بحوث تربية الفتاة المسلمة
للدكتور عدنان حسن باحارث
رئيس قسم التربية وعلم النفس بكلية المعلمين بمكة
التربية الإيمانية للفتاة
نسخة للطباعة إرسال لصديق
1ـ حاجة الفتاة إلى التدين
تشير العديد من الدراسات التربوية المعاصرة إلى وجود حاجة نفسية ملحة عند الشباب عموماً نحو التدين، خاصة في الفترة من 12-16سنة، تدفعهم نحو العبادة والتنسك، ولاسيما عند الفتيات، حيث يكثرن السؤال عن الدين والمعتقدات ويتوجهن نحو العبادة.
وهذه المشاعر تظهر بصورة عامة للبالغين من الشباب رغم طغيان المادة في هذا العصر، وفقدان كثير من الحقائق الإيمانية، والمفاهيم الدينية، والعجيب أن مثل هذه المشاعر الدينية تظهر حتى عند الناشئين في الأسر غير المتدينة، إلا أنها سرعان ما تذبل إذا لم تجد رعاية وتوجيهاً، مما يدل على غلبة الفطرة الإنسانية، وحاجتها الماسة للإشباع الروحي إلا أنها في حاجة إلى رعاية واحتضان.
وقد أثبتت التجربة المعاصرة أن غياب الدين الحق عن واقع الشباب يحدث لديهم خلخلة نفسية عظيمة، وفراغاً روحياً رهيباً، قد يسوق بعضهم إلى الأمراض النفسية ، وربما إلى تحطيم الذات، والتخلص من الحياة، ولا سيما عند الإناث.
كما ثبت في الجانب الآخر أن الدين الحق أعظم حصن يحفظ الإنسان من الأمراض النفسية، وأفضل وسيلة للراحة والسعادة القلبية، ولهذا تقل حالات الانتحار بين المتدينين، وتنخفض حدة الأعراض الاكتئابية بينهم.
مما يحتم على منهج التربية أن يحقق للفتاة الفرصة التربوية الكافية لإشباع هذا الجانب الروحي من كيانها النفسي
2ـ أهداف تربية الفتاة الإيمانية وخصائصها التربوية
أهم خصائص الفتاة الإيمانية:
1-اختصاصها بقوة القناعة الاعتقادية، وقلَّة النزعة الإلحادية والجدلية، مما يسهل مهمة تربيتها من الناحية الإيمانية.
2-اختصاصها بعمق التأثر الروحاني، وسهولة الانقياد الإيماني، مما يستلزم ضرورة اعتماد الإيمان أساساً لتربيتها.(1/1)
3-اختصاصها بشدة التأثر بأسلوب الوعظ والتذكير باعتباره وسيلة من وسائل التربية الإيمانية مما يتطلب استخدام هذا الأسلوب في تربيتها.
4-اختصاصها بالحاجة إلى العقيدة الراسخة لتقبلها لطبيعتها الأنثوية، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات اجتماعية جسيمة، ومعاناة صحية شديدة.
5-اختصاصها بسهولة تقبل الخرافات الشائعة، والتأثر بأساليب السحرة والمشعوذين، مما يتطلب حمايتها من ذلك، وتوعيتها بنواقض الإيمان، مع ضرورة تنمية الإيمان القوي الدافع إلى الالتزام بجميع شعبه ومقتضياتها وسلوكياتها.
أهداف تربية الفتاة الإيمانية:
1-معرفة الفتاة بالله تعالى ومحبته في ضوء الوحي المعصوم.
2-ارتباط سلوك الفتاة بمقتضى الإيمان بالله تعالى.
3-تجريد الفتاة التوحيد لله تعالى والبراءة من الشرك.
4-استحضار الفتاة رقابة الله تعالى الدائمة مع شعورها بالخوف منه والإجلال له.
5-إحساس الفتاة الدائم بالافتقار إلى الله تعالى.
6-إيمان الفتاة بوجود الملائكة وأنهم خلْقٌ من خلْقِ الله تعالى.
7-محبة الفتاة للملائكة جميعاً وموالاتهم.
8-تعرُّف الفتاة على وظائف الملائكة ورعاية حقوقهم.
9-تفريق الفتاة بين إلهامات الملائكة بالخير ووسوسة الشيطان بالشر.
10-تأثر الفتاة بحال الملائكة في خوفهم وإجلالهم لله تعالى.
11-إيمان الفتاة بجميع كتب الله تعالى المنزلة إجمالاً مع إيمانها التفصيلي بالكتب التي ثبت ذكرها بالوحي.
12-اعتقاد الفتاة الجازم بأن القرآن خطاب الله تعالى للمكلفين من عباده جميعاً.
13-اتخاذ الفتاة القرآن مقياساً لصدق الإيمان وصحة العمل.
14-إيمان الفتاة الراسخ بضرورة العمل بالقرآن لصلاح الدنيا والنجاة في الآخرة.
15-حرص الفتاة على فهم خطاب الله تعالى في كتابه العزيز والعمل به.
16-إيمان الفتاة بجميع الرسل ومحبتهم إجمالاً مع إيمانها التفصيلي بمن ثبت ذكرهم بالوحي.(1/2)
17-إدراك الفتاة المنَّة الربانية ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونعمة الله تعالى عليها بانتسابها لأمته.
18-امتثال الفتاة طاعة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - في جميع شؤون حياتها والاقتداء بسنته.
19-اعتقاد الفتاة بأن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي.
20-حرص الفتاة على معرفة سيرة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - .
21-تيَقُّن الفتاة الجازم بحقيقة اليوم الآخر وصدق حدوثه.
22-تسليم الفتاة التام بالثابت من أخبار وأحداث اليوم الآخر.
23-تأثر سلوك الفتاة إيجابياً بعقيدة اليوم الآخر.
24-ربط جميع أعمال الفتاة بالجزاء المنتظر في اليوم الآخر.
25-إدراك الفتاة حقيقة الحياة الدنيا وقدرها في مقابل حقيقة الدار الآخرة وعظيم شأنها.
26-تصديق الفتاة الجازم بقضاء الله تعالى وقدره لكل جزئيات وكليات حوادث الكون.
27-تسليم الفتاة لمشيئة الله تعالى وقدره مع كمال اعتقادها بعدله ولطفه ورحمته في كل ما قضى وقدر.
28-اعتقاد الفتاة بمسؤوليتها الكاملة أمام الله تعالى عن جميع أعمالها الإرادية.
29-حرص الفتاة على الأخذ بالأسباب المشروعة مع حسن توكلها على الله تعالى.
30-إدراك الفتاة لعظيم قدرة الله تعالى وسعة علمه وإحاطته الكاملة بخلقه جميعاً.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
3ـ اعتدال الفتاة في نهج التَّنَسُّك(1/3)
يُعد الاعتدال في منهج العبادة، والترقي الروحي من وسائل التنمية الروحية لكونه طريقة ناجحة للمداومة على الأعمال الصالحة، فإن المشادَّة لا تصل بصاحبها إلى شيء، وقد نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:(إن الدين يُسر، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا),وبين - عليه السلام - لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لما أمعن في التَّنسُّك: أن للبدن حقاً في الرعاية، وكذلك للأهل، ولمن حوله من أصحاب الحقوق في الحياة الاجتماعية العامة، بحيث لا تستهلك مناهج العبادة – بمعناها الخاص- كل نشاط الإنسان الحيوي، فتتعطل مصالح الدنيا.
ولما كان للفتيات من التفوق الديني والخلقي ما قد يسوق بعضهن إلى مزيد من الانهماك في أداء الشعائر التعبدية والتَّبتُّل، حتى يخرجن عن نهج الاعتدال، وربما يصلن إلى درجة الخبل والجنون، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعيدهن إلى المذهب الوسط، كلما وصله عن بعضهن شيء من المبالغة، فهذه أخت عقبة بن عامر رضي الله عنهما، نذرت أن تمشي إلى البيت الحرام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لتمشِ ولْتركب), ولما أخبرته عائشة رضي الله عنها عن امرأة تكثر من العبادة ، وتخرج عن نهج الوسط، قال - عليه السلام - مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) وهكذا نرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يردهن إلى المنهج الوسط والاعتدال عند كل انحراف أو غلو.
ولا يفهم من هذه التوجيهات رفض التنسك والتفرغ للعبادة؛ فإن العبادة تفقد لذتها ما دام الإنسان منهمكاً في نمطية الحياة اليومية دون انسحاب. ولكن المقصود بالاعتدال في التربية الروحية: أن يعقد المسلم بينه وبين ربه - عز وجل - صلة دائمة لا تنقطع، تلازمه في كل حين، ومع كل خاطرة وفكرة، بحيث يجعل كل نشاطه – الواجب والمباح- عبادة مع المداومة الكاملة دون انقطاع.
نسخة للطباعة إرسال لصديق(1/4)
4ـ شعور الفتاة بالحاجة الدائمة إلى الله تعالى
من أعظم آثار الإيمان بالله تعالى: وجود هذا الشعور العميق والملح في النفس الإنسانية الذي يجعلها في حاجة وفقر دائم إلى الله تعالى، تستمد منه العون والعطاء، خاصة في وقت الشدائد والمحن. ويستوي في هذا الشعور المؤمن والكافر، وحتى الملحد الذي ينكر وجود الله تعالى، فإن المحن تزيل الشبهات، وتبعث الإيمان.
إن كل ما في هذا الكون مدين في وجوده إلى الله تعالى، ومفتقر إليه سبحانه من أجل بقائه ودوامه، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } [الأنعام: 73 ] وقال أيضاً: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] وقال - عز وجل - : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [سورة فاطر: 41].
وهذه الحاجة دائمة لا تنقطع مهما تقدم الإنسان في علومه ومعارفه ومهما بلغ من السيطرة والتحكم في المادة، فهو قلق مضطرب، حتى يرجع إلى القوة الإلهية يستند إليها، فلا يتصور في وقت من الأوقات أن يأتي يوم على الإنسان يشعر فيه بالاستغناء عن الله تعالى.(1/5)
إن التصور الإسلامي ينكر ما ذهب إليه البعض، من أن اللجوء إلى الله أو الدين كان لمجرد حاجة مرحلية في فترات زمنية مرت بالإنسان دفعته إلى هذه المعتقدات، متناسين أن اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه حاجة فطرية في كينونة الإنسان، كحاجة الطعام والشراب، بل اعتبر الإسلام مجرد شعور الفرد باستغنائه عن الله طرفة عين: كفراً كما دل البحث الميداني الذي أجري على مجموعة من الفتيات: على أن الرغبة في اللجوء إلى الله، والحاجة الماسة للقرب منه - سبحانه وتعالى - كانت واضحة في كتابات الفتيات الحرة، فهذا مما يشير إلى عمق هذا الشعور في كيان الإنسان لو ترك على حاله دون تدخُّل مفسد.
إن الاستشعار الدائم بالضعف ضروري للإنسان، فإنه يُثير في النفس انفعال الخضوع، وهو بالتالي يدفع نحو سلوك طريق الطاعة، فيكون شعور الفتاة بالحاجة إلى الله تعالى الدائمة وسيلة جادة تدفعها نحو الانهماك في طاعة الله تعالى والأخذ بأوامره، واجتناب نواهيه، بحيث يشمل هذا الشعور كل تفصيلات الحياة، ومتطلباتها كما رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - :(ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله شِسْعَ نعله إذا انقطع), فلم يترك منهج الإسلام التربوي مجالاً للإنسان المسلم بأن ينقطع عن ربه طرفة عين ولا أقل من
نسخة للطباعة إرسال لصديق
5ـ استشعار الفتاة العناية الربانية بإنزال الكتب(1/6)
اقتضت حكمة الباري - سبحانه وتعالى - أن لا يترك الإنسان على هذه الأرض دون إرشاد أوهداية، خاصة إذا علم أن الإنسان بطبيعته يعجز عن إدراك المصالح الحقيقية وطرق الوصول إليها بنفسه، لهذا جعل الله - سبحانه وتعالى - له هذه الشريعة – المتمثلة في الكتب – طريقاً للهداية والإرشاد؛ فمن أين يمكن للإنسان أن يجد الإجابة المقنعة عن أسئلة النفس الملحة لولا عناية الله بحاجاته من خلال الكتب، فغاية الوجود، والمصير الذي ينتهي إليه الإنسان، ومعرفة خالقه، كل هذه أسئلة تدور في خلد الإنسان، ولا بد من مصدر صحيح يجيب عنها بصورة مقنعة.
يقول الله - سبحانه وتعالى - في بيان فضله بإنزال الكتب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} [النساء: 174] ويقول أيضاً: { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المائدة: 15- 16] .
إن استشعار هذه العناية الإلهية بإنزال الكتب يملأ نفس الفتاة طمأنينة وراحة وصدقاً في التوجه نحو الباري - سبحانه وتعالى - بكمال المحبة والخضوع والشكر، خاصة إذا علمت أن الشريعة الخاتمة شريعة ثابتة، لا تتناهى معاني نصوصها، وهي كاملة لا تحتاج إلى من يكمل نقصاً فيها، كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3]، ثم إن إنزال الكتب، وبعث الرسل بها إنما هو محض فضل من الله تعالى، ليس واجباً عليه، فإدراك هذه المعاني الجليلة يبعث الشعور بالعناية الربانية في نفس الفتاة المؤمنة.(1/7)
نسخة للطباعة إرسال لصديق
6ـ استسلام الفتاة للحاكمية الربانية
ويقصد بالحاكمية لله تعالى: أن يقوم العبد المؤمن بتحقيق مراد الله تعالى ظاهراً وباطناً حسب استطاعته، فالشريعة إنما وضعت لعتق المكلفين من أهوائهم؛ حتى يكونوا عبيداً لله تعالى اختياراً، كما هم عبيد له اضطراراً، وهذا مضمون معنى العبادة ومستلزماتها من الذل والخضوع والانقياد.
والكتب تمثل إرادة الله تعالى من عباده باعتباره –- سبحانه وتعالى - - مصدر السلطان الأول والأخير في الوجود، فتتلمس الفتاة من خلال تطبيق الكتاب: مرادات الله تعالى في كل جزئية وكلية، وتشعر بارتباطها جميعاً بجذور العقيدة؛ فلباس الفتاة – مثلاً- ليس بذي قيمة حقيقية إن لم يكن تعبيراً عن موقف فكري، ومبدأ تؤمن به وتمارسه في واقع الحياة، فما قيمة الحجاب إذا كان الدافع لارتدائه العادات والتقاليد "الهشة" وليس حكم الله تعالى، وما قيمة أيِّ سلوك تقوم به الفتاة إن لم يكن صارداً عن جذْر الإيمان بحق الله تعالى في الحكم والتشريع.
إن القيمة الحقيقية التي تقوَّمُ بها الأعمال هي: قدر حظِّها من الارتكاز على الاعتقاد وأصول الإيمان، المتمثل في استشعار الرغبة الصادقة في تحقيق مراد الله تعالى، وحاكميته في واقع الحياة من خلال السلوك الذي وصفه في الكتاب ورغَّب فيه، مع ربط كل عمل من الأعمال الإرادية الظاهرة أو الباطنة بأصل المعتقد.
ولقد تعرَّض مبدأ الحاكمية -بهذا المعنى- في العصر الحديث ـ ولا سيما بعد الثورة الفرنسية عام 1789م وظهور مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان ـ إلى هزَّات شديدة أخذت تنقل الإنسان – ولا سيما الأوربي- بالتدريج بعد مراحل طويلة من الخسف والإذلال إلى مراتب عالية، قد تصل في علوِّها إلى حد الإلهية، فيسبغ على نفسه من خلال مبادئ الحرية والديموقراطية – خصائص الإلهية في الحكم والتشريع والسلطة، التي لا تكون إلا لله تعالى وحده.(1/8)
ومن آثار الإيمان بالكتب انضباط سلوك المكلفين بمقتضيات الشريعة التي بيَّن فيها الوحي الرباني نهج السلوك الإنساني المرضي في العبادات، والمعاملات، وفي جوانب الحياة المختلفة، بحيث تكون معالم السلوك التي أوضحتها الشريعة: حجة على الناس وليس العكس، وتكون مقرراتها الخلقية ضوابط لسلوك الإنسان، بحيث لا تختل مقررات الشارع الحكيم عند الفرد فيما هو مصلحة أو مفسدة على الدوام، مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام:(الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه..), بمعنى التزام قضاء الله التشريعي دون اختيار، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب: 36] مع ضرورة الرضا القلبي بأوامر الله تعالى، ومحبتها، بحيث تحب الفتاة ما أحبه الله، وتبغض ما أبغضه الله، ويكون التزامها بالأحكام: باعتبارها ضوابط سلوكية محبوبة، وليس باعتبارها قيودًا دينية مكروهة كما يظهر من بعضهن.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
7ـ انقياد الفتاة بالطاعة للرسول الكريم
إن الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام وبخاتمهم على الخصوص، لا ينحصر في المحبة القلبية التي ليس لها شاهد من واقع الحياة العملية التطبيقية، فإن طاعة المحبوب وموافقة مراده من أعظم أدلة صدق المحبة وخلوصها.
إن الغاية الكبرى من إرسال الرسل عليهم السلام إلى الناس: تحقيق مرادات الله تعالى من خلال طاعتهم كما قال - سبحانه وتعالى - : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ……} [النساء: 64] فإذا لم يتمثل سلوك المكلفين من المؤمنين بالطاعة للرسل كان سلوكهم أعظم دليل على وجود خلل في محبتهم، وشوائب في صدق إخلاصهم في دعوى الإيمان.(1/9)
ورسالة النبي الأعظم محمد - صلى الله عليه وسلم - تمثل أعظم وأفضل الرسالات السماوية وأكملها حيث وصلت البشرية إلى المرحلة التي استكملت فيها نسبة من التطور تؤهلها لأن تكون أمة واحدة، تعمل برسالة واحدة: فأرسل الله رسوله محمداً صلوات الله عليه… برسالة هي خاتمة الرسالات الربانية والجامعة لجميع شرائع الله للناس، فتلخصت بذلك طاعة المكلفين للرسل الكرام، عموماً، وانحصرت في طاعة خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد بعثته؛ إذ حمل أعباء الرسالة الربانية الأخيرة، والناسخة لما سبقها من الشرائع والسنن، والتي ارتضاها - سبحانه وتعالى - لتكون معياراً ثابتاً ودائماً للمكلفين؛ لضبط صدق الطاعة والإيمان، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، ففي الآية إشارة إلى ما أخذه الله تعالى من المواثيق على جميع النبيين وأممهم بأن يؤمنوا بالرسالة الخاتمة، وبصاحبها محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فاعتبر ما سبقها منسوخاً بها، لا يصح العمل به، لكونه عليه الصلاة والسلام مبعوثاً للناس كافة، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا …..} [سبأ: 28].(1/10)
ومن هنا ألزم - سبحانه وتعالى - عباده المكلفين بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - صاحب الرسالة الخاتمة فقال: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، وجعل الله - عز وجل - طاعته دليل صدق الإيمان فقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وجعل الله طاعته وسيلة دخول الجنة فقال عليه الصلاة والسلام:( كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبي، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله، قال: من عصاني فقد أبى), وهذه الطاعة شاملة لكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرآناً كان أو سنة، فهما كالشيء الواحد، فكما كان جبريل - عليه السلام - ينزل بالقرآن فقد كان ينزل أيضاً بالسنة يُعلِّمها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
لقد كان لهذه التوجيهات الربانية والنبوية أثرها البالغ في جيل الصحابة رضي الله عنهم ؛ إذ كانوا يعتبرون توجيهاته - عليه السلام - ملزمة لهم، لا يخرجون عنها، فهذه فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما لما خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد رضي الله عنهما كره أهلها ذلك النكاح لانخفاض مقام أسامة وأبيه من جهة الشرف والمكانة، فقالت: (( لا أنكح إلا الذي دعاني إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنكحته )).
وهذه أم شريك لا ترى لها حقاً في قتل الوزغ حتى تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جواز ذلك، ولما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصيام عاشوراء: لم تجد المرأة المسلمة بداً من أن تصومه وتعاني تدريب الصغار على صيامه؛ حين كان صيامه مفروضاً على المكلفين، ومستحباً لغيرهم.(1/11)
إن قناعة الفتاة المؤمنة بأن الخير دائماً في امتثال أمر الله تعالى المتمثل في طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحررها من هوى نفسها، وهوى غيرها من الخلق، ويحفظ لها توحيدها، فإن المكلف ينقص من توحيده بقدر ما يخرج عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
8ـ وجوب تحقق الفتاة بمحبة النبي الكريم
إن الشعور بالانتماء إلى الأمة المؤمنة التي يقودها موكب الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام: يبعث شعوراً بالمحبة الصادقة تجاه هذا الكيان الإيماني الكبير، الذي امتثل مراد الله تعالى في أكمل صورة بشرية، لا مزيد عليها، ولا مثيل لها في غيرهم، ممن لم ينل شرف النبوة من عامة الخلق، فاستحقوا واستوجبوا كمال المحبة من المؤمنين لكمال مقامهم، فليس فيهم، ولا يصدر عنهم ما يدعو إلى النفرة، أو يشعر بالقبح في سلوكهم، أو صورهم.
وكما أن محبَّتهم في العموم واجبة لاستحقاقهم إياها، فإن تخصيص محمد - صلى الله عليه وسلم - بمزيد محبة وإجلال أمر مطلوب؛ إذ هو أفضلهم، وأكرمهم على الله تعالى، وفي الحديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( أنا سيد ولد آدم …), وهذا ليس من باب الفخر، وإنما هو من باب البيان الذي يجب عليه تبليغه للأمة، حتى يعتقدوه ويعملوا به، ويعرفوا مقامه ومرتبته، باعتباره أفضل الخلائق أجمعين؛ بل إن محبته - عليه السلام - من عناصر صحة الإيمان، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين), كما أن محبته من تمام محبة الله تعالى، فالأمة تحبه لحب الله تعالى إياه. فالواجب أن يُحَبَّ أعلى درجات المحبة، فإن أسبابها ومستلزماتها: من الجلال والعظمة والكمال الخَلْقي والخُلُقي كلها قد جُمعت في شخصه عليه الصلاة والسلام، فليس للمؤمن أمام شخصه الكريم إلا المحبة والإجلال والتبجيل.(1/12)
وقد مثل الجيل الأول أعلى درجات المحبة له - صلى الله عليه وسلم - ، فهذه أم سليم رضي الله عنها تحتفظ بفم قربة قطعتها بعد أن شرب منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرى تدعو الله أن تكون رفيقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، وتفرح إحداهن فرحاً عظيماً لما بعث إليها يقرأ عليها السلام، وربما وهبت إحداهن نفسها له - عليه السلام - لينكحها محبة فيه، وربما ماتت إحداهن لما علمت برغبته في نكاحها، ولما أرادت إحداهن وصفه لبعض التابعين قالت: "لو رأيته رأيت الشمس طالعة".
وقد بلغ بإحداهن أن تجمع عرقه فتجعله في الطيب، ووصل الحد بأخرى أن تشرب بوله - عليه السلام - كل ذلك كان يتم بعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإقراره، مما يدل على أن هذه الممارسات من مظاهر محبته، وأن ذلك الجيل لم يخرج بهذه الأعمال عن نهج الاعتدال إلى الغلو المذموم الذي قد يقع فيه الغلاة.
وقد ظهر واضحاً في ذلك الجيل التفريق بين محبته عليه الصلاة والسلام وبين الغلو في شخصه الكريم، حيث برز ذلك واضحاً في سلوك أعظم فتاة محبَّةٍ للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، لما نزلت براءتها في حادثة الإفك، حيث قيل لها: قومي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله"، فكانت مدركة ومفرقة لما يجب لله تعالى، وما يكون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/13)
إن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تنقطع بغياب شخصه الكريم، فإن المطلع على سيرته المباركة، وفضائله، وشمائله لا يملك إلا أن يحبه، ويجلَّه ويتعلق به تعلقاً عظيماً، فهذا التابعي الجليل ثابت البناني يقول لأنس بن مالك - رضي الله عنه - : "أعطني عينيك التي رأيت بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبلهما" فالمجال مفتوح للفتاة المسلمة المعاصرة، للترقي في مراتب الإيمان بالرسل الكرام عموماً، وبالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - خصوصاً، من خلال الاطلاع على السيرة العطرة، والأخبار الشيقة الواردة فيها
نسخة للطباعة إرسال لصديق
9ـ إحساس الفتاة بالمسؤولية الفردية أمام الله تعالى
يظهر واضحاً في منهج التربية الإسلامية أن الدعوة إلى الجماعية والوحدة، ونبذ الفرقة والفردية من أعظم مقاصد هذا الدين للحياة الدنيا، إلا أن الشأن يختلف في الحياة الأخرى، فإن الفردية تبرز في أشد صورها، وأعلى مظاهرها، فتتمثل في رغبة شخصية عارمة للنجاة والفوز، مع إغفال تام لكل الصلات الاجتماعية، مهما كانت حميمة، حيث تواجه كل نفس – منفردة- مصيرها الخاص، الذي لا يتأثر بمصائر الآخرين.(1/14)
إن هذا الشعور دفع المرأة المسلمة الأولى للإيمان بالله ابتداء، دون مشورة من أحد، أو استئذان من أحد، منطلقة من المسؤولية الفردية. فهذه الفتاة الصغيرة أم كلثوم بنت عدو الله عقبة بن أبي معيط، تهاجر على قدميها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي بعد بكر لم تعرف الحياة. ووصيلة بنت وائل بن عمرو بن عبد العزى لم يمنعها إحجام قومها عن الإسلام؛ أن تكون أول من أسلم وهاجر من قومها. ولم يمنع تطاول قريش، وشططها من أن تكون الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف رابع من أسلم، وأسماء بنت عميس رضي الله عنها من أوائل من أسلمن من النساء قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم. وكذلك أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تختار هذا الطريق وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها. وأم سعيد بنت بزرج لما قُرئ عليها القرآن لم تتباطأ عن الإسلام، فكانت أول من أسلم من أهل اليمن.
إن إدراك الفتاة المسلمة المعاصرة لطبيعة المسؤولية الفردية أمام الله تعالى يدفعها إلى المبادرة الشخصية تجاه هذا الدين، في صورة استشعار ذاتي بضرورة استيعاب الخطاب التكليفي، ومن ثم المسارعة في تطبيقه، والعمل به.
ولعل من أبلغ الأمثلة على هذا الاستشعار، موقف الفتاة التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن ينظر إليها لما همَّ بخطبتها، فتردَّد والدها في تطبيق الأمر، فلما سمعت الفتاة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي في خدرها قالت" إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرك أن تنظر، فانظر…" وكذلك قصة جليبيب الذي اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزواج من فتاة كره والدها زواجها منه حيث قالت الفتاة لهما: "أتردون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، ادفعوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لن يضيعني…".(1/15)
إن هذا الإدراك للمسؤولية الفردية أمام أحكام هذا الدين، هو الأساس في بناء شخصية الفتاة المسلمة الملتزمة بالدين، التي تصمد أمام المتغيرات الاجتماعية الكبيرة، والانحرافات الكثيرة التي يتعرض لها الشباب في هذا العصر.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
10ـ شعور الفتاة بالمراقبة الربانية
لقد أوضح القرآن الكريم في مواضع متعددة، أن الله - عز وجل - محيط بعباده، ولا يخفى عليه من أمرهم شيء ، حتى خلجات النفس، والمقاصد والنيات، فيقول - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] ويقول عز من قائل: {….وَهو مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] فهو مع خلقه بعلمه وقدرته عليهم أينما كانوا، لا تغيب عنه أفعالهم، ولا إرادتهم الصالحة أو الفاسدة، فهذه الإحاطة، وهذا السلطان الرباني الذي لا يحده شيء، لو أدركته الفتاة، وأيقنت به: أورثها حياءً من الله يدفعها نحو تحمل أعباء الطاعة وامتثال الأوامر.
والعجيب في كثير من شباب هذا العصر قلة مراقبتهم لله تعالى، على الرغم من طبيعة الانبعاث الإيماني في هذه السن، ومع ذلك فقد دلت إحدى الدراسات الميدانية أن الخوف من الله تعالى يأتي في آخر العوامل التي تمنع الطالب من الغش في الاختبارات، في حين تأتي شدة الأساتذة في المرتبة الأولى للأسف الشديد.
ومن مظاهر الإحساس بمراقبة الله تعالى: الشعور بالذنب، والتقصير في جنب الله تعالى. وغالباً ما تعاني الفتيات من هذا الإحساس فينبعث في نفوسهن الشعور بالاثم عند إهمالهن أداء الصلاة – مثلاً- خوفاً من عقاب الله تعالى، ويملن نحو القرب من الله تعالى، والأنس به.(1/16)
وهذا الشعور ليس مقصوراً على الفتيات المؤمنات فحسب، بل حتى غير المسلمات يشعرن بذلك، وينتابهن نفس الإحساس، فهذه فتاة غربية في المرحلة الثانوية تعترف بتقصيرها في جنب الله تعالى فتقول: "أنا أحمل الهم إلى درجة زائدة، بسبب أن معتقداتي الدينية مضطربة، كما أن حياتي مخالفة تماماً لتلك التي أرى المتدين الحق لابد أن يحياها". إن هذا الشعور يكاد يكون عاماً بين الفتيات مما يعتبر رصيداً جيداً لإحياء الشعور بمراقبة الله تعالى في نفوس الفتيات المتوجهات نحو النضج الخلقي، والجسمي.
ومن مظاهر الشعور بمراقبة الله تعالى أيضاً: وجود ذلك السلطان الداخلي الذي يبعث النفس، أو يكفها عن الخطأ في الوقت الذي أخفق فيه السلطان الخارجي في ضبط سلوك الإنسان، وكفه عن اقتراف الجرائم والموبقات، فلم يعد سوى ضابط الوازع الداخلي لإيقاف اندفاع الإنسان المنحرف عند حده. إنه وخز الضمير الذي يغذيه الإيمان بمراقبة الله تعالى فيكف صاحبه عن ارتكاب الخطأ، وفي الحديث:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن…), بمعنى أن الإيمان بهذه المراقبة الربانية هو العاصم الحقيقي وراء إحجام الصالحين عن المعاصي والآثام.
وقد دل الواقع على أن تأثير الضمير الحي أبلغ من الضابط الاجتماعي المتمثل في العادات والتقاليد ، فإنها لا تصمد أمام المغريات بغير الوازع الداخلي من الضمير الحي، فهذه العادات المتوارثة والتقاليد تنهار برمَّتها أمام الغزو الثقافي الغربي الذي تمثل في ملابس النساء القصيرة التي غزت الأسواق العربية، فلبستها المرأة العربية كاشفة عورتها دون حياء أو خجل. في حين نجد أن المرأة العربية المؤمنة لما هوت في المعصية عندما غفل ضميرها، هبت معترفة – بعد يقظتها- لطلب التطهر من آثار المعصية، رغم شدة العقوبة وصرامتها.(1/17)
لقد ثبت يقيناً أن الضمير أقدر على ضبط السلوك الإنساني من أي ضابط آخر، فالإنسان أشد ميلاً إلى الحكم الداخلي الذاتي، وأكثر تأثراً بوخز الضمير من مجرد نقد الآخرين
نسخة للطباعة إرسال لصديق
11ـ تنمية شعور الفتاة بالرقابة الذاتية
إن قناعة الفتاة بأن التكاليف في التصور الإسلامي: معاناة، وكدح وجهد، ومجانبة للراحة، وأنها رقابة دائمة على الجوارح والنوازع أمر ضروري لتربية الفتاة، هذا الإدراك للتكاليف مع القناعة التامة بالأحكام، كالتحريم والتحليل ونحوهما ضروري بحيث تصل هذه القناعة إلى الجذور القلبية عند الفتاة، فإن مجرد مخالفة الأمر مرة أو مرتين كاف للشعور بالإثم والندم إلى درجة لا تحتاج فيها الفتاة إلى رقابة الوالدين، أو غيرهما من المربين. وفي الجانب الآخر: لو كانت هذه المراقبة صارمة دون قناعة ذاتية داخلية، فإن الأمراض والأزمات النفسية ، والمعاناة قد تهدد الفتاة.(1/18)
ومن هنا فإن إحياء ضمير الفتاة كاف للقيام بدور الرقابة عليها: فلا يُحتاج إلى كثير جهد في توجيهها، فإن الشعور بالإثم كاف للتأديب والردع. ثم إن راحة نفسها، واطمئنان قلبها بموافقتها ضميرها، واجتناب مخالفتها له يحمل للفتاة – في الجانب الآخر – قدراً كبيراً من التأييد والثواب. إلا أن الضمير لا يصل إلى درجة الفعالية المطلوبة إلا بالتدريب، فإن كلَّ شيء من قوى الإنسان المادية أو المعنوية تقوى بالمران، وتضعف بالإهمال ، فقوى البدن تقوى وتنمو بالرياضة، وقوى العقل تقوى وتنمو بالتأمل والاطلاع، وحل المشكلات، "والضمير في ذلك شأنه شأن البدن والعقل، يقوى بالتربية ويضعف بالإهمال، وتتمثل تقويته في صورة اتباع أوامره والخضوع لها، بحيث لا يخالف الإنسان صوت ضميره"، فإن وقع في المخالفة أثار الضمير الحي في النفس: الشعور بالندم، وبالتالي يدفعه هذا الشعور إلى شيء من الحماس الديني، والتوجه إلى الله تعالى، مما يدل على أن الضمير في حد ذاته ذخيرة تربوية عظيمة، ووسيلة فعَّالة لإحياء جانب الإيمان بالله تعالى في نفس الإنسان.
