كتاب
بغية المرتاد لتصحيح الضاد
تأليف
علي بن قاسم المقدسي الحنفي
تحقيق
الدكتور جميل عبد الله عويضة
1430هـ / 2009م
بسم الله ارحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفّق للنطق الفصيح مّنْ أراد ، ووقف عن الحق الصريح من لزم العِناد ، والصلاة على سيدنا محمد أفصح مَنْ نطق بالضاد ، وعلى آله وأصحابه المنقادين للصواب خير انقياد ، ورضي الله تعالى عن العلماء الأمجاد ، خصوصا الذين اجتهدوا لنفع العباد ، ودوّنوا لهم ما أنْ نظروه بعين التأمّل والانتقاد ، بلَّغهم غاية البغية والمراد ، وبعد..
فيقول المفتقر إلى الغني الجواد ، علي بن قاسم المقدسي الحنفي الاعتقاد : لمَّا رأيت بمحروسة القاهرة التي هي زين البلاد كثيرا من أفاضل الناس فضلاً عن الأوغاد ، يخرجون عن مقتضى العقل والنقل في النطق بالضاد ، وينكرون على مَنْ وافقهما ؛ لأن مخالفتهما بينهم أمر معتاد ، ويرمون أن نتّبعهم من غير أصل لهم إليه استناد ، سوى التوارث عن الآباء والأجداد ، من غير رعاية لتمهيد الأصول ، ولا هداية لتسديد الفصول ، ولا تبصرة لما فيه إرشاد ، ثم شاع الإنكار منهم علينا في كل ناد ، بين كل حاضر وباد ، فأردت مع طلب جمع من الإخوان ، وإشارة من / بعض الأعيان ، أن أزيل الغبن من 2ب عين الرشاد ، وأفيض من الدلائل العقلية والنقلية ما يروي كل صاد ، فشرعت فيه معترفا بقصر الباع وقلَّة الزاد ، مع التوكل على الله والاعتماد ، سائلا من فضله النفع به في المعاد ، وسميته بغية المرتاد لتصحيح الضاد .(1/1)
وقبل الخوض في المرام من تمهيد الكلام ، وتحرير المقام ، فليعلم أنّ أصل هذه المسألة أنهم ينطقون بالضاد ممزوجة بالذال المعجمة ، والطاء المهملة ، ويُنكرون على مَنْ ينطق بها قريبة من الظاء المعجمة ، بحيث يتوهم بعضهم أنها هي ، وليس كما توهمه ، فنقول : الكلام في إثبات ما أنكروه منحصر في مقدمة فيما يجب أن نقدمه ، وفصلين محيطين من الدلائل بنوعين ، وخاتمة لتنبيهات ، ودفع تمويهات .
أمَّا المقدمة ففي بيان مخرجها ، وما لها من الصفات التي نصّ عليها العلماء الأثبات في الكتب المعتبرات ؛ ليكون الناظر على بصيرة من الدلائل الآتيات ، فإن كلّ حرف له لفظ باعتبار مخرجه وصفته يحفظانه عن زيادته ونقصانه ، وعند عرضه عليها يتحقق صحته وسقمه ، كما يتحقق / صرّاف الدينار من ضربه عند إلقائه على صليل ، كما قال 3أ
الإمام الشاطبي في حرز الأمان :
وهاك موازين الحروف وما ... ... حكى جهابذة النقاد فيها محصلا
ولا ريبة في عينهن ولا ريا ... ... وعند صليل الزيف يصدق الابتلا
وقد قيل إنّ المخرج يبيّن كميّة الحرف كالميزان ، وإنّ الصفة تبيّن كيفيته كالناقد .
أمَّا مخرجها فقد قال العلاّمة ابن الحاجب في الشافية : وللضاد إحدى حافتيه ، وما يليها من الأضراس ، قال الجاربردي في شرحها : وللضاد إحدى حافتي اللسان ، وما يليها من الأضراس التي في الجانب الأيسر ، أو الأيمن ، والحافّة الجانب ، وينبغي أنْ يُعلم أنْ ليس المراد بأوّل إحدى حافتيه ما هو في مقابلة أقصى اللسان وما يليه ؛ لتأخّر ذكر الضاد عن القاف والكاف ، فإنه دلّ على تأخّر مخرجه عن مخرجيهما ، وإذا أخر ذكره عن الجيم والشين والياء أيضا عُلم أنّ مقابل مخرجها من حافة اللسان ، لكنه أقرب إلى مقدم الفم بقليل ، هو مخرج الضاد ، ثم إنّ إخراجها من الجانب الأيسر أيسر عند الأكثر ، وقد يستوي الجانبان عند البعض ، انتهى .(1/2)
وهو يدل على أنّ/ معنى قولهم : وبعضهم يخرجها من الجانبين أنه يخرجه من3 ب أحدهما تارة ، ومن الآخر أخرى ، وقال بعض شرَّاح ألفية ابن معطي : وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينطق بها من الأيمن ومن الأيسر ، وهو أيضا فيما ذكرناه أظهر .
وأمَّا صفاتها فمنها الجهر ، وهو اصطلاحا حبس النفس عند التلفظ بالحرف ؛ لقوة الاعتماد عليه ، ولغة هو الإعلان ، وضده الهمس ، وهو اصطلاحا جري النفس عند التلفظ بالحرف ؛ لضعف الاعتماد على مخرجه ، ولغة الخفاء ، وقال ابن الحاجب في شرح المفصل : إنما سمّيت المجهورة مجهورة من قولهم جهرت بالشيء إذا أعلنته ، وذلك لأنه لمَّا امتنع النفس أنْ يجري معها انحصر الصوت بها ، فقوي التصويت بها ، وسمي قسيمها مهموسا ، أخذا من الهمس ، الذي هو الإخفاء ؛ لأنه لمَّا جرى النفس معها ، لم يقو التصويت بها قوته في المجهورة ، فصار بالتصويت بها نوع خفاء ؛ لانقسام النفس عند النطق بها ، انتهى .
وقد عدّها بعض المتأخرين في المهموسة في حروف أُخر ، قال ابن الحاجب : ولو قال/ هذا البعض : إنها بين المهموسة والمجهورة لكان أقرب . ... ... ... ... 4أ
ومن صفاتها : الرخاوة ، وهي جري الصوت مع لفظها ؛ لضعف الاعتماد ، وهي لغة اللين ، وضدها الشدة ، وهي حبس الصوت عند لفظها ؛ لقوة الاعتماد ، وهي لغة القوة والبينيّة أيضا ، وهي كون الحرف يجري معه بعض الصوت ، ويُحبس بعضه ، أو يجري جريا ضعيفا ، منسوب إلى بين ، وهو التوسط بين الشيئين ، كذا في كنز المعاني ، وفي شرح الشافية للجاربردي ، الحروف الشديدة حروف ينحصر جري صوتها عند إسكانها في مخرجها ، والرخوة بخلافها ، فهي حروف لا ينحصر جري صوتها ، وسميت الشديدة شديدة ، مأخوذة من الشدة ، التي هي القوة ، لأن الصوت لمَّا انحصر في مخرجه ، ولم يجر ، اشتدّ ، أي امتنع قبوله للتليين ؛ لأن الصوت إذا جرى في مخرجه أشبه حرف اللين ، لقبوله التطويل ، يجري الصوت في مخرجه عند النطق .(1/3)
... ومنها : الاستعلاء ، وهو ارتفاع اللسان إلى الحنك الأعلى عند اللفظ ، وهو لغة العلو ، فسمِّيت به تجوّزا ، كما في ليل نائم ، قيل : ويجوز أن يكون / تسميتها به 4 ب لخروج صوتها من جهة العلو ، وكل ما جاء من عال فهو مستعلٍ ، وضده الاستفال ، وهو انحطاط اللسان على الحنك عند اللفظ ، وهو لغة الانخفاض .
... ومنها : الإطباق وهو تلاقي طابقي اللسان والحنك الأعلى عند اللفظ ، وهو أبلغ من العلو ، ولغة التلاصق والتساوي ، وفيه أيضا تجوّز ؛ لأن المطبق إنما هو اللسان والحنك ، وأمّا الحرف فهو مطبق عنده ، واختُصر ، فقيل مطبق ، كما قيل للمشترك فيه مشترك ، ومثله كثير ، وضده الانفتاح ، وهو تجافي كل واحد منها عن الآخر ، ولغة الافتراق .
