بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي اصطفى من خلقه من انتقاهم لخدمته فنالوا بذلك الأوطار ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد النبي الأمي أشرف الأخيار ، الذي أُعْطِيَ جوامع الكلم في البسط والاختصار ، وعلى آله وأصحابه المهاجرين منهم والأنصار ، ومن تبعهم بإحسان من الربانيين والأحبار وممن اقتدى بهم وسلك سبيلهم الموصل إلى دار القرار .
أما بعد فإن « منتقى الأخبار » قد جمع من الأحاديث ما لم يجتمع في غيره من كتب الأحكام ، وصار مرجعًا للعلماء عند الحاجة إلى طلب الدليل لاسيما وهو تأليف علامة عصره أبي البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر الحراني المعروف بابن تيمية المولود سنة تسعين وخمسمائة المتوفى سنة اثنتين وخمسين وستمائة . قال الذهبي : سمعت الشيخ تقي الدين أبا العباس يقول : كان الشيخ ابن مالك يقول : ( ألين للشيخ المجد الفقه كما ألين لداود الحديد ) .
وقد تصدى لشرح هذا الكتاب الإمام العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني صاحب التصانيف النفيسة منها : ( نيل الأوطار ) شرح هذا الكتاب فإنه يشتمل على مزايا كثيرة من فنون العلم ، وهو كما قال صاحبه : شرح يشرح الصدور . ويمشي على سنن الدليل . ولد رحمه الله تعالى سنة 1172 هـ وتوفي سنة 1250 هـ وقد كان بعض الإخوان يرغب اختصاره ، وقد سألني ذلك بعضهم فتوقفت مدة ثم عزمت على ذلك فلخصته ، واقتصرت على شرح ما يدل على الترجمة إلا في بعض المواضع ، ولم أذكر الخلاف الذي ذكره الشارح إلا فيما لا بد منه ، وربما نقلت كلامًا من غيره متممًا للفائدة فكان هذا المختصر من أنفع كتب الأحكام وألذها للناظر والسامع وسميته :
بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار
وأسأل الله تعالى أن ينفعني به في الدنيا والآخرة وجميع من سمعه وإخواننا المسلمين آمين .
مقدمة المصنف
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى :
بسم الله الرحمن الرحيم(1/1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الْمُرْسَلِ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَبَعْدُ :
هَذَا كِتَابٌ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ الأحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي تَرْجِعُ أُصُولُ الأَحْكَامِ إلَيْهَا وَيَعْتَمِدُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الإِسْلامِ عَلَيْهَا . انْتَقَيْتهَا مِنْ صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . وَمُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . وَجَامِعِ أَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ ، وَكِتَابِ السُّنَنِ لأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيّ ، وَكِتَابِ السُّنَنِ لأَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ . وَكِتَابِ السُّنَنِ لابْنِ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيِّ ، وَاسْتَغْنَيْت بِالْعَزْوِ إلَى هَذِهِ الْمَسَانِيدِ عَنْ الإِطَالَةِ بِذِكْرِ الأَسَانِيدِ .
وَالعَلامَةُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ( أَخْرَجَاهُ ) وَلِبَقِيَّتِهِمْ ( رَوَاهُ الْخَمْسَةُ ) وَلَهُمْ سَبْعَتُهُمْ ( رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ) . وَلأَحْمَدَ مَعَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ أُسَمِّي مَنْ رَوَاهُ مِنْهُمْ وَلَمْ أَخْرُجْ فِيمَا عَزَوْتُهُ عَنْ كُتُبِهِمْ إلا فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ ، وَذَكَرْت فِي ضِمْنِ ذَلِكَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم .
وَرَتَّبْتُ الأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْكِتَابِ عَلَى تَرْتِيبِ فُقَهَاءِ أَهْلِ زَمَانِنَا لِتَسْهُلَ عَلَى مُبْتَغِيهَا ، وَتَرْجَمْت لَهَا أَبْوَابًا بِبَعْضِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِدِ .(1/2)
وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلصَّوَابِ وَيَعْصِمَنَا مِنْ كُلِّ خَطَأٍ وَزَلَلٍ إنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ .
قَولُه : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنَّمَا افْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كِتَابَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ مَعَ إمْكَانِ تَأْدِيَةِ الْحَمْدِ الَّذِي يُشْرَعُ فِي الافْتِتَاحِ بِغَيْرِهَا ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا أَفْصَحَ الْغُلامُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَّمَهُ هَذِهِ الآيَةَ ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ .
قَوْلُهُ : ( وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الْمُرْسَلِ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ) . قَالَ الشَّارِحُ : أَرْدَفَ الْحَمْدَ للهِ بِالصَّلاةِ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِكَوْنِهِ الْوَاسِطَةَ فِي وُصُولِ الْكَمَالاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ إلَيْنَا مِنْ الرَّفِيعِ عَزَّ سُلْطَانُهُ وَتَعَالَى شَأْنُهُ ، فَذُكِرَ عَقِبَ ذِكْرِهِ - جَلَّ جَلالُهُ - تَشْرِيفًا لِشَأْنِهِ مَعَ الامْتِثَالِ لأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَكَذَلِكَ التَّوَسُّلُ بِالصَّلاةِ عَلَى الآلِ وَالأَصْحَابِ لِكَوْنِهِمْ مُتَوَسِّطِينَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ مُلاءَمَةَ الآلِ وَالأَصْحَابِ لِجَنَابِهِ أَكْثَرُ مِنْ مُلاءَمَتِنَا لَهُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .?(1/3)
قَوْلُهُ : ( لأَحْمَدَ مَعَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِم مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ) قَالَ الشَّارِحُ : الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ هُوَ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ دُونِ اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا ، وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ جَعَلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَأَحْمَدُ وَلا مُشَاحَّةَ فِي الاصْطِلاحِ .
كِتَابُ الطَّهَارَةِ
أَبْوَابُ الْمِيَاهِ
بَابُ طَهُورِيَّةِ مَاءِ الْبَحْر وَغَيْرِهِ
1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا ، أَفَنَتَوَضَّأُ ، بِمَاءِ الْبَحْرِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
2- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ - فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوا فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ ، فَرَأَيْت الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
3- وَمُتَّفَقٌ عَلَى مِثْلِ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا .(1/4)
قَوْلُهُ : ( كِتَابُ الطَّهَارَةِ ) قَالَ الشَّارِحُ : وَلَمَّا كَانَتْ مِفْتَاحَ الصَّلاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ . افْتَتَحَ الْمُؤَلِّفُونَ بِهَا مُؤَلَّفَاتِهِمْ . وَالأَبْوَابُ : جَمْعُ بَابٍ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لِمَا كَانَ حِسِّيًّا يُدْخَلُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَمَجَازٌ لِعِنْوَانِ جُمْلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَنَاسِبَةِ. وَالْمِيَاهُ جَمْعُ الْمَاءِ وَجَمْعُهُ مَعَ كَوْنِهِ جِنْسًا لِلدَّلالَةِ عَلَى اخْتِلافِ الأَنْوَاعِ .
قَوْلُهُ : « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ » . قَالَ الشَّارِحُ : قَالَ فِي شَرْحِ الإِلْمَامِ : فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يُجِبْهُمْ بِنَعَمْ حِينَ قَالُوا : ( أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ ) ؟ قُلْنَا : لأَنَّهُ يَصِيرُ مُقَيَّدًا بِحَالِ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ الاقْتِصَارِ عَلَى الْجَوَابِ بِنَعَمْ أَنَّهُ إنَّمَا يُتَوَضَّأُ بِهِ فَقَطْ ، وَلا يُتَطَهَّرُ بِهِ لِبَقِيَّةِ الأَحْدَاثِ وَالأَنْجَاسِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ عَلَى سُؤَالِ السَّائِلِ لِقَصْرِ الْفَائِدَةِ وَعَدَمُ لُزُومِ الاقْتِصَارِ ، قَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ : إنَّهُ حَدِيثٌ عَظِيمٌ ، أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الطَّهَارَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ وَقَوَاعِدَ مُهِمَّةٍ .(1/5)
قَوْلُهُ : فِي حَدِيثُ أَنَسٍ ( فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُوَاسَاةِ بِالْمَاءِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمَنْ كَانَ فِي مَائِهِ فَضْلٌ عَنْ وُضُوئِهِ ، وَعَلَى أَنَّ اغْتِرَافَ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لا يُصَيِّرُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلاً ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّ الْمَاءَ الشَّرِيفَ يَجُوزُ رَفْعُ الْحَدَثِ بِهِ . وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ لا بَأْسَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ؛ لأَنَّ قُصَارَاهُ أَنَّهُ مَاءٌ شَرِيفٌ مُتَبَرَّكٌ بِهِ ، وَالْمَاءُ الَّذِي وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِيهِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ .
4- وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي حَدِيثٍ لَهُ قَالَ فِيهِ : ثُمَّ أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِسَجْلٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهُ وَتَوَضَّأَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
بَابُ طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُتَوَضَّأِ بِهِ
5- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَعُودنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
6- وَفِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، مِنْ رِوَايَةِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ : مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ فِي كَفّ رَجُلٍ ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ . وَهُوَ بِكَمَالِهِ لأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ .(1/6)
7- وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ فَحَادَ عَنْهُ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ ، فَقَالَ : كُنْت جُنُبًا ، فَقَالَ : « إنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُسُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .
8- وَرَوَى الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِصَبِّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِوَضُوئِهِ عَلَى جَابِرٍ وَتَقْرِيرِهِ لِلصَّحَابَةِ عَلَى التَّبَرُّكِ بِوَضُوئِهِ ، وَعَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْوُضُوءِ إِلِى أَنْ قَالَ : فَإِنْ قَالَ الذَّاهِبُ إلَى نَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْوُضُوءِ إنَّ هَذِهِ الأَحَادِيثَ غَايَةُ مَا فِيهَا الدَّلالَةُ عَلَى طَهَارَةِ مَا تَوَضَّأَ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ . قُلْتُ : هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ نَافِقَةٍ ، فَإِنَّ الأَصْلَ أَنَّ حُكْمَهُ وَحُكْمَ أُمَّتِهِ وَاحِدٌ إلا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَقْضِي بِالاخْتِصَاصِ وَلا دَلِيلَ . وَأَيْضًا الْحُكْمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ نَجِسًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَلْتَزِمُهُ الْخَصْمُ فَمَا هُوَ ؟(1/7)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُسُ » . قَالَ الشَّارِحُ : تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِهِ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالنَّاصِرِ وَمَالِكٍ فَقَالُوا : إنَّ الْكَافِرَ نَجِسُ عَيْنٍ وَقَوَّوْا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ? إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ? وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ طَاهِرُ الأَعْضَاءِ لاعْتِيَادِهِ مُجَانَبَةِ النَّجَاسَةِ بِخِلافِ الْمُشْرِكِ لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ عَنْ النَّجَاسَةِ ، وَعَنْ الآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ نَجَسٌ فِي الاعْتِقَادِ وَالاسْتِقْذَارِ ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَرَقَهُنَّ لا يَسْلَمُ مِنْهُ مَنْ يُضَاجِعُهُنَّ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَحَدِيثُ الْبَابِ أَصْلٌ فِي طَهَارَةِ الْمُسْلِمِ حَيًّا وَمَيِّتًا . وَفِيه مِنْ الْفَوَائِدِ مَشْرُوعِيَّةُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ مُلابَسَةِ الأُمُورِ الْعَظِيمَةِ ، وَاحْتِرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَتَوْقِيرُهُمْ ، وَمُصَاحَبَتُهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ .
بَابُ بَيَانِ زَوَالِ تَطْهِيرِهِ
9- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « لا يَغْتَسِلَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ » . فَقَالُوا : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ قَالَ : يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ .
10- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : « لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ، وَلا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ » .(1/8)
11- وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ حَدَّثَتْنِي الرُّبَيِّعِ بِنْتُ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ - فَذَكَرَ حَدِيثَ وُضُوءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - - وَفِيهِ : ( وَمَسَحَ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ فِي يَدِهِ مَرَّتَيْنِ ، بَدَأَ بِمُؤَخِّرِهِ ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى نَاصِيَتِهِ ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثًا ثَلاثًا ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ : ( أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ مِنْ فَضْلِ مَاءٍ كَانَ بِيَدَيْهِ ) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ صَدُوقٌ ، وَلَكِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : كَانَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْحُمَيْدِيُّ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِهِ ) .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « لا يَغْتَسِلَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ أَكْثَرُ الْعِتْرَةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَاللَّيْثُ وَالأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ . ورجح الشارح عَدَمَ خُرُوجِ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ وبَقَاءه عَلَى الْبَرَاءَةِ الأَصْلِيَّةِ ، قَالَ : وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنَّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِحَدِيثِ الْبَاب عَلَى عَدَم صَلاح الْمُسْتَعْمِل لِلطَّهُورِية ، فَقَالَ :(1/9)
وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ الْغُسْلِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ وَلا يُجْزِئ وَمَا ذَاكَ إلا لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلاً بِأَوَّلِ جُزْءٍ يُلاقِيهِ مِنْ الْمُغْتَسِلِ فِيهِ ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الَّذِي لا يَحْمِلُ النَّجَاسَةَ ، أَمَّا مَا يَحْمِلُهَا فَالْغُسْلُ فِيهِ مُجْزِئٌ ، فَالْحَدَثُ لا يَتَعَدَّى إلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ طَرِيقِ الأَوْلَى .
قَوْلُهُ : ( وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ فِي يَدِهِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ قَبْلَ انْفِصَالِهِ عَنْ الْبَدَنِ يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ . قِيلَ : وَقَدْ عَارَضَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَقَالِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ . وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ كَوْنَهُ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ لِرَأْسِهِ مَاءً جَدِيدًا لا يُنَافِي مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ فِي يَدَيْهِ ؛ لأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى شَيْءٍ بِصِيغَةٍ لا تَدُلُّ إلا عَلَى مُجَرَّدِ الْوُقُوعِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِحَصْرٍ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَلا نَفْيٍ لِمَا عَدَاهُ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِ غَيْرِهِ . إِلِى أَنْ قَالَ : قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ مَا لَفْظُهُ :(1/10)
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ بَلَلِ يَدَيْهِ ، فَلَيْسَ يَدُلُّ عَلَى طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ؛ لأَنَّ الْمَاءَ كُلَّمَا تَنَقَّلَ فِي مَحَالِّ التَّطْهِيرِ مِنْ غَيْرِ مُفَارَقَةٍ إلَى غَيْرِهَا فَعَمَلُهُ وَتَطْهِيرُهُ بَاقٍ ، وَلِهَذَا لا يَقْطَعُ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَغَيُّرُهُ بِالنَّجَاسَاتِ وَالطَّهَارَاتِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ .
بَابُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ جَعَلَ مَا يَغْتَرِفُ مِنْهُ الْمُتَوَضِّئُ
بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ مُسْتَعْمَلاً
12- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : تَوَضَّأْ لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَأَكْفَأَ مِنْهُ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثًا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : ( هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلَفْظُهُ لأَحْمَدَ .(1/11)
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ : ( ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فَاغْتَرَفَ بِهِمَا ) . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً فَعَلَ بِهَا هَكَذَا أَضَافَهَا إلَى يَدِهِ الأُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ ) . قَالَ الشَّارِحُ : فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ وَأَنَّهَا سُنَّةٌ . وَالْكَلامُ عَلَى أَطْرَافِ الْحَدِيثِ يَأْتِي فِي الْوُضُوءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِنَّمَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُغْتَرَفَ مِنْهُ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً لا يَصْلُحُ لِلطَّهُورِيَّةِ ، وَهِيَ مَقَالَةٌ بَاطِلَةٌ يَرُدُّهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ . وَقَدْ عَرَفْتَ بِمَا سَلَفَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ - أَعْنِي خُرُوجَ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ - مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ . وَمِنْ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ؛ لأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَرَّتَيْنِ بَعْدَ تَثْلِيثِ غَيْرِهِمَا . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ
13- عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ قَالا : وَضُوءُ الْمَرْأَةِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ : وَقَدْ رَوَى بَعْدَهُ حَدِيثًا آخَرَ - الصَّحِيحُ الأَوَّلُ ، يَعْنِي حَدِيثَ الْحَكَمِ .(1/12)
14- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
15- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ بِفَضْلِ غُسْلِهَا مِنْ الْجَنَابَةِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
16- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَفْنَةٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا أَوْ يَغْتَسِلَ ، فَقَالَتْ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت جُنُبًا ، فَقَالَ : « إنَّ الْمَاءَ لا يُجْنِبُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
قُلْتُ : وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الرُّخْصَةِ لِلرَّجُلِ مِنْ فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ وَالإِخْبَارُ بِذَلِكَ أَصَحُّ . وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إذَا خَلَتْ بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ مَيْمُونَةَ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ بِهِ جَمِيعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْحَكَمِ . فَأَمَّا غُسْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَوُضُوءُهُمَا جَمِيعًا فَلا اخْتِلافَ فِيهِ .
17- قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجَنَابَةِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
18- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
19- وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ : مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْتَرِفُ مِنْهُ جَمِيعًا .(1/13)
20- وَلِمُسْلِمٍ : مِنْ إنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ : دَعْ لِي ، دَعْ لِي .
21- وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيّ : مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يُبَادِرُنِي وَأُبَادِرُهُ حَتَّى يَقُولَ : « دَعِي لِي » . وَأَنَا أَقُولُ : دَعْ لِي .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الأَحَادِيثِ بِحَمْلِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَلَى مَا تَسَاقَطَ مِنْ الأَعْضَاءِ لِكَوْنِهِ قَدْ صَارَ مُسْتَعْمَلاً ، وَالْجَوَازُ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْمَاءِ ، وَبِذَلِكَ جَمَعَ الْخَطَّابِيِّ وَأَحْسَنُ مِنْهُ مَا جَمَعَ بِهِ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مِنْ حَمْلِ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ بِقَرِينَةِ أَحَادِيثِ الْجَوَازِ .
بَابُ حُكْمِ الْمَاءِ إذَا لاقَتْهُ النَّجَاسَةُ
22- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلابِ وَالنَّتْنُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « الْمَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدَ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ صَحِيحٌ .
23- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : إنَّهُ يُسْتَقَى لَك مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ تُطْرَحُ فِيهَا مَحَايِضُ النِّسَاءِ ، وَلَحْمُ الْكِلابِ ، وَعَذِرِ النَّاسِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ » .(1/14)
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ ، قَالَ : سَأَلْت قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا قُلْت : أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِيهَا الْمَاءُ ؟ قَالَ : إلَى الْعَانَةِ ، قُلْت : فَإِذَا نَقَصَ ، قَالَ : دُونَ الْعَوْرَةِ . قَالَ أَبُو دَاوُد : قَدَّرْت بِئْرَ بُضَاعَةَ بِرِدَائِي فَمَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إلَيْهِ هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ لا ، وَرَأَيْت فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ .
24- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلاةِ مِنْ الأَرْضِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ ، فَقَالَ : « إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ ، يَحْمِلْ الْخَبَثَ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
25- وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ وَرِوَايَةٍ لأَحْمَدَ : « لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ » .
26- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ » رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ : « ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ » ، وَلَفْظُ الْبَاقِينَ : « ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ » .(1/15)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « الْمَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ » . قال ابن المنذرُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لَهُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا فَهُوَ نَجِسٌ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ أَنَّ الْمَاءَ لا يَتَنَجُسُ بِوُقُوعِ شَيْءٍ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا وَلَوْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ أَوْ بَعْضُهَا ، لَكِنَّهُ قَامَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِالنَّجَاسَةِ خَرَجَ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ ، فَلا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِمَا لاقَاهُ ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلاً إلا إذَا تَغَيَّرَ ، فَإِنْ تَغَيَّرَ ما دون القلتين بنجاسة خَرَجَ عَنْ الطَّهَارَةِ بِالإِجْمَاعِ وَبِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَحَدِيثُ « لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ » يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهَارَةِ ، وَحَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
قَوْلُهُ : « لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ ». قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى مَآلِ الْحَالِ ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لا يَضْرِبَنَّ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرَبَ الأَمَةِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا » أَيْ ثُمَّ هُوَ يُضَاجِعُهَا . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَمَنْ ذَهَبَ إلَى خَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ حَمَلَ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى مَا دُونَهُمَا ، وَخَبَرَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَلَى مَا بَلَغَهُمَا جَمْعًا بَيْنَ الْكُلِّ .(1/16)
قُلْتُ : والبولُ في الماءِ ينجسه إذا كان قلِيلاً ، ويقذره إذا كان كثيرًا ، فلذلك ورد النهي عن البول فيه مطلقًا .
بَابُ أَسْآرِ الْبَهَائِمِ
27- حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا وَإِلا يَكُونُ التَّحْدِيدُ بِالْقُلَّتَيْنِ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ وُرُودِهَا عَلَى الْمَاءِ عَبَثًا .
28- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
قال الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الحَدِيثِ الذي بعده : وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى الْمَاءِ مَظِنَّةٌ لإِلْقَائِهَا الأَبْوَالَ وَالأَزْبَالَ عَلَيْهِ . قَالَ : وحديث أبي هريرة يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغَسَلاتِ السَّبْعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ . وقَالَ : وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ لأَنَّهُ إذَا كَانَ لُعَابُهُ نَجِسًا وَهُوَ عَرَقُ فَمِهِ ، فَفَمُهُ نَجِسٌ ، وَيَسْتَلْزِمُ نَجَاسَةَ سَائِرِ بَدَنِهِ ، وَذَلِكَ لأَنَّ لُعَابَهُ جُزْءٌ مِنْ فَمِهِ ، فَبَقِيَّةُ بَدَنِهِ أَوْلَى ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْجُمْهُورُ .
بَابُ سُؤْرِ الْهِرِّ(1/17)
29- عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ - أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا ، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ فَأَصْغَى لَهَا الإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ مِنْهُ ، قَالَتْ كَبْشَةُ : فَرَآنِي أَنْظُرُ ، فَقَالَ : أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي ؟ فَقَلَتْ : نَعَمْ ، فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ ، إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
30- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يُصْغِي إلَى الْهِرَّةِ الإِنَاءَ حَتَّى تَشْرَبَ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .(1/18)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى طَهَارَةِ فَمِ الْهِرَّةِ وَطَهَارَةِ سُؤْرِهَا . وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْهَادِي ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بَلْ نَجِسٌ كَالسَّبُعِ ، لَكِنْ خَفَّفَ فِيهِ فَكَرِهَ سُؤْرَهُ . وَأُجِيبَ بِأَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ فَيُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ حَدِيثِ السِّبَاعِ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُرُودِ مَا يَقْضِي بِنَجَاسَةِ السِّبَاعِ . وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِالسَّبُعِيَّةِ فَلا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهَا نَجِسٌ إذْ لا مُلازَمَةَ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالسَّبُعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَقِيلَ : إنَّ الْكِلابَ وَالسِّبَاعَ تَرِدُ عَلَيْهَا فَقَالَ : « لَهَا مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ » . وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَقَالَ : لَهُ أَسَانِيدُ إذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ كَانَتْ قَوِيَّةً بِلَفْظِ : أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ ؟ قَالَ : « نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا » . إِلِى أَنْ قَالَ : وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى الْمَاءِ مَظِنَّةٌ لإِلْقَائِهَا الأَبْوَالَ وَالأَزْبَالَ عَلَيْهِ .
أَبْوَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ
وَذِكْرِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْهَا
بَابُ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الْوُلُوغِ(1/19)
31- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ،
32- وَلأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ : « طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ » .
33- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلِ الْكِلابِ ثُمَّ قَالَ : « مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلابِ » ؟ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَقَالَ : « إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ وَالْبُخَارِيَّ .
34- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ ، وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الْغَنَمِ وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّهُ يُغْسَلُ الإِنَاءُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَقَدْ وَقَعَ الْخِلافُ هَلْ يَكُونُ التَّتْرِيبُ فِي الْغَسَلاتِ السَّبْعِ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا . وَظَاهِرُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهَا وَهُوَ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ . انْتَهَى . قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي : وَرِوَايَةُ أُولاهُنَّ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الأَكْثَرِيَّةِ وَالأَحْفَظِيَّةِ ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا ؛ لأَنَّ تَتْرِيبَ الْأخِرَةِ يَقْتَضِي الاحْتِيَاجَ إلَى غَسْلَةٍ آخِرَةٍ لِتَنْظِيفِهِ ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الأُولَى أَوْلَى .
بَابُ الْحَتِّ وَالْقَرْصِ وَالْعَفْوِ عَنْ الأَثَرِ بَعْدَهُمَا(1/20)
35- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : إحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ : « تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ تَنْضَحُهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
36- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ يَسَارٍ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَيْسَ لِي إلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَأَنَا أَحِيضُ فِيهِ قَالَ : « فَإِذَا طَهُرْت فَاغْسِلِي مَوْضِعَ الدَّمِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ » . قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ يَخْرُجْ أَثَرُهُ ؟ قَالَ : « يَكْفِيك الْمَاءُ وَلا يَضُرُّك أَثَرُهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
37- وَعَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ : سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ الْحَائِضِ يُصِيبُ ثَوْبَهَا الدَّمُ ، فَقَالَتْ : تَغْسِلُهُ فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ فَلْتُغَيِّرْهُ بِشَيْءٍ مِنْ صُفْرَةٍ . قَالَتْ : وَلَقَدْ كُنْت أَحِيضُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ حَيْضٍ جَمِيعًا لا أَغْسِلُ لِي ثَوْبًا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : « ثُمَّ تَقْرُصُهُ » قَالَ الشَّارِحُ : أَيْ تُدَلِّكُ مَوْضِعَ الدَّمِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهَا لِيَتَحَلَّلَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجَ مَا يَشْرَبُهُ الثَّوْبُ مِنْهُ . قال المُصنِّفُ :
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ لا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ ، وَإِنْ قَلَّ لِعُمُومِهِ ، وَأَنَّ طَهَارَةَ السُّتْرَةِ شَرْطٌ لِلصَّلاةِ ، وَأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ وَأَمْثَالَهَا لا يُعْتَبَرُ فِيهَا تُرَابٌ وَلا عَدَدٌ وَأَنَّ الْمَاءَ مُتَعَيَّنٌ لإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ .(1/21)
قَوْلُهُ : « يَكْفِيك الْمَاءُ وَلا يَضُرُّك أَثَرُهُ » . قَالَ الشَّارِحُ : اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْحَوَادِّ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْحَادِّ الْمُعْتَادِ ، لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ : « حُكِّيهِ بِضَلْعٍ وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ » ، وَقِيلَ : يَكُونُ اسْتِعْمَالُ الْحَوَادِّ مَنْدُوبًا جَمْعًا بَيْنَ الأَدِلَّةِ ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ : « لا يَضُرُّك أَثَرُهُ » أَنَّ بَقَاءَ أَثَرِ النَّجَاسَةِ الَّذِي عَسُرَتْ إزَالَتُهُ لا يَضُرُّ ، لَكِنْ بَعْدَ التَّغَيِيرِ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ الدَّمِ ؛ لأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
قَوْلُهَا : ( لا أَغْسِلُ لِي ثَوْبًا ) . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ الأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ حَتَّى تَظْهَرَ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَيَجِبُ غَسْلُهَا .
بَابُ تَعَيُّنِ الْمَاءِ لإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ
38- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ إذَا اُضْطُرِرْنَا إلَيْهَا قَالَ : « إذَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهَا فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ وَاطْبُخُوا فِيهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
39- وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَطْبُخُ فِي قُدُورِهِمْ وَنَشْرَبُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَالرَّحْضُ : الْغَسْلُ .(1/22)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ لإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ غَيْرُهُ ، وَلا يَخْفَاك أَنَّ مُجَرَّدَ الأَمْرِ بِهِ لإِزَالَةِ خُصُوصِ هَذِهِ النَّجَاسَةِ لا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لِكُلِّ نَجَاسَةٍ . وَقَالَ فِي البَابِ الذي قبله : وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ فِي التَّطْهِيرِ لِوَصْفِهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَسُنَّةً وَصْفًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ ، لَكِنَّ الْقَوْلَ بِتَعَيُّنِهِ وَعَدَمِ إجْزَاءِ غَيْرِهِ يَرُدُّهُ حَدِيثُ مَسْحِ النَّعْلِ وَفَرْكِ الْمَنِيِّ وَحَتِّهِ وَإِمَاطَتِهِ بِإِذْخَرَةٍ ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
بَابُ تَطْهِيرِ الأَرْضِ النَّجِسَةِ بِالْمُكَاثَرَةِ
40- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « دَعُوهُ وَأَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ - أَوْ ذُنُوبًا مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا .(1/23)
41- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَهْ مَهْ ! قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لا تَزْرِمُوهُ دَعُوهُ » . فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَاهُ ، ثُمَّ قَالَ : « إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ ، إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ » . أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ : فَأَمَرَ رَجُلاً مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
لَكِنْ لَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ فِيهِ : « إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ » إلَى تَمَامِ الأَمْرِ بِتَنْزِيهِهَا . وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « لا تَزْرِمُوهُ » . أَيْ لا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّبَّ مُطَهِّرٌ لِلأَرْضِ وَلا يَجِبُ الْحَفْرُ . قَالَ : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ الأَرْضَ تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ . وَعَلَى الرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيمِ . وَعَلَى التَّرْغِيبِ فِي التَّيْسِيرِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْ التَّعْسِيرِ . وَعَلَى احْتِرَامِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْزِيهِهَا ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَّرَهُمْ عَلَى الإِنْكَارِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالرِّفْقِ .(1/24)
قَوْلُهُ : ( مَهْ مَهْ ) . قَالَ الشَّارِحُ : اسْمُ فِعْلٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ مَعْنَاهُ اُكْفُفْ . قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ : هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ أَصْلُهَا ( مَا هَذَا ) ، ثُمَّ حُذِفَ تَخْفِيفًا ، وَتُقَالُ مُكَرَّرَةً وَمُفْرَدَةً .
قَوْلُهُ : ( فَجَاءَ بِدَلْوٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ ) . أَيْ : صبّه . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ عَلَى الأَرْضِ إذَا اُسْتُهْلِكَتْ بِالْمَاءِ ، فَالأَرْضُ وَالْمَاءُ طَاهِرَانِ ، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَكْثِيرِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي أَسْفَلِ النَّعْلِ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ
42- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا وَطِئَ أَحَدكُمْ بِنَعْلِهِ الأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ » .
43- وَفِي لَفْظٍ : « إذَا وَطِئَ الأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ » . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
44- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا جَاءَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ وَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا فَإِنْ رَأَى خَبَثًا . فَلْيَمْسَحْهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(1/25)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَوَرَدَ فِي معنى حديثِ أبي سعيدٍ أَحَادِيث يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَنْهِضُ لِلاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى أَنَّ النَّعْلَ يَطْهُرُ بِدَلْكِهِ فِي الأَرْضِ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنْوَاعِ النَّجَاسَاتِ بَلْ كُلُّ مَا عَلِقَ بِالنَّعْلِ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الأَذَى فَطَهُورُهُ مَسْحُهُ بِالتُّرَابِ . وَيُلْحَقُ بِالنّعلِ والخُفِ كُلُّ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا لِعَدَمِ الْفَارِقِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ نَضْحِ بَوْلِ الْغُلامِ إذَا لَمْ يُطْعَمْ
45- عَنْ أُمِّ قَيْسِ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
46- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « بَوْلُ الْغُلامِ الرَّضِيعِ يُنْضَحُ وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ » . قَالَ قَتَادَةَ : وَهَذَا مَا لَمْ يُطْعَمَا فَإِذَا طَعِمَا غُسِلا جَمِيعًا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
47- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : ( أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَتْبَعهُ الْمَاءَ ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
48- وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ : وَلَمْ يَغْسِلْهُ .
49- وَلِمُسْلِمٍ : كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَال عَلَيْهِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعهُ بَوْلَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ .(1/26)
50- وَعَنْ أَبِي السَّمْحِ خَادِمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلامِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
51- وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ : أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِغُلامٍ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُضِحَ ، وَأُتِيَ بِجَارِيَةٍ فَبَالَتْ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِهِ فَغُسِلَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
52- وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « بَوْلُ الْغُلامِ يُنْضَحُ وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
53- وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ - لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ - قَالَتْ : بَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي ثَوْبَكَ وَالْبَسْ ثَوْبًا غَيْرَهُ حَتَّى أَغْسِلَهُ . فَقَالَ : « إنَّمَا يُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ وَيُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الأُنْثَى » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
قَوْلُهُ : ( لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْمُرَادُ بِالطَّعَامِ مَا عَدَا اللَّبَنَ الَّذِي يَرْضَعُهُ وَالتَّمْرَ الَّذِي يُحَنَّكُ بِهِ ، وَالْعَسَلَ الَّذِي يَلْعَقُهُ لِلْمُدَاوَاةِ ، وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ بَوْلَ الصَّبِيِّ يُخَالِفُ بَوْلَ الصَّبِيَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ النَّضْحِ يَكْفِي فِي تَطْهِيرِ بَوْلِ الْغُلامِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ(1/27)
54- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ - أَوْ قَالَ عُرَيْنَةَ - قَدِمُوا فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلِقَاحٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . اجْتَوَوْهَا : أَيْ اسْتَوْخَمُوهَا .
55- وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : « صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ بِطَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، أَمَّا فِي الإِبِلِ فَبِالنَّصِّ ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَبِالْقِيَاسِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِأُولَئِكَ الأَقْوَامِ فَلَمْ يُصِبْ إذْ الْخَصَائِصُ لا تَثْبُتُ إلا بِدَلِيلٍ .
وَقَالَ المُصنِّفُ رحمه الله :
فَإِذَا أُطْلِقَ الإِذْنُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُشْتَرَطْ حَائِلاً بَقِيَ مِنْ الأَبْوَالِ وَأُطْلِقَ الإِذْنُ فِي الشُّرْبِ لِقَوْمٍ حَدِيثِي الْعَهْدِ فِي الإِسْلامِ جَاهِلِينَ بِأَحْكَامِهِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِغَسْلِ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا لأَجْلِ صَلاةٍ وَلا غَيْرِهَا مَعَ اعْتِيَادِهِمْ شُرْبَهَا ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالطَّهَارَةِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَذْيِ(1/28)
56- عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ : كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً وَكُنْت أُكْثِرُ مِنْهُ الاغْتِسَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « إنَّمَا يَجْزِيك مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ » . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ ؟ قَالَ : « يَكْفِيك أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَك حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْهُ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ . وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
57- وَرَوَاهُ الأَثْرَمُ وَلَفْظُهُ قَالَ : كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ عَنَاءً فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : « يَجْزِيك أَنْ تَأْخُذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَتَرُشَّ عَلَيْهِ » .
58- وَعَنْ عَلَيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : كُنْت رَجُلاً مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرت الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : « فِيهِ الْوُضُوءُ » . أَخْرَجَاهُ .
59- وَلِمُسْلِمٍ : « يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ » .
60- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : « يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ » .
61- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَاءِ ، فَقَالَ : « ذَلِكَ مِنْ الْمَذْيِ ، وَكُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي . فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَك وَأُنْثَيَيْك وَتَوَضَّأْ وُضُوءَك لِلصَّلاةِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/29)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لا يَجِبُ لِخُرُوجِ الْمَذْيِ ، قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَهُوَ إجْمَاعٌ . وَعَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ كَالأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ الْبَوْلِ وَعَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ فِي تَطْهِيرِهِ لِقَوْلِهِ : « كَفًّا مِنْ مَاءٍ » .
بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَنِيِّ
62- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ .
63- وَلأَحْمَدَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْلُتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقٍ الإِذْخِرِ ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَيَحُتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ .
64- وَفِي لَفْظٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ : كُنْت أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ .
65- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهَا : ( كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ يَابِسًا وَأَغْسِلُهُ إذَا كَانَ رَطْبًا ) .
قُلْت : فَقَدْ بَانَ مِنْ مَجْمُوعِ النُّصُوصِ جَوَازُ الأَمْرَيْنِ .(1/30)
66- وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ قَالَ : حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَطَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ ، فَقَالَ : « إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَإِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ الأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ : قُلْت : وَهَذَا لا يَضُرُّ ؛ لأَنَّ إِسْحَاقَ إمَامٌ مُخَرَّجٌ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَيُقْبَل رَفْعُهُ وَزِيَادَتُهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِمَا فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي إزَالَةِ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ بِالْغَسْلِ أَوْ الْفَرْكِ أَوْ الْحَتِّ .
بَابُ فِي أَنَّ مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ
67- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحَهُ ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ دَاءً » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
68- وَلأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ .(1/31)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ لا يَنْجُسُ بِمَوْتِ مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةَ فِيهِ ، إذْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الذُّبَابِ وَالْخُنْفُسَاءِ اللَّذَيْنِ وَجَدَهُمَا - صلى الله عليه وسلم - مَيِّتَيْنِ فِي الطَّعَامِ ، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِمَا وَالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ وَالأَكْلِ مِنْهُ ، وَالْفَائِدَةُ فِي الأَمْرِ بِغَمْسِهِ كُلِّهِ هِيَ أَنْ يَتَّصِلَ مَا فِيهِ مِنْ الدَّوَاءِ بِالطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ ، كَمَا اتَّصَلَ بِهِ الدَّاءُ ، فَيَتَعَادَلُ الضَّارُّ وَالنَّافِعُ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرَ .
بَابٌ فِي أَنَّ الآدَمِيَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ
وَلا شَعَرُهُ وَأَجْزَاؤُهُ بِالانْفِصَالِ
قَدْ أَسْلَفْنَا قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - : « الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ » وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ .
69- قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ حَيًّا وَلا مَيِّتًا .
70- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَمَى الْجَمْرَةَ ، وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَلاقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ ، فَقَالَ : « احْلِقْهُ » . فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ وَقَالَ : « اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/32)
71- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحْلِقَ الْحَجَّامُ رَأْسَهُ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِشَعْرِ أَحَدِ شِقَّيْ رَأْسِهِ بِيَدِهِ - فَأَخَذَ شَعْرَهُ - فَجَاءَ بِهِ إلَى أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَ : وَكَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ تَدُوفُهُ فِي طِيبِهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
72- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نِطْعًا فَيَقِيلُ عِنْدهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطْعِ ، فَإِذَا قَامَ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعْرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ جَعَلَتْهُ فِي سُكٍّ ، قَالَ : فَلَمَّا حَضَرَتْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
73- وَفِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ رِوَايَةِ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ : أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ قَامَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَلا يَبْصُقُ بُصَاقًا إلا ابْتَدَرُوهُ ، وَلا يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إلا أَخَذُوهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
74- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ : أَرْسَلَنِي أَهْلِي إلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَجَاءَتْ بِجُلْجُلٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ شَعْرٌ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ إذَا أَصَابَ الإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَيْءٌ بَعَثَ إلَيْهَا بِإِنَاءٍ فَخَضْخَضَتْ لَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ ، فَاطَّلَعْت فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْت شَعَرَاتٍ حُمْرًا . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .(1/33)
75- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - وَهُوَ صَاحِبُ الأَذَانِ - أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْدَ الْمَنْحَرِ وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ يَقْسِمُ أَضَاحِي فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ وَلا صَاحِبَهُ فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ مِنْهُ ، وَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ فَأَعْطَى صَاحِبَهُ ، قَالَ : وَإِنَّهُ شَعْرُهُ عِنْدَنَا لَمَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتْمِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَوْلُهُ : ( نَاوَلَ الْحَلاقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ ) . الحديث ، قَالَ النَّوَوِيُّ : فِيهَا اسْتِحْبَابُ الْبُدَاءَةِ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ مِنْ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . وَفِيهِ طَهَارَةُ شَعْرِ الآدَمِيِّ ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ ، وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِشَعْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - . وَفِيهِ الْمُوَاسَاةُ بَيْنَ الأَصْحَابِ بِالْعَطِيَّةِ وَالْهَدِيَّةِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَفِيهِ أَنَّ الْمُوَاسَاةَ لا تَسْتَلْزِمُ الْمُسَاوَاةَ . وَفِيهِ تَنْفِيلُ مَنْ يَتَوَلَّى التَّفْرِقَةَ عَلَى غَيْرِهِ .
بَابُ النَّهْيِ عَنْ الانْتِفَاعِ بِجِلْدِ مَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ
76- عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
77- وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ : أَنْ يَفْتَرِشَ .(1/34)
78- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ جُلُودِ النُّمُورِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا ؟ قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
79- وَلأَحْمَدَ : أُنْشِدُكُمْ اللَّهَ أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رُكُوبِ صُفَفِ النُّمُورِ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : وَأَنَا أَشْهَدُ .
80- وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكرِبَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ : أُنْشِدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
81- وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكرِبَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَمَيَاثِرِ النُّمُورِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
82- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : ( صُفَفِ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : كَصُرَدٍ جَمْعُ صِفَةٍ وَهِيَ مَا يُجْعَلُ عَلَى السَّرْجِ .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ جِلْدِ مَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فِي الْيَابِسَاتِ ، وَتَمْنَعُ بِعُمُومِهَا طَهَارَتَهُ بِذَكَاةٍ أَوْ دِبَاغٍ .(1/35)
واختار الشارح طهارتها بالدباغ ، وأنه لا مُلازَمَةَ بَيْنَ النهي عن استعْمالِهَا وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ كَمَا لا مُلازَمَةَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَنَجَاسَتِهِمَا . وَقَوْلُ المُصَنِّفِ أحوط .
بَابُ مَا جَاءَ فِي تَطْهِيرِ الدَّبَّاغِ
83- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : تُصُدِّقَ عَلَى مُولاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « هَلا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ » ؟ فَقَالُوا : إنَّهَا مَيْتَةٌ ، فَقَالَ : « إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا ابْنَ مَاجَهْ قَالَ فِيهِ : عَنْ مَيْمُونَةَ ، جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهَا .
وَلَيْسَ فِيهِ لِلْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيُّ ذِكْرُ الدِّبَاغِ بِحَالٍ .
84- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ : إنَّ دَاجِنًا لِمَيْمُونَةَ مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَلا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا أَلا دَبَغْتُمُوهُ فَإِنَّهُ ذَكَاتُهُ » .
وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ .
85- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ : « يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَعَ غَيْرِهِ ، وَقَالَ : هَذِهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ .
86- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : قَالَ إِسْحَاقُ عَنْ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ إنَّمَا يُقَالُ الإِهَابُ لِجِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .(1/36)
87- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ( سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ قَالَتْ : مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا ، ثُمَّ مَازِلْنَا نَنْتَبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ : ( أنَّ ) سَوْدَةَ مَكَانُ ( عَنْ ) .
88- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ( أَمَرَ أَنْ يُنْتَفَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ ) . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ .
89- وَلِلنَّسَائِيِّ : سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَقَالَ : « دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا » .
90- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « طَهُورُ كُلِّ أَدِيمٍ دِبَاغُهُ » . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ .
قَوْلُهُ : إنَّ دَاجِنًا لِمَيْمُونَةَ مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَلا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا أَلا دَبَغْتُمُوهُ فَإِنَّهُ ذَكَاتُهُ » . قال الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ : أَرَادَ أَنَّ الدِّبَاغَ فِي التَّطْهِيرِ بِمَنْزِلَةِ الذَّكَاةِ فِي إحْلالِ الشَّاةِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابن عباس ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ سِقَاءٍ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ مَيْتَةٌ فَقَالَ : « دِبَاغُهُ يُزِيلُ خَبَثَهُ أَوْ نَجَسَهُ أَوْ رِجْسَهُ » وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ .
بَابُ تَحْرِيمِ أَكْلِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ دُبِغَ(1/37)
91- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمَعَةَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلانَةُ تَعْنِي الشَّاةَ ، فَقَالَ : « فَلَوْلا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا » . قَالُوا : أَنَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : « إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ?قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?[ الأنعام : آية 145] وَأَنْتُمْ لا تَطْعَمُونَهُ أَنْ تَدْبُغُوهُ فَتَنْتَفِعُوا بِهِ » . فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ وَأَنَّ الدِّبَاغَ وَإِنْ أَوْجَبَ طَهَارَتَهَا لا يُحَلِّلُ أَكْلَهَا . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الأَكْلِ أَيْضًا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ : « إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا » . وَهَذَا مِمَّا لا أَعْلَمُ فِيهِ خِلافًا .
بَابُ مَا جَاءَ فِي نَسْخِ تَطْهِيرِ الدِّبَاغِ(1/38)
92- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ : كَتَبَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ « أَنْ لا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمْ الْمُدَّةَ غَيْرُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
93- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ : أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ : « إنِّي كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ » .
94- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مَشْيَخَةٌ لَنَا مِنْ جُهَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَيْهِمْ : « أَنْ لا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ الْحَازِمِيُّ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ : وَطَرِيقُ الإِنْصَافِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُكَيْمٍ ظَاهِرُ الدَّلالَةِ فِي النَّسْخِ لَوْ صَحَّ ، وَلَكِنَّهُ كَثِيرُ الاضْطِرَابِ لا يُقَاوِمُ حَدِيثَ مَيْمُونَةَ فِي الصِّحَّةِ . فَالْمَصِيرُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى لِوُجُوهٍ مِنْ التَّرْجِيحِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ عَلَى مَنْعِ الانْتِفَاعِ بِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ، وَحِينَئِذٍ يُسَمَّى إهَابًا ، وَبَعْدَ الدِّبَاغِ يُسَمَّى جِلْدًا وَلا يُسَمَّى إهَابًا ، هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ فِي نَفْيِ التَّضَادِّ . انْتَهَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :(1/39)
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهّرٌ فِي الْجُمْلَةِ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ بِهِ ، وَخَبَرُ ابْنِ عُكَيْمٍ لا يُقَارِبُهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ لِيَنْسَخَهَا . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ : كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ قَبْل وَفَاتِهِ بِشَهْرَيْنِ ، وَكَانَ يَقُولُ : هَذَا آخِرُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، ثُمَّ تَرَكَ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ لَمَّا اضْطَرَبُوا فِي إسْنَادِهِ حَيْثُ رَوَى بَعْضُهُمْ فَقَالَ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ .
بَابُ نَجَاسَةِ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لا يُؤْكَلُ إذَا ذُبِحَ
95- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ : لَمَّا أَمْسَى الْيَوْمُ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ خَيْبَرُ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا هَذِهِ النَّارُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ » ؟ قَالُوا : عَلَى لَحْمٍ ، قَالَ : « عَلَى أَيِّ لَحْمٍ » ؟ قَالُوا : عَلَى لَحْمِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ ، فَقَالَ : « أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا » . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا ؟ فَقَالَ : « أَوْ ذَاكَ » . وَفِي لَفْظٍ : فَقَالَ : « اغْسِلُوا » .
96- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : أَصَبْنَا مِنْ لَحْمِ الْحُمُرِ - يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ - فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجِسٌ » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .(1/40)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ اسْتَدَلَّ بِهِمَا عَلَى تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَقَدْ أَوْرَدَهُمَا الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِمَا عَلَى نَجَاسَةِ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لا يُؤْكَلُ لأَنَّ الأَمْرَ بِكَسْرِ الآنِيَةِ أَوَّلاً ، ثُمَّ الْغَسْلِ ثَانِيًا ، ثُمَّ قَوْلِهِ : « فَإِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجِسٌ » ثَالِثًا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ ، وَلَكِنَّهُ نَصٌّ فِي الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ وَقِيَاسٌ فِي غَيْرِهَا مِمَّا لا يُؤْكَلُ بِجَامِعِ عَدَمِ الأَكْلِ وَلا يَجِبُ التَّسْبِيعَ إذْ أَطْلَقَ الْغَسْلَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمِثْلِ مَا قَيَّدَهُ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ . وَقَالَ أَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : إنَّهُ يَجِبُ التَّسْبِيعُ وَلا أَدْرِي مَا دَلِيلُهُ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى لُعَابِ الْكَلْبِ فَلا يَخْفَى مَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَمَا هُوَ ؟ انْتَهَى . قُلْتُ : الذي استدل به في بعض أصحاب أحمد حديث ذكره في المبدع ولفظه « أمرنا بغسل الأنجاس سبعًا » .
وهو حديث لا تقوم به حجة .
أَبْوَابُ الأَوَانِي
بَابُ مَا جَاءَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
97- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، وَلا الدِّيبَاجَ ، وَلا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . وَلا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ لِبَقِيَّةِ الْجَمَاعَةِ إلا حُكْمَ الأَكْلِ مِنْهُ خَاصَّةً .(1/41)
98 - وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
99- وَلِمُسْلِمٍ : « إنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ فِي إنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ » .
100- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الَّذِي يَشْرَبُ فِي إنَاءِ فِضَّةٍ : « كَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارًا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
101- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْن عَازِبٍ قَالَ : ( نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الشَّرَابِ فِي الْفِضَّةِ فَإِنَّهُ مَنْ شَرِبَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْ فِيهَا فِي الآخِرَةِ ) . مُخْتَصَرٌ مِنْ مُسْلِمٍ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ أَصْحَابُنَا : انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ الاسْتِعْمَالاتِ فِي إنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إلا رِوَايَةً عَنْ دَاوُد فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فَقَطْ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الحَدِيثُ . وَقَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ وَالْعِرَاقِيِّينَ فَقَالَ بِالْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ . قَالَ الشَّارِحُ : وَأَمَّا اتِّخَاذُ الأَوَانِي بِدُونِ اسْتِعْمَالٍ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى مَنْعِهِ ، وَرَخَّصَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ .
بَابُ النَّهْيِ عَنْ التَّضْبِيبِ بِهِمَا إلا بِيَسِيرِ الْفِضَّةِ(1/42)
102- عَنْ ابْن عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ شَرِبَ فِي إنَاءٍ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
103- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - انْكَسَرَ فَاِتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
104- وَلأَحْمَدَ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ : قَالَ : رَأَيْتُ عِنْدَ أَنَسٍ قَدَحَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ ضَبَّةُ فِضَّةٍ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ سِلْسِلَةٍ أَوْ ضَبَّةٍ مِنْ فِضَّةٍ فِي إنَاءِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ .
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي آنِيَةِ الصُّفْرِ وَنَحْوِهَا
105- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْرَجنا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ فَتَوَضَّأَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
106- وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي مِخْضَبٍ مِنْ صُفْرٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ آنِيَة الصُّفْرِ لِلْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ .
بَابُ اسْتِحْبَابِ تَخْمِيرِ الأَوَانِي
107- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - فِي حَدِيثٍ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، وَخَمِّرْ إنَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، وَلَوْ أَنْ تَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/43)
108- وَلِمُسْلِمٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « غَطُّوا الإِنَاءَ ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، فَإِنَّ فِي السَّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لا يَمُرُّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ ، أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ ، إلا نَزَلَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَبَاءِ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبَرُّكِ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عِنْدَ إيكَاءِ السِّقَاءِ وَتَخْمِيرِ الإِنَاءِ وَكَذَلِكَ عِنْد تَغْلِيقِ الْبَابِ وَإِطْفَاءِ الْمِصْبَاحِ ، كَمَا فِي رواية أبي داود : « أَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا وَاطْفِئ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ غَلْقًا وَلا يَحِلُّ وِكَاءً وَلا يَكْشِفُ إنَاءً وَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى النَّاسِ بَيْتَهُمْ » . وقد أشعر التعليل بقوله : « فَإِنَّ الشَّيْطَانَ » إلى آخره أن في التسمية حرزًا عن الشيطان وأنها تحول بينه وبين مراده . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ
109- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كُنَّا نَغَزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْقِيَتِهِمْ فَنَسْتَمْتِعُ بِهَا وَلا يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
110- وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ قَالَ : « إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلا تَأْكُلُوا فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/44)
111- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : إنَّ أَرْضَنَا أَرْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ لَحْم الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِآنِيَتِهِمْ وَقُدُورِهِمْ ؟ قَالَ : « إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ وَاطْبُخُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا » .
112- وَلِلتِّرْمِذِيِّ قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قُدُورِ الْمَجُوسِ ، قَالَ : « أَنْقُوهَا غَسْلاً وَاطْبُخُوا فِيهَا » .
113- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ فَأَجَابَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَالإِهَالَةُ : الْوَدَكُ . وَالسَّنِخَةُ الزَّنِخَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ .
114- وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْوُضُوءُ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ .
وَعَنْ عُمَرَ الْوُضُوءُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ .
قَوْلُهُ : « سَنِخَة » . قَالَ فِي القَامُوس : وسَنِخَ الدّهن كفرح : زنخ ، ومن الطعام أكْثَر . والسناخة : الرّيح المنتنة كالسنخة .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى الْمَنْعِ مِنْ اسْتِعْمَالِ آنِيَة الْكُفَّارُ حَتَّى تُغْسَلَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لا تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ النَّصَارَى بِمَوْضِعٍ مُتَظَاهِرًا فِيهِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ مُتَمَكِّنًا فِيهِ أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ لا بَأْسَ بِآنِيَةِ مَنْ سِوَاهُمْ جَمْعًا بِذَلِكَ بَيْنَ الأَحَادِيثِ ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ غَسْلَ الْكُلِّ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ :(1/45)
115- حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لا يَرِيبُكَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
أَبْوَابُ أَحْكَامِ التَّخَلِّي
بَابُ مَا يَقُولُ الْمُتَخَلِّي عِنْد دُخُوله وَخُرُوجه
116- عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ قَالَ : « اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
117- وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ كَانَ يَقُولُ : « بِسْمِ اللَّهِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ » .
118- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلاءِ قَالَ : « غُفْرَانَكَ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ .
119- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلاءِ قَالَ : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الأَذَى وَعَافَانِي » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .(1/46)
قَوْلُهُ : ( إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ ) ، قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ فِي الْفَتْحِ : أَيْ كَانَ يَقُولُ هَذَا الذِّكْرَ عِنْد إرَادَةِ الدُّخُولِ لا بَعْدَهُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهَذَا الْبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ الْمُفْرَدِ ، وَهَذَا فِي الأَمْكِنَةِ الْمُعَدَّةِ لِذَلِكَ ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَيَقُولُ فِي أَوَّلِ الشُّرُوعِ عِنْد تَشْمِيرِ الثِّيَابِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ . قَالَ : وَفِي حَمْدِهِ - صلى الله عليه وسلم - إشْعَارٌ بِأَنَّ هَذِهِ نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ وَمِنَّةٌ جَزِيلَةٌ ، فَإِنَّ انْحِبَاسَ ذَلِكَ الْخَارِجِ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلاكِ ، فَخُرُوجُهُ مِنْ النِّعَمِ ، وَحَقٌّ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَا يَشْتَهِيه فَسَدَّ بِهِ جَوْعَتَهُ وَخَرَجَ بِسُهُولَةٍ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ مَحَامِدِ اللَّهِ جَلَّ جَلاله . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ تَرْكِ اسْتِصْحَابِ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ
120- عَنْ أَنَس قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ الْخَلاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَحْمَدَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
121- وَقَدْ صَحَّ : أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِهِ كَانَ : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى تَنْزِيه مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ إدْخَاله الْحُشُوشِ ، وَالْقُرْآنُ بِالأَوْلَى .
بَابُ كَفِّ الْمُتَخَلِّي عَنْ الْكَلامِ
122- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ .(1/47)
123- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لا يَخْرُجُ الرَّجُلانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَوْرَتَهُمَا يَتَحَدَّثَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَهْ .
الْحَدِيث زَادَ فِيهِ أَبُو دَاوُد : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ عَلَى الرَّجُلِ السَّلامَ . وَفِي رِواية أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ثُمَّ اعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَالَ : « إنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إلا عَلَى طُهْرٍ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذِكْرِ اللَّهِ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا كَرَدِّ السَّلامِ .
قَوْلُهُ : « لا يخرج الرجلان » إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَتَرْكِ الْكَلامِ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ بِمَقْتِ اللَّهِ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْفِعْلِ .
بَابُ الإِبْعَادِ وَالاسْتِتَارِ لِلتَّخَلِّي فِي الْفَضَاءِ
124- عَنْ جَابِرٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَكَانَ لا يَأْتِي الْبَرَازَ حَتَّى يَغِيبَ فَلا يُرَى . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
125- وَلأَبِي دَاوُد : كَانَ إذَا أَرَادَ الْبَرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لا يَرَاهُ أَحَدٌ .(1/48)
126- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَرٍ قَالَ : كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَايِشِ نَخْلٍ . رَوَاهُ أَحْمَد وَمُسْلِمٌ وَابْن مَاجَهْ ، وَحَايِشِ نَخْلٍ : أَيْ جَمَاعَتُهُ وَلا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ .
127- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ ، وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ : الْبَرَازُ بِفَتْحِ الْبَاء اسْمٌ لِلْفَضَاءِ الْوَاسِعِ مِنْ الأَرْضِ كَنَّى بِهِ عَنْ حَاجَةِ الإِنْسَانِ كَمَا كَنَّى عَنْهَا بِالْغَائِطِ وَالْخَلاءِ . وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الإِبْعَادِ لِقَاضِي الْحَاجَةِ .
قَوْلُهُ : ( هَدَفٌ ) الْهَدَفُ مُحَرَّكَة : كُلُّ مُرْتَفَعٍ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ كَثِيبِ رَمْلٍ أَوْ جَبَلٍ . وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى اسْتِحْبَاب أَنْ يَكُونَ قَاضِي الْحَاجَةِ مُسْتَتِرًا حَالَ الْفِعْلِ بِمَا يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الْغَيْرِ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ .
بَابُ نَهْي الْمُتَخَلِّي عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا
128- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ فَلا يَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلا يَسْتَدْبِرْهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .(1/49)
129- وَفِي رِوَايَة الْخَمْسَة إلا التِّرْمِذِيَّ قَالَ : « إنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلا يَسْتَدْبِرْهَا وَلا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ » . وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ وَيَنْهَى عَنْ الرَّوْثَةِ . وَالرِّمَّةِ وَلَيْسَ لأَحْمَدَ فِيهِ الأَمْرُ بِالأَحْجَارِ .
130- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا » . قَالَ أَبُو أَيُّوبَ : فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَة فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا بِالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ ، وَفِيهِ دَلالَة عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الاسْتِنْجَاءُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ . وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الاسْتِطَابَةِ بِالْيَمِينِ . وَفِيهِ دَلالَة عَلَى كَرَاهَة الاسْتِجْمَار بِالرَّوْثَةِ ، وَكَذَلِكَ الرِّمَّة وَهِيَ الْعَظْمُ ؛ لأَنَّهَا مِنْ طَعَامِ الْجِنّ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ جَوَازِ ذَلِكَ بَيْنَ الْبُنْيَانِ
131- عَنْ ابْن عُمَرَ قَالَ : رَقِيتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَاجَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَة .(1/50)
132- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ .
133- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِفُرُوجِهِمْ فَقَالَ : « أَوْ قَدْ فَعَلُوهَا ؟ حَوِّلُوا مَقْعَدَتِي قِبَلَ الْقِبْلَةِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
134- وَعَنْ مَرْوَانَ الأَصْفَرِ قَالَ : رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَبُولُ إلَيْهَا فَقُلْتُ : أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : بَلَى ، إنَّمَا نُهِيَ عَنْ هَذَا فِي الْفَضَاءِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ فَلا بَأْسَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/51)
قَوْلُهُ : ( رَقِيتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ ) إلخ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى جَوَازِ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيق عِيسَى الْحَنَّاطِ قَالَ : قُلْت لِلشَّعْبِيِّ : إنِّي لأَعْجَبُ لاخْتِلافِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ قَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْن عُمَرَ : ( دَخَلْتُ إلَى بَيْتِ حَفْصَةَ فَحَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ ، فَرَأَيْتُ كَنِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ) . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : ( إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلا يَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلا يَسْتَدْبِرْهَا ) ، قَالَ الشَّعْبِيُّ : صَدَقَا جَمِيعًا ، أَمَّا قَوْل أَبِي هُرَيْرَة فَهُوَ فِي الصَّحْرَاء ، فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا وَمَلائِكَةً وَجِنًّا يُصَلُّونَ ، فَلا يَسْتَقْبِلْهُمْ أَحَدٌ بِبَوْلٍ وَلا غَائِطٍ وَلا يَسْتَدْبِرْهُمْ ، وَأَمَّا كُنُفُكُمْ هَذِهِ فَإِنَّمَا هِيَ بُيُوتٌ لا قِبْلَةَ فِيهَا . وَقَالَ البخاري : ( باب لا تستقبل القبلة بغائط ولا بول إلا عند البناء جدار أو نحوه ) . قَالَ الحَافظُ : وهذا قول الجمهور ، وهو أَعْدل الأقوال لإعْماله جميع الأدلة .
بَابُ ارْتِيَادِ الْمَكَانِ الرَّخْوِ وَمَا يُكْرَهُ التَّخَلِّي فِيهِ
135- عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : مَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى دَمَثٍ إلَى جَنْبِ حَائِطٍ فَبَالَ ، وَقَالَ : « إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(1/52)
136- وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ قَالُوا . لِقَتَادَةَ : مَا يُكْرَهُ مِنْ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ ؟ قَالَ : يُقَالُ : إنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
137- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « اتَّقُوا اللاعِنَيْنِ » . قَالُوا : وَمَا اللاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! قَالَ : « الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
138- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْحِمْيَرِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثَّلاثَ : الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ : هُوَ مُرْسَلٌ .
139- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْوِسْوَاسِ مِنْهُ » . رَوَاهُ الْخَمْسَة لَكِنَّ قَوْلُهُ : « ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ » . لأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد فَقَطْ .
140- وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/53)
قَوْلُهُ : « إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ قَضَاء الْحَاجَة أَنْ يَعْمِدَ إلَى مَكَان لَيِّنٍ ؛ لِيَأْمَنَ مِنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ وَنَحْوه .
وَقَوْلُهُ : ( نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ ) يَدُلّ عَلَى كَرَاهَةِ الْبَوْلِ فِي الْحُفَرِ الَّتِي تَسْكُنهَا الْهَوَامُّ وَالسِّبَاعُ .
وَقَوْلُهُ : « اتَّقُوا اللاعِنَيْنِ » قَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْمُرَاد بِاللاعِنَيْنِ الأَمْرَانِ الْجَالِبَانِ لِلَّعْنِ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا لُعِنَ وَشُتِمَ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيم التَّخَلِّي فِي طُرُق النَّاس وَظِلِّهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِتَنْجِيسِ مَنْ يَمُرّ بِهِ وَنَتِنِهِ وَاسْتِقْذَارِهِ .
وَقَوْلُهُ : « اتَّقُوا الْمَلاعِنَ الثلاث » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى الْمَنْع مِنْ قَضَاء الْحَاجَة فِي الْمَوَارِد وَالظِّلّ وَقَارِعَة الطَّرِيق لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الأَذِيَّة لِلْمُسْلِمِينَ .
وَقَوْلُهُ : « لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ » قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْبَوْلِ فِي مَحَلِّ الاغْتِسَالِ لأَنَّهُ يَبْقَى أَثَرُهُ ، فَإِذَا انْتَضَحَ إلَى الْمُغْتَسَلِ شَيْءٌ مِنْ الْمَاءِ بَعْد وُقُوعِهِ عَلَى مَحَلِّ الْبَوْلِ نَجَّسَهُ ، فَلا يَزَالُ عِنْد مُبَاشَرَةِ الاغْتِسَالِ مُتَخَيَّلاً لِذَلِكَ فَيُفْضِي بِهِ إلَى الْوَسْوَسَةِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ إذَا كَانَ لِلْبَوْلِ مَسْلَكٌ يَنْفُذُ فِيهِ فَلا كَرَاهَةَ .
بَابُ الْبَوْلِ فِي الأَوَانِي لِلْحَاجَةِ(1/54)
141- عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رَقِيقَةَ عَنْ أُمِّهَا قَالَتْ : كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ بِاللَّيْلِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
142- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : يَقُولُونَ : إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْصَى إلَى عَلِيٍّ لَقَدْ دَعَا بِالطَّسْتِ لِيَبُولَ فِيهَا فَانْخَنَثَتْ نَفْسُهُ وَمَا شَعُرْتُ فَإِلَى مَنْ أَوْصَى ؟ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ . انْخَنَثَتْ : أَيْ انْكَسَرَتْ وَانْثَنَتْ .
قَوْلُهُ : ( مِنْ عَيْدَانٍ ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَالعَيْدَان : بِالفَتْحِ : الطِوَالُ مِنَ النَّخْلِ واحدتها بهاء . ومنه كَانَ قَدَحٌ يَبُولُ فِيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمهُ اللهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إعْدَادِ الآنِيَةِ لِلْبَوْلِ فِيهَا بِاللَّيْلِ . وَهَذَا مِمَّا لا أَعْلَمُ فِيهِ خِلافًا .
بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبَوْلِ قَائِمًا
143- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَالَ قَائِمًا فَلا تُصَدِّقُوهُ مَا كَانَ يَبُولُ إلا جَالِسًا . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَبَا دَاوُد ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ .
144- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ قَائِمًا . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
145- وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - انْتَهَى إلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا فَتَنَحَّيْتُ فَقَالَ : « ادْنُهْ » فَدَنَوْتُ حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
وَالسُّبَاطَةُ : مَلْقَى التُّرَابِ وَالْقُمَامة .(1/55)
قَوْلُهَا : ( مَا كَانَ يَبُولُ إلا جَالِسًا ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانَ يَبُولُ حَالَ الْقِيَامِ بَلْ كَانَ هَدْيُهُ فِي الْبَوْلِ الْقُعُودَ فَيَكُونُ الْبَوْلُ حَالَ الْقِيَامِ مَكْرُوهًا وَلَكِنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ هَذَا لا يَنْفِي إثْبَاتَ مَنْ أَثْبَتَ وُقُوعَ الْبَوْلِ مِنْهُ حَالَ الْقِيَامِ . وَلا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ فِعْلِهِ هُوَ الْقُعُودُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَوْلَهُ قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ ، وَقِيلَ : إنَّمَا فَعَلَهُ لِوَجَعٍ كَانَ بِمَأْبِضِهِ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي : الصَّحِيحُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ تَنَزُّهًا وَبُعْدًا مِنْ إصَابَةِ الْبَوْلِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَلَعَلَّهُ لَمْ يَجْلِسْ لِمَانِعٍ كَانَ بِهَا أَوْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ .
146- وَقَدْ رَوَى الْخَطَّابِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَالَ قَائِمًا مِنْ جُرْحٍ كَانَ بِمَأْبِضِهِ .
وَيُحْمَلُ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى غَيْرِ حَالِ الْعُذْرِ ، وَالْمَأْبِضُ مَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كَانَتْ الْعَرَبُ تَسْتَشْفِي لِوَجَعِ الصُّلْبِ بِالْبَوْلِ قَائِمًا فَيُرَى أَنَّهُ لَعَلَّهُ كَانَ بِهِ إذْ ذَاكَ وَجَعُ الصُّلْبِ .
بَابُ وُجُوبِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ أَوْ الْمَاءِ(1/56)
147- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ فَإِنَّهَا تَجْزِئ عَنْهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ حَسَنٌ .
148- وَعَنْ ابْن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِقَبْرَيْنِ ، فَقَالَ : « إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
149- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيُّ : « وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ » ، ثُمَّ قَالَ : « بَلَى كَانَ أَحَدُهُمَا » ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
150- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
قَوْلُهُ : « فَإِنَّهَا تَجْزِئ عَنْهُ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَيْ تَكْفِيه وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِكِفَايَةِ الأَحْجَارِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ .
قَوْلُهُ : « وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ » . ثُمَّ قالَ : « بَلَى » أَي إِنَّهُ كبير ، أَي : لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي مَشَقَّةِ الاحْتِرَازِ وَهُوَ كَبِير لوقُوع العَذَابِ بسبَبِه .
قَوْلُهُ : « تَنَزَّهُوا مِنْ الْبَوْلِ ، فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْمُقْبِرِ مِنْهُ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الاسْتِنْزَاهِ مِنْ الْبَوْلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِحَالِ الصَّلاةِ .
بَابُ النَّهْيِ عَنْ الاسْتِجْمَارِ بِدُونِ الثَّلاثَةِ الأَحْجَارِ(1/57)
151- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : قِيلَ لِسَلْمَانَ : عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ ، فَقَالَ سَلْمَانُ : أَجَلْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلاثَةِ أَحْجَارٍ ، أَوْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
152- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : قَالَ : « إذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ ثَلاثًا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
153- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ ، وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْحَجَرَ لَيْسَ مُتَعَيَّنًا ، بَلْ تَقُومُ الْخِرْقَةُ وَالْخَشَبُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مَقَامَهُ ، لِنَهْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْعَظْمِ وَالْبَعْرِ ، وفي الحديث استحباب قطع الاسْتِجْمَار على وترٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى وِتْرٍ سُنَّةٌ فِيمَا إذَا زَادَ عَلَى ثَلاثً جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ .
بَابٌ فِي إلْحَاقِ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الأَحْجَارِ بِهَا
154- عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ الاسْتِطَابَةِ فَقَالَ : « بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .(1/58)
155- وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ : أَمَرَنَا - يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - - أَنْ لا نَكْتَفِيَ بِدُونِ ثَلاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَلا عَظْمٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلَوْلا أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَرَ وَمَا كَانَ نَحْوَهُ فِي الإِنْقَاءِ لَمْ يَكُنْ لاسْتِثْنَاءِ الْعَظْمِ وَالرَّوْثِ مَعْنًى ، وَلا حَسُنَ تَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْهُمَا بِكَوْنِهِمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ .
156- وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ التَّعْلِيلُ بِذَلِكَ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهَذَا الْكَلامُ هُوَ وَجْهُ تَرْجَمَةِ الْبَابِ بِتِلْكَ التَّرْجَمَةِ وَهُوَ حَسَنٌ .
بَابُ النَّهْيِ عَنْ الاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ
157- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُتَمَسَّحَ بِعَظْمٍ أَوْ بَعْرَةٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
158- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ بِعَظْمٍ وَقَالَ : « إنَّهُمَا لا يُطَهِّرَانِ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ الْعَظْمِ وَالرَّوْثِ وَعَدَمِ الاجْتِزَاءِ بِهِمَا .
بَابُ النَّهْيِ أَنْ يُسْتَنْجَى بِمَطْعُومٍ أَوْ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ(1/59)
159- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ » . قَالَ : فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ ، فَقَالَ : « لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « فَلا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
160- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَحْمِلُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إدَاوَةً لِوُضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتْبَعُهُ بِهَا ، قَالَ : « مَنْ هَذَا » ؟ قَالَ : أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : « ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضُ بِهَا وَلا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلا بِرَوْثَةٍ » فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ أَحْمِلُهَا فِي طَرَفِ ثَوْبِي حَتَّى وَضَعْتُ إلَى جَنْبِهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ حَتَّى إذَا فَرَغَ مَشَيْتُ ، فَقُلْتُ : مَا بَالُ الْعَظْمِ وَالرَّوْثَةِ ؟ قَالَ : « هُمَا مِنْ طَعَامِ الْجِنِّ وَإِنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنٍّ نَصِيبِينَ - وَنِعْمَ الْجِنُّ - فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْتُ اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلا بِرَوْثَةٍ إلا وَجَدُوا عَلَيْهَا طَعَامًا » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
قَوْلُهُ : « وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ ، فَلا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا » . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ إطْعَامِ الدَّوَابِّ النَّجَاسَةَ .(1/60)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لأَنَّ تَعْلِيلَ النَّهْيِ عَنْ الاسْتِجْمَارِ بِالْبَعْرَةِ بِكَوْنِهَا طَعَامَ دَوَابِّ الْجِنِّ يُشْعِرُ بِذَلِكَ .
بَابُ مَا لا يُسْتَنْجَى بِهِ لِنَجَاسَتِهِ
161- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : أَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْ فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : « هَذِهِ رِكْسٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ .
162- وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ : « ائْتِنِي بِحَجَرٍ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثَةِ .
بَابُ الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ
163- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ الْخَلاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلامٌ نَحْوِي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
164- وَعَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَغْسِلُوا عَنْهُمْ أَثَرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَإِنَّا نَسْتَحِي مِنْهُمْ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(1/61)
165- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ : ? فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ? قَالَ : كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
قَوْلُهُ : ( فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَالسُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ . وعن ابْنِ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ ? فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ? فَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا : إنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ . رَوَاهُ الْبَزَّارُ . قَالَ الْحَافِظُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ وَالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَمَالِ التَّطْهِيرِ .
بَابُ وُجُوبِ تَقْدِمَةِ الاسْتِنْجَاءِ عَلَى الْوُضُوءِ
166- عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : أَرْسَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْمِقْدَادَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُهُ عَنْ الرَّجُلِ يَجِدُ الْمَذْيَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يَغْسِلُ ذَكَرَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
167- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَلَمْ يُنْزِلْ ، قَالَ : « يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي » . أَخْرَجَاهُ .(1/62)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْكَلامُ عَلَى الْحَدِيثِ مَحَلُّهُ الْغُسْلُ وَسَيَأْتِي الْخِلافُ فِي نَسْخِهِ وَعَدَمِهِ . وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْرَدَهُ هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الاسْتِنْجَاءِ عَلَى الْغُسْلِ لِتَرْتِيبِهِ الْوُضُوءَ عَلَى غَسْلِ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُ . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَحُكْمُ هَذَا الْخَبَرِ فِي تَرْكِ الْغُسْلِ مِنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَسَيُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ .
أَبْوَابُ السِّوَاكِ وَسُنَنِ الْفِطْرَةِ
بَابُ الْحَثِّ عَلَى السِّوَاكِ وَذِكْرِ مَا يَتَأَكَّدُ عِنْدَهُ
168- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَهُوَ لِلْبُخَارِيِّ تَعْلِيقٌ .
169- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَخَّرْتُ صَلاةَ الْعِشَاءِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَلأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
170- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
171- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ : « لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ » .
172- وَلِلْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا : « لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ » .
173 ، 174- قَالَ : وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ جَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .(1/63)
175- وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ بن هَانئ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ ؟ قَالَتْ : بِالسِّوَاكِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .
176- وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ ، وَالشَّوْصُ : الدَّلْكُ .
177- وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : كُنَّا نُؤْمَرُ بِالسِّوَاكِ إذَا قُمْنَا مِنْ اللَّيْلِ .
178- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَرْقُدُ لَيْلاً وَلا نَهَارًا فَيَسْتَيْقِظُ إلا تَسَوَّكَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
الْفِطْرَةُ : الدِّينُ . والأحاديث المذكورة تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ السِّوَاكِ على حَالٍ وفي كُلِّ وَقْت ، ويتأكد عند الوضوء والصلاة ودخول المنزل وَالْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ .
بَابُ تَسَوُّكِ الْمُتَوَضِّئِ بِأُصْبُعِهِ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ
179- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ دَعَا بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ ثَلاثًا وَتَمَضْمَضَ ثَلاثًا ، فَأَدْخَلَ بَعْضَ أَصَابِعِهِ فِي فِيهِ ، وَاسْتَنْشَقَ ثَلاثًا ، وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاثًا ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَاحِدَةً - وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ - وَقَالَ : هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/64)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَأْتِي الْكَلامُ عَلَى أَطْرَافِهِ فِي الْوُضُوءِ ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلاسْتِدْلالِ بِقَوْلِهِ : ( فَأَدْخَلَ بَعْضَ أَصَابِعِهِ فِي فِيهِ ) أَنَّهُ يَجْزِئ التَّسَوُّكُ بِالأُصْبُعِ .
بَابُ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ
180- عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - مَا لا أُحْصِي - يُتَسَوَّكُ وَهُوَ صَائِمٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
181- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
182- قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ .
183- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَبِهِ احْتَجَّ مَنْ كَرِهَ السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ - يَعْنِي حَدِيثُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ - يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ مُسْتَدِلًّا بِحَدِيثِ الْخُلُوفُ . إِلِى أَنْ قَالَ : فَالْحَقُّ أَنَّه يستحب السِّوَاك لِلصَّائِمِ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ . وَهَوَ مَذْهَبُ جمهور الأئمة .
بَابُ سُنَنِ الْفِطْرَةِ(1/65)
184- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ : الاسْتِحْدَادُ ، وَالْخِتَانُ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ، وَنَتْفُ الإِبْطِ ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
185- وَعَنْ أَنْسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ ، وَتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ ، وَنَتْفِ الإِبْطِ ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالُوا : وَقَّتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
186- وَعَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الشَّارِبِ ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَالسِّوَاكُ ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ ، وَقَصُّ الأَظْفَارِ ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ، وَنَتْفُ الإِبْطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ » . وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ - يَعْنِي الاسْتِنْجَاءَ - قَالَ زَكَرِيَّا : قَالَ مُصْعَبٌ : وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إلا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ .(1/66)
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ « خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ » أَنَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ إذَا فُعِلَتْ اتَّصَفَ فَاعِلُهَا بِالْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ الْعِبَادَ عَلَيْهَا وَحَثَّهُمْ عَلَيْهَا وَاسْتَحَبَّهَا لَهُمْ لِيَكُونُوا عَلَى أَكْمَلِ الصِّفَاتِ وَأَشْرَفِهَا صُورَةً . والاسْتِحْدَادُ سُنَّةٌ بِالاتِّفَاقِ ، وَيَكُونُ بِالْحَلْقِ وَالْقَصِّ وَالنَّتْفِ وَالنُّورَةِ . وَالْخِتَانُ اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَيْهِ . وَقَصُّ الشَّارِبِ سُنَّةٌ بِالاتِّفَاقِ وكذلك وَنَتْفُ الإِبْطِ تَقْلِيمُ الأَظْفَارِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
قَوْلُهُ : « وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ » قَالَ الشَّارِحُ : إعْفَاءُ اللِّحْيَةِ : تَوْفِيرُهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ « وَفِّرُوا اللِّحَى » . وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْفُرْسِ قَصُّ اللِّحْيَةِ فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِإِعْفَائِهَا . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : يُكْرَهُ حَلْقُ اللِّحْيَةِ وَقَصِّهَا وَتَحْرِيفِهَا . وَأَمَّا الأَخْذُ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا فَحَسَنٌ . وَتُكْرَهُ الشُّهْرَةُ فِي تَعْظِيمِهَا كَمَا تُكْرَهُ فِي قَصِّهَا وَجَزِّهَا . وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحِدَّ بِحَدٍّ بَلْ قَالَ : لا يَتْرُكُهَا إلَى حَدِّ الشُّهْرَةِ وَيَأْخُذُ مِنْهَا ، وَكَرِهَ مَالِكٌ طُولَهَا جِدًّا . وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّ بِمَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ فَتزَالُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ الأَخْذَ مِنْهَا إلا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ .
قَوْلُهُ : « وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ » أَي عُقَد الأَصَابِعِ وَمَعَاطِفُهَا .(1/67)
قَوْلُهُ : ( وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إلا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ ) قَالَ الشَّارِحُ : هَذَا شَكٌّ مِنْهُ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَلَعَلَّهَا الْخِتَانُ الْمَذْكُورُ مَعَ الْخَمْسِ الأُولَى . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ أَوْلَى .وَقَدْ اسْتَدَلَّ الرَّافِعِيُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالاسْتِنْشَاقَ سُنَّةٌ ، وَرُوِيَ الْحَدِيثُ بِلَفْظِ : « عَشْرٌ مِنْ السُّنَّةِ » وَرَدَّهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ بِأَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ : « عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ » . قَالَ : بَلْ وَلَوْ وَرَدَ بِلَفْظِ ( مِنْ السُّنَّةِ ) لَمْ يَنْتَهِضْ دَلِيلاً عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لأَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَة لا السُّنَّةُ بِالْمَعْنَى الاصْطِلاحِيِّ .
بَابُ الْخِتَانِ
187- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « اخْتَتَنَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً ، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ » . مُتَّفَق عَلَيْهِ إلا أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَذْكُرْ السِّنِينَ .
188- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ وَكَانُوا لا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
189- وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أُخْبِرْتُ عَنْ عُثَيْمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : قَدْ أَسْلَمْت ، قَالَ : « أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ » يَقُولُ : احْلِقْ .(1/68)
190- قَالَ : وَأَخْبَرَنِي آخَرُ مَعَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : لآخَرَ : « أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : خِتَانُ الذَّكَرِ : قَطْعُ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُسْتَوْعَبَ مِنْ أَصْلِهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْحَشَفَةِ ، وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ أَنْ لا يَبْقَى مِنْهَا مَا يَتَغَشَّى بِهِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَيُسَمَّى خِتَانُ الرَّجُلِ : إعْذَارٌ بِذَالٍ ، وَخِتَانُ الْمَرْأَةِ : خَفْضًا .
قَوْلُهُ : « بِالْقَدُومِ » قَالَ الشَّارِحُ : بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِ وَتَخْفِيفِهَا : آلَةُ النِّجَارَةِ . وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْخِتَانِ لا تَخْتَصُّ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي حَالِ الصِّغَرِ ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَخْتِنَ الصَّغِيرَ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَهُمْ أَيْضًا وَجْهٌ أَنَّهُ يُحْرِمُ قَبْلَ عَشْرِ سِنِينَ ، وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَتَنَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ وِلادَتِهِمَا . أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ . قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ : وَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يخْتنَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ وِلادَتِهِ .
بَابُ أَخْذِ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ(1/69)
191- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
192- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى ، خَالِفُوا الْمَجُوسَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
193- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : « خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَاحْفُوا الشَّوَارِبَ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
زَادَ الْبُخَارِيُّ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ مَا يُقَصُّ مِنْ الشَّارِبِ ، وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى اسْتِئْصَالِهِ وَحَلْقِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ : « أَحْفُوا وَانْهَكُوا » . وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ ، وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى مَنْعِ الْحَلْقِ وَالاسْتِئْصَالِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَكَانَ يَرَى تَأْدِيبَ مَنْ حَلَقَهُ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَقَالَ حَنْبَلٌ : قِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تَرَى لِلرَّجُلِ يَأْخُذُ شَارِبَهُ وَيُحْفِيهِ أَمْ كَيْفَ يَأْخُذُهُ ؟ قَالَ : إنْ أَحْفَاهُ فَلا بَأْسَ ، وَإِنْ أَخَذَهُ قَصًّا فَلا بَأْسَ . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الْمُغْنِي : هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُحْفِيَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقُصَّهُ .(1/70)
قَوْلُهُ : « وَأَرْخُوا اللِّحَى » مَعْنَاهُ اُتْرُكُوهَا وَلا تَتَعَرَّضُوا لَهَا بِتَغْيِيرٍ . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الأَحَادِيثِ خَمْسُ رِوَايَاتٍ « اعْفُوا » ، « وَأَوْفُوا » ، « وَأَرْخُوا » ، « وَأَرْجُوا » ، « وَوَفِّرُوا » ، وَمَعْنَاهَا كُلُّهَا : تَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا .
بَابُ كَرَاهَةِ نَتْفِ الشَّيْبِ
194- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الإِسْلامِ إلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ نَتْفِ الشَّيْبِ لأَنَّهُ مُقْتَضَى النَّهْيِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ ، وَقَدْ ذَهَبَتْ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ إلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ .
بَابُ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَنَحْوِهِمَا وَكَرَاهَةِ السَّوَادِ
195- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : جِيءَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَأَنَّ رَأْسَهُ ثَغَامَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « اذْهَبُوا بِهِ إلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَلْتُغَيِّرْهُ بِشَيْءٍ وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ » رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .(1/71)
196- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ شَابَ إلا يَسِيرًا وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُ خَضَّبَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
197- وَزَادَ أَحْمَدُ قَالَ : وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِي قُحَافَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ - يَحْمِلُهُ ثُمَّ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرٍ : « لَوْ أَقْرَرْت الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لأَتَيْنَاهُ » . تَكْرِمَةً لأَبِي بَكْرٍ فَأَسْلَمَ وَلِحْيَتُهُ وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « غَيِّرُوهُمَا وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ » .
198- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هُوَ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ بِالْحِنَّاءِ وَبِالْكَتَمِ .
199- وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
200- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .(1/72)
201- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
202- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ ، فَقَالَ : « مَا أَحْسَنَ هَذَا » ، فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ ، فَقَالَ : « هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا » فَمَرَّ آخَرُ ، وَقَدْ خَضَّبَ بِالصُّفْرَةِ ، فَقَالَ : « هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
203- وَعَنْ أَبِي رَمْثَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَكَانَ شَعْرُهُ يَبْلُغُ كَتِفَيْهِ أَوْ مَنْكِبَيْهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
204- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبِي دَاوُد : أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَبِي وَلَهُ لِمَّةٌ بِهَا رَدْعٌ مِنْ حِنَّاءٍ . رَدْعٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ : أَيْ لَطْخٌ يُقَالُ بِهِ رَدْعٌ مِنْ دَمٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ .
قَوْلُهُ : ( وكانَ رأسه ثَغَامَةٌ ) إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِاللِّحْيَةِ وَعَلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ ، قَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ حَرَامٌ .
قَوْلُهُ : « وَالْكَتَمُ » قَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَالْكَتَمُ مُحَرَّكَةٌ ، وَالْكُتْمَانُ بِالضَّمِّ نَبْتٌ يُخْلَطُ بِالْحِنَّاءِ وَيُخْتَضَبُ بِهِ الشَّعْرُ .(1/73)
: وَهُوَ النَّبْتُ الْمَعْرُوفُ بِالْوَسمَةِ يَعْنِي وَرَقَ النِّيلِ . وَفِي كُتُبِ الطِّبِّ أَنَّهُ نَبْتٌ مِنْ نَبْتِ الْجِبَالِ وَوَرَقُهُ كَوَرَقِ الآسِ يُخَضَّبُ بِهِ مَدْقُوقًا .
قَوْلُهُ : « السِّبْتِيَّةُ » قَالَ الشَّارِحُ : بِكَسْرِ السِّينِ جُلُودُ الْبَقَرِ ، وَكُلُّ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ أَوْ بِالْقَرْظِ ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ .
قَوْلُهُ : ( وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ ) قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ سُنَّةٌ .
قَوْلُهُ : « إنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ » قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ وَالْكَتَمَ مِنْ أَحْسَنِ الصِّبَاغَاتِ الَّتِي يُغَيَّرُ بِهَا الشَّيْبُ .
قَوْلُهُ : « إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ » قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مشروعِيَّةِ الصِّبَاغِ وَتَغْيِيرِ الشَّيْبِ هِيَ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَبِهَذَا يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الْخِضَابِ .
قَوْلُهُ : ( مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ ، فَقَالَ : « مَا أَحْسَنَ هَذَا » ، إِلى آخَرهِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْخَضْبِ بِالْحِنَّاءِ عَلَى انْفِرَادِهِ ، فَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ الْكَتَمُ كَانَ أَحْسَنَ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضْبَ بِالصُّفْرَةِ أَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
بَابُ جَوَازِ اتِّخَاذِ الشَّعْرِ وَإِكْرَامِهِ وَاسْتِحْبَابِ تَقْصِيرِهِ(1/74)
205- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدُونَ الْجُمَّةِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
206- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَضْرِبُ شَعْرُهُ مَنْكِبَيْهِ .
207- وَفِي لَفْظٍ : كَانَ شَعْرُهُ رَجِلاً لَيْسَ بِالْجَعْدِ ؛ وَلا السَّبْطِ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ . أَخْرَجَاهُ .
208- وَلأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ كَانَ شَعْرُهُ إلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ .
209- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
210- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التَّرَجُّلِ إلا غِبًّا . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
211- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ جُمَّةٌ ضَخْمَةٌ ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرَهُ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا وَأَنْ يَتَرَجَّلَ كُلَّ يَوْمٍ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
قَوْلُهَا : ( كَانَ شَعْرُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدونَ الْجُمَّةِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
الْوَفْرَةُ : الشَّعْرُ إلَى شَحْمَةِ الأُذُنِ ، فَإِذَا جَاوَزَهَا فَهُوَ اللِّمَّةُ ، فَإِذَا بَلَغَ الْمَنْكِبَيْنِ فَهُوَ الْجُمَّةُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَرْكِ الشَّعْرِ عَلَى الرَّأْسِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ .(1/75)
قَوْلُهُ : ( بَيْنَ أُذُنِيهِ وَعَاتِقِهِ ) قَالَ الشَّارِحُ : والحديث يدل على استحباب ترك الشعر وإرساله بين المنكبين أو بين الأذنين والعاتق .
قَوْلُهُ : ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التَّرَجُّلِ إلا غِبًّا ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : التَّرَجُّلُ وَالتَّرْجِيلُ : أَيْ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً كَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ . وَفَسَّرَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَنْ يَسْرَحَهُ يَوْمَا وَيَدَعَهُ يَوْمًا وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَأَصْلُ الْغِبِّ فِي إيرَادِ الإِبِلِ أَنْ تَرِدَ الْمَاءَ يَوْمًا وَتَدَعَهُ يَوْمًا . وَفِي الْقَامُوسِ : الْغِبُّ فِي الزِّيَارَةِ أَنْ تَكُونَ كُلَّ أُسْبُوعٍ وَمِنْ الْحُمَّى مَا تَأْخُذُ يَوْمًا وَتَدَعُ يَوْمًا . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الاشْتِغَالِ بِالتَّرْجِيلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ التَّرَفُّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الإِرْفَاهِ .(1/76)
قَوْلُهُ : ( فَأَمَرَهُ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا وَأَنْ يَتَرَجَّلَ كُلَّ يَوْمٍ ) . قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ رِجَالُ إسْنَادِهِ كُلُّهُمْ رِجَالُ الصَّحِيحِ . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي جُمَّةً أَفَأُرَجِّلُهَا ؟ قَالَ : « نَعَمْ وَأَكْرِمْهَا » . فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَنَهَا فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : « نَعَمْ وَأَكْرِمْهَا » . وَعَلَى هَذَا فَلا يُعَارِضُ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّرَجُّلِ إلا غِبًّا لأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ مُجَرَّدُ الإِذْنِ بِالتَّرْجِيلِ وَالإِكْرَامِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الْقَزَعِ وَالرُّخْصَةِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ
212 - عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْقَزَعِ ، فَقِيلَ لِنَافِعٍ : مَا الْقَزَعُ ؟ قَالَ : أَنْ يُحْلَقَ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ وَيُتْرَكَ بَعْضٌ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
213- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى صَبِيًّا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ : « احْلِقُوا كُلَّهُ أَوْ ذَرُوا كُلَّهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .(1/77)
214- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ ثُمَّ أَتَاهُمْ ، فَقَالَ : « لا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ اُدْعُوا لِي بَنِي أَخِي » . قَالَ : فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّنَا أَفْرُخٌ فَقَالَ : « اُدْعُوا لِي الْحَلاقَ » . قَالَ : فَجِيءَ بِالْحَلاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَالْحِكْمَةُ فِي كَرَاهَةِ الْقَزَعِ أَنَّهُ يُشَوِّهُ الْخَلْقَ ؛ وَقِيلَ : لأَنَّهُ زِيُّ أَهْلِ الشِّرْكِ . وَقِيلَ : لأَنَّهُ زِيُّ الْيَهُودِ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ حَسَّانَ قَالَ : دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي الْمُغِيرَةُ قَالَتْ : وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ غُلامٌ وَلَكَ قَرْنَانِ أَوْ قُصَّتَانِ فَمَسَحَ رَأْسَكَ وَبَرَّكَ عَلَيْكَ وَقَالَ : احْلِقُوا هَذَيْنِ أَوْ قَصُّوهُمَا فَإِنَّ هَذَا زِيُّ الْيَهُودِ .
بَابُ الاكْتِحال والادهان والتَّطيب
215- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مِنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
216- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ لَهُ مُكْحَلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلاثَةً فِي هَذِهِ وَثَلاثَةً فِي هَذِهِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ .
217- وَأَحْمَدُ ، وَلَفْظُهُ : كَانَ يَكْتَحِلُ بِالإِثْمِدِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ وَكَانَ يَكْتَحِلُ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلاثَةَ أَمْيَالٍ .(1/78)
218- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : « حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
219- وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَجْمِرُ بِالأَلُوَّةِ غَيْرَ مُطْرَاةٍ ، وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الأَلُوَّةِ وَيَقُولُ : هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَمُسْلِمٌ ، الأَلُوَّةُ : الْعُودُ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ .
220- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ َنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
221- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الْمِسْكِ : « هُوَ أَطْيَبُ طِيبِكُمْ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ .
222- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَطَيَّبُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ بِذِكَارَةِ الطِّيبِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ .
223- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ طِيبَ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ ، وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
قَوْلُهُ : « مَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الإِيتَارِ فِي الْكُحْلِ .(1/79)
قَوْلُهُ : ( كَانَ يَسْتَجْمِرُ بِالأَلُوَّةِ غَيْرَ مُطْرَاةٍ ) . قَالَ الشَّارِحُ : أَيْ غَيْرُ مَخْلُوطَةٍ بِغَيْرِهَا مِنْ الطِّيبِ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّبَخُّرِ بِالْعُودِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ .
قَوْلُهَا : ( بِذِكَارَةِ الطِّيبِ ). قَالَ الشَّارِحُ : الذِّكَارَةُ بِالْكَسْرِ مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ . وَالْمُرَادُ الطِّيبُ الَّذِي لا لَوْنَ لَهُ ؛ لأَنَّ طِيبَ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ .
بَابُ الإِطْلاءِ بِالنُّورَةِ
224- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَطْلَى بَدَأَ بِعَوْرَتِهِ فَطَلاهَا بِالنُّورَةِ وَسَائِرَ جَسَدِهِ أَهْلُهُ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ وَاثِلَةَ ابْنِ الأَسْقَعِ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَطْلَى يَوْمَ فَتْحِ خَيْبَرَ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَنَوَّرْ ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَنَوَّرُ تَارَةً ، وَيَحْلِقُ أُخْرَى .
أَبْوَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ فَرْضِهِ وَسُنَنِهِ
بَابُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ لَهُ
225- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .(1/80)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهَذَا الْحَدِيثُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الإِسْلامِ حَتَّى قِيلَ : إنَّهُ ثُلُثُ الْعِلْمِ . وَوَجْهُهُ أَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ وَلِسَانِهِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَرْجَحُهَا ، لأَنَّهُ يَكُونُ عِبَادَةً بِانْفِرَادِهِ دُونَ الآخَرِينَ . قَالَ الْحَافِظُ: وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْمَقَاصِدِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَسَائِلِ وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَتْ الْحَنَفِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِهَا لِلْوُضُوءِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالنِّيَّةُ : الْقَصْدُ وَهُوَ عَزِيمَةُ الْقَلْبِ .
قَوْلُهُ : « وَإِنَّمَا لأمْرِئٍ مَا نَوَى » فِيهِ تَحْقِيقٌ لاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالإِخْلاصِ فِي الأَعْمَالِ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ . وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ مَنْ نَوَى شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ .
قَوْلُهُ : « فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ » . أَيْ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ نِيَّةً وَقَصْدًا ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ حُكْمًا وَشَرْعًا . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ وَأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ الأَعْمَالِ بِدُونِهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ .
بَابُ التَّسْمِيَةِ لِلْوُضُوءِ
226- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لا صَلاةَ لِمَنْ لا وُضُوءَ لَهُ وَلا وُضُوءَ لِمَنْ لا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .(1/81)
227- وَلأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ ، وَالْجَمِيعُ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ قَرِيبٌ ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ رَبَاحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَعْنِي حَدِيثَ : سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ، وَسُئِلَ إِسْحَاقَ بْنُ رَاهْوَيْهِ أَيُّ حَدِيثٍ أَصَحُّ فِي التَّسْمِيَةِ ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ .
