بَيَانُ مَثارَاتِ الغَلطِ في الأدِلة
بقلم
الإمام الفقيه الأصولي
أبي عبد الله محمد بن أحمد الحسني
الشهير بالشَّريف التِّلِمْسَاني
( 710 – 771 هـ )
اعتنى به
جلال علي عامر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، أما بعد ،،
فإن من آفات عصرنا كثرة الجهل بأصول العلوم والمعارف ، ومن ذلك ابتعاد كثير من طلبة العلم عن العلوم العقلية التي هي أساس لكل علم ، وضابط لكل فهم .
ومن موضوعات علم المنطق الذي هو الآلة القانونية للفهم ، ما يسمى بمثارات الغلط ، ويقصد به أسباب حصول الخلل ، سواء في الفهم والتصور، أو الاستدلال والتصديق .
وفهم هذا الموضوع هام لمن فتح الله بصيرته وطلب العلم من مصادره، لكي يميز بين أدعياء العلم وبين العلماء المخلصين ، ويتبين له وجود الخلل في دعاوى كثير من الناس ، سواء في الفقه والأحكام ، أو في المعتقد والأصول .
وهذا المؤلَّف الذي بين يديك ، للإمام الشريف التلمساني ، أفرده لبيان مثارات الغلط في الفهم ، مستجيباً لطلب بعض الناس منه إفراد ذلك بالتصنيف ، وحشاه بالأمثلة الفقهية التي غالباً ما تخلو عنها كتب المنطق ، ليستفيد منها طلبة الفقه خاصة .
وهذا الكتاب قد نشر من قبل ، بتحقيق الأستاذ مصطفى الوضيفي ، عن مخطوطتين مغربيتين ، لكن وقع في الكتاب جملة من الأخطاء المطبعية ، كما أن نشرها بالمغرب قد أبعدها عن متناول قراء المشرق ، بسبب أن حركة الطباعة والمطبوعات تسير بين المشرق والمغرب بسير السلحفاة !!
فقمت بمقابلة طبعة الأستاذ الوضيفي بمخطوطة للكتاب من مقتنيات مكتبة كوبريلي تحت رقم 1601/7 ، ومصورتها بمعهد المخطوطات بالقاهرة تحت رقم (83 فلسفة ومنطق ) .
كتبت هذه النسخة في القرن التاسع بخط نسخ جيد .(1/1)
وجريتُ في الاعتناء بها على طريقة تصحيح النص من الأخطاء بقدر الإمكان ، مع إخراجه في حلة قشيبة ، غافلاً عن الإشارة إلى الأخطاء الواضحة الواقعة من ناسخ المخطوطة ، مع وضع ما رأيته مقيماً للنص بين معقوفتين [ ]
راجياً أن يكون إخراجه على هذه الصفة مطابقاً لمراد المصنف والله من وراء القصد ، وهو سبحانه ولي التوفيق .
الإمام الشريف التِّلِمْسَاني
هو الإمام العالم العلامة المجتهد الفقيه الصدر الكبير القدوة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن يحيى بن علي ، الحسني ، المعروف بالشريف التلمساني .
ولد بتِلِمْسَان سنة 710 ه ، وأخذ عن مشايخها وغيرهم مثل : أبي زيد بن يعقوب ، وابني الإمام التلمسانيين ، وابن عبد السلام التونسي ، وأبي عمران المشذالي ، والسطي ، والقاضي أبي عبد الله بن هدية ، ولازم الإمام الآبلي كثيراً وانتفع به .
كان من كبار العلماء المحققين ، وترجمته حافلة بالثناء والتعظيم من علماء عصره وغيرهم ، انظر على سبيل المثال كتاب نيل الابتهاج للتنبكتي (430 - 445).
لم يكن مكثراً من التصنيف ، له :
مفتاح الوصول إلى ابتناء الفروع على الأصول ، جليل جداً ، مطبوع مشهور .
وشرح جمل الخونجي ، مخطوط .
وهذا الكتاب .
توفي رحمه الله تعالى بتلمسان سنة 771 هـ .
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً
قال الشيخ الإمام الفقيه العالم العلامة ، فريد عصره وسيد أهل ظهره ، جامع أشتات العلوم ومحققها، السيد أبو عبد الله محمد ابن العدل أبي العباس أحمد بن علي ، الحسني النسب ، التلمساني الدار، المعروف بالشريف فيها ، رحمه الله وعفا عنه بمَنِّه وكرمه:
الحمد لله رب العالمين
سألتَ - وفَّقَنا اللهُ وإياكم - عن مثارات الغلط في الأدلة ، ورغبت منَّا حصرَها بالوجه الصناعي ، وتمثيلها بالمُثُول العقلية والفقهية ، فأجبتُك إلى ذلك ، مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه ، وأقول - والله الموفق - :(1/2)
الغلطُ في البرهان وغيره من سائر الأدلة والحجاج إما أن يكون من جهة اللفظ ، وإما أن يكون من جهة المعنى .
[ الغلط في اللفظ المفرد ]
أما الذي من جهة اللفظ : فاعلم - وفقك الله - أن اللفظ إذا طابق المعنى مطابقةً تامة ، بحيث لا يحتمل اللفظ في الدلالة غير المعنى المقصود ، لم يقع غلطٌ بسبب اللفظ البتة .