... ومنها : الإصمات ، والمصمتة حروف لا تنفرد في كلمة رباعية أو خماسية ، كأنهم لمّا لم يجعلوها منطوقا بها أصمتوها ، أي جعلوها صامتة ، أو أصمت المتكلمون أنْ يجعلوا منها رباعيا أو خماسيا ، وضدها المذلقة ، وهي ستة حروف ، جمعت في قولك ( مر بنفل ) سميت به لخروجها من ذلق اللسان والشفة ، أي طرفها ، والذلاقة السرعة في النطق ، ولخفتها لا تخلو منها كلمة رباعية أو خماسية إلاّ شاذة ، أو دخيلة / في العربية 5 أ كعسجد ، وعسطوس .
... هذه الصفات المتضادة التي لا يخلو حرف عنها ، وبقي صفات تختص ببعض الحروف ، ومنها : الصتم ، والصتم ما عدا حروف الحلق ، سمِّيْت بها لتمكنها في خروجها من الفم ، واستحكامها فيه ، ولم تسم الحلقية به ؛ لعدم تمكنها ببعد حيّزها .
... ومنها : التفخيم ، وهو تسمين الحرف ، وضده الترقيق لنحافته .
... ومنها : الأصالة ، وهو كون الحرف جزء الكلمة ، ويقابَل بفَعَلَ ، وتتكرر لام المنيف ولمعرفتها طرق في التصريف ، وضدها الزيادة ، وهي بخلافها ، وبسط الكلام عليها في غير هذا المحل .
... ومنها : الشجرية ، وهي كونها تخرج من شجر الفم ، أي مفرجه ومفتحه .(1/4)
... ومنها : الاستطالة ، وهي كما قال الجعبري : الامتداد من أول حافة اللسان إلى آخرها ، لا كما قال مكي : لتمكنها بالصفات ، والفرق بين المستطيل والممدود أنّ الأول جرى في مخرجه ، والثاني جرى في نفسه .
... ومنها : النفخ ، وهو صوت يلحقها عند الوقف ، يشبه النفخ ، ذكر هذه الصفة الجعبري في كتبه ، والأستاذ / أبو حيان في شرح التسهيل . ... ... ... ... 5ب
... ومنها : التفشي ، حكي عن بعضهم ، وهو انتشار الصوت عند اللفظ حتى يتصل بحرف الطرف ، وهو للشين بالاتّفاق ، قال الجعبري : والتحقيق أنّ الضاد انتشر بمخرجه ، وذلك بصوته .
... وإنما ذكرنا هذه الصفات مع أضدادها ؛ لأن بعضهم وصفها بصفة ، وبعضهم وصفها بضدها ، فذكرنا الضدين ، لتعلم الصفة على القولين ، وللتكميل والتعويل على ما قيل : بضدها تتبين الأشياء ، والله تعالى أعلم .
الفصل الأول : فيما يدل بالمعقول على أنّ اللفظ بالضاد كالظاء المعجمة هو المقبول ، وهي أدلة متعددة لاحت لنا بالنظر في المنقول :
الأول : أنّ علماء هذا الفن وغيرهم تعرّضوا للفرق بينهما ، وبيّنوا الألفاظ التي تُقرأ بالضاد في مؤلفات لهم مستقلة ، وغير مستقلة ، نظما ونثرا ، فمنهم العلامة ابن الجزري في مقدمته المشهورة في التجويد ، ذكر الكلمات التي بالظاء الواقعة في القرآن ، ليعلم أنّ / ما عداها بالضاد ، ومنهم الإمام الشاطبي في أبياته التي أولها : 6 أ
... ربّ حظ كهظم غيظ عظيم ... ... أظفر الظفر بالغيظ الكظوم
ومنهم الشيخ عز الدين الرسعي في أبياته التي أولها :
... حفظت لفظا عظيم الوعظ ... ... يوقظ من ظمأ لظى
وشواظ الحظر والوسن
ومنهم الحافظ أبو عمرو الداني في أبياته التي أولها :
... ظفرت شواظ بحظها من ظلمنا ... ... فكظمت غيظ غليظ ما ظنّت بنا
ومنهم الحريري في مقاماته ، نظم الكلمات التي هي بالظاء مطلقا ، في أبيات أوّلها
... أيها السائلي عن الضاد والظاء ... لكيلا تضله الألفاظ
... إنْ حفظت الظاءات يغنيك فاسمعها ... استماع امرئ له استيقاظ(1/5)
ومنهم الشيخ جمال الدين ابن مالك ، عمل نحو ستين بيتا كالحريري ، أولها :
... بسبق شين أو الجيم استبانة ظاء ... أو كاف أو لام أيضا كاكظ ملتمظا
والأديب الأوحد محمد بن أحمد بن جابر الهواري ، نظم قصيدة بديعة في الفرق بينهما ، قال الشهاب القسطلاني : لم يسبق إلى مثلها ، ولم ينسج أحد فيما / 6 ب علمت (1) على منوالها ، وأولها .
... حمد الإله أجل ما يتكلم ... ... بدءً به فله الثناء الأدوم
... وعلى النبي الهاشمي وآله ... أزكى صلاة عرفها يتنسم
والصاحب ابن عباد ألّف في الفرق بينهما كتابا نحو ثلاثمائة ورقة ، ثم اختصره في نحو عشر (2) أوراق ، وغير هؤلاء جمع كثير ، أعرضنا عن ذكرهم خوف الإطالة ولهذا اقتصرنا من كلامهم على أول مقالة ، فيا ليت شعري ، لولا التشابه بينهما لفظا ، والالتباس حتى خفي الفرق بينهما على كثير من الناس لما (3) كان هذا الجم الغفير يتعبون القلم ، ويسودون القرطاس .
الثاني : أنّ الضاد ليست في لغة الترك ، بل مخصوصة باللغة العربية ، كما أشار إليه أبو الطيب في قوله (4) :
... ... وَبِهِم فَخرُ كُلِّ مَن نَطَقَ الضا دَ وَعَوذُ الجاني وَعَوثُ الطَريدِ
... ودلّ عليه قول الأستاذ أبي حيان في كتاب له في اللغة التركية : حروف المعجم في هذا اللسان ثلاثة وعشرون حرفا ، وسنسردها ، وعن الضاد جرّدها ، ثم قال : ومتى وجد في بعض الكلام حرف غير هذه فيعلم أنّ تلك الكلمة غير / تركية 7 أ بل منقولة من لغة غيرها ، وقال الشهاب القدسي (5) في شرح ألفية ابن معطي بعد ذكر مخرج الضاد ، وهو من خواص اللغة العربية ، لا يوجد في غيرها ، وقال الإمام البرهان الجعبري في كتاب عقود الجمان :
... ... والعرب خصَ بضادها وتطثّرت ... ... بالظاء والثاء والدال فاستمعان
__________
(1) كتبت : عملت .
(2) كتبت : عشرة .
(3) كتبت لم .
(4) من الخفيف ، التبيان في شرح الديوان 1/323
(5) شهاب الدين أحمد بن محمد القدسي الحنبلي المتوفى سنة 728هـ.كشف الظنون ، ص 155(1/6)
... وقال في القاموس : الضاد حرف هجاء للعرب خاصة ، وقال الجاربردي في شرح الشافية : ولا ضاد إلاّ في العربية ، ولذلك قال عليه السلام : ( أنا أفصح مَنْ تكلّم بالضاد ) ولكن قال القسطلاني في لطائف الإشارات بعد ذكر الحديث بلفظ ( أنا أفصح من نطق بالضاد ) إلاّ أنه لا أصل له ، كما قال الحافظ الكبير إسماعيل بن كثير الحنبلي ، وذكره الحكري في النجوم ساكتا عليه ، انتهى .
... إذا عُلم ذلك فليس مفقودا في لغة الترك إلاّ الضاد الشبيهة بالظاء المعجمة ، أمّا هذا الحرف الذي يشبه الدال المفخّمة ، والطاء المهملة التي ينطق بها أكثر المصريين ، ولنُسَمِّه بالضاد الطائية فموجود في لغة الترك في أكثر ألفاظهم ، كما يشهد به العارف بلغتهم ، بل السامع لكلامهم ، والموجود / غير المفقود ، 7 ب وبذلك يتم المقصود .
الثالث : أن الفقهاء ذكروا أحكام مَنْ يبدل الضاد ظاء ، قال في الذخيرة : يؤتى بالظاء مكان الضاد ، وبالضاد مكان الظاء ، فالذي ينبغي أن تفسد صلاته ، وهو قول عامة المشايخ ، واستحسن بعض مشايخنا ، وقال بعدم الفساد للضرورة في حق العوام ، وقال الشيخ خليل المالكي في مختصره : وهل بلاحن مطلقا ، أوفي الفاتحة ، وبغير مميز بين ضاد وظاء خلاف ، وقال الإمام النووي في منهاجه : ولو أبدل ضادا بظاء لم يصح في الأصح ، وقال الشيخ علاء الدين المرداوي الحنبلي في تنقيحه : ولو أبدل حرفا لم يصح إلاّ ضاد المغضوب ، ولا الضالين بظاء ، فيصح ، ولم يتعرضوا لأحكام مَنْ يبدلها بحرف غير الظاء ، كما تعرضوا لأحكام مَنْ يبدلها به ، فلولا التشابه بينهما لما كانوا يفعلون ذلك .
