جمع وتحقيق الفقير إلى الله تعالى
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وقيوم السموات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين وحجة على الخلائق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله تعالى خلقنا لعبادته وأمرنا بتوحيده وطاعته وبذلك أنزل كتبه وأرسل رسله قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] فعلم التوحيد أجل العلوم وأصل الأصول لأن موضوعه معرفة الله وإخلاص العبادة له وتوحيده بربويته وإلهيته وأسمائه وصفاته وهو الأساس الذي تبنى عليه جميع الأقوال والأعمال.(1/1)
فالمسلم الموحد المخلص لله تعالى والمتابع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أعماله مقبولة والكافر والمشرك في عبادة الله غيره أعماله مردودة. قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]. وتخصيص الكافرين بعدم قبول أعمالهم يدل على أن أعمال المؤمنين الموحدين مقبولة كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا}#(1/2)
[طه: 112]. والقرآن الكريم مشحون بذكر الثواب والجزاء الحسن للمؤمنين الموحدين المطيعين لله ورسوله وذكر العقاب الأليم والعذاب لمن كفر بالله وعصاه وأشرك به وأعرض عن طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولما كان التوحيد بأنواعه بهذه المنزلة العالية والقدر الرفيع رأيت من واجبي تذكير وتنبيه إخواني المسلمين وأخواتي المسلمات بهذا الأمر العظيم فجمعت في هذا الكتاب ما أمكن جمعه مما يتعلق بالتوحيد وأنواعه وثوابه وما يتعلق بكلمة التوحيد لا إله إلا الله وشروطها ومستلزماتها ونواقضها وذكر ما تيسر من عقائد أهل السنة والجماعة الذين هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة والفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة وسميته "تذكير المسلمين بتوحيد رب العالمين" وهو مستفاد من كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام المحققين من أهل العلم أسأل الله تعالى أن ينفع به من كتبه أو طبعه أو قرأه أو سمعه فعمل به وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم ومن أسباب الفوز لديه بجنات النعيم وهو حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
المؤلف في 20/2/1409هـ#
مقدمة
تشتمل على صفوة عقيدة أهل السنة
وخلاصتها المستمدة من الكتاب والسنة
وذلك أنهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فيشهدون أن الله هو الرب الإله المعبود، المتفرد بكل كمال فيعبدونه وحده، مخلصين له الدين.
فيقولون: إن الله هو الخالق البارئ المصور الرزاق المعطي المانع المدبر لجميع الأمور.
وأنه المألوه المعبود الموحد المقصود، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء.
وأنه العلي الأعلى بكل معنى واعتبار، علو الذات وعلو القدر، وعلو القهر.(1/3)
وأنه على العرش استوى، استواء يليق بعظمته وجلاله، ومع علوه المطلق وفوقيته، فعلمه محيط بالظواهر والبواطن والعالم العلوي والسفلي، وهو مع العباد بعلمه، يعلم جميع أحوالهم، وهو القريب المجيب.
وأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، والكل إليه مفتقرون في إيجادهم وإيجاد ما يحتاجون إليه في جميع الأوقات، ولا غنى لأحد عنه طرفة عين، وهو الرءوف الرحيم، الذي ما بالعباد من نعمة دينية ولا دنيوية ولا دفع نقمة إلا من الله، فهو الجالب للنعم، الدافع للنقم.
ومن رحمته أنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا يستعرض حاجات العباد حين يبقى ثلث الليل الآخر. فيقول: لا أسأل عن عبادي غيري، من ذا الذي يدعوني فاستجب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر.#
فهو ينزل كما يشاء، ويفعل كما يريد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ويعتقدون أنه الحكيم، الذي له الحكمة التامة في شرعه وقدره، فما خلق شيئًا عبثًا، ولا شرع الشرائع إلا للمصالح والحكم.
وأنه التواب العفو الغفور، يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، ويغفر الذنوب العظيمة للتائبين والمستغفرين والمنيبين.
وهو الشكور الذي يشكر القليل من العمل ويزيد الشاكرين من فضله.
ويصفونه بما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
من الصفات الذاتية، كالحياة الكاملة، والسمع والبصر، وكمال القدرة والعظمة والكبرياء، والمجد والجلال والجمال، والحمد المطلق.
ومن صفات الأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته كالرحمة والرضا، والسخط والكلام، وأنه يتكلم بما يشاء كيف يشاء وكلماته لا تنفد، ولا تبيد.
وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود.(1/4)
وأنه لم يزل ولا يزال موصوفًا بأنه يفعل ما يريد، ويتكلم بما يشاء، ويحكم على عباده بأحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية، فهو الحاكم المالك، ومن سواه مملوك محكوم عليه، فلا خروج للعباد عن ملكه ولا عن حكمه.
ويؤمنون بما جاء به الكتاب وتواترت به السنة: أن المؤمنين يرون ربهم تعالى عيانًا جهرة، وأن نعيم رؤيته والفوز برضوانه أكبر النعيم واللذة.
وأن من مات على غير الإيمان والتوحيد فهو مخلد في نار جهنم أبدًا، وأن أرباب الكبائر إذا ماتوا على غير توبة ولا حصل لهم مكفر لذنوبهم ولا شفاعة فإنهم وإن دخلوا النار لا يخلدون فيها، ولا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان إلا خرج منها.
وأن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها، وأعمال الجوارح وأقوال اللسان، فمن قام بها على الوجه الأكمل فهو المؤمن حقًا، الذي استحق الثواب وسلم من العقاب، ومن#
انتقص منها شيئًا نقص من إيمانه بقدر ذلك. ولذلك كان الإيمان يزيد بالطاعة وفعل الخير، وينقص بالمعصية والشر.
ومن أصولهم السعي والجد فيما ينفع من أمور الدين والدنيا مع الاستعانة بالله. فهم حريصون على ما ينفعهم ويستعينون بالله. وكذلك يحققون الإخلاص لله في جميع حركاتهم، ويتبعون رسول الله في الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول، والنصيحة للمؤمنين واتباع طريقهم.#
فصل
ويشهدون أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو خاتم النبيين، أرسله إلى الإنس والجن بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، أرسله بصلاح الدين وصلاح الدنيا، وليقوم الخلق بعبادة الله ويستعينوا برزقه على ذلك.
ويعلمون أنه أعلم الخلق وأصدقهم وأنصحهم وأعظمهم بيانًا، فيعظمونه ويحبونه، ويقدمون محبته على محبة الخلق كلهم ويتبعونه في أصول دينهم وفروعه.
ويقدمون قوله وهديه على قول كل أحد وهديه.(1/5)
ويعتقدون أن الله جمع له من الفضائل والخصائص والكمالات ما لم يجمعه لأحد، فهو أعلى الخلق مقامًا وأعظمهم جاهًا، وأكملهم في كل فضيلة، لم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرهم منه.
وكذلك يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، وكل رسول أرسله الله، لا يفرقون بين أحد من رسله.
ويؤمنون بالقدر كله، وأن جميع أعمال العباد- خيرها وشرها قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، وتعلقت بها حكمته، حيث خلق للعباد قدرة وإرادة، تقع بها أقوالهم وأفعالهم بحسب مشيئتهم، لم يجبرهم على شيء منها بل جعلهم مختارين لها، وخص المؤمنين بأن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان بعدله وحكمته.
ومن أصول أهل السنة أنهم يدينون بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والمماليك والمعاملين، ومن له حق، وبالإحسان إلى الخلق أجمعين.#
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها وينهون عن مساوئ الأخلاق وأرذلها ويعتقدون أن أكمل المؤمنين إيمانًا ويقينًا، أحسنهم أعمالاً وأخلاقًا، وأصدقهم أقوالاً وأهداهم إلى كل خير وفضيلة، وأبعدهم من كل رذيلة.
ويأمرون بالقيام بشرائع الدين، على ما جاء عن نبيهم فيها وفي صفاتها ومكملاتها، والتحذير عن مفسداتها ومنقصاتها.
ويرون الجهاد في سبيل الله ماضيًا مع البر والفاجر، وأنه ذروة سنام الدين. جهاد العلم والحجة، وجهاد السلاح، وأنه فرض على كل مسلم أن يدافع عن الدين بكل ممكن ومستطاع.
ومن أصولهم الحث على جمع كلمة المسلمين، والسعي في تقريب قلوبهم وتأليفها.. والتحذير من التفرق والتعادي والتباغض والعمل بكل وسيلة توصل إلى هذا.(1/6)
ومن أصولهم النهي عن أذية الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم، والأمر بالعدل والإنصاف في جميع المعاملات. والندب إلى الإحسان والفضل فيها.
ويؤمنون بأن أفضل الأمم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأفضلهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصوصًا الخلفاء الراشدون والعشرة المشهود لهم بالجنة. وأهل بدر. وبيعة الرضوان والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فيحبون الصحابة ويدينون لله بذلك.
وينشرون محاسنهم ويسكتون عما قيل عن مساوئهم.
ويدينون لله باحترام العلماء الهداة وأئمة العدل، ومن لهم المقامات العالية في الدين والفضل المتنوع على المسلمين، ويسألون الله أن يعيذهم من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وأن يثبتهم على دين نبيهم إلى الممات.
هذه الأصول الكلية بها يؤمنون ولها يعتقدون وإليها يدعون (1) .#
التوحيد
اعلم رحمك الله.. أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده..
فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين، ودًّا، وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا.
وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين.
__________
(1) كتاب "القول السديد في مقاصد التوحيد" لابن سعدي رحمه الله تعالى ص(6-10).(1/7)
فبعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لغير الله، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن؛ كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره (1) .#
التوحيد الذي دعت إليه الرسل
التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول "الحديد" و"طه" وآخر "الحشر" وأول "{الم * تنزيل} السجدة"، وأول "آل عمران" وسورة "الإخلاص" بكمالها وغير ذلك (2) .
والثاني: وهو توحيد الطلب والقصد، مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] وأول سورة {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} وآخرها وأول سورة "يونس" وأوسطها وآخرها، وأول سورة "الأعراف" وآخرها، وجملة سورة "الأنعام".
__________
(1) "مجموعة التوحيد" ص(54).
(2) وهذا النوع يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.(1/8)
وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما فعل بهم في العقبى من العذاب (1) فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد (2) .
(قاعدة) يسمى دين الإسلام توحيدًا لأن مبناه على أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا
شريك له، وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وواحد في إلاهيته وعبادته لا ند له، وإلى هذه الأنواع الثلاثة ينقسم توحيد الأنبياء والمرسلين الذي جاءوا به من عند الله، وهي متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر فما ذاك إلا لأنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب، وإن شئت قلت: التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات؛ وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة. ذكره شيح الإسلام وابن القيم رحمهما الله (3) .
فضل التوحيد وفوائده
1- من فضائله أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما.
2- ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار، إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
__________
(1) عبر بقوله: (وما فعل) بصيغة الماضي لأن ما توعد الله به أهل الشرك متحقق ثابت بموتهم مشركين: فكأنه وقع فعلاً وذلك التعبير بصيغة الماضي الواقع عما سيكون يوم القيامة كثير في القرآن.
(2) "شرح العقيدة الطحاوية" بتحقيق الشيخ أحمد شاكر ص(29).
(3) "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" ص(33).(1/9)
3- ومنها أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة.
4- ومنها أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه.
5- ومن أعظم فضائله أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
6- ومن فضائله أنه يسهل على العبد فعل الخيرات وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي لما يخشى من سخطه وعقابه.
7- ومنها أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين.
8- ومنها أنه يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام، فبحسب تكميل العبد#
للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.
9- ومن أعظم فضائله أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي.
ويكون مع ذلك متألهًا متعبدًا لله لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه، ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.(1/10)
10- ومن فضائله التي لا يلحقه فيه شيء أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققًا كاملاً بالإخلاص التام، فإنه يصير القليل من عمله كثيرًا وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض.. وعمارها من جميع خلق الله كما في حديث أبي سعيد (1) وفي حديث البطاقة التي فيها لا إله إلا الله التي وزنت تسعة وتسعين سجلاً من الذنوب، كل سجل يبلغ مد البصر (2) وذلك لكمال إخلاص قائلها، وكم ممن يقولها لا تبلغ هذا المبلغ، لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإخلاص الكامل مثل ولا قريب مما قام بقلب هذا العبد.
11- ومن فضائل التوحيد أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال.
12- ومنها أن الله يدافع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره، وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة والله أعلم (3) .#
قاعدة
في طريقة القرآن في تقرير التوحيد ونفي ضده
__________
(1) عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال موسى يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى لا إله إلا الله، قال يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة: مالت بهن لا إله إلا الله» رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
(2) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.
(3) "كتاب القول السديد في مقاصد التوحيد" (16-19).(1/11)
القرآن كله لتقرير التوحيد ونفي ضده. وأكثر الآيات يقرر الله فيها توحيد الآلهية وإخلاص، العباد لله وحده لا شريك له ويخبر أن جميع الرسل إنما أرسلت تدعو قومها إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا وأن الله تعالى إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، وأن الكتب والرسل، بل الفطر والعقول السليمة كلها اتفقت على هذا الأصل.
الذي هو أصل الأصول كلها، وأن من لم يدن بهذا الدين الذي هو إخلاص العبادة والقلب والعمل لله وحده، فعمله باطل {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] ويدعو العباد إلى ما تقرر في فطرهم وعقولهم من أن الله المنفرد بالخلق والتدبير والمنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة. هو الذي يستحق العبادة وحده، ولا ينبغي أن يكون شيء منها لغيره، وأن سائر الخلق ليس عندهم أي قدرة على خلق، ولا نفع ولا دفع ضر عن أنفسهم فضلاً عن أن يغنوا عن أحد غيرهم من الله شيئًا.
ويدعوهم أيضًا إلى هذا الأصل بما يتمدح به، ويثنى على نفسه الكريمة، من تفرده بصفات العظمة والمجد، والجلال والكمال وأن من له هذا الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه مشارك: أحق من أخلصت له القلوب والأعمال الظاهرة والباطنة.
ويقرر هذا التوحيد بأنه هو الحاكم وحده، فلا يحكم غيره شرعًا ولا جزاء {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف: 40].
وتارة يقرر هذا بذكر محاسن التوحيد، وأنه الدين الوحيد الواجب شرعًا وعقلا وفطرة على جميع العبيد، ويذكر مساوئ الشرك وقبحه، واختلال عقول أصحابه بعد اختلال أديانهم، وتقليب أفئدتهم وكونهم أضل من الأنعام سبيلا.
وتارة يدعو إليه بذكر ما رتب عليه من الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة والحياة الطيبة
في الدور الثلاث، وما رتب على ضده من العقوبات العاجلة والآجلة، وكيف كانت عواقب المشركين أسوأ العواقب وشرها.(1/12)
وبالجملة: فكل خير عاجل وآجل، فإنه من ثمرات التوحيد، وكل شر عاجل وآجل فإنه من ثمرات الشرك والله أعلم (1) .
قاعدة
ربوبية الله في القرآن على نوعين، عامة، وخاصة.
كثر في القرآن ذكر ربوبية الرب لعباده، ومتعلقاتها، ولوازمها، وهي على نوعين:
النوع الأول: ربوبية عامة، يدخل فيها جميع المخلوقات، برها، وفاجرها بل مكلفوها وغير المكلفين حتى الجمادات، وهي أنه تعالى المتفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها، وإعطائها ما تحتاج إليه في بقائها، وحصول منافعها ومقاصدها والمقاصد منها، فهذه التربية لا يخرج عنها أحد.
والنوع الثاني: في تربيته لأصفيائه وأوليائه، فيريبهم بالوحي وينزل لهم بغيث العلم ويهديهم إلى الإيمان، ويوفقهم لتكميله ويكملهم بالأخلاق الجميلة، ويدفع عنهم الأخلاق الرذيلة وييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى، وحقيقتها: التوفيق لكل خير، والحفظ من كل شر، وإنالة المحبوبات العاجلة والآجلة وصرف المكروهات العاجلة والآجلة.
فحيث أطلقت ربوبيته تعالى، فإن المراد بها المعنى الأول مثل قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] ونحو ذلك.
وحيث قيدت بما يحبه ويرضاه، أو وقع السؤال بها من الأنبياء وأتباعهم، فإن المراد#
بها النوع الثاني. وهو متضمن للمعنى الأول وزيادة ولهذا تجد أدعية الأنبياء وأتباعهم في القرآن باسم الرب غالبًا فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فملاحظة هذا المعنى نافعة أعظم النفع للعبد.
__________
(1) "القواعد الحسان لتفسير القرآن" ص(17، 18) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي
رحمه الله.(1/13)
ونظير هذا المعنى الجليل: أن الله أخبر في عدة آيات أن الخلق كلهم عباده وعبيده {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] فكلهم مماليكه وليس لهم من الملك والأمر شيء، لا في أنفسهم ولا في غيرهم، ويخبر في بعض الآيات أن عباده بعض خلقه كقوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] ثم ذكر صفاتهم الجليلة كقوله {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وفي قراءة (عباده) وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] فالمراد بهذا النوع من قاموا بحقوق عبوديتهم له بصفة ربوبيته، وأخلصوا له الدين على اختلاف طبقاتهم.
فالعبودية الأولى: يدخل فيها البر والفاجر.
والعبودية الثانية: صفة الأبرار، ولكن الفرق: أن الربوبية وصف الرب وفعله، والعبودية وصف العبيد وفعلهم (1) .#
قاعدة
أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها: توحيد الألوهية والعبادة.
وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها وأفضلها، وأوجبها وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله وخلق المخلوقات وشرع الشرائع لقيامه وبوجوده يكون الصلاح وبفقده يكون الشر والفساد.
__________
(1) المصدر السابق (111، 112).(1/14)
وجميع الآيات القرآنية إما أمر به أو بحق من حقوقه أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه، أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين، ويقال له: توحيد الألهية، فإن الألهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم: ويوقنوا أنه الوصف الملازم له سبحانه، الدال عليها الاسم العظيم -وهو الله- وهو مستلزم جميع صفات الكمال، ويقال له: توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بصفته الملازمة له من مقتضيات العبودية للربوبية بإخلاص العبادة لله تعالى وتحقيقها في العبد أن يكون عارفًا بربه مخلصًا له جميع عباداته محققًا ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره وباتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا وباطنًا والبراءة من كل بدعة وضلالة والحب في الله والبغض في الله.
وهذا الأصل الذي هو أكبر الأصول وأعظمها قد قرره شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسائل لا تحصى وبالأخص في كتاب التوحيد، وذكر من تقريره وتفاصيله وتحقيقه، ونفي كل ما يضاده ما لم يوجد في كتاب غيره رحمه الله تعالى (1) .#
أنواع التوحيد
الحمد لله وكفى؛ وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد أعلم أرشدك الله تعالى أن الله خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] والعبادة هي التوحيد لأن الخصومة بين الأنبياء والأمم فيه كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وأما التوحيد فهو ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، توحيد الأسماء والصفات.
__________
(1) المصدر السابق (192).(1/15)
أما توحيد الربوبية: فهو الذي أقر به الكفار على زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يدخلهم في الإسلام وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستباح دماءهم وأموالهم وهو توحيده بفعله تعالى، والدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84-89] والآيات على هذا كثيرة جدًا أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر.
وأما توحيد الألوهية: وهو توحيد العبادة فهو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه وهو توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء والنذر والنحر والرجاء والخوف والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة.#
ودليل الدعاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وكل نوع من هذه الأنواع عليه دليل من القرآن.(1/16)
وأصل العبادة تجريد الإخلاص لله تعالى وحده وتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - . قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن: 18] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62]، والآيات في هذا المعنى معلومات، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
وأما توحيد الذات والأسماء والصفات: فهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجه اللائق بجلاله وعظمته قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4] وقال تعالى: {وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] - صلى الله عليه وسلم - وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].#
ثم اعلم أن ضد التوحيد الشرك وهو ثلاثة أنواع: شرك أكبر وشرك أصغر وشرك خفي:(1/17)
1- والدليل على الشرك الأكبر قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].
وهو أربعة أنواع:
النوع الأول: شرك الدعوة والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 69].
النوع الثاني: شرك النية والإرادة والقصد والدليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16].
النوع الثالث: شرك الطاعة والدليل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] وتفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية لا دعاؤهم إياهم كما فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم لما سأله فقال لسنا نعبدهم فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية (1) .
النوع الرابع: شرك المحبة والدليل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ#
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه.(1/18)
أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165].
2- الشرك الأصغر: وهو الرياء والدليل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
3- الشرك الخفي: والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء في ظلمة الليل) رواه الحاكم وصححه.
وكفارته قوله - صلى الله عليه وسلم - اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئًا وأنا أعلم وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم) رواه أبو يعلي وابن عدي وابن حبان والحكيم الترمذي.
والكفر كفران؛ كفر يخرج من الملة وهو خمسة أنواع.
النوع الأول: كفر التكذيب والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68].
النوع الثاني: كفر الإباء والاستكبار مع التصديق، والدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].
النوع الثالث: كفر الشك وهو كفر الظن والدليل قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 35-38].
النوع الرابع: كفر الإعراض والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3].#(1/19)
النوع الخامس: كفر النفاق والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3].
2- وكفر أصغر: لا يخرج من الملة وهو كفر النعمة والدليل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
وأما النفاق فنوعان اعتقادي وعملي:
فأما الاعتقادي: فهو ستة أنواع تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول، أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية لانتصار دين الرسول، فهذه الأنواع الستة صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار.
وأما العملي: فهو خمسة أنواع، والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر» (1) نعوذ بالله من النفاق والشقاق وسوء الأدب والله أعلم (2) .#
بسم الله الرحمن الرحيم
ما يجب على المسلم معرفته والعمل به (3)
(اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل)
(الأولى) العلم وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
(الثانية) العمل به.
(الثالثة) الدعوة إليه.
(الرابعة) الصبر على الأذى فيه.
__________
(1) هذه رواية أخرى للحديث في مسلم وغيره.
(2) "مجموعة التوحيد" ص(3-6).
(3) "مجموع الرسائل المفيدة المهمة في أصول الدين وفروعه" (منشورات المؤسسة السعيدية) ص(1-16).(1/20)
والدليل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3] قال الشافعي رحمه الله تعالى: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم، وقال البخاري رحمه الله تعالى: "باب العلم قبل القول والعمل"، والدليل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.
(اعلم رحمك الله أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه المسائل الثلاث والعمل بهن):
(الأولى): أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملاً بل أرسل إلينا رسولاً فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15، 16].#
(الثانية) أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن: 18].(1/21)
(الثالثة) أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصًا له الدين. وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم لها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ومعنى يعبدون يوحدوني، وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو دعوة غيره معه، والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل: معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فإذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته، وهو معبودي، ليس لي معبود سواه، والدليل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1]. وكل من سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم.
فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقاته، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما،#(1/22)
والدليل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الليْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
والرب هو المعبود والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 22] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.
وأنواع العبادة: التي أمر الله بها، مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه الدعاء والخوف والرجاء والتوكل، والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر، وغير ذلك من العبادة التي أمر الله بها كلها لله، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن: 18] فمن صرف منها شيئًا لغير الله فهو مشرك كافر.(1/23)
والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] وفي الحديث: "الدعاء مخ العبادة" (1) والدليل قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ودليل الخوف قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ#
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة: 150] الآية.
ودليل الإنابة قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] الآية. ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وفي الحديث: «إذا استعنت فاستعن بالله» (2) ودليل الاستعاذة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 1، 2] ودليل الاستغاثة قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] الآية.
__________
(1) رواه الترمذي عن أنس وهو حديث ضعيف.
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(1/24)
ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163] ومن السنة: «لعن الله من ذبح لغير الله» (1) ودليل النذر قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7].
الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مراتب: الإسلام والإيمان والإحسان، وكل مرتبة لها أركان.
المرتبة الأولى الإسلام: فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن#
محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
فدليل الشهادة قوله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ومعناها: لا معبود بحق إلا الله وحده. "لا إله" نافيًا جميع ما يعبد ما دون الله. "إلا الله" مثبتًا العبادة لله وحده، لا شريك له في عبادته، كما أنه ليس له شريك في ملكه، وتفسيرها الذي يوضحها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26-28] وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
__________
(1) رواه مسلم.(1/25)
ودليل شهادة أن محمدًا رسول الله قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].
ودليل الصيام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ودليل الحج قوله تعالى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].#
المرتبة الثانية: الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، وأركانه ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177] الآية، ودليل القدر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
المرتبة الثالثة: الإحسان. ركن واحد، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].(1/26)
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217، 220] وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] الآية، والدليل من السنة حديث جبريل المشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، قال: أخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: أخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: أخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة#
العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: فمضى فلبثنا مليًّا فقال: يا عمر أتدرون من السائل؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم» (1) .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه.(1/27)
الأصل الثالث: معرفة نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيًا رسولا، نبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] ومعنى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عظمه بالتوحيد و {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي طهر أعمالك عن الشرك، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام، وهجرها تركها وأهلها والبراءة منها وأهلها، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عرج به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة، والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97-99]، وقوله تعالى:(1/28)
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56].
قال البغوي رحمه الله: سبب نزول#
هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا، ناداهم الله باسم الإيمان والدليل على الهجرة من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (1) ، فلما استقر في المدينة أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة والصوم، والحج والأذان والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام، أخذ على هذا عشر سنين، وتوفي صلاة الله وسلامه عليه ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، والخير الذي دلها عليه: التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه.
والشر الذي حذرها عنه: الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه، بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس والدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وكمل الله به الدين والدليل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] والدليل على موته - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31].
والناس إذا ماتوا يبعثون والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] وقوله تعالى: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17، 18].
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والدرامي.(1/29)
وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: {وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين، والدليل قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ#
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو خاتم النبيين والدليل على أن أولهم نوح قوله تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً من نوح إلى محمد يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن عبادة الطاغوت. والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].(1/30)
وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، والطواغيت كثيرون ورءوسهم خمسة: إبليس لعنة الله، ومن عبد وهو راض، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئًا من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256] وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وفي الحديث: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» (1) والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.#
أربع قواعد مهمة (2) في التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي المسلم:
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مباركًا أينما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(2) المصدر السابق ص(27).(1/31)
اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم أن تعبد الله وحده مخلصًا له الدين، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت كالحدث إذا دخل في الطهارة، فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة وهي الشرك بالله الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه:
القاعدة الأولى: أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرون بأن الله تعالى هو الخالق المدبر وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام، والدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].#(1/32)
القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة، فدليل القربة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] ودليل الشفاعة قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} [يونس: 18] والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية وشفاعة مثبتة، فالشفاعة المنفية ما كانت تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] والشفاعة المثبتة هي التي تطلب من الله، والشافع مكرم بالشفاعة والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله بعد الإذن كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].(1/33)
القاعدة الثالثة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم: منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفرق بينهم، والدليل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ} [الأنفال: 39] ودليل الشمس والقمر قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] الآية، ودليل الأنبياء قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ#(1/34)
مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] ودليل الصالحين قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] الآية ودليل الأشجار والأحجار قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] وحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، قال: (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) (1) الحديث.
القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركًا من الأولين لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة ومشركو زماننا شركهم دائمًا في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].#
معنى الشهادتين ومقتضاهما (2)
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتعالى عما يقول الظالمون، والجاحدون علوًا كبيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
__________
(1) رواه الترمذي وصححه ورواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه.
(2) "الخطب المنبرية" للشيخ صالح الفوزان (2/ 7).(1/35)
عباد الله: إن الركن الأول من أركان الإسلام هو الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهذا الركن هو الأساس الذي تقوم عليه بقية الأركان، وتنبني عليه سائر أحكام الدين، فإن كان هذا الأساس سليمًا قويًا استقامت سائر الأعمال وكانت مقبولة عند الله وانتفع بها صاحبها، وإن اختل هذا الأساس فسدت سائر الأعمال وصارت هباء منثورًا، وصارت كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا وصارت كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وصارت تعبًا على صاحبها في الدنيا وحسرة وخسارة يوم القيامة. عباد الله: إن الشهادتين لهما معنى ولهما مقتضى، ولا بد للناطق بهما أن يعرف ذلك المعنى ويعمل بذلك المقتضى، وإلا فإنه لا ينفعه مجرد التلفظ بهما، فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله الإقرار بأنه لا يستحق العبادة إلا الله، وأن كل معبود سواه باطل، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان: 30] ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن تفرد الله بالعبادة فلا تعبد معه غيره، فإذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله، فقد أعلنت البراءة من كل معبود سوى الله والتزمت بعبادة الله وحده، وفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ولذلك لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمشركين: قولوا لا إله إلا الله، فهموا من ذلك أنه يطلب منهم عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام فامتنعوا من أن يقولوا هذه الكلمة واستنكروها وقالوا:#(1/36)
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 5-7] هذا معنى "لا إله إلا الله" جعل الألهة إلها واحدًا وترك عبادة ما سواه وقد فهمه المشركون لأنهم عرب فصحاء وعباد القبور اليوم لا يفهمون معنى لا إله إلا الله ولا يعملون بمقتضاها، فلذلك يقولون لا إله إلا الله، ويعبدون الموتى، فالمشركون الأولون أعلم منهم بمعنى لا إله إلا الله، وأعلم منهم بمقتضاها هؤلاء القبوريون يقولون لا إله إلا الله ويقولون مع ذلك: يا علي، يا حسين يا عبد القادر، ينادون الموتى ويستغيثون بهم في قضاء الحاجات وتفريج الكربات ويطوفون بقبورهم ويذبحون لهم، فما معنى لا إله إلا الله عند هؤلاء وما فائدتها إنهم قوم لا يعقلون {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37].(1/37)
عباد الله: ومن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن تقيم الصلاة، فإنها الركن الثاني بعد الشهادتين قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] ومن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن تؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، وتفعل الواجبات الدينية وتترك المحرمات فقد قاتل الصحابة رضي الله عنهم بقيادة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من منع الزكاة وهم يقولون لا إله إلا الله وقال الصحابة إن الزكاة من حق لا إله إلا الله، قيل للحسن البصري رحمه الله: إن ناسًا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة، وقال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة ؟ قال: بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك (1) .#
__________
(1) مفتاح الجنة لا إله إلا الله وأسنان هذا المفتاح شرائع الإسلام الظاهرة والباطنة.(1/38)
عباد الله: وكما أن الشرك الأكبر يناقض لا إله إلا الله وينافيها كذلكم سائر المعاصي التي هي دون الشرك تنقص مقتضى هذه الكلمة وتقلل من ثوابها بحسب الذنب الذي يصدر من العبد، ومطلوب من المسلم أن يقول لا إله إلا الله ويعلم معناها ويعمل بمقتضاها ظاهرًا وباطنًا، ويستقيم عليها قال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] {شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي: قال: لا إله إلا الله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بقلوبهم ما نطقت به ألسنتهم من تلك الكلمة، فاتقوا الله عباد الله واعرفوا معنى هذه الشهادة واعملوا بمقتضاها فليس المقصود منها مجرد النطق بها من غير فهم معناها واعتقاد مدلولها والعمل به فإن ذلك لا ينفع ولا يجدي قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]
معنى شهادة أن محمدًا رسول الله
ومعنى أشهد أن محمدًا رسول الله الإقرار بأنه رسول من عند الله، واعتقاد ذلك في القلب ومقتضى هذه الشهادة يتلخص في أربعة أمور: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فإذا شهدت أنه رسول الله وجب عليك أن تطيعه فيما يأمرك به، وأن تجتنب ما نهاك عنه، وأن تصدقه فيما يخبر به عن الله تعالى، وعن الغيوب الماضية والمستقبلة، وأن لا تتقرب بشيء من العبادات إلا إذا كان موافقًا لشريعته، فتترك البدع والمحدثات وتترك الأقوال المخالفة لسنته مهما بلغ قائلها من العلم والفقه.(1/39)
فكل منا ويؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله: كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله-: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد، ويقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] أتدري ما الفتنة؟
الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن#
يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] (1) .
1- وجوب عبادة الله وبيان معناها (2)
الحمد لله رب العالمين خلق الخلق لعبادته، وأمر بتوحيده وطاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكمل الخلق عبودية لله وأعظمهم خشية له، دعا إلى الله وجاهد في الله حق جهاده، وقام على قدميه الشريفتين حتى تفطرتا من طول القيام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وسار على نهجه وسلم تسليمًا كثيرًا.
__________
(1) المصدر السابق (2/ 11).
(2) المصدر السابق (2/ 13).(1/40)
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وتفكروا لماذا خلقتم وبماذا أمرتم إنكم خلقتم لعبادة الله وحده لا شريك له وبها أمرتم قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة وهي بهذا التعريف تشمل كل ما يصدر من العبد من الأعمال القلبية والبدنية والمالية المشروعة حتى العادات تتحول إلى عبادات إذا قارنتها نية صالحة، فالنوم مثلاً إذا قصد به التقوي على الصيام أو على قيام الليل يكون عبادة، واتصال الرجل بأهله إذا قصد به التعفف عن الحرام يكون عبادة، قال - صلى الله عليه وسلم - : «وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا:#
يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» رواه مسلم.(1/41)
وقد صح الحديث بأن نفقة الرجل على أهله صدقة، وفي صحيح مسلم عن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن نفقتك على عيالك صدقة» وخرج الإمام أحمد من حديث المقدام بن معدي كرب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة» وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه له صدقة، ولا ينقصه أحد إلا كان له صدقة» وفي رواية له أيضًا: «فلا يأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة».
عباد الله: والعبادة قسمان: قسم واجب وقسم مستحب، والقسم الواجب منه ما يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات كالصلوات الخمس، ومنه ما يتكرر كل أسبوع كصلاة الجمعة، ومنه ما يتكرر كل عام كصيام رمضان، وأداء الزكاة، ومنها ما يجب مرة واحدة في العمر كالحج والعمرة على المستطيع، والقسم المستحب لا يتحدد بوقت كنوافل الصلوات ونوافل الصدقات ونوافل الصيام فيما عدا الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وعن صيامها، ومن نوافل العبادة ما يطلب كل وقت كذكر الله بالقلب واللسان.(1/42)
قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42] وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190، 191] وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] وهكذا نرى أن عمر المسلم لا تمر منه فترة بغير عبادة قولية أو فعلية، ومن فرط في فترة من عمره فتركها تمر بغير عبادة خسرها يوم القيامة.#(1/43)
أيها المسلمون: والعبادة لا تسمى عبادة وتنفع صاحبها عند الله إلا إذا كانت خالصة لله ليس فيها شرك ولا رياء ولا سمعة، قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2، 3] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4-7] وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وفي الحديث: «يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» (1) وكما يشترط في صحة العبادة الإخلاص كذلك يشترط فيها المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم - : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (2) .
__________
(1) رواه مسلم
(2) رواه مسلم.(1/44)
أيها المسلمون: إن عبادة الله هي أول الواجبات على العبد وهي حق الله عليه المقدم على سائر الحقوق، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] والآيات في هذا كثيرة، وفي حديث معاذ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا» وعبادة الله واجبة على الإنسان العاقل من حين يبلغ سن التكليف إلى أن يموت، قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وقال عن عيسى عليه#
السلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].(1/45)
عباد الله: من لم يعبد الله صار عبدًا للشيطان، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61] من لم يعبد الله صار عبدا لهواه قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] من لم يعبد الله صار عبدًا لدنياه، قال - صلى الله عليه وسلم - : «تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض» وعبادة الله وحده لا شريك له هي التي يحصل به التمكين في الأرض، والأمن من المخاوف الدنيوية والأخروية قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
أيها المسلم: إنك تعاهد الله في كل ركعة من صلاتك حينما تقرأ قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] تعاهد الله أن لا تعبد إلا إياه ولا تستعين إلا به {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على محمد.#
2- بيان معنى العبادة وأهميتها (1)
__________
(1) المصدر السابق (2/ 255).(1/46)
الحمد لله رب العالمين خلق الجن والإنس لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في عبادته كما أنه لا شريك له في ملكه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قام على قدميه في صلاة الليل حتى تفطرتا (1) وقال إني أحب أن أكون عبدًا شكورًا - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان:
أما بعد:
أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وتفكروا لماذا خلقتم؟ إنكم خلقتم لتعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، و هي بهذا التعريف تشمل كل ما يفعله العبد بجوارحه وكل ما يقوله بلسانه وكل ما ينويه بقلبه مما شرعه الله تقربًا إليه، فالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل ذلك عبادة: بدنية ومالية، وذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وسائر الأذكار المشروعة كل ذلك عبادة قولية، واعتقاد القلب ونيته وإخلاصه: عبادة قلبية، وإذا صلحت نية العبد أصبحت كل أفعاله عبادة حتى الأمور العادية تنقلب إلى عبادة، فالنوم إذا نوى به التقوي على الصيام ولم يترك بسببه واجبًا من الواجبات يصبح عبادة وإنفاقه على نفسه وعلى زوجته وأولاده إذا نوى به الكفاف والتقوي على عبادة الله يصبح عبادة.
فيجب على المسلم أن يبتغي وجه الله في كل تصرفاته وفي كل ما يأتي وما يذر لأنه عبد الله ولأنه فقير إلى الله، وقد أمر الله بذلك نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 162-164].#
__________
(1) كما في الحديث الصحيح المتفق عليه.(1/47)
وبهذا يتضح أنه مطلوب من المسلم أن يصرف كل عباداته لله لأنه رب كل شيء فلا يصرف من عبادته شيئًا لغير الله لا لصنم ولا لبشر حي ولا ميت ولا لملك ولا لهوى نفسه ولا لطمع من أطماع الدنيا، ولا لرياء أو سمعة، لأن العبادة متى خالطها شيء من الشرك بطلت، قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
وكما أن المسلم مطالب بحفظ عمله من الشرك فإنه مطالب بحفظ وقته وعمره من الضياع {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] وذلك لأن وقت المؤمن ثمين وعمره غال ومحدود لا تجوز إضاعته فيما لا يفيد، وإذا نظرنا في واقعنا وواقع الناس وجدنا الكثير لم يرفع بذلك رأسًا، وإنما يعيش في هذه الدنيا عيشة البهائم، بل هو أضل سبيلاً لأن البهائم أدت مهمتها في الحياة، وهذا الإنسان لم يؤد مهمته فيها، ولأن البهائم ليس لها حياة أخرى تحاسب وتجازى فيها، كما لهذا الإنسان؛ الكثير من بني آدم ترك العبادة نهائيًا وعاش في هذه الدنيا إباحيًا ملحدًا لا يعرف ربه ولا يؤمن بيوم الحساب، والبعض الآخر أتعب نفسه بعبادة تضره ولا تنفعه حيث عبد غير الله {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 12، 13].(1/48)
وكثير ممن ينتسب إلى الإسلام اليوم ويعيش بين أظهر المسلمين وقد يكون من أبناء المسلمين يضيع أهم أنواع العبادة بعد الشهادتين وهي الصلاة التي هي عمود الإسلام: فبعضهم لا يصلي أبدًا أو يصلي بعض الصلوات ويترك البعض، وهؤلاء لا حظ لهم في الإسلام لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة (1) فمن تركها فقد كفر» (2) والأدلة على ذلك كثيرة. وبعض منهم يضيع أوقات الصلاة بحيث يصلي الصلاة في غير وقتها كمن يؤخر الفجر#
إلى ما بعد طلوع الشمس أو يجمع الأوقات الخمسة في وقت واحد وقد قال الله تعالى في هؤلاء {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5] وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم: 59، 60].
وتضييع الصلاة والسهو عنها هو تأخيرها عن وقتها من غير عذر شرعي، وقد توعد الله عليه بالويل والغي إلا من تاب منه، والبعض من هؤلاء يضيع صلاة الجماعة وهم كثير لا يحضرون مع المسلمين لإقامة الصلوات في المساجد، ولو كانت المساجد إلى جانب بيوتهم وأصوات المؤذنين تدوي في قعر بيوتهم، وما كأنها تعنيهم ولا كأن داعي الله يناديهم، قد مردوا على النفاق، واستمرءوا الانشقاق عن الجماعة واستكبروا عن عبادة ربهم في بيوته التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(1/49)
عباد الله: إن عبادة الله هي أوجب الواجبات وآكد الحقوق. فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وكل رسول أول ما يطلب ويطالب قومه بعبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وكل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) وقد وصف الله بالعبادة أكرم خلقه من الملائكة والرسل، وعبادة الله شرف وعز في الدنيا والآخرة ومن لم يعبد الله صار عبدًا للشيطان الذي هو عدوه.
قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61] من لم يعبد الله صار عبدًا لهواه،
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] ومن لم يعبد الله صار
عبدًا للدنيا والدرهم والأطماع الدنية الرذيلة قال#
النبي - صلى الله عليه وسلم - : «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة» (2) .
__________
(1) كما في الآيات من سورة الأعراف 59، 65، 73، 85، وفي سورة هود 50، 61، 84.
(2) رواه البخاري.(1/50)
فالإنسان عبد ولا بد فإما أن يكون عبدًا للواحد القهار بامتثال أمره واجتناب نهيه وفي ذلك عزه وشرفه وسعادته في الدنيا والآخرة ويكون {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] وإما أن يكون عبدًا لغير الله من الشياطين والأهواء والشهوات والنزعات والنزغات والأرباب المتفرقة فيكون مع السفلة والهابطين والكفار والمشركين {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] فاتقوا الله عباد الله والزموا طاعة الله وعبادته تنالوا كرامته في الدنيا والآخرة فإنكم حينما تقرءون قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] تعاهدون الله في كل ركعة من صلواتكم أن لا تعبدوا إلا إياه ولا تستعينوا إلا به (1) . قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].#
وجوب طاعة الله وطاعة رسوله (2) - صلى الله عليه وسلم -
الحمد لله رب العالمين، أمرنا باتباع رسوله، ومعرفة الهدى بدليله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاعبدوه واشكروا له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].
__________
(1) انظر "الخطب المنبرية" لفضيلة الدكتور صالح الفوزان (2/ 255).
(2) المصدر السابق (2/ 17).(1/51)
عباد الله: تبلغنا أوامر الله ورسوله بطرق متعددة ووسائل متنوعة، عن طريق تلاوة القرآن الكريم واستماعه وقراءة الأحاديث الشريفة وسماعها، وسماع الخطب والمواعظ وسماع البرامج الدينية في وسائل الإعلام، ودراسة المقررات الدراسية في مراحل التعليم، تصل إلينا وتبلغنا أوامر الله وأوامر رسوله عن طريق هذه الوسائل وغيرها ولكن لنسأل أنفسنا وليسأل بعضنا بعضًا أين الامتثال لهذه الأوامر؟ وأين أثرها فينا؟ هل غيرنا من واقعنا؟ هل عدلنا من سلوكنا من سيء إلى أحسن؟ هل اتجهنا إلى العمل الصالح وتزودنا من الطاعات؟
إن الكثير أو الأكثر منا بعكس ذلك، باق على غيه منساق مع شهواته، مطاوع لنفسه وهواه، تمر عليه هذه الأوامر الألهية وكأنها حكايات تاريخية أو قصص خيالية، كأنها لا تعنيه، هذا هو واقع الكثير منا رجالاً ونساء إلا من رحم الله التهاون بالصلاة أصبح مألوفًا كسب المال بالطرق المحرمة أصبح وسيلة اقتصادية متبعة، سماع الأغاني والمزامير والنظر إلى الأفلام الخليعة وانتشار ذلك بين العوائل صار كأنه من الضروريات التي تقوم عليها البيوت والأسر، جلب الرجال والنساء الأجانب وخلطهم مع الأسر باسم الخدم والخادمات أو السائقين بغض النظر عن عقائدهم المنحرفة وأخلاقهم الفاسدة، إلا من عصم الله، وبغض النظر عما#(1/52)
يحصل من الجرائم الخلقية منهم وبهم، أصبح جلبهم مع هذه المفاسد مجال مفاخرة ومنافسة لدى المترفين منا مع ما يعلمونه في ذلك من حصول المفاسد وما يسمعون من تحذير الناصحين فأي عقل ودين عند من يجلب امرأة أجنبية لا محرم معها ويدخلها في بيته وبين بنيه المراهقين، وقد تحصل منه أو منهم الخلوة المحرمة بها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» (1) وأي عقل أو دين فيمن يجلب رجلاً أجنبيًا سائقًا أو خادمًا ويتركه مع محارمه مع زوجته أو مع بنته في البيت أو في السيارة وثالثهما الشيطان؛ سبحان الله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
عباد الله: إن المؤمن عندما يسمع أوامر الله وأوامر رسوله يبادر بالامتثال، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] أي لا يحل لمن يؤمن بالله أن يختار من أمر نفسه ما شاء بل يجب عليه أن ينقاد لقضاء الله، وإن كان خلاف هواه، لأن قضاء الله خير له عاجلاً وآجلا، وقد توعد الله الذين يخالفون أمر الله وأمر رسوله بعد ما يبلغهم فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] فحذرهم من عقوبتين عاجلة في الدنيا وهي الفتنة وآجلة في الآخرة وهي العذاب الأليم، والفتنة تعم جميع أنواع الفتن من عمى القلب والإصابات في الأبدان والأموال من القتل والزلازل وتسلط الجبابرة وغير ذلك، مما هو واقع ومشاهد في عالم هذا الزمان.
__________
(1) رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم وصححه.(1/53)
عباد الله: لقد كان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدر هذه الأمة يبادرون إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله حال ما يسمعونه ولا يؤخرون ذلك، وأنا أذكر لكم وقائع من ذلك، لما حولت القبلة في الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة بأمر الله سبحانه بقوله {فَوَلِّ#
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] كان أول صلاة صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة صلاة العصر وصلاها معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الكعبة فداروا كما هم قبل البيت وهم في الصلاة وروى أبو داود وغيره عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] خرج نساء الأنصار كأن رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رحم الله نساء الأنصار لما نزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} الآية شققن مروطهن فاعتجزن بها وصلين خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما على رءوسهن الغربان (1) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة، فإذا مناد ينادي، قال: اخرج فانظر فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت فجرت في سكك المدينة، قال: فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها فهرقتها وفي رواية فقالوا: يا أنس اسكب ما بقى في إنائك فوالله ما عادوا فيها (2) .
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم وأبو داود وروى البخاري عنها نحوه.