وإذا ثبت أنه لا بد من احتمال في اللفظ ، فذلك الاحتمال: إما أن يكون في اللفظ بعد تحقق كونه مفرداً ، أو بعد تحقق كونه مركباً ، أو يكون لدورانه وتردده بين الإفراد والتركيب .
أما إن كان بعد تحقق كونه مفرداً فذلك إما أن يكون الاشتراك في جوهر اللفظ ومادته ، بأي نوع من أنواع الاشتراك ، أعني في الوضع / أو بكونه حقيقة في أحد المعنيين مجازاً في الآخر أو منقولاً أو نحو ذلك ، أو يكون في هيئة اللفظ وصورته دون مادته ، أو يكون لأمر خارج عن اللفظ عارض له ولاحق من لواحقه .
[ الاشتراك في جوهر اللفظ ]
أما الاشتراك في جوهر اللفظ فذلك مثار الغلط .
ومثاله في العقليات: قول السفسطائي: واجب الوجود إما أن يكون ممكناً أن يكون ، أو ليس ممكناً أن يكون .
فإن لم يكن ممكناً أن يكون فهو ممتنع أن يكون ، فواجب الوجود ممتنع أن يكون !! هذا خُلْفٌ .
وإن كان ممكناً أن يكون ، وكلُّ ممكنٍ أن يكون ممكنٌ أن لا يكون ، فواجب الوجود ممكن أن لا يكون !! هذا خُلْفٌ .
ومثار الغلط فيه أن لفظ ( الممكن ) مشترك بين الممكن العام وهو الذي معناه لا يمتنع ، وبين الممكن الخاص وهو الذي معناه جواز الوجود والعدم .
فالممكن الذي أُخِذَ وسطاً في القياس المذكور إن كان معناه الممكن العام مَنَعْنَا قولَه: ( فكل ممكن أن يكون ممكن ألا يكون ) ، وإن كان معناه الممكن الخاص مَنَعْنَا قولَه: ( إن لم يكن ممكناً أن يكون فهو ممتنع أن يكون ) ، فلا ينفك عن أحد المعنيين إلا أن يختلف المراد بلفظ الممكن ، وحينئذ لا يتحد الوسط .(1/3)
ومثاله في الفقهيات: قولُ من يرى أن الزنى يوجب / حرمة المصاهرة في مَنْ وطأها الأب بزنى : إنها تحرم على الابن لقوله تعالى: (( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء )) ، فيقول في المزني بها: إنها منكوحة الأب ، وكل منكوحة الأب تحرم على الابن ، فهذه تحرم على الابن .
فيقول مَنْ يبيحُ ذلك: لفظ النكاح مشترك بين الوطء والعقد ، فإن كان المراد بالمنكوحة في الحد الوسط المعقود عليها كذبت الصغرى ، وإن كان المراد الموطوءة كذبت الكبرى ، لأن لفظ النكاح في القرآن محمول على العقد ، وإن اختلف المراد فيهما لم يتحد الوسط .
ومثل ذلك: القرء في قوله تعالى : (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء )) فإن لفظ القرء مشترك بين الطهر والحيض .
وكذلك الشفق في الحديث أن رسول صلى الله عليه وسلم صلَّى العشاء بعد الشفق ، فإنه مشترك بين البياض والحُمرة .
وكذلك الإغلاق في قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا طلاق في إغلاق )) فإنه مشترك بين الإكراه والجنون .
ويمكنك بسط الأمثلة الخلافية في هذه الألفاظ الثلاثة .
[ الاشتراك في هيئة اللفظ ]
وأما الاشتراك في هيئة اللفظ وصورته فهو مثار الغلط .
ومثاله: قوله تعالى: (( لا تضار والدة بولدها )) وذلك أن أهل العلم اختلفوا هل إرضاع الأم ولدها حقٌ له فليس للأب أن ينقله إلى غيرها دون رضاها ؟ أو حقٌ عليها فللأب / أن يجبرها على ذلك وليس لها أن تمتنع ؟
وكل ذلك بناء على أن صيغة الفعل مشتركة بين الفعل المضارع المبني للفاعل ، وبين الفعل المبني للمفعول النائب عنه .
فإذا استدل أحد الفريقين بالآية على مذهبه ، فللفريق الآخر أن يعترض عليه بالاشتراك في الصيغة .
وأما المادة فلا اشتراك فيها .
ومثال ذلك قوله تعالى : (( ولا يضار كاتب ولا شهيد )) قال ابن عباس وعطاء : معناه لا يمتنع كاتب من الكتب ولا شهيد من الشهادة إذا دُعِيَ إلى ذلك ، فالفعل عندهما مبني للفاعل .(1/4)
وقال عكرمة وجماعة: معناه أن الداعي لا يضر بهما في وقت شغل أو عذر ، فالبناء عندهم للمفعول النائب عن الفاعل ، فأي الفريقين احتج بالآية على مذهبه ، فللفريق الآخر أن يقدح في احتجاجه بالاشتراك في الصيغة .
[ الاشتراك من جهة الأمور الخارجة ]
وأما الاشتراك من جهة الأمور الخارجة اللاحقة للَّفظ فإما أن تكون من اللواحق النطقية أو من اللواحق الخطية .
[ اللواحق النطقية ]
فأما اللواحق النطقية فمثل لام التعريف بين العهد والجنس ، ومثل ياء التصغير بين التحقير والتعظيم ، ومثل تاء التأنيث بين التأنيث اللفظي والمعنوي .