الرابع : أنّ بعض العلماء وصفها بالتفشي ، ولا تفشٍ فيها ، وقد سبق ذكر التفشي ومعناه ولذلك ما أعدناه .(1/7)
الخامس : أنهم ذكروا أنّ من صفاتها النفخ ، ويشاركها فيه الظاء والذال والزاي ، ولا يتحقق ذلك إلاّ في الضاد الشبيهة بالظاء / أمّا الضاد الطائية فلا توجد فيها 8 أ هذه الصفة ، كما يشهد به مَنْ أحاط بالمقدمة معرفة ، ولكونها تشارك الزاي والظاء في هذه الصفة ونحوها قد يجعلها العرب في مقابلتها في قوافي الشعر ، قال الشيخ عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة في باب الإكفاء : قال بعض العلماء: اختلاف الروي هو الإكفاء ، وهو غلط من العرب ، ولا يجوز لغيرهم ، وإنما يغلطون فيه إذا تقارب الحروف ، وأنشد :
كأنَّ أصواتَ القَطَا المُنْقَضِّ باللَّيلِ أصواتُ الحَصَا المُنْقَزِّ (1)
... قلت : ومن هنا أيضا ساغ ما عمله بعضهم من اللغز في الخيمة بقوله :
... ... ومضروبةٍ من غيرِ جُرمٍ أتت به ... ... إذا ما هدى الله الأنام أظلت
ومما ينحو هذا المنحى ما ذكره الصلاح الصفدي في كتاب فضّ الختام عن التورية والاستخدام ، حيث قال : الأصل الرابع فيما يحصل من الوهم والاشتراك ، أنشدني بعضهم لأبي الحسين الجزار ، ولم أتحقق نسبة ذلك إليه ؛ لأن أبا الحسين يجلّ قدره عن الوقوع في مثل هذا :
وقائل قال ما أعددت من أهب لذا الشتاء وذا البرد الذي عرضا
/فقلت دعني فقد أعددت لي بدنا مشجا وشقا في القلب قد قرضا 8ب
وقد وهم الشاعر في قوله قرض ، لأن الذي يُدبَغ به إنما هو بالظاء ، وقد نصّوا على ذلك ، وهو أشهر من أن يُنبه عليه ، والقرض بمعنى القطع بالضاد ليس إلاّ ، والقافية ضادية كما يُرى ، ولكن الشاعر ما قصر في قوله وشقاً ، وتركيبه هذا من حرف واسم ، وجعله نوعا من أنواع الفِراء ، انتهى .
قلت : والعذر للشاعر واضح من اشتباه الحرفين كما بيّنا ، ولا يخفى أن القرظ نوع من الفراء ، وهو المناسب للمقام ، فقوله الذي يُدبغ به فيه تسامح ، وبالجملة فلا يبعد انتساب هذا الشعر الحسن إلى أبي الحسين ، ولا شكّ بالظاء .
__________
(1) من الرجز ، خزانة الأدب 11/ 324(1/8)
السادس : أنهم ذكروا من صفاتها الاستطالة كما مرّ ذكرها ، ومعناها وهي المميزة لها عن الظاء ، ولا توجد في الضاد الطائية صفة الاستطالة .
السابع : أنهم ذكروا من صفاتها الرخاوة ، وهذا شديد الدلالة عند مَنْ ليس عنده غباوة ، فإنه لا رخاوة فيها إلاّ إذا كانت شبيهة بالظاء ، أمّا الضاد الطائية فمشوبة بالدال المفخمة ، والطاء المهملة / وكلّ منهما حرف شديد ، فكذا ما هو بينهما ، بل9أ مَنْ عرف معنى الشدة والرخاوة ، وقد قدّمناهما في المقدمة ، يجد هذا الحرف متصفا بالشدة قطعا من قطع النظر من الدال والطاء .
الثامن : أنّ هذا الحرف صعب على اللسان ، نصّ على ذلك علماء هذا الشأن ، وفرسان هذا الميدان ، وحكموا بأن الراجل في التجويد والإتقان لا يقدر على تحقيقها ، بل بعض أكابر الفرسان ، قال الإمام السخاوي في عمدة المفيد :
... ... والضاد حرف مستطيل مطبق ... ... جهرا يكلّ لديه كلّ لسان
... ... حاشا لسان بالفصاحة قيم ... ... وربّ لإحكام الحروف معان(1/9)
... وقال الأستاذ أبو حيان في شرح التسهيل : والضاد من أصعب الحروف التي انفردت العرب بكثرة استعماله ، وقال الشيخ أبو محمد مكي بن أبي طالب في الرعاية : ولا بدّ من التحفظ بلفظ الضاد حيث وقع ، فهو أمر يقصِّر فيه أكثر مَنْ رأيت من القرّاء والأئمة لصعوبته على مَنْ لم يُدرَّب فيه ، فلا بدّ للقارئ المجوِّد أنْ يلفظ بالضاد المفخمة مستعلية مطبقة مستطيلة ، فيظهر صوت خروج الريح عند ضغط حافة اللسان لما يليه من الأضراس عند اللفظ / بها ، ومتى فرّط في ذلك أتى بلفظ 9ب الظاء ، أو الذال ، فيكون مبدِّلا ومغيّرا ، والضاد من أصعب الحروف على اللافظ ، فمتى لم يتكلّف القارئ إخراجها على حقها أتى بغير لفظها ، وأخلّ بقراءته ، ومتى تكلّف ذلك ، وتمادى عليه ، صار له التجويد بلفظها عادة وطبعا وسجيّة ، وقال العلاّمة ابن الجزري في النشر : والضاد انفرد بالاستطالة ، وليس من الحروف ما يعسر على اللسان مثله ، فإن ألسِنَة الناس فيه مختلفة ، وقلّ مَنْ يُحسنه ، فمنهم مَنْ يخرجه طاء ، ومنهم مَن يمزجه الذال ، ومنهم من يجعله لاما مفخما ، ومنهم من يشمه الزاي ، وكل ذلك لا يجوز ، انتهى .
... ... فإذا كانت الضاد العربية بذه المرتبة من الصعوبة ، وأنت لا ترى أنْ لا صعوبة في الضاد الطائية ، بل هي في غاية السهولة على اللسان ، يستوي في النطق بها العالم والجاهل ، والفارس في هذا العلم والراجل ، فإنك تحكم بأن الضاد الطائية بعيدة عن الضاد العربية .(1/10)
التاسع : أن المخرج المنصوص عليه للضاد في الكتب المعروفة المتداولة ليس إلاّ للضاد الشبيهة / بالظاء المعجمة ، لا للطائية ، فإنهم قالوا في معرفة مخرج الحرف 10 أ أن تسكنه وتدخل عليه همزة وصل ، وتنظر أين ينتهي الصوت ، فحيث انتهى فثم مخرجه ، مثلا تقول : ( اب ) ، فتجد الشفتين قد أطبقت إحداهما على الأخرى ، وهو مخرج الباء ، وإذا نطقت بالضاد الطائية ، وفعلت ما تقدم ذكره ، لا تجد الصوت ينتهي إلاّ إلى طرف اللسان ، وأعلى الحنك ، وهو مخرج الدال والظاء والثاء ، ولم نر أنّ أحدا ذكر أنّ مخرج الضاد من هذا المحل ، بل ما ذكرناه لها من المخرج مذكور في كتب لا تُحصى في علم القراءة والنحو ، مثل كتب الإمام العلاّمة ابن الجزري ، والإمام الشاطبي ، والعلامة الجعبري ، والشيخ أبو محمد المكي ، والشيخ جمال الدين ابن مالك ، وابن معطي ، وابن الحاجب ، والزمخشري ، وأبي حيان ، وغيرهم ، وما نُقل عن الخليل أنها شجرية فسيجيء الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
... ... فإن قيل : نحن نروي هذه الضاد الطائية بالمشافهة عن الشيوخ الراوين لها عن شيوخهم بالأسانيد المتصلة بأئمة القرّاء البالغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قلنا لا عبرة بالرواية المخالفة للدراية / إذ شرط قبول القراءة أن توافق10 ب العربية ، وقد بيّنا مخالفتها لما تواتر في كتب العربية والقراءة ، قال الأستاذ أبو حيان في شرح التسهيل : إنما ذكر النحويون صفات الحروف لفائدتين : إحداهما لأجل الإدغام ثم قال : والفائدة الثانية وهي الأولى في الحقيقة بيان الحروف العربية حتى ينطق مَنْ ليس بعربي بمثل ما ينطق العربي ، فهو كبيان رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، فكما أنّ نصب الفاعل ، ورفع المفعول لحن في اللغة العربية ، كذلك النطق بحروفها مخالفة مخارجها ، لما روي من العرب في النطق بها لحن أيضا ، وتفصيل هذا الجواب ، لا يليق بهذا الكتاب .(1/11)
العاشر : أنّ من أوصافها الشجرية لقّبها بها صاحب القدر الجليل إمام النحو الخليل ، ولا يتأتى ذلك إلاّ إذا كانت شبيهة بالظاء ، فإن الضاد الطائية تخرج من طرف اللسان ، لا من شجر الفم ، وسيأتي لذلك مزيد بيان إنْ شاء الله تعالى .