12ـ دور الإيمان بالله في توحيد نوازع شخصية الفتاة(1/19)
يقوم التصور الإسلامي على مبدأ التوحيد الذي يتمثل في توحيد جهة التَّلقِّي، وتوحيد جهة التوجُّه، وهي مضمون قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وهي أيضاً مضمون كلمة التوحيد العظمى: "لا إله إلا الله" والتي تحمل أبلغ صيغ حصر الألوهية لله تعالى وحده، فالقاعدة التي تقوم عليها العقيدة الإسلامية: "أن الألوهية واحدة لا تتعدد: هي ألوهية الله سبحانه، والعبودية تتمثل في كل ما وراء ذلك" فإن أكبر أصول عقيدة الإسلام: وحدانية الله تعالى، وأن جميع المخلوقات من أشرفها إلى أدناها عبيده، فهي ألوهية يتفرد بها الله - عز وجل -، وعبودية يشترك فيها كل ما سوى الله من الخلائق دون استثناء، وهذه قاعدة الكون، حيث خص الله نفسه بالوحدانية، وجعلها دليلاً عليه، وجعل قاعدة الخلق هي الازدواجية.
ومن هنا فإن إعلان الشهادتين في حقيقته: "إشهار وتسجيل للانتماء الإرادي إلى الأمة الربانية بعد الإيمان بمبادئها الفكرية والاعتقادية العظمى ، وعناصرها التفصيلية، والتزام بإسلام القياد في مسيرة الحياة لله الرب الخالق الباري… ثم لرسوله المبلغ عن ربه"، مع الإدراك بأن أي تلقٍّ من غير هذا المصدر الوحيد، أو إرادة غيره بالعمل ، يعد خروجاً عليه يستلزم العقوبة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [النساء:116]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( لا طاعة لبشر في معصية الله), وقال أيضاً:(من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله : حرم ماله ودمه...).(1/20)
إن هذا التوجُّه للشخصية الإنسانية يسري ليشمل كل جوانب الحياة، بكلياتها وجزئياتها، بل حتى خلجات النفس وهواجسها، فضلاً عن الشعائر التعبدية، والأفكار والتصورات والمشاعر والعواطف التي تصدر عن الإنسان، كل ذلك يدخل ضمن مفهوم العبودية لله تعالى وتوحيده.
وقد عبَّر ابن تيمية رحمه الله عن معنى العبادة بصورة دقيقة فقال: هي "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"، وعلى هذا الفهم تكون الجزئيات – فضلاً عن الكليات – مرتبطة برباط وثيق بأصل العقيدة، كما ينبعث من الأصل الاعتقادي روح فعالة يسري في كل جوانب النشاط الإنساني – الظاهر والباطن، العظيم والحقير – ليحكمه بالإرادة الإلهية المطلقة. وقد عبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه القضية الكبرى بمثال يهدم كل فكرة، أو تصور يروم إخراج أيِّ جزء من سلوك الإنسان، أو تصوراته ومعتقداته – مهما كان صغيراً- من مفهوم الدين والتوحيد والعبودية، فقال: "…. وفي بضع أحدكم صدقة …" فلم يترك - عليه السلام - حتى هذه الجزئية التي قد يغفلها البعض ويخرجها عن مجال العبادة والتوحيد.
هذا التصور لتوحيد النوازع الإنسانية المختلفة يبعث في نفس الفتاة – مع الاطمئنان والسكينة النفسية- توحيد الشخصية ، ومعرفة الهوية في سنٍّ تتعرض فيها لتغيرات نفسية وجسمية وعاطفية كبيرة، وتقلبات في المشاعر والأفكار والاتجاهات، تسعى من خلالها باحثة عن هويتها الذاتية، لتستقر عليها، فيأتي هذا الأثر الإيماني المنبعث من الإيمان بالله تعالى ليضبط هذه المشاعر والاتجاهات، ويوحِّد مسارها إلى الله تعالى في منهج إيماني متكامل.
13ـ ربط أحكام القرآن بالعقيدة في نفس الفتاة(1/21)
إن ارتباط الأحكام بأصل العقيدة من وسائل تنمية الإيمان بالكتاب، إذ ترى الفتاة عند تطبيقها للأحكام الاتصال الوثيق بين العقيدة والنظم، بحيث تسوقها العقيدة إلى النظام، ويدلُّها النظام –بجزئياته المختلفة وأحكامه المتنوعة- على الجذور العقدية، فتكون كل التصورات والأحكام والتشريعات مرتبطة كل الارتباط بالمعتقدات، ومشوبة دائماً بالأصول الإيمانية، فعندما أمر الله تعالى المؤمنين بإقامة الحد على الزناة ربطه بالإيمان حتى يكون أحفز على الأخذ به، فقال - عز وجل - : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، فربط - سبحانه وتعالى - إقامة الحد بعقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر. وكذلك عند الحديث عن بعض أحكام الطلاق والواجب فيه قال - سبحانه وتعالى - : {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5] فربط هذه الأحكام بأصل العقيدة أيضاً، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - :(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر...), فالعقيدة في كل الأحكام هي الأساس للتطبيق، والدافع للممارسة والعمل.
ومن هذا المنطلق لفهم أحكام الكتاب تلمس الفتاة المسلمة عند تطبيقها لأحكامه – في كل جزئية منه وكلية- ارتباطها الإيماني الوثيق بأصل العقيدة في الله تعالى، وصدور الأحكام عن الإرادة المطلقة للشارع الحكيم، مما يكون أبلغ، وأعمق في إقناعها بالتشريع ومن ثمَّ العمل به.(1/22)
ثم إن تكرار الممارسة، وكذلك محاولة الاجتهاد في التطبيق: يساعدان على تقوية الإيمان بالكتاب من جهة، ويعينان على نمو فقه الكتاب من جهة أخرى حتى يصبح مُقْنعاً للعمل والممارسة؛ إذ لا يُتصور أن ينمو الفقه الإسلامي بعيداً عن ممارسته في واقع الحياة المعاصرة، وإنما يثمر من خلال إعماله في مجالات الحياة المختلفة، وآفاقها المتعددة ، والرجوع إليه في جميع الممارسات الحياتية اليومية، حتى يصبح جزءاً أصيلاً في حياة الأمة.
14ـ ربط سلوك الفتاة بعقيدة اليوم الآخر
إن ارتباط السلوك البشري في الحياة باليوم الآخر، وما يتصل به من ثواب وعقاب: يُعد من أعظم وسائل تقوية الإيمان بيوم القيامة، فإذا علم المكلَّف أنه مجاز بعمله في الآخرة: كان ذلك حافزاً له لاستحضار ذلك اليوم في نفسه، ومساعداً له على تحسين العمل، وموافقة الشرع.
وتظهر هذه الحقيقة في القرآن الكريم حيث ربط الباري - سبحانه وتعالى - كثيراً من الأحكام بالإيمان به وبلقائه، فعند الحديث عن المطلَّقة –مثلاً– يقول - عز وجل - : {… وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ…} [البقرة:228]، فالمرجع في مثل هذه المسائل إليهن، إذ لا يعلم أحد على الحقيقة حصول الحيض، أو الحمل إلا من جهتهن، فعلق صدق إيمانهن بالله واليوم الآخر على صحة البيان وعدم الكتمان.
ويقول - سبحانه وتعالى - في مسألة الحب والبغض، وعلاقة ذلك باليوم الآخر: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ….} [المجادلة:22] فوجه سبحانه المكلفين من المؤمنين إلى أثر الإيمان بالله واليوم الآخر وارتباطه الوثيق بمبدأ البراءة من المشركين.(1/23)
وفي الجانب الاجتماعي وعلاقته باليوم الآخر يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - - فيما رُوي عنه-( أيُّما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيُّما مؤمن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيُّما مؤمن كسا مؤمناً على عري كساه الله من خضر الجنة) فالربط بين العمل الصالح في الدنيا، وجزائه في الآخرة، حافز قوي للتحقق بالسلوك الاجتماعي الكريم.
ويقول - عليه السلام - في الجانب الخلقي معلِّقاً ذلك السلوك بعقيدة اليوم الآخر:( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته… ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ويقول عليه الصلاة والسلام في الجانب الاقتصادي:( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذنَّ إلا مثلاً بمثل), وفي الجانب الصحي أيضاً، في مسالة شرب النبيذ المتخمِّر يربطه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقضية الإيمان بالله واليوم الآخر، فقد قال أبو هريرة - رضي الله عنه -:(أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بنبيذ جرِّ يَنشُّ، فقال: اضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر), فحتى الشراب الممنوع إذا هُدِّدَ متعاطيه باليوم الآخر: كان له حافزاً قوياً على تركه.
إن هذا الاتصال الوثيق بين السلوك الدنيوي بمظاهره المختلفة ، وبين الإيمان باليوم الآخر يبعث في نفس الفتاة المؤمنة اندفاعاً قوياً نحو اليقين باليوم الآخر، لارتباط الأعمال الحياتية ومظاهرها به، حيث تلمس الفتاة ، وتستشعر قضية القيامة، ولقاء الله تعالى في كل سلوك تسلكه، وفي كل عمل تتعاطاه، بل وحتى في كل إرادة تنويها، وتقصد إليها.
15ـ أثر الإيمان باليوم الآخر على سلوك الفتاة الخلقي(1/24)
كما يضبط اليقين بالمعاد نشاط المسلمة في حياتها، فإنه أيضاً يضبط سلوكها الخلقي بحيث تصبح عقيدة اليوم الآخر أداة دفع وكبح في وقت واحد، ويشير إلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام للنساء:(… من كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام), وذلك حفاظاً على عوراتهن أن تنكشف في الحمامات العامة، ويقول أيضاً مُحافظاً على عورات الرجال من نظر النساء في أثناء الصلاة بسبب ضيق الأزر والفقر:(من كان منكن تؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم), فجعل عليه الصلاة والسلام السلوك الخلقي للمرأة في التزامها بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليلاً على الإيمان بالله واليوم الآخر، بمعنى انعكاس الأثر الإيجابي للإيمان باليوم الآخر على السلوك الواقعي للمرأة المسلمة.
"إن الشباب والمراهقين الذين يمثلون محور الحياة الاجتماعية، لا يهدِّئُ فورة مشاعرهم، ولا يمنعهم من تجاوز الحدود إلى الظلم والتخريب، ولا يمنع طيش أنفسهم ونزواتها، ولا يؤمِّن السير الأفضل في علاقاتهم الاجتماعية إلا الخوف من نار جهنم"، واستشعار أحداث اليوم الآخر، وأهواله، وسيلة جادة صالحة لضبط سلوكهم وتوجيهه.
ومع أن غالب الشباب المسلم من الجنسين يؤمنون باليوم الآخر، ولا يحملون الإلحاد – كما دلَّ على ذلك البحث الميداني – ويفكرون في الجنة والنار، وتشغلهم قضايا ما بعد الموت، إلا أن نسبة منهم- رغم هذا الإيمان- تفرِّط في كثير من الواجبات الدينية، مما يدل على أن هذا الإيمان لا يزال باهتاً، وضعيفاً في نفوسهم، وذلك لأن الإيمان الصحيح بالبعث بعد الموت يَشْغَل عن غيره من أمور الدنيا، ويضعف عمق اللذة – وإن كانت مباحة فضلاً عن المحرمة – حتى تبقى باهتة لا لون لها.(1/25)
إن السعادة أعظم خير يناله الإنسان، وهي غاية شوقه، وأعلى مطلوبه، فإذا حصلت له السعادة: كدَّرها الانقطاع بالموت؛ فإن "أعظم رغبة لبني الإنسان هي أن يفوز بالشباب الخالد"، وهذا لا يكون إلاّ في اليوم الآخر، عندما ينشأ الإنسان نشأة أخرى لا تقبل الفناء.
16ـ إحساس الفتاة بمبدأ المساواة الإنسانية المطلقة
تتطلع المرأة عموماً والفتاة على وجه الخصوص نحو المساواة مع الذكور، ويظهرن شيئاً من التذمر تجاه نظم المجتمع، وعاداته وتقاليده، التي تفرِّق بين الجنسين، حتى تصل ببعضهن شدة النقد إلى النيل من الأحكام الشرعية الإسلامية بالانتقاص، في حين لا تشعر الفتاة المسلمة المهتدية بهذا النوع من التذمر، وذلك حين تدرك دخولها ضمن الخطاب القرآني العام، الذي يوجه الإنسان ويرشده إلى الخير، فقد "أجمع المسلمون على أن كل ما فرضه الله تعالى على عباده وكل ما ندبهم إليه فالرجال والنساء فيه سواء، إلا ما استثني مما هو خاص بالنساء لأنوثتهن"، وأن الخطاب القرآني المتَّصف بالذكورة إنما هو للتغليب إذا اجتمع الذكور والإناث، وصورة الخطاب "افعلوا" عامة للجميع، فالشريعة الإسلامية- التي يُمَثِّلها الكتاب- خطاب لجمهور الخلق من المكلفين، وهي شريعة أمية لا تحتاج إلى كثير علوم لفهمها، فالفتاة مخاطبة بها. وما جاء فيها من تفريق في بعض الأحكام بين الذكور والإناث: إنما قُصد به مراعاة اختلاف الطبيعة بين الجنسين، والمسؤوليات المناطة بكل منهما، والمهمات المطلوب ممارستها من كل نوع من الجنسين، وليس المقصود احتقار جنس، أو تعبيده لغير الله تعالى.
17ـ استخدام أسلوب الوعظ والإرشاد في تربية النساء(1/26)
يُعتبر الوعظ من أنجح أساليب التربية الإسلامية في التذكير باليوم الآخر، وإحياء الشعور به في النفس الإنسانية، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهجه مع أصحابه، ويخص النساء في بعض الأوقات بشيء من توجيهاته، إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يقتصد في الوعظ مخافة السَّآمة على أصحابه.
وتُعتبر مادة اليوم الآخر، وأحداثه المختلفة ذخيرة واسعة للوعظ والتذكير، وقد كان بعض النساء- عبر التاريخ الإسلامي- يجتمعن للوعظ، فتتولى أعلمهن تذكيرهن وتوجيههن إلى الخير.
ومن الأمثلة على ذلك: أم الدرداء رحمها الله، حيث كان يجتمع عندها الناس، فينشغلون بالذكر، فقال بعضهم لها يوماً: "لعلنا قد أمللناك؟ قالت: تزعمون أنكم قد أمللتموني ، فقد طلبت العبادة في كل شيء فما وجدت شيئاً أشفى لصدري، ولا أحرى أن أصيب به الذي أريد من مجالس الذكر"، وكانت فاطمة بنت الحسين بن الحسن ابن فضلوية واعظة، ولها رباط تجمع فيه النساء الزاهدات للوعظ، وكذلك فاطمة ست العجم بنت سهل بن بشر كانت تعظ النساء في المساجد والأعزية، وزليخاء بنت إلياس الغزنوية كانت هي الأخرى من الزاهدات المتقشفات، وكانت تعظ النساء، فكان نهج الوعظ مشتهراً بين نساء السلف، وقد أجاز العلماء لهن حضور مجالس التذكير التي يحضرها الرجال، بشرط الحشمة والحياء والوقار.
18ـ اعتبار الفتاة بحال السَّلف مع عقيدة اليوم الآخر
الغالب على الشباب إيمانهم باليوم الآخر، واقتناعهم بوقوعه، إلا أن بواعث الإعداد لهذا اليوم الموعود قد تضعُف في النفس، أو تذبل، ولعل من أهم وسائل تنميتها، وإحيائها من جديد: النظر في حال السلف الصالح مع اليوم الآخر، وكيف كانوا يتأثرون بمشاهده، ومواقفه المختلفة التي جاء بها الوحي المبارك. فهذا فتى في ريعان الشباب، ووفرة القوة: يسقط مغشياً عليه لما تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضاً من سورة التحريم.(1/27)
وهذه السيدة عائشة رضي الله عنها - لعظم ما وقر في نفسها من مشاهد القيامة- تقول:(وددت أني كنت نسياً منسياً), وفي رواية عنها قالت:(ليتني كنت حيضة ملقاة), وروي عنها مرة أنها قالت:( يا ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة), وهكذا كان حالها في حزن دائم وخشية من سوء المصير، رغم مكانتها العظيمة في الإسلام.
وهذه عفيرة العابدة، لا تكاد تغفل عن اليوم الآخر، فقد "كانت طويلة الحزن كثيرة البكاء، قدم قريب لها من سفر فجعلت تبكي، فقيل لها في ذلك فقالت: لقد ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله، فمسرور ومثبور".
ولم يكن هذا حال الصالحين فقط؛ بل حتى من وقع في بعض المعاصي من السَّلف كانت التوبة طريقهم، مع طول الحزن، وصدق الإنابة، فهذه المرأة الغامدية التي وقعت في الزنا، ثم تابت، واستعذبت وقع الحجارة، حتى تقدم على ربها طاهرة نقية، وكذلك امرأة أخرى في زمن عمر بن الخطاب ادَّعى عليها زوجها بالزنى، فأخبرت بأنها لا تؤخذ بقوله فأبت، وأصرَّت على الاعتراف حتى رُجمت.
وقد أحسن الإمام الحسن البصري رحمه الله لما وصف حال السلف، وخوفهم من اليوم الآخر حيث قال: "وظن الناس أن قد خُولِطوا، وما خُولِطوا، ولكن خالط قلبهم همٌّ عظيم".
إن مراجعة مثل هذه الأخبار، عن أحوال السلف، تعد وسيلة مؤثرة- في الغالب- لإيقاظ وتنمية الإيمان، والاندفاع نحو الاستزادة من العمل الصالح، وفضائل العبادات
19ـ حاجة الفتاة إلى عقيدة القضاء والقدر
يتأثر الإنسان بأحداث الحياة المختلفة فرحاً وحزناً، فإذا أدرك أن هذا كله من عند الله تعالى بقضاء وقدر: كان فرحه معتدلاً، وكذلك حزنه معتدلاً، وبغياب هذا الاعتقاد الضابط تضطرب حياته، ويملؤها القلق والغلو المذموم.(1/28)
ومن الأمثلة على ذلك: فتاة في الثالثة عشرة من عمرها أصيبت بوفاة والدها، فلم تتقبل نفسها هذا المصاب ،وأخذت تتجاهل الخبر، وتظهر عدم الاكتراث به، حتى اضطرت لدخول المستشفى للعلاج النفسي، بسبب غياب مفاهيم القضاء والقدر في حياتها، فهذه العقيدة "أدب إسلامي موقعه عند الأحوال التي يُغلب المسلم على سعيه فيخيب فيه، أو عند الحوادث الخارجة عن مقدرة الإنسان، فمن الأدب الديني أن يرضى بذلك ولا يجزع".
وكثير من الشباب من الجنسين يعانون من إحباط نفسي بسبب التفكير في مستقبل الحياة، والخوف من أحداثها المؤلمة المتوقعة، فيحصل لهم من ذلك خيال مُشوَّش، واكتئاب، والفتيات – في هذا- يعانين من هذا التفكير أكثر من الفتيان، وهن أيضاً أقل تفاؤلاً منهم، في حين أن الإيمان بالقضاء والقدر يمثل لهن حلاً جذرياً، وواقياً من مثل هذه الصراعات النفسية، بحيث تقتنع الفتاة أن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وما أخطأها لم يكن ليصيبها: فتسكن إلى هذا نفسها وتطمئن، ويزول منها الشعور بالقلق على المستقبل، أو الحزن على ما فات من الخير.
ثم إن قلق الفتاة على المستقبل، وخوفها منه، واستغراقها في التفكير السلبي فيه لا يغير من القضاء والقدر القادم شيئاً، بل هو في الحقيقة سلبية، ومرض يقلل من قدرتها على التخطيط المستقبلي السليم، الذي تتطلبه طبيعة الحياة الاجتماعية المعاصرة.
20ـ اطمئنان الفتاة النفسي للقضاء والقدر
تشير بعض الدراسات إلى أن كثيراً من الشباب يُدوِّنون في مذكراتهم الشخصية قضية حتمية القضاء والقدر، وأنهم تحت مصير محتوم، ولا حول لهم تجاهه ولا قوة، وبعضهم يصيبه القلق الشديد من التفكير في الموت، حيث يقطع عليهم آمالهم وخططهم المستقبلية، ويحصل لهم من ذلك العنت الشديد.
إن هذا الشعور القَلِق، يرجع إلى أحد سببين: إما ضعف الإيمان بالقضاء والقدر، وإمَّا سوء فهم حقيقة الإيمان به، وكيف يجب أن يكون.(1/29)
إن الحقيقة التي لا بد أن يدركها المكلَّف – والفتاة على الخصوص – أن ما يصدر من قضاء الله تعالى للعبد المؤمن كلُّه خير، حتى ما يحصل له من الأذى، فكل ذلك ضمن مفهوم الخيرية في التصور الإسلامي، وأن محاولة تغيير القضاء، أو تأخيره: أمر لا قدرة للإنسان عليه، فكل شيء يجري في الكون قد كُتب وفُرغ منه، ولا يحصل الشعور ببرد الإيمان إلا بالتسليم الكامل – في ذلك – لله تعالى، حيث ينتج عن هذا التسليم الاطمئنان لقضاء الله تعالى أياً كان، كما قال ذو النون ~ٍٍِِ: "من وثق بالمقادير لم يغتم" يعني لا يصيبه هذا الحزن الذي يقع فيه كثير من الشباب، ويشكون من آثاره المؤلمة، كما فسَّر مجاهد ~ٍٍِِ النفس المطمئنة في القرآن بأنها: النفس "الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وأن ما أخطأها لم يكن ليصيبها".
إن إدراك هذا الفهم – وكذلك التَّيقُّن به – يبعث في نفس الفتاة استقراراً واطمئناناً في جميع الأحوال الطيبة والسيئة، وفي الرخاء والشدة، ويذهب عنها القلق والاكتئاب والتشاؤم، ويبعث في النفس دوام الأمل والتفاؤل في مقادير الله تعالى، وحسن الظن به جل وعلا.
21ـ إحياء الثقة بمقادير الله تعالى في نفس الفتاة(1/30)
لقد ثبت يقيناً أن معظم حالات المرض النفسي ترجع إلى عدم الثقة بمقادير الله تعالى، فإن الدين يعمل على زيادة إيمان الفرد لمواجهة نوازل الحياة المختلفة، ويخفف من آلامها، وركن القضاء والقدر يحيي هذا الجانب في نفس الإنسان؛ حيث إن الأمر بيده - سبحانه وتعالى - ، وهو الذي يقدر للعبد قضاءه، وهو الذي يخلقه كمًّا وكيفاً ومكاناً وزماناً، وهو الذي يمده بالعون على تحقيقه، فلا يقدر العبد على العمل – صالحاً كان أو سيئاً – إلا إذا قدَّره الله تعالى له، وأعانه عليه. فإن كان المقدور خيراً: كان فضلاً منه - سبحانه وتعالى - ، وإن كان شراً فإنما يكون ذلك عدلاً منه، فالشر على الحقيقة هو ما يصدر عن الإنسان المكلف مخالفاً لأمر الله تعالى؛ لأن أفعال الله تعالى كلها خير على الحقيقة، حتى وإن ظهر للعبد في بعضها شر، فإن الشر لا يُنسب إليه - سبحانه وتعالى -، وإن كان يحصل بإرادته وتقديره.
وبناء على هذا الفهم فإن الموقف الحق تجاه هذا التصور هو الثقة بالله تعالى وبمقاديره للعبد المؤمن، والتوجه إليه، وطلب العون منه وحده دون سواه، مع صدق التوكل، كما قال الله تعالى: {…. فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [عمران:159]، وكما قال عليه الصلاة والسلام في نصيحته لابن عباس رضي الله عنهما : "… إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جفَّ القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه….".(1/31)
ويستلزم هذا الاعتقاد تحذير الفتيات على الخصوص من حرمة التوجه إلى غير الله تعالى بطلب ما لا يقدر عليه إلا الله، خاصة إذا عُلم أن أكثر من يقع في مثل هذا السلوك الضال هن النساء، حيث يتوجهن بطلباتهن المختلفة إلى الموتى، والأولياء، ويقعن في صور شركية محرمة، وربما اعتقد بعضهن في الأحجبة الباطلة، وتعلّقن بها من دون الله تعالى، وكل هذا من مظاهر الانحراف العقدي، والطعن في مبدأ التسليم لقضاء الله وقدره، والثقة في صدق التوجه إليه.
22ـ الذكورة والأنوثة بقضاء وقدر
رغم أن الفتيات – في العموم- أكثر إيماناً بالقضاء والقدر من الفتيان، وأقل قلقاً في هذا الجانب، إلا أن مسألة الدور الأنثوي تشكل عند بعضهن مشكلة خاصة لا توجد عند الذكور، فقد اتضح من دراسة أمريكية ميدانية عام 1959م على مجموعة من الفتيات، ومن دراسة أخرى على مجموعة من الفتيات المصريات والسودانيات: أن نسبة كبيرة منهن تصل إلى نحو 78% يشعرن بالدونية بشأن دورهن الأنثوي، ويتمنين أن لو كنَّ ذكوراً، في حين تكاد تنعدم مثل هذه الرغبة عند الذكور من الشباب فقد دلَّ البحث الميداني الغربي أن نسبتها لا تزيد على 1% فقط.
وبلغ البغض للدور الأنثوي عند بعض الفتيات المتزوجات إلى كره الجماع لكونها في وضع سلبي مَفْعُول بها. حتى نسب بعضهم إله "أرتميس" اليوناني –الذي يشير إلى الآلهة العذراء- إلى رغبة الأنثى أن تكون ذكراً، فتسلك سلوكهم، وتأبى دور الأنثى باعتبارها زوجة، حتى بلغ الأمر بإحداهن أن تزعم: أنه ليس للإنسان في أصله طبيعة محددة، ولكن المجتمع بمناهجه هو الذي يُوجد طبيعة الذكر وطبيعة الأنثى.(1/32)
هذا النفور المقترن بالشعور بالدونية بشأن دور الأنثى في الحياة لا يمكن علاجه إلا من خلال عقيدة القضاء والقدر، فتعلم الفتاة أن الله - سبحانه وتعالى - قضى: أن تقوم الحياة على هذين الصنفين – كما هي قاعدة الأحياء العامة – لتكون دليلاً على عظمته ووحدانيته؛ إذ جعل منهما وسيلة لاستمرار النوع في آلاف من المخلوقات بصورة مطردة ثم إن "الأنوثة لا تُستوعب إلا مقارنة بالذكورة- أي الوجه المغاير لها- فلا ليل بدون نهار، ولا أبيض بدون أسود… ولا أنوثة بدون ذكورة"، فهما على الحقيقة وجهان لقطعة نقدية واحدة، تتمثل في مسمى "الإنسان"، واختيار الإنسان الذكر، أو الإنسان الأنثى هو اختيار محض لله تعالى وحده، حين يسأل الملك الموكل بالرحم ربه - عز وجل - : "…. أي ربِّ، ذكر أم أنثى…"، وهنا يكون الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره المحتوم، فليس في الوجود أي قوة يمكن أن تتدخل في تحديد هذا المصير، غير إرادة الله تعالى، ومن هنا أيضاً تعلم الفتاة "وتشعر بأن أنوثتها ليست نقصاً في إنسانيتها؛ بل هي ركن في الحياة الإنسانية – تماماً – كرجولة الرجل، فلا تقوم الحياة البشرية الكاملة بأحدهما دون الآخر، ونتيجة ذلك أن تحرص الفتاة على أن تكون أنوثتها كاملة، لأن كمال أنوثتها هو الذي يجعلها امرأة كاملة فاضلة".
وأمَّا ما يلحق بالأنوثة من نقص في الواقع الاجتماعي، وتبعيَّة للذكور في كثير من شؤون الحياة وما يعانيه بعض النساء من هذا الشعور، فهذا أيضاً بقضاء وقدر، يقول ابن العربي ~ٍٍِِ : "فإن قيل: كيف نسب النقص إليهن وليس من فعلهن؟ قلنا: هذا من عدل الله يحطُّ ما شاء، ويرفع ما شاء، ويقضي ما أراد .. وهذا لأنه خلق المخلوقات منازل، ورتَّبَها مراتب، فبيَّن ذلك لنا، فعلمنا وآمنا وسلمنا"، ولهذا كثيراً ما يذكر العلماء – من باب القضاء والقدر – تفضيل جنس الذكور في الجملة على جنس الإناث.(1/33)
وكذلك في جانب اختصاص الأنثى البشرية بالحيض، وما تعانيه الفتيات من آثاره نفسياً، وجسمياً، فقد يظهر من بعضهن النفور من الدور الأنثوي بسبب الحيض، وقد صدر شيء من هذا التذمر عن السيدة عائشة رضي الله عنها وهي فتاة في السابعة عشرة تقريباً لما دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسَرِف، وقد حاضت: فدخلها من الحزن والكآبة والانكسار ما عبَّرت به عن تذمرها برفض الدور الأنثوي، وبغضه فقالت لما سألها عليه الصلاة والسلام:( أنُفِست؟) فقلت: نعم يا رسول الله، ولا أحسب النساء خلقن إلا للشر، فقال - صلى الله عليه وسلم - رادًّا قضية الحيض إلى مبدأ القضاء والقدر:(لا، ولكنه شيء ابتلي به نساء بني آدم), فالحيض: قضاء الله وقدره على النساء، "ألزمهن إياه، فهنَّ متعبدات بالصبر عليه".
إن الأساس الذي تُربَّى عليه الفتاة المسلمة هو التسليم القلبي لقضاء الله تعالى وقدره أياً كان: في أصل الخلقة، أو في أحداث الحياة حلوها ومرِّها، والحرص على تجنب إثارة موضوعات القدر، ومناقشتها بعيداً عن الوحي الرباني، مع السعي لاتخاذها هذا الركن دافعاً نحو العمل والجد، والخدمة في طاعة الله تعالى، ومواجهة الحياة بقوة أكبر، وعزيمة أعظم.(1/34)
وأما ما يجب على المجتمع تجاه الإناث في هذا المقام فهو تجنُّب الحيف الاجتماعي ضدهن، فإن غالب مجتمعات العالم، بما فيها الدول المتقدمة تمارس نوعاً ما من الحيف الاجتماعي ضد الإناث في التعليم، والرعاية، وكثيراً من وجوه التفضيل، التي تعمل – في مجملها- على الحطِّ من مكانة الأنثى، والنيل من كرامتها، حتى اقترن وصف الأنثى في كثير من المجتمعات بالانحطاط والدونية، وبلغ الحال أن يتفق كثير من الناس – ذكوراً وإناثاً- على الاعتقاد بأن المرأة إنما خلقت من أجل خدمة الرجل، فقد وافق (90%) من العينة المختارة للدراسة من طلاب وطالبات جامعة بغداد على عبارة: "خلق الله المرأة لتخفف من قسوة الحياة على الرجل"، ولا شك أن مثل هذا التصور يتعارض تماماً مع الوجهة التربوية الإسلامية التي تحدد الغاية من إيجاد الذكر والأنثى وهي عبادة الله تعالى، كما جاء ذلك مصرحاً به في القرآن الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
23ـ تحذير الفتيات من السحر والشعوذة والخرافات
ترتبط الخرافات والسحر وما يتعلق بهما بالقضاء والقدر من جهة رغبة بعضهم في الكشف عن الغيب، والسَّعي في جلب المنفعة، أو دفع الضرر عن النفس أو الغير، وكل هذا مما يخالف العقيدة الإسلامية التي تفرض ضرورة التسليم بالقضاء والقدر، وعدم الاعتراض بالقول أو الفعل.