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/54)
عباد الله: هذا موقف المؤمن مع أوامر الله وأوامر رسوله إنه المبادرة بالامتثال من غير تردد ولو كان في ذلك مخالفة هواه وترك مألوفه فاتقوا الله وانظروا مواقفكم مع أوامر الله ورسوله قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 24، 25].#
حق الله تعالى (1)
هذا الحق أحق الحقوق وأوجبها وأعظمها لأنه حق الله تعالى الخالق العظيم المالك المدبر لجميع الأمور، حق الملك الحق المبين الحي القيوم الذي قامت به السموات والأرض خلق كل شيء فقدره تقديرًا بحكمة بالغة، حق الله الذي أوجدك من العدم، ولم تكن شيئًا مذكورًا، حق الله الذي رباك بالنعم وأنت في بطن أمك في ظلمات ثلاث لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يوصل إليك غذاءك ومقومات نموك وحياتك، أدر لك الثديين وهداك النجدين وسخر لك الأبوين أمدك وأعدك.. أمدك بالنعم والعقل والفهم وأعدك لقبول ذلك والانتفاع به: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] فلو حجب عنك فضله طرفة عين لهلكت ولو منعك رحمته لحظة لما عشت، فإذا كان هذا فضل الله عليك ورحمته بك.
__________
(1) حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة للشيخ محمد الصالح العثيمين ص(5-9).(1/55)
فإن حقه عليك أعظم الحقوق لأنه حق إيجادك وإعدادك وإمدادك، إنه لا يريد منك رزقًا ولا إطعامًا {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] وإنما يريد منك شيئًا واحدًا مصلحته عائدة إليك يريد منك أن تعبده وحده لا شريك له {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56-58] يريد منك أن تكون عبدًا له بكل معاني العبودية كما أنه هو ربك بكل معاني الربوبية عبدًا متذللاً له خاضعًا له ممتثلاً لأمره مجتنبًا لنهيه مصدقًا بخبره لأنك ترى نعمه عليك سابغة تترى، أفلا تستحي أن تبدل هذه النعم كفرًا.
لو كان لأحد من الناس عليك فضل لاستحييت أن تبارزه بالمعصية وتجاهره بالمخالفة فكيف بربك الذي كل فضل عليك فهو من فضله وكل ما يندفع عنك من سوء فمن رحمته {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].#
وإن هذا الحق الذي أوجبه الله لنفسه ليسير سهل على من يسر الله له، ذلك بأن الله لم يجعل فيه حرجًا ولا ضيقًا ولا مشقة، قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].(1/56)
إنه عقيدة مثلى وإيمان بالحق وعمل صالح مثمر، عقيدة قوامها المحبة والتعظيم وثمرتها الإخلاص والمثابرة، خمس صلوات في اليوم والليلة يكفر الله بهن الخطايا ويرفع بهن الدرجات ويصلح بهن القلوب والأحوال يأتي بهن العبد بحسب استطاعته: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين، وكان عمران مريضًا صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب (1) .
زكاة وهي جزء يسير من مالك تدفع في حاجة المسلمين للفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين وغيرهم من أهل الزكاة (2) .
صيام شهر واحد في السنة {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ومن لا يستطيع الصيام لعجز دائم يطعم مسكينًا عن كل يوم.
حج البيت الحرام مرة واحدة في العمر للمستطيع.. هذه هي أصول حق الله وما عداها فإنما يجب لعارض كالجهاد في سبيل الله أو لأسباب توجيه كنصر المظلوم.
انظر يا أخي هذا الحق اليسير عملاً، الكثير أجرًا إذا قمت فيه كنت سعيدًا في الدنيا والآخرة ونجوت من النار، ودخلت الجنة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].#
مكانة لا إله إلا الله في الحياة:
__________
(1) رواه البخاري وغيره.
(2) وهي تنفع الفقير ولا تضر الغني.(1/57)
إنها كلمة يعلنها المسلمون في أذانهم وإقامتهم وفي خطبهم ومحادثاتهم وهي كلمة قامت بها الأرض والسموات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله رسله وأنزل كتبه وشرع شرائعه، ولأجلها نصبت الموازين ووضعت الدواوين وقام سوق الجنة و النار، وبها انقسمت الخليقة إلى مؤمنين وكفار، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نصبت القبلة، وعليها أسست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وعنها يسأل الأولون والآخرون.
... فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين: "ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟" وجواب الأولى بتحقيق لا إله إلا الله معرفة وإقرارًا وعملاً وجواب الثانية بتحقيق أن محمدًا رسول الله معرفة وانقيادًا وطاعة (1) .
هذه الكلمة هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى، والعروة الوثقى وهي التي جعلها إبراهيم {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28] وهي التي شهد الله بها لنفسه وشهدت بها ملائكته وأولو العلم من خلقه، قال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) [آل عمران: 18].
وهي كلمة الإخلاص وشهادة الحق، ودعوة الحق، وبراءة من الشرك، ولأجلها خلق الخلق كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ#
__________
(1) زاد المعاد لابن القيم (1/ 2).
(2) انظر مجموعة التوحيد (105-167).(1/58)
رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2].
قال ابن عيينة: ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله، وأن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا (1) فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر، ففي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» (2) وهي أول ما يطلب من الكفار عندما يدعون إلى الإسلام فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله» الحديث أخرجاه في الصحيحين (3) .
وبهذا تعلم مكانتها في الدين وأهميتها في الحياة وأنها أول واجب على العباد لأنها الأساس الذي تبنى عليه جميع الأعمال.
فضل لا إله إلا الله:
__________
(1) كلمة الإخلاص لابن رجب (52، 53).
(2) رواه مسلم في الإيمان برقم (23).
(3) رواه البخاري (3/ 255) ومسلم في الإيمان برقم (19).(1/59)
فلها فضائل عظيمة ولها من الله مكانة، من قالها صادقًا أدخله الله الجنة، ومن قالها كاذبًا حقنت دمه وأحرزت ماله في الدنيا وحسابه على الله عز وجل، وهي كلمة وجيزة اللفظ قليلة الحروف خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان فقد روى ابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله قال: قال موسى يا رب علمني شيئًا أذكرك وأدعوك به قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله، قال: كل عبادك يقولون هذا قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله (1) .
فالحديث يدل على أن لا إله إلا#
الله هي أفضل الذكر، وفي حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» رواه أحمد والترمذي (2) .
ومما يدل على ثقلها في الميزان أيضًا ما رواه الترمذي وحسنه، والنسائي والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، عن عبد الله بن عمرو: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر ثم يقال أتنكر من هذا شيئًا؟ فيقول لا يا رب، فيقال: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال بلى إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» (3) .
__________
(1) رواه الحاكم (1/ 528) وابن حبان برقم (2324) موارد الظمآن.
(2) الترمذي في الدعوات رقم (3579).
(3) رواه الترمذي رقم (2641) في الإيمان والحاكم (1/ 5، 6) وغيرهما.(1/60)
ولهذه الكلمة العظيمة فضائل كثيرة ذكر جملة منها الحافظ ابن رجب في رسالته المسماة "كلمة الإخلاص" واستدل لكل فضيلة ومنها: أنها ثمن الجنة، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة، وهي نجاة من النار: وهي توجب المغفرة وهي أحسن الحسنات، وهي تمحو الذنوب والخطايا وهي تجدد ما درس من الإيمان في القلب وترجح بصحائف الذنوب، وهي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله عز وجل وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها وهي أفضل ما قاله النبيون، وهي أفضل الذكر وهي أفضل الأعمال وأكثرها تضعيفًا وتعدل عتق الرقاب وتكون حرزًا من الشيطان، وهي أمان من وحشة القبر وهول الحشر وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم. ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لا بد أن يخرجوا منها، هذه عناوين الفضائل التي ذكرها ابن رجب في رسالته واستدل لكل واحد منها (1) (2) .#
ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية
في فضل من قال لا إله إلا الله (3)
__________
(1) "كلمة الإخلاص" لابن رجب (54-66).
(2) "معنى لا إله إلا الله ومقتضاها وآثارها في الفرد والمجتمع" للدكتور صالح الفوزان (10-15).
(3) المصدر السابق (33، 34).(1/61)
وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة وقالها خالصًا من قلبه مستيقنًا بها قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحًا فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار، من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة، وتواترت بأن كثيرًا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها.(1/62)
وأكثر من يقولها تقليدًا وعادة لم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: «سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته» (1) وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليدًا واقتداء بأمثالهم وهم أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 23] وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرًا على ذنب أصلاً فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذه الإخلاص وهذا المحبة وهذا اليقين لا تترك له ذنبًا إلا يمحى كما يمحى الليل بالنهار، انتهى كلامه رحمه الله (2) .#
بسم الله الرحمن الرحيم
معنى كلمة التوحيد
وتضمنها الكفر بما يعبد من دون الله
سئل العالم العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بأبي بطين رحمه الله عن معنى "لا إله إلا الله" وعمن قالها، ولم يكفر بما يعبد من دون الله، وهل من قالها ودعا نبيًا أو وليًا وهل تنفعه، أو هو مباح الدم والمال ولو قالها؟
أجاب رحمه الله تعالى وعفا عنه: معنى "لا إله إلا الله" عند جميع أهل اللغة وعلماء التفسير والفقهاء كلهم يفسرون الإله بالمعبود، والتأله التعبد. وأما العبادة فعرفها بعضهم بأنها ما أمر به شرعًا، من غير إطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، والمأثور عن السلف تفسير العبادة بالطاعة، فيدخل في ذلك فعل المأمور من واجب ومندوب، وترك المنهي عنه من محرم ومكروه، فمن جعل نوعًا من أنواع العبادة لغير الله كالدعاء والسجود والذبح والنذر وغير ذلك فهو مشرك.
__________
(1) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه
(2) "تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد" (66، 67).(1/63)
و"لا إله إلا الله" متضمنة للكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى لا إله لا الله إثبات العبادة لله وحده والبراءة من كل معبود سواه وهذا معنى الكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى الكفر بما يعبد من دونه البراءة منه واعتقاد بطلانه، وهذا معنى الكفر بالطاغوت في قول الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] والطاغوت اسم لكل معبود سوى الله كما في قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله» (1) .
فقوله: «وكفر بما يعبد من دون الله» فالظاهر أن هذا زيادة إيضاح، لأن لا إله إلا الله متضمنة الكفر بما يعبد من دون الله، ومن قال لا إله إلا#
الله ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر كدعاء الموتى والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتقرب إليهم بالنذور والذبائح فهذا مشرك شاء أم أبى، والله لا يغفر أن يشرك به {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] ومع هذا الفعل مشرك ومن فعله فهو كافر.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/64)
ولكن على ما قال الشيخ لا يقال فلان كافر حتى يبين له ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن أصر بعد البيان حكم بكفره وحل دمه وماله، وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39] أي شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ} فإذا كان في بلد وثن يعبد من دون الله قوتلوا لأجل الوثن، أي لإزالته وهدمه وترك الشرك، حتى يكون الدين كله لله، والدعاء دين سماه الله دينًا كما في قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] أي الدعاء، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له» (1) فمتى كان شيء من العبادة مصروفًا لغير الله فالسيف مسلول على ذلك، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (2) .#
معنى كلمة التوحيد
أيضًا
بسم الله الرحمن الرحيم
سأل بعض الإخوان الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين رحمة الله تعالى علينا وعليه، عن معنى "لا إله إلا الله" وما تنفي وما تثبت؟
__________
(1) رواه أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير كلهم عن ابن عمر، وذكره البخاري تعليقًا في الصحيح في الجهاد.
(2) "مجموعة التوحيد" (396).(1/65)
فأجاب رحمه الله تعالى: ما سألت عنه من معنى "لا إله إلا الله" وما تثبت وما تنفي فأول واجب على الإنسان معرفة معنى هذا الكلمة، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} [محمد: 19] وقال: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] أي بلا إله إلا الله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم فأفرض الفرائض معرفة معنى هذه الكلمة، ثم التلفظ بمقتضاها، فالإله هو المعبود والتأله التعبد ومعنى لا إله إلا الله (1) لا معبود بحق إلا الله، نفت الإلهية عمن سوى الله وأثبتتها لله تعالى وحده.
فإذا عرفت أن الإله هو المعبود، والإلهية هي العبادة، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال الأفعال، فالإله هو المعبود المطاع، فمن جعل شيئًا من العبادة لغير الله فهو مشرك، وذلك كالسجود والدعاء والذبح والنذر، وكذلك التوكل والخوف والرجاء وغير ذلك من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة، وإفراد الله سبحانه بالعبادة ونفيها عمن سواه هو حقيقة التوحيد، وهو معنى لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله بصدق ويقين أخرجت من قلبه كل ما سوى الله محبة وتعظيمًا وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، فلا يصير في قلبه محبة لما يكرهه الله ولا كراهة لما يحبه، وهذا#
__________
(1) بياض بالأصل، وهو معلوم مما تكرر مرارًا في المجموعة.(1/66)
حقيقة الإخلاص الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم - : «من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه دخل الجنة» (1) أو حرم الله عليه النار (2) قيل للحسن البصري: إن ناسًا يقولون: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها إلخ وغالب من يقول لا إله إلا الله، إنما يقولها تقليدًا، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، فلا يعرف الإخلاص فيها، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يصرف عنها عند الموت، وغالب من يفتن في القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: «سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته» (3) نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (4) .
وجوب معرفة الله وتوحيده
الحمد لله المتوحد بصفات العظمة والجلال، والمتفرد بالكبرياء والكمال، المولي على خلقه النعم السابغة الجزال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الرسل في كل الخصال، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل.
__________
(1) رواه البزار عن ابن سعيد ورمز السيوطي لصحته.
(2) متفق عليه من حديث عتبان بن مالك.
(3) أشار إلى ما في حديث في الصحيحين من أن المنافق والمرتاب إذ سئل في القبر: «ما علمك بهذا الرجل؟ يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته».
(4) "مجموعة التوحيد" (398).(1/67)
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله واعبدوه فإن الله خلقكم لذلك قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] خلقهم ليعبدوه ويدينوا بعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه والتوجه في كل الأمور إليه، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الرب الذي أوجد جميع المخلوقات، وأعدها وأمدها بكل ما تحتاج إليه من كل الجهات، وهي الفقيرة إليه بالذات وكل الصفات، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الملك المالك لجميع الموجودات والعوالم والممالك، الذي له الحكم والحمد في الأولى والآخرة وإليه يرجعون، وإليه تنتهي الأقدار ومنه تبتدي، وإذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، خلقهم ليعرفوا أحكامه الشرعية#
والقدرية والجزائية، ولها يخضعون فيعلموا أن كل شيء بقضاء وقدر، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم هو مولانا وعليه فليتوكل المؤمنون فترضى بالله ربًا، وسيدًا، ومدبرًا، وحاكمًا، وبمحمد نبيًا رسولاً ومبشرًا ومنذرًا، وبالإسلام دينًا وطريقًا ومسلكًا، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الله الذي لا إله إلا هو فليس له شريك في ألوهيته كما ليس له شريك في ربوبيته وملكه.
فكما أنه الخالق الزراق المدبر لجميع الأمور، فهو الإله المعبود المحمود المشكور، وكما أن جميع النعم الظاهرة والباطنة منه لطفًا وإحسانًا فهو المستحق لكمال الشكر إخلاصا ومحبة له وخضوعًا وإذعانًا، وكما أنه الذي لطف بكم وعدلكم وسواكم فليكن وحده معبودكم ومرجوكم ومولاكم، وكما شرع لكم دينًا حنيفًا ميسرًا موصلا للفلاح، فاسلكوا الصراط المستقيم متقربين إليه في الغدو والرواح، فليس لكم رب سواه، ولا معبود ومقصود إلا الله، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا معول في الأمور إلا عليه، فقوموا بعبوديته ظاهراً وباطنًا لعلكم تفلحون.(1/68)
واستعينوا به وتوكلوا عليه لعلكم ترحمون، إذا سألتم فلا تسألوا إلا الله وإذا استعنتم فلا تستعينوا بأحد سواه فإن الخلق كلهم فقراء عاجزون، وجميعهم إلى ربهم مضطرون مفتقرون، أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، ووفقنا لمحبته ومعرفته والقيام بطاعته، ولا حرمنا خير ما عنده من الإحسان، بشر ما عندنا من الإساءة والعصيان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وصلى الله وسلم على نبينا محمد (1) .#
3- العبادة في الإسلام حقيقتها وشمولها
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] فما العبادة وما فروعها وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة أم فوقها شيء وما حقيقة العبودية؟
فأجاب رحمه الله، الحمد لله رب العالمين، العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالصلاة والزكاة والصوم والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة.
__________
(1) انظر "الفواكه الشهية" لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي (24) رحمه الله تعالى.(1/69)
وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة، وذلك أن العبادة هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له وهي التي خلق الخلق لها قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 39] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
فالدين كله داخل في العبادة وقد ثبت في الصحيح أن جبريل عليه السلام لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة أعرابي فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فأخبره#(1/70)
بذلك ثم قال في آخر الحديث: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» (1) فجعل هذا كله من الدين، والدين يتضمن معنى الخضوع والذي يقال دنته فدان أي ذللته فذل، ويقال ندين الله وندين لله أي نعبده ونطيعه ونخضع له والعبادة أصل معناها الذل أيضا يقال طريق معبد أي مذللا قد وطئته الأقدام لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله، وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة وما عظم لغير الله فتعظيمه باطل، فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومقلب قلوبهم ومصرف أمورهم لا رب لهم غيره ولا مالك لهم سواه ولا خالق لكل شيء ومدبره ومسخره إلا هو، فإذا عرف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه ومحتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله، وهذه العبادة متعلقة بالألوهية لله تعالى، ولهذا كان عنوان التوحيد "لا إله إلا الله" بخلاف من يقر بربوبية الله ولا يعبد أو يعبد معه إلهًا آخر.
__________
(1) رواه مسلم.(1/71)
فالإله هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك، وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها وبها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله وأنزل كتبه، ومن عبادته وطاعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به رافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات دافعين بذلك ما قد يخاف من آثار ذلك كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل ويدفع به الجوع المستقبل وكذلك إذا آن آوان البرد دفعه الناس باللباس وكذلك كل مطلوب يرفع به مكروهًا فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله وكل ذلك من العبادة، وكل ما أمر الله به عباده من الأسباب هو عباده، والعبادة والطاعة والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد ولها أصلان أحدهما أن لا يعبد إلا الله الثاني أن لا يعبد إلا بما شرع وأمر لا يعبد بغير ذلك من الأهواء والظنون والبدع إذا تبين ذلك فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله وكلما ازداد العبد تحقيقًا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، وكلما ازداد القلب حبًا لله ازداد له عبوديته وكلما ازداد#
له عبودية ازداد له حبا وحرية مما سواه، والقلب فقير إلى الله من جهتين من جهة العبادة وهي العلة الغائية ومن جهة الاستعانة والتوكل فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقتة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].(1/72)
فالعبد مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه فهو الله الذي لا إله غيره وهو ربه الذي لا رب له سواه ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين "العبادة والاستعانة" فأكمل الخلق وأعلاهم وأفضلهم وأقربهم إلى الله أتمهم عبودية لله من هذا الوجه وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره فالمستسلم لله ولغيره مشرك والممتنع عن الاستسلام له مستكبر وكل من استكبر عن عبادة الله فلا بد أن يعبد غيره ويذل له، ولن يستغني العبد عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه و لا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ولا يوالي إلا من والاه ولا يعادي إلا من عاداه ولا يحب إلا لله ولا يبغض شيئًا إلا الله ولا يعطي إلا لله ولا يمنع إلا لله.(1/73)
فكلما قوي إخلاص حبه ودينه لله كملت عبوديته لله واستغناؤه عن المخلوقات وبكمال عبوديته لله تكمل براءته من الكفر والشرك والكبر، والدين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وتحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا وكلما كان في القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغيره بحسب ذلك، وكل محبة لا تكون لله فهي باطلة وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل فالدنيا ملعون ما فيها إلا ما كان لله، ولا يكون لله إلا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع وهذا الأصل أصل الدين وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين وبه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وإليه دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعليه جاهد وبه أمر وفيه رغب وهو قطب الدين الذي تدور عليه رحاه، وجماع الدين أصلان أن لا نعبد إلا الله وألا نعبده، إلا بما شرع ولا نعبده بالبدع كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110] وذلك#
تحقيق الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله ففي الأولى أن لا نعبد إلا إياه والثانية أن محمدًا هو رسوله المبلغ عنه فعلينا تصديق خبره وطاعة أمره وقد بين لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور، وأخبر أنها ضلالة فالحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله.(1/74)
وقد هدى الله المؤمنين المخلصين لله أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعوه فأخلصوا دينهم لله وأنابوا إلى ربهم وأحبوه ورجوه وخافوه وسألوه ورغبوا إليه وفوضوا أمرهم إليه، وتوكلوا عليه وأطاعوا رسله وعظموهم ووقروهم وأحبوهم ووالوهم واتبعوهم واقتفوا آثارهم واهتدوا بهداهم، وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه وهو حقيقة العبادة لله رب العالمين فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه ويكمله لنا ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (1) .
وجوب إخلاص العبادة لله وحده
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد الصادق الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين ورضي الله عن صحابته أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
اعلم أيها المسلم وفقك الله لحسن عبادته أن الله أرسل رسله ليدعو الناس إلى توحيده وإخلاص العبادة له سبحانه كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] أي لا نعبد إلا أنت يا الله ولا نستعين إلا بك، وكما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].#
__________
(1) انظر رسالة "العبودية" لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى.(1/75)
إذا عرفت هذا يا أخي المسلم فاعلم أن تحقيق التوحيد وهو تخليصه من شوائب الشرك والبدع، وهو أساس الدين الصحيح الذي لا يقوم الدين إلا عليه لأنه لا يصح للعبد إسلام ولا يقبل منه صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج، إذا لم يكن موحدًا لله لأن غير الموحد مشرك والمشرك عمله حابط وذنبه غير مغفور كما قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] وكما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].
إذا عرفت هذا فاعلم أن معنى توحيد الله: إفراده بالعبادة والعبادة هي غاية الذل والخضوع وهي أنواع كثيرة، منها: الدعاء وهو سؤال مغفرة الذنوب ودخول الجنة والنجاة من النار وشفاء المريض ورد الغائب وتفريج الكروب وإنزال الغيث والنصر على الأعداء والصلاح ونحو هذا فكل هذه المطالب لا تطلب إلا من الله لأنه وحده القادر عليها فمن طلب من المخلوق شيئًا منها فقد عبده من دون الله وجعله لله ندًا وشريكًا لأن الدعاء مخ العبادة كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وكما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وقال عز وجل {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
ومن أنواع العبادة: الذبح فمن ذبح لغير الله فقد أشرك بالله وعبد
__________
(1) في الحديث الذي رواه الترمذي وقال حديث غريب وضعفه غير واحد والذي صح الدعاء هو العبادة.(1/76)
غيره كمن يذبح للقبر أو للجن قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163] وقال عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ#
وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ومن أنواع العبادة: النذر فلا ينذر إلا لله فيقال لله علي نذر أن أتصدق بكذا أو أفعل كذا من الطاعات، ولا يقال لفلان علي نذر أن أتصدق بكذا أو أفعل كذا لأن النذر عبادة كما بين الله لنا ذلك في كتابه الكريم وكما بينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن أنواع العبادة: الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والرجاء والتوكل والرغبة والخشوع والخشية والإنابة والخضوع فلا يصح جعل شيء من ذلك لغير الله، وأما الاستعانة والاستغاثة بالمخلوق وطلب الحاجة منه فلا تصح إلا بثلاثة شروط.
الأول: أن يكون حيًا.
الثاني: أن يكون حاضرًا يسمع أو في حكم الحاضر كمن يخاطب بالتليفون أو يكاتب.(1/77)
الثالث: أن يكون قادرًا على ما يطلب منه كالإعانة على حمل المتاع والإغاثة من السبع أو من الحرق أو الغرق ببذل جهده في الإنقاذ أو بقضاء الحاجة المالية ونحوها مما يقدر عليه أو بدعائه ربه لأخيه لأن دعاء المسلم لأخيه مستجاب، أما الميت والغائب فحرام أن يستغاث به أو يستعان به أو يطلب منه شيء ومن فعل ذلك فقد أشرك بالله لأن الميت قد انقطع عمله وهو بحاجة إلى دعاء الحي الذي لم ينقطع عمله كما أن الميت لا يسمع هذا من الحي ولو سمع ما استجاب كما أخبرنا الله بذلك (1) وسماع الميت الوارد خاص بالسلام عليه فمن زاد على السلام على الميت والدعاء له فقد تجاوز الحد وابتدع وخالف كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رخص في زيارة القبور للرجال بين أن المقصد منها تذكر الآخرة والدعاء للأموات المسلمين.
أما النساء فلا تجوز لهن زيارة القبور لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن عن ذلك ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما: «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، والحاضر لا يطلب منه ما لا يملك كشفاء المريض أو إنزال المطر ونحو هذا فمن طلب منه شيئًا من ذلك فقد جعله شريكًا لله سبحانه، أما أن يطلب منه أن يدعو الله له فجائز.
إذا عرفت هذا أيها المسلم فاعلم أن زيارة القبور نوعان: شرعية ومحرمة أما الشرعية فهي التي لا يسافر من أجلها ولا يزيد الزائر على السلام على الميت والدعاء له وتذكر الآخرة كما بين ذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وفعله.
__________
(1) في قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14].(1/78)
وأما المحرمة فهي نوعان: بدعية منكرة وهي التي يسافر من أجلها أيا كان القبر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السفر إليها بقوله في الحديث الصحيح الذي في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» ولذلك فإن السفر إلى المدينة إنما ينشأ من أجل زيارة المسجد فإذا وصل الزائر إلى المسجد وصلى فيه التحية أولاً سلم على المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه وعلى أهل البقيع والشهداء لأنه صار بعد وصوله المدينة في حكم الحاضر.
ومن الزيارة البدعية المحرمة: طلب الشفاعة من الميت ولو كان أفضل الخلق محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وشفاعته حق نسأل الله أن يشفعه فينا ولكنها لا تطلب منه إلا في حال حياته قبل موته وبعد بعثته يوم القيامة، أما الآن فإنه ميت بلا شك كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] ومن أنكر موته فقد أنكر القرآن وأما حياته البرزخية فهي أكمل من حياة الشهداء ولكنها خلاف الحياة قبل الموت وبعد البعث فلا يطلب منه شيء ما دام لم يبعث ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم لا يزيدون على السلام عليه شيئًا.(1/79)
ومن الزيارة البدعية المحرمة التمسح بالقبور والطواف حولها تبركًا بها فكل هذا وما شابهه بدع منكرة فاعلها آثم مأزور غير مأجور وكل ما نقل من الأحاديث في جواز ذلك فهو كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما بين ذلك حفاظ الحديث وأهل التوحيد المحققون ثم اعلم أيها المسلم أن من البدع المحرمة التي نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بإزالتها البناء على القبور وتجصيصها وإلقاء الستور عليها وإيقاد السرج عليها والكتابة عليها فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك في عدة أحاديث منها ما روى مسلم في صحيحه وأهل السنن عن أبي الهياج الأسدي، قال: بعثني علي رضي الله عنه، وقال لي: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا صورة إلا طمستها.#
وأما النوع الثاني من الزيارة المحرمة فهي شركية محضة فاعلها مشرك شركًا أكبر يخرج من الإسلام والعياذ بالله وهو الذي يزور أي قبر كان قبر نبي أو ولي أو غيرهما لكي يدعوه أو يستغيث به أو يتوسط به عند الله أو يذبح له أو نحو هذا مما يفعله كثير من الجهال الذين يزعمون أنهم مسلمون ويزعمون أنه بتلفظهم بالشهادتين قد وحدوا الله واتبعوا رسوله، والذي ثبت بنص القرآن والسنة المطهرة أن الذي لا يعرف معنى لا إله إلا الله ولا يعمل به بإخلاص العبادة لله لا ينفعه التلفظ بها.(1/80)
إذا عرفت هذا أيها المسلم فاعلم أن الذي يحبه الله ورسوله ويحبه أولياء الله المتقون هو الذي لا يشرك بالله شيئًا بل يسلك الطريق الذي سلكه رسل الله وعباده المخلصون الذين عبدوا الله وقطعوا التعلق بغيره فهذا الموحد لله عز وجل هو الذي يشفع له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإذن الله ويأذن الله للشافعين، أن يشفعوا له لأنه مات على التوحيد الذي يرضاه الله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وكما قال عز وجل: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
إذا عرفت أيها المسلم ما تقدم فاعلم أن من الشرك بالله الحلف بغير الله كمن يحلف بالأمانة أو بالنبي أو بالشرف أو بالحياة فقد قال عليه الصلاة والسلام: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» (1) فاحذر من الوقوع في ذلك ثم اعلم أن كل معصية يقع فيها المسلم وكل انهزام يقع فيه المسلم أمام عدوه فإنما سببه نقص توحيده فعلينا أن نوحد ربنا حق توحيده ونؤمن به حق الإيمان ونتبع رسوله - صلى الله عليه وسلم - اتباعًا صادقًا بطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وعبادة الله بما شرع لأن كل عبادة لم يشرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعة وضلالة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم وغيره: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» هذا والله المسئول أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته وأن يهدينا جميعًا صراطه المستقيم وأن يدمر اليهود وأعوانهم والشيوعيين، وأعوانهم وكل ملحد وطاغوت والله حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على محمد وآله وسلم، ، ،
(انتهى من مجموع سبع رسائل للشيخ عبد الرحمن الحماد العمر)#
عقيدة أهل السنة والجماعة
وهي مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني (310-386 هـ)
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن.(1/81)
قال رحمه الله تعالى (باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات):
من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان بأن الله إله واحد لا إله غيره ولا شبيه له ولا نظير له ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة له ولا شريك له، ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء لا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون، يعتبر المفكرون بآياته ولا يتفكرون في ماهية ذاته {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
العالم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته (1) وهو بكل مكان بعلمه خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] على العرش استوى وعلى الملك احتوى وله الأسماء الحسنى والصفات العلى لم يزل بجميع صفاته وأسمائه، تعالى أن تكون صفاته مخلوقة وأسماؤه محدثة، كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه وتجلى للجبل فصار دكًا من جلاله، وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد، والإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا ومقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] يضل من يشاء#
__________
(1) ذكر الحافظ الذهبي جماعة من السلف أطلقوا هذه العبارة انظر كتاب العلو صفحة (171) ط2السلفية.(1/82)
فيخذله بعدله، ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله، فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه، وقدره من شقي أو سعيد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد أو يكون لأحد عنه غنى، خالق كل شيء ألا هو رب العباد ورب أعمالهم والمقدر لحركاتهم وآجالهم الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم، ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بمحمد نبيه - صلى الله عليه وسلم - فجعله آخر المرسلين بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا وأنزل عليه كتابه الحكيم بدينه القويم وهدى به الصراط المستقيم، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من يموت كما بدأهم يعودون، وأن الله سبحانه ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السئيات وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر وجعل من لم يتب من الكبائر صائرًا إلى مشيئته {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].
ومن عاقبه الله بناره أخرجه منها بإيمانه فأدخله به جنته {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ويخرج منها بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - من شفع له من أهل الكبائر من أمته.. وأن الله سبحانه قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم وهي التي أهبط منها آدم نبيه خليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه، وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله وجعلهم محجوبين عن رؤيته.
وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة والملك صفًا صفًا لعرض الأمم وحسابهم.(1/83)
وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون: 102] ويؤتون صحائفهم بأعمالهم: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 7-12] وأن الصراط حق يجوزه العباد بقدر أعمالهم فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه (1) من نار جهنم وقوم#
أوبقتهم فيها أعمالهم (2) .
والإيمان بحوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترده أمته لا يظمأ من شرب منه ويذاد عنه من بدل وغير، وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها فيكون بها النقص وبها الزيادة ولا يكمل قول الإيمان إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة (3) وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون، وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدين وأن المؤمنين يفتتنون في قبورهم ويسألون {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] وأن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم ولا يسقط شيء من ذلك من علم ربهم، وأن ملك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه، وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به ثم الذين يلونهم.
__________
(1) الضمير يعود إلى الصراط أي أن المؤمنين ينجون عليه من نار جهنم.
(2) الواو للعطف فالجملة معطوفة على قوله بأن الله إله واحد.
(3) ما لم يستحله يشير إلى الرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بفعل المعصية انظر شرح الطحاوية بتحقيق أحمد شاكر (261).(1/84)
وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.
وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر (1) بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم واتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم وترك المراء والجدال في الدين وترك كل ما أحدثه المحدثون، وصلي الله على سيدنا محمد نبيه وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم تسليمًا كثيرًا انتهى.
توحيد الله بربوبيته وإلهيته
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ#
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 20-22].
يخاطب الله تعالى الناس عمومًا مسلمهم وكافرهم عربهم وعجمهم وذكرهم وأنثاهم أمرًا لهم بما خلقهم لأجله وهو عبادته الجامعة لامتثال أمره واجتناب نهيه وتصديق خبره كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وأوجب عليهم الاستمرار على عبادته حتى الموت فقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] ثم استدل على وجوب عبادته وحده بأنه ربكم الذي أوجدكم من لعدم ورباكم بأصناف النعم وخلق الذين من قبلكم وأنعم عليكم بأنعمه الظاهرة والباطنة فجعل لكم الأرض فراشًا تستقرون عليها وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والتجارة والمشي في سبلها ابتغاء رزقه.
__________
(1) شجر: اضطراب واختلف الأمر بينهم.(1/85)
وجعل السماء بناء لمسكنكم وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم كالشمس والقمر والنجوم {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} والسماء هو كل ما علا فوقك فهو سماء ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء هنا السحاب فأنزل منه تعالى ماء {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} كالحبوب و الثمار والفواكه والزروع وغيرها {رِزْقًا لَكُمْ} به ترتزقون وتعيشون وتفكهون فكما أنه لا خالق ولا رازق إلا الله فلا معبود بحق إلا هو ولا متصرف في الكون سواه {فَلَا تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا} أمثالاً ونظراء من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله وتحبونهم كما تحبونه وهم مثلكم مخلوقون مرزقون مدبرون لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا ينفعون ولا يضرون {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق ولا في الرزق ولا في التدبير فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك.
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} المعنى أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين واتقيتم بذلك سخط الله وعذابه لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك.#
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة.
ما يستفاد من هذه الآيات:
1- الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه.
2- بيان الدليل الباهر على وجوب عبادة الله وحده وبطلان عبادة ما سواه وهو ذكر توحيد الربوبية المتضمن انفراد الله بالخلق والرزق والتدبير.
3- أن من عبد الله وحده مخلصًا له الدين فهو من المتقين وحصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.
4- أن جميع الناس مخلوقون لعبادة الله تعالى وتوحيده وإقامة دينه وعنه يقع السؤال وعليه يقع الجزاء وبذلك أرسلت الرسل وأنزلت الكتب.
5- وجوب شكر نعم الله بالاعتراف بها باطنًا والثناء على الله بها والاستعانة بها على طاعته وابتغاء مرضاته.(1/86)
6- أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق بالأخذ بأسباب الرزق من صناعة وزراعة وتجارة وغير ذلك فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله فقد أخذ بطرف من جعل لله ندًا.
فلا تعبد أحدًا في الدنيا من الخلق بسبب الدنيا، فإن الله عز وجل قد أتاح لك ما لابد لك منه من غير منة فيه لأحد عليك.
7- انفراد الله بالربوبية والألهية والملك وجميع صفات الكمال.
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].
هذه الآية الكريمة قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به والإيمان الذي هو تصديق القلب التام بهذه الأصول وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح هو بهذا#
الاعتبار يدخل فيه الإسلام وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها فهي من الإيمان وأثر من آثاره فحيث ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وكذلك الإسلام إذا ذكر وحده دخل فيه الإيمان، فإذا قرن بينهما كان الإيمان اسمًا لما في القلب من الإقرار والتصديق، والإسلام اسما للأعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة.(1/87)
فقوله تعالى: {قُولُوا} أي بألسنتكم متواطئة عليها قلوبكم وهذا هو القول التام المترتب عليه الثواب والجزاء فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب نفاق وكفر فالقول الخالي من العمل عديم التأثير قليل الفائدة وفي قوله: {قُولُوا} إشارة إلى الإعلان بالعقيدة والصدع بها والدعوة إليها لأنها أصل الدين وأساسه وفي قوله: {آمَنَّا} ونحوه مما فيه صدور الفعل منسوبًا إلى جميع الأمة إشارة إلى أنه يجب على الأمة الاعتصام بحبل الله جميعًا والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحدًا وعملهم متحدًا وأن المؤمنين كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا وفي ضمنه النهي عن الاختلاف والافتراق والتباغض.
{آمَنَّا بِاللهِ} أي صدقنا بوجوده ووحدانيته وأنه واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد حي لا يموت قيوم لا ينام متصف بكل صفة كمال متنزه عن كل نقص وعيب مستحق لإفراده بالعبادة كلها وعدم الإشراك في شيء منها {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن والسنة لقول الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من صفات الله وصفات رسله واليوم الآخر والغيوب الماضية والمستقبلة وما تضمناه من الأحكام الشرعية وأحكام الجزاء وغير ذلك.
{وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} الآية فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء والإيمان بالأنبياء عمومًا وخصوصًا ما نص عليه في الآية لشرفهم {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض بل نؤمن بهم كلهم وهذه خاصية المسلمين أنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل رسول أرسله الله بخلاف طوائف الشرك والكفر الذين يفرقون بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض فصاروا كافرين حقا.(1/88)
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} خاضعون لعظمته منقادون لعبادته بباطننا وظاهرنا مخلصون له العبادة.#
ما يستفاد من هذه الآية غير ما تقدم:
1- أنه يجوز للإنسان إضافة الإيمان إلى نفسه على وجه التقييد كقوله آمنت بالله بل إن ذلك واجب بخلاف قوله أنا مؤمن فإنه لا يقال إلا على وجه التقييد بالمشيئة كقوله أنا مؤمن إن شاء الله لما في إطلاق الإيمان من تزكية النفس والشهادة لنفسه بالإيمان.
2- أن عطية الدين هي العطية الحقيقية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة لم يأمرنا الله أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال بل أمرنا أن نؤمن بما أوتوا من الشرائع والكتب المنزلة.
3- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبلغون عن الله ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه ورسالاته.
4- أن من كمال ربوبية الله لعباده أن ينزل عليهم الكتب ويرسل إليهم الرسل فلا تقتضي ربوبيته تركهم سدى ولا هملاً.
5- اشتملت الآية السابقة على أنواع التوحيد الثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
6- الإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب السماوية النازلة على الأنبياء.
7- أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح.
8- الفرق بين الرسل الصادقين وبين من يدعي النبوة من الكاذبين.
9- تعليم الله سبحانه لعباده كيف يقولون وأن القول لا يغني عن العمل.
10- رحمة الله بعباده وإحسانه إليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة.
توحيد الله بالأدلة(1/89)
قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 163، 164] قال#
البغوي: سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا: يا محمد صف لنا ربك وانسبه فأنزل الله هذه الآية وسورة الإخلاص.(1/90)
قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} يخبر تعالى أنه إله واحد أي متوحد متفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله فليس له شريك في ذاته ولا سمي له ولا كفو ولا مثيل ولا نظير ولا خالق ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة ولا يشرك به أحد من خلقه لأنه {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} المتصف بالرحمة العظيمة التي لا يماثلها رحمة أحد فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي فبرحمته أوجدت المخلوقات وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات وبرحمته اندفع عنها كل نقمة وبرحمته عرف عباده نفسه بصفاته وآلائه وبين لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فإذا كان هو المنفرد بجميع أصناف النعم فهو المستحق لجميع أنواع العبادة وأن يفرد بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل والدعاء وغير ذلك من أنواع الطاعات ففي هذه الآية دليل إجمالي على وحدانية الله تعالى ثم ذكر الأدلة التفصيلية فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} أي في ارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها وما جعل فيها من الشمس والقمر والنجوم وتنظيمها لمصالح العباد وفي خلق {الْأَرْضِ} مهادًا وفراشًا للخلق يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها والاعتبار بذلك ما يدل على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقهم وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها وعلمه ورحمته التي أودع فيها ما أودع من منافع الخلق ومصالحهم وضروراتهم وحاجتهم وفي ذلك أبلغ دليل على كماله واستحقاقه أن يفرد بالعبادة لانفراده بالخلق والتدبير والقيام بشئون عباده.(1/91)
وفي {اخْتِلَافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ} وهو تعاقبهما على الدوام إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر وفي اختلافهما في الحر والبر والتوسط والطول والقصر والتوسط وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم وجميع ما على وجه الأرض من أشجار ونوابت كل ذلك بانتظام وتدبير وتسخير تنبهر له العقول ما يدل على قدرة مصرفها وعلمه وحكمته ورحمته الواسعة ولطفه الشامل مما يوجب أن يؤله ويعبد ويفرد بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء وفي {الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}#(1/92)
وهي السفن والمراكب ونحوها مما ألهم الله عباده صنعتها وخلق لهم من الآلات ما أقدرهم عليها ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال والبضائع التي هي من منافع الناس وبها تقوم مصالحهم وتنتظم معائشهم {وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} وهو المطر النازل من السحاب {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فأظهرت من أنواع الأقوات وأصناف النبات ما هو من ضرورات الخلائق التي لا يعيشون بدونها {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} أي نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة وسخرها للناس ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع فمنها ما يأكلون من لحمه ويشربون من دره ومنها ما يركبون ومنها ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم ومنها ما يعتبر به وفي ذلك دليل على قدرته وعظمته ووحدانيته وسلطانه العظيم، وفي {تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} باردة وحارة وجنوبًا وشمالاً وشرقًا وغربًا وبين ذلك وتارة تثير السحاب وتارة تؤلف بينه وتارة تلقحه وتارة تدره وتارة تمزقه وتزيل ضرره، وتارة تكون رحمة وتارة ترسل بالعذاب، وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير فيسوقه الله إلى حيث شاء فيحيى به البلاد والعباد ويروي به التلول والوهاد وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه فينزله رحمة ولطفًا ويصرفه عناية وعطفًا.
أخبر الله تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات أي أدلة على وحدانيته وإلهيته وعظيم سلطانه ولكنها {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له ويتفكرون بها في صنع الله ويستدلون بهذه المخلوقات على قدرة الله ويستعينون بنعمه على طاعته فلله الحمد أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا وله الحمد في السماوات والأرض والدنيا والآخرة سبحانه لا نحصي ثناء عليه.
ما يستفاد من هذه الآيات سوى ما تقدم:(1/93)
1- إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وإلهيته ونفيها عن غيره من المخلوقين وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم واندفاع جميع النقم.
2- مشروعية التفكر في مخلوقات الله ومصنوعاته والاستدلال بها على توحيده وقدرته.#
3- الدلالة على البعث والجزاء لأن الذي بدأ الخلق سوف يعيده ويجزي كل عامل بعمله {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] والذي يحيي الأرض بعد موتها بالمطر قادر على إحياء الأموات بعد فنائهم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].
4- وجوب شكر نعم الله باستعمالها في مرضاته وعدم الاستعانة بها على معاصيه.
5- إثبات صفة الرحمة الواسعة لله التي من آثارها أن خلق خلقه ورزقهم من الطيبات وحملهم في البر والبحر وسخر لهم جميع المخلوقات وفضلهم على كثير ممن خلق فاستحق منهم أن يشكروه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وأن يتقوه حق تقاته بطاعته وذكره وشكره وامتثال أمره واجتناب نهيه.
6- من آيات الله ومخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة ووحدانيته السموات والأرض وما فيهن وما بينهن والليل والنهار والرياح والسفن التي تجري في البحر بما ينفع الناس والمطر الذي به حياة الأرض.
7- جواز ركوب البحر مطلقًا لتجارة كان أو عبادة كالحج والجهاد.
8- انفراد الله بالخلق والإيجاد بما في ذلك إرسال الرياح وإنشاء السحاب وإنزال المطر وإنبات النبات وغير ذلك.
9- الرد على الطبائعين الذي يضيفون مخلوقات الله إلى الطبيعة.
قرب الله ممن دعاه وأسباب إجابة الدعاء(1/94)
قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
هذا جواب سؤال سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه فقالوا يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (1) #
لأنه تعالى الرقيب الشهيد المطلع على السر وأخفى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فهو قريب أيضًا من داعيه بالإجابة ولهذا قال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} والدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة والقرب نوعان قرب بعلمه من كل خلقه وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق فمن دعا ربه بقلب حاضر ودعاء مشروع ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء كأكل الحرام ونحوه فإن الله قد وعده بالإجابة وخصوصًا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية والإيمان الموجب للاستجابة فلهذا قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والعمل الصالح، وقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالدعاء والحث عليه والوعد عليه بالإجابة قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
__________
(1) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني، انظر "تفسير ابن كثير" (1/ 218).(1/95)
وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] وقال تعالى: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل دعوته، وإما أن يدخرها له في الأخرى، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» قالوا: إذا نكثر قال: الله أكثر، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدعاء هو العبادة» رواه أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وفي الحديث الآخر: «الدعاء مخ العبادة» رواه الترمذي (1) أي خالصها وإنما كان كذلك لأمرين أحدهما أنه امتثال لأمر الله حيث قال: «ادعوني أستجب لكم» الثاني: أنه إذا علم أن النفع والضر بيد الله انقطع تعلقه بغير الله.#
ما يستفاد من الآية:
1- الحث على الدعاء وبيان كرم الكريم سبحانه حيث أمر بالدعاء وتكفل بالإجابة.
2- قرب الله من جميع خلقه بالعلم والإحاطة وقربه من داعيه وعابديه بالإجابة والإثابة.
3- بيان أسباب إجابة الدعاء وهي الاستجابة لله بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى والإيمان به وأكل الحلال الطيب ورفع اليدين إلى السماء.
4- أن الإيمان بالله وطاعته سبب لتوفيقه وهدايته.
5- التحذير من التعرض لموانع إجابة الدعاء كأكل الحرام وشربه ولبسه والدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو استبطاء الإجابة وترك الإيمان وعدم الاستجابة لله وعمل المعاصي كل هذه الأشياء من موانع الإجابة.
6- أن الاستجابة لله والإيمان به سبب لحصول العلم لأن الرشد هو الهدى التام علمًا وعملاً.