الحادي عشر : قولهم في صفة الإطباق : ولولا الإطباق لصارت الطاء دالاً ، والصاد سيناً ، والظاء ذالاً ، ولخرجت / الضاد من الكلام ، إذ لا تخرج من موضعها غيرها ،11أ هذا نصّ كلام الأستاذ أبي حيان في شرح التسهيل ، ومثله في شرح المفصل لابن يعيش ، وهذا كما ترى يخص الضاد الشبيهة بالظاء ، أمّا الطائية فتخرج من مخرجها الحروف الثلاثة النطعية ، كما يشهد به الحسّ بالقاعدة المعروفة في معرفة مخرج الحرف ، فلو كانت الطائية عربية لوصفت بالنطعية ، كما وصفت أخواتها ، ولقالوا : لولا الإطباق لصارت الضاد دالا ، بدل قولهم لخرجت من الكلام ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام .
الثاني عشر : أنّ أهل مكة التي هي منشأ النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي هو سيد العرب والعجم ، وما والاه من بلاد الحجاز ، التي هي محلّ العرب وموطنهم إنما ينطقون بالضاد شبيهة بالظاء المعجمة ، ولا يسمع من أحد منهم هذه الطائية ، وهم نعم المقتدى لمن أراد بهذا السبيل الاهتدا .
الفصل الثاني : فيما يدل بالتصريح على اللفظ بالضاد شبيهة بالظاء هو الصحيح ، وهو المنقول من كلام العلماء الفحول ، المُتلقَّى كلامهم بالقبول :
الأول : قول الشيخ / محمد بن عتيق علي النجيبي الأزدي في الدرر المكللة في الفرق11ب بين الحروف المشكلة :
والضاد والظاء لقرب المخرج قد يوزنان بالتباس المنهج .
الثاني : قوله أيضا في كتابه المذكور، بعد ذكره الظاء :
ويكثر التباسها بالضاد ... إلاّ على الجهابذة النقّاد .
الثالث : قول الأديب الأوحد محمد بن جابر الهواري المذكور في قصيدته المذكورة :
... ... وأقول فيما بعد ذلك إنه ... للظاء بالضاد التباس يعلم(1/12)
... ... رأيت حصر الظاء آكد واجب ... ليبين أنّ الغير صاد تُرسم
الرابع : قول الإمام السخاوي في عمدة المفيد بعد أن ذكر الضاد ، وأنه حرف صعب :
ميزه بالإيضاح عن ظاء ففي أضللن أو في غيض يشتبهان
وكذاك مخضرة وناضرة إلى وولا يخضن وخذه ذا اذنان
الخامس : قول العلامة ابن الجزري في مقدمته المشهورة في التجويد :
... ... والضاد باستطالة ومخرج مِزِ ... ... من الظاء وكلها تجي
وتقديم المجرور يفيد التخصيص ، فيدل على أنّ التمييز بينهما ليس إلاّ بالمخرج والاستطالة ، وأنها مشاركة لها في الصوت .
السادس : قول العلامة البرهان / الجعبري في شرح الشاطبية : ولفظها ، يعني 12 أ الضاد ، يضارع لفظ الظاء ؛ لأنها أكثر الحروف تناسبا في الصفة .
السابع : قوله في كتابه عقود الجمان في تجويد القرآن :
والظاء أخو الضاد في كل الحلى ... وبالاستطالة خولف الحرفان مع مخرج
الثامن : قول الشيخ بدر الدين المعروف بابن أم قاسم في شرح الواضحة في تجويد الفاتحة عند قوله :
... ... وبالضاد كالضلال جوّده فارقا ... ... بمخرجه ووصفه المتعنِّد
... بعد أن ذكر مخرجها كما ذكرناه ، وصفاتها ، والأبيات التي تدل على صعوبتها من كلام الإمام السخاوي التي ذكرناها ، قال : وتشارك الظاء الضاد في الاستعلاء والجهر والاطباق والتفخيم ، ولمشاركته له في هذه الصفات اشتد شبهه له ، وعسرت التفرقة بينهما ، واحتيج إلى الرياضة التامة .
التاسع : قول الشيخ أبي محمد المكي ابن أبي طالب في كتابه الرعاية ، في باب الضاد ، بعد أن ذكر أنه يجب التحفظ بها إذا أتى بها حرف إطباق ، وكذلك إن كان الثاني مشددا نحو [ يعض الظالم ] (1) فلهذا السبب لا يخاف من دخول/ الإدغام ، ولا 12 ب
يدخل إدغام على إدغام فاعرف هذا ، ولكنه يخاف أن تلفظ بالأول مثل تلفظك بالثاني لتقارب المشابهة والإلفاظ في الظاء والضاد .
__________
(1) الفرقان 27(1/13)
العاشر : قوله في كتابه المذكور في باب الظاء : والظاء حرف يشبه لفظه في السمع لفظ الضاد ؛ لأنهما من الحروف المستعلية ، ومن الحروف المجهورة ، ولولا اختلاف المخرجين لهما ، وزيادة الاستطالة التي في الضاد لكانت الظاء ضادا .
الحادي عشر : قوله في باب الضاد : والضاد يشبه لفظها لفظ الظاء ؛ لأنهما من حروف الإطباق ، ومن الحروف المستعلية المجهورة ، ولولا اختلاف المخرجين ، وما في الضاد من الاستطالة لكان لفظهما واحدا ، ولم يختلفا في السمع .
الثاني عشر : قول العلامة ابن الجزري ، المشهور بكمال فضله ، الموصوف بأنه لم تسمح الأعصار بمثله ، وكفى بذلك موجبا لإتباع قوله في كتابه التمهيد ، الذي ألفه في القاهرة المصرية : واعلم أنّ هذا الحرف ليس في الحروف حرف يعسر على اللسان عسره ، والناس يتفاضلون فيه ، فمنهم من يجعله ظاء مطلقا ، لأنه يشارك الظاء في صفاته كلها ، ويزيد / عليها بالاستطالة ، فلولا الاستطالة ، واختلاف 13 أ المخرجين لكانت ظاء ، وهم أكثر الشاميين ، وبعض أهل الشرق ، وهذا لا يجوز في كلام الله تعالى ، ثم قال : ومنهم من لا يوصلها إلى مخرجها ، بل يخرجها دونه ، ممزوجة بالطاء المهملة ، لا يقدرون على غير ذلك ، وهم أكثر المصريين ، وبعض أهل الغرب ، ومنهم من يخرجها لاما مفخمة ، وهم الزيالع ومن ضاهاهم ، واعلم أنّ هذا الحرف خاصة إذا لم يقدر الشخص على إخراجه من مخرجه بطبعه ، لا يقدر عليه بكلفته ، ولا تعليم ، انتهى .
... وإذا وصل جواد القلم في تتبع النقول في ميدان المنقول ، بعد ما أسلفناه من المعقول إلى هذا الأمد من الإفصاح ، فقد حان أن يُصاح اطفِ المصباح ، فقد طلع الصباح .
وأمَّا الخاتمة ففيها تنبيهات رافعة لتمويهات :(1/14)
الأول : أنه ليس مرادي بكون الضاد شبيهة بالظاء ، أو قريبة منها ، كونها ممزوجة بها غاية الامتزاج ، بحيث يخفى الفرق على المجيد لفن التجويد فإنها حينئذ تكون حرفا خارجا عن الحروف العربية المستعملة كما تقرر في محله من كتب النحو والقراءات وتسمى بالضاد الضعيفة ، وهي التي لم تسمع / مخرجها ، ولم يعتمد عليه 13 ب
... ولكن تخفف ، وتختلس ، فيضعف أطباقها ، كما نقل عن أبي علي ، وقال ابن خروف المحرفة من مخرجها يمينا وشمالا ، كما ذكر سيبويه ، بل أردت ما أراده العلماء السابق ذكرهم في نصوصهم المذكورة في كتبهم المشهورة .