وتظهر خطورة الخرافات والسحر والشعوذة من جهة كونها واسعة الانتشار في القديم والحديث، وعلى جميع المستويات، وفي جميع الطبقات الاجتماعية، حتى في الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا واليابان، فقد فاق عدد العرَّافين والسحرة في فرنسا وحدها عدد الأطباء، وما زال المنجمون والعرافون في هذه الدول وفي غيرها يتمتعون – حتى اليوم – بشعبية كبيرة ، وعوائد مالية ضخمة.(1/35)
وعلى الرغم من التقدم العلمي في هذه الدول إلا أن المعتقدات الخرافية المتعلِّقة بالأزمنة، والأرقام، والعادات ونحوها تنتشر بين العوام كأوسع ما يكون، وكثيراً ما تستغل وسائل الإعلام هذا الواقع في نشر السلوك الخرافي بين الناس، بهدف جذبهم إلى إنتاجهم الإعلامي بأنواعه المختلفة : المقروء، والمسموع، والمرئي.
وتتصل هذه الانحرافات بالفتاة من جهة كون النساء أكثر من يحترف هذه المهن، وأكثر من يتعاطى السحر ويشتريه، وأرغب الناس في الكشف عن أمور الغيب، بواسطة الفنجان، أو الكف، أو المندل وغيرها من طرق السحرة والعرافين، وقد كشفت دراسة ميدانية بالمدينة المنورة أن (70%) من المترددين على السحرة والمشعوذين هم من النساء، إضافة إلى أنهن أميل إلى الخرافة من الذكور، بل ربما بلغ ببعضهن الانحراف: أن تذهب إلى الساحر النصراني ليكتب لها حجاباً، ترد به –حسب ظنها- ما قد يضرها من مشكلات الحياة، حتى وصل الحال ببعضهم: أن ينصح الفتيات المخطوبات بأن يدرسن أبراج الخاطبين من الشباب قبل الموافقة على الخطبة.
ولما كان الأمر كذلك فإن تحذير الفتاة المسلمة من هذه الانحرفات العقائدية، وتوعيتها العلمية بخطورة هذه المسالك من خلال مفاهيم القضاء والقدر: يُعد من أهم ما يرد مثل هذه السلوكيات العقدية المنحرفة، خاصة إذا علم أن أكثر الناس علماً بالعقائد الصحيحة هم أكثر الناس بُعداً عن مثل هذه الممارسات الضالة.
24ـ التزام الفتاة بمبدأ الولاء والبراء
ومن آثار الإيمان بالله تعالى: التحقق بمبدأ الولاء والبراء الذي يقوم على قضية فطرية في السلوك الإنساني تتمثل في مبدأ الحب والبغض، حيث يشغل هذا المبدأ مساحة كبيرة في كيان الإنسان، فلا بد له من أن يُحب، وأن يكره، وتكمن خطورة هذا المبدأ إذا توجَّه انفعال الحب أو الكره إلى أهداف خاطئة، فيقع في ألوان من الشذوذ والانحراف.(1/36)
ومن هنا جاء التكليف بمبدأ الولاء والبراء، فوضع الشارع الحكيم للإنسان المؤمن مساراً وأهدافاً لهذا المبدأ: يحدد له من خلالها أين يدفع بطاقته، وشحنته الانفعالية – الحاملة للحب أو البغض – تجاه الأشخاص والأعمال والأشياء.
وقد وصف الله - سبحانه وتعالى - كمال أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا السلوك الإيماني، فقد قال عز من قائل: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ …} [الفتح: 29]، فوصفهم باتجاهين متضادين أحدهما يحمل كمال الغلظة نحو الكافرين، والآخر يحمل كمال الشفقة للمؤمنين، بمعنى أن المحبة تستلزم الاتفاق والتقارب، كما أن التباغض يستلزم التباعد والاختلاف. يقول أبو حامد الغزالي ~ٍٍِِ : إن كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله… ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر".
وقد حدد الشارع الحكيم أولياءه المؤمنين، وأعداءه الكافرين، فجعل المحبة للمؤمنين، والبغض للكافرين، فمن فعل المأمور وترك المحظور فهو وليٌّ لله تعالى تجب محبته، دون النظر إلى لونه ، أو جنسه، أو طبقته، قال الله تعالى مفرقاً بين الصنفين في المنزلة: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18].(1/37)
وقال - سبحانه وتعالى - في مبدأ معادة الكافرين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء:144] وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ..} [المائدة:51] ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على وجوب النفرة من الكافرين عموماً، ومن اليهود والنصارى خصوصاً، واجتناب الركون إليهم بالود،أو الموالاة، وهو مضمون ما أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضرورة بغضهم حتى مَنَعَ من ابتدائهم بالسلام.
ويدخل في هذا المبدأ الإسلامي العظيم: حب ما أحبه من الأعمال والأشياء والعكس أيضاً، فمن أحب الله: أحب كل ما يحبه الله، وأبغض كل ما يبغضه - سبحانه وتعالى - فإن " من لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي يوجبه الله عليه، فإن لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً"، وهذا محك في غاية الخطورة؛ فإن الفتاة تعرِّض إيمانها للانهيار بميل قلبها نحو مبغوضات الله، أو بغضها لمحبوبات الله تعالى، بل إن تجاهل حال الكافرين، وسوء مصيرهم عند الله، كأن يقول المسلم: "لا أدري الكافر في الجنة أو في النار"، أو يقول: "لا أدري أين يصير الكافر"، هذه الجهالات ونحوها لا تفيد- على الحقيقة- إلا كفر صاحبها والعياذ بالله، لاسيما من نشأ في بلاد المسلمين، وعرف عقائدهم.(1/38)
ولعل من أخطر ما يعرِّض هذا المبدأ للانهيار ما تواجهه الفتيات المسلمات اليوم من موجة التغريب التي تستهدف تكريس النموذج الغربي للفتاة المعاصرة، مع حملهن على أنماط اجتماعية وسلوكية مغايرة للمفاهيم الإسلامية، وجعلهن هدفاً مباشراً من أهداف النشاط التنصيري. وهذا يتطلب مواجهة هذه الخطط بما يماثلها، مع إحياء مبدأ الولاء والبراء الذي يستلزم النفرة من الأعداء الكافرين، والمحبة للمؤمنين؛ فإنه لا بد أن يكون لهذا المبدأ دور فعال في التخفيف من حدة الغزو الثقافي الخطير.
25ـ الروح الجهادية عند الفتاة والمرأة المسلمة
لا تختص مظاهر الجهاد – بمعناه العام – بالرجال؛ بل إن للنساء والفتيات من مظاهر هذا السلوك الإيماني نصيباً: يظهر في سلوك بعضهن ، ويبرز بدافع إيماني راسخ في النفس، نابع من أصل عقيدة الإيمان بالله تعالى، ومحبته، وطلب مرضاته.
ومن مظاهر السلوك الجهادي الذي يظهر على سلوك المؤمنين: الاستعلاء الإيماني، فإن هذا الشعور يلازمهم في كل موقف، ويُملي عليهم سلوكاً معيناً في غير احتقار أو استكبار على الغير، وقد وجَّه الله - سبحانه وتعالى - المؤمنين إلى هذا النوع من السلوك فقال - عز وجل - : {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران:139]، وقال أيضاً: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [ المنافقون:8] .
وقد ظهر هذا الفهم واستقر في سلوك المرأة المؤمنة قديماً؛ فهذه امرأة فرعون تُضرب الأوتاد في يديها ورجليها لتترك دينها فتأبى حتى تُقتل صابرة محتسبة مستعلية بما وقر في قلبها من الإيمان، وكذلك لما أبت ماشطة ابنة فرعون الردة، ذبح فرعون أولادها وأحرقهم أمامها ثم قتلها، دون أن تتزحزح عن موقفها الإيماني المستعلي على مظاهر الطغيان البشري.(1/39)
وظهر هذا السلوك كأبلغ ما يكون في عهد النبوة في جمع من الفتيات المؤمنات، فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قبل إسلامه يضرب أخته على الإسلام فتقول له مستعلية بإيمانها: "يا ابن الخطاب ما كنت فاعلاً فافعل، فقد صبوت" وكان يعذب جارية بنت عمرو بن مؤمِّل لما أسلمت عذاباً شديداً حتى يملَّ من تعذيبها، وهي على إيمانها صابرة لا تتزحزح.
ومن مظاهر السلوك الجهادي أيضاً: الصبر على الابتلاء ، فإنه سنة ربانية ماضية في كل من انتسب إلى التوحيد وأهله حتى يتبين أهل الصدق من غيرهم، قال الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3] ولقد كان هذا الفهم القرآني واضحاً في نفوس النساء الأوائل زمن النبوة، فقد أسلمن وعشن المرحلة السرية في مكة متخفيات بإيمانهن، ويعلمن علم اليقين طبيعة وخطورة هذا الطريق، والتكاليف التي يتكبدها مَنْ سلكه، حتى الصغيرات من أمثال أسماء وعائشة رضي الله عنهما كن مثالاً رائعاً في الالتزام بالسرية، وضبط النفس عند نزول البلاء، كما ظهر ذلك واضحاً عند الهجرة النبوية.
وهذه زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و رضي الله عنها أوذيت في هجرتها، وأسقطت ما في بطنها، حتى قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فيها:(هي أفضل بناتي أصيبت فيَّ), وكانت الحولاء بنت يزيد بن سنان مسلمة ، فكان زوجها يؤذيها في صلاتها، فيقلبها على رأسها وهي ساجدة، وربما أخذ ثيابها فوضعها على رأسها وهي تصلي، فما زالت صابرة محتسبة لا يردها ذلك عن دينها.(1/40)
لا بد أن تدرك الفتاة المسلمة المعاصرة أن الإيمان: تكاليف، وأمانة وأعباء، وجد وجهاد، وأن إعلان الإيمان، والانتماء إلى أهل التوحيد: يتبعه افتتان، واختبار يصبر فيه من يصبر، فتخلص نياتهم وقلوبهم، ويسقط فيه من يسقط غير معبوءٍ به، إن إدراك الفتاة لهذا المعنى في الإيمان يساعدها على توطين نفسها لاحتمال البلاء – أياً كان نوعه- في النفس، أو المال، أو العرض.
ومن مظاهر السلوك الجهادي أيضاً ما يحصل من بعض المؤمنات من مباشرة القتال في المعارك، فإن مباشرة الفتاة المؤمنة للقتال تعد من أعظم دلائل الإيمان بالله تعالى؛ فإنه لا يقدم على مثل هذه المواقف عادة إلا المخلصون من أهل الإيمان، إلا أن مبدأ مباشرة النساء للقتال ليس بواجب عليهن، وإنما هو واجب على البالغين القادرين من الذكور المؤمنين. إلا في حالات الضرورة عند الهزائم، أو مداهمة الأعداء للمسلمين في عقر ديارهم، فإن القتال حينئذ يكون واجباً على جميع القادرين حتى النساء والصبيان والعبيد، وقد كانت بعض النساء زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما بعده في زمن الخلفاء يشاركن في حواشي المعارك غالباً، فيما لا قتال فيه، من إعداد الطعام، ورعاية الجرحى والمصابين، وتشجيع المقاتلين، ورد الفارين ونحو ذلك. وإذا حصلت هزيمة، أو انكسر المسلمون وكان في الأمر شدة: شارك بعضهن ورددن عن أنفسهن العدو بما استطعن من قوة.
وقد وصف ابن كثير ~ٍٍِِ مشاركة النساء في معركة اليرموك فقال: "والمسلمون في أربعة وعشرين ألفاً، فقاتلوا قتالاً شديداً حتى قاتلت النساء من ورائهم أشد القتال".
ولم تكن هذه المظاهر الجهادية وقفاً على القرون المفضلة فلا يزال عطاء المرأة المسلمة، والفتاة المؤمنة متدفقاً مستمراً، فهذه غالية البقمية من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ~ٍٍِِ، تدافع بنفسها عن مدينة "تربة" وتقاتل جيوش طوسون بن محمد علي باشا عام 1229هـ دفاعاً عن هذه الدعوة المباركة.(1/41)
وكذلك في العصر الحديث، أظهر بعض الفتيات والنساء من مظاهر الجهاد – على ما كان عليهن من ملاحظات فكرية وسلوكية- ما قد يعجز عنه كثير من الرجال، فهذه دلال المغربي، الشابة التي لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها تموت ضمن مجموعة من المقاتلين ضد اليهود في عام 1398هـ وكذلك مريم خير الدين اللبنانية الأصل في سن الثامنة عشرة، تهاجم بسيارة ملغمة موقعاً للجيش اليهودي في جنوب لبنان عام 1405هـ، وتقتل تسعة عشر جندياً إسرائيلياً، وتستشهد هي على إثر الحادث، وكذلك الداعية بنان علي الطنطاوي قتلت عام 1401هـ في ألمانيا وهي تدعو إلى الله تعالى برفقة زوجها صابرة محتسبة.
وفي أحداث الانتفاضة الفلسطينية المباركة، التي تشربت بالروح الإسلامية والجهادية: برز فيها جمع كبير من الشباب الفدائيين المتطلِّعين إلى الشهادة في سبيل الله تعالى كما برز فيها جمع أخر من الفتيات المجاهدات المتطلعات إلى الموت في سبيل الله تعالى، دفاعاً عن القدس الشريف، فقد أظهرن من القوة الإيمانية ورباطة الجأش، والثبات والإقدام، والدقة في تنفيذ العمليات الجهادية ضد اليهود المغتصبين ما اعتُبر بحق أعجوبة العصر، من أمثال: نضال ضراغمة، وعندليب طقاطقة، ووفاء إدريس، ودارين بوعمشة، وآيات الأخرس، وإلهام الدسوقي، وغيرهنَّ من نوادر هذا الزمان، ممن أثبتن أن روح الجهاد في سبيل الله لا تزال حية في الأمة الإسلامية، وأن القوة الإيمانية في نفوس الإناث لا تقل عمَّا عند الرجال.(1/42)
إن هذه المظاهر الجهادية تدل على استمرار عطاء الفتاة والمرأة المسلمة إذا غُذِّيت بالعقيدة الصحيحة، ومحبة الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنها تُظهر من معاني ومظاهر الجهاد ما يكون مفخرة لأبناء جنسها، ومثالاً يُحتذى، فأيُّ أثرٍ تركته أم عمار بن ياسر رضي الله عنها للفتاة المسلمة – في كل عصر – من معاني الجهاد والفداء، ومن ذا يستطيع من الرجال أن يسلبها لقب أول شهيدة في الإسلام، فإنه لم يسبقها أحد من المسلمين إلى هذه المنزلة.
26ـ المرأة المؤمنة عبر التاريخ
يغفل بعض الباحثين – دون قصد منهم – تاريخ المرأة المؤمنة قبل الإسلام، وذلك حين يتحمس أحدهم لتعاليم الإسلام ، فيفضلها على جميع الشرائع، فيصرح أن المرأة لم تر خيراً قط قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا خطأ فقد عاشت المرأة أهنأ حياة في كنف الرسل والأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام عبر التاريخ الإنساني، ولا سيما في الفترة الأولى حين كان الناس على التوحيد منذ آدم حتى نوح عليهما السلام، ولاشك أن بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت هي الفتح الأعظم والأكبر للمرأة، إلا أنه يبقى الخير دائماً ما كان مرتبطاً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في كل عصر، وبقدر ما تغيب آثار النبوة في الحياة بقدر ما تنحط المظالم على الناس ولاسيما على النساء والأطفال.
التربية الأخلاقية للفتاة
1ـ أهداف تربية الفتاة الأخلاقية وخصائصها التربوية
أهم خصائص الفتاة الأخلاقية:
1-اختصاصها بشدة التأثر العاطفي، وحدَّة السلوك الانفعالي، مما يستوجب على منهج التربية ضبطها ضمن حدّ الاتزان، وتدريبها على ذلك ضمن المراحل التعليمية الخاصة بها.
2-اختصاصها بسهولة الانقياد للأخلاق والمعايير الاجتماعية، وتقبلها لتوجيهات الوالدين الأسرية، مما يتطلب استغلال هذه الطبيعة في حسن توجيهها وتأديبها.(1/43)
3-اختصاصها بعمق التأثر السلبي بالمشكلات والمنازعات الأسرية، لفرط حاجتها إلى الاستقرار الأسري، والحماية الوالدية مما يستدعي التأكيد على ضرورة استقرار حياة الفتاة الأسرية.
4-اختصاصها شرعاً بالحجاب في الحياة العامة، مع توجيهها نحو القرار في البيت، وهذا يحتم توعيتها بذلك، واتخاذ الوسائل الشرعية والاجتماعية لإعانتها على ذلك.
أهداف تربية الفتاة الأخلاقية:
1-اقتناع الفتاة الكامل بسمو الأخلاق الإسلامية وضرورة التحلي بها.
2-تنبُّه الفتاة للارتباط الوثيق بين السلوك الخلقي الحسن والعقيدة الصحيحة.
3-اهتمام الفتاة باتزان سلوكها العاطفي والانفعالي ضمن حدود الشرع.
4-اقتناع الفتاة بإمكانية الترقي بالأخلاق وتحسينها وفق نظام الإسلام التربوي.
5-رضا الفتاة بطبيعة السلوك الأنثوي الموافق للفطرة الربانية السوية.
6-تعرُّف الفتاة من خلال أسرتها على معايير المجتمع المسلم الأخلاقية مع اقتناعها بها وتطبيقها لها.
7-تدريب الفتاة على أنواع الصلات الأسرية المشروعة، ومعرفة حدود العلاقات المسموح بها شرعاً بين الأقارب.
8-تمسُّك الفتاة بالبرِّ والإحسان للوالدين والتحلي بالرحمة والأدب مع جميع أفراد الأسرة.
9-مراقبة الأسرة ومتابعتها لسلوك الفتاة الخلقي وتقويمه ضمن مسار الاتجاه التربوي الإسلامي.
10-تدريب الفتاة على نمط السلوك الأنثوي المتفق مع طبيعتها الفطرية ووظيفتها الاجتماعية التي كلفها الله تعالى.
11-اقتناع الفتاة بالثوابت الأخلاقية التي وضعها الشارع الحكيم لأفراد المجتمع المسلم.
12-التزام الفتاة بأحكام الحجاب الشرعي.
13-تجنب الفتاة مخالطة الرجال الأجانب لغير ضرورة شرعية.
14-محافظة الفتاة على أخلاقها الإسلامية من التأثير السلبي لوسائل الإعلام.
15-حرص الفتاة على إقامة علاقاتها الاجتماعية المختلفة وفق التعاليم الشرعية.
نسخة للطباعة
2ـ حاجة الفتاة إلى الأخلاق الحسنة(1/44)
ولئن كانت الأخلاق في المفهوم الإسلامي تتجاوز الناحية الشكلية إلى أعماق النفس الإنسانية ؛ لأنها أخلاق تطهير وليست أخلاق تجميل، فإن أعظم ما يتزين به المسلم بعد استقرار الإيمان بالله تعالى في قلبه: التحلي بالأخلاق الفاضلة، والتعلق بآدابها وإلزاماتها السلوكية فهي "تطعيم وتجميل لكل ما يتعلق بالعقائد والعبادات والمعاملات"، بحيث يشمل الخلق كل جوانب السلوك الإنساني، وهو أعظم ما أعطي العبد من النعم، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما سُئل: "ما خير ما أعطي العبد؟ قال: خلق حسن"؛ وذلك لأنه يُزين الإنسان، ويضفي عليه قدراً من الجمال، خاصة الفتاة: فإن الأخلاق تسبغ عليها جمالاً وبهاء، وفوق كل ذلك فإن الأخلاق الحسنة من أهم الصفات التي تُميِّز الإنسان عن البهائم.
إن الخلق الحسن ضروري للفتيات المسلمات، فهو مع كونه فطرة فيهن، يملن إليه بطبعهن أكثر من الذكور، فإن التوجيهات النبوية الكثيرة جاءت لتؤكد أهمية الخلق الحسن لهن، وأنه شعار الصالحات منهن، وأفضل ما تزيَّنَّ به، فقال عليه الصلاة والسلام:( الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة) فجعلها من خلال خلقها الحسن: أسمى ملذات الحياة الدنيا، وأعلاها على الإطلاق، ورشَّحها للراغبين في النكاح، لتستحوذ بأخلاقها الفاضلة على مراتب الجميلات، وذوات الأحساب والمال، فقال عليه الصلاة والسلام:(…. فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك).
ولعل مما يشير إلى أهمية الخلق للفتيات، وعلاقته بصورة خاصة بمسائل الزواج: أنه في عام 1907م "صدر في نيويورك قانون يفرض على النساء تقديم شهادة خطية تحمل القَسَم بالنسبة إلى السن وحسن السلوك والأخلاق قبل الزواج".
3ـ ضرورة الأخلاق لراحة الفتاة النفسية(1/45)
يلتزم الإنسان المادي ببعض القيم الخلقية التي تُحقق له مكاسب دنيوية، ويُغفل القيم التي ليس لها مردود مادي. وهذا السلوك في غاية القصور؛ إذ إن من أعظم آثار الالتزام الخلقي في حياة الفرد: تحقيق السعادة النفسية، التي يهدف إليها عامة الخلق من :الأمن، والرضا، وراحة القلب، والخلو من التوترات العصبية الزائدة، والاستمتاع بالحياة، والاعتدال في تلبية متطلبات الجسم والروح، والتوافق مع الناس، وهذه الآثار لا يمكن أن تتحقق لنفس تنكَّبت نهج السلوك الحسن، والخلق السوي حيث تملؤها الأحقاد والتوترات، والانفعالات النفسية الحادة، وسرعة الغضب، والسلبية، وكثرة النسيان، ومن المعلوم أن كثرة الانفعالات وشدّتها" تؤثر تأثيراً بالغ الضرر على مختلف الوظائف والعمليات العقلية للفرد كالإدراك والتذكر والتفكير"، وقد قيل: "الخلق السيء يضيِّق قلب صاحبه؛ لأنه لا يسع فيه غير مراده، كالمكان الضيق لا يسع غير صاحبه".
إن استيعاب الفتاة المسلمة لهذا التصور، وعلمها بأن المرأة الصالحة السوية الخلق من السعادة الدنيوية: يشعرها بأهمية الأخلاق الشخصية وضرورتها لاستقرار حياتها، واطمئنانها، وتحقيق السعادة في الحياة الدنيا، والأجر والثواب في الآخرة.
4ـ أهمية الأخلاق لاتزان الفتاة السلوكي
تكثر التوترات في مرحلة الشباب، وفترة التوجه نحو النضج، حيث يصاحبها شيء من التصرفات الصاخبة، والارتباكات، وعدم التوازن، وذلك بسبب التغيرات والتطورات الجسمية والنفسية والعقلية المصاحبة لعملية النمو.
وهذا الطبع قد لا يكون شاذاً، ولا مستنكراً؛ فإن التفلت من الالتزامات الخلقية في بعض الأحيان لا يعد سلوكاً غريباً على الطبع الإنساني، وإنما المستنكر أن يكون هذا الطبع خلقاً دائماً لا يكاد ينفك عنه صاحبه، وعندئذٍ يصبح مرضاً يحتاج إلى علاج.(1/46)
والفتاة أحوج ما تكون للاتزان السلوكي؛ وذلك لطبيعة المهمات الاجتماعية والتربوية التي تتهيأ للقيام بها، والتي قد تستدعي شيئاً من الإثارة، التي قد تخرج الفتاة عن نهج الاتزان.
وللأخلاق الإسلامية في شخصية الفتاة المسلمة أهميتها وضروريتها: لتحقيق جانب الاتزان في سلوكها؛ فالسلوك "هو مفتاح شخصية الإنسان؛ لأنه ترجمانها ولسان حالها، والمعبر عما في مكنوناتها، والكاشف عن خباياها، والناطق بأسرارها، وهو القالب المحسوس الذي تتجسد فيه المشاعر والأحاسيس، والعواطف والانفعالات.. وهو الإطار الذي تتحدد فيه ملامح النضج العقلي والنفسي والاجتماعي، فإذا رسخت الأخلاق – من خلال التربية الإسلامية – في طباع الفتاة، وتشربت بها نفسها: كان الاعتدال السلوكي نهجها، فإن الثابت ميدانياً: أن الفتيات المتدينات أكثر اتزاناً، وانضباطاً من غيرهن".
5ـ تعريف الفتاة أهمية التحلي بالأخلاق الحسنة(1/47)
الأخلاق أخص أوصاف الإنسان، وهي "الأصل في كل عمل، وحسنُها هو الأصل في كل نفع، وما الفعاليات الإنسانية الأخرى إلا فروع لها"، والمتأمل في النصوص الكثيرة الواردة في فضل الأخلاق، ومكانتها في التصور الإسلامي: لا بد أن يقتنع بسموِّها، وضرورة التزامها، حتى وإن ضعفت به العزيمة عن ممارستها في سلوكه، فمن هذه النصوص قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النحل:90] وقوله عليه الصلاة والسلام:(إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً), وقوله:(ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق), وبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن الأخلاق الفاضلة محبوبة لله تعالى، وأن الساقط منها مبغوض عنده - عز وجل - حيث قال - صلى الله عليه وسلم - :(إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق ويبغض سفسافها), فجعل الأخلاق الفاضلة أعظم ما يحرص عليه المسلم بعد الإيمان، وأغلى ما يدخره لنفسه عند ربه - عز وجل - ، وخص - عليه السلام - المرأة بحسن الخلق حين سئل:(أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره),فربط عليه الصلاة والسلام بين جمال الظاهر في حسن الخلْقة، وبين جمال الباطن بحسن الخُلُق، وهذا أكمل ما يكون من الفتاة، فإن هناك علاقة بين الجمالين حيث يتشابهان في الحسن والقبح، فإذا لم يحصل التشابه بينهما فإن جمال الباطن يزين الصورة الظاهرة ويُجمِّلها، حتى وإن لم تكن جميلة، وفي الجانب الآخر حذر عليه الصلاة والسلام من سوء الخلق، حيث قال فيما روي عنه: "الشؤم سوء الخلق"، ورُوي عنه في تصنيف أخلاق النساء أنه قال: "النساء على ثلاثة أصناف: صنف كالوعاء تحمل وتضع، وصنف كالعرِّ وهو الجَرَبُ، وصنف ودودٌ ولودٌ مسلمة تُعين زوجها على إيمانه، وهي خير له من الكنز".(1/48)
إن من الضروري لضمان تطبيق الأخلاق الفاضلة، وتجنب الأخلاق المذمومة: أن يحصل للفتاة القناعة الكاملة بضرورة هذه الأخلاق، وأهميتها لحياتها، وضروريتها لكمال شخصيتها، وحاجتها الملحة للأخذ بها، فإن مجرَّد استيعابها لهذه النصوص، والعلم بها: لا يكفي لدفعها نحو التطبيق، فكم ممن يدرك الخير ويعرفه، ثم لا يسعى إليه ولا يأخذ به، لهذا فإن من الضروروي حصول القناعة العقلية بأهمية الأخلاق الحسنة، وضرر الأخلاق السيئة، فإن تكوين الأخلاق لا يتم إلا بعد حصول هذه القناعة الراسخة، بحيث يصبح السلوك الخلقي الفاضل: قاعدة مقبولة، والسلوك الخلقي الساقط: سُقماً نفسياً يحتاج إلى علاج، ومن ثمَّ يحصل الميل النفسي نحو الفعل الخلقي الصائب، ثم الممارسة والتكرار، حتى يصبح الخلق سجيَّة في النفس يصدر عنها دون تكلُّف.
ولما كان ميل الفتيات إلى المبادئ الأخلاقية أكبر من الفتيان، وحماسهن لها أعظم: كانت وسائل إقناعهن بها أيسر وأقرب للقبول، خاصة إذا عُلم: أن الأخلاق تقوم على جوانب فطرية، وعقلية،ودينية… وأن الفطرة يكملها الشرع، وأن الأحكام العقلية الإنسانية المتفق عليها لا يمكن أن تختلف مع ما شرع الله"، فيكون هذا الرصيد الفطري ذخيرة جيدة تبني عليها التربية نهجها في توجيه الفتيات، وإقناعهن بهذه الأخلاق، حتى يندفعن بجدية تجاهها للتطبيق والممارسة.
6ـ اقتناع الفتاة بإمكانية تعديل الأخلاق والترقي بها(1/49)
إن السلوك الغريزي الذي جُبل عليه الإنسان: سلوك فطري غير مكتسب، بمعنى أنه لا يمكن إزالته، أو تعطيل أثره، أما السلوك الخلقي الحسن منه أو القبيح فهو من السلوك المكتسب –غالبًا- الذي يمكن التحكم فيه بالتعديل والتوجيه في أي مرحلة من مراحل عمر الإنسان، فإن "الشخصية الإنسانية في النظرية الإسلامية، قادرة بشكل لا حدود له على التَّشكل، وتجاوز معطيات الوضع المجتمعي، في أية مرحلة من مراحل العمر"، فلا تختص التربية بمرحلة الطفولة، ولا تقف السِّن –أياً كانت- أمام إرادة تعديل الأخلاق، فكل مراحل الإنسان بما فيها مرحلة الشباب: مكان للتربية والتهذيب، والترقي الخلقي؛ بل قد تكون مرحلة الشباب خاصة عند الفتيات أقرب لقبول تعديل الأخلاق، وتنميتها من أي مرحلة أخرى، كما أن عمق الانحراف وحجمه عند بعض الفتيات لا يحول – هو الآخر – دون إمكانية استبداله بالخلق الحسن؛ وإنما تستفحل المشكلة وتصعب عندما لا يكون هناك – أصلاً- تربية صحيحة جادة، وكافية لتواجه صعوبات النفس البشرية، وواقعها المتردي.
وأما الجانب الوراثي فإن له تأثيره في سلوك الفتاة الخلقي من جهة إفرازات الغدد، والخصائص الكيميائية للمركبات الدموية، وطبيعة المجموع العصبي، بحيث يكون في مجموعها مزاج الفتاة، وخصائصها الفسيولوجية، إلا أن تأثير هذه الخصائص الوراثية المزاجية لا يتعدى كونه استعداداً فطرياً بدائياً يمكن السيطرة عليه وتعديله، وإنما يتضخَّم ويبلغ تأثيره مداه الواسع، إذا ترك هو وشأنه دون تربية وتهذيب وتوجيه.(1/50)
وقد فصَّل الإمام الغزالي ~ٍٍِِ القول في هذه المسألة الوراثية بمنطق عقلي واقعي فقال: "لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير؛ لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات… وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن، إذ يُنقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغيير للأخلاق"، فاستدل ~ٍٍِِ بإمكانية تعديل خلق الحيوان الأعجمي ، ونقله بالتربية من سلوك إلى ضده: بأن تعديل خلق الإنسان العاقل أقرب للتحقيق والحصول، وإلا بطلت المواعظ والإرشادات، ولم يعد للرسل والرسالات معنى تُوجد من أجله، وكان الأمر بتحسين الخلق من باب التكليف بما لا يُطاق، وهذا لا يكون في التصور الإسلامي، ومن هنا تقتنع الفتاة وتتيقن من إمكانية تعديل الأخلاق كوسيلة تربوية تساعدها في تحسين خلقها، والترقي بها في سلم الكمالات الإنسانية.
7ـ تكوين الإرادة الصادقة عند الفتاة لاكتساب الأخلاق الحسنة
إذا حصلت للفتاة المسلمة القناعة الكافية بوجوب التحلي بالأخلاق الفاضلة، والتخلي عن الأخلاق الرديئة، وإمكانية ذلك من خلال التربية: فإن هذه القناعة في حد ذاتها لا تكفي حتى تجتمع لها الإرادة الصادقة الدافعة للعمل بموجبها، فإن موضوع الأخلاق لا يعدو بجملته أعمال الإنسان الإرادية، فهو لا يُؤاخذ ولا يُحمد بما صدر عنه بغير قصد أو إرادة من الدوافع أو الكوابح، إذ لا بد للسلوك الخلقي من إرادة باعثة، تصدر عن تفاعل القدرات العقلية مع المثل العليا، بحيث يجتمع للفعل الخلقي مع المعرفة: الرغبة الأكيدة والعاطفة الدافعة نحو العمل.(1/51)
وممارسة الإنسان للأخلاق الصالحة يحصل بأحد طريقين: إما أن يأتي فرضاً على إرادته من الخارج، وإما أن يأتي من داخله بعد التأمل والاعتبار، وهذا هو المعوّل عليه، لما فيه من صدق الإرادة والقصد، وخلوص النية، التي عليها مدار قبول الأعمال الصالحة، كما جاء في الحديث:(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى…).
