر خلود الشريعة من الامتداد بأحكامها، ويفسح المجال لامتداد (الآخر)، ويشيع من الرعب الفكري ما يشل الحركة الذهنية بشكل عام، علمًا بأن إغلاق الباب أيضًا لم يحل دون التحريف والانحراف، الذي ما كان ليكون لو ملئت الساحة بالخير والصواب، فتغييب الخير يعني الإيذان بحضور الشر.(1/18)
وقد يكون من المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، وقد حصل من التقدم في مجال الاتصالات ووسائلها ما لم يخطر على البال حتى في عصر الخيال العلمي، لدرجة أن الإنسان أصبح يرى ويسمع العالم من مكانه، كما حصلت ثورة معلوماتية هائلة وتطور في أدوات ووسائل الحصول على المعلومة وحفظها واسترجاعها، إضافة إلى عمليات التصنيف والأرشفة التي تجعل الإنسان في الصورة المحيطة لكل ما يريد، قد يكون المطلوب إعادة النظر في شروط الاجتهاد، التي اجتهد العلماء في وضعها في عصور معينة في ضوء رؤيتهم، وظروف عصرهم، وأدواتهم المعرفية، ودرجة تدوين العلوم، ووسائلهم في الحفظ، وما كان من أهمية الاعتماد على الذاكرة.
وأعتقد أن الوضع قد يكون تغير كليًا اليوم، فاللغة مدونة بمفرداتها ومعانيها ومجازاتها وقواعدها، فمعاجمها ومصطلحاتها موجودة ومسهلة لدرجة كبيرة، وأية مسألة من مسائلها ومفردة من مفرداتها يمكن الحصول عليها والوصول إليها بسهولة، والقرآن محفوظ بالصدور والسطور، وأشكال الحفظ والاستدعاء لا تحصى، وهي ما تزال تتطور يوميًا، ومؤلفات الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وأسباب النزول، وما إلى ذلك من العلوم كلها متوفرة أمام الباحث، لدرجة أنها أصبحت مكشوفة وميسرة لعموم المتعلمين، والحديث استقر ومُيّز صحيحه من ضعيفه وموضوعه; وحسنه ومتواتره، والبحوث في هذا المجال استوفت التوثيق من حيث الرواية ودرجة الحديث، وبالإمكان اليوم بضغطة (زر) الحصول على نص الحديث ودرجة صحته ومصدره في الكتب المعتمدة (كتب الصحاح)، وما على الباحث إلا النظر والدراية، وهكذا الكثير من الشروط الاجتهادية المطلوبة للاجتهاد، أفلا يقتضي ذلك كله إعادة النظر بهذه الشروط التاريخية، التي جاءت ثمرة لرؤية خاصة، في عصر معين له أدواته المعرفية وظروفه الفكرية ؟!(1/19)
وبالإمكان القول: إن هذه الشروط التي تكاد تكون مستحيلة التوفر، وإن بدا أنها تسدد الطريق إلى الصواب، فإنها ساهمت بغلق باب الاجتهاد، ولم تؤد إلى تذليل طريقه، فهي أقرب للاستحالة، والحكم على عقل الأمة بالعطالة والإلغاء منها إلى المساعدة على النمو والامتداد.
ويمكن أن نقول: بأن الإسلام أصيب ولا يزال على يد أبنائه والمنتسبين إليه أكثر من إصابته من الخارج أو من (الآخر)، بل لعلنا نحن الذين ساهمنا بسذاجة بتقوية أعداء الإسلام وتقويض الكيان الإسلامي، وحال المخلصين منا شبيه بحال الأم التي تحول بين الطبيب وابنها المريض حتى لا يتألم من تناول الدواء، فيؤدي الأمر إلى موته أو إلى استمرار مرضه.
وقضية أخرى في هذا السياق; وهي: أن التشعب المعرفي حتى في المجال والموضوع الواحد، وشيوع الاختصاص الذي أصبح سمة العصر، لم يعد يسمح، ولا يمكن معه لأي إنسان بالغًا من الذكاء ما بلغ، بالغًا من العمر ما بلغ، أن يدعي الإحاطة بكل شيء، والإجابة عن كل شيء، والاجتهاد في كل شيء.. والذي يدعي معرفة كل شيء والإجابة عن كل شيء نخشى أن نقول: (لا يعرف شيئًا)! والذي لم يؤدبه الإسلام فلتؤدبه المعرفة وأخلاقها، حتى لا يقفو ما ليس له به علم.
لذلك فإن قضية المجتهد المطلق والرجل الملحمة ولى عهدهما، وبالتالي لا بد من إعادة النظر بالشروط العامة، والتحول إلى الشروط الخاصة والمطلوبة لكل شعبة من شعب العلوم والمعارف. إضافة إلى أن إمكانية النظر الفردي تبقى' قاصرة وغير محيطة; حيث لا بد من الاجتهاد الجماعي الذي يجتمع له الخبراء المتخصصون والفقهاء المتمرسون بمعرفة الوحي، ويغيب عنه المتحمسون غير المتخصصين، لأن مجالهم آخر.(1/20)
وقد تكون الإشكالية الذهنية أو الثقافية -إن صح التعبير- أن بعض الذين يدافعون عن شروط الاجتهاد التعجيزية، ويصرون على عدم إعادة النظر فيها، بالرغم من تطور أدوات الاجتهاد، هم أنفسهم يرضون لأنفسهم أن يتطاولوا على قضايا ليست من اختصاصهم ولا حتى من اهتمامهم، ولا تتوفر فيهم أدنى شروطها، بل لعل الكثير منهم يغادر اختصاصه النوعي، من طب وصيدلة وهندسة وعلوم، الذي يمكن أن يكون في خدمة الفقه -بالمعنى العام- ليتحول إلى واعظ أو باحث أو خطيب متحمس في قضايا قد لا يختلف فيها كثيرًا عن المتلقين، الأمر الذي أثمر العجز والتخاذل والمراوحة في الموقع الواحد، والاجترار والإعادة للقضايا لأكثر من نصف قرن دون أي قدرة على المراجعة وا لتقويم، وحتى الإفادة من التجربة الذاتية.
وبالإمكان القول: إن الفقه التشريعي والفقه العبادي وكل ما يتعلق بقضايا الحلال والحرام قد استبحر وأُنْضج وقُورن وَرُجِّح وأصِّل، حتى إنه لم يدع استزادة لمستزيد، وأنه استقر واستمر.. وهذا الفقه التشريعي والعبادي هو الذي يشكل المحور الأساس للتدين والسلوك، أما فيما وراء ذلك من الفقه التربوي والسياسي والاجتماعي والدولي فيما يسمى بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، أو المعرفي بشكل عام، فهو أقرب إلى الفقه الفكري أو الرؤية الفكرية التي تكاد تتطور يوميًا بإيقاع سريع في ضوء المعطيات المعاصرة والمشكلات الاجتماعية والتربوية وإلغاء الحدود وكمية التبادل المعرفي الذي يرتكز على التجارب الميدانية التي تتعاظم وتتسع فيها معارف العقل المستهدي بالوحي، فلا نعتقد أنها بحاجة للضوابط والشروط الاجتهادية نفسها.(1/21)
لذلك ففتح باب الاجتهاد على مصراعيه اليوم، بات لا يشكل خطورة على قيم الشرع، وإنما يساهم بإطلاق العقل من قيوده الموهومة باتجاه تحقيق الرؤية الإسلامية في العلوم الاجتماعية، واستشعار أهمية التخصصات في شعب المعرفة جميعًا، وأن تحصيل هذه التخصصات التي تعتبر من الفروض الكفائية الغائبة هو دين واجتهاد فكري مثاب عليه صاحبه، وبذلك يعود الارتباط المفقود بين العلم والدين، وتنضبط المسيرة العلمية بضوابط الوحي وأهدافه، ويقبل المسلم على اكتساب المعارف، والاجتهاد في توليد الرؤى الشرعية بدافع الثواب ووازع العقيدة والدين، ويصبح خطابه في مجال اختصاصه مقنعًا ومسموعًا.
في ضوء هذه الرؤية لقضية الاجتهاد، ومجالاته، وأبعاده، وأهدافه التي تقتضي إعادة النظر في الشروط الاجتهادية والأدوات المطلوبة، التي قدمها العلم للمجتهد، يمكن إعادة النظر أيضًا في مناهج وشروط بناء الملكة الفقهية، أو ملكة الاجتهاد، حيث لا بد أن يسبق الفكرُ الفعلَ، والنيةُ العملَ. فما هي المجالات التي سوف نرتادها ونجتهد فيها، وما هي الأهداف التي نريد تحقيقها، وما هي الكيفية التي نتوصل بها إلى تحقيق الأهداف، وما الشروط والمعارف المطلوب توفيرها للفقيه المفكر في كل اختصاص، إلى جانب الشروط العامة المطلوبة لشعب المعرفة جميعًا ؟؟
ذلك أنه من المؤلم والمحزن حقًا أن الدراسات الفقهية والشرعية بشكل عام تعاني، لأنها تخرج حفظة وحملة فقه في الأعم الغالب، ولا تخرج فقهاء.. تخرج نقلة يمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين، ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يربون العقل وينمون التفكير.. تخرج من لا يستطيعون تجاوز المثال الذي أتى به الأقدمون، إلى تنزيل القاعدة على واقع جديد، أو توليد حتى مثال معاصر غير القديم.(1/22)
وليست الدراسات العليا في معظمها -والأصل فيها أنها قائمة على البحث والدراسة والمقارنة والتقويم والترجيح- بأحسن حالاً، لأنها امتداد لعقلية النقل والشحن والتفريغ، بعيدًا عن الإبداع والتفكير والابتكار.
فالناظر إلى الكثير من رسائل وبحوث الماجستير والدكتوراة في الجامعات الشرعية الإسلامية بشكل عام، يجد أطنانًا من الورق، يعظم كمها ويتضاءل كيفها، لم تحرك ساكنًا، ولم تحقق رؤية تغير من واقع الأمة، وإن كانت ترتقي بالمواقع المادية وأحيانًا الاجتماعية لأصحابها، الذين أصبحوا حملة الألقاب العلمية! هذا إن لم تكن في بعض الأحيان وسيلة توبيخ مستمرة لحملتها.. ويكفي استعراض الكثير من العناوين والمضامين لهذه الرسائل التي قد تبلغ عشرات الألوف للدلالة على عقل الأمة وحالها.. فإذا كنا لا نستطيع تجاوز المثال بعد، ولا نمتلك إمكانية التقويم الثقافي والفقهي، فكيف تبني مؤسساتنا ومناهجنا ملكات فقهية ?! وهذا لا يعني بالطبع عدم وجود إبداعات أو إضاءات وفتاوى أنارت للأمة الطريق واحتفظت بالأمل.
لذلك فمشكلة المعاهد الشرعية، ودورها في تخريج الفقهاء والعلماء، والمساهمة في تنمية وبناء الملكة الفقهية، ذات أبعاد متعددة ومثيرة ليس أقلها ما تعانيه من غربة الزمان والمكان، وذلك على أهمية دورها التاريخي في حفظ العلم الشرعي ونقله، والحفاظ على الهوية والأصالة، بكل مقوماتها، والاحتفاظ بالأمة، والآمال المعقودة عليها.(1/23)
فقد انتهت إلى حالة لم تستطع معها أن تفكر في تطوير مناهجها وخططها لتواكب مستجدات العصر، بحيث تستطيع أن تؤهل الطالب للتعامل والاجتهاد في قضايا عصره، من خلال رؤىة ومرجعية شرعية متينة، بل بقيت مقتصرة على الطريقة القديمة ذاتها بمناهجها وموادها التعليمية، وقد تستهلك وقت الطالب وعقله في شرح المختصرات واختصار الشروح والمطولات، وحفظ الأراجيز، وبذل الجهد الذهني الكبير في فك رموز العبارات ومستغلقاتها، وصرف الجهود على قضايا لم تبق لها سوى القيمة التاريخية إن بقيت، وعدم ملاحظة -أثناء العملية التعليمية- نمو مدارك الطالب وتطور ملكاته وتوافق المعلومة مع إمكاناته العقلية وحاجاته العملية، واعتماد طريق التلقين والتلقي بعيدًا عن التفكير والمشاركة، بل لعل المنافسة والمشاركة والمقارنة الفقهية تشكل سببًا في نبذ الطالب وتأنيبه.
وعلى العموم، فقد بقيت طرائق التعليم وأساليبه ومعلوماته تدور في هوامش عقل المؤلف أو الشيخ، ونظراته الفقهية ومذهبه، أي أن الحركة التعليمية كل مدارها عقل آخر لا يجوز أن يُخرج عنه، لذلك فهي في أحسن الأحوال تنتج نسخًا مكررة مقلدة يمكن أن تغني عنها النسخ الأصلية.. وغالبًا ما يسود العملية التعليمية في معاهد التعليم الشرعي الاستغراق في الفروع والمسائل الجزئية، بعيدًا عن تكوين المنهج وتشكيل النظرة الكلية وبناء الملكة الفقهية القادرة على النظر، على الرغم من أن بعض أسماء هذه المعاهد: (كليات)، لكنها تفتقر إلى النظرة الكلية والرؤية المنهجية.(1/24)
إضافة إلى أن بعض الدارسين في هذه المعاهد يعاني من غربة المكان، فأقل ما يمكن أن يقال: إنه لم يؤهل لعصره، ولم يسلم مفاتيح التعامل مع الواقع من الناحية الشرعية.. فقد يحمل الفقه المكتوب ويحفظ متونه، لكنه لا يفقه شيئًا عن الواقع، فهو خارج المجتمع الذي يعيش فيه.. وجهله لمشكلاته وقضاياه ومداخله وثقافته قد يجعل مداخلته ساذجة وسطحية في كثير من الأحيان، ويجعل خطابه (صيحة في واد).. حتى العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تشكل الرؤية المطلوبة ودليل العمل للوصول إلى الأمة وتوصيل رسالة الإسلام لها، قد لا تشعر بعض المعاهد بأهميتها! ذلك أن أمر استيعابها وتدريسها قد يحتاج إلى جهود، وترافقه احتمالات الخطأ، وهذه مشكلات لا تحتاجها عمليات التعليم القائمة على الشحن من كتب السابقين والتفريغ على رؤوس المعاصرين.
وقد أدت هذه الغربة عمليًا إلى لون من الانشطار الثقافي، وخروج بعض معاهد العلم الشرعي من قلب المجتمعات لتعيش على هوامشها غير الفاعلة، وساهم إلى حدٍ بعيد بتدعيم مؤسسات التعليم الذي يصطلح على تسميته بالتعليم المدني، الذي أبصر المجتمع وخطط لاحتلاله، وهيأ الطالب لوظائفه ومسؤولياته، الأمر الذي انعكس بدوره أيضًا على مدخلات المعاهد الشرعية، حيث أصبح لا يُقبِل عليها في غالب الحال إلا أصحاب المعدلات المتدنية، الذين لم يجدوا مكانًا لهم في مؤسسات التعليم المدني، إلا من رحم الله من المتميزين القادرين على اجتياز العقبة وإدراك أهمية الفقه في الدين، وإبصار عاقبة الأمور، على الرغم من أنه قد يصاب هؤلاء مع الأسف ببعض النماذج من القائمين على أمر التعليم الشرعي دون مؤهلات صحيحة فيسيئون إلى تطلعاتهم، ويحبطون عقولهم، ويقتلون طموحهم، ويساهمون بعجزهم وتفتيت معارفهم، وبعثرة قدراتهم، والقضاء على ملكاتهم. وبذلك تصبح مخرجات المعاهد الشرعية (ضغثًا على إباله)، كما يقول المثل.(1/25)
وهذا الكتاب، يتناول موضوعًا، أو يطرح قضية على غاية من الأهمية، ويفتح ملفها، ويستدعيها للبحث والمناقشة والدرس بعد أن كادت تغيب عن الذهنية الإسلامية المعاصرة بشكل عام، ومعاهد التعليم الشرعي الإسلامي -محاضنها الطبيعية- بشكل خاص، في هذه الحقبة الثقافية التي بدأ يكثر فيها المتحمسون ويقل فيها الفقهاء والخبراء المتخصصون.
وهو محاولة، استعرضت وجهات النظر المتعددة، منهجيًا ومذهبيًا، ولغويًا واصطلاحيًا، في تعريف الملكة الفقهية، وكيفية تنميتها، ورعايتها، وإعادة بنائها.. ولعل الإشكالية أنه على الرغم من الانفجار المعرفي والثورة المعلوماتية، وتدفق المعلومة وسرعة الحصول عليها وحفظها واسترجاعها، والتقدم بأدوات ومناهج البحث، فإن استقراء الواقع العلمي والعملي لا يشير إلى أن الإنتاج الفقهي والظهور كان بمستوى تلك الأدوات ولا بموازاتها، الأمر الذي يشكل إدانة لوسائلنا ومؤسساتنا التعليمية، ويؤكد الخلل في مناهجنا وطرائقنا التربوية.(1/26)
لذلك فإن هذه القضية التي أعاد الباحث -جزاه الله خيرًا- فتح ملفها، ما تزال تستدعي مزيدًا من التوسع والنظر والنقد والتقويم لشروط الاجتهاد وأدواته، بعد هذا التطور الرهيب في تصنيف العلوم بحسب موضوعاتها، وتقدم وسائل الحفظ والاسترجاع، لإحياء قدرات الأمة وشحذ فاعليتها وبعث روح التفكير والاجتهاد، والتدريب عليه، ليصبح مناخًا ثقافيًا يعيد حراك الأمة، وينفخ فيها روح الحياة، ويحقق المعاصرة لمؤسساتها، ويسترد العطاء العلمي الإسلامي، الذي يطلق العقل للاجتهاد والنظر في ضوء هدايات ومعارف الوحي، ويفك قيود العزلة، ويلغي حواجز الاغتراب، ويعيد للفقه مفهومه الشمولي لشعب المعرفة جميعًا، ويساهم في بناء الملكة القادرة على النظر في العواقب والمآلات، استجابة لدعاء الرسول صلى الله عليه و سلم لابن عباس الذي يشكل حافزًا لكل مسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) (أخرجه أحمد)، ونزوعًا إلى استرداد خيرية الأمة التي تكتسبها بسبب فقهها في الدين: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ) (أخرجه البخاري)، واستنفارها لتحصيل الاختصاص، وإشاعة إحياء الفروض الكفائية، وربط مسيرة العلم وضبط وجهته بالإيمان، لتقلع الأمة من جديد.
والله المستعان.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.(1/27)
وبعد.. فإن تكوين الملكة الفقهية لدى الدارسين للفقه الإسلامي من الموضوعات المهمة في تدريس علم الفقه، لأنه الهدف الأساس من ذلك التدريس، ولأن الفقهاء ذوي الملكات الفقهية الراسخة هم غرس الله الذين يغرسهم في الأمة الإسلامية لضبط مسيرتها ووضع السياسات العامة التي توجه طريقها في الحياة. وقد أصبحت عودة هؤلاء الفقهاء مما يشغل بال قادة الفكر والتربية والدعوة الإسلامية في هذا العصر، لما ينتظر هؤلاء الفقهاء من دور كبير في نهضة الأمة الإسلامية واستئناف الحياة الإسلامية في المجتمع، هذا بالإضافة لترشيد الصحوة الإسلامية، وترشيد المؤسسات المالية الإسلامية من مصارف وشركات تأمين، والتي يزيد عددها على مائتي مؤسسة.
ومما يزيد هذا الموضوع أهمية أن مؤتمر (علم الفقه الإسلامي في الجامعات.. الواقع والطموح)، الذي دعت إليه جامعة الزرقاء الأهلية في الأردن، بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي وجمعية الدراسات والبحوث الإسلامية، في ربيع الآخر 1420هـ الموافق آب/أغسطس 1999م، جعل هذا الموضوع ضمن المحور الأول من محاور المؤتمر، حيث نص على: (إيجاد الملكة الفقهية الاجتهادية القادرة على التوصل للأحكام الشرعية ومواجهة المستجدات والنوازل التي لم تكن من قبل).
فما حقيقة هذه الملكة ? وما مقومات تكوينها لدى الفقيه ? وكيف نعمل على رعايتها وتقويتها وترسيخها ? للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها كتبت هذا البحث وسميته: (تكوين الملكة الفقهية).