ومثال ذلك: أن يستدل مَنْ يرى أن لا عبرة بالمخالطة إلا بتغيير / الماء بقوله صلى الله عليه وسلم: (( خلق الله الماء طهوراً لا يُنجسُه إلا ما غيَّر لونه أو طعمه أو ريحه )) .
فيقول الخصم: الألف واللام هنا للعهد ، لأنه وارد على سبب معين وهو بئر بضاعة ، فاسم الماء لا اشتراك فيه ، وإنما الاشتراك في لاحقٍ من لواحقه ، وهي لام التعريف .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( أفطر الحاجم والمحجوم )) لمَّا مَرَّ بهما .
[ اللواحق الخطية ]
وأما اللواحق الخطية فمثل النقط والتشكيل .
ومثاله: استدلال من مَنَعَ بيع طعام وعَرَضٍ بطعام ، أو بيع نقدٍ وعَرَضٍ بنقد ، بحديث فضالة بن عبيد أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني ابتعت قلادة فيها خرز وذهب بذهب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا حتى تفصل )) ، فيقول المخالف: إنما هو (( حتى تفضل )) بالضاد المعجمة ، ومعناه حتى يتبين الفضل في الذهب ليجعل ذلك ثمن العرض الذي هو الخرز .
ومثال التشكيل: استدلال مَنْ يمنعُ بيع الحنطة في السنبل بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحَبِّ حتى يُفْرَكَ ، مبنياً للمفعول ، فيقول المخالف: إنما هو (حتى يَفْرِكَ) مبنيا للفاعل ، ومعناه حتى يصير فريكاً .(1/5)
ومن ذلك: استدلال مَنْ يرى أن الأمَةَ / تصير فراشاً بالوطء ، فيلحق الولد بالسيد وإن لم يستلحقه ، لحديث عبد بن زمعة وسعد بن أبي وقاص إذ اختصما للنبي صلى الله عليه وسلم فقال عبد : يا رسول الله هو أخي وابن وليدة أبي ، ولدَ على فراشه ، وقال سعد: يا رسول الله ، هو ابنُ أخي عتبة ، قد كان عهد إليَّ فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة: (( هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ، واحتجبي منه يا سودة )) .
فقضى به لابن زمعة .
فيقول من لا يرى ذلك : الرواية ( هو لك عبدٌ ) بالتنوين ، و ( ابن زمعة ) منادى مضاف ، ولذلك أمر سودة بالاحتجاب منه ، ولو ألحقه بزمعة لما أمرها بالاحتجاب من أخيها .
فهذه الوجوه كلها مثارات الأغاليط اللفظية في اللفظ المفرد .
[ اشتراك التأليف ]
وأما الاشتراك الذي هو في اللفظ المركب بعد تحقق تركيبه فهو مثار الغلط ، ويسمى اشتراك التأليف .
ومثاله في العقليات : العالم إما أن يكون ممكناً أن يكون في الأزل ، أو لا ممكناً أن يكون في الأزل .
فإن كان ممكناً أن يكون في الأزل أمكن أن يكون قديماً وهو محال .
وإن لم يكن ممكناً أن يكون في الأزل فلإمكان كونه بداية ، ويلزم / انقلابه من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وهو محال .
ومثار الغلط فيه أن قولنا: ( في الأزل ) إما أن يتعلق بقولنا: ( ممكناً ) أو بقولنا: ( يكون ) ، والتركيب صالح للمعنيين .
فإن كان متعلقاً ب (يكون ) اخترنا القسم الثاني ، وهو أن العالم ليس بممكن أن يكون في الأزل ، وحينئذ لا يلزم أن يكون لإمكان كونه بداية .
وإن تعلق بقولنا: ( ممكناً ) اخترنا القسم الأول ، وحينئذ لا يلزم إمكان كونه قديماً .(1/6)
ومثاله في الفقهيات: قوله تعالى: (( إلا الذين تابوا )) فإنه يحتملُ أن يكون استثناء من جميع الجمل المتقدمة ، ويلزم جواز قبول شهادة القاذف بعد توبته ، وأن يكون استثناء من الجملة الأخيرة فقط ، فلا تقبل شهادة القاذف بعد توبته ، والتركيب صالح للمعنيين .
فمن احتج من الفريقين على مذهبه فللآخر القدح في استدلاله باشتراك التأليف .
ومثاله في علم الأصول: قول من مَنَعَ التكليف بالمشروط عند عدم شرطه الشرعي ، وتُفْرَضُ في تكليف الكفار بالفروع :
لو أمكن التكليف بفعل المشروط قبل حصول شرطه الشرعي لم يكن الشرط شرطاً ، والثاني باطل بالإجماع .
فيقول الخصم : قولكم ( قبل شرطه ) إما أن يتعلق بفعل المشروط أو بالتكليف ، فإن كان الأول سلمناه / ولا يمس محل النزاع ، لأنا لا ندعيه ، وإن كان الثاني منعنا الملازمة ، والتركيب صالح للمعنيين .
[ الاشتراك بين الإفراد والتركيب ]
وأما الاشتراك في اللفظ بسبب تردده بين الإفراد والتركيب ، وهو القسم الثالث ، فإما أن يكون أُخِذَ مركباً وهو مفرد أو بالعكس .