أعظم آية في كتاب الله تعالى:
__________
(1) عن أنس وهو حديث ضعيف.(1/96)
قال الله تعالى: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم وقد صح الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها أعظم آية في كتاب الله وأنها تحفظ قارئها من الشياطين والشرور كلها لما احتوت عليه من معاني التوحيد والعظمة وسعة صفات الكمال لله تعالى فأخبر أنه {اللهُ} الذي له جميع معاني الألوهية وأنه لا يستحق الألوهية غيره فألوهية غيره وعبادة غيره باطلة فلا معبود بحق سواه وأنه {الْحَيُّ} الذي له جميع معاني الحياة الكاملة من السمع والبصر والقدرة والإرادة والعلم المحيط بكل شيء الكامل من كل وجه، فالحي يتضمن جميع الصفات الذاتيه وأنه {الْقَيُّومُ} الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع مخلوقاته وقام بها فأوجدها#
وأبقاها وأمدها بكل ما تحتاج إليه في بقائها.
فالقيوم يتضمن جميع صفات الأفعال ولهذا ورد أن اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فإن هذين الاسمين الكريمين يدخل فيهما جميع الكمالات الذاتية والفعلية، ومن كمال حياته وقيوميته أنه {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} أي نعاس {وَلَا نَوْمٌ} لأنهما إنما يعرضان للمخلوق الذي يعتريه الضعف والعجز والانحلال وينزه عنهما ذو العظمة والكبرياء والكمال.(1/97)
وأخبر أنه مالك لجميع ما في السموات وما في الأرض فكلهم عبيده ومماليكه لا يخرج أحد منهم عن هذا الوصف اللازم {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] فهو سبحانه المالك لجميع الممالك وهو الذي اتصف بصفات الملك الكامل والتصرف التام النافذ والسلطان والكبرياء، ومن تمام ملكه أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له مماليك لا يقدمون على الشفاعة لأحد حتى يأذن لهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله ولا يرضى إلا عن من قام بتوحيده واتباع رسله فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب وأسعد الناس بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه.
ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط وأنه يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبلة التي لا نهاية لها وما خلفهم من الأمور الماضية التي لا حد لها وأنه لا تخفى عليه خافية {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] وأن الخلق لا يحيط أحد منهم بشيء من علم الله ولا معلوماته إلا بما شاء منهما وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية وهو جزء يسير جدًا بالنسبة إلى علم الله ومعلوماته كما قال أعلم الخلق به وهم الرسل والملائكة {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] ثم أخبر عن عظمته وجلاله وأن كرسيه وسع السماوات والأرض وأنه قد حفظهما بما فيهما من العوالم بالأسباب والنظامات التي جعلها الله في مخلوقاته ومع ذلك فلا يؤده حفظهما أي لا يثقله لكمال عظمته وقوة اقتداره وسعة حكمته في أحكامه {وَهُوَ الْعَلِيُّ} بذاته على جميع مخلوقاته وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العلي بقهره الذي قهر المخلوقات ودانت له الموجودات وخضعت له الصعاب وذلت له الرقاب وهو {الْعَظِيمُ} الجامع لصفات#(1/98)
العظمة والكبرياء والمجد والبهاء الذي تحبه القلوب وتعظمه الأرواح وهو الكبير المتعال الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه سبحانه وتعالى، فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني وأفرضها على العباد يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ويحق لمن قرأها متدبرًا متفهمًا أن يمتلئ قلبه من اليقين والعرفان والإيمان وأن يكون محفوظًا بذلك من شرور الشيطان وتسن قراءتها عند النوم وبعد كل صلاة مفروضة.
ما يستفاد من آية الكرسي:
1- إثبات الألوهية لله تعالى ونفيها عما سواه.
2- إثبات صفة الحياة لله سبحانه المتضمنة لجميع الصفات الذاتية.
3- إثبات صفة القيوم لله المتضمنة لجميع صفات الأفعال.
4- تنزيه الله عن السنة والنوم لأنهما ينافيان كمال حياته وقيوميته.
5- إثبات سعة ملكه وانفراده بملك السموات والأرض وما فيهن.
6- إثبات الشفاعة بإذنه لمن رضي قوله وعمله.
7- إثبات صفة العلم الواسع لله وأنه محيط بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها وأنه سبحانه لا ينسى ولا يغفل ولا يلهيه شأن عن شأن سبحانه وتعالى.
8- أن الخلق لا يحيطون بشيء من علم الله إلا بمشيئته ولا يعلمون إلا ما علمهم.
9- عظمة الكرسي الدالة على عظمة الله تعالى.
10- بيان قدرة الله وكماله وأنه لا يعجزه شيء.
11- إثبات علو الله على خلقه بكل أنواع العلو فهو العلي بذاته وقدره وقهره.
12- إثبات المشيئة لله تعالى.
13- إثبات عظمة الله وكبريائه.
14- الرد على المشركين القائلين بأن أصنامهم تشفع لهم.
15- الرد على من زعم أن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها.
16- إثبات صفات الكمال كلها لله ونفي النقائص كلها عنه تعالى.
17- أن هذه الآية تحفظ قارئها من الشيطان والشرور.
18- أنها اشتملت على اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي وهو {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.#
ثواب الإيمان والعمل الصالح(1/99)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 277].
يخبر الله تعالى أن الذين صدقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والحساب والجزاء والصراط والميزان وصحف الأعمال والجنة والنار والوعد والوعيد والثواب والعقاب، وصدقوا بفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وصدقوا بالقدر خيره وشره، وصدقوا بكل ما أخبر الله به في كتابه وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعملوا بمقتضى هذا التصديق أعمالاً صالحة من صلاة وصدقة وزكاة وصيام وحج وبر والدين وصلة أرحام وإحسان إلى جيران ويتامى ومساكين وأبناء سبيل، وذكر الله ودعاء واستغفار، وعملوا بكل ما يستطيعون من الأعمال الصالحة التي أمر الله بها ورسوله وأقاموا الصلاة المفروضة في وقتها وجماعتها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، وأعطوا الزكاة المفروضة لمستحقيها فهؤلاء الذين قاموا بهذه العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة المتضمنة للإخلاص لله والإحسان إلى خلقه هؤلاء المؤمنون الصادقون في إيمانهم المخلصون لربهم سيجدون ثوابهم مدخرًا لهم عند الله أحوج ما يكونون إليه ولاخوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما خلفوا من أموال وأولاد وضيعة لأنهم أتوا بأسباب الأمن والراحة والطمأنينة والسعادة هؤلاء السعداء سوف تنزل عليهم الملائكة عند الموت تبشرهم وتطمئنهم وتهنئوهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] فنسأل الله الكريم أن يجعلنا منهم وأن لا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
ما يستفاد من هذه الآية:(1/100)
1- أنه لا بد مع الإيمان من العمل الصالح، وهو الخالص لله الموافق للسنة.#
2- فضل الإيمان والعمل الصالح.
3- فضل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
4- بيان ثمرة الإيمان والعمل الصالح وهو الثواب العظيم والأمن من الخوف مما يستقبل وعدم الحزن على ما فات.
5- أنه لا اعتبار للعمل ولا ثواب عليه ما لم يكن صالحًا.
6- أن الله تعالى مدح المؤمنين المطيعين لأمره المحسنين إلى خلقه وأخبر عما أعد لهم من الكرامة يوم القيامة.
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
وإرشاد الله إلى دعائه واستجابته
قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285، 286].(1/101)
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) أن من قرأ هاتين الآيتين في ليلة كفتاه أي من جميع الشرور وذلك لما احتوتا عليه من المعاني الجليلة فإن الله أمر في أول هذه السورة الناس بالإيمان بجميع أصوله في قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية وأخبر في هذه الآية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين آمنوا بهذه الأصول العظيمة وبجميع الرسل وجميع الكتب ولم يصنعوا صنيع من آمن ببعض وكفر ببعض كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة، وفي قرن المؤمنين بالرسول والإخبار عنهم جميعًا بخبر واحد شرف عظيم للمؤمنين وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشارك للمؤمنين في الخطاب الشرعي له وقيامه التام به وأنه فاق#
المؤمنين بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان وحقوقه {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} هذا التزام من المؤمنين عام لجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة وأنهم سمعوه سماع قبول وإذعان وانقياد ومضمون ذلك تضرعهم إلى الله في طلب الإعانة على القيام به وأن الله يغفر لهم ما قصروا فيه من الواجبات وما ارتكبوه من المحرمات وكذلك تضرعوا إلى الله في هذه الأدعية النافعة.
__________
(1) في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.(1/102)
والله تعالى قد أجاب دعاءهم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال قد فعلت، فهذه الدعوات مقبولة من مجموع المؤمنين قطعًا ومن أفرادهم إذا لم يمنع من ذلك مانع وذلك أن الله رفع عنهم المؤاخذة في الخطأ والنسيان وأن الله سهل عليهم شرعه غاية التسهيل ولم يحملهم من المشاق والآصار والأغلال ما حمله على من قبلهم ولم يحملهم فوق طاقتهم وقد غفر لهم ورحمهم ونصرهم على القول الكافرين، فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبما من به علينا من التزام دينه أن يحقق لنا ذلك وأن ينجز لنا ما وعدنا على لسان نبيه وأن يصلح أحوال المسلمين بمنه وكرمه وأن ينصرهم على القوم الكافرين آمين يا رب العالمين.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره عشرة أحاديث في فضل هاتين الآيتين منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي» رواه أحمد وعن علي رضي الله عنه قال: «ما كنت أرى أحدًا عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز أعطيه نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من تحت العرش» رواه ابن مردويه.
ما يستفاد من هاتين الآيتين الكريمتين:
1- امتثال الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لأمر ربهم في الإيمان وبكتبه ورسله.
2- أن المؤمنين يصدقون بكل كتاب أنزله الله وبكل رسول أرسله الله فلا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
3- إثبات علو الله على خلقه لأن النزول يكون من أعلى إلى أسفل.
4- شرف المؤمنين حيث قرن إيمانهم بإيمان الرسول وأنه قد فاقهم بذلك.
5- أن المؤمنين قد التزموا بجميع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة وأنهم قد سمعوا وأطاعوا وانقادوا للأوامر والنواهي الشرعية.#(1/103)
6- إرشاد الله عباده المؤمنين إلى سؤاله وأنه قد قبل منهم وغفر لهم ورحمهم وعفا عنهم ونصرهم على القوم الكافرين حيث نصروه وجاهدوا في سبيله.
7- فضل هاتين الآيتين ونفعهما وأنهما يكفيان من قرأهما جميع الشرور.
8- أن المخطئ والناسي لا حرج عليه.
9- أن الوجوب يتعلق بالاستطاعة.
10- يسر الإسلام وسماحته وسهولته.
11- أن كل إنسان سيجزى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
أجل شهادة على أجل مشهود عليه
قال الله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
هذه أجل الشهادات على الإطلاق؛ فإنها صدرت من الملك العظيم، ومن ملائكته وأنبيائه وأهل العلم على أجل مشهود عليه؛ وهو توحيد الله وقيامه بالقسط، وذلك يتضمن الشهادة على جميع أحكام الشرع وأحكام الجزاء؛ فإن الدين أصله وقاعدته توحيد الله وإفراده بالعبادة، والاعتراف بانفراده بصفات العظمة والكبرياء والمجد والعز والجلال، وبنعوت الجود والبر والرحمة والإحسان والجمال، وبكماله المطلق الذي لا يحصي أحد من الخلق أن يحيطوا بشيء منه أو يبلغوه أو يصلوا إلى الثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده.
وأما القسط فهو العدل الكامل والله تعالى هو القائم بالعدل في شرعه وخلقه وجزائه؛ فإن العبادات الشرعية والمعاملات وتوابعها، والأمر والنهي كله عدل وقسط، لا ظلم فيه بوجه من الوجوه، بل هو في غاية الإحكام والانتظام، وفي غاية الحكمة والجزاء على الأعمال، كله دائر بين فضل الله وإحسانه على الموحدين المؤمنين به، وبين عدله في عقوبة الكافرين والعاصين، فإنه لم يهضمهم شيئًا من حسناته، ولم يعذبهم بغير ما كسبوا {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ}.#(1/104)
فتوحيد الله ودينه قد ثبت ثبوتًا لا ريب فيه، وهو أعظم الحقائق وأوضحها، وقد شهد الله بذلك بما أقام من الآيات والبراهين والحجج المتنوعة عليه، ومن شهادته تعالى أنه أقام أهل العلم العارفين بهذه الشهادة، فإنهم المرجع للعباد في تحقيق كل حق وإبطال كل باطل، لما خصهم الله به من العلم الصحيح واليقين التام والمعرفة الراسخة.
وهذا من جملة فضائل العلم وأهله، فإن الله جعلهم وسائط بينه وبين عباده يبلغونهم توحيده ودينه وشرائعه الظاهرة والباطنة، وأمر الناس بسؤالهم والرجوع إلى قولهم، وأنهم هم الأئمة المتبوعون، وغيرهم تابع لهم في الدنيا والآخرة، ولهذا لهم الكلمة الرفيعة حتى في الآخرة، لما ذكر تعالى اختصام الخلق واختلافهم، ذكر القول الفصل في ذلك الصادر من أهل العلم {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56].
وفي هذا دليل على كمال عدل أهل العلم، فإن الله استشهد بهم على عباده، وذلك تعديل منه لهم، وفي هذا من الشرف وعلو المكانة ما لا يخفى (1) .
الإسلام هو الدين المقبول المرضي عند الله تعالى
قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
__________
(1) "تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن" (14، 15) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى.(1/105)
يخبر الله تعالى أن الدين المعتبر والمرضي والمقبول عند الله هو الإسلام وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله في الظاهر والباطن في القول والعمل والاعتقاد وذلك بما شرعه الله على ألسنة رسله قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] فمن دان بغير دين الإسلام فهو لم يعبد الله حقيقة لأنه لم يسلك الطريق الذي شرعه على ألسنة#
رسله وقد أمر الله المؤمنين أن يدخلوا في جميع شرائع الإسلام كلها القولية والاعتقادية والعملية في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] ونهاهم عن اتباع طرق الشيطان العدو المبين الذي يدعو الناس إلى الكفر والمعاصي والانسلاخ عن دين الإسلام حتى يكونوا من أصحاب السعير.
وقد أخبر الله أنه أكمل لنا ديننا بتمام النصر وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة في الأصول والفروع فلا يتطرقه نقص أبدًا ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وأصول وفروعه وأتم الله علينا نعمه ظاهرة وباطنة ورضي لنا الإسلام دينًا فلا يسخطه أبدًا وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن دين الإسلم بني على خمسة أركان وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإتياء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً فمن أتى بهن كاملات فقد استكمل الإيمان واستحق الفوز من ربه والرضوان.(1/106)
وقد سأل معاذ بن جبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمل يدخله الجنة ويباعده عن النار فاستعظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤاله وأخبره أن هذا العمل يسير على من يسره الله عليه وأرشده إلى الإتيان بهذه الأركان الخمسة وإن كانت الجنة لا تنال إلا برحمة الله فرحمة الله قريب من المحسنين الذين يعملون بشرائع الإسلام كلها ويتبعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» رواه البخاري وقال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» رواه البخاري ومسلم.
فدل هذا الحديث الصحيح على أن تارك الصلاة يقتل ومانع الزكاة يقتل، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة وقال إن الزكاة حق المال، وروى مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أرأيت إذا صليت المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام أدخل الجنة قال: «نعم» ومعنى حرمت الحرام اجتنبته ومعنى أحللت الحلال فعلته معتقدًا حله فدل هذا الحديث على أن من#
قام بالواجبات وانتهى عن المحرمات دخل الجنة.
فالإسلام يتطلب فعل الواجبات كلها رغبة في ثوابها وترك المحرمات كلها خوفًا من عقابها وأركان الإسلام مرتبط بعضها ببعض ودين الإسلام وحدة متماسكة فهو قول واعتقاد وعمل وهو حب وبغض حب لله ورسوله وحب لما يحبه الله ورسوله وبغض لما يبغضه الله ورسوله من الأشخاص والأعمال، والإسلام فعل وترك فعل للواجبات وترك للمحرمات.(1/107)
وقال عطاء الخراساني: الدين خمس لا يقبل الله منهن شيئًا دون شيء شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله وإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالجنة والحياة بعد الموت هذه واحدة والصلوات الخمس عمود الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة والزكاة طهور من الذنوب ولا يقبل الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة فمن فعل هؤلاء الثلاث ثم جاء رمضان فترك صيامه متعمدًا لم يقبل الله منه الإيمان ولا الصلاة ولا الزكاة فمن فعل هؤلاء الأربع ثم تيسر له الحج فلم يحج ولم يوص بحجته ولم يحج عنه بعض أهله لم يقبل الله منه الأربع التي قبله (1) .
ما يستفاد من هذه الآية:
1- وجوب الإسلام.
2- معرفة الإسلام وتفسيره.
3- فضل الإسلام.
4- وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه.
5- أن الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم.#
انفراد الله بالملك والتصرف
وقدرته على كل شيء
قال الله تعالى: {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ الليْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الليْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26، 27].
__________
(1) انظر "المجموعة الجليلة" للشيخ فيصل بن مبارك (395).(1/108)
يأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أصلاً وغيره تبعًا أن يقول عن ربه معلنًا بتفرده بتصريف الأمور وتدبير العالم العلوي والسفلي واستحقاقه باختصاصه بالملك المطلق والتصريف المحكم وأنه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء فالأمر أمر الله والتدبير له فليس له معارض في تدبيره ولا معاون في تقديره، وكما أنه المتصرف بمداولة الأيام بين الناس فهو المتصرف بنفس الزمان يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل أي يدخل هذا على هذا ويحل هذا محل هذا ويزيد في هذا ما ينقص من هذا ليقيم بذلك مصالح خلقه ويخرج الحي من الميت، كما يخرج الزرع والأشجار المتنوعة من بذورها والمؤمن من الكافر ويخرج الميت من الحي كما يخرج الحبوب والنوى والزروع والأشجار والبيضة من الطائر فهو الذي يخرج المتضادات بعضها من بعض وقد انقادت له جميع العناصر.
وقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي الخير كله منك ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله، وأما الشرف فإنه لا يضاف إلى الله تعالى لا وصفًا ولا اسمًا ولا فعلاً ولكنه يدخل في مفعولاته ويندرج في قضائه وقدره فالخير والشر كله داخل في القضاء والقدر فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه ولكن الشر لا يضاف إلى الله فلا يقال بيدك الخير والشر بل يقال بيدك الخير كما قال الله، وقاله رسول وقوله {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير حد ولا مقدار بالأسباب التي ينال بها رزقه وقد ذكرها الله في غير هذه الآية كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فعلى العباد أن لا يطلبوا الرزق إلا من الله#
ويسعو فيه بالأسباب التي يسرها الله وأباحها، وأن يحرصوا على ما ينفعهم ويستعينوا بالله.(1/109)
روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب» في هذه الآية من سورة آل عمران: {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) .
ما يستفاد من هاتين الآيتين الكريمتين:
1- فيهما تنبيه على شكر نعمة الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته حيث نقل النبوة من بني إسرائيل إلى هذا النبي الأمي العربي صلوات الله وسلامه عليه ونسخ بشريعته سائر الشرائع وفضل دينه على سائر الأديان وأنزل عليه القرآن خير كتبه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس فلله الحمد والشكر والثناء دائمًا وأبدًا.
2- انفراد الله تعالى بالملك والسلطان وتصريف أمور خلقه.
3- أن خيرات الدنيا والآخرة كلها من الله.
4- قدرة الله الشاملة لكل شيء.
5- من آيات الله الليل والنهار واختلافهما في الزيادة والنقصان.
6- الحكمة في إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل إقامة مصالح الخلق.
7- قدرة الله على إخراج المتضادات بعضها من بعض.
8- رزق الله من شاء من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه.
9- تعليم الله عباده كيف يثنون عليه ويسألونه ويشكرونه.
10- معرفة نعم الله على عباده والإرشاد إلى شكرها.#
مفاتح الغيب وإحاطة علم الله بكل شيء
قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
__________
(1) انظر "تفسير ابن كثير" (1/ 356).(1/110)
مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله خمس وهي المذكورة في سورة لقمان في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 33] فلا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله قبل تعليمه لمن شاء من خلقه ولا تدري نفس ماذا تكسب غدًا إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله تعالى.
وهذه الآية الكريمة من أعظم الآيات تفصيلاً لعلم الله المحيط بكل شيء وأنه شامل للغيوب كلها التي يطلع منها من شاء من خلقه وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين فضلاً عن غيرهم من العالمين وأنه يعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات والأشجار والرمال والحصى والتراب، وما في البحار من حيواناتها ومعادنها وصيدها وغير ذلك مما تحويه أرجاؤها ويشتمل عليه ماؤها {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ} من أشجار البر والبحر والبلدان والقفار والدنيا والآخرة {إِلَّا يَعْلَمُهَا} {وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ} من حبوب الثمار والزروع والبذور التي يبذرها الخلق وبذور النوابت البرية التي ينشئ منها أصناف النباتات {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} مما تقدم وغيره وهذا عموم بعد خصوص {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ قد حواها واشتمل عليها وهذا مما يبهر عقول العقلاء.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- اختصاص الله تعالى بعلم مفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية الأخرى.
2- عظمة الرب العظيم وكماله في أوصافه كلها.#
3- أن الخلق من أولهم إلى آخرهم لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفات الله لم يكن لهم قدرة ولا وسع في ذلك.(1/111)
4- الدلالة على علم الله المحيط بجميع الأشياء الظاهرة والباطنة والبارزة والخفية.
5- الإيمان باللوح المحفوظ أصل الكتب ومادتها وينبوعها المحيط بجميع الحوادث فتبارك الرب العظيم الواسع العليم الحميد المجيد الشهيد المحيط وجل من إله لا يحصي أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده.
من أدلة التوحيد
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الليْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55-57].(1/112)
يقول الله تعالى مبينًا أنه الرب المعبود المالك المتصرف وحده لا شريك له {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وما فيهما من العوالم وأصناف المخلوقات على عظمهما وسعتهما وإحكامهما وإتقانهما وبديع خلقهما {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة فلما قضاهما وأودع فيهما ما أودع من خلقه وأمره {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استقر وصعد وعلا وارتفع كما فسره بذلك أهل السنة كما يليق بجلاله وعظمته وسلطانه {يُغْشِي الليْلَ} المظلم {النَّهَارَ} المضيء فيظلم ما على وجه الأرض ويسكن الآدميون وتأوي المخلوقات إلى مساكنها ويستريحون من التعب الذي حصل لهم في النهار {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} كلما جاء الليل ذهب النهار وكلما جاء النهار ذهب الليل وهكذا أبدا على الدوام حتى يطوى هذا العالم وينتقل العباد إلى الدار الآخرة {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} أي بتسخيره وتدبيره وما له من أوصاف الكمال، فخلقها وعظمها دال على كمال قدرته، وما فيها من الإحكام والانتظام والاتقان دال على كمال حكمته، وما فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها دال على سعة رحمته#(1/113)
وعلمه وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} أي له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات علويها وسفليها أعيانها وأوصافها وأفعالها والأمر المتضمن للشرائع والنبوات فالخلق يتضمن أحكامه الكونية القدرية والأمر يتضمن أحكامه الدينية الشرعية، ثم أحكام الجزاء وذلك يكون في دار البقاء {تَبَارَكَ اللهُ} عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير فكل بركة في الكون فمن آثار رحمته {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي اسألوه تعالى واعبدوه {تَضَرُّعًا} إلحاحا في المسألة واستمرار في العبادة وتذللا واستكانة {وَخُفْيَةً} أي سرًا لا جهرًا وعلانية يخاف منه الرياء بل خفية وإخلاصًا لله {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} المتجاوزين للحد في كل الأمور ومن الاعتداء كون العبد يسأل الله مسائل لا تصلح له أو يتنطع في السؤال أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بعمل المعاصي {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} بالطاعات فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق وهي سبب زوال النعم وحصول النقم وهلاك الأمم قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق والأعمال والأرزاق وأحوال الدنيا والآخرة {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي خوفًا من عقابه وطمعًا في ثوابه طمعًا في قبولها وخوفًا من ردها لا دعاء معجب بنفسه معظم لها أو دعاء من هو غافل لاه ساه وهذا من إحسان الدعاء ولهذا قال: {إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في عبادة الله المحسنين إلى عباد الله فكلما كان العبد أكثر إحسانًا كان أقرب إلى رحمة ربه وكان ربه قريبًا منه برحمته.(1/114)
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- انفراد الله تعالى بالربوبية والخلق والأمر واستحقاقه للعبادة دون سواه.
2- من أدلة ربوبية الله خلقه للسموات والأرض وما فيهن وما بينهن وتسخيره الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم.
3- أن خلق السموات والأرض وقع في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة
ليعلم عباده التريث وعدم العجلة في الأمور وإلا فهو قادر على خلقها بلحظة.
4- الإيمان باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه.
5- الحث على عبادة الله تعالى بإخلاص، ودعائه بعزم وحزم واجتهاد وذل وخفية ورغبة ورهبة خوفًا وطمعًا.
6- تحريم الاعتداء في الدعاء ووعيد المعتدين بأن الله لا يحبهم.
7- النهي عن الإفساد في الأرض بالمعاصي بعد إصلاح الله إياها بالطاعة.
8- أن المعاصي سبب لكل شر وهلاك وشقاء في الدنيا والآخرة.
9- أن طاعة الله سبب لكل خير وصلاح وسعادة.
10- الحث على الإحسان في عبادة الله بإخلاصها وتكميلها والإحسان إلى خلقه بالقول والفعل والعلم والمال والجاه.
11- إثبات صفة المحبة والرحمة لله سبحانه وتعالى.#
فصل
في أن لا يسأل العبد إلا الله (1)
__________
(1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (1/ 78).(1/115)
قال الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله (1) وفي سنن الترمذي: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر» (2) وفي الصحيح أنه قال لعوف بن مالك والرهط الذين بايعهم معه: «لا تسألوا الناس شيئًا» (3) فكان سوط أحدهم يسقط من يده: فلا يقول لأحد ناولني إياه، وفي الصحيح في حديث السبعين ألفًا، الذين يدخلون الجنة بغير حساب: «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون» (4) والاسترقاء طلب الرقية، وهو نوع من السؤال.
وأحاديث النهي عن مسألة الناس الأموال كثيرة كقوله: «لا تحل المسألة إلا لثلاثة» (5) .
__________
(1) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) رواه الترمذي وغيره، قال الألباني: وهو حديث حسن.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري ومسلم وغيرهما وتمام الحديث:«وعلى ربهم يتوكلون».
(5) رواه مسلم عن قبيصة بن المخارق ونصه ما يلي:
عن أبي بشر قبيصة بن المخارق - رضي الله عنه - قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد صابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا» رواه مسلم.(1/116)
وقوله: «لأن يأخذ أحدكم حبله» (1) الحديث، وقوله: «لا تزال المسألة بأحدهم» (2) وقوله: «من سأل الناس وله ما يغنيه» (3) وأمثال ذلك وقوله: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس: لم تسد فاقته» (4) الحديث.
فأما سؤال ما يسوغ مثله من العلم: فليس من هذا الباب؛ لأن المخبر لا ينقص الجواب من علمه بل يزداد بالجواب، والسائل محتاج إلى ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : «هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإن شفاء العي السؤال» (5) ولكن من المسائل ما ينهى عنه، كما قال تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] الآية، وكنهيه عن أغلوطات المسائل (6) ونحو ذلك.
__________
(1) تمامه: «ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» رواه البخاري.
(2) ونص الحديث: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم» متفق عليه.
(3) تمامه: «جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح» رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدرامي وقال الألباني وإسناده صحيح.
(4) وتمامه: «ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
(5) رواه أبو داود والدارقطني وصححه ابن السكن.
(6) رواه أحمد وأبو داود عن معاوية بن أبي سفيان وحسنه السيوطي والأغلوطات ما يخالط به العالم من المسائل المشكلة لتشوش فكره.(1/117)
وأما سؤاله لغيره أن يدعو له: فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: «لا تنسنا من دعائك» (1) وقال: «إذا سمعتم المؤذن: فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرًا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وارجوا أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة» (2) .
وقد يقال في هذا: هو طلب من الأمة الدعاء له؛ لأنهم إذا#
دعوا له حصل لهم من الأجر أكثر مما لو كان الدعاء لأنفسهم، كما قال للذي قال: أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال: «إذًا يكفيك الله ما أهمك من أمر دنياك وآخرتك» (3) فطلبه منهم الدعاء له: لمصلحتهم كسائر أمره إياهم بما أمر به وذلك لما في ذلك من المصلحة لهم، فإنه قد صح عنه أنه قال: «ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ملكًا كل ما دعا دعوة قال الملك الموكل به: آمين ولك مثله» (4) .
من أصول الدين وقواعده
وحقوق الله وحقوق عباده
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(2) رواه مسلم وفيه حث وترغيب على متابعة المؤذن والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك وسؤال الله له الوسيلة وأن من حافظ على هذا رجيت له شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(3) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه، وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
(4) رواه مسلم.(1/118)
قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور في السنن من رواية فقيهي الصحابة، عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت: «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» (1) وفي حديث أبي هريرة المحفوظ: «إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» (2) .
فقد جمع في هذه الأحاديث بين الخصال الثلاث؛ إخلاص العمل لله ومناصحة أولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين، وهذه الثلاث تجمع أصول الدين وقواعده وتجمع الحقوق التي لله ولعباده وتنتظم مصالح الدنيا والآخرة.
وبيان ذلك أن الحقوق قسمان: حق لله وحق لعباده، فحق الله أن نعبده و لا نشرك به شيئًا كما جاء لفظه في أحد الحديثين، وهذا معنى إخلاص العمل لله، كما جاء في الحديث الآخر، وحقوق العباد قسمان: خاص وعام؛ أما الخاص فمثل بر كل إنسان والديه، وحق زوجته، وجاره، فهذه من فروع الدين؛ لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه؛ ولأن مصلحتها خاصة فردية.#
وأما الحقوق العامة فالناس نوعان: رعاة ورعية، فحقوق الرعاة مناصحتهم وحقوق الرعية لزوم جماعتهم، فإن مصلحتهم لا تتم إلا باجتماعهم وهم لا يجتمعون على ضلالة، بل مصلحة دينهم ودنياهم في اجتماعهم واعتصامهم بحبل الله جميعًا؛ فهذه الخصال تجمع أصول الدين.
وقد جاءت مفسرة في الحديث الذي رواه مسلم عن تميم الداري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة» قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم وصححه ابن حجر.
(2) رواه أحمد ومسلم.(1/119)
فالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله تدخل في حق الله وعبادته وحده لا شريك له، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم هي مناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعتهم، فإن لزوم جماعتهم هي نصيحتهم العامة، وأما النصيحة الخاصة لكل واحد منهم بعينه، فهذه يمكن بعضها ويتعذر استيعابها على سبيل التعيين (1) .
قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل
ولا بد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل، فتعتصم به، فتقل آفاتها أو تذهب عنها بالكلية؛ بحول الله وقوته.
فنقول اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء وأقواها المحبة، وهي مقصودة تراد لذاتها، لأنها تراد في الدنيا والآخرة بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] والخوف المقصود منه: الزجر والمنع من الخروج عن الطريق، فالمحبة تلقي العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده، فهذا أصل عظيم، يجب على كل عبد أن يتنبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبدًا لله لا لغيره.#
فإن قيل فالعبد في بعض الأحيان؛ قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه، فأي شيء يحرك القلوب؟ قلنا يحركها شيئان:
أحدهما: كثرة الذكر للمحبوب، لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به، ولهذا أمر الله عز وجل بالذكر الكثير فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41، 42].
__________
(1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (1/ 18).(1/120)
والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69] وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53] وقال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه، من تسخير السماء والأرض، وما فيها من الأشجار والحيوان، وما أسبغ عليه من النعم الباطنة، من الإيمان وغيره، فلا بد أن يثير ذلك عنده باعثًا، وكذلك الخوف؛ تحركه مطالعة آيات الوعيد، والزجر والعرض، والحساب ونحوه، وكذلك الرجاء؛ يحركه مطالعة الكرم؛ والحلم؛ والعفو؛ وما ورد في الرجاء والكلام في التوحيد واسع.
وإنما الغرض التنبيه على تضمنه الاستغناء بأدنى إشارة والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (1) .#
من آيات الله ومخلوقاته
أوجد الله الإنسان وجعله مفطورًا على معرفته ونصب له الأدلة الدالة على توحيده وعظمته وعلمه وقدرته فمن ذلك:
1- خلق الإنسان في أحسن تقويم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20] وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
2- خلق السموات السبع والأرضين السبع وما فيهن وما بينهن {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى: 29] وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].
__________
(1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (1/ 95).(1/121)
3- الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وقوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6].
4- السفن التي تجري في البحر بما ينفع الناس {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32].
5- السحاب والمطر والنبات {اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48] وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 14-16].
6- تصريف الرياح شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً وحارة وباردة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46].#
7- الجبال والأودية والأنهار والأشجار.
8- إجابة دعوة الداعين وكشف الكرب عن المكروبين {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
9- هداية السائرين في ظلمات البر و البحر {أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63].
10- بداية الخلق الخلق وإعادته {أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (1) [النمل: 64].
11- رزق العباد من السماء والأرض {أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [النمل: 64].
__________
(1) تمام الآية: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.(1/122)
12- اختلاف الأصوات واللغات والألوان {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].
13- النوم الذي يستراح به من التعب {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم: 23].
14- إخراج الحي من الميت والميت من الحي {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19].
15- خلق الأنعام لمنافع العباد من الأكل والشرب والحمل والركوب وغير ذلك {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 73].
فسبحان الخالق الرزاق القادر المدبر وله الحمد والشكر والثناء على ذلك وصلى الله على محمد.#
من الفروق بين الخالق والمخلوق (1)
وبين الخالق تعالى والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة.
(منها) أن الرب تعالى غني بنفسه عما سواه، ويمتنع أن يكون مفتقرًا إلى غيره بوجه من الوجوه، والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم حاجة ضرورية.
و(منها) أن الرب تعالى وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين فهو الذي يخلق ذلك وييسره فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته، وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقرون بأن الله هو المنعم على عباده بالإيمان، بخلاف القدرية، والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره.
__________
(1) "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (1/216-217).(1/123)
و(منها) أن الرب تعالى أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلا عليهم بل أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضربهم، بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه بخلا عليه، وهذا أيضًا ظاهر على مذهب السلف وأهل السنة الذين يثبتون حكمته ورحمته ويقولون: إنه لم يأمر العباد إلا بخير ينفعهم، ولم ينههم إلا عن شر يضرهم، بخلاف المجبرة الذين يقولون: إنه قد يأمرهم بما يضرهم وينهاهم عما ينفعهم.
و(منها) أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو المنعم بالقدرة والحواس وغير ذلك مما به يحصل العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده، فلا حول ولا قوة إلا به، ولهذا قال أهل الجنة {الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43] وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك.#
و(منها) أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء النعمة لم تقم العبادة بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمته أيضًا.
و(منها) أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله لها {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «لن يدخل أحد الجنة بعمله» (1) لا يناقض قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24].
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/124)
فإن المنفي نفي بباء المقابلة والمعاوضة كما يقال بعت هذا بهذا، وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سببًا للجزاء، ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه فهو ضال، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لن يدخل أحد الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (1) وروي بمغفرته، ومن هذا أيضًا الحديث الذي في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله لو عذب أهل سماوته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم» الحديث (2) .#
وجوب الإيمان بالله وفضله وحقيقته (3)
1- وجوب الإيمان بالله عز وجل:
خلق الله جميع الناس لأجل توحيده وعبادته قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ولذلك فقد هيأ سبحانه كل ما في الكون وسخره لمصلحة الإنسان ومن رحمة الله عز وجل أنه لم يترك الإنسان بلا إرشاد وبيان لطريق الحق ولذا فقد بعث الرسل وأنزل الكتب منذ عهد نوح عليه السلام حتى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والعبادة لا تكون إلى على بصيرة والبصيرة لا تكون إلا وفق منهج الله عز وجل الذي رسمه لأنبيائه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وصححه الألباني.
(3) "أصول المنهج الإسلامي" (19).(1/125)
وإذا فقد الإنسان عنصر الإيمان بالله تعطل استخدامه للعقل وأصبح أقل منزلة من الحيوانات قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
من هنا دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فمن لم يجب من أهل الكتاب قوتل حتى يؤمن أو يدفع الجزية تنفيذًا لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ}
[النساء: 136].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله» (1) .#
وأما الكفار من غير أهل الكتاب فيدعون إلى الإسلام ومن لم يجب قوتل أو يسلم.
والعلم بلا إله إلا الله المبني على التصديق والعمل جزاؤه الجنة يوم القيامة والسعادة الدائمة لحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» (2) . قال العلماء الإيمان قول وتصديق وعمل، والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والعلم بلا إله إلا الله يعني تصديق القلب بها والعمل بمقتضاها.
2- فضل الشهادتين:
__________
(1) الصحيحين.
(2) "صحيح مسلم".(1/126)
وقد ورد في فضل هاتين الشهادتين أحاديث كثيرة تتضمن الشهادة بالجنة، فمن ذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» (1) وفي رواية: «أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء» رواه البخاري ومسلم.
وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» رواه مسلم في صحيحه إلى غير ذلك من النصوص التي تدل على فضل الإتيان بهاتين الكلمتين حيث رتب على ذلك دخول الجنة وفتح أبوابها الثمانية والتحريم على النار.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن نوحًا عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو و ضعت في كفه ولا إله إلا الله في كفه رجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لفصمتهن لا إله إلا الله» رواه أحمد في مسنده والحاكم وصححه الذهبي.
وروى الترمذي وغيره عن عبد الله بن عمرو حديث صاحب البطاقة الذي يدعى#
يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً يعني من السيئات ثم يخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله) فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفه فطاشت السجلات وثقلت البطاقة رواه الترمذي في سننه وحسنه وأحمد وابن ماجة وصححه الحاكم.
__________
(1) متفق عليه.(1/127)
وروى ابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال موسى لربه لا إله إلا أنت إنما أريد شيئًا تخصني به قال يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله» (1) ومع ذلك لا بد من تحقيق هذه الكلمة العظيمة والعمل بمقتضاها لأن هذه أحاديث مطلقة تقيدها الأحاديث الأخرى التي تأمر بالإخلاص والصدق والمحبة وغير ذلك مما سيرد في شروط لا إله إلا الله.
3- حقيقة لا إله إلا الله:
ومعنى لا إله إلا الله أي لا معبود بحق إلا إله واحد وهو الله وحده لا شريك له (2) والشهادة معناها الإقرار بالعلم والإخبار والبيان والاعتراف والاعتقاد بالله وبرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قرن الله الاعتراف به مع هذه الكلمة العظيمة ولذلك يجب التمسك بها مهما كانت النتائج لحديث أنس: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله تعالى، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (3) وبقدر الالتزام بكلمة التوحيد ومقتضياتها يكون الالتزام بالحق مع الناس كافة ويكون الإخلاص في جميع الأعمال ويكون التحرر من الأمراض النفسية وتكون الاستقامة في المنهاج مما يعتبر أثرًا من آثارها.
وتتغير حياة الإنسان والمجتمع بقدر موقفه من هذه الكلمة العظيمة والعمل بمقتضاها لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].#
والإيمان الصحيح كما قال أهل العلم اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح ويزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأركانه ستة سبق بيانها.
__________
(1) رواه الحاكم في مستدركه وصححه والترمذي وحسنه.
(2) "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" (53).
(3) رواه الخمسة إلا أبا داود.(1/128)
وله بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان.
ويتفاوت الناس في العمل والقول والاعتقاد، والمؤمن الحق من تواطأ قلبه مع لسانه وصدقه العمل.
ومما لا شك فيه أن الذي لا يعمل بمقتضى لا إله إلا الله بصدق وإخلاص لا ينفعه التلفظ بها، فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله الإقرار بأنه لا يستحق العبادة إلا الله، وأن كل معبود سواه باطل قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان: 30].
ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله أن تفرد الله بالعبادة فلا تعبد معه أحدًا فإذا قلت أشهد أن لا إله إلا الله فقد أعلنت البراءة من كل معبود سوى الله، والتزمت بعباده الله وحده وفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه (1) .
ولذلك فإن الشرك في عبادة الله وما يتبعه من دعاء الأموات والاستعانة بهم والنذر والذبح لهم، وجعل الوسائط بين المسلم وبين الله يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم يعارض معنى لا إله إلا الله ويقدح في هذه الشهادة المقتضية للعلم والاعتقاد والالتزام.
وشهادة أن محمدًا رسول الله هي اعتقاد العبد برسالته - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الثقلين الإنس والجن وأنه يجب امتثال أمره واجتناب نهيه وهذا لا يتأتى إلا بطاعته ومحبته والسير على نهجه وتفضيله على النفس والولد والناس أجمعين.
وشهادة التوحيد أصل دين جميع الرسل كما قال عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] ويقول شيخ#
الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
__________
(1) د. صالح الفوزان "الخطب المنبرية".(1/129)
ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه، ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه، وهذا حقيقة لا إله إلا الله، وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء، والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين (1) والله أعلم.
شروط لا إله إلا الله
4- لا شك أن كلمة التوحيد هي عنوان الدخول في الإسلام تعتبر مفتاح الجنة وقد جعلها الله من أسباب النجاة من النار، ولذلك بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - تحريم دخول النار على من أتى بالشهادتين فقال - صلى الله عليه وسلم - : «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» (2) . وغير ذلك من الأحاديث المماثلة المطلقة، ولا شك أن شهادة التوحيد هذه سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، لكن هذا السبب لا يعمل عمله إلا باجتماع شروطه وانتفاء موانعه.
وهذا قول الحسن البصري ووهب بن منبه رحمهما الله وغيرهما من أهل العلم وقد قيل للحسن البصري رحمه الله أن ناسًا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال: «من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة» وهو قول حق لأن المنافقين يقولونها وقد أخبر الله عنهم أنهم في الدرك الأسفل من النار.
__________
(1) "مجموع فتاوى ابن تيمية" (28/ 32) جمع عبد الرحمن بن قاسم الأولى مطبعة الحكومة (1381)هـ.
(2) قطعة من حديث أخرجه البخاري في اللباس ومسلم في الإيمان.(1/130)
وقيل لوهب بن منبه أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة قال: بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك (1) وقد قرن الله تعالى في القرآن دخول الجنة بالأعمال الصالحة فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ#
وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].
كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرن أيضًا: دخول الجنة بالأعمال الصالحة في كثير من الأحاديث فقد قال لرجل سأله عن عمل يدخله الجنة: «تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» (2) وقال لآخر: «تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان» (3) وكل ما جاء من نصوص مطلقة في دخول الجنة بـ "لا إله إلا الله" فهو محمول على هذه النصوص التي تجمع بين التوحيد وعمل الصالحات.
ومن المعلوم أن المطلق يحمل على المقيد فإذا جاءت نصوص مطلقة وجاءت نصوص أخرى مقيدة متحدة في الحكم فإنه يحمل النص المطلق على المقيد ومن هذه الأحاديث المقيدة استنبط العلماء شروطًا لا بد من توافرها مع انتفاء الموانع حتى تكون كلمة إله إلا الله مفتاحًا للجنة بالفعل ومؤثرة في العمل والسلوك فمن هذه الشروط التي بينها أهل العلم وتسمى شروط لا إله إلا الله.
__________
(1) رواه البخاري تعليقًا في كتاب الجنائز باب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله (3/ 109).
(2) أخرجه البخاري في الأدب ومسلم في الإيمان.
(3) أخرجه البخاري في الزكاة ومسلم في الإيمان.(1/131)
1- العلم المنافي للجهل: فيجب أن تعلم معنى لا إله إلا الله علمًا منافيًا للجهل بها يعرف به مدلول النفي والإثبات، فهي تنفي الألوهية عن غير الله تعالى وتثبتها له سبحانه فلا معبود بحق إلا الله والدليل قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] وفي الصحيحين (1) : «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» وقد وقع المشركون في مخالفة معناها فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5].
2- اليقين المنافي للشك: فلا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين بل لا بد من أن يكون القلب موقنا بها ومصدقًا ومبتعدًا عن الشك والريب والظن وإن لم يحصل ذلك#
فهذا هو النفاق قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] وفي صحيح مسلم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة» وفي حديث آخر مستيقنًا بها قلبه وقال القرطبي (2) باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين بل لا بد من استيقان القلب إلخ، وذكر البخاري عن ابن مسعود قوله الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله.
__________
(1) والحديث روى في صحيح مسلم.
(2) "فتح المجيد" (36).(1/132)
3- القبول المنافي للرد: لما اقتضته هذه الكلمة لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35، 36] فمن رد دعوة التوحيد ولم يقبلها كبرًا وحسدًا فهو كافر سواء كان استكبارًا أو عنادًا أو غير ذلك من أسباب الرفض كحال بعض علماء أهل الكتاب.
4- الانقياد المنافي للترك: ويتحقق ذلك بمتابعة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتحكيم شرعه قال - صلى الله عليه وسلم - : «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» (1) وهذا هو تمام الانقياد وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها (يقسم الله بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا إلخ والانقياد هو الاستسلام والإذعان وعدم التعقب لشيء من أحكام الله.
5- الصدق المنافي للكذب: حيث يجب أن يواطئ القلب اللسان، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ولكن لم يطابق هذا القول ما في قلوبهم فصار قولهم كذبًا ونفاقًا وخداعًا#
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8-10].
__________
(1) حديث صحيح رواه النووي في الأربعين وصححه.(1/133)
وفي الصحيحين: «وما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار» وأما من قالها بلسانه وأنكر مدلولها بقلبه فإنها لا تنجيه. قال ابن القيم رحمه الله (التصديق بلا إله إلا الله يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله، ومعلوم أن عصمة المال والدم على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبالقيام بحقها وكذلك النجاة من العذاب على الإطلاق لم تحصل إلا بها (1) .
وقال ابن رجب أما من قال لا إله إلا الله بلسانه ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ} [القصص: 50] اهـ.
6- الإخلاص المنافي للرياء: وهو البراءة من الشرك وشوائبه لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] وفي صحيح البخاري: «أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه» (2) أو قال: «نفسه»، والإخلاص أن تكون العبادة لله وحده دون أن يصرف منها شيء لغيره.
