- كتاب تحقيق المراد فى أن النهى يقتضى الفساد
للحافظ العلائي (1/1)
وما توفيقي إلا بالله أما بعد حمد الله العزيز بباهر كماله القدير بقاهر جلاله الجواد بجزيل نواله الحكيم بجميل فعاله والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وآله صلاة تبلغ قائلها نهاية آماله فإن مسألة إقتضاء النهي الفساد من مهمات الفوائد وأمهات القواعد لرجوع كثير من المسائل الفرعية إليها وتخريج خلاف الأئمة في مآخذهم عليها فعلقتها في هذه الأوراق مبسوطة وذكرت من المباحث ما هي به منوطة والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل والكلام عليها يترتب في فصول (1/60)
الفصل الأول
في مقدمات وتقسيمات يترتب الكلام عليها وفيها مباحث
البحث الأول أن صيغة لا تفعل حصر إستعمالها جماعة من الأئمة في عدة وجوه أحدها التحريم كقوله تعالى ولا تقربوا الزنى وأمثاله وثانيها الكراهة كقوله صلى الله عليه و سلم إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء الحديث وثالثها التحقير كقوله تعالى ولا تمدن عينيك الآية ورابعها الإرشاد كقوله تعالى لا تسألوا عن أشياء (1/61)
وخامسها التحذير كقوله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وسادسها بيان العاقبة كقوله تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون وسابعها اليأس كقوله تعالى لا تعتذروا اليوم الآية وثامنها الدعاء كقوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا ونحوه وتاسعها التسوية كقوله تعالى فاصبروا أو لا تصبروا (1/62)
وعاشرها التهديد كقول السيد لعبده لا تمتثل أمري يهدده بذلك وزاد بعض الحنفية وجها آخر وهو الشفقة كما في قوله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا الدواب كراسي ويمكن رده إلى وجه الكراهة وكذلك التحقير وبيان العاقبة بخلاف بقية الوجوه
ثم الخلاف بين الأئمة مشهور في التحريم والكراهة هل اللفظ حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر أو هو مشترك لفظي أو للقدر المشترك أو يقال بالوقف على ما هو معروف في موضعه والمختار أنه حقيقة في التحريم مجاز فيما عداه
والكلام في أن النهي هل يقتضي الفساد أم لا إنما هو مفرع على أنه للتحريم وأما نهي الكراهة فالذي يشعر به كلام الأكثرين وصرح به جماعة أنه (1/63)
لا خلاف فيه وذلك ظاهر إذ لا مانع من الاعتداد بالشيء مع كونه مكروها ولذلك قال أصحابنا وغيرهم بصحة الصلاة في الحمام وأعطان الإبل ونحوهما مع القول بكراهتها وقد وقع فى كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى ما ينافي هذا فإن أصحابنا اختلفوا في النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة هل هو للتحريم أو للتنزيه
والأصح عند الجمهور أنه للتحريم ثم ذكروا وجهين في أنها إذا أحرم بها في هذه الأوقات هل تنعقد أم لا والأصح أنها لا تنعقد كالصوم في يوم العيد فالذي يظهر أن هذين الوجهين مفرعان على أن النهي للتحريم أو للتنزيه ولذلك اتفق التصحيح على أنه للتحريم وأنها لا تنعقد (1/64)
وقال ابن الصلاح مأخذ الوجهين أن النهي هل يعود إلى نفس الصلاة أم إلى خارج عنها قال ولا يتخرج هذا على أن النهي للتحريم أو للتنزيه لأن نهي التنزيه أيضا يضاد الصحة إذا رجع إلى نفس الصلاة لأنها لو صحت لكانت عبادة مأمورا بها والأمر والنهي الراجعان إلى نفس الشيء متناقضان انتهى كلامه
وهذا مأخوذ من كلام الإمام الغزالي في المستصفى فإنه قال كما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب فلا يدخل مكروه تحت الأمر حتى يكون شيء واحد مأمورا به مكروها إلا أن تنصرف الكراهة عن ذات المأمور إلى غيره ككراهة الصلاة في الحمام وأعطان الإبل وذكر بقية كلام
فتحصلنا على قولين في أن نهي التنزيه إذا كان لعين الشيء هل يقتضي الفساد أم لا وفي نهي التنزيه نظر لأن التناقض إنما يجيء إذا كان النهي للتحريم وعلى تقدير اعتبار ما ذكره الغزالي وابن الصلاح فذلك التضاد إنما يجيء فيما هو واجب خاصة لما بين الوجوب والكراهة من التباين
فأما الصحة مع الإباحة كما في العقود المنهي عنها تنزيها فلا تضاد حينئذ والفساد مختص بما كان النهي فيه للتحريم والله أعلم (1/65)
البحث الثاني النهي عن الشيء ينقسم ظاهرا إلى ثلاثة أقسام أحدها ما يرجع إلى ذات المنهي عنه كالكذب والظلم ونحوهما وثانيها ما يرجع إلى غيره كالنهي عن البيع وقت النداء وعن النجش وما أشبههما وثالثها ما يرجع إلى وصف المنهي عنه كصوم يوم النحر وبيع الربويات على الوجه المنهي عنه والوطء في حالة الحيض والطلاق فيه أيضا
فالصوم من حيث انه صوم مشروع لكن من حيث إيقاعه في يوم العيد منهي عنه والبيع مشروع من حيث الجملة لكن من حيث إيقاعه انه وقع مقرونا بشرط فاسد أو بزيادة في المال الربوي ممنوع وكذلك الوطء والطلاق حالة الحيض وفيهما نظر يأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى والعلماء مختلفون في الحكم بالفساد وعدمه في هذه الأقسام كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وينقسم أيضا من وجه آخر إلى ما يتعلق بالعبادات وما يتعلق بالمعاملات وكل منهما ينقسم إلى الأقسام الثلاثة الأولى (1/66)
وعبر الحنفية عن الأقسام الثلاثة التي ذكرناها بعبارة أخرى فقالوا النهي عن الشيء إما لعينه أو لغيره
فالأول ينقسم إلى وضعي كالعبث والسفه وشرعي كبيع الحر والمضامين والملاقيح والصلاة بغير طهارة لارتفاع أهلية الأداء شرعا والثاني ينقسم إلى مجاور ووصف لازم فالمجاور كالوطء في الحيض والبيع وقت النداء وكصوم يوم النحر والصلاة في الدار المغصوبة والوصف اللازم كبيع الربوي متفاضلا أو بنسيئة وسائر العقود الفاسدة وعد بعضهم صوم يوم النحر من هذا القسم وسيأتي ما يترتب على هذا التقسيم وما يرد عليه أن شاء الله تعالى
البحث الثالث المعني بالفساد الآتي ذكره عند كل من قال به هو ما ذهب إليه في تفسير الفساد ولهم في ذلك اختلاف والكلام في طرفين الأول ما يتعلق بالعبادات وتفسير لفظ الفساد مترتب على ما يقابله وهو الصحة والذي ذهب إليه المتكلمون أن المعني بالصحة في العبادة كونها موافقة لأمر الشارع في ظن الفاعل لا في نفس الأمر (1/67)
وعند الفقهاء المراد بالصحة فيها إسقاط القضاء والفساد مقابل للصحة على التفسيرين فعلى هذا يتخرج صلاة من ظن أنه متطهر ثم تبين أنه ليس كذلك فعند المتكلمين هي صحيحة لأنها وقعت موافقة لأمر الشارع في ظنه
وعند الفقهاء هي باطلة لأنها لم تسقط القضاء وعكسها صلاة من صلى خلف الخنثى المشكل ثم تبين أنه رجل إذا فرع على أحد القولين للشافعي في انه لا يجب القضاء لكن الراجح خلافه فإنها على اصطلاح الفقهاء صحيحة على هذا القول لإسقاطها القضاء وعند المتكلمين باطلة لأنها ليست موافقة لأمر الشرع
وذكر القرافي أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو في التسمية وأما الأحكام فمتفق عليها عند الفريقين لأنهم اتفقوا على أنه موافق لأمر الله تعالى وأنه مثاب عليها وأنه لا يجب عليه القضاء إذا لم يطلع على الحدث وأنه يجب القضاء إذا تبينه
قال وإنما اختلفوا في وضع لفظ الصحة هل يضعونه لما وافق الأمر (1/68)
سواء وجب القضاء أو لم يجب أو لما لا يمكن أن يتعقبه قضاء وهذا فيه نظر من جهة مسألة الصلاة خلف الخنثى المشكل التي أشرنا إليها ولا يلزم من اتفاقهم على ما ذكر من الأحكام أن يكون الخلاف في التسمية لأنه ثم أحكام أخر غير هذه
وقد ذكر الأصفهاني شارح المختصر فيه أن مما يتخرج على هذا الخلاف صلاة من لم يجد ماء ولا ترابا إذا صلى على حسب حاله وقلنا بالراجح من المذهب انه يجب عليه الإعادة قال فتلك الصلاة صحيحة على اصطلاح المتكلمين فاسدة على اصطلاح الفقهاء قلت وفي ذلك وجهان لأصحابنا حكاهما إمام الحرمين والمتولي وبنى عليهما لو حلف لا يصلي فصلى (1/69)
كذلك ولكن هذا القول يؤدي إلى أن نقول كل صلاة فعلت لحرمة الوقت ولم يسقط بذلك فرضها بل كان قضاؤها واجبا تكون فاسدة عند الفقهاء ولا يكون الفساد في العبادة دائرا مع ارتكاب المنهي عنه وجودا وعدما بل قد يكون لاختلال شرط أو ركن مع كونه مأمورا بفعل العبادة في الوقت لحرمته لكن يشكل على هذا أن يقال كيف يؤمر بعبادة هي فاسدة ولا يسمحون بإطلاق الفاسد في مثل هذا بل قد صرحوا فيه بالصحة وللنظر هنا مجال وسيأتي مزيد بحث في ذلك إن شاء الله تعالى
الطرف الثاني فيما يتعلق بالمعاملات والذي ذكره جمهور أئمة الأصول أن الصحة فيها عبارة عن ترتب ثمرة ذلك العقد المطلوبة منه والمراد بالفساد أن لا يترتب عليه ذلك والمراد بالثمرة أثر كل عقد بحسبه فأثر البيع التمكن من الأكل والوطء والهبة والوقف ونحو ذلك وثمرة الإجارة التمكن من المنافع وفي القراض عدم الضمان واستحقاق الربح وفي النكاح التمكن من الوطء والطلاق إلى غير ذلك من أنواع العقود
واعترض بعضهم على ذلك بأن المراد من ثمرات العقود إما الكل أو البعض والأول باطل لأن المبيع في زمن الخيار والمبيع قبل قبضه لا يترتب عليه ثمراته مع أن العقد صحيح وكذلك إذا باع الدار المأجورة والعبد الجاني وقلنا بصحة البيع فيهما (1/70)
وإن كان المراد بالثمرات بعضها فذلك البعض إما معين أو أي بعض كان والأول باطل اتفاقا وأيضا ليس في اللفظ ما يشعر به
والثاني يرد عليه ترتب بعض آثار العقد الفاسد كالقراض والوكالة الفاسدين فإن التصرف فيهما يصح وهو بعض ثمرات العقد فيكون الحد غير مانع
ويمكن الجواب عنه بأن المراد به جميع ثمرات العقد وليس المعني به الترتيب بالفعل بل بالقوة وتخلف ذلك عن المبيع قبل القبض أو في زمن الخيار لا يرد لأن العقد وإن كان صحيحا لكنه لم يتم حتى يتمكن المشتري من جميع التصرفات فتخلف ذلك لمانع عارضه لا لفساد العقد
وأيضا فجواز تصرف العامل والوكيل في القراض والوكالة الفاسدين ليس من ثمرات العقد بل من ثمرات الأذن الذي اشتمل عليه العقد ولهذا يسقط المسمى ويرجع فيه إلى أجرة المثل وكذلك القول في الخلع والكتابة الفاسدين ليس النفوذ فيهما من ثمرات العقد بل من التعليق الذي اشتمل العقد عليه فلم يترتب في هذا على العقد الفاسد شيء ولهذه العقود عدل بعضهم عن العبارة المتقدمة فقال المراد من كون العقد صحيحا أن يكون مستجمعا لجميع أركانه وشرائطه ومن كونه فاسدا أن لا يكون كذلك ليشمل الحد جميع ما أشرنا إليه ورجح هذه العبارة قائلها بمناسبتها للمعنى اللغوي فان الصحة في اللغة ضد السقم فالصحيح من الحيوان ما هو على الحالة الطبيعية التي هي أكمل أحواله والفساد هو الخروج عن ذلك فالعقد المستجمع لأركانه وشرائطه صحيح (1/71)
لأنه على أكمل أحواله وما نقص فيه شيء من ذلك كان فاسدا لخروجه عن ذلك ويمكن أن تجعل هذه العبارة شاملة للعبادات والمعاملات جميعا فيقال كون كل منهما صحيحا هو ما استجمع جميع أركانه وشرائطه لكنه يحتاج إلى أن يزاد في العبادة مع القدرة عليها حتى لا ترد صلاة المريض قاعدا عند مشقة القيام وأمثاله وكذلك من صلى إلى غير جهة القبلة بالاجتهاد ثم تبين الخطأ إذا قلنا بأنه لا يلزمه الإعادة وهاتان العبارتان إنما هي على قاعدة أصحابنا
والجمهور في عدم التفرقة بين الباطل والفاسد وأنهما مترادفان يطلق كل منهما في مقابلة الصحيح
وأما الحنفية فإنهم فرقوا بينهما وخصصوا اسم الباطل بما لا ينعقد بأصله كبيع الخمر والحر والفاسد بما ينعقد عندهم بأصله دون وصفه كعقد الربا فإنه مشروع من حيث انه بيع وممنوع من حيث انه عقد ربا فالبيع الفاسد عندهم يشارك الصحيح في إفادة الملك إذا اتصل بالقبض
وحاصل هذا أن قاعدتهم انه لا يلزم من كون الشيء ممنوعا بوصفه أن يكون ممنوعا بأصله فجعلوا ذلك منزلة متوسطة بين الصحيح والباطل وقالوا الصحيح هو المشروع بأصله ووصفه وهو العقد المستجمع لكل شرائطه والباطل هو الممنوع بهما جميعا والفاسد المشروع بأصله الممنوع بوصفه
ومذهب الشافعي وأحمد وأصحابهما أن كل ممنوع بوصفه فإنه ممنوع بأصله وستأتي المسألة مبسوطة إن شاء الله تعالى غير أن الذي يخص هذا الموضع (1/72)
بيان فساد هذا الاصطلاح وذلك من جهة النقل فان مقتضى هذه التفرقة أن يكون الفاسد هو الموجود على نوع من الخلل والباطل هو الذي لا تثبت حقيقته بوجه وقد قال الله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسمى السموات والأرض فاسدة عند تقدير الشريك ووجوده ودليل التمانع يقتضي أن العالم على تقدير الشريك ووجوده يستحيل وجوده لحصول التمانع لا انه يكون موجودا على نوع من الخلل فقد سمى الله تعالى الذي لا تثبت حقيقته بوجه فاسدا وهو خلاف ما قالوه في الفرق بين الباطل والفاسد وان كان مأخذهم في التفريق مجرد الاصطلاح مطالبون بمستند شرعي يقتضي اختلاف الحكم المرتب عليهما
فعلم بهذا أن مراد الجمهور بقولهم النهي يقتضي الفساد هو البطلان وأما الفساد على اصطلاح الحنفية فلا وان مراد الحنفية في أن بعض أنواع النهي يقتضي الفساد ليس هو البطلان كما سيأتي بيانه
وأما المالكية فتوسطوا بين القولين ولم يفرقوا بين الباطل والفاسد في التسمية ولكنهم قالوا البيع الفاسد يفيد شبهة الملك فيما يقبل الملك فإذا لحقه أحد أربعة أشياء تقرر الملك بالقيمة وهي حوالة الأسواق وتلف العين ونقصانها وتعلق حق الغير بها على تفصيل لهم و فروع هي مبسوطة في كتبهم والله أعلم (1/73)
الفصل الثاني
في نقل المذاهب في هذه المسألة وللعلماء في ذلك اختلاف كثير والذي وقعت عليه من كلام المصنفين في هذه المسالة على أقسام
أحدهما قول من أطلق الخلاف في المسألة ولم يفصل فقال الأستاذ أبو بكر بن فورك الذي ذهب إليه أكثر أصحاب الشافعي وأبي حنيفة أن النهي يقتضي الفساد وقال إمام الحرمين في البرهان ذهب المحققون إلى أن الصيغة المطلقة في النهي تتضمن فساد المنهي عنه (1/74)
وخالف في ذلك كثير من المعتزلة وبعض أصحاب أبي حنيفة
وقال القاضي الماوردي في كتابه الحاوي والنهي إن تجرد عن قرينة كان محمولا عند الشافعي على التحريم وفساد المنهي عنه إلا أن يصرفه دليل غيره
وقال الإمام أبو نصر بن الصباغ في كتابه العدة النهي يدل على فساد المنهي عنه بظاهره وعلى التحريم ويجوز أن يصرف عن ظاهره بدليل وقال قوم من أصحابنا لا يدل على فساد المنهي عنه وهو مذهب أكثر المتكلمين وذهب متأخروهم إلى أنه يدل على فساد المنهي عنه في العبادات دون العقود والإيقاعات (1/75)
وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي في شرح اللمع النهي يقتضي فساد المنهي عنه على قول أكثر أصحابنا
وقال أبو بكر القفال لا يدل عليه وللشافعي رحمه الله كلام يدل عليه وهو قول أبي الحسن الكرخي من الحنفية واكثر المتكلمين من الأشاعرة
وقال بعض أصحابنا إن كان النهي يختص بالمنهي عنه كالصلاة في السترة النجسة دل على فساده وإن كان لا يختص بالمنهي عنه كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب الحرير والبيع وقت النداء لا يدل على فساده انتهى (1/76)
وقال القاضي عبد الجبار من المعتزلة في ملخصه ذهب أكثر الفقهاء إلى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه وذهب أهل الأصول إلى أنه لا يدل على ذلك ومن ذهب إلى المذهب الأول اختلفوا فمنهم من قال لا يدل باللغة ولكن بدليل شرعي ومنهم من قال يدل على الفساد بموضوعه في اللغة وقال ابن برهان النهي يقتضي فساد المنهي عنه فنقل عن بعض أصحابنا وهو ظاهر كلام الشافعي أنه يقتضي فساد المنهي عنه ونقل عن القفال الشاشي من أصحابنا وأبي الحسن الكرخي أنه لا يقتضيه وعن أبي الحسن البصري أن النهي عن العبادات يقتضي فسادها وأما عن العقود الشرعية فلا (1/77)
ونقل عن طائفة من المتكلمين أن النهي إن كان لمعنى يخص المنهي عنه كالصلاة في البقعة النجسة فإنه يقتضي فساد المنهي عنه فإن النهي إنما كان لمعنى يختص بالصلاة وهي النجاسة ألا ترى أنه في غير الصلاة لا يمنع من الجلوس في البقعة النجسة وإن كان لمعنى لا يخص المنهي عنه فلا يقتضي فساده كالصلاة في الدار المغصوبة لأنه نهي عن الغصب وذلك لا يخص الصلاة
ونقل عن بعض العلماء أنه إذا كان النهي عن فعل فإذا فعل المنهي عنه أخل بشرط من شرائطه أو ركن من أركانه كالنهي عن الصلاة من غير طهارة دل على فساده وإلا فلا كالنهي عن البيع وقت النداء انتهى
وقال القاضي أبو الوليد الباجي من المالكية النهي عن الشيء يقتضي فساد المنهي عنه وبهذا قال القاضي أبو محمد يعني عبد الوهاب وجمهور أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة والشافعي وبه قال الشيخ أبو بكر بن فورك (1/78)
وقال القاضي أبو بكر والقاضي أبو جعفر السمناني وأبو عبد الله الأزدي وأبو بكر القفال من الشافعية لا يقتضي فساد المنهي عنه
وقال الإمام المازري في شرح البرهان الأكثر من الفقهاء في هذه المسألة على دلالة النهي على الفساد والأكثر من المتكلمين على أنه لا يدل على الفساد وأصحاب الشافعي يحكون عنه القولين فمنهم من نقل عنه ذهابه إلى أن النهي يدل على الفساد ومنهم من استلوح من كلام وقع له مصيره إلى أنه لا يدل على الفساد
والجمهور من مذاهب المالكية كونه دالا على الفساد والذاهبون إلى دلالته على الفساد مختلفون هل ذلك مأخوذ من اللغة أو عن الشرع (1/79)
وقال الإمام أبو نصر القشيري في كتابه قال أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأهل الظاهر وطوائف من المتكلمين النهي عن الشيء يدل على فساده ثم نقل عنهم الخلاف في أن ذلك من جهة اللغة أو الشرع
ثم قال وقال معظم المتكلمين فيما حكاه القاضي أن النهي لا يدل على الفساد ثم أجمعوا على أنه كما لا يدل على الفساد لا يدل على صحته وإجزائه كذا قال وفي نقل هذا الإجماع نظر لما سيأتي من مذهب الحنفية وتبعهم على هذه العبارة في الإطلاق الإمام فخر الدين الرازي وسائر أتباعه واختاروا (1/80)
جميعا أنه يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات كما هو إختيار الغزالي وأبي الحسين البصري
وقال الإمام أبو العباس القرطبي في كتابه الوصول قال قوم النهي يدل على الفساد وهو مذهب مالك على ما حكاه القاضي عبد الوهاب وقال آخرون لا يدل عليه وفرق آخرون فمنهم من قال يدل عليه في العبادات دون المعاملات ومنهم من قال إن كان النهي راجعا لعين المنهي عنه دل وإلا فلا
وقال القرافي في شرح التنقيح في هذه المسألة أربعة مذاهب يقتضي الفساد لا يقتضيه الفرق بين العبادات والمعاملات تفيد الفساد على وجه تثبت معه شبهة الملك وهو مذهب مالك و زاد في شرح المحصول على هذه الأربعة قولا خامسا وهو مذهب أبي حنيفة أنه يدل على الصحة (1/81)
وقال في مذهب مالك إن البيع الفاسد عندهم المنهي عنه يفيد شبهة الملك فإذا اتصل به البيع أو غيره على ما قرروه ثبت الملك فيه بالقيمة وان كانت قاعدتهم أن النهي يدل على الفساد في الأصول غير أنهم راعوا الخلاف في أصل القاعدة في الفروع فقالوا شبهة الملك ولم يخصوا الفساد ولا الصحة جمعا بين المذاهب قلت وهذا يقتضي اختصاص هذا القول بالعقود دون العبادات لكن سيأتي من تفريعاتهم في العبادات ما يؤخذ منه نظير ذلك حيث يقولون بوجوب الإعادة في الوقت خاصة ولا يعيد بعده
وقال الشيخ موفق الدين في الروضة النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها ثم نقل بعد ذلك ثلاثة أقوال أخر وهي (1/82)
أنه لا يقتضي فسادا ولا صحة
وأنه يقتضي الصحة كما قاله أبو حنيفة وانه يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات وكذلك قال أبو الخطاب الحنبلي في كتابه الهداية النهي يدل على فساد المنهي في رواية جماعة يعني عن الإمام أحمد رحمه الله فهذا كلام من وقفت عليه من المصنفين في إطلاق الخلاف أولا في المسألة من غير تقييد
والقسم الثاني من قيد محل الخلاف في كلامه ببعض الصور فقال الإمام الغزالي في المستصفى اختلفوا في أن النهي عن البيع والنكاح والتصرفات المفيدة للأحكام هل يقتضي فسادها فذهب الجماهير إلى أنه يقتضي فسادها وذهب قوم إلى أنه إن كان نهيا عنه لعينه دل على الفساد وإن كان لغيره فلا والمختار أنه لا يقتضي الفساد ثم اختار بعد ذلك في مسألة أخرى أن النهي عن العبادات يقتضي فسادها ولم ينقل فيه خلافا (1/83)
وكذلك قال الآمدي في الأحكام اختلفوا في النهي عن التصرفات والعقود المفيدة لأحكامها كالبيع والنكاح ونحوهما هل يقتضي فسادها أم لا