قَالَ الْحَافِظُ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَجْمُوعَ الأَحَادِيثِ يَحْدُثُ مِنْهَا قُوَّةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلاً . قَالَ الشَّارِحُ : وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ . وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْوُجُوبِ وَالْفَرْضِيَّةِ الْعِتْرَةُ وَالظَّاهِرِيَّةُ وَإِسْحَاقُ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ هِيَ فَرْضٌ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى الذَّاكِرِ ؟ وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِحَدِيثِ « لا تَتِمُّ صَلاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ » .وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الذَّاكِرِ فَقَطْ بِحَدِيثِ « مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ كَانَ طُهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ ، ومن توضأَ ولم يذكر اسم الله كان طهورًا لأعضاء وضوئه » . وأخرجه الدارقطني والبيهقي . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الْمَضْمَضَةِ وَتَأْكِيدِهِ لِنَوْمِ اللَّيْلِ
228- عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَاسْتَوْكَفَ ثَلاثًا أَيْ غَسَلَ كَفَّيْهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .(1/82)
229- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلا يَغْمِسْ يَدَهُ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاثًا فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ الْعَدَدَ .
230- وَفِي لَفْظِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ « إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ » .
231- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلا يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ أَوْ أَيْنَ طَافَتْ يَدُهُ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : إسْنَادٌ حَسَنٌ .(1/83)
قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : « مِنْ نَوْمِهِ » أَخَذَ بِعُمُومِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ فَاسْتَحَبُّوهُ عَقِبَ كُلِّ نَوْمٍ ، وَخَصَّهُ أَحْمَدُ وَدَاوُد بِنَوْمِ اللَّيْلِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ إنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ ، وَإِنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إدْخَالِ الْيَدِ إلَى إنَاءِ الْوَضُوءِ عِنْدَ الاسْتِيقَاظِ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ ، فَالأَمْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى النَّدْبِ ، وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ عَلَى الْوُجُوبِ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ . وَخَرَجَ بِذِكْرِ الإِنَاءِ الْبِرَكُ وَالْحِيَاضُ الَّتِي لا تُفْسَدُ بِغَمْسِ الْيَدِ فِيهَا عَلَى تَقْدِيرِ نَجَاسَتِهَا فَلا يَتَنَاوَلُهَا النَّهْيُ . وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا دَلالَةٌ عَلَى أَنَّ الْغَسْلَ سَبْعًا لَيْسَ عَامًّا لِجَمِيعِ النَّجَاسَاتِ كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ بَلْ خَاصّ بِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ بِاعْتِبَارِ رِيقِهِ ، وَالْجُمْهُورُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ لا يُنَجِّسُ الْمَاءَ إذَا غَمَسَ يَدَهُ فِيهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ حَمَلُوا هَذَا عَلَى الاسْتِحْبَابِ .
232- مِثْلَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/84)
قَالَ الشَّارِحُ : وَإِنَّمَا مَثَّلَ الْمُصَنِّفُ مَحَلَّ النِّزَاعِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الاسْتِنْثَارِ عِنْدَ الاسْتِيقَاظِ ، وَلَمْ يَذْهَبْ إلَى وُجُوبِهِ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا شُرِعَ لأَنَّهُ يُذْهِبُ مَا يُلْصَقُ بِمَجْرَى النَّفْسِ مِنْ الأَوْسَاخِ وَيُنَظِّفُهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِنَشَاطِ الْقَارِئِ وَطَرْدِ الشَّيْطَانِ .?
بَابُ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ
233- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ أَنَّهُ دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ إلَى الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ : « مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
234- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى ، فَفَعَلَ هَذَا ثَلاثًا ثُمَّ قَالَ : هَذَا طُهُورُ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
235- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/85)
236- وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
قَوْلُهُ : ( فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَسْلَهُمَا فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ سُنَّةٌ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
قَالَ الشَّارِحُ : قَد اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ وَالاسْتِنْثَارِ ، وَالْمَذْهَب الْحَقّ وُجُوبُ ذلك .
قَوْلُهُ : ( وَنثَرَ بيدهِ اليسرى ) قَالَ الْمُصَنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَفِيهِ - مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَسْتَنْشِقَ بِالْيَمِينِ ، وَيَسْتَنْثِرَ بِالْيُسْرَى .
قَوْلُهُ : ( أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ حَمَّادٍ غَيْرَ هُدْبَةَ وَدَاوُد بْنِ الْمُحَبَّرِ . وَغَيْرُهُمَا يَرْوِيهِ عَنْهُ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَذْكُرُ أَبَا هُرَيْرَةَ .
قُلْت : وَهَذَا لا يَضُرُّ لأَنَّ هُدْبَةَ ثِقَةٌ مُخَرَّجٌ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَيُقْبَلُ رَفْعُهُ وَمَا يَنْفَرِدُ بِهِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِمَا عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ(1/86)
237- عَنْ الْمِقْدَامِ بْن مَعِدِي كَرِبَ قَالَ : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاثًا ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا ، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاثًا ثَلاثًا ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلاثًا ثَلاثًا ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
238- وَأَحْمَدُ وَزَادَ : وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثًا ثَلاثًا .
239- وَعَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَ : أَتَيْتهَا فَأَخْرَجَتْ إلَيَّ إنَاءً ، فَقَالَتْ : فِي هَذَا كُنْتُ أُخْرِجُ الْوَضُوءَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا ثَلاثًا ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلاثًا ، ثُمَّ يُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلاثًا ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ مُقْبِلاً وَمُدْبِرًا ، ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ .(1/87)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ وَغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ . وَحَدِيثُ عُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الثَّابِتَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ الثَّابِتُ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمْ مُصَرِّحَةٌ بِتَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ . وَالْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ . وَحَدِيثُ الرَّبِيعِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ وَغَسْلِ الْوَجْهِ .
قَالَ الموفق فِي الْمُغْنِي : ولا يجب التَّرْتِيب بَيْنَهما وبين َغَسْل بقية الْوَجْهِ لأَنَّهما من أجزائه ، ولكن المستحب أنْ يبدأ بهما قَبْلَ الْوَجْهِ لأن كل من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه بدأ بهما إلا شيئًا نادرًا . وهل يجب التَّرْتِيب والموالاة بَيْنَهما وبين سائر الأعضاء غير الوجه ؟ على روايتين .
بَابُ الْمُبَالَغَةِ فِي الاسْتِنْشَاقِ
240- عَنْ لَقِيطِ بْنِ صُبْرَةَ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْوُضُوءِ ، قَالَ : « أَسْبِغْ الْوُضُوءَ ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ ، وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
241- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « اسْتَنْثِرُوا مَرَّتَيْنِ بَالِغَتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .(1/88)
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ . وَالْمُرَادُ بِهِ الإِنْقَاءُ وَاسْتِكْمَالُ الأَعْضَاءِ وَعَلَى وُجُوبِ تَخْلِيلِ الأَصَابِعِ ، وَعَلَى وُجُوبِ الاسْتِنْشَاقِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلامُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ ، وَإِنَّمَا كَرِهَ الْمُبَالَغَةَ لِلصَّائِمِ خَشْيَةَ أَنْ يَنْزِلَ إلَى حَلْقِهِ مَا يُفْطِرُهُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ غَسْلِ الْمُسْتَرْسِلِ مِنْ اللِّحْيَةِ
242- عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدِّثْنِي عَنْ الْوُضُوءِ قَالَ : « مَا مِنْكُمْ مِنْ رَجُلٍ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إلا خَرَّتْ خَطَايَا فِيهِ وَخَيَاشِيمِهِ مَعَ الْمَاءِ ، ثُمَّ إذَا غَسَلَ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ إلا خَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ إلا خَرَّتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ إلا خَرَّتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ إلا خَرَّتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ » . أَخَرَجَهُ مُسْلِمٌ .
243- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَالَ فِيهِ : « ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ » .(1/89)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ فَضَائِلِ الْوُضُوءِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ شَأْنِهِ ، وَقَدْ سَاقَه الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى غَسْلِ الْمُسْتَرْسِلِ مِنْ اللِّحْيَةِ ، وَقَدْ اسْتَنْبَطَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحَدِيثِ فَوَائِدَ فَقَالَ :
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ الْمَأْمُورَ بِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى وُصُولِ الْمَاءِ إلَى أَطْرَافِ اللِّحْيَةِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَاخِلَ الْفَمِ وَالأَنْفِ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُهُمَا . وَيَدُلُّ عَلَى مَسْحِ كُلِّ الرَّأْسِ حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ الْمَسْحَ الْمَأْمُورَ بِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى وُصُولِ الْمَاءِ إلَى أَطْرَافِ الشَّعْرِ . وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ لأَنَّهُ وَصَفَهُ مُرَتَّبًا ، وَقَالَ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ : « كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تعالى » .
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلامَ عَلَى أَنَّ دَاخِلَ الْفَمِ وَالأَنْفِ مِنْ الْوَجْهِ .
بَابٌ فِي أَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِ اللِّحْيَةِ الْكَثَّةِ لا يَجِبُ(1/90)
244- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا - أَضَافَهَا إلَى يَدِهِ الأُخْرَى - فَغَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ بِهَا عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ الْيُسْرَى ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ إيصَالِ الْمَاءِ إلَى بَاطِنِ اللِّحْيَةِ ، فَقَالَ :
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ كَثَّ اللِّحْيَةِ ، وَأَنَّ الْغَرْفَةَ الْوَاحِدَةَ وَإِنْ عَظُمَتْ لا تَكْفِي غَسْلَ بَاطِنِ اللِّحْيَةِ الْكَثَّةِ مَعَ غَسْلِ جَمِيعِ الْوَجْهِ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لا يَجِبُ . وَفِيهِ أَنَّهُ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ .
بَابُ اسْتِحْبَابِ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ
245- عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
246- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ ، وَقَالَ : « هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/91)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَخْلِيلِ اللِّحْيَةِ .
بَابُ تَعَاهُدِ الْمَأقَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ غُضُونِ الْوَجْهِ بِزِيَادَةٍ مَاء
247- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ثَلاثًا ، ثَلاثًا ، قَالَ : وَكَانَ يَتَعَاهَدُ الْمَأقَيْنِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
248- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - قَالَ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَلا أَتَوَضَّأُ لَكَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قُلْت : بَلَى فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَالَ : فَوَضَعَ إنَاءً فَغَسَلَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدَيْهِ فَصَكَّ بِهِمَا وَجْهَهُ وَأَلْقَمَ إبْهَامَيْهِ مَا أَقْبَلَ مِنْ أُذُنَيْهِ قَالَ : ثُمَّ عَادَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ثَلاثًا ثُمَّ أَخَذَ كَفًّا بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَأَفْرَغَهَا عَلَى نَاصِيَتِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهَا تَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ ثَلاثًا ثُمَّ يَدَهُ الأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْوُضُوءِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : مَوْقُ الْعَيْنِ مَجْرَى الدَّمْعِ مِنْهَا أَوْ مُقَدَّمُهَا أَوْ مُؤَخِّرُهَا ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ ، قَالَ الأَزْهَرِيُّ : أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْمَوْقَ وَالْمَاقُ مُؤَخِّرُ الْعَيْنِ الَّذِي يَلِي الأَنْفَ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْمُرَادُ بِهِمَا فِي الْحَدِيثِ مَخْصِرُ الْعَيْنَيْنِ .(1/92)
قَوْلُهُ : ( وَأَلْقَمَ إبْهَامَيْهِ مَا أَقْبَلَ مِنْ أُذُنَيْهِ ) قَالَ الشَّارِحُ : واستدل الماوردي على أن الْبَيَاضِ الَّذِي بَيْنَ الأُذُنِ وَالْعِذَارِ مِنْ الْوَجْهِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ رَأَى أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنْ الأُذُنَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ .
بَابُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَإِطَالَةِ الْغُرَّةِ
249- عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ : هَلُمَّ أَتَوَضَّأُ لَكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى مَسَّ أَطْرَافِ الْعَضُدَيْنِ ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِيَدَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ وَلِحْيَتِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
250- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ ، وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَنْتُمْ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إسْبَاغِ الْوُضُوءِ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَوْلُهُ : ( حَتَّى مَسَّ أَطْرَافَ الْعَضُدَيْنِ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ .(1/93)
قَوْلُهُ : (حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ) الحديث . قَالَ الشَّارِحُ : وَهَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ مُصَرِّحٌ بِاسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ . وَالْغُرَّةُ : غَسْلُ شَيْءٍ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ أَوْ مَا يُجَاوِزُ الْوَجْهَ زَائِدًا عَلَى الْجُزْءِ الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ . وَالتَّحْجِيلُ : غَسْلُ مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ وَهُمَا مُسْتَحَبَّانِ بِلا خِلافٍ وَاخْتُلِفَ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ عَلَى أَوْجُهٍ ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَيَتَوَجَّهُ مِنْهُ وُجُوبُ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ لأَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ مُجْمَلٌ فِيهِ ، وَفِعْلُهُ عليه السَّلام بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ وَمُجَاوَزَتُهُ لِلْمِرْفَقِ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الإِجْمَالِ لِيَجِبْ بِذَلِكَ .
بَابُ تَحْرِيكِ الْخَاتَمِ وَتَخْلِيلِ الأَصَابِعِ وَدَلْكِ مَا يَحْتَاجُ إلَى دَلْكٍ
251- عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا تَوَضَّأَ حَرَّكَ خَاتَمَهُ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ .
252- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا تَوَضَّأْت فَخَلِّلْ أَصَابِعَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ .
253- وَعَنْ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا تَوَضَّأَ خَلَّلَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَحْمَدَ .
254- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَجَعَلَ يَقُولُ هَكَذَا - يَدْلُكُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/94)
قَوْلُهُ : ( كَان إذَا تَوَضَّأَ حرَّك خاتمه ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : والحديث يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَحْرِيكِ الْخَاتَمِ لِيَزُولَ مَا تَحْتَهُ مِنْ الأَوْسَاخِ ، وَكَذَلِكَ مَا يُشْبِهُ الْخَاتَمَ مِنْ الأَسْوِرَةِ وَالْحِلْيَةِ وَنَحْوِهِمَا .
قَوْلُهُ : « إذَا تَوَضَّأْت فَخَلِّلْ أَصَابِعَ يَدَيْكَ وَرِجْلَيْكَ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، وَأَحَادِيثُ الْبَابِ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَنْتَهِضُ لِلْوُجُوبِ .
بَابُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ وَصِفَتِهِ وَمَا جَاءَ فِي مَسْحِ بَعْضِهِ
255- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ، بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
256- وَعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ عِنْدَهَا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَمَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ مِنْ فَوْقِ الشَّعْرِ كُلَّ نَاحِيَةٍ لِمُنْصَبِّ الشَّعْرِ لا يُحَرِّكُ الشَّعْرَ عَنْ هَيْئَتِهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
257- وَفِي لَفْظٍ : مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ بَدَأَ بِمُؤَخَّرِهِ ثُمَّ بِمُقَدَّمِهِ وَبِأُذُنَيْهِ كِلْتَيْهِمَا ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .(1/95)
258- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قِطْرِيَّةٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ تَحْتَ الْعِمَامَةِ فَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ وَلَمْ يَنْقُضْ الْعِمَامَةَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : ( مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ ) إِلَى آخِرِهِ قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَأَصَحُّ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ . وَالْمَشْهُورُ الْمُتَدَاوَلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الْبُدَاءَةُ مِنْ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ إلَى مُؤَخَّرِهِ .
قَوْلُهُ : ( لا يُحَرِّكُ الشَّعْرَ عَنْ هَيْئَتِهِ ) قَالَ ابْنُ رَسْلانَ : وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَنْ لَهُ شَعْرٌ طَوِيلٌ إذَا رَدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ يَنْتَفِشُ ، وَلا بَأْسَ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ لِلْمُحْرِمِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ وَمَنْ لَهُ شَعْرٌ طَوِيلٌ كَشَعْرِهَا ؟ فَقَالَ : إنْ شَاءَ مَسَحَ كَمَا رُوِيَ عَنْ الرُّبَيِّعِ ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ ثُمَّ جَرّهَا إلَى مُقَدَّمِهِ ثُمَّ رَفَعَهَا فَوَضَعَهَا حَيْثُ بَدَأَ مِنْهُ ، ثُمَّ جَرَّهَا إلَى مُؤَخَّرِهِ .(1/96)
قَوْلُهُ : ( وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ قِطْرِيَّةٌ ) . قَالَ الشَّارِحُ : بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الطَّاءِ وَيُرْوَى بِفَتْحِهِمَا ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْبُرُودِ فِيهَا حُمْرَةٌ ، وَقِيلَ : هِيَ حُلَلٌ تُحْمَلُ مِنْ الْبَحْرَيْنِ - مَوْضِعٌ قُرْبَ عُمَانَ . قَالَ الأَزْهَرِيُّ : وَيُقَالُ لِتِلْكَ الْقَرْيَةِ : قَطَرُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهَا يَاءُ النِّسْبَةِ كَسَرُوا الْقَافَ وَخَفَّفُوا الطَّاءَ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : إنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ أَلْبَتَّةَ ، وَلَكِنْ كَانَ إذَا مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ أَكْمَلَ عَلَى الْعِمَامَةِ . قَالَ : وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَمَقْصُودُ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْقُضْ عِمَامَتَهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ مَسَّ الشَّعْرِ كُلِّهِ وَلَمْ يَنْفِ التَّكْمِيلَ عَلَى الْعِمَامَةِ ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ ، فَسُكُوتُ أَنَسٍ عَنْهُ لا يَدُلُّ عَلَى نَفِيهِ .
بَابُ هَلْ يُسَنُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ أَمْ لا ؟
259- عَنْ أَبِي حَبَّةَ قَالَ : رَأَيْت عَلِيًّا - رضي الله عنه - تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلاثًا وَاسْتَنْشَقَ ثَلاثًا وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا وَذِرَاعَيْهِ ثَلاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ طُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(1/97)
260- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - : أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ - فَذَكَر الْحَدِيثَ كُلَّهُ - ثَلاثًا ثَلاثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَسْحَةً وَاحِدَةً . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
261- وَلأبِي دَاوُدَ عَنْ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ : هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ .
قَوْلُهُ : ( وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنْ يَكُونَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، قَالَ : وَالإِنْصَافُ أَنَّ أَحَادِيثَ الثَّلاثِ لَمْ تَبْلُغْ إلَى دَرَجَةِ الاعْتِبَارِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُحْمَلُ مَا وَرَدَ مِنْ الأَحَادِيثِ فِي تَثْلِيثِ الْمَسْحِ إنْ صَحَّتْ عَلَى إرَادَةِ الاسْتِيعَابِ بِالْمَسْحِ لا أَنَّهَا مَسَحَاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِجَمِيعِ الرَّأْسِ جَمْعًا بَيْنَ الأَدِلَّةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ عُثْمَانَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَدَدِ ثَلاثًا ثَلاثًا إلا فِي الرَّأْسِ . قَالَ أَبُو دَاوُد : أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ مَرَّةً . فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الْوُضُوءَ ثَلاثًا وَقَالُوا : فِيهَا وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا كَمَا ذَكَرُوا فِي غَيْرِهِ .
بَابُ أَنَّ الأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ وَأَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ بِمَائِهِ
قَدْ سَبَقَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
262- وَلابْنِ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ » .(1/98)
263- وَعَنْ الصُّنَابِحِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ فَتَمَضْمَضَ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ » . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ : « فَإِذَا مَسَحَ بِرَأْسِهِ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ » . رَوَاهُ مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
قَوْلُهُ : « الأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ » . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأُذُنَيْنِ مِنْ الرَّأْسِ فَيُمْسَحَانِ مَعَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ .
قَوْلُهُ : « حتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ » قَالَ الشَّارِحُ : سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِ عَلَى أَنَّ الأُذُنَيْنِ يُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْسِ قَالَ :
فَقَوْلُهُ : « تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ » إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأُذُنَيْنِ دَاخِلَتَانِ فِي مُسَمَّاهُ مِنْ جُمْلَتِهِ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : لَمْ يَثْبُت عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا وَإِنَّمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
بَابُ مَسْحِ ظَاهِرِ الأُذُنَيْنِ وَبَاطِنِهِمَا
264- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
265- وَلِلنَّسَائِيِّ : مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ بَاطِنَهُمَا بِالْمُسْبَحَتَيْنِ وَظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَسْحِ الأُذُنَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا .
بَابُ مَسْحِ الصُّدْغَيْنِ وَأَنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ(1/99)
226- عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَمَسَحَ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ . وَقَالا : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الصُّدْغُ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ : الْمَوْضِعُ الَّذِي بَيْنَ الْعَيْنِ وَالأُذُنِ وَالشَّعْرِ الْمُتَدَلِّي عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مَسْحِ الصُّدْغِ وَالأُذُنِ . وَأَنَّ مَسَحَهُمَا مَعَ الرَّأْسِ وَأَنَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً .
بَابُ مَسْحِ الْعُنُقِ
267- عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ وَمَا يَلِيهِ مِنْ مُقَدَّمِ الْعُنُقِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ فِيهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سَلِيمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ فِي مَسْحِ الْعُنُقِ حَدِيثُ أَلْبَتَّةَ . انْتَهَى . ورُوِيَ عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه مَسْحَ عُنُقِه . قَالَ الشَّارِحُ : وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاسْتِحْبَابِ مَسْحِ الرَّقَبَةِ هَلْ تُمْسَحُ بِبَقِيَّةِ مَاءِ الرَّأْسِ أَوْ بِمَاءٍ جَدِيدٍ ؟
بَابُ جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ
268- عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/100)
269- وَعَنْ بِلالٍ قَالَ : مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد .
270- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « امْسَحُوا عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ » .
271- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْعِمَامَةِ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
272- وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً قَدْ أَحْدَثَ - وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ خُفَّيْهِ - فَأَمَرَهُ سَلْمَانُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ وَقَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْهِ وَعَلَى خِمَارِهِ .
273- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْخِمَارِ . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ .
274- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمْ الْبَرْدُ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَكَوْا إلَيْهِ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْبَرْدِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
الْعَصَائِبُ : الْعَمَائِمُ ، وَالتَّسَاخِينُ : الْخِفَافُ .(1/101)
قَوْلُهُ : ( وَالْخِمَارُ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هُوَ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ النَّصِيفُ ، وَكُلُّ مَا سَتَرَ شَيْئًا فَهُوَ خِمَارُهُ ، كَذَا فِي الْقَامُوسِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْعِمَامَةُ . قَالَ : وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ ، فَذَهَبَ إلَى جَوَازِهِ الأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد بْنُ عَلِيٍّ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ صَحَّ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبِهِ أَقُولُ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَنَسٌ ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَحْتَاجُ الْمَاسِحُ عَلَى الْعِمَامَةِ إلَى لُبْسِهَا عَلَى طَهَارَةٍ أَوْ لا يَحْتَاجُ ؟ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْقِيتِ ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ الاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْمَسْحُ عَلَى الرَّأْسِ فَقَطْ وَعَلَى الْعِمَامَةِ فَقَطْ ، وَعَلَى الرَّأْسِ وَالْعِمَامَةِ ، وَالْكُلُّ صَحِيحٌ ثَابِتٌ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ مَسْح مَا يَظْهَرُ مِنْ الرَّأْسِ غَالِبًا مِنْ الْعِمَامَةِ
275- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/102)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : حديث الْمُغِيرَةِ لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ . قَالَ الْحَافِظُ : وَقَدْ وَهِمَ الْمُنْذِرِيُّ فَعَزَاهُ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَوَهِمَ ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي ، وَصَرَّحَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ . أ.هـ .
بَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَبَيَانُ أَنَّهُ الْفَرْضُ
276- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو قَالَ : تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفْرَةٍ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَنَا الْعَصْرُ فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا قَالَ : فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ » مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ : أَخَّرْنَاهَا . وَيُرْوَى أَرْهَقَتْنَا الْعَصْرُ بِمَعْنَى دَنَا وَقْتُهَا .
277- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَهُ ، فَقَالَ : « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
278- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْمًا تَوَضَّئُوا وَلَمْ يَمَسَّ أَعْقَابَهُمْ الْمَاءُ ، فَقَالَ : « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
279- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ ، وَبُطُونِ الأَقْدَامِ مِنْ النَّارِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ .(1/103)
280- وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ تَوَضَّأَ ، وَتَرَكَ عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الظُّفْرِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ : وَقَالَ : تَفَرَّدَ بِهِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ قَتَادَةَ وَهُوَ ثِقَةٌ .
قَوْلُهُ : « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : اخْتَلَفَ النَّاسُ عَلَى مَذَاهِبَ فَذَهَبَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى فِي الأَعْصَارِ وَالأَمْصَارِ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ غَسْلُ الْقَدَمَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ وَلا يُجْزِئُ مَسْحُهُمَا وَلا يَجِبُ الْمَسْحُ مَعَ الْغَسْلِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ خِلافُ هَذَا عَنْ أَحَدٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الإِجْمَاعِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ .
بَابُ التَّيَمُّنِ فِي الْوُضُوءِ
281- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
282- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا لَبِسْتُمْ ، وَإِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِأَيَامِنِكُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(1/104)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِي الْحَدِيثِ دَلالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الابْتِدَاءِ بِالْيَمِينِ فِي لُبْسِ النِّعَالِ وَفِي تَرْجِيلِ الشَّعْرِ أَيْ تَسْرِيحِهِ وَفِي الطُّهُورِ فَيَبْدَأُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى وَبِرِجْلِهِ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى وَبِالْجَانِبِ الأَيْمَنِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ فِي الْغُسْلِ قَبْلَ الأَيْسَرِ ، قَالَ النَّوَوِيُّ : قَاعِدَةُ الشَّرْعِ الْمُسْتَمِرَّةُ اسْتِحْبَابُ الْبُدَاءَةِ بِالْيَمِينِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزْيِينِ وَمَا كَانَ بِضِدِّهَا اُسْتُحِبَّ فِيهِ التَّيَاسُرُ ، قَالَ : وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْيَمِينِ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ مَنْ خَالَفَهَا فَاتَهُ الْفَضْلُ وَتَمَّ وُضُوؤُهُ .
بَابُ الْوُضُوءِ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَثَلاثًا وَكَرَاهَةِ مَا جَاوَزَهَا
283- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً مَرَّةً . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا .
284- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ .
285- وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
286- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : « جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُهُ عَنْ الْوُضُوءِ فَأَرَاهُ ثَلاثًا ثَلاثًا ، وَقَالَ : « هَذَا الْوُضُوءُ ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/105)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوُضُوءِ مَرَّةً ، وَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَرَّةٍ . قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيّ : وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي غَسْلِ الأَعْضَاءِ مَرَّةً مَرَّةً ، وَعَلَى أَنَّ الثَّلاثَ سُنَّةٌ ، وَقَدْ جَاءَتْ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالْغَسْلِ مَرَّةً مَرَّةً ، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَثَلاثًا ثَلاثًا ، وَبَعْضُ الأَعْضَاءِ ثَلاثًا ، وَبَعْضُهَا مَرَّتَيْنِ ، وَالاخْتِلافُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَنَّ الثَّلاثَ هِيَ الْكَمَالُ وَالْوَاحِدَةُ تُجْزِئُ .
قوله : « هَذَا الْوُضُوءُ ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَاوَزَةَ الثَّلاثِ الْغَسَلاتِ مِنْ الاعْتِدَاءِ فِي الطُّهُورِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ : لا يَزِيدُ عَلَى الثَّلاثِ إلا رَجُلٌ مُبْتَلًى .
بَابُ مَا يَقُولُ إذَا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ
287- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إلا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ ، يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .(1/106)
288- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ : « مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ » . وَسَاقَ الْحَدِيثَ .
قال الشارح رحمه الله : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ أَحَادِيثِ الدُّعَاءِ فِي الْوُضُوءِ غَيْرُهُ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : وَلا يَثْبُتُ عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِهِ . وَقَوْلُهُ : « أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ » فِي آخِرِهِ .
بَابُ الْمُوَالاةِ فِي الْوُضُوءِ
289- عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانُ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ، وَزَادَ : « وَالصَّلاةَ ».
قَالَ الأَثْرَمُ : قُلْتُ لأَحْمَدَ : هَذَا إسْنَادُهُ جَيِّدٌ ؟ ، قَالَ : جَيِّدٌ .
290- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمِهِ ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ » . قَالَ : فَرَجَعَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فَتَوَضَّأَ .(1/107)
قالَ الشارح رحمه الله : وَالْحَدِيثُ الأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إعَادَةِ الْوُضُوءِ مِنْ أَوَّلِهِ عَلَى مَنْ تَرَكَ مِنْ غَسْلِ أَعْضَائِهِ مِثْلَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ . وَالْحَدِيثُ الثَّانِي لا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الإِعَادَةِ لأَنَّهُ أَمَرَهُ فِيهِ بِالإِحْسَانِ لا بِالإِعَادَةِ ، وَالإِحْسَانُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ إسْبَاغِ غَسْلِ ذَلِكَ الْعُضْوِ . فَالْحَدِيثُ الأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْمُوَالاةِ ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَدُلّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ . انْتَهَى . وَقَال الموفق في المغني : والْمُوَالاة الواجبة أن لا يترك غسل عضو حتى يمضي زمن يجف فيه العضو الذي قبله في الزمان المعتدل . وقال ابن عقيل في رواية أخرى : إن حد التفريق المبطل ما يفحش في العادة لأنه لم يحد في الشرح فيرجع فيه إلى العادة كالأحراز والتفرق في البيع .
بَابُ جَوَازِ الْمُعَاوَنَةِ فِي الْوُضُوءِ
291- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ ، وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ . أَخْرَجَاهُ .
292- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ ، قَالَ : صَبَبْتُ الْمَاءَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فِي الْوُضُوءِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الاسْتِعَانَةِ بِالْغَيْرِ فِي الْوُضُوءِ .
بَابُ الْمِنْدِيلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ(1/108)
293- عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَنْزِلِنَا ، فَأَمَرَ لَهُ سَعْدٌ بِغُسْلٍ فَوُضِعَ لَهُ فَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ نَاوَلَهُ مِلْحَفَةً مَصْبُوغَةً بِزَعْفَرَانٍ ، أَوْ وَرْسٍ فَاشْتَمَلَ بِهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ التَّنْشِيفِ .
أَبْوَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
بَابٌ فِي شَرْعِيَّتِهِ
294- عَنْ جَرِيرٍ أَنَّهُ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ فَقِيلَ لَهُ : تَفْعَلُ هَكَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَالَ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، قَالَ إبْرَاهِيمُ : فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ ؛ لأَنَّ إسْلامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
295- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنَّ سَعْدًا حَدَّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرَ ، قَالَ : نَعَمْ إذَا حَدَّثَك سَعْدٌ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا فَلا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ .
296- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَنَسِيت ؟ قَالَ : « بَلْ أَنْتَ نَسِيت بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(1/109)
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : رَوَى الْمَسْحَ سَبْعُونَ نَفْسًا فِعْلاً مِنْهُ وَقَوْلاً .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ : لَيْسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ الصَّحَابَةِ اخْتِلافٌ ؛ لأَنَّ كُلَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْهُمْ إنْكَارُهُ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ إثْبَاتُهُ .
بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْمُوقَيْنِ وَعَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ جَمِيعًا
297- عَنْ بِلالٍ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَى الْمُوقَيْنِ وَالْخِمَارِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
298- وَلأَبِي دَاوُد : كَانَ يَخْرُجُ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَآتِيهِ بِالْمَاءِ فَيَتَوَضَّأُ وَيَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَمُوقَيْهِ .
299- وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ بِلالٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « امْسَحُوا عَلَى النَّصِيفِ وَالْمُوقِ » .
300- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .(1/110)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْخُفُّ نَعْلٌ مِنْ أَدَمٍ يُغَطِّي الْكَعْبَيْنِ وَالْجُرْمُوقُ أَكْبَرُ مِنْهُ يُلْبَسُ فَوْقَهُ ، وَالْجَوْرَبُ أَكْبَرُ مِنْ الْجُرْمُوقِ . قال : والحديث يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْمُوقَيْنِ وَهُمَا ضَرْبٌ مِنْ الْخِفَافِ ، وَهُوَ مَقْطُوعُ السَّاقَيْنِ ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبِ وَهُوَ لِفَافَةُ الرِّجْلِ قَالَهُ فِي الضِّيَاءِ وَالْقَامُوسِ ، وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ . قِيلَ : وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى النَّعْلَيْنِ إذَا لَبِسَهُمَا فَوْقَ الْجَوْرَبَيْنِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلا يَجُوزُ مَسْحُ الْجَوْرَبَيْنِ إلا أَنْ يَكُونَا مُنَعَّلَيْنِ يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِمَا . انْتَهَى مُلَخَّصًا . قال الموفق في المغني : إنما يجوز المسح على الجورب بشرطين : أحدهما أن يكون صفيقًا لا يبدو منه شيء من القدم ، والثاني أن يمكن متابعة المشي فيه ، وهذا ظاهر كلام الخرقي . قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل : إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجليه فلا بأس ، وفي موضع قال : يمسح عليهما إذا ثبتا في العقب ، وفي موضع قال : إن كان يمشي فيه فلا ينثني فلا بأس بالمسح عليه ، فإنه إذا انثنى ظهر موضع الوضوء ولا يعتبر أن يكون مجلدين . انْتَهَى .
بَابُ اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ اللُّبْسُِ
301- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : كُنْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَسِيرٍ فَأَفْرَغْت عَلَيْهِ مِنْ الإِدَاوَةِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ أَهْوَيْت لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ ، فَقَالَ : « دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/111)
302- وَلأَبِي دَاوُد : « دَعْ الْخُفَّيْنِ فَإِنِّي أَدْخَلْت الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ » . فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا .
303- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَمْسَحُ أَحَدُنَا عَلَى الْخُفَّيْنِ ؟ قَالَ : « نَعَمْ ، إذَا أَدْخَلَهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ » . رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ .
304- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ رِجْلَيْك لَمْ تَغْسِلْهُمَا ؟ قَالَ : « إنِّي أَدْخَلْتهمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
305- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ : أَمَرَنَا - يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - - أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَا عَلَى طُهْرٍ ثَلاثًا إذَا سَافَرْنَا وَيَوْمًا وَلَيْلَةً إذَا أَقَمْنَا ، وَلا نَخْلَعَهُمَا مِنْ غَائِطٍ وَلا بَوْلٍ وَلا نَوْمٍ وَلا نَخْلَعَهُمَا إلا مِنْ جَنَابَةٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هُوَ صَحِيحُ الإِسْنَادِ .
306- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً - إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ - أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا . رَوَاهُ الأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالدَّارَقُطْنِيّ ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : هُوَ صَحِيحُ الإِسْنَادِ .(1/112)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « فَإِنِّي أَدْخَلْتهمَا طَاهِرَتَيْنِ » هُوَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِي اللُّبْسِ لِتَعْلِيلِهِ عَدَمَ النَّزْعِ بِإِدْخَالِهِمَا طَاهِرَتَيْنِ ، وَهُوَ مُقْتَضٍ أَنَّ إدْخَالَهُمَا غَيْرَ طَاهِرَتَيْنِ يَقْتَضِي النَّزْعَ ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ إكْمَالَ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا شَرْطٌ .
بَابُ تَوْقِيتِ مُدَّةِ الْمَسْحِ
قَدْ أَسْلَفْنَا فِيهِ عَنْ صَفْوَانَ وَأَبِي بَكْرَةَ .
307- وَرَوَى شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ : سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، فَقَالَتْ : سَلْ عَلِيًّا فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنِّي ، كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْته فَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
308- وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ : « لِلْمُسَافِرِ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ وَلِلْمُقِيمِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى تَوْقِيتِ الْمَسْحِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ لِلْمُسَافِرِ ، وَاليَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ ، وفي الحديث دليل على أن الخفاف لا تنزع في هذه المدة المقدرة لشيءٍ من الأحداث إلا للجنابة .
بَابُ اخْتِصَاصِ الْمَسْحِ بِظَهْرِ الْخُفّ(1/113)
309- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ : لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاهُ ، لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ .
310- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ عَلَى ظُهُورِ الْخُفَّيْنِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ : عَلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى ظَاهِرِهِمَا ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
311- وَعَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ وَرَّادٍ - كَاتِب الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ أَعْلَى الْخُفَّ وَأَسْفَلَهُ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ مَعْلُولٌ لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ثَوْرٍ غَيْرُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، وَسَأَلْت أَبَا زُرْعَةَ وَمُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالا : لَيْسَ بِصَحِيحٍ .
قَوْلُهُ : ( لو كان الدين بالرأي ) إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ الْمَشْرُوعَ وَهُوَ مَسْحُ ظَاهِرِ الْخُفِّ دُونَ بَاطِنِهِ ، إِلِى أَنْ قَالَ : وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِمَسْحِ ظَاهِرِ الْخُفِّ وَبَاطِنِهِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ ، وَفِيهِ مَقَالٌ ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارُضٌ ، غَايَةُ الأَمْرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَسَحَ تَارَةً عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ وَظَاهِرِهِ ، وَتَارَةً اقْتَصَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مَا يَقْضِي بِالْمَنْعِ مِنْ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ .(1/114)
أَبْوَابُ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ
بَابُ الْوُضُوءِ بِالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلِ
312- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ » ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حَضْرَمَوْتَ : مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
313- وَفِي حَدِيثِ صَفْوَانَ - فِي الْمَسْحِ - « لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ » . وَسَنَذْكُرُهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْمُرَادُ بِالْحَدَثِ الْخَارِجُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ ، وَإِنَّمَا فَسَّرَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا بِالأَخَفِّ عَلَى الأَغْلَظِ ، وَلأَنَّهُمَا قَدْ يَقَعَانِ فِي الصَّلاةِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِمَا . وَاسْتُدِلَّ بِالحديث عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لا يَجِبُ لِكُلِّ صَلاةٍ ، وَعَلَى بُطْلانِ الصَّلاةِ بِالْحَدَثِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ
314- عَنْ مَعْدَانُ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَاءَ فَتَوَضَّأَ فَلَقِيت ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : صَدَقَ أَنَا صَبَبْت لَهُ وَضُوءَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ .(1/115)
315- وَعَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لا يَتَكَلَّمُ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ : الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ جُرَيْجٍ يَرْوُونَهُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلاً .
316- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَيْءَ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ .
قوله : « مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ » . قَالَ الشَّارِحُ : هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللامِ وَيُرْوَى بِسُكُونِهَا قَالَ الْخَلِيلُ : هُوَ مَا خَرَجَ مِنْ الْحَلْقِ مِلْءَ الْفَمِ أَوْ دُونَهُ وَلَيْسَ بِقَيْءٍ وَإِنْ عَادَ فَهُوَ الْقَيْءُ . وَفِي النِّهَايَةِ : الْقَلَسُ مَا خَرَجَ مِنْ الْجَوْفِ ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ كَلامِ الْخَلِيلِ . وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَيْءَ وَالرُّعَافَ وَالْقَلَسَ وَالْمَذْيَ نَوَاقِضُ لِلْوُضُوءِ قال : وحَدِيث أنسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الدَّمِ لا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :(1/116)
وَقَدْ صَحَّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ أَنَسٍ عَلَيْهِ ، وَمَا قَبْلَهُ عَلَى الْكَثِيرِ الْفَاحِشِ كَمَذْهَبِ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ جَمْعًا بَيْنَهُمَا .
قَوْلُهُ : ( فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لا يَتَكَلَّمُ ). استدل به على أن الحدث لا يفسد الصلاة ، والصحيح أنها تبطل به لحديث طلق بن علي عند الخمسة قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَعد الصَّلاةَ » .
بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ لا الْيَسِيرِ مِنْهُ عَلَى إحْدَى حَالاتِ الصَّلاةِ
317- عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ : « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُنَا - إذَا كُنَّا سَفَرًا - أَنْ لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ إلا مِنْ جَنَابَةٍ لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
318- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
319- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ « الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ ، فَإِذَا نَامَتْ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ .
السَّهِ : اسْمٌ لِحَلْقَةِ الدُّبُرِ ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : حَدِيثُ عَلِيٍّ أَثْبَتُ وَأَقْوَى .(1/117)
320- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُمْت إلَى جَنْبِهِ الأَيْسَرِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَجَعَلَنِي مِنْ شِقِّهِ الأَيْمَنِ فَجَعَلْت إذَا أَغْفَيْت يَأْخُذُ بِشَحْمَةِ أُذُنِي قَالَ : فَصَلَّى إحْدَى عَشَرَةَ رَكْعَةً . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
321- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلا يَتَوَضَّئُونَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
322- وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ سَاجِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضْطَجِعَ فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَيَزِيدُ هُوَ الدَّالانِيُّ ، قَالَ أَحْمَدُ : لا بَأْسَ بِهِ . قُلْت : وَقَدْ ضَعَّفَ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ الدَّالانِيِّ هَذَا لإِرْسَالِهِ قَالَ شُعْبَةُ إنَّمَا سَمِعَ قَتَادَةَ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ فَذَكَرَهَا وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا .(1/118)
قَوْلِهِ : « لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : اسْتَدَلَّ به مَنْ قَالَ : بِأَنَّ النَّوْمَ نَاقِضٌ . وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبَ ثَمَانِيَةٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - : الْمَذْهَبُ الثَّامِنُ : أَنَّهُ إذَا نَامَ جَالِسًا مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنْ الأَرْضِ لَمْ يُنْقَضْ ، سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّلاةِ أَوْ خَارِجِهَا ، قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَعِنْدَهُ أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ حَدَثًا فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى خُرُوجِ الرِّيحِ ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْمَذَاهِبِ عِنْدِي وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الأَدِلَّةِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ الأَحَادِيثَ الْمُطْلَقَةَ فِي النَّوْمِ تُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِالاضْطِجَاعِ .
فَائِدَةٌ : قَالَ النَّوَوِيُّ : وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ بِالْجُنُونِ وَالإِغْمَاءِ وَالسُّكْرِ بِالْخَمْرِ أَوْ النَّبِيذِ أَوْ الْبَنْجِ أَوْ الدَّوَاءِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُمَكِّنَ الْمِقْعَدَةِ أَوْ غَيْرَ مُمَكِّنِهَا .
قَوْلُهُ : « العين وِكَاءُ السَّهِ » قَالَ الشَّارِحُ :بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ الْمُخَفَّفَةِ : الدُّبُرُ . وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ للنَّقْضِ لا أَنَّهُ بِنَفْسِهِ نَاقِضٌ .
قوله : « لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ سَاجِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضْطَجِعَ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ لا يَكُونُ نَاقِضًا إلا فِي حَالَةِ الاضْطِجَاعِ ، وَقَدْ سَلَفَ أَنَّهُ الرَّاجِحُ .(1/119)
بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ? أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ? وَقُرِئَ ( أَوْ لَمَسْتُمْ )
323- عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَقِيَ امْرَأَةً يَعْرِفُهَا فَلَيْسَ يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ شَيْئًا إلا قَدْ أَتَاهُ مِنْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا ؟ قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ : ? وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ ? الآيَةَ . فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « تَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ .
324- وَعَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلا يَتَوَضَّأُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ . قَالَ أَبُو دَاوُد : هُوَ مُرْسَلٌ . إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلاً .
325- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُصَلِّي وَإِنِّي لَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ حَتَّى إذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ مَسَّنِي بِرِجْلِهِ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .(1/120)
326- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : فَقَدْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً مِنْ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَضَعْت يَدِي عَلَى بَاطِنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ : « اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك ، وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك ، وَأَعُوذُ بِك مِنْك لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ قَالَ : بِأَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . قال : وَالْحَدِيثُ يعني حديث عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الْمَرْأَةِ لا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَأَوْسَطُ مَذْهَبٍ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ مَذْهَبُ مَنْ لا يَرَى اللَّمْسَ يَنْقُضُ إلا لِشَهْوَةٍ .
وعن ابن عباس في قوله تعالى : ? أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ ? قال : هو الجماع ، ولكن الله كريم يكني . وقال إبراهيم : اللمس من شهوة ينقض الوضوء . قال الموفق في المغني : ولا يختص اللمس الناقض باليد ، بل أي شيء منه لاقى شيئًا من بشرتها مع الشهوة انتقض وضوؤه به .
بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْقُبُلِ
327- عَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلا يُصَلِّي حَتَّى يَتَوَضَّأَ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ .(1/121)
328- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بُسْرَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « وَيَتَوَضَّأُ مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ » ، وَهَذَا يَشْمَلُ ذَكَرَ نَفْسِهِ وَذَكَرَ غَيْرِهِ .
329- وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالأَثْرَمُ وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو زُرْعَةَ .
330- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ » رَوَاهُ أَحْمَدُ .
331- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَيُّمَا رَجُلٍ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَمْسَ الذَّكَرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ . وَكَذَلِكَ مَسُّ فَرْجِ الْمَرْأَةِ . وَاحْتَجَّ من لا يرى النقض بِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : الرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ أَعَلَيْهِ وُضُوءٌ ؟ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْك » . وَادَّعَى فِيهِ النَّسْخَ ابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْحَازِمِيُّ ، وَآخَرُونَ . إِلِى أَنْ قَالَ : فَالظَّاهِرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الأَوَّلُونَ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .(1/122)
قَوْلُهُ : « مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ » قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ ، وَهُوَ يَرُدُّ مَذْهَبَ مَنْ قَالَ بِالنَّدْبِ . وَيَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْحَائِلِ بَيْنَ الْيَدِ وَالذَّكَرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَهُوَ يَمْنَعُ تَأْوِيلَ غَيْرِهِ عَلَى الاسْتِحْبَابِ ، وَيَثْبُتُ بِعُمُومِهِ النَّقْضُ بِبَطْنِ الْكَفِّ وَظَهْرِهِ ، وَيَنْفِيه بِمَفْهُومِهِ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ وَبِغَيْرِ الْيَدِ .
322- وَفِي لَفْظٍ لِلشَّافِعِيِّ : « إِذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ إلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَلْيَتَوَضَّأْ » .
بَابُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ
333- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : « إنْ شِئْت تَوَضَّأْ ، وَإِنْ شِئْت فَلا تَتَوَضَّأْ » . قَالَ : أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ ؟ قَالَ : « نَعَمْ ، تَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ » . قَالَ : أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : « نَعَمْ » قَالَ : أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الإِبِلِ ؟ قَالَ : « لا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .(1/123)
334- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ ، فَقَالَ : « تَوَضَّئُوا مِنْهَا » . وَسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ، فَقَالَ : ( لا تَوَضَّئُوا مِنْهَا » . وَسُئِلَ عَنْ الصَّلاةِ فِي مُبَارَكِ الإِبِلِ ، فَقَالَ : « لا تُصَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ الشَّيَاطِينِ » . وَسُئِلَ عَنْ الصَّلاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ، فَقَالَ : « صَلُّوا فِيهَا فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ » رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
335- وَعَنْ ذِي الْغُرَّةِ قَالَ : عَرَضَ أَعْرَابِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - وَرَسُولُ اللَّهِ يَسِيرُ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تُدْرِكُنَا الصَّلاةُ وَنَحْنُ فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ أَفَنُصَلِّي فِيهَا ؟ فَقَالَ : « لا » ، قَالَ : أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِهَا ؟ قَالَ : « نَعَمْ » ، قَالَ : أَفَنُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : « نَعَمْ » . قَالَ : أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِهَا ؟ قَالَ : « لا » . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ .(1/124)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَكْلَ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ مِنْ جُمْلَةِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي لُحُومِ الإِبِلِ قُلْت بِهِ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَدْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثَانِ : حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ النقض بِمَا عِنْدَ الأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ عنْهُ - صلى الله عليه وسلم - عَدَمَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عَامٌّ وَحَدِيثُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ خَاصٌّ ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ ، وَعَدَمُ وُجُوبِهِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ . وَعَلَى الْمَنْعِ مِنْ الصَّلاةِ فِي مَبَارِكِ الإِبِلِ ، وَالإِذْنِ بِهَا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ .
بَابُ الْمُتَطَهِّرِ يَشُكُّ هَلْ أَحْدَثَ ؟
336- عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ : شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاةِ ، فَقَالَ : « لا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ .(1/125)
337- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لا ؟ فَلا يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى إطرَاحِ الشُّكُوكِ الْعَارِضَةِ لِمَنْ فِي الصَّلاةِ ، وَالْوَسْوَسَةُ الَّتِي جَعَلَهَا - صلى الله عليه وسلم - مِنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَعَدَمِ الانْتِقَالِ إلا لِقِيَامِ نَاقِلٍ مُتَيَقِّنٍ كَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَشَمِّ الرِّيحِ وَمُشَاهَدَةِ الْخَارِجِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الإِسْلامِ وَقَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ ، وَهِيَ أَنَّ الأَشْيَاءَ يُحْكَمُ بِبَقَائِهَا عَلَى أُصُولِهَا حَتَّى يُتَيَقَّنَ خِلافُ ذَلِكَ وَلا يَضُرُّ الشَّكُّ الطَّارِئُ عَلَيْهَا .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « فلا يَخْرُج من الْمَسْجِدِ » . قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى :
وَهَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ فِي حَالِ الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا .
بَابُ إيجَابِ الْوُضُوءِ لِلصَّلاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ
338- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ وَلا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ .
339- وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا وَكَانَ فِيهِ: « لا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلا طَاهِرٌ » . رَوَاهُ الأَثْرَمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ .(1/126)
340- وَهُوَ لِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ مُرْسَلاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ حَزْمٍ أنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : « أَنْ لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلا طَاهِرٌ » .
وَقَالَ الأَثْرَمُ : وَاحْتَجَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَحْمَدَ - بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : « وَلا يَمَسَّ الْمُصْحَفَ إلا عَلَى طَهَارَةٍ » .
341- وَعَنْ طَاوُسٍ عَنْ رَجُلٍ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّمَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ فَإِذَا طُفْتُمْ فَأَقِلُّوا الْكَلامَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَكِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : إنَّهُ أَشْبَهَ الْمُتَوَاتِرَ لِتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ بِالْقَبُولِ . وَقَالَ يَعْقُوب بْنُ سُفْيَانَ : لا أَعْلَمُ كِتَابًا أَصَحَّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَيَدَعُونَ رَأْيَهُمْ . وَقَالَ الْحَاكِمُ : قَدْ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيُّ لِهَذَا الْكِتَابِ بِالصِّحَّةِ . انْتَهَى . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ مَسُّ الْمُصْحَفِ إلا لِمَنْ كَانَ طَاهِرًا ، وَقَدْ وَقَعَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُد . وَأَمَّا الْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وغيره إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ : لا يَجُوزُ .(1/127)
قوله : « إنَّمَا الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ فَإِذَا طُفْتُمْ فَأَقِلُّوا الْكَلامَ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ عَلَى طَهَارَةٍ كَطَهَارَةِ الصَّلاةِ ، وَفِيهِ خِلافٌ مَحَلُّهُ كِتَابُ الْحَجِّ .
أَبْوَابُ مَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لأَجْلِهِ
بَابُ اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وَالرُّخْصَةُ فِي تَرْكِهِ
342- عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِظٍ أَنَّهُ وَجَدَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ عَلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ : إنَّمَا أَتَوَضَّأُ مِنْ أَثْوَارِ أَقِطٍ أَكَلْتهَا لأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « تَوَضَّأوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ » .
343- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « تَوَضَّأوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ » .
344- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَهُ . رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
345- وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ : أَكَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَتِفِ شَاةٍ ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ .
346- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ : رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا فَدُعِيَ إلَى الصَّلاةِ ، فَقَامَ وَطَرَحَ السِّكِّينَ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
347- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَكَلْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خُبْزًا وَلَحْمًا فَصَلَّوْا وَلَمْ يَتَوَضَّئُوا . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/128)
348- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ آخِرُ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قَوْلُهُ : « تَوَضَّأوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ . قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا الْخِلافَ كَانَ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ ثُمَّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ أَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَهَذِهِ النُّصُوصُ إنَّمَا تَنْفِي الإِيجَابَ لا الاسْتِحْبَابَ وَلِهَذَا قَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ : أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ؟
349- : « إنْ شِئْت فَتَوَضَّأْ وَإِنْ شِئْت فَلا تَتَوَضَّأْ » .
وَلَوْلا أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لَمَا أَذِنَ فِيهِ ، لأَنَّهُ إسْرَافٌ وَتَضْيِيعٌ لِلْمَاءِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ .
بَابُ فَضْلِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ
350- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتهمْ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ بِوُضُوءٍ ، وَمَعَ كُلِّ وُضُوءٍ بِسِوَاكٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
351- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ ، قِيلَ لَهُ : فَأَنْتُمْ كَيْفَ تَصْنَعُونَ ؟ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا لَمْ نُحْدِثْ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا .(1/129)
352- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ ، فَلَمَّا شُقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ ، وَوُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إلا مِنْ حَدَثٍ ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَرَى أَنَّ بِهِ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ ، كَانَ يَفْعَلُهُ حَتَّى مَاتَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
353- وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ - بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ - عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ » .
قَوْلُهُ : « لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتهمْ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ بِوُضُوءٍ » قال الشَّارحُ رحمه الله : وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلاةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الأَكْثَرِ ، بَلْ حَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ الْقَاضِي عِيَاضٍ أَنَّهُ أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفَتْوَى ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ خِلافٌ .
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ ) إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ .
بَابُ اسْتِحْبَابِ الطَّهَارَةِ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهِ(1/130)
354- عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - - وَهُوَ يَتَوَضَّأُ - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : « إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْك إلا أَنِّي كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ إلا عَلَى طَهَارَةٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِنَحْوِهِ .
355- وَعَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : أَقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
356- وَمِنْ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ .
357- وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بِتّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ . وَسَنَذْكُرُهُمَا .
358- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِغَيْرِ إسْنَادٍ .(1/131)
قَوْلُهُ : ( فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الذِّكْرِ لِلْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد ( وَهُوَ يَبُولُ ) ، وَيُعَارِضُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ : ( لا يَحْجِزُهُ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ ) ، فَإِذَا كَانَ الْحَدَثُ الأَصْغَرُ لا يَمْنَعُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ كَانَ جَوَازُ مَا عَدَاهُ مِنْ الأَذْكَارِ بِطَرِيقِ الأَوْلَى .
بَابُ اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِمَنْ أَرَادَ النَّوْمَ
359- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا أَتَيْت مَضْجَعَك فَتَوَضَّأْ وُضُوءَك لِلصَّلاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّك الأَيْمَنِ ، ثُمَّ قُلْ : اللَّهُمَّ أَسْلَمْت نَفْسِي إلَيْك ، وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك ، وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك ، وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَى مِنْك إلا إلَيْك ، اللَّهُمَّ آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت ، فَإِنْ مِتّ مِنْ لَيْلَتِك فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ » . قَالَ : فَرَدَّدْتهَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا بَلَغْت : اللَّهُمَّ آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت ، قُلْت : وَرَسُولِك قَالَ : « لا وَنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ .(1/132)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « فَتَوَضَّأَ » ظَاهِرُهُ اسْتِحْبَابُ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ النَّوْمَ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَنْ كَانَ مُحْدِثًا .
بَابُ تَأْكِيدِ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ وَاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لَهُ
لأَجْلِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُعَاوَدَةِ
360- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَنَامُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ ؟ قَالَ : « نَعَمْ . إذَا تَوَضَّأَ » .
361- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ - وَهُوَ جُنُبٌ - غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ . رَوَاهُمَا الْجَمَاعَةُ .
362- وَلأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ .
363- وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِلْجُنُبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
364- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيَأْكُلَ قَبْلَ الاغْتِسَالِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ مُعَاوَدَةُ الأَهْلِ ، وَكَذَلِكَ الشُّرْبُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
بَابُ جَوَازِ تَرْكِ ذَلِكَ(1/133)
365- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ - وَهُوَ جُنُبٌ - يَغْسِلُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
366- وَعَنْهَا أَيْضًا قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ أَتَاهُمْ ثُمَّ يَعُودُ وَلا يَمَسُّ مَاءً . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
367- وَلأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْهَا : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ وَلا يَمَسُّ مَاءً .
قَوْلُهَا : ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ وَهُوَ جُنُبٌ يَغْسِلُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هُوَ طَرَفٌ مِنْ الْحَدِيثِ وَلَفْظُهُ فِي النَّسَائِيّ : ( كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ غَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَأْكُلُ أَوْ يَشْرَبُ ) .
قَوْلُهَا : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ وَلا يَمَسُّ مَاءً ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَهَذَا لا يُنَاقِضُ مَا قَبْلَهُ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الْوُضُوءَ أَحْيَانًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ ، وَيَفْعَلُهُ غَالِبًا لِطَلَبِ الْفَضِيلَةِ .(1/134)
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ مُخْتَصَرًا ، وَاقْتَطَعَهُ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ فَأَخْطَأَ فِي اخْتِصَارِهِ إيَّاهُ . وَنَصُّ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ مَا رَوَاهُ أَبُو غَسَّانَ قَالَ : أَتَيْت الأَسْوَدَ بْنَ يَزِيدَ وَكَانَ لِي أَخًا وَصَدِيقًا فَقُلْت : يَا أَبَا عَمرو حَدِّثْنِي مَا حَدَّثَتْك عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ صَلاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : قَالَتْ : كَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَيُحْيِي آخِرَهُ ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ مَاءً ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الأَوَّلِ وَثَبَ وَرُبَّمَا قَالَتْ : قَامَ فَأَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَمَا قَالَتْ : اغْتَسَلَ وَأَنَا أَعْلَمُ مَا تُرِيدُ وَإِنْ نَامَ جُنُبًا تَوَضَّأَ وُضُوءَ الرَّجُلِ لِلصَّلاةِ .
أَبْوَابُ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ
بَابُ الْغُسْلِ مِنْ الْمَنِيِّ
368- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : كُنْت رَجُلاً مَذَّاءً فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « فِي الْمَذْيِ الْوُضُوءُ ، وَفِي الْمَنِيِّ الْغُسْلُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
369- وَلأَحْمَدَ فَقَالَ : « إذَا حَذَفْت الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ مِنْ الْجَنَابَةِ ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاذِفًا فَلا تَغْتَسِلْ » .
370- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْغُسْلُ إذَا احْتَلَمَتْ ؟ قَالَ : « نَعَمْ إذَا رَأَتْ الْمَاءَ » . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ ؟ فَقَالَ : تَرِبَتْ يَدَاك فَبِمَا يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/135)
قَوْلُهُ : « فِي الْمَذْيِ الْوُضُوءُ ، وَفِي الْمَنِيِّ الْغُسْلُ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ الْمَذْيِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ الْوُضُوءُ ، وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ الْمَنِيِّ . قَوْلُهُ : ( حَذَفْت ) يُرْوَى بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ فَاءٌ ، وَهُوَ الرَّمْيُ ، وَهُوَ لا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلا لِشَهْوَةٍ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ :
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَا يَخْرُجُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ - إمَّا لِمَرَضٍ أَوْ أَبْرِدَةٍ - لا يُوجِبُ الْغُسْلَ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَحَدِيثُ أُم سلمة يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِإِنْزَالِهَا الْمَاءَ .
بَابُ إيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، وَنَسْخِ الرُّخْصَةِ فِيهِ
371- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
372- وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ « وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ » .
373- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ، ثُمَّ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
374- وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ : « إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ » .(1/136)
375- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : إنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يَقُولُونَ : الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ رُخْصَةٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ بِهَا فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ ثُمَّ أَمَرَنَا بِالاغْتِسَالِ بَعْدَهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
376- وَفِي لَفْظٍ : إنَّمَا كَانَ الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ رُخْصَةٌ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ ثُمَّ نُهِيَ عَنْهَا . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
377- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ ثُمَّ يُكْسِلُ وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنِّي لأَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ ثُمَّ نَغْتَسِلُ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
378- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي ، فَقُمْت وَلَمْ أُنْزِلْ فَاغْتَسَلْت وَخَرَجْت فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : « لا عَلَيْك . الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ » . قَالَ رَافِعٌ : ثُمَّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ بِالْغُسْلِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/137)
قَوْلُهُ : « إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ ثُمَّ جَهَدهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إيجَابِ الْغُسْلِ لا يَتَوَقَّفُ عَلَى الإِنْزَالِ ، بَلْ يَجِبُ بِمُجَرَّدِ الإِيلاجِ أَوْ مُلاقَاةِ الْخِتَانِ الْخِتَانَ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مَتَى غَابَتْ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِلافُ فِيهِ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، ثُمَّ انْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .(1/138)
قَوْلُهُ : « إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ ». قَالَ الشَّارِحُ : « جَاوَزَ » . وَرَدَ بِلَفْظِ الْمُجَاوَزَةِ ، وَبِلَفْظِ الْمُلاقَاةِ ، وَبِلَفْظِ الْمُلامَسَةِ ، وَبِلَفْظِ الإِلْزَاقِ ، وَالْمُرَادُ بِالْمُلاقَاةِ : الْمُحَاذَاةُ ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : إذَا غَابَتْ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرْجِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْمُلاقَاةُ . قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ : وَهَكَذَا مَعْنَى مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ أَيْ قَارَبَهُ وَدَانَاهُ ، وَمَعْنَى إلْزَاقِ الْخِتَانِ بِالْخِتَانِ إلْصَاقُهُ بِهِ ، وَمَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ ظَاهِرٌ . قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ حَاكِيًا عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ : وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةُ اللَّمْسِ وَلا حَقِيقَةُ الْمُلاقَاةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَةِ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُلامَسَةٌ أَوْ مُقَارَبَةٌ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الْمَرْأَةِ فِي أَعْلَى الْفَرْجِ ، وَلا يَمَسُّهُ الذَّكَرُ فِي الْجِمَاعِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ ذَكَرَهُ عَلَى خِتَانِهَا . وَلَمْ يُولِجْهُ لَمْ يَجِبْ الْغُسْلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلا بُدَّ مِنْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُلاقَاةِ ، وَهُوَ مَا وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِلَفْظِ : « إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتْ الْحَشَفَةُ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ » . أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَالتَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ ، وَلا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مُجَرَّدَ مُلاقَاةِ الْخِتَانِ الْخِتَانَ سَبَبٌ لِلْغُسْلِ . قَالَ(1/139)
الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَهُوَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ .
بَابُ مَنْ ذَكَرَ احْتِلامًا وَلَمْ يَجِدْ بَلَلاً أَوْ بِالْعَكْسِ
379- عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ ، فَقَالَ : « لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلٌ حَتَّى تُنْزِلَ . كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ حَتَّى يُنْزِلَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ
380- وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ : أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَرْأَةِ تَحْتَلِمُ فِي مَنَامِهَا ، فَقَالَ : « إذَا رَأَتْ الْمَاءَ فَلْتَغْتَسِلْ » .
381- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلا يَذْكُرُ احْتِلامًا ، فَقَالَ : « يَغْتَسِلُ » . وَعَنْ الرَّجُلِ يَرَى أَنْ قَدْ احْتَلَمَ ، وَلا يَجِدُ الْبَلَلَ ، فَقَالَ : « لا غُسْلَ عَلَيْهِ » . فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ : الْمَرْأَةُ تَرَى ذَلِكَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ ؟ قَالَ : « نَعَمْ ، إنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إذَا وَقَعَ الإِنْزَالُ ، وَالْحَدِيثُ الثاني يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ مُجَرَّدِ وُجُودِ الْمَنِيِّ سَوَاءٌ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ ظَنُّ الشَّهْوَةِ أَمْ لا . قَالَ ابْنُ رَسْلانَ : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ .
بَابُ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ(1/140)
382- عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنَ مَاجَهْ .
383- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ ثُمَامَةَ أَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « اذْهَبُوا بِهِ إلَى حَائِطِ بَنِي فُلانٍ فَمُرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ لِمَنْ أَسْلَمَ . وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْوُجُوبِ مُطْلَقًا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُنُبًا أَجْزَأَهُ الْوُضُوءُ ، وَأَوْجَبَهُ الْهَادِي وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَدْ أَجْنَبَ حَالَ الْكُفْرِ - إلى أَنْ قَالَ - وَالظَّاهِرُ الْوُجُوبُ ؛ لأَنَّ أَمْرَ الْبَعْضِ قَدْ وَقَعَ بِهِ التَّبْلِيغُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ
384- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .(1/141)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا مَيَّزَتْ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ دَمِ الاسْتِحَاضَةِ تَعْتَبِرُ دَمَ الْحَيْضِ وَتَعْمَلُ عَلَى إقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ ، فَإِذَا انْقَضَى قَدْرُهُ اغْتَسَلَتْ عَنْهُ ثُمَّ صَارَ حُكْمُ دَمِ الاسْتِحَاضَةِ حُكْمَ الْحَدَثِ فَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلاةٍ لا تُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ مُؤَدَّاةٍ أَوْ مَقْضِيَّةٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ : « تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ » . قَالَ الْحَافِظُ : وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ .
بَابُ تَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ
385- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْضِي حَاجَتَهُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ وَلا يَحْجُبُهُ - وَرُبَّمَا قَالَ : لا يَحْجِزُهُ - مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ لَيْسَ الْجَنَابَةَ ) . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
386- لَكِنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ مُخْتَصَرٌ : ( كَانَ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا ) . وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
387- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لا يَقْرَأُ الْجُنُبُ ، وَلا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
388- وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلا النُّفَسَاءُ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .(1/142)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُنُبَ لا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ - إلَى أن قالَ - وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي الْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ بَأْسًا ، وَيُؤَيِّدُهُ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ حَدِيثِ عَائِشَةَ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ ) . انْتَهَى . قال الموفق في المغني : وَيَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قِرَاءَةَ آيَة ، فَأَمَّا بَعْضُ آيَة فَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يُتَمَيَّز بِهِ الْقُرْآن عَنْ غَيْرِهِ كَالتَّسْمِيَةِ وَالْحَمْدِ للهِ وَسَائِرِ الذِّكْرِ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقُرْآنَ فَلا بَأْسَ فَإِنَّهُ لا خِلافَ فِي أَنَّ لَهُمْ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى ، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى التَّسْمِيّةِ عِنْدَ اغْتِسَالِهِمْ وَلا يمكنهمْ التَّحَرُّز مِنْ هَذَا . وَإِذَا قَصَدُوا بِهِ الْقِرَاءَةَ أَو كَانَ مَا قَرَأُوهُ شَيْئًا يُتَمَيَّز بِهِ الْقُرْآن عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلامِ فَفِيهِ رُوَايَتَانِ . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ لِشَيْخِ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَة : وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ بِخِلافِ الْجُنُبِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكِ ، وَحُكِيَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدٍ ، وَإِنْ ظَنَّتْ نِسْيَانهُ وَجَبَ . انْتَهَى .
قوله : « لا يَقْرَأُ الْجُنُبُ ، وَلا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ » . قال الشارخ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَائِضِ . وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ . وهَذَا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ لا يَصْلُحَانِ لِلاحْتِجَاجِ بِهِمَا . وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ جُنُبٌ .(1/143)
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي اجْتِيَازِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ
وَمَنْعِهِ مِنْ اللُّبْثِ فِيهِ إلا أَنْ يَتَوَضَّأَ
389- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ » . فَقُلْت : إنِّي حَائِضٌ ، فَقَالَ : « إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ .
390- وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ عَلَى إحْدَانَا وَهِيَ حَائِضٌ فَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهِيَ حَائِضٌ ثُمَّ تَقُومُ إحْدَانَا بِخُمْرَتِهِ فَتَضَعُهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
391- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا مُجْتَازًا . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ .
392- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ جُنُبٌ . رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
393- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : « وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ » . ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَصْنَعْ الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ رُخْصَةٌ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ ، فَقَالَ : « وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ فَإِنِّي لا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلا جُنُبٍ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/144)
394- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَرْحَةَ هَذَا الْمَسْجِدِ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : « إنَّ الْمَسْجِدَ لا يَحِلُّ لِحَائِضٍ وَلا لِجُنُبٍ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
قَوْلُهُ : « نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ » . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : هِيَ السَّجَّادَةُ يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّي ، وَهِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ قَدْرُ مَا يَضَعُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي وَجْهَهُ فَقَطْ ، وَقَدْ تَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْحَائِضِ الْمَسْجِدَ لِلْحَاجَةِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ هُنَا مَسْجِدَ بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يَتَنَفَّلُ فِيهِ فَيَسْقُطُ الاحْتِجَاجُ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
قولُهَا : جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ » . إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى عَدَمِ حِلِّ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَهُوَ مَذْهَبُ الأَكْثَرِ ، وَقَالَ دَاوُد وَالْمُزَنِيِّ وَغَيْرُهُمْ : إنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ : إنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ إذَا تَوَضَّأَ لِرَفْعِ الْحَدَثِ لا الْحَائِضِ فَتُمْنَعُ - إِلَى أَنْ قَالَ - : وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ لِلْجُنُبِ بِمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ :
وَهَذَا يَمْنَعُ بِعُمُومِهِ دُخُولَهُ مُطْلَقًا ، لَكِنْ خَرَجَ مِنْهُ الْمُجْتَازُ لِمَا سَبَقَ ، وَالْمُتَوَضِّئُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ ، قَالَ :(1/145)
395- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : رَأَيْت رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ مُجْنِبُونَ إذَا تَوَضَّئُوا وُضُوءَ الصَّلاةِ .
396- وَرَوَى حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ أَحْمَدَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ : حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ جُنُبًا فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَتَحَدَّثُ .
بَابُ طَوَافِ الْجُنُبِ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَبِأَغْسَالٍ
397- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ .
398- وَلأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ : فِي لَيْلَةٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ .
399- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ ، فَاغْتَسَلَ عِنْدَ كُلِّ امْرَأَةٍ ، مِنْهُنَّ غُسْلاً ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اغْتَسَلْت غُسْلاً وَاحِدًا ؟ فَقَالَ : « هَذَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ وَنَحْوِهِ فِي وَقْتٍ لَيْسَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ فَجَمَعَهُنَّ يَوْمئِذٍ ثُمَّ دَارَ بِالْقَسْمِ عَلَيْهِنَّ بَعْدُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1/146)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الاغْتِسَالِ عَلَى مَنْ أَرَادَ مُعَاوَدَةَ الْجِمَاعِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَّا الاسْتِحْبَابُ فَلا خِلافَ فِي اسْتِحْبَابِهِ .
أَبْوَابُ الأَغْسَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ
بَابُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ
400- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
401- وَلِمُسْلِمٍ : « إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ » .
402- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ، وَالسِّوَاكُ ، وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ الطِّيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
403- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
404- وَعَنْ ابْن عُمَرَ : أَنَّ عُمَرَ بَيْنَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ ، فَنَادَاهُ عُمَرُ : أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ ؟ فَقَالَ : إنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ ، قَالَ : وَالْوُضُوءَ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/147)
405- وَعَنْ سَمُرَة بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ تَوَضَّأَ لِلْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَذَلِكَ أَفْضَلُ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا ابْنُ مَاجَهْ فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ .
406- وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَمِنْ الْعَوَالِي فَيَأْتُونَ فِي الْعَبَاءِ فَيُصِيبُهُمْ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ فَتَخْرُجُ مِنْهُمْ الرِّيحُ فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنْسَانٌ مِنْهُمْ ، وَهُوَ عِنْدِي فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
407- وَعَنْ أَوْسِ بْن أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنْ الإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ التِّرْمِذِيُّ : ( وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ ) .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ ، قال : وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَفُقَهَاءِ الأَمْصَارِ إلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ .(1/148)
قَوْلُهُ : « غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ، وَالسِّوَاكُ وَأَنْ يَمَسَّ مِنْ الطِّيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِلتَّصْرِيحِ فِيهِ بِلَفْظِ : وَاجِبٌ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِاعْتِبَارِ اقْتِرَانِهِ بِالسِّوَاكِ وَمَسِّ الطِّيبِ ، قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِلَفْظِ الْوُجُوبِ تَأْكِيدَ اسْتِحْبَابِهِ كَمَا تَقُولُ : حَقُّكَ عَلَيَّ وَاجِبٌ ، وَالْعِدَةُ دَيْنٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَهُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالإِجْمَاعِ ، وَهُوَ السِّوَاكُ وَالطِّيبُ .
قَوْلُهُ : « مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ » ، وفي رواية أبي داود : « مَنْ غَسلَ رأسه وَاغْتَسَلَ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْغُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّبْكِيرِ ، وَالْمَشْيِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الإِمَامِ ، وَالاسْتِمَاعِ وَتَرْكِ اللَّغْوِ ، وَإِنَّ الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الأُمُور سَبَبٌ لاسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ .
بَابُ غُسْلِ الْعِيدَيْنِ
408- عَنْ الْفَاكِهِ بْنِ سَعْدٍ - وَكَانَ لَهُ صُحْبَةٌ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ ، وَيَوْمَ الْفِطْرِ : وَيَوْمَ النَّحْرِ . وَكَانَ الْفَاكِهُ بْنُ سَعْدٍ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالْغُسْلِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ وَابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمُعَةَ .(1/149)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ غُسْلَ يَوْمِ الْعِيدِ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ فِي الْبَابِ مَا يَنْتَهِضُ لإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ .
بَابُ الْغُسْلِ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ
409- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ مَاجَهْ الْوُضُوءَ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا مَنْسُوخٌ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ مَنْ أَرَادَ حَمْلَهُ وَمُتَابَعَتَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ مِنْ أَجْلِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ .
410- وَعَنْ مُصْعَبِ بْن شَيْبَةَ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يُغْتَسَلُ مِنْ أَرْبَعٍ : مِنْ الْجُمُعَةِ ، وَالْجَنَابَةِ ، وَالْحِجَامَةِ ، وَغَسْلِ الْمَيِّتِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ .
411- ورواه أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ : إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ . وَهَذَا الإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلا بِالْحَافِظِ .
412- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ امْرَأَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ حِينَ تُوُفِّيَ ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ حَضَرَهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالَتْ : إنَّ هَذَا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ وَأَنَا صَائِمَةٌ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ غُسْلٍ ؟ قَالُوا : لا . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ .(1/150)
قَوْلُهُ : « مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ وَالْوُضُوءِ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ - إلى أن قال - : والقول بالاسْتِحْبَاب هُوَ الْحَقّ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الأَدِلَّةِ بِوَجْهٍ مُسْتَحْسَنٍ .
بَابُ الْغُسْلِ لِلإِحْرَامِ وَلِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَدُخُولِ مَكَّةَ
413- عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَجَرَّدَ لإِهْلالِهِ وَاغْتَسَلَ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
414- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ غَسَلَ رَأْسَهُ بِخَطْمِيٍّ وَأُشْنَانٍ ، وَدَهَنَهُ بِشَيْءٍ مِنْ زَيْتٍ غَيْرِ كَثِيرٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
415- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : نُفِسَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَأْمُرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ وَتُهِلَّ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد .
416- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ ، وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ .
417- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ نَهَارًا ، وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ فَعَلَهُ . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .(1/151)
418- وَلِلْبُخَارِيِّ مَعْنَاهُ .
419- وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِدُخُولِ مَكَّةَ وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الأَكْثَرُ .
قَوْلُهُ : ( بِخَطْمِيٍّ ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْخِطْمِيَّ وَيُفْتَحُ نَبَاتٌ مُحَلِّلٌ مُفَتِّحٌ لَيِّنٌ نَافِعٌ لِعُسْرِ الْبَوْلِ والحصبة والنسا وقرحة الأمعاء والارتعاش ونضج الجراحات وتسكين الوجع ، ومع الخل للبهق ووجع الأسنان مضمضة ونهش الهوام وحرق النار وخلط بزره بالماء أو سحيق أصله يجمدانه ، ولعابه المستخرج بالماء الحار ينفع المرأة العقيم والمقعد . انْتَهَى .
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَنْظِيفِ الرَّأْسِ بِالْغَسْلِ وَدَهْنِهِ عِنْدَ الإِحْرَامِ .
قَوْلُهُ : ( نُفِسَتْ ) قَالَ الشَّارِحُ : بِضَمِّ النُّونِ وَكَسْرِ الْفَاءِ : الْوِلادَةُ ، وَأَمَّا بِفَتْحِ النُّونِ فَالْحَيْضُ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا .
قَوْلُهُ : «كَانَ لا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ » إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الاغْتِسَالِ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، قَالَ فِي الْفَتْحِ : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : الاغْتِسَالُ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ عِنْدَهُمْ فِدْيَةٌ . وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : يَجْزِئ عَنْهُ الْوُضُوءُ .
بَابُ غُسْلِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ(1/152)
420- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : اُسْتُحِيضَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « اغْتَسِلِي لِكُلِّ صَلَاةٍ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
421- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ بْنِ عَمْرٍو اُسْتُحِيضَتْ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَهَا بِالْغُسْلِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ، فَلَمَّا جَهَدَهَا ذَلِكَ أَمَرَهَا أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِغُسْلٍ ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِغُسْلٍ ، وَالصُّبْحِ بِغُسْلٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
422- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ اُسْتُحِيضَتْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ تُصَلِّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ لِتَجْلِسْ فِي مِرْكَنٍ فَإِذَا رَأَتْ صُفْرَةً فَوْقَ الْمَاءِ فَلْتَغْتَسِلْ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ غُسْلًا وَاحِدًا ، وَتَغْتَسِلْ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غُسْلًا وَاحِدًا ، وَتَغْتَسِلْ لِلْفَجْرِ غُسْلًا وَتَتَوَضَّأْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/153)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْإِمَامِيَّةُ . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ ، وَلَا فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي وَقْتِ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ إلَّا لَإِدْبَارِ الْحَيْضَةِ هُوَ الْحَقُّ ، لِفَقْدِ الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَقُومُ فيِمَا دُونَهُ فِي الْمَشَقَّةِ إلَّا خُلَّصُ الْعُبَّادِ ، فَكَيْفَ بِالنِّسَاءِ النَّاقِصَاتِ الْأَدْيَانِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ أَحَادِيثِ الْغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ .
قَوْلُهُ : « فَلَمَّا جَهَدَهَا ذَلِكَ أَمَرَهَا أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِغُسْلٍ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى غُسْلٍ وَاحِدٍ لَهُمَا ، وَقَدْ أُلْحِقَ بِالْمُسْتَحَاضَةِ الْمَرِيضُ وَسَائِرُ الْمَعْذُورِينَ بِجَامِعِ الْمَشَقَّةِ ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ :
وَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْجَمْعِ لِلْمَرْضَى .
بَابُ غُسْلِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَفَاقَ(1/154)
423- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : ثَقِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : أَصَلَّى النَّاسُ ؟ فَقُلْنَا : لَا ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : « ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ » . قَالَتْ : فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ ، فَقَالَ : « أَصَلَّى النَّاسُ » فَقُلْنَا : لَا ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : « ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ » . قَالَتْ : فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ . فقَالَ : « أَصَلَّى النَّاسُ » ؟ فَقُلْنَا : لَا ، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَكَرَتْ إرْسَالَهُ إلَى أَبِي بَكْرٍ . وَتَمَامُ الْحَدِيثِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ لَهُ فَوَائِدُ مَبْسُوطَةٌ فِي شُرُوحِ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاغْتِسَالِ لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ ، وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهُوَ مُثْقَلٌ بِالْمَرَضِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِهِ .
بَابُ صِفَةِ الْغُسْلِ(1/155)
424- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ ، فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ ، وَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ حَتَّى إذَا رَأَى أَنْ قَدْ اسْتَبْرَأَ حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ . أَخْرَجَاهُ .
425- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا : ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدَيْهِ شَعْرَهُ ، حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
426- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ - نَحْوَ الْحِلَابِ - فَأَخَذَ بِكَفِّهِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ أَخَذَ بِكَفَّيْهِ ، فَقَالَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ . أَخْرَجَاهُ .
427- وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ : وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ ، ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ . قَالَتْ : فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ فَلَمْ يُرِدْهَا ، وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَلَيْسَ لِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ نَفْضُ الْيَدِ .(1/156)
428- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
429- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ : تَذَاكَرْنَا غُسْلَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : « أَمَّا أَنَا فَآخُذُ مِلْءَ كَفِّي فَأَصُبُّ عَلَى رَأْسِي ، ثُمَّ أُفِيضُ بَعْدُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِي » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ) . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْأَوَّلَ وَقَعَ بِدُونِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ .
قَالَ : وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِتَأْخِيرِ الرِّجْلَيْنِ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ : ( وُضُوئهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ ) وَهُوَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ رِوَايَةِ عَائِشَةَ . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنهمَا إمَّا بِحَمْلِ رِوَايَةِ عَائِشَةَ عَلَى الْمَجَازِ ، وَإِمَّا بِحَمْلِهَا عَلَى حَالَةٍ أُخْرَى ، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ اخْتَلَفَت أَنْظَارُ الْعُلَمَاءِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْغُسْلِ ، وَعَنْ مَالِكٍ إنْ كَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ نَظِيفٍ فَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُمَا وَإِلَّا فَالتَّقْدِيمُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : أَصَحُّهُمَا وَأَشْهُرُهُمَا وَمُخْتَارُهُمَا أَنْ يُكَمِّلَ وُضُوءَهُ . قَالَ : لِأَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ كَذَلِكَ .(1/157)
قَوْلُهُ : ( حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي وُصُولِ الْمَاءِ إلَى مَا يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْيَقِينِ .
قَوْلُهُ : ( نَحْوَ الْحِلَابِ ) هُوَ مَا يُحْلَبُ فِيهِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ : قَالَ الْخَطَّابِيُّ : الْحِلَابُ : إنَاءٌ يَسَعُ قَدْرَ حَلْبَةِ نَاقَةٍ .
قَوْلُها : « ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ » . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وفِيهِ دَلِيلُ على اسْتِحْبَابِ دَلْكِ الْيَدِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ .
قوله : « أَمَّا أَنَا فَآخُذُ مِلْءَ كَفِّي فَأَصُبُّ عَلَى رَأْسِي ، ثُمَّ أُفِيضُ بَعْدُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِي » . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِيهِ مُسْتَدَلٌّ لِمَنْ لَمْ يُوجِبْ الدَّلْكَ وَلَا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ .
بَابُ تَعَاهُدِ بَاطِنِ الشُّعُورِ وَمَا جَاءَ فِي نَقْضِهَا
430- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعَرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ - لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ - فَعَلَ اللَّهُ بِهِ كَذَا وَكَذَا مِنْ النَّارِ » . قَالَ عَلِيٌّ : فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ شَعْرِي . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ، وَزَادَ : وَكَانَ يَجُزّ شَعْرَهُ - رضي الله عنه - .(1/158)
431- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أَشِدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ ؟ فقَالَ : « لَا ، إنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ، ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
432- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ رُؤوسَهُنَّ ، فَقَالَتْ : يَا عَجَبًا لِابْنِ عَمْرٍو وَهُوَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ بِنَقْضِ رُؤوسِهِنَّ ، أَوْ مَا يَأْمُرهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُؤوسَهُنَّ ! لَقَدْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ ، وَمَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أُفْرِغَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ إفْرَاغَاتٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَخْلِيلِ الشَّعْرِ بِالْمَاءِ فِي الْغُسْلِ . قَالَ : وحديث أم سلمة يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ نَقْضَ الضَّفَائِرِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَفِي الْحَدِيث مُسْتَدَلٌّ لِمَنْ لَمْ يُوجِبْ الدَّلْكَ بِالْيَدِ .
433- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَتْ : فَسَأَلَتْ لَهَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَعْنَاهُ ، قَالَ فِيهِ : وَاغْمِزِي قُرُونَك عِنْدَ كُلِّ حَفْنَةٍ .
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ بَلِّ دَاخِلِ الشَّعْرِ الْمُسْتَرْسَلِ .
بَابُ اسْتِحْبَابِ نَقْضِ الشَّعْرِ لِغُسْلِ الْحَيْضِ
وَتَتَبُّعِ أَثَرِ الدَّمِ فِيهِ(1/159)
434- عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا وَكَانَتْ حَائِضًا : « اُنْقُضِي شَعَرَكِ وَاغْتَسِلِي » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
435- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ غُسْلِهَا مِنْ الْحَيْضِ ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ ثُمَّ قَالَ : « خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا » . قَالَتْ : كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا ؟ قَالَ : « سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي بِهَا » . فَاجْتَذَبْتُهَا إلَيَّ فَقُلْتُ : تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ وَأَبَا دَاوُد قَالَا : « فِرْصَةً مُمَسَّكَةً » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيث دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ بَيْن الْغُسْلِ لِلْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ .
قَوْلُهُ : ( فِرْصَةً ) هِيَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ : الْقِطْعَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . حَكَاهُ ثَعْلَبُ . وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ : الْفِرْصَةُ مِنْ الْقُطْنِ أَوْ الصُّوفِ مُثَلَّثَةُ الْفَاءِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحِكْمَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمِسْكِ الْمُخْتَارِ الَّذِي قَالَهُ الْجَمَاهِيرُ : إنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمِسْكِ تَطْيِيبُ الْمَحَلِّ وَدَفْعُ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي قَدْرِ الْمَاءِ فِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ
436- عَنْ سَفِينَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَيَتَطَهَّرُ بِالْمُدِّ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(1/160)
437- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
438- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَوَضَّأُ بِإِنَاءٍ يَكُونُ رَطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
439- وَعَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ : أُتِيَ مُجَاهِدٌ بِقَدَحٍ حَزَرْتُهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ فَقَالَ : حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا. رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
440- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يَجْزِئ مِنْ الْغُسْلِ الصَّاعُ ، وَمِنْ الْوُضُوءِ الْمُدُّ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَثْرَمُ .
441- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقَال لَهُ الْفَرَقُ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
وَالْفَرَقُ : سِتَّةَ عَشَرَ رَطْلًا بِالْعِرَاقِيِّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ ، وَاسْتِحْبَابِ الِاقْتِصَادِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي الْمَاءِ وَلَوْ كَانَ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ .
بَابُ مَنْ رَأَى التَّقْدِيرَ بِذَلِكَ اسْتِحْبَابًا وَأَنَّ مَا دُونَهُ يُجْزِئ إذَا أُسْبِغَ
442- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .(1/161)
443- وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ بِنْتِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ فَأُتِيَ بِمَاءٍ فِي إنَاءٍ قَدْرِ ثُلُثَيْ الْمُدِّ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
444- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هَذَا ، فَإِذَا تَوْرٌ مَوْضُوعٌ مِثْلُ الصَّاعِ أَوْ دُونَهُ فَنَشْرَعُ فِيهِ جَمِيعًا فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِي بِيَدِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَمَا أَنْقُضُ لِي شَعْرًا . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْقَدْرُ الْمُجْزِئ مِنْ الْغُسْلِ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَعْمِيمُ الْبَدَنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ ، وسَوَاءٌ كَانَ صَاعًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مَا لَمْ يَبْلُغْ فِي النُّقْصَانِ إلَى مِقْدَارٍ لَا يُسَمَّى مُسْتَعْمِلُهُ مُغْتَسِلًا ، أَوْ إلَى مِقْدَارٍ فِي الزِّيَادَةِ يَدْخُلُ فَاعِلُهُ فِي حَدّ الْإِسْرَاف . وَهَكَذَا الْوُضُوء .
بَابُ الِاسْتِتَارِ عَنْ الْأَعْيُنِ لَلْمُغْتَسِلِ
وَجَوَازِ تَجَرُّدِهِ فِي الْخَلْوَةِ
445- عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : « إنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .(1/162)
446- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « بَيْنَا أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى ؟ قَالَ : بَلَى وَعِزَّتُكَ وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ .
447- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً - يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ - وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ ، فَقَالُوا : وَاَللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إلَّا أَنَّهُ آدَرُ ، قَالَ : فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ ، قَالَ : فَجَمَحَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَثَرِهِ يَقُولُ : ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ إلَى سَوْأَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالُوا : وَاَللَّهِ مَا بِمُوسَى بَأْسٌ ، قَالَ : فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرَبًا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/163)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّتُّرِ حَالَ الِاغْتِسَالِ ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ وَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى تَحْرِيمِهِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ مُطْلَقِ الِاسْتِتَارِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد والترمذي مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ ؟ قَالَ : « احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلَّا مِنْ زَوْجِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ » . قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا ، قَالَ : « اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ » . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ الْحَدِيث - يعني قصة أيوب - أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَاتَبَهُ عَلَى جَمْعِ الْجَرَاد وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى الِاغْتِسَالِ عُرْيَانًا ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَجْهَ الدَّلَالَة مِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَصَّ الْقِصَّتَيْنِ وَلَمْ يَتَعَقَّبْ شَيْئًا مِنْهُمَا فَدَلَّ عَلَى مُوَافَقَتِهِمَا لِشَرْعِنَا ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ فِيهِمَا شَيْءٌ غَيْرَ مُوَافِقٍ لَبَيَّنَهُ ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الْإِرْشَادُ إلَى التَّسَتُّرِ عَلَى الْأَفْضَلِ .
بَابُ الدُّخُولِ فِي الْمَاءِ بِغَيْرِ إزَار(1/164)
448- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمَاءَ لَمْ يُلْقِ ثَوْبَهُ حَتَّى يُوَارِيَ عَوْرَتَهُ فِي الْمَاءِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ السَّتْرِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ ، فَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ السَّتْرِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى كَرَاهَةِ دُخُولِ الْمَاءِ بِغَيْرِ إزَارٍ . وَقَالَ إِسْحَاقُ : هُوَ بِالْإِزَارِ أَفْضَلُ لِقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَدْ قِيلَ لَهُمَا وَقَدْ دَخَلَا الْمَاءَ وَعَلَيْهِمَا بُرْدَانِ فَقَالَا : إنَّ لِلْمَاءِ سُكَّانًا . قَالَ إِسْحَاقُ : وَإِنْ تَجَرَّدَ رَجَوْنَا أَنْ لَا يَكُونَ إثْمًا ، وَاحْتَجَّ بِتَجَرُّدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ
449- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ ذُكُورِ أُمَّتِي فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ ، وَمَنْ كَانَتْ تُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إنَاثِ أُمَّتِي فَلَا تَدْخُلُ الْحَمَّامَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/165)
450- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالَ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَلا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إلَّا بِإِزَارٍ ، وَامْنَعُوا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الدُّخُولِ لِلذُّكُورِ بِشَرْطِ لُبْسِ الْمَآزِرِ ، وَتَحْرِيمِ الدُّخُولِ بِدُونِ مِئْزَرٍ ، وَعَلَى تَحْرِيمِهِ عَلَى النِّسَاءِ مُطْلَقًا وَاسْتِثْنَاءِ الدُّخُولِ مِنْ عُذْرٍ لَهُنَّ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ تَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا ، فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَنِسْوَةٍ دَخَلْنَ عَلَيْهَا مِنْ نِسَاءِ الشَّامِ : لَعَلَّكُنَّ مِنْ الْكُورَةِ الَّتِي يَدْخُلُ نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَ ؟ قُلْنَ : نَعَمْ . قَالَتْ : أَمَا إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَخْلَعُ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا هَتَكَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ حِجَابٍ » .
كِتَابُ التَّيَمُّمِ
بَابُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ لِلصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً
451- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ فَقَالَ : « مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ » ؟ قَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ ، قَالَ : « عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/166)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ، وهي خصيصة خصص الله تعالى بها هذه الأمة . قال : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمَ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ .
بَابُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ لَلْجَرْحِ
452- عَنْ جَابِرٍ قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ فَقَالُوا : مَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : « قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ ، أَلَا سَأَلُوا إذْ لَمْ يَعْلَمُوا ؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ، إنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ - أَوْ يَعْصِبَ - عَنْ جَرْحِهِ خرقة ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيِّ .(1/167)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعُدُولِ إلَى التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الضَّرَرِ ، وَعَلَى وُجُوبِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَبَائِرِ . وَقال : حَدِيثَ جَابِرٍ قَدْ دَلَّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ وَالتَّيَمُّمِ . انْتَهَى . قال الموفق في المغني : ويفارق مسح الجبيرة مسح الخف من خمسة أوجه : أحدهما : أنه لا يجوز المسح عليها إلا عند الضرر بنزعها . الثاني : أنه يجب استيعابها بالمسح ، وإن كان بعضها في محل الفرض وبعضها في غيره مسح ما حاذى محل الفرض . الثالث : أنه يمسح على الجبيرة من غير توقيت . الرابع : أنه يمسح عليها في الطهارة الكبرى . الخامس : أنه لا يشترط تقدم الطهارة على شدها في إحدى الروايتين ، اختاره الخلال وقال : قد روى حرب وإسحاق والمروذي في ذلك سهولة عن أحمد واحتج بأن عمرو كأنه ترك قوله الأول وهو أشبه لأن هذا مما لا ينضبط ويغلظ على الناس جدًا فلا بأس به ويقوي هذا حديث جابر في الذي أصابته الشجة فإنه قال : « إنما كان يجزئه أن يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها » . ولم يذكر الطهارة وكذلك أمر على أن يمسح على الجبائر ولم يشترط طهارة ولأن المسح عليها جاز دفعًا لمشقة نزعها ونزعها يشق إذا لبسها على غير طهارة كمشقته إذا لبسها على طهارة . والرواية الثانية : لا يمسح عليها إلا أن يشدها على طهارة فعلى هذا لبسها على غير طهارة ثم خاف من نزعها تميم لها . انتهى ملخصًا . قال في الاختيارات : والجريح …إذا كان محدثًا حدثًا أصغر فلا يلزمه مراعاة الترتيب ، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره ، فيصح أن يتمم بعد كمال الوضوء ، بل هذا هو السنة والفصل بين أبعاض الوضوء بتميم بدعة . انتهى .
بَابُ الْجُنُبِ يَتَيَمَّمُ لَخَوْفِ الْبَرْدِ(1/168)
453- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ : احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةٍ الْبَرْدِ ، فَأَشْفَقْتُ إن اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : « يَا عَمْرُو صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ » ؟ فَقُلْتُ : ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل : ? وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ? فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ .(1/169)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ) . فِيهِ دَلِيلَانِ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَمَخَافَةِ الْهَلَاكِ : الْأَوَّلُ : التَّبَسُّمُ وَالِاسْتِبْشَارُ . وَالثَّانِي : عَدَمُ الْإِنْكَارِ . لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ ، وَالتَّبَسُّمُ وَالِاسْتِبْشَارُ أَقْوَى دَلَالَةً مِنْ السُّكُوتِ عَلَى الْجَوَازِ ، فَإِنَّ الِاسْتِبْشَارَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْجَوَازِ بِطَرِيقِ الْأُولَى . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَصَلَّى لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَمَرَهُ بِهَا ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَقَدِرَ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَنْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ . قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : لَا يَتَيَمَّمُ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسَخِّنَ الْمَاءَ أَوْ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ الضَّرَر مِثْلَ أَنْ يَغْسِلَ عُضْوًا وَيَسْتُرهُ ، وَكُلَّمَا غَسَلَ عُضْوًا سَتَرَهُ وَدَفَّاهُ مِنْ الْبَرْدِ لَزِمَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وتصلي المرأة بالتيمم عن الجنابة إذا كان يشق عليها تكرار النزول إلى الحمام ، ولا تقدر على الاغتسال في البيت . وكل من صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان فلا إعادة عليه ، سواء كان العذر نادرًا أو معتادًا ، قاله أكثر العلماء . انْتَهَى . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ(1/170)
اللَّهُ تَعَالَى :
فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ إثْبَاتُ التَّيَمُّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ وَسُقُوطِ الْفَرْضِ بِهِ ، وَصِحَّةُ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ ، وَأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، وَأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْعُمُومَاتِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَوْلُهُ : ( وَأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ) . لَعَلَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : « صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ » .
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الْجِمَاعِ لِعَادِمِ الْمَاءِ
454- عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : اجْتَوَيْتُ الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِبِلٍ فَكُنْتُ فِيهَا ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ : هَلَكَ أَبُو ذَرٍّ ، قَالَ : « مَا حَالُكَ » ؟ قَالَ : كُنْتُ أَتَعَرَّضُ لِلْجَنَابَةِ وَلَيْسَ قُرْبِي مَاءٌ ، فَقَالَ : « إنَّ الصَّعِيدَ طَهُورٌ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالْأَثْرَمُ ، وَهَذَا لَفْظُهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ ، وَعَلَى أَنَّ الصَّعِيدَ طَهُورٌ يَجُوز لِمَنْ تَطَهَّرَ بِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُتَطَهِّرُ بِالْمَاءِ مِنْ صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ وَدُخُولُ مَسْجِدٍ وَمَسِّ مُصْحَفٍ وَجِمَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالتَّيَمُّمِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ ، بَلْ يَجُوزُ وَإِنْ تَطَاوَلَ الْعَهْدُ بِالْمَاءِ .
بَابُ اشْتِرَاطِ دُخُولِ الْوَقْتِ لِلتَّيَمُّمِ(1/171)
455- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحَتْ وَصَلَّيْتُ » .
456- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلِأُمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ » . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ .(1/172)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّف بِالْحَدِيثِ عَلَى اشْتِرَاط دُخُولِ الْوَقْتِ لِلتَّيَمُّمِ لِتَقْيِيدِ الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ بِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ ، وَإِدْرَاكُهَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ قَطْعًا . وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الِاشْتِرَاطِ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَدَاوُد ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ? إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا ? وَلَا قِيَامَ قَبْلَهُ وَالْوُضُوءُ خَصَّهُ الْإِجْمَاعُ وَالسُّنَّةُ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ قَبْلَ الْوَقْتِ كَالْوُضُوءِ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ? إذَا قُمْتُمْ ? إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ ، وَإِرَادَةُ الْقِيَامِ تَكُونُ فِي الْوَقْتِ وَتَكُونُ قَبْلَهُ ، فَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَقْتِ حَتَّى يُقَالَ خَصَّصَ الْوُضُوءَ الْإِجْمَاعُ . انْتَهَى . قلتُ : والأحوط التيمم بعد دخول الوقت ، وليس في ذلك حرج ولا مشقة . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : والتيمم يرفع الحدث وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد ، وفي الفتاوى المصرية : التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى ، كمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وهو أعدل الأقوال . انْتَهَى . والله أعلم .
بَابُ مَنْ وَجَدَ مَا يَكْفِي بَعْضَ طَهَارَتِهِ يَسْتَعْمِلُهُ
457- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/173)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ الْعَظِيمَةِ وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ النَّافِعَةِ ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ صَرِيحُ الْقُرْآنِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? فَلَكَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ كُلِّ مَا خَرَجَ عَنْ الطَّاقَةِ ، وَعَلَى وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِمَا دَخَلَ تَحْتَ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدُ خُرُوجِ بَعْضِهِ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ مُوجِبًا لَلْعَفْوِ عَنْ جَمِيعِهِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي يَكْفِي لِبَعْضِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ .
بَابُ تَعَيُّنِ التُّرَابِ لِلتَّيَمُّمِ دُون بَقِيَّةِ الْجَامِدَاتِ
458- عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ لِي التُّرَابُ طَهُورًا ، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
459- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .(1/174)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى تَعَيُّنِ التُّرَابِ لِلتَّصْرِيحِ فِي الْحَدِيثِ بِذِكْرِ التُّرَابِ . وقالَ في شرح قوله : « جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلِأُمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ » . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَالْمَاءِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الطَّهُورِيَّةِ . وَعَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ جَائِزٌ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِعُمُومِ لَفْظِ الْأَرْضِ لِجَمِيعِهِ ، وَقَدْ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ : « كُلّهَا » . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِتَخْصِيصِ التُّرَابِ بقوله : « وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا » وَهَذَا خَاصٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْعَامُّ . وَأُجِيبُ بِأَنَّ تُرْبَةَ كُلِّ مَكَان مَا فِيهِ مِنْ تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلا يَتِمُّ الاسْتِدْلال . إِلِى أَنْ قَالَ : وَمِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ التُّرَابِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الصَّعِيدِ وَالْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ مِنْهُ ، وَهُوَ التُّرَابُ ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَالصَّعِيدُ : التُّرَابُ أَوْ وَجْهُ الْأَرْضِ . وَفِي الْمِصْبَاحِ : الصَّعِيدُ : وَجْهُ الْأَرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ . وَيُؤَيِّدُ حَمْلَ الصَّعِيدِ عَلَى الْعُمُومِ تَيَمُّمُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْحَائِط ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى تَخْصِيصِ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد ؛ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَعَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ إلَى أَنَّهُ(1/175)
يُجْزِئُ بِالْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا . انْتَهَى مُلَخَّصًا . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَيَجُوزُ التَّيَمُّم بِغَيْرِ التُّرَابِ مِنْ أَجْزَاءِ الأَرْضِ إِذَا لَمْ يَجِدْ تُرَابًا وَهُوَ رُوَايَة . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَتَيَمَّم بِالأَرْضِ الَّتِّي يُصَلِّي عَلَيْهَا تُرَابًا كَانَتْ أَوْ سَبِخَة أَوْ رَمْلاً . وَلَمَّا سَافَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ قَطَعُوا تِلْكَ الرِّمَالَ فِي طَرِيقِهِمْ ، وَمَاؤُهُمْ فَي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ أَنَّهُ حَمَلَ مَعَهُ التُّرَابَ . وَلا أَمَرَ بِهِ ولا فَعَلَهً أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ : وَلا يُسْتَحَبُّ حَمْلَهُ التُّرَابَ مَعَهُ لِلّتَيَمُّمِ وَقَالَهُ طَائِفَة مِنَ الْعُلَمَاءِ خِلافًا لِمَا نَقَلَ عَنٍ أَحْمَدٍ .
بَابُ صِفَةِ التَّيَمُّمِ
460- عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « فِي التَّيَمُّمِ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
461- وَفِي لَفْظ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
462- وَعَنْ عَمَّارٍ قَالَ : أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبْ الْمَاءَ ، فَتَمَعَّكْتُ فِي الصَّعِيدِ وَصَلَّيْتُ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ : « إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا » ، وَضَرَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/176)
463- وَفِي لَفْظٍ : « إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِكَفَّيْكَ فِي التُّرَابِ ، ثُمَّ تَنْفُخُ فِيهِمَا ، ثُمَّ تَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ إلَى الرُّسْغَيْنِ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ . قال في الفتح : وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
قَوْلُهُ : ( إلَى الرُّصْغَيْنِ ) قَالَ الشَّارِحُ : وَهُمَا مَفْصِلُ الْكَفَّيْنِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي تَيَمُّمِ الْجُنُبِ لَا يَجِبُ .
بَابُ مَنْ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى
ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ
464- عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ - وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ - فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا ، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ ، وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ : « أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ » . وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ : « لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ .
465- وَقَدْ رَوَيَاهُ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلًا .(1/177)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ .
بَابُ بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِوِجْدَانِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا
466- عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ : « فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ » . عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ فِيمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ ، وَمَنْ وَجَدَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَحَالَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا . وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ مُقَيَّدٌ بِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ ، فَتَخْرُجُ هَذِهِ الصُّورَةُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَتَبْقَى صُورَةُ وُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ فِعْلِ التَّيَمُّمِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْهَا دَاخِلَتَيْنِ تَحْتَ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ .
بَابُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ(1/178)
467- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رِجَالًا فِي طَلَبِهَا فَوَجَدُوهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاةُ - وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ - فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ ) اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عِنْد عَدَمِ الْمُطَهِّرَيْنِ : الْمَاءِ ، وَالتُّرَابِ ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ فَقَدُوا التُّرَابَ ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ فَقَدُوا الْمَاءَ فَقَطْ ، وَلَكِنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَعَدَمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُطَهِّرَ سِوَاهُ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا مُعْتَقِدِينَ وُجُوبَ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ مَمْنُوعَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - .
أَبْوَابُ الْحَيْضِ
بَابُ بِنَاءِ الْمُعْتَادَةِ إذَا اُسْتُحِيضَتْ عَلَى عَادَتِهَا(1/179)
468- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
469- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ : « فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي » .
470- زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَةٍ وَقَالَ : « تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ » .
471- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ « وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي » .
وفيه تَنْبيه علَى أنها إنما تبني على عادة متكررة .
472- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ - الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - شَكَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الدَّمَ ، فَقَالَ لَهَا : « اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي » . فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
473- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُمَا قَالَ : « فَلْتَنْتَظِرْ قَدْرَ قُرُوئِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فَلْتَتْرُكْ الصَّلَاةَ ثُمَّ لِتَنْظُرْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتُصَلِّي » .(1/180)
474- وَعَنْ الْقَاسِمِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشِ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ ، فَقَالَ : « تَجْلِسُ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُؤَخِّرُ الظُّهْرَ وَتُعَجِّلُ الْعَصْرَ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي ، وَتُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلُ الْعِشَاءَ وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا ، وَتَغْتَسِلُ لِلْفَجْرِ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
475- وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي امْرَأَةٍ تُهْرَاقُ الدَّمَ ، فَقَالَ : « لِتَنْظُرْ قَدْرَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضَهُنَّ وَقَدْرَهُنَّ مِنْ الشَّهْرِ ، فَتَدْعُ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ لْتَغْتَسِلْ وَلْتَسْتَثْفِرْ ثُمَّ تُصَلِّي » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .(1/181)
قَوْلُهُ : « فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا مَيَّزَتْ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ تَعْتَبِرُ دَمَ الْحَيْضِ وَتَعْمَلُ عَلَى إقْبَالِهِ وَإِدْبَارِهِ فَإِذَا انْقَضَى قَدْرُهُ اغْتَسَلَتْ مِنْهُ ثُمَّ صَارَ حُكْمُ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ حُكْمُ الْحَدَثِ فَتَتَوَضَّأْ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَا تُصَلِّي بِذَلِكَ الْوُضُوءِ أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ . قالَ : وَلَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يَقْضِي بِوُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْ لِكُلِّ يَوْمٍ أَوْ لِلصَّلَاتَيْنِ ، بَلْ لِإِدْبَارِ الْحَيْضَةِ ، قال : وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْهَا مَا يَقْضِي بِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إلَى الْعَمَلِ بِصِفَةِ الدَّمِ كَمَا فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا . وَمِنْهَا مَا يَقْضِي بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ كَمَا فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ ، وَيُمْكِنُ الجمع بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : « أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ » الْحَيْضَةُ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِصِفَةِ الدَّمِ ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ « إذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ » فِي حَقِّ الْمُعْتَادَةِ ، وَالتَّمْيِيزُ بِصِفَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ غَيْرِهَا ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَعْرِفَةَ إقْبَالِ الْحَيْضَةِ قَدْ يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ الْعَادَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ دَمِ الْحَيْضِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ .
بَابُ الْعَمَلِ بِالتَّمْيِيزِ(1/182)
476- عَنْ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضَةِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنْ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي ، فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ التَّمْيِيزُ بِصِفَةِ الدَّمِ ، فَإِذَا كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ السَّوَادِ فَهُوَ حَيْضٌ وَإِلَّا فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ . انْتَهَى . وقال الخرقي : فمن أطبق بها الدم فكانت ممن تميز فتعلم إقباله بأنه أسود ثخين منتن ، وإدباره رقيق أحمر ، تركت الصلاة في إقباله ، فإذا أدبر اغتسلت وتوضأت لكل صلاة وصلت . انْتَهَى . وظاهر كلامه أن المستحاضة إذا كان لها عادة وتمييز قدمت التمييز فعملت به ، وتركت العادة ، وهو رواية عن أحمد ، وهو الصواب .
بَابُ مَنْ تَحِيضُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا لِفَقْدِ الْعَادَةِ وَالتَّمْيِيزِ(1/183)
477- عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ : كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً كَثِيرَةً ، فَجِئْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ ، فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً فَمَا تَرَى فِيهَا ؟ قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ فَقَالَ : « أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ » . قَالَتْ : هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : « فَاِتَّخِذِي ثَوْبًا » . قَالَتْ : هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : « فَتَلَجَّمِيْ » . قَالَتْ : إنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا ، فَقَالَ : « سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ أَيُّهُمَا فَعَلْتِ فَقَدْ أَجْزَأَ عَنْكِ مِنْ الْآخَرِ ، فَإِنْ قَوِيتَ عَلَيْهِمَا فَأَنْتَ أَعْلَمُ » . فَقَالَ لَهَا : « إنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً فِي عِلْمِ اللَّهِ ، ثُمَّ اغْتَسِلِي حَتَّى إذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَيْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا ، وَصُومِي فَإِنَّ ذَلِكَ مُجْزِيكِ ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي فِي كُلِّ شَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ ؛ وَإِنْ قَوِيَتْ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ فَتَغْتَسِلِينَ ثُمَّ تُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، ثُمَّ تُؤَخِّرِي الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِي الْعِشَاءَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَافْعَلِي ، وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الْفَجْرِ وَتُصَلِّينَ ، فَكَذَلِكَ فَافْعَلِي وَصَلِّي وَصُومِي إنْ قَدَرْتِ عَلَى ذَلِكَ » .(1/184)
وَقَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : « وَهَذَا أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إلَيَّ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَاهُ .
قوله : « فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةً » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : بِفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ اجْعَلِي نَفْسَكِ حَائِضًا . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
فِيهِ أَنَّ الْغُسْلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَا يَجِبُ بَلْ يُجْزِئُهَا الْغُسْلُ بحَيْضِهَا الَّذِي تَجْلِسُهُ ، وَأَنَّ الْجَمْعَ لِلْمَرَضِ جَائِزٌ ، وَأَنَّ جَمْعَ الْفَرِيضَتَيْنِ لَهَا بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزٌ ، وَأَنَّ تَعْيِينَ الْعَدَدِ مِنْ السِّتَّةِ وَالسَّبْعَةِ بِاجْتِهَادِهَا لَا بِتَشْبِيهِهَا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : « حَتَّى إذَا رَأَيْتِ أَنْ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَيْتِ » .
بَابُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ بَعْدَ الْعَادَةِ
478- عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : كُنَّا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ لَا يَذْكُرُ بَعْدَ الطُّهْرِ .
479- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تَرَى مَا يَرِيبُهَا بَعْدَ الطُّهْرِ : « إنَّمَا هُوَ عِرْقٌ » أَوْ قَالَ : « عُرُوقٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ لَيْسَتَا مِنْ الْحَيْضِ ، وَأَمَّا فِي وَقْتِ الْحَيْضِ فَهُمَا حَيْضٌ . انْتَهَى .(1/185)
تَتِمْة : قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : ولا يتقدر أقل الحيض ولا أكثره ، بل كل ما استقر عادة للمرأة فهو حيض ، وإن نقص عن يوم أو زاد على الخمسة أو السبعة عشرة ولا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة ، ولا لأكثرة ولا لأقل الطهر بين الحيضتين ، والمبتدأة تحسب ما تراه من الدم ما لم تصر مستحاضة وكذلك المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض حتى تعلم أنها استحاضة باستمرار الدم والحامل قد تحيض . انتهى .
بَابُ وُضُوءِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ
480- عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ : « تَدْعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ .
481- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدْعُ الصَّلَاةَ ؟ فَقَالَ لَهَا : « لَا ، اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ ، ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَعَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ .
بَابُ تَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ وَمَا يُبَاحُ مِنْهَا(1/186)
482- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبُيُوتِ ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ ? إلَى آخِر الْآيَة ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ » . وَفِي لَفْظٍ : « إلَّا الْجِمَاعَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
482م- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَرَادَ مِنْ الْحَائِضِ شَيْئًا أَلْقَى عَلَى فَرْجِهَا شَيْئًا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
483- وَعَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعَ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : مَا لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ إذَا كَانَتْ حَائِضًا ؟ قَالَتْ : كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْفَرْجَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ .
484- وَعَنْ حِزَامِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا يَحِلُّ مِنْ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ ؟ قَالَ : « لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، قُلْتُ عَمُّهُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ .
485- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَتْ إحْدَانَا - إذَا كَانَتْ حَائِضًا - فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَاشِرَهَا ، أَمَرَهَا أَنْ تَأْتَزِرَ بِإِزَارٍ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرَهَا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .قَالَ الْخَطَّابِيُّ : فَوْرُ الْحَيْضِ : أَوَّلُهُ وَمُعْظَمُهُ .(1/187)
قَوْلُهُ : « اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى حُكْمَيْنِ : تَحْرِيمِ النِّكَاحِ ، وَجَوَازِ مَا سِوَاهُ . وَهُوَ قسمان : الْأَوَّلُ : الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَتَحْتَ الرُّكْبَةِ بِالذَّكَرِ أَوْ الْقُبْلَةِ أَوْ الْمُعَانَقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ حَلَالٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِين . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، الْأَشْهَرُ مِنْهَا التَّحْرِيمُ . وَالثَّانِي عَدَمُ التَّحْرِيمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ . وَالثَّالِثُ : إنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ يَضْبِطُ نَفْسَهُ عَنْ الْفَرْجِ جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ ؛ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى التَّحْرِيمِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لِتَصْرِيحِهِ بِتَحْلِيلِ كُلِّ شَيْءٍ مَا عَدَا النِّكَاحَ ، فَالْقَوْلُ بِالتَّحْرِيمِ سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ لَمَّا كَانَ الْحَوْمُ حَوْلُ الْحِمَى مَظِنَّةً لِلْوُقُوعِ فِيهِ ، وَيُشِيرُ إلَى هَذَا حَدِيثُ : « لَكَ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ » . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ لِلْمُبَاشَرَةِ بِأَنْ تَأْتَزِرَ . وَقَوْلُهَا فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا : وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْلِكُ إرْبَهُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ كَفَّارَةِ مِنْ أَتَى حَائِضًا(1/188)
486- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد : هَكَذَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ قَالَ : « دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ » .
487- وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ : « إذَا كَانَ دَمًا أَحْمَرَ فَدِينَارٌ ، وَإِنْ كَانَ دَمًا أَصْفَرَ فَنِصْفُ دِينَارٍ » .
488- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ فِي الْحَائِضِ تُصَابُ دِينَارًا ، فَإِنْ أَصَابَهَا وَقَدْ أَدْبَرَ الدَّمُ عَنْهَا وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَنِصْفُ دِينَارٍ . كُلُّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ قَبْلَ الْغُسْلِ .
بَابُ الْحَائِضِ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي وَتَقْضِي الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ
489- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِي - فِي حَدِيثٍ لَهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلنِّسَاءِ : « أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ » ؟ قُلْنَ : بَلَى ، قَالَ : « فَذَلِكُنَّ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا ، أَلَيْسَ إذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ » ؟ قُلْنَ : بَلَى ، قَالَ : « فَذَلِكُنَّ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا » . مُخْتَصَرٌ مِنْ الْبُخَارِيِّ .(1/189)
490- وَعَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ : مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ ؟ قَالَتْ : كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْحَائِضِ حَالَ حَيْضِهَا وَهُوَ إجْمَاعٌ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ يَقْبَل الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانَ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ نُقْصَانِ عُقُولِ النِّسَاءِ لَوْمُهُنَّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا مَدْخَلَ لِاخْتِيَارِهِنَّ فِيهِ ، بَلْ الْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنْ الِافْتِتَانِ بِهِنَّ ، وَلَيْسَ نَقْصُ الدِّينِ مُنْحَصِرًا فِيمَا يَحْصُل بِهِ الْإِثْمُ بَلْ فِي أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ ، فَالْكَامِلُ مَثَلًا نَاقِصٌ عَنْ الْأَكْمَلِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَائِضُ لَا تَأْثَمُ بِتَرْكِ صَلَاتِهَا زَمَنَ الْحَيْضِ لَكِنَّهَا نَاقِصَةٌ عَنْ الْمُصَلِّي . وقَالَ : نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصِّيَامِ . قَال : وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيمَنْ طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَبَعْد صَلَاةِ الْعِشَاءِ هَلْ تُصَلِّي الصَّلَاتَيْنِ أَوْ الْأُخْرَى . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :(1/190)
491- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ بَعْدَ الْعَصْرِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَإِذَا طَهُرَتْ بَعْد الْعِشَاء صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ .
492- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : إذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْل الْفَجْر صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ . رَوَاهُمَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ وَالْأَثْرَمُ ، وَقَالَ : قَالَ أَحْمَدُ : عَامَّةُ التَّابِعِينَ يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ إلَّا الْحَسَنَ وَحْدَهُ .
بَاب سُؤْرِ الْحَائِضِ وَمُؤَاكَلَتِهَا
493- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ فَأُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِي فَيَشْرَبُ ، وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِي . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .
494- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ مُؤَاكَلَةِ الْحَائِضِ ؟ قَالَ : « وَاكِلْهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِيقَ الْحَائِضِ طَاهِرٌ ، وَعَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِهَا مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا . قَالَ : وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى ? فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ? فَالْمُرَادُ اعْتَزِلُوا وَطْأَهُنَّ .
بَابُ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَةِ
495- عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ وَكَانَ زَوْجُهَا يُجَامِعُهَا .(1/191)
496- وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ : كَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ تُسْتَحَاضُ وَكَانَ زَوْجُهَا يَغْشَاهَا . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد ، وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَكَانَتْ حَمْنَةُ تَحْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : والحدِيثان يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ مُجَامَعَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَلَوْ حَالَ جَرَيَانِ الدَّمِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ . انتهى . والله أعلم .
كِتَابُ النِّفَاسِ
بَابُ أَكْثَرِ النِّفَاسِ
497- عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ أَبِي سَهْلٍ - وَاسْمُهُ كَثِيرُ بْن زِيَادٍ - عَنْ مَسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كَانَتْ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكُنَّا نَطْلِي وُجُوهَنَا بِالْوَرْسِ مِنْ الْكَلَفِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : عَلِيُّ بْن عَبْدِ الْأَعْلَى ثِقَةٌ ، وَأَبُو سَهْلٍ ثِقَةٌ .(1/192)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُتَعَاضِدَةٌ بَالِغَةٌ إلَى حَدِّ الصَّلَاحِيَّةِ وَالِاعْتِبَارِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهَا مُتَعَيَّنٌ ، فَالْوَاجِبُ عَلَى النُّفَسَاءِ وُقُوفُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ : وَقَدْ أَجْمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ تَدْعُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي . وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَا هُنَا وَلَفْظُهُ :
قُلْتُ : وَمَعْنَى الْحَدِيثِ كَانَتْ تُؤْمَرُ أَنْ تَجْلِسَ إلَى الْأَرْبَعِينَ لِئَلَّا يَكُونَ الْخَبَرُ كَذِبًا ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَّفِقُ عَادَةُ نِسَاءِ عَصْرٍ فِي نِفَاسٍ أَوْ حَيْضٍ . انْتَهَى .
قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَلا حد لأقل النفاس ولا لأكثره ولو زاد على الأربعين أو الستين وانقطع فهو نفاس ، ولكن إن اتصل فهو دم فساد وحينئذٍ فالأربعون منتهى الغالب .
بَابُ سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنْ النُّفَسَاءِ
498- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَقْعُدُ فِي النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا يَأْمُرُهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَضَاءِ صَلَاةِ النِّفَاسِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/193)
قالَ الشارحَ رحمهُ الله : والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ النِّفَاسِ ، وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النِّفَاسَ كَالْحَيْضِ فِي جَمِيعِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ وَيُكْرَهُ وَيُنْدَبُ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي . انْتَهَى . واللهُ أعلم .
كِتَابُ الصَّلَاةِ
بَابُ افْتِرَاضِهَا وَمَتَى كَانَ
449- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
500- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ : فُرِضَتْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلَوَاتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ خَمْسِينَ ، ثُمَّ نَقَصَتْ حَتَّى جُعِلَتْ خَمْسًا ، ثُمَّ نُودِيَ يَا مُحَمَّدُ إنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ، وَإِنَّ لَكَ بِهَذِهِ الْخَمْسِ خَمْسِينَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
501- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ هَاجَرَ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الْأَوَّلِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .(1/194)
502- وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَائِرَ الرَّأْسِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : « الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا » . قَالَ : أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ ؟ قَالَ : « شَهْرُ رَمَضَانَ إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا » قَالَ : أَخْبَرَنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ ؟ قَالَ : فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا ، فَقَالَ : وَاَلَّذِي أَكْرَمَكَ لَا أَطَّوَّعُ شَيْئًا وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ » . أَوْ « دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/195)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ:« وَإِقَامِ الصَّلَاةِ » أَيْ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ الْإِسْلَامِ وَتَمَامَهُ بِهَذِهِ الْخَمْسِ ، فَهُوَ كَخِبَاءٍ أُقِيمَ عَلَى خَمْسَةِ أَعْمِدَةٍ ، وَقُطْبُهَا الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الْأَرْكَانُ الشَّهَادَةُ وَبَقِيَّةُ شُعَبِ الْإِيمَانِ كَالْأَوْتَادِ لِلْخِبَاءِ . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : هَذَا الْحَدِيثَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي مَعْرِفَةِ الدِّينِ وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ وَقَدْ جَمَعَ أَرْكَانَهُ . قَالَ الشَّارِحُ : وحديث أنس طرف من حديث الإسراء الطويل ، وقد استدل به على عدم فرضية الصلاة ما زاد على الخمس صلوات كالوتر ، وَحَدِيثُ عَائشة : يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَصْرِ ، وَأَنَّهُ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ . وَالْمُصَنِّفُ سَاقَ الْحَدِيثَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ لَا أَنَّهَا اسْتَمَرَّتْ مُنْذُ فُرِضَتْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقَصْرَ عَزِيمَةٌ ، وَلَعَلَّهُ يَأْتِي تَحْقِيقُ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي بَابِ صَلَاةِ السَّفَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . قال : وَحَدِيثُ طلْحة يَدُلّ عَلَى فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا عَلَى الْعِبَادِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى :
وَفِيهِ مُسْتَدَلٌّ لِمَنْ لَمْ يُوجِبُ صَلَاةَ الْوِتْرِ وَلَا صَلَاةَ الْعِيدِ .(1/196)
قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَهُوَ إجْمَاعٌ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ . قَالَ : وَفِي جَعْلِ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ مَا ذُكِرَ نَظَرٌ عِنْدِي ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِي مَبَادِئِ التَّعْلِيمِ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِهِ فِي صَرْفِ مَا وَرَدَ بَعْدَهُ وَإِلَّا لَزِمَ قَصْرُ وَاجِبَاتِ الشَّرِيعَةِ بِأَسْرِهَا عَلَى الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ ، وَإِنَّهُ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ وَإِبْطَالٌ لِجُمْهُورِ الشَّرِيعَةِ ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالدَّلِيلِ الْمُتَأَخِّرِ إذَا وَرَدَ مَوْرِدًا صَحِيحًا وَيُعْمَل بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدَبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ ، وَهَذَا أَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ ، وَالْبَحْثُ مِمَّا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَقِّ أَنْ يُمْعِنَ النَّظَرَ فِيهِ وَيُطِيلَ التَّدَبُّرَ ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِيهِ مِنْ أَهَمِّ الْمُطَالَبِ الْعِلْمِيَّة لِمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْبَالِغَةِ إلَى حَدٍّ يَقْصُرُ عَنْهُ الْعَدُّ .
بَابُ قَتْلِ تَارِكِ الصَّلَاةِ
503- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتَوْا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
504- وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .(1/197)
505- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ارْتَدَّتْ الْعَرَبُ ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا أَبَا بَكْرٍ كَيْفَ نُقَاتِلُ الْعَرَبَ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّه وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتَوْا الزَّكَاةَ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
506- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : بَعَثَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ - إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِذُهَيْبَةٍ ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : اتَّقِ اللَّهَ ، فَقَالَ : « وَيْلَكَ أَوْ لَسْتُ أَحَقُّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ » . ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : « لَا لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي » . فَقَالَ خَالِدٌ : وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ » . مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ .(1/198)
507- وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ يُسَارُّهُ - يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ ، فَجَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ : « أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ » ؟ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : بَلِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ ، قَالَ : « أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ » ؟ قَالَ : بَلِيَ وَلَا شَهَادَة لَهُ ، قَالَ : « أَلَيْسَ يُصَلِّي » ؟ قَالَ : بَلَى وَلا صَلَاةَ لَهُ . قَالَ : « أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ » . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتَوْا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْمُرَادُ مَا وَجَبَ بِهِ فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ إرَاقَةُ الدَّمِ كَالْقِصَاصِ وَزِنَا الْمُحْصَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَوْ حَلَّ بِهِ أَخْذُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَمَا وَجَبَ مِنْ النَّفَقَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ . وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَسَرَّ الْكُفْرَ يُقْبَلُ إسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .(1/199)
قَوْلُهُ : « لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي » فِيهِ أَنَّ الصَّلَاةَ مُوجِبَةٌ لِحَقْنِ الدَّم وَلَكِنْ مَعَ بَقِيَّةِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحَادِيثِ ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ فَقَالَ :
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَمَا ذَكَرَهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ : ( اتَّقِ اللَّهَ ) زَنْدَقَةٌ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَرَّفَ بِهِ الْعُلَمَاءُ الزِّنْدِيقَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : ( وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللَّهِ ) ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى مَا زَعَمَهُ الْمُصَنِّفُ أَظْهَرُ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : حُكْمُ الشَّرْعِ أَنَّ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَفَرَ وَقُتِلَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قُتِلَ . قَالَ الْمَازِرِيُّ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ الطَّعْنَ فِي النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا نَسَبَهُ إلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ « لَعَلَّهُ يُصَلِّي » وَإِلَى قَوْلِهِ : « لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ » فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ ظَاهِرِ التَّوْبَةِ وَعِصْمَةِ مِنْ يُصَلِّي ، فَإِذَا كَانَ الزِّنْدِيقُ قَدْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَفَعَلَ أَفْعَالَ الْإِسْلَامِ كَانَ مَعْصُومَ الدَّمِ . انْتَهَى . وقَالَ في الفتحِ : قَالَ القُرطبي : إِنَّما منع قتله وإنْ كان قد استوجب القتل لئلا يتحدث النَّاس أنه يقتُلُ أصحابه ولا سيما من صلَّى كما(1/200)
تقدم نظيره في قصة عبد الله بن أبي ، وصوبه الحافظ .
قَوْلُهُ : ( أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ يُسَارُّهُ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ ) الحديث ، قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُعَامَلَةُ لِلنَّاسِ بِمَا يُعْرَفُ مِنْ ظَوَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ دُون تَفْتِيشٍ وَتَنْقِيشٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَتَعَبَّدْنَا اللَّهُ بِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : « إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ » . وَقَالَ لِأُسَامَةَ لَمَّا قَالَ لَهُ : ( إنَّمَا قَالَ مَا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقِيَّةً ) يَعْنِي : الشَّهَادَةَ « هَلْ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ » ؟ وَاعْتِبَارُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِظَوَاهِرِ الْأَحْوَالِ كَانَ دَيْدَنًا لَهُ وَهَجِيرًا فِي جَمِيع أُمُورِهِ ، مِنْهَا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ لَمَّا اعْتَذَرَ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَنَّهُ مُكْرَهٌ ، فَقَالَ لَهُ : « كَانَ ظَاهِرُكَ عَلَيْنَا » . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ : « إنَّمَا أَقْضِي بِمَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّهُ إنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ » . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ « إنَّمَا نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ » . وَمِنْ أَعْظَمِ اعْتِبَارَاتِ الظَّاهِرِ مَا كَانَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ التَّعَاطِي وَالْمُعَامَلَةِ بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَالِ .
بَابُ حُجَّةِ مَنْ كَفَّرَ تَارِكَ الصَّلَاةِ(1/201)
508- عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ .
509- وَعَنْ بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
510- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَرَوْنَ شَيْئًا مُنْ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
511- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ : « مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا وَلَا نَجَاةً ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيُّ بْنِ خَلَفٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/202)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ تَرْكَ الصَّلَاةِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْكُفْرِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُفْرِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُنْكِرًا لِوُجُوبِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يُخَالِطْ الْمُسْلِمِينَ مُدَّةً يَبْلُغُهُ فِيهَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ لَهَا تَكَاسُلًا مَعَ اعْتِقَادِهِ لِوُجُوبِهَا كَمَا هُوَ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ ، فَذَهَبَتْ الْعِتْرَةُ وَالْجَمَاهِيرُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بَلْ يَفْسُقُ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلَ حَدًّا كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ . وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ، وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْمُزَنِيِّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حَتَّى يُصَلِّيَ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْحَقُّ أَنَّهُ كَافِرٌ يُقْتَلُ ، أَمَّا كُفْرُهُ فَلِأَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ صَحَّتْ أَنَّ الشَّارِعَ سَمَّى تَارِكَ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَجَعَلَ الْحَائِلَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ جَوَازِ إطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ هُوَ الصَّلَاةُ(1/203)
، فَتَرْكُهَا مُقْتَضٍ لِجَوَازِ الْإِطْلَاقِ . وَأَمَّا أَنَّهُ يُقْتَلُ فَلِأَنَّ حَدِيثَ : « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ » يَقْضِي بِوُجُوبِ الْقَتْلِ لِاسْتِلْزَامِ الْمُقَاتَلَةِ لَهُ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ ، وَلَا أَوْضَحَ مِنْ دَلَالَتهَا عَلَى الْمَطْلُوبِ ، وَقَدْ شَرَطَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ التَّخْلِيَةَ بِالتَّوْبَةِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، فَقَالَ : ? فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ? ، فَلَا يُخَلَّى مَنْ لَمْ يُقِمْ الصَّلَاةَ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : « سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ عُنُقُهُ ، وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ». فَقَالُوا : أَلَا نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ : « لَا مَا صَلَّوْا » . فَجَعَلَ الصَّلَاةَ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ مُقَاتَلَةِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَخَالِدٍ : « لَعَلَّهُ يُصَلِّي » فَجَعَلَ الْمَانِعَ مِنْ الْقَتْلِ نَفْسَ الصَّلَاةِ . وَحَدِيثُ : « لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ » لَا يُعَارِضُ مَفْهُومُهُ الْمَنْطُوقَاتِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ . إِلِى أَنْ قَالَ : اخْتَلَفُوا هَلْ يَجِبُ الْقَتْلُ لِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَكْثَرَ ، فَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقْتَلُ لِتَرْكِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْأَحَادِيثُ قَاضِيَةٌ بِذَلِكَ ، وَالتَّقْيِيدُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : إذَا دُعِيَ إلَى الصَّلَاةِ فَامْتَنَعَ وَقَالَ : لَا أُصَلِّي حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا وَجَبَ قَتْلُهُ .
بَابُ حُجَّةِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ تَارِكَ الصَّلَاةِ(1/204)
وَلَمْ يَقْطَعْ عَلَيْهِ بِخُلُودٍ فِي النَّارِ وَرَجَا لَهُ مَا يُرْجَى لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ
512- عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُدْعَى الْمُخْدَجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِّ يُدْعَى أَبَا مُحَمَّدٍ يَقُولُ : إنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ ، قَالَ الْمُخْدَجِيُّ : فَرُحْتُ إلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ عُبَادَةَ : كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ ، مَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّع مِنْهُنَّ شَيْئًا - اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ - كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ ، إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
513- وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ فِيهِ : « وَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ قَدْ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ » .
514- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ ، فَإِنْ أَتَمَّهَا وَإِلَّا قِيلَ : اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مَنْ تَطَوُّعٍ ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ تَطَوُّعِهِ ، ثُمَّ يُفْعَلُ بِسَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمَفْرُوضَةِ مِثْلُ ذَلِكَ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
وَيُعْضَدُ هَذَا الْمَذْهَبَ عُمُومَاتٌ ، مِنْهَا :(1/205)
515- مَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
516- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ - : « يَا مُعَاذُ » . قَالَ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ - ثَلَاثًا - . ثُمَّ قَالَ : « مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ » . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا ؟ قَالَ : « إذَنْ يَتَّكِلُوا » . فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا : ( أَيْ خَوْفًا مِنْ الْإِثْمِ بِتَرْكِ الْخَبَرِ بِهِ ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
517- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَهِيَ نَائِلَةٌ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
518- وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .(1/206)
وَقَدْ حَمَلُوا أَحَادِيثَ التَّكْفِيرِ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ أَوْ عَلَى مَعْنى قَدْ قَارَبَ الْكُفْرَ ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أُرِيدَ بِهَا ذَلِكَ .
519- فَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
520- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إلَّا كَفَرَ ، وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا ، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
521- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ : الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
522- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا قَالَ : كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ وَأَبِي ، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ : « مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ». رَوَاهُ أَحْمَدُ .
523- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مُدْمِنُ الْخَمْرِ إنْ مَاتَ لَقِيَ اللَّهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/207)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ » إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ كُفْرِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةِ وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ لِقَوْلِهِ : « إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ » إِلِى أَنْ قَالَ : إِلِى أَنْ قَالَ : قَدْ أَطْبَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ بِأَنَّ مَنْ قَال : « لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ » مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ سَائِرِ الْفَرَائِضِ وَعَدَمِ فِعْلِ كَبِيرَةٍ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي لَمْ يَتُبْ فَاعِلُهَا عَنْهَا ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمَطْلُوبِ ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي خُلُودِ مَنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ أَوْ قَارَفَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النَّارِ مَعَ تَكَلُّمِهِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَعَدَمِ التَّوْبَةِ عَنْ ذَلِكَ ، فَالْمُعْتَزِلَةُ جَزَمُوا بِالْخُلُودِ ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ قَالُوا : يُعَذَّبُ فِي النَّارِ ثُمَّ يُنْقَلُ إلَى الْجَنَّةِ . وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي دُخُولِهِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ ، فَالْأَشْعَرِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ قَالُوا بِدُخُولِهِ تَحْتَهَا ، وَالْمُعْتَزِلَةُ مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ فِي تَأْيِيدِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّأْوِيلِ فَالنِّزَاعُ كَالنِّزَاعِ فِي إطْلَاقِ الْكُفْرِ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ عَرَّفْنَاكَ أَنَّ سَبَبَ الْوُقُوعِ فِي مَضِيقِ(1/208)
التَّأْوِيلِ تَوَهُّمُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْمَغْفِرَةِ ، وَلَيْسَ بِكُلِّيَّةٍ ، وَانْتِفَاءُ كُلِّيَّتِهَا يُرِيحُكَ مِنْ تَأْوِيلِ مَا وَرَدَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ . وَنَقُولُ : مَنْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَافِرًا سَمَّيْنَاهُ كَافِرًا وَلَا نَزِيدُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ ، وَلَا نَتَأَوَّلُ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِعَدَمِ الْمُلْجِئِ إلَى ذَلِكَ . انْتَهَى مُلَخَّصًا . وبالله التوفيق .
بَابُ أَمْرِ الصَّبِيِّ بِالصَّلَاةِ تَمْرِينًا لَا وُجُوبًا
524- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
525- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
526- وَمِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ لَهُ . وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .(1/209)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ أَمْرِ الصِّبْيَانِ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعَ سِنِينَ وَضَرَبَهُمْ عَلَيْهَا إذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَالتَّفْرِيقِ بَيْنهمْ في المضاجع . قال : وَحَدِيثُ عائشة يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ مَا دَامُوا مُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ . انْتَهَى . قال القاضي : يجب على ولي الصبي تعليمه الطهارة والصلاة وأمره بها إذا بلغ سبع سنين وتأديبه عليها إذا بلغ عشر سنين لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك ، وظاهر الأمر الوجوب ، وهذا الأمر والتأديب في حق الصبي لتمرينه عليها كي يألفها ويعتادها فلا يتركها عند البلوغ .
بَابُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ لَمْ يَقْضِ الصَّلَاةَ
527- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ » أَيْ يَقْطَعُهُ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُذْهِبُ أَثَرَ الْمَعَاصِي الَّتِي فَارَقَهَا حَالَ كُفْرِهِ . وَأَمَّا الطَّاعَاتُ الَّتِي أَسْلَفَهَا قَبْلَ إسْلَامِهِ فَلَا يَجُبُّهَا لِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عِنْد مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ . هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ » .
أَبْوَابُ الْمَوَاقِيتِ
بَابُ وَقْتِ الظُّهْرِ(1/210)
528- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ : قُمْ فَصَلِّهِ . فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْعَصْرَ فَقَالَ : قُمْ فَصَلِّهِ . فَصَلَّى الْعَصْرَ حِين صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَغْرِبَ فَقَالَ : قُمْ فَصَلِّهِ . فَصَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْعِشَاءَ فَقَالَ : قُمْ فَصَلِّهِ . فَصَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْفَجْرُ فَقَالَ : قُمْ فَصَلِّهِ . فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ ، أَوْ قَالَ : سَطَعَ الْفَجْرُ ، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ الْغَدِ لِلظُّهْرِ فَقَالَ : قُمْ فَصَلِّهِ . فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْعَصْرَ فَقَالَ : قُمْ فَصَلِّهِ . فَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَغْرِبَ وَقْتًا وَاحِدًا لَمْ يَزُلْ عَنْهُ ، ثُمَّ جَاءَهُ الْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ ، أَوْ قَالَ : ثُلُثُ اللَّيْلِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ ، ثُمَّ جَاءَهُ حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا ، فَقَالَ : قُمْ فَصَلِّهِ . فَصَلَّى الْفَجْرَ ، ثُمَّ قَالَ : مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَقْتٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْمَوَاقِيتِ .(1/211)
529- وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَمَّنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ » . فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ حِين صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ . وَقَالَ فِيهِ : ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْل ِ. وَفِيهِ : ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .(1/212)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلصَّلَوَاتِ وَقْتَيْنِ وَقْتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِب ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ . وَعَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَهَا أَوْقَاتٌ مَخْصُوصَةٌ لَا تُجْزِئُ قَبْلَهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَعَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ وَقْتِ الظُّهْرِ الزَّوَالُ ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ يُعْتَدُّ بِهِ ، وَآخِرُهُ مَصِيرُ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ . وَقَالَ فِي بَابِ وَقْتِ صَلاةِ الْمَغْرِبْ : وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهَا : هَلْ هِيَ ذَاتَ وَقتْ أَوْ وَقْتَيْن ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ لَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ . وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ أَنَّ لَهَا وَقْتَيْنِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى . قلت : وهو الصواب لما روى مسلم وغيره في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ الشَّفَقُ » . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جِبْرِيلَ حِينَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ ، وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ وَقْتَ الْجَوَازِ ، وَهَذَا جَارٍ فِي كُلِّ الصَّلَوَاتِ سِوَى الظُّهْرِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِمَكَّةَ ، وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِامْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ ، مُتَأَخِّرَةٌ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بِالْمَدِينَةِ ، فَوَجَبَ اعْتِمَادُهَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَصَحُّ إسْنَادًا مِنْ حَدِيثِ بَيَانِ جِبْرِيلَ ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا . انْتَهَى .
بَابُ تَعْجِيلِهَا وَتَأْخِيرِهَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ(1/213)
530- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ إذَا دَحَضَتْ الشَّمْسُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد .
531- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ فِي أَيَّامِ الشِّتَاءِ ، وَمَا نَدْرِي أَمَا ذَهَبَ مِنْ النَّهَارِ أَكْثَرُ أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهُ ؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ .
532- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
533- وَلِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ .
534 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
535- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلظُّهْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « أَبْرِدْ » . ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ ، فَقَالَ لَهُ : « أَبْرِدْ » . حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ « إذَا دَحَضَتْ الشَّمْسُ » أي زالت . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تقديمها ، وقد خصَّه الجمهور بما عدا أيام شدّةِ الحر ، وقالوا : يستحب الإبراد فيها إلى أن يبرد الوقت وينْكسِر الوَهج .(1/214)
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ لَهُ : « أَبْرِدْ » حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالتُّلُولُ جَمْعُ تَلٍّ : وَهُوَ الرَّبْوَةُ مِنْ التُّرَابِ الْمُجْتَمِعِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَخَّرَ تَأْخِيرًا كَثِيرًا حَتَّى صَارَ لِلتُّلُولِ فَيْءٌ وَهِيَ مُنْبَطِحَةٌ لَا يَصِيرُ لَهَا فَيْءٌ فِي الْعَادَةِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ بِكَثِيرٍ . والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِبْرَادِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى :
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِبْرَادَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَنْتَابُوا الْمَسْجِدَ مِنْ بَعْدُ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ .
بَابُ أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ وَآخِرِهِ فِي الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ
قَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ فِي بَابِ وَقْتِ الظُّهْرِ .
536 - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « وَقْتُ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْعَصْرُ ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ ثَوْرُ الشَّفَقِ ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ، وَوَقْتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
537- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : « وَوَقْتُ الْفَجْرِ مَا لَمْ يَطْلُعْ قَرْنُ الشَّمْسِ الْأَوَّلُ » . وَفِيهِ : « وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ وَيَسْقُطْ قَرْنُهَا الْأَوَّلُ » .(1/215)
538- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ .
539- وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَأَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الْفَجْرَ حِينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ ، وَالنَّاسُ لَا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ : انْتَصَفَ النَّهَارُ أَوْ لَمْ ؟ ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ حِينَ وَقَبَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ ، ثُمَّ أَخَّرَ الْفَجْرَ مِنْ الْغَدِ حَتَّى انْصَرَفَ مِنْهَا وَالْقَائِلُ يَقُولُ : طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَوْ كَادَتْ ، وَأَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ ، ثُمَّ أَخَّرَ الْعَصْرَ فَانْصَرَفَ مِنْهَا ، وَالْقَائِلُ يَقُولُ : احْمَرَّتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى كَانَ عِنْدَ سُقُوطِ الشَّفَقِ .
540- وَفِي لَفْظٍ : فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ ، وَأَخَّرَ الْعِشَاءَ حَتَّى كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ فَقَالَ : « الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .(1/216)
541- وَرَوَى الْجَمَاعَةُ - إلَّا الْبُخَارِيَّ - نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « ثَوْرُ الشَّفَقِ » هُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ ثَوَرَانُهُ وَانْتِشَارُهُ وَمُعْظَمُهُ . وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ حُمْرَةُ الشَّفَقِ الثَّائِرِ فِيهِ . وَالْحَدِيثُ فِيهِ ذِكْرُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ على الظُّهْرِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ العصر إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ أَصْحَابُنَا : لِلْعَصْرِ خَمْسَةُ أَوْقَاتٍ : وَقْتُ فَضِيلَةٍ ، وَاخْتِيَارٍ ، وَجَوَازٍ بِلَا كَرَاهَةٍ ، وَجَوَازُ مَعَ كَرَاهَةٍ ، وَوَقْتُ عُذْرٍ ؛ فَأَمَّا وَقْتُ الْفَضِيلَةِ فَأَوَّلُ وَقْتِهَا . وَوَقْتُ الِاخْتِيَارِ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَيْهِ ، وَوَقْتُ الْجَوَازِ إلَى الِاصْفِرَارِ ، وَوَقْتُ الْجَوَازِ إِلَى الِاصْفِرَارِ ، وَوَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ حَالَ الِاصْفِرَارِ إلَى الْغُرُوبِ . وَوَقْتُ الْعُذْرِ وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ فِي حَقِّ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِسَفَرٍ أَوْ مَطَرٍ ، وَيَكُونُ الْعَصْرُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ أَدَاءً ، فَإِذَا فَاتَتْ كُلُّهَا بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ، صَارَتْ قَضَاءً انْتَهَى . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى :
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَغْرِبِ وَقْتَيْنِ ، وَأَنَّ الشَّفَقَ : الْحُمْرَةُ ، وَأَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ يُعَاقِبُهُ وَقْتُ الْعَصْرِ ، وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ جَائِزٌ .(1/217)
قوله : ( وَأَتَاهُ سَائِلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الْفَجْرَ ) إلى قوله : ( ثُمَّ أَصْبَحَ فَدَعَا السَّائِلَ فَقَالَ : « الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ » . قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي إثْبَاتِ الْوَقْتَيْنِ لِلْمَغْرِبِ ، وَجَوَازِ تَأْخِيرِ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، وَهَذَا مُتَأَخِّرٌ وَمُتَضَمِّنٌ زِيَادَةً فَكَانَ أَوْلَى ، وَفِيهِ مِنْ الْعِلْمِ جَوَازُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ السُّؤَالِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَهَكَذَا صَرَّحَ الْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ صَلَاةَ جِبْرِيلَ كَانَتْ بِمَكَّةَ ، وَقِصَّةُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمَدِينَةِ ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْوَقْتَ الْآخِرَ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ رُخْصَةٌ .
بَاب مَا جَاءَ فِي تَعْجِيلِهَا وَتَأْكِيدِهِ مَعَ الْغَيْمِ
542 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْعَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْعَوَالِي فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ .
543- وَلِلْبُخَارِيِّ : وَبَعْضُ الْعَوَالِي مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ .
544- وَكَذَلِكَ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مَعْنَى ذَلِكَ .(1/218)
545- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُرِيدُ أَنْ نَنْحَرَ جَزُورًا لَنَا وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَهَا قَالَ : « نَعَمْ » . فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْنَا مَعَهُ ، فَوَجَدْنَا الْجَزُورَ لَمْ تُنْحَرْ فَنُحِرَتْ ثُمَّ قُطِّعَتْ ثُمَّ طُبِخَ مِنْهَا ثُمَّ أَكَلْنَا قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
546- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ نَنْحَرُ الْجَزُورَ فَنَقْسِمُ عَشْرَ قِسَمٍ ، ثُمَّ نَطْبُخُ فَنَأْكُلُ لَحْمَهُ نَضِيجًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
547- وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ ، فَقَالَ : « بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الْغَيْمِ ، فَإِنَّهُ مَنْ فَاتَهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/219)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : والحديث يدلّ على استحبابِ الْمُبَادَرَةِ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ أَوَّلَ وَقْتِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِيلَيْنِ وَثَلَاثَةً وَالشَّمْسُ لَمْ تَتَغَيَّرْ بِصُفْرَةٍ وَنَحْوِهَا إلَّا إذَا صَلَّى الْعَصْرَ حِين صَارَ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَلَا يَكَادُ يَحْصُلُ هَذَا إلَّا فِي الْأَيَّامِ الطَّوِيلَةِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَأَمَّا تَقْيِيدُ التَّبْكِيرِ بِالْغَيْمِ فَلِأَنَّهُ مَظِنَّةُ الْتِبَاسِ الْوَقْتِ ، فَإِذَا وَقَعَ التَّرَاخِي فَرُبَّمَا خَرَجَ الْوَقْتُ أَوْ اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ قَبْلَ فِعْلِ الصَّلَاةِ ، وَلِهَذِهِ الزِّيَادَةِ تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ الْبَابَ بِقَوْلِهِ : وَتَأْكِيدُهُ فِي الْغَيْمِ .
بَابُ بَيَانِ أَنَّهَا الْوُسْطَى وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا
548- عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ - يَوْمَ الْأَحْزَابِ - : « مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
549- وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : « شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ » .
550- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : كُنَّا نَرَاهَا الْفَجْرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ » . يَعْنِي صَلَاةَ الْوُسْطَى . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ .(1/220)
551- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتْ الشَّمْسُ أَوْ اصْفَرَّتْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى - صَلَاةِ الْعَصْرِ - مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا أَوْ حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ .
552- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
553- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « الصَّلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
554- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَسَمَّاهَا لَنَا أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ » .
555- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ) . فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّه ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّه فَنَزَلَتْ : ? حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ? . فَقَالَ رَجُلٌ : هِيَ إذًا صَلَاةُ الْعَصْرِ ؟ فَقَالَ : قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .(1/221)
556- وَعَنْ أَبِي يُونُسَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّهُ قَالَ : أَمَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا ، فَقَالَتْ : إذَا بَلَغْت هَذِهِ الْآيَةَ فَآذِنِّي ? حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ? فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذَنْتُهَا ، فَأَمْلَتْ عَلَيَّ : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ) . قَالَتْ عَائِشَةُ : سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ .
557- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْهَا فَنَزَلَتْ : ? حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ? . وَقَالَ : إنَّ قَبْلَهَا صَلَاتَيْنِ وَبَعْدَهَا صَلَاتَيْنِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
558- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى قَالَ : هِيَ الظُّهْرُ ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَجِيرِ وَلَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إلَّا الصَّفُّ وَالصَّفَّانِ ، وَالنَّاسُ فِي قَائِلَتِهِمْ وَفِي تِجَارَتِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ? حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ? . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/222)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : « شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ . وَنَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ .
قَوْلهُ : ( نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ :حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ . فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّه ، ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّه فَنَزَلَتْ : ? حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ? ) . الحديث . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهَا الْعَصْرَ لِأَنَّهُ خَصَّهَا وَنَصَّ عَلَيْهَا فِي الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ ، ثُمَّ جَاءَ النَّاسِخُ فِي التِّلَاوَةِ مُتَيَقَّنًا . وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مَشْكُوكٌ فِيهِ فَيَسْتَصْحِبُ الْمُتَيَقَّنُ السَّابِقَ ، وَهَكَذَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَعْظِيمُ أَمْرِ فَوَاتِهَا تَخْصِيصًا .
559- فَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الَّذِي تَفُوتهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
قَوْلهُ : فَأَمْلَتْ عَلَيَّ : ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ) . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ سِيَاقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَا لَفْظُهُ :(1/223)
وَهَذَا يَتَوَجَّهُ مِنْهُ كَوْنُ الْوُسْطَى الْعَصْرَ ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَتَهَا فِي الْحَثِّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَأَكُّدِهَا ، وَتَكُونُ الْوَاوُ فِيهِ زَائِدَةً كَقَوْلِهِ تعالى : ? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً ? أَيْ ضِيَاءً وَقَوْلُهُ : ? فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ ? أَيْ نَادَيْنَاهُ إلَى نَظَائِرِهَا .
قَالَ الشَّارِحُ : أو تَكُون مِنْ بَابِ عَطْفِ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَهُمَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ نَحْو قَوْلِهِ :
-
-
إلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ
-
-
وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمِ
-
-
قوله : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاةً أَشَدَّ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْهَا فَنَزَلَتْ : ? حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى ? إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْأَثَرَانِ اسْتَدَلَّ بِهِمَا مَنْ قَالَ : إنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الظُّهْرُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ صَلَاةِ الظُّهْرِ كَانَتْ شَدِيدَةً عَلَى الصَّحَابَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَازِلَةً فِيهَا ، غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ تَكُونَ الْوُسْطَى هِيَ الظُّهْرُ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَارَضُ بِهِ تِلْكَ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الثَّابِتَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرَهُمَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ . قَالَ الْمُصَنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَقَدْ احْتَجَّ بِهما مَنْ يَرَى تَعْجِيلَ الظُّهْرُ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ .
بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ(1/224)
560- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ .
561- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ - أَوْ عَلَى الْفِطْرَةِ - مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ حَتَّى تَشْتَبِكَ النُّجُومُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
562- وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ : قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : مَا لَكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ ، وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِيهَا بِطُولَى الطُّولَيْنِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدُ .
563- وَالنَّسَائِيُّ وَزَادَ : عَنْ عُرْوَةَ بِطُولَى الطُّولَيْنِ الْأَعْرَافِ .
وَلِلنَّسَائِيِّ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِيهَا بِطُولَى الطُّولَيْنِ ? المص ? .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ) وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ، وَلَمْ يَجْرِ لِلشَّمْسِ ذِكْرٌ إحَالَةً عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ ، وَمَا يُعْطِيهِ قُوَّةَ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ يَدْخُلُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ الْمُسَارَعَةَ بِالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا مَشْرُوعَةٌ .(1/225)
قَوْلُهُ : « لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى الْفِطْرَةِ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ حَتَّى تَشْتَبِكَ النُّجُومُ » قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُبَادَرَة بِصَلَاةِ الْمَغْرِب وَكَرَاهَةِ تَأْخِيرِهَا إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ . وَقَدْ عَكَسَتْ الرَّوَافِضُ الْقَضِيَّةَ فَجَعَلَتْ تَأْخِيرَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ ، مُسْتَحَبًّا وَالْحَدِيثُ يَرُدّهُ .
قَوْلُهُ : ( بِطُولَى الطُّولَيْنِ ) الطُّولَيانِ : الْأَعْرَافُ وَالْأَنْعَامُ . قَالَ الْحَافِظُ : إنَّهُ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَفْسِيرِ الطُّولَى بِالْأَعْرَافِ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّطْوِيلِ فِي قِرَاءَةِ الْمَغْرِبِ وَقَدْ اخْتَلَفَتْ حَالَاتُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا فَثَبَتَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ وَثَبَتَ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالصَّافَّاتِ . وَأَنَّهُ قَرَأَ فِيهَا بحم الدُّخَانِ . وَأَنَّهُ قَرَأَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . وَأَنَّهُ قَرَأَ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَأَنَّهُ قَرَأَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ . وَأَنَّهُ قَرَأَ بِالْمُرْسَلَاتِ . وَأَنَّهُ قَرَأَ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي بَابِ جَامِعِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُصَنِّفُ سَاقَ الْحَدِيثَ هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى امْتِدَادِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ ، وَلِهَذَا قَالَ :
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ امْتِدَادِ وَقْتِهَا إلَى غُرُوبِ الشَّفَقِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ .(1/226)
بَابُ تَقْدِيمِ الْعَشَاءِ - إذَا حَضَرَ - عَلَى تَعْجِيلِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ
564- عَنْ أَنَسٍ بن مالك أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ، وَلا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ » .
565- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَحَضَرَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ » .
566- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلَا تَعْجَلْ حَتَّى تَفْرُغَ مِنْهُ » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِنَّ .
567- وَلِلْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ ، وَتُقَامُ الصَّلَاةُ فَلَا يَأْتِيهِم حَتَّى يَفْرُغَ ، وَإِنَّهُ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْعَشَاءِ عَلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ إنْ حَضَرَ ، وَالْحَدِيثَانِ الْآخَرَانِ يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْعَشَاءِ إذَا حَضَرَ عَلَى الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا ، لِمَا يُشْعِرُ بِهِ تَعْرِيفُ الصَّلَاةُ مِنْ الْعُمُومِ . انْتَهَى . قال الحافظ : قَوْلُهُ : « فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ » . حمل الجمهور هذا الأمر على الندب . ومنهم من قيده بمن إذا كان محتاجًا إلى الأكل . قَالَ النَّوَوِيُّ : فِي هَذِه الأَحَادِيثِ كَرَاهِية الصَّلَاةِ بِحَضْرَة الطَّعَامِ الذي يريد أكله لما فيهِ مِنْ ذَهَابِ كَمَالِ الْخُشُوعِ .
بَابُ جَوَازِ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ(1/227)
568- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ الْمُؤَذِّنُ إذَا أَذَّنَ قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ شَيْءٌ . وَفِي رِوَايَةٍ : إلَّا قَلِيلٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
569- وَفِي لَفْظِ : كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَقِيلَ لَهُ : أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّاهُمَا ؟ قَالَ : كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
570- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ » . ثُمَّ قَالَ : « صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ » ، ثُمَّ قَالَ عِنْدَ الثَّالِثَةِ : « لِمَنْ شَاءَ » كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
571- وَفِي رِوَايَةٍ : « بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ » . ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ : « لِمَنْ شَاءَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
572- وَعَنْ أَبِي الْخَيْرِ قَالَ : أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ ، فَقُلْتُ لَهُ : أَلَا أُعَجِّبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ ؟ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ! فَقَالَ عُقْبَةُ : إنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْت : فَمَا يَمْنَعُكَ الْآنَ ؟ قَالَ : الشَّغْلُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .(1/228)
573- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يَا بِلالُ اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ طَعَامِهِ فِي مَهَلٍ وَيَقْضِي الْمُتَوَضِّئُ حَاجَتَهُ فِي مَهَلٍ » . رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي الْمُسْنَدِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : تَقْرِيرُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ رَآهُ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلَاسِيَّمَا وَالْفَاعِلُ لِذَلِكَ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلًا وَفِعْلًا وَتَقْرِيرًا .
قَوْلُهُ : « كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً » قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : لَمْ يَرِدْ نَفْيُ اسْتِحْبَابِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا لَا يُسْتَحَبُّ بَلْ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَدَلِّ الْأَدِلَّةِ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا .(1/229)
قَوْلُهُ :« يَا بِلَالُ اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا ». إلى آخره قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَكَرَاهَةِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْوِيتِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُرِيدِينَ لَهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى طَعَامِهِ أَوْ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ حَالَ النِّدَاءِ إذَا اسْتَمَرَّ عَلَى أَكْلِ الطَّعَامِ أَوْ تَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ أَوْ بَعْضُهَا بِسَبَبِ التَّعْجِيلِ وَعَدَمِ الْفَصْلِ لَاسِيَّمَا إذَا كَانَ مَسْكَنُهُ بَعِيدًا مِنْ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ ، فَالتَّرَاخِي بِالْإِقَامَةِ نَوْعٌ مِنْ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمَغْرِبِ وَقْتَيْنِ وَأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ أَذَانِهَا وَإِقَامَتِهَا بِقَدْرِ رَكْعَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : لَا حَدَّ لِذَلِكَ غَيْرَ تَمَكُّنِ دُخُولِ الْوَقْتِ وَاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ .
بَابٌ فِي أَنَّ تَسْمِيَتَهَا بِالْمَغْرِبِ أَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهَا بِالْعِشَاءِ
574- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا يَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ » . قَالَ : « وَالْأَعْرَابُ تَقُولُ : هِيَ الْعِشَاءُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « الْأَعْرَابُ تَقُولُ هِيَ الْعِشَاءُ » ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ لُغَةً أَوَّلِ ظَلَامِ اللَّيْلِ وَالْمَعْنَى النَّهْيُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَغْرِبِ بِالْعِشَاءِ .(1/230)
بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَفَضْلِ تَأْخِيرِهَا
مَعَ مُرَاعَاةِ حَالِ الْجَمَاعَةِ وَبَقَاءِ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ
575- عَنْ ابْن عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
576- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً بِالْعَتَمَةِ فَنَادَى عُمَرُ : نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « مَا يَنْتَظِرُهَا غَيْرُكُمْ » ؟ وَلَمْ تُصَلَّ يَوْمئِذٍ إلَّا بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ : « صَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
577- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
578- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
579- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(1/231)
580- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ وَالْعَصْرَ ، وَالشَّمْسُ نَقِيَّةٌ ، وَالْمَغْرِبَ إذَا وَجَبَتْ الشَّمْسُ ، وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ ، وَالصُّبْحَ كَانُوا - أَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا - بِغَلَسٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
581- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أَعْتَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَات لَيْلَةٍ حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ حَتَّى نَامَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى ، فَقَالَ : « إنَّهُ لَوَقْتُهَا ، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
582- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : أَخَّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ صَلَّى ثُمَّ قَالَ : « قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا أَمَا إنَّكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا » . قَالَ أَنَسٌ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ خَاتِمِهِ لَيْلَتئِذٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
583- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : انْتَظَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةً لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى ذَهَبَ نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ قَالَ : فَجَاءَ فَصَلَّى بِنَا ، ثُمَّ قَالَ : « خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ ، وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ وَسَقَمُ السَّقِيمِ ، وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(1/232)
قَوْلُهُ : « الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ » . قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ
قَالَ : « إنَّ الشَّفَقَ الْحُمْرَةُ » . قال : وَابْتِدَاءُ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَغِيبَ الشَّفَقِ .
قَوْلُهُ : ( أَعْتَمَ ) أَيْ دَخَلَ فِي الْعَتَمَةِ وَمَعْنَاهَا أَخَّرَهَا . وَالْعَتَمَةُ لُغَةً : حَلَبَ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ بُعْدًا مِنْ الصَّعَالِيكِ . وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوُقُوعِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا .
قَوْلُهُ : ( وَالْعِشَاءَ أَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا وَأَحْيَانًا يُعَجِّلُ إذَا رَآهُمْ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَئُوا أَخَّرَ ) . فِيهِ مَشْرُوعِيَّة مُلاحَظَة أَحْوَال الْمُؤْتَمِّينَ وَالْمُبَادَرَةِ بِالصَّلاةِ مَعَ اجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ وَسَقَمُ السَّقِيمِ ، وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ » . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى :
قُلْت : قَدْ ثَبَتَ تَأْخِيرُهَا إلَى شَطْرِ اللَّيْلِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَهُوَ يَثْبُتُ زِيَادَةً عَلَى أَخْبَارِ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَالْأَخْذِ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى .
قَالَ الشَّارِحُ : وَهَذَا صَحِيحٌ .
بَابُ كَرَاهِيَةِ النَّوْمِ قَبْلَهَا وَالسَّمَرِ بَعْدَهَا إلَّا فِي مَصْلَحَةٍ(1/233)
584- عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
585- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : جَدَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . وَقَالَ : جَدَبَ : يَعْنِي زَجَرَنَا عَنْهُ ، نَهَانَا عَنْهُ .
586- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ اللَّيْلَةَ كَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ .
587- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : رَقَدْتُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَهَا لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّيْلِ قَالَ : فَتَحَدَّثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .(1/234)
قَوْلُهُ : ( وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا ) . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَقَدْ كَرِهَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ النَّوْمَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي رَمَضَانَ . وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَالْعِلَّةُ فِي الْكَرَاهَةِ قَبْلَهَا لِئَلَّا يَذْهَبُ النَّوْمُ بِصَاحِبِهِ فَتَفُوتُهُ أَوْ يَفُوتُهُ فَضْلُ وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ أَوْ يَتَرَخَّصُ فِي ذَلِكَ النَّاسُ فَيَنَامُوا عَنْ إقَامَةِ جَمَاعَتِهَا .(1/235)
قَوْلُهُ : ( جَدَبَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( جَدَبَ ) هُوَ بِجِيمٍ فَدَالٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ فَبَاءٌ كَمَنَعَ وَزْنًا وَمَعْنًى . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي السَّمَرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَكَرِهَ قَوْمٌ مِنْهُمْ السَّمَرَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْحَوَائِجِ ، وَأَكْثَرُ الْحَدِيثِ عَلَى الرُّخْصَةِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْحَدِيثِ بَعْدَهَا إلَّا مَا كَانَ فِي خَيْرٍ . قِيلَ : وَعِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ السَّمَرُ مِنْ مَخَافَةِ غَلَبَةِ النَّوْمِ آخِرَ اللَّيْلِ عَنْ الْقِيَامِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ . أَوْ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي وَقْتِ الْفَضِيلَةِ وَالِاخْتِيَارِ ، أَوْ الْقِيَامِ لِلْوِرْدِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ قِرَاءَةٍ فِي حَقِّ مَنْ عَادَتُهُ ذَلِكَ ، وَلَا أَقَلَّ لِمَنْ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْكَسَلِ بِالنَّهَارِ عَمَّا يَجِبُ مِنْ الْحُقُوقِ فِيهِ وَالطَّاعَاتِ .
بَابُ تَسْمِيَتِهَا بِالْعِشَاءِ عَلَى الْعَتَمَةِ(1/236)
588- عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ : فَقُلْتُ لِمَالِكٍ : أَمَا تَكْرَهُ أَنْ تَقُولَ الْعَتَمَةَ ؟ قَالَ : هَكَذَا قَالَ الَّذِي حَدَّثَنِي .
589- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ أَلَا إنَّهَا الْعِشَاءُ وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
590- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : « لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْعِشَاءِ فَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعِشَاءُ وَإِنَّهَا تُعْتِمُ بِحِلَابِ الْإِبِلِ » .(1/237)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ » أَيْ مِنْ مَزِيدِ الْفَضْلِ وَكَثْرَةِ الْأَجْرِ . قَوْلُهُ : « لَأَتَوْهُمَا » أَيْ لَأَتَوْا الْمَحَلَّ الَّذِي يُصَلِّيَانِ فِيهِ جَمَاعَةً . قَوْلُهُ : « وَلَوْ حَبْوًا » أَيْ زَحْفًا إذَا مَنَعَهُمْ مَانِعٌ مِنْ الْمَشْيِ كَمَا يَزْحَفُ الصَّغِيرُ . وَلِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ : « وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الْمَرَافِقِ وَالرُّكَبِ » وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الْأَذَانِ وَالْمُلَازَمَةِ لِلصَّفِّ الْأَوَّلِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى جَمَاعَةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْعِشَاء بِالْعَتَمَةِ . قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ : الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْعَتَمَةِ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ خُوطِبَ بِالْعَتَمَةِ مَنْ لا يَعْرِفُ الْعِشَاءَ فَخُوطِبَ بِمَا يَعْرِفُهُ أَوْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْعَتَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ عِنْدَ الْعَرَبِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزَا فَلَمَّا كَثُرَ إطْلَاقُهُمْ لَهُ نُهُوا عَنْهُ لِئَلَّا تَغْلِبَ السُّنَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَى السُّنَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَحْرُمُ .
بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَمَا جَاءَ فِي التَّغْلِيسِ بِهَا وَالْإِسْفَارِ
قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وَقْتِهَا فِي غَيْرِ حَدِيثٍ .(1/238)
591- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْفَجْرِ ، مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلَاةَ لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
592- وَلِلْبُخَارِيِّ : وَلَا يَعْرِفُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا .
593- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ مَرَّةً بِغَلَسٍ ثُمَّ صَلَّى مَرَّةً أُخْرَى فَأَسْفَرَ بِهَا ثُمَّ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْد ذَلِكَ التَّغْلِيسَ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَعُدْ إلَى أَنْ يُسْفِرَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
594- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ ، قُلْت : كَمْ كَانَ مِقْدَارُ مَا بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
595- عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
596- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
597- وَلِمُسْلِمٍ : قَبْلَ وَقْتِهَا بِغَلَسٍ .(1/239)
598- وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَتَعَشَّى بَيْنَهُمَا ثُمَّ صَلَّى حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ - قَائِلٌ يَقُولُ : طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ : لَمْ يَطْلُعْ - ثُمَّ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَلَا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا وَصَلَاةُ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ » .
599- وَعَنْ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ : كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ لَهُ : إنِّي أُصَلِّي مَعَك ثُمَّ أَلْتَفِتُ فَلَا أَرَى وَجْهَ جَلِيسِي ثُمَّ أَحْيَانًا تُسْفِرُ ؟ فَقَالَ : كَذَلِكَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَأَحْبَبْتُ أَنْ أُصَلِّيَهَا كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
600- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ : « يَا مُعَاذُ إذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ فَغَلِّسْ بِالْفَجْرِ وَأَطِلْ الْقِرَاءَةَ قَدْرَ مَا يُطِيقُ النَّاسُ وَلَا تَمَلَّهُمْ ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَسْفِرْ بِالْفَجْرِ فَإِنَّ اللَّيْلَ قَصِيرٌ وَالنَّاسُ يَنَامُونَ فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا » . رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَأَخْرَجَهُ بَقِيٍّ بْنُ مَخْلَدٍ فِي مُسْنَدِهِ الْمُصَنَّفِ .(1/240)
قَوْلُهُ : ( لَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّهُ كَانَ يَنْصَرِفُ مِنْ الصَّلَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ رُؤْيَةِ الْمُتَلَفِّعَةِ عَلَى بُعْدٍ ، وَذَاكَ إخْبَارٌ عَنْ رُؤْيَةِ الْجَلِيسِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُبَادَرَةِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ . قَالَ : وَأََمَّا قَوْلُهُ : « أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ » . فقد حمله الشافعي وغيره على أَنَّ الْمُرَادَ بَذَلِكَ تحقق طُلُوع الْفَجِرِ ، وحَمِلَهُ الطَّحَاوِيُّ : على أَنَّ الْمُرَادَ به تَطْوِيل الْقِرَاءَةَ فِيهَا حَتَّى يَخرُج مِنَ الصَّلاة مُسْفِرًا .
قَوْلُهُ : ( مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ ) الْحَدِيث . قَالَ الشَّارِحُ : اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِ الْإِسْفَارِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : « قَبْلَ مِيقَاتِهَا » قَدْ بُيِّنَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ فِي وَقْتِ الْغَلَسِ . قَالَ الْحَافِظُ : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ ، لا أنه صلاها قبل أَنْ يطلعَ الفَجْر .(1/241)
قَوْلُهُ : « يَا مُعَاذُ إذَا كَانَ فِي الشِّتَاءِ فَغَلِّسْ بِالْفَجْرِ وَأَطِلْ الْقِرَاءَةَ قَدْرَ مَا يُطِيقُ النَّاسُ وَلَا تَمَلَّهُمْ ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ فَأَسْفِرْ بِالْفَجْرِ فَإِنَّ اللَّيْلَ قَصِيرٌ وَالنَّاسُ يَنَامُونَ فَأَمْهِلْهُمْ حَتَّى يُدْرِكُوا » . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ زَمَانِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فِي الْإِسْفَارِ وَالتَّغْلِيسِ مُعَلَّلَا بِتِلْكَ الْعِلَّةِ ، وَلَكِنَّهُ لَا يُعَارِضُ أَحَادِيثَ التَّغْلِيسِ .
بَابُ بَيَانِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا
وَوُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَقْتِ
601- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
602- وَلِلْبُخَارِيِّ : « إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَإِذَا أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ » .
603- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْعَصْرِ سَجْدَةً قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَوْ مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ . وَالسَّجْدَةُ هُنَا الرَّكْعَةُ .(1/242)
604- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ أَوْ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا » ؟ قُلْت : فَمَا تَأْمُرنِي ؟ قَالَ : « صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْتَهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ ».
605- وَفِي رِوَايَةٍ :« فَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ - وَأَنْتَ فِي الْمَسْجِدِ - فَصَلِّ ».
606- وَفِي أُخْرَى : « فَإِنْ أَدْرَكَتْكَ ( يَعْنِي الصَّلَاةَ ) مَعَهُمْ فَصَلِّ وَلَا تَقُلْ : إنِّي قَدْ صَلَّيْتُ فَلَا أُصَلِّي » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
607- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي أُمَرَاءُ تَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنْ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا » . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُصَلِّي مَعَهُمْ ؟ فَقَالَ : « نَعَمْ إنْ شِئْتَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ بِنَحْوِهِ .
608- وَفِي لَفْظِ : « وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ تَطَوُّعًا » .(1/243)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ أَدْرَكَ مِنْ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ » الْحَدِيث . وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ : « فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا إلَّا أَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْوَقْتِ ، وَأَنَّ صَلَاتَهُ تَكُونُ قَضَاءً ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . وَقَالَ الْبَعْضُ : أَدَاءٌ . وَالْحَدِيثُ يَرُدُّهُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَمُّدُ التَّأْخِيرِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْمُضْطَرِّينَ .
قَوْلُهُ : « يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ » أَيْ يُؤَخِّرُونَهَا فَيَجْعَلُونَهَا كَالْمَيِّتِ الَّذِي خَرَجَتْ رُوحُهُ وَالْمُرَادُ بِتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ لَا عَنْ جَمِيعِ وَقْتِهَا فَإِنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْأُمَرَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ إنَّمَا هُوَ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ وَلَمْ يُؤَخِّرْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ جَمِيعِ وَقْتِهَا فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا وَتَرْكِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأُمَرَاءِ إذَا أَخَّرُوهَا عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا ، وَأَنَّ الْمُؤْتَمَّ يُصَلِّيهَا مُنْفَرِدًا ثُمَّ يُصَلِّيهَا مَعَ الْإِمَامِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَطَاعَةِ الْأَمِيرِ .
قَوْلُهُ : « فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةً » صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْفَرِيضَةَ الْأُولَى وَالنَّافِلَةَ الثَّانِيَةَ .(1/244)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي أُمَرَاءُ تَشْغَلُهُمْ أَشْيَاءُ عَنْ الصَّلَاةِ لِوَقْتِهَا » . الْحَدِيث . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ رَأَى الْمُعَادَةَ نَافِلَةً ، وَلِمَنْ لَمْ يُكَفِّرْ تَارِكَ الصَّلَاةِ ، وَلِمَنْ أَجَازَ إمَامَةَ الْفَاسِقِ .
قَالَ الشَّارِحُ : الْأَصلُ أَنَّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ لِنَفْسِهِ صَحَّتْ لِغَيْرِهِ .
بَابُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ
609- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
610- وَلِمُسْلِمٍ : « إذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنْ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : ? أَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ? » .
611- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : ? وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ? » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .
612- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَوْمَهُمْ عَنْ الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : « إنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(1/245)
613- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ - فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ - قَالَ : ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
614- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : سَرَيْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ عَرَّسْنَا فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى أَيْقَظَنَا حَرُّ الشَّمْسِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا يَقُومُ دَهِشًا إلَى طَهُورِهِ ، فَقالَ : فَأَمَرَهُم النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَسْكُنُوا ، ثُمَّ ارتَحَلْنَا فَسَرَّنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ تَوَضَأ ، ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ، ثُمَّ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّيْنَا فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَلَا نُعِيدُهَا فِي وَقْتِهَا مِنْ الْغَدِ ؟ فَقَالَ : « أَيَنْهَاكُمْ رَبُّكُمْ تَعَالَى عَنْ الرِّبَا وَيَقْبَلُهُ مِنْكُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ الصَّلَاةِ إذَا مَا فَاتَتْ بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ وَهُوَ إجْمَاعٌ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ :(1/246)
وَفِيهِ أَنَّ الْفَوَائِتَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ وَأَنَّهَا تُقْضَى فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ وَغَيْرِهَا ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ فَإِنَّهَا لَا تُقْضَى عَنْهُ وَلَا يُطْعَمُ عَنْهُ لَهَا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ » وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهُ .
قَوْلُهُ : « لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَة » . قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّائِمَ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ حَالَ نَوْمِهِ وَهُوَ إجْمَاعٌ وَلَا يُنَافِيهِ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ مَا أَتْلَفَهُ وَإِلْزَامُهُ أَرْشَ مَا جَنَاهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ لَا التَّكْلِيفِيَّةِ ، وَأَحْكَامُ الْوَضْعِ تَلْزَمُ النَّائِمَ وَالصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ بِالِاتِّفَاقِ .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ ) . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَذَانِ لِلصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ . وَاسْتِحْبَابُ قَضَاءِ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ ؛ وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ صِفَةَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ كَصِفَةِ أَدَائِهَا ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُجْهَرُ فِي الصُّبْحِ الْمَقْضِيَّةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ . وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْجَهْرِ فِي قَضَاءِ الْفَجْرِ نَهَارًا .
قَوْلُهُ : ( سَرَيْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ) . الْحَدِيث . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :(1/247)
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَائِتَةَ يُسَنُّ لَهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَالْجَمَاعَةُ ، وَأَنَّ النِّدَاءَيْنِ مَشْرُوعَانِ فِي السَّفَرِ ، وَأَنَّ السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ تُقْضَى .
بَابُ التَّرْتِيبِ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ
615- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « وَاَللَّهَ مَا صَلَّيْتُهَا » . فَتَوَضَّأَ وَتَوَضَّأْنَا فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
616- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبَ بِهَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ كُفِينَا ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ? وَكَفَى اللَّهُ الْمُومِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ? قَالَ : فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلَالًا فَأَقَامَ الظُّهْرَ فَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلَاتهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ فَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ . قَالَ : وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ ? فَإِنَّ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ? . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَغْرِبَ .(1/248)
قَوْلُهُ : مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « وَاَللَّهَ مَا صَلَّيْتُهَا » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ لِعُذْرِ الِاشْتِغَالِ بِالْقِتَالِ ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي سَبَبِ تَرْكِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ لِهَذِهِ الصَّلَاةَ ، فَقِيلَ : تَرَكُوهَا نِسْيَانًا ، وَقِيلَ : شُغِلُوا فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا وَهُوَ الْأَقْرَبُ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ الْمَقْضِيَّةِ وَالْمُؤَدَّاةِ . قَالَ : وَحَدِيثُ أبِي سَعِيد يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ لِعُذْرِ الِاشْتِغَالِ بِحَرْبِ الْكُفَّارِ وَنَحْوِهِمْ ، لَكِنْ إنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ شَرْعِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ ، وَالْوَاجِبُ بَعْدَ شَرْعِيَّتِهَا عَلَى مَنْ حُبِسَ بِحَرْبِ الْعَدُوِّ أَنْ يَفْعَلَهَا ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ . قَالَ : وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي الْجَمَاعَةِ وَخَالَفَ فِيهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْفَوَائِتِ وَعَلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ - وَإِنْ قُضِيَتْ لَيْلًا - لَا يُجْهَرُ فِيهَا . وَعَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ نُسِخَ بِشَرْعِ صَلَاةِ الْخَوْفِ .
أَبْوَابُ الْأَذَانِ
بَابُ وُجُوبِهِ وَفَضِيلَتِهِ(1/249)
617- عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ لَا يُؤَذِّنُونَ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
618- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
619- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ .
620- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ أَرْشِدْ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
621- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « يَعْجَبُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلَاةِ يَخَافُ مِنِّي فَقَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .(1/250)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ لَا يُؤَذِّنُونَ وَلَا تُقَامُ فِيهِمْ الصَّلَاةُ إلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِأَنَّ التَّرْكَ الَّذِي هُوَ مِنْ اسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ يَجِبُ تَجَنُّبُهُ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « الْإِمَامُ ضَامِنٌ » . قَالَ الشَّارِحُ : الضَّمَانُ فِي اللُّغَةِ الْكَفَالَةُ وَالْحِفْظُ وَالرِّعَايَةُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ ضُمَنَاءُ عَلَى الْإِسْرَارِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ .
قَوْلُهُ : « وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ » قِيلَ : الْمُرَادُ أَنَّهُ أَمِينٌ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ . وَقِيلَ : أَمِينٌ عَلَى حُرَمِ النَّاسِ لِأَنَّهُ يُشْرِفُ عَلَى الْمَوَاضِعِ الْعَالِيَةِ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « يَعْجَبُ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي » . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ يُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ . والشَّظِيَّةُ : الطَّرِيقَةُ كَالْجَدَّةِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَيُقَالُ : الشَّظِيَّةُ لِلْقِطْعَةِ الْمُرْتَفِعَةِ مِنْ الْجَبَلِ .
بَاب صِفَةُ الْأَذَانِ(1/251)
622- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ قَالَ : لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَضْرِبَ بِالنَّاقُوسِ - وَهُوَ لَهُ كَارِهٌ لِمُوَافَقَتِهِ النَّصَارَى - طَافَ بِي مِنْ اللَّيْلِ طَائِفٌ - وَأَنَا نَائِمٌ - رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ ، وَفِي يَدِهِ نَاقُوسٌ يَحْمِلُهُ قَالَ : فَقُلْت : يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ ، قَالَ : وَمَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : قُلْت : نَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ ، قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّك عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقُلْت : بَلَى ، قَالَ : تَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . قَالَ : ثُمَّ اسْتَأْخَرَ غَيْرَ بَعِيدٍ قَالَ : ثُمَّ تَقُولُ إذَا أَقَمْت الصَّلَاةَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . قَالَ : فَلَمَّا أَصْبَحْت أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَا حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ » . ثُمَّ(1/252)
أَمَرَ بِالتَّأْذِينِ فَكَانَ بِلَالٌ - مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ - يُؤَذِّنُ بِذَلِكَ وَيَدْعُو رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الصَّلَاةِ قَالَ : فَجَاءَهُ فَدَعَاهُ ذَاتَ غَدَاةٍ إلَى الْفَجْرِ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَائِمٌ فَصَرَخَ بِلَالٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : فَأُدْخِلَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي التَّأْذِينِ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
623- وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ ، وَفِيهِ : فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت ، فَقَالَ : « إنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْت فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ » . قَالَ : فَقُمْت مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلْت أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ قَالَ : فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ - فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ يَقُولُ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الَّذِي رَأَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « فَلِلَّهِ الْحَمْدُ » .
624- وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا الطَّرَفُ مِنْهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
625- وَرَوَى التِّرْمذي هَذَا الطَّرفَ مِنْهُ بِهَذِهِ الطَّرِيق وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح .
وَلَيْسَ فِيهِ لِلنِّسَائِي والتِّرْمذي وابن مَاجَةْ : ( إِلا الإِقَامَة ) .(1/253)
626- وَعَنْ ابن عُمر قَالَ : إِنَّمَا كَانَ الأَذَان عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ مَرَّتَيْن مَرَّتَيْن . وَالإِقَامَةُ مَرَّة مَرَّة ، غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ : قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد والنِّسَائِي .
627- وَعَنْ أَبِي محذورة أَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ هَذَا الأَذَانُ : ( اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُول : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَرَّتَيْن أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ مَرَّتَيْن حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْن ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، مَرَّتَيْن ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ) . رَواهُ مسلم .
628- وَالنِّسَائِي - وَذَكَر التَّكْبِير فِي أَوِّلِهِ أَرْبَعًا .
629- وَلِلْخَمْسَةِ - عَنْ أَبِي محذورة - أَنَّ النَّبيِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الأَذَان تسع عَشْرة كلمة ، وَالإِقَامَةُ سبع عشرة . قَالَ التِّرْمذي : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحُ .
630- وَعَنْ أَبِي محذورة قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي سُنَّةَ الأَذَانِ فَعَلَّمَهُ وَقَالَ : « فَإِنْ كَانَ صَلاةَ الصُّبْحِ قُلْتَ : الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ، الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ، اللهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لا إِله إِلا الله » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(1/254)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ : لَيْسَ فِي أَخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ . قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ فِيهِ تَرْبِيعُ التَّكْبِيرِ ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالصَّادِقُ وَالْهَادِي وَالْقَاسِمُ إلَى تَثْنِيَتِهِ مُحْتَجِّينَ بِمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ التَّثْنِيَةِ . وَبِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْحَقُّ أَنَّ رِوَايَاتِ التَّرْبِيعِ أَرْجَحُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الزِّيَادَةِ ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ لِعَدَمِ مُنَافَاتِهَا وَصِحَّةِ مَخْرَجِهَا . قال : وَالتَّرْجِيعُ هُوَ الْعَوْدُ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ بَعْدَ قَوْلِهَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ بِخَفْضِ الصَّوْتِ . قال النووي : وقد ذهب جماعة من المحدثين وغيرهم إلى التخيير بين فعل الترجيح وتركه . قال الشارح : وفيه لتثويب في صلاة الفجر ، لقول سعيد بن المسيب فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر يعني قول بلال : ( الصلاة خير من النوم ) وزاد ابن ماجة : فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال : والتثويب زيادة ثابتة فالقول بها لازم . والحديث ليس فيه ذكر ( حي على خير العمل ) وقد ذهبت العترة إلى إثباتها وأنه بعد قول المؤذن ( حي على الفلاح ) قالوا : يقول مرتين : ( حي على خير العمل ) ونسبه المهدي في البحر إلى أحد قولي الشافعي وهو خلاف ما في كتب الشافعية فإنا لم نجد في شيء منها هه المقالة بل خلاف ما في كتب أهل البيت . قال في(1/255)
الانتصار : إن الفقهاء الأربعة لا يختلفون في ذلك يعني في أن ( حي على خير العمل ) ليس من ألفاظ الأذان . قال : وفي الحديث إفراد الإقامة إلى التكبير في أولها وآخرها و ( قد قامت الصلاة ) وقد اختلف الناس في ذلك . وفيه دليل على استحباب اتخاذ مؤذن حسن الصوت وقد أخرج الدرامي وأبو الشيخ بإسناد متصل بأبي محذوزرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بنحو عشرين رجلاً فأذنوا فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان . قال الزبي بن بكار : كان أبو محذورة أحسن الناس صوتًا وأذانًا . ولبعض شعراء قريش في أذان أبي محذورة :
-
-
أما ورب الكعبة المستوره
-
-
وما تلا حمد من سوره
-
- -
- -
والنغمات من أبي محذوره
-
-
لأفعلن فعلة مذكوره
-
-(1/256)
قَوْلُهُ : ( أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) قال الشارح : قوله : ( أن يشفع الأذان ) أي يأتي بألفاظ شفعًا وهو مفسر بقوله : ( مثنى مثى ) قال الافظ : لكن لم يختلف في أن كلمة التوحيد التي في آخره مفردة ، فيحمل قوله : ( مثنى ) على ما سواها . قال الشارح : وقد استشكل عدم استثناء التكبير في الإقامة يثني كما تقدم في حديث عبد الله بن زيد وأجيب بأنه وتر بالنسبة إلى تكبير لأذان فإن التكبير في أول الأذان أربع وهذا إنما يتم في تكبير أول الأذان لا في آخره كما قال الحافظ : وأنت خبير بأن ترك استثنائه في هذا الحديث لا يقدح في ثبوته لأن روايات التكرير زيادة قبولة . إلى أن قال : وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفراد الإقامة وتثنيتها . قال أبو عمر بن عبد البر : ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن رهويه وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير قالوا : كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال الله أكبر أربعًا في أول الأذان ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله : قد قمات الصلاة فإن ذلك مرتان على كل حال . انتهى ملخصًا .
بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ
631- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .(1/257)
632- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ لَهُ : « إنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِك أَوْ بَادِيَتِك فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعَ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ مَدِّ الصَّوْتِ فِي الْأَذَانِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ وَشَهَادَةِ الْمَوْجُودَاتِ وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَجِيءِ إلَى الصَّلَاةِ فَكُلُّ مَا كَانَ أَدْعَى لِإِسْمَاعِ الْمَأْمُورِينَ بِذَلِكَ كَانَ أَوْلَى . قِيلَ : هُوَ تَمْثِيلٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي يُؤَذِّنُ فِيهِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يَبْلُغُهُ صَوْتُهُ ذُنُوبٌ تَمْلَأُ تِلْكَ الْمَسَافَةِ لَغَفَرَهَا اللَّهُ .(1/258)
قَوْلُهُ : « إنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِك أَوْ بَادِيَتِك فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعَ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ : وَالسِّرُّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهَا تَقَعُ عِنْدَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّ أَحْكَامَ الْآخِرَةِ جَرَتْ عَلَى نَعْتِ أَحْكَامِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا مِنْ تَوَجُّهِ الدَّعْوَى ، وَالْجَوَابِ وَالشَّهَادَةِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إشْهَارُ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْفَضْلِ وَعُلُوِّ الدَّرَجَةِ ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ يَفْضَحُ بِالشَّهَادَةِ قَوْمًا كَذَلِكَ يُكْرِمَ بِالشَّهَادَةِ آخَرِينَ . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ حُبَّ الْغَنَمِ وَالْبَادِيَةِ لَاسِيَّمَا عِنْدَ نُزُولِ الْفِتْنَةِ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ .
بَابُ الْمُؤَذِّنِ يَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ
وَيَلْوِي عُنُقَهُ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ وَلَا يَسْتَدِيرُ(1/259)
633- عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ : أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ - وَهُوَ بِالْأَبْطَحِ فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ - قَالَ : فَخَرَجَ بِلَالٌ بِوَضُوئِهِ فَمِنْ نَاضِحٍ وَنَائِلٍ قَالَ : فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - - عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ سَاقَيْهِ - قَالَ : فَتَوَضَّأَ وَأَذَّنَ بِلَالٌ فَجَعَلْت أَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا يَقُولُ يَمِينًا وَشِمَالًا : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ ثُمَّ رُكِزَتْ لَهُ عَنَزَةٌ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ لَا يَمْنَعُ . وَفِي رِوَايَةٍ : تَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
634- وَلِأَبِي دَاوُد : رَأَيْت بِلَالًا خَرَجَ إلَى الْأَبْطَحِ فَأَذَّنَ فَلَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ لَوَى عُنُقَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَمْ يَسْتَدِرْ .
635- وَفِي رِوَايَةٍ : رَأَيْت بِلَالًا يُؤَذِّنُ وَيَدُورُ وَأَتَتَبَّعُ فَاهُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا وَأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ قَالَ : وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي قُبَّةٍ لَهُ حَمْرَاءَ أُرَاهَا مِنْ أَدَمٍ قَالَ : فَخَرَجَ بِلَالٌ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْعَنَزَةِ فَرَكَّزَهَا فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى بِرِيقِ سَاقَيْهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(1/260)
قَوْلُهُ : ( رَأَيْت بِلَالًا يُؤَذِّنُ وَيَدُورُ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي الِاسْتِدَارَةِ ، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ يَسْتَدِيرُ ، وَفِي بَعْضِهَا وَلَمْ يَسْتَدِرْ كَمَا سَلَفَ ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تُرْوَ الِاسْتِدَارَةُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجٍ وَإِدْرِيسَ الْأَوْدِيِّ وَهُمَا ضَعِيفَانِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الِاسْتِدَارَةَ عَنَى بِهَا اسْتِدَارَةَ الرَّأْسِ ، وَمَنْ نَفَاهَا عَنَى اسْتِدَارَةَ الْجَسَدِ كُلَّهُ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَدُورُ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى مَنَارَةٍ لِقَصْدِ إسْمَاعِ أَهْلِ الْجِهَتَيْنِ . وَفِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ وَضْعِ الْأُصْبُعَيْنِ فِي الْأُذُنَيْنِ ، وَفِي ذَلِكَ فَائِدَتَانِ ذَكَرَهُمَا الْعُلَمَاءُ الْأُولَى : أَنَّ ذَلِكَ أَرْفَعُ لِصَوْتِهِ ، وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ عَلَامَةٌ لِلْمُؤَذِّنِ لِيَعْرِفَ مَنْ يَرَاهُ عَلَى بُعْدٍ أَوْ مَنْ كَانَ بِهِ صَمَمٌ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ الْأَذَانِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَيْهِ فِي الْفَجْرِ خَاصَّةً
636- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ لَا يَخْرُمُ ثُمَّ لَا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ حِينَ يَرَاهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .(1/261)
637- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ - أَوْ قَالَ : يُنَادِي بِلَيْلٍ - لِيَرْجِعَ قَائِمَكُمْ وَيُوقَظَ نَائِمَكُمْ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
638- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ ، وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلِ هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا » يَعْنِي مُعْتَرِضًا . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
639- وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُمَا : « لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُوركُمْ أَذَانُ بِلالٍ ، وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ ، وَلَكِنْ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ » .
640- وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
641- وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ : « فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ » .
642- وَلِمُسْلِمٍ : وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( لَا يَخْرُمُ ) أَيْ لَا يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ أَلْفَاظِهِ . الْحَدِيثُ فِيهِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَذَانِ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ بِدُونِ تَقْدِيمٍ وَلَا تَأْخِيرٍ . وَهَكَذَا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ إلَّا الْفَجْرَ . وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْمُقِيمَ لَا يُقِيمُ إلَّا إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :(1/262)
وَفِيهِ أَنَّ الْفَرِيضَةَ تُغْنِي عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ .
قَوْلُهُ : « لِيَرْجِعَ » بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ الْمُخَفَّفَةِ مَعْنَاهُ يَرُدُّ الْقَائِمَ : أَيْ الْمُجْتَهِدَ إلَى رَاحَتِهِ لِيَقُومَ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ نَشِيطًا ، أَوْ يَتَسَحَّرَ إنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ إلَى الصِّيَامِ وَيُوقِظُ النَّائِمَ لَيَتَأَهَّبَ لِلصَّلَاةِ بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَذَانِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ خَاصَّةً . انْتَهَى . قال الموفق في المغني : ويستحب أن لا يؤذن قبل الفجر إلا أن يكون معه مؤذن آخر يؤذن إذا أصبح كفعل بلال وابن أم مكتوم اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه إذا لم يكن كذلك لم يحصل الإعلام بالوقت المقصود بالأذان فإذا كانا مؤذنين حصل الإعلام بالوقت بالثاني وبقربه بالمؤذن الأول وينبغي لمن يؤذن قبل الوقت أن يجعل أذانه في وقت واحد في الليالي كلها ليعلم الناس ذلك من عادته فيعرفوا الوقت بأذانه ، ولا يؤذن في الوقت تارة وقبله أخرى فيلبس على الناس ويغتروا بأذنه فربما صلى بعض من مسعه الصبح ربما امتنع المتحسر من سحوره والمنتقل من صلاته بناء على أذانه ومن علم حاله لا يستفيد بأذانه فائدة لتردده بين الاحتمالين . انتهى . قال الشارح : والحكمة في اختصاص صلاة الفجر بهذا من بين الصلوات ما ورد من الترغيب في الصلاة لأول الوقت والصبح يأتي غالبًا عقيب النوم فناسب أن ينصب من يوقظ الناس قبل دخول وقتها ليتأهبوا ويدركوا فضيلة الوقت .(1/263)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ ، وَلَا بَيَاضُ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلِ هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا » يَعْنِي مُعْتَرِضًا . قَالَ الشَّارِحُ : صِفَةُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ مُبَيَّنَةٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي الصَّوْمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ : وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَصَوَّبَ يَدَهُ رَفَعَهَا حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَفَرَّجَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ . وَفِي رِوَايَةٍ : لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا . وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ نَكَّسَهَا إلَى الْأَرْضِ ، وَلَكِنْ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا وَجَمَعَ أَصَابِعَهُ وَوَضَعَ الْمُسَبِّحَةَ عَلَى الْمُسَبِّحَةِ وَمَدَّ يَدَيْهِ . وَفِي رِوَايَةٍ : لَيْسَ الَّذِي يَقُولُ هَكَذَا ، وَلَكِنْ يَقُولُ هَكَذَا . وَفَسَّرَهَا جَرِيرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْفَجْرَ هُوَ الْمُعْتَرِضُ وَلَيْسَ بِالْمُسْتَطِيلِ ، وَالْمُعْتَرِضُ هُوَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ ، وَيُقَالُ لَهُ : الثَّانِي ، وَالْمُسْتَطِيرُ بِالرَّاءِ ، وَأَمَّا الْمُسْتَطِيلُ بِاللَّامِ فَهُوَ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ الَّذِي يَكُونُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ . وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ : « وَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ الْفَجْرُ أَوْ الصُّبْحُ » . وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ وَرَفَعَهَا إلَى فَوْقُ وَطَأْطَأَ إلَى أَسْفَلَ حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا وَقَالَ زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى ثُمَّ أَمَرَّهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ .(1/264)
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اتِّخَاذِ مُؤَذِّنَيْنِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ أَذَانِ الْأَعْمَى ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ إذَا كَانَ مَعَهُ مُؤَذِّنٌ آخَرُ يَهْدِيهِ لِلْأَوْقَاتِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَبَعْدَ الْأَذَانِ
643- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
644- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ فَقَالَ : أَحَدُكُمْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، ثُمَّ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ - مِنْ قَلْبِهِ - دَخَلَ الْجَنَّةَ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .(1/265)
645- وَعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - أَوْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - - أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا » . وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ بِنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي سَائِرِ الْأَذَانِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
646- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ . اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ ، وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا .
647- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ عَشْرًا ، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ .
648- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .(1/266)
قَوْلُهُ : « إذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ السَّامِعُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ الْحَيْعَلَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى تَخْصِيصِ الْحَيْعَلَتَيْنِ بِحَدِيثِ عُمَرَ ، فَقَالُوا : يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ فِيمَا عَدَا الْحَيْعَلَتَيْنِ ، وَأَمَّا فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ فَيَقُولُ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
قَوْلُهُ : ( فَلَمَّا أَنْ قَالَ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا » ... الْحَدِيثُ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ مُجَاوَبَةِ الْمُقِيمِ . وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِسَامِعِ الْإِقَامَةِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ قَوْلِ الْمُقِيمِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ : أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْإِقَامَةِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ لَعَلَّهُ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَوْلُهُ : « آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ » . قَالَ الشَّارِحُ : الْوَسِيلَةَ : مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ يُقَالُ : تَوَسَّلْت أَيْ تَقَرَّبْت وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَنْزِلَةِ الْعَلِيَّةِ . قَالَ : وَالْمُتَعَيَّنُ أّنَّها مَنْزِلَة فِي الجنةِ كمَا فِي الحَدَيثِ . قَالَ الْمُهَلَّبُ : فِي الْحَدِيثِ الْحَضُّ عَلَى الدُّعَاءِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّهُ حَالُ رَجَاءِ الْإِجَابَةِ .(1/267)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ عَيَّنَ مَا يُدْعَى بِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَالَ : « الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لَا يُرَدُّ » . قَالُوا : فَمَا نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ » . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
بَابُ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ
649- عَنْ زَيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يَا أَخَا صُدَاءَ أَذِّنْ » ، قَالَ : فَأَذَّنْت ، وَذَلِكَ حِينَ أَضَاءَ الْفَجْرُ ، قَالَ : فَلَمَّا تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يُقِيمُ أَخُو صُدَاءَ فَإِنَّ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَلَفْظُهُ لِأَحْمَدَ .
650- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أُرِيَ الْأَذَانَ ، قَالَ فَجِئْت إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : « أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ » . فَأَلْقَيْته فَأَذَّنَ فَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا رَأَيْت أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ ، قَالَ : « فَأَقِمْ أَنْتَ » . فَأَقَامَ هُوَ وَأَذَّنَ بِلَالٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(1/268)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ . قَالَ الْحَازِمِيُّ : وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ غَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَوْلَوِيَّةِ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : لَا فَرْقَ ، وَالْأَمْرُ مُتَّسِعٌ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْأَخْذُ بِحَدِيثِ الصُّدَائِيِّ أَوْلَى لِأَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْآتِي كَانَ أَوَّلَ مَا شُرِعَ الْأَذَانُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى ، وَحَدِيثُ الصُّدَائِيِّ بَعْدَهُ .
بَابُ الْفَصْلِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ بِجِلْسَةٍ
651- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَقَدْ أَعْجَبَنِي أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ - أَوْ الْمُؤْمِنِينَ - وَاحِدَةً » . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمَّا رَجَعْت لِمَا رَأَيْت مِنْ اهْتِمَامِك ، رَأَيْت رَجُلًا كَأَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ أَخْضَرَيْنِ فَقَامَ عَلَى الْمَسْجِدِ فَأَذَّنَ ، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ .
بَابُ النَّهْيِ عَنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ(1/269)
652- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ : آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى أَذَانِهِ جُعْلاً ، وَيَقُولُ : إنْ أُعْطِيَ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَلَا بَأْسَ . قال الموفق في المغني : ولا يجوز أخذ الأجرة على الأذان في ظاهر المذهب وحكى عن أحمد رواية أخرى أنه يجوز أخذ الأجرة عليه ، ولا نعلم خلافًا في جواز أخذ الرزق عليه لأن بالمسلمين حاجة إليه وقد لا يوجد به ويرزقه الإمام من الفيء . انتهى ملخصًا .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْأُجْرَةَ تَحْرُمُ إذَا كَانَتْ مَشْرُوطَةً إلا إذَا أُعْطِيهَا بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ .
بَابٌ فِيمَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ
653- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : عَرَّسْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ نَسْتَيْقِظْ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ بِرَاسِ رَاحِلَتِهِ ، فَإِنَّ هَذَا مَنْزِلٌ حَضَرَنَا فِيهِ الشَّيْطَانُ » . قَالَ : فَفَعَلْنَا ثُمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ صَلَّى سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْغَدَاةَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
654- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ سَجْدَتَيْ الْفَجْرِ ، وَقَالَ فِيهِ : فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى .(1/270)
655- وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ إلَّا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَقْضِيَّةِ . قال : وفيه اسْتِحْبَاب الجماعة في الفائتة .
أَبْوَابُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ
بَابُ وُجُوبِ سَتْرِهَا
656- عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ ؟ قَالَ : « احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك » . قُلْت : فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ ؟ قَالَ : « إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا » . قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ : « فَاَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ .(1/271)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ : « إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك » يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا النَّظَرُ إلَى ذَلِكَ مِنْهُ ، وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ . قَالَ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ لِلْعَوْرَةِ .
بَابُ بَيَانِ الْعَوْرَةِ وَحَدِّهَا
657- عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّه وَجْهه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لا تُبْرِزْ فَخِذَك ، وَلَا تَنْظُرْ إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
658- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَعْمَرٍ - وَفَخِذَاهُ مَكْشُوفَتَانِ - فَقَالَ : « يَا مَعْمَرُ غَطِّ فَخِذَيْك فَإِنَّ الْفَخِذَيْنِ عَوْرَةٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ .
659- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الْفَخِذُ عَوْرَةٌ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
660- وَأَحْمَدُ وَلَفْظُهُ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ - وَفَخِذُهُ خَارِجَةٌ - فَقَالَ : « غَطِّ فَخِذَيْك فَإِنَّ فَخِذَ الرَّجُلِ مِنْ عَوْرَتِهِ » .
661- وَعَنْ جَرْهَدٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ ، وَقَدْ انْكَشَفَتْ فَخِذِي - فَقَالَ : « غَطِّ فَخِذَك فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ » . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حديث حَسَنٌ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
بَابُ مَنْ يَرَ الْفَخِذَ مِنْ الْعَوْرَةِ(1/272)
وَقَالَ هِيَ السَّوْأَتَانِ فَقَطْ
662- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ جَالِسًا كَاشِفًا عَنْ فَخِذِهِ فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ - وَهُوَ عَلَى حَالِهِ - ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ - وَهُوَ عَلَى حَالِهِ - ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَأَرْخَى عَلَيْهِ ثِيَابَهُ ، فَلَمَّا قَامُوا قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَأَذِنْت لَهُمَا ، وَأَنْتَ عَلَى حَالِكَ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ أَرْخَيْت عَلَيْكَ ثِيَابَك ، فَقَالَ : « يَا عَائِشَةُ أَلَا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ ، وَاَللَّهِ إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَسْتَحْيِي مِنْهُ » ؟ رَوَاهُ أَحْمَدُ .
663- وَرَوَى أَحْمَدُ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِنَحْوِ ذَلِكَ وَلَفْظُهُ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ بَيْنَ فَخِذَيْهِ . وَفِيهِ : فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ تَجَلَّلَ بِثَوْبِهِ .
664- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ خَيْبَرَ حَسَرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إنِّي لَأَنْظُرُ إلَى بَيَاضِ فَخِذِهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ : حَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ وَحَدِيثُ جَرْهَدَ أَحْوَطُ .(1/273)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : والحقُّ أَنَّ الْفَخِذَ مِنْ الْعَوْرَةِ ، وَأَمَّا حديثا عائشة وَأَنَسٍِ فَهُمَا وَارِدَان في قَضَايَا مُعَيَّنة مَخْصُوصَة يَتَطَرَّق إِلَيْهَا مِن احْتِمَالِ الْخُصُوصِيَّةِ أَو البَقَاءِ عَلَى أَصْلِ الإِبَاحَةِ مَا لا يَتَطَرَّق إِلَى الأحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ لأَنَّهَا تَتَضَمَّن إِعْطَاء حُكْم كُلِّي وَإِظْهَار شَرْع عَام ، فَكَانَ الْعَمَلُ بِهَا أَوْلَى ، عَلَى أنَّ أَطْرَافَ الفَخْذِ قَدْ يُتَسَامَح فِي كَشْفِهِ لاسِيَّمَا فِي مَوَاطِنِ الحَرْبِ وَمَوَاقِفِ الْخَصَامِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الأُصُولِ أَنَّ القَوْل أَرْجَحُ مِنَ الْفِعْلِ .
بَابُ بَيَانِ أَنَّ السُّرَّةَ وَالرُّكْبَةَ لَيْسَتَا مِنْ الْعَوْرَةِ
665- عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ قَاعِدًا فِي مَكَان فِيهِ مَاءٌ فَكَشَفَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ أَوْ رُكْبَتِهِ فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ غَطَّاهَا . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
666- وَعَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : كُنْت مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَلَقِيَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ : أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْك حَيْثُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُ ، فَقَالَ بِقَمِيصِهِ فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/274)
667- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَغْرِبَ ، فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ ، وَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْرِعًا قَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ قَدْ حَسَرَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ : « أَبْشِرُوا هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمْ يَقُولُ : اُنْظُرُوا إلَى عِبَادِي قَدْ صَلَّوْا فَرِيضَةً ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
668 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ - آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتَيْهِ - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ فَسَلَّمَ » وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .(1/275)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ الْأحَادِيث لِمَذْهَبِ مَنْ قَالَ : إنَّ الرُّكْبَةَ وَالسُّرَّةَ لَيْسَتَا مِنْ الْعَوْرَةِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فِي حَدِيثِ : « وَإِذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ خَادِمَهُ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونِ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ » . وَلَكِنَّهُ أَخَصُّ مِنْ الدَّعْوَى وَالدَّلِيلِ عَلَى مُدَّعِي أَنَّهُمَا عَوْرَةٌ ، وَالْوَاجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ حَتَّى يَنْتَهِضَ مَا يَتَعَيَّنُ بِهِ الِانْتِقَالُ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَالرُّجُوعُ إلَى مُسَمَّى الْعَوْرَةِ لُغَةً هُوَ الْوَاجِبُ ، وَيُضَمُّ إلَيْهِ الْفَخِذَانِ بِالنُّصُوصِ السَّالِفَةِ .
قَوْلُهُ : « أَمَّا صَاحِبُكُمْ فَقَدْ غَامَرَ » قَالَ الشَّارِحُ : الْمُغَامِرُ فِي الْأَصْلِ الْمُلْقِي بِنَفْسِهِ فِي الْغَمْرَةِ ، وَغَمْرَةُ الشَّيْءِ شِدَّتُهُ وَمُزْدَحِمُهُ ، الْجَمْعُ غَمَرَاتٍ . وَالْمُرَادُ بِالْمُغَامَرَةِ هُنَا الْمُخَاصَمَةُ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّكْبَةَ لَيْسَتْ عَوْرَةً . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى :
وَالْحُجَّةُ مِنْهُ أَنَّهُ أَقَرَّهُ عَلَى كَشْفِ الرُّكْبَةِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ .
بَابُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا
669- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ .(1/276)
670- وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ وَلَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ ؟ ، قَالَ : « إذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
671- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَكَيْفَ يَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ ؟ قَالَ : « يُرْخِينَ شِبْرًا » . قَالَتْ : إذَنْ يَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ ، قَالَ : « فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
672- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَلَفْظُهُ : أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلْنَهُ عَنْ الذَّيْلِ ، فَقَالَ : « اجْعَلْنَهُ شِبْرًا » . فَقُلْنَ : إنَّ شِبْرًا لا يَسْتُرُ مِنْ عَوْرَةٍ . فَقَالَ : « اجْعَلْنَهُ ذِرَاعًا » .(1/277)
قَوْلُهُ : « لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَائِضُ : مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْمَحِيضِ . وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْمَرْأَةِ لِرَأْسِهَا حَالَ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ عَوْرَةِ الْحُرَّةِ فَقِيلَ : جَمِيعُ بَدَنِهَا مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ . وَقِيلَ : وَالْقَدَمَيْنِ وَمَوْضِعِ الْخَلْخَالِ . وَقِيلَ : بَلْ جَمِيعُهَا إلَّا الْوَجْهَ . وَقِيلَ : جَمِيعُهَا بِدُونِ اسْتِثْنَاءٍ . وَسَبَبُ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا وَقَعَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : ? إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ? . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ : « لَا يَقْبَلُ » صَالِحٌ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ كَمَا قِيلَ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ : ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ . قَالَ : وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الذَّاكِرِ وَالنَّاسِي ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ كَوْنَهُ سُنَّةً لَا يُبْطِلُ تَرْكُهَا الصَّلَاةَ . قَالَ الشَّارِحُ : فَالْحَقُّ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةَ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ فَقَطْ كَسَائِرِ الْحَالَاتِ لَا شَرْطٌ يَقْتَضِي تَرْكُهُ عَدَمَ الصِّحَّةِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .(1/278)
قَالَ : وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ دَلِيلٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِ الْقَدَمَيْنِ مِنْ عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : « يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا » . يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَفْوِ . انْتَهَى . قال في الاختبارات : وقد اختلفت عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة . فقال بعضهم : ليس بعورة . وقال بعضهم : عورة وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة . والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة ، وهو عورة في باب النظر إذا لم يجز النظر إليه .
بَابُ النَّهْيِ عَنْ تَجْرِيدِ الْمَنْكِبَيْنِ فِي الصَّلَاةِ
إلَّا إذَا وَجَدَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَحْدَهَا
673- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَلَكِنْ قَالَ : « عَلَى عَاتِقَيْهِ » . وَلِأَحْمَدَ اللَّفْظَانِ .
674- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، فَلْيُخَالِفْ بِطَرَفَيْه » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَحْمَدٌ وَأَبُو دَاوُد ، وَزَادَ « عَلَى عَاتِقِهِ » .
675- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا صَلَّيْت فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاِتَّزِرْ بِهِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلَفْظُهُ لِأَحْمَدَ .
676- وَفِي لَفْظٍ لَهُ آخَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا مَا اتَّسَعَ الثَّوْبُ فَلْتُعَاطِفْ بِهِ عَلَى مَنْكِبَيْك ثُمَّ صَلِّ ، وَإِذَا ضَاقَ عَنْ ذَلِكَ فَشُدَّ بِهِ حَقْوَيْك ، ثُمَّ صَلِّ مِنْ غَيْرِ رِدَاءٍ » .(1/279)
قَوْلُهُ : « لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْعَاتِقُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ إلَى أَصْلِ الْعُنُقِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَتَّزِرُ فِي وَسَطِهِ وَيَشُدُّ طَرَفَيْ الثَّوْبِ فِي حَقْوَيْهِ بَلْ يَتَوَشَّجُ بِهِمَا عَلَى عَاتِقَيْهِ فَيَحْصُلُ السَّتْرُ مِنْ أَعَالِي الْبَدَنِ ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ، أَوْ لِكَوْنِ ذَلِكَ أَمْكَنَ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا أَعْلَمُ صِحَّتَهُ ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي ثَوْبَيْنِ أَفْضَلُ ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَاتِقِ الْمُصَلِّي مِنْهُ شَيْءٌ ، وَقَدْ حَمَلَ الْجُمْهُورُ هَذَا النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَتَرَكَهُ . وَعَنْهُ أَيْضًا تَصِحُّ وَيَأْثَمُ . وَجَمَعَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُصَلِّيَ مُشْتَمِلًا فَإِنْ ضَاقَ اتَّزَرَ . وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ مَنْ صَلَّى فِي قَمِيصٍ غَيْرِ مُزَرَّرٍ
تَبْدُو مِنْهُ عَوْرَتُهُ فِي الرُّكُوعِ أَوْ غَيْرِهِ(1/280)
677- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَكُونُ فِي الصَّيْدِ وَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ قَالَ : « فَزُرَّهُ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ إلَّا شَوْكَةً » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
678 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْتَزِمَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
679- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي رَهْطٍ مِنْ مُزَيْنَةُ فَبَايَعْنَاهُ ، وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ قَالَ : فَبَايَعْتُهُ فَأَدْخَلْت يَدِي مِنْ قَمِيصِهِ فَمَسِسْت الْخَاتَمَ ، قَالَ عُرْوَةُ : فَمَا رَأَيْت مُعَاوِيَةَ وَلَا أَبَاهُ فِي شِتَاءٍ وَلَا حَرٍّ إلَّا مُطْلِقَيْ أَزْرَارِهِمَا لَا يُزَرِّرَانِ أَبَدًا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : ( وَأُصَلِّي وَلَيْسَ عَلَيَّ إلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَفِي الْقَمِيصِ مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ مُقَيَّدًا بِعَقْدِ الزُّرَارِ .
قَوْلُهُ : ( نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ حَتَّى يَحْتَزِمَ ) . أَي مَخَافَة أَنْ يُرَى فَرْجَهُ إِذَا رَكَعَ ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرهُ .(1/281)
قَوْلُهُ : ( وَإِنَّ قَمِيصَهُ لَمُطْلَقٌ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَكَانَ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَكُونَ جُيُوبُهُمْ وَاسِعَةً فَرُبَّمَا يَشُدُّونَهَا وَرُبَّمَا يَتْرُكُونَهَا مَفْتُوحَةً مُطْلَقَةً . وَالْمُصَنِّفُ أَوْرَدَهُ هَا هُنَا تَوَهُّمًا مِنْهُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ سَلَمَةَ خَاصٌّ بِالصَّلَاةِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِإِيرَادِهِ هُنَا الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى جَوَازِ إطْلَاقِ الزُّرَارِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تَرْجَمَةُ الْبَابِ لَا تُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى :
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْقَمِيصَ لَمْ يَكُنْ وَحْدَهُ .
بَابُ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبَيْنِ وَجَوَازِهَا فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ
680- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، فَقَالَ : « أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ » ؟ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
681- زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ : ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ : إذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ وَرِدَاءٍ ، فِي إزَارٍ وَقَمِيصٍ ، فِي إزَارٍ وَقَبَاء ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاء ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاء ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ . قَالَ : وَأَحْسَبُهُ قَالَ : فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ .
682- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(1/282)
683- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ : رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَدْ أَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ » قَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَفْظُهُ اسْتِخْبَارٌ وَمَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ قِلَّةِ الثِّيَابِ وَوَقَعَ فِي ضِمْنِهِ الْفَتْوَى مِنْ طَرِيقِ الْفَحْوَى ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : إذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ ، وَالصَّلَاةُ لَازِمَةٌ ، وَلَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَانِ فَكَيْفَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ جَائِزَةٌ مَعَ مُرَاعَاةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ .
قَوْلُهُ : ( وَقَبَاء ) بِالْقَصْرِ وَبِالْمَدِّ . قِيلَ : هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ ، وَقِيلَ : عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنْ قَبَوْت الشَّيْءَ إذَا ضَمَمْت أَصَابِعَك سُمِّيَ بِذَلِكَ لِانْضِمَامِ أَطْرَافِهِ .
قَوْلُهُ : ( فِي تُبَّانٍ ) التُّبَّانُ بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَهُوَ عَلَى هَيْئَةِ السَّرَاوِيلِ . إلا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رِجْلَانِ . قَالَ : وَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرَ عُمَرُ مِنْ الْمَلَابِسِ سِتَّةٌ ، ثَلَاثَةٌ لِلْوَسَطِ وَثَلَاثَةٌ لِغَيْرِهِ ، فَقَدَّمَ مَلَابِسَ الْوَسَطِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ سَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَقَدَّمَ أَسْتَرَهَا وَأَكْثَرَهَا اسْتِعْمَالًا لَهُمْ ، وَضَمَّ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدًا فَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ تِسْعُ صُوَرٍ وَلَمْ يَقْصِدْ الْحَصْرَ فِي ذَلِكَ بَلْ يَلْحَقُ بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ صَحِيحَةٌ .(1/283)
قَوْلُهُ : ( مُتَوَشِّحًا بِهِ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَاكِيًا عَنْ الْأَخْفَشِ : إنَّ التَّوَشُّحَ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ طَرَفَ الثَّوْبِ الْأَيْسَرِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُسْرَى فَيُلْقِيَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ وَيُلْقِيَ طَرَفَ الثَّوْبِ الْأَيْمَنِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ ، قَالَ : وَهَذَا التَّوَشُّحُ الَّذِي جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ إذَا تَوَشَّحَ بِهِ الْمُصَلِّي ، أَوْ وَضَعَ طَرَفًا عَلَى عَاتِقِهِ أَوْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ كَرَاهِيَةِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ
684- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ مِنْهُ : يَعْنِي شَيْءٌ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
685- وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ : نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ : أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ فِي إزَارِهِ إذَا مَا صَلَّى إلَّا أَنْ يُخَالِفَ بِطَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ .
686- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .(1/284)
687- وَلِلْبُخَارِيِّ نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَاللِّبْسَتَانِ : اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ ( وَالصَّمَّاءُ : أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ فَيَبْدُوَ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ ، وَاللِّبْسَةُ الْأُخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ ، وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الِاحْتِبَاءُ أَنْ يَقْعُدَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَلُفَّ عَلَيْهِ ثَوْبًا ، وَيُقَالُ لَهُ : الْحَبْوَةُ وَكَانَتْ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ .
قَوْلُهُ : ( لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ سَتْرُ السَّوْأَتَيْنِ فَقَطْ .
قَوْلُهُ : ( وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : هُوَ أَنْ يُجَلِّلَ جَسَدَهُ بِالثَّوْبِ لَا يَرْفَعُ مِنْهُ جَانِبًا ، وَلَا يُبْقِي مَا تَخْرُجُ مِنْهُ يَدُهُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : سُمِّيَتْ صَمَّاءَ ؛ لِأَنَّهُ يَسُدُّ الْمَنَافِذَ كُلَّهَا فَيَصِيرُ كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خَرْقٌ . وَقَالَ الْفُقَهَاءُ : هُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ بِالثَّوْبِ ثُمَّ يَرْفَعَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ فَيَضَعَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَيَصِيرَ فَرْجُهُ بَادِيًا . قَالَ النَّوَوِيُّ : فَعَلَى تَفْسِيرِ أَهْلِ اللُّغَةِ يَكُونُ مَكْرُوهًا لِئَلَّا تَعْرِضَ لَهُ حَاجَةٌ فَيَتَعَسَّرَ عَلَيْهِ إخْرَاجُ يَدِهِ فَيَلْحَقَهُ الضَّرَرُ ، وَعَلَى تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ يَحْرُمُ لِأَجْلِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ .
بَابُ النَّهْيِ عَنْ السَّدْلِ وَالتَّلَثُّمِ
فِي الصَّلَاةِ
688- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ ، وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/285)
689- وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ السَّدْلِ .
690- وَلِابْنِ مَاجَهْ النَّهْيُ عَنْ تَغْطِيَةِ الْفَمِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( النهي عَنْ السَّدْلِ ) قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي غَرِيبِهِ : السَّدْلُ : إسْبَالُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضُمَّ جَانِبَيْهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنْ ضَمَّهُ فَلَيْسَ بِسَدْلٍ . وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هُوَ أَنْ يَلْتَحِفَ بِثَوْبِهِ ، وَيُدْخِلَ يَدَيْهِ مِنْ دَاخِلٍ فَيَرْكَعَ وَيَسْجُدَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ . قَالَ : وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي الْقَمِيصِ وَغَيْرِهِ مِنْ الثِّيَابِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ السَّدْلِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ مَعْنَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ ، وَكَرِهَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا . وَقَالَ أَحْمَدُ : يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ .
قَوْلُهُ : ( وَأَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ فَاهُ ) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْمَجُوسِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُتَلَثِّمًا كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ .
بَابُ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ وَالْمَغْصُوبِ
691- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَقَالَ : صُمَّتَا إنْ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/286)
692- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
693- وَلِأَحْمَدَ : « مَنْ صَنَعَ أَمْرًا عَلَى غَيْرِ أَمْرِنَا فَهُوَ مَرْدُودٌ » .
694- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : أُهْدِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا عَنِيفًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ ، ثُمَّ قَالَ : « لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
695- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : لَبِسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبَاءً لَهُ مِنْ دِيبَاجٍ أُهْدِيَ إلَيْهِ ، ثُمَّ أَوْشَكَ أَنْ نَزَعَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقِيلَ : قَدْ أَوْشَكْت مَا نَزَعْته يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « نَهَانِي عَنْهُ جِبْرِيلُ » . فَجَاءَهُ عُمَرُ يَبْكِي ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَرِهْت أَمْرًا وَأَعْطَيْتَنِيهِ فَمَا لِي ؟ فَقَالَ : « مَا أَعْطَيْتُك لِتَلْبَسَهُ إنَّمَا أَعْطَيْتُك تَبِيعُهُ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَوْلُهُ : ( مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ) إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ ثَمَنُهُ لَا تَصِحُّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : تَصِحُّ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ .(1/287)
قَوْلُهُ : « مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ » قَالَ الشَّارِحُ : وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحَصْرُ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : يُحْتَجّ بِهِ فِي إَبْطَالِ جَمِيعِ الْعُقُودِ الْمَنْهِيَّة ، وَعَدَمِ وُجُودِ ثَمَرَاتها الْمُتَرَتِّبَة عَلَيْهَا ، وَأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الفَسَاد لأّنَّ الْمَنْهِيَّات كُلَّهَا ليْسَتْ مِنْ أَمْرِ الدِّين فَيَجِبُ رَدَّهَا . قَالَ الشَّارِحُ : فَالصَّلَاةُ مَثَلًا الَّتِي تُرِكَ فِيهَا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَوْ فُعِلَ فِيهَا مَا كَانَ يَتْرُكُهُ لَيْسَتْ مِنْ أَمْرِهِ ، فَتَكُونُ بَاطِلَةً بِنَفْسِ هَذَا الدَّلِيلِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ الْمَفْعُولُ أَوْ الْمَتْرُوكُ مَانِعًا بِاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ ، أَوْ شَرْطًا أَوْ غَيْرَهُمَا ، فَلْيَكُنْ مِنْك هَذَا عَلَى ذِكْرٍ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْدُودٌ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ ، وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِهِ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ : مَنْ اخْتَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي إبْطَالِ الْمُنْكَرَاتِ وَإِشَاعَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ كَذَلِكَ .(1/288)
قَوْلُهُ : ( فَرُّوجُ ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ هُوَ الْقَبَا الْمُفَرَّجُ مِنْ خَلْفٍ . وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي الْحَرِيرِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ : إنَّهَا مَكْرُوهَةٌ فَقَطْ ، مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الْخُيَلَاءُ ، وَلَا خُيَلَاءَ فِي الصَّلَاةِ ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلنَّصِّ بِحِيَالِ عِلَّةِ الْخُيَلَاءِ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي الِالْتِفَاتُ إلَيْهِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ :
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَبِسَهُ قَبْلَ تَحْرِيمِهِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ لَبِسَهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ فِي صَلَاةٍ وَلَا غَيْرِهَا . وَيَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ :
696- أَنَّ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جُبَّةَ سُنْدُسٍ - أَوْ دِيبَاجٍ - قَبْلَ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ فَلَبِسَهَا فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهَا فَقَالَ : « وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ تُجْزِي الصَّلَاةُ فِي الْحَرِيرِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ : إنَّهَا تُجْزِئُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَعَ التَّحْرِيمِ ، وَعَنْ مَالِكٍ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ . انْتَهَى .
كِتَابُ اللِّبَاسِ
بَابُ تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ
697- عَنْ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ فَإِنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ » .(1/289)
798 - عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الْآخِرَةِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
699- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
700- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : أُهْدِيَتْ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةٌ سِيَرَاءُ فَبَعَثَ بِهَا إلَيَّ فَلَبَسْتُهَا فَعَرَفْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ ، فَقَالَ : « إنِّي لَمْ أَبْعَثْ بِهَا إلَيْك لِتَلْبَسَهَا إنَّمَا بَعَثْت بِهَا إلَيْك لِتُشَقِّقَهَا خُمُرًا بَيْنَ النِّسَاءِ » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
701- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بُرْدَ حُلَّةٍ سِيَرَاءَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .(1/290)
قَوْلُهُ : « لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ » إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِمَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ النَّهْيِ الَّذِي يَقْتَضِي بِحَقِيقَتِهِ التَّحْرِيمَ ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ دُخُولِ الْجَنَّةِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ : ? وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ? . وَوَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مُسْتَدِلًّا بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْمُخَصِّصُ . وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الصِّغَارِ أَيْضًا هَلْ يَحْرُمُ إلْبَاسُهُمْ الْحَرِيرَ أَمْ لا ؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى التَّحْرِيمِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
قَوْلُهُ : « أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِلْإِنَاثِ مِنْ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِلْجَمَاهِيرِ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى الرِّجَالِ وَتَحْلِيلِهِمَا لِلنِّسَاءِ .
قَوْلُهُ : ( حُلَّةٌ ) قََالَ فِي الْقَامُوسِ : الْحُلَّةُ : إزَارٌ وَرِدَاءٌ ، وَلَا تَكُونُ حُلَّةٌ إلَّا مِنْ ثَوْبَيْنِ أَوْ ثَوْبٍ لَهُ بِطَانَةٌ .(1/291)
قَوْلُهُ : ( سِيَرَاءُ ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ : كَعِنَبَاءٍ ، نَوْعٌ مِنْ الْبُرُودِ فِيهِ خُطُوطٌ صَفْراء وَيُخَالِطُهُ حَرِيرٌ . وقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هِيَ بُرُودٌ مُضَلَّعَةٌ بِالْقَزِّ ، وَقِيلَ : هِيَ حَرِيرٌ مَحْضٌ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمَشُوبِ بِالْحَرِيرِ إنْ كَانَتْ السِّيَرَاءُ تُطْلَقُ عَلَى الْمَخْلُوطِ بِالْحَرِيرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْحَرِيرُ الْخَالِصُ كَمَا قَالَهُ الْبَعْضُ فَلَا إشْكَالَ . وَقَدْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الْخَالِصُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا نَهَى عَنْ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ . وَسَيَأْتِي وَسَتَعْرِفُ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يَحِلُّ مِنْ الْمَشُوبِ .
بَابٌ فِي أَنَّ افْتِرَاشَ الْحَرِيرِ كَلُبْسِهِ
702- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
703- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَيَاثِرِ ، ( وَالْمَيَاثِرُ : قِسِيٌّ كَانَتْ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ عَلَى الرَّحْلِ كَالْقَطَائِفِ مِنْ الْأُرْجُوَانِ ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .(1/292)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . وَقَالَ : وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْفِرَاشَ مَوْضِعُ إهَانَةٍ وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَسَائِدِ الْمَحْشُوَّةِ بِالْقَزِّ ، وَهَذَا دَلِيلٌ بَاطِلٌ لَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ النُّصُوصِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
قَوْلُهُ : ( وَالْمَيَاثِرُ : قِسِيٌّ كَانَتْ تَصْنَعُهُ النِّسَاءُ لِبُعُولَتِهِنَّ عَلَى الرَّحْلِ كَالْقَطَائِفِ مِنْ الْأُرْجُوَانِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ ( الْمَيَاثِرِ ) عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : مِنْهَا هَذَا التَّفْسِيرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلام وَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ : الْقَسِّيٌّ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ بِالْحَرِيرِ تُعْمَلُ بِالْقَسِّ - مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ - وَقِيلَ : إنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى الْقَزِّ وَهُوَ رَدِيءُ الْحَرِيرِ .
قَوْلُهُ : ( مِنْ الْأُرْجُوَانِ ) وَهُوَ الصُّوفُ الْأَحْمَرُ ، كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَنِ لِابْنِ رَسْلَانَ . وَقِيلَ : الْأُرْجُوَانُ : الْحُمْرَةُ . وَقِيلَ : الشَّدِيدُ الْحُمْرَةِ . وَقِيلَ : الصِّبَاغُ الْأَحْمَرُ الْقَانِي . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْجُلُوسِ عَلَى مَا فِيهِ حَرِيرٌ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ إبَاحَةِ يَسِيرِ ذَلِكَ كَالْعَلَمِ وَالرُّقْعَةِ .
704- عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لَبُوسِ الْحَرِيرِ إلَّا هَكَذَا ، ( وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ وَضَمَّهُمَا ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/293)
705- وَفِي لَفْظٍ : نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إلَّا مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد : وَأَشَارَ بِكَفِّهِ .
706- وَعَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ عَلَيْهَا لَبِنَةُ - شَبْرٍ -مِنْ دِيبَاجٍ كَسْرَوَانِيٍّ وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِهِ ، فَقَالَتْ : هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْبَسُهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَلَمَّا قُبِضَتْ عَائِشَةُ قَبْضَتُهَا إلَيَّ فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرِيضِ يُسْتَشْفَى بِهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ ( وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الشَّبْرِ ) .
707- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رُكُوبِ النِّمَارِ وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ الْحَرِيرِ مِقْدَارُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ كَالطِّرَازِ وَالسِّجَافِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُرَكَّبِ عَلَى الثَّوْبِ وَالْمَنْسُوجِ وَالْمَعْمُولِ بِالْإِبْرَةِ وَالتَّرْقِيعِ كَالتَّطْرِيزِ وَيَحْرُمُ الزَّائِدُ عَلَى الْأَرْبَعِ مِنْ الْحَرِيرِ وَمِنْ الذَّهَبِ بِالْأَوْلَى وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ .
قَوْلُهُ : ( جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ ) هُوَ بِإِضَافَةِ جُبَّةٍ إلَى طَيَالِسَةٍ . وَالطَّيَالِسَةُ : جَمْعُ طَيْلَسَانَ وَهُوَ كِسَاءٌ غَلِيظٌ ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْجُبَّةَ غَلِيظَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ طَيْلَسَانَ .(1/294)
قَوْلُهُ : ( كِسْرَوانِيٍّ ) نِسْبَةً إلَى كِسْرَى . وَالْفَرْجُ فِي الثَّوْبِ الشِّقُّ الَّذِي يَكُونُ أَمَامَ الثَّوْبِ وَخَلْفَهُ فِي أَسْفَلِهَا . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ مَا فِيهِ مِنْ الْحَرِيرِ هَذَا الْمِقْدَارُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّجَمُّلِ بِالثِّيَابِ .
قَوْلُهُ : ( عَنْ رُكُوبِ النِّمَارِ ) وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ اسْتِعْمَالِ جُلُودِهِا لِمَا فِيهَا مِنْ الزِّينَةِ وَالْخُيَلَاءِ ، وَلِأَنَّهُ زِيُّ الْعَجَمِ .
قَوْلُهُ : ( وَعَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إلَّا مُقَطَّعًا ) لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقْيِيدِ الْقَطْعِ بِالْقَدْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ لَا بِمَا فَوْقَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ . قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ الذَّهَبُ الْكَثِيرُ لَا الْمُقَطَّعُ قِطَعًا يَسِيرَةً مِنْهُ تُجْعَلُ حَلْقَةً أَوْ قُرْطًا أَوْ خَاتَمًا لِلنِّسَاءِ أَوْ فِي سَيْفِ الرَّجُلِ ، وَكُرِهَ الْكَثِيرُ مِنْهُ الَّذِي هُوَ عَادَةُ أَهْلِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ ، وَقَدْ يُضْبَطُ الْكَثِيرُ مِنْهُ بِمَا كَانَ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَالْيَسِيرُ بِمَا لَا تَجِبُ فِيهِ . وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ الْخَطَّابِيِّ فِي الْمَعَالِمِ وَجَعَلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ خَاصًّا بِالنِّسَاءِ . قَالَ : لِأَنَّ جِنْسَ الذَّهَبِ لَيْسَ بِمُحَرَّمِ عَلَيْهِنَّ كَمَا حَرُمَ عَلَى الرِّجَالِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ .
بَابُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلْمَرِيضِ
708- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ :(1/295)
709- أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْقَمْلَ فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالتَّقْيِيدُ بِالسَّفَرِ بَيَانٌ لِلْحَالِ الَّذِي كَانَا عَلَيْهِ لَا لِلتَّقْيِيدِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِعُذْرِ الْحَكَّةِ وَالْقَمْلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْخَزِّ وَمَا نُسِجَ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِهِ
710- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ قَالَ : رَأَيْت رَجُلًا بِبُخَارَى عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ عَلَيْهِ عِمَامَةُ خَزٍّ سَوْدَاءُ ، فَقَالَ : كَسَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ .
وَقَدْ صَحَّ لُبْسُهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ .
711- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ قَزٍّ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَمَّا السَّدَى وَالْعَلَمُ فَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
712- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِحَرِيرٍ إمَّا سَدَاهَا وَإِمَّا لَحْمَتُهَا فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيَّ فَأَتَيْتُهُ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِهَا أَلْبَسُهَا ؟ قَالَ : « لَا ، وَلَكِنْ اجْعَلْهَا خُمُرًا بَيْنَ الْفَوَاطِمِ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
713- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا تَرْكَبُوا الْخَزَّ وَلَا النِّمَارَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/296)
714- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ » . وَذَكَرَ كَلَامَا قَالَ : « يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَقَالَ فِيهِ : « يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ » .(1/297)
قَوْلُهُ : ( عِمَامَةُ خَزٍّ ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : الْخَزُّ ثِيَابٌ تُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وِإِبْرَيْسَمٍ ، وَهِيَ مُبَاحَةٌ ، وَقَدْ لَبِسَهُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ، وَقَالَ غَيْرُهُ الْخَزُّ : اسْمُ دَابَّةٍ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَّخَذِ مِنْ وَبَرِهَا . وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ : أَصْلُهُ مِنْ وَبَرِ الْأَرْنَبِ ، وَيُسَمَّى ذَكَرُهُ الْخَزَّ . وَقِيلَ : إنَّ الْخَزَّ ضَرْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْإِبْرَيْسَمِ . وَفِي النِّهَايَةِ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّ الْخَزَّ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَخْلُوطٌ مِنْ صُوفٍ وَحَرِيرٍ . وَقَالَ عِيَاضٌ فِي : إنَّ الْخَزَّ مَا خُلِطَ مِنْ الْحَرِيرِ وَالْوَبَرِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مِنْ وَبَرِ الْأَرْنَبِ . ثُمَّ قَالَ : فَسُمِّيَ مَا خَالَطَ الْحَرِيرَ مِنْ سَائِرِ الْأَوْبَارِ خَزًّا . وَالْحَدِيثُ قَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْخَزِّ ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَسَاهُ عِمَامَةَ الْخَزِّ ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ اللُّبْسِ . وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ قَالَ : ( كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةً سِيَرَاءَ فَخَرَجْت بِهَا فَرَأَيْت الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَأَطَرْتهَا خُمُرًا بَيْنَ نِسَائِي ) . وَهَكَذَا قَالَ لِعُمَر : « إنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا » . قَالَ : وَحَدِيثُ ابْن عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى حِلِّ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمَشُوبِ بِالْحَرِيرِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ . قَالَ : وَلَا مُتَمَسَّكَ لِلْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِحِلِّ الْمَشُوبِ . إذَا كَانَ(1/298)
الْحَرِيرُ مَغْلُوبًا إلَّا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَعْلَمُ فَانْظُرْ أَيُّهَا الْمُنْصِفُ هَلْ يَصْلُحُ جَعْلُهُ جِسْرًا تُذَادُ عَنْهُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي تَحْرِيمِ مُطْلَقِ الْحَرِيرِ وَمُقَيِّدِهِ ، وَهَلْ يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ مَعَ مَا فِي إسْنَادِهِ مِنْ الضَّعْفِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْمُدَّعُونَ لِلْحِلِّ بِشَيْءٍ تَرْكَنُ النَّفْسُ إلَيْهِ ، وَغَايَةُ مَا جَادَلُوا بِهِ أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَهَذَا أَمْرٌ هَيِّنٌ ، وَالْحَقُّ لَا يُعْرَفُ بِالرِّجَالِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
قَوْلُهُ : ( أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِحَرِيرٍ إمَّا سَدَاهَا وَإِمَّا لَحْمَتُهَا ) إِلَى آخره . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمَخْلُوطِ بِالْحَرِيرِ .
قَوْلُهُ : « لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ » . قَالَ الشَّارِحُ : الْخَزّ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالزَّايِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الْحُمَيْدِيِّ وَابْنُ الْأَثِيرِ وَذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى فِي بَابِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ الْفَرْجُ ، وَكَذَلِكَ ابْنُ رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ ضَبَطَهُ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ . قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْخَزِّ ، وَعَطْفُ الْحَرِيرِ عَلَى الْخَزِّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ .(1/299)
قَوْلُهُ : ( وَذَكَرَ كَلَامَا ) قَالَ الشَّارِحُ : هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ : « وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَام إِلَى جَنْبِ عَلم يَرُوح عَلَيْهِم بِسَارِحَة لَهُم يَأْتِيهم - يعني الفَقِير - لِحَاجَتِهِ فَيَقُولُونَ : ارْجعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتَهُم اللهُ وَيَضَعُ الْعلمَ عَلَيْهِم » . قَالَ الشَّارِحُ : والْعَلمُ هُوَ الجبَل .
قَوْلُهُ : « يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْخَ وَاقِعٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَلَاهِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : « يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ » . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : « بَلَى وَيَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ » . قَالُوا : فَمَا بَالُهُمْ ؟ قَالَ : « اتَّخَذُوا الْمَعَازِفَ وَالدُّفُوفَ وَالْقَيْنَاتِ فَبَاتُوا عَلَى شُرْبِهِمْ وَلَهْوِهِمْ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَلَيَمُرَّنَّ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ فِي حَانُوتِهِ يَبِيعُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ ، وَقَدْ مُسِخَ قِرْدًا أَوْ خِنْزِيرًا » . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمْشِيَ الرَّجُلَانِ فِي الْأَمْرِ فَيُمْسَخَ أَحَدُهُمَا قِرْدًا أَوْ خِنْزِيرًا ، وَلَا يَمْنَعُ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا مَا رَأَى بِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْضِيَ إلَى شَأْنِهِ حَتَّى يَقْضِيَ شَهْوَتَهُ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْمَعَازِفُ : هِيَ أَصْوَاتُ الْمَلَاهِي . قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : وَفِي الْقَامُوسِ : الْمَعَازِفُ : الْمَلَاهِي(1/300)
كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّوَعُّدِ عَلَيْهَا بِالْخَسْفِ وَالْمَسْخِ .
بَابُ نَهْيِ الرِّجَالِ عَنْ الْمُعَصْفَرِ وَمَا جَاءَ فِي الْأَحْمَرِ
715- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ : « إنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
716 - وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ثَنِيَّةٍ ، فَالْتَفَتَ إلَيَّ - وَعَلَيَّ رَيْطَةٌ مُضَرَّجَةٌ بِالْعُصْفُرِ - فَقَالَ : « مَا هَذِهِ » ؟ فَعَرَفْت مَا كَرِهَ فَأَتَيْت أَهْلِي وَهُمْ يَسْجُرُونَ تَنُّورَهُمْ فَقَذَفْتهَا فِيهِ ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ الْغَدِ ، فَقَالَ : « يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا فَعَلَتْ الرَّيْطَةُ » ؟ فَأَخْبَرْته ، فَقَالَ : « أَلَا كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِكِ » ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
717- وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ : « فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِلنِّسَاءِ ».
718- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ وَعَنْ لِبَاسِ الْقَسِّيِّ ، وَعَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَعَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ .(1/301)
719- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
720- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُعَصْفَرَ ، وَقَالَ : وَرَأَوْا أَنَّ مَا صُبِغَ بِالْحُمْرَةِ مِنْ مَدَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَصْفَرًا .(1/302)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( مُعَصْفَرَيْنِ ) الْمُعَصْفَرُ هُوَ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِعُصْفُرٍ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى الْإِبَاحَةِ ، كَذَا قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ . قَالَ : وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْكَرَاهَةِ لِلتَّنْزِيهِ ، وَحَمَلُوا النَّهْيَ عَلَى هَذَا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ :( رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ ). زَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : وَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : النَّهْيُ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا صُبِغَ مِنْ الثِّيَابِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الصُّفْرَةَ الَّتِي كَانَ يَصْبُغُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ صُفْرَةِ الْعَصْفَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا سَيَأْتِي فِي لِبَاسِ الْأَبْيَضِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصْبُغُ بِالزَّعْفَرَانِ ) إِلِى أَنْ قَالَ : فَالرَّاجِحُ تَحْرِيمُ الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ ، وَالْعُصْفُرُ وَإِنْ كَانَ يَصْبُغُ صَبْغًا أَحْمَرَ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْبَسُ حُلَّةً حَمْرَاءَ كَمَا يَأْتِي ، لِأَنَّ النَّهْيَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ يَتَوَجَّهُ إلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الْحُمْرَةِ ، وَهِيَ الْحُمْرَةُ الْحَاصِلَةُ عَنْ صِبَاغِ الْعُصْفُرِ .(1/303)
قَوْلُهُ : ( أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ثَنِيَّةٍ ) . وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ : مِنْ ثَنِيَّةِ أَذَاخِرَ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُعَصْفَرَةِ .
قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عّلِيِّ : ( وَعَنْ لُبْسِ الْمُعَصْفَرِ ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِهِ .
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرْبُوعًا بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ لَهُ شَعْرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَقَدْ زَعَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْحُلَّةَ الْحَمْرَاءَ بُرْدَانِ يَمَانِيَّانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ الْأَسْوَدِ ، وَغَلطَ مَنْ قَالَ إنَّهَا كَانَتْ حَمْرَاءَ بَحْتًا . قَالَ : وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ ، وَلَا يَخْفَاك أَنَّ الصَّحَابِيَّ قَدْ وَصَفَهَا بِأَنَّهَا حَمْرَاءُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ ، وَالْوَاجِبُ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْحَمْرَاءُ الْبَحْتُ . قَالَ الْحَافِظُ : وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرِ إنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لُبْسُ الْكُفَّارِ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْمِيثَرَةِ الْحَمْرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ زِيُّ النِّسَاءِ فَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الزَّجْرِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ لَا لِذَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَجْلِ الشُّهْرَةِ أَوْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ فَيُمْنَعُ ، حَيْثُ يَقَعُ ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَلَا فَيَقْوَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ لُبْسِهِ فِي(1/304)
الْمَحَافِلِ وَالْبُيُوتِ . قَالَ ابْنُ التِّينِ : زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لُبْسَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْحُلَّةَ كَانَ لِأَجْلِ الْغَزْوِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ كَانَ عَقِيبَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إذْ ذَاكَ غَزْوٌ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
قَوْلُهُ : ( مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : مَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُعَصْفَرَ ، وَقَالَ : وَرَأَوْا أَنَّ مَا صُبِغَ بِالْحُمْرَةِ مِنْ مَدَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعَصْفَرًا . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَنَسَبَهُ إلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ جَمْعٌ حَسَنٌ لِانْتِهَاضِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِالْمَنْعِ مِنْ لُبْسِ مَا صُبِغَ بِالْعُصْفُرِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ وَالْأَخْضَرِ
وَالْمُزَعْفَرِ وَالْمُلَوَّنَاتِ
721- عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « الْبَسُوا ثِيَابَ الْبَيَاضِ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
722- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةَ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
723- وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ : رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ . . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .(1/305)
724- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
725- وَعَنْ أُمِّ خَالِدٍ قَالَتْ : أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ ، فَقَالَ : « مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُو هَذِهِ الْخَمِيصَةَ » ؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ ، فَقَالَ : « ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ » . فَأُتِيَ بِي إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ ، وَقَالَ : « أَبْلِي وَأَخْلِقِي ». مَرَّتَيْنِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إلَيَّ ، وَيَقُولُ : « يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا هَذَا سَنَا » . وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ : الْحَسَنُ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
726- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ وَيَدَّهِنُ بِالزَّعْفَرَانِ ، فَقِيلَ لَهُ : لِمَ تَصْبُغُ ثِيَابَك وَتَدَّهِنُ بِالزَّعْفَرَانِ ؟ فَقَالَ : إنِّي رَأَيْته أَحَبَّ الْأَصْبَاغِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَّهِنُ بِهِ وَيَصْبُغُ بِهِ ثِيَابَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
727- وَكَذَلِكَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ وَفِي لَفْظِهِمَا : وَلَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ كُلَّهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ .
قَوْلُهُ : « الْبَسُوا مِنْ ثِيَابَكُمْ الْبَيَاضَ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ لُبْسِ الْبَيَاضِ وَتَكْفِينُ الْمَوْتَى بِهِ كَوْنُهُ أَطْهَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَأَطْيَبَ وَالْأَمْرُ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ .(1/306)
قَوْلُهُ : ( كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةَ ) . قَالَ الشَّارِحُ : قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْحِبَرَةُ كَعِنَبَةٍ : بُرْدٌ يَمَانٍ يَكُونُ مِنْ كَتَّانٍ أَوْ قُطْنٍ ، سُمِّيَتْ حِبَرَةً لِأَنَّهَا مُحَبَّرَةٌ أَيْ مُزَيَّنَةٌ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْحِبَرَةُ أَحَبَّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ زِينَةٍ وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ احْتِمَالًا لِلْوَسَخِ مِنْ غَيْرِهَا .
قَوْلُهُ : ( رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الْأَخْضَرِ لِأَنَّهُ لِبَاسِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَنْفَعِ الْأَلْوَانِ لِلْأَبْصَارِ وَمِنْ أَجْمَلِهَا فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ .
قَوْلُهُ : ( خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ ) قَالَ الشَّارِحُ : وَهُوَ بُرْدٌ فِيهِ صُوَر الرِّحَالِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالْمُرَادُ تَصَاوِيرُ رِحَالِ الْإِبِلِ وَلَا بَأْسَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي لُبْسِ السَّوَادِ .(1/307)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « أَبْلِي وَأَخْلِقِي » . قَالَ الشَّارِحُ : هَذَا مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ وَالدُّعَاءِ لِلَّابِسِ بِأَنْ يُعَمِّرَ ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا كَذَلِكَ ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى عَلَى عُمَرَ قَمِيصًا أَبْيَضَ فَقَالَ : « الْبَسْ جَدِيدًا وَعِشْ حَمِيدًا وَمُتْ شَهِيدًا » . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا لَبِسَ أَحَدُهُمْ ثَوْبًا جَدِيدًا قِيلَ لَهُ : « تُبْلِي وَيُخْلِفُ اللَّهُ تَعَالَى » .
قَوْلُهُ : « هَذَا سَنَّا » بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَفِيهِ جَوَازُ التَّكَلُّمِ بِاللُّغَةِ الْعَجَمِيَّةِ وَمَعْنَاهُ حَسَنٌ . وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ لِبَاسُ الثِّيَابِ السُّودِ وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا .
قَوْلُهُ : ( كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ وَيَدَّهِنُ بِالزَّعْفَرَانِ ) إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَبْغِ الثِّيَابِ بِالصُّفْرَةِ . وَمَشْرُوعِيّة الإِدِّهَان بالزَّعْفَرَان وَصِبَاغَ اللحية بالصفرة . انْتَهَى .(1/308)
قال في الشرح الكبير : وَيُكْرَهُ لِلرَّجُلِ لِبْسَ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُعَصْفَرِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى الرِّجَالَ عَنِ التَّزَعْفُرِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : نَهَانِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَلا بَأْسَ بِلِبْسِهِ لِلنِّسَاءِ لأنَّ تَخْصِيصَ النَّهْي بِالرّجُلِ دَلِيلُ عَلَى إِبَاحَتِهِ لِلنِّسَاءِ .
بَابُ حُكْمِ مَا فِيهِ صُورَةٌ مِنْ الثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَالسُّتُورِ
وَالنَّهْيِ عَنْ التَّصْوِيرِ
728- عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَتْرُكْ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إلَّا نَقَضَهُ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
729- وَأَحْمَدُ وَلَفْظُهُ : لَمْ يَكُنْ يَدَعُ فِي بَيْتِهِ ثَوْبًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إلَّا نَقَضَهُ .
730- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا وَفِيهِ تَصَاوِيرُ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَعَهُ قَالَتْ : فَقَطَعْته وِسَادَتَيْنِ فَكَانَ يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
731- وَفِي لَفْظِ أَحْمَدَ : فَقَطَعْتُهُ مِرْفَقَتَيْنِ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُتَّكِئًا عَلَى إحْدَاهُمَا وَفِيهَا صُورَةٌ .(1/309)
732- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ : إنِّي كُنْتُ أَتَيْتُك اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَمْنَعُنِي أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ تِمْثَالُ رَجُلٍ وَكَانَ فِي الْبَيْتِ قِرَامُ - سِتْرٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ - وَكَانَ فِي الْبَيْتِ كَلْبٌ فَمُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ الَّذِي فِي بَابِ الْبَيْتِ يُقْطَعْ يُصَيَّرُ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ ، وَأْمُرْ بِالسِّتْرِ يُقْطَعْ فَيُجْعَلَ وِسَادَتَيْنِ مُنْتَبَذَتَيْنِ تُوطَآنِ ، وَأْمُرْ بِالْكَلْبِ يُخْرَجْ » . فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِذَا الْكَلْبُ جَرْوٌ وَكَانَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ تَحْتَ نَضَدٍ لَهُمْ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
733- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ : أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ » .
734- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنِّي أُصَوِّرُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ فَأَقْتَنِي فِيهَا ، فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا تُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاجْعَلْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .(1/310)
قَوْلُهُ : ( لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إلا نَقَضَهُ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فِيهِ تَصَالِيبُ ) أَيْ صُورَةُ صَلِيبٍ مِنْ نَقْشِ ثَوْبٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَالصَّلِيبُ فِيهِ صُورَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْبُدُهُ النَّصَارَى . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اتِّخَاذِ الثِّيَابِ وَالسُّتُورِ وَالْبُسُطِ وَغَيْرِهَا الَّتِي فِيهَا تَصَاوِيرُ ، وَعَلَى جَوَازِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِ مَالِكِهِ ، زَوْجَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا . قَالَ النَّوَوِيُّ : قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ : تَصْوِيرُ صُورَةِ الْحَيَوَانِ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَحَادِيثِ ، وَسَوَاءٌ صَنَعَهُ لِمَا يُمْتَهَنُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ ، لِأَنَّ فِيهِ مُضَاهَاةً لِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَوَاءٌ مَا كَانَ فِي ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ وَفَلْسٍ وَإِنَاءٍ وَحَائِطٍ وَغَيْرِهَا . وَأَمَّا تَصْوِيرُ صُورَةِ الشَّجَرِ وَجِبَالِ الْأَرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ هَذَا حُكْمُ نَقْشِ التَّصْوِيرِ . وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَا فِيهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ فَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ أَوْ ثَوْبًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعَدُّ مُمْتَهَنًا فَهُوَ حَرَامٌ وَإِنْ كَانَ فِي بِسَاطٍ يُدَاسُ وَمِخَدَّةٍ وَوِسَادَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْتَهَنُ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ ، وَلَكِنْ هَلْ يَمْنَعُ دُخُولَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ ذَلِكَ الْبَيْتَ وَسَيَأْتِي . قَالَ : وَلَا(1/311)
فَرْقٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لَا ظِلَّ لَهُ . قَالَ هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَبِمَعْنَاهُ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إنَّمَا يُنْهَى عَمَّا كَانَ لَهُ ظِلٌّ ، وَلَا بَأْسَ بِالصُّوَرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا ظِلٌّ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ السِّتْرَ الَّذِي أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصُّوَرَ فِيهِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ مَذْمُومٌ وَلَيْسَ لِصُورَتِهِ ظِلٌّ مَعَ بَاقِي الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي كُلِّ صُورَةٍ . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : النَّهْيُ فِي الصُّورَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُ مَا هِيَ فِيهِ ، وَدُخُولُ الْبَيْتِ الَّذِي هِيَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَتْ رَقْمًا فِي ثَوْبِ أَوْ غَيْرَ رَقْمٍ وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَائِطٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ مُمْتَهَنٍ أَوْ غَيْرِ مُمْتَهَنٍ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ . لَا سِيَّمَا حَدِيثُ النُّمْرُقَةِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَهَذَا مَذْهَبٌ قَوِيٌّ . وَقَالَ آخَرُونَ : يَجُوزُ مِنْهَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ سَوَاءٌ اُمْتُهِنَ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ عُلِّقَ فِي حَائِطٍ أَمْ لَا ، قَالَ : وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَا كَانَ لَهُ ظِلٌّ وَوُجُوبُ تَغْيِيرِهِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : إلَّا مَا وَرَدَ فِي اللَّعِبُ بِالْبَنَاتِ لِصِغَارِ الْبَنَاتِ وَالرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ ، لَكِنْ كَرِهَ مَالِكٌ شِرَاءَ الرَّجُلِ ذَلِكَ لِابْنَتِهِ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ إبَاحَةَ اللَّعِبِ بِالْبَنَاتِ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ . انْتَهَى .(1/312)
قَوْلُهُ : ( أَنَّهَا نَصَبَتْ سِتْرًا وَفِيهِ تَصَاوِيرُ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَزَعَهُ قَالَتْ : فَقَطَعْته وِسَادَتَيْنِ فَكَانَ يَرْتَفِقُ عَلَيْهِمَا ) . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ الْإِرْشَادُ إلَى إزَالَةِ التَّصَاوِيرِ الْمَنْقُوشَةِ عَلَى السُّتُورِ . فِيهِ أَنَّ الصُّورَةَ وَالتِّمْثَالَ إذَا غُيِّرَا لَمْ يَكُنْ بِهِمَا بَأْسٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَازَ افْتِرَاشُهُمَا وَالِارْتِفَاقُ عَلَيْهِمَا . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ افْتِرَاشِ الثِّيَابِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا تَصَاوِيرُ وَعَلَى اسْتِحْبَابِ الِارْتِفَاقِ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « أَتَانِي جِبْرِيلُ » إِلَى آخره . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ الْبُيُوتَ الَّتِي فِيهَا تَمَاثِيلُ أَوْ كَلْبٌ . قَالَ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ : الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ ، وَأَمَّا الْحَفَظَةُ فَلَا يُفَارِقُونَ الْجُنُبَ وَغَيْرَهُ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - « الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ : أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ التَّصْوِيرَ مِنْ أَشَدِّ الْمُحَرَّمَاتِ لِلتَّوَعُّدِ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ فِي النَّارِ وَبِأَنَّ كُلَّ مُصَوِّرٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِوُرُودِ لَعْنِ الْمُصَوِّرِينَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ .(1/313)
قَوْلُهُ : « فَاجْعَلْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ » فِيهِ الْإِذْنُ بِتَصْوِيرِ الشَّجَرِ وَكُلِّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ التَّحْرِيمِ بِتَصْوِيرِ الْحَيَوَانَاتِ . قَالَ فِي الْبَحْرِ : وَلَا يُكْرَهُ تَصْوِيرُ الشَّجَرِ وَمَا نَحْوُهَا مِنْ الْجَمَادِ إجْمَاعًا .
بَابُ مَا جَاءَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ وَالسَّرَاوِيلِ
735- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَسَرْوَلَونَ وَلَا يَأْتَزِرُونَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « تَسَرْوَلُوا وَائْتَزِرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
736- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ : بَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رِجْلَ سَرَاوِيلَ - قَبْلَ الْهِجْرَةِ - فَوَزَنَ لِي فَأَرْجَحَ لِي . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
737- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقُمُصُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
738- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ : كَانَتْ يَدُ كُمِّ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الرُّسْغِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
739- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَلْبَسُ قَمِيصًا قَصِيرَ الْيَدَيْنِ وَالطُّولِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
740- وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ . قَالَ نَافِعٌ : وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسْدِلُ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفِهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .(1/314)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : « تَسَرْوَلُوا وَائْتَزِرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ الْإِذْنُ بِلُبْسِ السَّرَاوِيلِ وَإِنَّ مُخَالَفَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِاتِّزَارِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ .
قَوْلُهَا : ( كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقُمُصُ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَإِنَّمَا كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَنَّهُ أَمْكَنُ فِي السَّتْرِ مِنْ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ اللَّذَيْنِ يَحْتَاجَانِ كَثِيرًا إلَى الرَّبْطِ وَالْإِمْسَاكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَمِيصِ .
قَوْلُهَا : ( كَانَتْ يَدُ كُمِّ قَمِيصِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الرُّسْغِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَهُوَ مِفْصَلُ مَا بَيْنَ الْكَفِّ وَالسَّاعِدِ . وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْأَكْمَامِ أَنْ لَا تُجَاوِزُ الرُّسْغَ . قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ : وَأَمَّا الْأَكْمَامُ الْوَاسِعَةُ الطِّوَالُ الَّتِي هِيَ كَالْأَخْرَاجِ فَلَمْ يَلْبَسْهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَلْبَتَّةَ ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِسُنَّتِهِ ، وَفِي جَوَازِهَا نَظَرٌ ، فَإِنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْخُيَلَاءِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَدْيَهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ تَقْصِيرَ الْقَمِيصِ لِأَنَّ تَطْوِيلَهُ إسْبَالٌ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .(1/315)
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الْعِمَامَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ إرْخَاءِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : وَكَانَ - يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - - يَلْبَسُ الْقَلَنْسُوَةَ بِغَيْرِ عِمَامَةٍ وَيَلْبَسُ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ قَلَنْسُوَةٍ . قَالَ النَّوَوِيُّ : يَجُوزُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ بِإِرْسَالِ طَرَفِهَا وَبِغَيْرِ إرْسَالِهِ وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ إرْسَالِهَا شَيْءٌ ، وَإِرْسَالُهَا إرْسَالًا فَاحِشًا كَإِرْسَالِ الثَّوْبِ يَحْرُمُ لِلْخُيَلَاءِ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِ .
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي اللِّبَاسِ الْجَمِيلِ
وَاسْتِحْبَابِ التَّوَاضُعِ فِيهِ وَكَرَاهَةِ الشُّهْرَةِ وَالْإِسْبَالِ
741- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ » . فَقَالَ رَجُلٌ : إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا . قَالَ : « إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .(1/316)
742- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « مَنْ تَرَكَ أَنْ يَلْبَسَ صَالِحَ الثِّيَابِ - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ - تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي حُلَلِ الْإِيمَانِ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ .
743- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
744- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إزَارِي يَسْتَرْخِي إلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَقَالَ : « إنَّك لَسْت مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ خُيَلَاءَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَنَّ مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرُوا قِصَّةَ أَبِي بَكْرٍ .
745- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : (0 الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مَنْ جَرَّ شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
746- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
747- وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ : « مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فِي النَّارِ » .(1/317)
قَوْلُهُ : إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا ، قَالَ : « إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَبَّةَ لُبْسِ الثَّوْبِ الْحَسَنِ وَالنَّعْلِ الْحَسَنِ وَتَخَيُّرِ اللِّبَاسِ الْجَمِيلِ لَيْسَ مِنْ الْكِبْرِ فِي شَيْءٍ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ تَرَكَ أَنْ يَلْبَسَ صَالِحَ الثِّيَابِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَوَاضُعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الزُّهْدِ فِي الْمَلْبُوسِ وَتَرْكِ لُبْسِ حَسَنِ الثِّيَابِ وَرَفِيعِهَا لِقَصْدِ التَّوَاضُعِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لُبْسَ مَا فِيهِ جَمَالٌ زَائِدٌ مِنْ الثِّيَابِ يَجْذِبُ بَعْضَ الطِّبَاعِ إلَى الزَّهْوِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ ، وَقَدْ كَانَ هَدْيُهُ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنْ يَلْبَسَ مَا تَيَسَّرَ مِنْ اللِّبَاسِ : الصُّوفِ تَارَةً ، وَالْقُطْنِ أُخْرَى ، وَالْكَتَّانِ تَارَةً ، وَلَبِسَ الْبُرُودَ الْيَمَانِيَّةَ ، وَالْبُرْدَ الْأَخْضَرَ ، وَلَبِسَ الْجُبَّةَ وَالْقَبَاءَ وَالْقَمِيصَ إِلِى أَنْ قَالَ : قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كَانُوا يَكْرَهُونَ الشُّهْرَتَيْنِ مِنْ الثِّيَابِ الْعَالِي وَالْمُنْخَفِضِ .(1/318)
قَوْلُهُ : « مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». قَالَ الشَّارِحُ : قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : الشُّهْرَةُ ظُهُورُ الشَّيْءِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّ ثَوْبَهُ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ لِمُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لِأَلْوَانِ ثِيَابِهِمْ فَيَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ ، وَيَخْتَالُ عَلَيْهِمْ بالْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرُ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ ثَوْبِ الشُّهْرَةِ وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصًّا بِنَفِيسِ الثِّيَابِ ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ يَلْبَسُ ثَوْبًا يُخَالِفُ مَلْبُوسَ النَّاسِ مِنْ الْفُقَرَاءِ ، لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَجَّبُوا مِنْ لُبْسِهِ وَيَعْتَقِدُوهُ .(1/319)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ جَرِّ الثَّوْبِ خُيَلَاءَ . وَالْمُرَادُ بِجَرِّهِ هُوَ جَرُّهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارَ فِي النَّارِ » . وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِسْبَالَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَقَدْ فَهِمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ لَمَّا سَمِعَتْ الْحَدِيثَ فَقَالَتْ : فَكَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ ؟ قَالَ : « يُرْخِينَهُ شِبْرًا » . فَقَالَتْ : إذن يَنْكَشِفَ أَقْدَامُهُنَّ ، قَالَ : « فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ » . وَلَكِنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْإِسْبَالِ لِلنِّسَاءِ ، وَظَاهِرُ التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ : « خُيَلَاءَ » . يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ جَرَّ الثَّوْبِ لِغَيْرِ الْخُيَلَاءِ لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ إلَّا أَنَّهُ مَذْمُومٌ . قَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُجَاوِزَ بِثَوْبِهِ كَعْبَهُ وَيَقُولُ : لا أَجُرُّهُ خُيَلَاءَ ، لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ تَنَاوَلَهُ لَفْظًا .
بَابُ نَهْيِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ مَا يَحْكِي
بَدَنَهَا أَوْ تَشَبَّهَ بِالرِّجَالِ(1/320)
748- عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً - كَانَتْ مِمَّا أَهْدَى لَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ - فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا لَكَ لَا تَلْبَسُ الْقُبْطِيَّةَ » ؟ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي ، فَقَالَ : « مُرْهَا أَنْ تَجْعَلَ تَحْتَهَا غِلَالَةً فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
749- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَخْتَمِرُ ، فَقَالَ : « لَيَّةً لَا لَيَّتَيْنِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
750- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا بَعْدُ نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ أَمْثَالُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ ، لَا يَرَيْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا ، وَرِجَالٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
751- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَ الْمَرْأَةِ ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَ الرَّجُلِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : ( قُبْطِيَّةً ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ : بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ ، وَقَدْ تُكْسَرُ . وَفِي الضِّيَاءِ بِكَسْرِهَا . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : بِالضَّمِّ وَهِيَ نِسْبَةٌ إلَى الْقِبْطِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ .(1/321)
قَوْلُهُ : « غِلالَةً » الْغِلَالَةُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ شِعَارٌ يُلْبَسُ تَحْتَ الثَّوْبِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَسْتُرَ بَدَنَهَا بِثَوْبٍ لَا يَصِفُهُ ، وَهَذَا شَرْطٌ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ . ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالثَّوْبِ تَحْتَهُ لِأَنَّ الْقَبَاطِيَّ ثِيَابٌ رَقِيقٌ لَا تَسْتُرُ الْبَشَرَةَ عَنْ رُؤْيَةِ النَّاظِرِ بَلْ تَصِفُهَا . انْتَهَى .
قال الموفق في المغني : وَالْمُسْتَحَبُ أَنْ تُصَلَّي الْمَرْأَةُ فِي دَرْعٍ . قَالَ : الدِّرْعُ يُشْبِهُ الْقَمِيص لَكِنَّهُ سَابِغٌ يُغَطِّي قَدَمَيْهَا وَخِمَارٌ يُغَطِّي رَأْسَهَا وَعُنُقَهَا وَجِلْبَابٌ تَلْتَفُ بِهِ مِنْ فَوْقِ الدِّرْعِ . قَالَ : قَد اتَّفَقَ عَامَتُهُمْ عَلَى الدِّرْعِ وَالْخِمَارِ وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ وَأَسْتَرُ ، وَلأنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَيْهَا جِلْبَابٌ فَإِنَّهَا تُجَافِيهِ رَاكِعَة وَسَاجِدَة لِئَلا تَصِفهَا فَتُبَيِّنُ عَجِيزتهَا وَمَوَاضِع عَوْرَاتِهَا . انتهى .
قلت : فلعل قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا » . بِمَعْنَى تبين عجيزتها وَنَحْوَ ذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَخْتَمِرُ ، فَقَالَ : « لَيَّةً لا لَيَّتَيْنِ » ) . قَالَ الشَّارِحُ : أَمَرَهَا أَنْ تَلْوِيَ خِمَارَهَا عَلَى رَأْسِهَا وَتُدِيرُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا مَرَّتَيْنِ لِئَلَّا يُشْبِهَ اخْتِمَارُهَا تَدْوِيرَ عَمَائِمِ الرِّجَالِ إذَا اعْتَمُّوا فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ التَّشَبُّهِ الْمُحَرَّمِ .(1/322)
قَوْلُهُ : « صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ » . قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ فَقَدْ وَقَعَ هَذَانِ الصِّنْفَانِ وَهُمَا مَوْجُودَانِ .
قَوْلُهُ : « كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ » . قِيلَ : كَاسِيَاتٌ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَارِيَّاتٌ مِنْ شُكْرِهَا . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ تَسْتُرُ بَعْضَ بَدَنِهَا وَتَكْشِفُ بَعْضَهُ إظْهَارًا لِجَمَالِهَا وَنَحْوِهِ ، وَقِيلَ : تَلْبَسُ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُ لَوْنَ بَدَنِهَا .
قَوْلُهُ : « مَائِلَاتٌ » أَيْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا يَلْزَمُهُنَّ حِفْظُهُ « مُمِيلَاتٌ » أَيْ يُعَلِّمْنَ غَيْرَهُنَّ فِعْلَهُنَّ الْمَذْمُومَ . وَقِيلَ : « مَائِلَاتٌ » بِمَشْيِهِنَّ مُتَبَخْتِرَاتٌ . « مُمِيلَاتٌ » بِأَكْتَافِهِنَّ . وَقِيلَ : الْمَائِلَاتُ مِشْطَةُ الْبَغَايَا الْمُمِيلَاتُ بِمُشْطِهِنَّ غَيْرَهُنَّ تِلْكَ الْمِشْطَةُ .
قَوْلُهُ : « عَلَى رُءُوسِهِنَّ أَمْثَالُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ » الإِبِل الْخَراسانية أَيْ يُكْومْنَ شُعُورَهُنَّ وَيُعْظِمْنَهَا بِلَفِّ عِمَامَةٍ أَوْ عِصَابَةٍ أَوْ نَحْوِهَا . وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى كَرَاهَةِ لُبْسِ الْمَرْأَةِ مَا يَحْكِي بَدَنَهَا ، وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَنَّهُ لَا يَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ . وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ صِفَاتِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ .(1/323)
قَوْلُهُ : ( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَ الْمَرْأَةِ ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَ الرَّجُلِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ تَشَبُّهِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمُتَرَجِّلَاتِ : « أَخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِكُمْ » . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا بَالُ هَذَا » ؟ فَقَالُوا : يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إلَى النَّقِيعِ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَقْتُلُهُ ؟ قَالَ : « إنِّي نُهِيت أَنْ أَقْتُلَ الْمُصَلِّينَ » .
بَابُ التَّيَامُنِ فِي اللُّبْسِ
وَمَا يَقُولُ مَنْ اسْتَجَدَّ ثَوْبًا
752- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا لَبِسَ قَمِيصًا بَدَأَ بِمَيَامِنِهِ .
753- وَعَنْ أَبِي سَعْدٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ ؛ عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً ، ثُمَّ يَقُولُ : « اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ ، أَسْأَلُك خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ » . رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ .(1/324)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِابْتِدَاءِ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ بِالْمَيَامِنِ ، وَكَذَلِكَ لُبْسُ غَيْرِهِ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَقْدِيمِ الْمَيَامِنِ . وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ لُبْسِ الثَّوْبِ الْجَدِيدِ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ثَوْبًا بِدِينَارٍ أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ فَحَمِدَ اللَّهَ إلَّا لَمْ يَبْلُغْ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ » . وَقَالَ : حَدِيثٌ لَا أَعْلَمُ فِي إسْنَادِهِ أَحَدًا ذُكِرَ بِجَرْحٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
أَبْوَابُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ
وَمَوَاضِعِ الصَّلَوَاتِ
بَابُ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْعَفْوِ عَمَّا لَا يُعْلَمُ بِهَا
754- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : سَمِعْت رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الَّذِي آتِي فِيهِ أَهْلِي ؟ قَالَ : « نَعَمْ ، إلَّا أَنْ تَرَى فِيهِ شَيْئًا فَتَغْسِلَهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
755- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : قُلْت لِأُمِّ حَبِيبَةَ : هَلْ كَانَ يُصَلِّي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَذًى . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .(1/325)
756- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لَهُمْ : « لِمَ خَلَعْتُمْ » . قَالُوا : رَأَيْنَاك خَلَعْت فَخَلَعْنَا ، فَقَالَ : « إنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثًا ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُقَلِّبْ نَعْلَيْهِ وَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا ، فَإِنْ رَأَى فَلْيَمْسَحْهُ بِالْأَرْضِ ، ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : أُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الَّذِي آتِي فِيهِ أَهْلِي ؟ قَالَ : « ةنَعَمْ ، إلَّا أَنْ تَرَى فِيهِ شَيْئًا فَتَغْسِلَهُ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى تَجَنُّبِ الْمُصَلِّي لِلثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ . وَهَلْ طَهَارَةُ ثَوْبِ الْمُصَلِّي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهَا شَرْطٌ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَمِنْ فَوَائِدِ حَدِيثَيْ الْبَابِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمَظِنَّةِ لِأَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَظِنَّةٌ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، فَأَرْشَدَ الشَّارِعُ - صلى الله عليه وسلم - إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْعَمَلُ بِالْمَئِنَّةِ دُونَ الْمَظِنَّةِ . وَمِنْ فَوَائِدِهِمَا كَمَا قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ : طَهَارَةُ رُطُوبَةِ فَرْجِ الْمَرْأَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ مِنْ الْجِمَاعِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ لَوْ غَسَلَهُ لَنُقِلَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الذَّكَرَ يَخْرُجُ وَعَلَيْهِ رُطُوبَةٌ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ . انْتَهَى .(1/326)
قَوْلُهُ : ( أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ ) الْحَدِيثُ . قَالَ الشَّارِحُ : اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ ، لِأَنَّ اسْتِمْرَارَهُ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا قَبْلَ خَلْعِ النَّعْلِ وَعَدَمِ اسْتِئْنَافِهِ لَهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الطَّهَارَةِ شَرْطًا . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَفِيهِ أَنَّ دَلْك النِّعَالَ يُجْزِئُ ، وَأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ أُمَّتَهُ أُسْوَتُهُ فِي الْأَحْكَامِ ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي النَّعْلَيْنِ لَا تُكْرَهُ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الْيَسِيرَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ .?
بَابُ حَمْلِ الْمُحْدِثِ وَالْمُسْتَجْمِرِ فِي الصَّلَاةِ وَثِيَابِ الصِّغَارِ
وَمَا شُكَّ فِي نَجَاسَتِهِ
757- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا ، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
758- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا مِنْ خَلْفِهِ أَخْذًا رَفِيقًا وَوَضَعَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ ، فَإِذَا عَادَ عَادَا حَتَّى قَضَى صَلَاتَهُ ، ثُمَّ أَقْعَدَ أَحَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ ، قَالَ : فَقُمْت إلَيْهِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرُدُّهُمَا فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ ، فَقَالَ لَهُمَا : « الْحَقَا بِأُمِّكُمَا » . فَمَكَثَ ضَوْؤُهَا حَتَّى دَخَلا . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/327)
759- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَأَنَا إلَى جَنْبِهِ وَأَنَا حَائِضٌ وَعَلَيَّ مِرْطٌ وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
760- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِنَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
761- وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ : لَا يُصَلِّي فِي لُحُفِ نِسَائِهِ .
قَوْلُهُ : ( كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ ، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا ، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ وَالْمُنْفَرِدِ وَالْمُؤْتَمِّ وَالْإِمَامِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَحَمَلَ أَكْثَرُ أَهْلُ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ مُتَوَالٍ لِوُجُودِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ .
وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ جَوَازُ إدْخَالِ الصِّبْيَانِ الْمَسَاجِدَ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَنَّ مَسَّ الصَّغِيرَةِ لَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْوُضُوءُ ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ طَهَارَةُ ثِيَابِ مَنْ لَا يَحْتَرِزُ مِنْ النَّجَاسَةِ كَالْأَطْفَالِ . وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ حَالَ التَّنْظِيفِ ، لِأَنَّ حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ لَا عُمُومَ لَهَا . انْتَهَى .(1/328)
قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَيَدُ الصَّبِيِّ إِذَا أَدْخَلَهَا فِي الإِنَاءِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَال الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ ، وَكَذَلِكَ تُكْرَهُ الصَّلاةُ فِي ثَوْبِهِ . وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ عَنِ الصَّلاةِ فِي ثَوْبِ الصَّبِيِّ فَكَرِهَهُ . انْتَهَى .
قَوْلُهُ : ( كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ ) . الْحَدِيثُ . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ إدْخَالِ الصِّبْيَانِ الْمَسَاجِدَ . وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَحُدُودَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَجَمِّرُوهَا يَوْمَ جُمَعِكُمْ وَاجْعَلُوا عَلَى أَبْوَابِهَا مَطَاهِرَكُمْ » . قَالَ الشَّارِحُ : فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ الْأَمْرِ بِالتَّجْنِيبِ عَلَى النَّدْبِ ، أَوْ بِأَنَّهَا تُنَزَّهُ الْمَسَاجِدُ عَمَّنْ لَا يُؤْمَنُ حَدَثُهُ فِيهَا .(1/329)
قَوْلُهَا : (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ وَأَنَا إلَى جَنْبِهِ وَأَنَا حَائِضٌ وَعَلَيَّ مِرْطٌ وَعَلَيْهِ بَعْضُهُ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ بِجَنْبِ الْمُصَلِّي لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهَا تُبْطِلُ ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ . وَفِيهِ أَنَّ ثِيَابَ الْحَائِضِ طَاهِرَةٌ إلَّا مَوْضِعًا يُرَى فِيهِ أَثَرُ الدَّمِ أَوْ النَّجَاسَةِ . وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الْحَائِضِ ، وَجَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ بَعْضُهُ عَلَى الْمُصَلِّي وَبَعْضُهُ عَلَيْهَا .
قَوْلَُهَا : (كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُصَلِّي فِي شُعُرِنَا ) . قَالَ الشَّارِحُ : بِضَمِّ الشِّينِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ شِعَارٍ عَلَى وَزْنِ كُتُبٍ وَكِتَابٍ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي يَلِي الْجَسَدِ ، وَخَصَّتْهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى أَنْ تَنَالَهَا النَّجَاسَةُ مِنْ الدِّثَارِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَجَنُّبِ ثِيَابِ النِّسَاءِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةٌ لِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الثِّيَابِ الَّتِي تَكُونُ كَذَلِكَ ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ وَالْأَخْذُ بِالْيَقِينِ جَائِزٌ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي الشَّرْعِ ، وَأَنَّ تَرْكَ الْمَشْكُوكِ فِيهِ إلَى الْمَعْلُومِ جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ نَوْعِ الْوَسْوَاسِ ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ .
بَابُ مَنْ صَلَّى عَلَى مَرْكُوبٍ نَجِسٍ أَوْ قَدْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ(1/330)
762- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : رَأَيْت النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
763- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ رَاكِبٌ إلَى خَيْبَرَ وَالْقِبْلَةُ خَلْفَهُ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثَيْنِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَرْكُوبِ النَّجِسِ وَالْمَرْكُوبِ الَّذِي أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ وَهُوَ لَا يَتِمُّ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحِمَارَ نَجِسُ عَيْنٍ ، نَعَمْ يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا فِيهِ نَجَاسَةٌ لِأَنَّ الْحِمَارَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ التَّلَوُّثِ بِهَا . وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ .
بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى الْفِرَاءِ وَالْبُسُطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَفَارِشِ
764- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
765- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَالْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
766- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حَصِيرٍ يَسْجُدُ عَلَيْهِ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
767- وَعَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .(1/331)
768- لَكِنَّهُ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - .
769- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : مَا أُبَالِي لَوْ صَلَّيْت عَلَى خَمْسِ طَنَافِسَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ .
قَوْلُهُ : ( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى بِسَاطٍ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْبُسُطِ ، وَقَدْ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ .
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى الْحَصِيرِ وَالْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ ) وَفِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ الْأَرْضِ وَمَا خُلِقَ مِنْهَا .
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ ) قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هِيَ بِضَمِّ الْخَاءِ سَجَّادَةٌ مِنْ سعف النَّخْلِ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ الْمُصَلِّي ، فَإِنْ عَظُمَ بِحَيْثُ يَكْفِي لِجَسَدِهِ كُلِّهِ فِي صَلَاةٍ أَوْ اضْطِجَاعٍ فَهُوَ حَصِيرٌ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّجَّادَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْخِرَقِ أَوْ الْخُوصِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تُسَمَّى خَمْرَةً إلَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً ، أَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً .
بَابُ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلَيْنِ وَالْخُفَّيْنِ(1/332)
770- عَنْ أَبِي مَسْلَمَةُ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : سَأَلْت أَنَسًا : أَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
771- وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ نَظَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا » . وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال لِعَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَلَا يُؤْذِ بِهِمَا أَحَدًا لِيَجْعَلْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَوْ لِيُصَلِّ فِيهِمَا » . وَهُوَ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى(1/333)
الله عليه وسلم - فِي نَعْلَيْهِ فَصَلَّى النَّاسُ فِي نِعَالِهِمْ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَخَلَعُوا فَلَمَّا صَلَّى قَالَ : « مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي نَعْلَيْهِ فَلْيُصَلِّ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَخْلَعَ فَلْيَخْلَعْ » . قَالَ الْعِرَاقِيُّ : وَهَذَا مُرْسَلٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَيُجْمَعُ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ بِجَعْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا بَعْدَهُ صَارِفًا لِلْأَوَامِرِ الْمَذْكُورَةِ الْمُعَلِّلَةِ بِالْمُخَالَفَةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَالتَّعْوِيضَ إلَى الْمَشِيئَةِ بَعْدَ تِلْكَ الْأَوَامِرِ لَا يُنَافِي الِاسْتِحْبَابَ كَمَا فِي حَدِيثِ « بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ » . وَهَذَا أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ وَأَقْوَاهَا عِنْدِي .
بَابُ الْمَوَاضِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَالْمَأْذُونِ فِيهَا لِلصَّلَاةِ
772- عَنْ جَابِرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
773- وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « جُعِلَتْ لِي كُلُّ الْأَرْضِ طَيِّبَةً مَسْجِدًا وَطَهُورًا » . رَوَاهُ الْخَطَّابِيِّ بِإِسْنَادِهِ .
774- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ ؟ قَالَ : « الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ » . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : « الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى » . قُلْت : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : « أَرْبَعُونَ سَنَةً » . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : « حَيْثُمَا أَدْرَكْت الصَّلَاةَ فَصَلِّ فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(1/334)
775- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إلا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ .
776- وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ .
777- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
778- وَعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ - وَهُوَ يَقُولُ : « إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ، إنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
779- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(1/335)
780- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ عَنْ دَاوُد بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ : فِي الْمَزْبَلَةِ ، وَالْمَجْزَرَةِ ، وَالْمَقْبَرَةِ ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، وَفِي الْحَمَّامِ ، وَفِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ . رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : إسْنَادُهُ لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ ، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي زَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ . وَقَدْ رَوَى اللَّيْثُ بن سَعْد هَذَا الْحَدِيث عَنْ عَبْدُ اللهِ بن عمر الْعمري عَنْ نَافِع عَنْ ابن عمر عَن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلُه قَالَ : وَحَدِيثُ ابن عمر عَن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَشْبَهُ وَأَصَحُّ مِنْ حَدِيث اللَّيْث بن سَعْد . وَالْعمري ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيث مِنْ قِبَلِ حِفْظِهْ .
قَوْلُهُ : « جُعِلَتْ لِي كُلُّ الْأَرْضِ طَيِّبَةً مَسْجِدًا وَطَهُورًا » . وَعِنْدَ مُسْلِمٍ : « وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : المُرَاد الْأَرْضُ الطَّاهِرَةُ الْمُبَاحَةُ لِأَنَّ الْمُتَنَجِّسَةَ لَيْسَتْ بِطَيِّبَةٍ لُغَةً وَالْمَغْصُوبَةُ لَيْسَتْ بِطَيِّبَةٍ شَرْعًا .(1/336)
قَوْلُهُ : « حَيْثُمَا أَدْرَكْت الصَّلَاةَ فَصَلِّ » . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَقَابِرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا النَّجَاسَةُ كَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ ، وَكَذَا مَا نَهَى عَنْهُ لِمَعْنًى آخَرَ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَعْطَانُ الْإِبِلِ ، وَمِنْهُ قَارِعَةُ الطَّرِيقِ وَالْحَمَّامُ وَغَيْرِهِمَا . انْتَهَى .(1/337)
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : أَحَادِيثُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ إلَى الْقُبُورِ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ أَحَادِيثُ مُتَوَاتِرَةٌ لَا يَسَعُ أَحَدًا تَرْكُهَا . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ . فَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَنْبُوشَةِ وَغَيْرِهَا ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يُفْرَشَ عَلَيْهَا شَيْئًا يَقِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ أَمْ لَا ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُبُورِ أَوْ فِي مَكَان مُنْفَرِدٍ عَنْهَا كَالْبَيْتِ . وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الظَّاهِرِيَّةُ ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَبِهِ يَقُولُ طَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْمَنْصُورُ بِاَللَّهِ وَالْهَادَوِيَّةُ ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ صِحَّتِهَا إنْ وَقَعَتْ فِيهَا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقْبَرَةِ الْمَنْبُوشَةِ وَغَيْرِهَا ، فَقَالَ : إذَا كَانَتْ مُخْتَلِطَةً بِلَحْمِ الْمَوْتَى وَصَدِيدِهِمْ ، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ فِيهَا لِلنَّجَاسَةِ ، فَإِنْ صَلَّى رَجُلٌ فِي مَكَان طَاهِرٍ مِنْهَا أَجْزَأَتْهُ . وَإِلَى مِثْلِ ذَلِكَ ذَهَبَ أَبُو طَالِبٍ وَأَبُو الْعَبَّاسِ وَالْإِمَامُ يَحْيَى مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ : أَمَّا الْمَقْبَرَةُ فَالصَّلَاةُ مَكْرُوهَةٌ فِيهَا بِكُلِّ حَالٍ . وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا كَمَا فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ . وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ(1/338)
وَعَدَمِ الْكَرَاهَةِ ، وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عَلَيْهِ وَقَدْ احْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِمَا يَقْضِي مِنْهُ الْعَجَبَ فَاسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى قَبْرِ الْمِسْكِينَةِ السَّوْدَاءِ ، وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ الْمُتَوَاتِرَةُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْإِمَامُ لَا تَقْصُرُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لَهُ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، فَيَكُونُ الْحَقُّ التَّحْرِيمَ وَالْبُطْلَانَ ، لِأَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ هُوَ الْمُرَادِفُ لِلْبُطْلَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ وَبَيْنَ الْمَقَابِرِ وَكُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمَقْبَرَةِ . وَأَمَّا الْحَمَّامُ فَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ . وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا يُصَلِّي فِي حَمَّامٍ وَلَا مَقْبَرَةٍ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الظَّاهِرِيَّةُ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : « لَا يُصَلَّيَنَّ إلَى حُشٍّ وَلَا فِي حَمَّامٍ وَلَا فِي مَقْبَرَةٍ » . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : مَا نَعْلَمُ لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ مَعَ الطَّهَارَةِ وَتَكُونُ مَكْرُوهَةً . وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ وَلا تَجْلِسُوا عَلَيْهِم » . قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الصَّلاةِ إِلَى الْقُبُور وَعَلَى مَنْعِ الْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَظَاهِرِ النَّهْيَ التَّحْرِيم .(1/339)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا » . قَالَ الشَّارِحُ : لِأَنَّ الْقُبُورَ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلْعِبَادَةِ . وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : « لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ » .
قَوْلُهُ : « إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ، إنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ مَسَاجِدَ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ مَسْجِدًا خَوْفًا مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ وَالِافْتِتَانِ بِهِ ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْكُفْرِ كَمَا جَرَى لِكَثِيرٍ مِنْ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ ، وَلَمَّا احْتَاجَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعُونَ إلَى الزِّيَادَةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَامْتَدَّتْ الزِّيَادَةُ إلَى أَنْ دَخَلَتْ بُيُوتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ . وَفِيهَا حُجْرَةُ عَائِشَةَ مَدْفِنُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بَنَوْا عَلَى الْقَبْرِ حِيطَانًا مُرْتَفِعَةً مُسْتَدِيرَةً حَوْلَهُ لِئَلَّا يَظْهَرَ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّيَ إلَيْهِ الْعَوَامُّ وَيُؤَدِّي إلَى الْمَحْذُورِ ، ثُمَّ بَنَوْا جِدَارَيْنِ مِنْ رُكْنَيْ الْقَبْرِ الشَّمَالِيَّيْنِ حَرَّفُوهُمَا حَتَّى الْتَقَيَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ أَحَدٌ مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقَبْرِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ اتِّخَاذِ(1/340)
الْقُبُورِ مَسَاجِدَ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمْ الْوَعِيدَ عَلَى مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَهُوَ تَقْيِيدٌ بِلَا دَلِيلٍ ، لِأَنَّ التَّعْظِيمَ وَالِافْتِتَانَ لَا يَخْتَصَّانِ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ : « كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ » فِي حَدِيثِ الْبَابِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ : « الْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ » إنَّ مَحِلَّ الذَّمِّ عَلَى ذَلِكَ أَنْ تُتَّخَذَ الْمَسَاجِدُ عَلَى الْقُبُورِ بَعْدَ الدَّفْنِ ، لَا لَوْ بُنِيَ الْمَسْجِدُ أَوَّلًا وَجُعِلَ الْقَبْرُ فِي جَانِبِهِ لِيُدْفَنَ فِيهِ وَاقِفُ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرُهُ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي ذَلِكَ . قَالَ الْعِرَاقِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ ، وَأَنَّهُ إذَا بُنِيَ الْمَسْجِدُ لِقَصْدِ أَنْ يُدْفَنَ فِي بَعْضِهِ أَحَدٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي اللَّعْنَةِ بَلْ يَحْرُمُ الدَّفْنُ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لِمُخَالَفَتِهِ لِمُقْتَضَى وَقْفَهُ مَسْجِدًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَلا تَصِحُّ الصَّلاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ وَلا إِلَيْهِا وَالنَّهْي عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الشِّرْكِ . وَذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْقَبْرَ وَالْقَبْرَيْنِ لا يُمْنَع مِنْ الصَّلاةِ لأَنَّهُ لا يَتَنَاوَلُ اسْم الْمَقْبَرَةِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْبَرَةِ ثَلاثَةُ قُبُورٍ فَصَاعِدًا . وَلَيْسَ فِي كَلامِ أَحْمَدٍ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ هَذَا الْفَرْق ،(1/341)
بَلْ عُمُومُ كَلامِهِمْ وَتَعْلِيلِهِمْ وَاسْتَدْلالِهِمْ يُوجِبُ مَنْع الصَّلاةِ عِنْدَ قَبْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْقُبُورِ ، وَهُوَ الصَّوَابُ . وَالْمَقْبَرَةُ كُلُّ مَا قُبِرَ فِيهِ لا أَنَّهُ جَمْعُ قَبْرٍ . انْتَهَى .