[ تركيب المفصل ]
فإن كان الأول فيُسمَّى تركيب المُفَصَّل ، وهو مثار الغلط .
ومثاله في العقليات: قول من يرى أن الأرض أبرد من الماء ، لأن التراب يابس مفرط ، ثم يفرد المفرط بالحمل ويضم إليه أن التراب بارد ، ثم يجمعها فيقول: التراب بارد مفرط ، فقد ركب في نتيجته ما هو بارد مفصل .
ومثاله في الفقهيات: استدلال من يرى أن المسح على العمامة أو مس الناصية وحدها لا يجزي ، بحديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة .
قال عياض: فلو أجزأ أحدُهما لما ضمَّ إليه الآخر .
فيقول الخصم: أنت ركبت ما هو مفصل ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة في وضوئه مرة ومسح بناصيته مرة .
[ تفصيل المركب ]
وإن كان الثاني ، وهو أن يأخذ ما هو مركب فيفصله ، فيسمى تفصيل المركب .(1/7)
ومثاله في العقليات: الجسم مادة وصورة ، والمادة منفعلة فقط / فالجسم منفعل فقط .
والغلط فيه كونه أخذ المادة محمولاً وفصَلَه ، وإنما هو جزء محمول .
ومثاله في الفقهيات : قوله صلى الله عليه وسلم في النبيذ:
(( ثمرة طيبة وماء طهور )) ، فيفصله من يحتج على جواز الوضوء بالنبيذ فيقول: النبيذ ماء طهور ، والماء الطهور يتوضأ به ، فالنبيذ يتوضأ به ، فيفصل ما هو مركب .
بل الصحيح أن النبيذ مجموع من الماء والثمرة ، وإنما ذلك كقولنا: الطين ماء وتراب .
فهذه مثارات الغلط اللفظي ، وهي ستة لا أَزْيَدَ منها : اشتراك الجوهر ، واشتراك الصيغة ، واشتراك اللواحق ، واشتراك التأليف ، وتركيب المفصل ، وتفصيل المفصل .
[ الغلط من جهة المعنى ]
وأما مثارات الغلط الذي من جهة المعنى ، فنقول فيه:
إن كل دليل وحجة فهو ذو مادة وصورة .
أما مادته فالقريبةُ المقدمات ، والبعيدةُ أجزاؤها وهي الحدود .
وأما صورته فالتأليف القياسي .
فإن سلكنا في هذا التعليم أحد طريقيه وهو طريق التركيب ، فينبغي أن نبدأ أولاً بأجزاء القضية ، ثم تأليف الأول وهو التأليف الجزئي ، ثم بالتأليف الثاني ، وهو التأليف القياسي .
فنقول: جزء القضية سواء كان موضوعاً أو محمولاً لا يخلو إما أن يكون كثيراً من كل وجه ، أو واحداً من وجه .
ويندرج في هذا القسم ما هو واحد من كل وجه .
[ الغلط في التأليف الجزئي ]
أما القسم الأول ، وهو الكثير من كل وجه / ، فهذا لا سبيل معه إلى اتحاد القضية ، لأنه لا بدَّ من النسبة الحكمية بين الجزء الأخير وبين كل واحد من أجزاء الطرف الآخر ، فهي إذاً ذاتُ نسبتين حكميتين ، والنسبة الحكمية هي الصورة للقضية فيؤدي إلى أن تكون القضية الواحدة ذات صورتين، وهو محال.
[ جمع المسائل في مسألة واحدة ]
فإذا أخذت القضية المشتملة على هذا الفرض واحدة ، فهو مثار الغلط ، ويسمى بجمع المسائل في مسألة واحدة .(1/8)
فقد تصدق إحدى النسبتين وتكذب الأخرى ، وقد يكذب في هذا التركيب طرفُ التقابل . ومثاله في العقليات: قول القائل: المادة والصورة إما أن يكونا في الجسم مبدأ الفعل أو مبدأ الانفعال ، والتحقيق فيه التفصيل ، أعني أن المادة مبدأ الانفعال ، والصورة مبدأ الفعل .
وقد يكون التعدد من جهة المحمول كقول القائل : الجسم إما أن يفعل وينفعل بمادته أو لا يفعل وينفعل بمادته ، والحق أنه ينفعل بها ولا يفعل بها .
ومثاله في الفقيهات : قول القائل: الوضوء والتيمم إما أن يرفعا الحدث أو لا يرفعاه ، والحق التفصيل ، وهو أن الوضوء يرفعه والتيمم لا يرفعه .
وكذلك إذا كان التعدد من جهة المحمول كقول القائل: بيعُ الرجل على بيع أخيه أو نكاحُه على نكاح أخيه أيهما أخذناه مفرداً إما أن يحل ويصح ، أو لا يحل ولا يصح ، والتحقيق التفصيل ، وهو أنه لا يحل ويصح .
[ أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ]
وأما القسم الثاني: أن يكون كل واحد من طرفي القضية / متحداً بوجه ما ، فإما أن تشتمل القضية على الجزئين المستحقين للوضع والحمل أو لا تشتمل ، فإن لم تشتمل فلا بد أن يكون الجزء المأخوذ بدلاً عن الفائت ملابساً للجزء الفائت بوجه من وجوه ، أعني أن تكون عارضاً له أو معروضاً أو مقارناً في موضوع أو محل أو زمان أو مكان أو نحو ذلك من الوجوه ، ليمكن أخذ أحدهما كأنه الآخر ، وذلك مثار الغلط ، ويسمى أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات .
ومثاله في العقليات: قول القائل: الجسم متصل ، والمتصل لا تبقى ذاته عند طريان الانفصال ، فالجسم لا تبقى ذاته عند طريان الانفصال .
فيقول الآخر : المتصل إنما يحمل بالذات على الجسم التعليمي الذي هو النوع من الكم ، وأما الجسم الطبيعي الذي هو الجوهر فإنما يحمل عليه المتصل بالعرض .
ومثاله في طرف المحمول قولهم : السقمونيا مبرِّدة ، وإنما هي بالذات مسهِّلة للصفراء ، وعند ذلك يعرض للجسم البرد ، فيحمل ذلك على السقمونيا بالعَرَض .(1/9)
ومثاله في الفقهيات: قول القائل: نكاح الأمة اختياراً حرام ، لأنه سبب في إرقاق الولد ، وما يكون سبباً في إرقاق الولد حرام ، فنكاح الأمة حرام .
فيقول الخصم : إنما تحمل السببية بالذات على إرقاق الأم ، فإنها السبب في إرقاق الولد ، لكن لما قارنه النكاحُ حُمِل عليه بالعرض .
ومثاله من جهة المحمول / قول القائل: الماء مطهرٌ للجسد إذا أصابته النجاسة .
فيقول الخصم: إنما الماءُ مزيلٌ للنجاسة ، فإذا زالت النجاسة بماء فالمحل طاهر بالأصالة ، فلما قارنت هذه الطهارة المتجددة لإزالة النجاسة حملت على الماء بالعرض .
ومن أمثال الموضوع أيضاً ، قول القائل: الصلاة في الدار المغصوبة معصية ، والمعصية لا تقع امتثالاً للأمر، وما لا يقع امتثالاً للأمر فلا يجزئ عن المأمور به .
فيقول المخالف: المعصية ثابتة بالذات للغصب لا للصلاة ، لكنهما لما اقترنا حُمِلت المعصية عليها بالعرض .
هذا كله إذا أخذ في القضية ما لا يستحق الوضع أو الحمل بدلاً عما يستحقه .
[ الإطلاق في موضع التقييد ]
فأما إن اشتملت القضية على الجزئين فإما أن يُشترط فيهما شرطٌ في الوضع أو الحمل ، أو لا يشترط .
فإن لم يشترط فلا غلط ، وإن اشترط وذكر ذلك في القضية فلا غلط من هذا الوجه ، وإن لم يذكر فهو مثار الغلط ، ويسمى الإطلاق في موضع التقييد ، فقد يكون من جهة الموضوع ، وقد يكون من جهة المحمول .
ومثاله من جهة الموضوع في العقليات قول القائل: كلُّ جسمٍ فيه ميلٌ طبيعي إلى حيزه الطبيعي ، وكل ما فيه ميلٌ طبيعي إلى حيزه الطبيعي فهو متحرك حركةً طبيعية أو مقسورة عنها ، وكل جسم فهو متحرك حركة طبيعية / أو مقسور عنها - فكل جسم فهو متحرك حركة طبيعية أو مقسور عنها .
فيقول الخصم: الميل الطبيعي إنما يحصل للجسم الخارج عن حيزه الطبيعي ، فأما وهو فيه فلا ميل له ، فقد أطلقت ما يجب تقييده .(1/10)
ومثاله في الفقهيات: قول القائل: المديان مالك لنصاب حال عليه الحول ، وكلُّ مالكٍ لنصاب حال عليه الحول فعليه زكاة نصابه ، فالمديان عليه زكاة نصابه .
فيقول الخصم : موضوع الكبرى لا يصدق عليه محمولها إلا مقيداً بالملك التام ، ولذلك لا تجب الزكاة على العبد وإن كان مالكاً للنصاب ، فأنتَ قد أطلقتَ ما يجبُّ تقييده .
ومثاله من جهة المحمول في العقليات: قول مَنْ يرى أن الإنسان إنما يدرك المعقولات بقوة تتعلق بها ، لا بانطباع المعقولات في جوهر الإنسان :
كل إنسان ذو وضع محسوس ، وكل ذي وضع محسوس لا يعقل المعقولات المجردة عن الأوضاع ، فكلُّ إنسان لا يعقل المعقولات المجردة عن الأوضاع .
فيقول الخصم : أنتَ قد أطلقتَ المحمول ، وإنما الصادق أن كلَّ ذي وضع لا يقبل المعقولات من حيث هو ذو وضع ، ولا يلزم من ذلك ألا تقبلها مطلقاً ، فالإنسان من جهة مادته ذو وضع لا يقبل المعقولات من جهة جسميته ومادته ، وأن لا يقبلها من حيث صورته وهي النفس الناطقة التي لا وضع لها / .
ومثاله في الفقهيات: قولُ من يرى الصلاة على جلد الميتة المدبوغ : جلد الميتة المدبوغ طاهر ، وكل طاهر تجوز الصلاة عليه ، فجلد الميتة تجوز الصلاة عليه .
فيقول الخصم : أنتَ قد أطلقتَ ما يجبُ تقييده ، وهو أن جلد الميتة طاهرٌ طهارة مقيدة باستعماله في اليابسات والماء وحده ، لا مطلقاً .