وقد اعتمدت في إعداد هذا البحث على كتب ومراجع أصيلة في الفقه وأصوله وكتب العلوم الشرعية وطريقة تدريسها، وغير ذلك مما له علاقة بموضوع البحث.
وقسمت البحث إلى ثلاثة فصول وخاتمة، وهي:
الفصل الأول: حقيقة الملكة الفقهية.
الفصل الثاني: مقومات الملكة الفقهية.
الفصل الثالث: رعاية الملكة الفقهية.
الخاتمة: لخصت فيها أهم نتائج البحث.(1/28)
والله أسأل أن يتقبل مني هذا الجهد المتواضع، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وهو سبحانه ولي التوفيق، عليه توكلت وإليه أنيب.
الفصل الأول
حقيقة الملكة الفقهية
قبل تحديد المقومات التي تتكون منها الملكة الفقهية، لا بد من بيان معنى الملكة الفقهية، والألفاظ ذات الصلة بها، وأنواعها، والحكم التكليفي لتكوينها، وفضلها، وأهميتها، لأن بيان هذه الأمور يعين الباحث على تحديد مكوناتها. ولذا سيشتمل هذا الفصل على المباحث التالية:
1- معنى الملكة الفقهية والألفاظ ذات الصلة.
2- أنواع الملكة الفقهية.
3- الحكم التكليفي لتكوين الملكة الفقهية وفضلها وأهميتها.
وفيما يلي بيان تلك المباحث:
المبحث الأول: معنى الملكة الفقهية والألفاظ ذات الصلة.
يشتمل هذا المبحث على مطلبين، الأول: في معنى الملكة الفقهية، والثاني: في الألفاظ ذات الصلة.
المطلب الأول: معنى الملكة الفقهية:
قبل بيان معنى الملكة الفقهية باعتبارها لقبًا على صفة معينة، لا بد من بيان جزأيها اللذين تركبت منهما، وهما (الملكة) و(الفقهية)، لأن معناها اللقبي ليس بمعزل عن معاني ما تركبت منه.
أولاً: تعريف الملكة الفقهية باعتبارها مركبًا إضافيًا:
1- تعريف الملكة:
الملكة في اللغة: مأخوذة من ملك، وهو -كما قال ابن فارس- أصل صحيح يدل على قوة في الشيء وصحة، فيقال: ملك الشيء ملكًا: حازه وانفرد بالتصرف فيه، فهو مالك.. ويقال: أملك العجين ملكًا: قوى عجنه وشده.. ويقال: هو يملك نفسه عند شهوتها: أي يقدر على حبسها.. وهو أملك لنفسه: أي أقدر على منعها من السقوط في شهواتها(1).(1/29)
والملكة في الاصطلاح: (صفة راسخة في النفس)(2)، وبعبارة أخرى: (الهيئة الراسخة في النفس)(3)حيث تحصل في النفس هيئة بسبب فعل من الأفعال، يقال لها (كيفية) أو (حالة)، فإذا كانت تلك الهيئة سريعة الزوال سميت كيفية أو حالة، أما إذا تكررت تلك الهيئة ومارستها النفس حتى رسخت فيها، وصارت متعذرة الزوال، أصبحت ملكة: كملكة الحساب، وملكة اللغة، وملكة الكتابة وغير ذلك(4).
يظهر مما سبق أن الملكة تختص بثلاث خصائص، هي:
الخاصية الأولى : الملكة صفة في النفس، تطلق على مقابلة العدم(5). وهي تعين الشخص على سرعة البديهة في فهم الموضوع وإعطاء الحكم الخاص به، والتمييز بين المتشابهات بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر وغير ذلك.
الخاصية الثانية : الملكة صفة مكتسبة وموهوبة، تتحقق للشخص بالاكتساب والموهبة، فاكتسابها يتحقق بالإحاطة بمبادئ العلم وقواعده، كما يرى ابن خلدون، حيث قال: (إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن)(6). في حين يرى بعضهم أنها ليست مكتسبة، وإنما هي هبة موروثة لا تكتسب ولا تعلم، فمن وهبه الله ملكة الحفظ كان حافظًا، ومن وهبه الله ملكة التخيل كان شاعرًا.
والحقيقة أن الملكة تجمع بين الأمرين، فهي هبة من الله تعالى: تنمو وتزداد بالاكتساب، فقد روي عن الإمام مالك أنه قال: (ليس الفقه بكثرة المسائل ولكن الفقه نور يؤتيه الله من يشاء من خلقه)(7)، وقال الإمام مالك للإمام الشافعي وهو غلام يطلب العلم: (إن الله ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية)(8).(1/30)
الخاصية الثالثة: الملكة صفة راسخة كالنبتة التي تظهر في الأرض تنمو وتتجذر بالرعاية والعناية، وكذلك الملكة تبدأ ضعيفة، ثم تتقوى وتترسخ في النفس، فإذا ألقى المدرس على التلميذ أصول مسائل العلم وقواعده العامة حصلت له ملكة لكنها ضعيفة. فإذا توسع في الشرح وذكر الآراء المختلفة تجود ملكته وتقوى، فإذا أصبح قادرًا على إدراك العويص المستغلق، وأصبح المدرس لا يترك خفيًا إلا وضحه وفتح مغلقه وأعانه على إدراكه، فقد تهيأت لطالب العلم ملكة راسخة، يقول ابن خلدون: (اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا فشيئًا وقليلاً فقليلاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن، هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية ضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف.. فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شذا فلا يترك عويصًا ولا مهمًا ولا مغلقًا إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته...)(9).
2- تعريف الفقهية:
الفقهية قيد في الملكة لإخراج ما ليس بفقهية: كالملكة النحوية، والملكة الحسابية، والملكة الكتابية.
والفقهية في اللغة: نسبة إلى الفقه وهو مأخوذ من فقه، وهو يطلق على الفهم والعلم والفطانة(10).(1/31)
وقيل: إن الفقه مشتق من (الفقء) وهو الشق والفتح، كما ذكر ابن الأثير(11)لأن الهمزة تتعاقب مع الهاء لاتحاد مخرجهما، وقد أيد هذا الحكيم الترمذي، وقرر أن الفقه هو معرفة بواطن الأمور والوصول إلى أعماقها، فمن لم يعرف من الأمور إلا ظواهرها لا يسمى فقيهًا، حيث قال: (والفقه مشتق من تفقؤ الشيء، يقال في اللغة: فقأ الشيء إذا انفتح، وفقأ الجرح إذا انفرج عمّا اندمل، والاسم فقئ والهاء والهمزة تبدلان، تجزي إحداهما عن الأخرى، فقيل: فقيء وفقيه.. والفهم هو العارض الذي يعرض في القلب من النور، فإذا عرض انفتح بصر القلب فرأى صورة ذلك الشيء. فالانفتاح هو الفقه، والعارض هو الفهم)(12). ولا مانع من اعتبار الاشتقاقين لما في الثاني من أثر في الالتزام بالأحكام الشرعية.(1/32)
فقد بين الحكيم الترمذي أثر ذلك الاشتقاق على التزام المسلم بالأحكام الشرعية; حيث قال: (... إن الذي يؤمر بالشيء فلا يرى زين ذلك الأمر، ويُنهى عن الشيء فلا يرى شينه، هو في عمى من أمره.. فإذا رأى زين ما أمر به وشين ما نهي عنه عمل على بصيرة، وكان قلبه عليه أقوى، ونفسه به أسخى، وحمد على ذلك وشكر.. والذي يعمى عن ذلك فهو جامد القلب، كسلان الجوارح، ثقيل النفس، بطيء التصرف)(13).. وقال في موضع آخر: (... فمن فقه أسباب هذه الأمور التي أمر ونهي، بماذا أمر ونهي، ورأى زين ما أمر وبهاءه، وشين ما نهي، تعاظم ذلك عنده، وكبر في صدره شأنه، فكان أشد تسارعًا فيما أمر، وأشد هربًا وامتناعًا مما نهي.. فالفقه في الدين جند عظيم يؤيد الله تعالى به أهل اليقين، الذين عاينوا محاسن الأمور ومشاينها، ومقدار الأشياء وحسن تدبير الله عز وجل لهم من ذلك بنور يقينهم ليعبدوه على يسر.. ومن حُرِم ذلك عبده على مكابدة وعسر; لأن القلب -وإن أطاع وانقاد لأمر الله عز وجل- فالنفس إنما تخف وتنقاد إذا رأى نفع شيء أو ضرر شيء، والنفس جندها الشهوات وصاحبها محتاج إلى أضدادها من الجنود حتى يقهرها، وهي الفقه)(14).
ومما يؤيد الأخذ بالاشتقاقين أن عمل الفقيه لا يقتصر على العلم بالأحكام الفقهية وفهمها، وإنما يتعدى ذلك إلى الكشف عن علل الأحكام ومآخذها ومقاصدها، وغير ذلك مما يساعد في عملية استنباط الأحكام الشرعية، ولذلك عرف الفقه بأنه: (الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي تعلق به الحكم)(15).
والفقه في الاصطلاح: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية)(16) وزاده ابن خلدون توضيحًا حين قال: (معرفة أحكام الله في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهية والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت تلك الأحكام من الأدلة قيل لها فقه)(17).(1/33)
ولم يرتض الآمدي إطلاق الفقه على العلم. فقال: (الأشبه أن الفهم مغاير للعلم; إذ الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب، وإن لم يكن المتصف بها عالمًا، كالعامي الفطن)(18).
ولا مانع من إطلاق الفقه على العلم والفهم والفطنة، والكشف عن المعاني الخفية.. والفقيه هو من اتصف بعلم الفقه أو بالاجتهاد، وعرفه البغدادي بأنه: (الضابط لما روى، الفاهم للمعاني، المحسن لرد ما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة)(19).
ثانيًا: تعريف الملكة الفقهية باعتبارها لقبًا:
الملكة الفقهية: (صفة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها)(20).. وعرفها ابن النجار الفتوحي بقوله: (أن يكون الفقه عنده سجية وقوة يقتدر بها على التصرف بالجمع والتفريق والترتيب والتصحيح والإفساد)، ثم قال: (فإن ذلك ملاك الفقه)(21).. وقد فصل القول فيها بعض المعاصرين حينما قال: (القدرة على النظر في الأدلة، وكيفية استنباط الأحكام منها، حتى لا تكاد تعرض عليه حادثة من الحوادث إلا أمكن أن يعطيها ما يليق بها من الأحكام، فضلاً عن أنه بعد ذلك تطمئن نفسه إلى ما يعمل به من أحكام أو يفتي به غيره، أو يقضي به بين الناس، إذ لا يقدم على ذلك إلا وهو يعلم الدليل على ما أقدم عليه)(22).
يلاحظ على التعريف الثاني أنه غير شامل، لأنه يقتصر على تخريج الأحكام على الأصول، والترجيح بين الأقوال في المذهب. ويلاحظ على التعريف الثالث أنه شرح تفصيلي لبعض مفردات الملكة الفقهية.. وأما التعريف الأول فهو غير شامل لجميع مفردات الملكة الفقهية، لأنه يقتصر على استنباط الأحكام من الأدلة.
وأما مفردات الملكة الفقهية فهي:
1- فقه النفس: وهي صفة في النفس جبلية تحقق لصاحبها شدة الفهم لمقاصد الكلام(23)، كالتفريق بين المنطوق والمفهوم، قال السيوطي: (وفقه النفس لا بد منه، وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب)(24).(1/34)
2- القدرة على استحضار الأحكام الشرعية العملية في مظانها الفقهية، وذلك بالإحاطة بمبادئ الفقه وقواعده والوقوف على مسائله، قال ابن خلدون: (الملكة: الإحاطة بمبادئ العلم وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله)(25).
3- القدرة على استنباط الأحكام العملية من الأدلة التفصيلية، وهي صفة مكتسبة تحصل في النفس بالتضلع بالعلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية وغير ذلك مما هو ضروري للاجتهاد.
4- القدرة على تخريج الفروع على الأصول وتخريج الفروع من الفروع، والترجيح في المذهب.
5- القدرة على الترجيح إذا اختلف الفقهاء في مسألة من المسائل، لأن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، فهذه صفة الفقهاء الراسخين في الفقه كما ذكر أبو يوسف(26).
6- القدرة على التعبير عن مقصود الفقه، ودفع الشبهات الواردة عليه، قال ابن الأزرق: (الشروط الدالة على حصول الملكة في العلم: المعرفة بحصول أي علم كان، وما بني عليه ذلك العلم، وما يلزم عنه، والقدرة على التعبير عن مقصوده، والقدرة على دفع الشبه الواردة عليه فيه)(27).
وبناء على ما سبق يمكن وضع تعريف للملكة الفقهية، وهو أنها: (صفة راسخة في النفس، تحقق الفهم لمقاصد الكلام الذي يسهم في التمكن من إعطاء الحكم الشرعي للقضية المطروحة، إما برده إلى مظانه في مخزون الفقه، أو بالاستنباط من الأدلة الشرعية أو القواعد الكلية).
المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بالملكة الفقهية:
من الألفاظ ذات الصلة بالملكة الفقهية: البصيرة، والحكمة، والاجتهاد.
1- البصيرة:
البصيرة لغة: من بصر وهو العلم بالشيء، ويقال: بصرت بالشيء بصرًا علمت. ويقال: هو بصير به، وجمع بصيرة بصائر(28).(1/35)
والبصيرة في الاصطلاح: (قوة للقلب المنوَّر بنور القدس، يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها)، فهي بمثابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهرها(29). وبعبارة موجزة هي: (قوة القلب المدركة)(30) وعرفها العسكري بأنها: (تكامل العلم والمعرفة بالشيء)(31).
فالبصيرة تأتي بمعنى الملكة العلمية، فهي أعم من الملكة الفقهية. وقد أشار القرآن إلى ذلك، قال تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ )(الأنعام:104).
2- الحكمة:
الحكمة لغة: من الحكم وهو المنع. سميت الحكمة بذلك، لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال(32).
والحكمة في الاصطلاح: تطلق على عدة معان منها: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقرآن، والإنجيل، والسنة، والفقه بالدين، والعمل به(33). وقد رجح الإمام مالك أن الحكمة هي الفقه في الدين، حيث قال: (الذي يقع في قلبي أن الحكمة هي الفقه، ومما يتبين ذلك أن الرجل تجده عاقلاً في أمر الدنيا ذا نظر فيها وبصر بها ولا علم له بدينه، وتجد آخر ضعيفًا في أمر الدنيا عالمًا بأمر دينه بصيرًا به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة الفقه في دين الله)(34).
والفقه في الدين هو معرفة أسرار الأمور وفقه الأحكام، وبيان المصلحة فيها، والطريق إلى العمل بها، وهو يبعث على العمل والالتزام، كما أن العمل يوصل إلى الفقه في الدين، أو طرق الاستدلال، ومعرفة الحقائق ببراهينها، وهي طريقة القرآن(35).
فالحكمة تأتي بمعنى الملكة الفقهية، لأنها تنشأ عند الإنسان بأمرين، هما:
الأول: نور يقذفه الله في قلب العالم المسلم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا ) (البقرة:269).(1/36)
والثاني: بالاكتساب، ويؤيد ذلك ما روي عن عبد الله ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلمها )(36). فالحكمة تكتسب بالعلم، قال ابن مسعود: (نعم المجلس مجلس تنشر فيه الحكمة، وترجى فيه الرحمة)(37).
3- الاجتهاد:
الاجتهاد لغة: من الجهد، أصله المشقة، ثم يحمل عليه ما يقاربه، يقال: جهدت نفسي وأجهدت.. والجهد الطاقة.
والاجتهاد في الاصطلاح(38): (استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظن بحكم شرعي)(39).
فالاجتهاد الفقهي عملية عقلية، يقصد منها تحصيل الحكم الشرعي، سواء عن طريق النظر في الأدلة التفصيلية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو عن طريق النظر في نصوص إمام المذهب، فيرجح ويخرج وينقل المذهب كما قال الدهلوي: (حقيقة الاجتهاد هو استفراغ الجهد في إدراك الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة كلياتها إلى أربعة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. ويفهم من هذا أنه أعم من أن يكون استفراغًا في إدراك حكم ما سبق التكلم فيه من العلماء السابقين أولاً، وافقهم في ذلك أو خالف، ومن أن يكون ذلك بإعانة البعض في التنبيه على صور المسائل، والتنبيه على مآخذ الأحكام من الأدلة التفصيلية، أو بغير إعانة منه.. فما يظن فيمن كان موافقًا لشيخه في أكثر المسائل، لكنه يعرف لكل حكم دليلاً ويطمئن قلبه بذلك الدليل، وهو على بصيرة من أمره، أنه ليس بمجتهدٍ ظنٌ فاسد)(40).(1/37)
والاجتهاد هو معرفة الحكم الشرعي بدليله ولو كان متبعًا لغيره في الحكم، فإذا وصل الفقيه لهذه المرحلة كان ذا ملكة فقهية.. فالاجتهاد والملكة الفقهية متقاربان، ويؤيد ذلك أنه يشترط لهما أن يكون الشخص فقيه النفس بأن يكون شديد الفهم لمقاصد الكلام. ولأن الفقيه من اتصف بعلم الفقه أو بالاجتهاد، فلا يتصور فقيه غير مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق، كما أشار التفتازاني(41).
المبحث الثاني: أنواع الملكة الفقهية
إذا كان الاجتهاد مقاربًا للملكة الفقهية فيمكن أن نستخلص أنواع الملكة الفقهية من خلال قراءة متأنية في طبقات المجتهدين ومراتبهم(1). وفيما يلي بيان لتلك الأنواع.
أولاً: ملكة تقرير القواعد الأصولية والاستنباط الفقهي المستقل:
وهي تتحقق في الفقيه الذي يستقل بإدراك الأحكام الفقهية من الأدلة الشرعية من غير تقليد لغيره في الغالب، لا في الأصول ولا في الفروع، كعلماء الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط الفروع.. ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية(2):
1- كونه فقيه النفس، ليتسنى له استنباط الأحكام الشرعية.
2- التصرف في الأصول التي يبني عليها اجتهاداته الفقهية بتقرير قواعد للاستنباط خاصة به، فلا يقلد فيها غيره.
3- النظر في الآيات والأحاديث والآثار لاستنباط الأحكام للفروع الفقهية، ولو كان مسبوقًا فيها، فينظر في الأدلة المتعارضة، ويختار بعضها على بعض، وينبه على مآخذ الأحكام في تلك الأدلة.
4- القدرة على استنباط الأحكام الفقهية للقضايا المستجدة التي لم ينزل فيها نص شرعي، فيقيس الأشباه بالأشباه منها والنظائر بالنظائر.(1/38)
5- القدرة على إنزال الأحكام المجردة في النصوص الشرعية على الوقائع الحياتية التي تحدث للناس، وهو يتطلب دراسة الواقعة المعروضة دراسة وافية تشتمل على تحليل دقيق لعناصرها وظروفها وملابساتها، زمانًا ومكانًا، كما يتطلب النظر في مآلات الأفعال المتوقعة; لأن النظر إلى نتائج التطبيق ومآلاته أصل معتبر مقصود شرعًا كما قرر الإمام الشاطبي(3).
ثانيًا: ملكة الاستنباط الفقهي المبني على أصول الغير:
وهي تتحقق في الفقيه القادر على استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية بناء على قواعد الاستنباط التي قررها إمامه. وقد تكون اجتهاداته موافقة لاجتهادات إمامه، وقد تكون مخالفة لها، ومن هؤلاء الفقهاء: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري (182هـ)، وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني (189هـ) من الحنفية، وعبد الرحمن بن القاسم (126هـ)، وأشهب بن عبد العزيز القيسي العامري (204هـ) من المالكية، وإسماعيل بن يحيى المزني (264هـ)، والربيع بن سليمان المرادي (270هـ) من الشافعية، وأبو بكر أحمد بن محمد الخلال (311هـ) من الحنابلة.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- كونه فقيه النفس.
2- القدرة على النظر في كتاب الله والسنة والإجماع والقياس.
3- القدرة على استنباط الأحكام للمستجدات الفقهية.
4- اتباع إمامه في الأصول.
5- التمكن من تنزيل الأحكام على الواقع.