ومما ينبغي أن تدركه الفتاة أن السلوك الخلقي – مهما كان في ظاهره حسناً – يفقد قيمته إذا جاء مفرغاً من الإرادة الصادقة؛ لأن المقاصد والنِّيات روح السلوك الأخلاقي، وصورته الباطنة، فلا بد أن يتواقر للسلوك الأخلاقي شرطان، الأول: الجانب الظاهر من السلوك، والذي يتمثل في القوانين الأخلاقية الشرعية، والثاني: حسن المقصد، بحيث يتطابق سلوك الإنسان الظاهر مع إرادته الباطنة، وهنا فقط يُعد السلوك أخلاقياً، ويُحكم عليه بالخير أو الشر، ما دام صاحبه يقوم به عن عمد واختيار، ويعلم – وهو يتعاطى العمل – أنه يعمل صواباً أو خطأ.
وإذا اجتمع للفتاة حسن المقصد الباطن، وسلامة السلوك الظاهر: انتفى عن عملها الخلقي صفة النفاق أو الرياء، وعُدَّ الخلق أصيلاً في نفسها، ثابتاً في سلوكها، يصدر عن رغبة وسهولة ويسر، وهنا يُسمى الخُلُق خٌلقاً؛ وإلا فلا خير في خلق مُتَكلَّف لا أساس له في النفس، ولا رسوخ له فيها، وأكثر ما يُقال فيه: أنه ضبط للنفس، وليس خلقاً لها.
8ـ تدريب الفتاة على ممارسة السلوك الخلقي الصالح
إذا صحَّ للفتاة حسن المقصد، وإرادة الخير، وميل النفس الصادق نحو السلوك الخلقي الفاضل: فإن أعظم وسيلة تتعاطاها لترسيخ المبدأ الخلقي في نفسها وسلوكها هو: الممارسة المتكررة، والتعاطي المستمر دون انقطاع ، فإن النية الصادقة لا تكفي وحدها لترسيخ الخلق، حتى وإن كان الخلق فطرياً، فإن كلَّ شيء في الكيان الإنساني يتقوَّى بالتربية والتدريب، ويضعف بالإهمال والانقطاع.(1/52)
ويكاد يُجمع رجال التربية على أن الملكات الخلقية – مهما كانت قناعة الإنسان بها – لا تحصل له إلا من خلال اعتياد ممارستها، والمواظبة عليها، وفي هذا المعنى يقول الإمام الماوردي ~ٍٍِِ: "الأدب مكتسب بالتجربة، أو مستحسن بالعادة.. وكل ذلك لا يُنال بتوفيق العقل، ولا بالانقياد للطبع، حتى يُكتسب بالتجربة والمعاناة، ويُستفاد بالدربة والمعاطاة" بمعنى أن الخلق – حتى وإن كان فطرياً – لا بد له من التدريب والتعويد حتى يرسخ، وتتشربه النفس، وفي هذا المعنى أيضاً يؤكِّد الراغب الأصفهاني ~ٍٍِِ فيقول: "كل متعاط لفعل من الأفعال النفسية فإنه يتقوى فيه بالازدياد منه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فباحتمال صغار الأمور يمكن احتمال كبارها، وباحتمال كبارها يستحق الحمد" ومصداق هذا الفهم كوسيلة لترسيخ الخلق في النفس: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(… من يستعفف يُعفه الله، ومن يستغن يُغْنِه الله، ومن يصبر يصبره الله …), يعني أن من تكلَّف هذه الفضائل، وحَرَص عليها، وتعاطاها: حصل له مقصوده من التخلق بها، حتى تصبح جزءاً طبيعياً راسخاً في كيانه وشخصيته.
9ـ ضبط وتوجيه دوافع الفتاة الفطرية
الدوافع: هي الميول أو القوى الداخلية – فسيولوجية كانت أو نفسية- التي تدفع الفرد، وتوجهه نحو إشباع غرائزه، وحاجاته الفطرية، حتى يسير وفقاً لها، بهدف تحقيق درجة الإشباع، والتصور الإسلامي ابتداءً يُقرُّ هذه الميول الفطرية، ومظاهرها الشهوية المختلفة، ولا يُطالب المكلف بإزالتها من جبلَّته؛ لأنه تكليف بما لا يُطاق؛ وإنما يُطالبه بتبعاتها إذا انحرفت إلى ما لا يحل، أو أرسلت بمقدار لا اعتدال فيه: فهنا تكون المؤاخذة والمحاسبة.(1/53)
إن معيار الإنسانية وشرفها مرتبط بكمالات الإنسان الأخلاقية والروحانية، وليس فيما يشترك فيه من الصفات الغرائزية مع الحيوان، بل إن معالم الإنسانية تبرز، وتشيع أنوارها كلما قُمعت في الإنسان خصاله الحيوانية ، فإن المساحة في غاية الاتساع والبعد بين إطلاق الشهوات والميول والرغبات، وبين ضبطها وإحكام وجهتها، فكم يحتاج الإنسان من الجهود التربوية لإشباع غرائزه: كحب التملك، وشره الطعام، والغضب، والانتقام، فهذه لا تحتاج إلى تعلم أو تربية أو مجاهدة، في حين كم يحتاج الإنسان من هذه الجهود التربوية والجهادية لتهذيب نفسه للتحلي بالإيثار، والعفو، والتسامح، والكرم ونحوها من الأخلاق الفاضلة، التي لا تبنى إلا من خلال معاناة التربية والتدريب والمجاهدة.(1/54)
والإنسان لا يُحمد لمجرد وجود هذه الدوافع الفطرية قويةً في كيانه، إنما يُحمد بمقدار ضبطه لها، وحسن توجيهها لما خلقت ورُكّبت له، ومن هنا يبرز دور الأخلاق: وأهميتها كوسيلة ضابطة للدوافع والميول، وموجهة لطاقاتها الملحة ضمن القانون الرباني المرضي، فإن الوراثة – بكل ما تحمله من قوى الغرائز والميول- لا تعمل وحدها في توجيه السلوك؛ بل تشاركها التربية ممثلة في البيئة الاجتماعية، فيعملان سوياً في صورة تكاملية لتكوين الشخصية الإنسانية، فإذا اكتمل للفتاة – من خلال التربية – ضبط غرائزها وتوجيهها ضمن ضابط الشرع للسلوك الخلقي: فقد حصل لها التغلب على أعظم وأقوى دوافع الانحراف الخلقي في كيانها الإنساني، كما أن التغيُّر الفطري الكبير الذي ينتاب الفتاة في مرحلة البلوغ، وما يصاحبه من تغيُّرات نفسية وعقلية وجسمية شاملة: يمكن أن يُستغل في توجيه الفتاة خلقياً، فيُعطي المربي فرصة جيدة للتدخل بالتربية والتوجيه، في وقت تتكون فيه القيم تلقائياً، حيث الانبعاث الخلقي، والتَّطلع إلى المثل العليا، والحماس الديني، الذي تزدهر صوره عند الفتيات، مما يُعد ذخيرة فطرية قوية: تعين الفتاة على ضبط غرائزها ودوافعها الفطرية، ضمن حدود السلوك الخلقي الإسلامي.
10ـ التزام الفتاة بخلق الصدق(1/55)
الصدق: خلاف الكذب ، ويشمل الصدق – بمعناه العام- كل سلوك الإنسان الإرادي بدءاً بالعقيدة والإيمان، وانتهاءً بكل جزئيات الحياة وتفصيلاتها؛ ولهذا فقد امتدح المولى - عز وجل - الصادقين من الجنسين ضمن مجموعة من الأخلاقيات والأعمال الفاضلة فقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وأشار عليه الصلاة والسلام إلى فضل الصدق فقال:(إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) ثم إن الصدق جماع الخير، وأساس الحسنات، كما أن الكذب جماع الشر، وأساس القبائح والسيئات، وهو منبع أساس للفساد الخلقي، لهذا عَدَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من خصال النفاق المذمومة.
ومن لطف الله تعالى بخلقه أنه لم يجعل الكذب من الأخلاق الفطرية ، التي يمكن أن يُطبع عليها المرء؛ بل هو من الأخلاق المكتسبة، التي يتلقاها المتربي، من البيئة الاجتماعية، ويعتادها من خلال احتكاكه بأفراد المجتمع من حوله، فيصبح خلقاً له، يصعب عليه التخلص منه.(1/56)
ولما كانت دوافع الانتماء الاجتماعي عند الإناث أكبر منها عند الذكور، وحاجتهن إلى محبة الآخرين كبيرة، حيث يحتجن إلى مزيد من التواصل، وتكوين العلاقات،والصلات الاجتماعية المختلفة، إلى درجة تنازلهن أحياناً عن كثير من حاجاتهن في سبيل الإبقاء على علاقاتهن الاجتماعية وازدهارها؛ مما قد يسوق بعضهن إلى الوقوع في كثير من المحاذير والممنوعات السلوكية، فإن اجتماعات النساء – في الغالب – لا خير فيها، خاصة إذا علم أنهن أكثر حديثاً وثرثرة من الذكور، وأقرب إلى الوقوع في خطأ الحديث، وأحوج إلى عون غيرهن للتثبُّت وإصابة الحق، لغلبة النسيان عليهن، كما قال الله تعالى في شأن شهادة النساء: {….فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى …} [البقرة:282].
ومن هنا كان التأكيد على ضرورة تهذيب نفوس الفتيات بخصلة الصدق، والعمل الجاد على إحياء أصوله الأساسية في نفوسهن، من خلال إصلاح القلوب، التي بها صلاح السلوك العام للإنسان، كما قال عليه الصلاة والسلام:(إن في الإنسان مضغة إذا سلمت وصحت: سلم سائر الجسد وصح، وإذا سقمت: سقم سائر الجسد وفسد، ألا وهي القلب).
11ـ تحلِّي الفتاة بخلق الحياء(1/57)
الحياء مشتقٌّ من الحياة – كما يرى البعض – وهو نوع من خوف العار، مركب من عفَّة وجُبن، يبعث في النفس حزناً بسبب شر يصير به الإنسان مذموماً ، سواء سلف وقوعه، أو حضر، أو يُتوقع، وهو رأس الأخلاق وأعلاها، ومن أخص خصائص الإنسان، التي تُميِّزه عن الحيوان، وهو عند كثير من رجال التربية من أعظم وسائلها، وأكثرها نفعاً؛ إذ هو دليل العقل السليم، وعلامة على سهولة عمليتي التربية والتعليم، إلى جانب نفعه الأكيد في إحياء الشعور بالتقصير في جنب الله تعالى؛ مما يدفع الحيي نحو الهمة الصادقة في طاعة الله تعالى. وتختلف طبيعة الحياء الإيجابية عن طبيعة الخجل في كون الخجل يحبس صاحبه في طائفة من المسالك السلبية: كالخوف، والقلق، والضعف، والحيرة التي تُعيق حركة نشاطه الاجتماعي.
وقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل الحياء قوله للرجل الذي نهى أخاه عن الحياء:(دعه فإن الحياء من الإيمان), وجعله - عليه السلام - من شعب الإيمان؛ بل جعله قريناً للإيمان بحيث لو زال أحدهما زال الآخر، فالحياء خلق فاضل، لا يأتي صاحبه إلا بالخير، كما قال عليه الصلاة والسلام:(الحياء لا يأتي إلا بخير), وهو زينة السلوك الإنساني حيث قال عليه الصلاة والسلام:(ما كان الفحش في شيء إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء إلا زانه).(1/58)
ولما كان خلق الحياء بهذه المكانة في التصور الإسلامي، وبهذه الأهمية الكبرى في التربية: جعل الله تعالى شدَّته وأبرز مظاهره من خصوصيات مرحلة الشباب؛ لغلبة الشهوة عندهم وكثرة الخطأ، وجعل آثاره في النساء أبلغ وأعظم، وهو عند العذارى منهن أوفر ما يكون عند البشر، خاصة البالغات منهن كما دلَّ على ذلك العديد من الدراسات الميدانية التي تكاد تجمع على هذا؛ وسبب ذلك يرجع إلى أن الحياء وسيلتهن للسمو بالغريزة، بحيث يكون حارساً على سلوكهن الخلقي، "فالمرأة متى خلعت ثوب الحياء فكأنها تنازلت عن سلوك سبيل العفاف والصون، حيث إن خلع ثوب الحياء منها علامة قوية على نيَّة خدش الأمانة التي يترتب عليها من العواقب الوخيمة ما لا نهاية له"، فهي إن أكثرت من الدخول والخروج، والاحتكاك بالأجانب: قل حياؤها، فكانت أقرب للوقوع في الخطأ، في حين أنها ما دامت ضمن ستر الحياء كانت في مأمن من الرفث والفواحش؛ لهذا مُدح في النساء الضعف والجبن، وعُدا من الفضائل فيهن، في حين ذُمَّ فيهن الشجاعة والسخاء؛ لما فيهما من الوقاحة والإسراف، وفي هذا يقول القلقشندي: "المرأة إذا جبُنت كفت عن المساوي خوفاً على نفسها وعرضها، وإذا بخلت حفظت مال زوجها عن الضياع والإتلاف"، فرغم أن أصول هذه الصفات مشتركة بين الجنسين إلا أن درجة حدَّتها تختلف حسب الجنس، وطبيعة الوظيفة، ونوع السلوك الاجتماعي المطلوب من كل جنس، ولهذا يلاحظ أن المجتمع أكثر تقبلاً لخجل الإناث من تقبله لخجل الذكور.(1/59)
وامتداح خلق الحياء جاء من جهة آثاره السلوكية في حياة المسلم؛ إذ يحجز صاحبه عن ارتكاب القبائح، والسقوط في الرذائل، فهو رادع عن كل قبيح، فمن لاحظ جانب العباد استحيا منهم، ومن لاحظ جنب الله استحيا منه، ومن لاحظ الجانبين أعطى كل واحد منهما حقه من الحياء، ومن طرح الحياء صنع ما يشاء من القبائح والسيئات، وفي الحديث:(…. إذا لم تستحي فاصنع ما شئت), فمن هنا كان خيراً كُلّه فلا قيمة لهذا الخلق عند الفتاة دون مظاهره السلوكية من : الخَفَرِ، والإشفاق، والتحفُّظ الذي ألمح إليه المولى - عز وجل - في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع المرأتين، حيث جاءت إحداهما تمشي على استحياء، فتمثلت بحيائها سلوك الخائف الوجل مما قد يُنسب إليه مما يُكره، أو يذم به، فاختارت الوجيز من الكلام، والخطو على أعقاب الرجل، دون استعراض مثير.
ورغم أن الحياء في سلوك الفتاة أساس الفضيلة عندها، ودليل صادق على إحساسها بقيمة ذاتها، فقد اعتبره بعضهم: من السلبيات التي يُذم بها النساء، ومن مؤثرات سيطرة المجتمع الذكوري على مقدراتهن، وأخلاقهن السلوكية، حتى إن البعض: أرجع سبب ظاهرة الاستحياء في سلوك المرأة إلى عقدة "الإخصاء" التي تتضمن – كما هو مذهب مدرسة التحليل النفسي – الشعور بالنقص لفقدان عضو الذكورة التناسلي؛ مما يسوق المرأة – حسب زعمهم- للشعور بالدونية أمام الذكور، فتسلك نهج المُنْكسر المستحي. وكأن هذه الآلات – منفردة – تُعطي الإنسان صفاته الخلقية والسلوكية دون أن يكون للجوانب: الروحية والنفسية والعقلية، والطبيعة الفطرية أدوارها الأساسية في تكوين السلوك الخلقي، وقد قيل في الحكم: "امرأة بلا حياء كطعام بلا ملح"، بمعنى أن مسلك الحياء جزء أصيل في تكوين الأنثى الخلقي، وضرورة لها، وليس هو مجرد سلوك خلقي مفتعل تتلبس به المرأة ضمن ظروف اجتماعية أو نفسية، لا علاقة لها بطبيعتها الفطرية.(1/60)
ولقد أدى هذا الفهم الشاذ لطبيعة سلوك الخجل عند المرأة: إلى تكوين تجمعات نسائية، وحركات تحررية تسعى إلى إحياء خلق الجراءة عند الفتيات، ونبذ سلوك الاستحياء ومَفْتِه، ضمن ثورة جنسية تسوِّي بين الذكور والإناث في سلوك واحد متشابه، حتى ظهرت بعض طبقات من الفتيات تفوّقن على أقرانهن من الذكور في جوانب من الجراءة والاستقلالية، إلا أن الواقع المعاصر لم يحقق للمرأة المتحررة من قيود الأدب والحياء: سوى مزيد من التعاسة والاستغلال ممن وسَمْنَهُ بالمجتمع الذكوري، الذي نادت – في أول الأمر – بالتحرر من قيوده.
والذي ينبغي أن تدركه الفتاة المسلمة: أن تجرد المرأة من مسلك الاستحياء اللازم للأنوثة يوحي بانقلاب الموازين البشرية، وظهور أجيال جديدة تتشابه فيها أدوار الجنسين في الحياة، وتختلط فيها مظاهر الرجولة بالأنوثة، وربما تداخلت فيها الطبائع الفطرية الأساسية، حتى يتمكن كل جنس- بصورة كبيرة – من تمثيل الجنس الآخر في أخلاقه وسلوكه، وعندها تكون البشرية قد وصلت إلى أردأ مهاوي الإنسانية، وفقدت أهم أسباب البقاء والاستمرار.
12ـ التزام الفتاة بطابع السُّلوك الأنثوي
ويُقصد بالسلوك الأنثوي: طبيعة وسمات الأنثى البشرية، وتفاعلها الاجتماعي والنفسي في الوسط المجتمعي، حيث اقتضت الحكمة الربانية قيام الحياة على نوعي الإنسان: ذكورة تحمل مقومات القوامة من القوة والسيطرة والجرأة، وأنوثة تحمل سمات طبعها في مسلبتين ونقيصتين خُلُقيتين، هما في الحقيقة فضيلتان في حق النساء: الضعف والجبن، فالضعف فيهنّ مُعْتبر، فهو سلوك غالب إناث الحيوان، وأما الجبن فهو ضدُّ الشجاعة التي تُعد محمودة في حق الذكور، وممقوتة في حق الإناث؛ لما فيها من سلوك الوقاحة، الذي لا يتناسب مع الطبع الأنثوي الذي جبل عليه الإناث.(1/61)
هذه الطباع الخُلقية متأصلة في السلوك الإنساني بالفطرة في أصل الخِلْقة، قبل أن تكون أثراً مصطنعاً من آثار البيئة الاجتماعية، أو المناهج التربوية، كما يزعم بعضهم، فإن "الرجل ذكرٌ والمرأة أنثى، وهما مختلفان بحكم الطبيعة،وليس في هذا الاختلاف ما يدعو إلى القلق، غير أن المتاعب تنجم… إذا اتُّخذ هذا الاختلاف ذريعة لحيف اجتماعي، أو منزلي بالنسبة لأحد الجنسين"، ومن هنا تنبع مشكلة الشعور بالدونية عند الفتيات حين يُقلل المجتمع من شأنهن، ويحطُّ من قدرهن، وتمارس الأسرة صوراً من الحيف معهن، فيتمنين أن لو كن ذكوراً؛ ليخرجن من هذا المأزق النفسي المؤلم، ويحصلن على شيء من الامتيازات الاجتماعية التي يتمتع بها الذكور. وربما ذهب بعضهن – تحت هذا الضغط النفسي- إلى إثبات جدارتهن بالعدوان، والتَّنكُّر للسلوك الأنثوي، وربما سعى بعضهن – من خلال حركة التمركز حول الأنثى – نحو صبغ الحياة الإنسانية بالصبغة الأنثوية مقابل إلغاء مظاهر الحياة الذكورية، وإحياء ما يسمى بالمجتمع الأمومي، الذي تسيطر فيه الأنثى على الحياة بأسرها، وربما انساق بعضهن نحو الإغراء والدعارة؛ لإثبات قوة سيطرة الأنوثة وتفوقها على الذكورة، وربما صعب على بعضهن تكوين علاقة حميمة مع أزواجهن ما داموا قائمين بمستلزمات القوامة الأسرية في شخصياتهم، وطبائعهم الذكورية السوية، إلى مظاهر أخرى من الانحرافات الفكرية والسلوكية.
إن الأصل الذي يهدف إليه منهج التربية الإسلامية لحل هذه المشكلة النفسية: أن يعتزَّ كل من الجنسين بما أودعه الله تعالى فيه من الخصال الفطرية، فالمرأة "ذات الفطرة السوية تعتز بأنوثتها، كما يعتزُّ الرجل السوي برجولته سواء بسواء، فتستمتع بما أودعه الله تعالى في كينونتها، وألصقه بأنوثتها من العاطفة الجياشة، وشدة الحنان، والنظافة، والحياء، والاستكانة، والانصياع لقوامة الرجل السوي.(1/62)
إن الحرية الاجتماعية والفكرية التي طغت على مظاهر الحياة المعاصرة، وصبغتها بصبغة سلوكية موحَّدة: أفرزت جماعات من الجنسين يتشبَّه كل منهما بالجنس الآخر في أخلاقه وسلوكياته، حتى تسلك فيه الفتيات مسلك العنف كالذكور، واندفع بعضهم – في هذا الوسط التربوي المتداخل – ليقنِّنوا للجنسين أهداف التربية، وأساليبها على منهج تربوي واحد، يُخرِّج صنفاً واحداً من الخلْق، لا يختلفون في سلوكهم النوعي، ولا يتباينون في طباعهم الفطرية ، إلا في بعض مظاهر الخِلْقة الجسدية، التي لا بد منها ، زعماً منهم أن هذا النهج ينهي أزمة التفرقة بسبب الجنس.
ولقد كان لطبيعة أنظمة التعليم المعاصر ومناهجه دور كبير في تذويب الفروق بين الجنسين، وتقارب طبائعهما الخلقية والسلوكية، إلى جانب طبيعة الحياة المعاصرة في تطورها غير المنضبط؛ فإنه "كلما زاد التطور اختفت الفروق بين الجنسين في كثير من الظواهر السلوكية".
ولئن كان الرجل والمرأة نوعين من جنس واحد، فإن التصور التربوي الإسلامي ابتداء يُفرِّق بين الذكر والأنثى في المهام والمسؤوليات المبنية على الطبائع؛ فيقول اللطيف الخبير: {…. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى …} [آل عمران:36] يعني فيما يكون صالحاً لهما من الأعمال والمهام، فما قد يصلح للذكر ليس بالضرورة يصلح للأنثى، والعكس أيضاً صحيح؛ فالسلوك العدواني – مثلاً – عُرف منذ فجر التاريخ البشري بأنه سلوك ذكوري الطبع، فلا يستهجنه المجتمع ما دام صادراً عن الذكور، في حين يقلق المربون إذا صدر هذا السلوك العدواني عن الإناث.(1/63)
والعجيب أن الفتاة الذكورية السلوك يتأثر عقلها الباطن بطبعها الظاهر، فتنطبع رؤاها وأحلامها المنامية بطابع سلوكها الذكوري من تأكيد الذات، والاستقلالية، وثوران الشهوة، والسيطرة، في حين يغلب على الأخريات ممن اتَّصفن بالأنوثة في سلوكهن: رؤى الإيثار، والحب، والعاطفة، ويقل في مناماتهن العنف والغلظة، مما يؤكد خطورة وأهمية دور التربية في تعزيز أحد السلوكيْن على الآخر، بصورة إيجابية أو سلبية.
ومن هنا فإن النهج السوي للتربية الناجحة يستلزم حشد كل الوسائل التربوية المشروعة في البيت، والمدرسة، والمجتمع: للعمل على نُضج خصائص الأنوثة وخصالها الكريمة، ودعم مظاهرها المختلفة عند الفتيات؛ لتوافق طبيعتهن المتميزة، وتُعاضد إفرازاتهن الهرمونية الأنثوية الطبيعية، والضرورية لبلوغهن وتميزهنَّ الفطري عن الذكور على أن تكون بداية هذا التوجيه التربوي المتميِّز في سنوات أعمارهن الأولى في مرحلة الطفولة المبكرة، ومروراً بمراحل العمر الأخرى، خاصة في مرحلة الشباب، ومع بداية إرهاصات البلوغ، حين يقوى لدى الفتيات التوجه الأنثوي المتميز في السلوك والاهتمامات.
ويتأكد في حق الفتيات: تهيئة الجو الأسري السوي، الذي يقوم فيه كل جنس بمهامه الطبيعية المناطة به، ولا تتداخل فيه الأدوار، خاصة دور الأم باعتبارها أنثى، فلا يصح منها أن تهيمن على دور الأب، مع ضرورة إشباع حاجاتهن –خاصة الفتاة الوحيدة في الأسرة– لوسط أنثويٍّ يريْن ويمارسن من خلاله سلوك الإناث، مع تجنيبهن الإفراط في مخالطة المحارم من الذكور؛ خشية تأثرهن بسلوكهم الذكوري.(1/64)
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا التوجه الأنثوي في تربية البنات هو عدم الإفراط في حشد الطاقات المجتمعية والأسرية التربوية لدعم السلوك الأنثوي عند الفتيات، بحيث تصبح السلبية السلوكية المفرطة عندهن: علامة السلوك الأنثوي الصحيح، فتسعى الفتاة – رغم حاجتها النفسية كالذكور للنجاح والإنجاز – لترضي المجتمع من حولها، فتضحِّي بطاقاتها وإمكاناتها المختلفة، وتتجنب كل مظهر من مظاهر السلوك الإيجابي السوي، كالنشاط العقلي ، والتفوق الأكاديمي، معتقدة أن التفوق –بكل مظاهره- سلوك ذكوري، يتنافى مع طبيعة الأنثى السوية.
ولا شك أن منهج التربية الإسلامية لا يهدف لمثل هذا الشعور المفرط في السلبية، والذي يجعل من الأنوثة وسيلة انحطاط وانهزامية؛ بل يؤكد ويهدف من خلال منهجه التربوي للجنسين: أن ينضبط وينطبع السلوك بما يقتضيه نوع الجنس، وأن يستغل كل فرد – ذكراً كان أو أنثى– طاقاته المختلفة، وقدراته الفطرية في خدمة النشاط الإنساني المشروع بما لا يُخِل بطباع جنسه.
ولعل من شواهد الحياة الاجتماعية في القرن الأول الهجري ما يُجلِّي هذا الفهم، فالفتاة القدوة – عائشة رضي الله عنها - التي تمثل من خلال سلوكها معياراً للسلوك الأنثوي الخالد، في أجلِّ وأسمى مظاهره الطبيعية، ضمن المجتمع المثالي "المقياس"، ولم يظهر في سلوكها شيء من السلبية المفرطة ؛ بل كان سلوكها في الغالب- مفعماً بإيجابية الأنثى السوية ضمن طبيعة الكمال الأنثوي "المتناهي في الفضائل والبر والتقوى وحسن الخصال"، فلم يخرجها هذا النجاح والتفوق عن طبيعة سلوك الأنثى؛ بل وحتى في أشد مواقف بروزها وإنجازها في معركة الجمل، فقد كانت ضمن السلوك الأنثوي – المحافظ – في هودج من حديد لا يُرى من شخصها شيء.
13ـ انضباط شهوات الفتاة بخلق العفة(1/65)
العفَّةُ: كفُّ النفس عما لا يحل ولا يجْمُل بالإنسان، وهي ملكة أو هيئة في النفس تضبط القوة الشهوية، وتمنع صاحبها من تعاطي الفواحش، فهي فضيلة خاصة بالجزء الشهواني من الإنسان، تؤدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع، وهي أخص من الحياء؛ إذ قد تكون الفتاة عفيفة في نفسها، فلا تقع في الفواحش، إلا أنها جريئة تبدي من محاسنها، وتخضع للرجال بالقول فلا تكون حييَّة.
ولما كانت العفة خاصة بالجانب الشهواني من الإنسان، بحيث تستلزم ضبط الفرج عن المحارم، وكف اللسان عن الأعراض بالقذف ونحوه: كان الشباب أحوج إلى هذا الخلق من الشيوخ؛ لغلبة الشهوة عليهم، ونفوذ سلطانها في جوارحهم ،فيأتي خُلُقُ العفة ليشمل أثره ضبط هذه الجوارح عما لا يحل من القبائح والرذائل، فتتصرف شهواتهم بحسب الشرع والعقل، فلا يكونون عبيداً لها، شرهين في طلبها، ولا يكونون – في الجانب الآخر – خاملين عن النافع منها، مما تحتاجه النفس ويطلبه البدن لقيام الحياة، حسبما رخصت فيه الشريعة المحكمة.
والنساء في العموم والفتيات على وجه الخصوص أقرب في الغالب إلى مسلك العفة من الذكور، حيث جعل الله تعالى لهن "صبراً على تسكين الحركات الوجدانية، وإخفاء التأثيرات النفسانية، فكانت درجة الفضيلة فيهن أشد منها في الرجال، بحيث يبلغن في درجة الحياء أوجه الكمال، فإن المرأة العفيفة الكريمة النفس تتحمل من أثقال الحركات النفسانية - عند الاحتياج إليها – ما قد يعجز عنه صناديد الرجال بل قد يصل الأمر بالعفيفة إذا انتُهك عرضها أن تختار الموت على الحياة، ولا تبقى تحت تأثير الشعور بفقدان العفة، فإنه لا شيء في الوجود يمكن أن يرفع قدر المرأة كالعفة، فإذا فقدتها فقد فقدت أثمن ما عندها، وهذا ليس ببعيد على من فقدت حياءها، فلا يبعد أن تفقد بعد ذلك عفتها؛ فإن العفة ليست جوهراً من جواهر النفس، وإنما هي لون من ألوانها يمكن أن تضعف أو تزول بضعف أو زوال المجاهدة في الحفاظ عليها.(1/66)
ولعل في خبر السيدة عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، ما يدل على عمق تأثُّر الفتاة – حديثة السن – بما يخدش عفتها، حيث وصل بها الحال إلى درجة الإغماء والمرض، وانقطاع الدمع من شدة البكاء، والتفكير في الانتحار، في حين لم يُنقل عن الرجل – البكر – الذي رُميت به إلا شيء من غضب: مما يشير إلى تشرب طبيعة الفتيات بخلق العفة، والتَّصوُّن عما لا يليق بالشريفة منهن من القبائح والرذائل.
إن الفتاة المسلمة المعاصرة تدرك بفطرتها السوية أهمية هذا الخلق، وتسعى لتحقيق آثاره في نفسها وسلوكها، وتتجنب كل ما يخدش عفتها، من ساقط القول، وقبيح الفعل، فليس شيء أثمن من العفة عند العذراء الحييَّة
14ـ تحلي الفتاة بالسُّلوك الأدبي
ويقصد بالسلوك الأدبي: كل خلق محمود أو فضيلة من الفضائل تصدر عن الإنسان، فإنه يقع عليها وصف الأدب، وهو من السلوك الذي حثَّ عليه الإسلام، وأمر بتربية النشء على معانيه، فقد رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(لأن يؤدِّب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع), وروي عنه أيضاً أنه قال:(ما نَحَل والدٌ ولدًا من نحل أفضل من أدب حسن), ونقل عنه أيضاً أنه قال:(أكرموا أولادكم ، وأحسنوا أدبهم), وأمر عليه الصلاة والسلام باتخاذ الوسائل التربوية المختلفة لتحقيق هذا السلوك في النشء حتى وإن كان من خلال العقوبة البدنية، فقد ورد عنه أنه قال:( … أنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدباً، وأخفهم في الله).(1/67)
وخصَّ عليه الصلاة والسلام بالتأديب الفتيات، فقال:(من عال ثلاث بنات فأدبهن، وزوجهن، وأحسن إليهن: فله الجنة), وشمل توجيهه بالتأديب حتى الإماء المملوكات فقال:(ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين … رجل كانت له أمة، فغذاها فأحسن غذاءَها، ثم أدَّبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران), ولما رغَّب في نكاح الأبكار، رخَّص لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الزواج من ثيب عاقلة بهدف تأديب أخواته الصغيرات ورعايتهن.