فذهب جماعة الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وجميع أهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى فسادها لكن اختلفوا في جهة الفساد فمنهم من قال إن ذلك من جهة اللغة ومنهم من قال إنه من جهة الشرع دون اللغة ومنهم من لم يقل بالفساد وهو اختيار المحققين من أصحابنا كالقفال وإمام الحرمين والغزالي وكثير من الحنفية وبه قال جماعة من المعتزلة كأبي عبد الله البصري والكرخي والقاضي عبد (1/84)
الجبار وأبي الحسين البصري وكثير من مشايخهم ولا يعرف خلافا في أن ما نهي عنه لغيره أنه لا يفسد كالنهي عن البيع في وقت النداء يوم الجمعة إلا ما نقل عن مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه
والمختار أن ما نهي عنه لعينه فالنهي لا يدل على فساده من جهة اللغة بل من جهة المعنى ثم قال بعد ذلك في مسألة بعدها إتفق أصحابنا على أن النهي عن الفعل لا يدل على صحته
ونقل أبو زيد عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن أنهما قالا يدل على صحته فظاهر كلام الغزالي والآمدي رحمهما الله تخصيص الخلاف بالعقود المنهي عنها لكن الغزالي صرح بعد ذلك كما تقدم بأن النهي عن (1/85)
العبادة يقتضي الفساد وفي أثناء كلام الآمدي أيضا التصريح بأن النهي عن العبادة لعينها يقتضي الفساد وهذا هو مراد الغزالي لأنه صرح القول بصحة الصلاة في الدار المغصوبة عند الكلام فيها
والقسم الثالث من قيد الخلاف في المسألة على وجه آخر وهو الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله فقسم المنهي عنه إلى ما نهي عنه لعينه وإلى ما نهي عنه لوصفه وحكى في المنهي عنه لعينه خمسة مذاهب أحدها أنه يقتضي الفساد من جهة الشرع لا من مقتضى اللغة وهو القول الذي اختاره وهو الراجح دليلا كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وثانيها أنه يقتضيه من حيث اللغة وجوهر اللفظ والثالث لا يقتضي فسادا ولا صحة والرابع أنه يقتضي الصحة ولم ينقله أولا بل ذكر أدلة القائلين به في أثناء المسألة على عادته في الإختصار وخامسها الفرق بين العبادات والعقود كما تقدم
ثم حكى في المنهي عنه لوصفه ثلاثة مذاهب (1/86)
أحدها أنه يفيد الفساد شرعا كالمنهي عنه لعينه وثانيها أنه لا يفيده وعزاه إلى الأكثر وثالثها قول الحنفية أنه يدل على فساد ذلك الوصف لا فساد المنهي عنه وذكر أن الشافعي رضى الله عنه قال إن النهي عن الشيء لوصفه يضاد وجوب أصله
قال ابن الحاجب وأراد أنه يضاده ظاهرا لا قطعا إذ لو كان قطعا لورد عليه نهي الكراهة كالنهي عن الصلاة في أعطان الإبل والأماكن المكروهة فإنه يلزم حينئذ إذا كان مضادا لوجوب الأصل أن لا تصح الصلاة وليس كذلك فإذا قيل إنه يضاده ظاهرا يكون قد ترك في هذه المواضع الظاهر لدليل راجح وفي كلام ابن الحاجب ما يقتضي إختياره لهذا القول أي إنه يدل على الفساد ظاهرا لا قطعا ومقتضى ذلك أن يكون عنده دلالة النهي عن الشيء لعينه على الفساد قطعا لا من حيث الظاهر وتبعه على هذه التفرقة شراح كتابه لكن زاد البيضاوي في كتابه المرصاد الذي أوضح فيه مختصر ابن الحاجب في المسألة الأولى فقال (1/87)
النهي عن الشيء لعينه وللازمه يقتضي الفساد شرعا وذكر بقية المذهب وأراد بذلك نحو النهي عن الزنا فإنه لدفع محذور اختلاط الأنساب وهو لازم له غالبا أو لدفع ما يترتب عليه من الأنفة والحمية التي توجبها الغيرة وهو لازم له أيضا
وقال في المسألة الثانية النهي عن الشيء لوصفه اللازم كصوم يوم العيد والربا كالنهي لعينه فإن مستلزم الحرام حرام
ولذلك قال الشافعي رحمة الله عليه حرمة الشيء لوصفه تضاد وجوب أصله وهذا تقييد حسن ولا يحتاج بذلك أن يقول ظاهرا إذا جعل ذلك مختصا بالنهي الذي هو للتحريم كما نص عليه الشافعي فلا يرد نهي الكراهة وهذا التفصيل الذي سلكه البيضاوي هو الراجح المختار في هذه المسألة كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى ولم يتعرض ابن الحاجب ومن تبعه للنهي عن الشيء لغيره كالبيع وقت النداء مع أن فيه الخلاف المتقدم عن الحنابلة وغيرهم فهذه الطرق الثلاث هي الموجودة في كتب أصحابنا في نقل هذه المسألة وما فيها من الخلاف
وأما الحنفية فلهم في ذلك عبارة أخرى وهي في الحقيقة راجعة إلى ما تقدم من النقل عنهم ولكن أذكرها لما فيها من الفائدة ولبيان تناقضها فيما بعد إن شاء الله تعالى (1/88)
قالوا مقتضى النهي شرعا قبح المنهي عنه كما أن مقتضى الأمر بشيء تحسينه قال تعالى وينهى عن الفحشاء والمنكر فكان القبح من مقتضياته شرعا لا لغة ثم قسموا المنهي عنه في صفة القبح إلى أربعة أقسام أحدها ما قبح لعينه وضعا كالعبث والسفه والكذب والظلم وثانيها ما التحق به شرعا كبيع الحر والمضامين والملاقيح وثالثها ما قبح لغيره وصفا كالبيع الفاسد (1/89)
ورابعها ما قبح لغيره لمجاورته إياه كالبيع وقت النداء فالقسمان الأولان اقتضى النهي فيهما الفساد والرابع لم يقتضه والثالث يدل على فساد الوصف دون المنهي عنه بل يدل على صحته
واستثنوا من هذا القسم الثالث النهي عن الأفعال التي تدرك حسا كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر فإنها وإن كان النهي عنها لوصفها اللازم لها فهي ملحقة بالمنهي عنه لعينه في اقتضاء الفساد ثم أوردوا على أنفسهم البيع الفاسد والإجارة الفاسدة ونحوهما فإنهما يدر كان بالحس أيضا كالزنى والقتل وأجابوا عن ذلك بالفرق بين ذلك من جهة أن القتل والغصب وأمثال ذلك كان معروفا عند أهل الملل كلها يتعاطونه من غير شرع ويعلمون قبحه بخلاف البيع والإجارة فإنهم وإن كانوا يتعاطون ذلك قبل الشرع فإنما كانوا يتعاطون مبادلة المال بالمال أو المنفعة فأما أن يكون بعت أو اشتريت عقدا عندهم تترتب عليه أحكام شرعية فلا بل إنما عرفت تلك الأحكام بالشرع هذا ملخص قولهم ولا يخفى بطلان هذا الفرق وسيأتي بسط القول في ذلك إن شاء الله تعالى
فيتحصل من مجموع ما تقدم في هذه المسألة عدة مذاهب لا تخفى من كلامهم لكني أشير إليها ملخصة لما في ذلك من الفائدة
الأول أن النهي يقتضي الفساد مطلقا سواء كان عن الشيء لعينه أو (1/90)
لوصفه أو لغيره وسواء كان في العبادات أو المعاملات وهذا مأخوذ من إطلاق من أطلق الكلام أولا في نقل المذاهب ثم فصل بعد ذلك في نقل نعتها والحق أن هذا مذهب للإمام أحمد بن حنبل وكثير من أصحابه وسائر الظاهرية
والثاني أنه لا يقتضي الفساد مطلقا أيضا سواء كان لعينه أو لوصفه أو لغيره أو لاختلال ركن من أركانه أو شرط من شرائطه وسواء كان عبادة أو عقدا وهذا مأخوذ من إطلاق من أطلق ثم فصل القول عن بعضهم بالفرق بين هذه الأمور كما صرح به ابن برهان وغيره ممن تقدم وهو مشكل جدا لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
الثالث أنه يقتضي شبهة الفساد كما حكاه القرافي عن المالكية وظاهر كلامه اختصاص ذلك بالعقود إذا كان النهي عنها لعينها
الرابع أنه يقتضي الصحة إذا كان النهي عنه لوصفه ولم يكن من الأفعال الحسية وأما النهي عن الشيء لعينه فيقتضي الفساد وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وجمهور أصحابهما
الخامس أنه يقتضي الفساد في العبادات دون العقود وهو اختيار الإمام الغزالي والآمدي وغيرهما كما تقدم
السادس أن النهي عن الشيء إن كان لعينه أو لوصفه اللازم له فهو مقتض للفساد بخلاف ما إذا كان لغيره وسواء في ذلك العبادات أو العقود (1/91)
وهذا أرجح المذاهب وأصحها دليلا كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهو الذي ينبغي أن يكون مذهب الشافعي وجمهور أصحابه كما سنبينه إن شاء الله تعالى
السابع الفرق بين ما إذا كان النهي يختص بالمنهي عنه كالصلاة في البقعة النجسة فيقتضي الفساد دون ما لا يختص به كالصلاة في الدار المغصوبة حكاه الشيخ أبو إسحق وغيره
الثامن الفرق بين ما يخل بركن أو شرط فإنه يقتضي الفساد دون ما لا يخل بواحد منهما حكاه ابن برهان
ثم القائلون باقتضاء النهي الفساد في الأقوال الخمسة المتقدمة اختلفوا هل ذلك من جهة اللغة وموضوع اللفظ أو هو مستفاد من الشرع على قولين لهم تقدما والراجح أن ذلك من جهة الشرع لا من حيث اللغة كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى
فيتحصل بهذا الاختلاف زيادة خمسة أقوال أخر
ومن وجه آخر هل يقتضي الفساد قطعا أم ظاهرا فيه مذهبان كما أشعر به كلام ابن الحاجب في المنهي عنه لوصفه ومقتضى هذا أنه لا فرق (1/92)
بين نهي التحريم ونهي التنزيه لكن الصحة جاءت في نهي الكراهة من دليل خارجي وقد صرح بذلك الغزالي وابن الصلاح فيما تقدم أولا ومقتضى كلام غيرهما بل صرح به جماعة كما نقله الشيخ صفي الدين الهندي في نهاية الوصول أن ذلك مختص بالنهي الذي هو للتحريم فيؤخذ من هذا زيادة قولين آخرين من جهة الفرق بين دلالته قطعا أو ظنا ومن جهة الفرق بين نهي التحريم ونهي الكراهة
ويعترض هنا تفصيل آخر في تفسير لفظ الفساد كما تقدم وهل هو في العبادات ما وجب قضاؤه أو ما كان على مخالفة أمر الشرع وهل هو في العقود بمعنى البطلان أم لا فيجيء من هذا أقوال أخر غير ما تقدم ولا يخفى وجه ذلك ولا إلى ما ينتهي عدد المذاهب
وهنا قول آخر أيضا مناف لكل ما تقدم وهو أن من قال من الحنابلة بأن النهي عن الشيء لغيره المجاور له يقتضي الفساد لم يقل بذلك إلا في العبادات والعقود كالصلاة في الدار المغصوبة والبيع على بيع أخيه ولم يطردوا ذلك في الإيقاعات كالطلاق في حالة الحيض وخالف بعض الظاهرية (1/93)
الجمهور أو الإجماع في ذلك فقالوا بأن الطلاق في حالة الحيض لا يقع وكذلك في طهر جامعها فيه فهذا قول آخر وينتهي مجموع المذاهب إلى أكثر من ستة عشر قولا
والراجح المختار منها كلها القول السادس كما تقدم
وفي المسألة أيضا قول آخر لم يتقدم وهو التفرقة بين ما كان النهي عنه حق الله تعالى فيقتضي الفساد وما كان لحق العباد فلا يقتضي الفساد حكاه المازري عن شيخه ولم أظفر به إلا متأخرا وقد ذكرته آخر الكتاب مع الكلام عليه
ثم هنا تنبيهات تتضمنها أبحاث
الأول أن أصحاب الطريقة الأولى على كثرتهم وتحققهم بالإمامة يشكل قولهم أول الكلام أن النهي يقتضي الفساد ولم يفرقوا بين ما كان النهي لعين الشيء أو لغيره وعزوهم ذلك إلى مذهب الشافعي كما تقدم في كلام جماعة منهم واختيار آخرين مع أن المنهي عنه لغيره لا يقتضي ذلك النهي فساده عند الشافعي وجمهور العلماء سواء كان في العبادات كالصلاة في الدار المغصوبة والثوب الحرير أو في العقود كالنهي عن البيع على بيع أخيه والخطبة على خطبته وبيع الحاضر للبادي ونحو ذلك
فإن قيل مرادهم بذلك ما إذا كان النهي عن الشيء لعينه لأنهم صرحوا في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة بصحتها وذكروا الخلاف عن أحمد (1/94)
قلت هو وارد عليهم من جهة إطلاق القول في موضع التفصيل وخصوصا من نقل بعد ذلك القول بالتفصيل بين ما كان عن الشيء لعينه أو لغيره كالشيخ أبي اسحق وابن برهان والقرطبي فان مقتضى هذا التفصيل أن يكون القول الأول لا فرق فيه بين المنهي عنه لعينه أو لغيره نعم لا يرد على مثل الآمدي الذي صرح بذلك بعد إطلاقه أولا ولا على إمام الحرمين وأبي نصر بن القشيري لأنهما ذكرا في صدر المسألة الكلام في الصلاة بالدار المغصوبة وبعد تقريرها عاد إلى مسألة اقتضاء النهي الفساد فكان ذلك مشعرا بالتفرقة بين الأمرين والحق أن إطلاق القول بذلك من غير تفصيل إنما هو مذهب الحنابلة والظاهرية كما تقدم
الثاني أن إطلاق القول بأنه لا يقتضي الفساد عمن قال بذلك من غير فرق بين أن يكون المنع من الشيء لاختلال ركن من أركانه أو شرط من شرائطه مشكل أيضا وخصوصا ابن برهان الذي نقل بعد إطلاقه قولا ذهب إليه بعضهم بالتفرقة بين ما يقتضي اختلال ركن أو شرط دون ما لا يخل بهما فإن مقتضى هذا أن القائلين بالقول المتقدم لم يفرقوا بين ما يدل على اختلال الركن أو الشرط وبين غيره وهذا بعيد جدا ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف وإن كان فيه فهو غير معتد به إذ يمتنع أن لا يكون له دلالة على الفساد مع دلالته على اختلال ركن من أركانه أو شرط من شرائطه والفساد حينئذ لازم من لوازمه وإلا لزم من ذلك وجود الكل بدون الجزء ووجود المشروط (1/95)
بدون الشرط وهو ممتنع نعم من يقول بالصحة في بعض الصور فإنما ذلك مبني على أن ذلك المختل بسبب النهي ليس بشرط عنده كقراءة الفاتحة في الصلاة عند الحنفية والطهارة في الطواف على رأيهم لا أن ذلك ركن أو شرط ثم لا يكون النهي الدال على اختلاله دالا على الفساد
الثالث إن القائلين بأن النهي عن العقود لا يدل عل فسادها من غير تفرقة بين النهي عن الشيء لعينه أو لغيره قولهم مشكل جدا ولا سيما من صور أصل المسألة بالعقود وذكر قول من فرق بين المنهي عنه لعينه أو لغيره ثم اختار انه لا يدل على الفساد مطلقا كالإمام الغزالي فإنه تناقض كلامه في كتبه الأصولية وكتبه الفقهية فاختار في المستصفى ما ذكرناه آنفا وقد تقدم نقل كلامه
وقال في كتابه الوسيط عندنا أن مطلق النهي عن العقد يدل على فساده فإن العقد الصحيح هو المشروع والمنهي عنه في عينه غير مشروع فلم يكن صحيحا إلا إذا ظهر تعلق النهي بأمر غير العقد اتفق مجاورته للعقد كقوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع (1/96)
وقسم المناهي على قسمين الأول ما لم يدل على الفساد كالنهي عن النجش والبيع على بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي ونحوها
ثم قال القسم الثاني من المناهي ما دل على الفساد إما لتطرق خلل إلى الأركان والشرائط التي سبقت أو لأنه لم يبق للنهي تعلق سوى العقد فحمل على الفساد وذكر في هذا القسم النهي عن بيع حبل الحبلة وبيع الحصاة وبيوع الغرر وأشباهها
وكذلك قال في كتابه البسيط والوجيز وهذا التقسيم متفق عليه بين جمهور الأصحاب فلا يستقيم من شافعي إطلاق القول بأن النهي في العقود لا يقتضي الفساد من غير تفصيل
الرابع تقدم أن جمهور المالكية على القول بأن النهي يدل على الفساد كما نقله الباجي والمازري وأنه مذهب مالك كما قاله القاضي عبد الوهاب فيما حكاه عنه القرطبي
وقد حكى ابن شاس في كتابه الجواهر الثمينة عن القاضي عبد الوهاب غير ذلك فقال في الكتاب المذكور وعندنا أن مطلق النهي عن العقد لا يدل على فساده إلا أن يقوم دليل هكذا حكى القاضي أبو محمد عن أهل المذهب واصطلاحه في هذا الكتاب إذا قال القاضي أبو محمد يريد به عبد الوهاب (1/97)
ولعل طريق الجمع بين النقلين أن يكون مرادهم بالأول العبادات وبالمنع العقود كما قيد ابن شاس به كلامه فيكون هذا موافقا لما ذهب إليه الغزالي وغيره من التفرقة بين البابين
وقد تقدم أن القرافي ذكر في كتبه أن مذهب المالكية أنه يفيد الفساد على وجه تثبت معه شبهة الملك وجعل هذا قولا في المسألة على الإطلاق ثم ذكر في أثناء كلامه ما يقتضي اختصاص ذلك بالبيوع الفاسدة خاصة فإنهم قالوا إن الملك لا ينتقل لمجرد العقد الفاسد ولا باتصال القبض به إلا أن يتعقبه الفوات فينتقل حينئذ الملك إلى المشتري الذي فات في يده ويجب عليه ضمانه إما بالمثل إن كان مثليا أو بالقيمة
وأسباب الفوات عندهم أربعة تغير الذات وتغير الملك والخروج عن اليد بالبيع وتعلق حق الغير به فهذه الأسباب إنما تجيء في المبيعات خاصة
ثم إنه لا ينبغي أن يعد هذا منهم خلافا في أن النهي يدل على الفساد لأنهم صرحوا بأنه عقد فاسد وإنما حقيقة هذا الاختلاف راجعة إلى تفسير الفساد ماذا كما جاء في مذهب أبي حنيفة ولهذا أوجبوا رد العين إذا كانت غير تالفة وعند التلف لم يقرروا الثمن الذي ورد العقد عليه بل أوجبوا المثل أو القيمة كضمان الغصوب ونحوها فلم ينشأ ذلك إلا من شبهة العقد وإذن البائع للمشتري في قبض المبيع والتصرف فيه (1/98)
ثم إنهم لم يفرقوا في هذا الحكم بين النهي عن الشيء لعينه أو لغيره بل طردوا ذلك في بيع الملاقيح والمضامين إذا اتصل بالقبض وفاتت في يد المشتري
وكذلك قالوا أيضا في البيع على بيع أخيه والنجش واختلفوا في البيع وقت النداء والمشهور عندهم أنه يفسخ ما لم يفت
وقالوا فيمن خطب على خطبة أخيه بعدما ركن إليه فزوج ثلاثة أقوال
أحدها أنه يفسخ بكل حال قال القاضي عبد الوهاب هو الظاهر من المذهب
الثاني لا يفسخ قاله ابن القاسم وصححه ابن العربي
والثالث الفرق بين ما قبل الدخول وبعده فيفسخ إذا لم يدخل بها
ومقتضى هذا أن النهي لا يدل على الفساد إذ لو كان كذلك لما احتاج العقد إلى فسخ لكن هذا إنما يجيء فيما يكون قابلا للعقد عليه فأما ما لا يقبل العقد بحال كنكاح الخامسة والمعتدة فإنه باطل اتفاقا وكذلك عندهم (1/99)
نكاح الشغار إذا جعل بضع كل واحدة صداقا للأخرى فأما إذا سميا فيه صداقا لكل منهما فيفسخ قبل الدخول عندهم وكذلك بعده على المشهور
وأما في العبادات فالواجبات عندهم فيها منقسمة إلى ما هي شرط وما ليس بشرط كالتنزه عن النجاسة فما كان ليس بشرط لا يقتضي فسادا وإن كان فيه ارتكاب نهي ولهذا اختلفوا فيمن صلى عاريا في الخلوة هل يعيد مطلقا أو في وقت خاصة إذا أدركه على الخلاف في أن الستر هل هو من شروط صحة الصلاة أم لا
فقد تبين أن حقيقة مذهب مالك وأصحابه راجعة إلى قولين في أن النهي هل يقتضي الفساد وعلى ما ذكر القرافي يجيء أيضا في البيوع قول ثالث أنه يقتضي شبهة الفساد والله أعلم
الخامس أطلق جماعة من المصنفين أن النهي عن الشيء يدل على صحته كما تقدم في كلام الآمدي والشيخ موفق الدين والقرافي وليس مذهبهم ذلك في كل منهي عنه على الإطلاق بل في بعض أقسامه كما تقدم من كلامهم وقاعدتهم في ذلك مضطربة جدا فإنهم قالوا في النهي عن صوم يوم العيد أنه يدل على صحته لأن النهي عنه لوصفه لا لعينه فإذا نذره انعقد نذره فإن صام فيه صح وإن كان محرما واتفقوا على أن صلاة الحائض باطلة مع أن النهي عنها (1/100)
أيضا لوصفها بل قالوا بذلك أيضا في مخالفة الأوامر بناء على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فأبطلوا صلاة من يحاذي المرأة في ائتمامها جميعا بإمام واحد لما ذكروا من الحديث عنه صلى الله عليه و سلم أخروهن من حيث أخرهن الله
وكذلك أبطلوا صلاة من عليه أربع صلوات فوائت إذا لم يقدمها على الحاضرة بناء على قوله صلى الله عليه و سلم فليصلها إذا ذكرها ولا ريب في أنه إذا قيل بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده أن هذا نهي عنه لوصفه لا لعينه
واتفقوا على بطلان نكاح المتعة وصحة نكاح الشغار وإن جعلا بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى مع أن النهي عن كل منهما لوصفهما وقالوا إذا فرق القاضي بينهما في النكاح الفاسد قبل الدخول فلا مهر لها عليه ولم يعطوه حكم الصحيح من كل وجه وقالوا إن بيع أم الولد والمكاتب والمدبر باطل لأن التمليك لا يتصور فيه وكذلك إذا جعل واحدا منها عوضا في العقد والبيع بالخمر والخنزير فاسد وبيع السمك في الماء باطل وكذلك ضربة الغائص ونحوه وبيع الملامسة والحصاة أيضا والبيع الذي اقترن به شرط ينافي مقتضاه فاسد ومع ورود النهي في كل هذه الصور إلى غير ذلك من الصور التي يأتي ذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى
والمقصود هنا أنهم لم يقولوا بالصحة في كل الصور المنهي عنها بل إذا (1/101)
كان النهي عنه لوصفه اللازم أو لأمر خارجي عنه ولم يطردوا ذلك في كل منهي عنه لوصفه
السادس أطلق جماعة ممن تقدم القول بأن النهي يقتضي الفساد في العبادات دون العقود ولم يتعرض أحد منهم لغير العقود إلا القليل كابي نصر بن الصباغ فإنه قال دون العقود والإيقاعات وقصد بالإيقاعات الطلاق المحرم كطلاق الحائض وكإرسال الثلاث جميعا على قاعدة الحنفية وكذلك الوطء المحرم كالوطء في الحيض فإنه يحصل به الدخول ويكمل به المهر وكذلك وطء المحرم زوجته ووطء الصائم في نهار رمضان ولهذا كله عبر ابن الحاجب في المختصر عن القول بالتفصيل بأنه يعني النهي يقتضي الفساد في الأجزاء دون السببية وأتى بالسببية ليشمل العقود والإيقاعات والوطء وأشباه ذلك وهي زيادة حسنة لكن ورد عليه بسببها شيء آخر وهو أنه اختار في المسألة أولا أن النهي عن الشيء لعينه يدل على فساده مطلقا ثم أشار إلى قول ثان بالمنع مطلقا ثم ذكر القول الثالث بالتفصيل المشار إليه ومقتضى هذا أن يكون القول الأول يشمل هذه الصور التي ذكرناها في الطلاق والعتق والوطء ويكون النهي عنها يدل على فسادها وأنه اختياره وليس كذلك قطعا فقد تقدم أن الإجماع منعقد على وقوع الطلاق في الحيض وفي طهر جامعها فيه وكذلك إرسال الثلاث ومن (1/102)