ثالثًا: ملكة التخريج الفقهي:
وهي تتحقق في الفقيه المتمكن من تخريج الوجوه الفقهية على قواعد إمامه الكلية ونصوصه الفرعية.. فهو متمكن من إلحاق الفروع بالقواعد الكلية، وإلحاق الشبيه بالشبيه من الفروع، والتمييز بين المتشابهات بإبداء الفروق والموانع. وهو يحيط بقواعد الاستنباط في المذهب، ويعرف تقييدات مطلقات المذهب، ومخصصات عمومه، ويدرك مآخذ الأحكام التي نص عليها الإمام، ويعرف عللها ومعانيها.(1/39)
ومن هؤلاء الفقهاء: الحسن بن زياد اللؤلؤي (ت 204هـ) من الحنفية، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن (ابن أبي زيد) القيرواني المالكي (386هـ)، ومحمد بن نصر المروزي (294هـ) الشافعي، والقاضي أبو يعلى محمد بن الحسين (458هـ) الحنبلي.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- كونه فقيه النفس.
2- القدرة على معرفة أدلة الأحكام التي نص عليها الإمام، ومعرفة تقييدات مطلقاتها، ومخصصات عمومياتها، ومآخذ الأحكام وعللها ومعانيها ومقاصدها.
3- القدرة على تخريج الأحكام على قواعد الإمام وفروعه.
4- معرفة أصول الاستنباط في المذهب.
5- حفظ أقوال الإمام وأصحابه.
رابعًا: ملكة الترجيح في المذهب:
وهي تتحقق في الفقيه المتمكن من الترجيح بين أقوال الإمام وبعض أصحابه، فيقررها ويرجح قولاً على قول آخر، ويميز أصح الأقوال من غيرها ويرتبها، ويحررها، ويكتب المؤلفات والتصانيف فيها، ويستند في ذلك إلى معرفة أدلة الأحكام ومرجحاتها، وأصول الإمام، ومعرفة علل الأحكام المنصوص عليها في المذهب ومآخذها.
ومن هؤلاء الفقهاء: أبو الحسن بن أبي بكر القدوري (428هـ) من الحنفية، وأبو الوليد محمد بن رشد القرطبي، الجد (ت 520هـ) من المالكية، وإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني (478هـ) من الشافعية، وعمر بن الحسين الخرقي (334هـ) من الحنابلة.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- كونه فقيه النفس.
2- حفظ أقوال الإمام وأصحابه.
3- الإلمام بقواعد الاستنباط في المذهب.
4- إدراك علل الأحكام ومآخذها.
5- القدرة على الترجيح بين الأقوال في المذهب.
خامسًا: ملكة استحضار المذهب (القول المعتمد):(1/40)
وهي تتحقق في الفقيه بالتمكن من حفظ الأقوال المعتمدة في المذهب، وذلك بفهم واضحات المسائل ومشكلاتها، ومعرفة تقييدات المطلقات، ومخصصات عمومات الأحكام، ولكنه لم يدرك مدارك إمام المذهب ومستنداته في فروعه الفقهية إدراكًا متقنًا، بل سمعها من حيث الجملة من غيره من الفقهاء.
فإذا عرضت له واقعة لا يوجد فيها نص، لا يستطيع أن يخرجها على نصوص إمامه إلا إذا كانت واضحة الشبه بالمسألة المنصوص عليها، بحيث يدرك وجه الشبه بالبداهة من غير جهد، وذلك لأن إدراك الشبه الخفي يحتاج إلى الإحاطة بمدارك إمام المذهب ومآخذ الأحكام.
ومن هؤلاء الفقهاء: عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي (710هـ) الحنفي صاحب كنز الدقائق، وخليل بن إسحق (776هـ) المالكي صاحب مختصر خليل، وإبراهيم بن يوسف الشيرازي (467هـ) الشافعي، صاحب المهذب، وموسى بن أحمد المقدسي الحجاوي (968هـ) الحنبلي صاحب الإقناع.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- كونه فقيه النفس.
2- حفظ المعتمد في المذهب وعدم نقل الأقوال المردودة.
3- معرفة تقييدات المطلقات وتخصيص العمومات.
4- تصنيف الكتب التي تعبر عن المذهب وصياغتها صياغة علمية.
سادسًا: ملكة الترجيح بين المذاهب:
وهي تتحقق في الفقيه الذي يتمكن من دراسة آراء الفقهاء في المذاهب المختلفة دراسة مقارنة، بحيث يصور المسألة تصويرًا دقيقًا، ويعرض آراء المذاهب عرضًا صحيحًا، بحيث يعتمد في تقريرها على الكتب المعتمدة في كل مذهب، ويبين أسباب اختلاف الفقهاء فيها، ويذكر الأدلة التي استند إليها كل مذهب، ثم يقوم بتمحيصها وعركها سندًا ومتنًا ودلالة، ويقارن بعضها ببعض، بهدف الوصول إلى الرأي الذي تقويه الأدلة.(1/41)
وممن قام بهذا العمل من الفقهاء: محمد بن جرير الطبري (310هـ) في كتاب اختلاف الفقهاء، وأبو عبد الله محمد بن نصر المروزي (294هـ) في كتاب اختلاف العلماء، وأبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر (318هـ) في كتاب الإشراف على مذاهب العلماء، والأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، وأبو الحسن علي ابن محمد الماوردي (450هـ) في الحاوي الكبير، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة (620هـ) في كتاب المغني، وغير ذلك.
ويختص صاحب هذه الملكة بالأمور التالية:
1- فقيه النفس.
2- القدرة على تمحيص الأدلة، سندًا ومتنًا ودلالة.
3- معرفة أسباب اختلاف الفقهاء.
4- الأمانة العلمية، بحيث ينقل الآراء الفقهية من الكتب المعتمدة في كل مذهب.
5- معرفة تقييدات المطلقات ومخصصات العمومات في جميع المذاهب.
6- معرفة وجوه الترجيح في أصول الفقه.
7- الموضوعية، بحيث يبحث في المسائل الفقهية دون أن يتعصب لرأي من الآراء.
المبحث الثالث: الحكم التكليفي لتكوين الملكة الفقهية وفضلها وأهميتها
يقصد من هذا المبحث إيجاد الدافعية لتعلم الفقه وتحصيل الملكة الفقهية، وذلك ببيان حكم تكوينها التكليفي، وفضل تحصيلها، وأهمية وجودها.. وفيما يلي بيان لهذه الأمور:
المطلب الأول: الحكم التكليفي لتكوين الملكة الفقهية:(1/42)
نص الفقهاء على أن طلب العلم الشرعي بما فيه الفقه، وتحصيل الملكة فيه، فرض كفاية إلا فيما يتعين طلبه، مثل ما هو مطلوب من المسلم لأداء ما وجب عليه: كتعلم صفة الوضوء والصلاة والصوم، وأحكام الزكاة إذا كان يملك مالاً، وأحكام المعاملات إذا كان تاجرًا، فإن تعلم هذه الأحكام يكون فرض عين، أما ما عدا ذلك من التخصص في الفقه وتكوين الملكة فيه فهو فرض كفاية، إذا قام به البعض الذي يسد حاجة المجتمع من قضاة ومفتين ومدرسين ومجتهدين، سقط الإثم عن أفراد المجتمع، وإلا لحق الإثم الجميع.. فقد ذكر ابن عابدين أن تعلم الفقه مما زاد على ما يحتاج إليه في دينه فرض كفاية(1). وقال ابن رشد: (طلب العلم والتفقه في الدين من فروض الكفاية كالجهاد)(2).. وقال الخطيب الشربيني: (ومن فروض الكفايات القيام بعلوم الشرع: كتفسير وحديث والفروع الفقهية الزائدة على ما لا بد منه)(3).. وقال ابن تيمية: (طلب العلم الشرعي فرض على الكفاية إلا فيما يتعين، مثل طلب كل واحد علم ما أمره الله به ونهاه عنه، فإن هذا فرض على الأعيان)(4).
ومما يدل على اعتبار تكوين الملكة الفقهية فرض كفاية، الأدلة التالية:
1- قال تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )(التوبة:122).
الآية تدل على وجوب تعميم التفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة، وتفقيه الناس فيه على الوجه الذي يصلح به حالهم، ويكونون به هداة لغيرهم.. وأن المتخصصين لهذا الفقه بهذه النية لا يقلون في الدرجة عند الله عن المجاهدين بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله والدفاع عن الملة والأمة، بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع فرضًا عينيًا(5).
2- وقال تعالى: (ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )(النساء:83).(1/43)
قال النووي: (الاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة; لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة، وإذا أهمل الاستنباط فات القضاء في معظم الأحكام النازلة أو بعضها)(6).
3- وروي عن ثوبان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )(7).
فسر البخاري الطائفة الظاهرة بأهل العلم من الفقهاء; لأنه أيد ذلك بذكر حديث: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله )(8).
وقد اختلف العلماء في المراد بالطائفة، فقيل: أهل العلم. وقال أحمد: أهل الحديث.. وقال النووي: (يجوز أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع من المؤمنين: منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين من أقطار الأرض)(9).
فالحديث يدل على أنه لا يجوز أن يخلو الزمان من فقهاء مجتهدين مما تحتاج لهم الأمة كما قال الإمام علي رضي الله عنه: (لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا)(10).
4- ولأنه بتكوين الملكة الفقهية دفع لحاجة المجتمع إلى الوظائف العامة من قضاء وفتيا وحسبة وتدريس وغير ذلك.
المطلب الثاني: فضل تحصيل الملكة الفقهية:
بيَّن الإسلام فضل العلماء عامة والفقهاء خاصة في عدة نصوص من القرآن والسنة، نذكر منها:
1- قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أتُوا العلم درجات )(المجادلة:11).
2- قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون )(آل عمران:79).(1/44)
3- ما روي عن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية رضي الله عنه خطيبًا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ...)(11).
4- عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: (مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضًا: فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به )(12).
فنقية بمعنى: طيبة.. وقد دل الحديث على فضل الفقه والفقيه، فالفقه كالغيث يحيي القلوب الميتة، والفقيه العامل بمنزلة الأرض الطيبة التي شربت الماء فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها(13).
5- وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (فقيه (واحد) أشد على الشيطان من ألف عابد )(14).
قال ابن العربي في فضل الفقيه الفاهم للمعاني، المحسن لرد ما اختلف فيه إلى الكتاب والسنة: (إذا كان رجل متماديًا على العمل لا يفتر، وآخر حسن الفهم والتدبر في الشريعة لما يتذكر به ويذكر، كان عمل هذا أضعاف ذلك، لأن فعله وافر ونظره صادق، يقدر بفهمه مواقع التلبيس عليه في تلبيس إبليس، فيكون عمله وافرًا مخلصًا آمنًا)(15).(1/45)
6- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: (من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سلك الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.. إن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) (16).
المطلب الثالث: أهمية وجود الملكة الفقهية:
يمكن إدراك أهمية وجود الملكة الفقهية من خلال تلمس فوائدها لكل من الفقيه والمجتمع الذي يعيش فيه.
أولاً: فوائد الملكة الفقهية للفقيه:
إن المستفيد الأول من وجود الملكة الفقهية هو الفقيه، حيث تحصل له عدة فوائد عملية منها:
1- النضوج العقلي والفكري:
إن الملكة الفقهية بما تشتمل عليه من أنواع الملكات تزيد الفقيه ذكاء في عقله وإضاءة في فكره; لأن النفس تزداد كَيَسًا بالعلوم والملكات التي توجد فيها، قال ابن خلدون: (حسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاءً في عقله وإضاءة في فكره، بكثرة الملكات الحاصلة للنفس، إذ قدمنا أن النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يُرجع إليها من الملكات، فيزدادون بذلك كَيَسًا لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية، فيظنه (أي الذكاء) العامي تفاوتًا في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك)(17).
سئل أحد المبدعين المعاصرين الغربيين، وأظنه (نيوتن)، عن سبب إبداعه فقال: (إن 97% منه يرجع إلى الجد والمثابرة في التحصيل، و3% يرجع إلى الذكاء).
2- الحذق في الفقه والتفنن فيه والاستيلاء عليه:(1/46)
إن الملكة الفقهية تجعل الفقيه حاذقًا في علم الفقه، متمكنًا منه، قادرًا على الإبداع فيه والعطاء، بالتأليف وتصوير المسائل تصويرًا دقيقًا ورد الشبهات عنه، يقول ابن خلدون: (إن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله.. ما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً)(18). وذكر الفيروزآبادي: (إن المصنفين المعتبرة تصانيفهم فريقان:
الأول: من له في العلم ملكة تامة ودربة كافية، وتجارب دقيقة، وحدس ثاقب صائب، واستحضار قريب.. وتصانيفهم عن قوة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رأي، تجمع إلى تحرير المعاني تهذيب الألفاظ، وهذه لا يستغني عنها أحد من العلماء، فإن نتائج الأفكار لا تقف عند حد، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ، وهؤلاء أحسنوا إلى الناس كما أحسن الله إليهم، زكاة لعلومهم، وإبقاء للذكر الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الأخرى.
الثاني: من له ذهن ثاقب، وعبارة طلقة، ووقعت له كتب جيدة جمة الفوائد لكنها غير رائقة في التأليف والنظم فاستخرج دررها وأحسن نضدها ونظمها.. وهذه ينتفع بها المبتدئون والمتوسطون، وهؤلاء مشكورون على ذلك محمودون)(19).
وقد مثل صديق حسن خان للفريق الأول بتصانيف العضد الإيجي، والسعد التفتازاني والجلال الدواني(20).. ويضاف إلى ذلك تصانيف شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني، فإن تصانيفهم مما ينفع العلماء عامة والفقهاء خاصة.
3- الوصول إلى آراء فقهية ناضجة:(1/47)
إن الفقيه صاحب الملكة الفقهية الراسخة يتمكن من الوصول إلى آراء فقهية ناضجة مبنية على أصول الاستنباط وعلل الأحكام ومآخذها. وقد تجلى ذلك في كثير من العلماء، مثل الإمام أبي عبد الله محمد المقري (759هـ) صاحب كتاب القواعد الفقهية، حيث يقول الدكتور محمد أبو الأجفان: (وبالملكة الفقهية الحاصلة للمقري كانت له أنظار اجتهادية تجلت في الترجيح بين الأقوال، وتوجيه الآراء، وتعليل الأحكام، والرجوع إلى المدارك الأصلية، للدعم أحيانًا وللاستنتاج أحيانًا أخرى)(21).
4- القدرة على استخراج الأحكام الخفية من الأدلة البعيدة:
إن الذي يميز الفقيه صاحب الملكة الفقهية الراسخة عن غيره من الفقهاء، القدرة على استخراج واستنباط الأحكام الخفية من الأدلة البعيدة أو غير المباشرة، كأن يستنبط الأحكام العقائدية والفقهية من الآيات التي تتعلق بقصص القرآن وغيرها مما ليس له علاقة بالعقيدة أو الفقه، قال الشهرستاني: (بأي شيء يعرف العامي أن العالم قد وصل إلى حد الاجتهاد ؟ وكذلك المجتهد نفسه من يعلم أنه استكمل شرائط الاجتهاد ؟ يظهر أن العالم يعرف ذلك من نفسه، بأن يعلم أنه أتقن آلاته كل الإتقان، ووجد له ملكة وقدرة على الاستنباط واستخراج الأحكام الخفية من الأدلة البعيدة)(22).
ومثل الشهرستاني لذلك بإمام الحرمين الجويني حينما سئل ما الدليل على أن الباري تعالى ليس له جهة ؟ فقال: (الدليل عليه قوله صلى الله عليه و سلم: (لا تفضلوني على يونس بن متى )، فخفي وجه الدلالة على الحاضرين، فقرره لهم بطريقه)(23).
وقد عقب الشهرستاني على ذلك بقوله: (فمثل هذا الاستنباط الدقيق إنما يدركه مجتهد بخلاف الأحكام الظاهرة من الأدلة القريبة، فإن ذلك يقدر عليه كل عالم، وإن لم يبلغ درجة الاجتهاد)(24).
وقد استنبط الشافعي من قوله تعالى: (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ً)(مريم:92)، أن من ملك ولده عتق عليه(25).
5- شدة الحذر في الفتوى:(1/48)
إن نظر الفقيه صاحب الملكة الفقهية الراسخة في القضية الفقهية المطروحة عليه يكون أتم وأشمل، حيث إنه عند وضع تصور لتلك القضية يضع كل الاحتمالات ويورد كل الإشكالات والمعضلات التي تتعلق بتلك القضية، ويعمل عقله في إيجاد الحلول المناسبة لتلك الإشكالات والمعضلات، وهذا مما يجعله يتوقف فيها أحيانًا، ويتردد فيها أحيانًا أخرى.
وهذه مزية في الفقيه كما يقول المناوي: (إن المجتهد كلما ازداد علمًا وتدقيقًا وكان نظره أتم انفتاحًا وتحقيقًا تكاثرت عليه الإشكالات الموجبة للتوقف لديه، وتزاحمت المعضلات بين يديه)(26).
وقد رد المناوي على من اتهم الإمام الشافعي بقلة العلم للتردد في بعض المسائل الفقهية، وذكر وجهين فيها بقوله: (وقد نقل عن بعض العلماء أنه ذكرت عنده هذه المسألة فقال: لو لم يكن للشافعي على غيره مزية ورجحان إلا بتردد أقواله لكفانا كفاية ومقنعًا، فإنه ما نشأ تردد أقواله إلا لفائض نظره ودقيق فكره لهذه الخبايا والخفايا. نعوذ بالله من حسد يعمي الأبصار والبصائر)(27).
ثانيًا: فوائد الملكة الفقهية للمجتمع:
إن عودة الفقهاء ذوي الملكات الفقهية حاجة اجتماعية ملحة، تحقق للمجتمع الاستقرار، وتمنحه القدرة على النمو ومواكبة المستجدات. وفيما يلي بعض الفوائد التي تتحقق للمجتمع الإسلامي من وجود الفقهاء ذوي الملكات الفقهية الراسخة:
1- معالجة قضايا العصر ومشكلاته ووقائعه المستجدة:
إن لكل عصر قضاياه ومشكلاته ووقائعه المتجددة التي لم يتكلم عنها الفقهاء السابقون. فلا بد من الفقهاء ذوي الملكات الفقهية الراسخة للاجتهاد في تلك القضايا والمشكلات والوقائع، وإلا أدى ذلك إلى عزل المجتمع وتجميده، ومن ثم أن يلهث المجتمع الإسلامي وراء السراب في البلاد الغربية، فيستعير منها قوانينها المخالفة لعقيدة الأمة وشريعتها، ويستورد منها حلول مشكلاتها ليطبقها كما هي على مشكلاته، فيقع في التخبط والهوان والضنك.(1/49)
إن عودة الفقهاء ذوي الملكات الفقهية حاجة اجتماعية لمواجهة الحقائق التي ظهرت في هذا العصر، وبيان الحكم الشرعي في استعمال جميع ما استحدث مثل: الاستنساخ والتلقيح الاصطناعي وغير ذلك.
2- ترشيد الصحوة الإسلامية:
لم تقف الصحوة الإسلامية المعاصرة عند حدود الدعوة الفردية وتربية الأفراد، وإنما خاضت غمار السياسة، فشاركت في الوزارة لبعض الدول المعاصرة، وعقدت عدة تحالفات مع بعض الأحزاب السياسية غير الإسلامية، وشاركت في الانتخابات النيابية والبلدية وغير ذلك.
وقد تحمس بعض المخلصين لهذه الأعمال واعتبروها من المصالح المرسلة، في حين منع فريق آخر من المخلصين بعض الأعمال السياسية واعتبروها من الأضرار التي تؤدي إلى ضياع العملية التربوية، وتناحر الطرفان إلى حد المنازعة والمشادة الكلامية والمعاداة; مما قد يترتب عليه انقسام الجماعة الواحدة إلى أقسام، ومن ثم ضياع جهود سنوات طويلة من الإعداد والتربية وهداية الناس.
فلا بد من الفقهاء ذوي الملكات الفقهية لحسم هذا الاختلاف وبيان الرأي الراجح، الذي يستند إلى النصوص الشرعية وواقع المسلمين اليوم ومصلحة الأمة الإسلامية، ويستعين هؤلاء الفقهاء في معرفة تلك المصلحة بأهل الخبرة في الشؤون السياسية، وذلك لضمان وحدة الجماعة الإسلامية وعدم تشرذمها.