قَوْلُهُ : « صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ، وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ » . قَالَ فِي النِّهَايَةِ : الْعَطَنُ مَبْرَكُ الْإِبِلِ حَوْلَ الْمَاءِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ، وَعَلَى تَحْرِيمِهَا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ : لَا تَصِحُّ بِحَالٍ . وَسُئِلَ مَالِكٌ عَمَّنْ لَا يَجِدُ إلَّا عَطَنَ إبِلٍ ، قَالَ : لَا يُصَلِّي فِيهِ . قِيلَ : فَإِنْ بَسَطَ عَلَيْهِ ثَوْبًا قَالَ : لَا . وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : لَا تَحِلُّ فِي عَطَنِ إبِلٍ . وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى حَمْلِ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ مَعَ عَدَمِ النَّجَاسَةِ ، وَعَلَى التَّحْرِيمِ مَعَ وُجُودِهَا . وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ هِيَ النَّجَاسَةُ ، وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى نَجَاسَةِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَزْبَالِهَا . وَقَدْ عَرَفْت مَا قَدَّمْنَاهُ فِيهِ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا النَّجَاسَةَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ جَعْلُهَا عِلَّةً لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ أَعْطَانِهَا وَبَيْنَ مَرَابِضِ الْغَنَمِ ، إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَرْوَاثِ كُلٍّ مِنْ الْجِنْسَيْنِ وَأَبْوَالِهَا ، كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ ، وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ : إنَّ حِكْمَةَ النَّهْيِ مَا فِيهَا مِنْ النُّفُورِ ، فَرُبَّمَا نَفَرَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَتُؤَدِّي إلَى قَطْعِهَا ، أَوْ أَذًى يَحْصُلُ لَهُ مِنْهَا(1/342)
أَوْ تَشْوِيشُ الْخَاطِرِ الْمُلْهِي عَنْ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ . وَبِهَذَا عَلَّلَ النَّهْيَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ ، وَعَلَى هَذَا فَيُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الْإِبِلِ فِي مَعَاطِنِهَا وَبَيْنَ غَيْبَتِهَا عَنْهَا إذْ يُؤْمَنُ نُفُورِهَا حِينَئِذٍ ، وَيُرْشِدُ إلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ عِنْدَ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ : « لَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الْجِنِّ أَلَا تَرَوْنَ إلَى عُيُونِهَا وَهَيْئَتِهَا إذَا نَفَرَتْ » . وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ أَنْ يُجَاءَ بِهَا إلَى مَعَاطِنِهَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْطَعَهَا أَوْ يَسْتَمِرَّ فِيهَا مَعَ شَغْلِ خَاطِرِهِ . وَقِيلَ : لِأَنَّ الرَّاعِيَ يَبُولُ بَيْنَهَا . وَقِيلَ : الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ كَوْنُهَا خُلِقَتْ مِنْ الشَّيَاطِينِ . وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ مُغَفَّلٍ السَّابِقُ . وَكَذَا عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِهِ . وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ . وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . إذَا عَرَفْت هَذَا الِاخْتِلَافَ فِي الْعِلَّةِ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْحَقَّ الْوُقُوفُ عَلَى مُقْتَضَى النَّهْيِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَالظَّاهِرِيَّةُ . وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ فَأَمْرُ إبَاحَةٍ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ .(1/343)
قَوْلُهُ : ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ فِي الْمَزْبَلَةِ ، وَالْمَجْزَرَةِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : الْمَزْبَلَةِ : هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الزِّبْلُ . وَالْمَجْزَرَةِ : الْمَكَانُ الَّذِي يُنْحَرُ فِيهِ الْإِبِلُ وَتُذْبَحُ فِيهِ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ فَكَوْنِهِمَا مَحِلًّا لِلنَّجَاسَةِ فَتَحْرُمُ الصَّلَاةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ اتِّفَاقًا ، وَمَعَ حَائِلٍ فِيهِ خِلَافٌ ، وَقِيلَ : إنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَجْزَرَةِ كَوْنُهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ . وَأَمَّا فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَلِمَا فِيهَا مِنْ شَغْلِ الْخَاطِرِ الْمُؤَدِّي إلَى ذَهَابِ الْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ سِرُّ الصَّلَاةِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ النَّجَاسَةِ ، وَقِيلَ : لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا شَغْلٌ لِحَقِّ الْمَارِّ ، وَأَمَّا فِي ظَهْرِ الْكَعْبَةِ فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ ثَابِتَةٌ تَسْتُرُهُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ مُصَلٍّ عَلَى الْبَيْتِ لَا إلَى الْبَيْتِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْكَعْبَةِ
781- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْت أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْته هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ : نَعَمْ ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(1/344)
782 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ : هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْكَعْبَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ عَنْ يَسَارِك إذَا دَخَلْت ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وُجْهَةِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ لِصَلَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا . انْتَهَى . قال في الشرح الكبير : وَلا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَلا عَلَى ظَهْرِهَا . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةٍ : تَصِحُّ لأَنَّهُ مَسْجِدٌ وَلأَنَّهُ مَحَلٌّ لِصَلاةِ النَّفْلِ فَكَانَ مَحَلاً لِلْفَرْضِ كَخَارِجِهَا . وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : ? وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ? . وَالْمُصَلِّي فِيهَا أَوْ عَلَى سَطْحِهَا غَيْرُ مُسْتَقْبِلِ لِجِهَتِهَا ، فَأَمَّا النَّافِلَةُ فَمَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهَا قَاعِدًا وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَلا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ بَلِ النَّافِلَة ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدٍ وَأَمَّا صَلاة النَّبَيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْبَيْتِ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَطَوُّعًا فَلا يَلْحِقُ الْفَرْضُ لأَنَّهً - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى دَاخِلَ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : « هَذِهِ الْقِبْلَةِ » . فَيَشْبَهُ وَاللهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهَ لِهَذَا الْكَلامِ فِي عُقَيْبِ الصَّلاةِ خَارِج الْبَيْتِ بَيَانًا لأَنَّ الْقُبْلَةَ الْمَأْمُورُ بِاسْتِقْبَالِهَا هِيَ الْبِنْيَةِ كُلِّهُاَ لِئَلا(1/345)
يَتَوَهَّم مُتَوَهِّمْ أَنْ اسْتِقْبَالَ بَعْضِهَا كَافٍ فِي الْفَرْضِ لأَجْلِ أَنَّهُ صَلَّى التَّطَوُّعَ فِي الْبَيْتِ ، وَإِلا فَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَنَّ الْكَعْبَةَ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ الْقِبْلَة . فَلا بُدَّ لِهَذَا الْكَلام مِنْ فَائِدَةٍ . وَعِلْمُ شَيْءٍ قَدْ يَخْفَى وَيَقَعُ فِي مَحِلِّ الشُّبُهَةِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيث وَفَهِمَ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى . وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا سَمِعَ . انْتَهَى . وَاللهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ
783- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَيْفَ أُصَلِّي فِي السَّفِينَةِ ؟ قَالَ : « صَلِّ فِيهَا قَائِمًا ، إلَّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ مِنْ قِيَامٍ فِي السَّفِينَةِ وَلَا يَجُوزُ الْقُعُودُ إلَّا لِعُذْرِ مَخَافَةِ غَرَقٍ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ مَخَافَةَ الْغَرَقِ تَنْفِي عَنْهُ الِاسْتِطَاعَةَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? . وَثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : « إذَا أُمِرْتُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » .
بَابُ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِعُذْرٍ(1/346)
784- عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - انْتَهَى إلَى مَضِيقٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، وَالسَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ - فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ تَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إيمَاءً يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ .
785- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةِ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ - يُسَبِّحُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ قِبَلَ أَيِّ وِجْهَةٍ تَوَجَّهَ ، وَلَمْ يَكُنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى ما ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَعَضُ مِنْ صِحَّةِ جَوَازِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَمَا تَصِحُّ فِي السَّفيِنَةٍ بالإِجْمَاعِ . وَيُعَارِضُ هَذَا حَدِيثُ عَامِرِ بن رَبِيْعَةِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ لِلْمُسَافِرِ قِبَلَ جِهَةِ مَقْصِدِهِ . فَالظَّاهِرُ صِحَّةُ الْفَرِيضَةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ لِمَنْ حَصَلَ لَهُ مِثْلُ هَذَا الْعُذْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي هَوْدَجٍ ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَنَا بِشَرْعٍ لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ ، لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لا يَعْلَمُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى :
وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ الرُّخْصَةُ إذَا كَانَ الضَّرَرُ بِذَلِكَ بَيِّنًا ، فَأَمَّا الْيَسِيرُ فَلَا .(1/347)
786- رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْت أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
بَابُ اتِّخَاذِ مُتَعَبَّدَات الْكُفَّارِ وَمَوَاضِع الْقُبُورِ إذَا نُبِشَتْ مَسَاجِدُ
787- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَسَاجِدَ الطَّائِفِ حَيْثُ كَانَ طَوَاغِيتُهُمْ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ عُمَرُ : إنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَهُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ . قَالَ : وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ إلَّا بِيْعَةً فِيهَا التَّمَاثِيلُ .
788- وَعَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خَرَجْنَا وَفْدًا إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا بِيعَةٌ لَنَا وَاسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ وَتَمَضْمَضَ ، ثُمَّ صَبَّهُ فِي إدَاوَةٍ وَأَمَرَنَا ، فَقَالَ : « اُخْرُجُوا فَإِذَا أَتَيْتُمْ أَرْضَكُمْ فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُمْ وَانْضَحُوا مَكَانَهَا بِهَذَا الْمَاءِ وَاِتَّخِذُوهَا مَسْجِدًا » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .(1/348)
789- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَرْسَلَ إلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ ، فَقَالَ : « يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا » . قَالُوا : لَا وَاَللَّهِ مَا نَطْلُبُ ثَمَنِهِ إلَّا إلَى اللَّهِ ، فَقَالَ أَنَسٌ : وَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ خِرَبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ وَجَعَلُوا عَضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ - وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ - وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ :
« اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ » .
مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ مُتَّفَق عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ :( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَسَاجِدَ الطَّائِفِ حَيْثُ كَانَ طَوَاغِيتُهُمْ ). قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَأَمْكِنَةِ الْأَصْنَامِ مَسَاجِدَ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ ، جَعَلُوا مُتَعَبَّدَاتِهِمْ مُتَعَبَّدَاتٍ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيَّرُوا مَحَارِيبَهَا . وَالْأَثَرَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْبِيَعِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا ، إلَّا إذَا كَانَ فِيهَا تَمَاثِيلُ .
بَابُ فَضْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا(1/349)
790- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
791- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا - وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ - لِبَيْضِهَا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/350)
قَوْلُهُ : « مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا » . أَي لَا يُرِيدُ بِهِ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً ، « بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ » وَقَوْلُهُ : « وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ » حَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّهُ يَزِيدُ فِي مَسْجِدٍ هَذَا الْقَدْرَ أَوْ يَشْتَرِكُ جَمَاعَةٌ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ فَيَقَعُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ مَعْنَاهُ « بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ » . فِي مُسَمَّى الْبَيْتِ ، وَأَمَّا صِفَتُهُ فِي السِّعَةِ وَغَيْرِهَا فَمَعْلُومٌ فَضْلُهَا فَإِنَّهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ فَضْلَهُ عَلَى بُيُوتِ الْجَنَّةِ كَفَضْلِ الْمَسْجِدِ عَلَى بُيُوتِ الدُّنْيَا . قَالَ الْحَافِظُ : لَفْظُ ( الْمِثْلِ ) لَهُ اسْتِعْمَالَانِ : أَحَدُهُمَا الْإِفْرَادُ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى ? فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ? والآخَرُ الْمُطَابَقَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ? أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ?. إِلِى أَنْ قَالَ : وَمِنْ الْأَجْوِبَةِ الْمُرْضِيَةِ أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ هُنَا بِحَسَبِ الْكَمِّيَّةِ وَالزِّيَادَةِ حَاصِلَةٌ بِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ فَكَمْ مِنْ بَيْتٍ خَيْرٍ مِنْ عَشَرَةٍ بَلْ مِنْ مِائَةٍ ، قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهَذَا الَّذِي ارْتَضَاهُ هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ . قَالَ فِي الْمُفْهِمِ : هَذَا الْبَيْتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِثْلُ بَيْتِ خَدِيجَةَ الَّذِي قَالَ فِيهِ : « إنَّهُ مِنْ قَصَبٍ » . يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ قَصَبِ الزُّمُرُّدِ وَالْيَاقُوتِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .(1/351)
والله أعلم .
بَابُ الِاقْتِصَادِ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ
792- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا أُمِرْت بِتَشْيِيدِ الْمَسَاجِدِ » . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
793- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيُّ .
794- وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : كَانَ سَقْفُ الْمَسَاجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ .
795- وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ : أَكِنَّ النَّاسَ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ .(1/352)
قَالَ الْبَغَوِيّ : التَّشْيِيدُ رَفْعُ الْبِنَاءِ وَتَطْوِيلُهُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : ? بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ? . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالزَّخْرَفَةُ : الزِّينَةُ . قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ : إنَّهُمْ زَخْرَفُوا الْمَسَاجِدَ عِنْدَمَا بَدَّلُوا دِينَهُمْ وَحَرَّفُوا كُتُبَهُمْ وَأَنْتُمْ تَصِيرُونَ إلَى مِثْلِ حَالِهِمْ ، وَسَيَصِيرُ أَمْرُكُمْ إلَى الْمُرَاءَاةِ بِالْمَسَاجِدِ وَالْمُبَاهَاةِ بِتَشْيِيدِهَا وَتَزْيِينِهَا . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : إذَا حَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ وَزَوَّقْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ فَالدَّمَارُ عَلَيْكُمْ . قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ لِإِخْبَارِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَمَّا سَيَقَعُ بَعْدَهُ ، فَإِنَّ تَزْوِيقَ الْمَسَاجِدِ وَالْمُبَاهَاةِ بِزَخْرَفَتِهَا كَثُرَ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِالْقَاهِرَةِ وَالشَّامِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ بِأَخْذِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ ظُلْمًا وَعِمَارَتِهِمْ بِهَا الْمَدَارِسَ عَلَى شَكْلٍ بَدِيعٍ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ .(1/353)
قَوْلُهُ : « لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ » قَالَ الشَّارِحُ : أَيْ يَتَفَاخَرُونَ فِي بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ ، وَالْمُبَاهَاةُ بِهَا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنْ يَتَفَاخَرُوا بِهَا بِالنَّقْشِ وَالْكَثْرَةِ . وَرَوَى فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ : غَدَوْنَا مَعَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إلَى الزَّاوِيَةِ فَحَضَرَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَمَرَرْنَا بِمَسْجِدٍ فَقَالَ أَنَسٌ : أَيُّ مَسْجِدٍ هَذَا ؟ قَالُوا : مَسْجِدٌ أُحْدِثَ الْآنَ ، فَقَالَ أَنَسٌ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَبَاهَوْنَ فِي الْمَسَاجِدِ ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إلَّا قَلِيلًا » .
قَوْلُهُ : ( أَكِنَّ النَّاسَ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ ) . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : كَأَنَّ عُمَرَ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ رَدَّ الشَّارِعِ الْخَمِيصَةَ إلَى أَبِي جَهْمٍ مِنْ أَجْلِ الْأَعْلَامِ الَّتِي فِيهَا ، وَقَالَ : « إنَّهَا أَلْهَتْنِي عَنْ صَلَاتِي » . قَالَ الْحَافِظُ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ عِلْمٌ خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا : « مَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ قَطُّ إلَّا زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ » .
بَابُ كَنْسِ الْمَسَاجِدِ وَتَطْيِيبِهَا وَصِيَانَتِهَا مِنْ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ(1/354)
796- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ - أَوْ آيَةٍ - أُوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
797- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ وَأَنْ تُنَظَّفَ وَتُطَيَّبَ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ .
798- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا ، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
799- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ : كَانَ يَأْمُرُنَا بِالْمَسَاجِدِ أَنْ نَصْنَعَهَا فِي دِيَارِنَا وَنُصْلِحَ صَنْعَتَهَا وَنُطَهِّرَهَا .
800- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(1/355)
قَوْلُهُ : « عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ الْمَسْجِدِ » . الحديث . قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : فِيهِ تَرْغِيبٌ فِي تَنْظِيفِ الْمَسَاجِدِ مِمَّا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ الْقُمَامَاتِ الْقَلِيلَةِ أَنَّهَا تُكْتَبُ فِي أُجُورِهِمْ وَتُعْرَضُ عَلَى نَبِيِّهِمْ ، وَإِذَا كُتِبَ هَذَا الْقَلِيلُ وَعُرِضَ فَيُكْتَبُ الْكَبِيرُ وَيُعْرَضُ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى ، فَفِيهِ تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى وَبِالطَّاهِرِ عَنْ النَّجِسِ وَالْحَسَنَاتُ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ .
قَوْلُهُ : ( أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ فِي الدُّورِ ) . قَالَ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السَّنَةِ : يُرِيدُ الْمَحَالَّ الَّتِي فِيهَا الدُّورُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : ? سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ? ( الأعراف : 145) . قَالَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ : وَالْبَسَاتِينُ فِي مَعْنَى الدُّورِ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَعَلَى هَذَا فَيُسْتَحَبُّ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ لَبِنٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ يَحِلُّهَا الْمُقِيمُونَ بِهَا وَكُلِّ بَسَاتِينَ مُجْتَمِعَةٍ .
قَوْلُهُ : « مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا » . وَفي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : « فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسَاجِدَ » . قَالَ النَّوَوِيُّ : هَذَا تَصْرِيحٌ بِنَهْيِ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَنَحْوَهُ عَنْ دُخُولِ كُلِّ مَسْجِدٍ . قال : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ كَانَ خَالِيًا لِأَنَّهُ مَحِلُّ الْمَلَائِكَةِ .
بَابُ مَا يَقُولُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ(1/356)
801- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أَسِيد قَالا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ افْتَحْ لَنَا أَبْوَابَ رَحْمَتِك ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَكَذَا مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ أَبِي أَسِيد ( بِالشَّكِّ ) .
802- وَعَنْ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ : « بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك » . وَاذَا خَرَجَ قَالَ : « بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِك » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/357)
قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : وَسُؤَالُ الْفَضْلِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ? فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ? يَعْنِي الرِّزْقَ الْحَلالَ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَيَنْبَغِي لِدَاخِلِ الْمَسْجِدِ وَالْخَارِجِ مِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالدُّعَاءِ بِالْفَتْحِ لِأَبْوَابِ الرَّحْمَةِ دَاخِلًا وَلِأَبْوَابِ الْفَضْلِ خَارِجًا قَالَ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَضُمَّ إلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ : « أَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ » . قَالَ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ : حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ . وَمَا أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : ? فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ? . قَالَ : هُوَ الْمَسْجِدُ إذَا دَخَلْته فَقُلْ : ( السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ) .
بَابٌ جَامِعٌ فِيمَا تُصَانُ عَنْهُ الْمَسَاجِدُ وَمَا أُبِيحَ فِيهَا
803- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ فِي مَسْجِدٍ ضَالَّةً فَلْيَقُلْ : لَا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْك ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا » .(1/358)
804 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَجُلًا نَشَدَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : مَنْ دَعَا إلَى الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا وَجَدْت إنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ » . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ .
805- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَنْ دَخَلَ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَالنَّاظِرِ إلَى مَا لَيْسَ لَهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
806- وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّاظِرِ إلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ .
807- وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا يُسْتَقَادُ فِيهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ ) .
808- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا : لا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَك وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا : لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْك » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
809- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الْأَشْعَارُ ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الضَّالَّةُ ، وَعَنْ الْحِلَقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَلَيْسَ لِلنَّسَائِيِّ فِيهِ إنْشَادُ الضَّالَّةِ .(1/359)
810- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ ؟ الْحَدِيثَ : فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
811- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : شَهِدْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَأَصْحَابُهُ يَتَذَاكَرُونَ الشِّعْرَ وَأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
812- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : مَرَّ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ - وَحَسَّانُ فِيهِ يُنْشِدُ - فَلَحَظَ إلَيْهِ ، فَقَالَ : كُنْت أُنْشِدُ فِيهِ ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَقَالَ : أَنْشُدُك اللَّهَ أَسْمَعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « أَجِبْ عَنِّي اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » ؟ قَالَ : نَعَمْ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
813- وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ - وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى - . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
814- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ - وَهُوَ شَابٌّ عَزَبٌ لَا أَهْلَ لَهُ - فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
815- وَأَحْمَدَ وَلَفْظُهُ : كُنَّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَنَقِيلُ فِيهِ وَنَحْنُ شَبَابٌ .(1/360)
816- قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ : قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ .
817- وَقَالَ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ .
818- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : أُصِيبَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ - يُقَالُ لَهُ : حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ - فِي الْأَكْحَلِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
819- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا » ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : دَخَلْت الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ فَوَجَدْت كِسْرَةَ خُبْزٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَخَذْتهَا فَدَفَعْتهَا إلَيْهِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
820- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ . قَوْلُهُ : « لَا أَدَّاهَا اللَّهُ إلَيْك » . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى النَّاشِدِ فِي الْمَسْجِدِ بِعَدَمِ الْوُجْدَانِ مُعَاقَبَةً لَهُ فِي مَالِهِ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ . قَالَ : وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ فِيهِ بِمَا يَقْتَضِي مَصْلَحَةً تَرْجِعُ إلَى الرَّافِعِ صَوْتَهُ .(1/361)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « وَإِنَّمَا بُنِيَتْ الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ » . قَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْمُذَاكَرَةِ فِي الْخَيْرِ وَنَحْوِهَا .
قَوْلُهُ : « مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ » . الحَدِيث . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ التَّنْوِيهُ بِشَرَفِ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ . وَفِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَالْإِرْشَادُ إلَى أَنَّ التَّعْلِيمَ وَالتَّعَلُّمَ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ .
قَوْلَةُ : « إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا : لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَك » . الْحَدِيثُ قَالَ الشَّارِحُ : أَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ . قَالَ الْعِرَاقِيُّ : وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا عُقِدَ مِنْ الْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ . وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ يَحْتَاجُ إلَى قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ النَّهْيَ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْحَقُّ . وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ النَّقْضِ وَصِحَّةِ الْعَقْدِ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّحْرِيمِ فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ قَرِينَةً لِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ .(1/362)
وَأَمَّا إنْشَادُ الْأَشْعَارِ فِي الْمَسْجِدِ فَحَدِيثُ الْبَابِ وَمَا مَعْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ وَيُعَارِضُهُ تَصْرِيحُ حَسَّانَ بِأَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ الشِّعْرَ بِالْمَسْجِدِ وَفِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ : حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالرُّخْصَةِ عَلَى بَيَانِ الْجَوَازِ . وَالثَّانِي : حَمْلُ أَحَادِيثِ الرُّخْصَةِ عَلَى الشِّعْرِ الْحَسَنِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، وَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى التَّفَاخُرِ وَالْهِجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَقَالَ النَّسَائِيُّ : بَابُ الرُّخْصَةِ فِي إنْشَادِ الشِّعْرِ الْحَسَنِ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الشِّعْرُ كَلَامٌ فَحَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ . وَقَدْ وَرَدَ هَذَا مَرْفُوعًا . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : لا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِي مَدْحِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرْعِ . قَالَ الْعِرَاقِيُّ : وَلَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يَرْفَعْ بِهِ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يُشَوِّشُ بِذَلِكَ عَلَى مُصَلٍّ أَوْ قَارِئٍ أَوْ مُنْتَظِرِ الصَّلَاةِ .
أَمَّا التَّحَلُّقُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَحَمَلَ النَّهْيَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا قَطَعَ الصُّفُوفَ مَعَ كَوْنِهِمْ مَأْمُورِينَ بِالتَّبْكِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالتَّرَاصِّ فِي الصُّفُوفِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .(1/363)
قَوْلُهُ : ( فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ ) قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ سَيَأْتِي بِطُولِهِ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى . وَسَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ .
قَوْلُهُ : ( أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ : فِيهِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ أَوْ يُحْمَلُ النَّهْيُ حَيْثُ يَخْشَى أَنْ تَبْدُوَ عَوْرَتُهُ ، وَالْجَوَازُ حَيْثُ يُؤْمَنُ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ الْحَافِظُ : الثَّانِي أَوْلَى مِنْ ادِّعَاءِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ وَعَلَى غَيْرِهَا لِعَدَمِ الْفَارِقِ .
قَوْلُهُ : ( عَزَبٌ ) قَالَ الْحَافِظُ : الْمَشْهُورُ فِيهَا فَتْحُ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرُ الزَّايِ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ ( أَعْزَبُ ) وَهِيَ لُغَةٌ قَلِيلَةٌ مَعَ أَنَّ الْقَزَّازَ أَنْكَرَهَا . وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي لَا زَوْجَةَ لَهُ . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى جَوَازِ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ .(1/364)
قَوْلُهُ : ( فِي الْأَكْحَلِ ) هُوَ عِرْقٌ فِي الْيَدِ ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ . قَالَتْ : ( فَلَمْ يَرُعْهُمْ وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إلَيْهِمْ فَقَالُوا : يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ ؟ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ فِيهَا ) . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْمَرِيضِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْهُ يَتَنَجَّسُ بِهِ الْمَسْجِدُ .
قَوْلُهُ : « هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِينًا » ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : دَخَلْت الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّصَدُّقِ فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ .
قَوْلُهُ : ( كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ وَهُوَ جَوَازُ الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا سُكْنَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فِي الْمَسْجِدِ . وَمِنْهَا إنْزَالُ وَفْدِ ثَقِيفٍ الْمَسْجِدَ وَغَيْرِهِمْ . وَقَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى :
821- وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَسَرَ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ فَرُبِطَ بِسَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ إسْلَامِهِ .
822- وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ نَثَرَ مَالًا جَاءَ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَسَمَهُ فِيهِ .(1/365)
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ رَبْطِ الْأَسِيرِ الْمُشْرِكِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمُسْلِمُ بِالْأَوْلَى وَعَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ فِي الْمَسَاجِدِ وَنَثْرِهَا فِيهَا .
بَابُ تَنْزِيهِ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ عَمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّي
823- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ - قَدْ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا - فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « أَمِيطِي عَنِّي قِرَامَك هَذَا فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
824- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا - بَعْدَ دُخُولِهِ الْكَعْبَةَ - فَقَالَ : « إنِّي كُنْت رَأَيْت قَرْنَيْ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلْت الْبَيْتَ فَنَسِيت أَنْ آمُرَك أَنْ تُخَمِّرَهُمَا فَخَمِّرْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي قِبْلَةِ الْبَيْتِ شَيْءٌ يُلْهِي الْمُصَلِّي » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : ( كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمْكِنَةِ الَّتِي فِيهَا تَصَاوِيرُ ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَفْسُدُ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقْطَعْهَا وَلَمْ يُعِدْهَا .
قَوْلُهُ : « إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ قَرْنَيْ الْكَبْشِ » . قَالَ الشَّارِحُ : أَيْ كَبْشُ إبْرَاهِيمَ الَّذِي فَدَى بِهِ إسْمَاعِيلَ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ تَزْيِينِ الْمَحَارِيبِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَسْتَقْبِلُهُ الْمُصَلِّي بِنَقْشٍ أَوْ تَصْوِيرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُلْهِي .(1/366)
بَابُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ حَتَّى يُصَلِّيَ إلَّا لِعُذْرٍ
825- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا كُنْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
826- وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ : خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَمَا أُذِّنَ فِيهِ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى تَحْرِيمِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ لِغَيْرِ الْوُضُوءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَمَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ تِلْكَ الصَّلَاةَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ قَدْ تَعَيَّنَ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ . قَالَ : وَفِي الْبَابِ عَنْ عُثْمَانَ بِلَفْظِ : « مَنْ أَدْرَكَ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ مُنَافِقٌ » .
أَبْوَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
بَابُ وُجُوبِهِ لِلصَّلَاةِ
827- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - فِي حَدِيثٍ يَأْتِي ذِكْرُهُ - قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « فَإِذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ » .(1/367)
828- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاء - فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ - إذْ جَاءَهُمْ آتٍ ، فَقَالَ : إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فَاسْتَقْبَلُوهَا وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
829- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ : ?قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ?. فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ - وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ - وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى : أَلَا إنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ ، فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .(1/368)
قَوْلُهُ : « ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ إلَّا فِي حَالَةِ الْعَجْزِ أَوْ فِي الْخَوْفِ عِنْدَ الْتِحَامِ الْقِتَالِ أَوْ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ كَمَا سَيَأْتِي . وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » .
قَوْلُهُ : ( بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَلِلْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَبْلُغَهُ لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ . وَمِنْهَا جَوَازُ تَعْلِيمِ مَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ مَنْ هُوَ فِيهَا ، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَالَ :
وَهُوَ حُحَّةٌ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ حُجَّةِ مَنْ رَأَى فَرْضَ الْبَعِيدِ إصَابَةَ الْجِهَةِ لَا الْعَيْنِ
830- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
831- وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ : « وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غُرِّبُوا » . يُعَضِّدُ ذَلِكَ .(1/369)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى مَنْ بَعُدَ عَنْ الْكَعْبَةِ الْجِهَةُ لَا الْعَيْنُ ، وأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَالَ « الْبَيْتُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ ، وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْحَرَمِ ، وَالْحَرَمُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا مِنْ أُمَّتِي » .
بَابُ تَرْكِ الْقِبْلَةِ لِعُذْرِ الْخَوْفِ
832- عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَصَفَهَا ، ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرِ مُسْتَقْبِلِيهَا ، قَالَ نَافِعٌ : وَلَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ ذَلِكَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لاسِيَّمَا إذَا كَثُرَ الْعَدُوُّ تَجُوزُ حَسَبَ الْإِمْكَانِ فَيَنْتَقِلُ عَنْ الْقِيَامِ إلَى الرُّكُوعِ ، وَعَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ ، وَيَجُوزُ تَرْكُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْكَانِ . وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ .
بَابُ تَطَوُّعِ الْمُسَافِرِ عَلَى مَرْكُوبِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَ بِهِ
833- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسَبِّحُ عَلَى رَاحِلَتِهِ قِبَلَ أَيِّ وِجْهَةٍ تَوَجَّهَ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا إلَّا الْمَكْتُوبَةَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/370)
834- وَفِي رِوَايَةِ : كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ ، وَفِيهِ نَزَلَت : ? فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ?. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
835- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ النَّوَافِلَ فِي كُلِّ جِهَةٍ ، وَلَكِنْ يَخْفِضُ السُّجُودَ مِنْ الرُّكُوعِ وَيُومِئُ إيمَاءً . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
836- وَفِي لَفْظِ : بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَاجَةٍ فَجِئْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنْ الرُّكُوعِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
837- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ تَطَوُّعًا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَكَبَّرَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ خَلَّى عَنْ رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُجُودَ مَنْ صَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ يَكُونُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى السَّرْجِ وَلَا بَذْلُ . غَايَةِ الْوُسْعِ فِي الِانْحِنَاءِ بَلْ يَخْفِضُ سُجُودَهُ بِمِقْدَارٍ يَفْتَرِقُ بِهِ السُّجُودُ عَنْ الرُّكُوعِ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ حَالَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، ثُمَّ لَا يَضُرُّ الْخُرُوجَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ سَمْتِ الْقِبْلَةِ .
أَبْوَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ(1/371)
بَابُ افْتِرَاضِ افْتِتَاحِهَا بِالتَّكْبِيرِ
838- عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَحْسَنُ .
839- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
840- وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ كَانَ يَفْتَتِحُ بِالتَّكْبِيرِ .
قَوْلُهُ : « مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْمُرَادُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ يَفْتَتِحُ بِهِ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ . قَوْلُهُ : « وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ » فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ دُونِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَذْكَارِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ بِكُلِّ لَفْظٍ قُصِدَ بِهِ التَّعْظِيمُ ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ .
بَابُ أَنَّ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ بَعْدَ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ وَالْفَرَاغِ مِنْ الْإِقَامَةِ
841- عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا إذَا قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ ، فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
842- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَأَنْصِتُوا . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/372)
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا إذَا قُمْنَا إلَى الصَّلَاةِ ، فَإِذَا اسْتَوَيْنَا كَبَّرَ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَبِلَفْظٍ آخَرَ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ النُّعْمَانِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّينَا فِي الصُّفُوفِ كَمَا يُقَوَّمُ الْقَدَحُ حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنْ قَدْ أَخَذْنَا عَنْهُ ذَلِكَ وَفَقِهْنَا أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ بِوَجْهِهِ إذَا رَجُلٌ مُنْتَبِذٌ بِصَدْرِهِ فَقَالَ : « لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفُنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ » .
بَابُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَبَيَانُ صِفَتِهِ وَمَوَاضِعِهِ
843- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
844- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرَةِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
845- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا بِحَذْوِ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرُ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَهُمَا مِثْلُ ذَلِكَ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَهُمَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَقَالَ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
846- وَلِلْبُخَارِيِّ : وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ ، وَلَا حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ .(1/373)
847- وَلِمُسْلِمٍ : وَلَا يَفْعَلُهُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ .
848- وَلَهُ أَيْضًا : وَلَا يَرْفَعُهُمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ .
849- وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا قَالَ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
850- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَذْو مَنْكِبَيْهِ ، وَيَصْنَعُ مِثْلُ ذَلِكَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَهُ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ، وَيَصْنَعُهُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ ، وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
851- وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ رَأَى مَالِكَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ إذَا صَلَّى كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَنَعَ هَكَذَا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/374)
852- وَفِي رِوَايَةِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا كَبَّرَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، فَقَالَ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
853- وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا : حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ .(1/375)
854- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ -وَهُوَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدُهُمْ أَبُو قَتَادَةَ بن ربعي - : أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا : مَا كُنْت أَقْدَمَ لَهُ صُحْبَةً ، وَلَا أَكْثَرَنَا لَهُ إتْيَانًا ، قَالَ : بَلَى ، قَالُوا : فَاعْرِضْ ، فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اعْتَدَلَ قَائِمًا وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : « اللَّهُ أَكْبَرُ » . وَرَكَعَ ، ثُمَّ اعْتَدَلَ فَلَمْ يُصَوِّبْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُقْنِعْ ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : « لاسَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا ، ثُمَّ هَوَى إلَى الْأَرْض سَاجِدًا ، ثُمَّ قَالَ : « اللَّهُ أَكْبَرُ » . ثُمَّ ثَنَى رِجْلَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهَا ، وَاعْتَدَلَ حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ ، ثُمَّ نَهَضَ ، ثُمَّ صَنَعَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ ، حَتَّى إذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كَمَا صَنَعَ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ صَنَعَ كَذَلِكَ حَتَّى إذَا كَانَتْ الرَّكْعَةُ الَّتِي تَنْقَضِي فِيهَا صَلَاتُهُ ، أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى ، وَقَعَدَ عَلَى شِقِّهِ مُتَوَرِّكًا ثُمَّ سَلَّمَ ، قَالُوا : صَدَقْت ، هَكَذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ ، وَصَحَّحَهُ(1/376)
التِّرْمِذِيُّ ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا .
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ . وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّهَا أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَإِلَى الرَّفْعِ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَوَاطِنِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَلَمْ يَحْكِ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَالِكٍ غَيْرَهُ . وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ : أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَفْعُهُمَا فِي مَوْضِعِ رَابِعٍ وَهُوَ إذَا قَامَ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَوْسَطِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ ، فَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ . وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ .(1/377)
قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ في حديث الباب : ( حَتَّى يَكُونَا بِحَذْوِ مَنْكِبَيْهِ ) . وَهَكَذَا فِي رِوَايَةِ عَلِيٍّ أَبِي حُمَيْدٍ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ . وَفِي حَدِيثِ مَالِك بْنِ الْحُوَيْرِثِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا أُذُنَيْهِ . وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : ( حَتَّى يُحَاذِيَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ الْمَنْكِبَيْنِ وَبِأَطْرَافِ أَنَامِلِهِ الْأُذُنَيْنِ ) . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ فِي الافتتاح وَفِي غَيْرِهِ دُونَ ذَلِكَ .
قَوْلُهُ : ( وَإِذَا قَامَ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَكَبَّرَ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْمُرَادُ بِالسَّجْدَتَيْنِ الرَّكْعَتَانِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الرَّفْعِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْمَوَاطِنِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
855- وَقَدْ صَحَّ التَّكْبِيرُ فِي الْمَوَاضِعِ الْأَرْبَعَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .(1/378)
وَالْحَدِيثُ تَقَدَّمَ قَرِيبًا ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ إعْظَامٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَإتِّبَاعٌ لِرَسُولِهِ . وَقِيلَ : إشَارَةٌ إلَى طَرْحِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى صَلَاتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ رَبَّهُ ، كَمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ : « اللَّهُ أَكْبَرُ » . وَقِيلَ : إلَى رَفْعِ الْحِجَابِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْبُودِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ الشَّارِحُ : وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ السُّنَّةُ تَشْتَرِكُ فِيهَا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَلَمْ يَرِد مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيهَا .
قَوْلُهُ : ( أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ) فِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ لِمَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ لِيَكُونَ كَلَامُهُ أَوْقَعَ وَأَثْبَتَ عِنْدَ السَّامِعِ . وَالْحَدِيثُ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى جُمْلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ صِفَةِ صَلَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ مَا جَاءَ فِي وَضْعِ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ
856- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يَدَيْهِ حِينَ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَكَبَّرَ ، ثُمَّ الْتَحَفَ بِثَوْبِهِ ، ثُمَّ وَضَعَ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ أَخْرَجَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا وَكَبَّرَ فَرَكَعَ ، فَلَمَّا قَالَ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . رَفَعَ يَدَيْهِ ، فَلَمَّا سَجَدَ سَجَدَ بَيْن كَفَّيْهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
857- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغَ وَالسَّاعِدَ .(1/379)
858- وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ الْيَدَ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ . قَالَ أَبُو حَازِمٍ : وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
859- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى ، فَرَآهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
860- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : إنَّ مِنْ السَّنَةِ فِي الصَّلَاةِ وَضْعُ الْأَكُفِّ عَلَى الْأَكُفِّ تَحْتَ السُّرَّةِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ وَضْعِ الْكَفِّ عَلَى الْكَفِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . وَنَقَلَ ابْنُ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ الْوَضْعَ . قَالَ الْحَافِظُ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْحِكْمَةُ فِي هَذِهِ الْهَيْئَةِ أَنَّهَا صِفَةُ السَّائِلِ الذَّلِيلِ ، وَهُوَ أَمْنَعُ لِلْعَبَثِ وَأَقْرَبُ إلَى الْخُشُوعِ .(1/380)
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اختُلِفَ في مَحَلِّ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ مَنْ قَالَ : إنَّ الْوَضْعَ يَكُونُ تَحْتَ السُّرَّةِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْوَضْعَ يَكُونُ تَحْتَ صَدْرِهِ فَوْقَ سُرَّتِهِ . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ ، وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَلَا تَرْجِيحَ وَبِالتَّخْيِيرِ . قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ الْوَضْعَ عَلَى الصَّدْرِ ، وَلَا شَيْءَ فِي الْبَابِ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِتَفْسِيرِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ? فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ ? بِأَنَّ النَّحْرَ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الشِّمَالِ فِي مَحَلِّ النَّحْرِ وَالصَّدْرِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ نَظَرِ الْمُصَلِّي إلَى سُجُودِهِ
وَالنَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ
861- عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ? الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ? فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ .
862- وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ بِنَحْوِهِ وَزَادَ فِيهِ : وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مُصَلَّاهُ . وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ .
863- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .(1/381)
864- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ فِي صَلَاتِهِمْ » ؟ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ : « لَيَنْتَهُنَّ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا وَالتِّرْمِذِيَّ .
865- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا جَلَسَ فِي التَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَلَمْ يُجَاوِزْ بَصَرُهُ إشَارَتَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : ( وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ مُصَلَّاهُ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ النَّظَرِ إلَى الْمُصَلَّى وَتَرْكِ مُجَاوَزَةِ الْبَصَرِ لَهُ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَفْعَ الْبَصَرِ إلَى السَّمَاءِ حَالَ الصَّلَاةِ حَرَامٌ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْعَمَى لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ مُحَرَّمٍ . انتهى مخلصًا .
بَابُ ذِكْرِ الِاسْتِفْتَاحِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ(1/382)
866- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ سَكَتَ هُنَيْهَةً قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ - بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي -أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : « أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .(1/383)
867- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قَالَ : « وَجَّهْت وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك أَنَا بِك وَإِلَيْك تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت أَسَتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك » . وَإِذَا رَكَعَ قَالَ : « اللَّهُمَّ لَك رَكَعْت ، وَبِك آمَنْت ، وَلَك أَسْلَمْت خَشَعَ لَك سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي » . وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ : « اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ » . وَإِذَا سَجَدَ قَالَ : « اللَّهُمَّ لَك سَجَدْت ، وَبِك آمَنْت ، وَلَك أَسْلَمْت ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ ، وَبَصَرَهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ » . ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ : « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت ، وَمَا أَخَّرْت ، وَمَا أَسْرَرْت ، وَمَا أَعْلَنْت ، وَمَا أَسْرَفْت ، وَمَا أَنْتَ(1/384)
أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّر ، لَا إلَه إلَّا أَنْتَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
868- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ : « سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ، وَتَبَارَكَ اسْمُك ، وَتَعَالَى جَدُّك ، وَلَا إلَهَ غَيْرُك » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
869- وَالدَّارَقُطْنِيّ مِثْلُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ .
870- وَلِلْخَمْسَةِ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ .
871- وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ : يَقُولُ : « سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ، وَتَبَارَكَ اسْمُك ، وَتَعَالَى جَدُّك ، وَلَا إلَهَ غَيْرُك » .
872- وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِذَلِكَ .
873- وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ .
874- وَابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ .
875- وَقَالَ الْأَسْوَدُ : كَانَ عُمَرُ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ : ( سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ، وَتَبَارَكَ اسْمُك ، وَتَعَالَى جَدُّك ، وَلَا إلَهَ غَيْرُك ) . يُسْمِعُنَا ذَلِكَ وَيُعَلِّمُنَا . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .(1/385)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ . وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عَلَيْهِ . وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ . وَفِيهِ أَنَّ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ يَكُونُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ .
قَوْلُهُ : « سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك » قَالَ الْخَطَّابِيُّ : أَخْبَرَنِي ابْنُ جَلَّادٍ : قَالَ : سَأَلْت الزَّجَّاجَ عَنْ قَوْلِهِ : « سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك » فَقَالَ : مَعْنَاهُ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك سَبَّحْتُك . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى :
وَاخْتِيَارُ هَؤُلَاءِ لِهَذَا الِاسْتِفْتَاحِ وَجَهْرُ عُمَرَ بِهِ أَحْيَانًا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لِتَعْلِيمِهِ النَّاسَ - مَعَ أَنَّ السُّنَّةَ إخْفَاؤُهُ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْأَفْضَلُ وَأَنَّهُ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُدَاوِمُ عَلَيْهِ غَالِبًا وَإِنْ اسْتَفْتَحَ بِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - أَوْ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - فَحُسْن لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِهِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْلَى بِالْإِيثَارِ وَالِاخْتِيَارِ وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الِاسْتِفْتَاحِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ حَدِيثُ عَلِيٍّ . انْتَهَى .(1/386)
قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي الاسْتِفْتَاحِ بَيْنَ قَوْلِهِ : « سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك » .. إلى آخره ، وَبَيْنَ « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » .. إلى آخره . انْتَهَى . قُلْتُ : وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ : « سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك » إلى آخره . وَقَوْلِهِ : « اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَاي » . إِلَى آخِرِهِ فَهُوَ حَسَنٌ لَيَجْمَعَ بَيْنَ نَوْعَيِ الذِّكْرِ : الثَّنَاءِ ، وَالدُّعَاءِ . وَاللهُ أَعْلَمُ .
بَابُ التَّعَوُّذِ بِالْقِرَاءَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ? فَإِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ? .
876- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اسْتَفْتَحَ ثُمَّ يَقُولُ : « أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ .
877- وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ : « أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ » .
878- وَقَالَ الْأَسْوَدُ : رَأَيْت عُمَرَ - حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ - يَقُولُ : ( سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك ، وَتَبَارَكَ اسْمُك ، وَتَعَالَى جَدُّك ، وَلَا إلَه غَيْرُك ) . ثُمَّ يَتَعَوَّذُ . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .(1/387)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِافْتِتَاحِ بِمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّعَوُّذِ مِنْ الشَّيْطَان مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ، وَقَالَ : الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي التَّعَوُّذِ لَيْسَ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى .
بَابُ مَا جَاءَ فِي ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )
879- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : قَالَ : صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقْرَأُ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
880- وَفِي لَفْظِ : صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ .
881- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٌ : صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا .
882- وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ - فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ - عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَلَمْ يَكُونُوا يَسْتَفْتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
قَالَ شُعْبَةُ : فَقُلْت لِقَتَادَةَ : أَنْتَ سَمِعْته مِنْ أَنَسٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ نَحْنُ سَأَلْنَاهُ عَنْهُ .(1/388)
883- وَلِلنَّسَائِيِّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ عَنْ أَنَسٍ بن مالك قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى بِنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُمَا .
884- وَعَنْ ابن عَبْد اللهِ بن مُغَفَّل قَالَ : سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُول : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم فَقَالَ : يَا بُنَيِّ إِيَّاكَ والحدث . قَالَ : وَلَمْ أَر من أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً كَان أَبْغُض إِلَيْه حدثًا فِي الإسلام مِنْهُ فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ ، وَمَعَ عُمَر ، وَمَعَ عُثْمَان فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا فَلا تَقُلْهَا إِذَا أَنْتَ قَرَأْتَ فَقُلْ : الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين . رَوَاهُ الْخَمْسَةَ إِلا أَبَا دَاودَ .
885- وَعَنْ قَتَادَة قَالَ : سُئِلَ أَنَس : كَيْفَ كَانَت قِرَاءَةُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ : كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم . يَمُدُّ بِبِسْمِ اللهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَن وَيَمُدُّ بِالرَّحِيم . رَوَاهُ الْبُخَارِي .
886- وَرَوَى ابن جَرِيج عَنْ عَبْدُ اللهِ بن أَبِي مليكة عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَة رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالتَ : كَانَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ آية آية ? بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ? . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاود .(1/389)
قَوْلُهُ : ( لَا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ تَعَالَى : وَقَدْ اسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ لا يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي : إِنَّهُ لَمْ يَصِحُّ فِي الْجَهْرِ بِهَا حَدِيث . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :
وَمَعْنَى قَوْلُهُ : لا تقلها . وَقَوْلُهُ : لا يَقْرأونهَا . أَوْ لا يَذْكُرُونَهَا . أَوْ لا يَسْتَفْتِحُونَ بِهَا أَيْ جَهْرًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - فِي رِوَاية تَقَدَّمَتْ - : وَلا يَجْهَرُون بِهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِرَاءَتِهِمْ لَهَا سِرًّا .
وَقَالَ ابن الْقَيِّم : إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَان يَجْهَرُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَن الرَّحِيم تَارَةً وَيُخْفِيهَا أَكْثَرُ مِمَّا يَجْهَرَ بِهَا ، وَلا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا فِي كُلِّ يَوْمُ وَلَيْلَة خَمْسُ مَرَّات أَبَدًا حَضْرًا وَسَفْرًا وَيُخْفَى ذَلِكَ عَلَى خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَعَلَى جُمْهُور أَصْحَابِهِ وَأَهْلُ بَلَدِهِ فِي الأَعْصَار الْفَاضِلة وَهَذَا مِنْ أَمْحَلَ الْمحال حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى التَّشَبُّث فِيهِ بِأَلْفَاظَ مُجملة وَأَحَادِيث وَاهِيَةْ فَصَحِيحُ تِلْكَ الأَحَادِيث غَيْر صَرِيحُ وَصَرِيحُهَا غَيْر صَحِيح . انْتَهَى . قَالَ الشَّارِحُ : وَأَكْثَرُ مَا فِي الْمَقَام الاخْتِلاف فِي مُسْتَحَبٍّ أَوْ مَسْنُون فَلَيْسَ شَيء مِنْ الْجَهْرِ وَتَرْكِهِ يَقْدَحُ فِي الصَّلاة ببطلان بالإِجْمَاع .
بَابٌ فِي الْبَسْمَلَةِ هَلْ هِيَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَأَوَائِلِ السُّوَرِ أَمْ لَا ؟(1/390)
887- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ » . يَقُولُهَا ثَلَاثًا ، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : إنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ ، فَقَالَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : ? الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي . فَإِذَا قَالَ : ? الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ? قَالَ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي ، فَإِذَا قَالَ : ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ? قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي ، وَقَالَ مَرَّةً : فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ : ? إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ? قَالَ : هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ : ? إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ? قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ .
888- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ - ثَلَاثُونَ آيَةً - شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِيَ : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .(1/391)
889- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ إذْ أَغْفَى ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا ، فَقُلْنَا لَهُ : مَا أَضْحَكَك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : « نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ : ? بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّا أَعْطَيْنَاك الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ * إنَّ شَانِئَك هُوَ الْأَبْتَرُ ? » . ثُمَّ قَالَ : « أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرَ » ؟ قَالَ: وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
890- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ ? بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ? . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « فَإِذَا قَالَ : ? اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ? » إلَى آخِرِ السُّورَةِ إنَّمَا كَانَ هَذَا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى الْعَبْدِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اهْدِنَا وَمَا بَعْدَهُ إلَى آخِرِ السُّورَةِ ثَلَاثُ آيَاتٍ لَا آيَتَانِ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَمْ لا . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سَبْعُ آيَاتٍ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَمْ تُذْكَرْ الْبَسْمَلَةُ فِي الْحَدِيثِ وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَذُكِرَتْ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً » . إلى آخره . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى :
وَلَا يَخْتَلِفُ الْعَادُّونَ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ آيَةً بِدُونِ التَّسْمِيَةِ .(1/392)
قَوْلُهُ : « ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ » . تَمَامُ الْحَدِيثِ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : « إنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَهُوَ حَوْضٌ يَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ فَيَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ : رَبِّ إنَّهُ مِنْ أُمَّتِي ، فَيَقُولُ : مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَك » . قَالَ الشَّارِحُ : هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ مَنْ أَثْبَتَ الْبَسْمَلَةَ .
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) . وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْقُرْآنِ . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَالْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مُنْفَرِدَةٌ فَاصِلَةٌ بَيْنَ السُّوَرِ لَيْسَتْ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ، لا الْفَاتِحَة وَلا غَيْرهَا .
بَابُ وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ
891- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
892- وَفِي لَفْظٍ : « لَا تُجْزِئُ صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ . وَقَالَ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
893- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
894- وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .(1/393)
895- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ فَيُنَادِيَ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : والْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَعْين فَاتِحَة الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ لا يُجْزِئُ غَيْرهَا . وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهُمْ .
قَوْلُهُ : ( إلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ ) . قَالَ الشَّارِحُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الشَّوَاهِد وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَا تَقْصُرُ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ قُرْآنٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ وَلَا خِلَافَ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنْ كُلِّ الصَّلَوَاتِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَادَّعَى ابْنُ حِبَّانَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى الْفَاتِحَةِ . وَفِيهِ نَظَرٌ لِثُبُوتِهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَإِنْصَاتِهِ إذَا سَمِعَ إمَامَهُ
896- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ ، وَقَالَ مُسْلِمٌ : هُوَ صَحِيحٌ .(1/394)
897- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ : « هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا » ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : « فَإِنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ » . قَالَ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الصَّلَوَاتِ بِالْقِرَاءَةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
898- وَعَنْ عُبَادَةَ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ ، قَالَ : « إنِّي أَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إمَامِكُمْ » ؟ قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ وَاَللَّهِ ، قَالَ : « لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
899- وَفِي لَفْظٍ : « فَلَا تَقْرَءُوا مِنْ الْقُرْآنِ - إذَا جَهَرْت بِهِ - إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ : كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ .
900- وَعَنْ عُبَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا يَقْرَأَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ - إذَا جَهَرْت بِالْقِرَاءَةِ - إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ .(1/395)
901- وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ » . وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا مِنْ طُرُقٍ كُلِّهَا ضِعَافٌ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ .
902- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ ?سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى ?فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : « أَيُّكُمْ قَرَأَ » . أَوْ : « أَيُّكُمْ الْقَارِئُ » ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا ، فَقَالَ : « لَقَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(1/396)
قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : « وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا » . احْتَجَّ بِذَلِكَ الْقَائِلُونَ أَنَّ الْمُؤْتَمَّ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةَ : لَا يُقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا فِي سِرِّيَّةٍ وَلَا فِي جَهْرِيَّةٍ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ الْآتِي وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ أَنَّ الْمُؤْتَمَّ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ? فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ? وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إلَى وُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْمُؤْتَمِّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَهْرِيَّةِ وَالسِّرِّيَّةِ سَوَاءٌ سَمِعَ الْمُؤْتَمُّ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ أَمْ لا . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ . وَأَجَابُوا عَنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهَا عُمُومَاتٌ وَحَدِيثُ عُبَادَةَ خَاصٌّ وَبِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَاجِبٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ . وَهَذَا لَا مَحِيصَ عَنْهُ . وَيُؤَيِّدُهُ الْأَحَادِيثُ الْقَاضِيَةُ بِوُجُوبِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ عدتِهَا إنَّمَا تَحْصُلُ بِنَاقِلٍ صَحِيحٍ لَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بِمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا .(1/397)
قَوْلُهُ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ ، قَالَ : « إنِّي أَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إمَامِكُمْ » . قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ وَاَللَّهِ ، قَالَ : « لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا » . قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : « لَا تَفْعَلُوا » هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِلَفْظِ : « إذَا جَهَرْت بِه » . وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَهُوَ الْحَقُّ .(1/398)
قَوْلُهُ : إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : « أَيُّكُمْ قَرَأَ » . أَوْ « أَيُّكُمْ الْقَارِئُ » ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا ، فَقَالَ : « لَقَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا » . قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : « خَالَجَنِيهَا » أَيْ نَازَعَنِيهَا وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِي جَهْرِهِ أَوْ رَفْعِ صَوْتِهِ بِحَيْثُ أَسْمَعَ غَيْرَهُ لَا عَنْ أَصْلِ الْقِرَاءَةِ ، بَلْ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ بِالسُّورَةِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَفِيهِ إثْبَاتُ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الظُّهْرِ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَنَا وَلَنَا وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ الْمَأْمُومُ السُّورَةَ فِي السِّرِّيَّةِ كَمَا لَا يَقْرَؤُهَا فِي الْجَهْرِيَّةِ . وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ فِي الْجَهْرِيَّةِ يُؤْمَرُ بِالْإِنْصَاتِ ، وَهُنَا لَا يُسْمَعُ فَلَا مَعْنَى لِسُكُوتِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِمَاعٍ وَلَوْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْإِمَامِ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْرَأُ السُّورَةَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . انْتَهَى . قَالَ الشَّارِحُ : وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْمَنْعُ مِنْ قِرَاءَةِ مَا عَدَا الْفَاتِحَةَ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَ الْمُؤْتَمَّ الْإِمَامُ أَوْ لَا يَسْمَعُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ : « فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إذَا جَهَرْت » يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ مُجَرَّدِ وُقُوعِ الْجَهْرِ مِنْ الْإِمَامِ وَلَيْسَ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مَا يُشْعِرُ بِاعْتِبَارِ السَّمَاعِ .(1/399)
بَابُ التَّأْمِينِ وَالْجَهْرِ بِهِ مَعَ الْقِرَاءَةِ
903- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » .
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « آمِينَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ، إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ .
904- وَفِي رِوَايَةٍ : « إذَا قَالَ الْإِمَامُ : ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ? ، فَقُولُوا : آمِينَ ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ آمِينَ ، وَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُ آمِينَ ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
905- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا تَلَا ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ? ، قَالَ : آمِينَ ، حَتَّى يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهُ مِنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
906- وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ : حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَيَرْتَجَّ بِهَا الْمَسْجِدُ .
907- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ? ، فَقَالَ : « آمِينَ » . يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .(1/400)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ » فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّأْمِينِ لِلْإِمَامِ . قَالَ الْجُمْهُورُ : الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : « إذَا أَمَّنَ » . أَيْ أَرَادَ التَّأْمِينَ لِيَقَعَ تَأْمِينُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مَعًا . قَالَ الْحَافِظُ : وَهَذَا الْأَمْرُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِلنَّدْبِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَحَكَى الْمَهْدِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْعِتْرَةِ جَمِيعًا أَنَّ التَّأْمِينَ بِدْعَةٌ وَقَدْ عَرَفْت ثُبُوتَهُ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ فِعْلِهِ وَرِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي كُتُبِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ حَكَى السَّيِّدُ الْعَلَامَةُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْوَزِيرُ عَنْ الْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُطَهَّرِ وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّتِهِمْ الْمَشَاهِيرِ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ الرِّيَاضُ النَّدِيَّةُ : أَنَّ رُوَاةَ التَّأْمِينِ جَمٌّ غَفِيرٌ . قَالَ : وَهُوَ مَذْهَبُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَحْمَدَ بْنِ عِيسَى .(1/401)
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَلَى أَنَّ التَّأْمِينَ بِدْعَةٌ بِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ ( إِنَّ هَذِهِ صَلَاتُنَا لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ) وَلَا يُشَكُّ أَنَّ أَحَادِيثَ التَّأْمِينِ خَاصَّةٌ وَهَذَا عَامٌّ . فَإِنْ كَانَتْ أَحَادِيثُهُ الْوَارِدَةُ عَنْ جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لَا يُقَوِّي بَعْضُهَا عَلَى تَخْصِيصِ حَدِيثِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّهَا مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ الْعُمُومَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ مُطْلَقِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ لأَنَّ التَّأْمِينَ دُعَاءٌ فَلَيْسَ فِي الصَّلَاةِ تَشَهُّدٌ ، وَقَدْ أَثْبَتَتْهُ الْعِتْرَةُ فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ فِي إثْبَاتِهِ فَهُوَ الْجَوَابُ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ النَّاس فِي الْحَدِيثِ هُوَ تَكْلِيمُهُمْ لِأَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرِ كَلَّمَ لَا تَكَلَّمَ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَأَمَّا مَا رَوَاهُ فِي الْجَامِعِ الْكَافِي عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَنَّ آمِينَ لَيْسَتْ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فَهَذِهِ كُتُبُ اللُّغَةِ بِأَجْمَعِهَا عَلَى ظَهْرِ الْبَسِيطَةِ .(1/402)
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ : « آمِينَ » يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ ) . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّأْمِينِ لِلْإِمَامِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الْجَهْرِ وَمَدِّ الصَّوْتِ بِهِ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَبِهِ يَقُولُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الرَّجُلَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّأْمِينِ وَلَا يُخْفِيهَا ، وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ . قَالَ الشَّارِحُ : وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَهْرِ بِهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ : قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَا حَسَدَتْكُمْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى قَوْلِ آمِينَ فَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ آمِينَ » .
بَابُ حُكْمِ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ
908- عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَ رَجُلًا الصَّلَاةَ فَقَالَ : « إنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ ثُمَّ ارْكَعْ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
909- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي ، قَالَ قُلْ : « سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .(1/403)
910- وَالدَّارَقُطْنِيّ . وَلَفْظُهُ فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي فَذَكَرَهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ يُجْزِئ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَظَاهِرُهُ أَنَّهَا تَكْفِي مَرَّةً . وَقَدْ ذَهَبَ الْبَعْضُ إلَى أَنَّهُ يَقُولُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَالْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ لَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ .
بَاب قِرَاءَة السُّورَةْ بَعْدَ الْفَاتِحَاةِ فِي الأَوْليين
وَهُلْ تُسَنُّ قِرَاءَتِهَا فِي الأُخْرَيينْ أَمْ لا ؟
911- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا ، وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ فِي الثَّانِيَةِ ، وَهَكَذَا فِي الْعَصْرِ ، وَهَكَذَا فِي الصُّبْحِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
912- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَزَادَ قَالَ : فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى .
913- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ : لَقَدْ شَكُوكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الصَّلَاةِ ، قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ ، وَأَحْذِفُ مِنْ الْأُخْرَيَيْنِ وَلَا آلُو مَا اقْتَدَيْت بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : صَدَقْت ذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ - أَوْ ظَنِّي بِكَ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(1/404)
914- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً . وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً - أَوْ قَالَ نِصْفَ ذَلِكَ - وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ - فِي كُلِّ رَكْعَةٍ - قَدْرَ قِرَاءَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً ، وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ نِصْفِ ذَلِكَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ . وَدَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الْجَهْرِ فِي السِّرِّيَّةِ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْإِسْرَارَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَعَلَى مَنْ أَوْجَبَ فِي الْجَهْرِ سُجُودَ السَّهْوِ . وَقَوْلُهُ : ( أَحْيَانًا ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ .
قَوْلُهُ : ( وَيُطَوِّلُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مَا لَا يُطِيلُ فِي الثَّانِيَةِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : ( فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ ) . إلى آخره . فِيهِ أَنَّ وَالْحِكْمَةَ فِي التَّطْوِيلِ الْمَذْكُورِ هِيَ انْتِظَارُ الدَّاخِلِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِرَاءَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ ، وَعَلَى جَوَازِ الْجَهْرِ بِبَعْضِ الْآيَاتِ فِي السِّرِّيَّةِ .(1/405)
قَوْلُهُ : ( كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةً ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحِكْمَةُ فِي إطَالَةِ الظُّهْرِ أَنَّهَا فِي وَقْتِ غَفْلَةٍ بِالنَّوْمِ فِي الْقَائِلَةِ فَطُوِّلَتْ لِيُدْرِكَهَا الْمُتَأَخِّرُ وَالْعَصْرُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ تُفْعَلُ فِي وَقْتِ تَعَبِ أَهْلِ الْأَعْمَالِ فَخُفِّفَتْ . انْتَهَى .
قَالَ فِي سُبُلِ السَّلامِ : ظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَة أَنَّهُ لا يَزِيدُ عَلَى أُمِّ الْكِتَابِ فِي الأُخْرَيَيْنِ ، وَلَعَلَّهُ أَرْجَحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدْ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ وَمَنْ حَيْثُ الدِّرَايَةِ لأَنَّهُ إِخْبَارٌ مَجْزُومٌ بِهِ . قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَصْنَعُ هَذَا تَارَةً فَيَقْرَأُ فِي الأُخْرَيَيْنِ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ مَعَهَا وَيَقْتَصِرُ فِيهِمَا أَحْيَانًا . فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا فِيهمَا سُنَّة تُفْعَلُ أَحْيَانًا وَتُتْرَكُ أَحْيَانًا . انْتَهَى . وَاخْتَارَهُ شَيْخُنَا سَعَدُ بْن عَتِيقٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى . قَالَ فِي الإِنْصَافِ : وَلا تُكْرَهُ الْقِرَاءَة بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الأَخِيرَتَيْنِ بَلْ تُبَاح عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَنْهُ تُسَنُّ .
بَابُ قِرَاءَةِ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَقِرَاءَةِ بَعْضِ سُورَةٍ
وَتَنْكِيسِ السُّوَرِ فِي تَرْتِيبِهَا وَجَوَازِ تَكْرِيرِهَا(1/406)
915- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ فَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِ ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ?حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا فَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَلَمَّا أَتَاهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : « وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ » ؟ قَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا قَالَ : « حُبُّكَ إيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا .
916- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ ، فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى ، فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَمَضَى ، فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا فَمَضَى ، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا مُتَرَسِّلًا إذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ : « سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ » فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ ثُمَّ قَالَ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبّنَا لَكَ الْحَمْدُ » . ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ : « سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى » . فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .(1/407)
917- وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ ? إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ ? فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا قَالَ : فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْ قَرَأَ ذَلِكَ عَمْدًا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
918- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا : ? قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا ? الْآيَة الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَفِي الْآخِرَةِ : ? آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? .
919- وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ : ? قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا ? وَاَلَّتِي فِي آلِ عِمْرَانَ : ? تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ? . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « حُبُّكَ إيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : التَّبْشِيرُ لَهُ بِالْجَنَّةِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِفِعْلِهِ . قَالَ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَيَّرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : إنَّ الْمَقَاصِدَ تُغَيِّرُ أَحْكَامَ الْفِعْلِ ، لِأَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ : إنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى إعَادَتِهَا أَنَّهُ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهَا لَأَمْكَنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِحِفْظِ غَيْرِهَا لَكِنَّهُ اعْتَلَّ بِحُبِّهَا فَظَهَرَتْ صِحَّةُ قَصْدِهِ فَصَوَّبَهُ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ سُورَتَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ .(1/408)
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ اجْتِهَادٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ تَرْتِيبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَلْ وَكَلَهُ إلَى أُمَّتِهِ بَعْدَهُ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ .
قَوْلُهُ : ( يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ إذَا زُلْزِلَتْ ) قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ سُورَةٍ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَجَوَازُ قِرَاءَةِ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ فِي الصُّبْحِ .
قَوْلُهُ : ( وَفِي الْآخِرَةِ : ? آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? ) لَفْظ الآية : ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِيهِمَا بَعْدَ قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ بَعْضِ سُورَةٍ فِي الرَّكْعَةِ كَمَا فَعَلَ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ .
بَابُ جَامِعِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ
920- عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِـ ? قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ? وَنَحْوِهَا وَكَانَ صَلَاتُهُ بَعْدُ إلَى تَخْفِيفٍ .(1/409)
921- وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
922- وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ إذَا دَحَضَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَقَرَأَ بِنَحْوٍ مِنْ : وَ اللَّيْلِ إذَا يَغْشَى ، وَالْعَصْرِ كَذَلِكَ وَالصَّلَوَاتِ كُلِّهَا كَذَلِكَ ، إلَّا الصُّبْحَ فَإِنَّهُ كَانَ يُطِيلُهَا » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
923- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
924- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأُ : ? وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ? فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ ، إنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
925- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ فَرَّقَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
926- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ ? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ? ، وَ ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ? . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
927- وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ » . أَوْ قَالَ : « أَفَاتِنٌ أَنْتَ فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى » ؟ مُتَّفَق عَلَيْهِ .(1/410)
928- وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فُلَانٍ - لِإِمَامٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ - قَالَ سُلَيْمَانُ : فَصَلَّيْتُ خَلْفَهُ ، فَكَانَ يُطِيلُ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَيُخَفِّفُ الْآخِرَتَيْنِ ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ مِنْ وَسَطِ الْمُفَصَّلِ ، وَيَقْرَأُ فِي الْغَدَاةِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
قَوْلُهَا : ( إنَّهَا لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ : التَّطْوِيلُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَنْسُوخٌ .(1/411)
قَوْلُهُ : « فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْعُلَمَاءِ . وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّخْفِيفِ لِلْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ مُعَاذٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِلَفْظِ : « فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ » . وَفِي لَفْظٍ لَهُ : « فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ » . قَالَ أَبُو عُمَرَ : التَّخْفِيفُ لِكُلِّ إمَامٍ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَقَلُّ الْكَمَالِ وَأَمَّا الْحَذْفُ وَالنُّقْصَانُ فَلَا لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَى عَنْ نَقْرِ الْغُرَابِ وَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ فَقَالَ لَهُ : « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . وَقَالَ : « لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَى مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ » . وَقَالَ أَنَسٌ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَفَّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ . انْتَهَى .
بَابُ الْحُجَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ
وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ أَثْنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ(1/412)
929- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، مِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ - فَبَدَأَ بِهِ - وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
930- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
931- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأُبِيٍّ : « إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ ? لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ? » .
932- وَفِي رِوَايَةٍ : « أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ » . قَالَ : وَسَمَّانِي لَكَ ؟ قَالَ : « نَعَمْ » . فَبَكَى . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ » هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ الْقُرْآنَ جَمِيعًا فِي عَصْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ . وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَقَدَ هَذَا الْبَابَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا قِرَاءَةُ السَّبْعَةِ الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ . انْتَهَى .
قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَمَا خَالَفَ الْمُصْحَف وَصَحَّ سَنَدَهُ صَحَّتِ الصَّلاةُ بِهِ ، وَهَذَا أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدٍ ، وَمُصْحَفُ عُثْمَانٍ أَحَد الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ . وَقَالَهُ عَامَّةُ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . انْتَهَى .(1/413)
قَوْلُهُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأُبِيٍّ : « إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ ? لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ? » قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْحُذَّاقِ فِيهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَالْفَضْلِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَارِئُ أَفْضَلَ مِنْ الْمَقْرُوءِ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ شَرِيفَةٌ لِأُبِيٍّ بِقِرَاءَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ لَاسِيَّمَا مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِاسْمِهِ وَنَصْهِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ .
قَوْلُهُ : ? لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ? وَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّهَا وَجِيزَةٌ جَامِعَةٌ لِقَوَاعِدَ كَثِيرَةٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَمُهِمَّاتِهِ وَالْإِخْلَاصِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ وَكَانَ الْوَقْتُ يَقْتَضِي الِاخْتِصَارَ .
قَوْلُهُ : ( وَسَمَّانِي لَكَ ) فِيهِ جَوَازُ الِاسْتِثْبَاتِ فِي الِاحْتِمَالَاتِ وَسَبَبُهُ هَا هُنَا أَنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِهِ وَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ .(1/414)
قَوْلُهُ : ( فَبَكَى ) فِيهِ جَوَازُ الْبُكَاءِ لِلسُّرُورِ وَالْفَرَحِ بِمَا يُبَشَّرُ الْإِنْسَانُ وَيُعْطَاهُ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ . وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَى أُبَيٍّ فَقِيلَ : سَبَبُهَا أَنْ يَسُنَّ لِأُمَّتِهِ بِذَلِكَ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَهْلِ الْإِتْقَانِ وَالْفَضْلِ وَيَتَعَلَّمُوا آدَابَ الْقِرَاءَةِ وَلَا يَأْنَفُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ . وَقِيلَ التَّنْبِيهُ عَلَى جَلَالَةِ أُبَيٍّ وَأَهْلِيَّتِهِ لِأَخْذِ الْقُرْآنِ عَنْهُ ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَعُدُّهُ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسًا وَإِمَامًا فِي إقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَجَلُّ نَاشِرِيهِ أَوْ مِنْ أَجَلِّهِمْ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي السَّكْتَتَيْنِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَبَعْدَهَا
933- عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَسْكُتُ سَكْتَتَيْنِ ، إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ كُلِّهَا .
934- وَفِي رِوَايَةٍ : سَكْتَةً إذَا كَبَّرَ . وَسَكْتَةً إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ ? غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ? . رَوَى ذَلِكَ أَبُو دَاوُد ، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ .(1/415)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : إنَّمَا كَانَ يَسْكُتُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِيَقْرَأَ مَنْ خَلْفَهُ فَلَا يُنَازِعُونَهُ الْقِرَاءَةَ إذَا قَرَأَ . قَالَ الْيَعْمُرِيُّ : كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ هَذَا فِي السَّكْتَةِ الَّتِي بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَأَمَّا السَّكْتَةُ الْأُولَى فَقَدْ وَقَعَ بَيَانُهَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ فِي بَابِ الِافْتِتَاحِ أَنَّهُ كَانَ يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ ، يَقُولُ : « اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ » . الْحَدِيثَ .
بَابُ التَّكْبِيرِ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالرَّفْعِ
935- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ . وَخَفْضٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
936- وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ صَلَّيْتُ الظُّهْرَ بِالْبَطْحَاءِ خَلْفَ شَيْخٍ أَحْمَقَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً يُكَبِّرُ إذَا سَجَدَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تِلْكَ صَلَاةُ أَبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .(1/416)
937- وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَنَا فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا . وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا . فَقَالَ : « إذَا صَلَّيْتُمْ فَأَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا وَإِذَا قَالَ : ?غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ? فَقُولُوا : آمِينَ ، يُجِبْكُمْ اللَّهُ ، وَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا . فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ . وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ » . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « فَتِلْكَ بِتِلْكَ ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ ، حَمِدَهُ فَقُولُوا : اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا . فَإِنَّ الْإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ » . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « فَتِلْكَ بِتِلْكَ ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْقَعْدَةِ فَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِ أَحَدِكُمْ : التَّحِيَّاتُ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ لِلَّهِ ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد ، وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ : « وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا » .(1/417)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ إلَّا فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَمِنْ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ فِي زَمَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَرَى التَّكْبِيرَ إلَّا لِلْإِحْرَامِ . انْتَهَى .
بَابُ جَهْرِ الْإِمَامِ بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَ مَنْ خَلْفَهُ
وَتَبْلِيغِ الْغَيْرِ لَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ
938- عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : صَلَّى بِنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ ، وَحِينَ سَجَدَ ، وَحِينَ رَفَعَ ، وَحِينَ قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
939- وَهُوَ لِأَحْمَدَ بِلَفْظٍ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا .
940- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
941- وَلِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ - وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ - فَإِذَا كَبَّرَ ، كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُنَا .(1/418)
قَوْلُهُ : ( صَلَّى بِنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ لِلِانْتِقَالِ . وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ وَسَائِرُ بَنِي أُمَيَّةَ يُسِرُّونَ بِهِ ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ لَمَّا صَلَّى بِنَا أَبُو سَعِيدٍ هَذِهِ الصَّلاة ، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ مَا أُبَالِي اخْتَلَفَتْ صَلَاتُكُمْ أَمْ لَمْ تَخْتَلِفْ ، إنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَكَذَا يُصَلِّي .
قَوْلُهُ : ( اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ ) . قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى جَوَازِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ لِيُسْمِعَهُ النَّاسَ وَيَتَّبِعُوهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقْتَدِي اتِّبَاعُ صَوْتِ الْمُكَبِّرِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ .
بَابُ هَيْئَاتِ الرُّكُوعِ
942- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ رَكَعَ فَجَافَى يَدَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مِنْ وَرَاءِ رُكْبَتَيْهِ ، وَقَالَ : هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
943- وَفِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : « وَإِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/419)
944- وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَقْتُ بَيْنَ كَفَّيَّ ثُمَّ وَضَعْتُهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ فَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : التَّطْبِيقُ : الْإِلْصَاقُ بَيْنَ بَاطِنَيْ الْكَفَّيْنِ حَالَ الرُّكُوعِ وَجَعْلُهُمَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : التَّطْبِيقُ مَنْسُوخٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُطَبِّقُونَ . قَالَ الشَّارِحُ : وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ فَرَكَعَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعْدًا فَقَالَ : صَدَقَ أَخِي كُنَّا نَفْعَلُ ذَلِكَ ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا .
بَابُ الذِّكْرِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
945- عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ : « سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ » . وَفِي سُجُودِهِ : « سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى » . وَمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا يَسْأَلُ وَلَا آيَةُ عَذَابٍ إلَّا تَعَوَّذَ مِنْهَا . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .(1/420)
946- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ ? فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ? قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ » . فَلَمَّا نَزَلَتْ : ? سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? قَالَ : « اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
947- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : « سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
948- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : « سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي » . يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
949- وَعَنْ عَوْنٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ ، فَقَالَ فِي رُكُوعِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ وَإِذَا سَجَدَ فَقَالَ فِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَهُوَ مُرْسَلٌ ، عَوْنٌ لَمْ يَلْقَ ابْنَ مَسْعُودٍ .(1/421)
950- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : مَا صَلَّيْتَ وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ هَذَا الْفَتَى - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - قَالَ : فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قَوْلُهُ : فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ : « سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ » وَفِي سُجُودِهِ « سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ . وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : التَّسْبِيحُ وَاجِبٌ فَإِنْ تَرَكَهُ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ نَسِيَهُ لَمْ تَبْطُلْ . وَقَالَ الظَّاهِرِيُّ : وَاجِبٌ مُطْلَقًا . وَأَشَارَ الْخَطَّابِيِّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ إلَى اخْتِيَارِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ : التَّسْبِيحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَوْلُ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . « وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ » . وَالذِّكْرُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، وَجَمِيعُ التَّكْبِيرَاتِ وَاجِبٌ ، فَإِنْ تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَيَسْجُدْ لِلسَّهْوِ ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ سُنَّةٌ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ ، وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ . احْتَجَّ الْمُوجِبُونَ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْآتِي وَبِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - :(1/422)
« صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي » . وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ .
قَوْلُهَا : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ) . قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : ( وَبِحَمْدِكَ ) هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ التَّسْبِيحُ : أَيْ وَبِحَمْدِكَ سَبَّحْتُكَ ، وَمَعْنَاهُ : بِتَوْفِيقِكَ لِي وَهِدَايَتِكَ وَفَضْلِكَ عَلَيَّ سَبَّحْتُكَ لَا بِحَوْلِي وَقُوَّتِي . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَيَظْهَرُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ إبْقَاءُ مَعْنَى الْحَمْدِ عَلَى أَصْلِهِ وَتَكُونُ الْبَاءُ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ : بِسَبَبِ أَنَّكَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ سَبَّحَكَ الْمُسَبِّحُونَ وَعَظَّمَكَ الْمُعَظِّمُونَ ، وَقَدْ رُوِيَ بِحَذْفِ الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ : « وَبِحَمْدِكَ » وَبِإِثْبَاتِهَا .
بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
951- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - السِّتَارَةَ - وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ - فَقَالَ : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .(1/423)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : النَّهْيُ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - نَهْيٌ لِأُمَّتِهِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
بَابُ مَا يَقُولُ فِي رَفْعِهِ مِنْ الرُّكُوعِ وَبَعْدَ انْتِصَابِهِ
952- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ : « رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ » . ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
953- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ : « رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ » .
954- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا قَالَ الْإِمَامُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
955- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ : اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .(1/424)
قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ : « رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ » فِيهِ مُتَمَسَّكٌ لِمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ كُلُّ مُصَلٍّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُؤْتَمِّ وَالْمُنْفَرِدِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِمَامَ وَالْمُنْفَرِدَ يَقُولَانِ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَطْ وَالْمَأْمُومُ : رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَقَطْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ » . وَفِيهِ وَإِذَا قَالَ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ » .
قَوْلُهُ : كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ : « اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ » . إلى آخره قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالذِّكْرِ فِيهِ بِهَذَا .
بَابٌ فِي الِانْتِصَابُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَرْضٌ
956- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى صَلَاةِ رَجُلٍ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
957- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/425)
958- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَالِاعْتِدَالِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ . قَالُوا : وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ مَنْ لَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ فِيهِمَا . وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ .
بَابُ هَيْئَاتِ السُّجُودِ وَكَيْفَ الْهَوِيُّ إلَيْهِ
959- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَحْمَدَ .
960- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيَّ : حَدِيثُ ، وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا .
961- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا سَجَدَ يُجَنِّحُ فِي سُجُودِهِ حَتَّى يُرَى وَضَحُ إبِطَيْهِ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
962- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ وَلَا يَبْسُطُ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .(1/426)
963- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ فِي صِفَةِ صَلَاةِ ، رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : إذَا سَجَدَ فَرَّجَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ غَيْرَ حَامِلٍ بَطْنَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَخِذَيْهِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
964- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا سَجَدَ أَمْكَنَ أَنْفَهُ وَجَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ ، وَنَحَّى يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
قَوْلُهُ : ( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ ) وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ وَضْعِ الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ الْيَدَيْنِ وَرَفْعِهِمَا عِنْدَ النُّهُوضِ قَبْلَ رَفْعِ الرُّكْبَتَيْنِ . وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : إِنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ انْقَلَبَ مَتْنُهُ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ ، وَلَعَلَّهُ : « وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ » . وَقَدْ رَوَاهُ كَذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، فَقَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ وَلَا يَبْرُكْ كَبُرُوكِ الْفَحْلِ » .
بَابُ أَعْضَاءِ السُّجُودِ(1/427)
965- عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ : وَجْهُهُ وَكَفَّاهُ وَرُكْبَتَاهُ وَقَدَمَاهُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
966- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أُمِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَلَا يَكُفَّ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا : الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ . أَخْرَجَاهُ .
967- وَفِي لَفْظٍ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ : عَلَى الْجَبْهَةِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ - وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
968- وَفِي رِوَايَةٍ : « أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعٍ وَلَا أَكْفِت الشَّعْرَ وَلَا الثِّيَابَ : الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « سَبْعَةِ أَعْظُمٍ » سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ عَظْمًا وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى عِظَامٍ بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ بَعْضِهَا كَذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ .(1/428)
قَوْلُهُ : « الْجَبْهَةِ » احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . وَذَهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ . وَلَا خِلَافَ أَنَّ السُّجُودَ عَلَى مَجْمُوعِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ مُسْتَحَبٌّ ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ وَاضِعًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ فِي سُجُودِهِ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى السَّبْعَةِ الْأَعْضَاءِ جَمِيعًا .
بَابُ الْمُصَلِّي يَسْجُدُ عَلَى مَا يَحْمِلُهُ
وَلَا يُبَاشِرُ مُصَلَّاهُ بِأَعْضَائِهِ
969- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ جَبْهَتَهُ مِنْ الْأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
970- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ وَهُوَ يَتَّقِي الطِّينَ إذَا سَجَدَ بِكِسَاءٍ عَلَيْهِ يَجْعَلُهُ دُونَ يَدَيْهِ إلَى الْأَرْضِ إذَا سَجَدَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
971- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : جَاءَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي الْأَشْهَلِ فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا يَدَيْهِ فِي ثَوْبِهِ إذَا سَجَدَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/429)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ عَلَى الثِّيَابِ لِاتِّقَاءِ حَرِّ الْأَرْضِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ الْمُتَّصِلِ بِالْمُصَلِّي . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى :
972- وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : قَالَ الْحَسَنُ : كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ .
973- وَرَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسَاتِقِ وَالْبَرَانِسِ وَالطَّيَالِسَةِ وَلَا يُخْرِجُونَ أَيْدِيَهُمْ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْقَلَنْسُوَةُ : غِشَاءٌ مُبَطَّنٌ يُسْتَرُ بِهِ الرَّأْسُ ، وَالْمَسَاتِقُ جَمْعُ مُسْتُقَةٍ : وَهِيَ فَرْوٌ طَوِيلُ الْكُمَّيْنِ .
بَابُ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَمَا يَقُولُ فِيهَا
974- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَالَ : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » . قَامَ حَتَّى نَقُولَ : قَدْ أَوْهَمَ ، ثُمَّ يَسْجُدُ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ : قَدْ أَوْهَمَ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
975- وَفِي رِوَايَةٍ - مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا - أَنَّ أَنَسًا قَالَ : إنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا فَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِمًا حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ : قَدْ نَسِيَ . وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ مَكَثَ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ قَدْ نَسِيَ .(1/430)
976- وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ - بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ - : « رَبِّ اغْفِرْ لِي رَبِّ اغْفِرْ لِي » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ
977- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ - بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ - : « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِيهِ : « وَعَافِنِي » مَكَانَ : « وَاجْبُرْنِي » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَطْوِيلِ الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : هَذَا الْحَدِيثُ - يعني حَدِيث الْبَرَاءِ كَانَ رُكُوعُهُ - صلى الله عليه وسلم - وَسُجُودُهُ وَإِذَا رَفَعَ مِنْ الرُّكُوعِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِدَالَ رُكْنٌ طَوِيلٌ وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ نَصٌّ فِيهِ ، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِدَلِيلٍ ضَعِيفٍ وَهُوَ قَوْلُهِمْ لَمْ يُسَنَّ فِيهِ تَكْرِيرُ التَّسْبِيحَاتِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَوَجْهُ ضَعْفِهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدٌ .
بَابُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ
وَلُزُومِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالرَّفْعِ عَنْهُمَا(1/431)
978- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَل الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى ، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « ارْجِعْ فَصَلِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ » . ثَلَاثًا : فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي . فَقَالَ : « إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا ، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنْ لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ ذِكْرُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ .
979- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : « إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ » . الْحَدِيثَ .
980- وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ دَعَاهُ ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ : مَا صَلَّيْتَ ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .(1/432)
981- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَشَرُّ النَّاس سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ » . فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْف يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ ؟ قَالَ : « لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا » . أَوْ قَالَ : « وَلَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
982- وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: « يَسْرِقُ صَلَاتَهُ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الأَرْكَانِ .
قَوْلُهُ : ( وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ دَعَاهُ ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ : مَا صَلَّيْتَ ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَعَلَى أَنَّ الْإِخْلَالَ بِهَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ .(1/433)
قَوْلُهُ : « أَشَرُّ النَّاس سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ » قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ أَنَّ تَرْكَ إقَامَةِ الصُّلْبِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ جَعَلَهُ الشَّارِعُ مِنْ أَشَرِّ أَنْوَاعِ السَّرْقِ ، وَجَعَلَ الْفَاعِلَ لِذَلِكَ أَشَرَّ مَنْ تَلَبَّسَ بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ الْخَسِيسَةِ الَّتِي لَا أَوْضَعَ وَلَا أَخْبَثَ مِنْهَا تَنْفِيرًا عَنْ ذَلِكَ وَتَنْبِيهًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَقَدْ صَرَّحَ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ صَلَاةَ مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ ، كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ : « لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ » . قال : وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا تَرُدُّ عَلَى مَنْ لَمْ يُوجِبْ الطُّمَأْنِينَةَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ مِنْهُمَا .
بَابُ كَيْفَ النُّهُوضُ إلَى الثَّانِيَةِ
وَمَا جَاءَ فِي جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ
983- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا سَجَدَ وَقَعَتْ رُكْبَتَاهُ إلَى الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ كَفَّاهُ فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَ جَبْهَتَهُ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَجَافَى عَنْ إبِطَيْهِ وَإِذَا نَهَضَ نَهَضَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَى فَخِذَيْهِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
984- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا وَابْنَ مَاجَهْ .(1/434)
قَوْلُهُ : ( أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَإِذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا ) . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ وَهِيَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ وَقَبْلَ النُّهُوضِ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ، وَذَكَرَ الْخَلَّالُ أَنَّ أَحْمَدَ رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِهَا وَلَمْ يَسْتَحِبَّهَا الْأَكْثَرُ . ثم ذكر حججهم إِلِى أَنْ قَالَ : وَمَا رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ قَالَ : أَدْرَكْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ وَفِي الثَّالِثَةِ قَامَ كَمَا هُوَ وَلَمْ يَجْلِسْ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ لِأَنَّ التَّرْكَ لَهَا مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ إنَّمَا يُنَافِي وُجُوبَهَا فَقَطْ . وَكَذَلِكَ تَرْكُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لَهَا لَا يَقْدَحُ فِي سُنِّيَّتِهَا لِأَنَّ تَرْكَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ جَائِزٌ .
بَابُ افْتِتَاحِ الثَّانِيَةِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَوُّذٍ وَلَا سَكْتَةٍ
985- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا نَهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ افْتَتَحَ الْقِرَاءَةَ بِـ ? الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? وَلَمْ يَسْكُتْ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .(1/435)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ السَّكْتَةِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ، وَكَذَلِكَ عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّعَوُّذِ فِيهَا وَحُكْمُ مَا بَعْدَهَا مِنْ الرَّكَعَاتِ حُكْمُهَا ، فَتَكُونُ السَّكْتَةُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ مُخْتَصَّةً بِالرَّكْعَةِ الْأُولَى ، وَكَذَلِكَ التَّعَوُّذُ قَبْلَهَا .
بَابُ الْأَمْرِ بِالتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَسُقُوطِهِ بِالسَّهْوِ .
986- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : إنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا قَعَدْتُمْ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَقُولُوا : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، ثُمَّ لِيَتَخَيَّرَ أَحَدُكُمْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ فَلْيَدْعُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
987- عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا قُمْتَ فِي صَلَاتك فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكَ مِنْ الْقُرْآنِ ، فَإِذَا جَلَسْتَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَاطْمَئِنَّ وَافْتَرِشْ فَخِذَكَ الْيُسْرَى ، ثُمَّ تَشَهَّدْ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/436)
988- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ - وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ - فَلَمَّا أَتَمَّ صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ وَسَجَدَهَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنْ الْجُلُوسِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « فَقُولُوا : التَّحِيَّاتُ » فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ الْأَوْسَطِ وَهُوَ أَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُد وَأَبُو ثَوْرٍ وَرَوَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إطْلَاقُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالتَّشَهُّدِ وَعَدَمِ تَقْيِيدِهَا بِالْأَخِيرِ . وَاحْتَجَّ الطَّبَرِيُّ لِوُجُوبِهِ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَجَبَتْ أَوَّلًا رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ التَّشَهُّدُ فِيهَا وَاجِبًا ، فَلَمَّا زِيدَتْ لَمْ تَكُنْ الزِّيَادَةُ مُزِيلَةً لِذَلِكَ الْوَاجِبِ . إلى أن قَالَ الشَّارِحُ : : وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ .
قَوْلُهُ : « ثُمَّ لْيَتَخَيَّرَ أَحَدُكُمْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ » . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ الْإِذْنُ بِكُلِّ دُعَاءٍ أَرَادَ الْمُصَلِّي أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي الْمَوْضِعِ ، وَعَدَمُ لُزُومِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا وَرَدَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - .(1/437)
قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - : « فَإِذَا جَلَسْتَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَاطْمَئِنَّ وَافْتَرِشْ فَخِذَكَ الْيُسْرَى » . قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : « فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ » بِفَتْحِ السِّينِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : يُقَالُ فِيمَا كَانَ مُتَفَرِّقَ الْأَجْزَاءِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ كَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ بِسُكُونِ السِّينِ وَمَا كَانَ مُتَّصِلَ الْأَجْزَاءِ كَالدَّارِ وَالرَّأْسِ فَهُوَ بِالْفَتْحِ ، وَالْمُرَادُ هُنَا : الْقُعُودُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ ، وَيَلْحَقُ بِهِ الْأَوَّلُ فِي الثُّلَاثِيَّةِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ : إنَّ السُّنَّةَ الِافْتِرَاشُ فِي الْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ الْأَوْسَطِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ . وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ الْأَوْسَطِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوْسَطَ غَيْرُ وَاجِبٍ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ صِفَةِ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ
وَمَا جَاءَ فِي التَّوَرُّكِ وَالْإِقْعَاءِ
989- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَسَجَدَ ، ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
990- وَفِي لَفْظٍ - لِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ - قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا قَعَدَ وَتَشَهَّدَ فَرَشَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى عَلَى الْأَرْضِ وَجَلَسَ عَلَيْهَا .
991- وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : « إذَا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ لِسُجُودِكَ فَإِذَا جَلَسْتَ فَاجْلِسْ عَلَى رِجْلِكَ الْيُسْرَى » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/438)
992- وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ - وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - - : كُنْتُ أَحْفَظَكُمْ لِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَيْتُهُ إذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ وَلَا قَابِضِهِمَا وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ سَبَقَ لِغَيْرِهِ بِلَفْظٍ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا .
993- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِـ ? الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ ، وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ ، وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا ، وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ ، وَكَانَ يَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ السَّبُعِ وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .(1/439)
994- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَلَاثٍ : عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ احْتَجَّ بِالْحَدِيثَيْنِ الْقَائِلُونَ بِاسْتِحْبَابِ فَرْشِ الْيُسْرَى وَنَصْبِ الْيُمْنَى فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : إنَّهُ يَتَوَرَّكُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ . وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : إنَّ التَّوَرُّكَ يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ الَّتِي فِيهَا تَشَهُّدَانِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَحْمَدُ يَرُدُّهُ قَوْلُ أَبِي حُمَيْدٍ فِي حَدِيثِهِ : ( فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد : ( حَتَّى إذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ ) .(1/440)
قَوْلُهُ : ( وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عَقِبِ الشَّيْطَانِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ بِالْإِقْعَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يُلْصِقَ أَلْيَتَيْهِ بِالْأَرْضِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ . وَقَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : هِيَ أَنْ يَفْرِشَ قَدَمَيْهِ وَيَجْلِسَ عَلَى عَقِبَيْهِ . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ : الْإِقْعَاءُ الَّذَي وَرَدَ النَّهْيِّ عَنْهُ هُوَ الَّذَي يَكُونُ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ . وَالْإِقْعَاءُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ هُوَ وَضْع الإِلْيَتَيْنِ عَلَى الْعَقِبَيْنِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَهَذَا الْجَمْعُ لا بُدَّ مِنْهُ .
قَوْلُهُ : ( عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْمُرَادُ بِهَا كَمَا قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ : تَرْكُ الطُّمَأْنِينَةِ وَتَخْفِيفُ السُّجُودِ وَأَنْ لَا يَمْكُثَ فِيهِ إلَّا قَدْرَ وَضْعِ الْغُرَابِ مِنْقَارَهُ فِيمَا يُرِيدُ الْأَكْلَ مِنْهُ كَالْجِيفَةِ لِأَنَّهُ يُتَابِعُ فِي النَّقْرِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَلَبُّثٍ .
قَوْلُهُ : ( وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ ) فِيهِ كَرَاهَةُ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ وَرَدَتْ بِالْمَنْعِ مِنْهُ أَحَادِيثُ وَثَبَتَ أَنَّ الِالْتِفَاتَ اخْتِلَاسٌ مِنْ الشَّيْطَانِ .
بَابُ ذِكْرِ تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ(1/441)
995- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ كَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ : « التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
996- وَفِي لَفْظٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ » . وَذَكَرَهُ ، وَفِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ : « وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّكُمْ إذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ » . وَفِي آخِرِهِ : « ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
997- وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التَّشَهُّدَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ : ( التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ ) . وَذَكَرَهُ ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي التَّشَهُّدِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ .(1/442)
998- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ فَكَانَ يَقُولُ : « التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَا رَسُولُ اللَّهِ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظِ .
999- وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ السَّلَامَ مُنْكَرًا .
1000- وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ كَمُسْلِمٍ لَكِنَّهُ قَالَ : « وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ » .
1001- وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بِتَنْكِيرِ السَّلَامِ وَقَالَا فِيهِ : وَأَنَّ مُحَمَّدًا ، وَلَمْ يَذْكُرَا أَشْهَدُ ، وَالْبَاقِي كَمُسْلِمٍ .
1002- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَذَلِكَ لَكِنْ بِتَعْرِيفِ السَّلَامِ .
1003- وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ كَمُسْلِمٍ لَكِنَّهُ نَكَّرَ السَّلَامَ وَقَالَ : وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .(1/443)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ التَّشَهُّدِ ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ إلَى أَنَّ تَشَهُّدَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفْضَلُ لِزِيَادَةِ لَفْظِ « الْمُبَارَكَاتُ » فِيهِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ : تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَفْضَلُ . وَقَالَ مَالِكٌ : تَشَهُّدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ عَلَّمَهُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ . وَقَالَ مُسْلِمٌ : إنَّمَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنَّ أَصْحَابَهُ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَغَيْرُهُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِهَا كُلِّهَا : يَعْنِي التَّشَهُّدَاتِ الثَّابِتَةِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ .
بَابٌ فِي أَنَّ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ
1004- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لا تَقُولُوا هَكَذَا وَلَكِنْ قُولُوا : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ » . وَذَكَرَهُ . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
1005- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ إلَّا بِتَشَهُّدٍ . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ .(1/444)
قَالَ النَّوَوِيُّ : مَذْهَبُ أَبُو حَنِيفَةِ وَمَالِكِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّشهُّدَيْنِ سُنَّةٌ . وَرَوَى مَالِكٌ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الأَخِيرِ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ : « إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاةِ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّات . وَبِقَوْلِهِ : وأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاس ) . الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ التَّشَهْدِ الأَخِيرِ . قَالَ : وَاسْتَدَلُّوا أيضًا بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ : ( كُنَّا نَقُولُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّد ) .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ .
بَابُ الْإِشَارَةِ بِالسَّبَّابَةِ وَصِفَةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ
1006- عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ وَرُكْبَتِهِ الْيُسْرَى وَجَعَلَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى ، ثُمَّ قَبَضَ ثِنْتَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ وَحَلَّقَ حَلْقَةً ، ثُمَّ رَفَعَ أُصْبُعَهُ فَرَأَيْتُهُ يُحَرِّكُهَا يَدْعُو بِهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
1007- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَفَعَ أُصْبُعَهُ الْيُمْنَى الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ فَدَعَا بِهَا ، وَيَدُهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ بَاسِطُهَا عَلَيْهَا .(1/445)
1008- وَفِي لَفْظٍ : كَانَ إذَا جَلَسَ فِي الصَّلَاةِ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ قَعَدَ فَافْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَوَضَعَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ وَرُكْبَتِهِ الْيُسْرَى وَجَعَلَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( وَجَعَلَ حَدَّ مِرْفَقِهِ ) أَيْ طَرَفَهُ ، وَالْمُرَادُ كَمَا قَالَ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ : أَنْ يَجْعَلَ عَظْمَ مِرْفَقِهِ كَأَنَّ رَأْسَهُ وَتَدٌ . قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : يَرْفَعُ طَرَفَ مِرْفَقِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَضُدِ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى يَكُونَ مُرْتَفِعًا عَنْهُ كَمَا يَرْتَفِعُ الْوَتَدُ عَنْ الْأَرْضِ ، وَيَضَعُ طَرَفَهُ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْكَفِّ عَلَى طَرَفِ فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ . قال : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ حَالَ الْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ . قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِالْأُصْبُعِ عِنْدَ قَوْلِهِ : ( إلَّا اللَّهُ ) مِنْ الشَّهَادَةِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بَصَرُهُ إشَارَتَهُ .
قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : وَالْحِكْمَةُ فِي الْإِشَارَةِ بِهَا إلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَاحِدٌ لِيَجْمَعَ فِي تَوْحِيدِهِ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -(1/446)
1009- عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ : أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك ؟ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1010- وَلِأَحْمَدَ فِي لَفْظٍ آخَرَ نَحْوُهُ وَفِيهِ : فَكَيْف نُصَلِّي عَلَيْك إذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا فِي صَلَاتِنَا ؟
1011- وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا أَوْ عَرَفْنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ ؟ قَالَ : « قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ فِيه : « عَلَى إبْرَاهِيمَ » . فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَمْ يَذْكُر آلَهُ .(1/447)
1012- وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « عَجَّلَ هَذَا » . ثُمَّ دَعَاهُ . فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ : « إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ مَا شَاءَ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : فِي الْحَدِيثِ : « قُولُوا » . اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْد التَّشَهُّدِ ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ ، وَعَلَى فَرْضِ ثُبُوتِهِ فَتَرْكُ تَعْلِيمِ الْمُسِيءِ لِلصَّلَاةِ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ » . قَرِينَةٌ صَالِحَةٌ لِحَمْلِهِ عَلَى النَّدْبِ .(1/448)
قَوْلُهُ : سَمِعَ النَّبِيُّ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « عجل هذا » . قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : « عجل هذا » . أَي بِدُعَائِهِ قَبْلَ تَقْدِيمِ الصَّلاةِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَقْدِيمِ الصَّلاةِ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لِلإِجَابَةِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ لَا يَرَى الصَّلَاةَ عَلَيْهِ فَرْضًا حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْ تَارِكَهَا بِالْإِعَادَةِ . وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ فِي خَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَعْدَ ذِكْرِ التَّشَهُّدِ :
1013- « ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ » .
بَابُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَفْسِيرِ آلِهِ الْمُصَلَّى عَلَيْهِمْ
1014- عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ : قُولُوا : « اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1015- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/449)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ احْتَجَّ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْآلُ هُمْ الْأَزْوَاجُ وَالذُّرِّيَّةُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَقَامَ الْأَزْوَاجَ وَالذُّرِّيَّةَ مَقَامَ آلِ مُحَمَّدٍ .
بَابُ مَا يَدْعُو بِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ
1016- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ باللَّهَ مِنْ أَرْبَعٍ : مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .
1017- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ : « اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيخِ الدَّجَّالِ ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فَلْيَتَعَوَّذْ ) . اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْأَمْرِ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِعَاذَةِ ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : فِتْنَةُ الْمَحْيَا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ الِافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وَالشَّهَوَاتِ وَالْجَهَالَاتِ ، وَأَعْظَمُهَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَمْرُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ .(1/450)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « اللهم إني أعوذ بك مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ » . الْمَغْرَمُ الدَّيْنُ ، وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - قَائِلٌ : مَا أَكْثَرُ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ ؟ فَقَالَ : « إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ » .
بَابُ جَامِعِ أَدْعِيَةٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ
1018- عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي ، قَالَ : « قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا ، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدَك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1019- وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ الْقَعْقَاعِ قَالَ : رَمَقَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي ، فَجَعَلَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ : « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1020- وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ : « اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ ، وَأَسْأَلُك شُكْرَ نِعْمَتِك وَحَسُنَ عِبَادَتِك ، وَأَسْأَلُك قَلْبًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا ، وَأَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا تَعْلَمُ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .(1/451)
1021- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ : « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
1022- وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فَأَوْجَزَ فِيهَا ، فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ ، فَقَالَ : أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ؟ فَقَالُوا : بَلَى ، قَالَ : أَمَا إنِّي دَعَوْت فِيهَا بِدُعَاءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو بِهِ : « اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ ، وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْت الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ، أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك ، وَالشَّوْقَ إلَى لِقَائِك ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
1023- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « إنِّي أُوصِيك بِكَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .(1/452)
1024- وَعَنْ عَائِشَة أَنَّهَا فَقَدَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَضْجَعِهَا ، فَلَمَسَتْهُ بِيَدِهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَهُوَ يَقُولُ : « رَبِّ أَعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا زَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1025- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فَجَعَلَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ أَوْ فِي سُجُودِهِ : « اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا ، وَفِي سَمْعِي نُورًا ، وَفِي بَصَرِي نُورًا ، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا ، وَعَنْ شِمَالِي نُورًا ، وَأَمَامِي نُورًا ، وَخَلْفِي نُورًا ، وَفَوْقِي نُورًا ، وَتَحْتِي نُورًا ، وَاجْعَلْ لِي نُورًا » . أَوْ قَالَ : « وَاجْعَلْنِي نُورًا » . مُخْتَصَرٌ مِنْ مُسْلِمٍ .
قَوْلُهُ : « اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَرُوِيَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيَقُولَ (كَثِيرًا كَبِيرًا ) . قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ : يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَيَأْتِيَ مَرَّةً بِالْمُثَلَّثَةِ وَمَرَّةً بِالْمُوَحَّدَةِ ، فَإِذَا أَتَى بِالدُّعَاءِ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ نَطَقَ بِمَا نَطَقَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَقِينٍ ، وَإِذَا أَتَى بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَنْطِقْ بِهِ كَذَلِكَ . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَلا يَجْمَعُ بَيْنَ لَفْظَيِّ كَبِيرٍ وَكَثِيرٍ ، بَلْ يَقُولُ هَذَا تَارَّةً وَهَذَا تَارَّةً .(1/453)
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَحَلِّهِ . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ مَوْطِنَيْنِ : السُّجُودِ أَوْ التَّشَهُّدِ لِأَنَّهُ أَمَرَ فِيهِمَا بِالدُّعَاءِ ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى مَحَلِّهِ فَأَوْرَدَهُ فِي بَابِ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلَامِ .
بَابُ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ
1026- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
1027- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنْتُ أَرَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
1028- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْنَا : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْجَانِبَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « عَلَامَ تُومِئُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ إنَّمَا يَكْفِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .(1/454)
1029- وَفِي رِوَايَةٍ : كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « مَا بَالُ هَؤُلَاءِ يُسَلِّمُونَ بِأَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ يَقُولَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
1030- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُسَلِّمَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1031- وَأَبُو دَاوُد وَلَفْظُهُ : أُمِرْنَا أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ ، وَأَنْ نَتَحَابَّ ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ .
1032- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « وَحَذْفُ التَّسْلِيمِ سُنَّةٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مَوْقُوفًا وَصَحَّحَهُ .
وقال ابن المبارك : معناه أن لا يمد مدًا .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْلِيمَتَيْنِ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ جَائِزَةٌ . وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ التَّسْلِيمَتَيْنِ جَمِيعًا وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَبِهَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَتْ الْهَادَوِيَّةُ .(1/455)
قَوْلُهُ : ( عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ التَّسْلِيمُ إلَى جِهَةِ الْيَمِينِ ثُمَّ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِالْتِفَاتِ إلَى جِهَةِ الْيَمِينِ وَإِلَى جِهَةِ الْيَسَارِ ، وَزَادَ النَّسَائِيّ فَقَالَ : عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ ، وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ .
قَوْلُهُ : ( أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ ) قَالَ الشَّارِحُ : جَمْعُ شَمُوسٍ وَهُوَ مِنْ الدَّوَابِّ النُّفُورِ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَى رَاكِبِهِ ، وَمِنْ الرِّجَالِ : صَعْبُ الْخُلُقِ .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُلْ ( وَرَحْمَةُ اللَّهِ ) أَجْزَأهُ .
قَوْلُهُ : ( أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُسَلِّمَ عَلَى أَئِمَّتِنَا ) . قَالَ الشَّارِحُ : أَيْ نَرُدَّ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ . قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ كَانَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ فَيَنْوِي الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالثَّانِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ يَسَارِهِ فَيَنْوِي الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْأُولَى ، وَإِنْ حَاذَاهُ فِيمَا شَاءَ وَهُوَ فِي الْأُولَى أَحَبُّ .
قَوْلُهُ : ( وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ ) ظَاهِرُهُ شَامِلٌ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ، وَلَكِنَّهُ قَيَّدَهُ الْبَزَّارُ بِالصَّلَاةِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ سَلَامُ الْإِمَامِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ وَالْمَأْمُومِينَ عَلَى الْإِمَامِ وَسَلَامُ الْمُقْتَدِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَالتَّحَابُبُ : التَّوَادد .(1/456)
قَوْلُهُ : ( حَذْفُ التَّسْلِيمِ سُنَّةٌ ) . قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْرِجَ لَفْظَ السَّلَامِ وَلَا يَمُدَّ مَدًّا لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِبُّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ : التَّكْبِيرُ جَزْمٌ وَالسَّلَامُ جَزْمٌ .
بَابُ مَنْ اجْتَزَأَ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
1033- عَنْ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا أَوْتَرَ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا فِي الثَّامِنَةِ ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيَذْكُرُهُ وَيَدْعُو ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ فَيَجْلِسُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَدْعُو ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً يُسْمِعُنَا ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ، فَلَمَّا كَبُرَ وَضَعُفَ أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ إلَّا فِي السَّادِسَةِ ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ فَيُصَلِّي السَّابِعَةَ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
1034- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ حَتَّى يُوقِظَنَا .
1035- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِتَسْلِيمَةٍ يُسْمِعُنَاهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/457)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْ قَالَ بِمَشْرُوعِيَّةِ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَرَأَى قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فِي الْمَكْتُوبَةِ ، قَالَ : وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تَسْلِيمَتَانِ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
بَابٌ فِي كَوْنِ السَّلَامِ فَرِيضَةً
1036- قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ » .
1037- وَعَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَالَ : أَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدِي فَحَدَّثَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ فَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ ، ثُمَّ قَالَ : إذَا قُلْت هَذَا - أوَقَضَيْت هَذَا - فَقَدْ قَضَيْت صَلَاتَك ، إنْ شِئْت أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ : الصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ : إذَا قَضَيْت هَذَا ، فَقَدْ قَضَيْت صَلَاتَك . مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَصَلَهُ شَبَابَةُ عَنْ زُهَيْرٍ ، وَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَقَوْلُهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ مِمَّنْ أَدْرَجَهُ ، وَقَدْ اتَّفَقَ مَنْ رَوَى تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى حَذْفِهِ .(1/458)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يُخَالِفُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ بِلَفْظِ : ( مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ وَانْقِضَاؤُهَا التَّسْلِيمُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَقُمْ إنْ شِئْت ) . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَهَذَا الْأَثَرُ صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : قَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إيجَابُ السَّلَامِ فَرْضًا . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السَّلَامِ . وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالنَّاصِرُ . وَذَهَبَ إلَى الْوُجُوبِ أَكْثَرُ الْعِتْرَةِ وَالشَّافِعِيُّ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ .
بَابٌ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ
1038- عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَالَ : « اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ، وَمِنْك السَّلَامُ ، تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .(1/459)
1039- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ . لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ ، لَهُ النِّعْمَةُ ، وَلَهُ الْفَضْلُ ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
1040- وَعَنْ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ : « لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(1/460)
1041- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « خَصْلَتَانِ لَا يُحْصِيهِمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ ، يُسَبِّحُ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا ، وَيُكَبِّرهُ عَشْرًا ، وَيَحْمَدُهُ عَشْرًا » . قَالَ : فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ ، وَإِذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ سَبَّحَ وَحَمِدَ وَكَبَّرَ مِائَةَ مَرَّةٍ ، فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ ، وَأَلْفٌ بِالْمِيزَانِ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
1042- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ وَيَقُولُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ : « اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1043- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ : « اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا ، وَرِزْقًا طَيِّبًا ، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/461)
1044- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ : « جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ ، وَدُبُرُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
قَوْلُهُ : « لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ » قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ : زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ الْمُغِيرَةِ : « يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ إلَى قَدِيرٍ » . قَالَ : وَقَدْ اُشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فِي الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ زِيَادَةٌ « وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَيْت » وَهُوَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ .(1/462)
قَوْلُهُ : ( فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ثَلَاثِينَ . قَالَ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَتَكْرِيرِهِ عَشْرِ مَرَّاتٍ . وَذَكَرَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : وَكُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ فَحَسَنٌ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي الْأَخْذُ بِالزَّائِدِ فَالزَّائِدِ . قَالَ : وَقَدْ وَرَدَتْ أَذْكَارٌ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ . ثُمَّ ذَكَرَهَا إِلِى أَنْ قَالَ : وَوَرَدَ عَقِبَ الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ بِخُصُوصِهِمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ : « مَنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْهُمَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، عَشْرَ مَرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَكَانَ يَوْمَهُ فِي حِرْزٍ مِنْ الشَّيْطَانِ » . وَبَعْدَهُمَا أَيْضًا « قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ » عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : « اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ » . وَعَقِبَ صَلَاةِ الْفَجْرِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ ثَانٍ رِجْلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ ،(1/463)
وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ ، وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ فِي حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَحُرِسَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَنْبَغِ لِذَنْبٍ أَنْ يُدْرِكَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَّا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » . وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيّ وَزَادَ فِيهِ : « بِيَدِهِ الْخَيْرِ » . وَعَقِبِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ شَبِيبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ عَلَى أَثَرِ الْمَغْرِبِ ، بَعَثَ اللَّهُ لَهُ مَلَائِكَةً يَحْفَظُونَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ حَتَّى يُصْبِحَ . وَيُكْتَبُ لَهُ بِهَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ مُوبِقَاتٍ وَكَانَتْ لَهُ بِعَدْلِ عَشْرِ رَقَبَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ » . وَفِي إسْنَادِهِ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ وَفِيهِ مَقَالٌ . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَيُسْتَحَبُّ الْجَهْرَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ عُقَيْبِ الصَّلاةِ ، وَقَالَهُ بَعْضُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . انْتَهَى . قُلْتُ : وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتَ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
بَابُ الِانْحِرَافِ بَعْدَ السَّلَامِ
وَقَدْرُ اللُّبْثِ بَيْنَهُمَا وَاسْتِقْبَالُ الْمَأْمُومِينَ(1/464)
1045- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ : « اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ، وَمِنْك السَّلَامُ ، تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
1046- وَعَنْ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1047- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ فَيُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
1048- وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ : حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّةَ الْوَدَاعِ قَالَ : فَصَلَّى بِنَا صَلَاةَ الصُّبْحِ ، ثُمَّ انْحَرَفَ جَالِسًا فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ وَذَكَرَ قِصَّةَ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا قَالَ : وَنَهَضَ النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَهَضْت مَعَهُمْ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَشَبُّ الرِّجَالِ وَأَجْلَدُهُ قَالَ : فَمَا زِلْت أَزْحَمُ النَّاسَ حَتَّى وَصَلْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخَذْت بِيَدِهِ فَوَضَعْتهَا إمَّا عَلَى وَجْهِي أَوْ صَدْرِي قَالَ : فَمَا وَجَدْت شَيْئًا أَطْيَبَ وَلَا أَبْرَدَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : وَهُوَ يَوْمَئِذٍ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(1/465)
1049- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى الصُّبْحَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ : ثُمَّ ثَارَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ بِيَدِهِ يَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ ، قَالَ : فَأَخَذْت بِيَدِهِ فَمَسَحْت بِهَا وَجْهِي فَوَجَدْتهَا أَبْرَدَ مِنْ الثَّلْجِ وَأَطْيَبَ رِيحًا مِنْ الْمِسْكِ .
1050- وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْهَاجِرَةِ إلَى الْبَطْحَاءِ فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ تَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْمَرْأَةُ ، وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ قَالَ : فَأَخَذْت بِيَدِهِ فَوَضَعْتهَا عَلَى وَجْهِي ، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنْ الْمِسْكِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
قَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ : اسْتِدْبَارُ الْإِمَامِ الْمَأْمُومِينَ إنَّمَا هُوَ لِحَقِّ الْإِمَامَةِ فَإِذَا انْقَضَتْ الصَّلَاةُ زَالَ السَّبَبُ وَاسْتِقْبَالُهُمْ حِينَئِذٍ يَرْفَعُ الْخُيَلَاءَ وَالتَّرَفُّعَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ انْحَرَفَ جَالِسَا فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ بِوَجْهِهِ ) . الْحَدِيث . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ . قَالَ : وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّبَرُّكِ بِمُلَامَسَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ لِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُ عَلَى ذَلِكَ .
بَابُ جَوَازِ الِانْحِرَافِ عَنْ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ(1/466)
1051- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إلَّا عَنْ يَمِينِهِ ، لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ .
1052- وَفِي لَفْظٍ : « أَكْثَرُ انْصِرَافِهِ عَنْ يَسَارِهِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
1053- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : أَكْثَرُ مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
1054- وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّنَا فَيَنْصَرِفُ عَنْ جَانِبَيْهِ جَمِيعًا عَلَى يَمِينِهِ وَعَلَى شِمَالِهِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : صَحَّ الْأَمْرَانِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
قَوْلُهُ : « لَا يَجْعَلَنَّ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ شَيْئًا مِنْ صَلَاتِهِ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : فِيهِ أَنَّ الْمَنْدُوبَاتِ قَدْ تَنْقَلِبُ مَكْرُوهَاتٍ إذَا رُفِعَتْ عَنْ رُتْبَتِهَا ؛ لِأَنَّ التَّيَامُنَ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَكِنْ لَمَّا خَشِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبَهُ ، أَشَارَ إلَى كَرَاهَتِهِ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ هُلْبٍ : وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ . قَالَ : وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ : أَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ عَنْ يَمِينِهِ ، أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ عَنْ يَسَارِهِ أَخَذَ عَنْ يَسَارِهِ .
بَابُ لُبْثِ الْإِمَامِ بِالرِّجَالِ قَلِيلًا
لِيَخْرُجَ مَنْ صَلَّى مَعَهُ مِنْ النِّسَاءِ(1/467)
1055- عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا سَلَّمَ قَامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ وَهُوَ يَمْكُثُ فِي مَكَانِهِ يَسِيرًا قَبْلَ أَنْ يَقُومَ قَالَتْ : فَنَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِكَيْ يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَالُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ مُرَاعَاةُ أَحْوَالِ الْمَأْمُومِينَ وَالِاحْتِيَاطُ فِي اجْتِنَابِ مَا قَدْ يَفْضِي إلَى الْمَحْذُورِ ، وَاجْتِنَابُ مَوَاقِعِ التُّهَمِ وَكَرَاهَةُ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الطُّرُقَاتِ فَضْلًا عَنْ الْبُيُوتِ . وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِحُضُورِ النِّسَاءِ الْجَمَاعَةَ فِي الْمَسْجِدِ .
بَابُ جَوَازِ عَقْدِ التَّسْبِيحِ بِالْيَدِ وَعَدِّهِ بِالنَّوَى وَنَحْوِهِ
1056- وَعَنْ بُسَيْرَةَ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ قَالَتْ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « عَلَيْكُنَّ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَلَا تَغْفُلْنَ فَتُنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد .(1/468)
1057- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى امْرَأَةٍ وَبَيْنَ يَدَيْهَا نَوًى أَوْ حَصًى تُسَبِّحُ بِهِ ، فَقَالَ : «( أُخْبِرُكِ بِمَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ هَذَا أَوْ أَفْضَلُ . سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي السَّمَاءِ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
1058- وَعَنْ صَفِيَّةَ قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ يَدَيَّ أَرْبَعَةُ آلَافِ نَوَاةٍ أُسَبِّحُ بِهَا ، فَقَالَ : « لَقَدْ سَبَّحْت بِهَذَا أَلَا أُعَلِّمُك بِأَكْثَرَ مِمَّا سَبَّحْت بِهِ » ؟ فَقَالَتْ : عَلِّمْنِي فَقَالَ : « قُولِي : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ عَقْدِ الْأَنَامِلِ بِالتَّسْبِيحِ . قال : وهو أَوْلَى مِنْ السُّبْحَةِ وَالْحَصَى ، وَالْحَدِيثَانِ الْآخَرَانِ يَدُلَّانِ عَلَى جَوَازِ عَدِّ التَّسْبِيحِ بِالنَّوَى وَالْحَصَى وَكَذَا بِالسُّبْحَةِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ لِتَقْرِيرِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلْمَرْأَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ . وَعَدَمُ إنْكَارِهِ وَالْإِرْشَادُ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ لَا يُنَافِي الْجَوَازَ .
أَبْوَابُ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ
وَمَا يُكْرَهُ وَيُبَاحُ فِيهَا
بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ(1/469)
1059- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ يُكَلِّمُ الرَّجُلُ مِنَّا صَاحِبَهُ وَهُوَ إلَى جَنْبِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ : ? وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ? . فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ ، وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1060- وَلِلتِّرْمِذِيِّ فِيهِ : كُنَّا نَتَكَلَّمُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلَاةِ .
1061- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا ، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْك فِي الصَّلَاةِ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ : « إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1062- وَفِي رِوَايَةٍ : كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ كُنَّا بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ نَأْتِيَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ أَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ فَأَخَذَنِي مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ حَتَّى قَضَوْا الصَّلَاةَ ، فَسَأَلْته فَقَالَ : « إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لَا نَتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .(1/470)
1063- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيُّ قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ ، فَقُلْت يَرْحَمُك اللَّهُ ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ ، فَقُلْت : وَاثُكْلَ أُمَّاهُ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يَصْمُتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَبِأَبِي وَأُمِّي مَا رَأَيْت مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاَللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي قَالَ : « إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ » . أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ : لَا يَحِلُّ مَكَانَ لَا يَصْلُحُ .
1064- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ : « إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ » .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا وَهُوَ لَا يُرِيدُ إصْلَاحَ صَلَاتِهِ أَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ . وَاخْتَلَفُوا فِي كَلَامِ السَّاهِي وَالْجَاهِلِ .(1/471)
قَوْلُهُ : ( حَتَّى نَزَلَتْ ? وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ? ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ إطْلَاقُ الْقُنُوتِ عَلَى السُّكُوتِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ؛ لِأَنَّ زَيْدًا مَدَنِيٌّ ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الصَّلَاةِ إلَى أَنْ نُهُوا .
قَوْلُهُ : ( فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يَصْمُتُونَنِي ، لَكِنِّي سَكَتُّ ) . قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : يُرِيدُ لَمْ أَتَكَلَّمْ لَكِنِّي سَكَتُّ .
قَوْلُهُ : ( فَبِأَبِي وَأُمِّي ) . قَالَ الشَّارِحُ : مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ « أَفْدِيهِ بِأَبِي وَأُمِّي » .
قَوْلُهُ : « لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ » . قَالَ الشَّارِحُ : اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَ لِحَاجَةٍ أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنْ احْتَاجَ إلَى تَنْبِيهٍ أَوْ إذْنٍ لِدَاخِلٍ سَبَّحَ الرَّجُلُ وَصَفَّقَتْ الْمَرْأَةُ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّهُ يَجُوزُ الْكَلَامُ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ الصَّلَاةِ وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ ، وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَأَنَّ تَشْمِيتَ الْعَاطِسِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبْطِلِ وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْ بِالْإِعَادَةِ .(1/472)
بَابُ أَنَّ مَنْ دَعَا فِي صَلَاتِهِ بِمَا لَا يَجُوزُ جَاهِلًا لَمْ تَبْطُلْ
1065- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى الصَّلَاةِ وَقُمْنَا مَعَهُ ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا ، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : « لَقَدْ تَحَجَّرْت وَاسِعًا » . يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ ) . قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ : وَسِعَتْ فِي الدُّنْيَا الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ وَهِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ وَسِعَتْهُ رَحْمَتُهُ فِي الدَّارَيْنِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي النَّحْنَحَةِ وَالنَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ
1066- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَدْخَلَانِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَكُنْت إذَا دَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي يَتَنَحْنَحُ لِي . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ.
1067- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَفَخَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا .
1068- وَرَوَى أَحْمَدُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ .
1069- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَلَامٌ . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ .(1/473)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّنَحْنُحَ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ .
قَوْلُهُ : ( نَفَخَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : أُفْ ، أُفْ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ أَنَّ النَّفْخَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ . وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاة بِأَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ ، وَالنَّفْخُ كَلَامٌ . وَأُجِيبُ بِمَنْعِ كَوْنِ النَّفْخِ مِنْ الْكَلَامِ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ مُتَرَكِّبٌ مِنْ الْحُرُوفِ الْمُعْتَمِدَةِ عَلَى الْمَخَارِجِ وَلَا اعْتِمَادَ فِي النَّفْخِ . وَأَيْضًا الْكَلَامُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ الْمُكَالَمَةُ ، وَلَوْ سَلِمَ صَدَقَ اسْمُ الْكَلَامِ عَلَى النَّفْحِ لَكَانَ فِعْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِذَلِكَ فِي الصَّلَاة مُخَصِّصًا لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَالنَّفْخُ إِذَا بَانَ مِنْهُ حَرْفَان هَلْ تَبْطُلُ الصَّلاة بِهِ أَمْ لا ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدٍ رِوَايَتَانِ وَظَاهِرُ كَلامِ ابن عَبَّاسٍ تَرْجِيح عَدَم الإِبْطَالِ وَالسُّعَالِ وَالْعطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ وَالْبُكَاءِ وَالتَّأَوُّهِ وَالأَنِينِ الَّذِي يُمْكِنُ دَفْعَهُ فَهَذِهِ الأَشْيَاءِ كَالنَّفْخِ فَالأَوْلَى أَنْ لا تَبْطُل فَإِنَّ النَّفْخَ أَشْبَهُ بِالْكَلامِ مِنْ هَذِهِ . انْتَهَى .
بَابُ الْبُكَاءِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ? إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ?(1/474)
1070- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قَالَ : رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
1071- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعُهُ ، قِيلَ لَهُ : الصَّلَاةُ ، قَالَ : « مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ » . فَقَالَتْ عَائِشَةُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ ، فَقَالَ : « مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ » . فَعَاوَدَتْهُ ، فَقَالَ : « مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1072- وَمَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ سَوَاءٌ ظَهَرَ مِنْهُ حَرْفَانِ أَمْ لَا .
بَابُ حَمْدِ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ لِعَاطِسٍ أَوْ حُدُوثِ نِعْمَةٍ
1073- عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ : صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَطَسْت فَقُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلَاةِ » . فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ ، فَقَالَ رِفَاعَةُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : « وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ ابْتَدَرَهَا بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ .(1/475)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إحْدَاثِ ذِكْرٍ فِي الصَّلَاةِ غَيْرِ مَأْثُورٍ إذَا كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْمَأْثُورِ . وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَمْدِ فِي الصَّلَاةِ لِمَنْ عَطَسَ .
بَابُ مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُسَبِّحُ وَالْمَرْأَةُ تُصَفِّقُ
1074- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ » .
1075- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : كَانَتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ السَّحَرِ أَدْخُلُ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ كَانَ قَائِمًا يُصَلِّي سَبَّحَ لِي فَكَانَ ذَلِكَ إذْنَهُ لِي ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي أَذِنَ لِي . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1076- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ : « فِي الصَّلَاةِ » .(1/476)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ » أَيْ نَزَلَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ وَالْمُهِمَّاتِ وَأَرَادَ إعْلَامَ غَيْرِهِ كَإِذْنِهِ لِدَاخِلٍ وَإِنْذَارِهِ لِأَعْمَى وَتَنْبِيهِهِ لِسَاهٍ أَوْ غَافِلٍ . قال : وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّسْبِيحِ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقِ لِلنِّسَاءِ إذَا نَابَ أَمْرٌ مِنْ الْأُمُورِ ، وَهِيَ تَرُدُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ التَّسْبِيحُ دُونَ التَّصْفِيقِ وَعَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ فَسَادِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ إذَا صَفَّقَتْ فِي صَلَاتِهَا .
بَابُ الْفَتْحِ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ
1077- عَنْ مُسَوَّرَ بْنِ يَزِيدَ الْمَالِكِيِّ قَالَ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَرَكَ آيَةً فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ آيَةُ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ : « فَهَلَّا ذَكَّرْتَنِيهَا » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ .
1078- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلَاةً فَقَرَأَ فِيهَا فَلَبَسَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِأَبِي : « أَصْلَيْت مَعَنَا » ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : « فَمَا مَنَعَك » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/477)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَلا تَبْطُلُ الصَّلاةَ بِكَلامِ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ . وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ وَلا بِمَا إِذَا أُبْدِلَ ضَادًا بِظَاءٍ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدٍ ، وَقَالَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ .
بَابُ الْمُصَلِّي يَدْعُو وَيَذْكُرُ اللَّهَ إذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ أَوْ عَذَابٍ أَوْ ذِكْرٍ
1079- رَوَاهُ حُذَيْفَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ سَبَقَ .
1080- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي صَلَاةٍ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ فَمَرَّ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَقَالَ : « أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ وَيْلٌ لِأَهْلِ النَّارِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ .
1081- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْت أَقُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ التَّمَامِ فَكَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ فَلَا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ إلَّا دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتَعَاذَ ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةٍ فِيهَا اسْتِبْشَارٌ إلَّا دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغِبَ إلَيْهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1082- وَعَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ وَكَانَ إذَا قَرَأَ ? أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ? . قَالَ : سُبْحَانَك فَبَلَى فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ . سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/478)
1083- وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قُمْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَدَأَ فَاسْتَاكَ وَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى فَبَدَأَ فَاسْتَفْتَحَ الْبَقَرَةَ لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ ، قَالَ : وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ ، ثُمَّ رَكَعَ فَمَكَثَ رَاكِعًا بِقَدْرِ قِيَامِهِ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ : سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ، ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ رُكُوعِهِ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ، ثُمَّ قَرَأَ آلَ عِمْرَانَ ثُمَّ سُورَةً سُورَةً ، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَلَمْ يَذْكُرْ الْوُضُوءَ وَلَا السِّوَاكَ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( لَيْلَةَ التَّمَامِ ) أَيْ لَيْلَةَ تَمَامِ الْبَدْرِ .
قَوْلُهُ : ( لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ ) . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ هَذِهِ الْأُمُورِ لِكُلِّ قَارِئٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا يَعْنِي فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ .
بَابُ الْإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ لِرَدِّ السَّلَامِ أَوْ حَاجَةٍ تَعْرِضُ
1084- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قُلْت لِبِلَالٍ : كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ؟ ، قَالَ : يُشِيرُ بِيَدِهِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَابْنِ مَاجَهْ صُهَيْبًا مَكَانُ بِلَالٍ .(1/479)
1085- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ : مَرَرْت بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي ، فَسَلَّمْت ، فَرَدَّ إلَيَّ إشَارَةً ، وَقَالَ : لَا أَعْلَمُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ إشَارَةً بِأُصْبُعِهِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : كِلَا الْحَدِيثَيْنِ عِنْدِي صَحِيحٌ .
1086- وَقَدْ صَحَّتْ الْإِشَارَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ سَلَمَةَ فِي حَدِيثِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ .
1087 ، 1088- وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ جَالِسًا فِي مَرَضٍ لَهُ فَقَامُوا خَلْفَهُ فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّمَ غَيْرُ الْمُصَلِّي عَلَى الْمُصَلِّي لِتَقْرِيرِهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ وَجَوَازِ تَكْلِيمِ الْمُصَلِّي بِالْغَرَضِ الَّذِي يَعْرِضُ لِذَلِكَ وَجَوَازِ الرَّدِّ بِالْإِشَارَةِ .
بَابُ كَرَاهَةِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ
1089- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إِيَّاكَ وَالِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ الِالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاةِ هَلَكَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرِيضَةِ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1090- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التَّلَفُّتِ فِي الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْعَبْدِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .(1/480)
1091- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
1092- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ : ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ : يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ : وَكَانَ أَرْسَلَ فَارِسًا إلَى الشِّعْبِ مِنْ اللَّيْلِ يَحْرُسُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : سَمَّى الِالْتِفَاتَ هَلَكَةً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِنُقْصَانِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِالصَّلَاةِ أَوْ لِكَوْنِهِ نَوْعًا مِنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَاخْتِلَاسِهِ ، فَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ كَانَ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ لِلشَّيْطَانِ ، وَاتِّبَاعُ الشَّيْطَانِ هَلَكَةٌ أَوْ لِأَنَّهُ إعْرَاضٌ عَنْ التَّوَجُّهِ إلَى اللَّهِ ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ هَلَكَةٌ .
قَوْلُهُ : ( فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرِيضَةِ ) فِيهِ الْإِذْنُ بِالِالْتِفَاتِ لِلْحَاجَةِ فِي التَّطَوُّعِ وَالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ . قال : وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ مَا لَمْ يَبْلُغْ إلَى حَدِّ اسْتِدْبَارِ الْقِبْلَةِ . وَالْحِكْمَةُ فِي التَّنْفِيرِ عَنْهُ مَا فِيهِ مِنْ نَقْصِ الْخُشُوعِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ التَّصْمِيمِ عَلَى مُخَالَفَةِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ .(1/481)
قَوْلُهُ : ( فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ ) . قال الْحَازِمِيُّ : يحتمل أن الشعب كان في جهة القبلة . وَقَالَ : لَا بَأْسَ بِالِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَلْوِ عُنُقَهُ ، يعني إذا كان لحاجة .
بَابُ كَرَاهَةِ تَشْبِيكِ الْأَصَابِعِ وَفَرْقَعَتِهَا
وَالتَّخَصُّرِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَدِ إلَّا لِحَاجَةٍ
1093- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1094- وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
1095- وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا قَدْ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَفَرَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَصَابِعِهِ .
1096- وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا تُفَقِّعْ أَصَابِعَك فِي الصَّلَاةِ » . رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
1097- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ التَّخَصُّرِ فِي الصَّلَاةِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .(1/482)
1098- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد : نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ .
1099- وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مُحَصِّنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ اتَّخَذَ عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ فِيهِ كَرَاهَةُ التَّشْبِيكِ مِنْ وَقْتِ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ . وَفِيهِ أَنَّهُ يُكْتَبُ لِقَاصِدِ الصَّلَاةِ أَجْرُ الْمُصَلِّي مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
1100- وَقَدْ ثَبَتَ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي الْمَسْجِدِ .
وَذَلِكَ يُفِيدُ عَدَمَ التَّحْرِيمِ وَلَا يَمْنَعُ الْكَرَاهَةَ لِكَوْنِهِ فَعَلَهُ نَادِرًا .
قَالَ الشَّارِحُ : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ تَشْبِيكَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ السَّهْوِ كَانَ لِاشْتِبَاهِ الْحَالِ عَلَيْهِ فِي السَّهْوِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ . وَلِذَلِكَ وَقَفَ كَأَنَّهُ غَضْبَانُ . فَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّشْبِيكِ لِلْعَبَثِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ وَمُقَدِّمَاتِهَا وَلَوَاحِقِهَا .
قَوْلُهُ : ( لَا تُفَقِّعْ أَصَابِعَك فِي الصَّلَاةِ ) التَّفْقِيعُ : الْفَرْقَعَةُ . قَالَ الشَّارِحُ : وَهُوَ غَمْزُ الْأَصَابِعِ حَتَّى يُسْمَعَ لَهَا صَوْتٌ . قال : والتخصر وضع اليد على الخاصرة .(1/483)
قَوْلُهُ : ( نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مُعْتَمِدٌ عَلَى يَدِهِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ بِجَمِيعِ أَلْفَاظِهِ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْجُلُوسِ وَعِنْدَ النُّهُوضِ وَفِي مُطْلَقِ الصَّلَاةِ . وَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ .
قال : وَحَدِيثُ أُمِّ قَيْسٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْعَمُودِ وَالْعَصَا وَنَحْوِهِمَا ، لَكِنْ مُقَيَّدًا بِالْعُذْرِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي مَسْحِ الْحَصَى وَتَسْوِيَتِهِ
1101- عَنْ مُعَيْقِيبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ : إنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1102- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ فَلَا يَمْسَحْ الْحَصَى » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
1103- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سَأَلْته عَنْ مَسْحِ الْحَصَى فَقَالَ : « وَاحِدَةً أَوْ دَعْ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْحَصَى ، وَفِيهِ الْإِذْنُ بِمَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ .
بَابُ كَرَاهَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَعْقُوصَ الشَّعْرِ(1/484)
1104- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُصَلِّي وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ إلَى وَرَائِهِ فَجَعَلَ يَحُلُّهُ وَأَقَرَّ لَهُ الْآخَرُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ مَا لَك وَرَأْسِي ؟ قَالَ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إنَّمَا مَثَلُ هَذَا كَمَثَلِ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
1105- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَرَأْسُهُ مَعْقُوصٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
1106- وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ مَعْنَاهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى كَرَاهَةِ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَهُوَ مَعْقُوصُ الشَّعْرِ أَوْ مَكْفُوفُهُ ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّعْرَ يَسْجُدُ مَعَهُ إذَا سَجَدَ ، وَفِيهِ امْتِهَانٌ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ . قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى فِيهِ رَجُلًا يُصَلِّي عَاقِصًا شَعْرَهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إذَا صَلَّيْت فَلَا تَعْقِصْ شَعْرَك فَإِنَّ شَعْرَك يَسْجُدُ مَعَك ، وَلَك بِكُلِّ شَعْرَةٍ أَجْرٌ . فَقَالَ الرَّجُلُ : إنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَتَرَّبَ فَقَالَ : تَتْرِيبُهُ خَيْرٌ لَك .
بَابُ كَرَاهَةِ تَنَخُّمِ الْمُصَلِّي قِبَلَهُ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ(1/485)
1107- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ ، فَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَحَتَّهَا وَقَالَ : « إذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَخَّمْنَ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1108- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : « فَيَدْفِنُهَا » .
1109- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَا يَبْزُقَنَّ قِبَلَ قِبْلَتِهِ ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ » ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ، فَقَالَ : أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
1110- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ نَحْوُهُ بِمَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ) .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : ظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا .وَقَالَ مَالِكٌ : لا بَأْسَ بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ مُعَاذٌ بن جَبَلٍ : مَا بَصَقْتُ عَن يَمِيني منذُ أسْلَمتُ . وَلِأَبِي دَاوُد وَابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ اْنِ خَلَّادٍ أَنَّ رَجُلًا أَمَّ قَوْمًا فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لا يُصَلِّي لَكُمْ » . الْحَدِيثَ . وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ : « إنَّك آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ » .
بَابٌ فِي أَنَّ قَتْلَ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْمَشْيَ الْيَسِيرَ لِلْحَاجَةِ لَا يُكْرَهُ(1/486)
1111- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ : الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
1112- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي الْبَيْتِ وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ فَجِئْت فَمَشَى حَتَّى فَتَحَ لِي ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَقَامِهِ وَوَصَفَتْ أَنَّ الْبَابَ فِي الْقِبْلَةِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهِيَةٍ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ . قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ : وَفِي مَعْنَى الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ كُلُّ ضِرَارٍ مُبَاحُ الْقَتْلِ كَالزَّنَابِيرِ وَنَحْوِهَا .
قَالَ الشَّارِحُ : وَحَدِيثُ عائشةِ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْمَشْيِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلْحَاجَةِ .
بَابٌ فِي أَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ لَا يَبْطُلُ وَإِنْ طَالَ
1113- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الْأَذَانَ ، فَإِذَا قُضِيَ الْأَذَانُ أَقْبَلَ ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ يَقُولُ : اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ حَتَّى يَضِلَّ الرَّجُلُ إنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى ، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا صَلَّى ، أَوْ أَرْبَعًا فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(1/487)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : قَالَ عُمَرُ : « إنِّي لَأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَسْوَسَةَ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مُبْطِلَة لَهَا وَكَذَا سَائِرُ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ .
بَابُ الْقُنُوتِ فِي الْمَكْتُوبَةِ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَتَرْكِهِ فِي غَيْرِهَا
1114- عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ : قُلْت لِأَبِي : يَا أَبَتِ إنَّك قَدْ صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ هَا هُنَا بِالْكُوفَةِ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ أَكَانُوا يَقْنُتُونَ ؟ قَالَ : أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1115- وَابْنُ مَاجَهْ . وَفِي رِوَايَةٍ : أَكَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ ؟ .
1116- وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ قَالَ : صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَقْنُتْ ، وَصَلَّيْت خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْنُتْ ، وَصَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْنُتْ ، وَصَلَّيْت خَلْفَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْنُتْ ، وَصَلَّيْت خَلْفَ عَلِيٍّ فَلَمْ يَقْنُتْ ، ثُمَّ قَالَ : يَا بُنَيَّ بِدْعَةٌ .
1117- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1118- وَفِي لَفْظٍ : قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
1119- وَفِي لَفْظٍ : قَنَتَ شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ فَمَا رَأَيْته حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .(1/488)
1120- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1121- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1122- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ : « اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبّنَا وَلَك الْحَمْدُ » . فَأَنْزَلَ اللَّهُ : ? لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ? إلَى قَوْلِهِ : ? فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ? . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
1123- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَد ، أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ ، فَرُبَّمَا قَالَ : إذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ قَالَ : يَجْهَرُ بِذَلِكَ . وَيَقُولُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ . اللَّهُمَّ : الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا حَيَّيْنِ مِنْ الْعَرَبِ ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ? لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ? الْآيَةَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .(1/489)
1124- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْعِشَاءَ إذْ قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ : اللَّهُمَّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ . اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ . اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1125- وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ : لَأَقْرَبَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1126- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ : وَصَلَاةِ الْعَصْرِ مَكَانَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ .
1127- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ، إذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ ، عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رَعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1128- وَأَحْمَدُ وَزَادَ : أَرْسَلَ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَتَلُوهُمْ ، قَالَ عِكْرِمَةُ : كَانَ هَذَا مِفْتَاحُ الْقُنُوتِ .(1/490)
قَوْلُهُ : ( يَا أَبَتِ إنَّك قَدْ صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ) إِلَى آخِرِهِ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ . إِلِى أَنْ قَالَ : الْحَقُّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقُنُوتَ مُخْتَصٌّ بِالنَّوَازِلِ وَإِنَّهُ يَنْبَغِي عِنْدَ نُزُولِ النَّازِلَةِ أَنْ لَا تُخَصَّ بِهِ صَلَاةٌ دُونَ صَلَاةٍ . قال : وَلَوْ صَحَّ حَدِيث أَنَسٍ : ( فَأَمَّا الصُّبْحُ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا ) . لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيّ قَالَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ . وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ : إنَّهُ يَخْلِطُ . وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : يَهِمُ كَثِيرًا . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ : صَدُوقٌ سَيِّئُ الْحِفْظِ . وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : ثِقَةٌ وَلَكِنَّهُ يُخْطِئُ . وَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ قُلْنَا لِأَنَسٍ إنَّ قَوْمًا مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ فَقَالَ : كَذَبُوا إنَّمَا قَنَتَ شَهْرًا وَاحِدًا يَدْعُو عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَيْسٌ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنَّهُ لَمْ يُتَّهَمْ بِالْكَذِبِ . وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَقْنُتْ إلَّا إذَا دَعَا لِقَوْمٍ أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ . قَالَ(1/491)
الْحَافِظُ : فَاخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ أَنَسٍ وَاضْطَرَبَتْ ، فَلَا يَقُومُ لِمِثْلِ هَذَا حُجَّةٌ .
أَبْوَابُ السُّتْرَةِ أَمَامَ الْمُصَلِّي وَحُكْمُ الْمُرُورِ دُونَهَا
بَابُ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ إلَى السُّتْرَةِ
وَالدُّنُوِّ مِنْهَا وَالِانْحِرَافِ قَلِيلًا عَنْهَا وَالرُّخْصَةِ فِي تَرْكِهَا
1129- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
1130- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي ، فَقَالَ : كَمُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
1131- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ يَأْمُرُ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1132- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ شَاةٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1133- وَفِي حَدِيثِ بِلَالٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَصَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
1134- وَمَعْنَاهُ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .(1/492)
1135- وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي وَالدَّوَابُّ تَمُرُّ بَيْنَ أَيْدِينَا فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ ثُمَّ لَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ .
1136- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَصًا فَلْيَخُطَّ خَطًّا ، وَلَا يَضُرُّهُ مَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
1137- وَعَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ قَالَ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى إلَى عُودٍ وَلَا عَمُودٍ ، وَلَا شَجَرَةٍ إلَّا جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْسَرِ أَوْ الْأَيْمَنِ ، وَلَا يَصْمُدُ لَهُ صَمْدًا .
1138- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(1/493)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فَلْيُصَلِّ إلَى سُتْرَةٍ ) فِيهِ أَنَّ اتِّخَاذَ السُّتْرَةِ وَاجِبٌ ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الدُّنُوِّ مِنْ السُّتْرَةِ حَتَّى يَكُونَ مِقْدَارُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ . قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَالْحِكْمَةُ فِي السُّتْرَةِ كَفُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا وَمَنْعُ مَنْ يَجْتَازُ بِقُرْبِهِ . قَالَ الْبَغَوِيّ : اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ الدُّنُوَّ مِنْ السُّتْرَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا قَدْرُ إمْكَانِ السُّجُودِ ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الصُّفُوفِ .
قَوْلُهُ : - صلى الله عليه وسلم - ( فِي فَضَاءٍ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اتِّخَاذَ السُّتْرَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ فَيَكُونُ قَرِينَةً لِصَرْفِ الْأَوَامِرِ إلَى النَّدْبِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ فِعْلَهُ - صلى الله عليه وسلم - لَا يُعَارِضُ الْقَوْلَ الْخَاصَّ بِنَا ، وَتِلْكَ الْأَوَامِرُ السَّابِقَةُ خَاصَّةٌ بِالْأُمَّةِ فَلَا يَصْلُحُ هَذَا الْفِعْلُ أَنْ يَكُونَ قَرِينَةً لِصَرْفِهَا .
بَابُ دَفْعِ الْمَارِّ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ وَالرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ لِلطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ .
1139- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلَا يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّ مَعَهُ الْقَرِينَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/494)
1140- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ .
1141- وَعَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي جُهَيْمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ » . قَالَ أَبُو النَّضْرِ : لَا أَدْرِي قَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1142- وَعَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1143- وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ . وَلَفْظُهُمَا : رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا فَرَغَ مِنْ سُبْعِهِ جَاءَ حَتَّى يُحَاذِيَ بِالرُّكْنِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ أَحَدٌ .(1/495)
قَوْلُهُ : ( فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ) . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لِمَنْ لَمْ يُفَرِّطْ فِي صَلَاتِهِ بَلْ احْتَاطَ وَصَلَّى إلَى سُتْرَةٍ أَوْ فِي مَكَان يَأْمَنُ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ لِمُخَالَفَةِ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَال بِهَا . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : فَإِنْ دَفَعَهُ بِمَا يَجُوزُ فَهَلَكَ فَلَا قَوَد عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَهَلْ تَجِبُ دِيَةٌ أَمْ يَكُونُ هَدَرًا ؟ مَذْهَبَانِ لِلْعُلَمَاءِ ، وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . قَالَ الْحَافِظُ : وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ إذَا مَرَّ وَلَمْ يَدْفَعْهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَادَةً لِلْمُرُورِ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ : « لَوْ يَعْلَمُ الْمُصَلِّي مَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا صَلَّى إلَّا إلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنْ النَّاسِ » .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ » . فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ « مِنْ الْإِثْمِ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّارِ وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ .
قَوْلُهُ : ( وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ ) . قَالَ سُفْيَانُ : يَعْنِي لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ سُتْرَةٌ .(1/496)
قَوْلُهُ : ( فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ ) أَيْ جَانِبِهِ .
بَابُ مَنْ صَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ .
1144- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
1145- وَعَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ حَائِضًا لَا تُصَلِّي ، وَهِيَ مُفْتَرِشَةٌ بِحِذَاءِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى خُمْرَتِهِ ، إذَا سَجَدَ أَصَابَنِي بَعْضُ ثَوْبِهِ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1146- وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَبَّاسًا فِي بَادِيَةٍ لَنَا وَلَنَا كُلَيْبَةٌ وَحِمَارَةٌ تَرْعَى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الْعَصْرَ وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُؤَخَّرَا وَلَمْ يُزْجَرَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
1147- وَلِأَبِي دَاوُد مَعْنَاهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهَا : ( وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ) زَادَ أَبُو دَاوُد ( رَاقِدَةٌ ) . وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى : وَهُوَ حُجَّةٌ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى النَّائِمِ .(1/497)
قَالَ الشَّارِحُ : وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ إذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي امْرَأَتَهُ الْحَائِضَ . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : هَذَا الْحَدِيثُ وَشِبْهُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا اعْتِرَاضُ الْمَرْأَةِ بَيْن الْمُصَلِّي وَقِبْلَتِهِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقُعُودِ لَا عَلَى جَوَازِ الْمُرُورِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسِ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ وَالْحِمَارَ لَا يَقْطَعَانِ الصَّلَاةَ . وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَنَّهُمَا مَرَّا بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَكَوْنَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمُرُورَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ .
بَابُ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ بِمُرُورِهِ
1148- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
1149- وَمُسْلِمٌ وَزَادَ : وَيَقِي مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ .
1150- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .(1/498)
1151- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَسْتُرُهُ إذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ ، الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ » . قُلْتُ يَا أَبَا ذَرٍّ : مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَحْمَرِ مِنْ الْكَلْبِ الْأَصْفَرِ ؟ قَالَ : يَا ابْنَ أَخِي سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا سَأَلْتَنِي ، فَقَالَ : « الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1152- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي فِي حُجْرَتِهَا ، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عُمَرُ ، فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَرَجَعَ ، فَمَرَّتْ ابْنَةُ أُمّ سَلَمَةَ ، فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا فَمَضَتْ ؛ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « هُنَّ أَغْلَبُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
1153- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(1/499)
1154- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إلَى غَيْرِ جِدَارٍ فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلْبَ وَالْمَرْأَةَ وَالْحِمَارَ تَقْطَعُ الصَّلَاةَ ، وَالْمُرَادُ بِقَطْعِ الصَّلَاةِ إبْطَالُهَا ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْ الْأَئِمَّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ حَزْمٍ ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِالْكَلْبِ الْأَسْوَدِ ، وَيُتَوَقَّفُ فِي الْحِمَارِ وَالْمَرْأَةِ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ : أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَطْعِ نَقْصُ الصَّلَاةِ لِشُغْلِ الْقَلْبِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ . وَاخْتَارَ الشَّارِحُ : أَنَّ الْكَلْبَ الأَسْوَدَ وَالْمَرْأَةَ الْحَائِضِ يَقْطَعَانِ الصَّلاةِ . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَيَقْطَعُ الصَّلاة الْمَرْأَة وَالْحِمَار وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ الْبَهِيم ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدِ رَحِمَهُ اللهِ .
أَبْوَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ
بَابُ سُنَنِ الصَّلَاةِ الرَّاتِبَةِ الْمُؤَكَّدَةِ(1/500)
1155- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ ، كَانَتْ سَاعَةٌ لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا فَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّهُ كَانَ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1156- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ : كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ ، وَقَبْلَ الْفَجْرِ ثِنْتَيْنِ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1157- وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ لَكِنْ ذَكَرُوا فِيهِ قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا .
1158- وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَجْدَةً سِوَى الْمَكْتُوبَةِ ، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1159- وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ : « مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ : أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ » .(2/1)
1160- وَلِلنَّسَائِيِّ حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ كَالتِّرْمِذِيِّ ، لَكِنْ قَالَ : « وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ » . وَلَمْ يَذْكُرْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة مَا اشْتَمَلا عَلَيْهِ مِنْ النَّوَافِلِ وَأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ وَاسْتِحْبَابُ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . قَالَ : وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ صَلَاةِ هَذِهِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَة رَكْعَةَ وَهِيَ مِنْ السُّنَنِ التَّابِعَةِ لِلْفَرَائِضِ .
بَابُ فَضْلِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهَا وَقَبْلَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ
1161- عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
1162- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
1163- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِشَاءَ قَطُّ فَدَخَلَ عَلَيَّ إلَّا صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتَّ رَكَعَاتٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(2/2)
1164- وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا كَانَ كَأَنَّمَا تَهَجَّدَ مِنْ لَيْلَتِهِ ، وَمَنْ صَلَّاهُنَّ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَانَ كَمِثْلِهِنَّ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ » . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ اسْتِحْبَابِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهُ ، وَكَفَى بِهَذَا التَّرْغِيبِ بَاعِثًا عَلَى ذَلِكَ . قَالَ : وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْعَصْرِ وَالدُّعَاءَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بِالرَّحْمَةِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَالتَّصْرِيحُ بِتَحْرِيمِ بَدَنِهِ عَلَى النَّارِ مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْمُتَنَافِسُونَ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ سِتِّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ .
بَابُ تَأْكِيدِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ
وَتَخْفِيفِ قِرَاءَتِهِمَا وَالضِّجْعَةِ وَالْكَلَامُ بَعْدَهُمَا وَقَضَائِهِمَا إذَا فَاتَتَا
1165- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شَيْءٍ مِنْ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1166- وَعَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1167- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا تَدَعُوا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَلَوْ طَرَدَتْكُمْ الْخَيْلُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(2/3)
1168- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : رَمَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَهْرًا ، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ .
1169- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى إنِّي لَأَقُولُ : هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ ؟ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1170- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى . جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1171- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ .
1172- وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ إذَا صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلَّا اضْطَجَعَ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1173- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
1174- وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَاهُمَا مَعَ الْفَرِيضَةِ لَمَّا نَامَ عَنْ الْفَجْرِ فِي السَّفَرِ .(2/4)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَعَلَى اسْتِحْبَابِ التَّعَاهُدِ لَهُمَا وَكَرَاهَةِ التَّفْرِيطِ فِيهِمَا . قَالَ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ . اسْتِحْبَابُ تَخْفِيفِهِما .
قَالَ : وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاضْطِجَاعِ بَعْدَ صَلَاةِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ إلَى أَنْ يُؤَذَّنَ بِالصَّلَاةِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَذَا الِاضْطِجَاعِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَشْرُوعٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ .
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ وَاجِبٌ مُفْتَرَضٌ .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ : إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَبِدْعَةٌ .
الْقَوْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى .
الْقَوْلُ الْخَامِسُ : التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مَنْ يَقُومُ بِاللَّيْلِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَلَا يُشْرَعُ لَهُ .
الْقَوْلُ السَّادِسُ : أَنَّ الِاضْطِجَاعَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْفَصْلُ بَيْنَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَبَيْنَ الْفَرِيضَةِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
وَاختَارُ الشَّارِحُ مَشْرُوعِيَّتَهُ . وقال ابْنُ الْعَرَبِيُّ : لا يُضْطَجَعُ بَعْدَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ لانْتِظَارِ الصَّلَاةِ إِلا أَنْ يَكُونَ قَامَ الليْلَ فَيَضْطَجِعُ اسْتِجْمَامًا لِصَلاةِ الصُّبْحِ فَلا بَأْسَ .(2/5)
قوله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ » . قَالَ الشَّارِحُ : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَرْكَعْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ ، فَلَا يَفْعَلْ بَعْدَ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَيَخْرُجَ الْوَقْتُ الْمَنْهِيُّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ . قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ فِعْلِهِمَا بَعْد صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ فَهْدٍ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الصُّبْحَ ، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَنِي أُصَلِّي ، فَقَالَ : « مَهْلًا يَا قَيْسُ أَصَلَاتَانِ مَعًا » ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَمْ أَكُنْ رَكَعْتُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، قَالَ : « فَلَا إذَنْ » . وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد قَالَ : رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلًا يُصَلِّي بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ ، فَقَالَ : « صَلَاةُ الصُّبْحِ رَكْعَتَانِ » . فَقَالَ الرَّجُلُ : إنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا فَصَلَّيْتُهُمَا الْآنَ ، فَسَكَتَ . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي الْحَدِيثِ مَشْرُوعِيَّةُ قَضَاءِ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ فَاتَتْ لِعُذْرٍ ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي قَضَاءِ سُنَّتَيْ الظُّهْرِ
1175- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا لَمْ يُصَلِّ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ ، صَلَّاهُنَّ بَعْدَهَا . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .(2/6)
1176- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا فَاتَتْهُ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ صَلَّاهُنَّ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
1177- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْهُمَا تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا . أَمَّا حِينَ صَلَّاهُمَا ، فَإِنَّهُ صَلَّى الْعَصْرَ ، ثُمَّ دَخَلَ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَصَلَّاهُمَا ، فَأَرْسَلْتُ إلَيْهِ الْجَارِيَةَ ، فَقُلْتُ : قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ : تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا ، فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ فَفَعَلَتْ الْجَارِيَةُ ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ ، قَالَ : « يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَإِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقِيسِ ، فَشَغَلُونِي عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1178- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ : مَا رَأَيْتُهُ صَلَّاهُمَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى السُّنَنِ الَّتِي قَبْلَ الْفَرَائِضِ ، وَعَلَى امْتِدَادِ وَقْتِهَا إلَى آخِرِ وَقْتِ الْفَرِيضَةِ .(2/7)
قَالَ : وَقَدْ تَمَسَّكَ بِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ ، وَمَنْ أَجَازَ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْعَصْرِ مُطْلَقًا مَا لَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَأَجَابَ مَنْ أَطْلَقَ الْكَرَاهَةَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : الَّذِي اُخْتُصَّ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ لَا أَصْلُ الْقَضَاءِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي قَضَاءِ سُنَّةِ الْعَصْرِ
1179- عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَقَالَتْ : كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ إنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا ، أَوْ نَسِيَهُمَا ، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا ، وَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً دَاوَمَ عَلَيْهَا . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
1180- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : شُغِلَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ ، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
1181- وَعَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُجَهِّزُ بَعْثًا ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ظَهْرٌ ، فَجَاءَهُ ظَهْرٌ مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَجَعَلَ يُقَسِّمُهُ بَيْنَهُمْ ، فَحَبَسُوهُ حَتَّى أَرْهَقَ الْعَصْرُ ، وَكَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى مَا كَانَ يُصَلِّي قَبْلَهَا ، وَكَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَوْ فَعَلَ شَيْئًا يُحِبُّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/8)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَضَاءِ رَكْعَتَيْ الْعَصْرِ بَعْدَ فِعْلِ الْفَرِيضَةِ ، فَيَكُونُ قَضَاؤُهُمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ . وَأَمَّا الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ فَمُخْتَصَّةٌ بِهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي النَّافِلَةِ الْمَقْضِيَّةِ بَعْدَ الْعَصْرِ هَلْ هِيَ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ ، أَوْ هِيَ سُنَّةُ الْعَصْرِ ؟ فَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمَا رَكْعَتَا الظُّهْرِ ، وَفِي أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّهُمَا رَكْعَتَا الْعَصْرِ . وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنْ يَكُونَ مُرَادُ مَنْ قَالَ بَعْدَ الظُّهْرِ ، وَمَنْ قَالَ قَبْلَ الْعَصْرِ : الْوَقْتُ الَّذِي بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَأَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الرَّاحِلَةِ
1182- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1183- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ : « الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ الْمَكْتُوبَةِ ، وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ .
1184- وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ : إنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِحَتْمٍ ، وَلَا كَصَلَاتِكُمْ الْمَكْتُوبَةِ ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْتَرَ فَقَالَ : « يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ » .(2/9)
1185- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْتَرَ عَلَى بَعِيرِهِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1186- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : « الْوِتْرُ حَقٌّ ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
1187- وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد : « الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ » .
1188- وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ فِيهِ : « الْوِتْرُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَفِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ . وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ سُنَّةٌ ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : إنَّهُ وَاجِبٌ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرُ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي هَذَا ، وَأَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَوْتَرَ عَلَى بَعِيرِهِ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ .
بَابُ الْوِتْرِ بِرَكْعَةٍ وَبِثَلَاثٍ وَخَمْسٍ وَسَبْعٍ وَتِسْعٍ
بِسَلَامٍ وَاحِدٍ وَمَا يَتَقَدَّمُهَا مِنْ الشَّفْعِ
1189- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .(2/10)
1190- وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ : « صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى تُسَلِّمُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ » . وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
1191- وَلِمُسْلِمٍ : قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ : مَا مَثْنَى مَثْنَى ؟ قَالَ : يُسَلِّم فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ .
1192- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ فِي الْوِتْرِ حَتَّى إنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1193 ، 1194- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
1195- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مَا بَيْنَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ ، فَإِذَا سَكَبَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ وَجَاءَهُ الْمُؤَذِّنُ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
1196- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِ ? سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِـ ? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ? ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ? وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
1197- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/11)
1198- وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ : كَانَ لَا يُسَلِّمُ فِي رَكْعَتَيْ الْوِتْرِ . وَقَدْ ضَعَّفَ أَحْمَدُ إسْنَادَهُ ، وَإِنْ ثَبَتَ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَهُ أَحْيَانًا كَمَا أَوْتَرَ بِالْخَمْسِ وَالسَّبْعِ وَالتِّسْعِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ .
1199- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ ، أَوْتِرُوا بِخَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ ، وَقَالَ : كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ .
1200- وَعَنْ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُوتِرُ بِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ وَلَا كَلَامٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
1201- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ ، وَلَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ مِنْهُنَّ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(2/12)
1202- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ : أَنْبِئِينِي عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَتْ : كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ ، فَيَبْعَثَهُ اللَّهُ مَتَى شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنْ اللَّيْلِ ، فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ ، وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ فِيهَا إلَّا فِي الثَّامِنَةِ ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلَا يُسَلِّمُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي التَّاسِعَةَ ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ ، فَتِلْكَ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيّ ، فَلَمَّا أَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ ، وَصَنَعَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ صَنِيعِهِ الْأَوَّلِ ، فَتِلْكَ تِسْعٌ يَا بُنَيَّ ، وَكَانَ رَسُولَ اللَّهِ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَحَبَّ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهَا ، وَكَانَ إذَا غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ ، صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ، وَلَا أَعْلَمُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ ، وَلَا قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
1203- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبِي دَاوُد نَحْوُهُ ، وَفِيهَا : فَلَمَّا أَسَنَّ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ لَمْ يَجْلِسْ إلَّا فِي السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ إلَّا فِي السَّابِعَةِ .(2/13)
1204- وَفِي رِوَايَةِ لِلنِّسَائِيِّ قَالَت : فَلَمَّا أَسَنَّ وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ صَلَّى سَبْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( كَيْفَ صَلَاةِ اللَّيْلِ ) . الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ ، لَا عَنْ مُطْلَقِ الْكَيْفِيَّةِ .
قَوْلُهُ : ( مَثْنَى مَثْنَى ) . أَيْ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ . وَقَدْ أَخَذَ مَالِكٌ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ ، وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ لِمَا صَحَّ مِنْ فِعْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِرْشَادِ إلَى الْأَخَفِّ إذْ السَّلَامُ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ أَخَفُّ عَلَى الْمُصَلِّي مِنْ الْأَرْبَعِ فَمَا فَوْقَهَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الرَّاحَةِ غَالِبًا . وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : الَّذِي أَخْتَارُهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى ، وَإِنْ صَلَّى بِالنَّهَارِ أَرْبَعًا فَلَا بَأْسَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ نَحْوَهُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ ، قَالَ : وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِس إلَّا فِي آخِرِهَا ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَصْلِ .(2/14)
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِيتَارِ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ مَخَافَةِ هُجُومِ الصُّبْحِ ، وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَحَدِيثُ أُبَيِّ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِيتَارِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مُتَّصِلَةٍ . قَالَ : وَجَمَعَ الْحَافِظُ بَيْنَ الأَحَادِيثِ بِحَمْلِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَلَى الايتَارِ بِثَلاثٍ بِتَشَهُّدَيْنِ لَمُشَابَهَةِ ذَلِكَ لِصَلاةِ الْمَغْرِبِ ، وَأَحَادِيثُ الْإِيتَارِ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ عَلَى أَنَّهَا مُتَّصِلَة . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : « الْوِتْرُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَتِسْعٍ وَسَبْعٍ وَخَمْسٍ وَثَلَاثٍ وَوَاحِدَةٍ » .
قَوْلُهَا : ( فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ ) إلَى آخرهْ . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِيتَارِ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ مُتَّصِلَة ، لَا يُسَلِّم إلَّا فِي آخِرهَا ، وَيَقْعُد فِي الثَّامِنَةِ ، وَلَا يُسَلِّم .
قَوْلُهَا : ( ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ ) . قَالَ النَّوَوِيُّ : الصَّوَابُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَعَلَهُمَا - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ الْوِتْرِ جَالِسًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ ، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَى ذَلِكَ .
بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْوِتْرِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهَا وَالْقُنُوتُ(2/15)
1205- عَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ : لَقَدْ أَمَدَّكُمْ اللَّهُ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ، قُلْنَا : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ . رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا النَّسَائِيّ .
1206- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ ، فَانْتَهَى وَتْرُهُ إلَى السَّحَرِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1207- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد .
1208- وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَيُّكُمْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ ، ثُمَّ لِيَرْقُدْ ، وَمَنْ وَثِقَ بِقِيَامٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ مِنْ آخِرِهِ ، فَإِنَّ قِرَاءَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَحْضُورَةٌ ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
1209- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : كَانَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِـ ? سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? ، وَ ? قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ? ، وَ ? قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ? . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
1210- وَلِلْخَمْسَةِ إلَّا أَبَا دَاوُد مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
1211- وَزَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ ، فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ : سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .(2/16)
1212- وَلَهُمَا مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ، وَفِي آخِرِهِ : وَرَفَعَ صَوْتَهُ فِي الْآخِرَةِ .
1213- وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ : اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّك تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ ، إنَّهُ لَا يَذِلُّ مِنْ وَالَيْتَ ، وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ .
1214- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ وَتْرِهِ : « اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِك ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ » . رَوَاهُمَا الْخَمْسَة .
قَوْلُهُ : ( إِنَّ اللَّهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ) . الْحَدِيثُ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَوَّل وَقْتِ الْوِتْرِ يَدْخُلُ بِالْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَيَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَا يَصِحُّ الِاعْتِدَادُ بِهِ قَبْلَ الْعِشَاءِ فَقَالَ : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ قَبْلَ الْعِشَاءِ بِحَالٍ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْأَحَادِيث الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ .(2/17)
بَابُ لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ وَخَتْم صَلَاةِ اللَّيْلِ بِالْوِتْرِ وَمَا جَاءَ فِي نَقْضِهِ
1215- عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1216- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1217- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ الْوِتْرِ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَوْ أَوْتَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ ، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ شَفَعْت بِوَاحِدَةٍ مَا مَضَى مِنْ وِتْرِي ، ثُمَّ صَلَيْتُ مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا قَضَيْت صَلَاتِي أَوْتَرْت بِوَاحِدَةٍ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنَا أَنْ نَجْعَلَ آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ الْوِتْرَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1218- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : الْوِتْرُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُوتِرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْتَرَ ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَشَاءَ أَنْ يَشْفَعَهَا بِرَكْعَةٍ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يُصْبِحَ ثُمَّ يُوتِرَ فَعَلَ ، وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَإِنْ شَاءَ آخِرَ اللَّيْلِ أَوْتَرَ . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ .
1219- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
1220- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ : وَهُوَ جَالِسٌ .
وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ لَمْ يَرَ نَقْضَ الْوِتْرِ .(2/18)
1221- وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ تَذَاكَرَا الْوِتْرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَمَّا أَنَا فَأُصَلِّي ثُمَّ أَنَامُ عَلَى وِتْرٍ ، فَإِذَا اسْتَيْقَظْتَ صَلَيْتَ شَفْعًا شَفْعًا حَتَّى الصَّبَاحِ ، وَقَالَ عُمَرُ : لَكِنْ أَنَامُ عَلَى شَفْعٍ ثُمَّ أُوتِرُ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي بَكْرٍ : « حَذِرَ هَذَا » . وَقَالَ لِعُمَرَ : « قَوِيَ هَذَا » . رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيِّ بِإِسْنَادِهِ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ » قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اُحْتُجَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْوِتْرِ . وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُحْتَجِّينَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ طَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ ، قَالَ : وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالُوا : إنَّ مَنْ أَوْتَرَ وَأَرَادَ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْقُضُ وِتْرَهُ ، وَيُصَلِّي شَفْعًا شَفْعًا حَتَّى يُصْبِحَ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : إنَّهُ أَصَحُّ .
بَابُ قَضَاءِ مَا يَفُوتُ مِنْ الْوِتْرِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَالْأَوْرَادِ
1222- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(2/19)
1223- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1224- وَثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إذَا مَنَعَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ نَوْمٌ أَوْ وَجَعٌ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً .
وَقَدْ ذَكَرنَا عَنْهُ قَضَاءَ السُّنَنِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَضَاءِ الْوِتْرِ إذَا فَاتَ . انْتَهَى . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النِّسَائِيّ .
قَوْلِهِ : « مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنْ اللَّيْلِ » . قَالَ الشَّارِحُ : الحزب الورد . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اتِّخَاذِ وِرْدٍ فِي اللَّيْلِ ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةٍ قَضَائِهِ إذَا فَاتَ لِنَوْمٍ أَوْ عُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ . قَالَ : وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ قَضَاءِ التَّهَجُّدِ إذَا فَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ .
بَابُ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ
1225- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ ، فَيَقُولُ : « مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .(2/20)
1226- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ ، وَسَنَنْت قِيَامَهُ ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
1227- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ مِنْ الشَّهْرِ ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا فِي الثَّالِثَةِ ، وَقَامَ بِنَا فِي الْخَامِسَةِ ، حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ ؟ فَقَالَ : « إنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ » . ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى بَقِيَ ثَلَاثٌ مِنْ الشَّهْرِ ، فَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى تَخَوَّفْنَا الْفَلَاحَ ، قُلْت لَهُ : وَمَا الْفَلَاحُ ؟ قَالَ : السَّحُورُ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
1228- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ، ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ فَكَثُرَ النَّاسُ ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ : « رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ » . وَذَلِكَ فِي رَمَضَان . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(2/21)
1229- وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَتْ : كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ بِاللَّيْلِ أَوْزَاعًا ، يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ الشَّيْءُ مِنْ الْقُرْآنِ ، فَيَكُونُ مَعَهُ النَّفَر الْخَمْسَةُ أَوْ السَّبْعَةُ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ، قَالَتْ : فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَنْصِبَ لَهُ حَصِيرًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَفَعَلْتُ ، فَخَرَجَ إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى عِشَاءَ الْآخِرَةَ ، فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِهِمْ ، وَذُكِرَتْ الْقِصَّةُ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ غَيْرَ أَنَّ فِيهَا : أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1230- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي قَالَ : خَرَجْت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَمَضَانَ إلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ ، فَقَالَ عُمَرُ : إنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، ثُمَّ خَرَجْت مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ ، فَقَالَ عُمَرُ : نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ، وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ الَّتِي يَقُومُونَ ، يَعْنِي آخِرَ اللَّيْلِ ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1231- وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانٍ قَالَ : كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً ) .(2/22)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ قِيَامِ رَمَضَانَ وَتَأَكُّدِ اسْتِحْبَابِهِ ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا ، قَالَ : وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا أَمْ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ .
قَوْلُهُ : ( فَقَالَ عُمَرُ : نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ ) قَالَ فِي الْفَتْحِ : الْبِدْعَةُ أَصْلُهَا مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ ، وَتُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ عَلَى مُقَابَلَةِ السُّنَّةِ فَتَكُونُ مَذْمُومَةً ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَحْسَنٍ فِي الشَّرْعِ فَهِيَ حَسَنَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ مُسْتَقْبَحٍ فِي الشَّرْعِ فَهِيَ مُسْتَقْبَحَةٌ ، وَإِلَّا فَهِيَ مِنْ قِسْمِ الْمُبَاحِ ، وَقَدْ تَنْقَسِمُ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ .(2/23)
قَوْلُهُ : ( بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهَا إحْدَى عَشْرَةَ . قَالَ الْحَافِظُ : وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُمْكِنُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، وَيُحْتَمَل أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ بِحَسَبِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ وَتَخْفِيفِهَا ، فَحَيْثُ تَطُولُ الْقِرَاءَةُ تُقَلَّلُ الرَّكَعَاتُ وَبِالْعَكْسِ ، وَبِهِ جَزَمَ الدَّاوُدِيُّ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : أَكْثَرُ مَا قِيلَ : إنَّهُ يُصَلِّي إحْدَى وَأَرْبَعِينَ رَكْعَةً بِرَكْعَةِ الْوِتْرِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَمَا يُشَابِهُهَا هُوَ مَشْرُوعِيَّةُ الْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى ، فَقَصْرُ الصَّلَاةِ الْمُسَمَّاةِ بِالتَّرَاوِيحِ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ ، وَتَخْصِيصُهَا بِقِرَاءَةٍ مَخْصُوصَةٍ لَمْ يَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَالتَّرَاوِيحُ إِنْ صَلاهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدٍ عِشْرَينَ رَكْعَةٍ أَوْ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ سِتًا وَثَلاثِينَ أَوْ ثَلاثَ عَشْرَة أَوْ إِحْدَى عَشْرَة فَقَدْ أَحْسَن كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِمَامُ أَحْمَدٍ لِعَدَمِ التَّوْقِيفِ فَيَكُونُ تَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسْبِ طُول الْقِيامِ وَقِصَرَهُ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ .
1232- عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : ? كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ? قَالَ : كَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْن الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .(2/24)
1233- وَكَذَلِكَ : ? تَتَجَافَى جَنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ ? . رَوَاهُما أَبُو دَاوُد .
1234- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : صَلَيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَغْرِبَ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ يُصَلِّي ، فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ خَرَجَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ .
قَوْلُهُ : ( كَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْن الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ) . هَذِهِ أَحَدُ الأَقْوَالِ فِي الآيَةِ . وَقَالَ الْحَسَنُ : كَابَدَوا قِيَام الليْلِ فَلا يَنَامُونَ مِنَ الليلِ إِلا أَقَلُّهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الصَّلَاةِ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ
1235- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ ؟ قَالَ : « الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ » . قَالَ : فَأَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ رَمَضَانَ ؟ قَالَ : « شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1236- وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْهُ فَضْلُ الصَّوْمِ فَقَطْ .
1237- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(2/25)
1238- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ أَحَبَّ الصِّيَامِ إلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُد ، وَأَحَبَّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - صَلَاةُ دَاوُد ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
1239- فَإِنَّهُ إنَّمَا رَوَى فَضْلَ الصَّوْمِ فَقَطْ .
1240- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِاللَّيْلِ فَقَالَتْ : كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ ، رُبَّمَا أَسَرَّ ، وَرُبَّمَا جَهَرَ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
1241- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
1242- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ اسْتِحْبَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَمَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الصَّلَوَاتِ فِيهِ ، وَاسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ وَأَنَّهُ وَقْتٌ لِإِجَابَةِ الْمَغْفِرَةِ وَالنُّزُولُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .(2/26)
قَالَ : وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةِ افْتِتَاحِ صَلَاةِ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ لِيَنْشَطَ بِهِمَا لِمَا بَعْدَهُمَا . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ عَلَى تَرْكِ نَقْضِ الْوِتْرِ فَقَالَ : وَعُمُومُهُ حُجَّةٌ فِي تَرْكِ نَقْضِ الْوِتْرِ .
بَابُ صَلَاةِ الضُّحَى
1243- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلَاثٍ : بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى ، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1244- وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ : وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ .
1245- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : « يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ ، وَيُجْزِي مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى » . رَوَاهُ أَحْمَدُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
1246- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « فِي الْإِنْسَانِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ مَفْصِلٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَنْ كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهَا صَدَقَةً » . قَالُوا : فَمَنْ الَّذِي يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « النُّخَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ يَدْفِنُهَا ، أَوْ الشَّيْءُ يُنَحِّيهِ عَنْ الطَّرِيقِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَرَكْعَتَا الضُّحَى تُجْزِئ عَنْكَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(2/27)
1247- وَعَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « قَالَ رَبُّكُمْ - عَزَّ وَجَلَّ - : يَا بْنَ آدَمَ صَلِّ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1248- وَهُوَ لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ .
1249- وَعَنْ عَائِشَةً قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللَّهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ .
1250- وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلَى غُسْلِهِ فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ ، ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَالْتَحَفَ بِهِ ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1251- وَلِأَبِي دَاوُد عَنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى يَوْمَ الْفَتْحِ سُبْحَةَ الضُّحَى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ .
1252- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ وَهُمْ يُصَلُّونَ الضُّحَى ، فَقَالَ : « صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ إذَا رَمِضَتْ الْفِصَالُ مِنْ الضُّحَى » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .(2/28)
1253- وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ قَالَ : سَأَلْنَا عَلِيًّا عَنْ تَطَوُّعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالنَّهَارِ فَقَالَ : كَانَ إذَا صَلَّى الْفَجْرَ أَمْهَلَ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا ، يَعْنِي مِنْ الْمَشْرِقِ ، مِقْدَارُهَا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ هَاهُنَا قِبَلَ الْمَغْرِبِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يُمْهِلُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَاهُنَا ، يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ، مِقْدَارُهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ هَا هُنَا ، يَعْنِي مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ ، قَامَ فَصَلَّى أَرْبَعًا ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ ، يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالنَّبِيِّينَ وَمَنْ يَتْبَعُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَلَاةِ الضُّحَى . إِلِى أَنْ قَالَ : فَأَكْثَرُ مَا ثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ ، وَأَكْثَرُ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً .
بَابُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ
1254- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1255- وَالْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ ، وَلَفْظُهُ : « أَعْطُوا الْمَسَاجِدَ حَقَّهَا » . قَالُوا : وَمَا حَقُّهَا ؟ قَالَ : « أَنْ تُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسُوا » .(2/29)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّحِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الشَّافِعِيَّةُ وَكَرِهَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ فِي وَقْتِ النَّهْي .
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ : هما عُمُومَان تَعَارَضَا : الْأَمْرُ بِالصَّلاةِ لِكُلِّ دَاخِلِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، وَالنَّهْي عَنِ الصَّلاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ فَلا بُدّ مَنْ تَخْصِيصُ أَحَدِ الْعُمُومَيْنِ ، فَذَهَبَ جمع إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر ، وهو الأصح عند الشافعية ، وَذَهَبَ جمع إلى عكسه ، وهو قول الحنفية والمالكية . قال الطحاوي : الْأَوْقَاتُ التي نهي عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها .
قَالَ الْحَافِظُ : وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ لِلنَّدْبِ . قُلتُ : فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَالنَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ للتّحْرِيمِ فَالأَحْوَطُ تَرْك تَحِيَّة الْمَسْجِدِ فِيهَا .
بَابُ الصَّلَاةِ عَقِيبَ الطَّهُورِ
1256- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ : « يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْته فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ » . قَالَ : مَا عَمِلْت عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إلَّا صَلَيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(2/30)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَلِلْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي تَوْقِيتِ الْعِبَادَةِ ، وَالْحَثِّ عَلَى الصَّلَاةِ عَقِيبَ الْوُضُوءِ وَسُؤَالِ الشَّيْخِ عَنْ عَمَلِ تِلْمِيذِهِ فَيَحُضُّهُ عَلَيْهِ .
بَابُ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ
1257- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ ، يَقُولُ : « إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقْدْرَتِكَ ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ، أَوْ قَالَ : عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي » . أَوْ قَالَ : « عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي ، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ » . قَالَ : « وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا .(2/31)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا ) دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ ، وَأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَحْتَقِرُ أَمْرًا لِصِغَرِهِ وَعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِهِ فَيَتْرُكُ الِاسْتِخَارَةَ فِيهِ ، فَرُبَّ أَمْرٍ يَسْتَخِفُّ بِأَمْرِهِ فَيَكُونُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ أَوْ فِي تَرْكِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَتَّى فِي شِسْعِ نَعْلِهِ » . قَالَ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ وَالدُّعَاءِ عقيبهَا .
بَاب مَا جَاءَ فِي طُول الْقِيَامِ وَكَثْرَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
1258- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
1259- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ فَإِنَّك لَنْ تَسْجُدَ لِلَّهِ سَجْدَةً إلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، وَحَطَّ بِهَا عَنْكَ خَطِيئَةً » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
1260- وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - آتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ، فَقَالَ : « سَلْنِي » . فَقُلْت : أَسْأَلُك مُرَافَقَتَك فِي الْجَنَّةِ ، فَقَالَ : « أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ » ؟ فَقُلْت : هُوَ ذَاكَ ، فَقَالَ : « أَعِنِّي عَلَى نَفْسِك بِكَثْرَةِ السُّجُودِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .(2/32)
1261- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1262- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ وَيُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ أَوْ سَاقَاهُ ، فَيُقَالُ لَهُ ، فَيَقُولُ : أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ » أَيْ فِي السُّجُودِ لِأَنَّهُ حَالَةُ قُرْبٍ ، وَقَالَ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ السُّجُودِ وَمِنْ الدُّعَاءِ فِيهِ . وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ : السُّجُودُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِيَامِ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْمُرَادُ طُولُ الْقِيَامَ . وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَلُ مِنْ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَغَيْرِهِمَا ، انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَكَثْرَة الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَطُولِ القِيامِ سَواء فِي الفَضِيلَةِ وَهُو إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عِنْد أَحْمَدٍ .
بَابُ إخْفَاءِ التَّطَوُّعِ وَجَوَازُهُ جَمَاعَةً
1263- عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1264- لَكِنَّ لَهُ مَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ .(2/33)
1265- وَعَنْ عِتْبَانُ بْن مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ السُّيُولَ لَتَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي ، فَأُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَكَان مِنْ بَيْتِي أَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا ، فَقَالَ : « سَنَفْعَلُ » . فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ : « أَيْنَ تُرِيدُ » ؟ فَأَشَرْت لَهُ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصُفِفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1266 ، 1267- وَقَدْ صَحَّ التَّنَفُّلُ جَمَاعَةً مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ فِعْلِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْبُيُوتِ ، وَأَنَّ فِعْلَهَا فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ .
قَالَ : وَفِي حَدِيثِ عِتْبَانُ فَوَائِدُ ، مِنْهَا جَوَازُ التَّخَلُّفِ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَطَرِ وَالظُّلْمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَمِنْهَا جَوَازُ اتِّخَاذِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ لِلصَّلَاةِ . وَأَمَّا النَّهْي عَنْ إيطَانِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَفِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا اسْتَلْزَمَ رِيَاءً وَنَحْوَهُ . وَفِيهِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ ، وَأَنَّ عُمُومَ النَّهْيِ عَنْ إمَامَةِ الزَّائِر مَنْ زَارَهُ مَخْصُوصٌ بِمَا إذَا كَانَ الزَّائِرُ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ فَلَا يُكْرَهُ ، وَكَذَا مَنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ . وَفِيهِ أَنَّهُ يُشْرَعُ لِمَنْ دُعِيَ مِنْ الصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ الْإِجَابَةُ ، وَإِجَابَةُ الْفَاضِلِ دَعْوَةَ الْمَفْضُولِ .
بَاب أَنَّ أَفْضَلَ التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى فِيهِ(2/34)
1268 ، 1269 ، 1270 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ هَانِئٍ وَقَدْ سَبَقَ .
1271 - وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
وَلَيْسَ هَذَا بِمُنَاقِضٍ لِحَدِيثِهِ الَّذِي خَصَّ فِيهِ اللَّيْلَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ سَائِلٍ عَيَّنَهُ فِي سُؤَالِهِ .
1272- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ، صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَأْمُرُ بِشَيْءٍ ، وَيُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ .
1273- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَرْقُدُ ، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ تَسَوَّكَ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ يَجْلِسُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ ، ثُمَّ يُوتِرُ بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ لَا يَجْلِسُ وَلَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي الْخَامِسَةِ .
1274- وَعَنْ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى وَتَشَهَّدُ وَتُسَلِّمُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَبْأَسُ وَتَمَسْكَنُ وَتُقْنِعُ يَدَيْكَ وَتَقُولُ : اللَّهُمَّ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ » . رَوَاهُنَّ ثَلَاثَتُهُنَّ أَحْمَدُ .
1275- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ تَسْلِيمَةٌ ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
1276- وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي حِينَ تَزِيغُ الشَّمْسُ رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ يَجْعَلُ التَّسْلِيمَ فِي آخِرِهِ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .(2/35)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي صَلَاةِ تَطَوُّعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى مَثْنَى إلَّا مَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ إمَّا فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ صَلَّى أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ، ثُمَّ صَلَّى أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ . وَإِمَّا فِي جَانِبِ النُّقْصَانِ كَأَحَادِيثِ الْإِيتَارِ بِرَكْعَةٍ . قَالَ : وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَوَائِدُ . مِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ التَّسَوُّكِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ ، وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ التَّمَسْكُنِ وَالتَّفَاقُرِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ لِلْإِجَابَةِ ، وَمِنْهَا مَشْرُوعِيَّةُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ . قَالَ : وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مُتَّصِلَةٍ فِي النَّهَارِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخَصِّصَاتِ لِأَحَادِيثِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى .
بَابُ جَوَازِ التَّنَفُّلِ جَالِسًا وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ
1277- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمَّا بَدَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَثَقُلَ كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ جَالِسًا . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1278- وَعَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ : مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا حَتَّى كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ ، فَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَاعِدًا ، وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(2/36)
1279- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ قَاعِدًا قَالَ : إنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ ، وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا .
1280- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا ، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا ، وَكَانَ إذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ ، رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ ، وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا ، رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1281- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا لَمْ تَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ ، وَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا ، حَتَّى إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ رَكَعَ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ وَزَادُوا إلَّا ابْنَ مَاجَهْ : ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ .
1282- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ إجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ .(2/37)
قَالَ : وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ مِنْ قُعُودٍ وَاضْطِجَاعٍ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : « وَمَنْ صَلَّى نَائِمًا » . وَقَدْ اخْتَلَفَ شُرَّاحُ الْحَدِيثِ هَلْ هُوَ مَحْمُولُ عَلَى التَّطَوُّعِ أَوْ عَلَى الْفَرْضِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْقَادِرِ ، فَحَمَلَهُ الْخَطَّابِيِّ عَلَى الثَّانِي ، وَهُوَ مَحْمَلٌ ضَعِيفٌ ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ الْمُفْتَرَضَ الَّذِي أَتَى بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ يُكْتَبُ لَهُ جَمِيعُ الْأَجْرِ لَا نِصْفُهُ ، وَحَمَلَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَلَى التَّطَوُّعِ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ تَنْصِيفَ الْأَجْرِ إنَّمَا هُوَ لِلصَّحِيحِ ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَصَلَّى جَالِسًا فَإِنَّهُ مِثْلُ أَجْرِ الْقَائِمِ . قَالَ : وَحَدِيثُ عَائِشَةَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِمَنْ صَلَّى قَاعِدًا أَنْ يَتَرَبَّعَ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شَاءَ .
بَابُ النَّهْي عَنْ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ
1283- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1284- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ : « إلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ » .(2/38)
1285- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالكِ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَاثَ بِهِ النَّاسُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « آلصُّبْحَ أَرْبَعًا ، آلصُّبْحَ أَرْبَعًا » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي النَّافِلَةِ عِنْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَغَيْرِهِمَا ، وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ .
بَابُ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا
1286- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1287- وَفِي لَفْظِ : « لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاتَيْنِ ، بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
1288- وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ .
1289- وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة مِثْلُ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .(2/39)
1290- وَفِي لَفْظِ عَنْ عُمَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَا فِيهِ : بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ .
1291- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ : قُلْت : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الصَّلَاةِ ، قَالَ : صَلِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَتَرْتَفِعَ ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بِالرُّمْحِ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ حِينَئِذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ ، فَإِذَا أَقْبَلَ الْفَيْءُ فَصَلِّ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الْعَصْرَ ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَنْ الصَّلَاةِ حَتَّى تَغْرُبَ فَإِنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ ، وَحِينَئِذٍ يَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
1292- وَلِأَبِي دَاوُد نَحْوُهُ ، وَأَوَّلُهُ عِنْدَهُ ، قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ : جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَصَلِّ مَا شِئْتَ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَشْهُودَةٌ مَكْتُوبَةٌ حَتَّى تُصَلِّيَ الصُّبْحَ .
وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْفَجْرِ لا يَتَعَلَّقُ بِطُلُ,عِهِ بِالْفِعْلِ كَالْعَصْرِ .(2/40)
1293- وَعَنْ يَسَارِ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ : رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أُصَلِّي بَعْدَ مَا طَلَعَ الْفَجْرُ ، فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ ، فَقَالَ : « لِيُبَلِّغْ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ أَنْ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1294- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ، أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا : حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ ، وَحِينَ تُضَيَّفُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1295- وَعَنْ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا ، وَيُوَاصِلُ وَيَنْهَى عَنْ الْوِصَالِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ .
قَوْلُهُ : ( ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ ، أَوْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا ) إلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَكَذَلِكَ الدَّفْنِ . وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْكَرَاهَةِ . قَالَ : وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْفَرَائِضِ الْمُؤَدَّاةِ فِيهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي النَّوَافِلِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ .(2/41)
بَاب الرُّخْصَةُ فِي إعَادَةِ الْجَمَاعَةِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِي كُلِّ وَقْتٍ
1296- عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ : شَهِدْت مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَجَّتَهُ ، فَصَلَيْتُ مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ انْحَرَفَ ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَى الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا ، فَقَالَ : « عَلَيَّ بِهِمَا » . فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا ، فَقَالَ : « مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا » ؟ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا ، قَالَ : « فَلَا تَفْعَلَا إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1297- وَفِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد : « إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّهَا مَعَهُ ، فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَةٌ » .
1298- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1299- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، أَوْ يَا بَنِي عَبْدَ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّي ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ إلَّا عِنْدَ هَذَا الْبَيْتِ يَطُوفُونَ وَيُصَلُّونَ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .(2/42)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ » . فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة ، وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى ، لأن ترك الاستفصال في مقام الاجتمال ينزل منزلة العموم في المقال .
قَالَ : وَحَدِيثُ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّخُولِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ لِمَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ كَرَاهَةٍ لِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ . فَيَكُونُ هَذَا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ .
قَوْلُهُ : « يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثَيْ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ عَقِيبَهُ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ .
أَبْوَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ
بَابُ مَوَاضِعِ السُّجُودِ فِي سُورَة الْحَجِّ وص وَالْمُفَصَّل
1300- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَقَرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ وَفِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
1301- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّ النَّبِيَّ قَرَأَ وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرَ أَنَّ شَيْخًا مِنْ قُرَيْشٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ : يَكْفِينِي هَذَا ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(2/43)
1302- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1303- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَجَدْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي ? إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ? ، وَ ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ? . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1304- وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَيْسَتْ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ ، وَلَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِيهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1305- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ فِي ص وَقَالَ : « سَجَدَهَا دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ تَوْبَةً ، وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
1306- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ص ، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ سَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا ، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ فَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(2/44)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : (خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوَاضِعَ السُّجُودِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا إِلِى أَنْ قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ مَوَاضِعَ السُّجُودِ : خَاتِمَةُ الْأَعْرَافِ . وَثَانِيهَا : عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الرَّعْد : ? بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ? . وَثَالِثُهَا : عِنْدَ قَوْلِهِ فِي النَّحْلِ ? وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ? . وَرَابِعُهَا : عِنْدَ قَوْلِهِ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ ? وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ? . وَخَامِسُهَا : عِنْدَ قَوْلِهِ فِي مَرْيَمَ : ? خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ? . وَسَادِسُهَا : عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْحَجِّ : ? إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ? . وَسَابِعُهَا : عِنْدَ قَوْله فِي الْفُرْقَانِ : ? وَزَادَهُمْ نُفُورًا ? . وَثَامِنُهَا : عِنْدَ قَوْلِهِ فِي النَّمْلِ : ? رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ? . وَتَاسِعُهَا : عِنْدَ قَوْلِهِ فِي آلم تَنْزِيلُ : ? وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ? . وَعَاشِرُهَا : عِنْدَ قَوْلِهِ فِي ص : ? وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ? . وَالْحَادِيَ عَشَرَ : عِنْدَ قَوْلِهِ فِي حم السَّجْدَةِ : ? إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ ? . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ عِنْدَ قَوْلِهِ : ? وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ? . وَالثَّانِيَ عَشَرَ ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ سَجَدَاتُ الْمُفَصَّلِ . وَالْخَامِسَ عَشَرَ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَجِّ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إثْبَاتِ سُجُودِ التِّلَاوَة وَهُوَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سُنَّةٌ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجِبٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ .(2/45)
قَوْلُهُ ( إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ وَالنَّجْمِ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ السُّجُودِ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْقَارِئِ . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ السُّجُودِ فِي الْمُفَصَّلِ .
قَوْله : ( لَيْسَتْ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ لَيْسَتْ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ ، وَلَقَدْ رَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فِيهَا ) . قَالَ الشَّارِحُ : الْمُرادُ بِالْعَزَائِمِ : مَا وَرَدَتْ الْعَزِيمَةُ فِي فِعْلِهِ كَصِيغَةِ الْأَمْرِ مَثَلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْوُجُوبِ . وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ : مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ السُّجُودَ فِي ص فَقَالَ : مِنْ قَوْله تَعَالَى : ? وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ ? إلَى قَوْلِهِ : ? فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ ? . قَالَ الشَّارِحُ : وَلَا تَعَارُض بَيْنَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَكُنْ السَّجْدَةُ فِي ص مِنْ الْعَزَائِمِ لِأَنَّهَا بِلَفْظِ الرُّكُوعِ ، فَلَوْلَا التَّوْقِيفُ مَا ظَهَرَ أَنَّ فِيهَا سَجْدَةً .