خالف في ذلك أو بعضه كالظاهرية والشيعة فخلافهم غير معتد به ولا عبرة بما ذهب إليه بعض المتأخرين في ذلك لانعقاد الإجماع على خلافه قبله
ولا يقال هذه الصور كلها النهي عنها لغيرها فلا يرد على إطلاق ابن الحاجب لأنه صدر المسالة بالنهي عن الشيء لعينه لأنا نقول هذا صحيح في وطء الحائض والطلاق في حالة الحيض وفي طهر جامعها فيه وعتق المرهون ووطئه لأن المنع فيها كلها لأمر خارجي ولا يتم ذلك في إرسال الطلاق الثلاث ووطء الصائم والمحرم فإنه ممنوع منه لوصفه اللازم لا لأمر خارجي وابن الحاجب رحمه الله اختار في المسالة الثانية أن النهي عن الشيء لوصفه كالنهي عنه لعينه في اقتضاء الفساد ولا يقول بالفساد في هذه الصور فترد على إطلاقه بل نقول أيضا أنه قد تقدم أن مذهب أحمد بن حنبل وكثير من أصحابه أن النهي عن الشيء لغيره يقتضي الفساد كالنهي عنه لعينه ولم يقولوا بذلك إلا في العبادات والعقود خاصة كبيع الحاضر للبادي وتلقى الركبان والصلاة في الدار المغصوبة و نحو ذلك
فأما هذه الصور المتقدمة فلم يقولوا به فيها بل الكل متفقون على نفوذها على الوجه المتقدم وإن كانت منهيا عنها
السابع أطلق جمهور المصنفين تصوير المسألة كما تقدم النقل عنهم من غير تقييد والحق أن محل الخلاف إنما هو في مطلق النهي كما قيد به كلامه بعض المتأخرين من أهل التحقيق
فأما النهي الذي اقترن بقرينة تدل على بطلانه أو بقرينة تدل على (1/103)
صحته فلا ينبغي أن يكون فيهما خلاف وإن كانوا قد أطلقوا ذلك لكن مرادهم ما قلناه
فمثال الأول قوله صلى الله عليه و سلم لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تنكح نفسها رواه ابن ماجه والدار قطنى من عدة طرق فقوله صلى الله عليه و سلم فإن الزانية هي التي تنكح نفسها قرينة في أن النهي مقتض للفساد
ومثله أيضا نهيه صلى الله عليه و سلم عن ثمن الكلب ثم قال بعده فإن جاء يطلب ثمنه فاملأ كفه ترابا رواه أبو داود بإسناد صحيح فإن هذا أيضا قرينة في أن النهي يدل على فساد البيع وأنه لا يستحق فيه ثمنا وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يستنجى بروث أو عظم وقال إنهما لا يطهران رواه الدارقطنى وصحح إسناده فلا يمكن أن يكون في شيء من هذا خلاف أنه لا يقتضي الفساد وعد بعض المتأخرين من هذا النوع ما يكون النهي متضمنا لخلل في أركان المنهي عنه أو في (1/104)
شرائطه كما تقدم ومثال الثاني حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه أكل ثوما ثم أتى المسجد فصلى مع النبي صلى الله عليه و سلم فوجد منه ريح الثوم فقال من أكل من هذه البقلة فلا يقربن مسجدنا حتى يذهب ريحها فأخذ المغيرة بيد النبي صلى الله عليه و سلم فأدخلها في صدره فوجده معصوبا من الجوع فقال صلى الله عليه و سلم إن لك عذرا رواه ابن حبان في صحيحه فهذه القرينة وهي عدم أمره صلى الله عليه و سلم المغيرة بإعادة الصلاة ولبسطه عذره دلت في الحديث على أن هذا النهي غير مقتض للفساد
ومثله أيضا قوله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن سبه أحد فليقل إني صائم وفي بعض طرقه لا تساب وأنت صائم (1/105)
وإن سابك أحد فقل إني صائم مع أنه صلى الله عليه و سلم لم بفصل بين أن يكون الساب صائما أو لا يكون صائما فإنه قرينة تدل على أن السب لا يقتضي فساد الصوم
ومنه أيضا النهي عن الشيء لغيره أو لمجاور له عند من يقول بأنه لا يقتضي الفساد فإنه عنده قرينة في ذلك كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى
الثامن تقدم أن الظاهر من مذهب الشافعي أن النهي يدل على الفساد سواء كان لعينه أو لوصفه اللازم وإن من الأصحاب من حكى عنه قولا بخلاف ذلك وبعضهم جعل ذلك مستنبطا من أثناء كلام له استلوح منه أنه لا يدل على الفساد
والذي وجدت في مواضع عديدة نص الشافعي على أنه يدل على الفساد من ذلك قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال الشافعي رحمه الله فمن صلى سكرانا لم تجزه صلاته لنهي الله عز و جل إياه عن الصلاة حتى يعلم ما يقول فإن معقولا أن الصلاة قول وعمل وإمساك في مواضع مختلفة ولا يؤدي هذا كما أمر به إلا من عقله هذا لفظه فيما نقله البيهقي عنه في أحكام القرآن
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة روايتنا من طريق الربيع ابن سليمان عنه وقد ذكر أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة (1/106)
فاحتمل النهي من رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك الساعات عن الصلاة معنيين أحدهما وهو أعمهما أن تكون الصلوات كلها واجبها الذي نسي ونيم عنه و ما لزم بوجه من الوجوه منها محرما في هذه الساعات لا يكون لأحد أن يصلي فيها ولو صلى لم يؤد ذلك عنه ما لزمه من الصلاة كما يكون من قدم صلاة قبل دخول وقتها لم تجز عنه
واحتمل أن يكون أراد به بعض الصلوات دون بعض ثم ذكر بقية الكلام ورجح أن المراد به كل صلاة لا سبب لها
وقال بعد ذلك في موضع آخر منها أيضا كل النساء محرمات الفروج إلا بواحد من المعنيين النكاح وملك اليمين الذين أذن الله تعالى فيهما وسن رسول الله صلى الله عليه و سلم كيفية النكاح الذي تحل به الفروج المحرمة قبله فسن فيه وليا وشهودا ورضا من المنكوحة الثيب وذلك دليل على أن يكون أيضا برضا المتزوج فإذا نقص واحدا من هذا كان فاسدا لأنه لم يؤت به كما سن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر إذا نقص شيء من ذلك وقال فإذا عقد كذلك كان النكاح مفسوخا ونهى الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه و سلم عن (1/107)
النكاح بحالات فذكر بعض ما في القرآن من ذلك ونهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ثم قال فكل نكاح كان من هذا لم يصح وذلك أنه قد نهي عن عقده ومثله أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الشغار وعن نكاح المتعة ونهى المحرم أن ينكح أو ينكح فنحن نفسخ هذا كله من النكاح في هذه الحالات التي نهي عنها بمثل ما فسخنا به ما نهي عنه مما ذكرنا قبله وقد يخالفنا في هذا غيرنا ومثله أن ينكح الرجل المرأة بغير إذنها فتجيز بعد فلا يجوز لأن العقد وقع منهيا عنه
ومثل هذا أيضا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم من بيوع الغرر وبيع الرطب بالتمر إلا في العرايا وغير ذلك مما نهى عنه وذلك أن الأصل مال (1/108)
كل امرئ محرم على غيره إلا بما أحل له وما أحل به من البيوع ما لم ينه عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا يكون ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم من البيوع محلا ما كان أصله محرما من مال الرجل لأخيه ولا تكون المعصية بالبيع المنهي عنه تحل محرما ولا تحل إلا بما لا يكون معصية هذا كله لفظ الإمام الشافعي رض
ثم ذكر بعد ذلك النهي عن شيء في أمر مباح كالنهي عن اشتمال الصماء وعن القران بين التمرتين وأشباه ذلك مما يختص النهي بمورده ولا يتعدى إلى تحريم الأكل رأسا ولا تحريم لبس الثوب على غير هذا الوجه المنهي عنه لأن الأصل في ذلك الإباحة وإنما يعصي في هذا النوع بفعل ما نهي عنه فقط كما أن وطء الزوجة أو الجارية في حالة الحيض أو الصيام لا يحرم عليه أصل الوطء في غير صورة النهي بخلاف النوع الأول لأن أصل مال الرجل محرم على غيره إلا ما أبيح له ولذلك فروج النساء محرمات إلا ما أبيحت به من النكاح أو الملك على الوجه المشروع فإذا لم يوجد ذلك بقي التحريم على أصله (1/109)
هذا معنى كلامه وكل هذا صريح في أن النهي عن الشيء لعينه أو لوصفه اللازم يدل على فساده ويمكن أن يؤخذ من استناده في المنع إلى أصل التحريم في الأموال والفروج أن الفساد لم يأت من مطلق النهي بمجرده بل من الأصل المشار إليه فيكون هذا هو الموضع الذي أخذ منه القول بذلك ولكنه ليس بظاهر الكلام بل الظاهر من تصرفات الشافعي وجمهور أصحابه رحمة الله عليهم أن النهي على الوجه المشار إليه ويدل على الفساد وأن دلالته على ذلك من جهة الشرع لا من جهة اللغة وأن ما نهي عنه لغيره المجاور له لا يقتضي النهي فساده وهذا هو المختار وبالله التوفيق (1/110)
الفصل الثالث
في الأدلة على هذا المختار وما اعترض به عليها وما استدل به المانع لذلك مع الجواب عنه
والكلام في أطراف
الطرف الأول في الأدلة على أن النهي عن الشيء لعينه يدل على فساده من جهة الشرع وذلك من النص والإجماع والمعقول
أما النص فعلى وجهين أحدهما ما يشمل المنهيات عنها كلها بعمومه وذلك في الحديث الذي روته عائشة رض أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد اتفقا عليه في الصحيحين وعند مسلم أيضا في رواية أخرى من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وهذه الرواية أخص بالمطلوب من الرواية الأولى والرد هنا باتفاق أئمة اللغة والحديث بمعنى المردود كالخلق بمعنى المخلوق
وكذلك أيضا جاء في حديث العسيف قوله صلى الله عليه و سلم الماية شاة والخادم رد عليك أي مردود عليك والرد صرف الشيء ورجعه إما بذاته أو (1/111)
بحالة من حالاته ويقال للمرأة المطلقة مردودة و رديد الدراهم ما زيف منها ورد
والمراد بالأمر هنا شرعه صلى الله عليه و سلم وطريقه بدليل الرواية الأولى المتفق عليها ولا شك في أن المنهي عنه ليس من الدين فكان مردودا والمردود هو المفسوخ الذي لا يعمل به ولا يلتفت إليه وهو نقيض المقبول والصحيح يقال رد عبارته إذا لم يقبلها وكذلك رد دعاه ورد كلام الخصم إذا أبطله ولهذا يقال للكتب المصنفة في إبطال كلام أهل البدع كتب الرد عليهم فيكون اللفظ حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز اللذين هما على خلاف الأصل فإذا ورد مجردا عن القرينة وجب حمله على كلا المعنيين إذ لو لم يكن لكان إما أن لا يحمل على واحد منهما أو على أحدهما معينا أو مخيرا والأول باطل بالإتفاق ولأنه يؤدي إلى تعطيل اللفظ والثاني أيضا باطل لأن الحمل على أحد مدلولي اللفظ المتساويين لعينه من غير دليل ترجيح من غير مرجح وكذلك الثالث أيضا لأن الحمل على التخيير إنما يجري فيما يتساوى فيه المعنيان وهنا ليسا متساويين لما سنبينه إن شاء الله تعالى
واعترض على هذا الدليل بوجوه
أحدها أنه من أخبار الآحاد فلا يفيد إلا الظن وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الفقه فلا يحتج فيها إلا بالقاطع وهذا الإعتراض قديم أورده القاضي أبو بكر على هذا الحديث هنا
وثانيها أن الضمير عائد إلى الفاعل ومعنى الكلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فالفاعل رد أي مردود ومعنى كونه مردودا أنه غير مثاب (1/112)
ثالثها أنه وإن عاد إلى المفعول لكنه محمول على ما لا يكون مقبولا أي لا يترتب عليه ثواب ولا يلزم من نفي القبول نفي الصحة ويترجح الحمل على هذا المعنى لما فيه من التعميم لشمول جميع الصور المنهي عنها بخلاف ما إذا حمل على نفي الصحة فإنه يخرج عنه كل فعل منهي عنه حكم بصحته كالطلاق في الحيض والذبح بسكين مغصوب والبيع وقت النداء والصلاة في الأرض المغصوبة والأماكن المكروهة إلى ما لا ينعد كثرة فكان الحمل على نفي القبول أرجح وهذان الإعتراضان ذكرهما الآمدي بأخصر من هذا التقرير
ورابعها قاله الإمام فخر الدين في المحصول إن الطلاق في زمن الحيض يوصف بأمرين أحدهما أنه غير مطابق لأمر الله تعالى والثاني انه سبب للبينونة
أما الأول فالقول به إدخال في الدين ما ليس منه فلا جرم كان ردا وأما الثاني فلم قلت إنه ليس من الدين حتى يلزم منه أن يكون ردا فإن هذا عين المتنازع فيه وأشار إليه الآمدي أيضا بعبارة مختصرة وأصل هذا الإعتراض للإمام الغزالي في المستصفى (1/113)
والجواب عن الأول نمنع أن هذا الحديث لا يفيد إلا الظن بل أحاديث الصحيحين لإجماع الأمة على صحتها وتلقيهم إياها بالقبول تفيد العلم النظري كما يفيد الخبر المحتف بالقرائن وهذا هو اختيار الأستاذ أبي إسحق الاسفراييني وإمام الحرمين وقرره أبو عمرو بن الصلاح وقد ذكرته بدلائله في مقدمة نهاية الأحكام
سلمنا أنه لا يفيد إلا الظن لكن لا نسلم أن هذه المسألة مما يطلب فيها العلم بل هي ظنية ويكتفى فيها بالظن الراجح
سلمنا أنها علمية لكن إذا انضم هذا الحديث إلى ما يأتي بعده أفاد مجموع ذلك العلم إن شاء الله تعالى
وعن الثاني أن عود الضمير إلى الفعل أولى لوجهين أحدهما أنه أقرب مذكور والثاني أن عوده إلى الفاعل يستلزم أن يكون المردود هنا أريد به المجاز لأن حمله على الفاعل بمعنى أنه غير مثاب يكون مجازا بخلاف ما إذا حمل على نفس الفعل لأن رده يكون حقيقة وخصوصا إذا حمل على نفي الصحة والإعتداد به وعدم ترتب أثره عليه
وعن الثالث أن نفي القبول يلزم منه نفي الصحة لأن القبول ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء يقال قبل فلان عذر فلان إذا ترتب على عذره الغرض المطلوب من محو جنايته ولهذا أتى النبي صلى الله عليه و سلم بنفي القبول حيث المراد نفي الصحة مثل (1/114)
لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول وقوله لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار أي من بلغت سن المحيض وأمثاله
لا يقال فقد وردت أحاديث نفي فيها القبول وهي صحيحة
كالعبد إذا أبق لم تقبل له صلاة ومن أتى عرافا وشارب الخمر وغيره لأنا نقول قام هنا دليل من خارج على الصحة ففسرنا القبول فيها بلازمه وهو ترتب الثواب ولا يلزم من ذلك أن يفسر بلازمه في كل الصور إذا لم يقم دليل من خارج على صحة ما حكم برده أو نفي عنه القبول
سلمنا أن نفي القبول لا يلزم منه نفي الصحة لكن لا نسلم تعين الحمل عليه في قوله فهو رد بل حمله على نفي الصحة أولى لوجهين (1/115)
أحدهما أنه هو حقيقة اللفظ أو هو أقرب إلى الحقيقة كما بينا من قبل
وثانيهما أنه أكثر فائدة لأن الحمل على نفي الصحة يلزم منه نفي القبول دون العكس والحمل على الأكثر فائدة أولى أو هو المتعين
وأما الذبح بالسكين المغصوب و طلاق الحائض وما ذكر معها فهو غير معتبر ولا نقض بها علينا لأن النهي فيها كلها لأمر خارجي لا لعينها فالآتي بذلك الفعل المقترن بهذا الخارجي لم يأت به مرتكبا لمنهي بالنسبة إليه بل بالنسبة إلى غيره
وعن الرابع أن الطلاق في الحيض غير وارد لما أشرنا إليه آنفا ولا يرده الإمام فخر الدين بعينه لكنه جاء به على وجه المثال ومراده التعميم في كل الصور بأن يقال مثلا بيع الربوي متفاضلا من هذه الحيثية غير مطابق لأمر الله وأما ترتب أثره عليه فذاك أمر آخر وهو محل النزاع
فيقال في جوابه الحديث مصدر بلفظ من التي هي من صيغ العموم فيعم ذلك كل عمل ليس على طريق الشرع بالحكم عليه أنه مردود ورد الواقع متعذر فيتعين صرفه إلى آثاره ويعم جميع الآثار المترتبة عليه والنقض بالمنهي عنه لغيره غير وارد لما بيناه والله أعلم
الوجه الثاني من الأحاديث ما جاءت مختصة ببعض الصور المنهي عنها فمنها حكمه صلى الله عليه و سلم على المسيء صلاته بالعدم في قوله إرجع فصل فإنك لم تصل (1/116)
ولا معنى للعدم إلا البطلان وعدم الإعتداد بها ولا يقال لو كانت باطلة لم يقره عليها النبي صلى الله عليه و سلم حتى أكملها غير مرة لأنا نقول كان النبي صلى الله عليه و سلم يظن به تحسن صلاته لمجرد الإنكار عليه وتربص به حتى يفرغ لمصلحة التعليم
وروى أبو داود في سننه في قصة المواقع أهله في نهار رمضان أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له وصم يوما مكانه وذلك دليل على فساد الصوم بارتكاب المنهي عنه
ومنها حكمه صلى الله عليه و سلم على البيوع المنهي عنها بالرد والإبطال كما في حديث فضالة رض أتي النبي صلى الله عليه و سلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا حتى تميز بينهما فرده حتى ميز بينهما رواه مسلم وفي سنن أبي داود عن علي رض أنه فرق بين (1/117)
والدة وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك ورد البيع
وفي المستدرك للحاكم عن أبي سعيد أن أم سلمة رضي الله عنها بعثت بصاعين من تمر عتيق واشترت بهما صاع عجوة فقدمته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فتناول منه تمرة ثم سأل عنه فأخبرته بما صنعت فألقى التمرة وقال ردوه ردوه التمر بالتمر مثلا بمثل الحديث وفي صحيح البخاري عن أبي المنهال اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدا بيد ونسيئة فجاء البراء بن عازب (1/118)
فسألناه فقال فعلته أنا وشريكي زيد بن أرقم قال فسألنا النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال أما ما كان يدا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه
وفي الموطأ مرسلا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر السعدين أن يبيعا آنية من المغنم من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة عينا فقال لهما أربيتما فردا
ولا يقال لو كان النهي يقتضي الفساد لم يتعاط الصحابة رضي الله عنهم هذه العقود لأنا نقول يحتمل أن يكون من فعلها منهم لم يبلغه النهي وهذا هو الظاهر أو المتعين (1/119)
لأنه لا يظن بهم الإقدام على المنهي عنه وموضع الدلالة من هذه الأحاديث إبطال النبي صلى الله عليه و سلم تلك البيوع والظاهر أن ذلك لارتكاب المنهي عنه فيها
ومنها قوله صلى الله عليه و سلم إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه رواه أبو داود
وهذا يتضمن الدليل على أن البيع الفاسد لا يتقرر أصلا بوجه ما إذ لو كان كذلك لما حرم التصرف في الثمن مطلقا فهذا يختص بالرد على من يقول إن العقد الفاسد يقر في بعض الصور أو أن النهي يقتضي الصحة إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة
وأما الإجماع فقد تواتر عن الصحابة رضى الله عنهم من وجوه عديدة الاستدلال بالنهي عن الفساد والحكم على المنهي عنه بفساده في وقائع كثيرة يقتضي مجموعها القطع بذلك لاستعمالها على المعنى الكلي المشار إليه ولم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك ولا ذهاب إلى صحة فكل منهي عنه أصلا فكان في ذلك إجماع منهم على أن النهي للفساد
فمن الأول إنكار علي رض على ابن عباس رضي الله عنهما (1/120)
في نكاح المتعة واستدلاله على بطلانه بنهي النبي صلى الله عليه و سلم
وقال ابن عمر رضي الله عنهما كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع ابن خديج أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنها فتركناها (1/121)
واستدل على بطلان نكاح الكتابية بقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وأنكر عبادة بن الصامت على معاوية رضي الله عنهما بيع الذهب بالفضة نسيئة واستدل بنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فرد الناس تلك البيوع التي تبايعوها يومئذ على الوجه المنهي عنه والقصة في صحيح مسلم وكذلك أيضا فعل أبو الدرداء مع معاوية رضي الله عنهما رواه النسائي (1/122)
وأنكر معمر بن عبد الله رض على غلامه بيع الحنطة بالشعير و أمره برده واستدل بنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل رواه مسلم
وفي مصنف ابن أبي شيبة
عن حبيب بن أبي ثابت قال كنت جالسا مع ابن عباس رضي الله عنهما في المسجد الحرام فأتاه رجل فقال إنا نأخذ الأرض من الدهاقين فأعتملها بيدي وبقري فآخذ حقي وأعطيه حقه فقال له خذ رأس مالك ولا ترد عليه شيئا واستدل بنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن المخابرة (1/123)
وعن إسماعيل الشيباني قال بعت ما في رؤوس النخل إن زاد فلهم وإن نقص فعليهم فسألت ابن عمر رضي الله عنهما فقال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك
وأما حكمهم بفساد العبادة أو العقد عند ارتكاب المنهي عنه فيهما فما لا يحصى كثرة كقول حذيفة رض للذي رآه يصلي ولا يحسن الركوع والسجود ما صليت منذ أربعين سنة ولو مت وهذه صلاتك لمت على غير الفطرة وقال بلال رض لآخر مثل ذلك (1/124)
وأمر المسور بن مخرمة رجلا لم يتم ركوعه وسجوده بإعادة الصلاة وصلى عمر رض بالمغرب فلم يقرأ فيها فأعاد الصلاة وصلى أيضا وهو جنب ساهيا فأعاد وكذلك قال علي وابن عمر رضي الله عنهما
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص ما أبالي كانا مصرورين في ناحية ثوبي أو نازعاني في صلاتي يعني الغائط والبول (1/125)
وقال عبد الرحمن بن عوف رض الصائم في السفر كالمفطر في الحضر