3- ترشيد المؤسسات المالية الإسلامية:
ظهر في هذا العصر كثير من المؤسسات المالية الإسلامية كالمصارف الإسلامية، وشركات التأمين الإسلامية، وقد زاد عددها على المائتين. وأظهرت هذه المؤسسات العديد من القضايا الاقتصادية التي تحتاج إلى اجتهاد فقهي مثل: المرابحة للآمر بالشراء، والإجارة المنتهية بالتمليك، وبطاقات الائتمان، وغير ذلك. هذا بالإضافة إلى أن أغلب القائمين على تنفيذ الصيغ الإسلامية في تلك المؤسسات هم من خريجي كليات التجارة المعاصرة التي يغلب على مقرراتها الاقتصاد الوضعي، ويقعون في أخطاء شرعية عند التنفيذ.(1/50)
فلا بد من عودة الفقهاء ذوي الملكات الفقهية الراسخة للاجتهاد في القضايا الاقتصادية المعاصرة، ووضع المعايير الشرعية الواضحة للالتزام بها، ولا بد من مراقبة دائمة لأعمال المؤسسات الإسلامية من قبل لجان رقابة شرعية دائمة تتكون من الفقهاء العاملين المخلصين، وإلا أصبحت تلك المؤسسات الإسلامية لا تختلف كثيرًا عن المؤسسات غير الإسلامية.
4- تذليل طريق العودة لقيام المجتمع الإسلامي:
المجتمع الإسلامي يتطلع بشوق للعودة للإسلام، وهذه العودة تحتاج إلى الفقيه صاحب الملكة الفقهية القادر على تقنين الفقه الإسلامي، وتقديم النظريات والنظم الإسلامية التي نعتز بها; لتكون دستورًا هاديًا ومنقذًا للمجتمع مما يعاني من تخبط وشقاء في أنظمته وشرائعه وسائر علاقاته في ميادين الحياة المختلفة.
الفصل الثاني
مقومات الملكة الفقهية
الملكة الفقهية تحصل لطالب الفقه بوجود مقوماتها، حيث يغرسها المدرس الحاذق في نفس الطالب المستعد لذلك، وفق منهاج دراسي أصيل. وسيشتمل هذا الفصل على المباحث التالية:
1- الاستعداد العقلي والروحي والشخصي للمتفقه.
2- المدرس الحاذق والقدوة.
3- المنهاج الدراسي الأصيل.
4- الطريقة المثلى في تدريس الفقه.
المبحث الأول: الاستعداد العقلي والروحي والشخصي للمتفقه
مثّل الرسول صلى الله عليه و سلم لطالب العلم بالأرض التي تستقبل الماء، وتنبت الزرع، فإذا كانت الأرض صالحة انتفعت بالماء في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها، وكذلك طالب العلم إذا كان مستعدًا لتلقي العلم عقليًا وروحيًا وشخصيًا. وفيما يلي تفصيل ذلك الاستعداد.
المطلب الأول: الاستعداد العقلي للمتفقه:(1/51)
لا تحصل الملكة الفقهية لطالب العلم الشرعي إلا إذا كان قوي المدارك، يعرف مقتضى الكلام ومعناه، فيدرك ما إذا كان اللفظ مجردًا عن القرائن، أو أن له قرينة تصرفه عن ظاهره، سمعية كانت أو لفظية، وهو الذي عبر عنه صاحب جمع الجوامع بقوله: (فقه النفس)(1) وشرحه الجلال المحلي بقول: (شديد الفهم بالطبع لمقاصد الكلام)(2)، ووضحه الماوردي بقوله: (الفطنة والذكاء ما يصل به إلى معرفة المسكوت عنه من أمارات المنطوق، وإن قلّت فيه الفطنة والذكاء لم يصح منه الاجتهاد)(3).
وعبر عنه المحلي بالعقل. والعقل غريزة لا تتعلق بالاكتساب. وكلما كان العقل أقرب إلى حالته الطبيعية كلما انطبعت فيه الملكات، كما يعتقد ابن خلدون(4).
وقد جعل الله العقول معادن الحكمة، ومقتبس الآراء، ومستنبط الفهم، ومعقل العقل، ونور الأبصار، بها يستدل على ما أخبر به من علم الغيوب، فيها يقدرون الأعمال قبل كونها، ويعرفون عواقبها قبل وجودها، وعنها تصدر الجوارح بالفعال بأمرها، فتسارع إلى طاعتها، أو تزجرها فتمسك عن مكروهها(5).
وقد اختلف في تحديد ماهية العقل تبعًا لكثرة وظائفه، فنقل عن كل من أحمد بن حنبل والمحاسبي أنه غريزة. وروي عن المحاسبي أنه نور في القلب، وقيل: جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقًا ببدن الإنسان، وقيل: قوة للنفس الناطقة، وقيل: قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات(6).
والتحقيق -كما قال ابن الجوزي- (أن يقال: العقل ينطق بالاشتراك على أربعة معان. أحدها: الوصف الذي يفارق به الإنسان البهائم، وهو الذي استعد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية. وهو الذي أراده من قال: غريزة، وكأنه نور يقذف في القلب يستعد به لإدراك الأشياء. والثاني: ما وضع في الطباع من العلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. والثالث: علوم تستفاد من التجارب تسمى عقلاً. والرابع: أنه منتهى قوته الغريزية إلى أن يقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة)(7).(1/52)
ومن الواضح أن العقول متفاوتة في الاستعداد لتلقي العلوم، فلا بد من اختبار أعلى المستويات العقلية والذهنية لدراسة الفقه الإسلامي. فقد كانت الأمة الإسلامية توجه أبناءها الأذكياء لدراسة الفقه، أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم.
ولذلك كان على الأمة إيجاد محاضن للأذكياء وتوجيههم نحو دراسة الشريعة الإسلامية منذ المراحل الأولى للدراسة، والتركيز عليهم من الناحية الأخلاقية والعلمية ومتابعتهم حتى تحصل لهم الملكة الفقهية.
ويراعى في اختيار هؤلاء الأذكياء أن يكونوا ذوي عزائم قوية، ومواهب فطرية تتعلق بدراسة الفقه الإسلامي. ولا يكتفى في اختيارهم على شهاداتهم التي تثبت درجاتهم في المواد التي يدرسونها، بل لا بد من اختبار لقياس القدرات والإمكانات والمواهب.
وتتم متابعة هؤلاء الأذكياء وتوجيههم باحترام شخصية الطلاب، وتقوية عزيمتهم وبعثها لنيل الدرجات العليا، وتقديم الحوافز المادية والمعنوية لهم. كما ينبغي على الموجهين الابتعاد عن أساليب التحقير والتقنيط والتشديد، وغير ذلك. ولا بد من أن نخص هؤلاء الأذكياء بدروس إضافية تتلائم مع ما يمتلكون من مواهب وقدرات. يقول الشيخ عبد الحميد بن باديس في رعاية هؤلاء الأذكياء: (رأيت أن لهم الحق أن يأخذوا حظهم من التربية والتعليم على وجه يناسبهم، فأسست لهم درسًا يوم الأحد من كل أسبوع...)(8).
المطلب الثاني: الاستعداد الروحي والخلقي للمتفقه:
إذا كان العلم الشرعي نورًا يقذفه الله في قلوب المؤمنين الطائعين المخلصين، فلا بد في المتفقه أن يكون صافي النفس من أدران الدنيا وشوائبها، مخلصًا في طلب الحق والمعرفة، لا يقصد بذلك إلا وجه الله تعالى، وأن يكون عدلاً في دينه، يلتزم الطاعات ويجتنب المعاصي(9). وقد دلت على ذلك الآيات والأحاديث وآثار الصحابة والسلف الصالح.. ومن ذلك:(1/53)
1- قوله تعالى: (... ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا، وإذاً لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمًا، ولهديناهم صراطًا مستقيمًا ) (النساء:66-68).
2- قوله تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا وما يذكر إلا أولوا الألباب )(البقرة:269).
3- قوله صلى الله عليه و سلم: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين )(10).
4- وقد كان السلف الصالح لا يقدمون على درس أو مطالعة إلا إذا تطهروا، وكانوا على جانب كبير من الاستعداد الروحي حتى يكونوا أقرب إلى الله تعالى، وإذا أعوزهم البحث توجهوا إلى الله تعالى بالدعاء والذكر أن يفتح عليهم فتوح العارفين فيما لم تهيئه لهم عقليتهم الضعيفة.
5- وقد بين الشافعي رضي الله عنه أن العلم نور يقذفه الله في قلوب الطائعين ويحجبه عن العاصين، فقال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي(11)
بهذا يتبين أن الملكة الفقهية تحتاج من الفقيه إلى استعداد روحي; لأنها هبة من الله تعالى، وهبة الله تعالى لا تهدى إلى عاص، بل لا بد أن تصادف قلبًا مخلصًا ونفسًا زكية، كما قال الصنعاني: (إن الاجتهاد موهبة من الله يهبه لمن يشاء من العباد)(12).
وكانت الأوائل يختبرون المتعلم أولاً، فإن وجدوا فيه خلقًا رديئًا منعوه، لئلا يصير آلة الفساد، وإن وجدوه مهذبًا علموه، ولا يطلقونه قبل الاستكمال خوفًا على فساد دينه ودين غيره(13).
فعلى القائمين على كليات الشريعة اليوم إجراء المقابلات الشخصية للطلبة المتقدمين لدراسة العلوم الشرعية للتأكد من سلامة قلوبهم وعدم خبث طويتهم. كما ينبغي عليهم متابعة الطلبة الذين التحقوا بكليات الشريعة، ليطبقوا ما يدرسون من علوم شرعية، ويلتزموا بالإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة، ويتحلوا بالأخلاق الإسلامية الفاضلة، وينشروا العلم الذي تعلموه بين أقوامهم.(1/54)
المطلب الثالث: الاستعداد الشخصي للمتفقه:
الملكة الفقهية تحتاج من المتفقه إلى استعداد شخصي يتمثل في الجد والهمة في طلب العلم، فإن الإنسان يطير بهما إلى الدرجات الشاهقة في العلم، وأنه مهما بلغ الإنسان من درجات في العلم يبقى بحاجة إلى المزيد، فلا بد من أن يبذل الوسع في الطلب والتحصيل والتدقيق والركض في ميدان العلم والعمل، فلا يراه الناس واقفًا إلا على أبواب العلم، ولا باسطًا يديه إلا لمهمات الأمور.
فطالب الفقه يستكثر من ميراث النبوة، ويذاكره باستمرار، ويتعاهده بالحفظ لأن العلم ما ثبت في الخواطر لا ما أودع في الدفاتر. فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (إنما مثلُ صاحبِ القرآن كمثل صاحب الإبل المُعَقَّلةِ، إن عَاهَد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت )(14).
فالحديث يدل على أن من لم يتعاهد علمه ذهب عنه. فإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إن لم يتعاهد، فإن العلوم الأخرى من فقه وحديث تذهب من باب أولى بعدم التعاهد.
وطالب الفقه ينبغي له أن يبذل جهده في تقييد العلم وكتابته لأن تقييد العلم بالكتابة أمان له من الضياع. كما ينبغي عليه أن يجعل دفترًا لتقييد ما يسمع من الفوائد ويستنبطه من الزوائد; فإن العلم صيد والكتابة قيد.
وطالب الفقه ينبغي له أن يبحث عن العلم في أي مكان، ولا يقتصر على ما يتلقاه من بعض المدرسين، بل يرحل إلى من يفيده في العلم ويدرس عليه بعض العلوم الضرورية لتكوين الملكة الفقهية. فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
المبحث الثاني: المدرس الحاذق القدوة(1/55)
الأصل في تكوين الملكة الفقهية أن تتم تحت إشراف أساتذة متمكنين في علمهم، وقدوة في سلوكهم، لأن من شأن الأستاذ المرشد الأمين الناصح أن يقوم ببناء شخصية الطالب، ويعمل على تنمية عقله وتهذيب سلوكه وإعداده للتفاعل مع المجتمع وقضاياه الحية، وأن يراعي في تدريسه مرحلة الطالب، فيقصد إفهام المبتدئ تصور المسائل وأحكامها فقط، وأن يثبتها بالأدلة إن كان العلم مما يحتجُّ له عند من يستحضر المقدمات. وأما إيراد الشبه إن كانت، وحلها فإلى المتوسطين والمحققين(1).
ويعتبر ابن خلدون حصول الملكات عن طريق التلقين والمشافهة والمباشرة أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا من التلقي من الكتب; وذلك لأن التعليم صناعة، والصناعة لا بد لها من صانع ماهر، والصانع الماهر في ميدان العلم والتعلم هو المدرس الحاذق، ولذلك يقول ابن خلدون: (إن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكامًا وأقوى رسوخًا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها، والاصطلاحات أيضًا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم، حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين، فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز المصطلحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها، ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل، وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات، ويصحح معارفه وغيرها عن سواها، مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتها من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم)(2).(1/56)
كما يعتبر ابن خلدون اتصال السند في التعليم من أهم الأمور التي تعين على حذق المدرس ومهارته في التعليم لأنه تجتمع فيه خبرات السابقين، فهو يقول: (كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبر عند كل أهل أفق وجيل... ثم اعلم أن سند التعليم لهذا العهد قد كاد أن ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدول فيه، وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر، وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستجر عمرانها، وكان فيها للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة، ورسخ فيها التعليم لامتداد عصورهما وما كان فيها من الحضارة، فلما خربتا انقطع التعليم من الغرب إلا قليلاً...)(3).
ومما يعين على تكوين الملكة الفقهية عند طالب الفقه أن يقصد من الفقهاء من اشتهر بالديانة وعرف بالستر والصيانة، بأن يكون قدوة لغيره. فقد روي عن محمد بن سيرين أنه قال: (إنما العلم دين فانظروا عمن تأخذون)(4).. والمدرس القدوة هو الذي رسم نفسه بآداب العلم، من استعمال الصبر والحلم، والتواضع للطالبين، والرفق بالمتعلمين، ولين الجانب، ومداراة الصاحب، وقول الحق، والنصيحة للخلق، وغير ذلك من الأوصاف(5).
وبالرغم من اتفاق العلماء على أن العلم الشرعي لا بد له من التلقي عن الشيوخ، إلا أننا وجدنا أن مثل علي بن رضوان المصري (453هـ) الذي اشتغل بالأخذ عن الكتب مباشرة، يدعو إلى تحصيل العلم عن الكتب مباشرة، وأنها أوفق من التلقي عن الشيوخ، وألف في ذلك كتابًا(6).
ولا يسلم لا بن رضوان هذا الادعاء، وقد رد عليه كثير من العلماء مثل: الذهبي في سير أعلام النبلاء، والصفدي في الوافي، والزبيدي في شرح الإحياء.. ويمكن تلخيص ردودهم فيما يلي:(1/57)
1- إن الذي يعتمد على الكتاب لم يسلم من التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ. فهذا أبو علي ابن سينا مع حدة ذهنه وما كان عليه من الذكاء المفرط والحذق البالغ، لما اتكل على نفسه وثوقًا بذهنه، لم يسلم من التصحيفات.
ومن الأمثلة على التصحيف ما ذكره الحاكم، قال: (حدثنا أبو بكر بن إسحاق الإمام، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد ابن الوليد قال: حدثنا صفوان بن صالح، قال: حدثنا الوليد ابن مسلم قال: حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن لله تسعًا وتسعين اسمًا... وذكر فيه الأسامي وفيه: الحفيظ والمقيت ).
وقال أبو عبد الله: وهكذا أخرجه أبو بكر بن خزيمة في المأثور (المقيت)، فحدثنا أبو زكريا العنبري قال: حدثنا أبو عبد الله البوشيخي قال: حدثنا موسى بن أيوب النصيبي، قال: حدثنا الوليد بن مسلم ذكر الحديث بنحوه وقال: (الحفيظ المغيث ) ومن قال: (المقيت ) فقد صحف(7).
وقد اتخذ العلماء موقفًا من الفقهاء الذين يأخذون علمهم من الكتب لا من الشيوخ. فقال أبو زرعة: (لا يفتي الناس صحفي، ولا يقرئهم مصحفي)(8)، وكان ثور بن يزيد يقول: (لا يفتي الناسَ الصحفيون)(9).
2- إن الذي يقتصر في علمه على الكتب يفتقد عنصر الاقتداء والتأثر بأخلاق العلماء وآدابهم، وبالتالي لا يتورع عن القدح في العلماء والطعن فيهم، فقد قيل في سبب سلاطة لسان ابن حزم: إنه لا يلازم الأخذ من الشيوخ ولم يتأدب بآدابهم(10)، حتى قيل في لسانه: (كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين)(11).
3- ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف الأزمان مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ. وهذا دليل مادي ملموس يدل على بطلان ادعاء ابن صفوان.(1/58)
والحقيقة أن الاعتماد الكلي في تلقي العلم على الشيوخ لا يصح، كما أن الاعتماد الكلي في تلقي العلم على الكتب لا يصح، ولكن ينبغي لطالب العلم أن يبدأ تلقيه عن الشيوخ إلى أن يصل مرحلة الإحاطة بمبادئ العلم وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، ومن ثم فلا مانع بعد ذلك من الاطلاع بنفسه على كتب العلم; لأنه مهما اتسع وقت الشيخ لتلميذه فلن يحيط معه بأكثر من أجزاء معدودة. وقد كان ذلك شأن كثير من العلماء مثل الجويني حينما درس علم الأصول على شيخه أبي القاسم الإسفراييني حيث قال: (كنت قد علقت عليه في الأصول أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلدة)(12).
لكن يظل تلقي العلم عن الشيوخ الحاذقين في مراحل التحصيل الأولى ضروريًا للتأسيس وتكوين الملكة الفقهية.. والمتتبع للفقهاء ذوي الملكات الفقهية الراسخة يجد أنهم تتلمذوا في مراحل تأسيسهم على شيوخ حاذقين، من هؤلاء التلاميذ: أبو حامد الغزالي، تتلمذ على إمام الحرمين الجويني، والقرافي تتلمذ على العز بن عبد السلام، وابن القيم تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية... وهكذا.
فعلى طلبة علم الفقه أن يتتلمذوا على فقهاء عصرهم الموثوقين، ويطلعوا على الكتب الفقهية الموثوقة. وبذلك يكونون قد جمعوا بين الحسنين، وكان علمهم أتم وأكمل.
المبحث الثالث: المنهاج الدراسي الأصيل
من المقومات الأساسية للملكة الفقهية وجود منهاج دراسي أصيل يتلقاه المتفقه في مراحل دراسته. ويتمثل في العلوم الأساسية التي ينبغي له أن يدرسها وهي:
أولاً: معرفة القرآن وعلومه:(1/59)
القرآن الكريم هو أقوى شيء في تكوين الملكة الفقهية وبناء الأخلاق والنفوس. وهو الكتاب الخالد، الذي لم تخلق جدته ولم تبل نضارته، وهو المفتاح الرئيس لأقفال الحياة، كما قال الشاطبي: (إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملكة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه. وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه; لأنه معلوم من دين الأمة. وإذا كان كذلك، لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي نظرًا وعملاً لا اقتصارًا على أحدهما)(1).
وقد كان أكثر الصحابة الملازمين للنبي صلى الله عليه و سلم فقهاء مجتهدين; لأن طريق الفقه فهم خطاب الله وخطاب رسوله وأفعاله، وقد كانوا عارفين بذلك; لأن القرآن نزل بلغتهم وعلى أسباب عرفوها وعلى قصص كانوا فيها، فعرفوا منطوقه ومفهومه، ومنصوصه ومعقوله(2). قال الإمام الشافعي: (ليس لأحد أن يقول في شيء حلال وحرام إلا من جهة العلم.. وجهة العلم ما نص في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس على هذه الأصول)(3). وقال أيضًا: (جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع شرح السنة شرح للقرآن)(4) ثم قال: (وجميع ما حكم النبي صلى الله عليه و سلم فهو مما فهمه من القرآن)(5).