[ إيهام العكس ]
فإن كانت القضية مشتملة على الجزئين المستحقين للوضع والحمل بشرطهما ، فلا غلطَ يلحقه من جهة أجزاء القضية ، لكن إما أن تكون هيئة القضية مأخوذة كما يجب ، أعني أن يكون ما يستحق الوضع موضوعاً وما يستحق الحمل محمولاً أو لا تكون الهيئة مأخوذة كما يجب ، وذلك بأن يعكس الترتيب في التركيب .
فإن كان الأول فلا غلط من جهة القضية ، وإن كان الثاني فهو مثار الغلط ، ويسمى إيهام العكس وأخذ اللازم وأخذ اللاحق .(1/11)
ومثاله في العقليات: قول مَنْ يرى أن هيولى الجسم هي مكانه : فإن الهيولى قابل لتعاقب الأجسام عليه ، وكل قابل لتعاقب الأجسام عليه فهو مكان ، فالهيولى مكان .
والغلط في الكبرى ، فإن الحق العكس ، وهو أن المكان قابل لتعاقب الأجسام عليه ، وذلك لا ينعكس كلياً .
ومثاله في الفقيات: قولُ مَنْ يرى أن العارية في ضمان المستعير مطلقاً : إن المستعير / له الخراج في زمن العارية ، وكلُّ مَنْ له الخراج فعليه الضمان لقوله صلى الله عليه وسلم : (( الخراج بالضمان )) ، فينتج أن المستعير عليه الضمان .
فيقول الخصم : الصحيح الذي يقتضيه الحديث أنَّ من عليه الضمان فله الخراج ، وهي قضية كلية موجبة لا تنعكس على نفسها .
[ سوء اعتبار الحمل ]
فإن كانت القضية مشتملةً على الجزأين كما يجب ، وعلى الهيئة كما يجب ، نظرنا بالنسبة الحكمية ، فإن كانت مأخوذة كما يجب كيفاً وجهةً فلا غلط في القضية وإن لم توجد كما يجب فهو مثار الغلط ، ويسمى سوء اعتبار الحمل ، ويقال له أيضاً: إغفال توابع الحمل .
ومثاله قول القائل: لو كان الجسم ينقسم إلى ما لانهاية له لكان مركباً مما لانهاية له ، والتالي باطل فالمقدم مثله .
فيقول الخصم : إنما تصح الملازمة إذا كان المقدم قضية فعلية ، والصحيح فيه الإمكان لا الفعل .
ومثاله في الفقهيات: قول القائل: نكاح الأمة مرق للولد ، وكل مرق للولد حرام ، فنكاح الأمة حرام .
فيقول الخصم : الصغرى ممكنة لا مطلقةً ، فالموضوع في الكبرى إن أخذ ممكناً منعناها ، وإن أخذ بالفعل لم يتحد الوسط ، ولو سلِّم إنتاجُه فالنتيجة ممكنةٌ وذلك لا ننكره .
ومثاله أيضاً: نكاح المريض مبطل حق الورثة ، وكل ما هو مبطلٌ / لحق الورثة ممنوع ، فنكاح المريض ممنوع .
فيقول المخالف كما تقدم .
فهذه جملة مثارات الغلط في القضية الواحدة ، وهو التأليف الجزئي ، وهو التأليف الأول في القياس .
[ الغلط في التأليف القياسي ](1/12)
وأما التأليف الثاني وهو التأليف القياسي فإما أن تكون صورته صورة استقامة أو صورة خُلْف . فإن كان صورة استقامة فيسمى القياس المستقيم .
[ وضع ما ليس بعلة علةً ]
فإما أن يكون بينه وبين المطلوب اتصالٌ عقلي ، أعني أن يكون بحيث يستلزم من وضع المقدمات المطلوب ، أو لا يكون بينهما اتصالٌ عقلي ، فإن لم يكن فهو مثار الغلط ، ويسمى وضع ما ليس بعلة علة .
وذلك يشمل قسمين : أحدهما أن لا يكون التأليف منتجاً وذلك باختلال شرطٍ من شروط الإنتاج .
ومثاله في العقليات: قول القائل: المكان تتعاقب عليه الأجسام ، والهيولى يتعاقب عليه الأجسام ، فالمكان هيولى .
فإن هذا من الشكل الثاني من موجبتين ، وقد عُلِم أنَّ من الشرط إنتاجه اختلاف المقدمتين في الكيف .
ومثاله في الفقهيات: قول القائل: الوتر يصلى على الراحلة ، والنفل يصلى على الراحلة ، فالوتر نفل .
فإن كانت المقدمات كاذبة مع فساد الصورة فيسمى عندهم قياس العقم .
القسم الثاني : أن يكون التأليف منتجاً ، لأنه ينتج عين المطلوب /.
ومثاله في العقليات: قول ابن ميندس : كلُّ ما سوى الموجود فهو لا موجود ، وما هو لا موجود فليس بشيء ، فالموجود واحد .
فإن هذا إنما ينتج : إنما سوى الموجود فليس بشيء لأن الموجود واحد .
ومثاله في الفقهيات: قول القائل: النكاح أو البيع وقت النداء إلى الجمعة فاسد ، لأنه شاغل عن الجمعة ، وكل شاغل عن الجمعة فهو حرام ، فالبيع أو النكاح فاسد .