__________
(1) "التبيان في أقسام القرآن" (43).
(2) "صحيح البخاري" في باب العلم.(1/134)
7- المحبة المنافية للبغض: وهي أن يحب هذه الكلمة ويحب أهلها العاملين بها ويجب العمل بمقتضاها، وعلامة ذلك تقديم محبتها على محبة غيرها وموالاة أهلها ومعاداة أعدائها وفي الحديث الشريف: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحب إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (1) والله أعلم (2) .#
أقسام التوحيد
5- ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيد الربوبية، ومقصود ذلك توحيد الله بأفعاله عز وجل، ويشمل الاعتراف بتدبير الله عز وجل في ملكه وتربيته لخلقه وشمولهم بأنواع الرعاية وأنه الخالق الرازق المحي المميت المدبر القادر العالم الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فالخلق والهداية والنفع والضر والرزق والحياة والموت والشفاء والمرض كلها بيده وحده عز وجل، وهو وحده يعز من يشاء ويذل من يشاء قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107].
والله هو الغني وكل الناس فقراء محتاجون إليه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ} [فاطر: 15] وهو رب العالمين النافذ أمره {بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) الثامن من شروط كلمة التوحيد الكفر بما يعبد من دون الله، قال - صلى الله عليه وسلم - : «من قال لا إله إلا اله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل» رواه مسلم في صحيحه.(1/135)
الثاني: توحيد الألوهية ومقصود ذلك توحيد الله بأفعال العبد، وهو صرف كل أنواع العبادة لله وحده، وعبودية الخلق للخالق عز وجل ووقوفهم عند أمره ونهيه وعدم دعاء المخلوقين أو التوسل بهم أو الذبح لهم من إنس أو جن أو ملائكة أو غيرهم.
ومن أنواع العبادة أيضًا الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والذبح والنذر والدعاء وغير ذلك مما لا يصرف إلا لله عز وجل.
وتوحيد الألوهية هو الذي جاءت به الرسل إلى أممهم تطالبهم بعدم الإشراك بالله، ومن المؤسف أن البعض يتخذ إلهه هواه وهم أصحاب المبادئ الوضعية والمنحرفون في عقيدتهم وعباد القبور من الصوفية والقبوريين وهم الذين يطلبون الغوث وإزالة الشدة والاستعانة بمخلوق ميت مدعين أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، في حين#
أن الميت ليس له تصرف في ذاته فضلا عن غيره قال تعالى: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ} [النمل: 62] وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63، 64].
وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى هو القادر وحده على إغاثة الملهوف وعلى دفع الضر وإيصال الخير بخلاف زعم الصوفية والقبوريين الذين يتخبطون في الشرك.
وبهذا يعلم أن من علق عبادته بمخلوق فقد شبه بالخالق، قال النووي رحمه الله وأما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة.اهـ.(1/136)
وهكذا فإن التوحيد هو إخلاص العبادة لله عز وجل وإن عبدة القبور الذين يبنون المشاهد عليها ويعظمونها هم ضالون لأن العبادة لا يستحقها نبي ولا ملك ولا غيره.
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: "فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة لزم أن يكون محبًا له".
ويدخل في ذلك لبس الحلقة والتمائم والتعلق بها لجلب نفع أو دفع ضر وتصديق الكهنة والسحرة والمشعوذين، والنذر لغير الله، و الاستعاذة بغير الله والاستغاثة بالمخلوقين قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162، 163] وقال أيضا متوعدًا {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] وقال سبحانه: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].#
قال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله في كتابه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة، هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين أن ذلك منهم كرامات، وقالوا منهم أبدال ونقباء وأوتاد وأقطاب إلى أن قال: وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيها الأجور قال، وهذا كلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق ومصادمة الكتاب العزيز المصدق ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة.(1/137)
وفي التنزيل (4/ 115) ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيرًا انتهى.
وضابط هذا كما قال أهل العلم أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة فإذا صرف من تلك العبادة شيئًا لغير الله فهو شرك مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله عز وجل {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14].
الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو العلم واليقين بأسماء الله وصفاته حيث يجب تقديسه عز وجل عما لا يليق به لأنه متصف بكل كمال، منزه عن كل نقص، فكل ما جاء في وصفه تعالى لنفسه في القرآن الكريم نعتقده ونصدق به، وكذلك ما جاءت به الأخبار الصحيحة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موصوفًا بها بصفات نصدق بها ونرد المتشابه إلى المحكم، ونصفه بما وصف به نفسه عز وجل من غير تكييف أو تشبيه أو تمثيل أو تجسيم أو تعطيل أو تحريف وننزهه عن الشبه والمثل لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3] والله أعلم.#
نواقض الإسلام
6- نواقض لا إله إلا الله:
ونواقض لا إله إلا الله تعد في مجموعها نقضًا لتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وقد بينها السلف الصالح وعددوها وحذروا من الوقوع فيها وذكر الفقهاء حكم المرتد وما تحصل به الردة كما ذكر أئمة الدعوة رحمهم الله تفصيل نواقض الإسلام ومنهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقد لخصها في عشرة نواقض وقد أضاف عليها الشيخ عبد العزيز بن باز ما ظهر من تعبيرات معاصرة تنقض الشهادتين والعياذ بالله وندرجها فيما يلي:(1/138)
1- الشرك في عبادة الله قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] ومن ذلك دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذر والذبح لهم قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].
2- من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعًا.
3- من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر.
4- من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين أو أن الإسلام كان سببًا في تخلف المسلمين أو أنه ينحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى أو القول بأن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر
الحاضر، أو اعتقاد أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله في المعاملات الشرعية، أو الحدود أو غيرها، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم#
الشريعة، لأنه بذلك قد استباح ما حرم الله إجماعًا وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين.
5- من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمشروعيته ولو عمل به فقد كفر لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28].
6- من استهزأ بشيء من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وثوابه أو عقابه فقد كفر لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66].(1/139)
7- السحر ومنه الصرف أي صرف الرجل عن محبة زوجته إلى بغضها، ومنه العطف أي ترغيب الإنسان فيما لا يهواه بطرق شيطانية، فمن فعله أو رضي به كفر لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102].
8- مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
9- من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
10- الإعراض الكلي عن دين الله أو عما لا يصح الإسلام إلا به لا يتعلمه ولا يعمل به لقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22] ولا فرق بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
نعوذ بالله من موجبات غضبة وأليم عقابه (1) انتهى.
وبعد فإذا عرفت هذا أيها المسلم فاعلم أنه لا تقبل لمن أشرك بالله ما يقوم به من صلاة أو زكاة أو صيام أو غير ذلك كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] وقال أيضًا: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
__________
(1) نواقض الإسلام لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مجلة البحوث الإسلامية العدد السابع (1403) هـ.(1/140)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضًا من الإسلام لأسباب، منها: الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعًا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} [يونس: 101]، فبعث الله سبحانه رسله، تنهي عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: "ومن أنواعه –يعني الشرك- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلاً عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده".#
ولخص بعض أهل العلم (1)
__________
(1) حول الشهادتين معناهما وما تستلزم كل منهما مقال للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين مجلة البحوث الإسلامية العدد (17) ذي القعدة وذي الحجة ومحرم وصفر (1406-
1407 هـ).(1/141)
الخصال التي ينافي فعلها كلمتي التوحيد فذكر زيادة على ما سبق ذكره إنكار خلق الله لبعض الموجودات وإسناد التصرف إلى الطبيعة والصدفة كما يقول الدهريون والشيوعيون اليوم وإنكار شيء من صفات الكمال لله عز وجل كالعلم والحياة والقيومية والجبروت والسمع والبصرة، ووصف بعض المخلوقين والمخلوقات بشيء من خصائص الخالق كعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل ويدخل في ذلك الانحناء لغير الله وموالاة أعداء الله من كتابين أو وثنيين أو دهريين.
ويدخل في ذلك الطعن في القرآن الذي هو كلام الله تعالى مثل ما تقوله بعض الفرق المنحرفة الزائغة عن منهج الله.
وكذا إنكار الأمور الغيبية التي أخبر عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو أخبر بوقوعها وحدوثها فيما بعد وكل من أنكر شيئًا معلومًا من الدين بالضرورة فقد كفر والله أعلم (1) .#
تفسير سورة {قل يا أيها الكافرون} وهي مكية
وهي ست آيات وست وعشرون كلمة وأربعة وتسعون حرفًا
(البراءة من الشرك والمشركين ومما يعبد من دون الله)
بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
__________
(1) "أصول المنهج الإسلامي" (19-35).(1/142)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهذه السورة وبـ (قل هو الله أحد) في ركعتي راتبة الفجر والمغرب وركعتي الطواف بالبيت الحرام (1) وروى الإمام أحمد عن الحارث بن جبلة قال: قلت يا رسول الله علمني شيئًا أقوله عند منامي، قال إذا أخذت مضجعك من الليل فأقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فإنها براءة من الشرك. وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من قرأ إذا زلزلت عدلت له نصف القرآن، ومن قرأ قل يا أيها الكافرون عدلت له ربع القرآن، ومن قرأ قل هو الله أحد عدلت له ثلث القرآن» رواه الترمذي.
قال في تفسير الخازن: ووجه كون هذه السورة تعدل ربع القرآن أن القرآن مشتمل على الأمر والنهي وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بعمل القلوب وإلى ما يتعلق بعمل الجوارح فحصل من ذلك أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن عبادة غير الله تعالى وهي من الاعتقاد وذلك من أفعال القلوب فكانت هذه السورة ربع القرآن على هذا التقسيم والله سبحانه وتعالى أعلم.
قيل نزلت هذه السورة في جماعة من قريش قالوا يا محمد، هلم اتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فإن كان الذي جئت به خيرًا كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ الله أن أشرك به غيره قالو: فاستلم بعض ألهتنا نصدقك ونعبد إلهك قال: حتى أنظر ما يأتي من ربي فأنزل الله {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخر السورة فغدا#
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه.(1/143)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الحرام فقرأها عليهم فايسوا منه عند ذلك وآذوه وأصحابه (1) قيل والمخاطبون بهذه السورة كفرة قد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون فهم كفرة مخصوصون والكافرون الجاحدون للحق الساترون له بالكفر والجحود {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي لا أعبد الذي تعبدونه من دون الله من الآلهة والأوثان التي لا تنفع ولا تضر {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وأنتم لا تعبدون الله مع إقامتكم على الكفر والشرك وعبادة غير الله لأن عبادة الله لا تستقيم مع الإشراك به ودين الله لا يستقيم إلا بالبراءة من الشرك والمشركين ومعبوداتهم من دون الله، ولهذا أمر الله رسوله أن يتبرأ منهم ومما يعبدون في الحال والاستقبال فقال: {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} أي في المستقبل فأنا بريء منكم وأنتم بريئون مني كما قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] ولهذا قال تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أي لكم شرككم وكفركم ولي توحيدي وإخلاصي لله رب العالمين قيل وهذه الآية منسوخة بآية القتال والله أعلم.
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
1- فضل هذه السورة حيث كانت تعدل ربع القرآن وإنها براءة من الشرك.
2- وجوب البراءة من الشرك والمشركين ومما يعبدون من دون الله.
3- وجوب الإخلاص لله في القول والعمل والاعتقاد.
4- أن العبادة المقترنة بالشرك لا تسمى عبادة لعدم الإخلاص لله فيها
تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك
__________
(1) انظر "تفسير الخازن" (4/ 417).(1/144)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله#
وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما من به عليكم أن بعث فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، رسولا أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات الجور والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومن ظلمات الفوضى الفكرية والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدف والسلوك، ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 1، 2].(1/145)
لقد بعث الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والناس يتخبطون في الجهالات ففتح لهم أبواب العلم: في معرفة الله تعالى وما يستحقه من الأسماء والصفات وما له من الأفعال والحقوق وأبواب العلم في معرفة المخلوقات في المبدأ والمنتهى والحساب والجزاء قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12-16].
وفتح الله لعباده بما بعث به نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أبواب العلم في عبادة الله تعالى والسير إليه، وأبواب العلم في السعي في مناكب الأرض وابتغاء الرزق بوجه حلال، فما من شيء يحتاج الناس لمعرفته من أمور الدين والدنيا إلا بين لهم ما يحتاجون إليه فيه، حتى صاروا على طريقة بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتيه فيها إلا أعمى
القلب، لقد بعث الله تعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والناس منغمسون في الشرك في شتى أنواعه فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد المسيح#(1/146)
ابن مريم، ومنهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد الأحجار، حتى كان الواحد منهم إذا سافر ونزل أرضًا أخذ منها أربعة أحجار فيضع ثلاثة منها تحت القدر وينصب الرابع إلها يعبده، فأنقذهم الله برسوله من هذه الهوة الساحقة والسفه البالغ، من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فحقق التوحيد لرب العالمين، تحقيقًا بالغًا وذلك بأن تكون العبادة لله وحده يتحقق فيها الإخلاص لله بالقصد والمحبة والتعظيم فيكون العبد مخلصًا لله في قصده، مخلصًا لله في محبته، مخلصًا لله في تعظيمه، مخلصًا لله تعالى في ظاهره وباطنه، لا يبتغي بعبادته إلا وجه الله تعالى والوصول إلى دار كرامته {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163] {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج: 34].
هكذا جاء كتاب الله تعالى وتلته سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتحقيق التوحيد وإخلاصه وتخليصه من كل شائبة وسد كل طريق يمكن أن يوصل إلى ثلم هذا التوحيد أو إضعافه حتى أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله وشئت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أجعلتني لله ندًا بل ما شاء الله وحده» (1)
__________
(1) رواه النسائي في اليوم والليلة عن ابن عباس ورواه ابن ماجة في الكفارات من السنن عن
هشام بن عمار.(1/147)
فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الرجل أن يقرن مشيئته بمشيئة الله تعالى بحرف يقتضي التسوية بينهما وجعل ذلك من اتخاذ الند لله عز وجل، واتخاذ الند لله تعالى إشراك به وحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحلف الرجل بغير الله وجعل ذلك من الشرك بالله فقال - صلى الله عليه وسلم - من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيم للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله عز وجل فلا يجوز للمسلم أن يقول عند الحلف والنبي أو وحياة النبي أو وحياتك أو وحياة فلان بل يحلف بالله وحده أو يصمت عند الحلف، ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يلقى أخاه فيسلم عليه أينحني له فقال: لا (2) فمنع - صلى الله عليه وسلم - من الانحناء عند التسليم لأن ذلك خضوع لا ينبغي#
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن.(1/148)
إلا لله رب العالمين فهو سبحانه وحده الذي يركع له ويسجد وكان السجود عند التحية جائزًا في بعض الشرائع السابقة ولكن هذه الشريعة الكاملة شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - منعت منه وحرمته إلا لله تعالى وحده، وفي الحديث أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم (زعمائهم) وذلك قبل أن يسلموا فلما رجع معاذ سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هذا يا معاذ فقال رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله يعني أحق من أساقفتهم بالسجود فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها (1) من عظم حقه عليها، وروى النسائي بسند جيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ناسًا جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا فقال: «يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» ولقد بلغ من سد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذرائع الشرك ووسائله أن لا يترك في بيته صورة شيء يعبد من دون الله تعالى أو يعظم تعظيم عبادة.
__________
(1) رواه الترمذي قال الألباني: وهو حديث صحيح لشواهده.(1/149)
ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه والتصاليب هي الصلبان التي يتخذها النصارى شعارًا لدينهم أو يعبدونها والصليب كل ما كان على شكل خطين متقاطعين هكذا عرفه صاحب المنجد ومعناه أن يكون على شكل خط مستقيم رأسه إلى فوق يعترضه خط رأسه إلى الجانب سواء كان هذا الخط المعترض في وسط الخط المستقيم أو فوق وسطه، يزعم النصارى أن المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام صلب عليه بعد أن قتل وقد قال الله تعالى في القرآن مكذبًا من زعموا أنهم قتلوه {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157، 158] فكان النصارى يقدسون الصليب يضعونه فوق محاريبهم ويتقلدونه في أعناقهم فكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - إزالة كل ما فيه تصاليب حماية لجانب التوحيد وإبعادًا عن مشابهة غير المسلمين، ولقد كانت بلادنا هذه ولله الحمد من أعظم البلاد الإسلامية محافظة#
على توحيد الله تعالى ومتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما من الله عليها من علماء مبينين وولاة منفذين وصارت عند أعداء الإسلام قلعة الإسلام فغزوها من كل جانب بكل شكل من أشكال الغزو حتى كثرت الفتن فيها وصارت صور الصلبان على بعض الألعاب للأطفال بل وعلى الفرش لتكون نصب أعين المسلمين صبيانهم وكبارهم فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم احفظ لهذه الأمة دينها وقها شر أعدائها وأيقظ القلوب من الغفلة عما يراد بنا يا رب العالمين إنك جواد كريم (1) .
التحذير من الشرك
__________
(1) "خطب الشيخ محمد الصالح العثيمين" (313).(1/150)
الحمد لله رب العالمين {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1] وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك، فجاهد في الله حق جهاده حتى بلغ رسالة ربه وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وافعلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه، واعلموا أن أعظم ما أمركم الله به هو التوحيد، وهو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وهو الذي خلقتم من أجله قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] والمصلحة في ذلك راجعة إليكم فأنتم بحاجة إلى عبادة الله لتنالوا بها رحمة الله وتنجوا من عذابه فالله أمركم بعبادته لمصلحتكم أنتم أما هو سبحانه فهو غني#(1/151)
عن عبادتكم قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8] وأعظم ما نهاكم عنه هو الشرك، وهو جعل شيء من العبادة لغير الله تعالى كالدعاء والذبح والنذر والخوف والرجاء والرغبة والرهبة، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] والشرك نوعان: شرك أكبر يخرج من الملة ويكون صاحبه في الدنيا حلال الدم والمال إلا إذا كان له عهد من المسلمين، وفي الآخرة يكون خالدًا مخلدًا في نار جهنم فقد حرمه الله من جنته وطرده من مغفرته ورحمته، وهذا الشرك يحصل ويتحقق إذا وجه العبد شيئًا من العبادة لغير الله، كأن يدعو الأموات والجن والشياطين لقضاء حاجاته وتفريج كرباته أو يذبح لهم لشفاء مرضه أو لدفع شرهم عنه.(1/152)
ومن ذلك ما يحصل اليوم عند قبور الأولياء والصالحين حيث أصبحت تلك القبور أوثانًا تعبد من دون الله في كثير من البلاد كما فعل قوم نوح غلوًا في الصالحين {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ أن هؤلاء المذكورين في هذه الآية هم رجال صالحون من قوم نوح، فلما هكلوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت. وروى ابن جرير رحمه الله عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة فصوروهم فلما ماتوا أي مات هؤلاء المصورون، وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.
عباد الله: هذا ما كان من قوم نوح من عبادة الأموات هو الذي يحصل اليوم من عباد القبور في كثير من البلاد وهم يدعون الإسلام.#
النوع الثاني: من أنواع الشرك: الشرك الأصغر كالرياء والحلف بغير الله، وقول ما شاء الله وشاء فلان، لولا الله وأنت ما حصل كذا وما أشبه ذلك، وهذا النوع لا يخرج من الملة ولكنه خطير وإثمه عظيم وقد يجر إلى الشرك الأكبر.(1/153)
عباد الله: إذا كان الشرك بهذه الخطورة فإنه يجب على المسلم أن يعرفه ليجتنبه وذلك بأن يتعلم العقيدة الصحيحة ويعرف ما يضادها من الشرك الأكبر أو ينقصها من الشرك الأصغر، فإن من لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، وكيف لا يخاف الإنسان من الوقوع في الشرك، وقد خاف من ذلك إبراهيم الخليل حين قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35، 36] مع أنه عليه السلام كسر الأصنام بيده.(1/154)
لكنه خشي من الفتنة والمؤمن لا يزكي نفسه ولا يأمن الفتنة فهو بحاجة إلى أن يثبته الله على الحق، وكيف لا يخاف الإنسان من الوقوع في الشرك ونبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول لأصحابه: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال: الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ رواه الإمام أحمد (1) وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفًا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كمال علمهم وقوة إيمانهم فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب، خصوصًا إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله، عباد الله كيف لا نخاف من الشرك وأكثرنا لا يدري ما هو الشرك وما هي أنواعه حتى صار بعض الجهال أو المتساهلين في عقيدتهم يتعالجون من الأمراض عند الدجالين والمشعوذين والسحرة،#
وربما يأمرونهم بارتكاب الشرك فيفعلون ذلك كالذبح للجن والنذر للقبر الفلاني ولبس الحلقة والخيط والطلاسم.
__________
(1) والطبراني وابن أبي الدنيا والبيهقي في الزهد.(1/155)
والبعض الآخر يذهب إلى الكهان والعرافين ليسألهم عن المغيبات، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من أتى عرافًا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يومًا» رواه مسلم وقال - صلى الله عليه وسلم - : «من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، كيف لا نخاف من الوقوع في الشرك، وكثير ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم قد وقعوا فيه ومارسوه بجميع أنواعه عند القبور والمشاهد التي بنيت في كثير من الأمصار قد شيدت عليها القباب وأرخيت عليها الستور ووضعت عندها الصناديق لجمع النذور وهيئت للطواف بها، والتمسح بأركانها، وطلب المدد من سكانها واتخاذهم وسائط عند الله.
كما قال إخوانهم من المشركين الأولين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها؛ أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبرة مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله» قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فهؤلاء جمعوا بين فتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل، وقال رحمه الله: فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد انتهى (1) .
__________
(1) انظر "الخطب المنبرية" لفضيلة الدكتور صالح الفوزان (2/ 298).(1/156)
فاتقوا الله عباد الله واسألوه أن يوفقكم لمعرفة الحق والعمل به والثبات عليه {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].#
عدم مغفرة الله لمن لقيه وهو مشرك
قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
الشرك بالله أكبر الكبائر وهو نوعان: أحدهما: صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله كأن يجعل لله ندًا يدعوه أو يرجوه أو يخافه أو يحبه كمحبة الله أو يعبده مع الله من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أو نبي أو ولي أو شيخ أو نجم أو ملك أو إنس أو جن من حي أو ميت أو غير ذلك وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفر الله لصاحبه وهو مبطل لجميع الأعمال ومخرج عن الملة الإسلامية وصاحبه خالد مخلد في النار.
والنوع الثاني: الشرك الأصغر وهو كل وسيلة إلى الشرك الأكبر ولم تبلغ رتبة العبادة كالرياء والسمعة والحلف بغير الله، وصاحبه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له وهو يحبط العمل الذي قارنه.
وقد أخبر الله في هذه الآية أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدًا من المخلوقين ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها لمن يشاء من عباده إذا اقتضت حكمته مغفرته فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابًا كثيرة كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة الشافعين وفوق ذلك كله رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء وعمت كل مخلوق التي وعد بها أهل الإيمان والتوحيد، بخلاف المشرك فإنه قد سد على نفسه أبواب المغفرة وأغلق دونه أبواب الرحمة فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد ولا تفيده المصائب شيئًا وليس له يوم القيامة من شافعين ولا صديق حميم.(1/157)
ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} أي ذنبًا كبيرًا وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق من تراب#
الناقص من جميع الوجوه الفقير بذاته من كل وجه الذي لا يملك لنفسه فضلا عمن عبده نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا بالخالق لكل شيء القارد على كل شيء الكامل من جميع الوجوه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ ولهذا حتم على صاحبه بالخلود في العذاب وحرمان الثواب {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72] وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب وأما التائب فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] أي لمن تاب إليه وأناب.
ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:
1- عدم حصول المغفرة للمشركين بالله معه أحدًا في القول أو العمل والاعتقاد.
2- أن الله يغفر ما دون الشرك من الذنوب بأسباب المغفرة إذا اقتضت مشيئة ذلك.
3- أن الشرك أعظم الذنوب وأظلم الظلم وأقبح القبيح وأكبر الكبائر.
4- إثبات صفة المشيئة لله تعالى وأن ما شاء لا بد من وقوعه.
5- الخوف من الشرك والتحذير منه صغيره وكبيره، قليله وكثيره.
6- الترغيب في الرجاء والطمع في مغفرة الله رحمته وبذل الجهد في أسباب ذلك.
7- الحث على التوبة إلى الله من جميع الذنوب والإنابة إليه بالإيمان والعمل الصالح.
8- وعيد المشركين بالخلود في العذاب الأليم في نار جهنم وحرمان النعيم المقيم في الجنة عياذًا بوجه الله من ذلك.#(1/158)
تنبيه على مسألة الحلف بغير الله (1)
لله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما شاء منها، ولا يجوز لمخلوق كائنا من كان أن يحلف ويقسم بغيره جل وعلا، فإن الله شرع لعباده المؤمنين أن تكون أيمانهم به سبحانه وتعالى أو بصفة من صفاته وهذا خلاف ما كان يفعله المشركون في الجاهلية فقد كانوا يحلفون بغيره من المخلوقات كالكعبة والشرف والنبي والملائكة والمشايخ والملوك والعظماء والآباء والسيوف وغير ذلك مما يحلف به كثير من الجهلة بأمور الدين.
فهذه الأيمان كلها لا تجوز بإجماع أهل العلم لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» (2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله» رواه البخاري، ولمسلم: «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت» وفي حديث آخر: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» (3) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من حلف بالأمانة فليس منا» (4) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أحلف بغيره صادقًا» (5) والأحاديث والآثار في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) نشرت في مجلة البحوث الإسلامية العدد الرابع عشر (7-13).
(2) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.
(3) رواه أبو داود والنسائي وإسناده صحيح.
(4) رواه أبو داود وإسناده صحيح.
(5) رواه الطبراني قال المنذري: ورواته رواة الصحيح.(1/159)
فالواجب على المسلمين أن يحفظوا أيمانهم وألا يحلفوا إلا بالله وحده، أو بصفة من صفاته وأن يحذروا الحلف بغير الله كائنا من كان للأحاديث السابقة، نسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين لما يرضيه وأن يمنحهم الفقه في دينه، و أن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن ومن شرور النفس وسيئات العمل إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه (1) .#
تحريم الحلف بغير الله
الحمد لله وحده وبعد.
فقد اطلعت على المقال المنشور في الصفحة الحادية عشر من جريدة الرياض الصادرة بتاريخ (23/ 12/ 1402هـ) بعنوان: «نداء من موطن فقد ماله» وذكر في ضمن ندائه ما نصه: «إنني استحلفك برب العالمين وبرسوله الأمين» ونظرًا إلى أن الحلف لا يجوز إلا بالله وحده أو بأسمائه أو بصفاته رأيت التنبيه على ذلك أما الحلف بالمخلوقين فلا يجوز مطلقًا بأي حال من الأحوال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله أو ليصمت» (2) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» (3) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فالواجب على الصحافة وغيرها مراقبة المقالات وجميع ما يراد نشره قبل النشر لملاحظة مثل ذلك حتى تكون سليمة من الأشياء المنكرة وغير اللائقة بصحافتنا الإسلامية، كما أن الواجب على كل مسلم أن يتفقه في دينه وأن يتعلم ما لا يسعه جهله، وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه (4) .
الكفر بالطاغوت
__________
(1) "مجموعة رسائل وفتاوى للشيخ عبد العزيز بن باز" (2/116).
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.
(4) المصدر السابق (2/ 117).(1/160)
اعلم رحمك الله تعالى أن أول ما فرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والدليل قول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
فأما صفة الكفر بالطاغوت فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم.#
وأما معنى الإيمان بالله فأن تعتقد أن الله هو الإله المعبود وحده دون سواه، وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله، وتنفيها عن كل معبود سواه، وتحب أهل الإخلاص وتواليهم، وتبغض أهل الشرك وتعاديهم، وهذه ملة إبراهيم التي سفه نفسه من رغب عنها.
وهذه هي الأسوة التي أخبر الله بها في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
والطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت، والطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة.
الأول: الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60].
الثاني: الحاكم الجائز المغير لأحكام الله، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60].(1/161)
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قول تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
الرابع: الذي يدعي علم الغيب من دون الله، و الدليل قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 26، 27] وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي#
كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
الخامس: الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29].
واعلم أن الإنسان لا يصير مؤمنا بالله إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
الرشد دين محمد - صلى الله عليه وسلم - والغي دين أبي جهل والعروة الوثقى شهادة أن لا إله إلا الله وهي متضمنة للنفي والإثبات تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له (1) .
حكم بناء المساجد على القبور (2)
بناء المساجد على القبور و الصلاة فيها محرم
__________
(1) "مجموعة التوحيد" (8، 9).
(2) "الجامع الفريد" يحتوي على كتب ورسائل لأئمة الدعوة الإسلامية ص(416-417) و(425-428).(1/162)
بل المساجة المبنية على قبور الأنبياء والصالحين لا تجوز الصلاة فيها، وبناؤها محرم، كما قد نص على ذلك غير واحد من الأئمة؛ لما استفاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح والسنن والمسانيد أنه قال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذوا القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (1) وقال في مرض موته: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر ما فعلوا قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا (2) .#
مسجد الرسول لم يبن على حجرته:
وكانت حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - خارجة عن مسجده فلما كان في إمرة الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة النبوية، إن يزيد في المسجد، فاشترى حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت شرقي المسجد وقبلته فزادها في المسجد فدخلت الحجرة إذ ذاك في المسجد (3) ، وبنوها مسنمة عن سمت القبلة لئلا يصلي أحد إليها.
التغليظ في بناء المساجد على القبور:
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) فمن حينئذ دخلت الحجرة في المسجد وذلك بعد موت الصحابة بعد موت ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد الخدري وبعد موت عائشة، بل بعد موت عامة الصحابة، ولم يكن بقى في المدينة منهم أحد، وقد روى أن سعيد بن المسيب كره ذلك المؤلف.(1/163)
وهذا كاف لو لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من النهي ما يدل على النهي عن ذلك كيف وسنته المتواترة تدل على النهي عن ذلك. مثلما في الصحيحين عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أو خشي أن يتخذ مسجدًا وهذا بعض ألفاظ البخاري، وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة قالت: لما كان مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها "مارية" وذكرن من حسنها وتصاوير فيها فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه وقال: «إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا ثم صوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله» (1) .
وهذا المعنى مستفيض عنه في الصحاح والسنن والمسانيد من غير وجه، وفي صحيح#
__________
(1) فبركة رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - أظهر الله من ذكرهم ومعرفة أحوالهم ما يجب الإيمان به، وتنتفع به العباد وأبطل ما يضر الخلق من الشرك بهم واتخاذ قبورهم مساجد، كما كانوا يتخذونها في زمن من قبلنا، ولم تدع الصحابة في الإسلام قبرًا ظاهرًا من قبور الأنبياء يفتتن به الناس ولا يسافرون إليه ولا يدعونه، ولا يتخذونه مسجدًا بل قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - حجبوه في الحجرة، ومنعوا الناس منه بحسب الإمكان، إن كان الناس يفتنون به، وإن كان لا يفتنون به فلا يضر
معرفة قبره.(1/164)
مسلم عن جندب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قبل أن يموت بخمس: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور أو قال قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وفيه: «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» وهذا المعنى في الصحيحين من وجوه، وفيه: «لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت؛ إلا خوخة أبي بكر» بين هذين الأمرين اللذين تواترا عنه وجمع بينهما قبل موته بخمسة أيام: من ذكر فضل أبي بكر الصديق، ومن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد فيها حسم مادة الشرك التي أفسد بها الدين، وظهر بها دين المشركين، فإن الله قال في كتابه عن قوم نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 23، 24].
وقد روى البخاري في صحيحه بإسناده عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب تعبد أما (ود) فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما (سواع) فكانت لهذيل وأما (يغوث) فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما (يعوق) فكانت لهمدان وأما (نسر) فكانت لحمير لآل ذي الكلاع؛ وكانت أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا: أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
وقد ذكر قريبًا من هذا المعنى طوائف من السلف، في "كتب التفسير" و"قصص الأنبياء" وغيرها: أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين. ثم منهم من ذكر أنهم كانوا يعكفون على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ومنهم من ذكر أنهم كانوا يصحبون تماثيلهم معهم في السفر يدعون عندها، ولا يعبدونها، ثم بعد ذلك عبدت الأوثان.(1/165)
ولهذا: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين القبور والصور؛ في غير حديث، كما في صحيح مسلم، عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟: «أمرني أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته» فأمره بمحو الصور، وتسوية القبور، كما قال في الحديث الآخر الصحيح،: «إن أولئك إذا#
مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله» (1) .
والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والصلاة في المقبرة: كثيرة جدا مثل ما في الصحيحين والسنن عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد» رواه أحمد في المسند، وأبو حاتم بن حبان في صحيحه، وعن ابن عباس قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زورات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أحمد في المسند وأهل السنن الأربعة وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/166)
وروى أيضاً في صحيحه عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لعن الله من اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا» وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها» وعن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن: «الصلاة في المقبرة» رواه أبو حاتم في صحيحه، وروى أيضًا عن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي بين القبور، وعن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» رواه أحمد وأهل الكتب الأربعة، وابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: فيه اضطراب لأن سفيان الثوري أرسله؛ لكن غير الترمذي جزم بصحته، لأن غيره من الثقات أسندوه وقد صححه ابن حزم أيضًا وفي سنن أبي داود عن علي قال: «إن خليلي نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل» والآثار في ذلك كثيرة جدًا.
النهي عن الصلاة في المقبرة ليس معللا بنجاسة الصديد.
وقد ظن طائفة من أهل العلم أن الصلاة في المقبرة نهي عنها من أجل النجاسة؛ لاختلاط تربتها بصديد الموتى ولحومهم وهؤلاء قد يفرقون بين المقبرة الجديدة والقديمة، وبين أن يكون هناك حائل أو لا يكون، والتعليل بهذا ليس مذكورًا في#(1/167)
الحديث ولم يدل عليه الحديث لا نصًا ولا ظاهرًا، وإنما هي علة ظنوها، والعلة الصحيحة عند غيرهم ما ذكره غير واحد من العلماء من السلف والخلف في زمن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم: إنما هو ما في ذلك من التشبه بالمشركين، وأن تصير ذريعة إلى الشرك؛ ولهذا نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وقال: «إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير»، وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذوا القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد» (1) ونهى عن الصلاة إليها.
ومعلوم أن النهي لو لم يكن إلا لأجل النجاسة، فمقابر الأنبياء لا تنتن بل الأنبياء لا يبلون، وتراب قبورهم طاهر، والنجاسة أمام المصلي لا تبطل صلاته، والذين كانوا يتخذون القبور مساجد كانوا يفرشون عند القبور المفارش الطاهرة فلا يلاقون النجاسة، ومع أن الذين يعللون بالنجاسة لا ينفون هذه العلة بل قد ذكر الشافعي وغيره النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، وعلل ذلك بخشية التشبه بذلك، وقد نص على النهي عن بناء المساجد على القبور غير واحد من علماء المذاهب، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، ومن فقهاء الكوفة أيضا وصرح غير واحد منهم بتحريم ذلك وهذا لا ريب فيه بعد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبالغته في النهي عن ذلك.
__________
(1) رواه مسلم.(1/168)
واتخاذها مساجد يتناول شيئين أن يبنى عليها مسجدًا أو يصلى عندها من غير بناء، وهو الذي خافه هو وخافته الصحابة إذا دفنوه بارزا خافوا أن يصلى عنده فيتخذ قبره مسجدا، وفي موطأ مالك عنه أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» روي ذلك مسندًا ومرسلاً وفي سنن أبي داود قال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني» (1) .#
سورة الإخلاص مكية وقيل مدنية
وهي أربع آيات وخمس عشرة كلمة وسبعة وأربعون حرفًا
انفراد الله بالوحدانية وجميع أوصاف الكمال
وفقر الخلائق إليه وغناه عنهم
ذكر فضلها:
عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» وفي رواية: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة» فشق ذلك عليهم فقالوا أينا يطيق ذلك يا رسول الله فقال: «قل هو الله أحد، الله الصمد» ثلث القرآن رواه البخاري.
وعن أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) جزء من القرآن رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ}» حتى ختمها رواه مسلم.
__________
(1) انتهى المقصود من هذه الرسالة وهو ما يتعلق ببناء المساجد على القبور واتخاذ القبور مساجد وقال رحمه الله في "الرسالة السنية" اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور.(1/169)
قال العلماء: ومعنى كونها ثلث القرآن أن القرآن على ثلاثة أنواع قصص وأحكام وتوحيد، وقل هو الله أحد متضمنة للتوحيد فهي ثلث القرآن. عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله إني أحب هذه السورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} قال - صلى الله عليه وسلم - : «حبك إياها أدخلك الجنة».
رواه الترمذي (1) وقال - صلى الله عليه وسلم - لرجل قال: إني أحب أن اقرأ بها لأنها صفة الرحمن، قال - صلى الله عليه وسلم - : «أخبروه أن الله تعالى يحبه» (2) فصارت قراءتها توجب محبة الله لمن أحبها وتوجب دخول الجنة، وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته بما تضمنته هذه السورة من الأسماء يقول اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت#
الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد فقال - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب» رواه أهل السنن وورد الترغيب في قراءتها عشر مرات بعد المكتوبة وفي قراءتها عند دخول المنزل وفي الإكثار من قراءتها مع المعوذتين في الصباح والمساء وعند النوم وبعد الصلوات المكتوبات وأنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها. رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن.
ذكر سبب نزولها
__________
(1) وقال: حديث حسن، ورواه البخاري في صحيحه تعليقًا.
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/170)
نزلت لما قال بعض المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - صف لنا ربك، وقال بعضهم أنسب لنا ربك (1) وقيل نزلت لما قالت اليهود نحن نعبد عزيرًا ابن الله وقالت النصارى نحن نعبد المسيح ابن الله وقالت المجوس نحن نعبد الشمس والقمر وقال المشركون نحن نعبد الأوثان (2) فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - : «قل هو الله أحد» أي قل بلسانك قولا جازمًا به معتقدًا له بقلبك عارفًا بمعناه عاملاً بمقتضاه هو الله الواحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته الذي له الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا الموصوف بصفات الكمال والجلال والجمال والعظمة المتنزه عن صفات النقص فهو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا شبيه ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله لأنه الكامل في جميع أسمائه وصفاته وأفعاله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} هو السيد المقصود لقضاء الحوائج من جلب المنافع ودفع المضار {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وهو المرغوب إليه في الرغائب المستعان عند المصائب وتفريج الكروب وهو الصمد الذي لا يأكل ولا يشرب وهو الباقي بعد خلقه الغني عما سواه المحتاج إليه كل من عداه الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتلك دالة على أنه المتناهي في الشرف والسؤدد والعلو والعظمة والكمال والكرم والإحسان وهو الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} أي لم يكن له ولد ولا والد ولا صاحبه لكمال غناه وفي هذا رد على مشركي العرب حيث قالوا أن الملائكة بنات#
__________
(1) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير والواحدي في أسباب النزول.
(2) انظر "تفسير ابن كثير" (4/ 570).(1/171)
الله وعلى اليهود القائلين عزير ابن الله وعلى النصارى القائلين المسيح ابن الله فكذبهم الله تعالى ونفى عن نفسه ما قالوا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} أي ليس له شبيه أو مثيل أو نظير لا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] قيل سميت سورة الإخلاص لأنها أخلصت الخبر عن الله أو لأن قارئها أخلص لله التوحيد.
ما يستفاد من هذه السورة الكريمة:
1- فضل هذه السورة حيث كانت تعدل ثلث القرآن.
2- انفراد الله بالألوهية فلا يستحق العبادة غيره.
3- انفراده تعالى بالربوبية فهو الخالق الرازق المدبر وهو المعبود المالك المتصرف.
4- انفراده تعالى بالأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا فلا شبيه له فيها.
5- عظمة الله وكماله وغناه عن خلقه وفقر الخلائق إليه في جميع أحوالهم.
6- انتفاء الوالد والولد عنه تعالى لكمال غناه.
7- الرد على المشركين عباد الأوثان الذين يزعمون أنها تنفع أو تضر.
8- الرد على من زعم من المشركين إن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى.
9- الرد على اليهود القائلين عزير ابن الله.
10- الرد على النصاري الزاعمين أن المسيح ابن الله.
11- انتفاء المثل والشبيه والنظير عن الله تعالى.
12- أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل.
13- أن الاشتغال بقراءة هذه السورة يفيد الاشتغال بالله وملازمة الأعراض عن ما سوى الله تعالى.
14- أنها متضمنة تنزيه الله تعالى وبراءته عن كل ما لا يليق به لأنها على قصرها جامعة لصفات الأحدية والصمدانية وعدم النظير.
15- شرف علم التوحيد لأن العلم يشرف بشرف المعلوم ويتضع بضعته ومعلوم هذا
العلم هو الله تعالى وصفاته.
16- انفراد الله تعالى بملكه وأفعاله لا شريك له في ذلك.
17- تعليم الله عباده كيف يوحدونه.
18- الرد على المشبهة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه.(1/172)
19- الرد على المعطلة الذين ينفون عن الله صفات الكمال.
20- الرد على الممثلة الذين يمثلون صفات الله تعالى بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرًا.
من أصول الإيمان
الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا ورسولا كما في الأحاديث النبوية الآتية:
قال - صلى الله عليه وسلم - :
1-: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا» رواه مسلم وأحمد والترمذي.
2-: «من رضى بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا وجبت له الجنة» رواه مسلم.
3-: «من قال حين يسمع النداء (الأذان) أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا غفر له ذنبه» رواه مسلم وغيره.
4-: «من قال حين يمسي وحين يصبح: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ثلاثا كان حقًّا على الله أن يرضيه» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح والطبراني في الكبير.
هذه أحاديث نبوية شريفة صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا والرضا ناتج عن القلب فلا بد مع قولها من اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها، فالرضا بالله ربا يقتضي محبته وخوفه ورجاءه وإخلاص العبادة له وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ومحبة من أطاعه وبغض من عصاه ومحبة ما أمر#
به، وبغض ما نهى عنه.
والرضا بالإسلام دينا يتضمن العمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه والقيام بأركانه وشرائعه الظاهرة والباطنة القولية والاعتقادية والعملية في العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب وتحكيمه في كل شيء.(1/173)
والرضا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا يتضمن الإيمان به ومحبته وطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع واعتقاد أنه عبد لا يعبد ورسول لا يكذب بل يطاع ويتبع شرفه الله بالعبودية والرسالة فمن أطاع الله ورسوله وامتثل أمره واجتنب نهيه وصدق خبره وحكم شرعه وطبق تعاليم الإسلام أمرا ونهيًا واعتقادًا ودعوة فهو الذي ذاق طعم الإيمان وحلاوته ووجبت له الجنة وغفر له ذنبه وكان حقا على الله أن يرضيه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وصلى وسلم الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.#
أسماء الله الحسنى (1)
قال الله تعالى: {وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] أخبر تعالى أن له أسماء وأنها حسنى دالة على صفات كماله وعظيم جلاله وأمرنا أن نسأله وندعوه بها فيدعى في كل مطلوب بالاسم المقتضي لذلك المطلوب فيقول الداعي مثلا: (اللهم اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم وتب علي يا تواب وارزقني يا رزاق والطف بي يا لطيف) ونحو ذلك وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن لله تسعة وتسعين أسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة» أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه، ومراتب إحصائها ثلاثة:
1- إحصاء ألفاظها وعددها.
2- فهم معانيها ومدلولها.
3- دعاء الله بها، فيسأل لكل مطلوب بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصول كقولك يا عليم علمني ويا رزاق ارزقني ويا غفور اغفر لي" كما تقدم ومثال الأسماء الحسنى الرحمن الرحيم، السميع البصير، العزيز الحكيم الحليم العظيم العلي الكبير الحي القيوم.
__________
(1) انظر "بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 161-170)، "والقواعد الحسان لتفسير القرآن" لابن سعدي ص(110).(1/174)
وأركان الإيمان بالأسماء الحسنى ثلاثة وهي إيماننا بالاسم وبما دل عليه من المعنى وبما تعلق به من الآثار فنؤمن بأنه عليم ذو علم عظيم محيط بكل شيء قدير ذو قدرة عظيمة ويقدر على كل شيء، رحيم ذو رحمة عظيمة ورحمته وسعت كل شيء وهكذا سائر الأسماء الحسنى.
وإحصاء أسماء الله الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم فإن المعلومات القدرية والشرعية صادرة عن أسماء الله وصفاته ولهذا كانت في غاية الإحكام والصلاح والنفع.#
والإلحاد في أسماء الله وصفاته أنواع:
1- تسمية الأصنام بها كما يفعله المشركون حيث سموا اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان.
2- تسميته تعالى بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أبا.
3- وصفه تعالى بالنقائص كقول اليهود (إن الله فقير) وقولهم إنه استراح وقولهم (يد الله مغلولة) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
4- تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها كقول من يقول في (السميع البصير) سميع بلا سمع بصير بلا بصر.
5- تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عن قولهم: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11.
صفة الإيمان بالله على وجه التفصيل (1)
أننا نقر ونعترف بقلوبنا وألسنتنا أن الله واجب الوجود واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، متفرد بكل صفة كمال ومجد وعظمة وكبرياء وجلال، وأن له غاية الكمال الذي لا يقدر الخلائق أن يحيطوا بشيء من صفاته، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء.
__________
(1) من رسالة "سؤال وجواب في أهم المهمات" للشيخ عبد الرحمن السعدي.(1/175)
والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وأنه العلي الأعلى بكل معنى واعتبار علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، وأنه العليم بكل شيء القدير على كل شيء، السميع لجميع الأصوات باختلاف اللغات على مقتضى الحاجات، البصير بكل شيء الحكيم في خلقه وشرعه، الحميد في أوصافه وأفعاله، المجيد في عظمته وكبريائه، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء وعم بجوده وبره ومواهبه كل موجود، المالك الملك لجميع الممالك فله تعالى صفة الملك والعالم العلوي والسفلي كلهم مماليك وعبيد لله وله التصرف المطلق، وهو الحي الذي له الحياة الكاملة المتضمنة لجميع أوصافه الذاتية، القيوم الذي قام بنفسه وبغيره،#
وهو متصف بجميع صفات الأفعال فهو الفعال لما يريد فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ونشهد أن ربنا الخالق البارئ المصور الذي أوجد الكائنات واتقن صنعها وأحسن نظامها، وأنه الله الذي لا إله إلا هو المعبود الذي لا يستحق العبادة أحد سواه فلا نخضع ولا نذل ولا نتوجه إلا لله الواحد القهار العزيز الغفار فإياه نعبد وإياه نستعين وله نرجو ونخشى نرجو رحمته ونخشى عدله وعذابه لا رب لنا غيره فنسأله وندعوه ولا إله لنا سواه نؤمله ونرجوه، وهو مولانا في إصلاح ديننا ودنيانا وهو نعم المولى ونعم النصير الدافع عنا جميع السوء والمكاره، فلله الحمد والشكر والثناء على ذلك.