وقال الشافعي أيضًا: (ليست تنزل بأحد في الدين من نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، فإن قيل: من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة ؟ قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة; لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم وفرض علينا الأخذ بقوله)(6).(1/60)
وقد حدد الأصوليون للمجتهد أن يعرف من القرآن الكريم آيات الأحكام. وحددها الغزالي بخمسمائة آية، وحددها غيره بأكثر من ذلك. ولم يشترطوا حفظها، بل يكتفي بمعرفة مواضعها في القرآن الكريم(7). وقد اعتبروا ذلك كحد أدنى لتيسير الاجتهاد وتحصيل رتبته.
والحقيقة أنه ينبغي على المتفقه الذي يريد تحصيل الملكة الفقهية عدم الوقوف عند آيات الأحكام، بل يتعدى ذلك إلى جميع آيات القرآن، لأنها لا تخلو من فوائد تتعلق بالأحكام الشرعية، فيشتغل المتفقه بحفظ القرآن الكريم، ويتعمق في تفسيره بالاطلاع على مطولات التفاسير: كتفسير القرآن العظيم لابن كثير، وتفسير الطبري، ومفاتيح الغيب للرازي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وأحكام القرآن لابن العربي، وغيرهما; لأن المعاني المأخوذة من كتاب الله كثيرة العدد، يستخرج منها كل عالم بحسب استعداده وقدر ملكته في العلوم(8).
فالقرآن الكريم لا يخلق بكثرة النظر، وكلما نظر الإنسان فيه ازداد علمًا باستنباط أحكام جديدة. قال ابن العربي في آية: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... ) (المائدة:6)، قال بعض العلماء: إن في هذه الآية ألف مسألة، واجتمع أصحابنا بمدينة السلام فتتبعوها، فبلغوها ثلاثمائة مسألة، ولم يقدروا على أن يبلغوها الألف، وهذا التتبع إنما يليق بمن يريد معرفة طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا(9). في حين أن كتب البشر العلمية والقانونية تخلق بكثرة الرد، ويمل الإنسان من كثرة النظر فيها.(1/61)
وينبغي للمتفقه أن يقدم على قراءة التفاسير والاطلاع على علوم القرآن الكريم بما فيها الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والقراءات. فمعرفة الناسخ والمنسوخ ضرورية للفقيه لئلا يثبت المنفي وينفي المثبت، وقد جمعت الآيات المنسوخة في كتب خاصة يمكن للفقيه الرجوع إليها. ومن هذه الكتب الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس، ولأبي بكر ابن العربي، ولمكي بن أبي طالب، وغيرهم.. وأما معرفة أسباب النزول فهي ضرورية لفهم آيات القرآن الكريم، قال ابن النجار الفتوحي: (واشترط معرفة أسباب النزول ابن حمدان من أصحابنا وغيره... ليعرف المراد من ذلك وما يتعلق بها من تخصيص أو تعميم)(10). وقال ابن القيم عن الشافعي: (إنه اشترط معرفة أسباب النزول، والذي يبدو أن معرفة أسباب النزول مهمة للمجتهد، فكم من آىة يظنها الظان عامة، فإذا عرف سبب النزول أحجم وأمسك عن فتواه)(11).. وأما القراءات فهي ضرورية لمعرفة أسباب اختلاف الفقهاء ومآخذ الأحكام.
مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة المواد التالية: حفظ القرآن، وعلوم القرآن، وتفسيره، وتفسير آيات الأحكام.
ثانيًا: معرفة السنة النبوية وعلومها:
إذا كان القرآن الكريم هو الأصل الأول في بناء الملكة الفقهية، فإن السنة هي الأصل الثاني، وهي لا يستغني عنها الفقيه في فهم القرآن الكريم وشرح أحكامه وبسط أصوله وتكملة تشريعاته، كما قال النووي: (إن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات، وعلى السنن مدار أكثر الأحكام الفقهيات، فإن أكثر الآيات الفروعيات مجملات، وبيانها في السنن المحكمات، وقد اتفق الفقهاء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالمًا بالأحاديث الحكميات)(12).(1/62)
ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون )(النحل:44)، وقال تعالى: (... وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور )(الشورى:52-53)، وقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (الحشر:7)، وقوله صلى الله عليه و سلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه )(13).. وقد اتفق العلماء على ذلك واعتبروه من المعلوم من الدين بالضرورة حيث قال الشوكاني: (إن ثبوت حجية السنة المطهرة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام)(14).
هذا بالإضافة إلى أن السنة النبوية صادرة عن أفصح الخلق، ومن أوتي جوامع الكلم، فمن نظر فيها استنار قلبه ودبت فيه الحياة وقويت ملكته.
وقد حدد الأصوليون للمجتهد أن يعرف أحاديث الأحكام، المحصورة في كتب أحاديث الأحكام، ولم يشترطوا حفظها، وإنما يكتفي بمعرفة كتبها ومواضعها، بل يكفيه معرفة مواقع كل باب، فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى(15). وقد اعتبروا ذلك كحد أدنى، لتيسير الاجتهاد وتحصيل رتبته.
والحقيقة أنه ينبغي للمتفقه الذي يبغي تحصيل الملكة الفقهية عدم الاقتصار على أحاديث الأحكام، بل يتعدى ذلك إلى معرفة أكبر قدر ممكن من الأحاديث بما فيها العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب والسير وغير ذلك، فإنها لا تخلو من فوائد فقهية. فيشتغل المتفقه بحفظ الأحاديث، ويتعمق في فهمها بالاطلاع على شروح الأحاديث: كفتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني، وصحيح مسلم بشرح النووي، وغيرها.
فالاستمرار في مذاكرة الأحاديث والنظر فيها يؤدي إلى استنباط أحكام فقهية جديدة لم تكن تحصل للطالب الذي يكتفي بمذاكرة واحدة للأحاديث. قال صلى الله عليه و سلم: (فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )(16).(1/63)
وينبغي للمتفقه أن يقدم على قراءة شروح الأحاديث وعلوم الحديث بما فيها من الناسخ والمنسوخ وأسباب ورود الحديث والجرح والتعديل وغير ذلك; لأن الفقيه كلما كان عالمًا بالسنن وعلومها كان أحرى بفهم القرآن واستنباط الأحكام ممن هو جاهل بها.
ومن البدهي أن أقول: إن السنة التي لها هذه الأهمية في بناء الملكة الفقهية إنما هي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم بالطرق العلمية والأسانيد الصحيحة المعروفة عن أهل العلم.
مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة المواد التالية: حفظ الأحاديث، وعلوم الحديث، وتخريجه، وشرح أحاديث الأحكام.
ثالثاً: معرفة مواقع الإجماع في الفقه:
اشترط الأصوليون في الكفاءة العلمية للمجتهد أن يكون عالمًا بمواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلافه، ولا يلزمه حفظ جميع مسائل الإجماع، بل يكفيه عند بحث كل مسألة للإفتاء فيها أن يعلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع، لأن ذلك ممنوع شرعًا(17). والإجماع هو اتفاق علماء العصر من المجتهدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم على حكم الحادثة(18).
وقد ذكر ابن تيمية اختلاف العلماء في تضليل وتفسيق خارق الإجماع، فمنهم من قال: يضلل ويفسق، وهو مقتضى قول من قال: إن الإجماع حجة قاطعة.. وقال بعض المتكلمين: إنه حجة ظنية، فعلى هذا لا يكفر ولا يفسق(19). وقال الجويني: (فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفر، وهذا باطل قطعًا، فإن من ينكر أصل الإجماع لا يكفر. والقول في التكفير والتبرؤ ليس بالهين)(20). وقال الغزالي: (فإن قيل: هل تكفرون خارق الإجماع ؟ قلنا: لا; لأن النزاع قد كثر في أصل الإجماع لأهل الإسلام.. والفقهاء إذا أطلقوا التكفير لخارق الإجماع، أرادوا به إجماعًا يستند إلى أصل مقطوع به من نص أو خبر متواتر)(21).(1/64)
والتحقيق في المسألة -كما يظهر من كلام الغزالي- أن اتفاق العلماء على تكفير خارق الإجماع يتعلق بالمجمع عليه إذا كان معلومًا من الدين بالضرورة (أي بالبداهة) فهو كافر، كمن أنكر وجوب الصلاة والزكاة وحرمة الزنا وغير ذلك، وأما إذا أنكر المجمع عليه مما لم يكن معلومًا من الدين بالضرورة، وهو يسمى بالإجماع الظني، فلا يكفر ولا يفسق; لأن العلماء مختلفون في حجية هذا النوع من الإجماع، كما اختلفوا في وقوعه.
رابعًا: معرفة علم أصول الفقه:
اشترط الأصوليون في المجتهد أن يكون على معرفة بقواعد استنباط الأحكام الشرعية الفرعية، من الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة، من أدلتها الإجمالية، من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما يلحق بها من الأدلة المختلف فيها من الاستحسان والاستصحاب والعرف والمصلحة المرسلة وغير ذلك مما يطلق عليه علم أصول الفقه(22)، أو (المنهجية).. وقد عرفه التهانوي بأنه: (علم يتعرف منه تقرير مطلب الأحكام الشرعية العملية وطرق استنباطها وموارد حججها واستخراجها بالنظر)(23).
وقد اعتبره الرازي أهم العلوم للفقيه، حيث قال: (إن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه)(24).. واعتبره ابن جزي الآلة التي يتوصل بها للاجتهاد(25). وقال ابن الجوزي: (من الموظف على الفقيه اللازم له، طلب الوقوف على حقائق الأدلة وأوضاعها التي هي مباني قواعد الشرع، وهذا المعنى هو المعبر عنه بأصول الفقه، له طرفان: أحدهما: إثبات الأدلة على الشرائط الواجبة لها، والثاني: تحرير وجه الاستدلال بها على شرائط الصحة والاحتياط عن مكامن وجوه الزلل وعثرات الوهم عند تعارض الاحتمالات في التفاريع، وهذا الطرف هو الموسوم بالجدل)(26).(1/65)
ولكي تتحقق المعرفة بعلم أصول الفقه عند الفقيه، لا بد أن يحفظ مختصرًا من مختصرات هذا العلم المشتملة على مهمات المسائل: كمختصر المنتهى، أو جمع الجوامع، ثم يشتغل بعد ذلك بشروح هذه المختصرات، فيطلع على التنقيح والتوضيح والتلويح والمنار والتحرير وغيرها(27).
خامسًا: معرفة علوم اللغة العربية:
ينبغي لطالب العلم الشرعي معرفة علوم اللسان العربي من نحو وصرف وبيان وأدب; ليتمكن من فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية حق الفهم. فالفقيه يحتاج إلى اللغة العربية ليتمكن من استنباط الأحكام الشرعية ومعرفة مقاصد الكتاب والسنة ومعانيهما، وما كان عامًا أريد به العموم أو عامًا أريد به الخصوص، وليعرف المشترك والنص والظاهر والمترادف وغير ذلك.. يقول ابن تيمية: (إن تعلم اللغة العربية من الدين، وإنه فرض واجب لفهم مقاصد الكتاب والسنة ومراد الشارع من خطابه، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)(28).
وقال الشاطبي: (إن الشريعة عربية، وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم; لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز. فإذا فرضنا مبتدئًا في فهم العربية فهو مبتدئ في فهم الشريعة، أو متوسطًا فهو متوسط في فهم الشريعة. والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية، فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فيها حجة، كما كان فهم الصحابة وغيرهم من الفصحاء الذين فهموا القرآن حجة، فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم، وكل من قصر فهمه لم يعد حجة، ولا كان قوله فيها مقبولاً)(29).(1/66)
وقال ابن خلدون: (ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مآخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغاتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة)(30).
وقد اتفق الأصوليون على اشتراط معرفة اللغة العربية في المجتهد; لكنهم اختلفوا في القدر الذي يطلب منه على قولين:
القول الأول: ذهب كثير من الأصوليين، منهم الغزالي والزركشي، إلى أن القدر المطلوب من الفقيه هو القدر الذي يتمكن به من فهم الكتاب والسنة، فيعرف غالب المستعمل، ولا يشترط التبحر فيها، كعلم سيبويه والأصمعي والخليل بن أحمد والأخفش. قال الغزالي: (القدر الذي يفهم به كلام العرب وعادتهم في الاستعمال، إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه.. والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة، ويتعمق في التأويل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة، ويستولي به على مواقع الخطاب، ودرك حقائق المقاصد منه)(31).
والقول الثاني: ذهب الشاطبي إلى أن القدر المطلوب من الفقيه هو التبحر في هذا العلم، حيث قال: (فلا بد أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني ومن سواهم، وقد قال الجرمي: أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس من كتاب سيبويه. وفسروا ذلك بعد الاعتراف به بأنه كان صاحب حديث، وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش. والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو، فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفاتها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به، حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ والمعاني)(32).(1/67)
والحقيقة أن الفقيه الذي يريد أن يكون الفقه سجية عنده لا بد أن تكون اللغة العربية عنده ملكة، بحيث يفهم نصوص الشريعة من غير تكلف ولا توقف.
وينبغي لطالب الفقه أن يشرع بدراسة متن من متون النحو: كالألفية لابن مالك وشروحها، ثم ينتقل إلى كافية ابن الحاجب وشروحها، ومغني اللبيب وشروحه حتى تحصل له الملكة في النحو. وينبغي أن يطلع على مختصر من مختصرات المنطق ليفهم ما يورده مصنفو النحو. ثم ينتقل إلى دراسة الصرف، فيحفظ الشافية وشروحها ولامية الأفعال. ثم بعد ذلك ينتقل إلى دراسة كتب المعاني والبيان، فيحفظ متنًا من المتون وشرحه. ثم بعد ذلك يطلع على مؤلفات اللغة المشتملة على بيان المفردات كالقاموس واللسان(33).
فينبغي للجامعات التي تدرس الشريعة الإسلامية، والتي تخرج الفقهاء والمفتين والقضاة والمدرسين، أن لا تستهين بعلوم اللغة العربية، ولا يجوز الاقتصار فيها على مستوى ضعيف أو مجرد مشاركة أو إلمام، قال الشاطبي: (فالحاصل أنه لا غنى بالمجتهد في الشريعة عن بلوغ درجة الاجتهاد في كلام العرب، بحيث يصير فهم خطابها له وصفًا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب)(34).
وقال الشوكاني: (وأن يثبت له من كل فن، النحو والصرف والمعاني والبيان، من هذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرًا صحيحًا، ويستخرج منه الأحكام استخراجًا قويًا.. ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها، فقد أبعد. بل الاستكثار من الممارسة لها، والتوسع في الاطلاع على مطولاتها، مما يزيد المجتهد قوة في البحث وبصرًا في الاستخراج وبصيرة في حصول مطلوبه.. والحاصل أنه لا بد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن)(35).(1/68)
يتبين مما سبق أن الفقيه يحتاج إلى دراسة المواد التالية: النحو، والصرف، والبلاغة.
سادسًا: معرفة مقاصد الشريعة الإسلامية:
اشترط الشاطبي في الفقيه المجتهد معرفة مقاصد الشريعة الإسلامية، والإلمام بها، وأن يكون ذلك ملكة عنده، حيث قال: (إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها)(36).. والمقاصد هي: (المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حِكَمًا جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله أو مصلحة الإنسان في الدارين)(37).
وينقل السيوطي عن الغزالي: (مقاصد الشرع قبلة المجتهدين، من توجه إلى جهة منها أصاب الحق، ولهذا كان مذهب أبي بكر رضي الله عنه التسوية بين المسلمين في العطاء من غير زيادة ولا نقصان ولا تفضيل بزيادة علم ولا سابقة في الإسلام، وراجعه عمر رضي الله عنه في ذلك فقال: إنما الدنيا بلاغ وإنما فضلهم في أجورهم، فلما رجعت الخلافة إلى عمر كان يقسم على التفاوت)(38).
ومما لا شك فيه أن المقاصد تعين الفقيه على فهم نصوص الشريعة الإسلامية، وكيفية استنباط الأحكام منها، كما تعينه على الترجيح بين الأدلة المتعارضة والجمع بينها، كما تمكنه من تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع، بما فيه من ظروف زمانية ومكانية، وهو الذي يسمى (تحقيق المناط).. كما أن المقاصد تجعل من تفكير الفقيه كليًا شموليًا بحيث يستحضر مجموعة أهداف الشريعة، ويستوعب جوانب المطلب الفقهي بحيث لا يمنعه التعمق في جزئيات الفقه عن رؤية كلياته.(1/69)
وليعلم الفقيه أن هذه الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد، ومن تتبع الوقائع الكائنة من الأنبياء والقصص المحكية في كتب الله المنزلة، علم ذلك علمًا لا يشوبه شك ولا تخالطه شبهة.. ومما يزيد فهم مقاصد الشريعة، دراسة كتاب الموافقات للشاطبي، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام.
سابعًا: معرفة فروع الفقه:
اختلف الأصوليون في اشتراط معرفة فروع الفقه للمجتهد. فذهب غالبية الأصوليين إلى عدم اشتراطه; لئلا يؤدي إلى الدور; إذ كيف نشترط في المجتهد العلم بفروع الفقه وهو الذي يولدها ويستنبطها(39) ؟! وذهب أبو إسحق الاسفراييني وأبو منصور الماتريدي إلى اشتراط العلم بفروع الفقه(40). ونسبه الشوكاني إلى الغزالي، حيث قال: (واختاره الغزالي، وقال: إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته، فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان)(41).
والحقيقة أن ما نسبه الشوكاني إلى الغزالي غير صحيح; لأن نقله عن المستصفى كان مجتزأ، فقد نقل آخر قول الغزالي، ففهم كأن الغزالي يشترط ذلك. والصحيح أنه لم يشترط ذلك. وهذا نص الغزالي في المستصفى: (فأما الكلام -علم الكلام- وتفاريع الفقه فلا حاجة إليهما، وكيف يحتاج إلى تفاريع الفقه وهذه التفاريع يولدها المجتهدون، ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد ؟ فكيف تكون شرطًا في منصب الاجتهاد وتقدم الاجتهاد عليها شرط ؟ نعم، إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته، فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان، ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك. ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضًا)(42).
فإذا كان علم الفقه ليس شرطًا من شروط الاجتهاد المطلق، فإنه شرط لبقية أنواع الاجتهاد وتكوين الملكة الفقهية لدى الفقيه، ليكمل ما قد حازه من شرف العلم، ويتم له ما قد ظفر به من بلوغ الغاية، فإن الفقيه يزداد بذلك علمًا إلى علمه، وبصيرة إلى بصيرته، وقوة في الاستدلال إلى قوته.(1/70)
قال ابن حمدان: (وأما المجتهد في مذهب إمامه، فنظره في بعض نصوص إمامه وتقريرها والتصرف فيها كاجتهاد إمامه في الكتاب والسنة... ثم اعلم أن له أربع حالات، الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى ودعا إلى مذهبه وقرأ كثيرًا منه على أهله، فوجده صوابًا وأولى من غيره وأشد موافقة فيه وفي طريقه... والثانية: أن يكون مجتهدًا في مذهب إمامه مستقلاً بتقريره بالدليل، لكن لا يتعدى أصوله وقواعده مع إتقانه للفقه وأصوله وأدلة مسائل الفقه، عارفًا بالقياس ونحوه، تام الرياضة، قادرًا على التخريج والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول التي لإمامه... والحالة الثالثة: أن لا يبلغ رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريره ونصرته، يصور ويحرر ويمهد ويرجح.. والحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه...)(43).
ولا يقتصر طالب الفقه في دراسته على أبواب الفقه الموجودة في الكتب الفقهية القديمة من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية، وحدود وقصاص وأقضية وغير ذلك، وإنما يتعدى ذلك إلى دراسة أحكام القضايا المعاصرة التي تتعلق بجميع شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطبية، فيدرس المعاملات المعاصرة التي تتعلق بالمصارف الإسلامية وشركات التأمين، والقضايا الطبية المتعلقة بالتلقيح الاصطناعي والاستنساخ وغير ذلك. وقد تولى مجمع الفقه الإسلامي دراسة هذه القضايا وغيرها، وأصدر فيها قرارات وفتاوى شرعية، يمكن الرجوع إليها في مجلة مجمع الفقه الإسلامي. هذا بالإضافة إلى صدور كثير من الكتب التي تتناول هذه القضايا.(1/71)
مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى المواد التالية: العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والحدود والجنايات، والجهاد، والقضاء، وطرق الإثبات، والحلال والحرام، والمعاملات المالية المعاصرة، والقضايا الطبية المعاصرة، والسياسة الشرعية، وغيرذلك.