وقال ابن عباس رضي الله عنهما إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه واستأنف
وقضى عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وابن عمرو رضي الله عنهم بفساد حج من جامع وهو محرم وثبت عن ابن عباس في قوله تعالى فلا رفث قال هو الجماع
وقال ابن أبي جبلة كانوا يفرقون بين السبايا فيجيء (1/126)
أبو أيوب رضي الله عنه فيجمع بينهم يعني بين الوالدة وولدها في القسمة وأبو أيوب هو الراوي عن النبي صلى الله عليه و سلم قوله من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة رواه الترمذي
ورد عمر رض نكاح من تزوج بغير ولي وفرق بينهما في غير ما قصة وعزر في بعضها الزوج وتزوج رجل امرأة على خالتها فضربه عمر رض وفرق بينهما وقال ابن عمر نكاح العبد بغير إذن سيده زنا وكان يضرب الحد فيه وسئل عن المتعة فقال لا نعلمها إلا السفاح (1/127)
وكذلك قال ابن الزبير رضي الله عنهما
هي الزنا وقال عمر رض لا أوتى برجل تمتع إلا رجمته وقضى هو وعلي رضي الله عنهما في امرأة تزوجت في عدتها أن يفرق بينهما وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما ببطلان بيع الولاء وهبته إلى غير ذلك مما يطول تعداده ولا يقال إن ذلك كان منهم دلالة خاصة دلت على (1/128)
الفساد في هذه الصور الخاصة بأعيانها لأنا نقول الأصل عدم تلك الأدلة كيف وإن شيئا منها لم يوجد وليس إلا المناهي الواردة منها في الكتاب والسنة فالظاهر أن مستند الصحابة رضي الله عنهم في فساد هذه القضايا كلها هو النهي الوارد فيها كما في الصور المتقدمة أولا
وبالجملة كما يعلم إجماعهم على أن الأمر المطلق للوجوب باستقراء استدلالهم في بعض المواضع به ومسارعتهم إلى الامتثال واعتقاد الوجوب في سائرها كذا يعلم إجماعهم على أن النهي يقتضي الفساد باستقراء أحوالهم
فمن عول على هذه الطريقة في أن الأمر للوجوب يلزمه ذلك هنا إذ لا فرق بين الموضعين ومن لم يعول على ذلك فيهما يحتج عليه بأن ذلك إجماع منهم لأن هذه القضايا شاعت بينهم وذاعت من غير نكير مع ما علم من عادتهم وأنهم لا يقرون على باطل
وبهذا يخرج الجواب عما قاله الغزالي وغيره أن هذا حكم من بعض الصحابة فلا يصح إسناده إلى جميعهم لأنا إنما أسندناه إلى الكل بطريق الفعل من بعض والرضا والإقرار من الباقين كما استدل بمثل ذلك في إثبات القياس والتعبد بخبر الواحد وأمثالهما
واعترض فخر الدين في المحصول وأتباعه بعده على هذا بأنه لا نسلم أن الصحابة رجعوا في فساد شيء من المنهيات إلى مجرد النهي
وسند المنع أنهم حكموا في كثير من المنهيات بالصحة فلو قيل بأن (1/129)
تمسكهم في فساد تلك الصور لمجرد النهى لزم أن يكون تخلف الحكم عن هذه الصور التي قيل فيها بالصحة لمانع هذا على خلاف الظاهر والأصل عدمه بخلاف ما إذا قلنا بأن النهي لمجرده لا يقتضي الفساد فإن حكمهم بالفساد في تلك الصور يكون لدليل منفصل وليس فيه ترك للظاهر فكان هذا أولى
والجواب عن ذلك أن الصور التي حكموا فيها بالصحة مع ورود النهي ليس النهي عن شيء منها لعينه ولا لوصفه اللازم فلا يتوجه بها نقض بل جميع تلك الصور التي فيها لأمر خارجي مجاور والمدعى أن الصحابة رضي الله عنهم حكموا بالفساد في كل منهي عنه لعينه أو لوصفه اللازم وهذا غير منتقض بصورة من الصور حكم فيها بالصحة بل أن من المنهي عنه لغيره ما أفتى فيه بعضهم بالفساد أيضا لكنه لم يتفق عليه بل خولف فيه أما صورة من الصور المحتج لها حكم فيها صحابي بالصحة فذلك لا يوجد ومن ادعاه فعليه البيان
قولهم أن الحكم بالفساد يكون لدليل منفصل قلنا نقطع بأن حكمهم به لمجرد النهي كما جاء مصرحا به في الصور المتقدمة وغيرها
قولهم أنها أخبار آحاد قلنا هي متواترة في المعنى كشجاعة علي ووجود حاتم وأمثالهما كما أشرنا إليه فيما تقدم وكل هذه الصور التي ذكرناها مروية الأسانيد في كتب الأئمة فهذا الوجه وحده كاف بالمطلوب مستقل بإثباته وبالله التوفيق (1/130)
وأما المعقول فمن وجوه
الأول أن النهي اقتضاء كف عن فعل ولا يخلو إما أن يكون لمقصود دعا الشارع إلى طلب ذلك الكف أو لا لمقصود
لا جائز أن يقال أنه لا لمقصود
أما على أصول المعتزلة فلأنه عبث والعبث قبيح ولا يصدر من الشارع
وأما على أصول أهل السنة فإنا وإن جوزنا خلو أفعال الله تعالى عن الحكم والمقاصد غير أنا نعتقد أن الأحكام المشروعة لا تخلو عن حكمة ومقصود راجع إلى العبد لكن لا بطريق الوجوب بل بحكم الوقوع تفضلا فالإتفاق واقع على أن الأحكام الشرعية لا تخلو من الحكمة وسواء ظهرت لنا أو لم تظهر وبتقدير تسليم خلو بعض الأحكام عن الحكمة فلا شك أنه نادر والغالب عدم خلوها عن الحكمة وإدراج ما وقع عليه النزاع تحت الغالب هو الأولى فإذا بطل أن يكون ذلك لا لمقصود تعين أن يكون لمقصود من الحكمة معتبر
فالأمر يعتمد المصلحة الخالصة أو الراجحة والنهي يعتبر الكف عن المفسدة الخالصة أو الراجحة فلو قيل بصحة المنهي عنه لكان سببا للحكمة المطلوبة منه فإما أن يكون مقصود النهي راجحا على مقصود الصحة أو مساويا أو مرجوحا لا جائز أن يكون مرجوحا إذ المرجوح لا يكون مطلوبا مقصودا في نظر العقلاء والغالب من الشارع إنما هو التقرير (1/131)
لا التغيير وما لا يكون مقصودا فلا يرد طلب الكف لأجله وإلا كان الطلب خليا عن الحكمة وهو ممتنع كما سبق
وبمثل ذلك يمتنع أن يكون مساويا ولما فيه أيضا من الترجيح بغير مرجح فلم يبق إلا أن يكون راجحا على مقصود الصحة ويلزم من ذلك امتناع الصحة وعدم ترتب آثاره وإلا كان الحكم بالصحة خليا عن حكمة ومقصود ضرورة كون مقصودها مرجوحا وذلك ممتنع كما سبق وهو المطلوب
هذه طريقة الإمام سيف الدين الآمدي في تقرير هذا الدليل وغالبه عين كلامه
وقرره الإمام فخر الدين الرازي بطريقة أخرى وهي أن المنهي عنه لا يجوز أن يكون منشئا للمصلحة الخالصة أو الراجحة وإلا لكان النهي منعا من تلك المصلحة وأنه لا يجوز يعني على الوجه المتقدم من قول أهل السنة أن أحكام الشرع كلها أو غالبها معللة بالمصالح والحكم
ولهذا كانت المناسبة علة في القياس ولكن ذلك ليس على وجه الوجوب بل على وجه التفضل والإحسان فلزم أن يكون المنهي عنه أحد أمور ثلاثة وهو أن يكون منشأ المفسدة الخالصة أو الراجحة أو المساوية
وعلى التقديرين الأوليين يجب الحكم بالفساد لأنه إذا لم يفسد الحكم أصلا كان عبثا والعاقل لا يرغب في العبث ظاهرا فلا يقدم عليه فكان القول بالفساد (1/132)
سعيا في إعدام تلك المفسدة
وعلى التقدير الثالث وهو التساوي يكون الفعل أيضا عبثا وهو محذور عند العقلاء فالقول بالفساد يفضي إلى دفع المحذور فوجب القول به
هذا ما قرره ابن الخطيب وذكره على وجه المعارضة من جانب الخصم القائل بأن النهي يقتضي الفساد في العقود أيضا وفخر الدين لا يقول بذلك إلا في العبادات فأورد هذا الدليل مع غيره على وجه المعارضة ولم يعترض عليه مع أنه اعترض على غيره من أدلة المعارض
واستدل غيره لبطلان التساوي المفضي إلى العبث بأنه إذا تساوت المصلحة والمفسدة لا تبقى فائدة مطلوبة في إيجاب فعله كما لا فائدة في إيجاب تركه لأن الأوامر كلها مشتملة على المصالح أما الخالصة كالإيمان ونحوه أو الراجحة كالجهاد فإنه وإن تضمن إتعاب النفوس واذهابها غالبا وإتلاف الأموال فالمصلحة المقصودة به من إعلاء كلمة الإيمان ومحو الكفر وتأمين المسلمين في ديارهم وغير ذلك راجحة على تلك المفاسد وكذلك النواهي جميعا متضمنة لدرء المفاسد أما الخالصة كالكفر والظلم وأشباههما أو الراجحة كشرب الخمر فإنه وإن تضمن منافع فالمفسدة الخالصة منه راجحة على تلك المنافع كما قال تعالى وإثمهما أكبر من نفعهما فإيجاب (1/133)
أحد المتساويين أو تحريمه من غير مرجح يكون عبثا في نظر العقلاء كما في إبدال درهم بدرهم مثله من غير مقصود معتبر والتجارة المتساوية ربحا وخسارة وأمثالهما عبث والعبث على الله تعالى محال أما على أصول المعتزلة فظاهر وأما على أصلنا فبالنظر إلى ما أجرى الله عادته به من رعاية المصالح في الأحكام الشرعية
وقرر بعض الأئمة المتأخرين هذا الدليل على وجه آخر بعد ذكر تلك المقدمات وهو أنه إذا ثبت أن المنهي عنه مشتمل على المفسدة الخالصة أو الراجحة يجب أن لا يكون صحيحا لوجهين
أحدهما أن القول بالصحة يفضي إلى حصول تلك المفسدة والقول بالفساد يفضي إلى لا حصولها واحتمال حصول تلك المفسدة مرجوح بالنسبة إلى احتمال لا حصولها في نظر الشرع لما سبق والمفضي إلى المرجوح مرجوح والمفضي إلى الراجح راجح فالقول بالصحة مرجوح بالنسبة إلى القول بالفساد ولا يعني بكون النهي للفساد سوى هذا
وثانيهما القياس على جميع المناهي الفاسدة والجامع أن القول بالفساد سعي في إعدام تلك المفسدة الخالصة أو الراجحة بالكلية
وهذه الطريقة الأخيرة ذكرها القرافي على وجه آخر وهو (1/134)
الوجه الثاني من وجوه الأدلة العقلية وهو أن المنهي عنه في العبادات غير المأمور به فإذا أتى بالمنهي عنه لم يأت بالمأمور به ومن لم يأت بالمأمور به بقي عهدة التكليف
وهذا هو المعني بقولنا إن النهي يقتضي الفساد في العبادات وأما في المعاملات فلأن النهي يعتمد وجود المفسدة الخالصة أو الراجحة في المنهي عنه فلو ثبت الملك والإذن في التصرف لكان ذلك تقريرا لتلك المفسدة والمفسدة لا ينبغي أن تقرر وإلا لما ورد النهي عنها والمقدر ورود النهي عنها هذا خلف وقياسا على العبادات
وهذا وإن كان قريبا من الوجه الأول لكنه مغاير له في الحقيقة
وقد اعترض على الوجه الأول بأن غايته أن النهي يناسب نفي الصحة إلا أنه لا يلزم من ذلك نفي الصحة إلا أن يتبين له شاهد بالإعتبار وإذا تبين له شاهد بالإعتبار يكون الفساد لازما من جهة القياس لا من لفظ النهي ولا من معناه
وهذا السؤال وارد على أصحاب الطريقة الأولى
وأما من اعتمد في ذلك القياس على العبادات أو على المناهي التي قيل بفسادها فعليهم اعتراضان آخران أيضا
أحدهما أن القياس على المناهي التي حكم فيها بالفساد إنما يتم إذا كان قائل ذلك لم يعتمد في القول بالفساد إلا مجرد النهي فأما إذا كان ذلك لدليل خارجي من نص أو إجماع فلا يرد عليه شيء من ذلك لأنه لم يحكم بالفساد لمجرد النهي (1/135)
وثانيهما ابداء الفارق بين المقيس والمقيس عليه
قال ابن الخطيب في المحصول المراد من الفساد في العبادات أنها غير مجزئة والمراد به في باب المعاملات أنه لا يفيد سائر الأحكام و إذا اختلف المعنى لم يتوجه أحدهما نقضا على الآخر
وقرر بعض أتباعه هذا الكلام أبسط من هذا فقال ما ذكرنا من الدليل الدال على فساد العبادة المنهي عنها لم يوجد بتمامه في المعاملات فلا يرد نقضا ولا يصح قياس العقود على العبادات ووجه الفرق انا عنينا بفساد العبادة المنهي عنها عدم إجزائها عن المأمور به ودللنا على ذلك بأن قلنا الآتي بالعبادة المأمور بها تاركا للمأمور به فوجب أن يبقى في عهدة الواجب وهذا الدليل غير موجود في المعاملات ضرورة أنه لم يؤمر بالبيع على وجه مخصوص حتى أن من أتى بالبيع على خلاف ذلك الوجه كان تاركا للمأمور به لأن تعلق الأمر والنهي بعين واحدة محال
ومن المعلوم أن هذا الدليل لم يوجد في المعاملات ومع ظهور هذا الفرق لا يصح قياسها على العبادات
واعترض آخرون بالنقض بالصور التي نهي عنها وحكم فيها بالصحة كبيع الحاضر للبادي ونحوه
وأجاب الآمدي عن الإعتراض الأول بأنا لم نقض بالفساد لوجود ما يناسب الفساد حتى يفتقر إلى شاهد بالإعتبار وإنما قضينا بالفساد لعدم (1/136)
المناسب المعتبر بما بيناه من استلزام النهي لذلك ولا يخفى أن هذا الجواب غير متين
والحق أن مجرد النهي إذا كان على ظاهره للتحريم مناسب للفساد لما يشتمل المنهي عنه من المفسدة الخالصة أو الراجحة وشاهد ذلك بالإعتبار المواضع المنهي عنها التي اتفق على القول بالبطلان فيها كبيع الملاقيح والمضامين ونكاح ذوات المحارم وما لا يحصى كثرة
وقولهم أن الفساد لازم من القياس لا من معنى النهي جوابه أن القياس المناسب إنما اعتمد في كون النهي عن الشيء لعينه يدل على فساد المنهي عنه لا أن نفس المناسب هو المقتضي للفساد
والفرق بين المقامين واضح وهذا السؤال بعينه أورده بعضهم على الاحتجاج لاقتضاء الفساد بالحديث المتقدم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فقال المقتضي للفساد هو هذا الحديث نفسه لا مجرد النهي وجوابه ما ذكرناه آنفا
وقولهم إن الحكم بالفساد لدليل خارجي تقدم الجواب عنه وأما الفرق بين الصور المتفق على القول بفسادها من المنهيات و بين بقية الصور فيقال في الجواب عنها أن الفارقين طائفتان إحداهما الحنفية الذين فرقوا بين المنهي عنه لعينه والمنهي عنه لوصفه وسيأتي الكلام معهم إن شاء الله تعالى وبيان تناقضهم وأنه لا فرق بين القسمين (1/137)
والفريق الثاني كالغزالي والإمام فخر الدين وأبي الحسين البصري الذين فرقوا بين العبادات والعقود واعتمدوا الفرق الذي تقدم ذكره عنهم
فجوابه أن الفساد في الجميع هو عدم ترتب الآثار على المنهي عنه فأثر النهي في العبادات عدم براءة الذمة وأثره في المعاملات عدم إفادة الملك وتنوع الأثر لا يقتضي اختلاف الجنس فإن النهي عن المعاملات عندهم على حد واحد وآثاره مختلفة فيها كما أن آثار صحتها مختلفة أيضا فأثر البيع الصحيح الملك في العين وفي الإجارة الملك في المنفعة وفي النكاح التمكن من الوطء وفي القراض الأمانة على المال واستحقاق النصيب ففي كل موطن أثر يخالف الآخر ولم يمنعهم ذلك الاختلاف من جعل الجميع شيئا واحدا فكذلك العبادات مع العقود
وتفسير الفساد في الجميع بعدم ترتب آثارها عليها وإن كانت الآثار مختلفة فيجمعها مسمى الأثر كما يجمع الحيوانات كلها مسمى الحيوانية وهي مختلفة في نفسها
وهذا ذكره صاحب تنقيح المحصول وتبعه عليه القرافي وزيفه الأصفهاني في شرح المحصول وقال أنه ضعيف جدا
وليس كما ذكر لأنه إذا أمكن تفسير لفظ الفساد بما يشمل جميع الصور (1/138)
وينتظمها بمعنى كلي يشترك الكل فيه كان أولى من تفسيره لمعنيين مختلفين لأنه يكون حينئذ مشتركا لفظيا والتواطؤ خير منه
وأما النقض بالصور التي حكم فيها بالصحة مع ورود النهي فقد تقدم أن تلك جميعها من المنهي عنه لغيره المجاور له كالصلاة في الدار المغصوبة والبيع على بيع الغير والمدعى والمستدل له غير هذا القسم فلا يتوجه النقض به
ولو سلم على وجه التنزل أن الصحة وجدت في منهي عنه لعينه أو لوصفه اللازم فغايته أن الفساد تخلف لدليل منفصل ولا يلزم من تخلف الحكم عن المدلول عند قيام مانع تخلفه في جميع الصور وهذا ظاهر لا ريب فيه
تنبيه ذكر الأرموي في الحاصل على هذا الدليل العقلي المتقدم سؤالا ضعيفا إلى الغاية رام به إبطاله حيث لم يعترض عليه ابن الخطيب فقال اشتمال الفعل على المفسدة لا يمنع كونه مفيدا للحكم وقرره القرافي بأن السبب الشرعي ليس من شرطه أن يكون مشروعا مأذونا في مباشرته فإن الزنا سبب للرجم والسرقة سبب للقطع والحرابة سبب للقتل إلى غير ذلك (1/139)
من الأحكام الكثيرة والمعني بعدم الفساد هو ترتب الأحكام على المنهي عنه والأسباب قد تكون كذلك كما في النظائر المذكورة
وجواب هذا أن الحكم المترتب على الفعل المحرم قد يكون حكما رتب في أصل الشرع على التحريم كالقطع في السرقة وأمثاله ولا نزاع في هذا أصلا حتى ينقض به إنما النزاع في الحكم المترتب على الفعل المأذون فيه شرعا إذا وقع ذلك الفعل على وجه محرم كالبيع الفاسد والنكاح الفاسد وأشباههما هل يترتب عليه ما كان يترتب عليه حالة وقوعه على الوجه المأذون فيه شرعا أم لا وإنما يرد النقض بشيء من هذا القسم وقد بينا أنه لا يوجد ذلك مجمعا عليه في المنهي عنه لعينه أو لوصفه اللازم حالة القدرة على الإحتراز عن المنهي عنه وان النقض بصحة المنهي عنه لغيره لا يرد
واحترزنا بحالة القدرة عن الصلاة يغير ماء ولا تراب على قول من لا يوجب إعادتها كمالك والمزني وأشباه ذلك فهذا الجواب على ما فهمه القرافي من كلام صاحب الحاصل وقرره به ويحتمل أن لا يكون ذلك مراده بل يعني أنه لا يشترط في الفعل المأذون فيه تعرية من المفسدة من كل وجه وأن يكون مصلحة خالصة بل قد يشتمل على (1/140)
مفسدة ما ويترتب عليه إفادة الحكم كغالب التكاليف المشتملة على إتعاب البدن وإنفاق المال ونحو ذلك
وجواب هذا أن هذه المفاسد منغمرة في جنب المصالح الحاصلة من تلك الأفعال الراجحة على تلك المفاسد ونحن لم نشترط في الفعل خلو عن المفسدة من كل وجه بل عن المفسدة الخالصة أو الراجحة فأما المرجوحة فلا اعتبار بها ولا نقض حينئذ و إن صاحب الحاصل بكلامه المتقدم النقض بالمنهي عنه لغيره كالصلاة في الدار المغصوبة فقد تقدم الجواب عنه وأنه غير محل النزاع وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله تعالى وبيان الفرق بينه وبين ما نحن فيه
الوجه الثالث من الأدلة العقلية أن فعل المنهي عنه معصية إذ الكلام في النهي الذي للتحريم وحصول الثواب على العبادة والإعتداد بها مقربة إلى الله تعالى وحصول الملك في العقود وصحة التصرف كلها نعم والمعصية تناسب المنع من النعمة وقد اقترن الحكم بالفساد بصور كثيرة جدا من المناهي والمناسبة مع الإقتران دليل باتفاق القائسين ففي تعميم القول بأن النهي للفساد في كل منهي عنه لعينه أو لوصفه اللازم إعمال للأدلة المناسبة مع الإقتران وفي ترك القول بذلك إبطال لهما فكان القول بذلك واجبا
الرابع أن المنهي عنه قبيح ومحرم إذ الكلام فيه والمحرم لا يكون مشروعا وما لا يكون مشروعا لا يكون صحيحا لأن كل صحيح مشروع فالمنهى عنه لا يكون صحيحا فإذا النهي يقتضي الفساد
واعترض الإمام الغزالي على هذا الوجه بأنه إن عنيتم بالمشروع كونه مأمورا أو مندوبا أو مباحا فذلك محال ولسنا نقول به وان عنيتم كونه علامة للملك (1/141)
أو الحل أو حكم من الأحكام ففيه وقع النزاع فلم ادعيتم استحالته فجاز أن يكون غير مشروع وإذا وقع تترتب عليه الأحكام كما تترتب على الصحيح كما قد فعل في الصلاة في الدار المغصوبة ونحوها
ويمكن الجواب عن ذلك بأن المراد المشروع الأعم من ذلك وهو كل ما رتب الشارع عليه آثاره لأن الصحة والفساد من تصرفات الشارع وكذلك ترتيب الآثار على الفعل والمنهي عنه ليس بمشروع فلا يترتب عليه أثره والنقض بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة تقدم الجواب عنه وأنه غير وارد
الخامس لو لم يكن النهي للفساد لكان كل موضع منهي عنه قيل بفساده كبيع الحر ونكاح ذوات المحارم والصلاة مع ملابسة النجاسة التي لا يعفى عنها وأشباه ذلك يجب أن يكون لقرينة منفصلة دلت على ذلك الفساد لكن الأصل عدمها والظاهر أن الفساد مستند إلى مجرد النهي وإلا كانت القرينة تذكر ولو في بعض الصور فوجب أن يكون النهي يقتضي الفساد لذلك
السادس وهو خاص بالعبادات أن العبادة إنما تكون صحيحة إذا كانت موافقة للأمر أو مسقطة للقضاء على ما سبق من الإختلاف وكل منهما إنما يكون بإمتثال الأمر المستدعي لاستحقاق الثواب وفعل المنهي عنه معصية فلا يكون سببا لاستحقاق الثواب بل العذاب مترتب عليه فلو كان فعل (1/142)
المنهي عنه سببا لسقوط التعبد أو القضاء لزم أن يكون الفعل الواحد طاعة ومعصية معا وهو محال
السابع ذكره التبريزي في التنقيح وهو خاص في الحقيقة بالعقود إن النهي لا بد له من فائدة وليست إلا الفساد لأن طلب الكف إما لمفسدة في الفعل أو لعدم فائدة فيه أو لفائدة في الإمتناع ودليل الحصر أنا لو فرضنا انتفاء هذه الأقسام كلها للزم أن يكون الفعل مشتملا على المصلحة خاليا من المفسدة فيكون مطلوبا لا منهيا عنه وليس الأمر كذلك فثبت الحصر
وحينئذ نقول لا يجوز أن يكون لعدم الفائدة فإنا فرضناه مفيدا لأحكامه ولا للمفسدة لأنها كانت تنشأ إما من نفس العقد أو بواسطة ترتب الأحكام عليه والأول باطل لأن صيغ المعاملات لا مفسدة فيها ولهذا لا يأثم بها في معظم البياعات والثاني باطل لأن المفسدة لو نشأت من الحكم لما ثبت الحكم ولأن الحكم وضع شرعي والشارع لا يضع المفاسد ولا يجوز حمله على فائدة في الامتناع فإن الامتناع عما فيه فائدة وهي ترتب الحكم على رأي الخصم لا فائدة فيه
فإن قيل فائدته الابتلاء والامتحان قلنا ذلك فائدة الامتناع لأصل النهي و نحن نطلب فائدة في الامتناع عن الفعل ليكون النهي عنه معقولا ولأن النهي ظاهر في التحريم والاعتبار ينافي التحريم لأنه تمكين المكلف من تحصيل حكمه بدليل جميع الأحكام المجمع على اعتبارها هذا خلاصة ما قاله التبريزي (1/143)