شهادة الحق
1- أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وأشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأشهد أن الجنة حق والنار حق وأن الله يبعث من في القبور (1) .
__________
(1) من شهد هذه الشهادة أدخله الله الجنة على ما كان من العمل كما في الحديث المتفق عليه.(1/176)
2- رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًّا ورسولا - صلى الله عليه وسلم - (1) .
3- آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره (2) .
4- لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (3) .
5- آمنت بالله وحده وكفرت بالجبت والطاغوت واستمسكت بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم.
6- اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت أنت إلهي لا إله إلا أنت. اللهم أحينا على هذه الشهادة وأمتنا عليها واحشرنا مع أهلها إنك على كل شيء قدير.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.#
من أسماء الله الحسنى
قال الله تعالى: {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22-24].
__________
(1) من رضى بذلك ذاق طعم الإيمان وغفر له ذنبه ووجبت له الجنة وكان حقا على الله أن يرضيه كما في الأحاديث الصحيحة التي رواها مسلم وغيره.
(2) وهذه أصول الإيمان الستة التي لا ينفع بدونها.
(3) وهذه كلمة الإخلاص من قالها عن علم ويقين وصدق وإخلاص ومحبة وانقياد وقبول لها ولما دلت عليه، وجبت له الجنة وحرمه الله على النار فهذه الكلمة لا يعد لها شيء.(1/177)
هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى التي عليها مدار التوحيد والاعتقاد، فأخبر أنه المألوه الذي لا يستحق العبادة سواه؛ وذلك لكماله العظيم وإحسانه الشامل وتدبيره العام وحكمه الشاملة، فهو الإله الحق وما سواه فعبوديته باطلة لأنه خال من الكمال ومن الأفعال التي فيها النفع والضر، ووصف نفسه بالعلم المحيط بما حضر وغاب وما مضى وما يستقبل وما هو حاضر، وما في العالم العلوي وما في العالم السفلي وما ظهر وما بطن، فلا تخفى عليه خافية في مكان من الأمكنة ولا زمان من الأزمنة، ومن كمال علمه وقدرته أنه يعلم ما تنقص الأرض من الأموات وما تفرق من أجزائهم وما استحال من حال إلى حال، أحاط علمًا بذلك على وجه التفصيل فلا يعجزه إعادتهم للبعث والجزاء، ووصف نفسه بأنه (الرحمن الرحيم) الذي وسعت رحمته الخليقة بأسرها وملأت الوجود كله، ووصف نفسه بأنه (الملك) وهو الذي له الملك التام المطلق له صفات الملك التي هي نعوت العظمة والكبرياء والعز والسلطان، وله التصرف المطلق في جميع الممالك الذي لا ينازعه فيه منازع، والموجودات كلها عبيده وملكه ليس لهم من الأمر شيء.
وأخبر أنه (القدوس السلام) أي المقدس المعظم السالم من جميع العيوب والنقائص المنافية لكماله (المؤمن) المصدق لرسله وأنبيائه بما جاءوا به من الآيات البينات والبراهين القاطعات والحجج الواضحات، الذي له العلم كله ويعلم من أوصافه المقدسة ونعوته العظيمة ما لا يعلمه بشر ولا ملك ويحب نفسه وما هو عليه من الجلال والجمال (العزيز) الذي له العزة كلها، عزة القوة والقدرة، فهو القوي المتين، وعزة القهر والغلبة لكل#(1/178)
مخلوق فكلهم نواصيهم بيده وليس لهم من الأمر شيء، وعزة الامتناع الذي تمنع بعزته عن كل مخلوق فلا يعارض ولا يمانع وليس له نديد ولا ضديد (الجبار) الذي قهر جميع المخلوقات ودانت له الموجودات واعتلا على الكائنات وجبر بلطفه وإحسانه القلوب المنكسرات (المتكبر) عن النقائص والعيوب، وعن مشابهة أحد من خلقه ومماثلتهم لعظمته وكبريائه (سبحان الله عما يشركون) وهذا تنزيه عام عن كل ما وصفه به من أشرك به ولم يقدره حق قدره (هو الله الخالق) لجميع المخلوقات (البارئ) بحكمته ولطفه لجميع البريات (المصور) بحسن خلقه لجميع الموجودات أعطى كل شيء خلقه ثم هدى كل مخلوق وكل عضو لما خلق له وهيء له.
فالله تعالى قد تفرد بهذه الأوصاف المتعلقة بخلقه لم يشاركه في ذلك مشارك، وهذا من براهين توحيده، وأن من تفرد بالخلق والبرء والتصوير فهو المستحق للعبودية ونهاية الحب وغاية الخضوع (له الأسماء الحسنى) وقد ورد في الحديث الصحيح أن لله تسعة وتسعين أسما؛ مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة يعني أحصى ألفاظها وحفظها وعقلها وتعبد لله بها فهو تعالى الذي له كل اسم حسن؛ وكل صفة جلال وكمال، فيستحق من عباده كل إجلال وتعظيم وحب وخضوع (يسبح له ما في السموات والأرض) يعني من المكلفين والحيوانات والأشجار والجمادات {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
وهو العزيز الحكيم في خلقه وشرعه (1) .
ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:
1- انفراد الله بالألوهية واستحقاقه للعبادة دون سواه.
2- علم الله بما غاب وحضر.
3- وصف الله بالرحمة العامة الشاملة لجميع المخلوقات في الدنيا والآخرة والرحمة الخاصة بالمؤمنين {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
__________
(1) من كتاب "تفسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن" للشيخ عبد الرحمن السعدي
رحمه الله (14-15).(1/179)
4- انفراد الله بملك السموات والأرض والدنيا والآخرة.#
5- تنزيه الله عن كل ما لا يليق به من العيوب والنقائص وسلامته منها.
6- تصديق الله لأنبيائه ورسله وأنه قد أمن عباده من ظلمه والمؤمنين من عذابه.
7- أن الله تعالى مطلع على خلقه رقيب على أعمالهم وشهيد عليها.
8- عزة الله وقوته وقدرته وغلبته لكل شيء.
9- وصف الله بالكبرياء والعظمة التي لا تنبغي إلا له.
10- تنزيه الله عن كل ما يصفه به المشركون من الشرك والنقائص.
11- انفراد الله بالخلق والإيجاد وتصوير المخلوقات على ما أراد.
12- انفراد الله بالأسماء الحسنى والصفات العلا.
13- تسبيح جميع المخلوقات لله في السموات والأرض.
14- حكمة الله البالغة في خلقه ورزقه وتدبيره وتقديره وتكوينه وهدايته وإضلاله.
15- فضل هذه الآيات الكريمة حيث اشتملت على وصف الله بصفات العظمة والجلال والجمال وتنزيهه عن كل نقص وعيب سبحانه وتعالى.#
مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة
الحمد لله الحي القيوم الذي قامت بأمره وعدله السموات والأرض، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، واشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله إلى الثقلين الإنس والجن بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وأطيعوه تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، واعلموا رحمكم الله أن من أوجب الواجبات معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فهذه أصول الإسلام كما قررها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل عليه السلام (1) فإن الواجب علينا معشر المسلمين معرفتها، وهي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة.
__________
(1) الذي رواه مسلم في صحيحه.(1/180)
فيجب علينا تعليمها لأولادنا ونسائنا وذوينا ومجتماعتنا الإسلامية، وأن نفهمها ونتقبلها ونؤمن بها كإيمان السلف الصالح، وكما تقبلها الخلف عنهم بالرضى والقبول وصدق الله العظيم في وصف حالهم وإخلاصهم والدعاء لله بقولهم {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] أي مع الشاهدين بوحد انينتك فعقيدة المسلم الصحيحة هي الإيمان بالله وإخلاص العبادة له تعالى بما شرع، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وقال {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار فقال لي: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد#
أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا» الحديث، وأنه هو الحق، ووعده ولقاؤه حق، وكتابه حق، ورسوله حق، وأن الجنة حق، والنار حق، في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الجنة على ما كان من العمل» وأن الساعة حق آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.(1/181)
وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة ولا يضامون في رؤيته كما يرى القمر ليلة البدر، هذه عقيدتنا آمنا بالله ربًا ومدبرًا ومصرفًا لأمور الخلق، ومربيًا لجميعهم بنعمه الظاهرة الباطنة، وأنه يحيي ويميت، وهو حي دائم لا يموت، بيده مقاليد الأمور وهو على كل شيء قدير، وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا ورسولاً.
ونؤمن بملائكة الرحمن وأنهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ونؤمن برسل الله وكتبه السابقة إيمانًا مجملا كما ورد في القرآن والسنة قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] إلى غير ذلك، ونؤمن بالبعث بعد الموت وأنه حق لا ريب فيه لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6، 7] وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7] ونؤمن بالقدر خيره وشره حلوه ومره وأنه يقع بقضاء الله وتقديره لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 79] فكل ما تجري به الأقدار المقدرة في علم الله من أحوال الناس من المنافع أو المضار والمكاره أو المسار والحوادث والأحداث والصحة والمرض والخصب والجدب والخير والشر والسعادة والشقاوة والحياة والموت وغير ذلك كلها تجري بقضاء الله وتقديره وإرادته.#(1/182)
ونؤمن بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا كما وصف تعالى نفسه في كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فلا سمي ولا كفؤ ولا ند له ولا يقاس بخلقه، تعالى وتقدس، وهو أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثًا وهو تعالى ذو الكمال المطلق من جميع الوجوه.
ونؤمن أن القرآن العظيم كلام الله تكلم به حقيقة وأنه منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود قال تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23].
وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] وقال {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114] ونؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة من أحوال الناس بعد الموت وبنعيم القبر للمؤمنين وعذابه للمجرمين يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ونؤمن بحوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ترد عليه أمته أهل السنة والجماعة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، وأن الصراط منصوب على متن جهنم يمر عليه الناس على قدر أعمالهم الصالحة.(1/183)
ونؤمن بشفاعة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة وهو أول شافع ومشفع بعد الإذن لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وهو قوله تعالى {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وهو تعالى يرضى عن أهل التوحيد ويأذن بالشفاعة لهم، وأما المشركون فليس لهم من شفاعته، - صلى الله عليه وسلم - نصيب لقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] اللهم شفع فينا نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين، اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وأوليائك المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (1) .#
عقيدة الفرقة الناجية
اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى.
__________
(1) "خطب مختارة" (93) صادرة عن رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.(1/184)
وقد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاءت به المرسلون فإنه الصراط المستقيم، وقد دخل في هذا الأصل الكبير جميع ما في الكتاب والسنة من تفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وما ينزه عنه، ودخل في ذلك الإيمان باستوائه على عرشه ونزوله إلى السماء الدنيا ورؤية المؤمنين له في الآخرة كما تواترت بذلك النصوص، وبأنه قريب مجيب وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته.
ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت من أحوال البرزخ فيؤمنون بفتنة القبر وعذابه ونعيمه والبعث بعد الموت والحوض والميزان والصراط والجنة والنار وتفاصيل ذلك، وتؤمن الفرقة الناجية بالقدر خيره وشره والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين:
الدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبدًا وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، والدرجة الثانية: مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا يكون في ملكه ما لا يريد والعباد هم الفاعلون لطاعتهم ومعاصيهم والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم...#(1/185)
ومن أصول الفرقة الناجية أن الدين والإيمان قول وعمل قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر ويقولون إنه مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ومن أصول السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقبلون ما جاء في الكتاب والسنة من فضائلهم ومناقبهم ومراتبهم، ويحبون أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين ويتبرأون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذي يؤذي أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة وأن لهم من الفضائل والسوابق ما يوجب مغفرة ما صدر منهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
ويصدقون بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، ويتبعون آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهرًا وباطنًا ويدعون إلى كل خلق جميل وينهون عن كل خلق رذيل وهم في ذلك كله متبعون للكتاب والسنة فنسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم وأن لا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب (1) .#
فصل
ومن صفات الله تعالى أنه متكلم بكلام يسمعه منه من شاء من خلقه سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة، وسمعه منه جبريل عليه السلام ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه ويأذن لهم فيزورونه قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وقال سبحانه: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ}
[البقرة: 253] وقال سبحانه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51].
__________
(1) "مقتطفات من العقيدة الواسطية" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(1/186)
ومن كلام الله سبحانه القرآن العظيم وهو كتاب الله المبين، و حبله المتين، وصراطه المستقيم، وتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين بلسان عربي مبين، منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وهو سور محكمات، وآيات بينات، وحروف وكلمات من قرأه فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات، له أول وآخر وأجزاء وأبعاض متلو بالألسنة محفوظ في الصدور مسموع بالأذان مكتوب في المصاحف فيه محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخاص وعام وأمر ونهي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
واتفق المسلمون على عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفًا متفقًا عليه أنه كافر، والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم ويزرونه ويكلمهم ويكلمونه قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] يعني الكفار فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى وإلا لم يكن بينهما فرق، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته» حديث صحيح متفق عليه، وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير...
ومن صفات الله تعالى أنه الفعال لما يريد لا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج شيء عن سلطانه ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط#(1/187)
في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعونه جميعًا لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه بل يجب أن نؤمن ونعلم أن لله الحجة علينا بإنزال الكتب وبعثه الرسل قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحدًا على معصية ولا اضطره إلى ترك طاعة قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17] فدل على أن للعبد فعلا وكسبا يجزي على حسنه بالثواب وعلى سيئه بالعقاب وهو واقع بقضاء الله وقدره.(1/188)
والإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وصح به النقل عنه فيما شهدناه أو غاب عنا نعلم أنه حق وصدق وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه مثل حديث الإسراء والمعراج، و كان يقظة لا منامًا فإن قريشًا أنكرته وأكبرته ولم تكن تنكر المنامات، ومن ذلك أشراط الساعة مثل خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام فيقتله، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة وطلوع الشمس، من مغربها وأشباه ذلك مما صح به النقل، وعذاب القبر ونعيمه حق وقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه وأمر به في كل صلاة، وفتنة القبر حق وسؤال منكر ونكير حق والبعث بعد الموت حق وذلك حين ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (1) ويحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا (غير مختونين) بهما (ليس معهم شيء) فيقفون في موقف القيامة حتى يشفع فيهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ويحاسبهم الله تبارك وتعالى وتنصب الموازين وتنشر الدواوين وتطاير صحائف الأعمال إلى الإيمان والشمائل#
__________
(1) أي: بالاستعاذة من عذاب القبر.(1/189)
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 7-12] والميزان له كفتان ولسان يوزن به أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102-103] ولنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حوض في القيامة ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل وأباريقه عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.
والصراط حق تجوزه الأبرار ويزل عنه الفجار، ويشفع نبينا فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر فيخرجون بشفاعته بعدما احترقوا وصاروا فحما وحمما فيدخلون الجنة بشفاعته، ولسائر الأنبياء والملائكة شفاعات {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين، والجنة والنار مخلوقتان لا يفنيان فالجنة دار أوليائه والنار عقاب لأعدائه وأهل الجنة فيها مخلدون {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 74، 75].
ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت.(1/190)
ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وسيد المرسلين لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته ولا يقضى بين الناس في يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا يدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته، صاحب لواء الحمد والمقام المحمود والحوض المورود، وهو إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، أمته خير الأمم وأصحابه خير أصحاب الأنبياء عليهم السلام.
ولا نجزم لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا من جزم له الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكنا نرجو للمحسن ونخاف على المسيء، ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ولا نخرجه#
عن الإسلام بعمل، ونرى الحج والجهاد ماضيان مع كل إمام برًا كان أو فاجرًا، وصلاة الجمعة خلفهم جائزة، ومن السنة تولى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبتهم وذكر محاسنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم والكف عن ذكر مساويهم وما شجر بينهم (1) واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
ومن السنة: الترضي عن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء رضي الله عنهن.
ومن السنة السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله.
ومن السنة هجران أهل البدع ومباينتهم وترك الجدال والخصومات في الدين وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم وكل محدثة في الدين بدعة وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع "نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة ويحيينا على الإسلام والسنة ويجعلنا ممن يتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحشرنا في زمرته بعد الممات برحمته وفضله. آمين
فصل
__________
(1) شجر بينهم: أي اختلاف الأمر بينهم.(1/191)
أجمع سبعون رجلا من التابعين وأئمة المسلمين والسلف وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولها: الرضى بقضاء الله وقدره والتسليم لأمره والصبر تحت حكمه والأخذ بما أمر الله به، والنهي عما نهى الله عنه وإخلاص العمل لله، والإيمان بالقدر خيره وشره وترك المراء والجدال والخصومات في الدين، والمسح على الخفين والجهاد مع كل خليفة برًا أو فاجرًا والصلاة على من مات من أهل القبلة، والإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والقرآن كلام الله نزل به جبريل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - غير مخلوق، والصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من عدل#
أو جور ولا نخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة وإن عمل بالكبائر إلا إن استحلوها، ولا نشهد لأحد من أهل القبلة بالجنة لخير أتى به إلا من شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - والكف عما شجر بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين ونترحم على جميع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأولاده وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا (1) .
توحيد الأنبياء والمرسلين (2)
__________
(1) من كتاب "الكبائر" للذهبي ص (150، 151).
(2) من "توضيح الكافية الشافية" (نونية ابن القيم) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله ص(84-99).(1/192)
وهذا هو التوحيد الحقيقي الصحيح، وهو الذي لا يصدق على مسماه سواه، فإنه الاعتراف بتوحيد الباري بكل صفة كمال وجمال وجلال ومجد وحمد وعظمة وكبرياء والعمل بمقتضى هذا من التعظيم الكامل لله والحب التام والخضوع له وإخلاص العمل له فهو نوعان علمي اعتقادي وعملي، وقدم المصنف الاعتقادي لأن التوحيد العملي يتفرغ عنه ويقوى بقوته، ولأنه أكبر البراهين على توحيد الإلهية ووجوب إفراد الباري بالعبادة، ولأن معظم الخلاف مع أهل الكلام الباطل في هذا النوع.
وهذا النوع مبني على أصلين عظيمين أحدهما تنزيه الباري وتقديسه عما لا يليق بجلاله وما ينافي كماله، وحاصل هذا النوع يعود إلى تنزيه الله عن مشاركة أحد من المخلوقين لله في شيء من صفات كماله أو في حق من حقوقه وخصائصه، وإلى حفظ صفات كماله عن أمور ثلاثة: عن تشبيهها بصفات المخلوقين، أو نفيها عن الله، أو نفي بعض معانيها، فيعلم أن له الكمال المطلق الذي لا يمكن التعبير عن عظمته، وكنهه، وأن له من ذلك الكمال غايته ومنتهاه وأكمله فهو المنزه عن الشريك والظهير والعوين والشفيع بلا إذنه، وهو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وهو المنزه عن السنة والنوم والموت والتعب واللغوب، وأن يغيب عن سمعه أو بصره أو علمه شيء، وهو المنزه عن كل ما ينافي كماله وعظمته وجلاله.#
فصل في النوع الثاني وهو الثبوتي
المتضمن شرح أسماء الله تعالى وتفسيرها وبيان معناها
وهو مما يزيد الإيمان ويعمقه في النفوس المؤمنة(1/193)
وهذا النوع هو المقصود الأعظم، وما مضى وسيلة وتتميم وحفظ لهذا النوع، فإن جميع ما ينزه الله عنه فإنما ذلك لأجل ثبوت ضده، وهذا النوع مبناه على إثبات جميع صفات الله الموجودة في الكتاب والسنة والأسماء الحسنى ومعانيها على وجهها والتفقه في معرفة معانيها والتحقق بها تصديقا ومعرفة وتعبدا بها، وكلما قويت هذه الأمور قوي التوحيد في القلب حتى يكون في قلوب العارفين الربانيين أعظم من الجبال الرواسي، وأطيب وأحلى وألذ من كل اللذات.
وذلك بإثبات أنه (العلي الأعلى) بكل وجه واعتبار: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، فعلو الذات هو أنه مستو على عرشه، فوق جميع خلقه، مباين لهم، وهو مع هذا ملطع على أحوالهم، مشاهد لهم، مدبر لأمورهم الظاهرة والباطنة، متكلم بأحكامه القدرية وتدبيراته الكونية وبأحكامه الشرعية، وأما علو القدر فهو أن صفاته كلها صفات كمال، وله من كل وصف ونعت أكمله وغايته، وأما علو القهر فهو قهره تعالى لجميع المخلوقات، فالعالم العلوي والسفلي كلهم خاضعون لعظمته مفتقرون إليه في كل شئونهم.
ومن أسمائه العظيمة (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن) وقد فسرها - صلى الله عليه وسلم - تفسيرًا كاملاً واضحًا فقال: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» (1) ففسر كل اسم بكل معناه، ونفى عنه كل ما يضاده، فمهما قدر المقدرون وفرض القارضون من الأوقات السابقة المتسلسلة إلى غير نهاية فالله قبل ذلك، و كل وقت لاحق مهما قدر وفرض فالله بعد ذلك.
ولهذا لا يستحق اسم (واجب الوجود) إلا هو، فمن خصائصه أنه لا يكون، إلا موجودًا كاملاً فلا يشاركه في وجوب الوجود أحد، فوجوب وجوده بنعوته#
__________
(1) رواه أحمد ومسلم وغيرهما.(1/194)
الكاملة في جميع الأوقات، وهو الذي أوجد الأوقات وجميع الموجودات، وكلها مستندة في وجودها وبقائها إلى الله، فالأول والآخر يتضمنان إحاطته بجميع الأزمنة وجميع المخلوقات من كل وجه، والظاهر والباطن يقتضيان إحاطته بجميع الأمكنة وأنها تنتهي إلى الله في العلو والقرب، ولا منافاة بين الأمرين في حقه تعالى لأنه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، فهو العلي في دنوه القريب في علوه.
ومن أسمائه الحسنى (الكبير، العظيم، الجليل) وهو الذي له كل عظمة وكبرياء وجلال، ومعاني العظمة نوعان: أحدهما: أنه متصف بصفات المجد والعظمة والكبرياء، الثاني: أنه يستحق أن يعظم غاية التعظيم، ويخضع العباد لجلاله وكبريائه وإخلاص المحبة والعبودية له، ومن كمال عظمته تنزيهه عن كل صفة نقص، وتقديسه عن أن يماثله أحد من خلقه.
ومن أسمائه (الجليل، الجميل) وما أحسن الجمع بينهما، فإن "الجليل" من له صفات الجلال والكبرياء والعظمة، و"الجميل" من له نعوت الحسن والإحسان، فإنه جميل في ذاته، وجمال المخلوقات بأسرها من آثار جماله، وهو الذي أعطاهم الجمال، فمعطي الجمال أحق بالجمال، وهو جميل في أسمائه لأنها كلها حسنى، وجميل في صفاته إذ كلها صفات كمال، وجميل في أفعاله فلا أحسن منه حكما ولا وصفا.
ومن أسمائه العظيمة (الحميد، المجيد) فالحمد كثرة الصفاة والخيرات، والمجد عظمة الصفات وسعتها، فهو الحميد لكثرة صفاته الحميدة، المجيد لعظمتها وعظمة ملكه وسلطانه فهو يقارب الجمع بين الجليل والجميل.
ومن أسمائه الحسنى (السميع، البصير) الذي يسمع جميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فالسر عنده علانية والبعيد عنده قريب، ويرى دبيب النملة السوداء في جوف الصخور في الليالي المظلمة وجريان القوت في أعضائها وعروقها الدقيقة الضئيلة، وسريان المياه في أغصان الأشجار والنبات، ويرى خيانات الأعين، وما هو في أخفى الأمكنة.#(1/195)
ومن أسمائه الحسنى (العليم) الذي أحاط علمه بكل شيء، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الواجبات والممتنعات والجائزات وما في أقطار العالم العلوي والسفلي {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7].
وهو تعالى لم يزل ولا يزال (متكلما) بكلماته الكونية والشرعية {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} صدقا في الإخبار وعدلا في أوامرها ونواهيها {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] وكلامه تعالى نوعان: نوع بلا واسطة كما كلم موسى وآدم وحواء ومحمدًا ليلة المعراج ويكلم عباده في الآخرة وفي الجنة، ونوع بواسطة أنبيائه ورسله.
ومن أسمائه (القوي، العزيز، المتين، القدير) ومعانيها متقاربة تقتضي كمال قوته وعظمته وكبريائه فلا يملك الخلق نفعه فينفعونه ولا ضره فيضرونه، وكمال اقتداره على جميع الموجودات والمعدومات، وأن جميع العالم طوع قدرته ومشيئته يتصرف فيها بما شاء وكيف يشاء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وقال تعالى: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلهِ جَمِيعًا} [يونس: 65] وهي عزة الامتناع والقوة والقهر والغلبة، كلها قد كملت لله الواحد القهار من جميع الوجوه.(1/196)
ومن أسمائه (الغني) بذاته عن جميع مخلوقاته، فلا يحتاج إلى أحد من خلقه بوجه من الوجوه فكل المخلوقات مفتقرة إليه في إيجادها وإعدادها وإمدادها في أمور دينها ودنياها في جلب المنافع ودفع المضار، وهو الذي أغناها وأقناها، ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له كفوا أحد، ومن سعة غناه أن جميع الخيرات والعطايا والنعم في الدنيا والآخرة والنعيم المقيم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قطرة من بحر غناه وجوده وكرمه، فهو الغني بذاته المستغني عن جميع مخلوقاته، المغني لعباده بما أدره عليهم من الخيرات وأنزله من البركات.
ومن أسمائه الحسنى (الحكيم) وهو الذي يضع الأمور مواضعها اللائقة بها وله الأحكام الشرعية والأحكام القدرية، وله الحكمة في شرعه والحكمة في قدره، فأحكامه الشرعية هي ما جاءت به الرسل، وهي متعلق رضاه ومحبته ومناط أمره ونهيه، والأحكام#
الكونية القدرية وهي جميع التدابير جليلها وصغيرها الواقعة في العالم العلوي والعالم السفلي، وقد يجتمع في حق المؤمن الحكمان إذا أطاع الله، وقد ينفرد الحكم القدري في وجود ما وجد من المعاصي والمباحات.(1/197)
ولذلك يقال: من وافق الحكم الشرعي فقد وافق رضي الله تعالى ومحبته، فإن الله يحب المؤمنين والمتقين والصابرين، ومن وافق حكمه القدري فقط فإن كان معصية فله الذم والعقوبة لمخالفته لأمر الله وتجرئه على معاصيه وإن كان مباحًا فلا له ولا عليه، ولكن قد يفوته من الخير ما هو بصدد فعله، والقضاء صفة لله، والله لا يوصف إلا بكل وصف جميل، والمقضي فعل الإنسان وصنعته وهو ينقسم إلى محمود ومذموم ومباح فلذلك وجب التفصيل في الرضا بالقضا، فالرضا بنفس ما يقدره ويرضاه بقطع النظر عن فعل العبد لازم، والرضا بالمقضي الذي هو فعل العبد فيه نفصيل بحسبه إن كان خيرًا تعين الرضاء به، وإن كان شرًا تعين عدم الرضاء، فأحكام الرب القدرية والشرعية، وكذلك أحكام الجزاء كلها متضمن لها اسمه (الحكيم) وهو الذي له الحكم بين عباده الذي لا حاكم إلا هو بالحق والعدل والحمد. وأما الحكمة فهي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها اللائقة بها، وهو تعالى قد أتقن ما صنعة وأحسن ما شرعه، فالمخلوقات كلها والشرائع مشتملات على الحكم والغايات الحميد كما أنها في نفسها في غاية الإحكام، فمن أجل الغايات في ذلك أنه خلق الخلق وشرع الأمر ليعرف بأسمائه وصفاته، وليعبد وحده لا شريك له، ويحمد ويشكر ويثنى عليه، ويخلص له الدين، وكذلك ليبتلي عباده أيهم أحسن عملاً وليجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها، فالحكيم هو الحاكم بين عباده في أقداره وشرائعه وجزائه وكون أحكامه في نفسها جارية على الحكم والحق في أصلها وفرعها وغاياتها وثمراتها وتفصيل هذه الجمل كثير جدًا.
فصل
ومن أسمائه (الحليم، الحي، الستار، الصبور، العفو) وكل هذه الأسماء تتعلق بجرائم العباد وذنوبهم، فإنه تعالى الجواد المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات، فكما أنه الجواد بإعطاء الخيرات ونيل المواهب والهبات والبركات فإنه الجواد بالحلم عن#(1/198)
العاصين. والستر على المخالفين والصبر على المحاربين له ولرسله المبارزين، والعفو عن الذنوب، فالعباد يبارزونه بالعظائم وبما يغضبه، وهو تعالى يسدي إليهم النعم ويصرف عنهم النقم كأنهم لم يعصوه، ويعافيهم ويرزقهم كأنهم لم يزالوا يشكرونه، وكذلك لا يزالون مقيمين على ما يوجب أخذهم بالعقوبات المتنوعة، وهو يمهلهم ليتوبوا ويذكرهم لينيبوا والعبد يجاهره بالمخالفات والرب يستحي من فضيحته ويسدل عليه ستره القدري وستره الشرعي {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] هذا مع كمال غناه عنهم، وكمال قدرته عليهم، ونهاية حاجتهم وفقرهم إليه، واضطرارهم إليه في كل لحظة ونفس وفي الحديث الصحيح: «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله يجعلون له الولد وهو يعافيهم ويرزقهم»، وفي الصحيحين مرفوعًا: «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فقوله إن لي ولدًا وأنا الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأما شتمه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» هذا وهو تعالى يسمع ما يقولون ويعلم ما تكن صدورهم وما به يتفوهون، وهو يلاطفهم بنعمه، ويتحبب إليهم بكرمه، فياويح المعرضين عنه ماذا حرموا من الخيرات، ويا سعادة المنقطعين إليه ماذا ادخر لهم من الألطاف والكرامات، ويا بؤس العاصين ما أقل حياءهم وأعظم شقاءهم وأشد جرأتهم.
فصل
ومن أسمائه الحسنى (الشهيد، والرقيب) وهو المطلع على ما في الضمائر وأكنته السرائر ولحظته العيون وما اختفى في خبايا الصدور، فكيف الأقوال والأفعال الظاهرة، ومقام الإحسان الذي هو مقام "المراقبة" التعبد لله بهذين الاسمين الكريمين، وحفظ الخواطر أن تساكن ما لا يحب الاطلاع عليه.(1/199)
ومن أسمائه (الحفيظ) وهو يتضمن شيئين: حفظه على العباد جميع ما عملوه بعلمه وكتابته وأمره الكرام الكاتبين بحفظه، وحفظه لعباده من جميع المكاره والشرور، وأخص من هذا حفظه لخواص عباده الذين حفظوا وصيته وحفظوه بالغيب بحفظ إيمانهم من#
النقص والخلل، وحفظهم وحمايتهم من الخطأ والزلل، وحفظه عليهم دينهم ودنياهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «احفظ الله يحفظك» (1) أي احفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده لا تتعدها يحفظك في دينك ودنياك.
ومن أسمائه الحسنى (اللطيف) الذي لطف علمه حتى أدرك الخفايا والخبايا، وما احتوت عليه الصدور، وما في الأراضي من خفايا البذور، ولطف بأوليائه وأصفيائه فيسرهم لليسرى، وجنبهم العسرى، وسهل لهم كل طريق يوصل إلى مرضاته وكرامته، وحفظهم من كل سبب ووسيلة توصل إلى سخطه، من طرق يشعرون بها، ومن طرق لا يشعرون بها، وقدر عليهم أموراً يكرهونها لينيلهم ما يحبون، فلطف بهم في أنفسهم فأجراهم على عوائده الجميلة وصنائعه الكريمة، ولطف لهم في أمور خارجة عنهم لهم فيها كل خير وصلاح ونجاح، فاللطيف مقارب لمعاني الخبير الرءوف الكريم.
ومن أسمائه (الرفيق) في أفعاله وشرعه، ومن تأمل من احتوى عليه شرعه من الرفق وشرع الأحكام شيئًا بعد شيء وجريانها على وجه السداد واليسر ومناسبة العباد وما في خلقه من الحكمة إذ خلق الخلق أطوارًا ونقلهم من حالة إلى أخرى لحكم وأسرار لا تحيط بها العقول، وهو تعالى يحب من عباده أهل الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وييسر من جرى على ما يحبه أموره كلها.
والرفق من العبد لا ينافي الحزم، فيكون رفيقًا في أموره متأنيًا ومع ذلك لا يفوت الفرص إذا سنحت، ولا يهملها إذا عرضت.
__________
(1) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.(1/200)
ومن أسمائه (المجيب) لجميع الداعين، وإجابة خاصة للمضطرين، وأخص من ذلك إجابته للمحبين الخاضعين لعظمته المنكسرة قلوبهم من أجله، فإجابته تعالى عامة للمخلوقات برها وفاجرها، بأعطائهم ما سألوه بلسان المقال، وما احتاجوه بلسان الحال، كما قال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34] والإجابة المذكورة أسبابها
في الكتاب والسنة كإجابته للمضطرين وللمحبين والوالد#
لولده والمسافر والمريض ونحوهم.
ومن أسمائه (المغيث) وهو المنقذ من الشدائد الفادحة والكروب {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63].
ومن أسمائه الحسنى (الجواد، الكريم، الوهاب) الذي عم بجوده أهل السماء والأرض، فما بالعباد من نعمة فمنه، وهو الذي إذا مسهم الضر فإليه يرجعون وبه يتضرعون فلا يخلو مخلوق من إحسانه طرفة عين، ولكن يتفاوت العباد في إفاضة الجود عليهم بحسب ما من عليهم من الأساليب المقتضية لجوده وكرمه، وأعظمها تكميل عبودية الله الظاهرة والباطنة، والعلمية والعملية، القولية والفعلية، والمالية، وتحقيقها باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحركات والسكنات.
فصل(1/201)
ومن أسمائه الحسنى (الودود) بمعنى الواد وبمعنى المودود، فهو المحبوب لأنبيائه ورسله وأتباعهم محبة لا يشبهها ولا يماثلها شيء من المحاب، كما أن محبوبهم ليس كمثله شيء في كماله، فلا يرون كمالا لهم ولا صلاحا ولا فلاحا إلا بمحبة ربهم، ومحبته في قلوبهم أحلى من كل شيء وألذ من كل شيء وأقوى من كل شيء، وبقوة محبته قاموا بعبوديته الظاهرة والباطنة، وروح العبودية هي المحبة وهو الذي وضع هذه المحبة في قلوبهم فأحبوه وكل من كانت محبته أكمل كانت عبوديته لله أقوى وأتم يحبون ربهم لذاته، ويحبونه لما قام به من صفات الكمال ونعوت الجلال، والجمال، ويحبونه لما يغذوهم به من نعمه الظاهرة والباطنة، وخصوصا أكبر النعم وهو نعمة الإسلام الخالص والإيمان الكامل، وهو تعالى يحبهم لكمال إحسانه وسعة بره، بل حبهم لله تعالى محفوف بحبين منه له: حب وضعه في قلوبهم فانقادوا له طوعًا واطمأنت به قلوبهم، ثم أحبهم جزاء حبهم، وكمل لهم محبته والفضل كله منه والمنة لله أولا وآخرا فمن تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا ومن أتاه يمشي أتاه الله هرولة، كما نطق به الصادق المصدوق.
ومن أسمائه الحسنى (الشكور) وهو الذي يشكر القليل من العمل الخالص النقي#
النافع ويعفو عن الكثير من الزلل، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً بل يضاعفه أضعافًا مضاعفة بغير عد ولا حساب، ومن شكره أنه يجزي بالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وقد يجزي الله العبد على العمل بأنواع من الثواب العاجل قبل الآجل وليس عليه حق واجب بمقتضى أعمال العباد، وإنما هو الذي أوجب الحق على نفسه كرمًا منه وجودًا والله لا يضيع أجر العاملين إذا أحسنوا في أعمالهم وأخلصوها لله تعالى.(1/202)
ومن أسمائه الحسنى (الغفور، الغفار، التواب) الذي يغفر ذنوب التائبين الغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى، الرجاع لعباده بالخيرات وحلول البركات ومغفرة الذنوب وستر العيوب، وتوبة العبد محفوفة بتوبتين من ربه: تاب عليه أولا فأقبل بقلبه على التوبة والإنابة والرجوع، ثم تاب عليه ثانيا بالقبول والجزاء والإحسان.
فصل
ومن أسمائه الحسنى (الصمد) هو الذي صمدت له المخلوقات بحاجاتها وملماتها الدقيقة والجليلة، وذلك لكمال عظمته وسعة جوده وسلطانه وعظمة صفاته.
ومن أسمائه (القهار، الجبار) وهو القوي العزيز الذي قهر المخلوقات كلها، ودانت له الموجودات بأسرها، ومن لوازم قهره أنه يقتضي أنه كامل الحياة والعلم والقدرة، والجبار بمعنى القهار، وبمعنى أنه يجبر الكسير، ويغني الفقير، ويجبر القلوب المنكسرة، من أجله، ويجبر عبده المؤمن بإصلاح حاله، وهو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى المتكبر عن كل نقص وسوء ومثال.
ومن أسمائه (الحبيب) بمعنى الرقيب المحاسب لعباده المتولي جزاءهم بالعدل والفضل، وبمعنى الكافي عبده همومه وغمومه، وأخص من ذلك أنه الحسيب للمتوكلين {مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافية أمور دينه ودنياه.
وهو (الرشيد) وهو الذي أقواله رشد، وأفعاله رشد، وهو مرشد الحائرين في الطريق الحسي والضالين في الطريق المعنوي، فيرشد الخلق بما شرعه على ألسنة رسله من الهداية#
الكاملة، ويرشد عبده المؤمن، إذا خضع له وأخلص عمله أرشده إلى جميع مصالحه، ويسره لليسرى وجنبه العسرى.(1/203)
ومن أسمائه (الحكم، العدل) الذي إليه الحكم في كل شيء، فيحكم تعالى بشرعه، ويبين لعباده جميع الطرق التي يحكم بها بين المتخاصمين، ويفصل بين المتنازعين من الطرق العادلة الحكيمة، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويحكم فيهم بأحكام القضاء والقدر، فيجري عليهم منها ما تقتضيه حكمته، ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها، ويقضي بينهم يوم الجزاء والحساب، فيقضي بينهم بالحق، ويحمده الخلائق على حكمه حتى من قضى عليهم بالعذاب يعترفون له بالعدل، وأنه لم يظلمهم مثقال ذرة.
فصل
ومن أسمائه (القدوس والسلام) وهو المعظم المقدس عن كل عيب، السالم من كل نقص، ومن أن يكون له مثل أو كفو أو نديد أو سمي، وذلك لكماله وكمال أسمائه الحسنى وصفاته العلى.
ومن أسمائه (الفتاح) وفتحه نوعان: فتح بأحكامه القدرية والشرعية والجزائية، وهو حكمه بين عباده، يشرع الشرائع، ويسن لعباده الأحكام والوسائل والطرق التي يهتدون بها إلى جميع منافعهم ومصالحهم ويحكم بين الرسل وأتباعهم وبين أعدائهم، فيكرم الرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، ويهين أعداءهم ويكون هذا أكبر دليل على أن هؤلاء على الحق وأولئك على الباطل.
والنوع الثاني فتحه لعباده الرحمة والبركات، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] ويفتح لعبده المؤمن أبواب المعارف وحلاوة الإيمان وسرور اليقين وسهولة الطاعات وتيسير القربات، اللهم افتح علينا فتوحك على العارفين.
ومن أسمائه (الرزاق) لجميع المخلوقات، فما من موجود في العالم العلوي والعالم السفلي إلا متمتع برزقه، مغمور بكرمه، ورزقه نوعان، أحدهما الرزق النافع الذي لا#(1/204)
تبعة فيه، وهو موصل للعبد إلى أعلى الغايات، وهو الذي على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهدايته وإرشاده، وهو نوعان أيضًا: رزق القلوب بالعلوم النافعة والإيمان الصحيح، فإن القلوب لا تصلح ولا تفلح ولا تشبع حتى يحصل لها العلم بالحقائق النافعة والعقائد الصائبة، ثم التحقق بالأخلاق الجميلة والتنزه عن الأخلاق الرذيلة، وما جاء به الرسول كفيل بالأمر على أكمل وجه، بل لا طريق لها إلا من طريقه.
والنوع الثاني: أن يغني الله عبده بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه، والأول هو المقصود الأعظم وهذا وسيلة إليه و معين له، فإذا رزق الله العبد العلم النافع والإيمان الصحيح والرزق الحلال والقناعة بما أعطاه الله منه فقد تمت أموره واستقامت أحواله الدينية والبدنية، وهذا النوع من الرزق هو الذي مدحته النصوص النبوية واشتملت عليه الأدعية النافعة.
وأما النوع الثاني وهو إيصال الباري جميع الأقوات التي تتغذى بها المخلوقات برها وفاجرها المكلفون وغيرهم فهذا قد يكون من الحرام كما يكون من الحلال، وهذا فصل النزاع في مسألة هل الحرام يسمى رزقا أم لا، فإن أريد النوع الأول وهو الرزق المطلق الذي لا تبعة فيه فلا يدخل فيه الحرام فإن العبد إذا سأل ربه أن يرزقه فلا يريد به إلا الرزق النافع في الدين والبدن وهو النوع الأول، وإن أريد به مطلق الرزق وهو النوع الثاني فهو داخل فيه فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ومثل هذا يقال في النعمة والرحمة ونحوها.(1/205)
ومن أسمائه الحسنى (النور) فالنور وصفه العظيم، فأسماؤه حسنى، وصفاته أكمل الصفات، وأفعاله تعالى رحمة وحمد وحكمة، وهو نور السماوات والأرض. وبنوره استنارت قلوب المؤمنين، وبنوره استنارت جنات النعيم، وحجابه نور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، والنور الذي هو وصفه من جملة نعوته العظيمة، وأما النور المخلوق فهو نوعان: نور حسي كنور الشمس والقمر والكواكب وسائر المخلوقات المدرك نورها بالأبصار، والثاني نور معنوي وهو نور المعرفة والإيمان والطاعة، فإن لها نور في قلوب المؤمنين بحسب ما قام في قلوبهم من حقائق المعرفة ومواجيد الإيمان وحلاوة الطاعة وسرور المحبة، وهذا النور هو الذي يمنع صاحبه من المعاصي ويجذبه إلى الخير ويدعو إلى كمال الإخلاص لله، ولهذا كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم اجعل في قلبي نورًا وفي سمعي نورًا وفي بصري نورًا ومن بين#
يدي نورًا ومن خلفي نورًا وفوقي نورًا وتحتي نورًا، اللهم اعطني نورًا وزدني نورًا» (1) .
وهذا النور الذي يعطيه الله عبده أعظم منه منه عليه، وهو أصل الخير، وهذا النور مهما قوي فإنه مخلوق، فإياك أن تضعف بصيرتك ويقل تمييزك وعلمك فتظن هذا النور نور العيان، ومشاهدة القلب لنور الذات المقدسة، وإنما هو نور المعرفة والإيمان، ويبتلى بهذا بعض الصوفية الذين ترد عليهم الواردات القوية فيقع منهم من الشطح والخطل، ما ينافي العلم والإيمان، كما أن كثيف الطبع جافي القلوب قد تراكمت عليه الظلمات وتوالت عليه الغفلات فلم يكن له من هذا النور حظ ولا نصيب، بل ربما ازدري من سفاهة عقله، وقلة وجده هذه الأحوال وزهد فيها.
__________
(1) رواه مسلم.(1/206)
فمتى من الله على العبد بمعرفة صحيحة متلقاة من الكتاب والسنة وتفقه في أسماء الله وصفاته وتعبد لله بها واجتهد أن يحقق مقام الإحسان فيعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه ولهج بذكر الله تعالى واستنار قلبه وحصل له من لذة المعرفة ومواجيد الإيمان أعظم اللذات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فصل
ومن أسمائه الحسنى (المقدم، والمؤخر، المعطي، المانع، الضار، النافع، الخافض، الرافع) من أسمائه الحسنى ما يؤتى به مفردًا ويؤتى به مقرونًا مع غيره وهو أكثر الأسماء الحسنى، فيدل ذلك على أن لله كمالاً من إفراد كل من الاسمين فأكثر وكمالا من اجتماعهما أو اجتماعها، ومن أسمائه ما لا يؤتي به إلا مع مقابلة الاسم الآخر لأن الكمال الحقيقي تمامه وكماله من اجتماعهما، وذلك مثل هذه الأسماء، وهي متعلقة بأفعاله الصادرة عن إرادته النافذة وقدرته الكاملة وحكمته الشاملة.
فهو تعالى المقدم في الزمان والمكان والأوصاف الحسية، والمقدم في الفضائل والأوصاف المعنوية، والمؤخر لمن شاء في ذلك، المعطي من شاء من القوة والقوى الحسية والعقل والمعارف والكمالات المتنوعة، المانع لمن يشاء ممن لا يستحق ذلك،
وهو تعالى النافع لمن شاء من عباده بالمنافع الدينية والدنيوية، الضار لمن فعل الأسباب التي توجب ذلك، وكل هذا تبع#(1/207)
لحكمته وسننه الكونية وللأسباب التي جعلها موصلة إلى مسبباتها، فإن الله تعالى جعل مقاصد للخلق وأمورًا محبوبة في الدين والدنيا، وجعل لها أسبابًا وطرقًا وأمر بسلوكها ويسرها لعباده غاية التيسير، فمن سلكها أوصلته إلى المقصود النافع، ومن تركها أو ترك بعضها أو فوت كمالها أو أتاها على وجه ناقص ففاته الكمال المطلوب فلا يلومن إلا نفسه، وليس له حجة على الله فإن الله أعطاه السمع والبصر والفؤاد والقوة والقدرة وهداه النجدين وبين له الأسباب والمسببات ولم يمنعه طريقًا يوصل إلى خير ديني ولا دنيوي فتخلفه عن هذه الأمور يوجب أن يكون هو الملوم عليها المذموم على تركها.