ثامنًا: معرفة القواعد الفقهية:
القاعدة الفقهية هي: (قضية شرعية عملية كلية، يتعرف منها أحكام جزئياتها)(44).. ودليل شرعيتها أن معظم القواعد الفقهية مستنبطة من نصوص الشريعة الإ سلامية في الكتاب والسنة، كقاعدة: (المشقة تجلب التيسير) مستنبطة من قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )(البقرة:185). وقاعدة: (الأمور بمقاصدها) مستنبطة من حديث: (إنما الأعمال بالنيات)(45).
والقواعد الفقهية ضرورية لتكوين الملكة الفقهية لدى الفقيه:
1- فهي تساعد الفقيه على فهم مناهج الاجتهاد، وتطلعه على حقائق الفقه ومآخذه، وتمكنه من تخريج الفروع على الأصول بطريقة سليمة، وتعينه على استنباط الأحكام للقضايا المستجدة. قال السيوطي: (إن فن الأشباه والنظائر فن عظيم، به يطلع على حقائق الفقه ومداركه ومآخذه وأسراره، ويتمهر في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج، ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على مر الزمان)(46).
2- وهي تساعد على إدراك مقاصد الشريعة كما ذكر ابن عاشور أن القواعد الفقهية مشتقة من الفروع والجزئيات المتعددة بمعرفة الربط بينها، ومعرفة المقاصد التي دعت إليها(47).
3- وهي تسهل حفظ وضبط المسائل الفقهية; لأن القاعدة صيغت بعبارة سهلة جامعة تبين محتواها، كما قال القرافي: (ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات)(48).(1/72)
وقد ترك لنا الفقهاء مجموعة من كتب القواعد الفقهية التي تعين الفقيه على أداء مهمته، منها الأشباه والنظائر لابن نجيم، والأشباه والنظائر للسيوطي، والمنثور في القواعد للزركشي، والمجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي، والفروق للقرافي، وغيرها.
تاسعًا: فهم الواقع المعاصر:
لا بد للفقيه أن يكون ملمًا بواقعه المعاصر بما فيه من علوم عصرية، وتغيرات اجتماعية وسياسية وغيرها، وضرورات يقتضيها العصر.
1- إلمام الفقيه بعلوم العصر:
ظهرت في هذا العصر علوم ومعارف ومعلومات جديدة تتعلق بالطب والتشريح والفلك والطبيعة والكيمياء وغير ذلك مما لم تكن معروفة من قبل، فعلى الفقيه الإلمام بها والاطلاع عليها، ولا يجوز له بحال من الأحوال تجاهلها والاجتهاد بمعزل عنها.. ولفقهاء العصر في ابن رشد الحفيد قدوة، فقد انتفع بعلوم عصره الطبية والطبيعية والفلكية في الترجيح والاختيار للأقوال والمذاهب، وبناء الفقه على النظر العلمي الصحيح، ومن ذلك تعقيبه على مسألة استمرار العادة الشهرية مع الحمل عند النساء، ومسألة العمل بالحساب الفلكي(49).(1/73)
فهذه العلوم تمنح الفقيه القدرة على أن يحكم على بعض الأقوال الفقهية الموروثة بالضعف أو الصحة والرجحان، ومن الأمثلة على ذلك: أن الفقهاء اختلفوا في أقصى مدة الحمل فقال الزهري: تحمل المرأة ست سنين وسبع سنين. وقال عبادة بن العوام: خمس سنين، وقال الليث: ثلاث سنين. وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمشهور في مذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه سنتان(50). وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر(51). وقد أثبت الطب الحديث القائم على الملاحظة والتجربة قول ابن حزم، وأنه لا يمكن أن يتأخر الحمل أكثر من شهر زيادة على التسعة أشهر، أما أن يمكث سنة أو سنتين أو ثلاث أو خمس أو سبع فلا يصح علميًا، ولأن أقوال الفقهاء لا تستند إلى دليل صريح من الكتاب أو السنة، وإنما هي مبينة على الأخبار المنقولة عن الناس في حمل النساء، وربما كان حملاً كاذبًا في بداية المدة(52).
ويقترح الشيخ أبو الحسن الندوي لتحقيق الإلمام بعلوم العصر أن يكون مجمع علمي إسلامي يؤلف في هذه العلوم كتبًا تجمع بين حدة الاطلاع وغزارة المادة ومتانة البحث، وبين إثبات العقيدة والتوفيق بين العلم والدين(53).
وأرى أن هذا الاقتراح صعب التنفيذ في ظل التقدم المستمر والتطور الدائم لتلك العلوم، فهي تتسابق مع الزمن، وكل يوم يأتي العلم بنظريات جديدة، ولكن يمكن أن يوجه الفقيه إلى دراسة اللغة الإنجليزية، وكيفية استعمال الحاسوب و(الإنترنت)، فإذا احتاج إلى دراسة قضية من القضايا المعاصرة: كالاستنساخ أو بطاقات الائتمان رجع إلى (الإنترنت) واستخرج منه آخر ما توصل إليه العلم; ليستعين به في تصوير المسألة التي يريد بحثها.(1/74)
لكن قد يقال: إن هذه الطريقة لا توجد فقهاء قادرين على مجاراة المتخصصين في العلوم المعاصرة في فهم كثير من الأمور العلمية الدقيقة والمصطلحات المتعلقة بكل علم من العلوم، وبالتالي تصدر عن هؤلاء الفقهاء آراء فقهية غير ناضجة; لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
أقول: إن هذا التخوف في محله إذا لم يكن الفقيه مؤسسًا من الناحية العلمية المتعلقة بتلك العلوم، ولم يكن مستوعبًا للمفاهيم العلمية المعاصرة، وهذه هي الصفة الغالبة لكثير من الفقهاء في هذا العصر، ولذلك أرى أنه لا بد من اجتماع الفقهاء مع المتخصصين في العلوم المعاصرة عند بحث القضايا الفقهية المعينة، فإذا كانت القضية المراد بحثها تتعلق بالاقتصاد، كبطاقات الائتمان أو الإجارة المنتهية بالتمليك أو المشاركة المنتهية بالتمليك، فلا بد من اجتماع الفقهاء مع الاقتصاديين، فيبدأ الاقتصاديون بشرح القضية بكل ما يحيط بها من ظروف، ويترك المجال للفقهاء للاستفسار والمناقشة ليتحقق التصور الكامل عن القضية، ثم يحاول الفقهاء استنباط الحكم الشرعي لتلك القضية، وفق أصول الاستنباط المقررة في أصول الفقه.
وإذا كانت القضية المراد بحثها تتعلق بالطب، كالإجهاض أو التلقيح الاصطناعي، اجتمع الفقهاء مع الأطباء، وتولى الأطباء شرح القضية بكل ما يحيط بها من ظروف، ويترك المجال للفقهاء للاستفسار ليتمكنوا من استنباط الحكم الشرعي لتلك القضية، هذا ما يجري في مؤسسات الاجتهاد الجماعي، كمجمع الفقه الإسلامي، والمؤتمرات والندوات العلمية. وتعتبر هذه الوسيلة من أجدى الوسائل لتحقيق الاجتهاد المعاصر.
2- الاطلاع على التغيرات الاجتماعية والسياسية وغيرها:(1/75)
ظهرت في هذا العصر تغيرات كثيرة وخطيرة في مجال الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغير ذلك. فعلى الفقيه مراعاة تلك التغيرات عند استنباط الأحكام الشرعية أو النظر في أقوال الفقهاء السابقين، لأن الفقيه الذي يعيش عصره لا بد له من الإلمام بكل ما يقدم في المجتمع من ضلالات ومؤامرات تحاك ضد المسلمين، فلا بد للفقيه من الاطلاع على الديمقراطية والعولمة والنظام العالمي الجديد. ولفقهاء هذا العصر قدوة في شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد كان ملمًا بكل ما في عصره من تغيرات وضلالات. وقد مر هو وتلاميذه مرة على مجموعة من جنود التتار، وهم يشربون الخمر، فأراد بعض التلاميذ أن ينهاهم عن شرب الخمر، فقال له: دعهم يشربون فإن في شربهم دفع الأذى عن المسلمين. وقد كتب عن الفرق الضالة في عصره.
فهذه التغيرات تساعد الفقيه المعاصر على اختيار بعض الأقوال الفقهية القديمة التي تلائم هذا العصر، والإعراض عن بعض الأقوال التي لم تعد تلائم الأوضاع الجديدة بحال(54).
ومن الأمثلة على ذلك:
أ- في المجال الاجتماعي، أفتى الفقهاء المتأخرون أن المرأة الشابة تمنع من الذهاب إلى المسجد للصلاة فيه، فتصلي في بيتها، وعلى أبيها أو زوجها أن يعلمها أمور دينها.
فهذا إن قيل به في العصور الماضية يوم أن كانت المرأة حبيسة بيتها، فلا يجوز أن يقال به اليوم بعد أن خرجت المرأة إلى المدرسة والجامعة والسوق والعمل، وأصبح المكان الوحيد المحرم عليها هو المسجد. فالمسجد ليس دارًا للعبادة فحسب، بل هو جامع للعبادة وجامع للعلم ومنتدى للتعارف ومركز للنشاط، يلتقي فيه أبناء البلد أو الحي فيتفقهون ويتأدبون ويتعارفون ويتآلفون.(1/76)
وإذا كان الفقهاء السابقون قد وكلوا الأب والزوج في تعليم المرأة، وتفقيهها في دينها، فالواقع يقول: إن الآباء والأزواج لم يقوموا بمهماتهم; إما لانشغالهم أو لعدم قدرتهم على ذلك، فلا بد أن يسمح للمرأة أن تذهب إلى المسجد(55). والحديث الصحيح يؤيد ذلك، قال صلى الله عليه و سلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )(56).
ب- وفي مجال التغيرات السياسية، طرأ على النظام السياسي تنظيم حق الشعوب في اختيار حكامها ومحاسبتهم وتقييد سلطتهم وعزلهم إذا خانوا دستور البلاد. وهذا يجعل الفقيه يرجح القول الذي يدعم هذا المبدأ. ففي اختلاف الفقهاء في كون الشورى ملزمة أو معلمة يمكن ترجيح كونها ملزمة، فلا يجوز للحاكم المسلم أن يستشير أهل الحل والعقد ويضرب بآرائهم عرض الحائط وينفذ ما يراه(57).
جـ- وفي مجال التغيرات الدولية، فإن العالم قد تقارب حتى غدا كأنه مدينة واحدة أو قرية كبيرة، وقد ربطت جملة من المواثيق والمعاهدات الدولية السياسية والثقافية والاقتصادية بين دول العالم بعضها ببعض، وأصبح الجميع أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وما يتفرع عنها من مؤسسات.
وهذا يجعل الفقيه المعاصر يرجح القول الذي يدعم هذا المبدأ، ومن ذلك اختلاف الفقهاء في علاقة المسلمين بغيرهم; هل هي السلم أو الحرب ? فيرجح الفقيه أن الأصل في العلاقة السلم(58).(1/77)
د- وفي مجال التغيرات الاقتصادية، شد أزر الفئات المسحوقة و الضعيفة في المجتمع. وهذا يجعل الفقيه المعاصر يرجح القول الفقهي الذي يدعم ذلك المبدأ، ومن ذلك اختلاف الفقهاء في مقدار ما يدفع للفقير من الزكاة. فقيل: يعطى أقل النصاب، وقيل: يعطى ما يكفيه لمدة سنة، وقيل: ما يغنيه طول العمر.. فيرجح الفقيه قول الشافعي ويعطي الفقير ما يغنيه طول العمر(59) لكن بشرط أن تتسع حصيلة الزكاة لذلك. كما أن الفقهاء اختلفوا في مجال الاحتكار. هل هو بالأقوات أو في كل ما يضر الناس ? فيرجح الفقيه قول أبي يوسف: إن مجال الاحتكار كل ما يضر الناس حبسه فهو احتكار(60).
3- مراعاة ضرورات العصر وحاجاته:
على الفقيه الذي يجتهد لعموم الناس أن يراعي ضروراتهم وحاجاتهم، فييسر عليهم، ويخفف عنهم في الأحكام العملية، عملاً بقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة:185)، وقوله صلى الله عليه و سلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ ابن جبل حينما بعثهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا )(61).
فهذه الضرورات هي التي جعلت الفقهاء المتأخرين يجيزون أخذ الأجرة على تعليم القرآن والأذان والإقامة، وهي التي جعلت العلماء المعاصرين يجيزون بيع المصحف لحاجة الناس إلى ذلك. وهي التي جعلت العلماء يجيزون للمرأة الحائض طواف الإفاضة بعد تحفظها واحتياطها من نزول شيء من الدم. كما جعلتهم يجيزون رمي الجمرات في اليوم الأخير قبل الزوال نظرًا لضرورات الزحام الهائل(62).
مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة: اللغة الإنجليزية، والحاسوب، وعلم الأحياء، وعلم الإنسان، والمدخل إلى العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك.
المبحث الرابع: الطريقة المثلى في تدريس الفقه(1/78)
اتبع المسلمون في تدريس العلوم الشرعية في العصور الماضية طريقة أصيلة، تقوم على أساس تحفيظ الطالب منذ الصغر متونًا في علوم الشريعة: من عقيدة وأصول فقه ومصطلح حديث وفقه ونحو وصرف وغير ذلك، مما يشتمل على مبادئ العلوم وأساسياتها، بالإضافة إلى تحفيظ القرآن الكريم وبعض الأحاديث السهلة. ثم تدرجوا بالطالب في تعليم العلوم الشرعية إلى أن تتحقق له الملكات العلمية المطلوبة. وهذه هي الطريقة المثلى في تكوين الملكات العلمية للطالب وتقوية الذاكرة عنده.
والطريقة التي كان يتبعها المدرسون للفقه في جميع المذاهب الفقهية أن يبدأ المدرس مع الطالب بتحفيظه مختصرًا في فقه المذهب: مثل العمدة في المذهب الحنبلي لابن قدامة، أو المنهاج في الفقه الشافعي للنووي أو مختصر خليل، أو بداية المبتدي للقدوري. ثم ينتقل بعد ذلك إلى كتاب أوسع يحكي اختلاف الفقهاء في المذهب مثل: المقنع لابن قدامة، أو المهذب للشيرازي. ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة الكتب التي تبين أدلة الآراء المختلفة في المذهب: كالكافي لابن قدامة. ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة الكتب التي تحكي مذاهب السلف والمدارس الفقهية المشهورة، وتذكر أدلتهم وما دار بينهم من مناظرات ومحاورات: كالمغني لابن قدامة، ومؤلفات ابن المنذر، وابن حزم، وابن تيمية، وغير ذلك من مؤلفات أهل الإنصاف الذين لا يتعصبون لمذهب من المذاهب ولا يقصدون إلا تقرير الحق وتبني الصواب. فإن المجتهد الطالب للحق ينتفع بها، ويستعين بأهلها، فينظر فيما قد حرروه من الأدلة وقدروه من المباحث، ويعمل فكره في ذلك، فيأخذ ما يرتضيه ويزيد عليه ما بلغت إليه قدرته ووصلت إليه ملكته(1). ولهذا قيل: (من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه)(2). كما قيل في حفظ المتون: (من حفظ المتون حاز الفنون).
ولكن هذه الطريقة انتقدت من العلماء من عدة وجوه:(1/79)
الوجه الأول: انتقد الشوكاني التمذهب بمذهب واحد، ودعا المتفقهين إلى التفقه بعيدًا عن هذه المذاهب الأربعة(3).
والذي يدقق النظر في كلام الشوكاني يجد أن انتقاده هذا كان رد فعل وقتي على التعصب المذهبي الذي استفحل في عصره في القرن الثالث عشر الهجري في اليمن، فأراد أن يكسر حدة هذا الداء بهذه الدعوة.
والحقيقة أنه لا مانع من دراسة الفقه على مذهب معين في بداية التحصيل العلمي، بحيث يكون الطالب بعيدًا عن التعصب المذهبي; وذلك لضرورة التأصيل والتأسيس في الفقه.
الوجه الثاني: انتقد ابن خلدون اشتغال طلبة العلم بالمختصرات الفقهية، ورأى أن الملكة الناشئة عن تلك المختصرات تكون قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة، بكثرة ما يقع في المطولات من التكرار والأصالة المفيدين لحصول الملكة التامة، وأما المختصرات فهي تشتمل على العيوب التالية(4):
1- الإخلال بالفصاحة والبلاغة نتيجة إغراق المؤلفين في الاختصار.
2- صعوبة فهم تلك المختصرات، فعباراتها أشبه ما تكون بالألغاز.
3- ضياع وقت المدرس والطالب في حل المقفل وبيان المجمل.
4- عدم مراعاة عقل الطالب، فهي تشتمل على غايات العلم، مما يصعب على الطالب المبتدئ فهمها، لأنه لم يعرف مبادئ العلم وأولياته.
5- لما كثر الإغلاق في اللفظ لجأ العلماء إلى الشروح والحواشي، ففات المقصود الذي لأجله اختصرت المختصرات، وهو تسهيل الحفظ على الطلبة.
والذي يدقق النظر في انتقاد ابن خلدون يجد أنه منصب على بعض المختصرات المشتملة على التعقيدات اللفظية في عصره: كمختصر ابن عرفة، ومختصر ابن الحاجب وغيرهما مما يصعب على الطالب المبتدئ فهمها واستيعابها. أما المختصرات الواضحة الميسرة التي تؤسس الطالب في الفقه، وتبين له مقاصد العلم ورؤوس مسائله فلا يشملها الانتقاد. ومما يؤيد ذلك أن ابن خلدون نفسه ذكر التدرج في التعليم حيث قال:(1/80)
(اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج، شيئًا فشيئًا، وقليلاً فقليلاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شذا، فلا يترك عويصًا ولا مهمًا ولا مغلقًا إلا وضحه، وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث من تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه.. وقد شاهدنا كثيرًا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانًا على التعليم وصوابًا فيه، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله، ويخلطون عليه ما يلقون له من غايات الفنون في مباديها، وقبل أن يستعد لفهمها; فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيًا، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزًا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية، ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل، ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات، وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له، كلَّ ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة(1/81)
العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف في قبوله، وتمادى في هجرانه، وإنما أتى ذلك من سوء التعليم)(5).
بعد هذا البيان الواضح من ابن خلدون، لا يجوز أن نقول: إنه ينتقد طريقة المختصرات أو المتون في التدريس، وإنما ينتقد طريقة التأليف وعدم قدرة المؤلفين على تضمينها مبادئ العلوم ومقاصدها الأساسية التي يتطلبها عقل المبتدئ.
الوجه الثالث: انتقد بعض المعاصرين دراسة الاختلافات الفقهية، واعتبرها من الأمور التي تطمس معالم الدين الحق، وتخفي الشرائع المنزلة أو تكاد تخفيها، حتى لم يبق من الدين إلا بعض الرسوم البالية، والصور المزيفة النابية. وذكر بعض الأمثلة الفقهية من اختلافات الفقهاء(6).
والحقيقة أن اختلاف الفقهاء سعة في الشريعة، ومرونة في الفقه، وثروة فكرية وتشريعية لا يعرف قيمتها إلا من عايشها، وهو ليس اختلافًا بين حق وباطل، إنما هو وجهات نظر مختلفة ناشئة عن اجتهاد في النصوص الظنية، يؤجر صاحبه عليه، سواء أصاب أم أخطأ. وهو يختلف عن الاختلاف في العقيدة من حيث الجدل والمناظرة، فأجمع العلماء على جواز الجدال في الفقه والتناظر فيه; لأنه يحتاج إلى رد الفروع إلى الأصول(7)، وتصحيح الأدلة ووجهات النظر، أما الجدال في العقيدة فلا يجوز; لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين(8).
الفصل الثالث
رعاية الملكة الفقهية
الملكة الفقهية الناشئة في النفس الإنسانية تحتاج إلى رعاية بالتنمية والوقاية وإبعاد الآفات والمعوقات عنها. وسيشتمل هذا الفصل على مبحثين هما:
1- تنمية الملكة الفقهية.