والمنع متوجه عليه في قوله إن صيغ المعاملات المنهي عنها لا مفسدة فيها وقوله أنه لا يأثم بها في معظم البياعات على ما لا يخفى
الثامن وهو أيضا يختص بالعقود أن النهي عنها مع ربط الحكم بها و ترتيب آثارها عليها يفضي إلى التناقض و ذلك من وجهين
أحدهما أن النهي عنها لم يرد إلا لما اشتملت عليه من المفسدة الخالصة أو الراجحة على ما تقدم فلو أفادت المقصود عند الإقدام عليها لكان ذلك باعثا للنفوس على تعاطيها والنهي عنها لما فيها من المفسدة الخالصة أو الراجحة يمنع من الإقدام عليها فيتناقض من قبل الشرع الباعث والصارف وذلك محال وما أدى إلى المحال محال فيجب القول بالفساد نفيا لذلك المحال
وثانيهما أن نصبها سببا لترتب آثارها عليها تمكين من التوسل بها والنهي عنها منع من ذلك التوسل فيؤدي أيضا إلى التناقض وفيه ما ذكرناه وهذا الوجه أمتن من السابع المتقدم قبله ذكره الشيخ موفق الدين في الروضة والأنباري في شرح البرهان (1/144)
التاسع أن النهي عن الشيء يدل على تعلق المفسدة به كما تقدم غير مرة وفي القضاء بالإفساد للمنهي عنه وعدم ترتيب آثاره عليه إعدام لتلك المفسدة بالكلية بأبلغ الطرق بخلاف ما إذا قيل بالصحة أو بترتب أثره عليه فإن في ذلك تبقية لآثار المفسدة فكان الأول أولى أو هو المتعين
العاشر ما أشار إليه الإمام الشافعي في كلامه المتقدم وذكره أصرح من ذلك في موضع آخر وهو أن العقود إنما تفيد إذا جرت على وفق الشرع لما تمهد فيها من الشروط وقيدت به من القيود ومنع الخلق من كثير مما كانوا يتعاطونه فيها ويرضون به قبل الشرع فأشبهت العبادات حينئذ
وتوقف الحكم بترتب آثارها عليها حتى ترد على وفق المشروع وإذا لم يكن كذلك بقيت الأموال والأبضاع على أصلها من التحريم ولا تنتقل إلا إذا وقعت على الوجه المشروع فما لم تكن كذلك يحكم بفسادهما استنادا إلى أصل التحريم وهذا حسن بالغ وبالله التوفيق
الطرف الثاني في أن دلالة النهي على الفساد حيث حكمنا به ليس ذلك من جوهر اللفظ و موضوع اللغة بل متلقى من الشرع
وجميع الأدلة التي قدمناها إنما تقتضي كون ذلك مأخوذا من جهة الشرع و قد تقدم أن جماعة من الأئمة ذهبوا إلى أن ذلك مستفاد من موضوع النهي اللغوي (1/145)
والدليل على بطلان قولهم إن فساد المنهي عنه سواء كان عبادة أو معاملة لا معنى له سوى سلب أحكامه عنه وانتفاء ثمراته المقصودة عنه وخروجه عن كونه سببا مفيدا لها فلو دل النهي عن الشيء على فساده من حيث اللغة لكان في اللفظ ما يدل لغة على انتفاء ثمراته عنه واللازم باطل فالملزوم كذلك
أما الملازمة فظاهرة وأما انتفاء اللازم فلأن معنى النهي في اللغة اقتضاء الكف عن الفعل وليس انتفاء الأحكام عنه عين ذلك ولا جزؤه ولا لازما له من حيث اللغة لأنه لو قال واحد لا تبع غلامك فإنك إن بعته ثبت حكم البيع وانتقل الملك فيه إلى المشتري لم يكن ذلك متناقضا من حيث اللغة ولو كان النهي عن الشيء لعينه مقتضيا لفساده من موضوع اللغة لكان ذلك متناقضا
و أيضا فإن الصحة عبارة عن ترتب الأحكام الشرعية على الفعل المأذون فيه والفساد معناه عدم ترتبها والأحكام إنما هي متلقاة من الشرع فقبل الشرع لا يكون النهي دالا على فساد ولا صحة والموضوعات اللغوية متلقاة عن العرب قبل الشرع فليس الفساد مستفادا من موضوع النهي لغة
واحتج القائل بذلك بوجهين أحدهما استدلال الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من العلماء على الفساد في المنهيات بالنهي عنها فدل على فهمهم ذلك له من حيث اللغة (1/146)
وأجاب ابن الحاجب وغيره عن ذلك بمنع أنهم فهموا ذلك من موضوع اللغة بل إنما فهموا الفساد من جهة الشرع كما تقدم وفي هذا الجواب نظر إذ يقال عليه فيلزم أن يكون الشارع نقل النهي عن موضوعه في اللغة والأصل عدم النقل
ويمكن أن يقرر الجواب على وجه آخر وهو أنه دار الأمر في استدلال الصحابة والعلماء بعدهم على الفساد بالنهي على الوجه المتقدم بين أن يكون فهموا ذلك من حيث اللغة أو من حيث الشرع والاحتمال الثاني أولى للجمع بين ذلك وبين ما ذكرناه من الدليل الدال على أن ذلك ليس من موضوع اللفظ
وقولهم انه يلزم منه النقل يجاب عنه بأن ذلك إنما يلزم إذا كان الفساد مستفادا من لفظ النهي بطريق المطابقة أما إذا كان بطريق التضمن أو الالتزام كما تقدم تقريره فلا يلزم النقل إذ لم يتغير موضوع اللفظ (1/147)
الوجه الثاني أن الأمر يقتضي الصحة من حيث اللغة والنهي نقيض الأمر لأنه مشارك له في الطلب والاقتضاء ومخالف له في طلب الترك فلا بد وأن يقتضي نقيض الصحة وهو الفساد ضرورة كون النهي مقابلا للأمر وأنه يجب أن يكون حكم أحد المتقابلين مقابلا لحكم الآخر وهذا الدليل استدل به جماعة من المتقدمين على أن النهي يدل على الفساد مطلقا وبعضهم جعله دليلا من جهة القائلين به لغة كابن الحاجب وأتباعه لأنه أخص بهذا المدعى من جهة الدلالة اللفظية وزاد بعضهم في تقريره أن العرب من شأنها أن تحمل الشيء على نقيضه كما تحمله على نظيره بدليل إعمالهم لا التي هي لنفي الجنس عمل أن المثبتة وهي نقيضها وأجيب عن ذلك بوجوه أحدها منع أن الأمر يدل على الإجزاء الذي هو الصحة
وثانيها لو سلم أنه يدل عليه فلا نسلم أن يدل على الأجزاء من حيث اللغة بل من حيث الشرع كما قررناه في النهي
وثالثها أنه لا يلزم من دلالة الأمر على الصحة دلالة النهي على الفساد إذ لا يلزم اشتراك المتقابلات في جميع اللوازم بل جاز أن يكونا ضدين ويشتركا في لازم واحد فقط ولو لم يكن ذلك إلا في مجرد الضدية كان كافيا فإن السواد والبياض ضدان وهما مشتركان في الرؤية والحدوث وكونهما عرضا وغير ذلك
ورابعها أنا وإن سلمنا انه يلزم من ذلك تقابل حكميهما فإنما يلزم منه أن النهي لا يكون مقتضيا للصحة لا أنه يقتضي الفساد لأن شأن النقيض (1/148)
أن يثبت له نقيض حكم نقيضه كما أن الواجب يعاقب عليه فما ليس بواجب لا يعاقب عليه فيكون اللازم هنا أن النهي لا يدل على الإجزاء لأنه نقيض ما دل عليه الأمر أما دلالته على الفساد فليس نقيض الإجزاء بل أمر آخر هكذا قرر الجواب صاحب المحصول وغيره وفيه نظر لأن الأمر والنهي ضدان وليسا نقيضين لأنهما ثبوتيان وأحد النقيضين لابد وأن يكون عدميا وإذا كانا ضدين وسلم لزوم ضد الصحة فالمنوع الأولى كافية في رد هذا الاستدلال وخصوصا منع كون الأمر يقتضي الإجزاء لغة بل ذلك مستقى من الشرع أيضا والله أعلم
الطرف الثالث في أدلة القائلين بأن النهي لا يقتضي الفساد وقد تنوعت عباراتهم في الاحتجاج لذلك وحاصلها يرجع إلى ثلاثة أوجه
الوجه الأول لو دل النهي على الفساد لكان ذلك لدليل يقتضيه والدليل إما عقلي أو نقلي والنقلي إما إجماع أو نص والنص إما متواتر أو آحاد (1/149)
ولم يثبت شيء من ذلك جميعه ولا دلالة له من جهة العقل أيضا لما سيأتي فلم يكن النهي دالا عليه
الثاني أن النهي إما أن يدل على الفساد دلالة لفظية أو معنوية وهما باطلتان فالقول بأنه يقتضي الفساد باطل أما بطلان الدلالة اللفظية فلأنها إما أن تكون بحسب اللغة أو مستفادة من جهة الشرع والأول باطل لما تقدم ولأن البدوي العارف باللغة غير العارف بالأحكام الشرعية إذا سمع لفظ النهي لم يفهم منه سوى المنع من الفعل ولا يخطر بباله الفساد قط ولو كان موضوعا له لغة لم يكن كذلك
والثاني أيضا باطل لما تقدم أن الأصل عدم النقل وأيضا فلأنه لو كان موضوعا للفساد من جهة الشرع لزم ترك مقتضى اللفظ في الصور التي استعمله فيها ولم يترتب على ذلك النهي فساد كالصلاة في الدار المغصوبة والذبح بسكين مغصوبة ونحو ذلك وهذا بخلاف ما إذا لم نقل بأنه يدل على الفساد فانه في الصور التي قيل فيها بفساد المنهي عنه يكون ذلك لأمر زائد على ما دل عليه اللفظ ولم يتعرض له اللفظ بنفي ولا إثبات ولا شك في أن هذا أولى
و أيضا لو كان موضوعا للفساد لغة أو شرعا للزم من ذلك التناقض إذا صرح بالصحة مع صريح النهي كما إذا قال مثلا لا تتوضأ بالماء المغصوب ولا تذبح بسكين مغصوب وإن فعلت ذلك صحت طهارتك وحلت الذبيحة (1/150)
ولا تطلق حالة الحيض فإن فعلت نفذ طلاقك ولا تطأ جارية الإبن فإن استولدتها دخلت في ملكك إلى غير ذلك من الصور التي لا استبعاد في صحتها والقول فيها بعدم التناقض وذلك بخلاف ما إذا قال حرمت عليك الطلاق وأمرتك به أو أبحته لك وحرمت عليك استيلاد جارية الإبن وأوجبته عليك فإن ذلك متناقض غير معقول
وبهذا أيضا تنتفي الدلالة المعنوية لأن شرطها اللزوم ومفهوم الفساد غير لازم لمفهوم التحريم الذي هو مدلول اللفظ إذ لو كانت الدلالة الإلتزامية موجودة لما صح إثباته مع نفيه لأن إثبات الملزوم مع التصريح بنفي اللازم غير صحيح
الوجه الثالث لو دل النهي على الفساد لثبت الفساد حيثما وجد النهي عملا بالدليل واللازم باطل بدليل صحة الصلاة في الثوب المغصوب والأماكن المكروهة وصحة البيع وقت النداء وأمثاله فلزم من ذلك أن النهي لا دلالة له لمجرده على الفساد
والجواب عن الأول انا بينا فيما تقدم دلالة النص والإجماع والعقل على أن النهي يقتضي الفساد وحصل بحمد الله تعالى الانفصال عن كل ما أعترض به علينا وهذا الوجه هو الذي عول عليه الإمام الغزالي في أن النهي لا يقتضي الفساد في العقود ثم ذكر من أدلة القائلين بذلك بعض ما تقدم واعترض عليها بما ذكرناه هناك وقد أجبنا عنه (1/151)
وعن الثاني أنا نسلم أنه لا يدل النهي على الفساد بحسب وضع اللغة لكن ما المانع أن يدل عليه دلالة لفظية بحسب وضع الشرع
قوله يلزم منه النقل والأصل خلافه قلنا تقدم أنه إنما يلزم النقل إذا كانت دلالته بحسب المطابقة فأما بطريق التضمن أو الإلتزام فلا ودلالة النهي على الفساد بحسب اللزوم سلمنا أن ذلك بطريق المطابقة لكن قد يصار إلى النقل عند قيام الدليل على ذلك والأدلة المتقدمة قد تقررت على أنه للفساد فيجب المصير إلى القول بالنقل لئلا يلزم ترك الدليل الذي مخالفته أشد من مخالفة الأصل
قولهم ثانيا يستلزم جعله حقيقة في الفساد ترك مقتضى الدليل في الصور التي نهي عنها ولم يقل بفسادها وذلك محذور قلنا نعم لكنه يلتزم عند قيام الدلالة عليه وهذا كما قالوا إن النهي حقيقة في التحريم وثبت استعماله في الكراهة في صور كثيرة عند قيام دليل على ذلك وأما قولهم ثالثا أنه يلزم التناقض إذا صرح فيه بالصحة فعنه أجوبة أحدها أن الملازمة على قسمين ظنية وقطعية فدلالة الإلتزام تنقسم كذلك إلى هذين القسمين ويكون دلالة النهي على الفساد ظنية كما نقول في المفهوم وغيره انه دلالة الالتزام وهي دلالة ظنية لأن الملازمة ظنية و حينئذ فلا يناقضها (1/152)
قولهم لا استبعاد في أن يقول الشارع لا تبع الربوي متفاضلا فان فعلت ثبت الملك لأن هذا إشارة إلى الاحتمال ومن ادعى الظن فقد التزم الاحتمال لأن الدلالة الظنية لا تعرى عنه ولكنها تكون راجحة عليه فلا يعمل عمله كيف وهو هنا أضعف الاحتمالات لأنه مبني على مجرد عدم إلاستبعاد ولا يخفى ضعفه
وثانيها انه لا نسلم أنه لا يعد متناقضا إذا قال حرمت عليك الطلاق في الحيض لعينه ولكن إذا أوقعته نفذ بالنسبة إلى الوضع الشرعي نعم لا يعد متناقضا إذا قال حرمت عليك الطلاق حالة الحيض وإذا أوقعته نفذ لاحتمال أن يكون التحريم لأمر خارجي وهو تطويل العدة وأما إذا قال لعينه فلا نسلم عدم التناقض وكلامنا إنما هو في المنهي عنه لعينه
وثالثها أنا لو سلمنا ذلك وأنه لا يعد متناقضا وإن كان النهي عنه لعينه لكن لا نسلم أن ترك مقتضى اللفظ الظاهر الدلالة لقرينة أو صراحة من المتكلم يكون مناقضا لكلامه كما أن اللافظ باللفظ العام وبأسماء العدد مع التخصيص لها والاستثناء منها لا يعد متناقضا ومتهافتا في كلامه فكذلك هنا
قولهم إثبات الملزوم مع التصريح بنفي اللازم غير صحيح قلنا لا نسلم ذلك لما تقدم أنها دلالة ظنية فتقدم عليها الدلالة الصريحة إذا كانت معارضة لها (1/153)
والجواب عن الثالث أن القائلين بتعميم الفساد في جميع صور النهي سواء كان لعينه أو لغيره كأحمد بن حنبل والظاهرية لا يرد عليهم نقض شيء مما ذكروه لأنهم طردوا قولهم في ذلك كله وقد التزم هذه الطريق بعض الأصوليين في تصانيفه وذكر أن الجواب الصحيح وليس كذلك
وأجاب آخرون عن ذلك بأن القول بالصحة في هذه الصور إنما كان لدليل خارجي قام بها فلا يلزم من ذلك نقض كما في تخصيص العام والخروج عن حقيقة الأمر من الوجوب إلى الندب وحقيقة النهي من التحريم إلى الكراهة لأدلة دلت على ذلك في تلك المواضع الخاصة ولم يلزم بذلك نقض الأصل ولا إبطال دلالته من أصلها
ثم أشار بعضهم إلى تلك الأدلة في كثير من الصور كقوله صلى الله عليه و سلم لا تلقوا الجلب فمن تلقى شيئا من ذلك فأشتراه فصاحبه إذا أتى السوق بالخيار فإثبات الخيار فيه للبائع دليل على أن البيع صحيح ولا شك أن المواضع التي قيل فيها بالصحة مع وجود النهي كثيرة جدا في العبادات والعقود والإيقاعات وغيرها كما تقدم ذكر كثير منها وسيأتي ويحتاج سالك هذه الطريق إلى دليل يخص كل واحد منها وهو متعذر قطعا (1/154)
فالجواب الصحيح عن ذلك كله ما سبقت الإشارة إليه غير مرة وهو أن النهي في هذه جميعها ليس لعين المنهي عنه ولا لوصفه اللازم بل لغيره المجاور له ولا يقتضي النهي في هذا القسم الفساد كما سيأتي تحقيق ذلك وبيان الفرق بين المقامين إن شاء الله تعالى والمدعى الذي استدللنا عليه إنما هو القسمان الأولان فلا يرد النقض بغيرهما فإن قيل لا فرق قلنا سنبين ذلك إن شاء الله تعالى
وأما من فرق بين العبادات والمعاملات فقد احتج الإمام الغزالي بما تقدم أن النهي يضاد كون المنهي عنه قربة وطاعة والأمر والنهي يتضادان فلا يكون المنهي عنه قربة ولا امتثالا فيدل النهي في العبادات على الفساد بخلاف العقود إذ لا تضاد بين تحريم العقود وبين جعلها سببا للملك والتصرف كما تقدم فلم يكن دالا على الفساد
وحاصل ذلك أن النهي إنما يدل على الزجر فقط وذلك من خطاب التكليف وأما الصحة والفساد فهما من خطاب الوضع ولا إشعار له بهما
وهذا الدليل هو عين المدعى لأنا نقول النهي دال على الزجر والفساد جميعا وقد دللنا عليه بما تقدم وإن كانت دلالته على الفساد بطريق الاستلزام فذلك كاف في المطلوب (1/155)
ثم إن الذي احتج به الإمام فخر الدين على أنه لا يدل عليه في العقود يرد عليه في العبادات بأن يقال لو دل النهي على عدم إجزائها فإما أن يدل عليه بلفظه أو بمعناه وكل منهما باطل ولا استبعاد في أن يقول الشارع مثلا نهيتك عن الصلاة في الأوقات المكروهة وإن فعلتها أجزأت عنك وصحت وعن الصوم يوم النحر وإن صمت فيه صح وكذلك النقض أيضا بالعقود المنهي عنها وهي صحيحة رد مثله في العبادات كالضوء بالماء المغصوب والصلاة في الثوب الحرير وأمثالهما فما يكون جوابا له عن ذلك يجاب به أيضا في المعاملات
ونحن قد طردنا القول في البابين فسادا وصحة وفرقنا بين ما يقتضي الفساد منهما وما لا يقتضيه فإن جنح إلى الفرق المتقدم بين الموضعين في تفسير الفساد أعني بين العبادات والعقود أجيب بما تقدم من تفسير الفساد بمعنى كلي يشملهما
وقولهم إن النهي لا ينافي إفادة الملك وصحة التصرف ممنوع بما تقدم من الأدلة الدالة على تنافيهما وإن سلم أنه لا ينافي ذلك قطعا فهو ينافيه ظاهرا وذلك كاف على ما تقدم غير مرة وبالله التوفيق (1/156)
الفصل الرابع
في الفرق بين المنهي عنه لعينه أو لوصفه اللازم وبين المنهي عنه لغيره وبيان أنه في هذا القسم الآخر لا يدل على الفساد
وأصل هذه القاعدة أنه ورد في الكتاب والسنة مناه كثيرة منها ما أتفق العلماء على فساده عند ارتكاب المنهي عنه كنهي الحائض عن الصوم والصلاة والنهي عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة وعن نكاح زوجة الأب والجمع بين المرأة وعمتها وخالتها إلى غير ذلك من الصور الإجماعية
ومنها ما اختلفوا في ترتيب الفساد عليه كالبيع وقت صلاة الجمعة وعلى بيع أخيه وبيع الحاضر للبادي وأشباه ذلك مع أن غالب القسم الأول لم يقترن به ما يدل على الفساد سوى مجرد النهي وكذلك الثاني لم يقترن به ما يقتضي الصحة فنظر الإمام الشافعي رض فوجد الفارق بين ذلك أن النهي عن الشيء متى كان لعينه أو لوصفه اللازم فإنه يقتضي الفساد دون ما كان لغيره لما تقدم أن الصحة تنافي المشروعية وأن ما توجه النهي إلى ذاته أو وصفه اللازم ليس مشروعا والآتي به مرتكب المنهي عنه بالنسبة إلى ذلك الفعل بخلاف ما إذا كان النهي لأمر خارجي مجاور له فإن الآتي بذلك الفعل لم يرتكب منهيا بالنسبة إلى ذاته بل في أمر خارج عنه (1/157)
وطرد الشافعي رحمه الله أصله في جميع صور المنهيات بحيث أنه لم ينتقض قوله في البابين بشيء بخلاف سائر الأئمة ممن عداه فإن أحدا منهم لم يطرد قوله لا في الصحة ولا في الفساد كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
تحقيق الفرق بين هذين المقامين يستدعي ذكر مسألة مقصودة وهي الصلاة في الدار المغصوبة وبيان صحتها فيه بتحقق الفرق بين البابين ثم ننعطف على تفاصيل المناهي واختلاف العلماء في ذلك إن شاء الله تعالى
فنقول أولا إن الواحد يطلق باعتبارات أحدها الواحد بالجنس وهو الصادق على أنواع مختلفة كالحيوان والجسم النامي ونحو ذلك
وثانيها الواحد بالنوع وهو المقول لنوع واحد تحته أصناف كالإنسان والفرس ونحوهما
وثالثها الواحد بالصنف كالهندي والرومي
ورابعها الواحد بالشخص وهو المقول للجزئي المشخص كزيد وعمرو
فأما الثلاثة الأول فلا ريب في أنه يختلف حكمها بحسب اختلاف أنواعها وأصنافها واشخاصها ويصدق على بعضها ما يكذب على البعض الآخر فيصح في الواحد بالنوع مثلا أن يكون بعض أصنافه مأمورا به وبعضها منهيا عنه ولا محذور في ذلك لأن محل الإثبات إذا كان مغايرا لمحل النفي إما بالنوع أو بالصنف أو بالشخص لا يلزم منه اجتماع النفي والإثبات في محل واحد (1/158)
ونقل إمام الحرمين وغيره عن طائفة من المعتزلة كأبي هاشم وأتباعه أنهم أنكروا ذلك بناء على أن النوع الواحد لا تختلف صفته في الحسن والقبح فإذا كان بعض إفراده حسنا أو قبيحا وجب أن يكون كله كذلك فقالوا السجود لله تعالى لما كان حسنا واجبا استحال أن يكون السجود لغيره كالصنم مثلا محرما من حيث انه سجود بل المحرم إنما هو قصد تعظيم الصنم
وهذا ظاهر الضعف واه جدا لما بينا إن عند الاختلاف إما بالنوع أو بالصنف أو بالشخص يصح تغاير الحكم بالنسبة إلى الأفراد ولا يتوارد النفي والإثبات على ذات واحدة من وجه واحد وقد قال الله تعالى لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ولو كان ذلك مستحيلا لما حسن هذا الأمر والنهي والمسالة واضحة جدا فلا فائدة في الإطالة بها
وأما الواحد بالشخص فاتفقوا على أنه لا يكون باعتبار واحد حراما وحلالا وواجبا وطاعة ومعصية لاستحالة اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد بالاعتبار الواحد إلا من جوز التكليف بالمحال لذاته
واختلفوا في الواحد باعتبارين مختلفين كالصلاة في الدار المغصوبة هل (1/159)
يجوز تعلق الأمر بها باعتبار كونها صلاة وتوجه النهي إليها باعتبار كونها غصبا فقال جمهور أصحابنا الأشعرية وأكثر الفقهاء كالشافعية والحنفية وجمهور المالكية أنه تصح الصلاة في الدار المغصوبة على معنى أن الآتي بها يكون آتيا بالمأمور به ويسقط عنه الطلب بفعلها وإن كان عاصيا من جهة لبثه في المغصوب
وذهب أحمد بن حنبل وأصحابه وأهل الظاهر بأسرهم إلى أنها لا تصح وبه قال الجبائي وابنه من المعتزلة والزيدية وآخرون وبعضهم نقله رواية عن مالك
وقال المازري شذ بعض أصحاب مالك وهو اصبغ فقال (1/160)
لا تجزي ونقله القرافى عن عبد الملك بن حبيب منهم أيضا وبهذا أيضا قال القاضي أبو بكر الباقلاني إلا أنه قال الطلب يسقط عندها لا بها بخلاف من ذكر قبله فإنهم قالوا لا يسقط الطلب بها ولا عندها واختار فخر الدين الرازي قول القاضي أبي بكر
وحجة الجمهور وجوه أحدها أن التغاير قد يقع مع اتحاد الموضوع المحكوم عليه شخصا بسبب اختلاف صفاته بأن يكون المحكوم عليه بأحد الحكمين المتقابلين هو الهيئة الاجتماعية من ذاته وإحدى صفتيه والمحكوم عليه بالحكم الآخر هو الهيئة الاجتماعية من ذاته والصفة الأخرى كالحكم على زيد بكونه مذموما لفسقه ومشكورا لكرمه فعلم أن المجموع الحاصل من الذات والصفة مغاير لكل واحد منهما وإذا حصل التغاير في المحكوم عليه فلا استحالة في الحكم بالوجوب والحظر معا بحسب اختلاف الجهتين