كما خصَّ عليه الصلاة والسلام في مواقف متعددة، بمزيد توجيه أدبي، فهذه أم غادية رضي الله عنها تقول فيما رُوي عنها:(خرجت مع رهط من قومي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أردت الانصراف قلت: يا رسول الله أوصني، قال: إياك وما يسوء الأذن), ولما سألته أم رعلة القشيرية عما يقرِّبها من الجنة قال لها فيما ذكر عنه - صلى الله عليه وسلم - :(عليكن بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، وغض البصر، وخفض الصوت), ولما زعمت إحداهن أنها صائمة، وكان في لسانها بذاءة قال لها مؤدباً – فيما رُوي عنه – ما "صمت" .(1/68)
هذه المواقف من السيرة النبوية تدل على أهمية السلوك الآدبي للمسلم عموماً، وضرورته الملحة في حق الفتاة المسلمة، وأنها ما دامت متأدبة بأدب الشرع في سلوكها فهي على خير كثير، حتى وإن كانت ناقصة الجمال، "فالأدب للمرأة يُغني عن الجمال، ولكن الجمال لا يغني عن الأدب، لأنه عرض زائل"، وقد قيل في الحكمة: "لا شرف مع سوء الأدب" وقالت هند بنت المهلب زوجة الحجاج بن يوسف لما ذُكر عندها جمال المرأة: "ما تحلين النساء بحلية أحسن عليهن من لب ظاهر، تحته أدب كامل"، وهذا – في الحقيقة – أعلى درجات الكمال النِّسوي، بحيث تجمع المرأة بين سلامة الظاهر بحسن الخلْقة، وجمال الباطن بحسن الأدب، فتملك يدها عن ردئ الفعل، ولسانها عن قبيح القول من البذاءة، والطعن، واللعن، فلا يصدر عنها الكلام إلا بالتثبت والتأمل، وحتى الضحك فإنها تقلل منه؛ لأنه ينافي كمال الأدب ويضر بالقلب ، فقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب), والفتاة العاقلة تسعى في سلوكها الأدبي أن تحذو حذو الصالحات من نساء السلف، وتتأدب بآدابهن وتنهج على طريقتهن.
ولا شك أن التزام الأدب في السلوك ،وأخذ النفس بالتأديب والتهذيب فيه نوع من المشقَّة، إلا أنها مشقة معتادة، ومألوفة في ميدان التربية، وقد تكون في حق الفتاة التي كَمُلَ بناؤها الجسمي والعقلي: أقل مشقة؛ وذلك لتوجه طبعها بالفطرة في هذه السن نحو مسلك الأدب، فتحلو ألفاظها، ويعذُب كلامها، ويحدث عندها شيء من الدَّلال، فلو تعاضدت التربية بأسالبيها المختلفة مع هذه الذخيرة الفطرية الطبيعية في كيان الفتاة: سَهُلَ – إلى حد كبير – تهذيب الفتيات، وإلزامهن بأدب السلوك، في أنفسهن، وفي تعاملهن الاجتماعي.
15ـ تشرب الفتاة بخلق الرحمة(1/69)
الرحمة تعني: "الرقة والتعطف"، والشفقة والحنان، وهي من أصول الأخلاق وكلياتها الكبرى، التي يحتاجها بنو البشر في تعاملهم الاجتماعي، والرحمة تتضمن مشاركة الآخرين في مثل آلامهم ومسراتهم، بحيث إذا لم يتمكن الشخص الرحيم من إظهار خلق الرحمة – لمانع ما – فإنه يشعر بألم جسمي ونفسي، كالأم التي يحتاج ولدها للرضاعة، فيمنعها عن رضاعه مانع ، فإنها تشعر بألم في نفسها لعدم الاستجابة لوليدها، وألم في جسمها بسبب احتقان اللبن في ثدييها.
وقد وسَّع الإسلام مفهوم الرحمة وممارستها ليشمل كل نشاط الإنسان ضمن متغيرات الحياة المختلفة ، فشمل تعامله مع نفسه بأن يرحمها كما قال الله تعالى: {... وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] واستوعب بالرحمة جوانب التعامل مع الآخرين، حتى جعل عزل الأذى عن الطريق من أوسع أبواب الأجر والثواب، وما ذلك الأجر العظيم الذي يناله المسلم لمجرد رفع الأذى من حجر أو شوك أو نحو ذلك؛ "ولكن بتلك الرحمة التي عمَّ بها المسلمين فشكر الله له عطفه ورأفته بهم".
وقد وصل الترغيب في خلق الرحمة ليشمل حتى الحيوان، فيقول عليه الصلاة والسلام:(في كل كبد رطبة أجر), بحيث يتسع – في التصور الإسلامي – مفهوم الرحمة لينتظم الوجود كله، ويصل إلى كل كائن حي مستحق لها، ويضيق مفهوم القسوة والغلظة عن غير المستحق لها حتى يصل إلى غضب الله تعالى على من عذَّب هرة.(1/70)
وعنصر الإناث في الأحياء عموماً ألصق بخلق الرحمة وآثارها من عنصر الذكور، وعند أنثى الإنسان هو أسمى ما يمكن أن يصل إليه خلق الرحمة عند الخلق، ورغم هذا فإنه قد يشذ بعض النساء عن هذه الصفة الأصيلة فيهن حتى في المجتمعات الراقية المستقرة، فيخرجن في بعض الأحيان عن طبعهن إلى سلوك قاس تأباه الأنثى السوية، كما حصل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما بعده من تورُّط بعضهن في سلوك إجرامي، مخالف لخلق الرحمة، إلا أن هذه المظاهر لا تعدو أن تكون مواقف فردية ، وظواهر شاذة لمجتمعات مثالية.(1/71)
أما في العصر الحديث وبسبب التطورات الاجتماعية الكبيرة، والتقدم التقني، وكثرة احتكاك النساء بالرجال ، وتبدل كثير من القيم والأخلاق المتعارف عليها: كثُر إجرام النساء والفتيات، وأصبح في ازدياد مستمر، ولم تعد هناك جرائم خاصة بالرجال، وأخرى خاصة بالنساء – كما كان الحال من قبل – لتداخل وتشابك أدوار الجنسين الاجتماعية، مما نجم عنه تغيُّرات اجتماعية ونفسية وتربوية كبيرة، تستدعي إعادة النظر في الواقع التربوي للمرأة – والفتاة على الخصوص- وتأهيلهن من جديد للثبات على خلق الرحمة الذي فُطرن عليه، فإن مشكلتهن في الغالب تربوية أكثر منها فطرية، فإن "غالبية علماء الإجرام يرون أن الوجه الغالب لانحراف القاصرات بوجه خاص، ولإجرام المرأة بوجه عام يكمن في البيئة الاجتماعية، ولا يرجع إلا في حالات قليلة للتكوين البيولوجي عند الفتيات المنحرفات"، مما يعطي لمنهج التربية أهمية كبرى في إثارة خلق الرحمة في نفوس الفتيات، وسهولة تنميته فيهن من جديد، لكونه خُلُقاً فطريّ التكوين، "إلا أن شأن هذا الخلق كشأن كل الكمالات الفطرية القابلة للتهذيب والتقويم والتنمية والترقية، والقابلة – في الجانب الآخر – للتشويه والإفساد والتدني والضمور"، فلا يعدو هذا النوع من الانحرافات عند الفتيات سوى ضمور في خلق الرحمة، وكمون لمظاهره من الشفقة والحنان والعطف، يحتاج إلى صقل، وتنمية من جديد.
16ـ اتزان سلوك الفتاة العاطفي(1/72)
العاطفة في اللغة: الرَّحم، وتعاطفوا أي: عطف بعضهم على بعض، ويقال للمرأة العطوف يعني: الحانية على أولادها، وفي المصطلح: "استعداد نفسي – ذهني وانفعالي – مكتسب، يرتبط بموضوع معين، ويؤدي إلى دفع الإنسان للقيام بأنواع من السلوك المناسب المرتبط بذلك الموضوع"، وهي "صفة مزاجية مكتسبة، تتكون باجتماع عدد من الانفعالات المتشابهة حول موقف أو موضوع معين، وتستثار مرتبطة بهذا الموقف أو الموضوع دون غيره"، وهي قوة محركة للإنسان، وعامل رئيس في دفعه وإثارته، قد ملئت بالوجد والدفء والنشاط، ولا دخل لها في قضايا المنطق، وحسن الاستدلال، وإعمال العقل، فقد تنصاع للحق وتسلك طريقه، وقد تندفع نحو الباطل وتسارع فيه.
وأما السلوك العاطفي فهو: ما يصدر عن الإنسان – بدافع العاطفة – من مواقف سلوكية وانفعالية، حادة أو متزنة، يمكن للإنسان – إلى حدِّ ما – التحكم فيها.
وتختلف العاطفة عن الوجدان في كونها طاقة أخلاقية دافعة مكتسبة ، أما الوجدان فهو: غريزة أخلاقية مركبة في النفس الإنسانية، تتحكم في توجيهاته الخيرة والسيئة، من خلال بعث العواطف والمشاعر والانفعالات المختلفة، ضمن تفاعل الإنسان في البيئة من حوله.
وتتكون العواطف من خلال تكرار المشاعر الإنسانية – الإيجابية أو السلبية – واتصالها بالمواقف، أو الأشخاص، أو الموضوعات المختلفة، فالإنسان عادة لا يولد بعاطفة معينة تجاه المتغيرات الاجتماعية المختلفة، لذا يحتاج إلى الخبرة البيئية المتكررة، في صور متدرجة طويلة الأمد لبناء العاطفة في نفسه؛ لأن من خصائص العاطفة تكوُّنها البطيء في النفس الإنسانية، كما أن زوالها عن النفس بعد استقرارها يتم أيضاً ببطءٍ شديد.(1/73)
وتكمن أهمية السلوك العاطفي في كونه: أعظم القوى المحركة والمحفزة في كيان الإنسان، ومن أبرز خصائص مرحلة الشباب، فالأعمال العظيمة، على مستوى الفرد والجماعة، والتضحيات الكبرى، والفداء لا يمكن أن تحصل دون دعم العاطفة القوية المتوقدة، فإذا انعدم هذا الدعم العاطفي، أو ضعف: قلَّ إنتاج الفرد بقدر ذلك، ومال إلى الاتكالية، ونبذ المسؤولية.
والمتأمل في سلوك الشباب الأحداث يجد لهم "مزاجاً قابلاً للثورة والطغيان، مهيئاً للهياج والتخريب، فهم بسبب شدة الميول العاطفية التي تعصف بهم ينظرون إلى الأشياء والأشخاص من وراء منظار الأحاسيس، وقد تزل أقدامهم وينحرفون عن الطريق القويم بمجرد إثارة بسيطة ، أو صدمة نفسية"، مما يتطلب رعاية خاصة، وتربية صالحة لتهذيب هذه العواطف الجياشة، وتوجيهها لما يخدم الفرد والجماعة، ويثمر عملاً صالحاً، وإنتاجاً متفوقاً.
والفتيات أحوج نوعي الإنسان إلى تربية هذه العواطف وتهذيبها؛ لإعدادهن وتأهيلهن للدور الاجتماعي المناط بهن من: تحمل مشقات الحمل، والرضاعة، ومهمات التربية والرعاية، فالأطفال أحوج ما يكونون في طفولتهم إلى مدد الأم العاطفي، ومظاهر الانفعالية الراشدة، فيستهلكون أكبر قدر من طاقاتها العاطفية؛ لبناء طبيعة ذواتهم النفسية، فإذا لم يتحقق لهم ذلك: تعرضوا لإخفاق شديد في حياتهم المستقبلية، وصعُب عليهم الصمود أمام المواقف والمتغيرات الاجتماعية المختلفة. وقد أثبتت بعض الدراسات الغربية أن هناك هبوطاً وبروداً عاطفياً شديداً عند بعض الأمهات تجاه الأطفال الصغار، يتمثل في قسوة مفرطة، وحنق شديد يصل إلى درجة التخلي عنهم، أو إلحاق الأذى بهم. مما يدل على انحراف خطير في طبائعهن، وسلوكهن العاطفي، وضرورة إعادة النظر في منهج تربيتهن من جديد.(1/74)
وكما أن للبرود العاطفي عند الفتاة خطورته، فكذلك للإثارة العاطفية الشديدة خطورتها أيضاً على نفس الفتاة وصحتها الجسمية والعقلية؛ فإن شدة المثير العاطفي إذا كانت أقوى من طاقة تحمل الفتاة: فإنها قد تتصرف بطريقة غير سوية، فعاطفة الحزن – مثلاً – التي تشتد عادة في طبع النساء، إذا زادت عن حدِّها عند إحداهن: فقد تخلُّ بصحتها العقلية، وربما أدَّت إلى تعطيل حركتها بالكلية، كما حصل للسيدة عائشة رضي الله عنها لما علمت بخبر الإفك حيث "خرَّت مغشياً عليها"، وقد تحصل من هذه المثيرات العنيفة – أحياناً – تغيرات جسمية قوية وسريعة خاصة عند شديدات الحساسية من النساء.
وقد راعى منهج الإسلام التربوي طبيعة الإناث العاطفية، فسعى إلى الإبقاء على عواطفهن ضمن حدِّ الاتزان والاعتدال، بعيداً عن أسباب الإثارة الشديدة التي تضرُّ بطاقتهن العاطفية، وتضر بصحتهن العقلية والجسمية، ولما كان حضور النساء في الجنائر والمآتم يحرك عواطفهن، ويثيرهن إلى سلوكيات غريبة مستقبحة: نُهين عن اتباع الجنائز، وزيارة القبور، ورؤية المناظر المثيرة للعاطفة، كمشاهدة مصارع الأحباب في المعارك، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمع صياح الفتيات المسْبيات ومعهن صفية بنت حيي، لما مرَّ بهن بلال - رضي الله عنه - على القتلى، قال: "ذهبت منك الرحمة، تمرُّ بجارية حديثة السن على القتلى"، فنهاه عن ذلك، ولهذا كان وصف سلوك النساء في الجنازات والمآتم مما يستهوي الشعراء، ويثير قرائحهم، لما فيه من الغرابة السلوكية، والإثارة العاطفية غير المألوفة، مما يحبذه كثير من الشعراء.(1/75)
وفي الجانب الآخر أجاز لهن منهج الإسلام التربوي تفريغ الطاقة العاطفية عند حصول الإثارة الداعية إليها، كالبكاء على الميت، والحداد على غير الزوج ثلاثة أيام، ونحو ذلك مراعاة لتنفيس هذه الطاقة العاطفية وتفريغها، فإن التَّجلُّد المفرط في مثل هذه المواقف المثيرة قد لا يكون دائماً في صالح الفتاة كما حصل لأسماء بنت عميس رضي الله عنها "لما بلغها قتل ابنها محمد بن أبي بكر، جلست في مسجدها، وكظمت غيظها حتى شخبت ثدياها دماً".
وحتى في الجانب الممتع فإن ضبط عواطفهن مطلوب أيضاً، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر الحادي بأن يخفف من حُدائه، ولا يكثر عليهن تسكيناً لعواطفهن من الإثارة المفرطة.
كل هذه التوجيهات التربوية تُحشد في منهج التربية: لتعديل هذا الخلق العاطفي عند الفتيات وضبطه، وتوجيهه ضمن سلوك متزن، ليكون دليلاً على نضج الشخصية، وكمال بنائها. إلا أن على منهج التربية أن يراعي الطبيعة التي خلق عليها النساء، فإن تخليهن عن هذه العواطف، وآثارها بالكلية – مهما بلغن من مراتب العلم والفضل – أمر في غاية البعد، حتى وإن تكلفن ذلك، وسعين إليه، فلا يقدرن على التحرر منه بصورة مطلقة، فلا بد أن تبقى آثاره تعمل عملها في سلوكه
17ـ ضبط سلوك الفتاة الانفعالي
الانفعال هو التأثر، ويختلف عن العاطفة في كونه خبرة نفسية مفاجئة وطارئة تزول بزوال سببها، في حين تكون صفتا الدوام والثبات لازمتين للعاطفة، كما أن أثر الانفعال يصعب إخفاؤه عن الغير، في حين يمكن إخفاء العواطف؛ وذلك لأن الانفعال يُنشئُهُ الجهاز العصبي الذي يعمل بصورة مستقلة عن إرادة الإنسان وتدبيره، إلا أنه مع ذلك يمكنه –بالمران – ضبطه وتوجيهه.(1/76)
والانفعالات من الخبرات الضرورية للسلوك الإنساني، فهي المنبع الخصب والدافع الثري للقيام بالأعمال، والنشاطات الإنسانية المختلفة؛ فالفكر – مثلاً – "لا يحدث إلا إذا استلزمته حالة انفعالية خاصة، يمر بها الإنسان أثناء مواجهته مشكلة ما يتحتم عليه حلها"، والنساء في العموم أحوج إلى الانفعالات للقيام بدور الرعاية الأسرية التي يتعين لها طاقة انفعالية كبيرة، ولهذا تأتي مشكلة النضج الانفعالي عند الإناث "في قمة قائمة المشكلات النفسية، حيث تتصف الفتيات بشدة القابلية للانفعال، مثل: سرعة البكاء، والثورة دون سبب ظاهر، والعناد، وحدة الطبع والمزاج… وكلها أعراض يسببها تعثر عملية النضج الانفعالي عندهن".
وتعتبر القوى الانفعالية أساس نفسية الأنثى، وبيئتها العادية التي تحيا فيها، فأقل المؤثرات أو المنبهات تثيرها، يقول أحد علماء النفس: "إن النساء يستجبن انفعالياً لمؤثرات أضعف بكثير من التي يستجيب لها الرجال"، ويقول آخر: "رأيت الحب والغيرة والبغض والأوهام والغضب تصل عند النساء إلى درجة لا يشعر بها الرجال مطلقاً"، ويقول أبو عثمان الجاحظ: "ليس بعد الصبيان اغْزَرُ دمعة من النساء"، فهنَّ – في العموم – أكثر حدَّة في التعبير عن مشاعرهن، وعواطفهن المختلفة؛ ولعل ذلك لأن حياتهن الانفعالية أرهف وأثرى، وأحفل بألوان الشعور، من الذكور؛ فإن "الفروق بين الجنسين في الحالات الانفعالية أمر لا يمكن إنكاره، سواء أكانت هذه تحددها عوامل بيئية أم بيولوجية"، ومن الصعوبة بمكان تصور إمكانية انفلات العنصر النسائي من الطبيعة الانفعالية في الحياة الاجتماعية – كبيرات كنَّ أو صغيرات – خاصة من كانت منهن "ذات نمط جهازٍ عصبي مركزي ضعيف، حيث تقع فريسة للعوامل الإيحائية الخارجية في كثير من المواقف، ولأبسط التعليقات".(1/77)
وتكاد تجمع الدراسات على ازدهار الطبيعة الانفعالية، وتنوع ألوانها عند الإناث بما يفوق ذلك عند الذكور، لاسيما في الفترات الفسيولوجية التي يتعرضن لها خلال الدورة الشهرية، وفترة الحمل، وسن اليأس.
وقد سجَّلت السيرة النبوية العطرة مجموعة واسعة من المواقف النسائية الانفعالية، التي تدل على طبيعة الشعور الانفعالي عندهن في مختلف طبقات أعمارهن، فهذه – الفتاة الصغيرة – عائشة رضي الله عنها يمتلكها الشعور الغضبي من خير خلق الله تعالى، فتعبر عن انفعالها بهجران اسمه عليه الصلاة والسلام، وزينب بنت جحش رضي الله عنها -وهي امرأة في منتصف عمرها- تعتريها عاطفة الغيرة، لما طلب منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً لضرتها صفية بنت حيي رضي الله عنها ، فانفعلت قائلة: "أتعمد إلى بعيري فتعطيه اليهودية…" وكذلك أم أيمن رضي الله عنها ، وهي المرأة الكبيرة السِّن تتذمَّر وتصخب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما لم يقبل ضيافتها، ويشرب من شرابها.(1/78)
هذه المواقف وغيرها كثير: تدل على أن الأنثى في الغالب مهما بلغت من التربية والتهذيب –حتى في عصر النبوة- فإنها لا تنفك عن طبعها الانفعالي، ولا تخرج عن كيانها المفعم بالمشاعر المتحركة التي تعطيها تميُّزها وخصوصيتها، فهو سلوك طبيعي في العموم، إلا أن في شدته وزيادته عن الحد الطبيعي للأنثى: خطورة صحية، فإن التعبيرات الجسمية تتأثر بمشاعر الإنسان وانفعالاته، وتؤثر على نشاطه الفسيولوجي؛ فالانفعال الغضبي – الذي عبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أثره في الجسم بالجمرة المشتعلة، والذي يظهر عند النساء – في كثير من الأحيان – مصحوباً بانفجارات انفعالية وعدوانية، فإنه يؤثر على القدرات العقلية فيعطِّلها، ويفرز معه هرمونات خاصة: ترتفع بها كمية السكر في الدم، وتتَّسع معها الأوعية الدموية في الجسم، فيحصل من جراء هذا الانفعال الغضبي الحاد تأثيرات جسمية سيئة، قد تصل إلى الانهيار العصبي، وفقدان الوعي، وفي الجانب الآخر فإن "الانفعالات الإيجابية مثل السرور والتفاؤل والطمأنينة إذا استمرت فترة طويلة من الزمن فإنها تؤدي إلى السمنة، وتقلل من إفراز الفوسفات وكلوريد الصوديوم في الجسم"، فتتأثر الصحة الجسمية تبعاً لذلك، يقول ابن الجوزي ~ٍٍِِ عن خطورة نوعي الانفعالات الحادة: الإيجابية منها والسلبية: "الغم يجمد الدم، والسرور يلهب الدم حتى تعلو حرارته الغريزية، وكلاهما يضران، وربما قتلا إن لم نُعجِّل تفتيرهما"، فكلا طرفي حالتي الانفعال المتطرفة لا تخدم صحة الفتاة بل تضرُّ بها.
ومن هنا: تظهر أهمية تربية الفتيات على الاتزان الانفعالي بحيث يستفدن من إيجابياته، وآثاره الدافعة للقيام بالدور المناط بهن، ويتجنبن الآثار السلبية المضرة الناجمة عن الاسترسال في السلوك الانفعالي، الذي قد يصل بهن إلى درجة الإغلاق المذمومة، المضرة بالصحة العامة.
18ـ خطر وسائل الإعلام المرئية على سلوك الفتاة الخُلقي(1/79)
إنَّ حجم الانحراف الخُلقي الذي تحمله مضامين الرسالة الإعلامية لا يمكن أن يَعْبُرَ على شخصية الفتاة دون تأثير سلبي، ولعل في عشق المُستحسن من صور الرجال ما يعبِّر عن جانب من هذا التأثير السَّلبي لهذه الوسائل، فإنَّ إيغال الفتيات فيه أبلغ وأعظم من إيغال الذكور، ودخول إحداهن في حلم يقظة مع صورة رجل مستحسن: أمر ممكن عندهن خاصة، لأن الذكور بالطبيعة مبادؤون، ويصعب عليهم الاندماج في تمثيلية من أحلام اليقظة لا يكون لهم فيها دور إيجابي، في حين يمكن أن يصدر شيء من هذا الخيال الجامح عند بعض الفتيات للطبيعة السلبية التي جُبلْن عليها، فقد صرَّحت إحداهن بمعاناتها العاطفية، وكيف أثَّرت صورة أحدهم في نفسها فقالت: "وأنا في العاشرة أحببت موسيقاراً كبيراً، لا أستطيع نسيانه، وأفكر فيه ليلاً ونهاراً، ولا أستطيع الاستذكار، وأحاول نسيانه بكل الطرق"، وقد أظهر كثير من الفتيات من السلوك الهستيري عند وفاة أحد الفنانين بأمريكا ما يفوق الوصف. ومن المعلوم أن العشق يتولد من تكرار النظر وسماع الخطاب حتى يثبت في القلب فيجذبه كالمغناطيس، ولا شك أنَّ العشق يجمع غالب الأمراض، وعاقبته هلاك الأبدان، وتعطيل العقول، فمن هذا الجانب يكون أثر هذه البرامج المنحرفة فيهن أبلغ.(1/80)
ومن هنا قام الإجماع على تحريم نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي عند خشية الفتنة، وذلك حتى تنقطع مادة الفساد، خاصة إذا كان النظر بشهوة، فإن زنى العين النظر. فقد تُبتلى الفتاة بعشق من لا تقدر على وصاله بالطريق المشروع، أو ربما لا تقدر على وصاله أصلاً، فتركه أَوْلَى وأسْلَم، وفي هذا يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في خطر النظرة: "ما كان من نظرة فللشيطان فيها مطمع، والإثم حواز القلوب"، يعني أن الإثم: "يجمع القلوب ويغلب عليها" وقد نفى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الشَّاب نصر بن حجاج لما فُتن بعض الفتيات به، مراعاة منه لسلامة المجتمع من أسباب الفتنة. وقد كان بعض الرجال في الماضي ممن أُعطوا ملاحة يغطون وجوههم حين يختلطون بالنساء خشية فتنتهن.
يقول الشاعر:
كل من في الوجود يطلب صيداً غير أنَّ الشباك مختلفات(1/81)
وأما نظر السيدة عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد: فليس فيه دليل على جواز نظر الفتاة اليوم – بصورة مُطلقة – لصور الرِّجال في شاشات التلفزيون؛ فقد قيل: إنها كانت صغيرة لم تَبلُغ، وكان ذلك قبل نزول الحجاب. ولو صح أنها كانت بالغة وبعد نزول الحجاب: فأين نظرها إلى الأحباش مرة تحت إشراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من نظر الفتيات اليوم – بصورة مستمرة – إلى من قد تهيأ لهن في ملبسه، وشكله، ومنطقه، في صور قد يستحسنها الرجال فضلاً عن الفتيات؟ إلى جانب اشتمال غالب البرامج المعروضة على كثير مما يخالف عقائد المسلمين، وتصوراتهم، ويفرض عليهم فكراً دخيلاً لا علاقة له بشيء من الحضارة الإسلامية؛ بل هو في الحقيقة معول هدَّام مناقض لها في أصولها وأسلوبها، حتى إن كثيراً من الباحثين في هذا المجال يُجْمِعون على خطورة هذه البرامج، لِما تُحدثه من تدمير للهوية العربية، والأخلاق الإسلامية، يقول الأستاذ علي جريشة: "إن فصائل الإعلام المختلفة من صحافة، وإذاعة، وتلفزيون، وسينما: مسخرة اليوم لإشاعة الفاحشة، والإغراء بالجريمة، والسعي بالفساد في الأرض؛ بما يترتب على ذلك من خلخلة للعقيدة، وتحطيم للأخلاق والقيم والمثل". ومن هنا فليست قضية الفتاة مع التلفزيون قضية صورة فحسب؛ إنماهي قضية التحدي الحضاري والعقدي الشامل الذي يستهدف عند الفتاة هويتها الثقافية، وحضارتها الإسلامية.
19ـ واجب الفتاة المسلمة تجاه انحرافات وسائل الإعلام الخُلقية
إن الفتاة المعتزة بأنوثتها: تستهجن، وتستنكر الإهانة الكبرى التي تمارسها وسائل الإعلام ضد المرأة، وتأبى الاستمتاع بالشاشة حين تمارس اختصار الأنثى في صورة "جسد" ؛ لتكون أداة إغراء فحسب، بهدف الترويج للبضائع الاستهلاكية، وجذب المشاهدين للبرامج المختلفة من خلال عرض مفاتنها كراقصة، أو ممثلة، أو بائعة هوى، أو مغنية.(1/82)
وكل هذا مُخالف لأبسط المبادئ الإسلامية وكثير من نصوص القوانين الدولية، وما اتفق عليه العقلاء. ومن المعلوم أن الدعاية الإعلامية: "عملية سيكواجتماعية مؤثرة، تأخذ مكانها بين الأفراد، ولها القدرة على تبديل معتقداتهم وآرائهم وممارساتهم اليومية، وتدفعهم إلى الإنفعال واللاموضوعية إزاء الأمور التي تحاول بثها ونشرها بينهم، كما تمنعهم من التفكير والسلوك العقلاني السَّوي المستقل المُحايد، وتُعدّ الدعاية سلاحاً ماضياً من أسلحة الحرب النفسية"؛ ولهذا سجَّل وزراء خارجية الدول الإسلامية قلقهم تجاه ما تبثه وسائل الإعلام مُخالفاً لمبادئ الأخلاق والمثل، كما استنكر المؤتمرون في مجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1408هـ ممارسات الإعلام في استغلال المرأة خاصة، وأوصوا بضرورة: "تطهير الإعلام المقروء، والمرئي، والمسموع، والإعلانات التجارية في عالمنا الإسلامي من كل ما يشكل معصية الله تعالى، وتنقيته تماماً من كل ما يُثير الشهوة، أو يُسبب الانحراف ويوقع في المفاسد الأخلاقية"، وتبعهم على ذلك المؤتمرون بجمعية الإصلاح الإسلامية بطرابلس عام 1413هـ، كما حثَّ المجتمعون في المؤتمر الدولي السابع لمركز الإرشاد النفسي بجامعة عين شمس بالقاهرة عام 2001م "المسؤولين عن وسائل الإعلام عامة والتلفزيون خاصة بالحدِّ من القصص والأفلام التي تنطوي على مواقف العنف والجريمة؛ لما لذلك من تأثير سيء على الأطفال والشباب".(1/83)
ومن هذا المُنطلق الواقعي فإنَّ المختار للفتاة المسلمة المعاصرة اليوم أمام مفاسد الإعلام المرئي- خاصة – هو الكف عنه بالكلية، والتَّوجُّه للبدائل المشروعة في الفيديو، وأجهزة الحاسوب، وما يمكن أن يحقق ثقافة إسلامية صحيحة، وترفيهاً بريئاً، بعيداً عن المفاسد ومظانِّ الفتنة، فإن محاولة الاستفادة من هذه الوسائل اليوم بالانتقاء: أمر في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً؛ فإنَّ عنف الهجمة الأخلاقية التي تحملها بعض المناظر الإعلامية – التي لا تكاد تنفك عنها الرسالة الإعلامية بصورة مستمرة – لا تحتاج إلى وقت طويل لإحداث الخلخلة الأخلاقية في نفس المتلقي؛ فإنَّ لحظة واحدة تعيشها الفتاة مع بعض هذه المناظر الساقطة تكفي لنزع الأصل الخُلقي من جذوره.(1/84)
كما أنَّ ما يُظنُّ أنه مفيد من البرامج الثقافية والدينية – إن لم تكن في حد ذاتها طعماً لجذب المشاهدين – فإنها مع قلَّتها وندرتها تأتي في آخر قائمة اهتمام الإعلاميين، إلى جانب التشويه الكبير الذي تُعرض به كثير من هذه البرامج والمسلسلات الدينية، مما يجعل أثرها الإيجابي لا يرقى إلى المغامرة بضياع الأصول الأخلاقية الكبرى، لاسيما وقد ثبت ميدانياً أن القيم السلبية التي تعرض على الشاشة أكثر بكثير من القيم الإيجابية. ومن المعلوم أصولياً أنه متى اجتمع الحرام والحلال في عمل ما: غلب جانب الحرام، والقاعدة الفقهية المحكمة تنص على أنَّ: "درء المفاسد أولى من جلب المنافع". فليس بغريب أن ترفض الفتاة المسلمة هذه المفاسد الأخلاقية – ولو بالكفِّ عنها- وقد رفضها كثير من غير المسلمين، ولا تزال في المجتمع المسلم المتحضر أُسر كثيرة لا تملك جهاز التلفزيون رغبة عنه. ولا شك أنَّ الانفتاح على العالم الخارجي شيء طيب ما دامت الأمة المسلمة تستطيع أن تحافظ على هويتها، وتقدم شيئاً مكافئاً على الأقل، أمّا والحالة هذه فإنَّ الإبقاء على الشخصية الإسلامية من الذوبان – ولو بالأسلوب السلبي- أوْلَى ، لو فات مع ذلك شيء مما يُظن أنَّ فيه مصلحة.