2- آفات الملكة الفقهية ومعوقاتها.
المبحث الأول: تنمية الملكة الفقهية(1/82)
إن تنمية الملكة الفقهية وحصولها على أتم وجه في النفس، يحتاج من الطالب والمدرس إلى تدريب عملي وممارسة دائمة للفقه.. فلا يكتفى في تحصيل الملكة الفقهية الراسخة على دراسة الفقه وأصوله دراسة نظرية، بل لا بد من الممارسة العملية في عدة مجالات: كالترجيح بين الآراء، والتخريج على مذاهب الفقهاء، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والاشتراك في المحاورات والمناظرات، والرحلة في طلب العلم. وفيما يلي بيان لهذه المجالات.
أولاً: الترجيح بين الآراء الفقهية (الفقه المقارن):
إن دراسة المسائل المقارنة، وتكليف الطلاب ببحوث في مسائل فقهية من مسائل الخلاف، وذلك بالبحث عن آراء الفقهاء والوقوف على أسباب اختلافهم، وبيان الأدلة ووجه الاستدلال ومآخذ الأئمة، ومناقشة الأدلة بقصد الوصول إلى الرأي الراجح، يقوي الملكة وينميها عند الفقيه. قال ابن خلدون في بيان أهمية علم الاختلاف: (وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال فيما يرمون الاستدلال عليه)(1).
وقال النووي: (اعلم أن معرفة مذاهب السلف بأدلتها من أهم ما يحتاج إليه; لأن اختلافهم في الفروع رحمة، وبذكر مذاهبهم بأدلتها يعرف المتمكن المذاهب على وجهها، والراجح من المرجوح، ويتضح له ولغيره المشكلات، وتظهر الفوائد النفيسات، ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب، ويتفتح ذهنه، ويتميز عند ذوي البصائر والألباب، ويعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، والدلائل الراجحة من المرجوحة، ويقوم بالجمع بين الأحاديث المتعارضات والمعمول بظاهرها من المؤولات، ولا يشكل عليه إلا أفراد من النادر)(2).
مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة مادة الفقه المقارن.
ثانيًا: التخريج على مذاهب العلماء:
التخريج في اصطلاح الفقهاء والأصوليين يطلق على معنيين:(1/83)
الأول: تخريج الفروع على الأصول والقواعد العامة المنسوبة للإمام وهو: (العلم الذي يبحث عن علل ومآخذ الأحكام الشرعية لرد الفروع إليها، بيانًا لأسباب الاختلاف، أو لبيان حكم لم يرد بشأنه نص عن الأئمة بإدخاله ضمن قواعدهم وأصولهم)(3).
الثاني: تخريج الفروع من فروع أئمة المذاهب، وهو: (نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها والتسوية بينهما فيه)(4).
فالفقيه عندما يقوم بالتخريج على مذاهب الأئمة يتدرب على اكتشاف علل الأحكام ومآخذها، وإلحاق الفرع بالأصل. و هذا مما يعمل على تنمية الملكة الفقهية عنده. يقول الأسنوي: (وقد مهدت بكتابي هذا -التمهيد في تخريج الفروع- طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذي مطلب، فلتستحضر أرباب المذاهب قواعدها الأصولية، وتفاريعها، ثم تسلك ما سلكته، فيحصل به إن شاء الله تعالى لجميعهم التمرن على تحرير الأدلة وتهذيبها)(5).
ومن الكتب في تخريج الفروع على الأصول:
1- تأسيس النظر، لعبيد الله بن عمر الدبوسي (ت 430هـ).
2- تخريج الفروع على الأصول، لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني (656هـ).
3- مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، لأبي عبد الله محمد بن أحمد التلمساني (771هـ).
4- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، لجمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الأسنوي (772هـ).
5- القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية، لأبي الحسن علي بن عباس البعلي المعروف بابن اللحام (803هـ).
مما سبق يتبين أن طالب الفقه يحتاج إلى دراسة مادة تخريج الفروع على الأصول.
ثالثًا: الموازنة بين المصالح والمفاسد:
الموازنة بين المصالح والمفاسد تتنوع إلى ثلاثة أنواع وهي:
1- الموازنة بين المصالح المتعارضة، ومثالها قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين )(النحل:126). فالمعاقبة بالمثل مصلحة حسنة، والصبر مصلحة أحسن، فيقدم الأحسن على الحسن.(1/84)
والفقيه يقوم بالموازنة بين المصالح المتعارضة وفق ميزان دقيق وهو:
أ- إذا اختلفت رتب المصالح وجب تقديم الضرورية على الحاجية وعلى التحسينية، ولزم تقديم الحاجية على التحسينية، كما تقدم المصالح الأصلية على مكملاتها.
ب- إذا كانت المصالح في رتبة واحدة.. كالضروريات; يقدم حفظ الدين على حفظ النفس وما بعدها، وحفظ النفس يقدم على حفظ العقل وما بعده، وحفظ العقل يقدم على حفظ النسل وما بعده، وحفظ النسل يقدم على حفظ المال. ومصالح الإنسان أولى من مصالح الأموال.
جـ- إذا كانت المصالح في رتبة واحدة وتعلقت بكلي واحد كحفظ الدين، وجب تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، والكلية على الجزئية(6).
2- الموازنة بين المفاسد المتعارضة، ومثالها قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل )(البقرة:217). فالقتال في الشهر الحرام مفسدة، والفتنة عن الإسلام مفسدة أعظم، فيرتكب أخف الضررين إذا لم يكن بد من فعل أحدهما.
والفقيه يقوم بالموازنة بين المفاسد المتعارضة وفق ميزان دقيق وهو:
أ- عند اختلاف رتب المفاسد، ترتكب المفاسد المتعلقة بالتحسينات دفعًا لمفاسد الحاجيات والضروريات، وترتكب مفاسد الحاجيات دفعًا لمفاسد الضروريات.
ب- عند اتحاد رتب المفاسد، كمفاسد الضروريات; ترتكب المفاسد المتعلقة بالمال دفعًا لمفاسد النسل وما قبلها. وترتكب مفاسد النسل دفعًا لمفاسد الثلاثة الأخرى وهكذا.
جـ- عند اتحاد الرتبة والكلي ترتكب المفسدة الخاصة دفعًا للمفسدة العامة، وترتكب المفسدة الجزئية دفعًا للمفسدة الكلية.(1/85)
3- الموازنة بين المصالح والمفاسد: ومثالها قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما )(البقرة:219). فالآية تبين أن في الخمر والميسر مفاسد ومصالح، ولكن جانب المفسدة أكبر إذا ما قيس بالمصلحة.
ويراعي الفقيه عند الموازنة بين المصالح والمفاسد، الميزان التالي:
أ- يراعي الحكم العام الغالب من المصالح والمفاسد، فإن غلبت المصالح على المفاسد قدمت المصالح، وإن غلبت المفاسد على المصالح اعتبرت المفاسد.
ب- عند التساوي بين المصالح والمفاسد; فإن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. ويراعي في هذا الميزان أيضًا مراتب المصالح والمفاسد، من حيث الضروريات والحاجيات والتحسينات: فتقدم المصالح الضرورية على المفاسد الحاجية والتحسينية والعكس بالعكس، كما يراعي أيضًا التفريق بين الكليات الخمس; وذلك بتقديم مصالح الدين على مفاسد النفس، وتقديم مصالح النفس على مفاسد العقل وهكذا. كما يراعي أن المصلحة العامة مقدمة على المفسدة الخاصة، والمصلحة الكلية على المفسدة الجزئية(7).
والحقيقة أن موضوع الموازنة بين المصالح والمفاسد ليس بسيطًا وسهلاً، وإنما فيه كد واجتهاد وممارسة عملية، يعمل على ترسيخ الملكة الفقهية. قال الشاطبي: (وهو مجال للمجتهد صعب الورود، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب (العاقبة)، جار على مقاصد الشريعة)(8).
رابعًا: المشاركة في المحاورات والمناظرات الفقهية:(1/86)
إن مشاركة المتفقه في المحاورات والمناظرات الفقهية يقوي الملكة عنده، كما يقول ابن خلدون: (أيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها)(9). فلا يجوز للمتفقه أن يكون خاملاً غير مشارك في المناظرات العلمية. يقول ابن خلدون في انتقاد الطلبة الخاملين: (تجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتًا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم. ثم تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علّم)(10).
وينبغي على طلبة العلم الشرعي أن يتأدبوا بآداب المناظرة إذا شاركوا في الندوات والمؤتمرات العلمية، ومن هذه الآداب: إذا سأل، سأل عما لا يدري، وإذا راجع في مسألة، راجع مراجعة التلميذ لشيخه، لا مراجعة العالم لنظيره، كما قال ابن حزم: (إذا حضرت مجلس العلم فلا يكن إلا حضور مستزيد علمًا وأجرًا، لا حضور مستغن بما عندك، طالبًا عثرة تشنعها أو غريبة تشيعها. فإذا حضرت فالتزم أحد ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إما أن تسكت سكوت الجهال، فتحصل على: أجر النية في المشاهدة، وعلى الثناء عليك بقلة الفضول، وعلى كرم المجالسة، ومودة من تجالس.
الوجه الثاني: فإن لم تفعل ذلك فاسأل سؤال المتعلم، فتحصل على هذه الأربع محاسن، وعلى خامسة: وهي استزادة العلم. وصفة سؤال المتعلم: أن تسأل عما لا تدري، فالسؤال عما تدري سخف، وقلة عقل، وشغل لكلامك، وقطع لزمانك بما لا فائدة فيه، لا لك ولا لغيرك، وربما أدى إلى اكتساب العداوات، وهو بعد عين الفضول.(1/87)
الوجه الثالث: وإياك أن تراجع مراجعة العالم. وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضًا بينًا، فإن لم يكن ذلك عندك، ولم يكن عندك إلا تكرار قول أو المعارضة بما لا يراه خصمك معارضة فأمسك، فإنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر زائد، ولا على تعليم ولا تعلم، بل على الغيظ لك ولخصمك والعداوة التي ربما أدت إلى المضرات)(11).
وهذا مما يكرس في نفس الفقيه أهمية الاجتهاد الجماعي في الاجتهاد المعاصر، فهو السبيل الأمثل لمعالجة قضايا العصر المتسم بالتشابك والتعقيد.
خامسًا: الرحلة في طلب الفقه:
كانت الرحلة العلمية من أهم ما يحرص عليه طلبة العلم الشرعي، وذلك لأنها تزيد من مدارك الطالب بسبب كثرة الالتقاء بالشيوخ، وتنوع الأخذ عنهم، فهم لا ينتمون إلى مذهب واحد، وإنما ينتمون إلى مذاهب متنوعة.. كما أن الرحلة تعمل على صقل الملكات وتقويتها، بسبب كثرة العلوم وتنوعها، وبخاصة في البلاد التي تكثر فيها العمران والحضارة، كما قال ابن خلدون: (العلوم إنما تكثر حيث تكثر العمران وتعظم الحضارة... وذلك لأن تعليم العلم من جملة الصنائع، والصنائع إنما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف، وتكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة، لأنه أمر زائد على المعاش، فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم و الصنائع، ومن تشوف بفطرته إلى العلم. فمن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع من أهل البدو... ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة...).(1/88)
وزاد الأمر توضيحًا بضرب مثال على ذلك ببغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة حيث قال: (لما كثر عمرانها في صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة زخرت فيها بحار العلم، وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون. حتى أربوا على المتقدمين وفاتوا المتأخرين. ولما تناقص عمرانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة)(12).
المبحث الثاني: آفات الملكة الفقهية ومعوقاتها
إذا وهب الله تعالى الفقيه الملكة الفقهية وجب عليه أن يحافظ عليها، ويوفر سبل الوقاية لها; وذلك بإبعاد الآفات والمعوقات عنها. ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
1- الآفات الخلقية والنفسية للملكة الفقهية.
2- المعوقات المنهجية للملكة الفقهية.
المطلب الأول: الآفات الخلقية والنفسية للملكة الفقهية:
من الآفات الخلقية والنفسية التي تتعلق بأخلاق العلماء والمتعلمين غير العاملين، والتي لها الأثر الكبير في شل الملكة الفقهية لدى الفقهاء: الكبر والعجب والغرور والحسد.
وفيما يلي بيان لهذه الآفات. وآثارها السلبية على الملكة الفقهية.
أولاً: الكِبْر:
الكبر من أعظم الآفات التي ندد بها القرآن الكريم والسنة النبوية، وخاصة إذا كان من يتصف بها من أهل العلم، حيث يعتبر ذلك من أكبر الفتن، لأن العالم يضل بضلاله خلق كثير. كما قال حذيفة: (اتقوا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل)(1).(1/89)
وحقيقة الكبر: جهل الإنسان بنفسه، وإنزالها فوق منزلتها(2)، فيراها أرفع من نفس غيره وأعظم شأنًا. فالفقيه المتكبر هو الذي يرى فقهه وملكته الفقهية أعظم شأنًا مما هو عند غيره. ويترتب على ذلك تحقير غيره وازدرائه وإقصائه وإبعاده وانتهاره وإذلاله، والامتنان على من علمه، والتعاظم على عامة الخلق، والسخرية منهم، والغضب عليهم إن قصروا بحقه ولم يقضوا له حاجة من حوائجه; وإن ناظر أحدًا من العلماء رد الحق على علم(3). قال سعيد بن جبير: (لا يزال الرجل عالمًا ما تعلم، فإن ترك العلم وأمن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده، فهو أجهل ما يكون)(4).
ومن مظاهر الكبر عند المتكبر في العلم أن يجتهد في المناظرة أن يَغلب ولا يُغلب، ويسهر طوال الليل والنهار في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل; كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع الألفاظ وحفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم. ويحفظ الأحاديث بألفاظها وأسانيدها، حتى يرد على من أخطأ فيها; فيظهر فضله ونقصان أقرانه، ويفرح كلما أخطأ واحد منهم، ويسوء إذا أصاب وأحسن; خيفة من أن يرى أنه أعظم منه(5).
وللكبر آثار سلبية على الملكة العلمية منها:
1- إضاعة العلم واندثاره، وبالتالي تأثيره على الملكة الفقهية.
2- انتشار الكره بين العالم والمتعلم، لأن المتعلم يشعر بتعالي المعلم وعجرفته، وهذا يؤدي إلى عدم استثمار ملكته ونقصانها.
3- إثارة الجدل والخلاف في الأوساط العلمية; لأن المتكبر لا يحترم الرأي الآخر، فيشغل وقته فيما لا ينفعه.
فليحذر الفقيه كل الحذر من الكبر، ويتحلى بالتواضع.
ثانيًا: العُجْبُ:(1/90)
العجب هو تصور استحقاق الشخص رتبة لا يكون مستحقًا لها(6). فهو يعظم نفسه ويعتبرها سبب العلم الذي وصل إليه، دون أن يسند الفضل في ذلك العلم إلى الله تعالى الذي وهبه العقل والذاكرة والعلم. قال صلى الله عليه و سلم: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه )(7). فإعجاب المرء بنفسه: هو ملاحظة لها بعين الكمال مع النسيان لنعمة الله(8). وقال علي ابن عيسى: (العجب: عقد النفس على فضيلة لها ينبغي أن يتعجب منها، وليست هي لها)(9).
والعجب بكل أحد قبيح وبالعلماء أقبح; لأن الناس بهم يقتدون. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم، تواضعوا لمن تتعلمون منه ليتواضع لكم من تعلمونه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم)(10).
ومن الآثار السلبية للعجب على الملكة العلمية(11):
- الاستبداد بالرأي وعدم مشاورة غيره.
- الاستنكاف عن طلب العلم وقلة الإصغاء إلى العلماء بحجة الاكتفاء بالعقل والرأي عند من اتصف بالعجب.
- استجهال الناس المخالفين له.
- التعامي عن الأخطاء الصادرة منه.
فليحذر الفقيه كل الحذر من العجب ويتحلى بالحلم والتواضع.
ثالثًا: الغُرور:
الغُرور: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة شيطانية(12)، فالمغرور هو الذي يرى أنه مصيب في كل ما يصدر عنه من أحكام وآراء. وقد حذر الله تعالى من هذه الآفة في قوله تعالى: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغَرور )(لقمان:33).(1/91)
ومن أصناف المغترين، العلماء الذين أحكموا العلوم الشرعية والعقلية، وتعمقوا فيها واشتغلوا بها، وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات، واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان، وأنهم بلغوا من العلم مبلغًا لا يعذب الله مثلهم(13). وترى المغرور دائمًا يحدث عن شخصيته. ولا يقف غرور العالم عند نفسه، بل يتعداها إلى الغير بإظهار عيوب أقرانه; لرؤيته نفسه أعلم منهم وأفضل وأعلى مقامًا عند الله، ولعل الحقيقة بخلاف ذلك.
وللغرور آثار تربوية سلبية على الملكة العلمية:
1- الغرور يحجب طالب العلم عن الزيادة في العلم; لأنه يظن أنه قد وصل إلى منتهى العلم.
2- الغرور يمنع صاحبه من الاستماع إلى أهل العلم والإصغاء إليهم.
3- المعاصي التي تتولد عن الغرور تؤثر تأثيرًا سلبيًا في الملكة الفقهية.
4- الغرور يولد العداوة بين العلماء، لأن المغرور يكثر الاتهام لأقرانه، وخاصة من كانوا في تخصصه وأعلى منه علمًا.
رابعًا: الحَسَد:
الحسد: تمني زوال النعمة عن الغير، ممن هو مستحق لها. وعرفه الجرجاني بأنه: (تمنى زوال نعمة المحسود إلى الحاسد)(14). وهو خلق ذميم مع إضراره بالبدن وإفساده للدين، حتى لقد أمر الله بالاستعاذة من شره فقال تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد )(الفلق:5). وهو داء قديم في الناس; كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين )(15).(1/92)
والحسد يدب بين الأقران من علماء الدنيا الذي يتشوقون إلى الرياسة، ويحبون جمع المال والثناء، ويحبون ذواتهم مع ضعف في الإيمان بكمال حكمة الله تعالى، الأمر الذي يفضي إلى الاعتراض على الله تعالى في حكمته التي وزع على مقتضاها عطاءه بين خلقه. أما علماء الآخرة فهم بمعزل عن ذلك، لا يتحاسدون ولا يتباغضون، بل يتوادون ويدعون لبعضهم بعضًا، ويستفيدون من بعضهم بعضًا. فقد كان الإمام أحمد بن حنبل يقول لولد الإمام الشافعي: (أبوك من الستة الذي أدعو لهم كل ليلة وقت السحر)(16).
ومن الآثار السلبية للحسد على الملكة العلمية(17):
1- انخفاض مرتبة الحاسد العلمية، لانحراف الناس عنه، ونفورهم منه، وقد قيل: (الحسود لا يسود).
2- انشغال الحاسد عن العلم بحسرات الحسد وسقام الجسد، حتى لا يجد لحسراته انتهاءً ولا لسقامه شفاءً.
3- إسخاط الله تعالى في الاعتراض عليه، وارتكاب المعاصي في مخالفته مما يؤثر على ملكته العلمية.
4- معاداة الناس له ومقتهم له، حتى لا يرى وليًا محبًا، فيعيش في عزلة عن الناس، فلا يفيد ولا يستفيد.
المطلب الثاني: المعوقات المنهجية للملكة الفقهية:
من المعوقات المنهجية التي تؤثر في الملكة الفقهية، فتعطل حركتها وتوقف نموها: إخلال الفقيه بالنصوص الثابتة، والتقليد الذي ينطوي على الجمود والتعصب، والتمسك بحرفية النصوص، والتشدد والتضييق، والغلو في اعتبار المصلحة، وتبرير الواقع. وفيما يلي بيان لتلك المعوقات.