... فإن قلت : قد قال الجعبري في حدود الاتقان :
... ... والظاء واطي الضاد في أوصافه ... ... لا قربة فتعسر اللفظان
... قلت : يتعين حمل القرب المنفي هاهنا على القرب في المخرج دون القرب في اللفظ جميعا بين كلامه هذا ، وكلامه المذكور في شرح الشاطبية وغيره المنقول عنه فيما مرّ ، وليوافق كلام غيره من العلماء السابق ذكرهم .
... فإن قلت : فما تصنع بأول دلائلك النقلية المنقول من كتاب الدرر المكللة فإنه ثبت القرب بينهما صريحا .
... قلت : وبالله التوفيق يحمل القرب المثبت في كلامه على القرب باعتبار آخر مخرجها ، والقرب المنفي في كلام غيره على القرب باعتبار أول مخرجها ، فاحفظ هذا ، واعطف عليه ما سيأتي في التنبيه الأخير .
... فإن قيل : إذا كانت بعيدة عنها في المخرج ، ولو باعتبار ، فما السر في تقاربهما لفظا / وتشابههما سمعا ، فإن للبعد في المخرج مدخلا في البعد في اللفظ . 14 أ(1/15)
... قلت : ظهر لي بفضل الله الجليل ، ما لعله يروي الغليل ، ويشفي العليل ، وهو أنّ تشابه المخرجين ، وإن كانا بعيدين سبب لتشابه لفظي الحرفين ، فإن مخرج الظاء من طرف اللسان ، وأطراف الأسنان ، ومخرج الضاد من حافة اللسان ، وما يليه من الأضراس ، التي هي من جنس الأسنان ، ولا يخفى أن بين طرف اللسان وحافته مشابهة ، من حيث أنّ كلاً منهما نهاية مساحة جرم اللسان ، فالطرف نهايته من حيث مقدم الفم ، والحافة نهايته من جهة يسار الفم ، أو يمينه ، فمخرج كل من الظاء والضاد نهاية اللسان ، وبعض الأسنان ، فلا جرم تشابه منهما اللفظان ولعل هذا ـ والله سبحانه أعلم ـ هو السبب في اشتراكهما في تلك الصفات المذكورة .
الثاني : أنه قد يتشبث مخالفنا فيما قلناه بما عن الخليل نقلناه من كونها شجرية ، وقد ذكره العلامة ابن الجزري في النشر ، ونصّ عبارته : وقال الخليل أنها أيضا شجرية ، يعني من مخرج الثلاث قبلها ، والشجر عنده مفرج الفم ، أي مفتحه ، وقال الخليل : هو مجمع اللحيين عند العنقفة ، فلذلك لم / تكن الضاد منه . ... 14ب(1/16)
... فنقول : ذكر الشيخ شهاب الدين القسطلاني في لطائف الإشارات أنّ ابن الجزري ردّ كونها شجرية بما تقدم من تعريف الشجر ، وفيه مناقشة ، وهي أن الظاهر من كلامه أنّ ابن الجزري ردّ كونها شجرية مطلقا بالتفسيرين المذكورين سابقا في كلامه ، وليس كذلك ، بل الظاهر أنّ ابن الجزري فرَّع على التفسير الثاني للشجر المنقول عن غير الخليل ، كونها ليست شجرية عنده ، أمّا على التفسير الأول المنقول عن الخليل فهي شجرية ، أي خارجة من شجر الفم ، أي مفتحه ، وهو وسط اللسان ، فإنها تخرج مما يقابل وسطه من حافته ، ولذا قال البرهان الجعبري في عقود الجمان : فالضاد مع يائه ، وقال في شرح الشاطبية : والشجرية الخارجة من وسط اللسان مطلقا ، ومقابله ابن يعيش في شرح المفصل في تعليل تسميتها بالشجرية فإن مبدأها من شجر الفم ، أي مفتحه ، بل لو أراد ابن الجزري في الردّ مطلقا ينقل البحث إليه .
... فإن قيل : ليس الحافة مما يصدق عليه الشجر ، بل هو مخصوص بوسط اللسان . قلت : أولا لا نسلم ذلك ، ولئن نسلم فلا / يلزم من تسميتها شجرية أن تخرج 15أ من نفس الشجر ، بل يكفي خروجها مما يقابله ، ويقرب منه ، وما قارب الشيء يُعطى حكمه ، وهم قد راعوا التغليب في مثل ذلك ، ألا تراهم سمّوا ستة أحرف ذولقية ، قيل لأنها تخرج من ذلق اللسان ، والخارج منه ثلاثة أحرف فقط ، والثلاثة الباقية لا عمل للسان فيها ، بل هي شفهية ، وهي الباء والفاء والميم ، فكأنهم أطلقوا عليها ذلك لمشابهتها للذولقية في السرعة والخفّة .
... فإن قيل : فحينئذ يتّجه أن يقال في كلام ابن الجزري في النشر إذا كان معناه ما ذكرت ، فلا يكون شيء من الحروف شجريا ، إذ ليس شيء منها يخرج من مجمع اللحيين عند العنقفة ، فلم خصت الضاد بنفي كونها شجرية .(1/17)
... قلت : الظاهر أن الوجه في تخصيصها بالذكر كون الكلام في بيان مخرجها دون البقية من الشجرية ، وبعد اللتيا والتي لا يشهد كونها شجرية لمن ينطق بها طائية بل يشهد كما يشهد به من عرف الشجر ، وطالع النشر ، وإن خفي عليه أحكام العشر .
الثالث : أنّ بعضهم قد يعترض على استدلالنا على كون الضاد الطائية السهلة على / 15ب اللسان ليست ضادا عربية ، بما بيّناه من صعوبتها على العجم والترك ونحوهم ممن سوى العرب ، أمّا على أمثاله من العرب فلا صعوبة فيها ، فأقول قولا منصفا بيّناً ، لا أنت من ذاك القبيل ولا أنا ، نعم الأعراب الخلص ، وهم سكان مهافي الريح من كل ما صنع قيصوم وشيح يسلم لهم دعوى سهولة لفظها الفصيح ، كيف وقد كان مثل الشاطبي وابن الجزري يصفها بالصعوبة مطلقا ، ونصّ سيبويه على أنها يتكلف من الجانبين ، وقد أسلفنا في كلام أبي محمد المكي ما يدل على صعوبتها على الأكابر ، فضلا عن الأصاغر ، وقال بعضهم في شرح قول الجعبري في عقود الجمان عن الضاد : واحذر يُرى ظاء ، فقد والاه في الخمس الأواخر ، فافرقن بلسان حذرا من أن يتساهل القارئ في خروج الضاد ، فيخرجها من مخرج الظاء ، وإنما نصّوا على ذلك ، وحذّروا منه دون غيره لأجل صعوبة لفظها على أكثر الفضلاء ، والتباسها على الأكابر العلماء ، وذلك أنّ مخرج الضاد من إحدى حافتي اللسان ، وما يليه من / الأضراس ، ومخرج الظاء من رأس اللسان ، وأطراف 16أ الثنايا العليا ، وآخر الحافة يلاقي طرف الرأس ، فيشتركان إخراجا من وجه ، ويتجانسان في التفخيم والجهر والاستعلاء والإطباق والرخاوة ، وكثير من السلبيات ولولا استطالة الضاد لكانت ظاء ، وإذا علمت ما بينهما من الاشتراك بما نص عليه العلماء فيهما من الاشتباه ، وتحققت أنّ مَن ينطق بالضاد من مخرجه الخاص مع تحصيل صفاتها المميزة لها عن الظاء فهو من أعلى مراتب النطق بها من الفصاحة ودونه مَن ينطق بها من مخرجها مشوبة بالظاء ، لكن من(1/18)
مخرجها ، وبينهما نوع فرق ، ودونه من ينطق بها ظاء خالصة ، ومن يشمها الزاي ، ومن يجعلها لاما مفخمة ، وكذا من ينطق بالضاد طائية ، فهو من أسفل المراتب النطقية بالنسبة إلى من سبق ذكره ، أعني من ينطق بها من مخرجها المنصوص ، مع تحصيل وصفها المخصوص ، فإنه بدّل حرفا بحرف غير موافق له في المخرج ، وغير مشتبه به شديد اشتباه ، كما لا يخفى على العارف بصفاتها ، والقول بصحة صلاة القارئ بها ليس أولى من القول بصحة صلاة مَن / ينطق بها مشوبة بالظاء ؛ لأن كثيرا 16ب ممن قال من العلماء بصحة صلاة مبدِّلها علله بالاشتباه بينها وبين حرف من الحروف كالظاء المعجمة ، فلا شك في صحة صلاته بالإجماع ، وهو الذي أقول به وأفعله ، ولا ينبغي أن يُظنّ بي خلاف ذلك .