وثانيها أن السيد إذا قال لعبده أوجبت عليك خياطة هذا الثوب وحرمت عليك الكون في هذا الدار فجمع العبد بين الفعلين فإنا نقطع (1/161)
بطاعة العبد وعصيانه جميعا للجهتين وأنه يستحق الثواب على امتثاله والعقاب على عصيانه ولا نعد ذلك متناقضا فكذلك ما نحن فيه حذو القذة بالقذة
ولا يقال لا نسلم أن الطاعة والعصيان للجهتين لأن متعلق الأمر هو الخياطة ومتعلق النهي هو اللبث في الدار وهما فعلان متباينان لا جهتان في فعل واحد
لأنا نقول الخياطة تشتمل على حركة لا محالة فتلك الحركة واجبة من حيث هي جزء الخياطة وحرام من حيث هي لبث في الدار
وثالثها هو الذي عول عليه إمام الحرمين تحقيق الفرق بين المنهي عنه لعينه ولوصفه ولغيره فإذا كان النهي يختص بالفعل المأمور به ويرجع إلى عينه فلا يجامعه الأمر به بل هما متناقضان نحو صم لا تصم فهذا هو المنهي عنه لعينه
وأما المنهي عنه لوصفه فأن يفرض أمر مطلق يتبين به أن مراد الآمر تحصيله ثم يفرض نهي عن إيقاع ذلك المأمور السابق على وجه خاص مع التعرض في النهي للمأمور به أو يفهم منه قصد تعليق النهي به كالأمر بالصوم مطلقا والنهي عنه يوم العيد فإن هذا يقتضي عند الشافعي وجمهور العلماء إلحاق شرط بالمأمور به حتى إذا فرض وقوعه على ما عمه النهي يقال فيه أنه ليس امتثالا وفيه خلاف الحنفية وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى (1/162)
وأما القسم الثالث فان يجرى الأمر مطلقا ويتبين أن الغرض إيقاع المأمور به من غير تخصيص له بحال ومكان ثم يرد نهي مطلق عن كون في مكان من غير تخصيص له بموجب الأمر الأول فيقع النهي مسترسلا ولا ارتباط لأحدهما بالآخر فإذا وقع الفعل على حسب الأمر مخالفا للنهي قيل فيه إنه وقع مقصودا للأمر المطلق منفيا عنه بالنهي المطلق فلا يمتنع والحالة هذه اجتماع الحكمين وينزل هذا منزلة تعداد الآمر والناهي فكذلك هنا لأنه لم يثبت النهي عن الكون في الدار المغصوبة في وضع الشرع متعلقا بمقصود الصلاة فاسترسل النهي منقطعا عن اعتراض الصلاة وبقيت الصلاة على حكمها فلو صح النهي مقصورا على الصلاة في الدار المغصوبة قلنا ببطلانها كما لا تصح صلاة المحدث لما تعلق النهي بعينها
وزاد الإمام المازري هذا وضوحا بمثال ضربه وهو أن السيد إذا كان بين يديه طعام وقد غص بلقمة فقال لغلامه أسرع إلي بكوز ماء حلو و ارفق في إمساكه لئلا ينكسر فجرى إليه ولم يرفق في إمساكه وسقاه فإنه لا يعد عاصيا له في مقصود أمره و لا يصير كمن فرط في سيده حتى مات ولم يسقه ماء ولو أقبل إليه بالكوز وفيه ماء زعاق لا يساغ أو أقبل به إليه فارغا كان ذلك كالعدم وليم على هذا كما يلام إذ قعد ولم يأته به
وهذا معلوم متعارف عند سائر العقلاء وبه يتضح الفرق بين ما هو مقصود بالنسبة إلى المنهي عنه وبين ما ليس بمقصود في ذاته بل ورد لأمر خارجي عنه وهو معلوم بالحس والمشاهدة وليس إلى إنكاره سبيل (1/163)
ورابعها أنه لو لم يصح كون الصلاة في الدار المغصوبة مأمورا بها منهيا عنها لكان عدم الصحة اتحاد متعلق الأمر ومتعلق النهي فإنه لا مانع عندهم من الصحة سوى الاتحاد واللازم باطل لأن متعلق الوجوب هو الفعل باعتبار كونه صلاة ومتعلق النهي هو الفعل باعتبار كونه غصبا فالفعل بالاعتبار الأول غير الفعل بالاعتبار الثاني واختيار المكلف جمعهما لا يخرجهما عن حقيقتهما كما إذا رمى سهما واحدا إلى مسلم بحيث يمرق منه إلى كافر أو بالعكس وقصدهما جميعا فإنه يثاب ويعاقب ويملك سلب الكافر ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين يصح انفكاك أحدهما عن الآخر وإن كان هو قد جمعهما فإذن متعلق الأمر غير متعلق النهي
واعترض على هذا بأدلة القائلين ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة وحاصلها ادعاء اتحاد المتعلقين وسيأتي ذكرها والجواب عنها إن شاء الله تعالى
وخامسها ما ذكره القاضي أبو بكر وهو النقض بمن تعين عليه قضاء دين وهو متمكن من أدائه والطلب به متوجه نحوه فيحرم بالصلاة فإنها تصح وإن كان مكثه في مكانه تركا لواجب عليه في جهة السعي لأداء الدين وكذلك في رد الوديعة وكذلك لو ضاق وقت الصلاة فاشتغل بإنشاء عقد بيع أو نكاح حتى خرج وقتها فإن العقد يصح وإن كان عاصيا به وتاركا للصلاة المفروضة ولعقد التكبيرة المأمور بها (1/164)
قال إمام الحرمين وأبو هاشم لا نسلم ذلك ولا أمثاله وليس هو ممن تروعه التهاويل يعني فيلتزم البطلان في هذه الصور ونحوها واعترض غيره بأنه لم يعص هنا بترك الصلاة بل بترك قضاء الدين ورد الوديعة وكذلك لم يعص بعقد البيع بل بتأخير الصلاة عن وقتها
وأجيب عن ذلك بأن كونه في الصلاة ترك لاشتغاله بقضاء الدين كما أن كونه فيها لبث في الدار المغصوبة ولا فرق فالنقص لازم له بغير إشكال
وأما ما ذكره إمام الحرمين فليس بشيء لأن هذه الصور كلها إجماعية قطعية لم يقل أحد ببطلان الصلاة فيها ولا يسع أبا هاشم ولا غيره التزام ذلك لأنه يؤدي إلى إبطال أكثر أعمال الخلق من صلاة وصوم وحج وبيع وشراء و إعتاق إلى غير ذلك من التصرفات التي هي من ضرورات الخلق وعلى الواحد منهم حقوق يجب عليه التنصل منها أما بالرد أو بالاستحلال فيكون اشتغاله عن ذلك بما ذكر قاطعا عن الخروج من حق الغير وهذا معلوم بطلانه أعني القول بفساد هذه التصرفات في هذه الحالة
واحتج القائلون بفساد الصلاة في الدار المغصوبة بأوجه أحدها أن متعلق الأمر إما أن يكون عين متعلق النهي أو غيره فإن كان الأول كان الشيء الواحد مأمورا منهيا معا وذلك عين تكليف ما لا يطاق
وإن كان الثاني فالوجهان إما أن يتلازما أو لا فإن لم يتلازما كان الأمر والنهي متعلقين بشيئين ولا نزاع في صحة ذلك لكنه ليس بصورة المسألة (1/165)
لما سنبينه وإن تلازما كان كل واحد من ضرورات الآخر والأمر بالشيء أمر بما هو من ضروراته و إلا وقع التكليف بما لا يطاق فإذا كان المنهي من ضرورات المأمور كان مأمورا فيعود الأمر إلى لزوم كون الشيء الواحد مأمورا منهيا وذلك محال وهذا صورة هذه المسألة لأن جهة الغصب على الإطلاق وإن كانت مغايرة لجهة الصلاة ومنفكة عن مطلق الصلاة لكنه يستحيل انفكاك هذه الصلاة عن جهة الغصب إذ الصلاة في الدار المغصوبة يستحيل أن تكون منفكة عن جهة الغصب
وثانيها أن الحركات والسكنات داخلة في مفهوم الصلاة في الدار المغصوبة وشغل الحيز داخل في مفهوم الحركة والسكون إذ الحركة عبارة عن شغل الجوهر للحيز بعد أن كان في غيره والسكون عبارة عن شغل الجوهر للحيز أكثر من زمان واحد فشغل الحيز داخل في مفهوم الحركة والسكون الداخلين في مفهوم الصلاة فكان داخلا في مفهوم الصلاة لأن جزء الجزء جزء و شغل الحيز فيما نحن فيه حرام فالصلاة التي جزؤها حرام لا تكون واجبة لأن وجوبها إما أن يستلزم إيجاب ما كان من أجزائها محرما وهو تكليف بما لا يطاق
والثاني يلزم منه أن يكون الواجب بعض أجزاء الصلاة لا نفس الصلاة لأن مفهوم الجزء مغاير لمفهوم الكل وذلك محال ولأن النهي عن الجزء نهي عن الكل المجموع والمنهي عنه لا يكون واجبا
ولأن الأمر بالكل أمر بالجزء لتوقفه عليه ويلزمه إيجاب ما كان من أجزائها محرما وهو تكليف بالمحال (1/166)
وثالثها أن المسلمين أجمعوا على أن الصلاة لا تصح إلا بنية التقرب إلى الله تعالى والتقرب إليه لا يتصور بما هو معصية وقد حرمه الله سبحانه وبعبارة أخرى شرط صحة الصلاة نية الوجوب أو نية ما يقوم مقام الوجوب فكيف يتحقق الوجوب فيما قد تحقق فيه الحظر لأن الكون في الدار المغصوبة محرم
ورابعها النقض ببطلان صوم يوم النحر بالنذر وغيره مع اختلاف الجهتين فيه لأن جهة كونه صوما منذورا مأمورا به وجهة كونه واقعا في يوم النحر منهي عنه ومنهم من أورد ذلك على وجه الملازمة فقال لو صحت الصلاة في الدار المغصوبة لصح الصوم يوم النحر والجامع اختلاف الجهتين كما سبق فلما لم يصح الصوم يوم النحر لم تصح الصلاة في الدار المغصوبة ولا يخفى أن هذا الوجه إنما هو لازم للمالكية والشافعية القائلين ببطلان صوم يوم العيد بخلاف الحنفية فإنهم يقولون بصحته كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وأجيب عن الوجه الأول والثاني بأمور
أحدها النقض بما تقدم من المثال المضروب في أمر السيد عبده بالخياطة ونهيه عن دخول الدار
قال صاحب الأحكام
جميع ما ذكروه في الوجه الأول والثاني بعينه وارد على المثال المضروب من غير فرق (1/167)
وأجاب غيره بمنع أن ما لا يتم الواجب إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب وبمنع أن الأمر بالكل أمر بالجزء وهذا المنع إنما يتم ممن يمنع ذلك مطلقا أو ممن يقول إن ما لا يتم الواجب إلا به لا يكون واجبا إلا إذا كان شرطا شرعيا كابن الحاجب ومن وافقه وكلا القولين ضعيفان
والراجح وجوب ما لا يتم الواجب إلا به وان الأمر بالكل أمر بالجزء وأجاب صاحب التحصيل عنهما بوجهين
أحدهما أنه لا نزاع في أن الفعل المعين لا يجوز أن يكون مأمورا به لعينه ومنهيا عنه لعينه وإنما النزاع في أن الفعل إذا كان فردا من أفراد المأمور به ولم يكن مأمورا به لعينه ولكن وجد المأمور به في ضمنه هل النهي عنه أم لا
وما ذكر من الدليلين لا يدل على فساد هذا بل على أن الصلاة في الدار المغصوبة لا يكون مأمورا بها لعينها ولا نزاع في ذلك
وجواب المتنازع فيه بنى على أصل الإمام فخر الدين الرازي أن الأمر بالماهية الكلية ليس أمرا بشيء من جزئياتها فالأمر بصلاة الظهر مثلا لا يكون أمرا بهذه الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة (1/168)
وبهذا خرج الجواب عن قولهم في الوجه الأول إن لم يتلازما فليست هذه المسألة أي مسألة الصلاة في الدار المغصوبة فإن الصلاة مع الغصب أمران متلازمان هنا كما تقدم من كلامه لأنه تبين أن التلازم إنما يكون إذا كان المأمور به هنا هو عين الصلاة في الدار المغصوبة وليس الأمر كذلك بل المأمور به نفس الصلاة الواقعة في ضمن الصلاة في الدار المغصوبة فإن المأمور به إنما هو فرد من نوع لا بخصوص كونه ذلك الفرد بل بوجود النوع الواجب في ضمن ذلك الفرد لأن كل فرد من أفراد الواجب ظهرا الواقعة في نفس الظهر مثلا إنما يتشخص بعوارض مخصوصة كزمان مخصوص ومكان مخصوص وعلى قدر مخصوص ولا توجد تلك العوارض المخصوصة إلا في ضمن ذلك الفرد مع اشتراك الجميع في كونها صلاة الظهر واقعة في الوقت
ولا يقال إذا لم تكن الصلاة في الدار المغصوبة واجبة فالآتي بها لم يخرج عن العهدة لتركه الواجب لأنا نقول المدعى أن الواجب المطلق موجود في ضمن هذا الفرد المتشخص بالعوارض المخصوصة فيخرج بذلك عن العهدة ولا يلزم منه أن يكون هذا الفرد المعين لشخصه بعوارضه الخاصة واجبا لعينه لما بيناه
وهذا كله بناء على ما تقدم أن الأمر بالماهية الكلية ليس أمرا بشيء من جزئياتها وموضع تقريره غير هذا المكان فتكون الصلاة في الدار المغصوبة مأمورا بها باعتبار ماهيتها ومنهيا عنها باعتبار خصوصيتها (1/169)
الوجه الثاني أنه إذا لم يقل بأن الأمر بالماهية الكلية ليس أمرا بشيء من جزئياتها بل هو أمر بها فيلزم على ذلك نقض عظيم وهو أنه يمتنع النهي عن فعل ما إذا قيل بأنه يمتنع النهي عن فرد من أفراد الكلي المأمور به وذلك باطل بالإجماع وبيان الملازمة أن نفس الفعل مأمور به ولأن الفعل الخاص مأمور به ونفس الفعل جزء من الفعل الخاص وجزء المأمور به مأمور به جزما فلا ينهى عن فعل معين لأن كل فعل منهي عنه فهو فرد من أفراد نفس الفعل والتفريع على أنه لا يكون الفعل المعين المنهي عنه فردا من أفراد الكلي المأمور به وهذا الفعل المعين المنهي عنه فرد من أفراد نفس الفعل المأمور فلا يكون المعين منهيا عنه وإلا يلزم اجتماع الأمر والنهي في فعل واحد وذلك محال هذا معنى كلام صاحب التحصيل مبسوطا عما ذكره
واعترض الشيرازي شارح المختصر على هذا الوجه الثاني بأن نفس هذا الفعل المعين ليس مأمورا به أصالة بل تبعا لكونه جزء المأمور به ولا يلزم من استحالة ما ذكر في المأمور به أصالة أن يجيء ذلك في المأمور به تبعا
ثم قال نعم لو قيل لو امتنع ذلك استحال النهي عن صلاة المحدث لكونها فرد من أفراد الصلاة المأمور بها مع أن النهي عنها واقع لهم وفي الإعتراض المذكور نظر من جهة أن الأصالة لا أثر لها فيما نحن فيه فان الدليل المذكور قياسي في الحقيقة والجامع اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد وهذا ممتنع سواء كان الوجوب بالأصالة أو التبعية (1/170)
وأما قوله في صلاة المحدث فضعيف أيضا لأن الصلاة المأمور بها هي الصلاة المستجمعة لشروطها وصلاة المحدث مع القدرة على الطهارة ليست فردا من الأفراد المأمور بها فلم يجتمع الوجوب والتحريم معا
وأما الوجه الثالث فالجواب عنه ظاهر لأن نية التقرب إلى الله تعالى إنما تتوجه إلى كونها صلاة لا إلى كونها غصبا ونحن قد بينا انفكاك أحد الأمرين عن الآخر وأنهما ليسا متلازمتين بل باعتبار الجهتين كما سبق فلا تناقض حينئذ وهذا الجواب هو المعتمد وقد أجاب القاضي أبو بكر بن الباقلاني عنه بأن الصلاة تشتمل على جنسين أقوال كالقراءة والأذكار وأفعال كالقيام والركوع والسجود والأقوال لا غصب فيها بخلاف الأفعال فتتوجه النية إلى ما لا غصب فيه و تكون الأفعال كالأجزاء التي تعزب النية فيها عن المصلي بعد ما نوى أولا
وفي هذا الجواب نظر والحق أن نية الصلاة تشمل كل ما يقع فيها ولا استحالة في الأفعال لما بينا من اعتبار الجنس
والجواب عن الرابع بالفرق بين المقامين فإن صوم يوم النحر غير منفك عن الصوم بوجه لأنه خاص والخاص لا ينفك عن العام فلا يتحقق فيه جهتان كما تحققنا في الصلاة في الأرض المغصوبة لأن الأمر لكونها صلاة والنهي لكونها غصبا
ولا يقال فالأمر بصوم يوم النحر لكونه صوما مطلقا والنهي لكونه يوم النحر لأنا نقول اليوم المتعلق بالصوم غير منهي عنه مفردا والغصب المتعلق بالصلاة منهي عنه مجردا عنها ومن أورد ذلك الوجه (1/171)
على طريق الملازمة يجاب عنها بتخصيص المدعى بأن يقال المدعى تجويز تعلق الأمر والنهي معا بذي جهتين ينفك المنهي عنه عن المأمور به في الجملة أو كل واحدة منها عن الأخرى في الجملة وحينئذ لا يلزم ما ذكروه من فساد صوم يوم النحر لامتناع انفكاك صوم يوم النحر عن الصوم من حيث هو صوم لاستلزام الأخص الأعم وسيأتي تتمة الكلام على صوم النحر وبيان بطلانه في الفصل الآتي بعد هذا إن شاء الله تعالى
وأما القاضي أبو بكر بن الطيب فإنه احتج لفساد الصلاة في الأرض المغصوبة بالوجوه المتقدمة وقد أجبنا عنها ثم رأى أن ذلك معارض بإجماع السلف على سقوط المطالبة بها فقال الغرض يسقط عندها لا بها جمعا بين الدليلين
واختار هذه الطريقة ابن الخطيب في المحصول قال لأنا بينا بالدليل امتناع ورود الأمر بها والسلف أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة ولا طريق إلى التوفيق بينهما إلا ما ذكرناه
وقد اعترض المحققون على هذه الطريقة بعبارات مختلفة
وقال إمام الحرمين هذا عندي حائد عن التحصيل غير لائق لمنصب هذا الرجل الخطير يعني القاضي أبا بكر فإن الأعذار التي ينقطع بها الخطاب (1/172)
محصورة فالمصير إلى سقوط التكليف من متمكن من الامتثال ابتداء ودواما بسبب معصية لابسها لا أصل له في الشريعة
والذي يتحصل من كلامهم في رد هذه الطريقة وجوه أرجحها
منع وجود الإجماع المذكور وإن كان قد احتج به جماعة من الأئمة كالغزالي ومن بعده حتى قال الغزالي رحمه الله وغيره أن من قال بأن الفرض لم يسقط بالصلاة في الدار المغصوبة لمحجوج بالإجماع وليس الأمر كما ذكر لأن الإجماع لم ينقل عن المتقدمين لفظا عنهم بل غاية ما قال القاضي أبو بكر لم يأمر أئمة السلف الظلمة بإعادة الصلوات التي أقاموها في الأرض المغصوبة
وحاصل هذا إثبات الإجماع بعدم النقل وقد علم أن عدم الوجدان لا يلزم منه عدم الوجود فلا يثبت ادعاء الإجماع حتى يثبت النقل بأن الظلمة غصبوا أراض معينة غصبا محققا ثم كانوا يصلون فيها والعلماء من الصحابة المتأخرين ومن بعدهم من التابعين يشاهدونهم ولا يأمرونهم بالإعادة مع قدرتهم على الإنكار عليهم ثم شاع ذلك واستمر العمل به في الأمصار كلها حتى انعقد الإجماع عليه وكل هذه المقدمات لا يمكن ثبوت شيء منها بل الظاهر خلافها وان ذلك لم يتفق في عصر الصحابة رضي الله عنهم ولو اتفق من واحد من ولاة بني أمية لأمكن أن يخفى عليهم ولو قدر أن لا يخفى عنهم لأمكن أن ينكروا ذلك ويخفى عنا لأن الظاهر من حالهم أنهم لا يقرون عن المنكر وقد كانوا ينكرون أقل من هذا وكيف يدعي الإجماع في المسألة وفيها (1/173)
الخلاف من مثل الإمام أحمد بن حنبل وأصبغ بن الفرج وعبد الملك بن حبيب من المالكية
وقد قال إمام الحرمين عزي المنقول عن أحمد إلى طوائف من سلف الفقهاء وقيل هو رواية عن مالك ولا ريب في أن الإمام أحمد رحمه الله من أعلم الفقهاء بالإجماع والاختلاف وأكثرهم إطلاعا على الآثار المنقولة عن السلف فكيف يخفى عليه مثل هذا
وقول فخر الدين المتقدم أجمعوا على أن الظلمة لا يؤمرون بقضاء الصلوات فيه خلل ظاهر فإن الذي ادعاه من نقل الإجماع واستروح إليه إنما هو عدم أمر الأئمة من السلف للظلمة لا النقل عنهم كلهم أن الظلمة لا يؤمرون وفرق بين المقامين
ثم إن الإجماع عند فخر الدين دليل ظني وما ذكره من الأدلة التي سبق ذكرها قطعية على زعمه فكيف يعارض الظني القطعي حتى يحتاج إلى الجمع بينهما
وقولهم إن الفرض يسقط عندها لا بها لا يخفى ضعفه وخصوصا في مقابلة ما أدعوه من القاطع فإن سقوط الفرض المعين منحصر في أدائه على الوجه الذي أمر به أو تعذره من المكلف بخروجه عن أهلية التكليف ونحو ذلك أو بالنسخ عنه والأخيران منتفيان هنا فتعين أن يكون السقوط للمعنى الأول وهذا القدر كاف في هذه المسألة وفيها مباحث طويلة وتشكيكات كثيرة على الأدلة من الطريقين لا فائدة في ذكرها لئلا يطول الكلام
وقد ذكر الأصفهاني شارح المحصول مسألة ترد نقضا على القائلين (1/174)
ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة وهي صوم يوم من شهر رمضان يخاف المكلف على نفسه الهلاك به لسبب الصوم فإن الصوم حرام عليه في ذلك النهار قطعا مع أنه صحيح وذكر أنه لا جواب لهم عنه وهذا إنما يتم إذا كان الحنابلة ومن وافقهم يسلمون صحة صوم ذلك اليوم فإن كان كذلك فهو نقض قوي وبه يتبين أيضا اعتبار الجهتين
لكن الظاهرية يقولون ببطلان مثل هذا الصوم وأنه لا يؤدى عن الفرض كما يقولون بمثله في صوم المسافر بل ها هنا أولى
والذي اعتمد عليه الغزالي في النقض عليهم ما تقدمت الإشارة إليه وهو أن من في ذمته حق لغيره وهو قادر على رده إليه أو استحلاله منه ولم يفعل أنه لا يصح بيعه ولا صلاته ولا زكاته و إذا تزوج المطلقة ثلاثا لا يحصل التحليل بوطئه لأنه عصى بترك رد المظلمة ولم يتركه إلا بتزويجه وبيعه وصلاته قال فيؤدي هذا إلى تحريم أكثر النساء وفوات أكثر الأملاك وهو خرق للإجماع قطعا وذلك لا سبيل إليه
وذكر جماعة من المصنفين أن الخلاف في الصلاة في الدار المغصوبة جار (1/175)
في الوضوء بالماء المغصوب من الإناء المغصوب والتيمم بتراب مغصوب والمسح على خف مغصوب وكذلك الزكاة إذا خرجت بمكيال مغصوب أو ميزان مغصوب والحج على جمل مغصوب أو بنفقة حرام وكذلك الوضوء من إناء الذهب أو الفضة حكاه الشيخ محي الدين والذبح بسكين مغصوب فإنه لا تحل الذبيحة أيضا عندهم وكذلك إقامة الحد بسوط مغصوب وما أشبه ذلك
وقال الشيخ صفي الدين الهندي رحمه الله في نهاية الوصول بعده ذكره أكثر هذه المسائل اختلف القائلون ببطلان الصلاة في الدار المغصوبة سواء قالوا بوجوب القضاء أو بسقوط الطلب عندها لا بها فمنهم من عمم المنع في الكل ومنهم من خصص بما إذا كان المنهي عنه جزءا أو لازما للماهية دون غيره
فأشار بالأول إلى داود وأتباعه وبالثاني إلى الإمام أحمد بن حنبل (1/176)
فإن الروايات اختلفت عنه في آحاد هذه المسائل لكن جادة مذهبه أن كل منهي عنه غير صحيح وإن كان النهي لمعنى خارجي
لكن اتفقت الروايات عنه على أن الطلاق البدعي في الحيض ونحوه ينفذ وكذلك إرسال الثلاث جملة وإن كان منهيا عنه عنده واتفق على ذلك أصحابه كافة والنقض بهذه الصور وارد عليهم قطعا فإن فرقوا بين المقامين بأن الإيقاعات يغتفر فيها ما لا يغتفر في العبادات والعقود نقض ذلك عليهم بقولهم في الذبح بالسكين المغصوب أنه لا يحل الذبيحة
وقد نقل ابن برهان الإجماع على صحة صلاة الجمعة في البقعة المغصوبة بعد ذكر الخلاف المتقدم في مطلق الصلاة في الدار المغصوبة