فيقول الخصم: هذا ينتج أنه حرامٌ لا أنه فاسد ، وكونه حراماً ليس هو كونه فاسداً ولا يستلزمه ، ألا ترى أن بيع المُصَرَّاة حرام وإن وقع صح ، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيار فيه للمبتاع ولم يفسخه ، فقد أنتج الدليل غير المطلوب .
[ المصادرة على المطلوب ]
وأما إن كان بين التأليف والمطلوب اتصالٌ عقلي ، فإما أن تكون المقدمات أعرف من المطلوب أو لا تكون .(1/13)
فإن كان الأول فلا خلل ولا غلط ، وإن كان الثاني فهو مثار الغلط ، ويسمى المصادرة على المطلوب الأول .
وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يؤخذ المطلوب بعينه مقدمةً في الدليل .
ومثاله في العقليات: قول القائل: العلم لا يحدُّ لأنه ضروري ، فإنه لا يحدُّ بنفسه لاستحالة ذلك ، ولا بغيره لأن غير العلم لا يعرف إلا بالعلم ، فهذا قد أخذ المطلوب مقدمةً في دليله بعينه .
ومثاله في الفقهيات : قول القائل: المكره لا يلزمه الطلاق / لأن المكره مغلق عليه ، والمغلق عليه لا يلزمه الطلاق ، فالمكره لا يلزمه الطلاق .
أما الصغرى فلأن الإكراه والإغلاق لفظان مترادفان عند أرباب اللغة.
وأما الكبرى فلقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا طلاق في إغلاق )) .
فيقول الخصم: الكبرى التي أخذتها في هذا القياس هي عين المطلوب .
ومن ذلك: قول القائل في بيان أن النوم حدث يوجب الوضوء : قال الله تعالى: (( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا )) ، ومن المعلوم أن الآية لا تؤخذ بظاهرها ، وإلا لزم الوضوء كل قائم متطهراً أو غير متطهر ، فلا بد من إضمارٍ في الآية .
فإما أن تضمر من الأحداث ما ذكر في الآية أو لم يذكر فيها ، ولا يصح إضمار ما ذُكِر لما يلزم في ذلك من التكرار ، فتعين أن المضمر ما لم يذكر ، ولم يبق مما لم يذكر إلا النوم ، فكأنه قال : إذا قمتم من النوم ، فدلَّ أن النوم حدث يوجب الوضوء .
فيقول الخصم : إنما يتعين إضمار النوم بعد تسليم أنه حدث ، فهذه مصادرة .
النوع الثاني : أن يكون المطلوب مساوياً لمقدمة الدليل في الخفاء والمعرفة ، كأخذ أحد المتضايفين في بيان الآخر .
ومثاله في العقليات: قول القائل: الشمس فوق الزهرة في وضع الأفلاك وهيأتها ، والدليل على ذلك أن الزهرة كاسفة للشمس ، والكاسف تحت / المكسوف ، فالزهرة تحت الشمس ، وكلما كانت الزهرة تحت الشمس كانت الشمس فوقها ، فالشمس فوق الزهرة .(1/14)
فيقول الخصم: هذه مصادرة ، فإن كون الزهرة تحت الشمس وكون الشمس فوقها قضيتان متساويتان في الخفاء .
ومثاله في الفقهيات: النكاحُ أفضلُ من التخلي لنوافل العبادات ، لأنه كلما كانت مصالح التخلي قاصرة عن مصالح النكاح كان التخلي دون النكاح ، لكن المقدم حق ، فالتالي حق .
ثم نقول: كلما كان التخلي دون النكاح كان النكاح فوق التخلي ، لكن المقدم حقّ فالتالي حق ، ومن المعلوم أن كون التخلي دون النكاح وكون النكاح فوق التخلي سيان في الظهور والخفاء .
النوع الثالث: أن يكون المطلوب أخفى من المقدمة المذكورة في الدليل .
ومثاله في العقليات: قول القائل: لو كان الجسم مؤلفاً من أجزاء لا تتجزأ لكانت مسافة الحركة مؤلفة منها ، فكان الزمان المساوي للحركة مؤلفاً من آنات بالفعل ، فيلزم تتالي الآنات ، وتتالي الآنات محال .
فيقول الخصم : إنما يستحيل تتالي الآنات ، ويعرف ذلك باستحالة تألف الجسم من أجزاء لا تتجزأ ، فاستحالة الآنات أخفى من المطلوب .
ومثاله في الفقهيات: قول القائل: لو صح نكاحُ الخيار لما فسخ إذا وقع ، لكنه يفسخ إذا وقع ، فهو ليس بصحيح .
فيقول الخصم: إنما يعلم أنه / يفسخ بعد العلم بعدم صحته ، فكيف يؤخذ في بيانه ؟
ومنه قوله في المدونة : في نكاح الخيار أنه لا يصح لأنهما لو ماتا لم يتوارثا .
[ تنبيه وإيقاظ في موضوع المصادرة على المطلوب ]
ومما ينبغي أن يتفطن له في هذا الباب أن يكون النصُّ قد وجد في أحد المتضايفين ، ويكون المطلوب قد ترجح بالمضيف الآخر ، فيذكر المستدل لزوم أحد المتضايفين للآخر تنبيهاً ، لا أنه مقدمة أجلى من المطلوب .