أولاً: الإخلال بالنصوص الثابتة:
الفقه الإسلامي يتميز عن غيره من القوانين بأنه ملتزم بمصادره الأساسية من القرآن والسنة والإجماع اليقيني، فلا يجوز للفقيه صاحب الملكة الفقهية تجاوز تلك النصوص أو التنكر لها، وإلا كان ما يصدر عن ذلك الفقيه من آراء فقهية بعيدًا عن الفقه الإسلامي. ويتمثل ذلك في الأمور التالية:
1- الغفلة عن النصوص الشرعية عند الاجتهاد:(1/93)
لا يجوز للفقيه تجاوز النصوص الثابتة في القرآن والسنة إلى الاجتهاد; عملاً بالقاعدة الفقهية: (لا اجتهاد في مورد النص). ومن الأمثلة على ذلك: أن محكمة شرعية عليا في بعض بلاد المسلمين، أجازت لكل أحد أن يستلحق اللقيط ويضمه إلى نسبه، ويصبح بذلك ابنًا له، وعليه كل حقوق البنوة وواجباتها. فمقتضى هذه الفتوى أن: (التبني -مباح وإن سمي: الاستلحاق- فمدار الحكم على المسميات لا على الأسماء)(18).
ومن الواضح أن هذا الحكم مخالف للنصوص الشرعية الثابتة التي حرمت التبنّي وأبطلته، وأجمع على ذلك العلماء. ومن النصوص التي تحرم ذلك قوله تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم )(الأحزاب:4-5).
2- التفسير السيئ للنصوص الشرعية:
لا يجوز للفقيه تفسير النصوص الشرعية بعيدًا عن القواعد المقررة في أصول الفقه، الأمر الذي يؤدي إلى حرف النصوص عن مضمونها، كأن يخصصها وهي عامة، أو يقيدها وهي مطلقة أو العكس. ومن القواعد المقررة في توضيح دلالة النص(19):
أ- الالتزام بالمعنى اللغوي الذي قرره علماء اللغة العربية، مع مراعاة المصطلحات الشرعية التي أخرجها المشرع من معناها اللغوي إلى معنى خاص دل عليه النص عن طريق أدلة قطعية.
ب- مراعاة قواعد الدلالات الأصولية في تحديد علاقة اللفظ بالمعنى المستفاد منه; بحيث يكون استعمال اللفظ معبرًا عن معنى إرادة الشرع. وكلما كانت العلاقة واضحة وظاهرة بين اللفظ والمعنى كانت مهمة الفقيه أيسر.(1/94)
ومن الأمثلة على سوء فهم النصوص الشرعية ما أورده بعض المعاصرين حول آيات تحريم الخمر: (هل الخمر محرمة أم مأمور باجتنابها ؟ والفرق بين التحريم والاجتناب. ومجال نصوص تحريم الخمر مع مجال الآية: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس )(الأنعام:145). وهي من أواخر الآيات نزولاً في القرآن. كل هذا مما يحتاج الرأي فيه إلى مجال آخر يرجأ إليه)(20).
فهو يشكك في قطعية تحريم الخمر التي وردت في آيات الخمر ومنها: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه )(المائدة:90). وهذا التشكيك مبني على عدم معرفته بالمعنى الدقيق لكل من (التحريم) و(الاجتناب)، وهو يتوهم أن الأمر بالاجتناب أخف من التحريم، ولو تتبع موارد الكلمة في القرآن لعلم أنها لا تقترن إلا بالشرك وكبائر الإثم والفواحش، كما في قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان )(الحج:30)، فهل الأمر باجتناب الرجس من الأوثان أقل من تحريمه ؟ وآية: (قل لا أجد في ما أوحي إليّ )، التي حاول أن يتوكأ عليها في المطعومات لا في المشروبات، وهي تحمل الرد عليه; لأنها عللت تحريم الخمر بقوله: (فإنه رجس )، كما عللت آية تحريم الخمر بأنها: (رجس من عمل الشيطن )، فكيف يحرم الله الرجس المجرد في المطعوم، ولا يحرمه في المشروب مع وصفه بأنه: (من عمل الشيطان) ؟ فهو رجس وزيادة(21).
2- الغفلة عن الإجماع اليقيني عند الاجتهاد:(1/95)
لا يجوز للفقيه تجاوز الإجماع اليقيني إلى الاجتهاد. ومن الأمثلة على ذلك ما قيل من جواز زواج المسلمة بالكتابي، كما جاز زواج المسلم بالكتابية. هذا مع أن الفرق واضح .فالمسلم يعترف بأصل دين الكتابية، فهو يحترمها ويرعى حقها ولا يصادر عقيدتها. أما الكتابي فلا يعترف بدين المسلمة ولا بكتابها ولا برسولها; فكيف تعيش في ظل رجل لا يرى لها أي حق باعتبارها مسلمة(22)؟
ثانياً: التقليد الذي ينطوي على الجمود والتعصب:
التقليد هو اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقدًا للحقيقة فيه، من غير نظر وتأمل في الدليل. وبعبارة أخرى هو: اتباع قول الغير بلا حجة ولا دليل(23).
يرى ابن حزم أن التقليد حرام في سائر أنواع العلم. وعموم الناس، كالعبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء المخدرة، والراعي في شعب الجبال، والعالم المتبحر في العلم; يجب عليهم الاجتهاد في طلب الحكم الشرعي في كل ما يخصهم من الدين(24).
في حين يرى البعض الآخر أن التقليد واجب بعد عصور الاجتهاد الأولى المفضلة، حتى ليصبح اتباع إمام بمنزلة اتباع الرسول صلى الله عليه و سلم، فيقول أحد المقلدين: (الحمد لله الذي جبلني على التعصب لمجتهد كان من قرون شهد النبي صلى الله عليه و سلم بخيرها وعدالتها)(25). ويصل الحال ببعض المقلدين أن يزعم بأن كل نص من النصوص الشرعية خالف المذهب فهو إما منسوخ أو مؤول(26).(1/96)
ومما لا شك فيه أن القولين فيهما مغالاة. فالقول الأول يؤدي إلى الفوضى التي لا تقف عند حد; لأن هذا القول لا يشترط حدًا أدنى من المعرفة لمن أراد الاجتهاد، وإنما يلزم كل واحد من عامة الناس بمن فيهم العالم والمتعلم وراعي الغنم وغيرهم بالاجتهاد. كما أن هذا القول يؤدي إلى زوال هيبة العالم وكرامته وفضله، فهو يستوي مع العبد المجلوب، والراعي في شعب الجبال. وأما القول الآخر فيؤدي إلى التعصب والجمود كما يؤدي إلى عدم احترام النصوص الشرعية، وفتح الباب على مصراعيه للطعن فيها.
والقول الوسط: أن التقليد للمبتدئين ضروري للتأسيس -كما بينا سابقًا- فيحفظ المبتدئ متنًا في مذهب من المذاهب الفقهية. ثم ينتقل بعد ذلك إلى معرفة الدليل من القرآن والسنة، ولا يجوز أن يستمر في حفظ الآراء الفقهية بدون دليل; لأن الملكة الفقهية لا تنمو بالآراء المجردة عن أدلتها الشرعية وعللها ومآخذها; ولأن هذا يؤدي إلى التعصب الذميم. يقول ابن تيمية: (إذا تفقه الرجل وتأدب بطريق قوم من المؤمنين، مثل أتباع الأئمة والمشايخ; فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم المعيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم. فينبغي للإنسان أن يعوّد نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به، فهذا زاجر، وكمائن القلوب تظهر عند المحن، وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها تحول أصحابه، ولا يناجز عليها، بل لأجل أنها مما أمر الله به رسوله أو أخبر الله به ورسوله، لكون ذلك طاعة الله ورسوله)(27).
ثالثًا: الالتزام بحرفية النصوص وعدم تعليل الأحكام:
يوجد في هذا العصر بعض المنتسبين للعلم ممن يحييون ذكر ابن حزم الظاهري في الالتزام بحرفية النص وعدم تعليل الأحكام. وهم ممن لم يتمرسوا بالفقه وأصوله، ولم يطلعوا على اختلاف الفقهاء ومداركهم في الاستنباط، ولا يهتمون بمقاصد الشريعة الإسلامية، ولا يقرون بتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.(1/97)
فنجد منهم من يقول: إن السفر الشرعي هو ما كان على بعد ثلاثة فراسخ عملاً بحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين )(28).
فمن سافر ثلاثة فراسخ وهي تعادل (16) كيلو مترًا تقريبًا يعتبر مسافرًا، يفطر في رمضان، ويقصر الصلاة، وهذا غير معقول، فالعرف لا يعتبر تلك المسافة مسافة سفر. ومنهم من يقول: بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة، مع أن أغلب ثروة الأمة اليوم في عروض التجارة. ومنهم من يقول: إن النقود الشرعية ما كان من قبيل الذهب والفضة التي وردت فيها الأحاديث. أما النقود الورقية فلا تعتبر نقودًا شرعية. وعلى هذا لا يجري فيها الربا ولا تجب فيها الزكاة(29).
والأصل الذي ينبغي أن يستقر في أذهان الفقهاء أن غالبية العبادات تعبدية غير معقولة المعنى، أو غير معللة بعلة معينة، وإنما يطلب من المكلف الالتزام بها ولو لم يدرك لها علة كتقبيل الحجر الأسود. وأما المعاملات فإن غالبيتها غير تعبدية، أو معقولة المعنى، أو معللة بعلة معينة يدركها المجتهد. يقول الشاطبي: (الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات (المعاملات) الالتفات إلى المعاني)(30).
ويستدل لهذا الأصل باستقراء نصوص الشريعة الإسلامية، فقد جاءت لمراعاة العلل والمصالح، ومن ذلك قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )(النساء:29)، وقوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدواة والبغضاء في الخمر والميسر )(المائدة:91). قال الشاطبي: (فإنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدراهم بالدراهم إلى أجل يمنع في المبايعة ويجوز في القرض)(31).
والمصالح التي قصدها الشارع في تشريع المعاملات هي مراعاة الضروريات والحاجيات والتحسينيات.(1/98)
رابعًا: التشديد والتضييق:
هناك من العلماء من يرى أن المسائل المستجدة ينبغي أن ينظر فيها من خلال النصوص السابقة، سواء في القرآن أو السنة أو أقوال الفقهاء، فإذا لم يجدوا نصًا خاصًا بتلك المسألة المستجدة أفتوا بالمنع وعدم الجواز، سواء أكانت المسألة تتعلق بالمعاملات أم بالعبادات، وكأن الأصل في الأحكام العملية الحظر إلا ما أفتى السابقون بإباحته. وقد وجدنا من الفقهاء من أفتى بعدم جواز خلو الأوقاف الذي يدفع للناظر على الوقف مقابل تأبيد الإجارة، حيث ادعى المانعون عدم وجود نص في المسألة، ولا يوجد قول لإمام تخرج عليه. حيث قال الشيخ ميارة: (فلم أقف على نص فيها ولا أظنه يوجد; لأنها محض اصطلاح من المتأخرين)(32).
والحقيقة أن المعاملات تختلف عن العبادات، فإذا كان الأصل في العبادات الحظر، فإن الأصل في المعاملات الإباحة، بحيث لا تخالف المعاملة نصًا أو قاعدة كلية. قال ابن تيمية: (الأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه. كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه. إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله، بخلاف الذين ذمهم الله، حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله، وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا، وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن الله(33).
خامسًا: الغلو في اعتبار المصلحة:(1/99)
يوجد في هذا العصر بعض المنتسبين للعلم ممن يحييون ذكر نجم الدين الطوفي الذي بالغ في تقدير المصالح، حتى قدمها على النصوص الشرعية والإجماع اليقيني، وخالف بهذا كل من أخذ بالمصلحة قبله ممن اعتبرها أصلاً ودليلاً من المالكية ومن وافقهم. فهم لم يعتبروها إلا بشرط عدم معارضتها للنصوص الشرعية والقواعد الكلية. وهذا الذي يُعرف في أصول الفقه بالمصلحة المرسلة. أما المصلحة المعارضة للنصوص الشرعية فهي غير معتبرة، وهي ليست مصلحة حقيقية، وإنما هي موهومة، زينها لصاحبها الهوى والغفلة. ولذلك لا تؤخذ عبارة: (حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله) على إطلاقها، وإنما تقيد بعدم معارضتها للنصوص الشرعية والقواعد الكلية.
ومن الأمثلة على الغلو في المصلحة، إباحة الربا بحجة أن الاقتصاد عصب الحياة، والبنوك عصب الاقتصاد، والفوائد الربوية عصب البنوك. ومن الأمثلة أيضًا تحريم الزواج بأكثر من واحدة; لما يترتب على التعدد من مفاسد أسرية ومضار اجتماعية; واحتج المحرم بأن من حق ولي الأمر أن يمنع بعض المباحات جلبًا لمصلحة أو درءًا لمفسدة(34).(1/100)
فعلى الفقيه المعاصر عند بحث القضايا الفقهية، والنظر في النصوص الشرعية، الوقوف عند النصوص القطعية وعدم تجاوزها بحجة تغير المصلحة; لأن تلك النصوص ليست محلاً للاجتهاد، ولا يجوز له أن ينساق وراء المتلاعبين بالدين باسم المصلحة، فيحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله. يقول الشاطبي في بيان المصلحة التي بنى الشارع عليها الحكم: (إن كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، والمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة ما فهو الواضع لها مصلحة، وإلا يمكن عقلاً ألا تكون كذلك، إذ الأشياء كلها بالنسبة إلى وضعها الأول متساوية، لا قضاء للعقل فيها بحسن ولا قبح. فإذا كون المصلحة هو من قبل الشارع بحيث يصدقه العقل، وتطمئن إليه النفس. فالمصالح من حيث هي مصالح قد آل النظر فيها إلى أنها تعبديات)(35).
هذا المفهوم للمصلحة يضع حدًا للعقل عند النظر في النصوص الشرعية، وهو أن العقل تابع للشرع، ومقيد به، وليس العكس. فيجوز للعقل أن ينظر في النصوص الظنية والأحكام المبنية على المصالح المرسلة، ولا يجوز له أن ينظر في النصوص القطعية.
سادسًا: تبرير الواقع:
المراد بتبرير الواقع، إضفاء الشرعية على الواقع السيئ الذي صنعه غير المسلمين، بقصد إرضاء عامة الناس أو السلطان، أو لوقوع الفقيه تحت ما يسمى بالهزيمة النفسية أو انبهاره بالحضارة الغربية.
وينبغي أن نفرق بين تبرير الواقع، والتيسير على الناس في أمر دينهم القائم على الاجتهاد العلمي المنضبط بقواعد سليمة واستنباط صحيح، لأن التيسير على الناس مقصد شرعي دلت عليه الآيات والأحاديث بخلاف تبرير الواقع، فإنه تأويل لنصوص الشريعة تأويلاً يتلائم مع أهواء العامة أو السلطان أو القائمين على الحضارة الغربية، وهذا ما يخدش الملكة الفقهية عند الفقيه.. والأمثلة على ذلك كثيرة(1/101)
فلا بد للفقيه المعاصر عند بحث القضايا الفقهية أن يكون موضوعيًا في بحثه، غايته الوصول إلى الحكم الشرعي الذي تؤيده النصوص الشرعية، ويدخل لبحث المسألة الفقهية بذهنية فارغة من كل المسبقات والفروض والضغوط السياسية، وإلا أصبح الفقه تبعًا للسياسة، وكانت مهمة الفقيه هي تبرير المواقف والآراء السياسية.
لهذا يجب استبعاد هذا النوع من الفتاوى وعدم الاعتداد بها في الفقه المعاصر، لأن الغاية منها تبرير الواقع السيء الذي صنعه غير المسلمين وإضفاء الشرعية عليه، ولأنها صادرة ممن مورست عليهم الضغوط السياسية، ولم يستطيعوا التحرر من الخوف وضغوط الواقع السيئ.
الخاتمة
بعد عرض حقيقة الملكة الفقهية ومقومات تكوينها ورعايتها، نستطيع أن نوجز أهم ما انتهينا إليه في النقاط التالية:
1- الملكة الفقهية هي: (صفة راسخة في النفس، تحقق الفهم لمقاصد الكلام الذي يسهم في إعطاء الحكم الشرعي للقضية المطروحة: إما برده إلى مظانه في مخزون الفقه، أو بالاستنباط من الأدلة الشرعية والقواعد الكلية).
2- تطلق على الملكة الفقهية ألفاظ كثيرة منها: البصيرة، والحكمة، والاجتهاد.
3- الملكة الفقهية تتنوع إلى عدة أنواع، وهي:
أ- ملكة تقرير القواعد الأصولية والاستنباط الفقهي المستقل.
ب- ملكة الاستنباط الفقهي المبني على أصول الغير.
ج- ملكة التخريج الفقهي في المذهب.
د- ملكة الترجيح الفقهي في المذهب.
هـ- ملكة استحضار المذهب (القول المعتمد).
و- ملكة الترجيح بين المذاهب.
4- تكوين الملكة الفقهية فرض كفاية، بحيث يجب على المجتمع توفير فقهاء ذوي ملكات فقهية راسخة لسد حاجاته.
5- الملكة الفقهية ضرورية للفقيه، لتحقيق النضوج العقلي والفكري وما ينتج عن ذلك من أحكام فقهية، والحذق في الفقه والاستيلاء عليه.(1/102)
6- الملكة الفقهية ضرورية للمجتمع، لسد حاجاته: كمعالجة قضايا العصر ومشكلاته ووقائعه المستجدة، وترشيد مسيرة كل من الدعوة الإسلامية والمؤسسات المالية الإسلامية، وتذليل طريق استئناف الحياة الإسلامية.
7- تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى انتقاء خاص للدارسين للفقه الإسلامي، بحيث يتوفر فيهم: الذكاء والفطنة، والسيرة الحسنة، والالتزام بالواجبات الإسلامية، والهمة في طلب العلم. لذلك لا بد من توجيه الأذكياء وأوائل الطلبة إلى دراسة الفقه الإسلامي.
8- تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى انتقاء خاص للمدرسين للفقه الإسلامي، بحيث يتوفر فيهم: التمكن من الفقه والاستيلاء عليه، والنصح، والأمانة، والتحلي بآداب العلم، ومعرفة طرق التدريس.
9- تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى منهج دراسي أصيل، يتضمن العلوم والمعارف التالية: القرآن الكريم والسنة النبوية وعلومهما، والإجماع اليقيني، وأصول الفقه المتضمن قواعد الاستنباط، وعلوم اللغة العربية من نحو وصرف ولغة وبيان وأدب، ومقاصد الشريعة، والفقه الإسلامي، والقواعد الفقهية. هذا بالإضافة إلى فهم الواقع المعاصر بما فيه من علوم معاصرة، وتغيرات سياسية واجتماعية وغير ذلك، وضرورات العصر وحاجاته. ويتحقق ذلك بدراسة اللغة الأجنبية ومداخل العلوم الحياتية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحاسوب وغير ذلك.
10- تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى اتباع طريقة أصيلة في التدريس تقوم على أساس حفظ القرآن والسنة، وحفظ متن من المتون المختصرة في مذهب من المذاهب الفقهية من الصغر، لضرورة التأسيس. كما تقوم على أساس التدرج في التعليم، بحيث ينتقل المدرس بالطالب من مرحلة المختصرات إلى الكتب المتوسطة، ومن ثم إلى الكتب المطولة، التي تعرض آراء الفقهاء في جميع المذاهب.(1/103)
11- الملكة الفقهية تنمو وتترسخ في النفس بالترجيح بين الآراء الفقهية في المذاهب، والتخريج الفقهي في المذهب، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والمشاركة في المحاورات والمناظرات الفقهية، والرحلة في طلب الفقه.
12- الملكة الفقهية تتأثر بالآفات النفسية والأخلاقية، وهي: الكِبْر، والعُجْب، والغُرور، والحسد بين العلماء. فليحذر الفقهاء من هذه الآفات.
13- الملكة الفقهية تتأثر بالمعوقات المنهجية، وهي: الإخلال بالنصوص الثابتة، والقول بحرفية النصوص وعدم تعليل الأحكام، والتشديد والتضييق في المسائل الجديدة بعدم جوازها لعدم وجود نص من الكتاب أو السنة يقاس عليه أو قول لفقيه سابق يخرج عليه، والغلو في اعتبار المصلحة على حساب النصوص الثابتة القطعية الدلالة، وتبرير الواقع السيئ الذي صنعه غير المسلمين بإضفاء الشرعية عليه إرضاء لعامة الناس أو السلطان، أو لوقوع الفقيه تحت تأثير ما يسمى بالهزيمة النفسية.. فليحذر الفقهاء من هذه المعوقات.(1/104)