واعلم أن صفات الأفعال التي منها هذه الأسماء كلها متعلقة وصادرة عن هذه الصفات الثلاث: القدرة الكاملة والمشيئة النافذة، والحكمة الشاملة التامة وهي كلها قائمة بالله، والله متصف بها، وآثارها ومقتضياتها جميع ما يصدر عنها في الكون كله من التقديم والتأخير والنفع والضر والعطاء والحرمان والخفض والرفع، لا فرق بين محسوسها ومعقولها ولا بين دينيها ودنويها فهذا معنى كونها أوصاف أفعال لا كما ظنه أهل الكلام الباطل أن الفعل هو عين المفعول.
وأنه لم يقم بالله منها وصف، فهذا مخالف للعقل والنقل، وقول متناقض في نفسه، فإن الآثار تدل على المؤثر كما أن الوصف يدل على الأثر، فهما شيئان متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، دل الكتاب والسنة والعقل على ذلك، فمن فرق بينهما فأثبت المفعول ونفى الفعل فقوله غير معقول ولا منقول.
واعلم أن الأفعال الاختيارية للباري نوعان: نوع متعلق بذاته المقدسة كالاستواء على العرش والنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا والمجيء والإتيان ونحوها، ونوع متعلق بالمخلوقات كالخلق والرزق والعطاء والمنع وأنواع التدابير الكونية والشرعية والله أعلم.
فصل(1/208)
أسماء الله كلها حسنى، وكلها تدل على الكمال المطلق والحمد المطلق، وكلها مشتقة من أوصافها، فالوصف فيها لا ينافي العلمية، والعلمية لا تنافي الوصف، ودلالتها ثلاثة أنواع: دلالة مطابقة إذا فسرنا الاسم بجميع مدلوله، ودلالة تضمن إذا فسرناه#
ببعض مدلوله، ودلالة التزام إذا استدللنا به على غيره من الأسماء التي يتوقف هذا الاسم عليها.
فمثلا (الرحمن) دلالته على الرحمة والذات دلالة مطابقة، وعلى أحدهما دلالة تضمن لأنها داخلة في الضمن، ودلالته على الأسماء التي لا توجد الرجمة إلا بثبوتها كالحياة والعلم والإرادة والقدرة ونحوها دلالة التزام، وهذه الأخيرة تحتاج إلى قوة فكر وتأمل، ويتفاوت فيها أهل العلم، فالطريق إلى معرفتها أنك إذا فهمت اللفظ وما يدل عليه من المعنى وفهمته فهما جيدا ففكر فيما يتوقف عليه ولا يتم بدونه، وهذه القاعدة تنفعك في جميع النصوص الشرعية فدلالتها الثلاث كلها حجة لأنها معصومة محكمة
فصل في بيان حقيقة الإلحاد في أسماء رب العالمين
وذكر أقسام الملحدين(1/209)
وهذا الفصل في نفي الإلحاد في أسماء الله وصفاته من تمام إثبات صفات الكمال وتفرد الرب بنعوت العظمة والجلال، فعلى العبد المؤمن أن يحققها علما وتعبدًا لله بها ونفيًا للإلحاد فيها، وحقيقة الإلحاد فيها هو الميل بها عن الاستقامة إما بإثبات المشاركة فيها لأحد من الخلق، كإلحاد المشركين الذين اشتقوا لآلهتهم من صفات الله ما لا يصلح إلا لله، كتسميتهم اللات من الإله والعزى من العزيز، ومناة من المنان وكل مشرك تعلق بمخلوق اشتق لمعبوده من خصائص الربوبية والإلهية ما برر له عبادته، وأعظم الخلق إلحادًا طائفة الاتحادية الذين من قولهم أن الرب عين المربوب، فكل اسم ممدوح أو مذموم يطلق على الله عندهم، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، وإما نفي صفات الله وإثبات أسماء لا حقيقة لها كما فعل الجهمية ومن تفرع عنهم، وإما بجحدها وإنكارها رأسًا إنكارًا لوجود الله كما فعل زنادقة الفلاسفة فهؤلاء الملحدون قد انحرفوا عن الصراط المستقيم ويمموا طرق الجحيم.#
فصل في النوع الثاني من نوعي توحيد
الأنبياء والمرسلين والمخالف لتوحيد المعطلين
وهذا النوع يسمى توحيد الإلهية وتوحيد العبادة، وهو إفراد الله بالعبادة الظاهرة والباطنة. وحقيقة هذا التوحيد هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والتقرب إلى الله بمعرفة ذلك وفهمه واعتقاده فإنه أصل التوحيد وأساسه، ثم القيام التام بعبودية القلب وهو قوة الإنابة إلى الله بمحبته وخوفه ورجائه وسائر أعمال القلوب.(1/210)
ثم القيام بالصلاة فرضها ونفلها والزكاة والصدقة والصيام والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله بالقول والفعل، وأداء حقوق الله وحقوق عباده الواجبة والمستحبة، وترك ما يكرهه الله ورسوله من المحرمات والمكروهات، وإخلاص ذلك كله لله تعالى، فكل هذا داخل في عبادة الله وتوحيده، ولا يتم ذلك إلا بتكميلها بالصدق وهو الجد والاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه وأحسنها، وأن تكون موافقة لمرضاة الله وما شرعه رسوله، فهذه الثلاث: الإخلاص والمتابعة والصدق، من اجتمعت له تم له هذا التوحيد، فإن الإخلاص ينفي الشرك الأكبر الجلي وهو صرف نوع من العبادة لغير الله واتخاذ ند مع الله، وكمال الإخلاص ينفي الشرك الأصغر في الألفاظ ووسائل الشرك، والصدق ينفي الكسل والفتور ونقصان العمل، والمتابعة تنفي البدع القولية الاعتقادية والبدع الفعلية، فبهذا يتحقق التوحيد، وكمال هذا بتكميل محبة الله وتقديمها على كل محبة، و محبة ما يحبه الله وكراهة ما يكرهه الله من الأشخاص والأعمال والأزمنة والأمكنة.
وبراهين هذا التوحيد أقوى البراهين: براهينه العلم بتفرد الرب بالربوبية والعظمة والكبرياء والسلطان، وأنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة وباطنة إلا منه، وهو الذي يأتي بالحسنات ويدفع السيئات، وهو المنفس لكرب المكروبين، وإغاثة المضطرين، وهو الذي يجبر ولا يجار عليه {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى: 28].#
ومن براهينه أن جميع الكتب السماوية وجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم دعوا إلى توحيده وإخلاص العمل له، وأنه مركوز في عقول جميع العقلاء، التي لم تغيرها العقائد الباطلة، وجوب عبادته وحده لا شريك له، ووجوب حمده وشكره وإخلاص العمل له.(1/211)
ومن براهينه معرفة أوصاف ما عبد من دونه من جميع المخلوقين، وأنه ليس فيهم من خصائص الإلهية شيء بل هم ناقصون فقراء عاجزون {لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6] فنسأل الله الكريم الوهاب أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته وإخلاص الدين له، وأن يكمل لنا توحيده بقوة الإنابة إليه والشوق إلى لقائه والتلذذ بخدمته واللهج بذكره، وأن يجيب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ويجعلنا من الراشدين إنه جواد كريم.
الطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله
قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ} [محمد: 19] العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه وتمامه أن يعمل بمقتضاه وهذا العلم الذي أمر الله به وهو العلم بتوحيد الله فرض عين على كل إنسان لا يسقط عن أحد كائنا من كان بل كل مضطر إلى ذلك والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله أمور:
أحدها: بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله فإنها توجب بذل الجهد في التأله له والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد#
بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته والتأله له وحده لا شريك له.(1/212)
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ومن عقوبته لأعدائه المشركين به فإن هذا داع إلى العلم بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت من دون الله واتخذت آلهة وأنها ناقصة من جميع الوجوه فقيرة بالذات لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا ولا ينصرون من عبدهم ولا ينفعونهم بمثقال ذرة من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك وتواطؤها عليه.
السابع: أن خواص الخلق الذين هم أكمل الخليقة أخلاقًا وعقولاً ورأيا وصوابا وعلما وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون قد شهدوا لله بذلك.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية التي تدل على التوحيد أعظم دلالة تنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته وبديع حكمته وغرائب خلقه، فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت وقامت أدلة للتوحيد من كل جانب فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد بحيث يكون كالجبال الرواسي لا تزلزله الشبه والخيالات ولا يزداد على تكرار الباطل والشبه إلا نموا وكمالا.
هذا وإن نظرت إلى الدليل العظيم والأمر الكبير وهو تدبر هذا القرآن العظيم والتأمل في آياته فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجملة ما لا يحصل في غيره (1) .#
الإيمان بالقدر
أ- حكمه: واجب وهو أحد أصول الإيمان الستة قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49].
__________
(1) من "تفسير ابن سعدي" (7/ 166، 167) ط1.(1/213)
ب- صفته: أن تعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشاء الله لم يكن وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ج- مراتب القدر أربع:
1- علم الله بالأشياء قبل كونها.
2- كتابته له قبل خلق السموات والأرض.
3- مشيئته لها.
4- خلقه لها وإيجاده وتكوينه، جمعها الشاعر بقوله:
علم كتابة مولانا مشيئته ... ... كذاك خلق وإيجاد وتكوين
د- وأنواع التقادير أربعة:
1- التقدير السابق في علم الله وكتابته في اللوح المحفوظ
2- التقدير العمري في بطن الأم للرزق والأجل والعمل والسعادة والشقاء.
3- التقدير الحولي في ليلة القدر يقدر فيها ما يكون في السنة من أقدار.
4- التقدير اليومي لكل ما يحدث {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
وكل هذه التقادير كتفصيل للقدر السابق وهو لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الخوف والجد والاجتهاد والمواظبة على العمل الصالح (1) .#
قال الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} [التوبة: 51] وقال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال بعض السلف/ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23].
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.#
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة في العقيدة للإمام أحمد (رحمه الله) (2)
__________
(1) انظر "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة و التعليل" لابن القيم
ص (19-42-50).
(2) "طبقات الحنابلة" (1/ 341-345).(1/214)
قال القاضي أبو الحسين محمد بن القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء المتوفى سنة 526 في طبقات الحنابلة في ترجمة مسدد بن مسرهد بن مسربل.
أنبأنا علي بن البسري عن ابن بطة حدثني علي بن أحمد المقري المراغي، بالمراغة حدثنا محمد بن جعفر بن محمد السونديني حدثنا علي بن محمد بن موسى الحافظ المعروف بابن المعدل، حدثنا أحمد بن محمد التميمي الزرندي، قال: لما أشكل على مسدد بن مسرهد بن مسربل أمر الفتنة، وما وقع الناس فيه من الاختلاف في القدر والرفض، والاعتزال، وخلق القرآن، والإرجاء: كتب إلى أحمد بن حنبل: اكتب إلي بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما ورد كتابه على أحمد بن محمد بن حنبل: بكي وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يزعم هذا البصري: أنه قد أنفق على العلم مالاً عظيمًا وهو لا يهتدي إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم كتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، وينهونه عن الردى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس، ينفون عن دين الله عز وجل تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الضالين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عنان الفتنة. يقولون على الله، وفي الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا- وفي كتابه: بغير علم، فنعوذ بالله من كل فتنة مضلة، وصلى الله على محمد.
أما بعد، وفقنا الله وإياكم لما فيه طاعته، وجنبنا وإياكم ما فيه سخطه، واستعملنا#
وإياكم عمل العارفين به، الخائفين منه، إنه المسئول ذلك.(1/215)
أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم، ولزوم السنة، فقد علمتم ما حل بمن خالفها وما جاء فيمن اتبعها، بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله عز وجل ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها» فآمركم أن لا تؤثروا على القرآن شيئًا، فإنه كلام الله عز وجل، وما تكلم الله به فليس بمخلوق، وما أخبر به عن القرون الماضية فغير مخلوق، وما في اللوح المحفوظ، وما في المصاحف، وتلاوة الناس، وكيفما قرئ، وكيفا يوصف: فهو كلام الله غير مخلوق، فمن قال: مخلوق، فهو كافر بالله العظيم، ومن لم يكفره فهو كافر.
ثم من بعد كتاب الله: سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والحديث عنه، وعن المهديين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتصديق بما جاءت به الرسل، واتباع سنة النجاة، وهي التي نقلها أهل العلم كابرًا عن كابر، واحذروا رأي جهم، فإنه صاحب رأي وكلام وخصومات، فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم، أن الجهمية افترقت ثلاث فرق فقالت طائفة منهم: القرآن كلام الله مخلوق، وقالت طائفة: القرآن كلام الله وسكتت، وهي الواقفة الملعونة وقال بعضهم: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، فكل هؤلاء جهمية كفار، يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا وأجمع من أدركنا من أهل العلم أن من هذه مقالته إن لم يتب لم يناكح ولا يجوز قضاؤه ولا تؤكل ذبيحته.
والإيمان قول وعمل، يزيد وينقص: زيادته إذا أحسنت، ونقصانه: إذا أسأت ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام شيء إلا الشرك بالله العظيم أو برد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحدًا بها، فإن تركها كسلاً أو تهاونًا كان في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه (1) .
__________
(1) الصحيح من أقوال أهل العلم أن من ترك الصلاة تهاونا أو كسلا فهو كافر لأدلة كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم - : «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة» رواه مسلم.(1/216)
وأما المعتزلة الملعونة: فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم: أنهم يكفرون بالذنب، ومن كان منهم كذلك فقد زعم أن آدم كان كافرًا وأن إخوة يوسف حين كذبوا#
أباهم (1) يعقوب كانوا كفارًا وأجمعت المعتزلة: أن من سرق حبة: فهو كافر تبين منه امرأته ويستأنف الحج إن كان حج، فهؤلاء الذين يقولون بهذه المقالة كفار، لا يناكحون، ولا تقبل شهادتهم.
وأما الرافضة: فقد أجمع من أدركنا من أهل العلم: أنهم قالوا: إن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر الصديق، وأن إسلام علي كان أقدم من إسلام أبي بكر، فمن زعم أن علي بن أبي طالب أفضل من أبي بكر فقد رد الكتاب والسنة، لقول الله عز وجل {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [محمد: 48] (2) فقدم الله أبا بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن الله قد اتخذ صاحبكم خليلا، ولا نبي بعدي» فمن زعم أن إسلام علي أقدم من إسلام أبي بكر، فقد كذب: لأن أول من أسلم: عبد الله بن عثمان، عتيق أبو بكر بن أبي قحافة، وهو يومئذ ابن خمس وثلاثين سنة، وعلي ابن سبع سنين، لم تجر عليه الأحكام والفرائض والحدود.
__________
(1) كذا في الأصول، ولعل الصواب (كذبوا على أبيهم).
(2) على معنى "معه" أي في الغار، لكن يعكر عليه "الذين" الجمع وبقية الصفات، فإنها عامة في الصحابة رضي الله عنهم ولو كان استدل بقول الله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} لكان أولى.(1/217)
ونؤمن بالقضاء، والقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وأن الله خلق الجنة قبل الخلق وخلق لها أهلاً ونعيمها دائم، ومن زعم أنه يبيد من الجنة شيء فهو كافر، وخلق النار قبل خلق الخلق، وخلق لها أهلاً وعذابها دائم، وأن أهل الجنة يرون ربهم لا محالة وأن الله يخرج أقوامًا من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الله كلم موسى تكليمًا.
واتخذ إبراهيم خليلا، والصراط حق والميزان حق والأنبياء حق، وعيسى ابن مريم رسول الله وكلمته، والإيمان بالحوض والشفاعة والإيمان بمنكر ونكير (1) وعذاب القبر، والإيمان بملك الموت، يقبض الأرواح، ثم ترد في الأجساد في القبور، فيسألون عن الإيمان والتوحيد، والإيمان بالنفخ في الصور، والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل.
وأن القبر الذي بالمدينة: قبر محمد - صلى الله عليه وسلم - معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن.#
والدجال خارج في هذه الأمة لا محالة. وينزل عيسى ابن مريم، فيقتله بباب لد وما أنكرت العلماء من الشبهة فهو منكر، واحذروا البدع كلها، ولا عين نظرت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرًا من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا بعد أبي بكر عين نظرت خيرًا من عمر، ولا بعد عمر عين نظرت خيرًا من عثمان، ولا بعد عثمان بن عفان عين نظرت خيرًا من علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، قال أحمد: هم والله الخلفاء الراشدون المهديون، وأن نشهد للعشرة بالجنة.
وهم أبو بكر وعمر وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف الزهري، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، ومن شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالجنة شهدنا له بالجنة.
__________
(1) لم يأت في أسمي ملكي السؤال في القبر حديث يثبت: كما حقق ذلك الإمام ابن القيم وغيره.(1/218)
ورفع اليدين في الصلاة زيادة في الحسنات، والجهر بآمين عند قول الإمام ولا الضالين والصلاة على من مات من أهل هذه القبلة وحسابهم على الله عز وجل.
والخروج مع كل إمام في غزوة وحجه، والصلاة خلفهم صلاة الجماعة والجمعة والعيدين.
والكف عن مساوئ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحدثوا بفضائلهم، وأمسكوا عما شجر بينهم، لا تشاور أحدًا من أهل البدع في دينك، ولا ترافقه في سفر.
ولا نكاح إلا بولي وخاطب وشاهدي عدل، والمتعة حرام إلى يوم القيامة، ومن طلق ثلاثًا في لفظ واحد فقد جهل، وحرمت عليه زوجته، ولا تحل له أبدًا حتى تنكح زوجًا غيره (1) .#
والتكبير على الجنائز أربع. فإن كبر خمسًا فكبر معه، قال ابن مسعود: (كبر ما كبر إمامك) قال أحمد: خالفني الشافعي وقال: إن زاد على أربع تكبيرات أعاد الصلاة واحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (صلى على النجاشي فكبر عليه أربع تكبيرات).
والمسح على الخفين: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة وإذا دخلت المسجد فلا تجلس حتى تركع ركعتين تحية المسجد، والوتر ركعة والإقامة فرادى.
__________
(1) قد حقق شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ورضى عنهما: أن الطلاق الذي شرعه الله، و الذي تترتب عليه أحكامه: هو أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه: طلقة واحدة، بقوله: أنت طالق وأن النصوص من كتاب الله وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم - بينة الدلالة على ذلك وأن هذا هو الذي كان عليه العمل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر، وهذا هو الهدى والدين الذي لا ينبغي العدول عنه إلى غيره كائنا من كان قائله، وأن من أوقع الطلاق بلفظ الثلاث في كلمة واحدة أو مجلس واحد: ثلاثًا بائنة لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره: فلا دليل معه، بل الدليل عليه، والله الموفق للصواب.(1/219)
أحبوا أهل السنة على ما كان منهم، أماتنا الله وإياكم على السنة والجماعة ورزقنا الله وإياكم اتباع العلم، ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.#
عقيدة الإمام موفق الدين
أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي
هذه رسالة كتبها الشيخ الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 620 هـ رحمه الله إلى أهل حمص
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلموا رحمكم الله أن ربكم عظيم قدير كبير لا تدرك صفاته بالعقول، ولا يتجاوز فيها ما ورد به المنقول وأنه لا يشبه بمخلوقاته، ولا تشبه صفاتهم بصفاته كما لا تشبه ذواتهم بذاته، ولا يتجاوز في وصفه ما ورد به الخبر الصحيح والأثر الصريح، ولا تفسروه بآرائكم، ولا ترجعوا إلى أهوائكم، واقتصروا في آيات الصفات وأخبارها على مجرد الرواية والقراءة معتقدين أن الله ليس له شبيه ولا نظير، وقفوا حيث وقف سلفكم، وامتثلوا في ذلك ما أمر به أئمتكم، وخافوا على أنفسكم أن تتكلموا بالله سبحانه بما لم يسبقكم به من يجب قبول قوله، فتهلكوا وأنتم لا تعلمون، وتبتدعون وأنتم تحسبون أنكم مهتدون، واعلموا أن دين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه.
وأن الطريق المستقيم هي الوسط، وأنه قد هلك في صفات الله تعالى طائفتان: طائفة غلت فشبهت صفاته بصفات خلقه، وحملوا ما سمعوا من صفات الله على ما عقلوه من مخلوقاته، فصاروا إلى التشبيه والتجسيم فضلوا عن الصراط المستقيم، وطائفة رفضت الأخبار الصحيحة، ورغبت عن مقالة سيد الأولين والآخرين - صلى الله عليه وسلم - وتأولت ما لم يمكنها بمقتضى رأيها، وغيرت ما قال الله وقال رسوله بأهوائها، فضلت وأضلت.(1/220)
وأهل الحق سلكوا طريقًا مستقيمًا بين الطريقين آمنوا فأمنوا، وأسلموا فسلموا، ولم يتجاوزوا المنقول، ولا حكموا في رد قول الصادق وتفسيره العقول وقالوا آمنا به، بالمعنى الذي أراد به المتكلم به هو أعلم بمراده، ولم يتجاوزوا لفظه ولا أولوه ولا فسروه، ومتى نازعتم أنفسهم إلى شيء من ذلك قمعوها بشيئين: أحدهما أن من مضى من السلف لم يزيدوا على مجرد التلاوة والرواية، ولم يفسروا ولا تأولوا وهم غير مشكوك في صوابهم وصحة عقائدهم وسدادهم، وقد أمرنا باتباعهم وأعلمنا أن الحق ما كانوا عليه فيجب علينا اتباعهم وسلوك طريقهم، ونعلم أن من سلك غير طريقهم أفضى إلى غير دارهم التي هي دار السلام.
والثاني: أننا علمنا صدق القائل فوجب علينا الإيمان به ولم يحط#
علمنا بمراده ومعنى كلامه، فوجب علينا السكوت عما لا نعلمه، وعلمنا أن المتكلم عالم بمعنى كلامه، فنحن نؤمن بذلك المعنى فنقول ما قال ونسكت عما سكت عنه، فلا حرج علينا في الإيمان بقوله لأنه حق ولا في السكوت عما سكت عنه لأنه صواب، واتباع الصادق في حالتي قوله وسكوته هو معنى السنة لأن المراد بالسنة طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل السنة هم الذين اتبعوا رسولهم - صلى الله عليه وسلم - وطريقته، وآمنوا بمقالته، وسكتوا في مواضع سكوته، وأهل البدع هم الذين أحدثوا من عند أنفسهم مقالة لم يتبعوا فيها رسولهم فاحذروا رحمكم الله الزيادة على المنقول.(1/221)
وحمل صفات الله سبحانه على مقتضى المعقول، وعليكم بالحذر على أنفسكم من كلمة ليس فيها خبر صحيح، فإنكم تسئلون عنها، والأمر صعب، والطريق خطر، قد ضل عنه أمم ذوو عقول وافرة وعلوم جمة فاعتصموا بالسنة وعضوا عليها بالنواجذ، ولا تلتقوا يمينًا ولا شمالا ولا تميلوا قليلا ولا كثيرا ولا تزيدوا على ما قاله الصادق حرفًا واحدًا ولا تذكروا من عند أ نفسكم معنى زائدًا فإنه قد بلغنا عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله أنه بلغه عن أمير أنه يتكلم في التشبيه فقال: يا ابن أخي الأمر لا يزال صغيرًا ما لم يصل إليكم وقد بلغني أنك تقول كذا وكذا قال: نعم يا أبا سعيد قال: يا ابن أخي هلم فلنتكلم في بعض مخلوقات الله تعالى قبل أن نتكلم في الله كم بلغك أن لجبريل جناحًا قال ست مائة جناح قال يا ابن أخي قد أسقطنا عنك خمس مائة جناح وسبعة وتسعين جناحًا صف ثلاثة أجنحة، هذان جناحان في جنبيه فأين الثالث ففكر الأمير في نفسه فلم يدر أين يجعله فقال لا أدري فقال: يا بن أخي إذا كان بعض مخلوقاته قد عجزت عن وصفه فكيف بمن خلقه فقال: يا أبا سعيد أنا تائب إلى الله سبحانه أو كما جاءت الحكاية.
وهذا تنبيه لذوي الألباب عن العجز عن إدراك وصف رب الأرباب وأبلغ من هذا أن الإنسان يعجز عن إدراك نفسه فإنه لا يدري أين موضع النفس والروح والفرق بينهما وحقيقة النوم ومحله ومتى يجد لذاته في حال ذهاب عقله أو قبله أو بعده وأشباه هذا مما يجهله الإنسان من نفسه وهو لا يغيب عنها فكيف يقدر قدر من لم يره ولا له مثل يقاس عليه، ولا نظير يستدل به عليه ونسأل الله لنا ولكم السلامة والتوفيق والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم (1) .#
عقيدة أهل السنة
__________
(1) "المجموعة العلمية السعودية من درر علماء السلف الصالح" حققها وراجع أصولها الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله تعالى ص(46-48).(1/222)
من نظم أبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني البغدادي المولود في شوال سنة (432) والمتوفى في جمادى الآخرة (510).
انظر ترجمته في (المنتظم) لأبي الفرج بن الجوزي (9: 190) وفي مختصر طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (409) والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (1/ 143).
قال الإمام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي في كتابه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) (9: 190) "أنشدنا محمد بن ناصر الحافظ قال: أنشدنا أبو الخطاب محفوظ بن أحمد لنفسه:
دع عنك تذكار الخليط المنجد ... والشوق نحو الآنسات الخرد
والنوح في أطلال سعدى إنما ... تذكار سعدى شغل من لم يسعد
واسمع مقالي إن أردت تخلصا ... يوم الحساب وخذ بهديي تهتد
واقصد فإني قد قفيت موفقا ... نهج ابن حنبل الإمام الأوحد
خير البرية بعد صحب محمد ... والتابعين إمام كل موحد
ذي العلم والرأي الأصيل ومن حوى ... شرفا علا فوق السها والفرقد
واعلم بأني قد نظمت مسائلا ... لم آل فيها النصح غير مقلد
وأجبت عن تسآل كل مهذب ... ذي صولة عند الجدال مسود
هجر الرقاد وبات ساهر ليله ... ذي همة لا يستلذ بمرقد
قوم طعامهم دراسة علمهم ... يتسابقون إلى العلا والسؤدد
قالوا بم عرف المكلف ربه ... فأجبت بالنظر الصحيح المرشد
قالوا فهل رب الخلائق واحد ... قلت الكمال لربنا المتفرد
قالوا فهل لله عندك مشبه ... قلت المشبه في الجحيم الموصد
قالوا فهل تصف الإله أبن لنا ... قلت الصفات لذي الجلال السرمدي
قالوا فهل تلك الصفات قديمة ... كالذات قلت كذاك لم تتجدد#
قالوا فأنت تراه جسما مثلنا ... قلت المجسم عندنا كالملحد
قالوا فهل هو في الأماكن كلها ... فأجبت بل في العلو مذهب أحمد
قالوا فتزعم أن على العرش استوى ... قلت الصواب كذاك أخبر سيدي
قالوا فما معنى استواه أبن لنا ... فأجبتهم هذا سؤال المعتدي
قالوا النزول، فقلت ناقله لنا ... قوم تمسكهم بشرع محمد
قالوا: فكيف نزوله فأجبتهم ... لم ينقل التكييف لي في مسند
قالوا فينظر بالعيون أبن لنا ... فأجبت رؤيته لمن هو مهتدي(1/223)
قالوا فهل لله علم قلت ما ... من عالم إلا بعلم معلمي
قالوا فيوصف أنه متكلم ... قلت السكوت نقيصة المتوحد
قالوا فما القرآن قلت كلامه ... لا ريب فيه عند كل موحد
قالوا الذي نتلوه قلت كلامه ... لا ريب فيه عند كل مسدد
قالوا فأفعال العباد فقلت ما ... من خالق غير الإله الأمجد
قالوا فهل فعل القبيح مراده ... قلت الإرادة كلها للسيد
لو لم يرده لكان ذاك نقيصة ... سبحانه عن أن يعجزه الردى
قالوا فما الإيمان قلت مجاوبا ... عمل وتصديق بغير تبلد
قالوا فمن بعد النبي خليفة ... قلت الموحد قبل كل موحد
حاميه في يوم العريش (1) ومن له ... في الغار يسعد يا له من مسعد
خير الصحابة والقرابة كلهم ... ذاك المؤيد قبل كل مؤيد
قالوا فمن صديق أحمد قلت من ... تصديقه بين الورى لم يجحد
قالوا فمن تالي أبي بكر الرضا ... قلت الإمارة في الإمام الأزهد
فاروق أحمد والمهذب بعده ... نصر الشريعة باللسان وباليد
قالوا فثالثهم فقلت مسارعا ... من بايع المختار عنه باليد
صهر النبي على ابنتيه ومن حوى ... فضلين فضل تلاوة وتهجد#
أعني ابن عفان الشهيد ومن دُعِيَ ... في الناس ذو النورين صهر محمد
قالوا فرابعهم. فقلت مبادرًا ... من حاز دونهم أخوة أحمد
زوج البتول وخير من وطئ الحصى ... بعد الثلاثة والكريم المحتد
أعني أبا الحسن الإمام ومن له ... بين الأنام فضائل لم تجحد
فعليهم وعلى الصحابة كلهم ... صلوات ربهم تروح وتغتدي
قالوا أبان الكلوذاني الهدى ... قلت الذي فوق السماء مؤيدي#
من عقائد أهل السنة والجماعة
بسم الله الرحمن الرحيم
عقيدة الإمام ابن أبي داود المتوفى سنة (310) هـ
قال الإمام أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث رحمه الله تعالى:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح
ودن بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح
وقل غير مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الاتقياء وأفصحوا
__________
(1) أي يوم بدر، وقد أقام الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - عريشًا لازمه فيه صديقه وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.(1/224)
ولا تك في القرآن بالوقف قائلا ... كما قال أتباع لجهم وصححوا
ولا تقل القرآن خلق قرانه ... فإن كلام الله باللفظ يوضح
وقل يتجلى الله للخلق جهرة ... كما البدر لا يخفى وربك أوضح
وليس بمولود وليس بوالد ... وليس له شبه تعالى المسبح
وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداق ما قلنا حديث مصرح
رواه جرير عن مقال محمد ... فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح
وقد ينكر الجهمي أيضا يمينه ... وكلتا يديه بالفواضل تنفح#
وقل ينزل الجبار في كل ليلة ... بلا كيف ؟ جل الواحد الممتدح
إلى طبق الدنيا يمن بفضله ... فتفرج أبواب السماء وتفتح
يقول: ألا مستغفر يلق غافرًا ... ومستمنح خيرًا ورزقا فيمنح
روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا
وقل إن خير الناس بعد محمد ... وزيراه قدما ثم عثمان الأرجح
ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير للخير يمنح
وإنهم للرهط لا شك فيهم ... على نجب الفردوس في الخلد تسرح
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة ... وعامر فهر والزبير الممدح
وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولا تك طعانا تعيب وتجرح
فقد نطق الوحي المبين بفضلهم ... وفي الفتح آي للصحابة تمدح
وبالقدر المقدور أيقن فإنه ... دعامة عقد الدين و الدين أفيح
ولا تنكرن جهرًا نكيرًا ومنكرًا ... ولا الحوض والميزان إنك تنصح (1) #
وقل يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجسادًا من الفحم تطرح
على النهر في الفردوس تحيا بمائه ... كحب حميل السيل إذا جاء يطفح
وإن رسول الله للخلق شافع ... وإن عذاب القبر بالحق واضح
ولا تكفرن أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفح
ولا تعتقد رأي الخوارج إنه ... مقال لمن يهواه يردى ويفضح (2)
ولا تك مرجيا لعوبا بدينه ... ألا إنما المرجي بالدين يمزح (3)
__________
(1) منكر ونكير فاتنا القبر ثبتنا الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
(2) رأي الخوارج أنهم يكفرون المسلم بفعل المعاصي.
(3) المرجئة يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.(1/225)
وقل إنما الإيمان قول ونية ... وفعل على قول النبي مصرح
وينقص طورًا بالمعاصي وتارة ... بطاعته ينمي وفي الوزن يرجح
ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح
ولا تك من قوم تلهوا بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح
إذا اعتقدت الدهر يا صاح هذه ... فأنت على خير تبيت وتصبح
تمت#
من عقيدة السلف
بسم الله الرحمن الرحيم
نقر بأن الله فوق عباده ... على عرشه لكنما الكيف نجهل
وكل مكان فهو فيه بعلمه ... شهيد على كل الورى ليس يغفل
سميع بصير قادر متكلم ... عليم مريد آخر هو أول
وأن كتاب الله من كلماته ... ومن وصفه الأعلى حكيم منزل
وأن علينا حافظين ملائكا ... كراما بسكان البسيطة وكلوا
فيحصون أقوال ابن آدم كلها ... وأفعاله طرا فلا شيء يهمل
ولا شيء غير الله يبقى وكل من ... سواه له حوض المنية منهل
وأن سؤال الفاتنين محقق ... لكل صريع في الثرى حين يجعل
يقولان ماذا كنت تعبد ما الذي ... تدين ومن هذا الذي هو مرسل
فيا رب ثبتنا على الحق واهدنا ... إليه وأنطقنا به حين نسأل
وأن عذاب القبر حق وروح من ... مات في نعيم أو عذاب يعجل
وأن معاد الروح والجسم واقع ... فينهض من قد مات حيا يهرول
وصيح بكل العالمين فاحضروا ... وقيل قفوهم للسؤال ليسألوا
فذاك يوم لا تحد كروبه ... بوصف فإن الأمر أدهى وأهول
يحاسب فيه العبد عن كل سعيه ... وكل يُجْزَي بالذي كان يعمل
به يسألون الناس ماذا عبدتم ... وماذا أجبتم من دعا وهو مرسل
إذا كنت قد أيقنت بالموت والفنا ... وبالبعث عما بعده كيف تغفل
أيصلح إهمال المعاد لمنصف ... وينسى مقام الحشر من كان يعقل
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... أبن لي أبن يوم الجزاء كيف تفعل
أترضى بأن تأتي القيامة مفلسا ... على ظهرك الأوزار في الحشر تحمل
أعوذ بك اللهم من سوء صنعنا ... ومن أن تكن نعماك عنا تحول
وأزكى صلاة والسلام على الذي ... به تم عقد الأنبياء وكملوا
مختصره من ديوان ابن مشرف ومن منظومة الأسماء الحسنى للشيخ حسين بن علي بن حسين بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى.#(1/226)
عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى نظمًا في اعتقاد الأئمة الأربعة وهو اعتقاده مجيبًا من سأله عن ذلك (قال قدس الله روحه):
يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي ... رزق الهدى من للهداية يسأل
اسمع كلام محقق في قوله ... لا ينثني عنه ولا يتبدل
حب الصحابة كلهم لي مذهب ... ومودة القربى بها أتوسل
ولكلهم قدر وفضل ساطع ... لكنما الصديق منهم أفضل
وأقول في القرآن ما جاءت به ... آياته فهو الحكيم المنزل
وجميع آيات الصفات أمرها ... حقا كما نقل الطراز الأول
وأرد عهدتها إلى نقالها ... وأصونها عن كل ما يتخيل
قبح لمن نبذ القرآن وراءه ... وإذا استدل يقول قال الأخطل (1)
والمؤمنون يرون حقا ربهم ... وإلى السماء بغير كيف ينزل
وأقر بالميزان والحوض الذي ... أرجو بأني منه ريا أنهل
وكذا الصراط يمد فوق جهنم ... فموحد ناج وآخر مهمل
والنار يصلاها الشقي بحكمة ... وكذا التقي إلى الجنان سيدخل
ولكل حي عاقل في قبره ... عمل يقارنه هناك ويسأل
هذا اعتقاد الشافعي ومالك ... وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل
فإن اتبعت سبيلهم فموفق ... وإن ابتدعت فما عليك معول
وقال رحمه الله تعالى:
أنا الفقير إلى رب السموات ... أنا المسكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن جاءنا من عنده يأتي#
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ... ولا عن النفس في دفع المضرات
وليس لي دونه مولى يدبرني ... ولا شفيع إلى رب البريات
إلا بإذن من الرحمن خالقنا ... إلى شفيع كما قد جاء بآيات
وليست أملك شيئًا دونه أبدا ... ولا شريكا أنا في بعض ذرات
ولا ظهير له مما يعاونه ... كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذات دائم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذات
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبد له آت
__________
(1) الأخطل: شاعر نصراني قال:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
استدل به من قال: إن القرآن حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.(1/227)
فمن بغى مطلبًا من دون خالقه ... فهو الظلوم الجهول المشرك العات
والحمد لله ملأ الكون أجمعه ... ما كان فيه وما من بعده ياش#
الأدب مع الله عز وجل (1)
1- المسلم ينظر إلى ما لله تعالى عليه من منن لا تحصى، ونعم لا تعد اكتنفته من ساعة علوقه نطفة في رحم أمه، وتسايره إلى أن يلقى ربه عز وجل فيشكر الله تعالى عليها بلسانه بحمده والثناء عليه بما هو أهله، وبجوارحه بتسخيرها في طاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله سبحانه وتعالى؛ إذ ليس من الأدب في شيء كفران النعم، وجحود فضل المنعم، والتنكر له ولإحسانه وإنعامه، والله سبحانه يقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53]، ويقول سبحانه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18][إبراهيم: 34] ويقول جل جلاله {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
2- وينظر المسلم إلى علمه تعالى به واطلاعه على جميع أحواله فيمتلئ قلبه منه مهابة ونفسه له وقارًا وتعظيمًا، فيخجل من معصيته، ويستحي من مخالفته، والخروج عن طاعته، فيكون هذا أدبًا منه مع الله تعالى؛ إذ ليس من الأدب في شيء أن يجاهر العبد سيده بالمعاصي، أو يقابله بالقبائح والرذائل وهو يشهده وينظر إليه قال تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13، 14] وقال: {وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19] وقال: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61].
3- وينظر المسلم إليه تعالى وقد قدر عليه، وأخذ بناصيته، وأنه لا مفر له ولا#
__________
(1) "منهاج المسلم" لأبي بكر الجزائري (83-85).(1/228)
مهرب، ولا منجا، ولا ملجأ منه إلا إليه، فيفر إليه تعالى ويطرح بين يديه، ويفوض أمره إليه، ويتوكل عليه، فيكون هذا أدبًا منه مع ربه وخالقه.
إذ ليس من الأدب في شيء الفرار ممن لا مفر منه، ولا الاعتماد على من لا قدرة له، ولا الاتكال على من لا حول ولا قوة له، قال تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] وقال عز وجل {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50] وقال: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
4- وينظر المسلم إلى ألطاف الله تعالى به في جميع أموره، وإلى رحمته له ولسائر خلقه فيطمع في المزيد من ذلك، فيتضرع إليه بخالص الضراعة والدعاء، ويتوسل إليه بطيب القول، وصالح العمل فيكون هذا أدبًا منه مع الله مولاه إذ ليس من الأدب في شيء اليأس من المزيد من رحمة وسعت كل شيء، ولا القنوط من إحسان قد عم البرايا، وألطاف قد انتظمت الوجود، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] وقال: {اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] وقال: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ} [يوسف: 87] وقال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} [الزمر: 53].
5- وينظر المسلم إلى شدة بطش ربه، وإلى قوة انتقامه، وإلى سرعة حسابه فيتقيه بطاعته، ويتوقاه بعدم معصيته فيكون هذا أدبًا منه مع الله؛ إذ ليس من الأدب عند ذوي الألباب أن يتعرض بالمعصية والظلم العبد الضعيف العاجز للرب العزيز القادر، والقوي القاهر وهو يقول: {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] ويقول: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] ويقول:#
{وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4].(1/229)
6- وينظر المسلم إلى الله عز وجل عند معصيته والخروج عن طاعته، وكأن وعيده قد تناوله، وعذابه قد نزل به، وعقابه قد حل بساحته، كما ينظر إليه تعالى عند طاعته، واتباع شريعته وكأن وعده قد صدقه له، وكأن حلة رضاه قد خلعها عليه فيكون هذا من المسلم حسن ظن بالله، ومن الأدب حسن الظن بالله إذ ليس من الأدب أن يسيء المرء ظنه بالله فيعصيه ويخرج عن طاعته، ويظن أنه غير مطلع عليه، ولا مؤاخذ له على ذنبه وهو يقول: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 22، 23] كما أنه ليس من الأدب مع الله أن يتقيه المرء ويطيعه ويظن أنه غير مجازيه بحسن عمله، ولا هو قابل منه طاعته وعبادته، وهو عز وجل يقول: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، ويقول سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، ويقول سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].
وخلاصة القول: أن شكر المسلم ربه على نعمه، وحياءه منه تعالى عند الميل إلى معصيته وصدق الإنابة إليه، والتوكل عليه ورجاء رحمته، والخوف من نقمته وحسن الظن به في إنجاز وعده، وإنفاذ وعيده فيمن شاء من عباده، هو أدبه مع الله وبقدر تمسكه به ومحافظته عليه تعلو درجته، ويرتفع مقامه وتسمو مكانته، وتعظم كرامته فيصبح من أهل ولاية الله ورعايته، ومحط رحمته ومنزل نعمته.
وهذا أقصى ما يطلبه المسلم ويتمناه طول الحياة.(1/230)
اللهم ارزقنا ولايتك، ولا تحرمنا رعايتك، واجعلنا لديك من المقربين، يا الله يا رب العالمين..#
الأمور التي يستمد منها الإيمان
وهذا الموضوع عظيم النفع والحاجة بل الضرورة ماسة إلى معرفته والعناية به علمًا وعملاً.
والأمور التي يستمد منها الإيمان نوعان مجمل ومفصل:
أما المجمل فهو التفكر والتدبر لآيات الله ومخلوقاته الآيات المتلوة والآيات الكونية والحرص على معرفة الحق والعمل به، وأما التفصيل فالإيمان يحصل ويقوى بأمور كثيرة.
1- منها: بل أعظمها معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى الواردة في الكتاب، والسنة و الحرص على فهم معانيها والتعبد لله بها ودعاؤه بها.
2- تدبر القرآن وتفهمه ومعرفة معانيه وأوامره ونواهيه ثم العمل به ليكون حجة لقارئه وشفيعا له يوم القيامة.
3- معرفة أحاديث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وما تدعو إليه من علوم الإيمان وأعماله كلها من محصلات الإيمان ومقوياته فكلما ازداد العبد معرفة بكتاب الله وسنة رسوله ازداد إيمانه ويقينه وعلت درجته.
4- معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية والأوصاف الكاملة ومعرفة سيرته العطرة فإنها تزيد الإيمان وتقويه.
5- من أسباب الإيمان ودواعيه التفكر في الكون في خلق السموات والأرض وما فيهن وما بينهن من المخلوقات المتنوعة والنظر في خلق الإنسان وما هو عليه من الصفات قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] والنظر إلى فقر المخلوقات إلى الله وغناه عنها والتفكر في نعم الله الظاهرة والباطنة وشكره عليها والشكر مقرون بالمزيد.
6- من أسباب الإيمان ودواعيه الإكثار من ذكر الله ودعائه واستغفاره كل وقت وحين فإن الله يذكر من ذكره ويجيب من دعاه ويغفر لمن استغفره وكل ذلك من دواعي الإيمان ومقوياته فإن الذكر يغرس شجرة الإيمان في القلب ويغذيها وينميها.(1/231)
7- من الأسباب الجالبة للإيمان معرفة محاسن الدين الإسلامي فعقائده أصح العقائد#
وأصدقها وأنفعها وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها.
8- ومن أعظم مقويات الإيمان الاجتهاد في التحقق في مقام الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى خلقه بالقول والفعل والمال والجاه وأنواع المنافع والنصح لله ولعباده فإن الدين النصيحة والجزاء من جنس العمل.
9- الإتصاف بصفات المؤمنين المذكورة في القرآن كما في أول المؤمنين وآخر الفرقان والمحافظة على أعمال اليوم والليلة من العبادات والطاعات والابتعاد عما يبطلها من المعاصي والمخالفات والمحرمات أو ينقصها من ذلك.
10- ومن دواعي الإيمان وأسبابه الدعوة إلى الله وإلى دينه والتواصي بالحق والتواصي بالصبر والتعاون على البر والتقوى وبذلك يكمل العبد نفسه ويكمل غيره.
11- ومن ذلك توطين النفس على مقاومة ما ينافي الإيمان من شعب الكفر والنفاق والفسوق والعصيان التي تمنع الإيمان أو تنقصه بالتوبة منها والبعد عنها وحفظ الجوارح عن المحرمات ومقاومة فتن الشهوات فالإنسان الموفق لا يزال يسعى في أمرين أحدهما تحقيق أصول الإيمان وفروعه علماً وعملا والثاني السعي في دفع ما ينافيها وينقضها أو ينقصها من الفتن الظاهرة و الباطنة ويداوي ما قصر فيه بالدعاء والتوبة إلى الله فهو الذي يجيب من دعاه ويتوب على من تاب وهو التواب الرحيم (1) .#
فوائد الإيمان وثمراته
كم في الإيمان الصحيح من الفوائد والثمرات العاجلة والآجلة في القلب والبدن والراحة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة فخيرات الدنيا والآخرة ودفع الشرور كلها من ثمرات الإيمان.
__________
(1) انظر رسالة "التوضيح والبيان لشجرة الإيمان" لابن سعدي.(1/232)
1- فمن أعظم فوائد الإيمان وثمراته الاغتباط بولاية الله تعالى الخاصة التي هي أعظم ما تنافس في المتنافسون وأجل ما حصله الموفقون قال تعالى: {* أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62-64] فكل مؤمن تقي فهو لله ولي ولاية خاصة من ثمراتها ما قاله الله عنهم {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] أي من ظلمات الكفر والجهل والغفلة إلى نور الإيمان والعلم والطاعة والانقياد والتذكر.
2- ومن ثمرات الإيمان الفوز برضى الله تعالى ودار كرامته قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].
3- ومنها أن الإيمان الكامل يمنع من دخول النار والإيمان الضعيف القليل يمنع من الخلود فيها فمن آمن إيمانا أدى به الواجبات وترك المحرمات لا يدخل النار ولا يخلد فيها من في قلبه شيء من الإيمان كما تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
4- أن الله يدفع عن المؤمنين جميع المكاره وينجيهم من الشدائد كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].