ومثاله قول القائل: بنت الزنى حرام على الزاني ، لأن بنت الزنى بنت للزاني ، فكانت حراماً لقوله تعالى: (( وبناتكم )) ثم بين أن بنت الزنى بنت للزاني بأن الزاني أب لها ، ويستدل بحديث جريج حين قال للولد : من أبوك يابابوس ، فقال: فلان الراعي .(1/15)
فدلَّ الحديث على أن الزاني يسمى أباً ، وإذا كان الزاني أباً لبنت الزنى كانت بنت الزنى بنتاً للزاني وهو المطلوب .
فمثل هذا لا ينبغي أن يعد مصادرة .
هذا كله إذا كان التأليف القياسي تأليف استقامة .
وأما إذا كان التأليف تأليف خلف ، وهو أن تثبت المطلوب باستلزام نقيضه الكذب والمحال ، فحكمه حكم القياس المستقيم في جميع ما تقدم من مثارات الغلط .
والمحال الذي ينتجه قياس الخلف بمثابة المطلوب في القياس المستقيم ، فيتحرز فيه من المصادرة ووضع ما ليس بعلة علة .
وإنما يزيد الخلف على المستقيم بمثار واحد في مثارات الغلط / وهو إهمال المتقابلات .
وذلك أن قياس الخلف هو إثبات المطلوب بإبطال نقيضه ، فإن أخذ فيه غير النقيضين فلا خلل فيه ، وإلا فهو مثار للغلط .
ومثاله في العقليات : قول القائل: التَّعَين أمر عدمي ، لأنه لو كان أمراً ثبوتياً لكان له تعيُّن آخر ، وهو وجودي ، فيكون له تعين آخر ويتسلسل .
فيقول الخصم: إنما يتم ذلك لو كان هذا المحال لازماً لنفيض مطلوبك ، وإنما مطلوبك أن كل تعين أمر عدمي ، فنقيضها جزئية لا كلية ، وإنما يلزم المحال إذا أخذت كلية .
ومثاله في الفقهيات: قول القائل: اقتناء أواني الذهب والفضة مباح ، لأنه لو كان حراما لحرم بيعها ولما صح .
فيقول المخالف: إنما نقيض كونه مباحاً ألا يكون مباحاً لا أنه حرام .
[ خاتمة وتلخيص ]
فهذه مثارات الغلط المعنوية ، وهي على ما ذكرته ثمانية: خمس تتعلق بالقضية ، وثلاث تتعلق بالقياس .
أما التي تتعلق بالقضية فجمع المسائل في مسألة واحدة ، وأخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ، والإطلاق في موضع التقييد ، وإيهام العكس ، وسوء اعتبار الحمل .
والتي تتعلق بالقياس: وضع ما ليس بعلة علة ، والمصادرة على المطلوب ، وإهمال المتقابلات ، ويقال فيه: إهمال شروط التناقض .(1/16)
لكن أَرِسطو إمام هذه الصناعة لما ذكر المغالطات اللفظية عدها ستاً كما عددناها ، ولما ذكر المغالطات المعنوية عدها سبعاً ، وأسقط سوء اعتبار الحمل / ولعله رآه راجعاً إلى الإطلاق والتقييد ، لأنه يأخذ اعتبارات الحمل قيوداً في المحمول .
وأما أبو نصر فذكر السبع التي ذكرها أَرِسطو وزاد عليها موضع النقلة والإبدال ، وهو أن ينتقل الذهن من الشيء إلى ما يقوم مقامه غلطاً ، وهما يفترقان في الخواص واللزوم والمقارنات والخيالات ، وقد ينتقل إلى الشبيه كما يظن بالهواء أنه الخلاء ، وإلى اللازم كما ينتقل من تناهي الأجسام إلى شكلها وإلى المقابل كما ينتقل من أحد المتقابلين إلى الآخر .
وأما الخيالات فإنها تثير الغلط كثيراً من قبل أن كثيراً من المعقولات لا تستقر في العقل إلا مقارنة بخيالات جسمانية ، فيعسر على العقل تجريد صورها الخاصة من الخيال ، مثل تصورنا ما قبل العالم بأنه امتداد زماني وخارج العالم بأنه خلاء أو ملاء ، ومن هنا ظن بعضهم أن الأشعة والظلمات والظلال أجسام .
وأنت تعلم إذا تأملت هذا الموضع ، أعني موضع النقلة والإبدال ، أنه راجع إلى ما بالعرض ، ولذلك قال أبو علي في الشفاء حين عد هذه المواضع: انظروا معشر المتعلمين إلى هذا الرجل العظيم ، يعني أرسطو ، وتأملوا هل زاد أحد بعده في هذه المواضع ما يستحق الزيادة وبيننا وبينه المدة التي هي قريب من / ألف وثلاثمائة سنة .
وكان شيخنا أبو عبد الله الآبلي يقول : إن أبا علي إنما عرض بأبي نصر الفارابي حين زاد بزعمه موضع النقلة المذكور .
وأقول : أما نحن فقد نبهنا على مواضع الغلط محصورة بالطريق الصناعي ، ممثلة تمثيلاً بتقريب يؤيد الفهم .
فهذه نبذة إن أنت حققتها سهل عليك الوقوف على مثارات الغلط في الأدلة العقلية والفقهية عند الاستقراء .
والله ولي التوفيق والعصمةوصلى الله على سيدنا محمد نبي الرحمة
وآله وصحبه خير الأمة وسلم تسليماً .(1/17)