ومما يشهد لصحة المنهي عنه إذا كان النهي لغيره إثباته صلى الله عليه و سلم الخيار لمشتري المصراة إذا تبين التصرية مع أن التصرية غش وتدليس منهي عنه قطعا والنبي صلى الله عليه و سلم لم يحكم ببطلان البيع بل أثبت الخيار وذلك دال على إنعقاده مع ارتكاب البائع النهي فيه
وكذلك تلقي الركبان ونهي النبي صلى الله عليه و سلم عنه ثم أثبت لمن تلقى واشترى منه الخيار إذا قدم السوق كما هو في الصحيحين وذلك يقتضي تصحيح العقد كما في المصراة على أنه روي عن أحمد بن حنبل رحمه (1/177)
الله في رواية أن البيع باطل طردا لقاعدته والحديث حجة على هذه الرواية
وفيما تقدم من تحقيق الفرق بين المقامين وأن النهي عنه لغيره لم يتوارد النفي والإثبات فيه بالنسبة إلى معنى واحد فلا يكون مرتكبه داخلا تحت الأدلة المتقدمة الدالة على أن النهي يقتضي الفساد كفاية وأبينها ما ذكره المازري رحمه الله من ضرب المثال بمن طلب من عبده أن يسقيه ماء ويرفق في إمساكه كما تقدم والفرق واضح جدا بين من صلى بغير وضوء أو توضأ بماء نجس وبين من توضأ بماء مغصوب فإن الأول لم يأت بالمأمور به والثاني لم يأت به على وجهه المشروع في ذاته وأما الثالث فأتى به على وجهه ولكن عصى بأمر خارجي عنه
فإن قيل وبماذا يعرف كون النهي عن الشيء لأمر خارجي حتى يعلل به عن اقتضائه الفساد قلنا
يعرف ذلك تارة بتنصيص الشارع أو إيمائه إلى ذلك كما في قوله صلى الله عليه و سلم لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض فإن هذا إشارة إلى أن النهي عن هذا البيع إنما هو لما يقترن به من المضرة للغير وكذلك نهيه صلى الله عليه و سلم عن بيع الرجل على بيع أخيه وعن (1/178)
بيع الحاضر للبادي وتلقي الركبان وأمثاله فالنهي متعلق بالبيع من جهة اللفظ وبإضرار الغير من جهة المعنى كما في قوله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون النهي عن الموت في اللفظ وليس ذلك مقدورا بل هو في الحقيقة عما يقترن به من الكفر
وكذلك قوله تعالى ولا يصدنكم الشيطان والنهي عن الصد للشيطان في اللفظ وللمكلفين في المعنى
ومثل هذا قول القائل لغيره لا أرينك ها هنا فإنه لم يقصد المتكلم بالنهي نفسه وإنما المقصود به المخاطب وتارة يعرف ذلك من جهة أن النهي ليس مختصا بمورده بل يعم صورا غير المنهي عنه كالبيع وقت النداء للجمعة فإن الإتفاق على أن غير البيع من سائر الشواغل عن الجمعة كالبيع في النهي عن الاشتغال بها
فدل على أن النهي في الآية عن البيع ليس لذاته ولا لخلل في أركانه وشرائطه بل لكونه سببا لترك الجمعة
وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة إذ التحريم ليس مختصا بالصلاة (1/179)
فقط بل يعم سائر الأفعال والحركات والسكنات الكائنة في الأرض المغصوبة فعلم من ذلك أن النهي ليس لذات الصلاة
وتارة يعرف ذلك من جهة المعنى كما في طلاق الحائض فإنه ليس لذاته بل لما يقترن به من تطويل العدة
وكذلك الصلاة في أعطان الإبل لما يخشى من نفارها فتشوش على المصلي
وكالنهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين فإن ذلك لما فيه من تفويت كمال الخشوع وتشويشه ولو ترك الخشوع عمدا صحت صلاته فدل على أن النهي لأمر خارجي
وكذلك نهي الحاكم عن أن يحكم بين اثنين وهو غضبان فإنه احتياط للحكم فإذا وقع الحكم في هذه الحالة بأركانه وشرائطه صح اتفاقا فدل ذلك على أنه لأمر خارجي غير ذات المنهي عنه وهذه أيضا مما ترد على الحنابلة
وكذلك بيع العنب ممن يتخذه خمرا لما كان المنع منه لئلا يتوسل به إلى اتخاذ الخمر المنهي عنه صحح الشافعي البيع لأنه ليس لذات المبيع وقال أحمد ببطلانه طردا للقاعدة
فإن قيل فلم قال الشافعي ببطلان البيع إذا وقع به التفريق بين الوالدة وولدها مع أن النهي عنه لغيره لا لذات العقد
قلنا لأن تسليم المبيع فيه ممنوع شرعا والممتنع شرعا كالممتنع حسا فكان المبيع غير مقدور على تسليمه وذلك شرط في صحة البيع (1/180)
فإن قيل يرد عليه أيضا بطلان نكاح المحرم فإن المنهي عنه لكونه وسيلة إلى الوطء المحرم حالة الإحرام قلنا ليس كذلك بل هو من المنهي عنه لوصفه اللازم بدليل النهي له أيضا عن أن ينكح غيره أو أن يخطب فهو كالنهي عن الصلاة بغير وضوء والإحرام بالنسبة إلى العقد كالحدث بالنسبة إلى الصلاة
وقد ذكر المالكية فرعا حسنا لم أره مسطورا في كتب أصحابنا وهو ما إذا لبس المحرم الخف متعديا به ثم توضأ ومسح عليه فقالوا لا تصح طهارته وفرقوا بينه وبين الماسح على الخف المغصوب بأن الماسح على الخف المغصوب مخير بين الغسل والمسح على الخف في الجملة غاية الأمر أنه تعدى باستعمال المغصوب ومسح عليه وكان النهي في المجاور كما مر في نظائره وأما المحرم فإنه لم يؤمر حالة الإحرام إلا بغسل الرجل ولم يخير بينه وبين المسح فإذا لبس الخف ومسح عليه لم يأت بالمأمور به فلم تصح طهارته وهو فرق حسن وبحث صحيح ولا يتعد أن يتخرج على قواعد الشافعية
والحاصل أن النهي متى ظهر فيه أنه لأمر خارجي لم يكن دالا على الفساد و إذا لم يظهر فيه ذلك حمل على الفساد سواء تحقق فيه أنه لعين المنهي عنه أو لوصفه اللازم أو لم يتحقق ذلك كنهيه صلى الله عليه و سلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان والله سبحانه أعلم (1/181)
الفصل الخامس
في البحث مع الحنفية في دلالة النهي على الصحة وقد تقدم أنهم لا يقولون بذلك في جميع المناهي بل في المنهي عنه لوصفه اللازم وإن كان جماعة من الأئمة المصنفين أطلقوا القول عنهم بذلك والكلام في أبحاث
البحث الأول في أن النهي لا يدل على الصحة أصلا وبيانه من وجهين الأول أنه لو دل على الصحة لدل إما بلفظه أو بمعناه والقطع حاصل بأنه لا يدل عليه بلفظه وأما أنه لا يدل عليه بمعناه فلأن شرط الدلالة المعنوية اللزوم إما قطعا أو ظاهرا والتحريم لا يستلزم الصحة لا قطعا ولا ظاهرا بل هو مستلزم لعدمها لما بيناه في الوجوه الدالة على أن النهي يقتضي الفساد وأن مقصود التحريم أن لا يوجد الفعل والقول بالصحة مضاد لهذا المقصود لأنه يفضي إلى الوجود
ومن وجه آخر أن كون التصرف صحيحا يلزم منه كونه مشروعا ومن ضرورة كونه مشروعا كونه مرضيا قال الله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية و كون الفعل محرما منهيا عنه ينافي هذا الوصف وإن كان داخلا في المشيئة والقضاء الأزلي إذ لا يلزم من ذلك (1/182)
الرضا فإن الكفر وسائر المعاصي واقعة بقضاء الله وقدره ولا يرضى بها و إذا ثبت التنافي بين التحريم والصحة لم يكن النهي دالا على الصحة بطريق اللزوم أصلا بل هو دال على نقيضها كما بيناه فيما تقدم
الثاني أنا أجمعنا على وجود النهي حيث لا صحة كالنهي عن بيع المضامين والملاقيح و حبل الحبلة وكالنهي عن الصلاة في أيام الحيض بقوله صلى الله عليه و سلم دعي الصلاة أيام أقرائك و كالنهي عن نكاح ما نكح الآباء إلى غير ذلك من المناهي فلو كان النهي مقتضيا للصحة لكان (1/183)
تخلف الصحة مع وجود النهي على خلاف مقتضى الدليل ولا ريب أن ذلك على خلاف الأصل سواء كان لمعارض أو لا لمعارض بل نقول الأصل عدم المعارض وان أبدي إجماع في هذه الصور فالظاهر أنه مستند إلى النهي إذ لا إجماع إلا عن مستند ولم يزل العلماء يستدلون على الفساد بالنهي عنها كما تقدم فتكون هذه المناهي مستند الإجماع
ولا يرد على ذلك المواضع التي حكم فيها بالصحة مع النهي عنها لأنا نقول ليس شيء من ذلك منهيا عنه لعينه ولا لوصفه اللازم بل كلها من المنهي عنه لأمر خارجي جاوره وكلامنا في القسمين الأولين فالنقض إنما يرد على المالكية في إثباتهم شبهة الصحة في بعض الصور كما تقدم
فإن قيل قد الصحة أثبتم فيما إذا أحرم مجامعا مع ارتكابه المنهي عنه قلنا هو وجه مرجوح لبعض الأصحاب وليس عليه الفتوى ولنا وجهان آخران أحدهما أنه لا ينعقد إحرامه أصلا كما لا تنعقد الصلاة مع الحدث وهذا هو الأصح
والثاني أنه ينعقد فاسدا كما لو جامع بعد انعقاد الإحرام فإنه يفسد إحرامه ويجب عليه القضاء و الكفارة والمضي في إتمام هذا الفاسد وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى
واحتج محمد بن الحسن رحمه الله تعالى لأن النهي يقتضي الصحة (1/184)
بأن صوم يوم العيد وأيام التشريق منهي عنه والنهي لا يقع عما لا يتكون وقرروا هذا الكلام بوجهين
أحدهما أن الأصل في ألفاظ الشارع تنزيلها على عرفه وعرف الشارع في النهي عن الصلاة والصوم والبيع ونحو ذلك إنما هو المعتبر شرعا فلو لم يكن التصرف المنهي عنه كذلك لكان المنهي عنه غير الأمر الشرعي وهو ممتنع
وثانيهما أن النهي عن غير المقدور قبيح وعبث بدليل أنه يقبح أن يقال للأعمى لا تبصر وللزمن لا تمش لكونه غير متصور منه فيكون النهي عن غير المتصور قبيحا وعبثا وهو غير جائز على الحكيم فيلزم أن يكون المنهي عنه متصور الوقوع ويلزم من ذلك صحته
والجواب عن المذكور أولا أن الشرعي ليس معناه هو المعتبر في نظر الشرع فإن الشرعي قد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا والدليل على أن الشرعي المنهي عنه ليس هو الصحيح المعتبر قوله صلى الله عليه و سلم للحائض دعي الصلاة أيام أقرائك فإن الصلاة المنهي عنها هي الصلاة الشرعية لأن اللغوية لا ينهى عنها وهذه الصلاة المأمور بتركها فاسدة غير معتبرة في نظر الشرع وأيضا لو كان المراد بالنهي الشرعي الذي يعتبر معناه بحسب عرف الشرع لزم دخول الوضوء وغيره في الشرائط في مسمى الصلاة الشرعية لأن كونها شرعية إنما يتحقق عند اجتماع شرائطها (1/185)
وعن الثاني أن الصحة على ثلاثة أقسام صحة عقلية وهي إمكان الشيء وقبوله للوجود والعدم في نظر العقل كإمكان الأجسام والأعراض
وصحة عادية كالحركة الممكنة من القادر عليها مثل المسمى أماما ويمينا وشمالا دون الصعود في الهواء
وصحة شرعية وهي للإذن الشرعي في جواز الإقدام على الفعل والنزاع إنما هو في الصحة الشرعية وما ذكروه في قضية الأعمى والزمن دليلا على العبث والفساد إنما هو دال على اشتراط الصحة العادية وهي مجمع على اعتبارها فإنه ليس في الشريعة مأمور به ومنهي عنه ولا مشروع على الإطلاق إلا وفيه الصحة العادية بل لم يقع في اللغة طلب وجود و لا عدم إلا فيما يصح عادة فالدليل الذي ذكروه لا يجامع صورة النزاع ولئن سلمنا أن ما ذكروه يدل على الصحة الشرعية فالامتناع في المنهي عنه لم يأت من ذاته حتى يقبح النهي عنه بل إنما جاء من تعليق النهي به فلم يكن ممتنعا شرعا إلا بعد النهي والمستقبح إنما هو النهي عن ممتنع وقوعه قبل النهي بسبب آخر
سلمناه لكن ما المانع من حمل النهي على النسخ كما إذا قال الموكل لوكيله لا تبع هذا فإنه وإن كان نهيا في الصيغة لكنه نسخ في الحقيقة لتلك الصحة السابقة ثم إن هذا منقوض بقوله تعالى ولا تنكحوا المشركات ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم وقوله صلى الله عليه و سلم للحائض دعي الصلاة (1/186)
أيام أقرائك فإن كل ذلك ممتنع شرعا وقد منع منه فإن قالوا يحمل النكاح والصلاة في هذه الصورة وما أشبهها على المسمى اللغوي دون الشرعي
قلنا قد خالفتم قولكم أن الممتنع لا يمنع منه لأن النكاح اللغوي الذي هو مجرد الوطء أو العقد على اصطلاح الجاهلية ممتنع في الشرع ثم قد منع منه وأيضا يتعذر ذلك في دعي الصلاة أيام أقرائك لأن مفهوم الصلاة اللغوي إنما هو الدعاء وليست الحائض ممنوعة منه
وأجاب الشيخ الموفق في الروضة وغيره أيضا بأن حمل ألفاظ الشارع على الحقائق الشرعية إنما يلزم في الأوامر فإن بهذا الحمل تتحقق صورة المأمور به وأما في النواهي فلا يلزم بل المقصود تصور الأفعال المنظومة ذهنا ثم الكف عنها وذلك كاف في الانتهاء والله أعلم (1/187)
البحث الثاني في المنهي عنه لوصفه وقد تقدم أن قاعدتهم فيه فساد ذلك الوصف دون المنهي عنه وأن الشافعي ومن وافقه من الجمهور قالوا تحريم الشيء لوصفه مضاد لوجوب أصله فيقتضي الفساد ظاهرا كالمنهي عنه لعينه
و حقيقة هذا الخلاف ترجع إلى أن الشارع إذا أمر بشيء مطلقا ثم نهى عنه في بعض أحواله فهل يقتضي ذلك النهي إلحاق شرط بالمأمور به حتى يقال أنه لا يصح بدون ذلك الشرط و يصير الفعل الواقع بدونه كالعدم كما في الفعل الذي اختل منه شرطه الثابت شرطيته بدليل آخر أم لا يكون كذلك
ومثاله الأمر بالصوم والنهي عن إيقاعه يوم النحر والأمر بالطواف والنهي عنه مع الحدث في قوله صلى الله عليه و سلم لعائشة رضي الله عنها لما حاضت افعلي المناسك كلها غير أن لا تطوفي في البيت وأمر بالصلاة ثم نهى عن إيقاعها في الأوقات الخمسة وشرع البيع مطلقا ثم نهى عن الربوي متفاضلا إلى غير ذلك من الصور فالشافعي والجمهور قالوا إن النهي على هذا الوجه يقتضي الفساد وإلحاق شرط بالمأمور لا تثبت صحته بدونه
وذهبت الحنفية إلى تخصيص الفساد بالوصف المنهي عنه دون الأصل المتصف به حتى لو أتى به المكلف على الوجه المنهي عنه يكون صحيحا بحسب الأصل فاسدا بحسب الوصف إن كان ذلك النهي نهي فساد و إلا (1/188)
فمجرد النهي عنه لا يدل على الفساد بل على الصحة كما تقدم فإذا نذر الرجل صوم يوم النحر ينعقد نذره عندهم و يجب عليه إيقاعه في غير يوم النحر فإن أوقعه فيه كان محرما ويقع عن نذره و يصح
وكذلك قالوا في طواف الحائض أنه يحرم عليها الطواف ويجزئها عن طواف الفرض حتى يقع التحلل به وإذا باع درهما بدرهمين بطل العقد في الدرهم الزائد وصح في القدر المساوي و هذا معنى قولهم صحيح بأصله فاسد بوصفه وإنما حكموا ببطلان صلاة المحدث لقيام الدليل الدال على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة أما من الإجماع أو من قوله صلى الله عليه و سلم لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ونحوه ولهم في ذلك مأخذان
أحدهما قالوا أن المنهي عنه في يوم النحر هو إيقاع الصوم فيه لا الصوم الواقع وهما مفهومان متغايران فلا يلزم من تحريم الإيقاع تحريم كما أنه لم يلزم من تحريم الكون في الدار المغصوبة تحريم نفس الصلاة لما كان المفهومان متغايرين
الثاني ما تقدم أن النهي يستلزم تصور حقيقته الشرعية فيقتضي ذلك الصحة والمنهي عنه قبيح لذاته و ذلك قائم بالوصف لا بالأصل فيجب (1/189)
العمل بمقتضى الأصلين فيكون صحيحا بأصله لمشروعيته فاسدا بوصفه لقبحه
واعترضوا على الجمهور بوطء الحائض فإنه منهي عنه لوصفه ويترتب عليه آثاره من تكميل المهر بوجوب العدة وثبوت الإحصان وغير ذلك وبالطلاق في حالة الحيض أيضا فإنه منهي عنه لوصفه وينفذ اتفاقا وبذبح شاة الغير بدون إذنه فإنه محرم ويفيد ذكاته الحل أيضا
وحجة الجمهور الأدلة المتقدمة الدالة على أن النهي يقتضي الفساد وتحقيق القول في ذلك يرجع إلى بيان التضاد بين الأمر والنهي في هذه الصور المتقدمة
وبيانه أن السيد إذا قال لعبده آمرك بالخياطة وأنهاك عنها فلا ريب في أن ذلك متناقض يؤدي إلى الاستحالة كما تقدم فلو قال له آمرك بالخياطة وأنهاك عن دخول الدار كان ذلك معقولا فإذا أتى العبد بالخياطة داخل الدار صح فيه أن يقال أطاعه وعصاه كما بيناه في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة
ولاريب في هذين القسمين وإنما الكلام في القسم المتوسط بين هذين وهو أن يقول آمرك بالخياطة وأنهاك عن إيقاعها وقت الزوال فإذا خاط وقت الزوال فهل جمع بين المطلوب والمنهي عنه أو ما أتى بالمطلوب الذي يظهر انه ما أتى بالمطلوب فإن المنهي عنه هو الخياطة الواقعة وقت الزوال لا الوقوع في وقت الزوال مع بقاء الخياطة مطلوبة إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الواقع ولو كانت الخياطة مطلوبة في كل (1/190)
وقت للزم من ذلك أن تكون مطلوبة وقت الزوال ومنهيا عنها في ذلك الوقت فيجتمع المحال
وأيضا فكل عربي يفهم من قول القائل أنهاك عن إيقاع الصوم في يوم النحر ما يفهم من قوله أنهاك عن صوم يوم النحر من تحريم صومه مطلقا ولا شك في أن هذا مضاد لوجوب صومه بل لصحته وانعقاده
وبهذا فارق الصلاة في الدار المغصوبة فإنه ليس المفهوم من النهي عن الغصب أو من النهي عن اللبث في الدار المغصوبة عين ما هو المفهوم من النهي عن الصلاة حتى يلزم من فساد صوم يوم النحر فساد الصلاة في الدار المغصوبة وأيضا لا يمكن الجمع بينهما عند الحنفية فإنهم وإن قالوا بصحة الصوم في يوم النحر فليس على الإطلاق بل هو مختص عندهم بالمنذور دون غيره من أنواع الصيام والصلاة في الدار المغصوبة صحيحة مطلقا لا تختص بصلاة دون صلاة فهذا يوجب الاقتران أيضا في أصل الحكم
وأما قولهم أن النهي عن الشيء يستلزم تصور حقيقته الشرعية فقد تقدم الجواب عنه ثم أن هذا منقوض بما تقدم ذكره من بطلان صلاة الرجل إذا حاذته المرأة في موقفه وبطلان صلاة من عليه قضاء أربع صلوات فما دونها ولا جواب لهم عن هذين فإنه لو ثبت في ذلك نهي خاص كان نهيا عنه لوصفه كالصوم في يوم النحر قطعا وكذلك قولهم في بطلان نكاح المتعة و لافرق بينه وبين نكاح الشغار وكذلك بطلان بيع المضامين والملاقيح والصوف على ظهر الغنم والجذع في السقف وضربة الغائص مع تصحيح بيع الربوي بجنسه متفاضلا في القدر المساوي والمقترن بالشرط (1/191)
الفاسد مع حذف ذلك الشرط فإنه لا فرق بين هذه الصورة إلا ما ذكروه من الإضافة إلى غير محل في بيع الحر والمضامين والملاقيح ونحو ذلك وان ما عدا ذلك يرجع إلى الوصف وهو فرق اصطلاحي لا يزيد على كونه عين المتنازع فيه فإن قيل النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام وغيرهما من الأماكن المكروهة توجه النهي إلى الصلاة وهو نهي عنها لوصفها فلم قلتم بصحتها
قلنا لأن النهي إنما تعلق بها لأمر خارجي مجاور لها فكان كالبيع وقت النداء وهذا هو الجواب عن الطلاق في حالة الحيض والوطء فيه فإن ذلك للمجاور أيضا كما تقدم أن النهي عن الطلاق في حالة الحيض لما فيه من تطويل العدة وفي الطهر الذي جامعها فيه لما يخشى من الندم عند ظهور الولد و عن الوطء في الحيض لما فيه من ملابسة الدم
وأما ذبح ملك الغير بدون إذنه فقد أجاب عنه ابن الحاجب وعن الصور المذكورة آنفا أيضا بأن اقتضاء النهي عن الشيء لوصفه الفساد إنما هو على وجه الظهور لا القطع وهذه الصور مستثناة بدليل خارجي كما في المواضع التي صرف فيها النهي عن حقيقته إلى مجازه من الكراهة والعموم عن ظاهره إلى الخصوص ونحوه (1/192)
ونحن قد بينا أن طلاق الحائض ووطأها من المنهي عنه لغيره فلا يحتاج الاستثناء لدليل إلا ذبح شاة الغير
قالوا فصوم يوم النحر منهي عنه أيضا لغيره الخارج عنه وهو ترك إجابة دعوة الله بالأكل في هذا اليوم والإعراض عن الوظيفة الموضوعة في هذا الوقت من الله سبحانه لعباده
قلنا إن ثبت أن هذا المعنى هو المقتضي لتحريم الصوم فهو وارد عليكم لأن الصوم نقيض الأكل المطلوب فكيف يقال أجب دعوة الله وكل والصوم يقع منك عبادة و لاريب في أن هذا متناقض فإن قيل فلم انعقدت الصلاة في الأوقات الخمسة أما مطلقا على قول أو ذات السبب باتفاق الأصحاب
قلنا أما القول بانعقادها فقد تقدم أن له أحد مأخذين أما حمل النهي على الكراهة والمقتضي للفساد إنما هو نهي التحريم وأما صرف النهي إلى أمر خارجي عن ذات الصلاة ووصفها وذلك لما فيه من التشبه في الأوقات بالكفار وغير ذلك مما هو معروف في كتب الفقه
وأما ذات السبب فبالدليل المقتضي لاستثنائها عن بقية الصلوات كما هو مقرر في موضعه فهو كذبح شاة الغير ولا يخرج بذلك أصل النهي عن اقتضاء الفساد كما تقدم
خاتمة من أقوى ما يتمسك في إبطال قاعدة الحنفية هذه أن أصلهم المستقر أن المنهي عنه قبيح شرعا كما أن المأمور به حسن شرعا وأن (1/193)
الأصل أن يكون القبح قائما بالمنهي عنه إلى أن يثبت بدليل أنه منصرف إلى غيره لأن الكمال في صفة القبح أن يكون في المنهي عنه لا في غيره كما في جانب الأمر الحسن الشرعي قائم بالمأمور به لا بغيره إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك فإن صرف هذا إلى كون النهي راجعا إلى الوصف دون الأصل خروج عن الأصل
هذا ما صرحوا به في كتبهم فعلى هذا يقال جميع المناهي التي حكموا فيها بفساد الوصف دون الأصل وجعلوا النهي راجعا إلى الوصف لم يرد النهي فيها من الشارع إلا على ذات الأصل كنهيه صلى الله عليه و سلم عن صوم يوم العيدين
وعن بيع وشرط وعن نكاح الشغار وأمثاله ولم (1/194)