... وحيث انجرّ الكلام إلى ذكر الأحكام فلنذكر نبذة لطيفة من أقوال الفقهاء في صلاة مَن يُبدِّل هذا على مذهب إمامنا الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه ، وبوّأه أعلى المنازل الشريفة ، فنقول : ذكر في فتاوى قاضي خان من قرّأَ المغضوب بالظاء ، أو بالذال تفسد صلاته ، ولو قرأ الضالين بالظاء ، أو بالذال لا تفسد صلاته وبالدال تفسد ، انتهى .(1/19)
فخص الفساد بمن يبدلها بالدال ؛ لبعد مخرجها عنها في الجملة ، وعدم التشابه بينهما لفظا ، وقال في السراج الوهاج شرح القدوري : إذا أخطأ القارئ ، فأدخل حرفا مكان حرف ، نظرت إن كان بينهما قرب في المخرج ، أو كانا من مخرج واحد ، لا تفسد صلاته ، كما إذا قرأ فلا تكهر ، وأمّا إذا قرأ مكان الضاد دالا وعلى العكس ، تفسد صلاته ، وعليه أكثر / العلماء ، وعن محمد بن سلمة لا تفسد ، لأن العجم لا يميّزون بين ذلك ، وفي17 أ الفتاوى البزازية : الأصل أنه إنْ أمكن الفصل بين الحرفين بلا كلفة كالصاد مع الطاء المهملة ، كأن قرأ الطالحات مكان الصالحات فسدت عند الكل ، وإن لم يكن إلاّ بمشقة كالظاء المعجمة مع الضاد، والصاد مع السين ، والطاء مع التاء اختلفوا ، والأكثر على أنها لا تفسد ، لعموم البلوى ، وعن أبي منصور العراقي : كل كلمة فيها غين ، أو خاء ، أو كاف ، أو قاف ، أو طاء ، أو تاء ، وفيها سين أو صاد ، فقرأ السين مكان الصاد ، أو بالعكس جاز ، وإن لم يكن واحد من هذه الحروف مع السين أو الصاد ، وتغيّر المعنى ، نحو الصمد بالسين ، أو المغضوب بالظاء ، أو الضالين بالذال أو الظاء ، قيل لا تفسد ؛ لعموم البلوى، فإن العوام لا يعرفون مخارج الحروف ، وكثير من المشايخ كالإمام الضفار ، ومحمد بن سلمة أفتوا به ، وأطلق البعض القول بالفساد إنْ تغير المعنى ، وقال القاضي أبو الحسن ، والقاضي أبو عاصم : إنْ تعمّد فسد، وإن جرى على لسانه ، أو كان لا يعرف التمييز لا تفسد ، وهو أعدل الأقاويل ، وهو / المختار ، وفي فتاوى الحجة : 17ب ولو قال [ ولا الضالين ] (1) بالظاء ، غير المغذوب بالذال ، أو بالدال ، قال أبو مطيع : تفسد صلاته ، وتابعه كثير من المشايخ ، لأن الظاء غير الضاد ، فكأنه قرأ حرفا آخر ، وقال : كان صاحب المضمرات يفتي في حق الفقهاء ، ومن يعرف الفرق بقول أبي مطيع بإعادة الصلاة ويفتي في حقّ العوام بقول محمد بن سلمة
__________
(1) الفاتحة 7(1/20)
اختيارا للاحتياط في موضعه ، والرخصة في موضعها ، انتهى .
فالحاصل أنّ فيه ثلاثة أقوال : قول بالصحة مطلقا ، وقول بالفساد مطلقا ، وقول بالتفصيل ، وهو الذي عليه التعويل ، وهو أنْ يفتي في حقّ العوام ، ومَنْ هو بمخارج الحروف جاهل بالصحة ، وبعدم الصحة في حقّ الفقهاء ، ودون الفضائل ، فنقول بعد إرخاء العنان عن مراعاة قول أكثر العلماء الأماثل : مَنْ أراد أنْ يرفع نفسه عن منزل العوام السافل ، ويكون من ذوي الفضل الكامل ، فعليه سلوك ما أوضحناه من المنهج ، والعمل بما أفصحناه عما لهذا الحرف من الصفة والمخرج ، والتعمل فيه فالجهد يفتح كل باب مرتج ، والتأمل إلصاق مع الإنصاف ليظهر/ له الخالص من النبهرج ، فما كل 18أ سوداء فحمة ، ولا بيضاء شحمة ، ومن قصد الحق وهو في طلبه على علِيِّ الهمة إذا شام سبيلا إليه أمّه كائنا مَنْ كان مَن دلّ عليه ، وقال له أمّه ، ولا يقول إنا وجدنا آباءنا على أمّة ، فإن الله تعالى قد لام قائله وذمّه ، فإن وصل بالتأمل والتعمل إلى تجويد اللفظ به ، والتحقيق فليشكر لمولاه على حسن التوفيق ، وإلاّ فهو بقبول العذر حقيق .
هذا ما تيسّر لي من التعليق ، مع قلّة الزاد في هذا الطريق ، وكثرة موجبات التعويق ، ومراعاة الإيجاز ، ومجانبة التطويل ، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل ، تمت الرسالة بعون الله وتوفيقه .
من هنا إلى آخره نقل من كتاب سيبويه للسيرافي (1)
قال سيبويه : هذا باب عدد الحروف العربية ومخارجها ، ومهموسها ، ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها ، واختلافها .
... فأصل الحروف العربية تسعة وعشرون حرفا :
__________
(1) كان عليه أن يقول : من شرح كتاب شيبويه للسيرافي .(1/21)
الهمزة ، والألف ، والهاء ، والعين ، والحاء ، والغين ، والخاء ، والقاف ، والكاف ، والجيم ، والشين ، والطاء ، والدال ، والتاء ، والفاء ، والياء ، والميم ، والواو / 18 ب والباء ، والضاد واللام ، والراء ،والنون ، والظاء ، والذال ،والثاء ، والصاد ، والزاي ، والسين .
... وترتيبها في كتاب أبي بكر مبرمان :
الهمزة ، والألف ، والهاء ، والعين ، والحاء ، والغين ، والخاء ، والقاف ، والكاف ، والضاد ، والجيم، والسين والياء ،واللام ، والراء ، والنون ، والطاء ،والدال ، والتاء ، والصاد ، والزاي ، والشين ، والظاء ، والثاء ، والذال ، والفاء ،والباء ، والميم ، والواو .
وتكون خمسةً وثلاثين حرفاً بحروف هن فروعٌ وأصلها من التسعة والعشرين وهي كثيرةٌ يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار وهي :
النون الخفيفة ، والهمزة التي بين بين ، وألف الترخيم ، يعني ألف الإمالة ، والألف التي تمال إمالة شديدة ، والشين التي كالجيم ، والصاد التي تكون كالزاي ، وألف التفخيم ، وهي التي يُنحى بها نحو الواو في لغة أهل الحجاز، نحو قولهم :الصلاة والزكاة والحياة (1) .
... وتكون اثنين وأربعين حرفا بحروف غير مستحسنة ، ولا كثيرة في لغة مَنْ تُرتضى عربيته ، ولا تستحسن في قراءة القرآن ، ولا الشعر (2) ، وهي :
الكاف التي / بين الجيم والكاف ، والجيم التي كالكاف ، والجيم التي كالشين ، والضاد 19 أ الضعيفة ، والصاد التي كالسين ، والطاء التي كالتاء ، والظاء التي كالثاء (3) ، والباء التي كالفاء .
__________
(1) بحيث تكون كمن يقول :الصلوة والزكوة زالحيوة .
(2) كتبت : ولا تستحسن قراءة ولا شعر ، وما أثبتناه من كتاب سيبويه .