"وأما القول بأن ما يُعرض على التلفزيون مجرد صورة لا تأثير لها، فهو قول ساقط لا يلتفت إليه، ولو صحَّ لما كان هناك فرق بين المذياع والتلفزيون، ولم يكن له ميزة يتفوق بها"، ورغم أنَّ بعضهم يجيز النظر إلى هذه الصُّور الخليعة في التلفزيون بناء على شُبهة أنّها شحنات كهربائية وليست صوراً حقيقية، فإنه – مع ذلك – يقيدها بعدم الإثارة الجنسية الدافعة للوقوع في المحظور، وإلا أصبحت محرمة.(1/85)
إن إثارة القضية الإعلامية، وأزمتها الأخلاقية من القضايا الحيوية المهمة؛ وذلك لعمق التأثير الذي تخلفه هذه الوسائل على المتلقين، كما أنَّ إثارة هذه القضية من جهة علاقتها بالفتاة المسلمة يعطيها أهمية أخرى، لكون الفتاة في التصور الإسلامي تمثل رُكناً رئيساً في التربية الإنسانية، وتعد المحضن الأول للجيل الناشئ. وقد استقر إجماع العقلاء على أهمية دور الأم في التربية، وعِظَم المسؤولية التربوية المُناطة بها، ومن ثم فقد كان ضرورياً ولازماً إعدادها إعداداً متكاملاً من جميع جوانب شخصيتها للقيام بمهام العملية التربوية، وقد أصبح من الواضح تلمس التأثير السَّلبي لوسائل الإعلام – لاسيما المرئية منها- على سلوك الشباب عامة، وسلوك الفتيات على وجه الخصوص، مما يتطلب – بالضرورة – إعادة النظر من جديد في تقويم هذه الوسائل الإعلامية في ضوء مفاهيم التربية الإسلامية، والسعي لتخفيف وطأتها السلبية على شخصية الفتاة، وسلوكها الأخلاقي.
التربية الاجتماعية للفتاة
1ـ رحمة الإسلام بالنساء
إن الله تعالى بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - على حين فترة من الرسل عمَّ فيها الجهل، وكثر فيها الظلم، حتى ضاعت معالم الحق، وظهرت رايات الباطل، فكانت بعثته فتحاً للبلاد والأمصار، ونوراً للقلوب والأبصار، ظهر بها الحق، واندحر بها الباطل، فاهتدى الحائرون، وخنس المبطلون، عمَّ بها الخير، وازدهرت بها الدنيا، وقام بها العدل، حتى أخذ الضعيف حقه بعد الغصب، ونالت المرأة نصيبها بعد الاضطهاد، واستمتعت البنت بالحياة بعد الوأد.(1/86)
ولما كانت سُنة الله تعالى في خلقه جارية، وإرادته نافذة: دبَّ في الأمة المسلمة داء الأمم من قبلها حين طال عليها الأمد، فإذا بالغفلة تستحكم فيها بعد اليقظة، وإذا بالعجز ينتابها بعد العزيمة، وإذا بحب الدنيا يمتلك القلوب، ويحكم السلوك، فأخذت الأمة تتردَّى في دركات من الانحطاط العام، ويختل توازنها في الأزمات، وتنهزم أمام الأعداء، في مواقف متتابعة، وصور متلاحقة من الإخفاقات والهزائم الحضارية على جميع الأصعدة الواقعية: الفكرية، والنفسية، والمادية. فذاقت الأمة بمجموعها - شعوباً وأفراداً - ويلات التمزق، وقسوة الأعداء، وجور السلطان، وعادت على بدء تحاكي أيام الجاهلية الأولى، ومسالكها الجائرة، ومواقفها الظالمة، فكثر الخبث في بلاد المسلمين، وعمَّ الفساد فيها، وكثرت المظالم على جميع المستويات.
ولما كانت طبيعة المجتمعات الإنسانية حين تتردَّى فيها المعاني الإيمانية، وتختل فيها القيم الأخلاقية: تنحط أول ما تنحط بثقلها على فئات المجتمع الضعيفة، التي تضعف مقاومتها للظلم، وتعجز أمام قوى الطغيان، ولهذا يعاني غالب المساكين والفقراء والنساء والأطفال أكثر من غيرهم في مجتمعات الظلم والاستبداد، فلا يجدون من فئات المجتمع المتسلطة، وأفراده المتنفذين من يدفع عنهم الظلم، أو يرد إليهم الحق.
والناظر في غالب المجتمعات المعاصرة يجد هذه الفئات المستضعفة تعاني ضغط المجتمع، واستبداد الأنظمة في صور من السحق والاستغلال والإجحاف بحقوق الضعفاء. ففي المجتمعات الفقيرة يعاني المستضعفون ضيق العيش، وكثرة الأمراض، والجهل. وفي المجتمعات المتقدمة يعاني المستضعفون استغلال الشركات الكبرى، والإضلال العقائدي، والمسخ الإنساني.(1/87)
وهذه الانحرافات الاجتماعية تقع بثقلها أشد ما تكون على المرأة؛ حين تعيش في المجتمعات المتخلفة جاهلة فقيرة ذليلة، لا تملك ما تدفع به عن نفسها وولدها كرب الحاجة، وذلَّ المسألة. أو تعيش في مجتمعات متقدمة متطورة تستغل شبابها، وباكورة عمرها: راقصة في ملهى، أو خلفية لدعاية، أو بائعة للزبائن، أو لعبة في يد فاجر غرور. فلا تملك هذه الأخرى- كأختها في المجتمعات الفقيرة - ما تدفع به عن نفسها هذا الحيف الاجتماعي، والاستغلال الجسدي الذي حصرها في سجن جسدها ما دام يصلح للاستمتاع، أو يكدُّ في العمل. فإذا خارت قواها البدنية، وانطفأت مفاتن جمالها الجسدية: فدور الرعاية الاجتماعية مصيرها حتى الموت.
إن هذه الصور الواقعية المقيتة لغالب أحوال النساء في مجتمعات اليوم لا يرضاها الإسلام لأشد الناس كفراً وضلالاً، فضلاً عن أن يرضاها للفتاة المسلمة. إن الإنسان في التصور الإسلامي كائن مكرم، حتى وإن لم يكن مسلماً، وإنما يتردَّى أسفل سافلين حين يدسُّ نفسه، ويقبع بها في حمئة الكفر والضلال، وينساق - برغبة أو رهبة - مع الظلمة والطغاة نحو عطبه وهلاكه.(1/88)
ولئن كان ظلم المرأة - في صوره المختلفة - في بلاد الكفر أمراً لا يستغرب في ظل الأنظمة الوضعية الضالة، والشركات التجارية المتنافسة، والأحزاب السياسية المتصارعة: فإن ظلمها في بلاد المسلمين - في أي صورة من الصور - لا يستساغُ أبدًا في أي ظرف من الظروف، وتحت أيِّ مسوِّغ من المسوغات. فأيُّ قانون هذا - في بلاد يزعم أهلها أنهم مسلمون - يبيح استغلال الفتيات في أي صورة من صور الاستغلال سواء كان هذا الاستغلال لجهودهن البدنية، أو لمفاتنهن الجسمية، فضلاً عن أن يكون هذا الاستغلال قائماً بدعم سياسي، ومن ثم توجه اجتماعي، ثم يتبعه بعد ذلك خطة تعليمية تربوية تسوغ للأمة- بالأساليب التربوية المتدرجة - التوسع غير المنضبط في اختيار مصادر اشتقاق أهداف تربية الفتيات المسلمات بعيداً عن توجيهات نظام الإسلام التربوي.
إن أيَّ هدف من الأهداف المنشودة في تربية الفتاة المسلمة، مهما كان صغيراً أو محدوداً، وفي أيّ منشط من مناشط العملية التربوية الموجهة إليها، وفي أيّ مرحلة من مراحلها التعليمية: لا يصب في نهاية الأمر في تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى: هو هدف باطل مرفوض في التصور الإسلامي، حتى وإن دعمته الخطة التربوية، أو المصلحة الوطنية، أو الواقع العالمي.
إن الشريعة الإسلامية الخاتمة جاءت لتحقيق المصالح وتكميلها ودفع المفاسد وتقليلها، فكل ما جاءت به الشريعة فهو عين المصلحة في الدنيا والآخرة، سواء كان ذلك في المأمورات أو المنهيات، أو المستحبات أو المكروهات، أو ما سكتت عنه، كل ذلك ما دام أنه منسوب نسبة صحيحة للشريعة فهو عين المصلحة. فكيف يتوهم مسلم لنفسه - فضلاً عن مجموع الأمة - مصلحة فيما يخالف جزئية محكمة من جزئيات الشريعة، فضلاً عن أن يتوهم المفسدة في جملة ما جاءت به الشريعة، فإن هذا المعتقد لا يمكن أن تنطوي عليه نفس مسلمة، تدرك حقيقة هذا الدين، وتعرف حدوده ومعالمه.(1/89)
ومن هنا كان لابد من نهضة تربوية إسلامية صادقة تستلهم الماضي المجيد، وتستوعب الحاضر بما فيه، وتستشرف المستقبل، تجمع في مسيرها بين الأصالة والمعاصرة، فلا يستهويها كل جديد، ولا يقيدها كل قديم، وإنما رائدها الحق في كل ذلك، والمصلحة الشرعية المعتبرة، التي لها نصيب وافر من النظر الصحيح.
2ـ حاجة الفتاة النفسية للوسط الاجتماعي
رغم عمق الفردية في كيان الإنسان، وحبِّ الذات، إلا أنه - مع ذلك - في حاجة ملحَّة إلى الجماعة، فمع كونه يحمل النزعة الفردية للحفاظ على شخصيته، فكذلك وبنفس العمق يحمل الحاجة للجماعة وتفاعلاتها، فهو "مطبوع على الافتقار إلى جنسه، واستعانته صفة لازمة لطبعه، وخلْقةٌ قائمة في جوهره"، فلا يُتصور قيام الإنسان بذاته دون الآخرين، فإن الاعتزال في غاية المشقة، وأقل ما يحققه الاجتماع: شعور الفرد بالانتماء الذي يزيد من تأكيده لذاته، واستقرار نفسه.
وهذا الإحساس لا يتحقق للفتاة بالقدر الكافي في الوسط الأسري وحده، إلا أن يكْمُل من خلال الوسط الاجتماعي وجماعة الصديقات؛ فالفتاة لا تعتمد على الأسرة وحدها لإشباع حاجتها النفسية للتقبل الاجتماعي، بل تحتاج إلى القرينات في الوسط الاجتماعي العام لإشباع هذه الناحية عندها، فحاجتها إلى الوسط الاجتماعي للراحة النفسية قد تفوق حاجة الذكور، ففي الوقت الذي يتأكد الدافع الشخصي عند الذكور، يتأكد مقابل ذلك الدافع الاجتماعي عند الإناث؛ فقد كشفت إحدى الدراسات العربية عن فروق جوهرية في السلوك الاستهلاكي بين الجنسين في هذين الدافعين: الشخصي والاجتماعي، ففي الوقت الذي يهتم فيه الذكور بالدوافع الشخصية للاستهلاك، يهتم الإناث، ويراعين الدوافع الاجتماعية بالدرجة الأولى، وما هذا السلوك إلا تأكيد لحاجتهن الملحة للوسط الاجتماعي، ومن هنا فإن الجماعة تحقق للفتاة من خلال التفاعل مع الأفراد: إشباع حاجتها النفسية للحياة الجماعية.(1/90)
3ـ تطلع الفتاة إلى تقدير المجتمع واحترام شخصيتها
"إن احترام النفس هو حجر الزاوية في التربية الصحيحة"، فإذا انضم إليه شيء من تقدير الشخصية كانا معاً من أفضل وسائل التربية، وفي الجانب الآخر: فإن الإهانة والتحقير والإذلال من أهم أسباب تمرد الجيل الجديد، وبعث روح القسوة والانتقام في نفوسهم، والإسلام في نظامه الأخلاقي يحترم الفرد حتى وإن كان جنيناً في بطن أمه، ويمنع كل ما من شأنه الحطُّ من شخصية المسلم، أو إهانتها، إلا أن طبيعة الحياة الاجتماعية المعاصرة بمتغيراتها الكثيرة، وتطورها: جرَّدت الإنسان من كرامته، وسلبت مبادرته الشخصية وفعاليَّاته الخاصة، حتى بات الإنسان عاجزاً عن إبراز ذاته، وتأكيد وجوده، وغدت فئات من الشباب عاجزة عن مسايرة الحياة المعاصرة مسلوبة الذات والإرادة، مما ساق بعضهم نحو الخروج عن أعراف المجتمع ونظمه في سلوك عنيف، أو تميُّزٍ شاذ، يبرزون من خلاله ذواتهم المحترقة، ونفوسهم المحطَّمة، في وقت ضعفت فيه علاقة الفرد بالجماعة، وقلَّ فيه تأثير الأسرة والقرابة، وزاد التميُّز بين الأفراد في التخصص والاهتمامات، فلم تعد الجماعة قادرة على تحقيق حاجات الأفراد بصورة مشبعة، ومن المعلوم، أن "الإشباع النفسي للفرد: نقطة البداية في التماسك الاجتماعي".(1/91)
والفتاة باعتبارها عضواً في المجتمع تحتاج لمكانة اجتماعية مرموقة، تعامل فيها معاملة الكبار، كما أنها في حاجة نفسية إلى الاستقلال الشخصي والاقتصادي، والتخلص من عالم الطفولة بتكوين الأسرة، والبيت السعيد، في ظل نظام الزوجية، فهي تنظر بنظر الشباب المتطلع إلى حاجاته المقبلة، لا ذكرى الكبار لحاجاتهم الماضية؛ لهذا تسعى لتأكيد شخصيتها واستقلالها، وللتجديد في حياتها، ولا يسلم للمجتمع سلوك الفتيات إلا بالاعتدال في التعامل معهن: للسلامة من انحرافاتهن، وما يمكن أن يصدر عنهن من سوء الخلق، فيُمزج أسلوب التعامل معهن بلطف وسياسة، مع إتاحة الفرص الاجتماعية الكافية والمشبعة: لتنمية الطاقات، وبروز القدرات ضمن مفهوم الحرية المشروعة في التصور الإسلامي.
4ـ مشاركة الفتاة في الحياة الاجتماعية(1/92)
ولئن كانت الفتاة المسلمة مأمورة بشيء من الانعزال عن حياة الذكور الاجتماعية؛ لمقتضيات خلْقية وشرعية، تتطلبها الطبيعة البشرية، فإنها مع الوسط النسائي مأمورة بأن يكون لها نصيب من المشاركة الفعَّالة فيه، "فالرجل والمرأة اللذان وصلا إلى مرحلة النضج: يجب أن يكونا اجتماعيين، بمعنى أن يكون كل منهما قادراً على إنشاء علاقات اجتماعية كافية مع الغير"، بحيث تتمكن الفتاة من خلال التنشئة الاجتماعية على التوفيق بين رغباتها ودوافعها الخاصة، وبين حاجات الآخرين واهتماماتهم؛ فإن الفعل مهما كان جميلاً وحسناً لا يمكن أن يسمى أخلاقياً إذا انحصر في نفع صاحبه، ومصلحته الخاصة، فلا تحبس الفتاة اهتماماتها في حدود ذاتها الشخصية، فالأنانية دهليز الموت، ونقيض الحياة الإنسانية السوية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - اختار للمؤمن الصالح المخالطة في الحياة الاجتماعية، مع الصبر على الأذى إن حصل؛ ولهذا فقد ثبت ميدانياً أن الأفراد من الذكور والإناث من ذوي الاتجاه الديني المرتفع: أكثر ميلاً لمشاركة الناس، والاندماج في الوسط الاجتماعي، كما أن "المرأة التي تسعى وتتحرك، وتعمل في النشاط الاجتماعي: أكثر إثراء، وإسعاداً لبقية أفراد أسرتها".
ومجالات المشاركة الاجتماعية الفاعلة للفتيات واسعة ومتعددة، خاصة وأنهن أميل إليها طبعاً وخُلُقاً، خاصة المشاركات التي تحمل طابع الإثارة العاطفية والانفعال، فإن سرعة التأثر بالمواقف الاجتماعية المختلفة من ملامح حسن الخلق، التي تغلب على طباع النساء، فمشاركة الفتيات الاجتماعية في الأفراح والأتراح: من المشاركات المشروعة التي أقرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء عليها، فقد شاهد جمعاً من النساء والصبيان، وقد أتوا من عرس، فقام إليهم مسرعاً فرحاً، وقال: "اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ".(1/93)
وأما في جانب الأحزان فقد أجاز عليه الصلاة والسلام للنساء المشاركة فيها أيضاً فقال: "لا خير في جماعة النساء إلا في مسجد، أو في جنازة قتيل"، وحثَّ في العموم على الزيارة مطلقاً، وصلة الأرحام، والتَّواد والتراحم بين المؤمنين، ووصفهم في سلوكهم الخلقي بالجسد الواحد، والبناء المتماسك.
ومن أعظم ما يجب على الفتاة المسلمة في مشاركتها الاجتماعية الإيجابية: توقير العلماء، وكل من انتسب إلى العلم من الرجال والنساء، والأخذ عنهم وتقليدهم، خاصة وأن الفتاة في هذه السن في حاجة إلى إرشاد وتوجيه من أهل الفضل والعلم، فتعرض الفتاة المسائل عليهم، فإن كانوا رجالاً: شافهتهم - في حدود الأدب الشرعي - أو كاتبتهم، فقد كان نساء السلف يستفتين الرجال، ويأخذن عنهم في غير ريبة أو فتنة، فهذه أم مسكين بنت عمر بن عاصم رحمها الله تبعث إلى أبي هريرة - رضي الله عنه - تستفتيه، فجاءها عند بابها وأفتاها، وكذلك معاذة العدوية رحمها الله تكتب إلى سعيد بن المسيب ~ٍٍِِ تستفتيه في مسألة، فردَّ عليها كتابة وأفتاها.
وأما إن كنَّ من النساء العالمات الفضليات فإن الفتاة تلتزمهن - حسب قدرتها - وتأخذ عنهن، وتقوم على خدمتهن، كما يفعل التلاميذ النجباء بمشايخهم.(1/94)
وأما الإحسان بفعل المعروف فهو أوسع أبواب المشاركة الاجتماعية، حيث تجد فيه الفتاة المسلمة ميداناً رحباً للإيجابية السلوكية: فإكرام الضيف، والإحسان إليه، والإهداء إلى الجيران، مهما كان يسيراً، والإنفاق على المساكين مما تيسر، وقبول هديتهم تواضعاً، ومكافأتهم عليها، مع الشعور العام بالرحمة للمؤمنين، والسعي في التودد إليهم، واصطناع المعروف لهم، وإدخال السرور إلى نفوسهم، من خلال الهدية، أو الإصلاح الاجتماعي عند فساد ذات البين، كل هذه المواقف والممارسات الاجتماعية الإيجابية ونحوها: تكون مجالات اجتماعية خصبة للفتاة المسلمة يمكنها أن تشارك من خلالها الناس وتعاملهم، فتكسب الأجر والثواب من خلال هذه الممارسات والخدمات الخالصة، إلى جانب تكوين صداقات حميمة، بعيداً عن جو الأنانية، والمصلحة الذاتية.
5ـ حاجة الفتاة إلى الصداقة الاجتماعية
من مظاهر المشاركة الفعالة في الحياة الاجتماعية للفتاة المسلمة: تكوين علاقات، وصلات صداقة مع القرينات من الفتيات الصالحات، بحيث يكون لدى الفتاة القدرة الكافية على إقامة علاقات اجتماعية إيجابية ناجحة مع الفتيات في الوسط الاجتماعي، فإن الإخفاق في تكوين مثل هذه العلاقات الاجتماعية: يُعدُّ من مظاهر النُّفرة، وفي الحديث: "المؤمن مؤلفٌ، ولا خير فيمن لا يألَفُ ولا يُؤْلَفُ"، فدلَّ على "أن المؤمن لكرم أخلاقه، وسهولة طباعه، ولينه يألف الناس، وتألفه الناس، لأن الإيمان هذبه، وأما ضعيف الإيمان فلا تألفه الناس لسوء خلقه، وشذوذ طباعه، ولا يألفهم لعدم إقبالهم عليه".
والصداقة الاجتماعية الصالحة من الحاجات الأشد ضرورة للفرد، فإنه لا يستطيع أن يعيش منفرداً عن الأقران، حتى وإن حاز الفضائل ، والخيرات والسلطان، فهي أفضل طرق الوصول إلى السعادة في الحياة الاجتماعية، والإنسان السعيد أحوج إليها من غيره؛ لأن السعادة تزيد وتتضاعف بمشاركة الآخرين فيها.(1/95)
والصداقة بالنسبة للفتاة الشابة مظهر من مظاهر نموها الاجتماعي الطبيعي، ووسيلتها الحيوية للشعور بالذات المستقلة المتحررة من عالم الطفولة، إلى جانب أنها ضرورية لتأكيد الدور الاجتماعي الطبيعي للفتاة بصفتها أنثى، وذلك من خلال انخراطها في جماعة مماثلة لها في السن، ومتحدة معها في الجنس، فإن التجانس شرط لنجاح الصداقة ودوامها.
ولما كانت جماعة الأقران - لاسيما في سن الشباب - مجالاً اجتماعياً خصباً؛ لإشباع حاجة الفرد النفسية إلى الانتماء، من حيث: المشاركة العاطفية وتبادل الأسرار، وعرض المشكلات ، وحصول شيء من الاستجمام والراحة، فإن هذا الوسط المفعم بالتفاعل يعتبر بالنسبة للفتيات عالمهن الحقيقي ، وميدانهن الاجتماعي الرحب، الذي يحرصن بشدة على بقائه واستمراره، ويخشين انفضاضه، وربما شعرن أحياناً بمنافسته لمجتمع الكبار.
ولما كانت حاجة الفتيات ملحة للقبول في وسطهن الجماعي الخاص، فإنهن - كما يبدو - أكثر انصياعاً لضغوط الجماعة من الذكور، وأكثر انفتاحاً على الزميلات، فقد تتشتَّت هوية إحداهن ، وتنازعها الاتجاهات والأدوار الاجتماعية المختلفة، بين إرضاء أوليائها، والظهور أمام أسرتها بالمظهر اللائق، وبين إرضاء الزميلات في الجماعة، خاصة وأن الفتيات يبدأن صداقاتهن في وقت مبكر عن الفتيان، فتتعمَّق العلاقات بينهن وتكبر، إلى جانب أنهن يمارسن علاقتهن عادة في مجموعات صغيرة: تبعث الولاء بينهن وتزيده عمقاً أكثر مما تُحدثه المجموعات الكبيرة عند الذكور، فهن في العموم أقل في صلاتهن الاجتماعية، وأكثر دقَّة في اختيار الصديقات من الذكور؛ ولهذا تتضمن صداقتهن ساحة واسعة من الخبرات والأحاسيس والمشاعر المشتركة، حتى إنهن يشارك بعضهن بعضاً العواطف، والانفعالات بصورة كبيرة وعميقة، فقد يتأثرن تلقائياً في موقف مثير من خلال سلوك بعضهن الانفعالي أكثر من تأثرهن بذات الموقف.(1/96)
ولعل سبب هذا التعلق الشديد بينهن: يرجع إلى التقارب في السن، وتشابه الميول والاهتمام، إلى جانب الانفتاح بينهن، والإفضاء بالأسرار الخاصة، وتقبل بعضهن بعضاً، مع اتحاد طبيعة الظروف والمشكلات، فتتقوى بذلك أواصر المحبة والصداقة بينهن لتبلغ هذا العمق.
ولما كانت طبيعة العلاقة بين الفتاة وقريناتها على هذا النحو من العمق والتأثير: فإن حسن اختيار الزميلات يتأكد، خاصة وأن: "الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعاً"، ومن المعلوم أن مخالطة السفهاء تورث سوء الخلق، فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : "فساد الأخلاق بمعاشرة السفهاء"، فكما أن الفتاة تتأثر بالوسط الفاسد، وربما اقترفت من خلاله كبائر المنكرات: فإنها أيضاً تتأثر بالوسط الصالح: وتعتاد من خلاله الفاضل من الأعمال، والحسن من الأقوال؛ ولهذا جاء التوجيه النبوي بحسن اختيار الجليس، بحيث تكون الصديقة من أهل التقوى، وممن تعين على الخير، وممن تظهر عليها سمة الصلاح، فإذا خالطتها الفتاة فإنها لا تدعوها إلا إلى الخير، فإذا شعرت من نفسها ميلاً إلى هذا الصنف من الفتيات: علمت أن محبتها لهن في الله تعالى، وأنها بمحبتها ومخالطتها لهن: لا تبعُدُ عن منزلتهن كثيراً، فإن "المرء على دين خليله…" كما جاء في الحديث.
ومن أهم ما تراعيه الفتاة مع صديقاتها الصالحات: بقاء الوِّد والألفة، فتكون معهن خير صاحبة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:( خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه..), وعليها أن تتجنب كل سلوك يشينها معهن كالشَّتم والسِّباب، والتنابز بالألقاب، والتعيير، والمزاح الغليظ، وغيرها من الأخلاق القبيحة، فلا يصدر عنها إلا الحسن من القول والفعل.(1/97)
وإن مما ينبغي تنبيه الفتاة المسلمة عليه أنه لا يحق لها شرعاً أن تقيم علاقة حميمة مع فتيات غير مسلمات، أو منحرفات في سلوكهن لغير مصلحة شرعية معتبرة، بحيث تذوب بينهن مظاهر البغض والنفرة، وتظهر بينهن مباهج الألفة، وكمال التجانس والاختلاط، فإن كثيراً من فقهاء الإسلام منعوا المسلمة من وضع خمارها عند الفاسقة من النساء فضلاً عن الكافرة، وبعضهم منعوها من نزع نقابها عند غير المسلمة، فكيف بالاختلاط بها، واتخاذها صديقة وخليلة؟ فهذا مما تحذَّر منه الفتاة المسلمة المعاصرة، خاصة في البلاد التي يكثر فيها الانحراف الخلقي، ويختلط فيها المسلمون بغير أهل دينهم.
ومن المعلوم في الطبائع الاجتماعية أن الضال من الناس يحب أن يوقع غيره في الضلال، فيستوي معه، والمنحرف يحب أن يوقع غيره في انحرافه، فلا يكون شاذاً في سلوكه، كما قال الله تعالى عن مقصد المنافقين من المؤمنين: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ….} [النساء:89] يقول ابن كثير ~ٍٍِِ: "أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم، وبغضهم لكم" وهذا مسلك المنحرفين في الغالب، ممن تشرب الذنوب والخطايا، حتى أصبحت طبعاً له، فلا يرتاح إلا بإيقاع غيره فيما تورط فيه، ولهذا يقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مبيناً مسلك الفاسقة من النساء مع غيرها: "ودَّت الزانية أن النساء كلهن زوان"، وقد دلَّ البحث الميداني الخليجي على عينة من المدمنين على المخدرات: أن 92.2% من العينة تناولت أول جرعة من المخدرات عن طريق الأصدقاء دون مقابل نقدي، مما يؤكد للفتاة خطورة الصداقة، وتأثيرها على عقيدتها وأخلاقها، حين تقام على غير أسس شرعية وأخلاقية.(1/98)
ومن مظاهر العلاقات الاجتماعية التي تقام أحياناً بين الفتيات لغير الله تعالى: أن تصادق إحداهن الأخرى لمصلحة مادية، فتنتفع بجاهها أو مالها، وربما تصادقت الفتاة الجميلة مع من هي دونها في الجمال: حتى تتميز بفارق حسنها في أعين الأخريات، ويكون نصيب الفتاة الأخرى من صداقتها هذه: أن تبتهج بكونها ترافق فتاة جذابة جميلة، وأقبح من هذا وأشنع أن تتعمق الصلة بين فتاتين حتى تصل العلاقة بينهما إلى حدِّ الالتصاق العاطفي، والامتزاج البدني، فيبلغ بهما عمق العلاقة إلى درجة الاشتهاء الجنسي الشاذ، والغزل الفاحش، وربما الممارسة الشاذة أيضاً، فتتعرض أخلاق الفتاتين إلى انحراف شديد، ينذر بضلال توجهاتهما الجنسية مستقبلاً، وقد يلتبس على بعض الفتيات مفهوم الحب في الله تعالى، ليصل إلى حدِّ التلامس بالأيدي، والالتصاق بالأجساد، وليس هذا من مظاهر الحب في الله، وإنما هو تلبيس الشيطان، وثوران الشهوة، خاصة وأن سن الزواج - الذي يعالج هذه القضايا - قد تأخر في عرف المجتمعات الحديثة.
إن إقامة العلاقات والصلات الاجتماعية على مبدأ الحب والبغض في الله تعالى: يحل كثيراً من مشكلات الفتيات الأخلاقية التي تكون الصداقة سبباً فيها، بحيث تقتصر صلات الفتاة الاجتماعية على من يحقق لها إشباع حاجتها النفسية للوسط الاجتماعي، ويساعدها على الاستقلال الشخصي، ومعرفة طبيعة سلوكها بصفتها أثنى ضمن نطاق ضوابط الأخلاق في مفهوم نظام الاجتماع الإسلامي
6ـ تعريف الفتاة ثوابت المجتمع الأخلاقية(1/99)
يتحقق انتماء الفرد إلى الجماعة بوجوده في وسط اجتماعي، يعرف معاييره وثقافته: فتتحدد من خلاله معالم سلوكه، فإن للنظم "الاجتماعية بمختلف أنواعها آثاراً هامة في تربية الفرد، وإعداده للحياة، فهي تمتزج بلحم الفرد ودمه، حتى تصبح جزءاً من طبيعته،وتؤثر في كل ما يحيط به… ويحسُّ بسيطرتها عليه حتى في حالات وحدته، ويرى نفسه مضطراً إلى الخضوع لما تقرره، وملزماً بصبِّ أعماله في القوالب التي ترسمها"، فيجْتر الفرد -بصورة تلقائية- من مخزون السلوك عنده ما يتناسب مع المواقف الاجتماعية المختلفة التي تمر به في الحياة الجماعية، ومن هنا فلابد أن تعرف الفتاة من خلال احتكاكها الاجتماعي: الأطر والأصول الأخلاقية التي تُعد مرجعاً لكل أفراد المجتمع، والتي يقيسون عليها سلوكهم، ويقوِّمون بها أعمالهم.
وتظهر أهمية إشاعة المعرفة بهذه الأطر الأخلاقية الإسلامية، وتربية الفتاة عليها من جهتين:
الأولى: أن الفرد قد يلتزم بهذه الأطر، والقواعد الأخلاقية دون أن يربطها بمصدرها الغيبي، فتكون بمثابة عادات وتقاليد لا تلبث طويلاً حتى تزول، أو تضعف أمام ضغوط الحياة المادية، فإن الشباب عادة أنصار كل جديد، فيتقبلون من الأفكار والأخلاق مالا يقدر عليه الشيوخ، فلا بد من ربط الأطر الأخلاقية بالعقيدة لتكتسب خاصية الثبات.(1/100)
الثانية: إن من الأخلاق ما قد يكون مقبولاً اجتماعياً، ولا يكون مقبولاً من الناحية الاعتقادية الإيمانية، فوجود هذه الأطر الأخلاقية يساعد الفرد في احتكاكه الاجتماعي على: "أن يلتقط من البيئة جوانب السلوك المتَّفقة مع بنائه الاعتقادي، وأن يتجاهل الجوانب التي لا تتفق" مع هذا البناء، بحيث تكون العقيدة - ممثلة في هذه الأطر المرجعية - هي المحك الذي يحكم سلوك الفرد والجماعة، ويحدد المقبول من سلوكهم والمردود، فيعلم الفرد ابتداء نوع السلوك الذي يجب عليه نهجه أو رفضه في المواقف الاجتماعية المختلفة، يقول إريسكون مبيناً أهمية هذه الأطر المرجعية للفرد: "إن من المستحيل على الفرد إذا لم تكن لديه فكرة ما عما ينبغي الإيمان به واعتناقه: أن يكتسب شعوراً ثابتاً بالذات أو الهوية".
وقد ثبت ميدانياً أن السلوك الاجتماعي لأصحاب التوجه الديني من الشباب، ممن عرفوا المعيار الحق: أقرب للاعتدال، والإيثار، وإنكار الذات من غيرهم، وأن الفتيات اللاتي حصلن على ثقافة إسلامية صحيحة: يرفضن الأخطاء المتعلقة بالدين، ويتضايقن ممن يمارسها، وكذلك في الجانب الآخر حين يفقدن معايير الصواب والخطأ التي يجب الرجوع إليها: فإن احتمالات وقوعهن في الانحرافات الخلقية وأزمانها تكون أكبر وأعظم، مما يدل على ضرورة تربية الفتيات على هذه الأطر الأخلاقية المرجعية المنبثقة من العقيدة الإسلامية؛ لتكون لهن مشاعل هداية وضبط لسلوكهن الاجتماعي، في الوقت الذي تقهقر فيه تأثير الضمير في ضبط السلوك الإنساني أمام مغريات الحياة الدنيا وملذاتها.