يرد النهي عن الوصف خاصة إلا أن يكون نادرا فيكون جعلهم النهي في هذه كلها راجعا إلى الوصف دون الأصل مجازا والأصل خلافه إلى أن يثبت ذلك بدليل ولم يثبت من السنة ولا من إجماع الأمة ما يقتضي هذه القاعدة أصلا بل ثبت في الحديث خلافها كما تقدم من إبطاله صلى الله عليه و سلم بيع القلادة في زمن خيبر و لم يصحح العقد في القدر المساوي ويبطله في القدر الزائد و كذلك رده صلى الله عليه و سلم التمر الذي اشترى له الصاع بالصاعين و لم يبين لهم أن العقد يصح في القدر المساوي دون غيره بل ابطل البيع بالكلية فلو كان الشرع يقتضي تصحيح العقد على الوجه الذي ذكروه لكان في هذه الصور وأمثالها تأخير البيان عن وقت الحاجة إذ لم يبين ذلك في وقت أصلا ولا يجدونه منقولا البتة فهذا وحده كاف في الرد لهذه القاعدة والله أعلم
البحث الثالث في بيان الفروع التي تنشأ عن هذه القاعدة على أصولهم وأصول الجمهور المخالفين لهم
وقد بالغ الحنفية في التخريج على هذا الأصل حتى عدوه إلى ما ليس منه على قاعدتهم فقالوا إن الزنا يترتب عليه حرمة المصاهرة بين أم المزني بها وابنتها وبين الزاني
وأن الغاصب إذا أدى قيمة المغصوب إلى المغصوب منه عند إدعاء الهلاك (1/195)
وهو كاذب في ذلك يملك المغصوب بذلك وإن الكفار إذا استولوا على أموال المسلمين ملكوها
والحق أن شيئا من هذه المسائل لا ترجع إلى هذا الأصل لأن الزنا والغصب والاستيلاء من الأفعال الحسية ولا خلاف عندهم أن النهي عن الأفعال الحسية لانتفاء المشروعية ولهذا لم يقل أحد بمشروعية الزنا والغصب وقد تقدم أن تفريقهم بين الزنا والسرقة ونحو ذلك وبين عقد البيع والنكاح الفاسدين بأن الزنا ونحوه من الأفعال الحسية لا حاصل تحته و ليس ثم دليل من نقل أو قياس يقتضي هذه التفرقة مع أن الكل من الأفعال الحسية فلم يبق إلا مجرد اصطلاح على خلاف المعنى المناسب
و قد تقرر فيما تقدم أن المعصية والصحة متنافيان لأن معنى الصحة ترتب الآثار المشروعة على الشيء فلا تجتمع المشروعية والمعصية في ذات واحدة بالنسبة إلى معنى واحد ولهذا قال الشافعي رحمة الله عليه النكاح أمر حمدت عليه والزنا أمر رجمت عليه فلم يجز أن يعمل أحدهما عمل الآخر ولا يرد وطء الشبهة والجارية المشتركة لأنهما لا يوصفان بالتحريم من كل وجه
وأما وجوب الغسل وفساد الصوم والاعتكاف ونحو ذلك بهذا الوطء فذاك غير مختص بالزنا بل هو مترتب على خروج المني باختياره على أي وجه كان حتى بالإستمناء وكان يلزمهم أن يقولوا بوجوب مهر مثل في الزنا إذا كان بطواعية من الحرة من جملة آثاره ولم يقولوا بذلك
وأعجب من هذا كله قولهم إن الزنا لا يحرم أصلا بنفسه بل لكونه سبب الولد وإن وجود الماء الذي هو سبب الولد هو المقتضي لتحريم المصاهرة ووجود الولد لا معصية فيه و لا عدوان إذ ليس باختياره (1/196)
وهذا كلام متناقض والذي ينبغي القطع به أن الزنا محرم لذاته وهو الاستمتاع بالمحل المحرم وان لم يكن مظنه الولد كوطء الصغيرة والآيسة التي لا تلد مثلها وهم حاولوا بذلك ( تخريجه على أن النهي عنه ليس لعينه بل لوصفه وكان يلزمهم أن يقولوا فيه بالصحة بناء ) على أصلهم
ومما خرجوا على هذا الأصل أيضا مسألة العاصي بسفره وانه يجوز له الترخص
قالوا لأن السفر في نفسه حسن مباح والعصيان بقطع الطريق ونحوه مجاور له فكان كالبيع وقت النداء وهذا ممنوع بل المحرم هو نفس السفر كما في الصوم يوم العيد سواء وإذا كانت المعصية حاصلة بنفس السفر فلا يكون هذا السفر سببا للرخص الشرعي لما بينا من التنافي بين المعصية والصحة المشروعة فصرفهم المعصية إلى المجاور ليس بصحيح وكذلك قولهم فيما إذا باع بخمر أو خنزير أن الخلل ليس في ركن البيع ومحله بل في الثمن الذي هو تابع وهو كونه مالا غير متقوم ففسد البيع بوصفه دون أصله ووجب ثمن المثل وكذلك في بيع الربوي بجنسه متفاضلا ولا ريب في أن الثمن من الأركان المقصودة في البيع في نظر الشارع ولهذا ابطل بيع القلادة والتمر الذي بيع متفاضلا
ثم فرقوا بين هذا وبين بيع الملاقيح والمضامين وما قالوا فيه ببطلان البيع بان البيع في هذه الصور أضيف إلى غير محله فلم ينعقد (1/197)
قلنا وكذلك إذا باع بخمر أو ميتة ونحو ذلك أو اشترى به أضيف فيه البيع إلى غير محله وقد سلك البزدوي وغيره من أئمتهم في هذا الموضع طريقا عجبا وهو انهم قالوا بصحة طواف الحائض مع التحريم دون صلاه المحدث ففرقوا بينهما بان طواف المحدث ورد فيه مجرد النهي وهو يقتضي الصحة على أصلهم بخلاف الصلاة فإنه ورد فيها النفي مثل ( لا صلاة إلا بوضوء ) والنفي يقتضي العدم فيكون باطلا
ولهذا أيضا قالوا ببطلان النكاح بغير شهود لما رووا عنه صلى الله عليه و سلم انه قال لا نكاح إلا بشهود
ثم لما ورد عليهم قولهم ببطلان بيع الملاقيح والمضامين ونكاح زوجة الأب ونحو ذلك مما لم يرد فيه إلا مجرد النهي قالوا النهي في هذه الصور مجاز عن النفي لما بينهما من المشابهة فهو مستعار له فلذلك قلنا فيه بالبطلان
وهذا متهافت من وجوه أحدها أن تقدير النفي في بعض المناهي دون بعض من غير دليل يدل عليه تحكم لا وجه له (1/198)
وثانيها أن ما ذكروه من الحديث لا صلاة إلا بطهور و لا نكاح إلا بشهود لم يثبت بل الثابت في ذلك قوله صلى الله عليه و سلم لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وفي حديث آخر لا يقبل الله صلاة بغير طهور فإن تعلقوا بهذا وجعلوه فارقا بين الصلاة والطواف لزمهم مثله في صلاة العبد الابق وشارب الخمر لورود مثل هذه الصيغة فيهما
وثالثها أن اعتبار النفي دليلا على البطلان لازم لهم في مثل قوله صلى الله عليه و سلم لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ولا نكاح إلا بولي وأشباهها من الأحاديث الصحيحة الثابتة فيها (1/199)
صيغة النفي وقد قالوا فيها بالصحة بدون تلك الصفة بل الحديث الذي تعلقوا به في بطلان النكاح بغير شهود لم يرد بذكر الشهود فقط بل مع الولي في قوله صلى الله عليه سلم نكاح إلا بولي وشاهدي عدل والنكاح عندهم يصح بدون الولي وبمجرد حضور من ليس بعدل
ومما فرعوا على أصلهم المتقدم في أن المنهي عنه مشروع بأصله فاسد بوصفه الصلاة في الأوقات الثلاثة عند الطلوع والاستواء والغروب فإنها محرمة عندهم فيها فقالوا الصلاة حسنة لذاتها والوقت صحيح بأصله فاسد بوصفه لمقارنة الشيطان الشمس في هذه الأوقات فصارت الصلاة ناقصة فلا يتأدى بها الكامل وتضمن بالشروع
وقالوا في صيام يوم النحر انه لا يضمن بالشروع يعني انه لا يجب قضاؤه إذا شرع فيه بنية التطوع بل له الخروج منه وان كان منذورا ففرقوا بين الموضعين مع أن فساد كل منهما بالنسبة إلى وقته وقد ردوا النهي فيهما إلى معنى خارجي وقالوا بأن الصلاة بعد الصبح وبعده العصر مكروهة لا محرمة مع انه صلى الله عليه و سلم قال لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس فقالوا النفي هنا لنفي الكمال والفضيلة لا لنفي الأصل فلم يفوا بالقاعدة المتقدمة في النفي والكلام في هذه الفروع وامثالها يطول وفيما ذكرنا كفاية وبالله التوفيق (1/200)
الفصل السادس
في لواحق وتتمات يذيل بها ما تقدم وفيه تنبيهات
الأول أن هذه المسألة وإن كانت جزئية فهي من القواعد الكبار التي ينبني عليها من الفروع الفقهية ما لا يحصى وقد اضطربت فيها المذاهب وتشعبت الآراء وتباينت المطالب كما بيناه فيما تقدم ثم إن كل الأئمة المجتهدين قد تناقض فيها قولهم ولم يطردوا أصلهم الذي اختاروه فيها سوى الإمام الشافعي ومن تابعه
أما الحنفية فقد تبين آنفا تناقض طريقهم فيها وما ينقض به عليهم من المواضع التي قالوا فيها بالبطلان وليس ثم سوى مجرد النهي عن ذلك الشيء لوصفه اللازم كنكاح المتعة والنكاح بغير شهود وبيع الملاقيح والمضامين وضربة الغائص ونحوها وكصلاة من عليه أربع فوائت وصلاة الرجل المحاذي للمرأة إلى غير ذلك
وأما الحنابلة وان طردوا القول بالبطلان في جميع المناهي حتى المجاورة فقد نقضوا ذلك بتنفيذ الطلاق في الحيض وفي طهر جامعها فيه وإرسال الطلاق الثلاث دفعة وحلت ذبح شاة الغير عدوانا
والظاهرية وإن طردوا القول بالفساد في هذه الصور أيضا فقد انتقض قولهم بوطء الحائض فإنه محرم ومع ذلك رتبوا عليه أثره من تكميل المهر وثبوت الإحصان وغير ذلك (1/201)
وأما المالكية فقد قالوا إن النهي يقتضي الفساد وطردوا ذلك إلا في البيع الفاسد إذا وجد أحد الأمور الأربعة المتقدم ذكرها فانهم حكموا فيها بالملك للمشتري ورتبوا على الفاسد بعض ما يترتب على الصحيح من الآثار
وقد اعترف القرافي وغيره بأن المالكية لم يطردوا أصلهم في هذا الموضع لكن زاد القرافي في شرح التنقيح فذكر أن الحنفية طردوا أصلهم في قولهم انه يدل على الصحة وان الشافعي واحمد بن حنبل طردوا اصلهما في القول بأنه يقتضي الفساد وقد تبين آنفا أن الحنفية والحنابلة لم يطردوا أصولهم في ذلك
وأما الشافعي فلم ينتقض قوله في المسألة بصورة أصلا لأنه قال بالفساد في المنهي عنه لعينه أو لوصفه اللازم وان المنهي عنه لغيره المجاور له لا يقتضي فسادا بل إن دل دليل من خارج على فساده فذاك لمعنى آخر غير المنهي كما بينا في مسألة التفريق بين الوالدة وولدها فكل فكل موضع ورد فيه النهي ولم يقل الشافعية بفساده لا يرجع النهي إلى عينه ولا إلى وصفه اللازم وكلما رجع النهي فيه إلى أحد هذين قال فيه بالفساد فقد طرد اصله في المواضع كلها مع صحته واعتضاده بالأدلة الراجحة حسبما بيناه فيما تقدم ولله الحمد والمنه
فإن قيل هذا منتقض بقولهم في ذبح شاة الغير عدوانا أنها تحل أكلها قلنا وان سلم إن النهي راجع في هذه الصورة إلى وصفها اللازم فعنه جوابان (1/202)
أحدهما أن المعتبر في حل الذبيحة كون المذكي من أهل الذكاة والآلة التي يذبح بها واما التعدي بذلك فذاك أمر خارج لا تعلق له بأصل الذكاة وهي باقية على ملك مالكها والمتعدي بالذبح يلزمه ما نقص من قيمتها بالذكاة
فلو قال الشافعي بدخولها في ملك الذابح مع ضمانها بالقيمة كان قد رتب على النهي القول بالصحة فإن هذا هو المرتب على الفعل المنهي عنه في هذا الموضع وأما الحل والتحريم فأمر آخر غير مختص بهذه الصورة وهذا بخلاف ذكاة المجوسي والذكاة بالسن والظفر فان النهي لما ورد في هذه الصور راجعا إلى الوصف اللازم قال الشافعي بفساد الذكاة وعدم الحل طردا لأصله
الثاني أنا وان سلمنا أنه رتب في هذه الصورة على المنهي عنه أثره من الصحة فذاك لدليل خارجي وهو الحديث الذي رواه أبو داود في قصة المرأة التي ذبحت شاة أخيها بغير إذنه وأمر النبي صلى الله عليه و سلم بإطعامه الأسارى ولم يجعلها ميتة فكان هذا الدليل مقدما على القاعدة العامة كما في أمثاله ولا يلزم منه بطلان القاعدة من اصلها ولا تناقض القول بغير دليل والله اعلم
الثاني ذكر القرافي في كتابه القواعد مسالة الصلاة في الدار المغصوبة وفرق بينها وبين صوم يوم النحر بما تقدم ذكره (1/203)
ثم أورد على ذلك انه لو نذر الصلاة في البقعة المغصوبة لم ينعقد نذره كما لا ينعقد نذر الصوم يوم النحر عند الشافعية والمالكية
فأما أن يقال النهي عن الوصف لا يتعدى إلى الأصل في الجميع كما قالت الحنفية أو يقال بتعديه إلى الأصل في الكل كالحنابلة فان هذين المذهبين طرفا نقيض في تعميم القول بالفساد والقول بالصحة ومذهب مالك والشافعي متوسط بينهما فيحتاج إلى الفرق بين الصور
ثم ذكر القرافي رحمه الله فرقين أحدهما بين صوم يوم النحر والصلاة في الدار المغصوبة بأن النهي إذا توجه إلى عبادة موصوفة دل على أن تلك العبادة عرية عن المصلحة الكائنة في العبادة التي ليست موصوفة بهذه الصفة الخاصة والأوامر تتبع المصالح فإذا ذهبت المصلحة ذهب الطلب وحينئذ لا يبقى الصوم قربة
وأما الصلاة في المغصوب فلم يأت النهي عنها لكونها صلاة إنما ورد النهي عن مطلق الغصب وجاء في هذه الصلاة صفة لها بحسب الواقع مع جواز انفكاكها في غير هذه الصورة فبقيت الصلاة بحالها مشتملة على مصلحة الأمر فكان الأمر ثابتا فكانت قربة
وثانيهما بين العقود والصلاة في المغصوب بأن انتقال الأملاك في (1/204)
المعاوضات يعتمد الرضا لقوله صلى الله عليه و سلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه ومن عقد على الربوي بجنسه متفاضلا لم تطب نفسه إلا بالعقد المشتمل على الزيادة فان ألغيت الزيادة وصحح العقد بدونها لم يكن راضيا بذلك فلم يحصل شرط العقد بخلاف الصلاة في المغصوب فانه وجد فيها الأمر بجملته والنهي مقارن له خارج عنه كما تقدم تقريره فأعطي كل واحد منهما حكمه كما إذا سرق في صلاته وهذا الفرق راجع في الحقيقة إلى ما تقدم وكذلك الذي قبله لكن بعبارة أخرى
الثالث تقدم أن الإمام الغزالي رحمه الله اختار في المستصفى أن النهي عن العقود لا يدل على فسادها خلاف ما اختاره في كتبه الفقهية ثم قال في آخر كلامه فإن قيل قد حمل بعض المناهي في الشرع على الفساد دون البعض فما الفيصل
قلنا النهي لا يدل على الفساد وانما يعرف فساد العقد والعبادة بفوات شرطه وركنه ويعرف الشرط أما بإجماع كالطهارة في الصلاة وستر العورة (1/205)
واستقبال القبلة وأما بنص وأما بصيغة النفي كقوله لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود فذلك ظاهر في النفي عند انتفاء الشرط وأما بالقياس على منصوص فكل نهي تضمن ارتكابه الإخلال بالشرط فيدل على الفساد من حيث الإخلال بالشرط لا من حيث النهي وشرط المبيع أن يكون مالا متقوما مقدورا على تسليمه معينا أما كونه مرئيا ففي اشتراطه خلاف وشرط الثمن أن يكون مالا معلوم القدر والجنس وليس من شرط النكاح الصداق فلذلك لم يفسد بكون النكاح على خمر أو خنزير أو مغصوب وان كان منهيا عنه ولا فرق بين الطلاق السني والبدعي في النفوذ وان اختلفا في التحريم
فان قيل فلو قال قائل كل نهي يرجع إلى عين الشئ فهو دليل على الفساد دون ما يرجع إلى غيره فهل يصح
قلنا لا لأنه لا فرق بين الطلاق في حالة الحيض والصلاة في حالة الحيض والصلاة في الدار المغصوبة فإنه إن أمكن أن يقال ليس منهيا عن الطلاق لعينه ولا عن الصلاة لعينها بل لوقوعه في حالة الحيض ووقوعها في الدار المغصوبة أمكن تقرير مثله في الصلاة في حال الحيض فلا اعتماد إلا على فوات الشرط
هذا كله كلام الغزالي في المستصفى وهو غير لائق لمنصبه في العلم (1/206)
وتحقيقه فإن النهي عن الصلاة في حال الحيض ليس لأمر خارجي بل هو راجع إلى ذات الصلاة ليكون العبد عند مناجاة ربه على أكمل أحواله بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة والطلاق في الحيض لما بيناه فيما تقدم
وقوله في أن معيار الفساد فوات الشرط سبقه إليه القاضي أبو بكر بن الباقلاني وذكره ظابطا لذلك ومنه أخذ الإمام الغزالي وناقض به ما قرره في كتبه الفقهية كما تقدمت الإشارة إليه ثم أنه يرد عليه في اعتبار هذا الظابط المواضع التي قال بفسادها مع أنه لم يوجد فيها سوى مجرد النهي كالنهي عن بيع وشرط وعن بيع ما لم يقبض و عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان وغير ذلك مما لم يرد فيه صيغة نفي و لم يقم دليل من نص أو إجماع على شرطية الفائت فإذا ادعى فيه الشرطية حتى يصير الفساد ناشئا عن فوات الشرط كان ذلك تحكما لتخصيصه ذلك ببعض المناهي دون البعض من غير دليل فالذي يثبت على السير ضابطا للفساد وعدمه ما قدمناه من رجوع النهي إلى ذات المنهي أو وصفه اللازم أو رجوعه إلى الخارج المجاور له وهو الذي اعتبره الإمام الشافعي رض فقيل أنه نص على ذلك صريحا وقيل بل هو مأخوذ من معاني كلامه ومفهوم من تصرفاته والله أعلم
الرابع تقدم في نقل المذاهب في أصل المسألة أن من العلماء من فرق بين ما إذا كان النهي يختص بالمنهي عنه كالصلاة في البقعة النجسة فيقتضي الفساد و بين ما لا يختص به كالصلاة في الدار المغصوبة ومنهم من فرق بين ما يخل بركن أو شرط فيقتضي الفساد دون ما لا يخل بواحد منهما
ومنهم من قال أن رجع النهي إلى عين المنهي أو وصفه اللازم كان الفساد و إلا فلا فيتصدى النظر هنا أن هذه العبارات هل ترجع إلى (1/207)
معنى واحد أو هي متباينة فتعد أقوالا كما فعلناه هناك الذي يظهر من كلام المازري أن كل ذلك راجع إلى معنى واحد
ولهذا عبر إمام الحرمين عن الذي يرجع إلى ذات المنهي عنه بالذي يختص بالمأمور به و ظاهر كلام ابن برهان وغيره التفرقة بينهما و هذا هو الراجح فقد تقدم قول الغزالي و غيره أن مجرد النهي عن الشيء لا يقتضي فساده ما لم تثبت شرطية ذلك المنهي عنه بدليل آخر فلا تلازم عندهم بينهما
و كذلك قالت الحنفية في المنهي عنه لوصفه اللازم أنه لا يقتضي إلحاق شرط بالمأمور به و كذلك لاختصاص بالشيء قد لا يكون شرطا فيه كاجتناب النجاسة في الصلاة على قول المالكية فإن ذلك مأمور به وهو منهي عن ملابسة النجاسة في بدنه وثيابه حالة الصلاة و مع ذلك فليس شرطا في صحة الصلاة على الإطلاق عندهم حتى تصح صلاة من صلى بنجاسة ناسيا أو جاهلا وهو القول القديم للشافعي و كذلك ستر العورة على أحد القولين للعلماء فإن ستر العورة منهم من جعل الأمر به عاما في الصلاة وغيرها فلا اختصاص له بالصلاة ومنهم من جعله مختصا بالصلاة لقوله تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد
وعلى هذا ينبني وجوب الإعادة على من صلى عاريا فمن أوجب الإعادة قال ستر العورة من خصائص الصلاة فيقتضي النهي عن عدمه فسادها و من يقول لا تجب الإعادة لا يجعله من خصائصها فظهر بهذا أنه لا يلزم من اختصاص النهي بالشيء كون ذلك شرطا فيه (1/208)
وهذا إنما يجيء على غير الراجح من مذهب الشافعي
أما على القول الصحيح الذي هو المختار فيما تقدم فلا فرق بين ذلك جميعه والكل يقتضي الفساد لما تقرر أن النهي عن الشيء لوصفه يقتضي إلحاق شرط به والله أعلم
الخامس ذكر الإمام المازري في شرح البرهان عن شيخه وأظنه أبا الحسن اللخمي قولا بالتفصيل في المنهيات لم أظفر به حتى وصلت إلى هنا وهو مباين لما تقدم من المذاهب و يتحصل منه زيادة قول آخر في المسالة وهو أن ما كان النهي عنه لحق الخلق فإنه لا يدل على الفساد و جعل هذا التفصيل طريقا إلى صحة الصلاة في الدار المغصوبة لأن النهي عنها لحق الخلق و تزول المعصية بإسقاط المالك حقه و بالإذن له بخلاف ما هو حق الله تعالى فإنه لا يسقط بإذن أحد ولا بإسقاطه
واحتج لذلك بأن التصرية تدليس لا يحل في البيع بإجماع والنهي عنه عائد إلى المخلوقين لما فيه من الإضرار بهم و الشارع لم يبطل البيع المقترن به بل أثبت فيه الخيار للمشتري فلم يقتض التحريم فساد العقد لما كان لحق الخلق (1/209)
و هذا القول غريب جدا ومقتضاه بأن النهي في العبادات يقتضي الفساد مطلقا لأن جميع مناهيها لحق الله تعالى والتفصيل إنما هو في غيرها و يرد عليه صور كثيرة مما قيل فيها بالفساد والنهي فيها لحق الخلق كالبيع المقترن بالشرط المفسد والأجل المجهول و خصوصا عند المالكية في البيع على بيع أخيه و المترتب على النجش و أمثال ذلك و لا يثبت له هذا المعنى على السبر إلا في صور قليلة كصورة التصرية التي ذكرها والبيع وقت النداء فانه فاسد على المشهور من مذهبهم والنهي عنه لحق الله تعالى لما فيه من ترك الجمعة فإن قيل الفساد في تلك العقود جاء مما يلزم فيها من أكل المال الباطل
قلنا وذاك أيضا راجع إلى حق الآدمي وعند التحقيق كل منهي يتعلق بالخلق فلله تعالى فيه أيضا حق وهو امتثال أمره و نهيه لكن من المناهي ما يتمحض الحق فيه لله سبحانه و منها ما يجتمع فيه الحقان و مقتضى هذه الطريقة أيضا عدم التفرقة بين المنهي عنه لعينه والمنهي عنه لغيره ويلزمه حينئذ إبطال الصلاة في الأماكن المكروهة كالحمام و أعطان الإبل لأن النهي فيها لحق الله تعالى إلى غير ذلك من الصور و الله سبحانه و تعالى أعلم
آخر كتاب تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد (1/210)
قال مؤلفه شيخ الإسلام مفتي مصر والشام بقية المجتهدين صلاح الدين خليل العلائي الشافعي تغمده الله برحمته فرغت منه كتابة و تصنيفا في أوائل شهر شعبان سنة ثلاث وأربعين و سبع مائة ببيت المقدس حماه الله تعالى و لله الحمد والمنة لا تحصي ثناء عليه و حسبنا الله و نعم الوكيل و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله و صحبه وسلم
وافق الفراغ من تعليقه ببيت المقدس حماه الله تعالى منتصف شهر رجب الفرد من شهور سنة سبع وثمانمائة على يد أضعف عباد الله وأحوجهم إلى رحمة مولاه و رضوانه محمد بن محمد بن الواسطي الشافعي غفر الله له و لوالديه و لجميع المسلمين آمين (1/211)