(3) الظاء التي كالثاء زيادة من كتاب سيبويه .(1/22)
... وهذه التي تتمتها اثنين وأربعين ، جيدها ورديئها أصلها التسعة والعشرين ، لا تتبين إلا بالمشافهة ، إلا أن الضاد الضعيفة تتكلف من الجانب الأيمن ، وإن شئت تكلفتها من الجانب الأيسر وهو أخف ، لأنها من حافة اللسان مطبقةٌ ، لأنك جمعت في الضاد تكلف الإطباق مع إزالته عن موضعه ، وإنما جاز هذا فيها لأنك تحولها من اليسار إلى الموضع الذي في اليمين ،وإنما تخالط مخرج غيرها بعدخروجها مستطيلة ، حتى تخالط حروف اللسان ، فسهل تحويلها إلى الأيسر ؛ لأنها تصير في حافة اللسان في الأيسر ، إلى مثل ما كانت في الأيمن ،ثم تنسل من الأيسر حتى تتصل بحروف اللسان كما كانت كذلك في الأيمن .
... قال المفسِّر : أمّأ التسعة والعشرون حرفا فهي معروفة ، لا تحتاج إلى التفسير ، وأمّا النون الخفيفة فإنه يريد النون الساكنة ، التي مخرجها من الخيشوم / نحو 19 ب النون في منك ، وعنك ، ومن زيد ، ورأيت في كتاب أبي بكر مبرمان في الحاشية الرواية الخفيفة ، وقد يجب أن تكون الخفيفة لأن التفسير يدل عليه ، وإنما تكون هذه النون من الخيشوم مع خمسة عشر حرفا من حروف الفم ، وهي :
القاف ، والكاف ، والجيم ، والشين ، والضاد ، والصاد، والزاي ، والسين ، والطاء ، والدال ، والتاء ، والظاء ، والثاء ، والفاء .
... وهي متى كانت ساكنة ، وبعدها حرف من هذه الحروف ، فمخرجها من الخيشوم ، لا علاج على الفم في إخراجها ، وكذلك يتبينها السامع ، ولو نطق بها ناطق ، وبعدها حرف منهذه الحروف ، ومدّ أنفه لبان اختلالها .(1/23)
... قال المفسر : لو تكلّف متكلف إخراجها من الفم مع هذه الخمسة عشر حرفا لأمكن بعلاج ، وهذا يتبين بالمحنة ، وإذا كانت النون ساكنة ، وبعدها حروف الحلق ، وهي ستة ، كان مخرجها من الفم ،منموضع الراء واللام ، وكانت بيّنة غير خفية ، وتدغم النون الساكنة في خمسة أحرف ،وهي : الراء ، واللام ،والميم ، والواو ، والياء ، ويجمعها / ويرمل ، فإذا أدغمت في حرف من هذه الحروف صارت من جنس ذلك الحرف ، 20 أ وذلك قولك : من رحمك ، ومن لك ، ومن معك ،ومن وراءك ، ومن يكون معك ، وتنقلب ميما مع الياء ، كقولك في عَنْبَروشَنْباء : عمبر ، وشمباء ، ولو تكلف المتكلف إخراجها من الفم وبعدها باء لأمكن على مشقة، وبعلاج ، وإنما تخرج من الخيشوم وهي ساكنة ، وبعدها الباء فتقلب ميما ؛لأن الباء لازمة لموضعها ، ولا تخطي لها عنه ، ولا مدّ لصوتها في غيره ، فكرهوا تكلف إخراجها من الفم لما ذكرته لك، وتباعد ما بين الخيشوم وبين مخرج الباء من الشفتين ، ولم يكن بينهما مشابهة تجمعها ، فطلبوا حرفا بينهما بملابسة تكون بينة وبين كل واحد منهماوهو الميم ، وذلك أن الميم من مخرج الباء ، وتدغم الباء فيه، فهذه ملابسة الميم للباء ن وفي الميم غُنّة في الخيشوم ، فهذه ملابسة الميم للنون التي من الخيشوم، فإن قال قائل : فهلا كانت الباء كالحروف الخمسة عشر التي تخفى النون/ 20 ب الساكنة قبلها ، أوكحروف الحلق التي تبين قبلها النون ، فالجواب أنّ النون الخفيفة إنما تخرج من حروف الأنف (1)
__________
(1) كتبت :الألف ..(1/24)
الذي ينجذب إلى داخل الفم ، لا من المنخر ، فلذلك خفيت مع حروف الفم ؛ لأنهن يخالطنها ، وتتبين عند حروف الحلق ؛ لبعدهن عن الحرف الذي يخرج منه الغنّة ، وحروف الشفتين تنطبق عليهن الشفتان ، فتنحصر الغنة ، وقد أطبق على الباء ، فتصير بمنزلة غُنّة ليس بعدها حرف ، والنون الساكنة إذا لم يكن بعدها حرف كانت من الفم ، وبطلت الغنة ، كقولك عن ومن ، ونحو ذلك مما يوقف عليه من النونات ، فكانت الميم أسهل عليهم ؛ لما فيها من الغنة ،ولإنها من مخرج الباء من بيانها ، فإن قال قائل ، فإن قال قائل : لِمَ لا يوقف على النون الخفيفة ؟ قيل له : أصل خروج النون مخلوط بشيء من الغنّة من الألف ، ثم تلحقها في الوقف بالانتهاء إلى موضعها من الفم البيان بلستقرارها في موضعها من الفم ، وإذا كان بعدها حرف من الخمسة عشر أغنى عن ذلك ، كما أنّ القاف إذا وقف عليها كان بعدها صويت / هي القلقلة ، وإذا وُصلت بطلت . ... ... 21أ
... وأمّا الهمزة التي بين بين فإن سيبويه عدّها حرفا واحدا ، وينبغي عندي في التحقيق أنْ تُعدّ ثلاثة أحرف ، وذلك أن~ همزة بين بين هي الهمزة التي يُجعل بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها ، فإذا كانت الهمزة مكسورة ، فجعلته بين بين ، فهي بين الهمزة والياء ، وإذا كانت مضمومة ، فجعلته بين بين ، فهي بين الهمزة والواو، وإذا كانت مفتوحة ، فجعلته بين بين ، فهي بين الهمزة والألف ، ولمّا الياء غير الواجب ،وجب أن يكون الحرف الذي بين الهمزةوالياء غير الحرف الذي بين الهمزةوالواو ، وكذلك الذي بين الهمزة والألف ، وقد مرّ الكلام في همزة بين بين في باب الهمزة وألف الترخيم ، يعني الإمالة ، وسمّاها ألف الترخيم لأن الترخيم تليين الصوت ، ونقصانالجهر فيه ، قال ذو الرمة:
... لَها بَشَرٌ مِثلُ الحَريرِ وَمَنطِقُ درخِيمُ الحَواشِي لا هُرآءٌ وَلا نَزرُ (1)
وقد مرّ باب الإمالة وأحكامها .
__________
(1) من الطويل ، ديوانه، ص 36(1/25)
... وأما الشين التي كالجيم فقولك في أشدق أجدق ؛لأن الدال حرف مجهور شديد ، والجيم مجهور شديد ، والشين / حرف مهموس رخو ، فهو ضد الدال في الهمس 21ب والرخاوة ، فقربوها من لفظ الجيم ؛لأن الجيم قريبة من مخرجها ، وهي موافقة للدال في الشدة والجهر .
... وكذلك الصاد كالزاي في مصدر ، والتصدير ، ويصرف ونحوه ، وسيأتي ذلك فيما بعدإن شاء الله تعالى ، وقد قُرئ الصراط المستقيم بإشمام الزاي للصاد ، وهي قراءة حمزة ، وروي عن أبي عمرو أربع قراءات ، منها الصراط بين الصاد والزاي ، روى عريان بن أبي سفيان (1) أنه سمع أبا عمرو يقرأ الصراط بين الصاد والزاي .
وأمّا ألف التفخيم فهي ضد الإمالة ، يُنحى بالألف فيها نحو الياء ، وهذه يُنحى بها نحو الواو ، وزعموا أنّ كَتْبَهُم الصلوة والزكوة ونحو ذلك مما تتب بالواو على هذه اللغة . وأمّا السبعة الأحرف التي هي من تتمة الاثنين والأربعين حرفا فأولها الكاف التي بين الجيم والكاف ، وقد خبّرنا أبو بكر بن دريد أنها لغة في اليمن ، يقولون في جمل كمل ، وهي كثيرة في عوام أهل بغداد ، يقول بعضهم : كمل وركل في جمل ورجل /وهي عند 22 أ أهل المعرفة منهم معيبة مرذولة .
والجيم التي كالكاف وهي كذلك، وهما جميعا شيء واحد، إلاّ أنّ أصل أحدهما الجيم ، وأصل الآخر الكاف ، ثم يقلبون إلى هذا الحرف الذي بينهما ، الدليل على أنهما شيء واحد أنك إذا عددت ما بعد الخمسة والثلاثين فهو سبعة بعدهما واحدأوثمانية بعدهما اثنين .