7ـ استقامة الفتاة أمام انحرافات المجتمع(1/101)
لقد تميَّز القرن الثامن عشر الميلادي بالتفلُّت من الالتزامات الاعتقادية والخلقية، وما أن حلّ القرن التاسع عشر حتى تأكدت هذه الانحرافات بصورة أكبر وأوسع، خاصة بعد التقدّم الصناعي والتقني في القرن العشرين الذي تشهده المجتمعات المعاصرة، ولم تكن الأمة المسلمة بمعزل عن أحداث العالم، وتأثيراته السلبية، فقد نالت المجتمعات المسلمة نصيبها من الانحراف الخلقي في شتى الميادين، ولحق المرأة المسلمة المعاصرة قدر من هذه الانحرافات، حتى إن الإجماع يمكن أن ينعقد على "أن هناك مشكلات سلوكية بين الشباب من الجنسين، وأن هذه المشكلات تصل إلى حجم يسترعى الانتباه".
ولم تكن الفتاة المسلمة المعاصرة بمعزل عن التأثر بسلبيات الواقع الاجتماعي؛ بل نالها الحظ الأوفر مما نال المرأة في العموم، حتى إن أكثر البلاد الإسلامية محافظة: لم تخل من سقطات كثير من الفتيات، ومشاركتهن المنحرفة في كل أنواع الفساد الخلقي، بصورة مطردة ومتنامية.
إن فترة الشباب التي تعالجها هذه الدراسة: من أشد فترات الفتاة قابلية للاستهواء، ففي هذه السن عادة ترتفع معدلات الجنوح، ويبدأ فيها التوجه عند المنحرفين نحو الإدمان على الخمور والمخدرات، فقد تخضع الفتاة الساذجة لألوان من الضلال الخلقي دون تمييز، بحيث تتقبل فكرة أو سلوكاً عن الآخرين، دون معرفة وقناعة كافيتين بالأسباب المنطقية الداعية إلى هذا الخضوع، فقد تتعاطى سلوكاً شائناً لمجرد تقليد الأخريات في الجو الاجتماعي العام، فإن غالب انحرافات الأحداث إنما تكون من جهة البيئة الاجتماعية، حتى إن ضبط الأسرة الصالحة لسلوكهن يضعف أمام ضغط المجتمع المنحرف.(1/102)
إن الانطلاقة الصحيحة لحل هذه المعضلة الاجتماعية المعاصرة والمعقدة الخاصة بالإناث تبدأ من عند الفتاة: بحيث تدرك أن المجتمع بكل ما يحويه من المؤسسات، والأفراد: مخلوق من مخلوقات الله تعالى، ومربوب له جلَّ وعلا، ومكلَّف بوظيفة الاستخلاف في الأرض على النهج الذي شرعه الله تعالى له، بحيث ينطبق الشِّق المعياري الحامل للتصورات العقائدية والفكرية، مع الشَّق التطبيقي العملي لهذه التصورات، فلا يكون العرف الاجتماعي في حسِّ الفتاة مقبولاً - مهما كان مطرداً في المجتمع - ما دام أنه مخالف للشق المعياري الحامل لأصول الإسلام، "فإن البعد المجتمعي في النظرية الإسلامية بُعْدٌ شرطي، أي إن الفرد يلتزم بما تسير عليه الجماعة إذا كانت هذه الجماعة مهتدية، وإلا فلا ارتباط والا التزام".(1/103)
ومن هذا المفهوم الإسلامي لحدود سلطة المجتمع ومؤسساته: تعرف الفتاة أن الواقع الاجتماعي - أياًّ كان - غير مخولٍ شرعاً: لقبول أو رفض سلوكها الخلقي، إنما هو الشارع الحكيم من خلال الوحي المبارك الممثل في الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة من معالم الفضيلة والأخلاق الرفيعة، كما أن مبدأ التقليد المطلق لواقع سلوك الأفراد الاجتماعي: مبدأ مستهجن عند أصحاب العقل السديد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما رُوي عنه: "لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسناً، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن اساؤوا فلا تظلموا"، فاختار - صلى الله عليه وسلم - المعيار الحق في توطين النفس على الإحسان المطلق دون أن يكون للمجتمع دور سلبي في اختيار المكلف الراشد من الأعمال والسلوكيات، وعلى هذا النهج تكون علاقة الفتاة المسلمة بالمجتمع من حولها، فلا تتضخَّم في شعورها مكانة المجتمع إلى درجة التَّقديس، حتى تخضع لمعاييره بصورة مطلقة؛ بل يكون انقيادها للحق - قدر طاقتها - حتى وإن خالفت توجُّهات الجماعة، وكثيراً ما تكون مخالفة أخطاء المجتمع بالانعزال لمن لا طاقة له بالمواجهة أو الصمود، فإن الأخلاق منها ما هو إيجابي يغلب عليه طابع الإقدام، ومنها ما هو سلبي يغلب عليه طابع الإحجام، وبهما يكمل للفتاة جانب التربية الأخلاقية الاجتماعية، فإن "الكفَّ عن الشر داخل في فعل الإنسان وكسبه حتى يؤجر عليه ويُعاقب"، وهو ما يسميه الفقهاء بأفعال التروك، فإن الترك فعل، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام:(…. يُمسك عن الشر فإنها صدقة), وقد سأل أبو بكر المروزي الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله : "يُؤجر الرجل على ترك الشهوات؟ فقال: كيف لا يؤجر وابن عمر يقول: ما شبعت منذ أربعة أشهر".
8ـ التزام الفتاة بالحجاب الشرعي في الحياة الاجتماعية العامة(1/104)
إن من أهم القضايا التي جاء بها الإسلام: المحافظة على أخلاق المجتمع من التردي، وكل ما من شأنه إثارة الغرائز، وبعث الشهوات. ومن هنا فقد أمر الشارع الحكيم الفتاة المسلمة والنساء عموماً بأن يتجنبن صور الإثارة الاجتماعية بحركاتهن أو بكلامهن، فلا يصح من الفتاة في الحياة العامة أن تصدر بصورة مقصودة حركة أو عبارة تثير الغرائز الجنسية في الرجال، أو تلفت أنظارهم، وفي هذا يقول المولى - عز وجل -: {….. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ….} [النور:31].
ولما كان جسم الأنثى البالغة بالنسبة للرجل موقع إثارة جنسية: أمر الشارع الحكيم النساء بالحجاب حتى تنتفي هذه الإثارة غير المرغوب فيها شرعاً، فقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ …} [الأحزاب:59].
فالفتاة المسلمة مأمورة شرعاً بأن لا يصدر عنها أمام الأجانب من الرجال أي حركة مقصودة، أو عبارة مختارة يفهم منها إثارة الشهوة. فعلى منهج التربية أن يراعي ذلك منهن، ويستخدم الوسائل المختلفة في إقناعهن بأهمية الحجاب، وضرورته الشرعية، وأهميته لطهارة المجتمع وسلامة الأخلاق. ويمكن في هذا أن تعرض على الفتاة السلبيات الأخلاقية الكبيرة التي وقعت فيها كثير من المجتمعات بسبب التفريط في الأمر بالحجاب، فإن في هذه السلبيات ما يساعدها على الأخذ بهذا الأمر الشرعي.
9ـ حجاب المرأة السعودية إلى أين؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد …
يمثِّل الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة خاصية فريدة تميز صاحبة العقيدة والخلق عن غيرها، فله دوره المميَّز، وفعاليته الواقعية الملموسة في حياة المرأة بصورة خاصة، وفي واقع الحياة الاجتماعية بصورة عامة.(1/105)
ويستند وجوب حجاب المرأة المسلمة إلى نص الكتاب الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين؛ بحيث يكفر من ينكر وجوبه، أو يستهزئ به، وتفسق من تنزعه من النساء ولو أقرت بوجوبه، فليس الحجاب تراثاً أو تقليداً أو عادة اجتماعية قابلة للتغيير أو التطوير، وإنما هو فريضة محكمة ألزم الله تعالى بها النساء حين يجتمعن مع الرجال الأجانب.
ومنذ أكثر من مائة عام من الآن وجمعٌ من نصارى العرب يحاولون إقناع المرأة المسلمة بنزع حجابها، والتنكر لأخلاقها وآدابها الاجتماعية، والناظر في بعض ما كان يُنشر في تلك الفترة يجد هذا التوجه الهجومي نحو الحجاب - بصورة خاصة - واضحاً في كثير من المقالات والكتابات التي كانت تنشر آنذاك مستهدفة المرأة المسلمة في أخلاقها، وسلوكها، ولباسها، حتى تتوَّجت بكتابات قاسم أمين المدعومة في ظاهرها بالنص الشرعي، والفتوى الفقهية، والاستدلال بالواقع الغربي، وقد رافق ظهوره دعم ثقافي من دعاة التغريب في ذلك الوقت، ولاسيما من نصارى العرب، ثم أعقب ذلك توجه سياسي من بعض القادة والزعماء يدعم هذه الوجهة، تتوَّج في نهاية الأمر بسفور المرأة عن وجهها كأقصى ما يمكن أن ينجزه المبطلون في حربهم للحجاب في ذلك الوقت، ثم لم يلبث الأمر طويلاً لأكثر من أربعة أو خمسة عقود حتى كشفت كثير من النساء عما أجمع المسلمون على وجوب تغطيته من الشعور والنحور والسيقان والأفخاذ، ووصل الحال بالمرأة المسلمة الحرة أن تبرز على المسرح أمام الرجال : ممثلة أو مغنية أو راقصة بكامل زينتها، وقد نزعت عنها غالب ملابسها إلا ما يستر السوأتين، وللقارئ أن يعلم أن غطاء وجه المرأة كان سائداً بين المسلمات حتى العقد الثالث من القرن العشرين فضلاً عما يجب تغطيته مما أجمع عليه الفقهاء.(1/106)
ومن المعلوم في الطبائع الاجتماعية أن الانحرافات الأخلاقية تبدأ يسيرة، وربما في مسألة خلافية مثل كشف المرأة عن وجهها أمام الرجال الأجانب، ولكنها بالتدرج تنتهي وبسرعة إلى ما لا قبل للمجتمع به من الانحرافات الكبرى التي يصعب معها الإصلاح؛ ولهذا جاءت الشريعة بمراعاة الاحتياط، والأخذ بالأحوط، وسد الذرائع رغبة في دفع ما يُتوقع من المفاسد الكبرى.
وعلى الرغم من المخاطر والانحرافات الكبيرة التي أحدثتها دعوة قاسم أمين في بداية القرن العشرين فقد جند النصارى أقلامهم، وتبعهم في ذلك من في قلبه مرض من المسلمين والمغفَّلين لدعم دعوته حتى أثنى عليه الشعراء، ونسبه بعضهم إلى مجموع المجددين الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة عام، ليجددوا أمر الدين، وقد قال جرجي زيدان في تخليد ذكراه : "إن قاسم أمين من المصلحين العظام الذين يحفظ التاريخ ذكرهم ".
لقد استوعب أعداء الإسلام الدرس، وأدركوا بيقين أن الحجاب - بصورة خاصة من بين كثير من أحكام الإسلام - أكبر عقبة اجتماعية تقف أمام تحقيق أهدافهم في تغيير نمط الحياة الاجتماعية الإسلامية، وليس ذلك لكون الحجاب مجرد ملاءة تستر به المرأة جسمها، فإن الأخلاق لا يرسمها الخيَّاط، ولا تحدد معالمها الأقمشة، ولكن لكون الحجاب موقف عقدي من المرأة قبل كل شيء، يُعبِّر عن ارتباط روحي عميق في نفسها، يحثها على التستر والتحفظ، وهذا المعنى في الحجاب يتعارض بصورة صارخة مع أهداف وغايات أعداء الفضيلة والأخلاق من الكفار والمنافقين، المتربصين بالأمة الإسلامية، ويتعارض أيضاً مع الفطرة الإنسانية السوية، فالتستر سلوك بشري فطري في النوع الإنساني بصورة عامة، وفي إناثهم بصورة خاصة، فالتستر عندهن أبلغ وأشد، فأهل الباطل يواجهون في حربهم للحجاب النص الشرعي المحكم، والفطرة الإنسانية السوية، ولئن استطاعوا العبث بالفطرة السوية عند بعض النساء فأني لهم أن ينقضوا النص الشرعي المحكم المحفوظ؟.(1/107)
وتأتي المرأة السعودية في أعقاب الزمن لتخوض تجربة المرأة العربية في كثير من الأمصار الأخرى مع الحجاب، ولكن بعد نحو قرن من الزمان، قد مُلئ بالتجارب والمواقف والصراعات، التي يمكن أن تثري ثقافة المرأة السعودية، وتنضج فهمها، وهي مقبلة على مرحلة جديدة من التغيير الاجتماعي الشامل الرامي إلى التجديد في كل جوانب الحياة، لتعيش التغيير الذي يحتاج إلى مائة عام : في عشرة أعوام فقط، ضمن ظروف ثقافية واقتصادية وسياسية مضطربة، انفتح فيها العالم بعضه على بعض، وانعدمت فيه الخصوصية الثقافية إلى حد ينبئ بظهور المواطن العالمي الذي يحيا بكل الثقافات، وينطبع بكل المفاهيم والتصورات.
إن المسلم المعاصر ليتعجب كيف تأقلمت المرأة المسلمة مع النموذج الغربي، وعاشت بلا حجاب في كثير من البلاد، فإذا أرادت الصلاة : خمَّرت رأسها وصلَّت؛ لكونها تعلم أن انكشاف عورتها في أثناء الصلاة يُبطل صلاتها، ولكنها نست أو تناست أن انكشاف عورتها في الحياة العامة أمام الرجال الأجانب يبطل أخلاقها.
لقد استقر في الشريعة وعند العقلاء : أن سلوك الإنسان الظاهر يؤثر في باطنه، وأن ما وقع في باطنه لابد أن ينعكس على سلوكه، فالرابطة وثيقة ومتبادلة بين ظاهر الإنسان وباطنه؛ لذا فإن تبرج المرأة بخروجها عن آداب الحجاب الشرعي : لابد أن يلحق عقلها وفكرها، فيشوه باطنها، ويدنس روحها، وأقل ما يصيبها أن يُذلَّ كبرياؤها فتصبح مملوكة للتأنق والتصنُّع، وهي لا تخرج عن آداب الحجاب الشرعي إلا وقد تغيَّر فهمها للفضائل، وتغيَّرت بالتالي فضائلها، ولهذا لُوحظ في إحدى الدراسات العربية الفرق في التزام القيم والمبادئ بين الفتيات المحجبات والمتبرجات، حين فاق المتحجبات غيرهن في الالتزام الخلقي والآداب العامة، ومن المعلوم من سلوك الإنسان : أن الجرأة على بعض الأحكام الشرعية بتعدي حدودها يسوق إلى مزيد من الجرأة على غيرها.(1/108)
إن مما ينبغي أن تدركه المرأة المسلمة عموماً والمرأة السعودية على الخصوص أن تقيدها بالحجاب الشرعي يحقق لها على الأقل فائدتين، الأولى : انسجامها مع المطلب الشرعي حين أطاعت ربها، والثانية : أن التزامها بالحجاب صورة من صور التحرر من نموذج المرأة الغربية، التي فرضت نفسها على نساء العالم، ولا تزال المجتمعات الإسلامية - في العموم - تفضل وتحترم المرأة المحجبة، حيث يفضلها الرجل للزواج، وتفضلها الزميلة للصداقة، وذلك على الرغم من الحملات المسعورة لتشويه المحجبات، وإضعاف مصداقية الحجاب ودوره الإيجابي في حياة المرأة المسلمة.
ولئن رافق نزع الحجاب في بعض المجتمعات العربية شيء من العنف والتظاهر والمغالبة : فإن نزع الحجاب في البيئة السعودية يتخذ طابع التدرج والمهادنة والموادعة، حيث يتخذ جمع من النساء مسألة الخلاف في جواز كشف الوجه ذريعة للتبرج والسفور عن المساحيق الملونة، مع كشف شيء من الشعر والأطراف وإبداء الزينة، إضافة إلى ارتداء العباءآت الشفافة والمزخرفة، التي لا تكاد تستر شيئاً من الملابس الفاتنة أو الفاضحة التي يرتديها بعض الفتيات في الحياة العامة.
ولم يعد غريباً أن تُشاهد صور بعض النساء السعوديات على الشاشة وعلى المجلات والجرائد كاشفات عن وجوههن وربما عن شعورهن، وقد دوَّت أصوات كثير منهن عبر موجات الأثير في مقالات ومقابلات تنم عن مسارعة نحو الانفلات الاجتماعي في بيئة محافظة يفتي علماؤها بالمنع من كل هذا.
ولقد تتوجَّت صور الانفلات الاجتماعي في المجتمع السعودي بظهور جمع من النساء السعوديات حاسرات عن وجوههن ورؤوسهن أمام الرجال الأجانب من المسلمين ومن غيرهم في إحدى المنتديات الاقتصادية العالمية، مما دفع مفتي البلاد لاستنكار مثل هذا الموقف القبيح، والحدث الخطير.(1/109)
ولقد سبق هذه الأحداث مواقف كثيرة مستترة ومعلنة تتناقلها ألسنة المجتمع عن مواقف شاذة، وانحرافات سلوكية لبعض الأسر السعودية داخل البلاد وخارجها تدل على معارضة واضحة لوجهة البلاد الدينية، ولاسيما في سلوك بعض النساء، وأوضح ما يكون ذلك في استثقالهن للعباءة والخمار، فما أن تقلع الطائرة بإحداهن خارج البلاد حتى تتحول إلى شخص آخر، قد اختلفت الملابس والأخلاق.
إن خطورة التبرج لا تكمن في مجرد مخالفة بعض النساء للفتوى الرسمية لعلماء البلاد بقدر ما تكمن في مخالفة أصحاب القرار لهذه الفتوى حين يقرُّون ظهورهن متبرجات عبر وسائل الإعلام الرسمية المختلفة، مما يُوحي بالانتقائية للأحكام الشرعية، وهذا من شأنه إضعاف موقف المؤسسة الدينية في المجتمع، والتقليل من شأنها، وزعزعة مصداقية اختياراتها الفقهية عند العامة؛ ولهذا يُلاحظ عدم اكتراث الشباب المتهور المتطرف بإجماع علماء البلاد على تجريم أعمالهم التخريبية، ومايزالون ماضين في غيِّهم، غير عابئين بفتوى المفتين، ولا نداءات المصلحين.(1/110)
إن مما ينبغي أن تدركه النساء أن سلوك التبرج الذي يمارسه بعضهن بإظهار الزينة المكنونة في الحياة العامة هو سلوك محرم شرعاً بالدرجة الأولى، وهو سلوك غير اجتماعي بالدرجة الثانية، وذلك حين تتعدى الفتاة بتبرجها حدود حريتها الشخصية إلى حريات الآخرين بإثارتهم وإزعاجهم، ومن المعلوم أن حرية الشخص تنتهي عند بداية حريات الآخرين؛ فإن من أعظم حقوق الرجال على النساء ألا يثرنهم بسلوكهن المقصود، فإن الغرض الأول من فرض الحجاب على النساء هو المحافظة على مشاعر الرجال من الإثارة والفتنة، فإن رؤية أجساد المُسْتحسنات من النساء تثير الرجال، وتحرك الغريزة فيهم، ومن المعلوم أن سمات الأنثى الجسدية من أكثر السمات جاذبية للرجل؛ ولهذا يُثار الرجل ويتأثر من جهة النظر أكثر بكثير من تأثر المرأة، ولعل هذا ما يبرر تفوُّق كثير من الذكور على الإناث في التأكيد على أهمية الحجاب والتستر، كما دلَّ على ذلك البحث الميداني، إضافة إلى أن الحجاب ليس من الأمور الشخصية التي يصح فيها الاختيار، بل هو من الأمور العامة التي تحقق مصلحة للجميع.(1/111)
ومن هذا المنطلق الفطري في الفروق بين الجنسين جاءت الشريعة الإسلامية موافقة لهذه الطبيعة الفطرية فأمرت النساء في الحياة العامة بالحجاب، وإخفاء الزينة، ومُنعن الطيب، ولفت الأنظار بالمشْية، وأمرن بخفض الصوت، وعُذرن من الأذان والإقامة، والرمل في الطواف، وكل ما من شأنه إثارة للرجال، وحتى الميتة منهن تُستر فلا يرى الأجانب حجم عظامها، بل وحتى الوجه والكفين - رغم الخلاف الفقهي في جواز كشفهما أمام الأجانب - فقد أجمع العلماء على وجوب تغطيتهما عند خوف الفتنة وكثرة الفساق، ومن المعروف للجميع أن وجه المرأة هو أعظم مواضع جمالها، وأكثر ما يجذب نظر الرجال إليها؛ ولهذا لو قيل للخاطب : ترى ما تشاء من جسد مخطوبتك دون أن ترى وجهها لرفض، في حين يقبل برؤية وجهها دون باقي جسدها، مما يدل على مركزية وجه المرأة بالنسبة للرجل.
ثم إن المرأة قبل نزول آيات الحجاب، وفي زمن الجاهلية أيضاً كانت تغطي رأسها وجزءاً كبيراً من سائر بدنها، ولم يعرفن تبرج النساء في جاهلية هذا العصر؛ ولهذا لم يكن الأمر بتغطية الصدر خاصاً بالمرحلة المدنية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بناته بذلك؛ فقد روى الطبري في المعجم الكبير بسند رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته زينب رضي الله عنها بمكة :(يا بنية خمري عليك نحرك), مما يدل على أن الأمر بالحجاب في المرحلة المدنية كان يحمل معنىً إضافياً أكثر من مجرد تغطية الصدر، ولهذا ذهب جمهور المفسرين إلى أن الجلباب تغطي به المرأة وجهها.(1/112)
ولئن أصرَّت المرأة السعودية على أن تقلِّد بعض علماء الأمصار ممن يرون جواز كشف الوجه والكفين، معتقدة أن هذا هو حكم الله في حدود حجاب المرأة: فهذا شأنها، إلا أن تغطية سائر بدنها بما يستر عورتها، من الأقمشة والملابس الفضفاضة، التي لا تشفُّ عما تحتها : من المسائل التي لا خلاف فيها، فكشف الوجه والكفين قضية، وكشف باقي البدن قضية أخرى، فلا يستلزم جواز كشف الوجه والكفين : التبرج بالزينة، والمساحيق الملونة، ومخالطة الرجال، والظهور على صفحات المجلات، وشاشات التلفاز، فإن لم يكن ليخطر على بال أحد من العلماء السابقين ممن يقول بجواز كشف الوجه : أن يصل الحال بالمرأة المسلمة إلى أن تكون منظرة للرجال، وتحفة إعلامية تُنصب بين أيديهم فينظرون إليها بملء أعينهم، إنما غالب اعتقادهم ما كان سائداً عندهم من خروج المرأة الكبيرة لحاجتها، أو راعية الغنم، أو المزارعة في حقل أهلها، فهؤلاء ومن في حكمهن قد يحتجن إلى الكشف عن وجوههن في غير تبرج وفتنة.(1/113)
إن مما يدعو إلى إساءة الظن بمن يناقشون ويشجعون جواز كشف وجوه النساء في المجتمع السعودي كونهم يناقشون ويجادلون في مسألة فقهية تقبلها المجتمع وارتضاها، ووافق فيها الفتوى الرسمية الصادرة من علمائه، إضافة إلى أنها - على أقل تقدير - تُمَثِّل الأفضل والأحوط، وأنها - بالإجماع - مما ألزم الله تعالى به نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وحاشاه - سبحانه وتعالى - أن يلزمهن بما هو دون، أو بما يشينهن، فإذا كان الأمر كذلك فما الغرض من إثارة هذه القضية في المجتمع السعودي من الوجهة الفقهية ؟ وما هي المصلحة المرتقبة من كشف وجوه النساء السعوديات، فقد تعلمن، ووصلن إلى أعلى المراتب العلمية، وعملن في العديد من مؤسسات المجتمع ولاسيما التعليمية منها دون الحاجة إلى كشف وجوههن، بمعنى أن المرأة السعودية لم تضطر إلى الكشف عن وجهها للحصول على حقوقها، أفبعد أن تصل إلى حقوقها تكشف عن وجهها !!
لقد كانت حجة المغرضين في السابق الربط بين الحجاب والأمية في النساء، فلا يمكن للمرأة - حسب زعمهم - أن تتعلم وهي ساترة وجهها، فجاءت الوقائع التاريخية لتبطل حجتهم في جمع هائل من النساء المسلمات اللاتي تعلمن كأفضل ما يكون دون أن يكشفن عن وجوههن، بل إن جمعاً منهن تعلمن تعليماً عالياً دون أن يخرجن من بيوتهن، ثم جاءت التجربة السعودية في تعليم الفتاة تحت إشراف المشايخ والعلماء لتُجْهز بصورة كاملة على فكرة الربط بين الحجاب والأمية، في صور من النجاح - حسب ما هو متاح - يندر تكرارها في الدول الأخرى، رغم الضغوط الدولية، وضعف الإمكانات، وكون التجربة جديدة، تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
والعجب أن بعض المتثقفات السعوديات، ممن تعلمن في هذه البلاد، وحصلن على الشهادات العالية فيها، أو تأهلن للدراسات العليا عن طريق هذه التجربة السعودية الفريدة، رغم ذلك يطعنَّ فيها، ويسمْنها بالتخلف والرجعية.(1/114)
إن من القبيح الاعتقاد بأن إلزام المرأة بغطاء الوجه، وحثها عليه، وعدم إفتائها بغير ذلك : خطيئة اجتماعية تحتاج إلى توبة، في الوقت الذي لا يُدان فيه الكشف عما أجمع المسلمون على تغطيته من الشعور، والنحور، والسيقان ونحوها، بل قد يوجد من يتحمس لكشف وجوه النساء، معتبراً أن هذا من حقوقهن في الوقت الذي ا يكترث فيه لقانون وضعي يبيح للفتاة في سن الرشد التصرف في بضعها مع من شاءت مادام أنها غير متزوجة !! وهذا مسلك تنبعث منه رائحة النفاق النتنة، التي لا يرتضيها المسلم الصادق.
والمسلم الغيور على دينه وأخلاقه، ليتساءل : هل ستنزع المرأة السعودية حجابها بالفعل، ويصبح وضعها كسائر البلاد الأخرى ؟ وهل يُتوقَّع أن يأتي يوم على بلاد الحرمين تدخل فيه المرأة المسلمة عند الكعبة لتطوف، وتأتي عند القبر الشريف في المدينة المنورة لتسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي كاشفة عن رأسها ؟ نسأل الله أن لا يكون ذلك؛ لهذا فإن من حق المسلم أن يتساءل : حجاب المرأة السعودية إلى أين ؟
10ـ حول حجاب المرأة السعودية
يكثر الحديث حول حدود حجاب المرأة المسلمة عند الأجانب من الرجال، حيث يحتدم الصراع حول هذه المسألة، والأصل -كما هو معلوم- في مسائل الخلاف الفقهي الأخذ بالراجح من الأقوال وليس الأصل فيها التخيُّر بين الأقوال، وإنما عُذر الجاهل الذي يتعذر عليه الاجتهاد بأخذه القول المرجوح لأنه مذهب مفتيه، فهو معذور حين يقلِّد من يرى أنه أعلم وأفضل حتى وإن كان قوله خطأ، فلا يصح - والحالة هذه- لغير المتخصص القادر أن يدخل على المسائل الفقهية عبر الحاسب الآلي، وشبكات الإنترنت - بعد أن تيسر الأمر في ذلك وكان في السابق عسيراً إلا على المتخصصين- ليتخيَّر من الأقوال الفقهية ما شاء، ثم يعرضها على الناس عبر وسائل الإعلام، ويحاج بها العلماء المتخصصين، وكأنه واحد منهم، دون احترام للتخصص.(1/115)
إن المسائل الفقهية المدونة في كتب الفقه والتراث الإسلامي تشبه - إن صح التشبيه - الصيدلية، فلا يكفي المريض المثقف أن يعرف خصائص الأدوية المنشورة وتراكيبها ليختار لنفسه، وإنما يحتاج للطبيب يرشده ويعينه، وكذلك حال غير المتخصص الشرعي مع الكتب الشرعية، فلا يكفيه الاطلاع على المسائل العلمية عبر الموسوعات الميسرة، والأقراص المدمجة حتى يرجع بالمسائل إلى أهل العلم القادرين على الاختيار والترجيح.
ويطرح بعضهم قضية جواز كشف وجه المرأة في الصحف السعودية، على أنه قول صحيح، وربما على أنه القول الراجح، والناظر يتعجب لماذا هذا الطرح العام، أليس من الأدب الاجتماعي الانسجام مع الفتوى الشرعية في البلاد، والمخالفة تكون بصورة فردية لمن كان يرى غير ذلك.
ومع أن العلماء اختلفوا في جواز كشف المرأة عن وجهها أمام الأجانب من الرجال إلا أنهم اتفقوا على أنه فضيلة، فهل يكون من المنطق الشرعي أو العقلي حثَّ الناس على ترك الفضيلة، فلو أن شخصاً هوَّن من نوافل الصلاة عند الحريص عليها لعدَّه الناس آثماً، فلماذا يهوِّن بعضهم من فضيلة غطاء وجه المرأة وكفيها عن الرجال الأجانب ؟.
ولا يبرر لهم حديثهم هذا عن بيان جواز الكشف كون علماء البلاد وأهل الفتوى فيها يصرِّحون بالوجوب، فإن التحريض على الأخذ بالعزيمة ممدوح، في حين أن التحريض على الأخذ بالرخصة مذموم، لاسيما في مسائل الخلاف الفقهي؛ فإن القواعد الفقهية تنص على الأخذ بالأحوط، والخروج من الخلاف إلى السلامة ونحو ذلك.
ثم أليس من الأولى أن نشتغل بإقناع النساء المتبرجات - وهن كثير - بالتزام الحدِّ الأدنى - على الأقل - من الحجاب الذي أمرهن الله تعالى به بدلاً من إقناع النساء المتنقِّبات - وهن قليل - بجواز كشف وجوههن للرجال الأجانب ؟.(1/116)
ولئن رافق نزع الحجاب في بعض المجتمعات العربية شيء من العنف والتظاهر والمغالبة : فإن نزع الحجاب في البيئة السعودية يتخذ طابع التدرج والمهادنة والموادعة، حيث يتخذ جمع من النساء مسألة الخلاف في جواز كشف الوجه ذريعة للتبرج والسفور عن المساحيق الملونة ، مع كشف شيء من الشعر والأطراف وإبداء الزينة ، إضافة إلى ارتداء العباءآت الشفافة والمزخرفة ، التي لا تكاد تستر شيئاً من الملابس الفاتنة أو الفاضحة التي يرتديها بعض الفتيات في الحياة العامة .
ومع الاحترام والتقدير لجميع العلماء من السلف والخلف ممن ذهب إلى جواز كشف المرأة عن وجهها وكفيها فإن النص القرآني يحيل إبداء الزينة إلى الزينة نفسها حين تبدو من غير قصد: "إلا ما ظهر منها"، والمرأة حين تتعمد كشف وجهها لا يكون المعنى "ما ظهر منها"، وإنما يكون: "ما أُظهر منها"، فتأمل هذا.
ثم إن الخمار الذي أُمرت به المرأة هو ما تضعه على رأسها، والجيب الذي أُمرت بتغطيته هو فتحة الصدر، وموقع وجه المرأة بين طرفين متفق على وجوب تغطيتهما، فكيف يمكن للمرأة أن تسدل خمارها من على رأسها لتستر صدرها دون أن تغطي وجهها، ومن المعلوم أن السدل هو أسلوب استخدام الخمار وليس اللف حول العنق الذي يصنعه كثير من النساء, والمسألة من هذه الجهة تحتاج إلى تأمل.