بَابُ قِرَاءَة السَّجْدَة فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالسِّرِّ
1307- وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ الصَّائِغِ قَالَ : صَلَيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْعَتَمَةَ فَقَرَأَ ? إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ? فَسَجَدَ فِيهَا ، فَقُلْت : مَا هَذِهِ ؟ فَقَالَ سَجَدْت بِهَا خَلْفَ أَبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَمَا أَزَالُ أَسْجُدُ فِيهَا حَتَّى أَلْقَاهُ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(2/46)
1308- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَرَأَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُ قَرَأَ تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1309- وَأَبُو دَاوُد ، وَلَفْظُهُ : سَجَدَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ فَرَأَيْنَا أَنَّهُ قَرَأَ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ أَنَّ سُجُودَهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي الصَّلَاةِ . وَفِي الْفَتْحِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَشْعَثَ عَنْ مَعْمَرٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سُجُودَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهَا كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيه رّدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ مَا فِيهِ . سَجْدَةٌ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَاب سُجُود الْمُسْتَمِعِ إذَا سَجَدَ التَّالِي
وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَسْجُدْ
1310- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا لِمَوْضِعِ جَبْهَتِهِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1311- وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ .(2/47)
1312- وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ : أَنَّ رَجُلًا قَرَأَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - السَّجْدَةَ فَسَجَدَ فَسَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَرَأَ آخَرُ عِنْدَهُ السَّجْدَةَ فَلَمْ يَسْجُدْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَرَأَ فُلَانٌ عِنْدَك السَّجْدَةَ فَسَجَدْت وَقَرَأْت فَلَمْ تَسْجُدْ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « كُنْتَ إمَامَنَا فَلَوْ سَجَدْتَ سَجَدْتُ » . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ هَكَذَا مُرْسَلًا .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِتَمِيمِ بْنِ حَذْلَمَ وَهُوَ غُلَامٌ فَقَرَأَ عَلَيْهِ سَجْدَةً فَقَالَ : « اُسْجُدْ فَإِنَّك إمَامُنَا فِيهَا » .
1313- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : قَرَأْت عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1314- وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : فَلَمْ يَسْجُدْ مِنَّا أَحَدٌ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ إِذَا سَجَدَ لَزَمَ الْمُسْتَمِعَ أَنْ يَسْجُدَ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لا أُؤكِّدُ عَلَى السَّامِعِ كَمَا أُؤَكِّدُ عَلَى الْمُسْتَمِِعِ . وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِحَدِيثِ زَيْدٍ بْن ثَابِتٍ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السُّجُودِ فَقَالَ : وَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنَّ السُّجُودَ لا يَجِبُ .(2/48)
قَالَ في الاختيارات : قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ : وَالَّذِي تَبَيَّنَ لِي أَنَّ سُجُودَ التِّلاوَةِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ وَمَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلا يَشْرُعُ فِيهِ تَحْرِيمٌ وَلا تَحْلِيلٌ . هَذَا هُوَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَة عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهَا عَامَّةُ السَّلَفِ وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ هُوَ صَلاةٌ فَلا يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوط الصَّلاةِ بَلْ يَجُوزُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ ، وَاخْتَارَهَا الْبُخَارِيُّ . لَكِنِ السُّجُود بِشُرُوطِ الصَّلاةِ أَفْضَلُ . وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَخِلُّ بِذَلِكَ إِلا لِعُذْرٍ فَالسُّجُودُ بِلا طَهَارَةٍ خَيْرٌ مِنَ الإِخْلالِ بِهِ لَكِنْ يُقَالُ : إِنَّهُ لا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْحَال كَمَا لا يَجِبُ عَلَى السَّامِعِ إِذَا لَمْ يَسْجُدْ قَارِئُ السُّجُودِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ السُّجُود جَائِزًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
باب السجود على الدابة وبيان أنه لا يجب بحال
1315- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ سَجْدَةً فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْهُمْ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ فِي الْأَرْضِ ، حَتَّى إنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1316- وَعَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - - أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سُورَةَ النَّحْلِ حَتَّى جَاءَ السَّجْدَةَ فَنَزَلَ وَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ ، حَتَّى إذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا حَتَّى إذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا لَمْ نُؤْمَرْ بِالسُّجُودِ ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .(2/49)
1317- وَفِي لَفْظِ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيْنَا السُّجُودَ إلَّا أَنْ نَشَاءَ ) .
قَوْلُهُ : ( حَتَّى إنَّ الرَّاكِبَ لَيَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ جَوَاز سُجُود الرَّاكِبِ عَلَى يَدِهِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ ، وَهُوَ يَدُلّ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ فِي التِّلَاوَةِ لِمَنْ كَانَ رَاكِبًا مِنْ دُونِ نُزُولٍ ، لِأَنَّ التَّطَوُّعَاتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ جَائِزَةٌ .
قَالَ : وَالْأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْخُطْبَةِ وَجَوَازِ نُزُولِ الْخَطِيبِ وَسُجُودِهِ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ السُّجُودِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ .
بَابُ التَّكْبِيرِ لِلسُّجُودِ وَمَا يَقُولُ فِيهِ
1318- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1319- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ : « سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .(2/50)
1320- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنِّي رَأَيْت الْبَارِحَةَ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أُصَلِّي إلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ ، فَقَرَأْتُ السَّجْدَةَ ، فَسَجَدَتْ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي ، فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ : اللَّهُمَّ اُحْطُطْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا ، وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَرَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ . فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ الَّذِي أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عَنْ قَوْلِ الشَّجَرَةِ . رَوَاهُ مَاجَهْ .
1321- وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ فِيهِ : وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتَهَا مِنْ عَبْدِك دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قَوْلُهُ : ( فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ لِسُجُودِ التِّلَاوَةِ ، وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الذِّكْرِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ بِمَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ .(2/51)
وَقَالَ أيضًا : ( فَائِدَةٌ ) : لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ السَّاجِدُ مُتَوَضِّئًا وَقَدْ كَانَ يَسْجُدُ مَعَهُ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ حَضَرَ تِلَاوَتَهُ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْوُضُوءِ ، وَيَبْعُد أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُتَوَضِّئِينَ . وَأَيْضًا قَدْ كَانَ يَسْجُدُ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُمْ أَنْجَاسٌ لَا يَصِحُّ وُضُوؤُهُمْ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ . إِلِى أَنْ قَالَ : ( فَائِدَةٌ أُخْرَى ) : رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ . وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ ، وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي النَّهْيِ مُخْتَصَّةٌ بِالصَّلَاةِ .
بَابُ سَجْدَةِ الشُّكْرِ
1322- عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ أَوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا : شُكْرًا لِلَّهِ . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ .
1323- وَلَفْظُ أَحْمَدَ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ بَشِيرٌ يُبَشِّرُهُ بِظَفَرِ جُنْدٍ لَهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ ، فَقَامَ فَخَرَّ سَاجِدًا فَأَطَالَ السُّجُودَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ صَدَفَتِهِ ، فَدَخَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ .(2/52)
1324- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَوَجَّهَ نَحْوَ صَدَفَتِهِ ، فَدَخَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، فَخَرَّ سَاجِدًا فَأَطَالَ السُّجُودَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ : « إنَّ جِبْرِيلَ فَبَشَّرَنِي ، فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكَ : مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَيْتُ عَلَيْهِ ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْت عَلَيْهِ ، فَسَجَدْت لِلَّهِ شُكْرًا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1325- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَلَمَّا كُنَّا قَرِيبًا مِنْ عَزْوَرَاءَ ، نَزَلَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا اللَّهَ سَاعَةً ، ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَمَكَثَ طَوِيلًا ، ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً . ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَعَلَهُ ثَلَاثًا ، وَقَالَ : « إنِّي سَأَلْتُ رَبِّي وَشَفَعْتُ لِأُمَّتِي ، فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي ، فَخَرَرْت سَاجِدًا شُكْرًا لِرَبِّي ، ثُمَّ رَفَعْت رَأْسِي فَسَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِي ثُلُثَ أُمَّتِي ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي فَسَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي ، فَأَعْطَانِي الثُّلُثَ الْآخِرَ ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّي » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَسَجَدَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ جَاءَهُ قَتْلُ مُسَيْلِمَةَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ .
وَسَجَدَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - حِينَ وَجَدَ ذَا الثُّدَيَّةُ فِي الْخَوَارِجِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ .
وَسَجَدَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا بُشِّرَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَقِصَّتُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا .(2/53)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( صَدَفَتُهُ ) بِفَتْحِ الصَّادِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالْفَاءِ . وَالصَّدَفَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْبِنَاءِ الْمُرْتَفِعِ ، وَفِي النِّهَايَةِ مَا لَفْظُهُ : ( كَانَ إذَا مَرَّ بِصَدَفٍ مَائِلٍ أَسْرَعَ الْمَشْيَ ) . قَالَ: الصَّدَفُ بِفَتْحَتَيْنِ وَضَمَّتَيْنِ : كُلّ بِنَاءٍ عَظِيمٍ مُرْتَفِعٍ تَشْبِيهًا بِصَدَفِ الْجَبَلِ ، وَهُوَ مَا قَابَلَك مِنْ جَانِبِهِ ، وَاسْمٌ لِحَيَوَانٍ فِي الْبَحْرِ . انْتَهَى . قُلْتُ : ومنه قوله تعالى ? حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ?. قَالَ الشَّارِحُ : وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ الشُّكْرِ .
أَبْوَابُ سُجُود السَّهْو
بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ سَلَّمَ مِنْ نُقْصَانٍ(2/54)
1326- عَنْ ابْن سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ، فَقَامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى ، وَخَرَجْت السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ ، فَقَالُوا : قُصِرَتْ الصَّلَاةُ ؟ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ : ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِسيتَ أَمْ قُصِرَتْ الصَّلَاةُ ؟ فَقَالَ : « لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ » . فَقَالَ : « أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ » ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، فَيَقُولُ : أُنْبِئْت أَنَّ عِمْرَانَ ابْنَ حُصَيْنٍ قَالَ : ثُمَّ سَلَّمَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْيَدِ وَلَا التَّشْبِيكُ .
1327- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : بَيْنَمَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الظُّهْرِ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ . وَسَاقَ الْحَدِيثَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .(2/55)
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ بِحَضْرَتِهِ وَبَعْدَ إسْلَامِهِ .
1328- وَفِي رِوَايَةٍ - مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا - لَمَّا قَالَ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ قَالَ : بَلَى قَدْ نَسِيتُ .
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ تَكَلَّمَ بَعْدمَا عَلِمَ عَدَمَ النَّسْخ كَلَامًا لَيْسَ بِجَوَابِ سُؤَالٍ .
1329- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ . وَفِي لَفْظٍ : فَدَخَلَ الْحُجْرَةَ ، فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ يُقَال لَهُ : الْخِرْبَاقُ ، وَكَانَ فِي يَدِهِ طُولٌ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَذَكَر لَهُ صَنِيعَهُ ، فَخَرَجَ غَضْبَانَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى النَّاسِ فَقَالَ : « أَصَدَقَ هَذَا » ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، فَصَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .
1330- وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى الْمَغْرِبَ فَسَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ ، فَنَهَضَ لِيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ فَسَبَّحَ الْقَوْمُ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالَ : فَصَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ، قَالَ : فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : مَا أَمَاطَ عَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/56)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فَصَلَّى مَا تَرَكَ ) فِيهِ جَوَازُ الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا الْمُصَلِّي قَبْلَ تَمَامهَا نَاسِيًا ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . قَالَ : وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَلامَ السَّاهِيَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ ، وَكَذَا كَلَامُ مَنْ ظَنَّ التَّمَامَ . وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ إذَا وَقَعَتْ سَهْوًا أَوْ مَعَ ظَنِّ التَّمَامِ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ .
قَوْلُهُ : ( ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ ) . فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ إنَّ سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ كُلُّهُ مَحَلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ .
الثَّانِي : أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ .(2/57)
الثَّالِثُ : التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ ، فَيَسْجُدُ لِلزِّيَادَةِ بَعْدَ السَّلَامِ وَلِلنَّقْصِ قَبْلَهُ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ حَدِيثٍ كَمَا وَرَدَ وَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ . إِلِى أَنْ قَالَ : قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ : وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ لِلزِّيَادَةِ أَوْ لِلنَّقْصِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَفْضَلِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي الْمَقَامِ إنَّهُ يَعْمَل عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ السُّجُودِ قَبْلِ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ ، فَمَا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ السُّجُودِ مُقَيَّدًا بِقَبْلِ السَّلَام سَجَدَ لَهُ قَبْلَهُ ، وَمَا كَانَ مُقَيَّدًا بِبَعْدِ السَّلَامِ سَجَدَ لَهُ بَعْدَهُ ، وَمَا لَمْ يَرِدْ تَقْيِيدُهُ بِأَحَدِهِمَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ وَبَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ لِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ » . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ(2/58)
1331- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةً صَلَّى أَمْ اثْنَتَيْنِ فَلْيَجْعَلْهَا وَاحِدَةً ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ ثِنْتَيْنِ صَلَّى أَمْ ثَلَاثًا فَلْيَجْعَلْهَا ثِنْتَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ ثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَجْعَلْهَا ثَلَاثًا ، ثُمَّ يَسْجُدُ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ سَجْدَتَيْنِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1332- وَفِي رِوَايَةٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ صَلَّى صَلَاةً يَشُكُّ فِي النُّقْصَانِ فَلْيُصَلِّ حَتَّى يَشُكَّ فِي الزِّيَادَةِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1333- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى إتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .(2/59)
1334- وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ إبْرَاهِيمُ : زَادَ أَوْ نَقَصَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ ؟ قَالَ : « لَا ، وَمَا ذَاكَ » ؟ قَالُوا : صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا ، فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ : « إنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ ، وَلَكِنْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي ، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ ، ثُمَّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
1335- وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ وَمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ : « فَلْيَنْظُرْ أَقْرَبَ ذَلِكَ إلَى الصَّوَابِ » .
1336- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ بَيْنَ ابْنِ آدَمَ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فَلَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى ، فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
1337- وَهُوَ لِبَقِيَّةِ الْجَمَاعَةِ إلَّا قَوْلَهُ : « قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ » .
1338- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .(2/60)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبِمَا ذُكِرَ مَعَهُ مَنْ قَالَ : إنَّ مَنْ شَكَّ فِي رَكْعَةٍ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ مُطْلَقًا . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ .
قَوْلُهُ : « مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ » . قَالَ الشَّارِحُ : احْتَجَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْوَارِدَةُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لِأَجْلِ الشَّكِّ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ لِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ قَبْلَ السَّلَامِ ، وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ لَا يَنْتَهِضُ لِمُعَارَضَتِهَا ، وَلَكِنَّهُ يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَيَكُونُ الْكُلُّ جَائِزًا .
بَابُ مَنْ نَسِيَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ حَتَّى انْتَصَبَ قَائِمًا لَمْ يَرْجِعْ
1339- عَنْ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَبَّحُوا بِهِ فَمَضَى ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
1340- وَعَنْ زِيَادَةَ بْنِ عَلَاقَةَ قَالَ : صَلَّى بِنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ فَسَبَّحَ بِهِ مَنْ خَلْفَهُ ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ قُومُوا بِنَا ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِمْ سَلَّمَ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(2/61)
1341- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ وَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا فَلَيَجْلِسْ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَاسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ ، إذْ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَمَا جُبِرَ بِالسُّجُودِ ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ ، وَبِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى وُجُوبِهِ .
قَوْلُهُ : ( وَإِنْ اسْتَتَمَّ قَائِمًا فَلَا يَجْلِسْ ) . فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَوْدُ إلَى الْقُعُودِ وَالتَّشَهُّدِ بَعْدَ الِانْتِصَابِ الْكَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ فَلَا يَقْطَعُهُ وَيَرْجِعُ إلَى السُّنَّةِ . وَقِيلَ : يَجُوزَ لَهُ الْعَوْدُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الْقِرَاءَةِ ، فَإِنْ عَادَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِظَاهِرِ النَّهْيِ ؛ وَلِأَنَّهُ زَادَ قُعُودًا . وَهَذَا إذَا تَعَمَّدَ الْعَوْدَ ، فَإِنْ عَادَ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَتِمَّ الْقِيَامَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ : « إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ » .
بَابُ مَنْ صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ خَمْسًا(2/62)
1342- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ : أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : « وَمَا ذَاكَ » ؟ قَالُوا : صَلَّيْتَ خَمْسًا ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى خَمْسًا سَاهِيًا وَلَمْ يَجْلِسْ فِي الرَّابِعَةِ أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ . وَإِلَى الْعَمَلِ بِمَضْمُونِهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ مَحَلُّهُمَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ - صلى الله عليه وسلم - بِزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ إلَّا بَعْدَ السَّلَامِ حِينَ سَأَلُوهُ : أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ ؟ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ بَعْدَ السَّلَامِ لِتَعَذُّرِهِ قَبْلَهُ .
بَابُ التَّشَهُّدِ لِسُجُودِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ
1343- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ تَشَهَّدَ ثُمَّ سَلَّمَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .(2/63)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّشَهُّدِ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ السَّلَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ ، فَقَدْ حَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ التَّشَهُّدَ . انْتَهَى مُلَخَّصًا . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَهَلْ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ إِذَا سَجَدَ بَعْدَ السَّلامِ ؟ فِيهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ ، ثَالِثُهَا الْمُخْتَار : يُسَلِّمُ وَلا يَتَشَهَّدُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينِ ، وَوَجُهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدٍ وَالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . انْتَهَى . وَاللهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ - يَعْنِي حَدِيثَ عِمْرَانَ - أَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ حِبَّانٍ وَالْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ التّرْمِذِيُّ وَقَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانٍ وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِي وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِمَا . قَالُوا : وَالْمَحْفُوظُ فِي حَدِيثِ عِمْرَانٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّشَهُّدَ وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ بِهِ أَشْعَثُ عَنِ ابْنِ سِيرِين ، وَقَدْ خَالَفَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ ابْنِ سِيرِين . وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيِ الْحَدِيثِ بِدُونِ ذِكْرِ التَّشَهُّدِ .
أَبْوَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ
بَابُ وُجُوبِهَا وَالْحَثِّ عَلَيْهَا(2/64)
1344- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إلَى قَوْمٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1345- وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَوْلَا مَا فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ أَقَمْتُ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَأَمَرْتُ فِتْيَانِي يُحَرِّقُونَ مَا فِي الْبُيُوتِ بِالنَّارِ » .
1346- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ ، فَرَخَّصَ لَهُ ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ : « هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ » ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : « فَأَجِبْ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
1347- وَعَنْ عَمْرِو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا ضَرِيرٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي ؟ قَالَ : « أَتَسْمَعُ النِّدَاءَ » ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : « مَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .(2/65)
1348- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتَنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .
1349- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً » .
1350- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
1351- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً ، فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَوْلُهُ : « أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ » إلى آخره . وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سُنَّةً لَمْ يُهَدَّدْ تَارِكُهَا بِالتَّحْرِيقِ ، وَلَوْ كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَكَانَتْ قَائِمَةً بِالرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ مَعَهُ .(2/66)
قَوْلُهُ : ( أَنَّ رَجُلًا أَعْمَى قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إلَى الْمَسْجِدِ ) إلى آخره . وَالْحَدِيثَانِ اسْتَدَلَّ بِهِمَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ . وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ سَأَلَ هَلْ لَهُ رُخْصَةٌ فِي أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ وَتَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لِسَبَبِ عُذْرِهِ ؟ فَقِيلَ : لَا ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْعُذْرِ الْعَمَى إذَا لَمْ يَجِدْ قَائِدًا كَمَا فِي حَدِيثِ عِتْبَانِ بْنِ مَالِكٍ .(2/67)
قَوْلُهُ : ( صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثَيْنِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ ( أَفْضَلَ ) تَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ . إِلِى أَنْ قَالَ : فَأَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبُهَا إلَى الصَّوَابِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي لَا يُخِلُّ بِمُلَازَمَتِهَا مَا أَمْكَنَ إلَّا مَحْرُومٌ مَشْئُومٌ ، وَأَمَّا أَنَّهَا فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فَلَا . وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَا لَفْظُهُ : وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَى مَنْ أَبْطَلَ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَجَعَلَ الْجَمَاعَةَ شَرْطًا ؛ لِأَنَّ الْمُفَاضَلَةَ بَيْنَهُمَا تَسْتَدْعِي صِحَّتَهُمَا ، وَحَمْلُ النَّصِّ عَلَى الْمُنْفَرِدِ لِعُذْرٍ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ أَجْرَهُ لَا يَنْقُصُ عَمَّا يَفْعَلُهُ لَوْلَا الْعُذْرُ فَرَوَى أَبُو مُوسَى :
1352- عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد .(2/68)
1353- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قُلْتُ : صَلاةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ وَالْمُتَخَلِّفُ عَنْهَا ضَالٌّ تَارِكٌ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَالِكٌ سَبِيلَ الْمُنَافِقِينَ ، وَكَمْ قَدْ حَصَلَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ مَفَاسِدٍ يَبْكِي لَهَا الإِسْلامُ فَإِذَا قِيلَ لَهُ : صَلِّ مَعَ الْجَمَاعَةِ . قَالَ : هِيَ سُنَّةٌ إِنْ شِئْتُ صَلَّيْتُ مَعَ الْجَمَاعَةِ ، وَإِنْ شِئْتُ صَلَّيْتُ فِي بَيْتِي فَتَهُونُ عِنْدَهُ صَلاة الْجَمَاعَةِ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَهُونُ عِنْدَهُ الْوَقْتَ فَلا يُصَلِّيهَا إِلا فِي آخِرِهِ ثُمَّ يَتْرُكُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ ثُمَّ يُعَاقَبُ بِتَرْكِهَا رَأْسًا وَالاسْتِهْزَاءُ بِأَهْلِهَا . قال الله تعالى : ? ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ?. وَقَالَ تَعَالَى : ? فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ? . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابن مَسْعُود - رضي الله عنه - قَالَ : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا سَالِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ . فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -(2/69)
سُنَنِ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَكُمْ صَلَيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَؤْتَى بِهِ يَتَهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَام فِي الصَّفِّ .
بَابُ حُضُورِ النِّسَاءِ الْمَسَاجِدَ وَفَضْلِ صَلَاتِهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ
1354- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنُ مَاجَهْ .
1355- وَفِي لَفْظِ : « لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجْنَ إلَى الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1356- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1357- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْنَ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
1358- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/70)
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى مِنْ النِّسَاءِ مَا رَأَيْنَا لَمَنَعَهُنَّ مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا مَنَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ نِسَاءَهُمْ ، قُلْت لِعَمْرَةَ : أَوْ مَنَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ نِسَاءَهَا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ » . الْحَدِيثُ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَخُصَّ اللَّيْلُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ السِّتْرِ بِالظُّلْمَةِ . قَالَ : وَوَجْهُ كَوْنِ صَلَاتِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلَ : الْأَمْنُ مِنْ الْفِتْنَةِ .
قَوْلُهُ : ( وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ ) بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ وَكَسْرِ الْفَاءِ : أَيْ غَيْرِ مُتَطَيِّبَاتٍ . قَالَ : وَيَلْحَقُ بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمُحَرِّكَاتِ لِدَاعِي الشَّهْوَةِ كَحُسْنِ الْمَلْبَسِ وَالتَّحَلِّي الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُهُ وَالزِّينَةُ الْفَاخِرَةُ .
بَابُ فَضْلِ الْمَسْجِدِ الْأَبْعَدِ وَالْكَثِيرِ الْجَمْعِ
1359- عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ أَجْرًا أَبْعَدُهُمْ إلَيْهَا مَمْشًى » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
1360- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « الْأَبْعَدُ فَالْأَبْعَدُ مِنْ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ أَجْرًا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .(2/71)
1361- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ أَجْرَ مَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ بَعِيدًا مِنْ الْمَسْجِدِ أَعْظَمُ مِمَّنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ .
قَوْلُهُ : ( وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ) فِيهِ أَنَّ مَا كَثُرَ جَمْعُهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّا قَلَّ جَمْعُهُ .
بَابُ السَّعْيِ إلَى الْمَسْجِدِ بِالسَّكِينَةِ
1362- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ : « مَا شَأْنُكُمْ » ؟ قَالُوا : اسْتَعْجَلْنَا إلَى الصَّلَاةِ ، قَالَ : « فَلَا تَفْعَلُوا ، إذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1363- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ ، وَلَا تُسْرِعُوا فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيُّ .
1364- وَلَفْظُ النَّسَائِيّ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ : « فَاقْضُوا » .(2/72)
1365- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : « إذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ فَلَا يَسْعَى إلَيْهَا أَحَدُكُمْ ، وَلَكِنْ لِيَمْشِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، فَصَلِّ مَا أَدْرَكْتَ ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا » ، وَرِوَايَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامٍ عَنْ شَيْبَانُ « فَاقْضُوا » . قَالَ الْحَافِظُ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ وَرَدَ بِلَفْظِ « فَأَتِمُّوا » وَأَقَلُّهَا بِلَفْظِ « فَاقْضُوا » ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا بَيْنَ التَّمَامِ وَالْقَضَاءِ مُغَايَرَةً ، لَكِنْ إذَا كَانَ مَخْرَجُ الْحَدِيثِ وَاحِدًا وَاخْتُلِفَ فِي لَفْظَةٍ مِنْهُ وَأَمْكَنَ رَدُّ الِاخْتِلَافِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ كَانَ أَوْلَى ، وَهَذَا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْفَائِتَةِ غَالِبًا لَكِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْأَدَاءِ أَيْضًا ، وَيَرِدُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ? فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا ? وَيَرِدُ لِمَعَانٍ أُخَرَ ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ هُنَا : « فَاقْضُوا » عَلَى مَعْنَى الْأَدَاءِ ، وَالْفَرَاغِ فَلَا يُغَايِرُ قَوْلَهُ : « فَأَتِمُّوا » فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِرِوَايَةِ : « فَاقْضُوا » عَلَى أَنَّ مَا أَدْرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ حَتَّى يُسْتَحَبَّ لَهُ الْجَهْرُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَلَوْ كَانَ مَا يُدْرِكُهُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرًا لَهُ لَمَا احْتَاجَ إلَى إعَادَةِ التَّشَهُّدِ .(2/73)
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَشْيِ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَكَرَاهِيَةِ الْإِسْرَاعِ وَالسَّعْيِ . وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ مَا نُبِّهَ عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ : « فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا كَانَ يَعْمِدُ إلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ » . أَيْ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي فَيَنْبَغِي لَهُ اعْتِمَادُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اعْتِمَادُهُ وَاجْتِنَابُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي اجْتِنَابُهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ : إنَّ مَا أَدْرَكَهُ الْمَسْبُوقُ آخِرَ صَلَاتِهِ ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ بِلَفْظَةِ الْإِتْمَامِ .
بَابُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْإِمَامُ مِنْ التَّخْفِيفِ
1366- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ . فَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1367- لَكِنَّهُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ .
1368- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُوجزُ الصَّلَاةَ وَيُكْمِلُهَا .
1369- وَفِي رِوَايَةٍ : مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .(2/74)
1370- وَعَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ .
1371- لَكِنَّهُ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( يُوجزُ الصَّلَاةَ وَيُكْمِلُهَا ) فِيهِ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ التَّخْفِيفِ لَا تَسْتَلْزِمُ أَنْ تَبْلُغَ إلَى حَدٍّ يَكُونُ بِسَبَبِهِ عَدَمُ تَمَامِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَتِهَا ، وَأَنَّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْإِيجَازِ وَالْإِتْمَامِ لَا يُشْتَكَى مِنْهُ تَطْوِيلٌ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُتِمُّونَ وَيُوجِزُونَ وَيُبَادِرُونَ الْوَسْوَسَةَ ، فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي تَخْفِيفِهِمْ .
قَالَ : وَأَحَادِيثُ الْبَاب تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّخْفِيفِ لِلْأَئِمَّةِ وَتَرْكِ التَّطْوِيلِ لِلْعِلَلِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الضَّعْفِ وَالسَّقَمِ وَالْكِبَرِ وَالْحَاجَةِ وَاشْتِغَالِ خَاطِرِ أُمِّ الصَّبِيِّ بِبُكَائِهِ ، وَيَلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ فِيهِ مَعْنَاهَا .(2/75)
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : التَّخْفِيفُ لِكُلِّ إمَامٍ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَقَلُّ الْكَمَالِ . وَأَمَّا الْحَذْفُ وَالنُّقْصَانُ فَلا ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَى عَنْ نَقْرِ الْغُرَابِ ، وَرَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ ، فَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ ، وَقَالَ : لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ .
بَابُ إطَالَةِ الْإِمَامِ الرَّكْعَةَ الْأُولَى وَانْتِظَارِ مَنْ أَحَسَّ بِهِ دَاخِلًا لِيُدْرِكَ الرَّكْعَةَ
1372- فِيهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَقَدْ سَبَقَ .
1373- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَال : لَقَدْ كَانَتْ الصَّلَاةُ تُقَامُ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ، ثُمَّ يَأْتِي وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِمَّا يُطَوِّلُهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ .
1374- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : كَانَ يَقُومُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ حَتَّى لَا يُسْمَعَ وَقْعُ قَدَمٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(2/76)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ مَشْرُوعِيَّةُ التَّطْوِيلِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَغَيْرِهَا ، وفي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : « فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكَ النَّاسُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى » . وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ : إنْ كَانَ الِانْتِظَارُ لَا يَضُرُّ بِالْمَأْمُومِينَ جَازَ .
بَابُ وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَالنَّهْيِ عَنْ مُسَابَقَتِهِ
1375- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1376- وَفِي لَفْظِ : « إنَّمَا الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ، وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1377- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامَ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ ، أَوْ يُحَوِّلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ ؟ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .(2/77)
1378- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي إمَامُكُمْ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالْقُعُودِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
1379- وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ ، وَلَا تَرْفَعُوا حَتَّى يَرْفَعَ » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا » . الحديث .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْمُرَادُ بِالْحَصْرِ هُنَا حَصْرُ الْفَائِدَةِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ ، وَمِنْ شَأْنِ التَّابِعِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْمَتْبُوعِ ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْوَالِ الَّتِي فَصَّلَهَا الْحَدِيثُ ، وَلَا فِي غَيْرِهَا قِيَاسًا عَلَيْهَا ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ لَا الْبَاطِنَةِ ، وَهِيَ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْمَأْمُومُ كَالنِّيَّةِ فَلَا يَضُرَّ الِاخْتِلَافُ فِيهَا .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا » . فِيهِ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَشْرَعُ لَهُ فِي التَّكْبِيرِ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَالسُّجُودُ .(2/78)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الرَّفْعِ قَبْلَ الْإِمَامِ لِكَوْنِهِ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ بِالْمَسْخِ وَهُوَ أَشَدُّ الْعُقُوبَاتِ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّه آثِمٌ وَتُجْزِئُهُ صَلَاتُهُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ انْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ بِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ
1380- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ ، فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ ، فَأَخَذَ بِرَأْسِي وَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1381- وَفِي لَفْظٍ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ عَشْرٍ ، وَقُمْتُ إلَى جَنْبِهِ عَنْ يَسَارِهِ ، فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، قَالَ : وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1382- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مِنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(2/79)
قَوْلُهُ : ( بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ ) إلخ .. قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ لَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ ، مِنْهُ مَا بَوَّبَ لَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ انْعِقَادِ الْجَمَاعَةِ بِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا صَبِيٌّ ، وَلَيْسَ عَلَى قَوْلِ مَنْ مَنَعَ مِنْ انْعِقَادِ إمَامَةِ مَنْ مَعَهُ صَبِيٌّ فَقَطْ دَلِيلٌ . وَمِنْهَا صِحَّةُ صَلَاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً ، وَمِنْهَا أَنَّ مَوْقِفَ الْمُؤْتَمِّ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ . وَمِنْهَا جَوَازُ الِائْتِمَامِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ . وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ لِذَلِكَ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « مِنْ اسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ إيقَاظِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ بِاللَّيْلِ لِلصَّلَاةِ ، واسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْإِمَامَةِ وَانْعِقَادِهَا بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
بَابُ انْفِرَادِ الْمَأْمُومِ لِعُذْرٍ
1383- ثَبَتَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ تُفَارِقُ الْإِمَامَ وَتُتِمَّ ، وَهِيَ مُفَارِقَةٌ لِعُذْرٍ .(2/80)
1384- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَؤُمُّ قَوْمَهُ ، فَدَخَلَ حَرَامٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهُ نَخْلَهُ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مَعَ الْقَوْمِ ، فَلَمَّا رَأَى مُعَاذًا طَوَّلَ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ وَلَحِقَ بِنَخْلِهِ يَسْقِيهِ ، فَلَمَّا قَضَى مُعَاذٌ الصَّلَاةَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ ، قَالَ : إنَّهُ لَمُنَافِقٌ أَيَعْجَلُ عَنْ الصَّلَاةِ مِنْ أَجْلِ سَقْيِ نَخْلِهِ ؟ قَالَ : فَجَاءَ حَرَامٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمُعَاذٌ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَسْقِيَ نَخْلًا لِي ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ لِأُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ ، فَلَمَّا طَوَّلَ تَجَوَّزْتُ فِي صَلَاتِي وَلَحِقْتُ بِنَخْلِي أَسْقِيهِ ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ : « أَفَتَّانٌ أَنْتَ ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ ، لَا تُطَوِّلْ بِهِمْ ، اقْرَأْ بِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهِمَا » .
1385- وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ فَقَرَأَ فِيهَا ? اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ ? . ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْرُغَ فَصَلَّى وَذَهَبَ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ قَوْلًا شَدِيدًا ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ وَقَالَ : إنِّي كُنْتُ أَعْمَلُ فِي نَخْلٍ وَخُفْتُ عَلَى الْمَاءِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي لِمُعَاذٍ : « صَلِّ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهَا مِنْ السُّوَرِ » . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .(2/81)
1386- فَإِنْ قِيلَ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي فَارَقَ مُعَاذًا سَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مَا بَنَى بَلْ اسْتَأْنَفَ ، قِيلَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : إنَّ مُعَاذًا اسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ وَقَعَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، إمَّا لِرَجُلٍ أَوْ لِرِجْلَيْنِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ قَوَّى الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إسْنَادَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ الْحَمْلُ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ ، أَوْ تَرْجِيحُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ .(2/82)
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِحَدِيثِ أَنَسٍ وَبُرَيْدَةَ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ مَنْ قَطَعَ الِائْتِمَامَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ لِعُذْرٍ وَأَتَمَّ لِنَفْسِهِ . وَجُمِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ سَلَّمَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ . وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ : تَجَوَّزْتُ فِي صَلَاتِي كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : فَصَلَّى وَذَهَبَ كَمَا فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ لَا يُنَافِي الْخُرُوجُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِالتَّسْلِيمِ وَاسْتِئْنَافِهَا فُرَادَى وَالتَّجَوُّزِ فِيهَا ، لِأَنَّ جَمِيعَ الصَّلَاةِ تُوصَفُ بِالتَّجَوُّزِ كَمَا تُوصَفُ بِهِ بَقِيَّتُهَا . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِلَفْظِ : فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَصَلَّى فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ . وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَا فِي حَدِيثَيْ الْبَابِ مُحْتَمَلًا ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مُبَيِّنًا لِذَلِكَ .
بَابُ انْتِقَالِ الْمُنْفَرِدِ إمَامًا فِي النَّوَافِلِ(2/83)
1387- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ فَجَئْتُ فَقُمْتُ خَلْفَهُ ، وَقَامَ رَجُلٌ فَقَامَ إلَى جَنْبِي ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ حَتَّى كُنَّا رَهْطًا ، فَلَمَّا أَحَسَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّنَا خَلْفَهُ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَصَلَّى صَلَاةً لَمْ يُصَلِّهَا عِنْدَنَا ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَطِنْتَ بِنَا اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ : « نَعَمْ ، فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى مَا صَنَعْتُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
1388- وَعَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اتَّخَذَ حُجْرَةً ، قَالَ : حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ : « مِنْ حَصِيرٍ فِي رَمَضَانَ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالِيَ ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ جَعَلَ يَقْعُدُ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالَ : قَدْ عَرَفْتُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1389- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي فِي حُجْرَتِهِ وَجِدَارُ الْحُجْرَةِ قَصِيرٌ فَرَأَى النَّاسُ شَخْصَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَامَ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ، فَأَصْبَحُوا فَتَحَدَّثُوا ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ ، فَقَامَ نَاسٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .(2/84)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا بَوَّبَ لَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ جَوَازِ انْتِقَالِ الْمُنْفَرِدِ إمَامًا فِي النَّوَافِلِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا لِعَدَمِ الْفَارِقِ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى جَوَاز أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْمُؤْتَمِّينَ بِهِ حَائِطٌ أَوْ سُتْرَةٌ .
بَابُ الْإِمَامِ يَنْتَقِلُ مَأْمُومًا إذَا اسْتَخْلَفَ فَحَضَرَ مُسْتَخْلِفُهُ(2/85)
1390- عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَهَبَ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ ، فَحَانَتْ الصَّلَاةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : أَتُصَلِّي بِالنَّاسِ فَأُقِيمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ ، فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ ، فَصَفَّقَ النَّاسُ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لا يَلْتَفِتُ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ اُمْكُثْ مَكَانَكَ ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ : يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إذْ أَمَرْتُكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ التَّصْفِيقَ ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ ، فَإِنَّهُ إذَا سَبَّحَ اُلْتُفِتَ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .(2/86)
1391- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَالَ : كَانَ قِتَالٌ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَاهُمْ بَعْدَ الظُّهْرِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ وَقَالَ : يَا بِلَالُ إنْ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ آتِ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ ، قَالَ : فَلَمَّا حَضَرَتْ الْعَصْرُ أَقَامَ بِلَالٌ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ فَتَقَدَّمَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
1392- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّ بِالنَّاسِ » . فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي ، فَوَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَفْسِهِ خِفَّةً ، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ ، فَأَوْمَأَ إلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ مَكَانَكَ ، ثُمَّ أَتَيَا بِهِ حَتَّى جَلَسَ إلَى جَنْبِهِ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي قَاعِدًا ، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَالنَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1393- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ : فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْن رَجُلَيْنِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ .
1394- وَلِمُسْلِمٍ : وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُهُمْ التَّكْبِيرَ .(2/87)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ ) أَيْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ . وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ : ( فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَبَّرَ ) وَفِي رِوَايَةٍ : ( فَاسْتَفْتَحَ أَبُو بَكْرٍ ) . وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ سَبَبِ اسْتِمْرَارِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الِاسْتِمْرَارِ فِي هَذَا الْمَقَامِ ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ قَدْ مَضَى مُعْظَمُ الصَّلَاةِ فَحَسُنَ الِاسْتِمْرَارُ ، وَهُنَا لَمْ يَمْضِ إلَّا الْيَسِيرُ .
قَالَ : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَا بَوَّبَ لَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ جَوَازِ انْتِقَالِ الْإِمَامِ مَأْمُومًا إذَا اسْتَخْلَفَ فَحَضَرَ مُسْتَخْلِفُهُ ، وَادَّعَى ابْنُ عَبْد الْبَرِّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ . وَنُوقِضَ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ .
وَلِلْحَدِيثِ فَوَائِدٌ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهَا فَقَالَ :
فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَشْيَ مِنْ صَفٍّ إلَى صَفٍّ يَلِيهِ لَا يُبْطِلُ ، وَأَنَّ حَمْدَ اللَّهِ لِأَمْرٍ يَحْدُثُ وَالتَّنْبِيهُ بِالتَّسْبِيحِ جَائِزَانِ ، وَأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي الصَّلَاةِ لِعُذْرٍ جَائِزٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ قُصَارَاهُ وُقُوعُهَا بِإِمَامَيْنِ .(2/88)
قَالَ الشَّارِحُ : وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ جَوَازُ كَوْنِ الْمَرْءِ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ إمَامًا وَفِي بَعْضِهَا مَأْمُومًا . وَجَوَازُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ وَجَوَازُ الِالْتِفَاتِ لِلْحَاجَةِ ، وَجَوَازُ مُخَاطَبَةِ الْمُصَلِّي بِالْإِشَارَةِ ، وَجَوَازُ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ عَلَى الْوَجَاهَةِ فِي الدِّينِ ، وَجَوَازُ إمَامَةِ الْمَفْضُولِ لِلْفَاضِلِ ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ فِي الصَّلَاةِ .
بَابُ مَنْ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً بَعْدَ إمَامِ الْحَيِّ
1395- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَصْحَابِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى ذَا فَيُصَلِّي مَعَهُ » ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى مَعَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ .
1396- وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَذَكَرَهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّخُولِ مَعَ مَنْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا ، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مَعَهُ قَدْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ . قَالَ : وَالْحَدِيثُ مِنْ مُخَصِّصَاتِ حَدِيثِ : « لَا تُعَادُ صَلَاةٌ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ » .
بَابُ الْمَسْبُوقِ يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ
وَلَا يَعْتَدُّ بِرَكْعَةٍ لَا يُدْرِكُ رُكُوعُهَا(2/89)
1397- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا جِئْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئًا ، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1398- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ » . أَخْرَجَاهُ .
1399- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: « إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ وَالْإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ » . قِيلَ : الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرُّكُوعُ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : « مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ » فَيَكُونُ مُدْرِكُ الْإِمَامِ رَاكِعًا مُدْرِكًا لِتِلْكَ الرَّكْعَةِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ .
قَوْلُهُ : « فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْإِمَامُ » . فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ دُخُولِ اللَّاحِقِ مَعَ الْإِمَامِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءٍ الصَّلَاةِ أَدْرَكَهُ مِنْ غَيْر فَرْقٍ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ .
بَابُ الْمَسْبُوقِ يَقْضِي مَا فَاتَهُ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ(2/90)
1400- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : تَخَلَّفْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَتَبَرَّزَ وَذَكَرَ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ عَمَدَ النَّاسَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُصَلِّي بِهِمْ ، فَصَلَّى مَعَ النَّاسِ الرَّكْعَةَ الْأَخِيرَةَ ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُتِمُّ صَلَاتَهُ ، فَلَمَّا قَضَاهَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : « قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَصَبْتُمْ » . يَغْبِطُهُمْ أَنْ صَلَّوْا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1401- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد قَالَ فِيهِ : فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الَّتِي سُبِقَ بِهَا لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا شَيْئًا .
قَالَ أَبُو دَاوُد أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ يَقُولُونَ : مَنْ أَدْرَكَ الْفَرْدَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا شَيْئًا ) أَيْ لَمْ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْ السَّهْوِ . فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ : لَيْسَ عَلَى الْمَسْبُوقِ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ سُجُودٌ . قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ : وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
بَابُ مَنْ صَلَّى ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً فَلْيُصَلِّهَا مَعَهُمْ نَافِلَةً
فِيهِ 1402 ، 1403 ، 1404 - عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعُبَادَةُ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ سَبَقَ .(2/91)
1405- وَعَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى ، يَعْنِي وَلَمْ أُصَلِّ ، فَقَالَ لِي : « أَلَا صَلَّيْتَ » ؟ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ صَلَيْتُ فِي الرَّحْلِ ثُمَّ أَتَيْتُكَ ، قَالَ : « فَإِذَا جِئْتَ فَصَلِّ مَعَهُمْ وَاجْعَلْهَا نَافِلَةً » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1406- وَعَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلَى مَيْمُونَةَ قَالَ : أَتَيْتُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ بِالْبَلَاطِ وَالْقَوْمُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقُلْتُ : مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ ؟ قَالَ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَحَدِيثُ مِحْجَنٍ وَمَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْمُصَنِّفُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّخُولِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِمَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ ، وَلَكِنْ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي الْمَسَاجِدِ .
قَوْلُهُ : ( وَهُوَ بِالْبَلَاطِ ) هُوَ مَوْضِعٌ مَفْرُوشٌ بِالْبَلَاطِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالسُّوقِ بِالْمَدِينَةِ .(2/92)
قَوْلُهُ : « لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ » . قَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْقَائِلُونَ أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ أَدْرَكَ جَمَاعَةً لَا يُصَلِّي مَعَهُمْ كَيْفَ كَانَتْ ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَصَاحِبِ الْمُرْشِدِ . قَالَ فِي الِاسْتِذْكَارِ : اتَّفَقَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ » . أَنَّ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ صَلَاةً مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُومَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَيُعِيدَهَا عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِ أَيْضًا ، وَأَمَّا مَنْ صَلَّى الثَّانِيَةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهَا نَافِلَةٌ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَمْرِهِ بِذَلِكَ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ إعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى فَرِيضَةٌ وَالثَّانِيَةَ نَافِلَةٌ فَلَا إعَادَةَ حِينَئِذٍ .
بَابُ الْأَعْذَارِ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ
1407- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ الْمُنَادِيَ فَيُنَادِي بِالصَّلَاةِ ، يُنَادِي : صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ ، فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ، وَفِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1408- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَمُطِرْنَا ، فَقَالَ : « لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْلِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .(2/93)
1409- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ : إذَا قُلْتَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، قُلْ : صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ قَالَ : فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ ، فَقَالَ : أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا ؟ قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ، يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُخْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1410- وَلِمُسْلِمٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَ مُؤَذِّنَهُ يَوْمَ جُمُعَةٍ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ بِنَحْوِهِ .
1411- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلَا يَعْجَلُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1412- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ ، وَلَا وَهُوَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
1413- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ إقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلَاتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ .(2/94)
قَالَ الشَّارِحُ : قَوْلُهُ : ( يُنَادِي صَلُّوا فِي رَحَّالِكُمْ ) . فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ ثُمَّ يَقُول عَلَى أَثَرِهِ يَعْنِي أَثَرَ الْأَذَانِ : « أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ » . وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ كَانَ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَذَانِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَيُمْكِن الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الصَّلَاةِ فِي الرِّحَالِ رُخْصَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَرَخَّصَ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّرْخِيصِ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَطَرِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ وَالرِّيحِ .
أَبْوَابُ الْإِمَامَةِ وَصِفَةُ الْأَئِمَّةِ
بَابُ مَنْ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ
1414- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
1415- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّة سَوَاءً فَأَقَدْمُهُم هِجْرَةً ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا ، وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَقْعُدُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ » . .
1416- وَفِي لَفْظِ : « لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ وَلَا سُلْطَانِهِ » .
1417- وَفِي لَفْظِ : « سِلْمًا » بَدَل « سِنًّا » . رَوَى الْجَمِيعُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .(2/95)
1418- وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ لَكِنْ قَالَ فِيهِ : « لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا يَقْعُدُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ » .
1419- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَصَاحِبٌ لِي ، فَلَمَّا أَرَدْنَا الْإِقْفَالَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لَنَا : « إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1420- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ : وَكَانَا مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْقِرَاءَة .
1421- وَلِأَبِي دَاوُد : وَكُنَّا يَوْمئِذٍ مُتَقَارِبَيْنِ فِي الْعِلْم ) .
1422- وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمَّهُمْ ، وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِمَامَةِ الزَّائِرِ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَكَانِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ : « إلَّا بِإِذْنِهِ » .
1423- وَيَعْضُدهُ عُمُومُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ ، وَرَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ ، وَرَجُلٌ يُنَادِي بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .(2/96)
1424- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَؤُمَّ قَوْمًا إلَّا بِإِذْنِهِمْ ، وَلَا يَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( إذَا كَانُوا ثَلَاثَة ) مَفْهُوم الْعَدَد هُنَا غَيْر مُعْتَبَر لِمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ مَالكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « وَأَحَقّهمْ بِالْإِمَامَةِ أَقْرَؤُهُمْ » . فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ : يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ الْأَقْرَأُ عَلَى الْأَفْقَهِ .
قَوْلُهُ : « فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ » . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ أَنَّ مَزِيَّةَ الْعِلْمِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرهَا مِنْ الْمَزَايَا الدِّينِيَّةِ .
قَوْلُهُ : ( فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّة سَوَاءً فَأَقَدْمُهُم هِجْرَةً ) قَالَ الشَّارِحُ : الْهِجْرَةُ الْمُقَدَّمُ بِهَا فِي الْإِمَامَةِ لَا تَخْتَصُّ بِالْهِجْرَةِ فِي عَصْرِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، بَلْ هِيَ الَّتِي لَا تَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ وَقَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ .
قَوْله : ( فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا ) . قَالَ الشَّارِحُ : أَيْ يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ مَنْ كَبِرَ سِنُّهُ فِي الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَضِيلَةٌ يَرْجَحُ بِهَا ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : « سِلْمًا » الْإِسْلَامُ ، فَيَكُونُ مَنْ تَقَدَّمَ إسْلَامُهُ أَوْلَى مِمَّنْ تَأَخَّرَ إسْلَامُهُ .(2/97)
قَوْلُهُ : ( وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ ) . قَالَ النَّوَوِيُّ : مَعْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ وَالْمَجْلِسِ وَإِمَامَ الْمَسْجِدِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَظَاهِرُهُ أَنَّ السُّلْطَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ قُرْآنًا وَفِقْهًا وَوَرَعًا وَفَضْلًا ، فَيَكُونُ كَالْمُخَصِّصِ لِمَا قَبْلَهُ .
قَوْله : « مَنْ زَارَ قَوْمًا فَلَا يَؤُمُّهُمْ وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ » . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ أَنَّ الْمَزُورَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِنْ الزَّائِرِ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ أَوْ أَقْرَأَ مِنْ الْمَزُورِ . وَقَدْ عَرَفْتَ مِمَّا سَلَف أَنَّ أَبَا دَاوُد زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ : « وَلَا يُؤَمُّ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ » . فَيَصْلُحُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ فِي آخِرٍ حَدِيثِهِ : « إلَّا بِإِذْنِهِ » لِتَقْيِيدِ جَمِيعِ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ .
بَابُ إمَامَةِ الْأَعْمَى وَالْعَبْدِ وَالْمَوْلَى
1425- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ يُصَلِّي بِهِمْ وَهُوَ أَعْمَى . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(2/98)
1426- وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ أَنَّ عِتْبَانُ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى ، وَأَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ » . فَأَشَارَ إلَى مَكَان فِي الْبَيْتِ فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ .
1427- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ نَزَلُوا الْعَصْبَةَ ، مَوْضِعًا بِقُبَاءَ ، قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا ، وَكَانَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
1428- وَعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ عَائِشَةَ بِأَعْلَى الْوَادِي هُوَ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَنَاسٌ كَثِيرٌ ، فَيَؤُمّهُمْ أَبُو عَمْرٍو مَوْلَى عَائِشَةَ وَأَبُو عَمْرٍو غُلَامُهَا حِينَئِذٍ لَمْ يُعْتَقْ . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ ) .(2/99)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( يُصَلِّي بِهِمْ وَهُوَ أَعْمَى ) . فِيهِ جَوَازُ إمَامَةِ الْأَعْمَى ، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَالْغَزَالِيُّ بِأَنَّ إمَامَةَ الْأَعْمَى أَفْضَل مِنْ إمَامَة الْبَصِير لِأَنَّهُ أَكْثَرُ خُشُوعًا مِنْ الْبَصِيرِ ، وَرَجَّحَ الْبَعْضُ أَنَّ إمَامَةَ الْبَصِيرِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَوَقِّيًا لِلنَّجَاسَةِ ، وَاَلَّذِي فَهَمَّهُ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ إمَامَةَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ سَوَاءٌ فِي عَدَم الْكَرَاهِيَةِ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَضِيلَةً ، غَيْرُ أَنَّ إمَامَةَ الْبَصِيرِ أَفْضَلُ ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ جَعَلَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إمَامًا الْبُصَرَاءُ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي حَدِيث عِتْبَانُ فَوَائِدٌ : مِنْهَا إمَامَةُ الْأَعْمَى ، وَإِخْبَارُ الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ عَاهَةٍ ، وَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَطَرِ وَالظُّلْمَةِ ، وَاِتِّخَاذُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ لِلصَّلَاةِ وَإِمَامَة الزَّائِرِ إذَا كَانَ هُوَ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ ، وَالتَّبَرُّكُ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا - صلى الله عليه وسلم - ، وَإِجَابَةُ الْفَاضِلِ دَعْوَةَ الْمَفْضُولِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ . قَالَ : وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِمَامَةِ سَالِمٍ بِهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ عَلَى جَوَازِ إمَامَةِ الْعَبْدِ . وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الْقُرَشِيِّينَ عَلَى تَقْدِيمِهِ . وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّ بِإِمَامَةِ مَوْلَى عَائِشَةَ لِأُولَئِكَ لِمِثْلِ ذَلِكَ .
بَابُ مَا جَاءَ فِي إمَامَةِ الْفَاسِقِ(2/100)
1429- عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا ، وَلَا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا ، وَلَا يَؤُمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا ، إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسُلْطَانٍ يَخَافُ سَوْطَهُ أَوْ سَيْفَهُ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
1430- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اجْعَلُوا أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ ، فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
1431- وَعَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ ، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا ، وَالصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ خَلْفَ كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا ، وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ ومَعْنَاهُ ، وَقَالَ مَكْحُولٌ لَمْ يَلْقَ أَبَا هُرَيْرَةَ .(2/101)
1432- وَعَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْبَكَّاءِ قَالَ : أَدْرَكْتُ عَشَرَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهُمْ يُصَلِّي خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَدْ ثَبَتَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنْ بَقِيَّة الصَّحَابَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ إجْمَاعًا فِعْلِيًّا ، وَلَا يَبْعُد أَنْ يَكُونَ قَوْلِيًّا ، عَلَى الصَّلَاةِ خَلْفَ الْجَائِرِينَ ؛ لِأَنَّ الْأُمَرَاءَ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ كَانُوا أَئِمَّةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، فَكَانَ النَّاسُ لَا يَؤُمُّهُمْ إلَّا أُمَرَاؤُهُمْ فِي كُلّ بَلْدَةٍ فِيهَا أَمِيرٌ ، وَكَانَتْ الدَّوْلَةُ إذْ ذَاكَ لِبَنِي أُمَيَّةَ وَحَالُهُمْ وَحَالُ أُمَرَائِهِمْ لَا يَخْفَى . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ ، وَأَنَّ كُلّ مَنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ لِنَفْسِهِ صَحَّتْ لِغَيْرِهِ . وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ فِي صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ خَلْفَ مَنْ لَا عَدَالَةَ لَهُ ، وَأَمَّا أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ فَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
قَوْله : « لَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلًا ، وَلَا أَعْرَابِيُّ مُهَاجِرًا » . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ أَنَّهُ لَا يَؤُمّ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي لَمْ يُهَاجِر بِمَنْ كَانَ مُهَاجِرَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُهَاجِرَ أَوْلَى مِنْ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ فِي الْهِجْرَةِ ، وَمِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرْ أَوْلَى بِالْأَوْلَى .
بَابُ مَا جَاءَ فِي إمَامَةِ الصَّبِيِّ(2/102)
1433- عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ قَالَ : لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ ، وَبَادَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - حَقًّا ، فَقَالَ : صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا ، وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا ، فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنْ الرُّكْبَانِ ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتِّ سِنِينَ ، أَوْ سَبْعِ سِنِينَ ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْحَيِّ : أَلَا تُغَطُّونَ عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ ، فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا ، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1434- وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ ، قَالَ فِيهِ : كُنْتُ أَؤُمّهُمْ وَأَنَا ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ .
1435- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ: وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ . وَأَحْمَدُ وَلَمْ يَذْكُرْ سِنَّهُ .
1436- وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : فَمَا شَهِدْتُ مَجْمَعًا مِنْ جَرْمٍ إلَّا كُنْتُ إمَامَهُمْ إلَى يَوْمِي هَذَا .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَا يَؤُمُّ الْغُلَامُ حَتَّى يَحْتَلِمَ . رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ .(2/103)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فَقَدَّمُونِي ) فِيهِ جَوَازُ إمَامَةِ الصَّبِيِّ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مَا فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لِيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا » . مِنْ الْعُمُومِ . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : لَيْسَ فِيهِ اطِّلَاعُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَأُجِيبُ بِأَنَّ إمَامَتَهُ بِهِمْ كَانَتْ حَالَ نُزُولِ الْوَحْيِ ، وَلَا يَقَعُ حَالُهُ التَّقْرِيرِ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى الْخَطَأِ ، وَلِذَا اُسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ : كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ . وَأَيْضًا الَّذِينَ قَدَّمُوا عَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ كَانُوا كُلُّهُمْ صَحَابَةً . إِلِى أَنْ قَالَ : وَأَمَّا الْقَدْحُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِيهِ كَشْفَ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَجُوز ، فَهُوَ مِنْ الْغَرَائِبِ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الرِّجَالَ كَانُوا يُصَلُّونَ عَاقِدِي أُزُرِهِمْ ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ : لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا . زَادَ أَبُو دَاوُد : مِنْ ضِيقِ الْأُزُرِ .
بَابُ اقْتِدَاءِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ
1437- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : مَا سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَفَرًا إلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى يَرْجِعَ ، وَإِنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ زَمَنَ الْفَتْحِ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً يُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ يَقُولُ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ قُومُوا فَصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/104)
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ائْتِمَامِ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ . وَاخْتُلِفَ فِي الْعَكْسِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَيَدُلُّ لِلْجَوَازِ مُطْلَقًا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ : « مَا بَالُ الْمُسَافِرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إذَا انْفَرَدَ وَأَرْبَعًا إذَا ائْتَمَّ بِمُقِيمٍ ؟ فَقَالَ : تِلْكَ السُّنَّةُ » . وَفِي لَفْظٍ : تِلْكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - .
بَابُ هَلْ يَقْتَدِي الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ أَمْ لَا
1438- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عِشَاءَ الْآخِرَةِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1439- وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَزَادَ : هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةُ .
1440- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ سُلَيْمٍ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَأْتِينَا بَعْدَ مَا نَنَامُ وَنَكُونُ فِي أَعْمَالِنَا فِي النَّهَارِ فَيُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَنَخْرُجُ إلَيْهِ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يَا مُعَاذُ لَا تَكُنْ فَتَّانًا ، إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي ، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَلَى قَوْمِكَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/105)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اُسْتُدِلَّ بِالرِّوَايَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّ صَلَاتَهُ بِقَوْمِهِ كَانَتْ لَهُ تَطَوُّعًا عَلَى جَوَازِ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِض بِالْمُتَنَفِّلِ . وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي ، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَلَى قَوْمِكَ » . فَإِنَّهُ ادَّعَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ : إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي وَلَا تُصَلِّيَ مَعَ قَوْمِكَ ، وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِقَوْمِكَ وَلَا تُصَلِّيَ مَعِي . وَيُرَدّ بِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ بِالصَّلَاةِ مَعَهُ وَالصَّلَاةِ بِقَوْمِهِ مَعَ التَّخْفِيفِ ، وَالصَّلَاةِ مَعَهُ فَقَطْ مَعَ عَدَمِهِ ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِ الْمَانِعِ مِنْ ذَلِكَ ، نَعَمْ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا لَفْظُهُ .
وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ مَنَعَ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ قَالَ : لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَتَى صَلَّى مَعَهُ امْتَنَعَتْ إمَامَتُهُ ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَا تَمْتَنِع بِصَلَاةِ النَّفْلِ مَعَهُ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ صَلَاةَ الْفَرْضِ وَأَنَّ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي مَعَهُ كَانَ يَنْوِيهِ نَفْلًا .(2/106)
قَالَ الشَّارِحُ : وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، فَتِلْكَ الزِّيَادَة أَعْنِي قَوْلَهُ : « هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةٌ » أَرْجَحُ سَنَدًا وَأَصْرَح مَعْنًى . إِلِى أَنْ قَالَ : وَمِنْهَا أَنَّ صَلَاةَ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ مِنْ الِاخْتِلَافِ ، وَقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا تَخْتَلِفُوا عَلَى إمَامِكُمْ » . وَرُدَّ بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مُبَيَّنٌ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : « فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا » . إلَى آخِرِهِ . وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ اخْتِلَافٍ لَكَانَ حَدِيثُ مُعَاذٍ وَنَحْوِهِ مُخَصِّصًا لَهُ .
بَابُ اقْتِدَاءِ الْجَالِسِ بِالْقَائِمِ
1441- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَرَضِهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ قَاعِدًا فِي ثَوْبٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ .
1442- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : صَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَاعِدًا . رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُمَا .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : والْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ هُوَ أَبُو بَكْرٍ ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا . وَفِيهِمَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ الْقَاعِدِ لِعُذْرٍ خَلْفَ الْقَائِمِ ، وَلَا أَعْلَم فِيهِ خِلَافًا . وَقَدْ تَقَدَمَ بَعْض مَا يتعلق بِهِ فِي ( بَابِ الْإِمَام ينتفل مَأْمُومًا ) .
بَابُ اقْتِدَاءِ الْقَادِر عَلَى الْقِيَامِ بِالْجَالِسِ وَأَنَّهُ يَجْلِسُ مَعَهُ(2/107)
1443- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٌّ ، فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا ، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : « إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا ، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا » .
1444- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : سَقَطَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ فَرَسٍ ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الْأَيْمَنُ ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ : « إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا ، وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
1445- وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صُرِعَ عَنْ فَرَسِهِ ، فَجُحِشَ شِقُّهُ أَوْ كَتِفُهُ ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا وَهُمْ قِيَامٌ ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ : « إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمّ بِهِ ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا ، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا » .(2/108)
1446- وَلِأَحْمَدَ فِي مُسْنَده : حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - انْفَكَّتْ قَدَمُهُ ، فَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ دَرَجَتُهَا مِنْ جُذُوعٍ ، فَأَتَى أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ ، فَصَلَّى بِهِمْ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ ، فَلَمَّا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ الْأُخْرَى قَالَ لَهُمْ : « ائْتَمُّوا بِإِمَامِكُمْ ، فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا ، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا » .
1447- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا بِالْمَدِينَةِ فَصَرَعَهُ عَلَى جِذْمِ نَخْلَةٍ فَانْفَكَّتْ قَدَمُهُ ، فَأَتَيْنَاهُ نَعُودُهُ فَوَجَدْنَاهُ فِي مَشْرُبَةٍ لِعَائِشَةَ يُسَبِّحُ جَالِسًا ، قَالَ : فَقُمْنَا خَلْفَهُ فَسَكَتَ عَنَّا ، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى نَعُودُهُ فَصَلَّى الْمَكْتُوبَةَ جَالِسًا ، فَقُمْنَا خَلْفَهُ فَأَشَارَ إلَيْنَا فَقَعَدْنَا ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ : « إذَا صَلَّى الْإِمَامُ جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا ، وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا ، وَلَا تَفْعَلُوا كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ فَارِسَ بِعُظَمَائِهَا » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .(2/109)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الْقَائِلُونَ : إنَّ الْمَأْمُومَ يُتَابِعُ الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ قَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُومُ مَعْذُورًا . وَقَدْ أَجَابَ الْمُخَالِفُونَ لِحَدِيثِ الْبَابِ بِأَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : دَعْوَى النَّسْخِ لأنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِالنَّاسِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَاعِدًا وَهُمْ قِيَامٌ . وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ نَسْخَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ . وَجَمَعَ بَيْن الْحَدِيثَيْنِ بِتَنْزِيلِهِمَا عَلَى حَالَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : إذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الصَّلَاةَ قَاعِدًا لِمَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ فَحِينَئِذٍ يُصَلُّونَ خَلْفَهُ قُعُودًا . ثَانِيَتهمَا : إذَا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ قَائِمًا لَزِمَ الْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ قِيَامًا ، سَوَاءٌ طَرَأَ مَا يَقْتَضِي صَلَاةَ إمَامِهِمْ قَاعِدًا أَمْ لَا . وَيُقَوِّي هَذَا الْجَمْعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ .
بَابُ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ
1448- فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ غَزْوَة ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَقَدْ سَبَقَ .
1449- وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَفَرٍ مَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَكَانُوا يُقَدِّمُونَهُ لِقَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَصَلَّى بِهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَضَحِكَ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَصَابَ مِنْ جَارِيَةٍ لَهُ رُومِيَّةٍ ، فَصَلَّى بِهِمْ وَهُوَ جُنُبٌ مُتَيَمِّمٌ . رَوَاهُ الْأَثْرَم .
وَاحْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَته .(2/110)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ تَقَدَّمَ فِي بَاب الْجُنُب يَتَيَمَّم لِخَوْفِ الْبَرْد مِنْ كِتَاب التَّيَمُّم . وَفِيهِ : أَنَّهُ احْتَلَمَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ . فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ : « يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ » ؟ فَقَالَ : ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ : ? وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ? . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا . وَبِهَذَا التَّقْرِير احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمُتَوَضِّئِ خَلْفَ الْمُتَيَمِّمِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْ الْبَرَاءِ أَنَّ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِقَوْمٍ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَجْزَأَتْهُمْ وَيُعِيدُ » . وَفِي إسْنَاده جُوَيْبِرُ بْنُ سَعِيدٍ وَهُوَ مَتْرُوك ، وَفِي إسْنَاده أَيْضًا انْقِطَاع . إِلِى أَنْ قَالَ : وَمِنْ الْمُؤَيِّدَات لِجَوَازِ صَلَاة الْمُتَيَمِّم بِالْمُتَوَضِّئِ مَا ذَكَره الْمُصَنِّف مِنْ الْأَثَر الْمَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
بَاب مَنْ اقْتَدَى بِمَنْ أَخْطَأَ بِتَرْكِ شَرْط أَوْ فَرْض وَلَمْ يَعْلَم
1450- عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « يُصَلُّونَ بِكُمْ ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ ، وَإِنْ أَخْطَأوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .(2/111)
1451- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول : « الْإِمَامُ ضَامِنٌ ، فَإِذَا أَحْسَنَ فَلَهُ وَلَهُمْ ، وَإِنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهِ ، يَعْنِي : وَلَا عَلَيْهِمْ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَمْ يَعْلَم فَأَعَادَ وَلَمْ يُعِيدُوا ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ قَوْله ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَ .
قَوْله : « يُصَلُّونَ بِكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ ، وَإِنْ أَخْطَأُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ » . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هَذَا الْحَدِيث يَرُدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ صَلَاة الْإِمَام إذَا فَسَدَتْ فَسَدَتْ صَلَاة مَنْ خَلْفه .(2/112)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْله : ( وَإِنْ أَخْطَأُُوا ) أَيْ ارْتَكَبُوا الْخَطِيئَة ، وَلَمْ يُرِدْ الْخَطَأَ الْمُقَابِلَ لِلْعَمْدِ لِأَنَّهُ لَا إثْم فِيهِ . قَالَ الْمُهَلَّبُ : فِيهِ جَوَاز الصَّلَاةِ خَلْفَ الْبِرِّ وَالْفَاجِرِ . وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْبَغَوِيّ عَلَى أَنَّهُ يَصِحّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ إذَا كَانَ إمَامُهُمْ مُحَدِّثًا وَعَلَيْهِ الْإِعَادَة . قَالَ فِي الْفَتْح : وَاسْتَدَلَّ بِهِ غَيْره عَلَى أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ صِحَّة الِائْتِمَامِ بِمَنْ يُخِلّ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاة رُكْنَا كَانَ أَوْ غَيْره إذَا أَتَمَّ الْمَأْمُوم ، وَهُوَ وَجْه لِلشَّافِعِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُون الْإِمَام هُوَ الْخَلِيفَة أَوْ نَائِبه . وَالْأَصَحّ عِنْدهمْ صِحَّة الِاقْتِدَاء إلَّا لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَاز مُطْلَقَا وَهُوَ الظَّاهِر مِنْ الْحَدِيث ، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّف عَنْ الثَّلَاثَة الْخُلَفَاء - رضي الله عنه - .
قَوْله : ( وَإِنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهِ ) فِيهِ أَنَّ الْإِمَام إذَا كَانَ مُسِيئًا كَأَنْ يَدْخُل فِي الصَّلَاة مُخِلًّا بِرُكْنٍ أَوْ شَرْط عَمْدًا فَهُوَ آثِمٌ وَلَا شَيْء عَلَى الْمُؤْتَمِّينَ مِنْ إسَاءَته .
بَاب حُكْم الْإِمَام إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ مُحْدِث
أَوْ خَرَجَ لِحَدَثٍ سَبَقَهُ أَوْ غَيْر ذَلِكَ
1452- عَنْ أَبِي بَكْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ فَكَبَّرَ ثُمَّ أَوْمَأَ إلَيْهِمْ أَنْ مَكَانَكُمْ ، ثُمَّ دَخَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَصَلَّى بِهِمْ ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ : « إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنِّي كُنْت جُنُبًا » . رَوَاهُ أَحْمَد .(2/113)
1453- وَأَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : رَوَاهُ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - : « فَكَبَّرَ ثُمَّ أَوْمَأَ إلَى الْقَوْمِ أَنْ اجْلِسُوا ، وَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ » .
1454- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : إنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ عُمَرَ غَدَاةَ أُصِيبَ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : قَتَلَنِي أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ ، حِين طَعَنَهُ ، وَتَنَاوَلَ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ فَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةً خَفِيفَةً . مُخْتَصَرٌ مِنْ الْبُخَارِيِّ .
1455- وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : صَلَّى عَلِيٌّ - رضي الله عنه - ذَات يَوْم فَرَعَفَ ، فَأَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ فَقَدَّمَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنه .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : إنْ اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ ، وَإِنْ صَلَّوْا وُحْدَانًا فَقَدْ طُعِنَ مُعَاوِيَةُ وَصَلَّى النَّاسُ وُحْدَانًا مِنْ حَيْثُ طُعِنَ أَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ .(2/114)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : حَدِيث أَبِي بَكْرَة قَالَ الْحَافِظ : اُخْتُلِفَ فِي وَصْله وَإِرْسَاله . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَلْفَاظٍ لَيْسَ فِيهَا ذِكْر أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْد الدُّخُول فِي الصَّلَاة ، وَفِي بَعْضِهَا التَّصْرِيح بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل التَّكْبِير . قَالَ فِي الْفَتْح : يُمْكِن الْجَمْع بَيْن رِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا بِأَنْ يُحْمَل قَوْله : « فَكَبَّرَ » عَلَى : أَرَادَ أَنْ يُكَبِّر أَوْ بِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّهُ الْأَظْهَر فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَصَحّ .
قَوْله : ( فَقَدَّمَهُ فَصَلَّى بِهِمْ ) سَيَأْتِي حَدِيث عُمَرَ مُطَوَّلَا فِي كِتَاب الْوَصَايَا ، وَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ، وَفِيهِ جَوَاز الِاسْتِخْلَاف لِلْإِمَامِ عِنْد عُرُوض عُذْر يَقْتَضِي ذَلِكَ لِتَقْرِيرِ الصَّحَابَة لِعُمَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَدَم الْإِنْكَار مِنْ أَحَد مِنْهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَلِيٌّ وَتَقْرِيرهمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ .
بَاب مَنْ أَمَّ قَوْمًا يَكْرَهُونَهُ
1456- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ : « ثَلَاثَةٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ صَلَاةً : مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ، وَرَجُلٌ أَتَى الصَّلَاةَ دِبَارًا - وَالدِّبَارُ أَنْ يَأْتِيَهَا بَعْدَ أَنْ تَفُوتَهُ - وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرَهُ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ ، وَقَالَ فِيهِ : يَعْنِي بَعْد مَا يَفُوتهُ الْوَقْت .(2/115)
1457- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ : الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ ، وَزَوْجَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ » . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَحَادِيث الْبَاب يُقَوِّي بَعْضهَا بَعْضَا ، فَيَنْتَهِضُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى تَحْرِيم أَنْ يَكُون الرَّجُل إمَامَا لِقَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ . وَيَدُلّ عَلَى التَّحْرِيم . نَفْي قَبُول الصَّلَاة وَأَنَّهَا لَا تُجَاوِز آذَان الْمُصَلِّينَ وَلُعِنَ الْفَاعِل لِذَلِكَ . وَقَدْ ذَهَبَ إلَى التَّحْرِيم قَوْم وَإِلَى الْكَرَاهَة آخَرُونَ ، وَقَدْ قَيَّدَ ذَلِكَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم بِالْكَرَاهَةِ الدِّينِيَّة لِسَبَبٍ شَرْعِيِّ ، فَأَمَّا الْكَرَاهَة لِغَيْرِ الدِّين فَلَا عِبْرَة بِهَا .
قَوْله : ( وَرَجُل اعْتَبَدَ مُحَرَّره ) أَيْ اتَّخَذَ مُعْتَقَهُ عَبْدَا بَعْد إعْتَاقه .
قَوْله : ( وَامْرَأَة ) إلَى آخِرِهِ . فِيهِ أَنَّ إغْضَاب الْمَرْأَة لِزَوْجِهَا حَتَّى يَبِيت سَاخِطًا عَلَيْهَا مِنْ الْكَبَائِر .
أَبْوَاب مَوْقِف الْإِمَام وَالْمَأْمُوم وَأَحْكَام الصُّفُوف
بَاب وُقُوف الْوَاحِد عَنْ يَمِين الْإِمَام وَالِاثْنَيْنِ فَصَاعِدَا خَلْفه
1458- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ ، فَنَهَانِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبٌ لِي فَصَفَّنَا خَلْفَهُ ، فَصَلَّى بِنَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُخَالِفًا بَيْنَ طَرَفَيْهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/116)
1459- وَفِي رِوَايَة : قَامَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّيَ ، فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ، فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا جَمِيعًا ، فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
1460- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كُنَّا ثَلَاثَةً أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدُنَا . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
1461- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَائِشَةُ مَعَنَا تُصَلِّي خَلْفَنَا وَأَنَا إِلَى جَنْبَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُصَلِّي مَعَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ .
1462- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ أَوْ خَالَتِهِ ، قَالَ : فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
1463- وَعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : دَخَلْتُ أَنَا وَعَمِّي عَلْقَمَةُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ بِالْهَاجِرَةِ ، قَالَ : فَأَقَامَ الظُّهْرَ لِيُصَلِّيَ فَقُمْنَا خَلْفَهُ ، فَأَخَذَ بِيَدِي وَيَدِ عَمِّي ، ثُمَّ جَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ يَسَارِهِ ، فَصَفَّفَنَا صَفًّا وَاحِدًا ، قَالَ : ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1464- وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مَعْنَاهُ .(2/117)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْله : ( فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينه ) فِيهِ أَنَّ مَوْقِف الْوَاحِد عَنْ يَمِينِ الْإِمَام ، وَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَر إلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِب ، وَفِيهِ جَوَاز الْعَمَل فِي الصَّلَاة .
قَوْله : ( فَصَفَّنَا خَلْفه ) وَكَذَلِكَ قَوْله : ( فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفه ) . وَقَوْله : ( أَمَرَنَا - صلى الله عليه وسلم - إذَا كُنَّا ثَلَاثَة أَنْ يَتَقَدَّم أَحَدُنَا ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَات دَلِيل عَلَى أَنَّ مَوْقِف الرَّجُلَيْنِ مَعَ الْإِمَام فِي الصَّلَاة خَلْفه . قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ : وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا ، وَلَكِنَّ الْخِلَاف فِي الْأَوْلَى وَالْأَحْسَن . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . ( أَنَّ الِاثْنَيْنِ يَقِفَانِ عَنْ يَمِين الْإِمَام وَعَنْ شِمَاله وَالزَّائِد خَلْفه ) . قَالَ أَبُو عُمَرَ : هَذَا الْحَدِيث لَا يَصِحّ رَفْعه ، وَالصَّحِيح فِيهِ عِنْدهمْ أَنَّهُ مَوْقُوف عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحه وَالتِّرْمِذِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ . وَقَدْ ذَكَر جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْم مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ أَنَّ حَدِيث ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَلَّمَ هَذِهِ الصَّلَاة مِنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ بِمَكَّةَ ، وَفِيهَا التَّطْبِيق وَأَحْكَام أُخَرُ هِيَ الْآن مَتْرُوكَة ، وَهَذَا الْحُكْم مِنْ جُمْلَتهَا ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَة تَرَكَهُ ، وَعَلَى فَرْض عَدَم عِلْم التَّارِيخ لَا يَنْتَهِضُ هَذَا الْحَدِيث لِمُعَارَضَةِ الْأَحَادِيث الْمُتَقَدِّمَة . انْتهى ملخصًا .(2/118)
قَوْله : ( صَلَّيْتُ إلَى جَنْبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَائِشَةُ مَعَنَا تُصَلِّي خَلْفَنَا ) إِلى آخره . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّهُ إذَا حَضَرَ مَعَ إمَام الْجَمَاعَة رَجُل وَامْرَأَة كَانَ مَوْقِف الرَّجُل عَنْ يَمِينه وَمَوْقِف الْمَرْأَة خَلْفهمَا وَأَنَّهَا لَا تُصَفُّ مَعَ الرِّجَال ، وَالْعِلَّة فِي ذَلِكَ مَا يُخْشَى مِنْ الِافْتِتَان ، فَلَوْ خَالَفَتْ أَجْزَأَتْ صَلَاتُهَا عِنْد الْجُمْهُور ، وَعِنْد الْحَنَفِيَّة تَفْسُد صَلَاة الرَّجُل دُون الْمَرْأَة . قَالَ فِي الْفَتْح : وَهُوَ عَجِيب . وَفِي تَوْجِيهه تَعَسُّف حَيْثُ قَالَ قَائِلهمْ : قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : « أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ » . وَالْأَمْر لِلْوُجُوبِ ، فَإِذَا حَاذَتْ الرَّجُل فَسَدَتْ صَلَاة الرَّجُل لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ تَأْخِيرهَا . قَالَ : وَحِكَايَة هَذَا تُغْنِي عَنْ جَوَابه .
بَاب وُقُوف الْإِمَام تِلْقَاء وَسْط الصَّفّ وَقُرْب أُوَلِي الْأَحْلَام وَالنُّهَى مِنْهُ
1465- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : « وَسِّطُوا الْإِمَامَ ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1466- وَعَنْ أَبِي مَسْعُود الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ : « اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ ، لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .(2/119)
1467- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الْأَسْوَاقِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
1468- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ لِيَأْخُذُوا عَنْهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « وَسِّطُوا الْإِمَام » فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ جَعْل الْإِمَام مُقَابِلًا لِوَسْطِ الصَّفّ .
قَوْلُهُ : « اسْتَوُوا وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ ». قَالَ الشَّارِحُ : لِأَنَّ مُخَالَفَة الصُّفُوف مُخَالَفَة الظَّوَاهِر ، وَاخْتِلَاف الظَّوَاهِر سَبَب لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِن .
قَوْله : « لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى » قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ : الْأَحْلَام وَالنُّهَى بِمَعْنًى وَاحِد ، وَالنُّهَى جَمْع نُهْيَة بِالضَّمِّ أَيْضًا وَهِيَ الْعَقْل لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنْ الْقُبْح . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِأُولِي الْأَحْلَام : الْبَالِغُونَ ، وَبِأُولِي النُّهَى : الْعُقَلَاء . قَالَ الشَّارِحُ : وَإِنَّمَا خَصَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا النَّوْع بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّبْلِيغ ، وَيُسْتَخْلَف إذَا اُحْتِيجَ إلَى اسْتِخْلَافه ، وَيَقُوم بِتَنْبِيهِ الْإِمَام إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ .(2/120)
قَوْله : « وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَات الْأَسْوَاق » أَيْ اخْتِلَاطهَا وَالْمُنَازَعَة وَالْخُصُومَات وَارْتِفَاع الْأَصْوَات وَاللَّغَط وَالْفِتَن الَّتِي فِيهَا وَالْهَوْشَةُ : الْفِتْنَة وَالِاخْتِلَاط . وَالْمُرَاد النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكُون اجْتِمَاع النَّاس فِي الصَّلَاة مِثْل اجْتِمَاعهمْ فِي الْأَسْوَاق مُتَدَافِعِينَ مُتَغَايِرِينَ مُخْتَلِفِي الْقُلُوب وَالْأَفْعَال .
قَوْله : ( يُحِبّ أَنْ يَلِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ تَقَدُّمِ أَهْل الْعِلْم وَالْفَضْل لِيَأْخُذُوا عَنْ الْإِمَام وَيَأْخُذ عَنْهُمْ غَيْرهمْ ، لِأَنَّهُمْ أَمَسّ بِضَبْطِ صِفَة الصَّلَاة وَحِفْظهَا وَنَقْلهَا وَتَبْلِيغهَا .
بَاب مَوْقِف الصِّبْيَان وَالنِّسَاء مِنْ الرِّجَال
1469- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي بَيْنَ الْأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْقِيَامِ ، وَيَجْعَلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى هِيَ أَطْوَلُهُنَّ لِكَيْ يَثُوبَ النَّاسُ ، وَيَجْعَلُ الرِّجَالَ قُدَّامَ الْغِلْمَانِ ، وَالْغِلْمَانَ خَلْفَهُمْ ، وَالنِّسَاءَ خَلْفَ الْغِلْمَانِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1470- وَلِأَبِي دَاوُد عَنْهُ قَالَ : أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَفَّ الرِّجَالَ وَصَفَّ خَلْفَهُمْ الْغِلْمَانَ ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ . فَذَكَر صَلَاتَهُ .(2/121)
1471- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ ، فَأَكَلَ ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَلَأُصَلِّ لَكُمْ ، فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ سُوِّدَ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقُمْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ وَقَامَتْ الْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا ، فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1472- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : صَلَّيْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأُمِّي خَلْفَنَا أُمُّ سُلَيْمٍ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1473- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا ، وَشَرُّهَا آخِرُهَا ، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا ، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا الْبُخَارِيَّ .
قَوْلُهُ : ( وَيَجْعَلُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى هِيَ أَطْوَلُهُنَّ لِكَيْ يَثُوبَ النَّاسُ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَيْ يَرْجِع النَّاس إلَى الصَّلَاة وَيُقْبِلُوا إلَيْهَا .(2/122)
قَوْله : ( وَيَجْعَل الرِّجَال قُدَّام الْغِلْمَان ) إلَى آخِرِهِ . فِيهِ تَقْدِيم صُفُوف الرِّجَال عَلَى الْغِلْمَان ، وَالْغِلْمَان عَلَى النِّسَاءِ ، هَذَا إذَا كَانَ الْغِلْمَان اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا ، فَإِنْ كَانَ صَبِيّ وَاحِد دَخَلَ مَعَ الرِّجَال وَلَا يَنْفَرِد خَلْف الصَّفّ . وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيث أَنَسٍ الْمَذْكُور فِي الْبَاب . إِلِى أَنْ قَالَ : وَقِيلَ عِنْد اجْتِمَاع الرِّجَال وَالصَّبِيَّانِ يَقِف بَيْن كُلّ رَجُلَيْنِ صَبِيّ لِيَتَعَلَّمُوا مِنْهُمْ الصَّلَاة وَأَفْعَالهَا .
قَوْله : ( وَقُمْت أَنَا وَالْيَتِيم وَرَاءَهُ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ أَنَّ الصَّبِيّ يَسُدّ الْجَنَاح ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُور . وَيُؤَيِّده جَذْبه - صلى الله عليه وسلم - لِابْنِ عَبَّاس مِنْ جِهَة الْيَسَار إلَى جِهَة الْيَمِين وَصَلَاته مَعَهُ وَهُوَ صَبِيّ ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَعْله - صلى الله عليه وسلم - لِلْغِلْمَانِ صَفَّا بَعْد الرِّجَال فَفِعْل لَا يَدُلّ عَلَى فَسَاد خِلَافه .
بَاب مَا جَاءَ فِي صَلَاة الرَّجُل فَذًّا
وَمَنْ رَكَعَ أَوْ أَحْرَمَ دُون الصَّفّ ثُمَّ دَخَلَهُ
1474- عَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ فَوَقَفَ حَتَّى انْصَرَفَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ لَهُ : اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ ، فَلَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
1475- وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ . رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا النَّسَائِيّ .(2/123)
1456- وَفِي رِوَايَة قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رَجُلٍ صَلَّى خَلْفَ الصُّفُوفِ وَحْدَهُ ، فَقَالَ : يُعِيدُ الصَّلَاةَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1477- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ رَاكِعٌ ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الصَّفِّ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
1478- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، فَصَلَّيْتُ خَلْفَهُ ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَجَرَّنِي حَتَّى جَعَلَنِي حِذَاءَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/124)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَف فِي صَلَاة الْمَأْمُوم خَلْف الصَّفّ وَحْده ، فَقَالَتْ طَائِفَة : لَا يَجُوز وَلَا يَصِحّ . وَفَرَّقَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ فَرَأَوْا عَلَى الرَّجُل الْإِعَادَة دُون الْمَرْأَة . وَتَمَسَّكَ الْقَائِلُونَ بِالصِّحَّةِ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالُوا : لِأَنَّهُ أَتَى بِبَعْضِ الصَّلَاة خَلْف الصَّفّ وَلَمْ يَأْمُرهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْإِعَادَةِ ، فَيُحْمَل الْأَمْر بِالْإِعَادَةِ عَلَى جِهَة النَّدْب مُبَالَغَة فِي الْمُحَافَظَة عَلَى الْأَوْلَى وَمِنْ جُمْلَة مَا تَمَسَّكُوا بِهِ حَدِيث ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ . وَهُوَ تَمَسّك غَيْر مُفِيد لِلْمَطْلُوبِ . قِيلَ : الْأَوْلَى الْجَمْع بَيْن أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْلِ عَدَم الْأَمْر بِالْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ مَعَ خَشْيَة الْفَوْت لَوْ انْضَمَّ إلَى الصَّفّ وَأَحَادِيث الْإِعَادَة عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْر . قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ : وَلَا يُعَدّ حُكْم الشُّرُوعِ فِي الرُّكُوع خَلْف الصَّفّ حُكْم الصَّلَاة كُلّهَا خَلْفه ، فَهَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَرَى أَنَّ صَلَاة الْمُنْفَرِد خَلْف الصَّلَاة بَاطِلَة ، وَيَرَى أَنَّ الرُّكُوع دُون الصَّفّ جَائِز . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَاب الْحَثّ عَلَى تَسْوِيَة الصُّفُوف وَرَصّهَا وَسَدّ خَلَلهَا
1479- عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « سَوُّوا صُفُوفَكُمْ ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ » .
1480- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَبْل أَنْ يُكَبِّرَ فَيَقُولُ : « تَرَاصُّوا وَاعْتَدِلُوا » . مُتَّفَق عَلَيْهِمَا.(2/125)
1481- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفُوفَنَا كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهِ الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنْ الصَّفِّ ، فَقَالَ : عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا الْبُخَارِيَّ فَإِنَّ لَهُ مِنْهُ .
1482- : « لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ » .
1483- وَلِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَة قَالَ : فَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ ، وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَتِهِ ، وَمَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِهِ .
1484- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه : « سَوُّوا صُفُوفَكُمْ ، وَحَاذُوا بَيْنَ مَنَاكِبِكُمْ ، وَلِينُوا فِي أَيْدِي إخْوَانِكُمْ ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْحَذْفِ » . - يَعْنِي أَوْلَاد الضَّأْن الصِّغَار - رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1485- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : « أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا » ؟ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ : « يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .(2/126)
1486- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ، فَإِنْ كَانَ نَقْصٌ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
1487- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
1488- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا فَقَالَ لَهُمْ : تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي ، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ ، لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : « سَوُّوا صُفُوفَكُمْ » فِيهِ أَنَّ تَسْوِيَة الصُّفُوف وَاجِبَة .
قَوْلُهُ : « تَرَاصُّوا » : أَيْ تَلَاصَقُوا بِغَيْرِ خَلَل ، وَفِيهِ جَوَاز الْكَلَام بَيْن الْإِقَامَة وَالدُّخُول فِي الصَّلَاة .
قَوْلُهُ : « وَلِينُوا فِي أَيْدِي إخْوَانكُمْ » . أَيْ إذَا جَاءَ الْمُصَلِّي وَوَضَعَ يَده عَلَى مَنْكِب الْمُصَلِّي فَلْيَلِنْ لَهُ بِمَنْكِبِهِ ، وَكَذَا إذَا أَمَرَهُ مَنْ يُسَوِّي الصُّفُوفَ بِالْإِشَارَةِ بِيَدِهِ أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الصَّفّ أَوْ وَضَعَ يَده عَلَى مَنْكِبه فَلْيَسْتَوِ ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُل فِي الصَّفّ فَلْيُوسِعْ لَهُ .(2/127)
قَوْلُهُ : « الْحَذْفُ » قَالَ النَّوَوِيُّ : بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَذَال مُعْجَمَة مَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ فَاء وَاحِدَتهَا حَذَفَةٌ مِثْل قَصَب وَقَصَبَة ، وَهِيَ غَنَم سُود صِغَار تَكُون بِالْيَمَنِ وَالْحِجَاز .
قَوْلُهُ : « أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفّ الْمَلَائِكَة عِنْد رَبّهَا » فِيهِ الِاقْتِدَاء بِأَفْعَالِ الْمَلَائِكَة فِي صَلَاتهمْ وَتَعَبُّدَاتهمْ .
قَوْلُهُ : « أَتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّل » فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ تَمَام الصَّفّ الْأَوَّل . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الصَّفّ الْأَوَّل فِي الْمَسْجِد الَّذِي فِيهِ مِنْبَر ، هَلْ هُوَ الْخَارِج بَيْن يَدَيْ الْمِنْبَر ، أَوْ الَّذِي هُوَ أَقْرَب إلَى الْقِبْلَة ؟ فَقَالَ الْغَزَالِيّ فِي الْإِحْيَاء : إنَّ الصَّفّ الْأَوَّل هُوَ الْمُتَّصِل الَّذِي فِي فِنَاء الْمِنْبَر وَمَا عَنْ طَرَفَيْهِ مَقْطُوع . قَالَ : وَكَانَ سُفْيَانُ يَقُول : الصَّفّ الْأَوَّل هُوَ الْخَارِج بَيْن يَدَيْ الْمِنْبَر . قَالَ : وَلَا يَبْعُد أَنْ يُقَال : الْأَقْرَب إلَى الْقِبْلَة هُوَ الْأَوَّل . وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْح مُسْلِمٍ : الصَّفّ الْأَوَّل الْمَمْدُوح الَّذِي وَرَدَتْ الْأَحَادِيث بِفَضْلِهِ هُوَ الصَّفّ الَّذِي يَلِي الْإِمَام سَوَاء جَاءَ صَاحِبه مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا ، سَوَاء تَخَلَّلَهُ مَقْصُورَةٌ أَوْ نَحْوُهَا ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ . وَقَالَ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء : الصَّفّ الْأَوَّل هُوَ الْمُتَّصِل مِنْ طَرَف الْمَسْجِد إلَى طَرَفه لَا تَقْطَعهُ مَقْصُورَة وَنَحْوهَا ، فَإِنْ تَخَلَّلَ الَّذِي يَلِي الْإِمَام فَلَيْسَ بِأَوَّلَ ، بَلْ الْأَوَّل مَا لَمْ يَتَخَلَّلهُ شَيْء ، قَالَ : وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيّ .(2/128)
قَوْلُهُ : « إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ » إلَى آخِرِهِ لَفْظ أَبِي دَاوُد « إنَّ اللَّه وَمَلَائِكَته يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِن الصُّفُوف » . وَفِيهِ اسْتِحْبَاب الْكَوْن فِي يَمِينِ الصَّفّ الْأَوَّل وَمَا بَعْده مِنْ الصُّفُوف .
قَوْلُهُ : ( لَا يَزَال قَوْم يَتَأَخَّرُونَ ) زَادَ أَبُو دَاوُد : « عَنْ الصَّفّ الْأَوَّل » .
قَوْلُهُ : ( قَوْلُهُ : ( حَتَّى يُؤَخِّرهُمْ اللَّه ) أَيْ يُؤَخِّرهُمْ اللَّهُ عَنْ رَحْمَته وَعَظِيم فَضْله ، أَوْ عَنْ رُتْبَة الْعُلَمَاء الْمَأْخُوذ عَنْهُمْ ، أَوْ عَنْ رُتْبَة السَّابِقِينَ . وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى الْكَوْن فِي الصَّفّ الْأَوَّل وَالتَّنْفِير عَنْ التَّأَخُّر عَنْهُ .
بَاب هَلْ يَأْخُذ الْقَوْم مَصَافَّهُمْ قَبْل الْإِمَام أَمْ لَا
1489- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ تُقَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُقَامَهُ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
1490- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ قِيَامًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَجَ إلَيْنَا ، فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ تَذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ ، فَقَالَ لَنَا : « مَكَانَكُمْ » . فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا - يَعْنِي قِيَامًا - ثُمَّ رَجَعَ فَاغْتَسَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ ، فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1491- وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ : حَتَّى إذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ وَانْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ انْصَرَفَ . وَذَكَرَ نَحْوه .(2/129)
1492- وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ ، وَلَمْ يَذْكُر الْبُخَارِيُّ فِيهِ « قَدْ خَرَجْتُ » .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( فَيَأْخُذ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ ) يَعْنِي مَكَانهمْ مِنْ الصَّفّ . قَوْلُهُ : ( قَبْل أَنْ يَخْرُج ) فِيهِ جَوَاز قِيَام الْمُؤْتَمِّينَ وَتَعْدِيل الصُّفُوف قَبْل خُرُوج الْإِمَام ، وَهُوَ مُعَارِض لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَيُجْمَع بَيْنهمَا بِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا وَقَعَ لِبَيَانِ الْجَوَاز ، أَو بِأَنَّ صَنِيعهمْ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ كَانَ سَبَبًا لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيث أَبِي قَتَادَةَ ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ سَاعَة تُقَام الصَّلَاة وَلَوْ لَمْ يَخْرُج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقَع لَهُ شُغْل يُبْطِئ فِيهِ عَنْ الْخُرُوج فَيَشُقّ عَلَيْهِمْ انْتِظَاره .(2/130)
قَوْله : ( إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قَدْ خَرَجْتُ ) قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ أَنَّ قِيَام الْمُؤْتَمِّينَ فِي الْمَسْجِد إلَى الصَّلَاة يَكُونُ عِنْد رُؤْيَة الْإِمَام . وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُمْ يَقُومُونَ إذَا كَانَ الْإِمَام مَعَهُمْ فِي الْمَسْجِد عِنْد فَرَاغ الْإِقَامَة . وَعَنْ أَنَس أَنَّهُ كَانَ يَقُوم إذَا قَالَ الْمُؤَذِّن : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ . وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ : لَمْ أَسْمَع فِي قِيَام النَّاس حِين تُقَام الصَّلَاةُ بِحَدٍّ مَحْدُود ، إلَّا أَنِّي أَرَى ذَلِكَ عَلَى طَاقَة النَّاس فَإِنَّ فِيهِمْ الثَّقِيل وَالْخَفِيف وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِمَام فِي الْمَسْجِد ، فَذَهَبَ الْجُمْهُور إلَى أَنَّهُمْ يَقُومُونَ حِين يَرَوْنَهُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَاب كَرَاهَة الصَّفّ بَيْن السَّوَارِي لِلْمَأْمُومِ
1493- عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ ، قَالَ : صَلَّيْنَا خَلْفَ أَمِيرٍ مِنْ الْأُمَرَاءِ فَاضْطَرَّنَا النَّاسُ فَصَلَّيْنَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1494- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
1495- وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْكَعْبَةَ صَلَّى بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ .(2/131)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى كَرَاهَة الصَّلَاة بَيْن السَّوَارِي ، وَالْعِلَّة فِي الْكَرَاهَة مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ إمَّا لِانْقِطَاعِ الصَّفّ . أَوْ لِأَنَّهُ مَوْضِع جَمْع النِّعَال . قَالَ ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ : وَالْأَوَّل أَشْبَه لِأَنَّ الثَّانِي مُحْدَث .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَلَا خِلَاف فِي جَوَازه عِنْد الضِّيق ، وَأَمَّا عِنْد السَّعَة فَهُوَ مَكْرُوه لِلْجَمَاعَةِ ، فَأَمَّا الْوَاحِد فَلَا بَأْس بِهِ ، وَقَدْ صَلَّى - صلى الله عليه وسلم - فِي الْكَعْبَة بَيْن سَوَارِيهَا .