والجيم كالشين ، ويكثر ذلك في الجيم إذا سكنت ، وبعدها دال أو تاء ، نحو اجتمعوا ، والأجدر يقولون فيه : اشتمعوا ، والأشتر ، فيقربون الجيم من الشين ؛ لأنهما من مخرج واحد ، والشين أسلس وألين وأفشى ، فإذا كانت الجيم مع بعض الحروف المقاربة لها ، ولا سيما إذا كانت ساكنة ، صَعُب إخراجها الجيم ، ومال الطبع بالنطق إلى الأسهل .
__________
(1) كتبت : عريان أبي سفيان ، وبن زيادة من السبعة في القراءات ، ص 106(1/26)
وذكر سيبويه الشين التي كالجيم في تتمة الخمسة والثلاثين حرفا ، وذلك عنده من الكثير المستحسن ، وذكر الجيم التي كالشين في تتمة الاثنين والأربعين حرفا ، وذلك عنده مما لا يستحسن ، والفرق بينهما أن الشين التي كالجيم في نحو الأشدق إنما قُرَّبت /22ب فيه الشين من الجيم بسبب الدال فيما بين الجيم والدال من الموافقة في الشدة والجهر كراهية لجمع الشين والدال لما بينهما من التباين ، وإذا كانت الجيم قبل الدال في الأجدر ، وقبل التاء في اجتمعوا ، فليس بين الجيم والدال ، وبين الجيم والتاء من التنافر والتباعد ما بين الشين والدال ، فلذلك حسُن الشين التي كالجيم ، وضعف الجيم التي كالشين .
وأمّا الطاء التي كالتاء فإنها تُسمع من عجم أهل المشرق كثيرا ؛ لأن الطاء في أصل لغتهم معدومة ، فإذا احتاجوا إلى النطق بشيء فيه طاء تكلموا ما ليس في لغتهم ، فضعف نطقهم بها .
والضاد الضعيفة من لغة قوم ليس في أصل حروفهم ضاد ، فإذا احتاجوا إلى التكلّم بها من العربية اعتاصت عليهم ، فربما خرَّجوها ظاء ، وذلك أنهم يخرجونها من طرف اللسان ، وأطراف الثنايا ، وربما تكلفوا إخراجها من مخرج الضاد فلم تتأت لهم ، فخرجت من بين الضاد والظاء ، ورأيت في كتاب أبي بكر مبرمان في الحاشية الضاد الضعيفة ويقولون في اثرد له / اضرد ، يقربون الثاء من الضاد . 23أ(1/27)
والصاد التي كالسين ، فيما ذكروه ، كأنها كانت في الأصل صادا ، فقربها بعض مَن تكلّم بها من السين ، لأن السين والصاد من مخرج واحد ، والطاء التي كالتاء ، مثل الظاء التي كالثاء ، والباء التي كالفاء هي كثيرة في لغة الفرس وغيرهم من العجم ، وهي على لفظين أحديهما لفظ الباء ، والآخر لفظ الفاء أغلب عليه من الباء ، وقد جعل حرفين من حروفهم سوى الباء والفاء المخلصتين ، قال المفسر وأظن أن الذين تكلموا بهذه الأحرف المسترذلة من العرب خالطوا العجم فأخذوا من لغتهم ، قال سيبويه إلا أن الضاء الضعيفة تتكلف من الجانب الأيمن ، وإن شئت تكلفتها من الجانب الأيسر ، وهي أخف الخ ...
وإنما قال وهي أخف ؛ لأن الجانب الأيمن قد اعتاد الضاد الصحيحة ، وإخراج الضعيفة من موضع قد اعتاد الصحيحة أصعب من إخراجها من موضع لم بعتد الصحيحة ، قال المفسر : ويجيء على قياس ما عدّ سيبويه الحروف أكثر من اثنين/ وأربعين 23 ب حرفا ، لأنه ذكر بعد تفصيل الاثنين والأربعين حرفا الشين التي كالزاي ، والجيم التي كالزاي في باب قبيل آخر الكتاب .
ويدخل في هذه اللام المفخمة في اسم الله تعالى في لفة أهل الحجاز ، ومَنْ يليهممن العرب ، ومَن يليهممن ناحية العراق إلى الكوفة وبغداد .
ورلأينا مَن يتكلم بالقاف بين القاف والكاف ، فيأتي بمثل لفظ الكاف التي بين الجيم والكاف ، والجيم التي كالكاف .
قال : والحروف العربية ستة عشر مخرجا :
فللحلق منها ثلاثة ٌ .
وأقصاها مخرجاً : الهمزة والهاء والألف .
ومن أوسط الحلق مخرج العين والحاء .
وأدناها مخرجاً من الفم : الغين والخاء .
ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف .
ومن أسفل من موضع القاف من اللسان قليلاً ومما يليه من الحنك الأعلى مخرج الكاف .
ومن وسط اللسان ، بينه وبين الحنك الأعلى مخرج الجيم والشين والياء
ومن بين أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس مخرج الضاد .(1/28)
ومن حافة اللسان / من أدناها إلى منتهى طرف اللسان ما بينها وبين ما يليها من 24أ الحنك الأعلى مما فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية مخرج اللام .
ومن طرف اللسان ، بينه وبين ما فويق الثنايا مخرج النون .
ومن مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلاً لانحرافه إلى اللام مخرج الراء .
ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا مخرج الطاء والدال والتاء .
ومما بين طرف اللسان وفويق الثنايا مخرج الزاي والسين والصاد .
ومما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا مخرج الظاء والذال والثاء .
ومن باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العُلى مخرج الفاء .
ومما بين الشفتين مخرج الباء والميم والواو .
ومن الخياشيم مخرج النون الخفيفة .(1/29)
... وذكر ليث بن المظفر في كتاب العين عن الخليل أنّ الحروف تسعة وعشرون حرفا ، خمسة وعشرون صحاح ، لها أحواز ، وأربعة جوف ، فقال : الواو جوف ، ومثله الياء والألف اللينة ، والهمزة جوفاء ، لأنها تخرج من الجوف ، فلا تقع في مدرجة من مدارج الحلق ، ولا مدارج اللهاة ، ولا مدارج اللسان / وهي في الهواء ، قال : وكان 24 ب الخليل يقول كثيرا : الألف اللينة ، والواو والياء هوائية ، أي أنها في الهواء ، وأقصى الحروف كلها العين ، وأرفع نتها الحاء ، ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين ، ولولا مسّة في الهاء ، وقال مرة أخرى مهة ، لأشبهت الحاء بقرب مخرج الهاء من مخرج الحاء ، فهذه الثلاثة الأحرف في حيِّز واحد ، بعضها أرفع من بعض ، ثم الخاء والغين ، وهما في حيّز واحد ،وهما لهويان ،والكاف أرفع من القاف ، ثم الجيم والشين والضاد ، وهي في حيّز واحد ، بعضها أرفع من بعض ، ثم الصاد والسين والزاي ، وهي في حيّز واحد ، بعضها أرفع من بعض ، ثم الطاء والدال والتاء ، في حيّز واحد ، بعضها أرفع من بعض ، ثم الراءواللام والنون ، في حيّز واحد ، بعضها أرفع من بعض ، ثم الفاء والباء والميم ، في حيّز واحد ، بعضها أرفع من بعض ، ثم الواو والياء والألف ، ثلاثة في الهواء ، لم يكن لها حيّز يُنسب إليه ، قال الليث ، قال الخليل : فالعين والحاء والهاء والغين والخاء حلقية ، لأن مبدأها من الحلق / والقاف لهويتان ؛ لأن مبدأهما من اللهاة ، والجيم والشين 25 والضاد شجرية ، والشجر مفرج الفم ؛لأن مبدأها من شجر الفم ،والصاد والسين والزاي أسلية ؛لأن مبدأها من أسلة اللسان ، وهي مستدق طرف اللسان ، والطاء والدال والتاء نطعية ؛ لأن مبدأها من نطع الغار الأعلى ، والظاء والذال والثاء لثوية ؛لأنمبدأها من اللثة ، والراء واللام والنون ذلقية ، والواحد أذلق وذلق ، وذلق كل شيء تحديد طرفه كذلق اللسان ، ومبدأها من ذلق اللسان ،والفاء والباء والميم شفهية ، وقال(1/30)
مرة أخرى شفوية ، أي مبدأها من الشفة ،والواو والياء والألف والهمزة هوائية في حيّز واحد ، لا في الهواء ، لا يتعلق بها شيء . تم .
...(1/31)