5- أن الإيمان والعمل الصالح يثمر الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة التي هي راحة#(1/233)
القلب وطمأنينة النفس والقناعة برزق الله وإدراك لذة العبادة قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
6- أن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما قام بقلب صاحبها من الإيمان والإخلاص والمحبة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
7- أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى صراطه المستقيم يهديه إلى علم الحق والعمل به وإلى تلقي المحاب والمسار بالشكر وتلقي المكاره والمصائب بالصبر والرضا كما قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} قال بعض السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
8- ومن ثمرات الإيمان ولوازمه من الأعمال الصالحة محبة الله للمؤمن ومحبة المؤمنين له كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] أي محبة في قلوب الخلق ومن أحبه الله وأحبه المؤمنون حصلت له السعادة والفلاح والفوائد الكثيرة من محبة المؤمنين من الثناء والدعاء له حيًا وميتًا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
9- أن الله يرفع درجات المؤمنين في الدنيا والآخرة بإيمانهم الصحيح وعلمهم النافع وعملهم الصالح {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
10- حصول البشارة بكرامة الله والأمن التام من جميع الوجوه في الدنيا والآخرة أمن من سخط الله وعقابه وأمن من جميع المكاره والشرور والبشارة الكاملة بكل خير {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] وذلك هو الفوز العظيم، اللهم اجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(1/234)
11- حصول الفلاح الذي هو إدراك المطلوب والنجاة من كل مرهوب كما قال تعالى
بعد أن ذكر أوصاف المؤمنين {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[البقرة: 5].
12- من فوائد الإيمان الانتفاع بالمواعظ والتذكير والآيات كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55].
13- أن الإيمان يحمل صاحبه على الشكر في حالة السراء والصبر في حالة الضراء وكسب الخير في كل أوقاته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» رواه مسلم. فيجتمع للمؤمن عند السراء والنعم نعمتان نعمة حصول المحبوب ونعمة التوفيق للشكر وبذلك تتم عليه النعمة وتحصل له الزيادة، ويجتمع له عند الضراء ثلاث نعم نعمة تكفير السيئات ونعمة حصول مرتبة الصبر ونعمة سهولة الضراء عليه كما تحصل له الرحمة من ربه والهداية: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 107].
14- أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضر بدينهم وذلك لأن الباطل يتضح بطلانه بأمور كثيرة أعظمها العلم أنه مناف للحق وكل ما ناقض الحق فهو باطل {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32].
15- أن الإيمان ملجأ المؤمنين في كل ما يلم بهم من سرور وحزن وخوف وأمن وطاعة ومعصية وغير ذلك من الأمور التي لا بد لكل واحد منها وذلك من فضل الله عليهم.(1/235)
16- أن الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في الموبقات المهلكة حياء من الله وإيمانًا باطلاعه عليه وخوفًا من عقابه ورجاء لثوابه فنسأل الله تعالى أن يمن علينا بالإيمان الصادق اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين آمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (1) .#
شعب الإيمان
وهو قول واعتقاد وعمل وحب وبغض وفعل وترك وأخلاق وآداب وحسن معاملة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» (متفق عليه) وقد ذكر هذه الشعب الإمام البيهقي وأوصلها إلى سبع وسبعين شعبة وشرحها في ست مجلدات ثم اختصرها الشيخ الإمام أبو جعفر عمر القزويني وذكر أدلتها في مختصر لطيف مطبوع سماه "مختصر شعب الإيمان" ونحن نذكر هذه الشعب باختصار ليتذكرها المؤمن ويعمل بها ونحيل القارئ بأدلتها وشرحها إلى ذلك المختصر قال رحمه الله تعالى:
1- الشعبة الأولى الإيمان بالله عز وجل 2- الإيمان برسل الله عليهم السلام. 3- الإيمان بالملائكة الكرام 4- الإيمان بالقرآن وجميع الكتب المنزلة من الله 5- الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى. 6- الإيمان باليوم الآخر 7- الإيمان بالبعث بعد الموت والجزاء. 8- الإيمان بحشر الناس بعد ما يبعثون من قبورهم 9- الإيمان بأن دار المؤمنين الجنة وأن دار الكافرين النار نعوذ بوجه الله منها 10- الإيمان بوجوب محبة الله عز وجل 11- الإيمان بوجوب الخوف من الله عز وجل 12- الإيمان بوجوب الرجاء من الله.
13- الإيمان بوجوب التوكل على الله عز وجل ووجوب تفويض الأمر إليه.
14- الإيمان بوجوب محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وطاعته واتباعه.
__________
(1) انظر المصدر السابق.(1/236)
15- الإيمان بوجوب تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبجيله وتوقيره.
16- شح المر بدينه حتى يكون القذف في النار أحب إليه من الكفر.
17- طلب العلم الصحيح وهو معرفة البارئ عز وجل ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. 18- نشر العلم النافع وهو علم الكتاب والسنة.
19- تعظيم القرآن الكريم بتعلمه وتعليمه وحفظ حدوده وأحكامه وعلم حلاله وحرامه وتبجيل أهله وحفاظه.
20- الطهارات من الأحداث والنجاسات؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : «الطهور شطر الإيمان» (1) .
21- أداء الصلوات الخمس في وقتها مع الجماعة في حق الرجال قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ} [التوبة: 18] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان» (2) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن.(1/237)
22- إخراج زكاة الأموال إلى مستحقيها. 23- الصيام. 24- الحج. 25- الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس. 26- الاعتكاف وهو لزوم المسجد لطاعة الله. 27- المرابطة في سبيل الله وهو لزوم حدود البلاد الإسلامية لإخافة العدو. 28- الثبات للعدو وقت القتال وعدم الفرار. 29- أداء الخمس من الغنائم إلى الإمام أو عامله. 30- العتق بوجه التقرب إلى الله. 31- الكفارات الواجبة وهي أربع: كفارة اليمين وكفارة الظهار وكفارة القتل وكفارة الجماع في نهار رمضان. 32- الإيفاء بالعقود وهي ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن. 33- شكر نعم الله سبحانه وتعالى باستعمالها في طاعته والثناء عليه بها. 34- حفظ اللسان عما لا يحتاج إليه. 35- حفظ الأمانات وأداؤها إلى أصحابها. 36- تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والجنايات عليها. 37- تحريم الفروج وحفظها وغض الأبصار. 38- قبض اليد عن الأموال المحرمة ويدخل فيها السرقة والربا والغش والرشاء وما لا يستحقه شرعا. 39- وجوب التورع في المطاعم والمشارب والاجتناب عما لا يحل منها. 40- تحريم الملابس والزي المخالف لزي المسلمين. 41- تحريم الملاهي والملاعب المخالفة للشريعة الإسلامية. 42- الاقتصاد في النفقة وتحريم أكل المال بالباطل. 43- ترك الغل والحقد والحسد ونحوها. 44- تحريم الوقوع في أعراض الناس بالغيبة والنميمة ونحوها. 45- إخلاص النية والعمل لله عز وجل وترك الرياء. 46- السرور بالحسنة والاغتمام بالسيئة. 47- معالجة كل ذنب بالتوبة. 48- الذبح لله كالهدي والأضحية والعقيقة.49- طاعة أولي الأمر وهم الأمراء والعلماء بالمعروف. 50- التمسك بما عليه أهل السنة والجماعة من عقائد وأعمال وأخلاق. 51- الحكم بين الناس بالعدل. 52- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 53- التعاون على البر والتقوى. 54- الحياء وحقيقته فعل ما يجمل ويزين وترك ما يدنس ويشين. 55- بر الوالدين والإحسان إليهما.(1/238)
56- صلة الأرحام والأقارب. 57- حسن الخلق ولين الجانب والتواضع.#
58- الإحسان إلى المماليك. 59- حق السادة على المماليك وهو لزوم العبد سيده وطاعته. 60- حقوق الأولاد والأهل وهو قيام الرجل على أهله وولده وتعليمه إياهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم وتحذيرهم مما يضرهم. 61- مقاربة أهل الدين وموادتهم وإفشاء السلام بينهم. 62- رد السلام. 63- عيادة المريض. 64- الصلاة على من مات من أهل القبلة. 65- تشميت العاطس. 66- مباعدة الكفار والمفسدين والغلظة عليهم. 67- إكرام الجار. 68- إكرام الضيف. 69- الستر على أصحاب الذنوب إذا تابوا منها. 70- الصبر على المصائب وعما تنزع النفس إليه من لذة وشهوة محرمة. 71- الزهد وهو تارك ما لا ينفع في الآخرة وقصر الأمل. 72- الغيرة وترك المذاء وهو اختلاط الرجال والنساء. 73- الإعراض عن اللغو وهو الباطل الذي لا يعنيه ولا يتصل بقصد صحيح ولا يكون لقائله فائدة. 74- الجود والسخاء والكرم. 75- رحمة الصغير وتوقير الكبير. 76- الإصلاح بين الناس. 77- أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه ويعامله بما يجب أن يعامله به ويدخل فيه إماطة الأذى عن الطريق المشار إليه في الحديث. 78- قلت من شعب الإيمان: ذكر الله كثيرًا بلسانك وقلبك قائمًا وقاعدًا وعلى جنبك.
اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين آمين يا رب العالمين يا حي يا قيوم يا ذ الجلال والإكرام، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وقال الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني في (مدح باري البرية جل جلاله) (1) .
القلب اعمل يا عذول بدائه ... ما غير داء الذنب من أدوائه
والذنب أولى ما بكاه أخو التقى ... وأحق منك بجفنه وبمائه
فو من أحب لأعصين عواذلي ... قسما به في أرضه وسمائه
__________
(1) "ديوان الصنعاني" (5).(1/239)
من ذا يلوم أخا الذنوب إذا بكى ... إن الملامة فيه من أعدائه
فو حق من خاف الفؤاد وعيده ... ورجا مثوبته وحسن جزائه
ما كنت ممن يرتضى حسن الثنا ... ببديع نظمي في مديح سوائه#
من ذا الذي بسط البسيطة للورى ... فرشًا وتوجها بسقف سمائه
من ذا الذي جعل النجوم ثواقبًا ... يهدي بها السارين في ظلمائه
من ذا أتى بالشمس في أفق السما ... تجري بتقدير على أرجائه
أسواه سواها ضياءًا نافعًا ... لا والذي رفع السما ببنائه
من اطلع القمر المنير إذا دجى ... ليل فشابه صبحه بضيائه
من طول الأيام عند مصيفها ... وأتت قصارًا عند فصل شتائه
من ذا الذي خلق الخلائق كلها ... وكفى الجميع ببره وعطائه
وأدر للطفل الرضيع معاشه ... من أمه يمتص طيب غذائه
يا ويح من يعصي الإله وقد رأى ... إحسانه بنواله وندائه
ورأى مساكن من عصى ممن خلا ... خلوًا تصيح البوم في أرجائه
ودع الجبابرة الأكاسرة الألى ... وانظر لمن شاهدت في علوائه
كم شاهدت عيناك من ملك غدا ... يختال بين جيوشه ولوائه
ملأت له الدنيا كؤوسا حلوة ... وسقته مر السم في حلوائه
ما طلق الدنيا اختيارًا إنما ... هي طلقته ومتعته بدائه
جعلت له الأكفان كسوة عدة ... واللحد سكناه وبيت بلائه
ويضمه لا مشفقا في ضمه ... حتى تكون حشاه في أحشائه
وهناك يغلق لحده عن أهله ... بحجارة وبطينه وبمائه
ويزوره الملكان قصد سؤاله ... عن دينه لا عن سؤال سوائه
فإذا أجاب بما يطيب فحبذا ... ما بعده من روحه وجزائه
وإذا أجاب بـ "لست أدري" اقبلا ... ضربا له في وجهه وقفائه
ويرى منازله بقعر جهنم ... ويقيم في ضيق لطول عنائه
يا رب ثبتنا بقول ثابت ... عند امتحان العبد تحت ثرائه
أنا مؤمن بالله ثم برسله ... وبكتبه وببعثه ولقائه
ثم الصلاة على الرسول محمد ... والآل أهل البيت أهل كسائه#
الإله الحق
تعقيب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:(1/240)
فقد نشرت جريدة الشرق الأوسط في العدد (3763) يوم السبت الموافق (11/ 8/ 1409) هـ نشرت قصيدة بعنوان "وتعلمت من سير الحياة" تجرأ فيها الكاتب هداه الله وأخذ بناصيته إلى الحق تجرأ فيها على الله عز وجل فوصفه بأنه إله (ظني) وأن الكون هو الذي يعيش إلى الأبد فقال:
وأشهد أن الإله إله ظني ... والكون هو الذي يعيش إلى الأبد
ووصف الكون بصفات الإله فقال: "لا إله إلا هو معز مذل واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد".
ولا شك أن هذه شهادة زور من أكذب الكذب وأبطل الباطل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى يوجب الله له النار» رواه ابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» رواه البخاري ومسلم.
وهذه هي عقيدة الدهرية الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]. وكان مشركو العرب مقرون بتوحيد الربوبية ومقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [العنكبوت: 61].
وسار على هذه العقيدة الباطلة الشيوعية الملحدة التي لا تؤمن بالله، وكيف يوصف رب العالمين الخالق الرازق الإله الحق المدبر المحي المميت المعز المذل بأنه (ظني) سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. فمن الذي خلقنا ورزقنا وأحيانا وعافانا وعلمنا ما لم نكن نعلم؟ ومن الذي متعنا بالأسماع والأبصار والعقول؟ ومن الذي خلق#(1/241)
السموات والأرض وما فيهن وما بينهن؟ هل هذه المخلوقات أوجدت نفسها؟ وهل وجدت بدون موجد؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُون} [الطور: 35، 36].
فيا عجب كيف يعصي الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة وتسكينة ... أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
سئل بعض العرب ما الدليل على وجود الله فقال: يا سبحان الله، إن البعرة تدل على البعير وإن الأثر يدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحر ذات أمواج ألا يدل ذلك على الخبير البصير؟ لا إله غيره ولا رب سواه، وكيف يوصف الكون المخلوق بأنه يعيش إلى الأبد والله تعالى يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27].
وقد سمى الكاتب (الكون) ووصفه بصفات الله وزعم أنه لا إله إلا هو وهذه ألفاظ شركية وكفرية وإلحادية تجب التوبة منها، وقد توعد الله من ألحد في أسمائه بالوعيد الشديد فقال تعالى: {وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] ويدخل في الإلحاد فيها تسمية المخلوقات بها وتسميته تعالى بما لا يليق به ووصفه تعالى بالنقائص وتعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها وتشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول الظالمون والملحدون علوا كبيرا.(1/242)
وإنني باسم جميع المسلمين المؤمنين بالله الواحد القهار وأسمائه وصفاته أدعو الكاتب وأمثاله ممن تجرءوا على الله أو على كتابه أو على رسوله أو على دينه بالسب والتنقيص والإلحاد والسخرية والاستهزاء أو الشرك بأنواعه أدعوهم إلى التوبة الصادقة إلى الله تعالى قبل أن يموتوا فيلقون جزاءهم المعد لهم والله يتوب على من تاب وهو التواب الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.#
فصل
في الإشارة إلى البراهين العقلية الفطرية على ربوبية الله وإلهيته
اعلم أن هذه المسألة أعظم المسائل على الإطلاق وأكبرها وأفضلها وأوجبها وأنفعها وأوضحها، وعليها اتفقت جميع الكتب المنزلة وجميع الرسل، وهي أول وأهم ما دعت إليه الرسل أممهم وأول ما يدعون قومهم يقولون: {اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ويذكرون لهم من أسمائه وأوصافه ونعمه وآلائه وألطافه ما به يعرفون ربهم ويخضعون له ويعبدونه والقرآن العظيم من أوله إلى آخره يبين هذه المسألة، ويذكر لها البراهين المتنوعة، ويصرف لها الآيات، والسنة كذلك.
وليس القصد في هذا الفصل ذكر الأدلة النقلية عليها، فإنها واضحة جلية متقررة عند الخواص والعوام، وهي وحدها كافية وافية بالمقصود معرفة بالله جملة وتفصيلاً ولكن نريد أن نشير إشارة يسيرة إلى أدلتها وبراهينها والعقلية التي يخضع لها كل عاقل منصف، وينكرها كل مستكبر مكابر مباهت، وهذه المسألة أوضح وأظهر من أن يحتج لها وتذكر براهينها، ولكن كلما عرف المؤمن براهينها قويت في قلبه وازداد إيمانه ونمى إيقانه وحمد الله على هذه النعمة التي هي أعظم المنن وأجلها، ولهذا قالت الرسل عليهم السلام لأممهم {أَفِي اللهِ شَكٌّ} فاستفهموهم استفهام تقرير وأنه متقرر في قلوب جميع العقلاء، الاعتراف بالله وبربوبيته وتوحيده.(1/243)
اعلم رحمك الله أنك إذا نظرت إلى هذا العالم العلوي والسفلي وما أودع فيه من المخلوقات المتنوعة، والحوادث المتجددة، فتأمل تأملاً صحيحًا أن الأمور الممكن تقسيمها في العقل ثلاثة:
1- إما أن توجد هذه المخلوقات بنفسها من غير محدث ولا خالق فهذا محال ممتنع يجزم العقل ببطلانه ضرورة، ويعلم يقينًا أن من ظن ذلك فهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل، لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير موجد ولا محدث.#
2- وإما أن تكون هي المحدثة لنفسها الخالقة لها، فهذا أيضًا محال ممتنع بضرورة العقل، كل عاقل يجزم أن الشيء لا يحدث نفسه، وإذا بطل هذان القسمان عقلا وفطرة تعين القسم الثالث.
3- وهو أن هذه المخلوقات والحوادث لها خالق خلقها ومحدث أحدثها وهو الرب العظيم الخالق لكل شيء المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها، ولهذا نبه الله على هذا التقسيم العقلي الواضح لكل عاقل فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36] فالمخلوق لا بد له من خالق، والأثر لا بد له من مؤثر، والمحدث لا بد له من محدث، والموجد لا بد له من موجد، والمصنوع لا بد له من صانع، والمفعول لا بد له من فاعل.
هذه قضايا بديهية جلية يشترك في العلم بها جميع العقلاء، وهي أعظم القضايا العقلية، فمن ارتاب فيها أوشك في دلالتها فقد برهن على اختلال عقله وضلاله.(1/244)
تفكر في نفسك وانظر في مبدأ خلقك من نطفة إلى علقة إلى مضغة حتى صرت بشرًا كاملاً الأعضاء الظاهرة والباطنة، أما يضطرك هذا النظر إلى الاعتراف بالرب القادر على كل شيء، العليم الذي أحاط علمه بكل شيء، الحكيم في كل ما خلقه وصنعه، فلو اجتمع الخلق كلهم على النطفة التي جعلها الله مبدأ خلقك على أن ينقلوها في تلك الأطوار المتنوعة ويحفظوها في ذلك القرار المكين، ويجعلوا لها سمعًا وبصرًا وعقلاً وقوى باطنة وظاهرة، وينموها هذه التنمية العجيبة ويركبوها هذا التركيب المنظم، ويرتبوا الأعضاء هذا الترتيب المحكم، لو اجتمعوا على ذلك فهل في علومهم، وهل في اقتدارهم، وهل في استطاعتهم الوصول إلى ذلك؟ فهذا نظر يوصلك إلى الاعتراف بعظمة الله واقتداره والخضوع له والتصديق بكتبه ورسله.
وهو دليل وبرهان عقلي وفطري اضطرت فيه الفطر إلى معرفة ربها وعبوديته.
تأمل في حفظ الله للسموات والأرض وما فيهما من العوالم وفي إبقائها وإمدادها بكل ما تحتاج إليه في بقائها من الأسباب المتنوعة، أما يدلك ذلك على كمال الرب وكمال قيوميته وربوبيته؟ وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ#
بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].
تدبر يا أخي في هذا الفلك الدوار، وفي تعاقب الليل والنهار، وفي تصريف الأوقات بفصولها ومنافعها، وفي كمال انتظامها لمصالح الخلق التي لا يمكن إحصاؤها هل ذلك صدفة الطبيعة؟ وهل هذا حصل اتفاقًا؟ أم الذي خلق ذلك ودبره ذلك التدبير المتقن هو الذي أحسن كل شيء خلقه، وصنع الله الذي أتقن كل شيء.(1/245)
وانظر هداك الله إلى أنه أعطى كل شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كل مخلوق إلى مصالحه وحوائجه وضروراته، حتى البهائم العجم صغيرها وكبيرها قد ألهما وهداها لكل أمر فيه نفعها، ويسر لها أرزاقها وأقواتها فمن نظر في هدايته العامة، وبثه في كل مخلوق إلهامًا عجيبًا يهتدي به إلى منافعه وضروراته، علم بذلك عنايته العظيمة وعلم أنه الرب لكل مربوب الخالق لكل مخلوق، الذي علم المخلوقات وأعطاه من الأذهان ما يصلحها ويدفع عنها المضار، وذلك برهان عقلي عظيم على وحدانية الله وكماله، ولذلك لما أنكر فرعون رب العالمين وقال: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49، 50]. فاستدل عليه بهذا البرهان المشاهد لكل أحد؛ فهل في طبيعة الحيوانات كلها هذه الهداية إلى مصالحها التي لا تحصى أنواعها، وحنوها على أولادها، وقيامها بهم حتى يستقلوا بأنفسهم؟ وهل هذا الحنان والرحمة إلا من أكبر الأدلة على عظمته وسعة رحمته التي وسعت كل شيء؟
ثم انظر رحمك الله إلى سعة رحمة الله التي ملأت أقطار العالم، وشملت كل مخلوق في كل أحواله، برحمته أوجد المخلوقات، وبرحمته حفظها وأمدها بكل ما تحتاج إليه وأسبغ عليها النعم الظاهرة والباطنة التي لا يمكن لمخلوق أن يخلو منها طرفة عين وهي متنوعة عليه من كل وجه نعم العلم والتعليم لأمور الدين والدنيا، ونعم العافية للأبدان عمومًا وللأعضاء كلها على وجه الخصوص، ونعم الأرزاق ونعم الأولاد والأتباع ونعم الحروث والزروع والثمار، ونعم المواشي وأصناف الأمتعة، ونعم الدور والقصور، ونعم اللذات والحبور النعم التي فيها جلب المنافع كلها، والنعم التي فيها دفع المضار كلها، تدل أكبر دلالة على وحدانية مسديها والمنعم بها، وعلى وجوب شكره#
والإخلاص له {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} أفمن منه النعم كلها كمن هو فقير محتاج مضطر؟ والله أعلم.(1/246)
ثم انظر أحوال المضطرين الواقعين في المهالك والمشرفين على الأخطار والبائسين من فقرهم المفظع أو مرضهم الموجع، وكيف تضطرهم الضرورات وتلجئهم الحاجات إلى ربهم وإلههم داعين ومفتقرين، وسائلين له مستعطين فيجيب دعواته ويكشف كرباتهم، ويرفع ضروراتهم، أليس في هذا أكبر برهان على وحدانيته وسعة علمه وشمول رحمته وكمال عطفه، ودقيق لطفه {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
وهذا قد شاهده الخليقة ورأوا بأعينهم من الوقائع ما لا يعد ولا يحصى وهذا يضطرهم إلى الاعتراف بالله وبوحدانيته فانظر إلى حالة المضطرين إذا كربتهم الشدائد كيف تجد قلوبهم متعلقة بالله، وألسنتهم ملحة في سؤاله وأفئدتهم مستشرفة لنواله، لا تلتفت عن الله يمنة ولا يسرة لعلمها الضروري أنه كاشف الشدائد، جالب الخير والفوائد، لا ملجأ منه إلا إليه، ولا معول للخليقة في جميع أمورها إلا عليه، فهل هذه الأمور إلا لأن الخليقة مفطورة على الاعتراف بوحدانية ربها؟ وأنه النافع الضار، وأن ملكوت كل شيء بيديه؟ إلا من فسدت فطرته بالعقائد الفاسدة والإرادات السيئة.(1/247)
وانظر إلى فقر الخلائق كلهم إلى الله في كل شيء فقراء إليه في الخلق والإيجاد وفقراء إليه في البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع وفي دفع المضار، فهم يسألون الله بلسان المقال، ولسان الحال {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيعطيهم مطالبهم، ويسعفهم في كل مآربهم، إن رغبوا لم يرغبوا إلا إليه، وإن مستهم الضراء لم يلجأوا إلا إليه، فكم كشف الضر والكروب، وكم جبر الكسير ويسر المطلوب، وكم أغاث ملهوفًا، وكم أنقذ هالكًا، ففقرهم إليه في كل الأحوال ظاهر مشاهد، وغناه عنهم في جميع الأمور لا ينكره إلا مكابر جاحد.
ومن براهين وحدانية الباري وربوبيته إجابته للدعوات في جميع الأوقات، فلا يحصي#
الخلق ما يعطيه السائلين، وما يجيب به أدعية الداعين من بر وفاجر، ومسلم وكافر تحصل المطالب الكثيرة، ولا يعرفون لها شيئًا من الأسباب، سوى الدعاء والطمع في فضل الله، والرجاء لرحمته وهذا برهان مشاهد محسوس، لا ينكره إلا مباهت مكابر، يدعونه في مطالب دينهم فيجيبهم، وفي مطالب دنياهم فيجيبهم {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 200-202].(1/248)
ومن براهين وجود الله ووحدانيته وربويته ما يجريه الله على أيدي أنبيائه من خوارق الآيات والمعجزات والبراهين القاطعات، وما يكرمهم به في الدنيا وينصرهم ويجعل لهم العواقب الحميدة، ويخذل أعداءهم ويعذبهم بأصناف العذاب وهذا قد تواتر تواترًا لا يتواتر شيء مثله، وكل أحد يعرف ذلك، وآيات الأنبياء ومعجزاتهم وكرامات الله لهم نقلتها القرون والأجيال وصارت أعظم من برهان الشمس والقمر، وهي كلها براهين على ربوبيته من أرسلهم وعظمة سلطانه وكمال قدرته وسعة علمه وحكمته، وما ينكرها إلا كل متكبر جبار.
ومن أعظم براهين وحدانيته ما أنزله على أنبيائه عمومًا من الكتب والشرائع العظيمة التي فيها صلاح الخلق وبها استقام دينهم وصلحت دنياهم وخصوصًا هذا القرآن الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتمهم وإمامهم وفيه من البراهين والآيات ما لا يعبر عنه المعبرون، ولا يقدر أن يصفه الواصفون وآياته قائمة في جميع الأوقات متحدية للخلق كلهم على اختلاف أصنافهم وقد تبين عجزهم ووضح غيهم، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
فمن نظر إلى ما احتوى عليه القرآن من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة والشرائع المحكمة والصلاح العام وجلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضار والخير العظيم، اضطر إلى الاعتراف بأنه تنزيل من حكيم حميد ورب كريم.
وكذلك من نظر إلى ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشرع الكامل والدين القويم#
والصراط المستقيم في كل شئونه، اضطره بعض ذلك، فكيف بكله؟ إلى الاعتراف بوحدانية الله وأن الذي شرعه هو الرب العظيم الحكيم في شرعه ودينه، كما هو حكيم في خلقه وتقديره.(1/249)
ومن براهين وحدانية الله أن الفطر والعقول مضطرة إلى معرفتها بباريها والاعتراف بوحدانيته، فإن الخلق مفطورون على جلب المنافع ودفع المضار، ومن المعلوم لكل عاقل أن حاجة النفوس إلى خالقها وإلهها أعظم من جميع الحاجات، وضروراتها إليه تفوق كل الضرورات، فهي مضطرة إلى علمها بأنه خالقها وحده، مالكها وحده ومبقيها وحده، وممدها بمنافعها وحده {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] ولم يخرج عن هذه الفطرة إلا من اجتالتهم الشياطين وحولت فطرهم وغيرتها بالعقائد الفاسدة والخيالات الضالة والآراء الخبيثة والنظريات الخاطئة، فلو خلوا وفطرهم لم يميلوا لغير ربهم منيبين إليه في جلب المنافع ودفع المضار ومنيبين إليه في التأله والانكسار، قال - صلى الله عليه وسلم - : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها» (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
ومن براهين وحدانيته وكرمه ما هو مشهور في حوادث لا تعد ولا تحصى، من إكرام الله تعالى للواصلين لأرحامهم، وخلفه العاجل على المحسنين على المضطرين والمنفقين لأجله على المحتاجين، وتعويضه لهم وفتحه لهم أبوابًا وأسبابًا وطرقًا بسبب ذلك الإحسان الذي له الموقع الطيب، وقد علم الخلق أن ذلك سببه تلك الأعمال الصالحة والمقدمات الحسنة، ألا يدلك ذلك على أن الله قائم على كل نفس بما كسبت، وأن هذا جزاء معجل وثواب حاضر، نموذج لثواب الآخرة؟ وأفراد ذلك وأنواعه لا تدخل تحت الحصر، وهذا أمر لا يمتري فيه أحد قد رأى الناس من هذا عجائب.(1/250)
ونظير هذا البرهان العقوبات التي يعجلها الله للباغين والظالمين والمجرمين، بحسب جرائمهم عقوبات يشاهدها الناس رأي العين ويعلمون ويتيقنون أن ذلك جزاء الجرائم فمن تأمل وسمع الوقائع وأيام الله في الخلق وعلم ارتباطها بأسبابها الحسنة أو السيئة، علم بذلك وحدانية الله وربوبيته، وكمال عدله وسعة فضله، فضلا عن#
وجوده ووجوب وجوده، فإن كل ما دل على شيء من أوصافه أو أفعاله فإنه يتضمن إثبات ذاته ووجوب وجوده، وعلم استناد العوالم العلوية والسفلية إليه في إيجادها وإبقائها وحفظها وإمدادها وجميع أحوالها والله أعلم.
واعلم أن طرق معرفة الله واسعة جدًا بحسب حاجة الخلق وضرورتهم إليها، وكل يعبر عنها بعبارات إما كلية وإما جزئية بحسب الحال التي تحضره وبحسب الحال التي تحضره وبحسب الأمور التي تغلب عليه، وإلا فكل ما خطر في القلوب وشاهدته الأبصار، وأدركته المشاعر، وكل متحرك وساكن أدلة وبراهين على وحدانية الله.
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
ولكن الجزئيات تسبق إلى الأذهان وتفهمها القلوب ويحصل بها النفع العاجل لسهولتها وبساطتها وكونها تدرك بالبديهة، فلنذكر أمثلة وحكايات من هذا النوع للمتقدمين ولأهل هذا العصر.
سئل بعضهم بم عرفت ربك؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير وآثار السير تدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟(1/251)
واجتمع طائفة من الملاحدة ببعض أهل العلم أظنه أبا حنيفة فقالوا له: ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال لهم دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب قالوا له ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها فقالوا له أمجنون أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل. فقال لهم: فكيف صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري، وتحدث هذا الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام.
وقيل لبعضهم: بم عرفت ربك؟ فقال: هذه النطفة التي يلقيها الفحل برحم الأنثى فيطورها الله من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى آخر أطوارها فيكون بشرًا سويا كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة، له سمع يسمع به المسموعات، وبصر يبصر به، وعقل يهتدي به إلى مصالحه، ويدان يبطش بهما، ورجلان يمشي بهما، وله منافذ يدخل#
فيها ما يغذي البدن وينفعه، ومنافذ أخر يخرج منها ما يضره، وقد ركب هذا التركيب العجيب الذي لو اجتمعت الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم على إيجاد شخص واحد على هذا الوصف المحكم الغريب لعجزت معارفهم وقدرهم عن ذلك، أليس ذلك دليلا وبرهانا على وجود الخالق وعظمته وكبريائه قلت: وقد كرر الله هذه الآية في كتابه في أساليب متنوعة.
وقيل لبعضهم بم عرفت ربك؟ فقال: بنقض العزائم، ومعنى ذلك أن العبد يعزم عزمًا مصممًا على أمر من الأمور وليس عنده فيه أدنى تردد، ثم بعد ذلك تنتقض همته وعزمه إلى أمر آخر قد يرى فيه مصلحته وما ذاك إلا لأن الله على كل شيء قدير، يصرف القلوب كما يدبر الأبدان وأنه لطيف بعبده فيصرفه عما يضره إلى ما ينفعه، ويدبر قلبه
إلى ذلك.(1/252)
وسئل بعضهم بم عرفت ربك؟ فقال: كنت مكروبًا، فدعوته ففرج كربتي، وكنت فقيرًا فسألته فأغناني، وكنت مريضًا فدعوته فشفاني، وكنت ضالا عن الهدى فلطف بي وهداني، وليس هذا الأمر لي وحدي فكم له على عباده من أصناف النعم المشاهدة المحسوسة، من هذه الأنواع شيء كثيرة وهذا يضطر إلى معرفته والاعتراف بربوبيته
وتربيته.
وسئل آخر بم يعرف الله؟ فقال: قد رأينا ورأى الناس في الدنيا مصارع البغاة المجرمين وعواقبهم الوخيمة، كما رأوا حسن عواقبه في المحسنين.
وقيل لآخر بم يعرف الله؟ فقال: بإيصاله النعم إلى خلقه وقت الحاجة والضرورة إليها، هذا الغيث ينزله وقت الحاجة ويرفعه إذا خيف منه الضرر و هذا الفرج يأتي بعد الشدة، والمطالب بعد الاضطرار إليها، وهذه أعضاء الإنسان وقواه يعطيه الله إياها شيئًا فشيئًا بحسب حاجته إليها، فهل يمكن أن تكون هذه الأمور صدفة بغير اتفاق، أم يعلم بذلك علم اليقين أن الذي أعطاهم إياها وقت الحاجة والضرورة هو الرب المعبود الملك المقصود.
قلت: ومن هذا الباب ما نحن فيه فإنه لما كانت معرفة الله يضطر إليها العباد#
ويحتاجونها في كل وقت فوق جميع الحاجات يسرها الله وفتح لعباده طرقها وأوضح لهم أدلتها، وليست حاجتهم إليها من الحوائج العارضة، وإنما هي من الحوائج الملازمة لهم في كل لحظة وساعة، فنسأله أن يمن علينا بمعرفته وبالإيمان الكامل، إنه جواد كريم.
وقيل لبعضهم بأي شيء يعرف الله؟ فقال: يعرف بأنه علم الإنسان ما لم يعلم، خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا فأعطاه آلات العلم ويسر له أسباب العلم، فلم يزل يتعلم أمور دينه حتى صار عالمًا ربانيًا ولم يزل يتعلم أمور دنياه حتى صار ماهرًا مخترعًا للعجائب، ويسر له كل سبب يوصله إلى ذلك، ومن عجيب الأمر أن اللوح إذا كتب فيه وشغل بشيء من الأشياء لم يسع غيرها، ولم يمكن أن يكتب فيه شيئًا آخر قبل محو ما كتب فيه أولا، وقلب الإنسان لا يزال يحفظ من العلوم والمعارف المتنوعة.(1/253)
وكلما توسعت معارفه قويت حافظته واشتدت ذاكرته وتوسعت أفكاره، فهل هذه الأمور في طوق البشر وقدرتهم؟ أم هذا أكبر برهان على عظمة الله ووحدانيته وكماله وسعة رحمته؟
وقيل لبعضهم بم يعرف الله؟ فقال هذه النواة يغرسها الناس فيأتي منها النخيل والأشجار وتخرج من الثمار العظيمة ما به ينتفع الخلق، وهذه الحبوب تلقى في الأرض فتخرج أصناف الزروع التي هي مادة أقوات العباد؛ ثم لا تزال تعاد وتغل كل عام، أليس هذا أكبر برهان ودليل على وجود الله وقدرته وعنايته ورحمته.
قلت: وقد نبه الله على هذا المعنى الجليل في عدة آيات مثل قوله: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95]، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63، 64]. وقيل لمن بادر إلى الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لم فعلت ذلك؟ فقال: رأيته ما أمر بشيء فقال العقل ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به، فاستدل بنور عقله وقوة بصيرته على صدق الرسول بصلاح ما جاء به وموافقته للعقول السليمة وللحكمة.
وقيل لآخر من العارفين: بأي شيء يعرف الله؟ فقال: بذوق حلاوة الطاعات، وهذا استدلال برهاني وجداني يضطر العبد إلى كمال الإيمان واليقين، فإن من وجد حلاوة الإيمان وذاق لذة اليقين، فقد بلغ الذروة العليا من الإيمان والله أعلم.#(1/254)
وقيل لآخر بأي شيء يعرف الله؟ قال: بانتظام الأسباب ثم بتحويله الأسباب ومنع مسبباتها، وبإيجاده الأشياء بغير أسباب يعقلها الخلق، وهذا صحيح فإنه أجرى الأمور على أسبابها ومسبباتها قدرًا وشرعًا حكمة بالغة، ومنع بعض الأسباب من ترتب آثارها عليها، كما في معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وكذلك يوجد كثير من الأشياء بغير الأسباب المعهودة، كما أوجد عيسى من أم بلا أب، ويحيى بين أبوين لا يولد لمثلهما وأشياء كثيرة من هذا النوع ليعرف العباد أنه المتصرف التصرف المطلق وأنه كما يتصرف في الأشياء بأسباب مربوطة معلومة، كذلك يتصرف فيها بغير المعهودة، ولذلك كان جمهور هذا النوع من المعجزات والكرامات وهي كلها براهين على وحدانية الله وإلهيته وربوبيته.
وقيل لبعضهم بم يعرف الله؟ قال: من نظر في مواد الرزق وتأمل حالة من لهم موجودات وعقارات وغلات كثيرة ولكنهم قد اتكلوا عليها فضاقت عليهم الأمور وركبتهم الديون وجاءت الأمور على خلاف ما يؤملون، ثم انظر إلى أناس كثير ليس لهم عقارات ولا غلات؛ وإنما عندهم أسباب بسيطة قد بارك الله لهم وبسط لهم الرزق، وذلك بأن قلوبهم على الدوام متطلعة إلى ما عند الله، راجية منه تسهيل الرزق، متوكلين عليه حق التوكل، وبذلك يعرف الله، وبذلك يعلم أن الأمر كله لله، كما ننظر إلى القوي من الناس الذي جمع بين القوة والذكاء، وبين السعي الحثيث ورزقه مقتر، ونرى الضعيف البليد الذي ليس عند من الذكاء والقوة عشر معشار ما عند الأول، والله قد بسط له الرزق ويسر له أمره، وهذا أمور مشاهدة محسوسة تضطر العاقل إلى الاعتراف بوحدانية الله وقيامه على كل نفس بما كسبت.
وقيل لآخر بأي شيء نعرف ربنا؟ فقال: بمداولته الأيام بين العباد في العز والذل، والغنى والفقر بأسباب وبغير أسباب.(1/255)
وقيل لآخر بأي شيء يعرف الله؟ فقال: بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فننظر مصداقها بين الخليقة وأن كل أحد قد يسر الله له من أسباب الرزق ما به يعتاش، هذا بتجارته وهذا بصناعته، وهذا بحراثته، وهذا بخدمته، وهذا بمخلفات من قبله، وهذا بتنميته للمواشي، وهذا بإحسان غيره#
عليه، وهذا بكد غيره، إلى آخر الأسباب التي قدرها العزيز الحكيم ونوعها العليم الرحيم، فسبحان من وصل رزقه إلى الذرات في مهامه البراري وقعور المظلمات.
قلت: وهذه الأجوبة كلها عن الكليات والجزئيات صحيحة تضطر العقول إلى الاعتراف بربها، وبوحدانيته ويمكن مضاعفتها إلى أضعاف أضعاف كثيرة، فإنك إذا نظرت نظرة عمومية إلى العالم العلوي والسفلي وعظيم هذا المخلوقات وانتظامها العجيب وترتيبها المحكم وما يترتب على ذلك وينتج عنه من مصالح العالم أو المخلوقات.
علمت أن لهذا العالم ربًا عظيمًا وملكًا كبيرًا قادرًا مقتدرًا قد خضعت له الأكوان ودانت له الخليقة، وأخذ بنواصي العباد وعلمت أن هذه النيرات وما يتبعها مدبرات ليس لها من الأمر شيء، وإنما هي عبيد لله مسخرات بتسخيره مدبرات بتدبيره، ثم إذا نظرت لكل مخلوق على حدته وتأملت في ابتداء خلقته وفي بقية صفاته وأحواله وتنقلاته، دلك ذلك على أن لها إلها مدبرًا وربًا متصرفًا، وأن جميع ما هو عليه من الوجود والصفات ليس من نفسه، ولا من إيجاده، وإنما ذلك خلق رب عظيم وتدبير ملك حكيم.
ثم إذا تأملت في أحوال نفسك، وفي صفات بدنك الظاهرة والباطنة وفي محسوساتك ومعقولاتك علمت بلا ريب أنك مخلوق، عبد فقير إلى ربك في كل أمورك، فقير إليه في الإيجاد، وفقير إليه في الإمداد بالقوى والعقل والأرزاق وفقير إليه في حفظك وبقائك، وفقير إليه في ابتدائك وانتهائك.(1/256)
ثم إذا نظرت في خوارق العادات وفي معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء التي لا يحصي عددها العادون، علمت بذلك عظمة الباري، وأنه مقدر الأمور ومسبب الأسباب ورب كل شيء ومليكه، وكذلك إذا نظرت كثرة إجابته للداعين وكشفه الضر عن المضطرين، وإغاثته للملهوفين وهي وقائع كثيرة لا حصر لها، اضطرك الأمر إلى الاعتراف بالربوبية والوحدانية.
ثم إذا نظرت إلى أيامه في الناس، وقيامه بالعدل والفضل وتعجيله ثواب المحسنين وعقوبات المجرمين، علمت أنها براهين محسوسة وأدلة مشاهدة، تشهد لله بأنه قائم على كل نفس بما كسبت، مجاز كل عامل بعمله.#
ثم إذا نظرت في دينه وشرعه وما فيه من الخير العظيم والمصالح الظاهرة والثمرات الجليلة وأنه مصلح للعقائد مصلح للأخلاق، مصلح للأعمال مصلح للدنيا والدين، محكم الأصول ثابت القواعد، لا يمكن لعقلاء الأمم أجمعين أن يأتوا بمثله في إصلاح أحوال البشر ودفع الشرور عنهم، وأنه لم يأت ولن يأتي علم صحيح يناقض شيئًا من أخباره، بل كلها مطابقة للعقول وفيها تفصيلات لا تهتدي إليها العقول إلا بإرشاده وهدايته، وشاهدت أحكامه في العبادات والمعاملات وغيرها.
وما فيها من الخير والعدل والصلاح المتنوع، وشاهدت كل نفع وإصلاح وجد ويوجد موجودة أصوله وأسسه في هذا الدين، وعلمت أنه عصمة للبشر عن الشرور والمضار عرفت بذلك وحدانية الله في أسمائه وصفاته وأفعاله، وأنه شرع شرعه العزيز الحميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وإذا علمت أخبارًا كثيرة أخبر بها الله ورسوله، فشاهد الخلق وقوعها جهرًا طبق خبر الله وخبر رسوله، دلك ذلك على الاعتراف بالله وعظمته وكمال سلطانه وكبريائه.(1/257)
فهذه كلها أدلة عقلية ضرورية، وهي براهين قاطعة على وجود الله ووجوبه ووحدانيته، وهي في الحقيقة أعظم الحقائق الصحيحة التي تتفق عليها العقول الصحيحة والفطر السليمة، وكلها تنبيهات وإشارات لو بسطت بعض البسط لبلغت مجلدات والمؤمن يزداد بها إيمانًا ويقينا وإلا فهو مكتف غاية الاكتفاء ومستغن غاية الاستغناء في هذه المسألة الكبيرة وغيرها بخبر الله ورسوله، ويعتقد بلا ريب أنه لا أصدق من الله قيلا، ولا أصدق من الله حديثًا {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193] {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53].
ولكن العقل مؤيد للشرع ومعترف بكمال الشرع وهدايته وأنه مضطر إلى الشرع ومتكمل بإرشادته، ومهتد بأنواره، فالعقول لا تستنير ولا تستقيم حق الاستقامة إلا بالدين والشرع، ولهذا يكثر تعالى من قوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ويأمر بالتفكر والتدبر لآياته المسموعة وآياته المشهودة والله أعلم (1) .#
نصيحة في تصحيح العقيدة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين وفقني الله وإياهم للفقه في الدين وسلك بي وبهم صراطه المستقيم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:
فهذه نصيحة أردت منها التنبيه على بعض الأمور المنكرة التي وقع فيها كثير من الناس جهلاً منهم وتلاعبا من الشيطان بأفكارهم وعقولهم واتباعًا للهوى من بعض من فعلها.
__________
(1) من كتاب "الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى (246-248).(1/258)
1- ومن تلك الأمور ما بلغني أن بعض الناس يدعو إلى عبادة نفسه ويدعي أمورًا توهم العامة أن له تصرفًا في الكون وأنه يصلح أن يدعى للنفع والضر وهذا من هؤلاء الضالين تشبه بفرعون وأشباهه من المجرمين الكافرين والله سبحانه هو المستحق للعبادة ولا يستحقها سواه لكمال قدرته وعلمه وغناه عن خلقه والعبادة لله وحده هي الغاية التي من أجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وقام سوق الجهاد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقال عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6] وقال عز وجل {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117] وقال عز وجل: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] وقال سبحانه {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48-116] وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ#(1/259)
يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] وقال سبحانه {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].
وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] فعلم من هذه الآيات وغيرها أن عبادة غير الله أو عبادة غيره معه من الأنبياء والأولياء والأصنام والأشجار والأحجار شرك بالله عز وجل ينافي توحيده الذي من أجله خلق الله الثقلين وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها وهذا هو معنى لا إله إلا الله.
فإن معناها لا معبود بحق إلا الله فهي تنفي العبادة عن غير الله وتثبتها الله وحده كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] وهذا هو أصل الدين وأساس الملة و لا تصح العبادات إلا بعد صحة هذا الأصل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] .
وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
ومن أجل هذا الأمر العظيم أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لبيان التوحيد والدعوة إليه والتحذير من صرف العبادة لغير الله سبحانه كما قال عز وجل {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] الآية، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].(1/260)
وقال عز وجل: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1، 2] وقال سبحانه {وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا#
وهو خلقك» (1) والند هو النظير والمثيل فكل من دعا غير الله أو عبد غير الله أو استغاث به أو نذر له أو ذبح أو صرف له شيئا من العبادة فقد اتخذه ندًا لله سواء كان نبيًا أو وليًا أو ملكًا أو جنيًا أو صنمًا أو غير ذلك لأن العبادة لله وحده لا يستحقها سواه وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئًا» (2) فالله خلق الثقلين لهذا الأمر العظيم وهو توحيده وإفراده بالعبادة ونبذ الشركاء والنظراء والأنداد سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه ومن دعا إلى عبادة نفسه أو أنه يستحق العبادة فإنه كافر يجب أن يدعى إلى التوبة فإن تاب وإلا وجب على ولي الأمر قتله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من بدل دينه فاقتلوه» (3) رواه البخاري.
__________
(1) البخاري في التفسير (5/ 148) ومسلم في الإيمان (1/ 6).
(2) البخاري في التوحيد (8/ 164) ومسلم في الإيمان (1/ 43.
(3) البخاري في استتابة المرتدين (8/ 50).(1/261)
2- ومن الضلال الكبير والجهل العظيم تصديق الكهان والعرافين والرمالين والمنجمين والمشعوذين والدجالين بالإخبار عن المغيبات فإن هذا منكر وشعبة من شعب الكفر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا» (1) رواه مسلم في صحيحه وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن إتيان الكهان وسؤالهم.