بَاب وُقُوف الْإِمَام أَعْلَى مِنْ الْمَأْمُوم وَبِالْعَكْسِ
1496- عَنْ هَمَّامٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ أَمَّ النَّاسَ بِالْمَدَائِنِ عَلَى دُكَّانٍ ، فَأَخَذَ أَبُو مَسْعُودٍ بِقَمِيصِهِ فَجَبَذَهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : بَلَى قَدْ ذَكَرْتُ حِينَ مَدَدْتنِي . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1497- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُومَ الْإِمَامُ فَوْقَ شَيْءٍ وَالنَّاسُ خَلْفَهُ ، يَعْنِي أَسْفَلَ مِنْهُ . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
1498- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ : أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ وُضِعَ ، فَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ رَكَعَ ثُمَّ نَزَلَ الْقَهْقَرَى ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ ، ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي ، وَلِتَعَلَّمُوا صَلَاتِي . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(2/132)
وَمَنْ ذَهَبَ إلَى الْكَرَاهَة حَمَلَ هَذَا عَلَى الْعُلُوِّ الْيَسِير وَرَخَّصَ فِيهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بصَلَاةِ الْإِمَامِ .
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ فِي دَارِ أَبِي نَافِعٍ عَنْ يَمِينِ الْمَسْجِدِ فِي غُرْفَةٍ قَدْرَ قَامَةٍ مِنْهَا ، لَهَا بَابٌ مُشْرِفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ بِالْبَصْرَةِ ، فَكَانَ أَنَسٌ يَجْمَعُ فِيهِ وَيَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ . رَوَاهُمَا سَعِيدٌ فِي سُنَنه .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الدُّكَّانُ : الْحَانُوت ، وَهِيَ الدَّكَّة بِفَتْحِ الدَّال : وَهُوَ الْمَكَان الْمُرْتَفِع يُجْلَس عَلَيْهِ . وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ يُكْرَه ارْتِفَاع الْإِمَام فِي الْمَجْلِس . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْحَاصِل مِنْ الْأَدِلَّة مَنْع ارْتِفَاع الْإِمَام عَلَى الْمُؤْتَمِّينَ مِنْ غَيْر فَرْق بَيْن الْمَسْجِد وَغَيْره وَبَيْن الْقَامَة وَدُونهَا وَفَوْقهَا ، لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ : إنَّهُمْ كَانُوا يُنْهَوْنَ عَنْ ذَلِكَ . وَقَوْل ابْنِ مَسْعُودٍ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . الْحَدِيث . وَأَمَّا صَلَاته - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَر . فَقِيلَ : إنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِغَرَضِ التَّعْلِيم كَمَا يَدُلّ عَلَيْهِ . قَوْله : « وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي » . وَغَايَة مَا فِيهِ جَوَاز وُقُوف الْإِمَام عَلَى مَحَلّ أَرْفَع مِنْ الْمُؤْتَمِّينَ إذَا أَرَادَ تَعْلِيمهمْ . قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلّ بِهِ عَلَى جَوَاز الِارْتِفَاع مِنْ غَيْر قَصْد التَّعْلِيم لَمْ يَسْتَقِمْ .
بَاب مَا جَاءَ فِي الْحَائِل بَيْن الْإِمَام وَالْمَأْمُوم(2/133)
1499- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ لَنَا حَصِيرَةٌ نَبْسُطُهَا بِالنَّهَارِ ، وَنَحْتَجِزُ بِهَا بِاللَّيْلِ ، فَصَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ قِرَاءَته فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ ، فَلَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ كَثُرُوا فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : اكْلَفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحَائِل بَيْن الْإِمَام وَالْمُؤْتَمِّينَ غَيْر مَانِع مِنْ صِحَّة الصَّلَاة .
بَاب مَا جَاءَ فِيمَنْ يُلَازِم بُقْعَة بِعَيْنِهَا مِنْ الْمَسْجِد
1500- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى فِي الصَّلَاةِ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنْ نَقْرَةِ الْغُرَابِ ، وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ ، وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمُقَامَ الْوَاحِدَ كَإِيطَانِ الْبَعِيرِ . رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا التِّرْمِذِيَّ .
1501- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ : أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ ، وَقَالَ : رَأَيْتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1502- وَلِمُسْلِمٍ أَنَّ سَلَمَةَ كَانَ يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْمُصْحَف يُسَبِّح فِيهِ ، وَذَكَر أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَحَرَّى ذَلِكَ الْمَكَانَ .(2/134)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْله : ( الَّتِي عِنْد الْمُصْحَف ) هَذَا دَالّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِلْمُصْحَفِ مَوْضِع خَاصّ بِهِ . وَوَقَعَ عِنْد مُسْلِمٍ بِلَفْظِ يُصَلِّي وَرَاءَ الصُّنْدُوقِ . وَكَأَنَّهُ كَانَ لِلْمُصْحَفِ صُنْدُوق يُوضَع فِيهِ . قَالَ الْحَافِظ : وَالْأُسْطُوَانَة الْمَذْكُورَة حَقَّقَ لَنَا بَعْض مَشَايِخنَا أَنَّهَا الْمُتَوَسِّطَة فِي الرَّوْضَةِ الْمُكَرَّمَةِ وَأَنَّهَا تُعْرَف بِأُسْطُوَانَةِ الْمُهَاجِرِينَ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيث الْأَوَّل يَدُلّ عَلَى كَرَاهَة اعْتِيَاد الرَّجُل بُقْعَة مِنْ بِقَاعِ الْمَسْجِد . وَلَا يُعَارِضهُ الْحَدِيث الثَّانِي لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُول أَنَّ فِعْله - صلى الله عليه وسلم - يَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ مِنْ الْقَوْل الشَّامِل لَهُ بِطَرِيقِ الظُّهُور كَمَا تَقَدَّمَ غَيْر مَرَّة إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيل التَّأَسِّي وَعِلَّة النَّهْي عَنْ الْمُوَاظَبَة عَلَى مَكَان فِي الْمَسْجِد مَا سَيَأْتِي فِي الْبَاب الَّذِي بَعْد هَذَا مِنْ مَشْرُوعِيَّة تَكْثِير مَوَاضِع الْعِبَادَة .
قَالَ الْمُصَنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ :
قُلْتُ : وَهَذَا مَحْمُول عَلَى النَّفَل ، وَيُحْمَل النَّهْي عَلَى مَنْ لَازَمَ مُطْلَقًا لِلْفَرْضِ وَالنَّفَل .
بَاب اسْتِحْبَاب التَّطَوُّع فِي غَيْر مَوْضِع الْمَكْتُوبَة
1503- عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يُصَلِّي الْإِمَامُ فِي مُقَامِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْمَكْتُوبَة حَتَّى يَتَنَحَّى عَنْهُ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد .(2/135)
1504- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا صَلَّى أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ أَوْ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1505- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَا : يَعْنِي فِي السُّبْحَة .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة انْتِقَال الْمُصَلِّي عَنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ .
كِتَاب صَلَاة الْمَرِيض
1506- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ : « صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا مُسْلِمًا .
1507- وَزَادَ النَّسَائِيّ : « فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا » .
1508- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا إنْ اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى قَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْجُدَ أَوْمَأَ بِرَأْسِهِ ، وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، صَلَّى مُسْتَلْقِيًا رِجْلَاهُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .(2/136)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَظَاهِر الْأَحَادِيث أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ الْإِيمَاء مِنْ الْمُسْتَلْقِي لَمْ يَجِب عَلَيْهِ شَيْء بَعْد ذَلِكَ . وَقِيلَ : يَجِب الْإِيمَاء بِالْعَيْنَيْنِ . وَقِيلَ : بِالْقَلْبِ وَقِيلَ : يَجِب إمْرَار الْقُرْآن عَلَى الْقَلْب وَالذِّكْر عَلَى اللِّسَان ثُمَّ عَلَى الْقَلْب ، وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْل اللَّه تَعَالَى ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? . وَقَوْله - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » . انْتَهَى .
قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : مَتَى عَجَزَ الْمَرِيضُ عَنِ الإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلاة وَلا يَلْزَمُهُ الإِيمَاءِ بَطَرْفِهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةٍ وَرِوَايَة عَنْ أَحْمَدٍ .
بَاب الصَّلَاة فِي السَّفِينَة
1509- عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : كَيْفَ أُصَلِّي فِي السَّفِينَةِ ؟ قَالَ : « صَلِّ فِيهَا قَائِمًا إلَّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ » . وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْط الصَّحِيحَيْنِ .
1510- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةُ قَالَ : صَحِبْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فِي سَفِينَةٍ فَصَلَّوْا قِيَامًا فِي جَمَاعَةٍ أَمَّهُمْ بَعْضُهُمْ وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجُدِّ . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ .(2/137)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( صَلِّ فِيهَا قَائِمًا إلَّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ ) . فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ يُصَلِّي فِي السَّفِينَةِ الْقِيَامُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ إلَّا عِنْدَ خَشْيَةِ الْغَرَقِ . وَيُقَاسُ عَلَى مَخَافَةِ الْغَرَقِ مَا سِوَاهَا مِنْ الْأَعْذَارِ .
قَوْلُهُ : ( وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجُدِّ ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ : هُوَ شَاطِئُ الْبَحْرِ . وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَةِ وَإِنْ كَانَ الْخُرُوجُ إلَى الْبَرِّ مُمْكِنًا .
أَبْوَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ
بَابُ اخْتِيَارِ الْقَصْرِ وَجَوَازِ الْإِتْمَامِ
1511- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1512- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ? فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا ? . فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ ، فَقَالَ : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : « صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .(2/138)
1513- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ ، فَقُلْتُ : بِأَبِي وَأُمِّي أَفْطَرْتَ وَصُمْتُ ، وَقَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ ، فَقَالَ : « أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ » . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : هَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ .
1514- وَعَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ ، وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ : إسْنَادٌ صَحِيحٌ .
1515- وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ ، وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ ، وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ ، عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
1516- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَانَا وَنَحْنُ ضُلَّالٌ فَعَلَّمَنَا ، فَكَانَ فِيمَا عَلَّمَنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
1517- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/139)
قَوْلُهُ : ( صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ ) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : وَصَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ النَّوَوِيُّ : تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي غَيْرِ مِنًى ، وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ بِإِتْمَامِ عُثْمَانَ بَعَدَ صَدْرٍ مِنْ خِلَافَتِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْإِتْمَامِ بِمِنًى خَاصَّة . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ الْقَصْرُ وَاجِبٌ أَمْ رُخْصَةٌ وَالتَّمَامُ أَفْضَلُ ؟ إِلِى أَنْ قَالَ : وَقَدْ لَاحَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْنَا رُجْحَانُ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ .
قَوْلُهَا : ( خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي عُمْرَةِ رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ ، وَقَصَرَ وَأَتْمَمْتُ ، فَقُلْتُ : بِأَبِي وَأُمِّي أَفْطَرْتَ وَصُمْتُ ، وَقَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ ، فَقَالَ : « أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ » . قَالَ الشَّارِحُ : فَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ حُجَّةً ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْتَهِضُ لِمُعَارَضَةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ كَانَ يُتِمُّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي السَّفَرِ ، وَحَدِيثُ عَائِشَة فِي مُخَالَفَةِ ذَلِكَ لا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّة .
بَابُ الرَّدّ عَلَى مَنْ قَالَ إذَا خَرَجَ نَهَارَا لَمْ يَقْصُر إلَى اللَّيْل(2/140)
1518- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1519- وَعَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَزِيدَ الْهُنَائِيِّ قَالَ : سَأَلْتُ أَنَسًا عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ ، أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . - شُعْبَةُ الشَّاكُّ - رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .(2/141)
قَوْلُهُ : ( وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى إبَاحَة الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ ، لِأَنَّ بَيْن الْمَدِينَة وَذِي الْحُلَيْفَةِ سِتَّة أَمْيَال . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَا الْحُلَيْفَةِ لَمْ تَكُنْ مُنْتَهَى السَّفَر ، وَإِنَّمَا خَرَجَ إلَيْهَا حَيْثُ كَانَ قَاصِدَا إلَى مَكَّةَ وَاتَّفَقَ نُزُوله بِهَا وَكَانَتْ أَوَّل صَلَاة حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْر فَقَصَرَهَا وَاسْتَمَرَّ يَقْصُر إلَى أَنْ يَرْجَعَ . وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْخِلَاف الطَّوِيل بَيْن عُلَمَاء الْإِسْلَام فِي مِقْدَار الْمَسَافَةِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا الصَّلَاةَ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِر وَغَيْره فِيهَا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ قَوْلَا ، أَقَلّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ : يَوْم وَلَيْلَة ، وَأَكْثَره : مَا دَامَ غَائِبَا عَنْ بَلَده . وَقِيلَ : أَقَلّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ الْمِيل كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ ، وَاحْتُجَّ لَهُ بِإِطْلَاقِ السَّفَر فِي كِتَابِ اللَّه تَعَالَى ، وَفِي سُنَّة رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - . وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ أَنَسٍ الظَّاهِرِيَّةُ فَذَهَبُوا إلَى أَنَّ أَقَلّ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثَلَاثَة أَمْيَال . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَهُوَ أَصَحّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَأَصْرَحه ، وَقَدْ حَمَلَهُ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد الْمَسَافَة الَّتِي يُبْتَدَأُ مِنْهَا الْقَصْر لَا غَايَة السَّفَر . قَالَ : وَلَا يَخْفَى بَعَدَ هَذَا الْحَمْل . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفُقَهَاءُ(2/142)
أَصْحَاب الْحَدِيثِ وَغَيْرهمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز إلَّا فِي مَسِيرَة مَرْحَلَتَيْنِ وَهُمَا ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ مِيلًا هَاشِمِيَّة كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ اخْتِيَاره أَنَّ أَقَلّ مَسَافَة الْقَصْر يَوْم وَلَيْلَة . قَالَ الشَّارِحُ : وَأَمَّا حَدِيث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ » . فَلَيْسَ مِمَّا تَقُوم بِهِ حُجَّة ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوف عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ .
إذَا تَقَرَّرَ لَك هَذَا فَالْمُتَيَقَّن هُوَ ثَلَاثَة فَرَاسِخَ ، لِأَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ مُتَرَدِّد مَا بَيْنهَا وَبَيْن ثَلَاثَة أَمْيَال ، وَالثَّلَاثَة الْأَمْيَال مُنْدَرِجَة فِي الثَّلَاثَة الْفَرَاسِخِ ، فَيُؤْخَذ بِالْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِر : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِمُرِيدِ السَّفَر أَنْ يَقْصُر إذَا خَرَجَ عَنْ جَمِيع بُيُوتِ الْقَرْيَة الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الْبُيُوت ، فَذَهَبَ الْجُمْهُور إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَة جَمِيع الْبُيُوت . انْتَهَى مُلَخَّصًا .(2/143)
قال في الاخيارات : وَيَجُوزُ قَصْرُ الصَّلاةَ فِي كُلِّ مَا سُمِّيَ سَفَرًا سَوَاء قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَلا يَتَقَدَّرُ عَدُّهُ . وَهُوَ مَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ وَنَصَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِيهِ وَسَوَاء كَانَ مُبَاحًا أَوْ محرمًا . وَنَصَرَهُ ابْنُ عقيلٍ فِي مَوْضِعٍ ، وَقَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَوَاء نَوَى إِقَامَة أَكْثَر مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ لا ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ . انْتَهَى . وَاللهُ أَعْلَمُ .
بَابُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلَدًا فَنَوَى الْإِقَامَة فِيهِ أَرْبَعًا يَقْصُر
1520- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَى مَكَّةَ فِي الْمَسِيرِ وَالْمُقَامِ بِمَكَّةَ إلَى أَنْ رَجَعُوا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَده .
1521- وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ، حَتَّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ قُلْتُ : أَقَمْتُمْ بِهَا شَيْئًا ؟ قَالَ : أَقَمْنَا بِهَا عَشْرًا . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1522- وَلِمُسْلِمٍ : خَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْحَجِّ . ثُمَّ ذَكَرَ مِثْله .
وَقَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا وَجْه حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ حَسَبُ مُقَام النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ وَمِنًى ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لَهُ غَيْر هَذَا .(2/144)
1523- وَاحْتُجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، فَأَقَامَ بِهَا الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ ، وَصَلَّى الصُّبْحَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى مِنًى ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُتَوَجِّهًا إلَى الْمَدِينَةِ ، بَعْدَ أَيَّامَ التَّشْرِيق .
وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلّه فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَقّ أَنَّ مَنْ حَطَّ رَحْله بِبَلَدٍ وَنَوَى الْإِقَامَة بِهَا أَيَّامًا مِنْ دُون تَرَدُّد لَا يُقَال لَهُ : مُسَافِر ، فَيُتِمّ الصَّلَاة وَلَا يَقْصُر .
بَابُ مَنْ أَقَامَ لَقَضَاءِ حَاجَة وَلَمْ يَجْمَع إقَامَة
1524- عَنْ جَابِرٍ قَالَ : أَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1525- وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إلَّا رَكْعَتَيْنِ يَقُولُ : « يَا أَهْلَ الْبَلْدَةِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا سَفْرٌ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ إقَامَةً .
1526- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ أَقَامَ فِيهَا تِسْعَ عَشْرَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، قَالَ : فَنَحْنُ إذَا سَافَرْنَا فَأَقَمْنَا تِسْعَ عَشْرَةَ قَصَرْنَا ، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .(2/145)
1527- وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَكِنَّهُ قَالَ : سَبْعَ عَشْرَةَ . وَقَالَ : قَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَقَامَ تِسْعَ عَشْرَةَ .
وَعَنْ ثُمَامَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ قَالَ : خَرَجْتُ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ : مَا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ ؟ قَالَ : رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ثَلَاثًا ، قُلْتُ : أَرَأَيْتَ إنْ كُنَّا بِذِي الْمَجَازِ ؟ قَالَ : وَمَا ذِي الْمَجَازِ ؟ قُلْتُ : مَكَانٌ نَجْتَمِعُ فِيهِ ، وَنَبِيعُ فِيهِ ، وَنَمْكُثُ عِشْرِينَ لَيْلَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ كُنْتُ بِأَذْرَبِيجَانَ - لَا أَدْرِي قَالَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ - فَرَأَيْتُهُمْ يُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ .(2/146)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِير الْمُدَّةِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا الْمُسَافِرُ إذَا أَقَامَ بِبَلْدَةٍ وَكَانَ مُتَرَدِّدًا غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى إقَامَةِ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْحَقّ أَنَّ الْأَصْل فِي الْمُقِيم الْإِتْمَام ، لِأَنَّ الْقَصْر لَمْ يُشْرِعْهُ الشَّارِعُ إلَّا لِلْمُسَافِرِ ، وَالْمُقِيم غَيْر مُسَافِر ، فَلَوْلَا مَا ثَبَتَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَصْره بِمَكَّةَ وَتَبُوكَ مَعَ الْإِقَامَة لَكَانَ الْمُتَعَيَّن هُوَ الْإِتْمَام ، فَلَا يَنْتَقِل عَنْ ذَلِكَ الْأَصْل إلا بِدَلِيلٍ ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيل عَلَى الْقَصْر مَعَ التَّرَدُّد إلَى عِشْرِينَ يَوْمًا كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ، وَلَمْ يَصِحّ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَصَرَ فِي الْإِقَامَة أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ فَيُقْتَصَر عَلَى هَذَا الْمِقْدَار ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَصْره - صلى الله عليه وسلم - فِي تِلْكَ الْمُدَّة لَا يَنْفِي الْقَصْر فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا ، وَلَكِنَّ مُلَاحَظَة الْأَصْل الْمَذْكُور هِيَ الْقَاضِيَة بِذَلِكَ .
بَابُ مَنْ اجْتَازَ فِي بَلَدٍ فَتَزَوَّجَ فِيهِ أَوْ لَهُ فِيهِ زَوْجَةٌ فَلْيُتِمَّ
1528- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ ، وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/147)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَدِيث أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبَيْهَقِيُّ وَأَعَلَّهُ بِالِانْقِطَاعِ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَالْمَنْقُول فِي سَبَبِ إتْمَامِ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَصْر مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ شَاخِصَا سَائِرَا . وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ فِي مَكَان أَثْنَاءَ سَفَرِهِ فَلَهُ حُكْم الْمُقِيم فَيُتِمّ . وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : الْوَجْه الصَّحِيح فِي ذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ كَانَا يَرَيَانِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا قَصَرَ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَيْسَرِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أُمَّته ، وَآخَذَا أَنْفُسهمَا بِالشِّدَّةِ .(2/148)
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : إنَّمَا صَلَّى عُثْمَان بِمِنًى أَرْبَعًا لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الْعَام ، فَأَحَبَّ أَنْ يُعْلِمهُمْ أَنَّ الصَّلَاة أَرْبَع . وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا نَادَاهُ فِي مِنًى : يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مَا زِلْت أُصَلِّيهَا مُنْذُ رَأَيْتُك عَام أَوَّل رَكْعَتَيْنِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا . قال الموفق في المغني : وَإِنْ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ عَلَى بَلَدٍ لَهُ فِيهِ أَهْلٌ أَوْ مَالٍ فَقَالَ أَحْمَدٌ فِي مَوْضِعٍ : يَتِمُّ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : يَتِمُّ إِلا أَنْ يَكُونَ مَارًا . وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ الزُّهَرِيُّ : إِذَا مَرَّ بِمَزْرَعَةٍ لَهُ أَتَمَّ . وَقَالَ مَالِكٌ : إِذَا مَرَّ بِقَرْيَةٍ فِيهَا أَهْلُهُ أَوْ مَالُهُ أَتَمَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا يَوْمًا وَلَيْلَةٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرُ : يَقْصِرُ مَا لَمْ يجمعْ عَلَى إِقَامَةِ أَرْبَعٍ لأَنَّهُ مُسَافِرٌ لَمْ يَجْمَعْ عَلَى أَرْبَعٍ وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانٍ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّة مُنْذُ قَدِمْتُ ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلاةَ الْمُقِيمِ » . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِذَا قَدِمْتَ عَلَى أَهْلٍ لَكَ أَوْ مَالٍ فَصَلِّ صَلاةَ الْمُقِيمِ وَلأَنَّهُ مُقِيمٌ بِبَلَدٍ فِيهِ أَهْلُهُ فَأَشْبَهُ الْبَلَد الذي سَافَرَ مِنْهُ . انْتَهَى .
أَبْوَابُ الْجَمْع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ .
بَابُ جَوَازه فِي السَّفَر فِي وَقْت إحْدَاهُمَا(2/149)
1529- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا رَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ نَزَلَ فَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ زَاغَتْ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1530- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
1531- وَعَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَهَا إلَى الْعَصْرِ يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ سَارَ ، وَكَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ ، وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ عَجَّلَ الْعِشَاءَ فَصَلَّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
1532- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : كَانَ فِي السَّفَرِ إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ ، فَإِذَا لَمْ تَزِغْ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ سَارَ حَتَّى إذَا حَانَتْ الْعَصْرُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَإِذَا حَانَتْ لَهُ الْمَغْرِبُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ ، وَإِذَا لَمْ تَحِنْ فِي مَنْزِلِهِ رَكِبَ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْعِشَاءُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/150)
1533- وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِنَحْوِهِ وَقَالَ فِيهِ : وَإِذَا سَارَ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ .
1534- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّهُ اُسْتُغِيثَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِهِ فَجَدَّ بِهِ السَّيْرُ فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظ وَصَحَّحَهُ .
1535- وَمَعْنَاهُ لِسَائِرِ الْجَمَاعَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .(2/151)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيل عَلَى جَوَاز جَمْعِ التَّأْخِيرِ فِي السَّفَرِ ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَاف فِي الْجَمْع فِي السَّفَر ، فَذَهَبَ إلَى جَوَازه مُطْلَقًا تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا كَثِير مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَشْهَبُ . وَقَالَ قَوْم : لَا يَجُوز الْجَمْع مُطْلَقًا إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ . وَقَالَ اللَّيْثُ : وَهُوَ الْمَشْهُور عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ الْجَمْع يَخْتَصّ بِمَنْ جَدّ بِهِ السَّيْر . إِلِى أَنْ قَالَ : وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي الْمُوَطَّأِ : إنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَّرَ الصَّلَاةَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا . وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا أَوْضَحُ دَلِيل فِي الرَّدّ عَلَى مَنْ قَالَ : لَا يَجْمَع إلَّا مَنْ جَدَّ بِهِ السَّيْر وَهُوَ قَاطِع لِلِالْتِبَاسِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَكَأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَاز ، وَكَانَ أَكْثَر عَادَته مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ جَمْع الْمُقِيم لِمَطَرٍ أَوْ غَيْره
1536- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(2/152)
1537- وَفِي لَفْظ لِلْجَمَاعَةِ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ : جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ . قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : مَا أَرَادَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ مُطْلَقًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَّخِذَ ذَلِكَ خُلُقًا وَعَادَةً . وَذَهَبَ الْجُمْهُور إلَى أَنَّ الْجَمْع لِغَيْرِ عُذْر لَا يَجُوز .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قُلْت : وَهَذَا يَدُلّ بِفَحْوَاهُ عَلَى الْجَمْع لِلْمَطَرِ وَالْخَوْف وَلِلْمَرَضِ ، وَإِنَّمَا خُولِفَ ظَاهِر مَنْطُوقه فِي الْجَمْع لِغَيْرِ عُذْر لِلْإِجْمَاعِ وَلِأَخْبَارِ الْمَوَاقِيت فَتَبْقَى فَحَوَاهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ ، وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْجَمْع . لِلْمُسْتَحَاضَةِ ، وَالِاسْتِحَاضَة نَوْع مَرَض . وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءُ بَيْن الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمَطَر جَمَعَ مَعَهُمْ . وَلِلْأَثْرَمِ فِي سُنَنه عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ : مِنْ السُّنَّة إذَا كَانَ يَوْم مَطِير أَنْ يُجْمَع بَيْن الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ .
بَابُ الْجَمْع بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ مِنْ غَيْر تَطَوُّع بَيْنَهُمَا
1538- عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا ، وَلَا عَلَى أَثَرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَالنَّسَائِيُّ .(2/153)
1539- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ ، وَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ . مُخْتَصَرٌ لِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ .
1540- وَعَنْ أُسَامَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاءُ فَصَلَّاهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
1541- وَفِي لَفْظ : رَكِبَ حَتَّى جِئْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ فِي مَنَازِلهمْ ، وَلَمْ يَحُلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَصَلَّى ثُمَّ حَلُّوا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
1542- وَفِي لَفْظ : أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلُّوا الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ حَلُّوا رِحَالَهُمْ وَأَعَنْتُهُ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَهُوَ حُجَّة فِي جَوَاز التَّفْرِيق بَيْنَ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي وَقْت الثَّانِيَة .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إنْسَان بَعِيرَهُ ) فِيهِ جَوَاز الْفَصْلِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ بِمِثْلِ هَذَا .
أَبْوَابُ الْجُمُعَة
بَابُ التَّغْلِيظ فِي تَرْكهَا(2/154)
1543- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ : « لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
1544- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ : « لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
1545- وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
1546- وَعَنْ أَبِي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ - وَلَهُ صُحْبَةٌ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ » . رَوَاهُ الْخَمْسَة .
1547- وَلِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيث جَابِرٍ نَحْوه .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَة مِنْ فُرُوض الْأَعْيَان . وَقَدْ حَكَى ابْنِ الْمُنْذِر الْإِجْمَاع عَلَى أَنَّهَا فَرْض عَيْن . وَقَالَ ابْنُ قَدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ الْجُمع . قَالَ الشَّارِحُ : وَمِنْ جُمْلَة الْأَدِلَّة الدَّالَّة عَلَى أَنَّ الْجُمُعَة مِنْ فَرَائِض الْأَعْيَان قَوْل اللَّه تَعَالَى : ? إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا ? .
بَابُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا تَجِبُ(2/155)
1548- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1549- وَالدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فِيهِ : « إنَّمَا الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ » .
1550- وَعَنْ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
1551- وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا أَرْبَعَةً : عَبْدٌ مَمْلُوكٌ ، أَوْ امْرَأَةٌ ، أَوْ صَبِيٌّ ، أَوْ مَرِيضٌ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ : وَطَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَسْمَع مِنْهُ شَيْئًا .
1552- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَلَا هَلْ عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الصُّبَّةَ مِنْ الْغَنَمِ عَلَى رَأْسِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْكَلَأُ فَيَرْتَفِعُ وتَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلا يَشْهَدُهَا ، وَتَجِيءُ الْجُمُعَةُ فَلَا يَشْهَدُهَا ، حَتَّى يَطْبَعَ عَلَى قَلْبِهِ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .(2/156)
1553- وَعَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ، قَالَ : فَتَقَدَّمَ أَصْحَابُهُ وَقَالَ : أَتَخَلَّفُ فَأُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ ، قَالَ : فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ رَآهُ ، فَقَالَ : مَا مَنَعَك أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِك ؟ فَقَالَ : أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ الْجُمُعَةَ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَتَهُمْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ شُعْبَةُ : لَمْ يَسْمَع الْحَكَمُ مِنْ مِقْسَمٍ إلَّا خَمْسَة أَحَادِيثَ وَعَدَّهَا ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا عَدَّهُ .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا عَلَيْهِ هَيْئَةُ السَّفَرِ فَسَمِعَهُ يَقُولُ : لَوْلَا أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ جُمُعَةٍ لَخَرَجْتُ ، فَقَالَ عُمَرُ : اُخْرُجْ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَحْبِسُ عَنْ سَفَرٍ . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَده .(2/157)
قَوْلُهُ : « الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، حَكَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُمْ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ مَالِكٍ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَاوِي الْحَدِيثِ . وَحَدِيثُ الْبَابِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْمَقَال الْمُتَقَدِّم فَيَشْهَد لِصِحَّتِهِ قَوْله تَعَالَى : ? إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ? . الْآيَة . إِلِى أَنْ قَالَ : وَقَدْ حَكَى الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْجُمُعَة عَلَى أَهْل الْمِصْر وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا النِّدَاء .(2/158)
قَوْلُهُ : « أَلَا هَلْ عَسَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ الصُّبَّةَ مِنْ الْغَنَمِ » . قَالَ الشَّارِحُ : الصُّبَّة بِصَادٍ مُهْمَلَة مَضْمُومَة وَبَعْدهَا بَاءٌ مُوَحَّدَة مُشَدَّدَة . قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هُنَّ مِنْ الْعِشْرِينَ إلَى الْأَرْبَعِينَ ضَأْنًا ، وَقِيلَ : مَعْزًا خَاصَّة ، وَقِيلَ : مَا بَيْن السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ ، وَلَفْظ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ « أَنْ يَتَّخِذ الضِّبْنَة » قَالَ الْعِرَاقِيُّ : بِكَسْرِ الضَّاد الْمُعْجَمَة ثُمَّ بَاءٌ مُوَحَّدَة سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُون : هِيَ مَا تَحْت يَدك مِنْ مَال أَوْ عِيَال . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ فِيهِ الْحَث عَلَى حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَالتَّوَعُّدُ عَلَى التَّشَاغُلِ عَنْهَا بِالْمَالِ . وَفِيهِ أَنَّهَا لَا تَسْقُط عَمَّنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ بَلَد إقَامَتهَا وَإِنَّ طَلَبَ الْكَلَأ وَنَحْوه لَا يَكُون عُذْرَا فِي تَرْكهَا . إِلِى أَنْ قَالَ : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَاز السَّفَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الزَّوَالِ عَلَى خَمْسَة أَقْوَال : الْأَوَّل : الْجَوَاز ، قَالَ الْعِرَاقِيُّ : وَهُوَ قَوْل أَكْثَر الْعُلَمَاءِ . وَالثَّانِي : الْمَنْع مِنْهُ . وَالثَّالِثُ : جَوَازه لِسَفَرِ الْجِهَاد دُون غَيْره . وَالرَّابِع : جَوَازه لِلسَّفَرِ الْوَاجِبِ دُون غَيْره . وَالْخَامِس : جَوَازه لِسَفَرِ الطَّاعَة وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا . وَأَمَّا بَعْد الزَّوَال فَقَالَ الْعِرَاقِيُّ : قَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاق عَلَى عَدَم جَوَازه وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى جَوَازه ، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ عَامَّة الْعُلَمَاء . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ انْعِقَاد الْجُمُعَة بِأَرْبَعِينَ وَإِقَامَتهَا فِي الْقُرَى(2/159)
1554- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ، قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : إذَا سَمِعْت النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ يُقَال لَهُ : نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ ، قُلْت : كَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ رَجُلًا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1555- وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ فِيهِ : كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَكَّةَ .
1556- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنْ الْبَحْرَيْنِ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : بِجُوَاثَى : قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ .(2/160)
قَوْلُهُ : ( كَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ رَجُلًا ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِأَرْبَعِينَ رَجُلًا . وَأُجِيبَ : بِأَنَّهُ لَا دَلَالَة فِي الْحَدِيث عَلَى اشْتِرَاط الْأَرْبَعِينَ ، لِأَنَّ هَذِهِ وَاقِعَة عَيْن . وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ مَنْ دُون الْأَرْبَعِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَة . وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُول أَنَّ وَقَائِع الْأَعْيَان لَا يُحْتَجّ بِهَا عَلَى الْعُمُوم . وَقَوْلُهُمْ : لَمْ يَثْبُت أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْجُمُعَة بِأَقَلّ مِنْ أَرْبَعِينَ ، يَرُدّهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْآتِي فِي بَابِ انْفِضَاض الْعَدَد لِتَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا اثْنَا عَشَر رَجُلًا . إِلِى أَنْ قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَاف فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة مُنْتَشِر جِدًّا . وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي خَمْسَة عَشَر مَذْهَبًا . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ صَحَّتْ الْجَمَاعَة فِي سَائِر الصَّلَوَات بِاثْنَيْنِ ، وَلَا فَرْق بَيْنَهَا وَبَيْن الْجَمَاعَةِ ، وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ مِنْ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّ الْجُمُعَة لَا تَنْعَقِد إلَّا بِكَذَا ، وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي . وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ إنَّهُ لَا يَثْبُت فِي عَدَد الْجُمُعَة حَدِيثٌ . انْتَهَى مُلَخَّصًا . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وَتَنْعَقِدُ الْجُمُعَةِ بِثَلاثَةِ : وَاحِدٌ يَخْطُبُ وَاثْنَانُ يَسْتَمِعَانِ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدٍ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ يُقَالُ بِوُجُوبِهَا عَلَى الأَرْبَعِينَ لأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبهَا عَلَى مَنْ(2/161)
دُونِهِمْ وَتَصِحُّ مِمَّنْ دُونِهِمْ لأَنَّهُ انْتِقَالَ إِلَى أَعْلَمُ الْعَرْضَيْنِ كَالْمَرِيضِ . انْتَهَى .
بَابُ التَّنْظِيفِ وَالتَّجَمُّلِ لِلْجُمُعَةِ
وَقَصْدِهَا بِسَكِينَةٍ وَالتَّبْكِيرِ وَالدُّنُوِّ مِنْ الْإِمَام
1557- عَنْ ابْنِ سَلَامٍ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ : « مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد .
1558- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَلْبَسُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ طِيبٌ مَسَّ مِنْهُ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1559- وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَتَطَهَّرُ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَرُوحُ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ ، ثُمَّ يُنْصِتُ لِلْإِمَامِ إذَا تَكَلَّمَ إلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .(2/162)
1560- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُ ، وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ ، ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ فَيَرْكَعَ إنْ بَدَا لَهُ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا ، ثُمَّ أَنْصَتَ إذَا خَرَجَ إمَامُهُ حَتَّى يُصَلِّيَ كَانَتْ كَفَّارَة لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَة الْأُخْرَى » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1561- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً ، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَة إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .
1562- وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « اُحْضُرُوا الذِّكْرَ ، وَادْنُوَا مِنْ الْإِمَامِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يُزَالُ يَتَبَاعَدُ حَتَّى يُؤَخَّرَ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ دَخَلَهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .(2/163)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ الْأَوَّل يَدُلّ عَلَى اسْتِحْبَابِ لِبْسِ الثِّيَابِ الْحَسَنَة يَوْم الْجُمُعَة وَتَخْصِيصه بِمَلْبُوسٍ غَيْر مَلْبُوس سَائِر الْأَيَّام . وَحَدِيث أَبِي سَعِيدٍ فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْغُسْلِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاللُّبْسِ مِنْ صَالِحِ الثِّيَابِ وَالتَّطَيُّبِ .
قَوْلُهُ : « ثُمَّ يُنْصِتُ لِلْإِمَامِ إذَا تَكَلَّمَ » . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ حَالَ تَكَلُّمِ الْإِمَامِ لَمْ يَحْصُل لَهُ مِنْ الْأَجْر مَا فِي الْحَدِيثِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز الْكَلَامِ قَبْلَ تَكَلُّمِ الْإِمَامِ .
قَوْلُهُ : « وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَة الثَّانِيَة » . قَالَ الشَّارِحُ : قَدْ اُخْتُلِفَ فِي السَّاعَة الْمَذْكُورَة فِي الْحَدِيث مَا الْمُرَاد بِهَا ، فَقِيلَ : إنَّهَا مَا يَتَبَادَر إلَى الذِّهْن مِنْ الْعُرْف فِيهَا . وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالسَّاعَاتِ بَيَان مَرَاتِب التَّبْكِير مِنْ أَوَّل النَّهَار إلَى الزَّوَال . وَقِيلَ : خَمْس لَحَظَات لَطِيفَة : أَوَّلهَا زَوَال الشَّمْس وَآخِرهَا قُعُود الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَر . وَالْحَدِيث يَدُلّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الِاغْتِسَالِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَفَضِيلَة التَّبْكِير إلَيْهَا . انْتَهَى مُلَخَّصًا . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ أَفْضَل الْهَدْيِ الْإِبِل ثُمَّ الْبَقَر ثُمَّ الْغَنَم ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ الْجُمُعَة فِي السَّادِسَة ، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ إذَا نَذَرَ هَدْيًا مُطْلَقًا أَجْزَأَهُ إهْدَاءُ أَيِّ مَالٍ كَانَ .
بَابُ فَضْل يَوْم الْجُمُعَة(2/164)
وَذِكْر سَاعَة الْإِجَابَة وَفَضْل الصَّلَاة عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ
1563- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1564- وَعَنْ أَبِي لُبَابَةَ الْبَدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « سَيِّدُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ ، وَأَعْظَمُ عِنْدَ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ الْأَضْحَى ، وَفِيهِ خَمْسُ خِلَالٍ : خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام وَأَهْبَطَ اللَّهُ فِيهِ آدَمَ إلَى الْأَرْضِ ، وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا آتَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ، مَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ وَلَا رِيَاحٍ وَلَا جِبَالٍ وَلَا بَحْرٍ إلَّا هُنَّ يُشْفِقْنَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
1565- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ » . وَقَالَ بِيَدِهِ قُلْنَا يُقَلِّلُهَا يَعْنِي يُزَهِّدُهَا . رَوَاهُ الْجَمَاعَة ، إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ وَأَبَا دَاوُد لَمْ يَذْكُرَا الْقِيَامَ وَلَا يُقَلِّلُهَا .(2/165)
1566- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي سَاعَةِ الْجُمُعَةِ : « هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ ، يَعْنِي عَلَى الْمِنْبَر إلَى أَنْ يَقْضِيَ الصَّلَاةَ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
1567- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا آتَاهُ إيَّاهُ » . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَّةُ سَاعَةٍ هِيَ ؟ قَالَ : « حِينَ تُقَامُ الصَّلَاةُ إلَى الِانْصِرَافِ مِنْهَا » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ .
1568- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ : قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ : إنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا شَيْئًا إلَّا قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَأَشَارَ إلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ ، فَقُلْتُ : صَدَقْتَ أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ ، قُلْتُ : أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ ؟ قَالَ : « آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَار » . قُلْتُ : إنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ ؟ قَالَ : « بَلَى إنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ لَا يُجْلِسُهُ إلا الصَّلَاةُ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
1569- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا خَيْرًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ ، وَهِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/166)
1570- وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً ، مِنْهَا سَاعَةٌ لَا يُوجَدُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا آتَاهُ إيَّاها ، وَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْر » . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد .
وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنه .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : أَكْثَر الْأَحَادِيثِ فِي السَّاعَة الَّتِي يُرْجَى فِيهَا إجَابَةُ الدُّعَاءِ أَنَّهَا بَعْد صَلَاة الْعَصْر ، وَيُرْجَى بَعَدَ زَوَال الشَّمْس .
1571- وَعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ : فِيهِ خُلِقَ آدَم ، وَفِيهِ قُبِضَ ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ » . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْف تُعْرَضُ عَلَيْك صَلَاتُنَا وَقَدْ أَرِمْتَ ؟ يَعْنِي وَقَدْ بَلِيتَ ، فَقَالَ : « إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ » . رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا التِّرْمِذِيَّ .(2/167)
1572- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ يَوْمَ الْجُمُعَة ، فَإِنَّهُ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ ، وَإِنَّ أَحَدًا لَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ إلَّا عُرِضَتْ عَلَيَّ صَلَاتُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
1573- وَعَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ ، فَإِنَّ صَلَاةَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ » . رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنه .
1574- وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةُ الْجُمُعَةِ فَأَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَلَيَّ » . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَده .
وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْله مُرْسَلَانِ .
قَوْلُهُ : « خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ الْعِرَاقِيُّ : الْمُرَاد بِتَفْضِيلِ الْجُمُعَة بِالنِّسْبَةِ إلَى أَيَّام الْجُمُعَة ، وَتَفْضِيل يَوْم عَرَفَةَ أَوْ يَوْم النَّحْر بِالنِّسْبَةِ إلَى أَيَّام السَّنَة .(2/168)
قَوْلُهُ : « وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَسْأَلُ الْعَبْدُ فِيهَا شَيْئًا إلَّا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ حَرَامًا » . قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي تَعْيِين هَذِهِ السَّاعَة . قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : أَصَحّ الْأَحَادِيثِ فِي تَعْيِينِهَا حَدِيث أَبِي مُوسَى . قَالَ الشَّارِحُ : وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ ، وَلَكِنَّهُ يُشْكِل عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : وَهوَ قَائِم يُصّلِّي . وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاض بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَاد الْقِيَام الْحَقِيقِيّ ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد بِهِ الِاهْتِمَام بِالْأَمْرِ ، كَقَوْلِهِمْ : فُلَان قَامَ فِي الْأَمْر الْفُلَانِيّ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : ? إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ? . قَالَ الشَّارِحُ : وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَة فِي كَوْنهَا بَعَدَ الْعَصْر أَرْجَح لِكَثْرَتِهَا وَاتِّصَالهَا بِالسَّمَاعِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِف فِي رَفْعهَا وَالِاعْتِضَاد بِكَوْنِهِ قَوْل أَكْثَر الصَّحَابَةِ ، فَفِيهَا أَرْبَعَة مُرَجِّحَات . وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى مُرَجِّحٌ وَاحِد وَهُوَ كَوْنه فِي أَحَد الصَّحِيحَيْنِ . قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ : فَائِدَة الْإِبْهَام لِهَذِهِ السَّاعَة وَلِلَيْلَةِ الْقَدْر بَعْثَ الدَّوَاعِي عَلَى الْإِكْثَار مِنْ الصَّلَاة وَالدُّعَاءِ .
قَوْلُهُ : ( وَقَدْ أَرِمْتَ ) . قَالَ الشَّارِحُ : ِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَة وَرَاءٍ مَكْسُورَة وَمِيم سَاكِنَة بَعْدهَا تَاءُ الْمُخَاطَبِ الْمَفْتُوحَة . وَالْأَحَادِيثُ فِيهَا مَشْرُوعِيَّة الْإِكْثَارِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَأَنَّهَا تُعْرَضُ عَلَيْهِ .
بَابُ الرَّجُل أَحَقّ بِمَجْلِسِهِ(2/169)
وَآدَابُ الْجُلُوس النَّهْي عَنْ التَّخَطِّي إلَّا لِحَاجَةٍ .
1575- عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يُقِيمُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يُخَالِفُهُ إلَى مَقْعَدِهِ ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ افْسَحُوا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
1576- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ نَهَى : أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ .
1577- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
1578- وَعَنْ وَهْبِ بْنِ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ ، وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1579- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1580- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحِبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن ) .(2/170)
1581- وَعَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : شَهِدْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَجَمَعَ بِنَا ، فَإِذَا جُلُّ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَرَأَيْتُهُمْ مُحْتَبِينَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1582- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ ، وَزَادَ : « وَآنَيْتَ » .
1583- وَعَنْ أَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « الَّذِي يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاس يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ ، كَالْجَارِّ قُصْبَهُ فِي النَّار » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1584- وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : صَلَّيْتُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ ، ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ ، فَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ ، قَالَ : « ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ كَانَ عِنْدنَا ، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ » . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ .(2/171)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « لَا يُقِيمُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَذَكَر يَوْم الْجُمُعَة فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ بَاب التَّنْصِيص عَلَى بَعْض أَفْرَاد الْعَامّ لَا مِنْ بَابِ التَّقْيِيد لِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَة ، وَلَا مِنْ بَابِ التَّخْصِيص لِلْعُمُومَاتِ ، فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِع مُبَاح سَوَاءٌ كَانَ مَسْجِدًا أَوْ غَيْره فِي يَوْم جُمُعَة أَوْ غَيْرهَا لِصَلَاةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَات فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَيَحْرُم عَلَى غَيْره إقَامَته مِنْهُ وَالْقُعُود فِيهِ ، إلَّا أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ : الْمَوْضِع الَّذِي قَدْ سَبَقَ لِغَيْرِهِ فِيهِ حَقّ ، كَأَنْ يَقْعُدَ رَجُلٌ فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ يَقُومُ مِنْهُ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ مِنْ الْحَاجَاتِ ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِ ، فَإِنَّهُ أَحَقّ بِهِ مِمَّنْ قَعَدَ فِيهِ بَعَدَ قِيَامه ، قَالَ : وَظَاهِر حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ يَجُوز لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْعُد فِي مَكَان غَيْره إذَا أَقْعَدَهُ بِرِضَاهُ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: « إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي مَجْلِسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهِ ». قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحِكْمَة فِي الْأَمْر بِالتَّحَوُّلِ : أَنَّ الْحَرَكَة تُذْهِبُ النُّعَاس . وَيُحْتَمَل أَنَّ الْحِكْمَة فِيهِ انْتِقَاله مِنْ الْمَكَان الَّذِي أَصَابَتْهُ فِيهِ الْغَفْلَة بِنَوْمِهِ .
قَوْلُهُ : ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحِبْوَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ) . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ الِاحْتِبَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْت لِأَنَّهُ يَجْلِبُ النَّوْم وَيُعَرِّض طَهَارَته لِلِانْتِقَاضِ .(2/172)
قَوْلُهُ : ( وَآنَيْت ) قَالَ الشَّارِحُ : بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَة : أَيْ أَبْطَأْت وَتَأَخَّرْت . قَالَ : وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلّ عَلَى كَرَاهَة التَّخَطِّي يَوْمَ الْجُمُعَة ، وَظَاهِر التَّقْيِيد بِيَوْمِ الْجُمُعَة أَنَّ الْكَرَاهَة مُخْتَصَّة بِهِ . وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون التَّقْيِيد خَرَجَ مَخْرَج الْغَالِبِ لِاخْتِصَاصِ الْجُمُعَة بِكَثْرَةِ النَّاس ، بِخِلَافِ سَائِر الصَّلَوَات فَلَا يَخْتَصّ ذَلِكَ بِالْجُمُعَةِ ، بَلْ يَكُون حُكْم سَائِر الصَّلَوَات حُكْمهَا ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ التَّعْلِيل بِالْأَذِيَّةِ ، وَظَاهِر هَذَا التَّعْلِيل أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي فِي مَجَالِس الْعِلْم وَغَيْرهَا . قَالَ الْعِرَاقِيُّ : وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ التَّحْرِيم أَوْ الْكَرَاهَة الْإِمَام أَوْ مَنْ كَانَ بَيْن يَدَيْهِ فُرْجَة لَا يَصِل إلَيْهَا إلَّا بِالتَّخَطِّي .
بَابُ التَّنَفُّل قَبْل الْجُمُعَة مَا لَمْ يَخْرُجْ الْإِمَام
وَأَنَّ انْقِطَاعه بِخُرُوجِهِ إلَّا تَحِيَّة الْمَسْجِد
1585- عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَقْبَلَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُؤْذِي أَحَدًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْإِمَامَ خَرَجَ صَلَّى مَا بَدَا لَهُ ، وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامَ قَدْ خَرَجَ جَلَسَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ حَتَّى يَقْضِيَ الْإِمَامُ جُمُعَتَهُ وَكَلَامَهُ ، إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي جُمُعَتِهِ تِلْكَ ذُنُوبُهُ كُلُّهَا أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةً لِلْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/173)
1586- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ وَيُصَلِّي بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1587- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ » . رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
1588- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ : أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ . رَوَاهُ الْخَمْسَة إلَّا أَبَا دَاوُد .
1589- وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظه : أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي هَيْئَةٍ بَذَّةٍ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ ، فَأَمَرَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ .
قُلْتُ : وَهَذَا يُصَرِّحُ بِضَعْفِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْ خُطْبَتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ .
1590- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ فَقَالَ : « صَلَّيْت » ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : « فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَة .
1591- وَفِي رِوَايَة : « إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَة وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .(2/174)
1592- وَفِي رِوَايَة : « إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ خَرَجَ الْإِمَامُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ » . مُتَّفَق عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ أَقْبَلَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُؤْذِي أَحَدًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْإِمَامَ خَرَجَ صَلَّى مَا بَدَا لَهُ » . الحديث . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَالْكَفِّ عَنْهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ لِلْجُمُعَةِ سُنَّةٌ قَبْلَهَا أَوْ لَا ؟ فَأَنْكَرَ جَمَاعَة أَنَّ لَهَا سُنَّة قَبْلهَا وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ ، قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّن لِلْجُمُعَةِ إلَّا بَيْن يَدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّيهَا ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ ، لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ الْإِمَام انْقَطَعَتْ الصَّلَاة . انْتَهَى . قَالَ فِي الاخْتِيَارَات : وصَلاة الرَّكعَتيْنِ قبل الْجُمُعَةِ حسنة مَشْرُوعَة ولا يدَاوم عَلَيْهَا إلا لمصْلَحَةٍ . انْتَهَى .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَدِيثِ الْبَاب عَلَى تَرْك التَّحِيَّة بَعَدَ خُرُوج الْإِمَام فَقَالَ : وَفِيهِ حُجَّة بِتَرْكِ التَّحِيَّة كَغَيْرِهَا .(2/175)
قَوْلُهُ : ( وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْجُمُعَةِ ) الحديث . وَقَوْلُهُ : « مَنْ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الصَّلَاةِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ ، وَلَمْ يَتَمَسَّك الْمَانِع مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِحَدِيثِ النَّهْي عَنْ الصَّلَاة وَقْت الزَّوَال ، وَهُوَ مَعَ كَوْن عُمُومه مُخَصَّصًا بِيَوْمِ الْجُمُعَة لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلّ عَلَى الْمَنْع مِنْ الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة عَلَى الْإِطْلَاق ، وَغَايَة مَا فِيهِ الْمَنْع فِي وَقْت الزَّوَال وَهُوَ غَيْر مَحِلّ النِّزَاع . وَالْحَاصِل أَنَّ الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة مُرَغَّبٌ فِيهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا ، فَالدَّلِيل عَلَى مُدَّعِي الْكَرَاهَة عَلَى الْإِطْلَاق .
قَوْلُهُ : ( فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ ) فِيهِ أَنَّ الصَّلَاة قَبْلَ الْجُمُعَة لَا حَدّ لَهَا . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ حَالَ الْخُطْبَةِ .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَة وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا » . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ مَشْرُوعِيَّة التَّخْفِيفِ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ لِيَتَفَرَّغَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ .
قَوْلُهُ : « فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ » . فِيهِ أَنَّ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ حَالَ الْخُطْبَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ . قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَفْهُومُهُ يَمْنَعُ مِنْ تَجَاوُزِ الرَّكْعَتَيْنِ بِمُجَرَّدِ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ .(2/176)
1593- وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ قَالَ : جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ ، فَقَالَ لَهُ : « أَصَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ » ؟ قَالَ لَا ، قَالَ : « فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرِجَالُ إسْنَادِهِ ثِقَاتٌ .
وَقَوْلُهُ : « قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ » يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ سُنَّةٌ لِلْجُمُعَةِ قَبْلهَا وَلَيْسَتَا تَحِيَّةً لِلْمَسْجِدِ .
قَالَ الشَّارِحُ : وَقَدْ ذَهَبَ إلَى مِثْل مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ : إنْ كَانَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ فَلَا يُصَلِّيَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صَلَاةِ التَّحِيَّةِ لَا يُجِيزُ التَّنَفُّلَ حَالَ الْخُطْبَةِ مُطْلَقًا . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ : أَيْ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ . وَفَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ صَلَّاهَا فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَقَدَّمَ لِيَقْرُبَ مِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : « أَصَلَّيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ » بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهُوَ لِلْعَهْدِ ، وَلَا عَهْدَ هُنَاكَ أَقْرَبَ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ . انْتَهَى .
بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّجْمِيعِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ
1594- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .(2/177)
1595- وَعَنْهُ قَالَ : كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى الْقَائِلَةِ فَنَقِيلُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
1596- وَعَنْهُ أيضًا قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ ، وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا .
1597- وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ : كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ . أَخْرَجَاهُ .
1598- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1599- وَزَادَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ : فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .
1600- وَعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ ، يَعْنِي النَّوَاضِحَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلَانَ السُّلَمِيُّ قَالَ : شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ : انْتَصَفَ النَّهَارُ ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إلَى أَنْ أَقُولَ زَالَ النَّهَارُ ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَة ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَاحْتَجَّ بِهِ وَقَالَ :(2/178)
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ : أَنَّهُمْ صَلَّوْهَا قَبْلَ الزَّوَالِ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَثَرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سِيلانَ السُّلَمِيُّ فِيهِ مَقَالٌ ، لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ : لَا يُتَابَع عَلَى حَدِيثِهِ . وَحَكَى فِي الْمِيزَانِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ مَجْهُولٌ لَا حُجَّةَ فِيهِ .
قَوْلُهُ : ( حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ ) فِيهِ إشْعَارٌ بِمُوَاظَبَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ .
قَوْلُهُ : ( كُنَّا نُصَلِّي الْجُمُعَة مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى الْقَائِلَةِ فَنَقِيلُ ) وَفِي لَفْظ لِلْبُخَارِيِّ : ( كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ ) . وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا : ( كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ ثُمَّ تَكُونُ الْقَائِلَةُ ) . وَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ بَاكِرَ النَّهَارِ . قَالَ الْحَافِظُ : لَكِنَّ طَرِيقَ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ دَعْوَى التَّعَارُضِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ التَّبْكِيرَ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ أَوْ تَقْدِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا . وَالْمَعْنَى : أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْدَءُونَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْقَيْلُولَةِ ، بِخِلَافِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْحَرِّ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقِيلُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ لِمَشْرُوعِيَّة الْإِبْرَادِ . انْتَهَى .
قَوْلُهُ : ( إذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلَاةِ ) أَيْ صَلَّاهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا .(2/179)
قَوْلُهُ : ( وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ ، يَعْنِي الْجُمُعَةَ ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : ( يَعْنِي الْجُمُعَةَ ) مِنْ كَلَامِ التَّابِعِيِّ أَوْ مَنْ دُونِهِ ، أَخَذَهُ قَائِلُهُ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ عِنْدَ أَنَسٍ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ عَنْ أَنَسٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ : « يَعْنِي الْجُمُعَةَ .
قَوْلُهُ : ( كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ ) . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيْءٌ يَسِيرٌ . قَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ التَّبْكِيرِ وَقَصْرِ حِيطَانِهِمْ . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ نَسْتَظِلُّ بِهِ . وَالْمُرَادُ نَفْيَ الظِّلِّ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ ، لَا نَفْيَ أَصْلِ الظِّلِّ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : ( ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ ) . فَلَا دَلَالَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الزَّوَالِ .(2/180)
قَوْلُهُ : ( مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ ) قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِجَوَازِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ . وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ ، هَلْ هُوَ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ أَوْ الْخَامِسَةُ أَوْ وَقْتِ دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْغَدَاءَ وَالْقَيْلُولَةَ مَحَلُّهُمَا قَبْلَ الزَّوَالِ . وَحَكَوْا عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يُسَمَّى غَدَاءً وَلَا قَائِلَةً بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ ، وَكَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ . وَلَوْ كَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمَا انْصَرَفَ مِنْهَا إلَّا وَقَدْ صَارَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظَلُّ بِهِ وَقَدْ خَرَجَ وَقْتَ الْغَدَاءِ وَالْقَائِلَةِ . وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلَى جِمَالِهِمْ فَيُرِيحُونَهَا عِنْدَ الزَّوَالِ ، وَلَا مُلْجِئَ إلَى التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَعَسِّفَةِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا الْجُمْهُورُ ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الْجُمُعَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَنْفِي الْجَوَازَ قَبْلَهُ . انْتَهَى . قَالَ الْمُوفق فِي المغني : الْمُسْتَحَبُّ إِقَامَة الْجُمُعَة بَعْد الزَّوَالِ لأنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه(2/181)
وسلم - صَلَّى كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ . قَالَ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الْفَيْءَ . مُتَّفَقٌ عليهِ . وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ . أخرجه الْبُخَارِيُّ . وَلأنَّ فِي ذَلِكَ خُرُوجًا مِنَ الْخِلاف فَإِنَّ عُلَمَاءَ الأمةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقت للجمعةِ ، وَإِنَّمَا الْخِلافُ فِيمَا قَبْلَهُ . وَلا فَرْق فِي اسْتِحْبَابِ إِقَامَتهَا عُقَيْب الزَّوَالِ بَيْنَ شِدَّةِ الْحَرِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ الْجُمْعَة يَجْتَمِعُ لَهَا النَّاس فَلَوْ انتَظَرُوا الإِبْرَاد شَقّ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعلهَا إِذَا زَالَتْ الشَّمْس فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ عَلَى مِيقَاتٍ وَاحِدٍ . انْتَهَى .
بَابُ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ إذَا رَقَى الْمِنْبَرَ
وَالتَّأْذِين إذَا جَلَسَ عَلَيْهِ وَاسْتِقْبَالِ الْمَأْمُومِينَ لَهُ
1601- عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ سَلَّمَ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ .
1602- وَهُوَ لِلْأَثْرَمِ فِي سُنَنِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلاً .(2/182)
1603- وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
1604- وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ : فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ وَكَثُرُوا ، أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْأَذَانِ الثَّالِثِ فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ ، فَثَبَتَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ .
1605- وَلِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ : كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا جَلَسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَيُقِيمُ إذَا نَزَلَ .
1606- وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّسْلِيمِ مِنْ الْخَطِيبِ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ أَنْ يَرْقَى الْمِنْبَرَ وَقَبْلَ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ . وَقَالَ فِي الِانْتِصَارِ بَعْد فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ .(2/183)
قَوْلُهُ : ( زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ ) فِي رِوَايَةٍ : ( فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ ) وَفِي رِوَايَةٍ : ( التَّأْذِينُ الثَّانِي أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ ) وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُ سُمِّيَ ثَالِثً بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَزِيدًا ، وَأَوَّلًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِ فِعْلِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ ، وَثَانِيًا بِاعْتِبَارِ الْأَذَانِ الْحَقِيقِيّ لَا الْإِقَامَةَ .
قَوْلُهُ : ( عَلَى الزَّوْرَاءِ ) . قَالَ الْبُخَارِيُّ : هِيَ مَوْضِعٌ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ .
قَوْلُهُ : ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ ) . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ مَشْرُوعِيَّة اسْتِقْبَالِ النَّاسِ لِلْخَطِيبِ حَالَ الْخُطْبَةِ . قَالَ الْعِرَاقِيُّ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَنْ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ دُونَ مَنْ بَعْد فَلَمْ يَسْمَعْ ، فَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ أَوْلَى بِهِ مِنْ تَوَجُّهِهِ لِجِهَةِ الْخُطْبَةِ .
بَابُ اشْتِمَالِ الْخُطْبَةِ عَلَى حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالثَّنَاءِ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمَوْعِظَةِ وَالْقِرَاءَةِ
1607- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ .
1608- وَفِي رِوَايَةٍ : « الْخُطْبَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : « تَشَهُّدٌ » بَدَل « شَهَادَةٌ » .(2/184)
1609- وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا تَشَهَّدَ قَالَ : « الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْن يَدَيْ السَّاعَةِ ، مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا » .
1610- وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَشَهُّدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَقَالَ : وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
1611- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمًا وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَيَقْرَأُ آيَاتٍ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .
1612- وَعَنْهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ كَانَ لَا يُطِيلُ الْمَوْعِظَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، إنَّمَا هِيَ كَلِمَاتٌ يَسِيرَاتٌ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
1613- وَعَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ : مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .(2/185)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ » . قَالَ الشَّارِحُ : شَبَّهَ الْكَلَامَ الَّذِي لَا يُبْتَدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِنْسَانٍ مَجْذُومٍ تَنْفِيرًا مَنْهُ وَإِرْشَادًا إلَى اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ بِالْحَمْدِ .
قَوْلُهُ : ( لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ ) أَيْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَه إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الْحَمْدِ لِلَّهِ فِي الْخُطْبَةِ ، لِأَنَّهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى دَاخِلَةٌ تَحْتِ عُمُومِ الْكَلَامِ . قَوْلُهُ : ( وَمَنْ يَعْصِهِمَا ) فِيهِ جَوَازُ التَّشْرِيكِ بَيْنَ ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بِلَفْظِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا . وَمَا ثَبَتَ أَيْضًا : أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ خَيْبَرَ : أنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ . وَأَمَّا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : ( أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ ، قُلْ : وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى » . فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ سَبَبَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَنَّ الْخُطْبَةَ شَأْنُهَا الْبَسْطُ وَالْإِيضَاحُ وَاجْتِنَابُ(2/186)
الْإِشَارَاتِ وَالرُّمُوزِ . قَالَ : وَلِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ . قَالَ : وَإِنَّمَا ثَنَّى الضَّمِيرَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ ، « أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا » . لِأَنَّهُ لَيْسَ خُطْبَةُ وَعْظٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيمُ حُكْمٍ ، فَكُلُّ مَا قَلَّ لَفْظُهُ كَانَ أَقْرَبُ إلَى حِفْظِهِ ، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْوَعْظِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حِفْظَهَا وَإِنَّمَا يُرَادُ الِاتِّعَاظُ بِهَا ، وَلَكِنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْجَمْعُ بَيْن الضَّمِيرَيْنِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ الْبَابِ ، وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْخُطْبَةِ لَا فِي تَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى الْخَطِيبِ تَشْرِيكَهُ فِي الضَّمِيرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّسْوِيَةِ وَأَمَرَهُ بِالْعَطْفِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ كَمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : « لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ : مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ » . وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا قَدَّمْنَا مِنْ جَمْعِهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْن ضَمِيرِ اللَّهِ وَضَمِيرِهِ . وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى ذَلِكَ الْخَطِيبِ التَّشْرِيكَ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ اعْتِقَادَ التَّسْوِيَةِ فَنَبَّهَهُ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِ ، وَأَمَرَهُ بِتَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اسْمِ رَسُولِهِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ فَسَادَ مَا(2/187)
اعْتَقَدَهُ .
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمًا وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ أَنَّ الْقِيَامَ حَالَ الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ ، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ . وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْقِرَاءَةِ وَالْوَعْظِ فِي الْخُطْبَةِ .
قَوْلُهَا : ( مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النَّاسَ ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي الْبَابِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَالَ : ( سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ ? وَنَادَوْا يَا مَالِكُ ? . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالظَّاهِرُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لَا يُلَازِمُ قِرَاءَةَ سُورَةٍ أَوْ آيَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الْخُطْبَةِ ، بَلْ كَانَ يَقْرَأُ مَرَّةً هَذِهِ السُّورَة وَمَرَّةً هَذِهِ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ هَيْئَات الْخُطْبَتَيْنِ وَآدَابِهِمَا
1614- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ كَمَا يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1615- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ قَائِمًا ، ثُمَّ يَجْلِسُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا ، فَمَنْ نَبَّأَكَ أنََّّهُ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ ، فَقَدْ وَاَللَّهِ صَلَّيْتُ مَعَهُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ صَلَاةٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .(2/188)
1616- وَعَنْ الْحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ الْكُلَفِيِّ قَالَ : قَدِمْتُ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَابِعَ سَبْعَةٍ أَوْ تَاسِعَ تِسْعَةٍ ، فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ ، أَوْ قَالَ عَلَى عَصَا ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ لَنْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تُطِيقُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1617- وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ .
وَالْمَئِنَّةُ : الْعَلَامَةُ وَالْمَظِنَّةُ .
1618- وَعَنْ جَابِرٍ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَصْدًا ، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد .
1619- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُطِيلُ الصَّلَاةَ ، وَيَقْصُرُ الْخُطْبَةَ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
1620- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ : صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ .(2/189)
1621- وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : كُنْتُ إلَى جَنْبِ عُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ ، وَبِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ يَخْطُبُنَا ، فَلَمَّا دَعَا رَفَعَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ عُمَارَةُ : يَعْنِي قَبَّحَ اللَّهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ إذَا دَعَا يَقُولُ هَكَذَا ، فَرَفَعَ السَّبَّابَةَ وَحْدَهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِمَعْنَاهُ وَصَحَّحَهُ .
1622- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَاهِرًا يَدَيْهِ قَطُّ يَدْعُو عَلَى مِنْبَرٍ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ ، وَمَا كَانَ يَدْعُو إلَّا يَضَعُ يَدَهُ حَذْوَ مَنْكِبِهِ وَيُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إشَارَةً . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1623- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ فِيهِ : لَكِنْ رَأَيْتُهُ يَقُولُ هَكَذَا ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَعَقَدَ الْوُسْطَى بِالْإِبْهَامِ ) .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا ) فِيهِ أَنَّ الْقِيَامَ حَالَ الْخُطْبَةِ مَشْرُوعٌ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَار . قَالَ الشَّارِحُ : وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى الْوُجُوبِ .
قَوْلُهُ : ( فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ ، أَوْ قَالَ عَلَى عَصَا ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الِاعْتِمَادِ عَلَى سَيْفٍ أَوْ عَصًا حَالَ الْخُطْبَةِ . قِيلَ : وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ الِاشْتِغَالَ عَنْ الْعَبَثِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ .(2/190)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ » . قَالَ الشَّارِحُ : وَإِنَّمَا كَانَ إقْصَارُ الْخُطْبَةِ عَلَامَةً مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى جَوَامِعِ الْأَلْفَاظِ ، فَيَتَمَكَّنُ بِذَلِكَ مِنْ التَّعْبِيرِ بِاللَّفْظِ الْمُخْتَصَرِ عَنْ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ .
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ ) . الْحَدِيثُ . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُفَخِّمَ أَمْرَ الْخُطْبَةِ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ وَيُجْزِلَ كَلَامَهُ وَيُظْهِرَ غَايَةَ الْغَضَبِ وَالْفَزَعِ ، لِأَنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اشْتِدَادِهَا(2/191)
قَوْلُهُ : ( رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ إذَا دَعَا يَقُولُ هَكَذَا ( رَفَعَ السَّبَّابَةَ وَحْدَهَا ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَالْحَدِيثَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْبَابِ يَدُلَّانِ عَلَى كَرَاهَةِ رَفْعِ الْأَيْدِي عَلَى الْمِنْبَرِ حَالَ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إلَّا فِي الِاسْتِسْقَاءِ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطَيْهِ . وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فِي غَيْرِ الِاسْتِسْقَاءِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ رَفْعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ فِي مَوَاطِنَ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى . قَالَ : وَقَدْ جَمَعْتُ مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ الصَّحِيحَيْنِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَظَاهِرُ حَدِيثَيْ الْبَابِ أَنَّهَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ بِالْأُصْبُعِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ .
بَابُ الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَالرُّخْصَةِ فِي تَكَلُّمِهِ
وَتَكْلِيمِهِ لِمَصْلَحَةٍ وَفِي الْكَلَامِ قَبْلَ أَخْذِهِ فِي الْخُطْبَةِ وَبَعْدَ إتْمَامِهَا
1624- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ : أَنْصِتْ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ .(2/192)
1625- وَعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - فِي حَدِيثٍ لَهُ قَالَ : مَنْ دَنَا مِنْ الْإِمَامِ فَلَغَا وَلَمْ يَسْتَمِعْ وَلَمْ يُنْصِتُ كَانَ عَلَيْهِ كِفْلٌ مِنْ الْوِزْرِ ، وَمَنْ قَالَ : صَهٍ ، فَقَدْ لَغَا ، وَمَنْ لَغَا فَلَا جُمُعَةَ لَهُ ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا سَمِعْت نَبِيَّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد .
1626- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ، وَاَلَّذِي يَقُولُ لَهُ : أَنْصِتْ ، لَيْسَ لَهُ جُمُعَةٌ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1627- وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : جَلَسَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَ النَّاسَ وَتَلَا آيَةً ، وَإِلَى جَنْبِي أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ، فَقُلْتُ : يَا أُبَيّ مَتَى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ؟ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي ، حَتَّى نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ أُبَيّ : مَا لَكَ مِنْ جُمُعَتِكَ إلَّا مَا لَغَيْتَ . فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : « صَدَقَ أُبَيٌّ ، فَإِذَا سَمِعْت إمَامَكَ يَتَكَلَّمُ فَأَنْصِتْ حَتَّى يَفْرُغَ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ .(2/193)
1628- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُنَا ، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمِنْبَرِ ، فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْن يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : « صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ، نَظَرْتُ إلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِر حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا » . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
1629- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ مِنْ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُكَلِّمُهُ الرَّجُلُ فِي الْحَاجَةِ فَيُكَلِّمُهُ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إلَى مُصَلَّاهُ فَيُصَلِّي . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ .
وَعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ قَالَ : كَانُوا يَتَحَدَّثُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَإِذَا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُ قَامَ عُمَرُ ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ حَتَّى يَقْضِيَ الْخُطْبَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا ، فَإِذَا قَامَتْ الصَّلَاةُ وَنَزَلَ عُمَرُ تَكَلَّمُوا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ .
وَسَنَذْكُرُ سُؤَالَ الْأَعْرَابِيِّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - الِاسْتِسْقَاءَ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ .(2/194)
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : « إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك يَوْمَ الْجُمُعَةِ : أَنْصِتْ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ » . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِ النَّهْيِ بِحَالِ الْخُطْبَةِ ، وقَالَ : وَقَدْ ذَهَبَ إلَى تَحْرِيمِ كُلِّ كَلَامٍ حَالَ الْخُطْبَةِ الْجُمْهُورُ . قَالُوا : وَإِذَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فَلْيَجْعَلْهُ بِالْإِشَارَةِ . قَالَ فِي الْفَتْحِ : وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْإِنْصَاتِ فِي الْخُطْبَة مَا إذَا انْتَهَى الْخَطِيبُ إلَى كَلَامٍ لَمْ يُشْرَعْ فِي الْخُطْبَةِ مِثْلِ الدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ مَثَلًا ، بَلْ جَزَمَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لِلسُّلْطَانِ مَكْرُوهٌ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ : مَحَلُّهُ إذَا جَاوَزَ وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ مَطْلُوبٌ . قَالَ الْحَافِظُ : وَمَحَلُّ التَّرْكِ إذَا لَمْ يَخَفْ الضَّرَرَ وَإِلَّا فَيُبَاحُ لِلْخَطِيبِ إذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ .(2/195)
قَوْلُهُ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ مِنْ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُكَلِّمُهُ الرَّجُلُ فِي الْحَاجَةِ ) . الحديث . قَالَ الشَّارِحُ : فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْس بِالْكَلَامِ بَعْدَ فَرَاغِ الْخَطِيبِ مِنْ الْخُطْبَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْرُم وَلَا يُكْرَهُ . قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ ، لِأَنَّ مُسْلِمًا قَدْ رَوَى أَنَّ السَّاعَةَ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هِيَ مِنْ حِينِ يَجْلِسُ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَرَّد لِلذِّكْرِ وَالتَّضَرُّع . قَالَ الشَّارِحُ : وَاَلَّذِي فِي مُسْلِمٍ إنَّهَا مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ » . وَمِمَّا يُرَجِّحُ تَرْكَ الْكَلَامِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْإِنْصَاتِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ كَمَا عِنْدَ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ بِلَفْظِ : فَيُنْصِت حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ . وَيُجْمَع بَيْن الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْجَائِزَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ هُوَ كَلَامُ الْإِمَامِ لِحَاجَةٍ ، أَوْ كَلَامُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ لِحَاجَةِ .
بَابُ مَا يُقْرَأُ بِهِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَفِي صُبْحِ يَوْمِهَا(2/196)
1630- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَخَرَجَ إلَى مَكَّةَ ، فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ ? إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ? . فَقُلْتُ لَهُ حِينَ انْصَرَفَ : إنَّك قَرَأْتَ سُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْكُوفَةِ ، قَالَ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الْجُمُعَةِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيُّ .
1631- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : وَسَأَلَهُ الضَّحَّاكُ بن قيس : مَا كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَثَرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ ؟ قَالَ : كَانَ يَقْرَأُ ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ .
1632- وَعَنْ النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ : بِـ ? سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? ، وَ ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ?. قَالَ : وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الصَّلَاتَيْنِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ .
1633- وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ : بِـ ? سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? ، وَ ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد .(2/197)
1634- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ? آلم تَنْزِيلُ ? ، وَ ? هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ? . وَفِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ وَالْمُنَافِقِينَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
1635- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ? آلم تَنْزِيلُ ? ، ? وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ? . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَأَبَا دَاوُد .
1636- لَكِنَّهُ لَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَة فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِالْجُمُعَةِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْمُنَافِقِينَ ، أَوْ فِي الْأُولَى بِـ ? سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? . أَوْ فِي الْأُولَى بِالْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? .
قَوْلُهُ : ( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ? آلم تَنْزِيلُ ? . وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ . قَالَ الشَّارِحُ : وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا مَشْرُوعِيَّة قِرَاءَةِ تَنْزِيلِ السَّجْدَةِ وَ ? هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَان ? .
بَابُ انْفِضَاضِ الْعَدَدِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ الْخُطْبَةِ(2/198)
1637- عَنْ جَابِرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنْ الشَّامِ ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْجُمُعَةِ ? وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ? . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1638- وَفِي رِوَايَةٍ : أَقْبَلَتْ عِيرٌ وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَةَ ، فَانْفَضَّ النَّاسُ إلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ? وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ? . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .(2/199)
قَوْلُهُ : ( وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْجُمُعَة ) . أَيْ نَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّ عَدَدَ الْجُمُعَةِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، وَقَدْ اسْتَشْكَلَ الْأَصِيلِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، ثُمَّ أَجَابَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ . قَالَ الْحَافِظُ : وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي آيَةِ النُّورِ التَّصْرِيحُ بِنُزُولِهَا فِي الصَّحَابَةِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ لَهُمْ نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجُمُعَةِ وَفَهِمُوا مِنْهَا ذَمّ ذَلِكَ اجْتَنِبُوهُ ، فَوُصِفُوا بَعَدَ ذَلِكَ بِمَا فِي آيَةِ النُّورِ .
بَابُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
1639- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
1640- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .(2/200)
1641- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ فَصَلَّى الْجُمُعَةَ تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى أَرْبَعًا ، وَإِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ صَلَّى الْجُمُعَةَ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُ ذَلِكَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : واقْتَصَارَه عَلَى رَكْعَتَيْنِ لَا يُنَافِي مَشْرُوعِيَّة الْأَرْبَعِ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْأَرْبَعِ الرَّكَعَاتِ هَلْ تَكُونُ مُتَّصِلَةً بِتَسْلِيمٍ فِي آخِرِهَا ، أَوْ يُفْصَلُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ بِتَسْلِيمٍ . إِلِى أَنْ قَالَ : قَالَ أَبَو عبد الله المازري وابن العربي : إنَّ أَمْرَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ يُصَلِّي بَعَدَ الْجُمُعَةِ بِأَرْبَعٍ لِئَلَّا يَخْطِرَ عَلَى بَالِ جَاهِلٍ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِتَكْمِلَةِ الْجُمُعَةِ ، أَوْ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ أَهْلُ الْبِدَعِ إلَى صَلَاتِهَا ظُهْرًا أَرْبَعًا . انْتَهَى .
بَابُ مَا جَاءَ فِي اجْتِمَاعِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَة
1642- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ : هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِيدَيْنِ اجْتَمَعَا ؟ قَالَ نَعَمْ ، صَلَّى الْعِيدَ أَوَّلَ النَّهَارِ ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ فَقَالَ : « مَنْ شَاءَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ » . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .(2/201)
1643- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ : « قَدْ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
1644- وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ : اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، فَأَخَّرَ الْخُرُوجَ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ ، ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ لِلنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : أَصَابَ السُّنَّةَ . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد بِنَحْوِهِ ، لَكِنْ مِنْ رِوَايَة عَطَاءٍ .
وَلِأَبِي دَاوُد أيْضًا عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : اجْتَمَعَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَيَوْمُ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ : عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا فَصَلَّاهُمَا رَكْعَتَيْنِ بُكْرَةً لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِمَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ) .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ ) إلَى آخره . فِيهِ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ يَجُوزُ تَرْكُهَا . وَظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ صَلَّى الْعِيدَ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ ، وَبَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَيَدُلّ عَلَى عَدَم الْوُجُوبِ وَأَنَّ التَّرْخِيصَ عَامٌّ لِكُلِّ أَحَدٍ تَرْكُ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِلْجُمُعَةِ وَهُوَ الْإِمَامُ إذْ ذَاكَ . وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَصَابَ السُّنَّةَ ، وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ .(2/202)
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعَدَ أَنْ سَاقَ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ : قُلْتُ إنَّمَا وَجْه هَذَا أَنَّهُ رَأَى تَقْدِمَةَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَقَدَّمَهَا وَاجْتَزَأَ بِهَا عَنْ الْعِيدِ .
قَالَ الشَّارِحُ : لَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّعَسُّفِ . انْتَهَى . قال الموفق في المغني : وَإِنِ اتَّفَقَ عِيدٌ فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ سَقَطَ حُضُورِ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ صَلَّى الْعِيدِ إِلا الإِمَامُ فَإِنَّهَا لا تَسْقُطُ عَنْهُ إِلا أَنْ لا يَجْتَمِعَ لَهُ مَنْ يُصَلِّي بِهِ الْجُمُعَةِ . وَقِيلَ فِي وُجُوبِهَا عَلَى الإِمَامِ رِوَايَتَانِ . وَمِمَّن قَالَ بِسُقُوطِهَا الشّعَبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالأّوْزَاعِيُّ . وَقِيلَ : هَذَا مَذْهَبُ عُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيٍّ وَسَعِيدٍ وَابْنِ عُمَر وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءُ : تَجِبُ الْجُمُعَة لِعُمُومِ الآيَةِ وَالأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا وَلأَنَّهُمَا صَلاتَانِ وَاجِبَتَانِ فَلَمْ تَسْقُطْ إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى كَالظًّهْرِ مَعَ الْعِيدِ وَلَنَا مَا رَوَى إِيَاسُ بْن أَبِي رملةٍ الشَّامِيُّ قَالَ : شَهِدْتُ مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُ زَيْدَ بْن أَرْقَمٍ : هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِيدِيْنِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَم . قَالَ : فَكَيْفَ صَنَعَ ؟ قَالَ : صَلَّى الْعِيدَ ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ . فَقَالَ : « مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّي فَيْلُصَلِّ » . رَوَاهُ أَبُو دَاود وَالإِمَامُ أَحْمَدٍ وَلَفْظُهُ : « مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْمَعَ فَلْيَجْمَعَ » . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : « اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ(2/203)
الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجْمِعُونَ » . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة . وَعَن ابْنِ عُمَر وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَ ذَلِكَ وَلأَنَّ الْجُمُعَةَ إِنَّمَا زَادَتْ عَنِ الظُّهْرِ بِالْخُطُبَةِ وَقَدْ حَصُلَ سَمَاعَهَا فِي الْعِيدِ فَأَجْزَأَهُ عَنْ سَمَاعِهَا ثانيًا . انْتَهَى .
كِتَابُ الْعِيدَيْنِ
بَابُ التَّجَمُّلِ لِلْعِيدِ وَكَرَاهَةُ حَمْلِ السِّلَاحِ فِيهِ إلَّا لِحَاجَةٍ
1645- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : وَجَدَ عُمَرُ حُلَّةً مِنْ إسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ ، فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ فَتَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوَفْدِ ، فَقَالَ : « إنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ » . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
1646- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَلْبَسُ بُرُدَ حِبَرَةٍ فِي كُلِّ عِيدٍ . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ ، فَنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا وَذَلِكَ بِمِنًى ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ فَجَاءَ يَعُودُهُ ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ : لَوْ نَعْلَمُ مَنْ أَصَابَكَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَنْتَ أَصَبْتَنِي ، قَالَ : كَيْفَ ؟ قَالَ : حَمَلْتَ السِّلَاحَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ ، وَأَدْخَلْتَ السِّلَاحَ الْحَرَمَ ، وَلَمْ يَكُنْ السِّلَاحُ يَدْخُلُ الْحَرَمَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ :
1647- قَالَ الْحَسَنُ : نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ يَوْمَ عِيدٍ إلَّا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا .(2/204)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( إنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ ) . الْخَلَاقُ : النَّصِيبُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسُ الْحَرِيرِ . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّجَمُّلِ لِلْعِيدِ تَقْرِيرُهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرَ عَلَى أَصْلِ التَّجَمُّلِ لِلْعِيدِ .
قَوْلُهُ : ( نُهُوا أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ يَوْمَ عِيدٍ إلَّا أَنْ يَخَافُوا عَدُوًّا ) . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِيهِ تَقْيِيدٌ لِإِطْلَاقِ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ .
بَابُ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا وَالتَّكْبِيرُ فِيهِ وَمَا جَاءَ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ
1648- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ : مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعِيدِ مَاشِيًا وَأَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
1649- وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى : الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ ، وَفِي لَفْظٍ : الْمُصَلَّى ، وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ ، قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ ، قَالَ : « لِتُلْبِسْهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا » . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ، وَلَيْسَ لِلنَّسَائِيِّ فِيهِ أَمْرُ الْجِلْبَابِ .
1650-وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ : وَالْحُيَّضُ يَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ يُكَبِّرْنَ مَعَ النَّاسِ .
1651- وَلِلْبُخَارِيِّ : قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ : كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ .(2/205)
1652- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا غَدَا إلَى الْمُصَلَّى كَبَّرَ فَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ .
1653- وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ يَغْدُو إلَى الْمُصَلَّى يَوْمَ الْفِطْرِ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى ، ثُمَّ يُكَبِّرُ بِالْمُصَلَّى حَتَّى إذَا جَلَسَ الْإِمَامُ تَرَكَ التَّكْبِيرَ رَوَاهُمَا الشَّافِعِيُّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَوْلُهُ : ( مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا ) . فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الْخُرُوجِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْمَشْيُ إلَيْهَا وَتَرْكُ الرُّكُوبِ .
قَوْلُهُ : ( وَأَنْ يَأْكُلَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بَعِيدِ الْفِطْرِ . وَأَمَّا عِيدُ النَّحْرِ فَيُؤَخَّرُ الْأَكْلُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ .
قَوْلُهُ : ( الْعَوَاتِقُ ) جَمْعُ عَاتِقٍ ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ أَوَّلَ مَا تُدْرِكُ . وَقِيلَ : هِيَ الَّتِي لَمْ تَبِنْ مِنْ وَالِدَيْهَا وَلَمْ تُزَوَّجْ بَعْدَ إدْرَاكِهَا . وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ : هِيَ الَّتِي قَارَبَتْ الْبُلُوغَ .
قَوْلُهُ : ( وَذَوَاتُ الْخُدُورِ ) جَمْعُ خِدْرٍ وَهُوَ نَاحِيَةٌ فِي الْبَيْتِ يُجْعَلُ عَلَيْهَا سُتْرَةً فَتَكُونُ فِيهِ الْجَارِيَةُ الْبِكْرُ ، وَهِيَ الْمُخَدَّرَةُ : أَيْ خُدِّرَتْ فِي الْخِدْرِ .(2/206)
قَوْلُهُ : ( لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ ) . الْجِلْبَابُ هُوَ الْإِزَارُ وَالرِّدَاءُ . وَقِيلَ : الْمِلْحَفَةُ . وَقِيلَ الْمِقْنَعَةُ تُغَطِّي بِهَا الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا وَظَهْرَهَا . وَقِيلَ : هُوَ الْخِمَارُ وَالْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ قَاضِيَةٌ بِمَشْرُوعِيَّة خُرُوجِ النِّسَاءِ فِي الْعِيدَيْنِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَالشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ وَالْحَائِضِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ تَكُنْ مُعْتَدَّةً أَوْ كَانَ خُرُوجُهَا فِتْنَةً أَوْ كَانَ لَهَا عُذْرٌ .
قَوْلُهُ : ( إذَا غَدَا إلَى الْمُصَلَّى كَبَّرَ ) . دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّكْبِيرِ حَالَ الْمَشْيِ إلَى الْمُصَلَّى . إِلِى أَنْ قَالَ : وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَهُوَ مِنْ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ بَيْتِهِ لِلصَّلَاةِ إلَى ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ .
بَابُ اسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ قَبْلَ الْخُرُوجِ فِي الْفِطْرِ دُونَ الْأَضْحَى
1654- عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ .
1655- وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ ، وَلَا يَأْكُلُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يَرْجِعَ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ ، وَزَادَ : فَيَأْكُلُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ .
1656- وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُؤْمَرُونَ بِالْأَكْلِ قَبْلَ الْغُدُوِّ يَوْمَ الْفِطْرِ .(2/207)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ الْمُهَلَّبُ : الْحِكْمَةُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَنْ لَا يَظُنُّ ظَانٍّ لُزُومَ الصَّوْمِ حَتَّى يُصَلِّيَ الْعِيدَ ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ سَدَّ هَذِهِ الذَّرِيعَةِ . وَقَالَ غَيْرُهُ : لَمَّا وَقَعَ وُجُوبُ الْفِطْرِ عَقِبَ وُجُوبِ الصَّوْمِ اُسْتُحِبَّ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ مُبَادَرَةً إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، أَشَارَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ .
قَالَ الْحَافِظُ : وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِحْبَابِ التَّمْرِ فِيهِ لِمَا فِي الْحُلْوِ مِنْ تَقْوِيَةِ الْبَصَرِ الَّذِي يُضْعِفُهُ الصَّوْمُ ، وَلِأَنَّ الْحُلْوَ مِمَّا يُوَافِقُ الْإِيمَانَ وَيُعْبَرُ بِهِ الْمَنَامُ وَيَرِقُّ الْقَلْبُ وَهُوَ أَسَرُّ مِنْ غَيْرِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَحَبَّ بَعْضُ التَّابِعِينَ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى الْحُلْوِ مُطْلَقًا كَالْعَسَلِ .
وَالْحِكْمَةُ فِي جَعْلِهِنَّ وِتْرًا الْإِشَارَةُ إلَى الْوَحْدَانِيَّةِ .
قَوْلُهُ : ( وَلَا يَأْكُلُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يَرْجِعَ ) . فِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ : ( وَلَا يَطْعَمُ يَوْمَ الْأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ ) . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ بِلَفْظِ : « حَتَّى يُضَحِّيَ » وَقَدْ خَصَّصَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اسْتِحْبَابَ تَأْخِيرِ الْأَكْلِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى بِمَنْ لَهُ ذَبْحٌ . وَالْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ الْفِطْرِ يَوْمَ الْأَضْحَى أَنَّهُ يَوْمٌ تُشْرَعُ فِيهِ الْأُضْحِيَّةُ وَالْأَكْلُ مِنْهَا ، فَشَرَعَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ .
بَابُ مُخَالَفَةِ الطَّرِيقِ فِي الْعِيدِ وَالتَّعْيِيد فِي الْجَامِعِ لِلْعُذْرِ(2/208)
1657- عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
1658- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا خَرَجَ إلَى الْعِيدِ يَرْجِعُ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي خَرَجَ فِيهِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ .
1659- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ يَوْمَ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ ثُمَّ رَجَعَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
1660- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الذَّهَابِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فِي طَرِيقٍ وَالرُّجُوعِ فِي طَرِيقٍ أُخْرَى لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَوْلُهُ : ( أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ ) . قَالَ الشَّارِحُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْخُُروجِ إِلَى الْجَبَّانَةِ وَفِعْلَ الصَّلاةِ عِنْدَ عُرُوضِ عُذْرِ الْمَطََرِ غَيْر مَكْرُوهٍ .
بَابُ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ
1661- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّاسِ يَوْمَ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى ، فَأَنْكَرَ إبْطَاءَ الْإِمَامِ وَقَالَ : إنَّا كُنَّا قَدْ فَرَغْنَا سَاعَتَنَا هَذِهِ ، وَذَلِكَ حِينَ التَّسْبِيحِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .(2/209)
1662- وَلِلشَّافِعِيِّ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَهُوَ بِنَجْرَانَ : أَنْ عَجِّلْ الْأَضْحَى وَأَخِّرْ الْفِطْرَ وَذَكِّرْ النَّاسَ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة التَّعْجِيلِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ وَكَرَاهَةِ تَأْخِيرِهَا تَأْخِيرًا زَائِدًا عَلَى الْمِيعَادِ . وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّة تَعْجِيلِ الْأَضْحَى وَتَأْخِيرِ الْفِطْرِ .
وَأَحْسَنُ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي تَعْيِينِ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ حَدِيثُ جُنْدُبٍ عِنْدَ أَحْمَد بْنِ حَسَنٍ الْبَنَّاءِ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بِنَا يَوْمَ الْفِطْرِ ، وَالشَّمْسُ عَلَى قَيْدِ رُمْحَيْنِ وَالْأَضْحَى عَلَى قِيدِ رُمْحٍ .
بَابُ صَلَاةِ الْعِيدِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَمَا يُقْرَأُ فِيهَا
1663- عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد .
1664- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
1665- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَا : لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمَ الْأَضْحَى . مُتَّفَق عَلَيْهِ .(2/210)
1666- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي جَابِرٌ أَنْ لَا أَذَانَ لِصَلَاةٍ يَوْمَ الْفِطْرِ حِينَ يَخْرُجُ الْإِمَامُ ، وَلَا بَعْدَ مَا يَخْرُجُ ، وَلَا إقَامَةَ ، وَلَا نِدَاءَ ، وَلَا شَيْءَ ، لَا نِدَاءَ يَوْمَئِذٍ وَلَا إقَامَةَ .
1667- وَعَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ : بِـ ? سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? ، وَ ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? . رَوَاهُ أَحْمَدُ .
1668- وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مِثْلُهُ .
1669- وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ النُّعْمَانِ لِغَيْرِهِ فِي الْجُمُعَةِ .
1670- وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ وَسَأَلَهُ عُمَرُ : مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ ؟ فَقَالَ : كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِـ ? ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ? ، ? وَاقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ ? . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ .
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ .
قَوْلُهُ : ( لَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمَ الْأَضْحَى ) . وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ شَرْعِيَّةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ .(2/211)
قَوْلُهُ : ( أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ : بِـ ? سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ? ، وَ ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? . قَالَ الشَّارِحُ : وَأَكْثَرُ أَحَادِيث الْبَاب تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِيدَيْنِ بِـ ? سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى ? وَالْغَاشِيَةِ . وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى اسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا بِـ ? ق ? وَ ? اقْتَرَبَتْ ? . وَاسْتَحَبَّ ابْنُ مَسْعُودٍ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ . وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَرَأَ فِي يَوْمِ عِيدٍ بِالْبَقَرَةِ حَتَّى رَأَيْت الشَّيْخَ يَمِيدُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ وَقَدْ جَمَعَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ : كَانَ فِي وَقْتٍ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ بِـ ? ق ? وَ ? اقْتَرَبَتْ ? ، وَفِي وَقْتٍ بِـ ? سَبِّحْ ? وَ ? هَلْ أَتَاكَ ? .
بَابُ عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ وَمَحَلِّهَا
1671- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ فِي عِيدٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً : فِي الْأُولَى سَبْعًا ، وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ ، وَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : أَنَا أَذْهَبُ إلَى هَذَا .
1672- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْر سَبْعٌ فِي الْأُولَى ، وَخَمْسٌ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ .(2/212)
1673- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ : فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : هُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِرَاءَةَ .
1674- لَكِنَّهُ رَوَاهُ وَفِيهِ الْقِرَاءَةُ كَمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ الْمُؤَذِّنِ .(2/213)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عَدَدِ التَّكْبِيرَاتِ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَفِي مَوْضِعِ التَّكْبِيرِ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ . قَالَ الْعِرَاقِيُّ : هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ السَّبْعَ فِي الْأُولَى بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ . الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ مَعْدُودَةٌ مِنْ السَّبْعِ فِي الْأُولَى ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ . إِلِى أَنْ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ طَرِقِ حَسَّانَ أَنَّهُ كَبَّرَ فِي الْعِيدَيْنِ سَبْعًا فِي الْأُولَى وَخَمْسًا فِي الثَّانِيَةِ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ خِلَافُ هَذَا ، وَهُوَ أَوْلَى مَا عُمِلَ بِهِ . انْتَهَى . قَالَ الشَّارِحُ : وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيّ ( سِوَى تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ) ، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد ( سِوَى تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ ) ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ : إنَّ السَّبْعَ لَا تُعَدُّ فِيهَا تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَالرُّكُوعِ ، وَالْخَمْسَ لَا تُعَدُّ فِيهَا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ . إِلِى أَنْ قَالَ : وَأَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوَّلُهَا فِي عَدَدِ التَّكْبِيرِ وَفِي مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ . وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ هَلْ الْمَشْرُوعُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ تَكْبِيرَاتِ صَلَاةِ الْعِيدِ أَوْ الْفَصْلُ بَيْنَهَا بِشَيْءٍ مِنْ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَذَهَبَ مَالِكٌ(2/214)
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُوَالِي بَيْنَهَا كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَهَا ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ التَّكْبِيرُ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ يَقِفُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ ، يُهَلِّلُ وَيُمَجِّدُ وَيُكَبِّرُ . انْتَهَى مُلَخَّصًا .
بَابُ لَا صَلَاةَ قَبْلَ الْعِيدِ وَلَا بَعْدَهَا
1675- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
1676- وَزَادُوا إلَّا التِّرْمِذِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ : ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَبِلَالٌ مَعَهُ فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ ، فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تَصَدَّقَ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا .
1677- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمَ عِيدٍ فَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ، وَذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَهُ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ .
1678- وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْعِيدِ .
1679- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ بِمَعْنَاهُ .(2/215)