وخرج أهل السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» (2) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة فالواجب على المسلمين الحذر من سؤال الكهنة والعرافين وسائر المشعوذين والمشتغلين بالإخبار عن المغيبات والمتلاعبين بعقول الجهلة والتلبيس على المسلمين، فالأمور الغيبية لا يعلمها إلا الذي يعلم ما تكن الصدور ويعلم الخفايا حتى أنبياءه ورسله وملائكته لا يعلمون شيئًا من المغيبات إلا ما#
أخبرهم به سبحانه قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65] وقال عز وجل أمرًا نبيه أن يبلغ الناس {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50].
__________
(1) مسلم في كتاب السلام باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان (7/ 37).
(2) صحيح بمجموع طرقه المنذري، رواه أبو داود في كتاب الطب (4/ 225) والترمذي في الطهارة (1/ 243) وابن ماجة في الطهارة (1/ 209) ولم أجده في النسائي وقد عزاه إليه المنذري في مختصر سنن أبي داود (5/ 370) فلعله في السنن الكبرى للنسائي والله أعلم.(1/262)
وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] وهذه الآيات وغيرها تدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب وهو خير الأنبياء وأفضلهم فكيف بغيره من المخلوقين، فمن اعتقد أنه يعلم الغيب أو أحدًا من المخلوقين فقد أعظم على الله الفرية وأبعد النجعة وضل ضلالاً بعيدًا وكفر بالله سبحانه فالأمور المغيبة مما استأثر الله بعلمه قال تعالى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] قال ابن مسعود كل شيء أوتي نبيكم - صلى الله عليه وسلم - غير خمس {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (1) الآية، وقال ابن عباس هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى.
ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرًا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم.
فالإيمان بالغيب من أركان الإيمان ومن صفات المؤمنين الصادقين وادعاء علم الغيب والإخبار بالمغيبات من صفات الكهنة الزائغين عن الهدى ومن صفات الدجالين والمشعوذين والعرافين الذين ضلوا عن الصراط المستقيم وأضلوا غيرهم من جهال المسلمين وقد قال الله سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].#
__________
(1) الأثر أخرجه أحمد في المسند (1/ 445) وأورده ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية وقال: هذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن ولم يخرجوه (ابن كثير 3/ 473).(1/263)
وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مفاتيح الغيب خمس» ثم قرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فالواجب على طلبة العلم أن ينبهوا على ما يقع فيه الناس من الخطأ العظيم في هذا الباب وغيره، لأنهم مسئولون عنهم أمام الله يوم القيامة قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] وكذا الاعتقاد أن بني هاشم ذنبهم مغفور ولو فعلوا ما فعلوا وهذا غاية الجهل والضلال.
فإن الله لا ينظر إلى الأحساب والأنساب وإنما ينظر إلى امتثال أوامره واجتناب نواهيه من ملازمة التقوى والابتعاد عن المعاصي والمخالفات فالأحساب والأنساب لا تنفع أحدًا قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .(1/264)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (1) ، وقال: «إلا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» (2) وهذا أبو طالب وهو عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينفعه قربه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونسبه العريق وقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يشهد أن لا إله إلا الله حتى يحاج له بها عند الله فلم يفعل لأن الله سبحانه كتب في الأزل أنه يموت على دين الآباء والأجداد وهو الشرك وعباد الأصنام (3) ، ونهى الله نبيه عن الاستغفار له فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] وأخبر أن النبي لا يملك هداية أحد إذا لم يهده الله فقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] .
وهذا أبو لهب وهو عم النبي - صلى الله عليه وسلم - مات على الكفر وأنزل الله في ذمة سورة تتلى إلى يوم القيامة وهي {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] فالمعيار الحقيقي هو اتباع ما#
جاء في القرآن الكريم، والسنة المطهرة قولاً وعملاً واعتقادًا أما الأنساب فإنها لا تنفع ولا تجدي كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (4) وقال: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا» (5) وهكذا قال لعمه العباس وعمته صفية وابنته فاطمة ولو كان النسب ينفع أحدا لنفع هؤلاء.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) البخاري في الإيمان (1/ 19) ومسلم في البيوع (5/ 50، 51).
(3) انظر القصة في صحيح مسلم كتاب الإيمان (1/40/ 41).
(4) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء (8/ 71).
(5) البخاري في التفسير (6/ 17) ومسلم في الإيمان (1/ 133).(1/265)
4- ومن الأمور المنكرة والاعتقاد الفاسد والضلال المبين ما يعتقده بعض المغفلين والجهال في بعض المخرفين والمشركين الضالين والمضالين أنهم يشفون المرضى ويدفعون عنهم الضر ويجلبون النفع نعوذ بالله من الغي والضلالة، وهذا ينافي الإيمان بالله وأنه النافع الضار الرازق المحيي المميت المدبر القادر تعالى الله وتقدس عما يقوله الضالون والمقترون قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] فمن اعتقد أن أحدًا ينفعه أو يضره أو يشفيه من دون الله فقد كفر بالله وبكتابه وبملائكته ورسوله قال تعالى لأكرم خلقه {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ} [الجن: 21، 22، 23] وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} [الأعراف: 188] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» (1) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا لغيره فغيره من باب أولى، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح أو ولي من الأولياء وظن فيه نوعًا من الإلهية مثل أن يقول يا فلان اشفني أو انصرني أو ارزقني أو أغنني ونحو ذلك فإن هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
وكذا من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم فإنه#
__________
(1) جزء من حديث طويل رواه الترمذي (4/ 667) وأحمد في المسند (1/ 293، 303، 307) ورواه أيضًا ابن أبي عاصم في كتاب السنة (1/ 138، 139) ورواه آخرون وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.(1/266)
يكفر إجماعًا فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو جني أو روح أو غير ذلك تأثيرًا في كشف كربة أو قضاء حاجة أو رفع مرض أو دفع بلاء فقد وقع في ضلال كبير وفي واد من الجهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير لكونه قد أشرك بالله العظيم وهكذا من ذكر أحدًا من الصالحين والأولياء وغيرهم على وجه طلب الإمداد منه فقد أشركه مع الله إذ لا قادر على الدفع غيره سبحانه وتعالى.
5- ومن الأمور المنكرة أن بعض من يدعي أنه من بني هاشم يقولون إنه لا يكافئهم أحد فهم لا يزوجون غيرهم ولا يتزوجون من غيرهم وهذا خطأ عظيم وجهل كبير وظلم للمرأة وتشريع لم يشرعه الله ورسوله قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وقال سبحانه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]. وقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب» (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين» (2) .
__________
(1) رواه بمعناه الترمذي في التفسير (5/ 389) وفي النكاح (5/ 735) وأبو داود في الأدب
(5/ 340) وهو صحيح بطرقه.
(2) البخاري في الأدب (7/ 73) ومسلم في الإيمان (1/ 136).(1/267)
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه ألا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» (1) خرجه الترمذي وحسنه وقد زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش الأسدية من زيد بن حارثة مولاه وزوج فاطمة بنت قيس القرشية من أسامة بن زيد وهو وأبوه عتيقان وتزوج بلال بن رباح الحبشي بأخت عبد الرحمن بن#
عوف الزهرية القرشية وزوج أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي ابنة أخيه الوليد سالمًا مولاه وهو عتيق لامرأة من الأنصار، وقد قال الله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26].
__________
(1) الترمذي في النكاح (3/ 385، 376) وابن ماجة في النكاح (1/ 663) والحاكم وغيرهم وهو حديث حسن بمجموع طرقه وقد يرتقي إلى درجة الصحة.(1/268)
وكذا زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنتيه رقية وأم كلثوم عثمان وزوج أبا العاص بن الربيع ابنته زينب وهما من بني عبد شمس وليسا من بني هاشم وزوج علي عمر بن الخطاب ابنته أم كلثوم وهو عدوي لا هاشمي وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي وهو أموي لا هاشمي وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة ابنة الزبير ابن عبد المطلب الهاشمية ابنت عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كندي لا هاشمي وهذا شيء كثير، والمقصود بيان بطلان ما يدعيه الهاشميين من تحريم تزويج الهاشمية بغير الهاشمي أو كراهة ذلك وإنما الواجب في ذلك اعتبار كفاءته في الدين فالذي أبعد أبا طالب وأبا لهب عدم الإسلام والذي قرب سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلالا الحبشي إنما هو الإيمان والصلاح والتقوى واتباع الشرع والسير على النهج المستقيم ومما ينجم عن هذا الجهل والتصرف الباطل حبس النساء الهاشميات وتعطيلهن من الزواج أو تأخيره فيحصل ما لا تحمد عقباه من الفساد وتعطيل النسل أو تقليله وقد قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32].(1/269)
فأمر بإنكاح الأيامى أمرًا مطلقًا ليعم الغني و الفقير وسائر أصناف المسلمين. وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد رغبت في الزواج وحثت عليه فإن على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله. حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (1) فعلى الأولياء أن يتقوا الله في مولياتهم فإنهن أمانة في أعناقهم وإن الله سائلهم عن هذه الأمانة فعليهم أن يبادروا إلى تزويج بناتهم وأخواتهم وأبنائهم حتى يؤدي كل دوره في هذه الحياة ويقل الفساد والجرائم، ومن المعلوم أن حبس البنات عن الزواج وتأخيرهن سبب في فشو الجرائم الأخلاقية#
وانتشارها التي هي من معاول الهدم والدمار فيا عباد الله اتقوا الله في أنفسكم وفيمن ولاكم الله عليهم من البنات والأخوات وغيرهن وفي إخوانكم المسلمين واسعوا جميعا إلى تحقيق الخير والسعادة في المجتمع وتيسير سبل نموه وتكاثره وإزالة أسباب انتشار الجرائم واعلموا أنكم مسئولون ومحاسبون ومجزيون على أعمالكم قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] وقال عز وجل {وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31].
__________
(1) البخاري في النكاح (6/ 117) ومسلم في النكاح (4/ 128).(1/270)
وبادروا إلى تزويج بناتكم وأبنائكم مقتدين بنبيكم - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم والسائرين على هديهم وطريقهم وأوصيكم بتقليل مؤن الزواج وعدم المغالاة في المهور واقتصدوا في تكاليف الزواج واجتهدوا في اختيار الأزواج الصالحين الاتقياء ذوي الأمانة والعفة، رزق الله الجميع الفقه في الدين و الثبات عليه وأعاذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وجنبنا وإياكم مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن كما نسأله أن يصلح ولاة أمور المسلمين ويصلح بهم إنه على ذلك قدير وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية و الإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز#
البيان المفيد
فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد
من عقائد التوحيد
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد.
فهذه رسالة عظيمة في تبيان ما يجب على الأمة الإسلامية اعتقاده من توحيد الله وإفراده بالعبادة وتحذيرها من كل ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كدعاء غير الله والاستغاثة والاستعانة وطلب الشفاعة من الأموات، وكالحلف بغير الله والذبح والنذر لغير الله، وتعظيم القبور بغير ما شرعه الله من البناء عليها واتخاذها مساجد وشد الرحال إليها والطواف حولها والتبرك بها مما عمت به البلوى وقد سبق نشرها في "أم القرى" ثم جمعت في رسالة تحت عنوان "البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد" وتعميمًا للفائدة أضفنا إليها مناظرة في نفس الموضوع جرت بين علماء مكة ونجد نشرتها أم القرى يوم الجمعة (15/ 5/ 1343 هـ).
نقدم هذه الرسالة لأمتنا الإسلامية سائلين المولى عز وجل أن يعم بنفعها الجميع إنه سميع مجيب وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، ،
عبد الله العلي السلطان
مكة المكرمة في 1/ 1/ 1398هـ#
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه.(1/271)
وبعد؛ فقد عقد علماء مكة وعلماء نجد في هذا الأيام عدة اجتماعات بحثوا فيها عن العقائد الدينية التي جاء بها الإسلام وقد ألقى في أحد تلك الاجتماعات حضرة الأستاذ الشيخ عبد الله بن بليهد رئيس القضاء في مكة المكرمة خطابا بليغا وافق عليه الحاضرون من علماء مكة لأنهم لم يجدوا فيه قولاً يخالف ما جاء به الكتاب الكريم ولا السنة الصحيحة ولا ما كان عليه السلف الصالح ثم قرر علماء مكة الأفاضل أن يكتبوا بيانًا من عندهم للناس يوضحون به العقائد التي يجب على كل مسلم اعتقادها ومعرفتها وقد نشرنا خطاب الأستاذ رئيس القضاء وبيان أهل مكة في أجزاء متفرقة من (أم القرى) وتعميمًا للفائدة ننشرهما في هذه الرسالة ليطلع عليهما الخاص والعام وليكونا عنوانا للاتحاد والاتفاق بين كافة المسلمين إن شاء الله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.#
نداء عام
من علماء بلد الله الحرام إلى أمتنا الكريمة لشعبنا النبيل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد آن لنا أن نرفع صوتنا عاليًا في هذا الجو الهادي الذي يسمع فيه صدى الحق بسائق قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «الدين النصيحة» قالوا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه.(1/272)
وقوله: «من علم علمًا فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من النار» (1) ، ونحن على يقين من أن وظيفتنا هذه عظيمة وموقفنا أمام الله أعظم وأن هذه الحياة لا تزن عند الله جناح بعوضة ولا تغني عن الآخرة فتيلا وأنتم عندنا كنفسنا التي بين جنبينا نحب لكم من الخير ما نحبه لها ونبغض لكم من الشر ما نبغض لها لذا لا نلقي عليكم إلا ما ندين الله به ونعتقده حقا صراحا لا مراء فيه لنبرأ إلى الله بأداء ما علمنا غير مكرهين ولا مدفوعين بغرض شخصي وإنما الحق أحق أن يتبع وفي بلاغنا هذا ذكرى للذاكرين وهدى للمستبصرين والله يتولى هدانا أجمعين.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الحائز رتبة، لا يمكن أن تلحق، وعلى آله وصحبه والداعين، إلى طريق الحق، صلاة وسلامًا دائمين متلازمين ما الليل غسق والقمر اتسق (أما بعد) فإنا نعتقد أن الله واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته واحد في أسمائه وصفاته، فلا خالق ولا رازق ولا محيي ولا مميت ولا مدبر للأمور سواه، ولا معبود#
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه بلفظ من سئل عن علم علمه ثم كتمه.(1/273)
بحق في الوجود إلا هو وهذا معنى لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى والصفات العليا كما أثبتها لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا تكييف ولا تحريف ولا تمثيل ولا تعطيل وأن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته على عرشه علا على خلقه وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون قال تعالى: {وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] وقال تعالى: {أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17] وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) قال فيها مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وقال - صلى الله عليه وسلم - للجارية: أين الله؟ فقالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت أنت رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة (2) ونعوذ بالله من أن نظن أن السماء تقله أو تظله فهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا وقد وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم.
__________
(1) في سبعة مواضع من القرآن في سورة الأعراف: 54، وسورة يونس: 3، وسورة الرعد: 2، وسورة طه: 5، وسورة الفرقان: 59، وسورة السجدة: 4، وسورة الحديد: 4.
(2) رواه مسلم(1/274)
ونعتقد أن عبادة غير الله شرك أكبر وأن دعاء غير الله من الأموات والغائبين وحبه كحب الله وخوفه ورجاءه ونحو ذلك شرك أكبر، وسواء دعاه دعاء عبادة أو دعاء استعانة في شدة أو رخاء فإن الدعاء مخ العبادة، وسواء دعاه لجلب النفع أو دفع الضر أو دعاه لطلب الشفاعة أو ليقربه إلى الله أو دعاه تقليدًا لآبائه أو أسلافه أو لغيرهم والأدلة على ذلك في كتاب الله كثيرة جدًا منها قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] الآية، وأن اعتقاد أن لشيء من الأشياء سلطانًا على ما خرج عن قدرة المخلوقين شرك أكبر وأن من عظم غير الله مستعينا به فيما لا يقدر عليه إلا الله#
كالاستنصار في الحرب بغير قوة الجيوش والاستشفاء من الأمراض بغير الأدوية التي هدانا
الله لها.(1/275)
والاستعانة على السعادة الأخروية أو الدنيوية بغير الطرق والسنن التي شرعها الله لنا يكون مشركًا شركًا أكبر، وأن الشفاعة ملك لله وحده ولا تكون إلا لمن أذن الله له {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ولا يرضى الله إلا عمن اتبع رسله فنطلبها من الله مالكها فنقول اللهم شفع فينا نبيك مثلا ولا نقول يا رسول الله اشفع لنا فذلك لم يرد به كتاب ولا سنة ولا عمل سلف ولا صدر ممن يوثق به من المسلمين فنبرأ إلى الله أن نتخذ واسطة تقربنا على الله أو تشفع لنا عنده فنكون ممن قال الله فيهم وقد أقروا بربوبيته وأشركوا بعبادته {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} [يونس: 18] وحكى الله عنهم قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أو نكون ممن قلدوا آباءهم في أصل الدين فكانوا أضل من الأنعام وهم الذين قال الله فيهم {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] فوصفهم بقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] إذ عطلوا تلك المواهب التي أودعت فيهم ولو تخلوا بأنفسهم برهة أطلقوا فيها لتلك المواهب سراجها لأدركت من آيات الله ما يرشدهم إلى سواء السبيل.(1/276)
ونتوسل إلى الله أي نتقرب إليه بطاعته وهو معنى الوسيلة في القرآن ونطلب الوسيلة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في الحديث الصحيح: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد حلت له شفاعتي» (1) ، وورد تفسير هذه الوسيلة في حديث: «سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون ذلك العبد» (2) .
وأما التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قول عمر بن الخطاب رضي الله#
عنه: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) (3) فتوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - وهو خاص بحال حياته ولهذا عدل عمر رضي الله عنه بعد مماته - صلى الله عليه وسلم - إلى التوسل بدعاء عمه العباس والتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة يكون بشفاعته وأما التوسل بمعنى غير ذلك فليس بشرعي.
وزيارتنا القبور دعاء للموتى وادكار للآخرة وحسبنا أن نلقي عليكم ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمه أصحابه ليقولوه إذا زاروا القبور: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم (4) واعلموا أن زيارة القبور على ثلاثة أنواع شرعية، وبدعية وشركية فالشرعية هي التي يقصد بها تذكر الآخرة والدعاء للميت واتباع السنة.
__________
(1) رواه البخاري بدون زيادة إنك لا تخلف الميعاد.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه أحمد ومسلم وابن ماجة بدون زيادة: "يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين انظر منتقى الأخبار (2/ 117).(1/277)
والبدعية هي التي يقصد بها عبادة الله عند القبور كما يفعله جهلة الناس لظنهم أن للعبادة عندها مزية على العبادة في المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث النبي عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد، والشركية هي التي يقصد منها تعظيم القبور ودعاؤها أو الذبح لها أو النذر لها أو غير ذلك من العبادات التي لا تصلح إلا لله فهذه حقيقة الشرك والأدلة عليه كثيرة جدا وقد تقدم بعضها.
والبناء على القبور بدعة وقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن لا يدع قبرًا مشرفًا إلا سواه بالأرض وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي أنه قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أني لأبعثك على ما بعثني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته.
والحلف بغير الله منهي عنه ويكفي أن نسرد عليكم شيئًا مما ورد فيه قال - صلى الله عليه وسلم - : «من حلف بغير الله فقد أشرك وفي لفظ فقد كفر» (1) وقال - صلى الله عليه وسلم - : «من كان حالفًا فليحلف#
بالله» (2) وقال عليه السلام: «لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» (3) {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} - صلى الله عليه وسلم - {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه البخاري ومسلم.(1/278)
ونعتقد أن أفضل المخلوقين وأكملهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - قد وصفه الله بالعبودية في أشرف المقامات وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله» (1) وورد «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» (2) .
والإيمان قول وعمل قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بمجرد المعصية ولا نسلب الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية ولا نخلده في النار كما تقول المعتزلة ولا نكفره بالكبائر كما تقول الخوارج وإنما نقول هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما جاءت به الشريعة واجب.
ونعتقد إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا وندين بالسمع والطاعة لهم في غير معصية عدلوا أو جاروا ما أقاموا الصلاة ونحافظ على الجماعة و ندين الله بالنصح للأئمة خاصة وللأمة عامة ونبرأ إلى الله من طريق الخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج على الأئمة بمجرد الجور والمعصية.
فهذا الذي ندين الله به ونعتقده وندعوكم إليه وحسبنا فيه كتاب الله وسنة رسوله وسلف الأمة الذين شهد لهم رسول الله بالخير قال - صلى الله عليه وسلم - : «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي» (3) وقال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" (4) فتمسكوا بدينكم فهذا زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر زهت#
__________
(1) رواه النسائي بسند جيد.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
(4) رواه البخاري ومسلم.(1/279)
فيه الحياة بزخرفها وثملت الناس بنشوتها وكثر الدخيل في الإسلام وأوقع في القلوب الضعيفة ما أوقع من الأوهام وتحقق فيه قول ابن مسعود رضي الله عنه: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم عليها الكبير وتتخذ سنة يجري الناس عليها فإذا غير منها شيء قيل غيرت السنة) قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: (إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم وكثرت أموالكم وقل أمناؤكم وتعلم لغير الدين) (1) ومعلوم أنه كلما تقادم عهد أمة بنبيها ألقى الشيطان في أفرادها تعاليم تظن فيما بعد أنها من الدين والدين منها براء يريد بذلك إماتة السنة وطمس معالمها.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا بيده ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما» ثم خط خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: «هذه السبل ليس فيها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) وقال - صلى الله عليه وسلم - : «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» (3) .
__________
(1) أخرجه الدارمي والحاكم وأبو نعيم في الحلية وهو صحيح.
(2) رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه.
(3) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.(1/280)
وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - : «إن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» (1) وفي حديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» (2) ، وقال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة» (3) نسأل الله أن يجعلنا منهم وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ويهب لنا من لدنه رحمة إنه على ما يشاء قدير (4) وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.#
محمد المرزوقي ... محمد سعيد ... عباس
قاضي مكة المكرمة ... أبو الخير ... المالكي
عبد الله بن إبراهيم حمدوه ... أبو بكر بن محمد خوقير ... محمد أمين فوده
سعد وقاص ... حسين عبد الغني ... محمد جمال المالكي
حسين مكي الكتبي ... محمد نور محمد ... محمد عبد الهادي
عيسى دهان ... الفطاني ... كتبي
عبد القادر أبو الخير مرداد ... محمد عرابي سجيني ... درويش عجيمي#
خطاب رئيس القضاء
هذا هو الخطاب الذي ألقاه الشيخ عبد الله بن بليهد
رئيس القضاء في الاجتماع الذي عقد بين
علماء نجد وعلماء مكة المكرمة
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح.
(2) رواه الترمذي وقال حديث غريب وفي رواية عند أبي داود وهي الجماعة.
(3) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(4) ينبغي أن يقال على كل شيء قدير، كما قال الله تعالى وعدم تقييد قدرته بالمشيئة بل تطلق كما أطلقها الله ورسوله. انظر "رسالة إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المختار" مسائل متعددة في العقيدة لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (39، 40).(1/281)
بعد حمد الله والثناء عليه بصفات كماله، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه وآله، إن الله أرسل رسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق وأنزل عليه الكتاب تبيانًا لكل شيء فدعى الناس إلى ما خلقوا له من عبادة الله تعالى وحده لا شريك له وكذلك جميع الرسل جاءوا بذلك كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وأصل دين جميع المرسلين وأساسه هو التوحيد وهو ثلاثة أنواع توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور وهذا قد أقر به غالب الكفار، وتوحيد الأسماء والصفات وهو إثبات ما وصف الرب تعالى وسمى به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء الحسنى والصفات العلى إثباتًا يليق بجلاله وعظمته ويختص به من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل وجميع أصحاب المقالات من الفرق الإسلامية متفقون على إثبات هذه المقدمة وهي أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، وإنما اختلفوا فيما هو كمال وما هو نقص أو يلزم منه النقص فمنهم من ظن أن وصف الباري تعالى بما وصف به نفسه يلزم منه التجسيم والتشبيه فنفى ما أثبته الله تعالى لنفسه وعطل أسماءه وصفاته وألحد فيها.
ومنهم من أثبت ذلك وغلا في الإثبات حتى شبه صفات الباري تعالى بصفات خلقه وهدى الله تعالى أهل السنة الذين هم الفرقة الناجية وهم الوسط في فرق
الأمة كما أن الأمة وسط بين سائر الأمم إلى القول بما دل عليه الكتاب
والسنة ومضى عليه سلف الأمة من إثبات جميع ما#(1/282)
وصف به تعالى نفسه في كتابه وعلى لسانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء الحسنى والصفات العلى وإمرارها كما جاءت وهذا هو طريق النجاة ومن ذلك الإيمان بما أبخر به تعالى في كتابه وتواتر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجمع عليه سلف الأمة من أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه عال على خلقه وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون.
ومما نعتقده وندين الله به أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح وأن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ومع ذلك لا نكفر أهل القبلة بمجرد المعاصي ولا نسلب الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية ولا نخلده في النار كما يقول المعتزلة ولا نكفره بالكبائر كما قاله الخوارج ونقوله و مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو مؤمن ناقص الإيمان أو مسلم وليس بمؤمن كما يقوله بعض أهل السنة، ونعتقد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما جاءت به الشريعة كما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونعتقد إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا وندين بالسمع والطاعة لهم في غير المعصية عدلوا أو جاروا ما أقاموا الصلاة ونحافظ على الجماعة وندين الله بالنصح للأئمة خاصة وللأمة عامة ونبرأ إلى الله من طريق الخوارج والمعتزلة الذين يرون الخروج على الأئمة بمجرد الجور أو المعصية.(1/283)
والنوع الثالث توحيد العبادة وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله فإن لا إله إلا الله تقتضي إفراد الله بالعبادة والكفر بما يعبد سواه وهذا هو معنى النفي والإثبات في هذه الكلمة وهو الذي فهمه كفار قريش لما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قول لا إله إلا الله كما قال تعالى مخبرًا عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 35، 36] فعرفوا أن لا إله إلا الله تقتضي ترك كل مألوه أي معبود من دون الله وهذا الذي دلت عليه لا إله إلا الله من إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه كائنا من كان هو حقيقة التوحيد الذي دعت إليه جميع الرسل وهو حق الله على جميع عباده كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» وهو في الصحيحين والعبادة اسم جامع لما يحبه الله تعالى ويرضاه#
من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة كالحب والدعاء والخوف والرجاء والتوكل وغير ذلك من أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى وتخصيصه بها دون ما سواه فمن صرف من ذلك شيئًا لغير الله سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو غيره فقد عبده بذلك وجعله شريكًا لله في عبادته كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165] .
وقال عن المشركين إنهم يقولون وهم في النار: {تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98].(1/284)
ومن المعلوم أنهم لم يسووهم به في الخلق والرزق والتدبير وإنما سووهم به في الحب والتعظيم وهذا هو حقيقة الشرك وكذلك من دعا غير الله دعاء عبادة أو دعاء استعانة في شدة أو رخاء فقد عبده بذلك وجعله شريكًا لله في عبادته فإن الدعاء مخ العبادة وسواء دعاه لجلب النفع أو دفع الضر أو دعاه لطلب الشفاعة منه أو ليقربه إلى الله أو دعاه تقليدًا لآبائه وأسلافه أو لغير ذلك والأدلة على ذلك في كتاب الله كثيرة جدًا منها قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106] وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنن: 117] .
فهذا نص في كفر داعي غير الله وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13، 14].
فهذا صريح أن دعاء غير الله شرك وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [الجن: 18] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، فإن قال قائل إن من يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأولياء لا يعتقد أنه يملك نفعًا أو ضرًا ولا يطلب ذلك منه وأن قوله عند قيامه أو دخوله أو خروجه أو غير ذلك من أحواله يا رسول الله أو يا فلان#(1/285)
إن أراد به طلب النفع والضر فهو شرك وإن كان بحكم العادة أو التقليد أو لمجرد التعظيم أو أنه يشفع له عند الله أو يقربه إلى الله فهذا ليس بشرك، فيقال إن شرك المشركين الذين بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هو بتعلقهم على الأنبياء والصالحين لطلب القربة والشفاعة كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] فكذبهم وكفرهم مع قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
فسبح نفسه سبحانه عن شركهم مع قولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} فدل على أن دعاءهم لطلب الشفاعة شرك وذلك أن ملك الشفاعة بيد الله كما قال تعالى: {قُلْ لِلهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].(1/286)
فإذا ثبت أن ملك الشفاعة بيده وأنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فحينئذ تعين أن نطلبها منه سبحانه فنقول اللهم لا تحرمنا شفاعة نبيك أو شَفِّعه فينا أو نحو ذلك، فأما دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لطلب الشفاعة منه فهو شرك كما تقدم لان الدعاء عبادة وقد صرفها لغير الله فيكون ذلك شركا في العبادة. وكذلك دعاؤه ليقربه من الله فإن التقرب إلى الله لا يكون إلا بطاعته كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] أي بطاعته قاله المفسرون: وكذلك من يدعو غير الله بحكم العادة أو التقليد لآبائه وأسلافه كحال المشركين الأولين فإن الله تعالى أخبر عن جميع الأمم المخالفة للرسل بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 23] وأخبر عن قوم إبراهيم أنه لما قال لهم {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ#
يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72، 73] لم يقولوا أنهم ينفعون أو يضرون بل قالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74] فتبين بما قررناه أنه لا فرق بين من يدعو غير الله معتقدًا فيه النفع والضر، أو أنه شفيع له عند الله، أو أنه يقربه إلى الله، أو أن ذلك بحكم العادة و التقليد، ولن يجد أحد إلى التفريق بين ذلك سبيلا أصلاً.
ومما يزيد ذلك وضوحًا أن قول القائل عند قيامه وقعوده وسائر حركاته يا ألله استعانة به وذلك عبادة بلا ريب ولا ينازع فيه أحد، فإذا قال ذلك في مخلوق كائنا من كان فقد صرف تلك العبادة لغيره وأيضًا فإنه من المتقرر عند أهل العلم أن الكافر إذا أقر بالشهادتين حكم بإسلامه، وإن ادعى أنه لم يقصد حقيقة الإسلام لم يقبل منه بل يلزم بحكم ما أقر به.(1/287)
فكذلك إذا تكلم بالشرك لزمه حكمه، وإن ادعى غير ذلك ولا فرق بينهما، وهذا واضح فأما تعظيم القبور بالبناء عليها وإيقاد السرج وغير ذلك مما أحدث فيها فبناء المساجد والقبب عليها وعبادة الله عندها بالصلاة وغيرها محرم لما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي الصريح ولعن فاعل ذلك كما في حديث عائشة من قوله - صلى الله عليه وسلم - : «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وهو في الصحيحين والأحاديث في ذلك يطول ذكرها، ومنها حديث علي أنه - صلى الله عليه وسلم - بعثه لهدم القبور المشرفة وقال: «لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته» (1) فأما زيارة القبور فهي ثلاثة أنواع شرعية، وبدعية وشركية.
فالشرعية هي التي القصد منها تذكر الآخرة والدعاء للميت واتباع السنة، والبدعية هي التي القصد منها عبادة الله عند القبور، كما يفعله كثير من الناس، لظنهم أن للعبادة عندها مزية على العبادة في المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث النهي عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد (2) والشركية هي التي القصد منها تعظيم القبور ودعاؤها أو الذبح لها أو النذر لها أو غير ذلك من العبادات التي لا تصلح إلا لله فهذا حقيقة الشرك، والأدلة عليه كثيرة جدا وقد تقدم بعضها ولكن#
لغلبة الجهل وخفاء العلم وبُعْد العهد بإرشاد النبوة التبس الأمر على أكثر الناس وخفي عليهم ما هو في غاية الوضوح لضعف البصائر وغلبة العوائد، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) حديث: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها، رواه مسلم، وكذلك حديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد رواه مسلم وحديث: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه البخاري ومسلم.(1/288)
فإن من لم يعرف الشرك وما ذمه القرآن وعابه وقع فيه وهو لا يدري، ومثله قول ابن مسعود رضي الله عنه: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم عليها الكبير وتتخذ سنة يجري الناس عليها فإذا غير منها شيء قيل غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال: إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم وكثرت أموالكم وقل أمناؤكم وتعلم لغير الدين) (1) .
إذا عرف ذلك فمعلوم أن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبر به، ويطيعه فيما يأمر به، وما ينهى عنه، ولا سبيل إلى ذلك غلا بعد معرفة أمره وخبره، ولا يكون ذلك إلا بالعلم النافع الموروث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يوجب الله من ذلك على الأمة إلا ما فيه صلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال ذلك تتعطل مصالحها وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته إلا بالعلم، وإذا ظهر العلم في محلة أو بلد قل الشر في أهلها، وإذا خفي العلم ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف ذلك فهو ممن لم يجعل الله له نورا.
قال بعض العلماء لولا العلم كان الناس كالبهائم وقال: "الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب" لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلم يحتاج إليه في كل وقت، لأن العلم بمنزلة الروح بل قد سماه الله تعالى، في كتابه روحًا كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] وقال {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
__________
(1) أخرجه الدارمي والحاكم وأبو نعيم في الحلية وهو صحيح.(1/289)
فأخبر سبحانه وتعالى أن الوحي الذي أنزله على رسوله روح تحصل به الحياة ونور يحصل به الإضاءة، ومن فقد هذه الروح فهو ميت، ومن فقد هذا النور فهو في ظلمة، ولهذا لما خفي العلم على كثير من الناس لم يفرقوا بين ما هو حق لله وما هو حق للمخلوق، فإن حق الله هو العبادة، وأما المخلوق فليس له في العبادة شيء، وأكمل#
المخلوقين وأفضلهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد وسمه سبحانه بالعبودية في أشرف مقاماته في القرآن، في مقام التحدي، وفي مقام الإسراء، وفي مقام الكفاية، وفي مقام الدعوة قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] وقال - صلى الله عليه وسلم - : «ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله» (1) .
وقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» (2) فحق النبي - صلى الله عليه وسلم - محبته المقدمة على محبة النفس والولد والوالد والأهل والمال، وتصديقه وطاعته، وكذلك أولياء الله تجب محبتهم والإقرار بفضائلهم على اختلاف مراتبهم، وما يجريه الله على أيديهم من الكرامات وخوارق العادات، ولا ينكر كرامات الأولياء إلا أهل البدع، لكن يجب أن يفرق بين أولياء الله وغيرهم.
__________
(1) رواه النسائي بسند جيد.
(2) رواه البخاري ومسلم.(1/290)
فإن أولياء الله هم المتقون العاملون لله بطاعته كما قال تعالى في وصفهم {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63] فمن كان مؤمنًا تقيًا كان لله وليًا ليس إلا فأما ما يفعله ويدعيه كثير من الناس الذين هم في الحقيقة من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن، وما يدعونه من الدعاوي الكاذبة فنفس دعواه أنه يفعل كذا وكذا كافية في بيان حاله وأنه ليس من أولياء الله، كما هو مبين وموضح، كما هو في كتب أهل العلم من أهل الحق، فيجب أن يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لأن ذلك مما التبس فيه الأمر على كثير من الناس والحمد لله أولاً وآخرًا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.#
مناظرة بين علماء مكة وعلماء نجد
قال محرر أم القرى في العدد الثاني منها الصادر في يوم الجمعة الموافق (15/ 5/ 1343) هـ.
ذكرنا في غير هذا المكان من هذا العدد أن علماء نجد وعلماء البلد الحرام طلبوا الاجتماع بعضهم مع بعض ليشرح كل فريق ما عنده من العقائد لأخيه وقد اجتمعوا للمداولة في ذلك صباح الاثنين من هذا الأسبوع فدار الحوار بينهم في المسائل الأصولية من العقائد ولم يختلفوا في أصل من أصولها ووقع الجدال في المسائل الفرعية، ثم اتفقوا على نشر البيان الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، و الصلاة والسلام على من لا نبي بعده:(1/291)
من علماء حرم الله الشريف وأئمته الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي والشيخ عمر باجنيد أبي بكر والشيخ درويش عجمي والشيخ محمد مرزوقي والشيخ أحمد بن علي النجار، والشيخ جمال المالكي، والشيخ عباس المالكي، والشيخ حسين بن سعيد بن محمد بن سعيد عبد الغني، والشيخ حسين مفتي المالكية، والشيخ عبد الله حمدو والشيخ عبد الستار والشيخ سعد وقاص والشيخ عمر بن صديق خان والشيخ عبد الرحمن الزواوي إلى من يراه من علماء الحكومات الإسلامية وملوكهم وأمرائهم.
أما بعد: فقد اجتمعنا نحن المذكورين مع مشايخ نجد حين قدومهم إلى الحرم الشريف مع الإمام عبد العزيز حفظه الله، وهم الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد الله بن عبد الوهاب بن زاحم، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود والشيخ محمد بن عثمان الشاوي والشيخ مبارك بن عبد المحسن بن باز، والشيخ إبراهيم بن ناصر بن حسين، فجرى بيننا وبين المذكورين و المحترمين مباحثة، فعرضوا علينا عقيدة أهل نجد وعرضنا عليهم عقيدتنا فحصل الاجتماع بيننا وبينهم بعد البحث والمراجعة في مسائل أصولية منها أن من أقر بالشهادتين وعمل بأركان الإسلام الخمسة ثم أتى بمكفر ينقض إسلامه قولي أو فعلي أو اعتقادي أنه يكون كافرًا بذلك يستتاب ثلاثًا فإن تاب وإلا قتل، ومنها من جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه#(1/292)
يدعوهم في جلب نفع أو دفع ضر أو يقربونه إلى الله زلفى أنه كافر يحل دمه وماله، ومن طلب الشفاعة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أن ذلك شرك فإن الشفاعة ملك لله ولا تطلب إلا منه ولا يشفع أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وهو لا يأذن إلا فيمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وهو لا يرضى إلا التوحيد والإخلاص، ومنها تحريم البناء على القبور وإسراجها وتحري الصلاة عندها أن ذلك بدعة محرمة في الشريعة، ومنها أن من سأل الله بجاه أحد من خلقه فهو مبتدع مرتكب حرامًا، ومنها أنه لا يجوز الحلف بغير الله لا الكعبة، ولا الأمانة ولا النبي ولا غير ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من حلف بغير الله فقد أشرك» (1) فهذه المسائل كلها لما وقعت المباحثة فيها حصل الاتفاق بيننا وبين المذكورين ولم يحصل خلاف في شيء فاتفقت بذلك العقيدة بيننا معاشر علماء الحرم الشريف وبين إخواننا علماء أهل نجد، نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه آمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، ، ،#
مراجع كتاب (تذكير المسلمين بتوحيد رب العالمين)
1- تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
2- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن السعدي.
3- رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - للنووي.
4- كتاب القول السديد في مقاصد التوحيد للشيخ عبد الرحمن السعدي.
5- مجموعة التوحيد لجماعة من العلماء.
6- شرح العقيدة الطحاوية للشيخ علي بن محمد بن أبي العز الحنفي.
7- تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ.
8- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جـ 1.
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.(1/293)
9- القواعد الحسان لتفسير القرآن للشيخ عبد الرحمن السعدي.
10- مجموع الرسائل المفيدة المهمة في أصول الدين وفروعه لجماعة من العلماء.
11- الخطب المنبرية للشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان.
12- حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة للشيخ محمد بن صالح العثيمين.
13- معنى لا إله إلا الله ومقتضاها وآثارها في الفرد والمجتمع للدكتور صالح بن فوزان الفوزان.
14- الفواكه الشهية للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله.
15- رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
16- مجموع سبع رسائل للشيخ عبد الرحمن الحماد العمر وفقه الله.
17- الكواكب النيرات للمؤلف.
18- تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن لابن سعدي.
19- كلمات مختارة للمؤلف.
20- بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين للمؤلف.
21- أصول المنهج الإسلامي للشيخ عبد الرحمن بن عبد الكريم العبيد.
22- خطب الشيخ محمد بن صالح العثيمين.#
23- مجموعة رسائل وفتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز.
24- الجامع الفريد لرسائل وفتاوى في التوحيد لأئمة الدعوة.
25- بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله.
26- رسالة سؤال وجواب في أهم المهمات للشيخ ابن سعدي.
27- كتاب الكبائر للشيخ الحافظ الإمام الذهبي رحمه الله.
28- توضيح الكافية الشافية للشيخ ابن سعدي.
29- العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
30- لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لموفق الدين ابن قدامة.
31- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن القيم.
32- طبقات الحنابلة لأبي يعلى.
33- المجموعة العلمية السعودية من درر علماء السلف الصالح.
34- منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري.
35- ديوان ابن مشرف.
36- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان لابن سعدي.
37- ديوان الصنعاني.
38- الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة في العقائد والفنون المتنوعة الفاخرة للشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله.(1/294)
39- الثمار اليانعة من الكلمات الجامعة للمؤلف.#
فهرس كتاب
تذكير المسلمين بتوحيد رب العالمين
الموضوع ... الصفحة
تمهيد ... ... 5
مقدمة تشمل على صفوة عقيدة أهل السنة وخلاصتها ... ... 7
تعريف التوحيد ... ... 12
التوحيد الذي دعت إليه الرسل ... ... 13
قاعدة في تسمية دين الإسلام توحيدا ... ... 13
فضل التوحيد وفوائده ... ... 14
قاعدة في طريقة القرآن في تقرير التوحيد ونفي ضده ... ... 14
قاعدة ربوبية الله في القرآن على نوعين عامة وخاصة ... ... 17
قاعدة أعظم الأصول التي يقررها القرآن توحيد الألوهية ... ... 19
أنواع التوحيد ... ... 20
أنواع الشرك ... ... 22
أنواع الكفر ... ... 23
أنواع النفاق ... ... 23
ما يجب على المسلم معرفته والعمل به ... ... 25
أربع قواعد مهمة في التوحيد ... ... 34
معنى الشهادتين ومقتضاهما ... ... 37
وجوب عبادة الله وبيان معناها 1 ... ... 40
بيان معنى العبادة وأهميتها 2 ... ... 44
وجوب طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ... ... 48
حق الله تعالى ... ... 51
مكانة لا إله إلا الله في الحياة ... ... 53
فضل كلمة التوحيد لا إله إلا الله ... ... 54
ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في فضل من قال لا إله إلا الله ... ... 57
معنى كلمة التوحيد وتضمنها الكفر بما يعبد من دون الله ... ... 58
معنى كلمة التوحيد أيضًا ... ... 60
وجوب معرفة الله وتوحيده ... ... 61
العبادة في الإسلام حقيقتها وشمولها 3 ... ... 63
وجوب إخلاص العبادة للله وحده ... ... 66
عقيدة أهل السنة والجماعة ... ... 71
توحيد الله بربوبيته وإلهيته ... ... 73
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ... ... 75
توحيد الله بالأدلة ... ... 77
قرب الله ممن دعاه وأسباب إجابة الدعاء ... ... 80
أعظم آية في كتاب الله تعالى ... ... 82
ثواب الإيمان والعمل الصالح ... ... 85
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وإرشاد الله إلى دعائه واستجابته ... ... 86
أجل شهادة على أجل مشهود عليه ... ... 88
الإسلام هو الدين المقبول المرضي عند الله تعالى ... ... 89
انفراد الله بالملك والتصرف وقدرته على كل شيء ... ... 92
مفاتيح الغيب وإحاطة علم الله بكل شيء ... ... 94
من أدلة التوحيد ... ... 95
فصل في أن لا يسأل العبد إلا الله ... ... 98(1/295)
من أصول الدين وقواعده ... ... 100
قاعدة تحرك القلوب إلى الله تعالى ... ... 101
من آيات الله ومخلوقاته ... ... 103
من الفروق بين الخالق والمخلوق ... ... 105
وجوب الإيمان بالله عز وجل ... ... 107
فضل الشهادتين ... ... 108
حقيقة لا إله إلا الله ... ... 109
شروط لا إله إلا الله ... ... 111
أقسام التوحيد ... ... 115
نواقض الإسلام ... ... 118
تفسير سورة قل يا أيها الكافرون ... ... 122
تحقيق التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك ... ... 123
التحذير من الشرك في عبادة الله تعالى ... ... 127
عدم مغفرة الله لمن لقيه وهو مشرك ... ... 131
تنبيه على مسألة الحلف بغير الله ... ... 133
تحريم الحلف بغير الله ... ... 134
الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ... ... 134
حكم بناء المساجد على القبور ... ... 136
مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبن على حجرته ... ... 137
التغليظ في بناء المساجد على القبور ... ... 137
النهي عن الصلاة في المقبرة ليس معللا بنجاسة القبر ... ... 139
تفسير سورة الإخلاص ... ... 141
من أصول الإيمان ... ... 144
أسماء الله الحسنى ... ... 146
صفة الإيمان بالله على وجه التفصيل ... ... 147
شهادة الحق ... ... 148
من أسماء الله الحسنى ... ... 149
مجمل عقيدة أهل السنة والجماعة ... ... 152
عقيدة الفرقة الناجية ... ... 155
توحيد الأنبياء والمرسلين ... ... 161
النوع الثاني: الثبوتي المتضمن شرح أسماء الله تعالى الذي يزيد الإيمان ... ... 162
حقيقة الإلحاد في أسماء رب العالمين وذكر أقسام الملحدين ... ... 174
النوع الثاني من توحيد الأنبياء والمرسلين توحيد الألوهية ... ... 175
الطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله ... ... 176
الإيمان بالقدر ... ... 178
رسالة في العقيدة للإمام أحمد رحمه الله ... ... 180
عقيدة الإمام موفق الدين ابن قدامة ... ... 185
نظم عقيدة أهل السنة ... ... 187
عقيدة الإمام ابن أبي داود ... ... 190
نظم عقيدة السلف ... ... 193
عقيدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ... ... 194
الأدب مع الله عز وجل ... ... 196
الأمور التي يستمد منها الإيمان ... ... 199
فوائد الإيمان وثمراته ... ... 201
شعب الإيمان ... ... 204
مدح بارئ البرية جل جلاله ... ... 206
الإله الحق (تعقيب) ... ... 208(1/296)
فصل في الإشارة إلى البراهين العقلية الفطرية على ربوبية الله ووحدانيته. ... ... 210
نصيحة في تصحيح العقيدة ... ... 222
البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد ... ... 231
المراجع ... ... 249
الفهرس ... ... 251(1/297)