ومن المعلوم من حال الطبائع الاجتماعية أن الانحرافات الأخلاقية تبدأ يسيرة , وربما تبدأ بمسألة فقهية خلافية مثل كشف وجه المرأة وكفيها أمام الرجال الأجانب، ولكنها بالتدريج السريع تنتهي إلى ما لا قبل للمجتمع به من الانحرافات الخطيرة الكبرى التي يصعب معها الإصلاح، ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالاحتياط والأخذ بالأسلم، وسد الذرائع، رغبة في دفع ما يُتوقع من المفاسد الكبرى.(1/117)
ومن المفارقات العجيبة أن الفاصل الزمني بين كشف المرأة عن وجهها في بداية القرن العشرين في إحدى الدول العربية وبين كشفها بعد ذلك عما أجمع العلماء على حرمة كشفه من الشعور والنحور والأفخاذ لا يزيد عن خمسين عاماً تقريباً، فما لبثت المرأة طويلاً بعد كشفها عن وجهها أمام الأجانب حتى كشفت عن غالب بدنها في البلاجات, وعلى خشبات المسارح، وفي الملاهي الليلية.
إن بعض المسائل الفقهية التي دونها العلماء بقيت حبيسة الكتب لا واقع لها ولا تطبيق, فكم من المسائل الفقهية التي ينص عليها المذهب ومع ذلك يكون العمل على غيرها, وهذا - إلى حد كبير - ينطبق في مسألة غطاء وجه المرأة , فعلى الرغم من ورود جمع من النصوص المذهبية على جواز كشفه إلا أن الواقع التطبيقي عبر العصور وفي مختلف البلدان يخالف ذلك إلى الأحوط والفضيلة، لا سيما وقد أجمع العلماء على وجوب التغطية زمن كثرة الفتن، وانتشار الفساق, وبخاصة في حق الفتاة الشابة، والمرأة الحسناء.
ومما يُنقل في هذا المجال ما ذكره الإمام ابن حجر في الفتح 12/245، وهو شافعي المذهب حيث يقول:"ومن المعلوم أن العاقل يشتد عليه أن الأجنبي يرى وجه زوجته وابنته"، وهذا يدل على أن المذهب الفقهي قضية، والواقع التطبيقي قضية أخرى، ولهذا كان غطاء الوجه للنساء عاماً في الأمة، عبر قرونها المختلفة حتى بداية القرن العشرين الميلادي عند ظهور الدعوة المشبوهة لتحرير المرأة والتي لم يكن لها غاية في بداية الأمر أكثر من المطالبة بالتعليم الرسمي وإقناع المجتمع بجواز كشف وجه المرأة، حين كان غطاء الوجه عاماً في النساء.(1/118)
إن مما ينبغي أن تدركه المرأة المسلمة عموماً والمرأة السعودية على الخصوص أن تقيدها بالحجاب الشرعي يحقق لها على الأقل فائدتين ، الأولى : انسجامها مع المطلب الشرعي حين أطاعت ربها ، والثانية : أن التزامها بالحجاب صورة من صور التحرر من نموذج المرأة الغربية ، التي فرضت نفسها على نساء العالم ، ولا تزال المجتمعات الإسلامية - في العموم - تفضل وتحترم المرأة المحجبة ، حيث يفضلها الرجل للزواج، وتفضلها الزميلة للصداقة ، وذلك على الرغم من الحملات المسعورة لتشويه المحجبات، وإضعاف مصداقية الحجاب ودوره الإيجابي في حياة المرأة المسلمة.
11ـ تحذير الفتيات من الأخلاق الاجتماعية المذمومة
من أهم أهداف التربية الأخلاقية الاجتماعية في الإسلام تحقيق الألفة والوئام بين صفوف المؤمنين والمؤمنات، لضمان سلامة وحدة المجتمع من التفكك والانهيار، ومن هنا فقد أمر الإسلام بكل أسباب الألفة الاجتماعية، وزجر عن كل دواعي النفرة الأخوية، فذم الأخلاق المذمومة كالحسد والغيبة والنميمة والظلم والأنانية ونحوها، واستبدلها بضدها من الغبطة والذكر الحسن، والسعي بالصلح والألفة، ونصرة المظلوم، والإيثار.
ولما كانت مجالس النساء يغلب عليها كثرة الكلام مما قد يسوق بعضهن إلى شيء من هذه الأخلاق المذمومة: كان الاهتمام التربوي بتربية الفتاة من أول أمرها على تجنب مثل هذه المنكرات الأخلاقية أمراً في غاية الأهمية؛ بحيث تتربى على أن الحسد قبيحة خلقية تسوق صاحبها إلى تمني زوال نعمة الله عن المحسود، وهذا يحمل اعتراضاً على فضل الله تعالى الذي يصيب به من يشاء كما قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ …..} [النساء:54] وعليها أن تستبدل هذا الخلق بضده من الغبطة، وسؤال الله تعالى من فضله.(1/119)
كما تتربى على قبح مسلك النميمة التي تتضمن السعي بالفساد بين الناس، بغية الوقيعة بينهم، من خلال نقل الكلام بين الزميلات، مما يوقد بينهن الضغائن، ويشعل نار التباغض والتدابر، وعليها أن تستبدل هذا الخلق بضده من السعي الجاد في إصلاح ذات البين، وتوقي فسادها، من خلال نقل الحسن من الأخبار، وتلطيف الأجواء الاجتماعية بما يقوي أواصر المحبة، ويخفف من أسباب النفرة؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، التي تفسد أمر الدين.
وأما الغيبة فهي من الأخلاق المذمومة التي قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( ذكرك أخاك بما يكره، قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته). وهي من الأخلاق الدالة على قباحة الطبع، وضعف التقوى، ولعلها من أكثر الأخلاق المذمومة انتشاراً بين الفتيات حين يقعدن للتندر بالصديقات، وذكر عيوبهن من طول أو قصر، ونحولة أو سمنة ونحوها من الصفات التي قد لا تفضل المغتابة ذكرها.
وفي شعور الفتاة بأنها بغيبتها هذه إنما تأكل من لحم أختها: قد يكون من الوسائل الناجحة في كفها عن ذلك، وإعراضها عن هذا السبيل، فتستبدل هذا الخلق بعكسه من الدفاع عن الأخوات حال غيابهن إذا ذكرن بسوء، والتنبيه على الزميلات بالكف عن ذلك، والصبر على هذا المسلك حتى وإن وجدت من الجالسات شيئاً من الجفوة.(1/120)
وأما الظلم فهو من الأخلاق الاجتماعية المذمومة، التي كثيراً ما تقع بين الناس، فيحصل من ذلك التباغض، والضغائن. وقد تظن الفتاة لصغر سنها، وقلَّة سلطاتها أنها بعيدة عن ظلم الآخرين، فإن الظلم أمر عام، يمكن أن يقع من أي مكلف، ومما يمكن أن يقع من الفتاة من الظلم: إرهاقها للخادمة في المنزل، ومطالبتها بما هو فوق طاقتها، أو سوء معاملتها لإخوتها وأخواتها الصغار، وعدم إعطائهم حقهم، أو أخذها شيئاً من ممتلكات الأخريات بغير حق، حتى وإن كان شيئاً يسيراً، إلى غير ذلك من المظالم التي يمكن أن تقع فيها الفتاة في الحياة الاجتماعية.
وعليها مقابل هذا الخلق أن تستبدله بغيره من إقامة العدل، والأمر به، وكف الظلم، وزجر صاحبه، والسعي في نصرة الأخوات المظلومات، ومساعدتهن في رد الظلم عنهن.
وأما خلق الأنانية، والرغبة في الاستحواذ على الخير فإنها من الأخلاق المذمومة، التي قد تدفع المتمادي فيها إلى اغتصاب حقوق الناس، والانفراد بالفضل دون الآخرين، مما يعكس على المجتمع طابع التوتر، والترقب حين ينطلق الجميع من الأنانية، بحيث يستغل كل واحد منهم غفلة صاحبه، أو ضعفه فيستأثر بالخير دونه، فتضيع الحقوق، وتذهب الألفة، وتصبح الغلبة في المجتمع لمن يستطيع أن يحمي أنانيته بقوة أكبر.
إن مما ينبغي أن تدركه الفتاة أن هذا الخلق مهما تمادى فيه الإنسان فإن درجة الإشباع لا تحصل له أبداً، فإن الإنسان الأناني لا يسأم من حب الخير، ولا يشبع من جمع الملذات، وإنما علاجه في القناعة ولهذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس). فالقضية متعلقة بالنفس وليست متعلقة بكثرة الممتلكات والمستلذات، وليكن مقابل هذا الخلق عند الفتاة مبدأ الإيثار، فتقدم غيرها على نفسها، أو على الأقل لتسوي بينها وبين غيرها فتحب لهم ما تحبه لنفسها.(1/121)
ومن هنا فلابد أن تدرك الفتاة هذه المعاني الأخلاقية حسنها وقبيحها فتأخذ بالحسن منها، وتذر السيء، ويكون ذلك نهجها الاجتماعي دون ملل أو انقطاع.
12ـ التزام الفتاة بحسن التعامل مع الناس
لا يمكن للفتاة المسلمة أن تعيش بمعزل عن وسطها الاجتماعي فإن الاحتكاك الاجتماعي فطرة إنسانية؛ إذ لا بد لها أن تتعامل مع المجتمع، أخذاً وعطاءاً، وصحبة وإخاءً، ونحوها من العلاقات الاجتماعية المختلفة. ولما كانت هذه العلاقات الإنسانية ضرورية لحياة الفتاة، وفي تعاملها الاجتماعي؛ فإن قدراً من الرفق واللين، والرحمة واللطف لابد أن يتخلل معاملاتها مع الناس، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه), ويقول عن الرحمة:(من لا يرحم الناس لا يرحمه الله - عز وجل -),ويقول أيضاً:(لا تُنزع الرحمة إلا من شقي).
والرفق في التعامل سلوك عام تنتهجه الفتاة في كل أنواع علاقاتها، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن من ذلك حتى الجمل، فقد أهدى مرة للسيدة عائشة رضي الله عنها بعيراً فيه صعوبة، فأخذت رضي الله عنها تشتد عليه، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( عليك بالرفق).
وكذلك جانب الرحمة فإنه أيضاً سلوك عام تنتهجه الفتاة مع الجميع، وفي الحديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفَّه ثم أمسكه بفيه. ثم رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له. قالوا يا رسول الله ، وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر), وفي الجانب الآخر فقد رتب الإسلام أيضاً العقوبة على من تقدم بالإيذاء نحوها كما في حديث المرأة التي دخلت النار بحبسها هرة.(1/122)
إذا كان خلق الرفق والرحمة يستساغ وضعها في العجماوات من البهائم والحيوانات، ويُكتب على ذلك الأجر والثواب فإن من الضروري أن يكون وضعهما في عالم الإنسان أبلغ وأعظم أجراً. ومن هنا تنطلق الفتاة المسلمة واضعة نصب عينيها مبدأ الرفق والرحمة في جميع معاملاتها سواء مع الصديقات أو الأهل أو الأطفال، فإن الكل يحب أن يعامل برفق، كما أن الكل يجب أن يكون موضع رحمة وعطف.
ثم إن من أهم حقوق الأفراد بعضهم على بعض في المجتمع الإسلامي أن يتجنب كل فرد منهم إيذاء الآخرين في أي صورة من الصور، سواء كان ذلك في ممتلكاتهم وأموالهم، أو كان في مشاعرهم وما يعتزون به، وذلك من خلال بخس الناس حقوقهم، أو السرقة منهم، أو من خلال استحقارهم، والتكبر عليهم، فكل ذلك فيه انتهاك لحرمة المسلم التي عظمها الله تعالى، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :(… كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه).
والفتاة كعضو اجتماعي قد تتعرض من خلال تعاملها الاجتماعي العام لما قد يوقعها في شيء من هذا تجاه زميلة لها تأخذ منها حقها ولا ترده عليها، أو من خلال التكبر على غيرها لأموال عندها، أو لجاه أبيها أو جماعتها، وكل هذا يوقعها في سخط الله تعالى من جهة، ويبعث في المجتمع المسلم البغضاء والشحناء من جهة أخرى… ولهذا استأصل الإسلام هذه الأخلاق المذمومة بالحث على ضدها من إعطاء الحقوق وتحريم الظلم الاجتماعي، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع يد المرأة المخزومية التي كانت تستعير متاع جاراتها ثم لا ترده عليهن. وقال في شأن المتكبرين المحتقرين للناس: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطُهُم . قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها…".(1/123)
إن الفتاة بطبيعتها الفطرية الإنسانية تكره أن ينتقص أحد حقاً لها سواء كان ذلك في مالها أو في عرضها، فإذا كان الأمر كذلك فلتضع نفسها في موقع الآخرين فإن الجميع على نفس الشعور لا يحبون أن يُنتقص من أموالهم أو أعراضهم، في أي صورة من صور الحيف الاجتماعي.
ولعل المجتمع المدرسي من أكثر ميادين احتكاك الفتاة الاجتماعي الذي تطالب فيه بمراعاة هذه الآداب الاجتماعية مع معلمتها، والمسؤولات فلا تتقدم إليهن بما يدل على سوء الأدب. كما أنها مع زميلاتها مأمورة بحسن الصحبة والمزاملة، فلا يصدر عنها ما يدل على التعالي أو التكبر بسبب الأصل، أو المال ونحوهما، وإنما تسعى معهن جميعاً إلى التآخي في الله تعالى، وتجعل من التقوى والأخلاق ميزان التفاضل والتكريم. وتحاول قدر استطاعتها التعاون على البر والتقوى، والمشاركة الجادة في نشاطات المدرسة الصفية وغير الصفية، وتتجنب بكل طاقتها كل مظاهر الإفساد للمنشآت، أو المرافق المدرسية بتكسيرها، أو توسيخها، بل تكون مع زميلاتها على العكس من ذلك ساعيات في النظافة والصيانة بقدر طاقاتهن.
إن المجتمع الذي تشيع فيه آداب التعامل الإسلامي، وتحترم فيه الحقوق خليق بأن يحيا فيه الناس مطمئنين على أنفسهم وأموالهم، وفي الجانب الآخر فإن المجتمع الذي تشيع فيه صور الحيف في الحقوق والأعراض كفيل بأن تتقوض أركانه، وتذهب ريحه في المشاحنات الفردية والجماعية.
ومن الأخلاق الاجتماعية الكريمة التي جاء بها الإسلام حفظ الأسرار وستر العيوب، فإن المجالس بالأمانة لا يصح نقل أحداثها، وأخبارها لغير مصلحة شرعية معتبرة، كما أن ما ينكشف من عيوب الناس من خلال المخالطة، لا يصح إفشاؤه وإذاعته، وخاصة إذا كان أصحابها يحرصون على سترها، ويجتهدون في إخفائها.(1/124)
إن الإسلام في سعيه الحثيث لستر العيوب، وحفظ الأسرار إنما يمنع من إشاعة الفحش، وقبيح الأفعال بين الناس، فإن كثرة وقوع أخبار السوء تُجرئ عليها من لم يقع فيها، وتهون على الناس سماعها، وتخفف على الضمائر عظم جرمها.
ومن هنا فإن الفتيات في تفاعلهن الاجتماعي بين القريبات والزميلات يتبادلن الأسرار، ويتكاشفن العيوب، وربما كان منها ما يتصل بالشرف، فإذا سعت إحداهن في حالة غضب منها، أو نفرة من صديقاتها نحو إفشاء الأسرار، وكشف العيوب، والطعن في الشرف: شاع في المجتمع إذاعة القبيح من القول، وانتشر بين الناس سماع الرذيل من الأخبار، وقام بين الزميلات من أسباب النفرة والضغينة ما قد يسوق بعضهن إلى الافتراء والكذب حتى يرددن عن أنفسهن ، فيحصل من ذلك شر كبير.
إن الأصل الذي أدب الشارع الحكيم عليه الناس في المجتمع المسلم الستر مطلقاً فقال - صلى الله عليه وسلم - :( من ستر أخاه المسلم ستر الله عليه يوم القيامة) ولا ينبغي أن يفهم من هذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الفتاة وهي تتعامل مع الآخرين لا يمنعها وهي تمارس خلق الستر أن توضح للمخطئ خطأه، وللمسيء إساءته، مع الستر عليه وعدم إفشاء عيوبه.
ثم إن الفتاة وهي تمارس هذا الخلق تعلم أنها تحمل في نفسها وفي طباعها جمعاً من الأخلاق التي قد لا ترتضيها، وترجو سترها، ولا تحب انكشافها للناس، فإذا كان الأمر كذلك فليكن سترها على الناس، وسيلة لسترها على نفسها، وحفاظها على كرامة ذاتها.
13ـ مراعاة الفتاة لآداب المجلس الشرعية
إذا كان ينبغي على الفتاة أن تُراعي حسن اختيار الصديقات فإنها أيضاً تراعي في الحياة الاجتماعية العامة حسن اختيار المجالس؛ فإن مجالس العامة تجمع أخلاطاً من الناس، وكثيراً ما يرغب الفتيات في هذه المجالس؛ لما يرين فيها من تأكيد لذواتهن المستقلة، وخروجهن من عالم الصغار إلى وسط الكبار الاجتماعي.(1/125)
وقد شرع نظام الاجتماع الإسلامي جمعاً من الولائم والمناسبات التي يمكن أن تكون مجالاً للُّقيا والمجالسة، وأقرَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - اجتماع النساء مطلقاً في غير مناسبة خاصة، ولو كان ذلك زمن عدَّة الوفاة، فقد قال فيما رُوي عنه: "تحدثن عند إحداكن ما بدا لكنَّ، فإذا أردتنَّ النوم فلتئوب كل امرأة منكن إلى بيتها".
وقد درج الفاضلات من النساء عبر العصور الإسلامية على الاجتماع والمجالسة للخير والبر: من الوعظ والإرشاد، والتعلم والتعليم، فكثيراً ما كنَّ يجتمعن على محدثة، أو معلمة، أو واعظة يأخذن عنها العلم والأدب، ولعل هذا النوع من المجالس يستهوي كثيراً من الفتيات خاصة وأنهن في هذه السن يملن للقرب من كبيرات السن، ولا يستنكفن عن القيام بخدمتهن، فيجدن في مثل هذه المجالس شيئاً من الأنس.
وقد شرع الإسلام من خلال نظامه الاجتماعي فروضاً، وآداباً للمجالسة والمخالطة، فإذا روعيت: كانت المجالس مشروعة مستحبة، وإلا كانت المجالس محرمة أو مكروهة، فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [ الأنعام: 68]، فمجالسة أهل الباطل، والسكوت على باطلهم في المجلس: مشاركة لهم، كما أن الانفصال عنهم: براءة من سلوكهم الشائن، فلا يحق للفتاة المسلمة أن تشارك في انحرافات المجتمع السلوكية أو تُقرَّها، فإن المشاركة نوع من الإقرار خاصة وأن الناس عادة لا يجتمعون، ولا يتوافقون بينهم إلا على التشابه، وتآلف الطباع، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:( الأرواح جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). وأقل ما يمكن أن يحدثه التلاقي بين النساء في المجالس: تبادل أنواع السلوك من خير أو شر.(1/126)
ولعل من أهم ما تراعيه الفتاة في المجلس: حفظ اللسان، فإن كثرة الكلام طبع نسائي، وحفظ المنطق من خلق المسلم الحق، فالوقوع في أعراض الناس، بذكر ما يكرهون، أو وصفهم بما ليس فيهم: من الغيبة والبهتان المحرَّمتين، وغالباً ما تكون انحرافات المجالس من هذا النوع، ولعل علاج ذلك أن تعرف الفتاة قبح هذا المسلك المشين الذي وُصف بأكل لحم الأخ الميت، وأنه ما من عيب تراه في الناس إلا ومثله عندها: إما ظاهراً، وإما كامناً كمون النار في الحجر، إلى جانب أنه دينٌ عليها لابد أن تتحلله من صاحبته.
كما أن مسلك النميمة، بنقل أخبار الزميلات إلى غيرهن على وجه الإفساد: مسلك محرم، من فعل الأشرار؛ لما يحدثه من فساد ذات البين، بإيغار الصدور، ومعرفة الفتاة المؤمنة بخسَّة هذا السلوك، وعظم عقوبته عند الله تعالى: ينفرها منه، ويبغضها في مجالسة أهله، خاصة إذا علمت أن: "المسلم من سلم السلمون من لسانه ويده" كما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ويلحق بهذين السلوكين المنحرفين: مسلك الكبر الذي يمنع صاحبه الجنة، والمتضمن لرد الحق على أصحابه، واحتقار الناس، والله تعالى يقول: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18-19].(1/127)
ولعل مما يشيع في الوسط النسائي، وعند الشابات منهن خاصة: مسلك الاستهزاء، حيث يجدن فيه مادة خصبة للترفيه، وقضاء الوقت لاسيما وأن النساء - في الجملة - أقل تقديراً وإدراكاً للزمن، فيتنابزن بالألقاب ويتغامزن، ويسخر بعضهن من بعض، ويتنذَّرن بمسالك بعضهن في الملبس، أو المأكل والمشرب، أو الحديث، وربما ضحكن من الريح تحدثه إحداهن، أو الجشاء، وكل ذلك سلوك ممقوت، نهت عنه الشريعة السمحة، وليكن شعار الفتاة في تعاملها مع الناس والزميلات على الخصوص كما قال عليه الصلاة والسلام:(…. ما تحب أن يفعله بك الناس فافعله بهم، وما تكره أن يأتي إليك الناس: فذر الناس منه ), فمسلك الملاطفة في المجلس بحسن التحدث والاستماع، وطلاقة الوجه عند اللقاء، وإلقاء السلام، وحسن رده، والمصافحة: كل ذلك مما جاء الإسلام بالأمر به، وكل إنسان سوي يرغب أن يُعامل به، وأن يحظى بنصيبه منه، فعلى الفتاة أن تدرك: أن من كانت هذه سجاياه، وهكذا نهجه في التعامل: كثر جليسه، وقلَّ عدوه، ومن تخفَّف من حمل هذه الأخلاقيات: فإنه يخفف في نجاح علاقاته الاجتماعية بقدر تخففه من المجاهدة في حمل هذه الأخلاق والعمل بها.
14ـ دور المجتمع في بناء أخلاق الفتاة
يسري في كل مجتمع إنساني تيار أخلاقي يفرض معاييره على الأفراد، ويحدد لهم الصواب والخطأ، والخير والشر، ويسمُهُم "بطابع خاص يُميِّزهم عن غيرهم من أفراد المجتمعات الأخرى، ويتبدَّى ذلك في تكوينهم الشخصي وسلوكهم الخلقي، واستجاباتهم لمختلف المواقف التي تواجههم في حياتهم"، فالسلوك الإنساني لا يخضع للتكوين الداخلي للفرد فحسب، بل تُؤثر فيه العوامل الخارجية أيضاً، وتطبع آثارها الخلقية في نفسه وسلوكه حتى ينطبع بها، ويكاد ينعقد إجماع علماء الأخلاق على أن الوراثة مع البيئة: هما العاملان الأساسان في تكوين الأخلاق".(1/128)
ولما كان الإنسان مدنياً بالطبع فهو محتاج إلى معاشرة الناس حتى تظهر محاسن أخلاقه وتنمو، فإن الشخص المنعزل لا يعرف الخُلُق، وإلا فأين يمارس الإنسان الكرم، والحلم، والإيثار ونحوها من الأخلاق إذا لم يخالط الناس في وسط اجتماعي؟ ومن هنا فإن الجو الاجتماعي الصالح يساعد الفتاة على معرفة الأخلاق الفاضلة، ويعينها على ممارستها، والتدريب عليها من خلال التفاعل مع الآخرين، حتى تصبح هذه الأخلاق طبعاً لها، لا تنفك عنه.
وكما يساعد الوسط الاجتماعي الفتاة على تكوين الأخلاق، فإنه يعينها أيضاً على ضبط سلوكها وفق هذه المبادئ الأخلاقية، فإن أنماط السلوك المختلفة لا تتحدد عند الفرد منذ الولادة، وإنما يتعلمها من خلال خبرات الحياة الاجتماعية المختلفة؛ فالمجتمع "يرسم للفرد منهاج حياته اليومية، والمرء في حياته مع أسرته، وفي مزاولته مهنته، وفي كل أمر من أمور حياته اليومية، لا يستطيع إلا أن يخضع لأوامر، وأن ينقاد إلى واجبات، وعلى المرء في كل لحظة أن يختار، فإذا به يختار بصورة طبيعية ما هو موافق للقاعدة المرسومة، ولا يكاد يشعر بما يفعل، ولا يبذل في ذلك شيئاً من جهد، فالمجتمع قد رسم له الطريق".(1/129)
ولما كان للمجتمع هذا التأثير البالغ في سلوك الأفراد عموماً، فإن حاجة الفتيات إلى سلطانه أكبر، فهن أكثر افتقاراً لبيئة التوجيه والضبط؛ حيث تؤثر فيهن القيم الاجتماعية السائدة بصورة بالغة، قد يفوق تأثيرها في الذكور، فيحتجن - بصورة أكبر - إلى مساعدة المجتمع العام لضبط سلوكهن الخلقي، وفي هذا يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : "إنما النساء على وَضَم، إلا ما ذُبَّ عنه"، فهنَّ في الضعف مثل اللحم الذي كان العرب يضعونه على الخشب للأكل، ولا يمنعون عنه أحداً أراده، "فشبَّه النساء وقلة امتناعهن على طلاَّبهن باللحم ما دام على الوضم"، فإذا اجتمع مع هذا الضعف الطبيعي فيهن: كون سن الشباب في العموم شعبة من الجنون؛ لغلبة الشهوات على العقل، وثبوت تلبُّس بعضهن بمسالك خلقية تُوجب عليهن العقاب الأخروي: كانت حاجتهن إلى الوسط الاجتماعي الصالح في غاية الأهمية؛ لمساعدتهن على ضبط السلوك وفق النهج الحق، حتى تحصل لهن السعادة في الدنيا، والنجاة في الآخرة.
15ـ الدور الجماعي في ضبط سلوك الفتاة
يمثل المجتمع سلطة قوية ضابطة، تتعدى - في حسِّ بعضهم - السلطة الأخلاقية، إلى أن يكون " المجتمع هو النموذج والمصدر لكل سلطة أخلاقية"، بحيث يفرض نظامه الأخلاقي على الجميع، في صورة شاملة ومطردة، لا تسمح بالشذوذ أو الانفلات؛ وذلك لما يحمله من ضغط الجماعة وقوتها السلطوية.(1/130)
والمجتمع المسلم إذا كان مستقيماً على النهج الحق، تتطابق تصوراته ومفاهيمه الخلقية مع سلوك أفراده الاجتماعي، فإن أي شذوذ خلقي يصدر عن بعض الأفراد: يضعهم في حالة من الغربة الاجتماعية، والشعور بالمنبوذية، مع فساد السمعة حين يشهد عليهم الناس بالسوء، فيضعف انتماؤهم إلى الجماعة، وتضعف - من جهة أخرى - ثقة الجماعة بهم، وإذا اقترن بهذا التوجه الجماعي: حصار مقاطعة ، فإن هذا من أشد أنواع العقوبات الجماعية التي يصعب على الفرد مقاومتها، والصمود لها، وهو أعظم أثرا، وأبلغ مضاءً في حق النساء عموماً والفتيات خصوصاً لحاجتهن الفطرية لمسالمة الآخرين والقبول عندهم، ورغبتهن الملحة للشعور الانتمائي، والرضى الجماعي.
وقد شرع الإسلام مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطه وضوابطه، وجعله واجباً على أفراد المجتمع رجالاً ونساءً حسب الاستطاعة؛ ليكون بمثابة مُنبِّه خارجي: يؤثر في استجابات الفرد في المواقف الاجتماعية المختلفة إلى درجة القسْر أحياناً، حتى تبقى للجماعة ثقافتها، وهويتها، ومعالم شخصيتها: تقاوم عوامل الذوبان والاضمحلال، خاصة وأن هناك نفوساً لا تحمل مبدأ لها، ولا شخصية تميزها، إنما تعمل: للتوافق الاجتماعي أياً كان، فإذا ضعف الضغط الاجتماعي الضابط لسلوك هؤلاء، والموجه لطاقاتهم، وضعف معه نفوذ رجال الحسبة وأعيان البلد: شعر هؤلاء بالضياع، وتزعزع في نفوسهم الانتظام الجماعي، وظهرت الفردية، وتمايَزَ سلوك الناس في مناهج مختلفة، حتى يصبح من العسير الشاق جمع الناس في أطر خلقية موحَّدة، ولعل مجتمع النساء - بطبيعته الفطرية - أحوج لهذا الضغط الجماعي؛ لكونهن عادة تحت رعاية غيرهن من أفراد المجتمع، وأصحاب القرار.(1/131)
ولعل مما يُعين الفتاة على القبول بسلطة الجماعة أن تعرف أن التزامها بالنظام الأخلاقي الذي يفرضه المجتمع له مردود إيجابي ليس فقط على المجتمع، بل يتعداه إلى ذاتها من حيث أنه يُدرِّبها على التحكم في أهوائها ورغباتها، كما أنه يساعدها على تكوين شخصيتها، وظهور إرادتها المفكرة.
16ـ أهمية السلطة السياسية في ضبط سلوك الفتيات
ينتظم سلوك الأفراد الاجتماعي بوسائل ثلاث، الأولى: من خلال الوازع الداخلي للأفراد، الذي يلح عليهم بالخير والفضيلة، والثانية: من خلال الاستقرار السياسي، حيث يخضع الأفراد في البيئات المستقرة للمؤسسات الاجتماعية بصورة كبيرة، ويتمسكون بالعادات والتقاليد إلى حدٍ جيد، في حين تتزعزع هذه القناعات، والالتزامات السلوكية في فترات الأزمات، والانقلابات السياسية، وأما الوسيلة الثالثة: فمن خلال القانون الذي يفرضه السلطان، ويقوم على تنفيذه، وهذه أبلغ الوسائل الثلاث، وأكثرها مضاء في الأفراد من الناحية العملية الواقعية، فإن إشاعة المبادئ وحدها لا تكفي لجرِّ العامة نحو الانضباط؛ لأنهم "لا يطيعون بالاحترام؛ بل بالرهبة، ولا يكفُّون عن الشر بإحساس الخزي؛ بل خوف العقوبات"، ومن هنا فلا بد أن تحاط المؤسسات الاجتماعية بهالة من الرهبة، وبأنواع من الثواب والعقاب حتى تدفع الأفراد نحو احترامها، والتزامها معاييرها، يقول عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مُبيِّناً أثر السلطان السياسي في انتظام العامة: "إن الله ليزعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، يعني: أن من "يكفُه السلطان عن المعاصي أكثر ممن يكفُّهُ القرآن بالأمر والنهي والإنذار"، فهم عند الهم باقتراف المنكرات، والانحرافات السلوكية "يخضعون للضرورة أكثر من العقل، وللعقوبات أكثر من الشرف"؛ لهذا لا بد من السلطة القوية الرادعة التي تبعث هذا الأثر في النفوس.(1/132)
وفترة الشباب - عند الجنسين- أحوج لهذا الضبط؛ لكثرة التعثُّر، وغلبة الشهوات، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما عاقب شاباً على سوء أدبه: "إياك وعثرة الشباب"، فللحاكم المسلم تأديب الرعية، والشباب خاصة، والنساء والفتيات عند الحاجة بما يضبط سلوك الجميع، فقد نصَّ العلماء على وجوب منع الحاكم خروج النساء متبرجات في الشوارع يفتن الناس، وعليه منعهن من الحديث مع الرجال في الطرقات، وله الحق في إنزال العقوبات الرادعة على من يخالف منهن في ذلك بالسجن، أو إفساد ملابسهن، حسب ما يراه نافعاً لهن، ورادعاً.
17ـ الدعوة إلى حقوق المرأة
إن مشكلات الأمة الإسلامية مشكلات كثيرة ومتشعبة، وكثيراً ما يرتبط بعضها ببعض، فمن الصعوبة بمكان وضع حل لمشكلة ما دون حل أسبابها وجذورها، والمتغيرات التي تتدخل في صنعها، وهذا جار في وضع المرأة ومشكلاتها، فلا يكفي مجرَّد إصدار قانون،أو تنظيم لحل مشكلة من مشكلات المرأة، وإنما الحاجة ماسة إلى الحلول الشاملة للمشكلات، بحيث يُنظر للمشكلة وجذورها، والأسباب المثيرة لها، ثم يُوضع الحل الأمثل في ضوء كل ذلك.(1/133)
وكثيراً ما يتوجه الحديث عن حقوق المرأة والمطالبة بها، دون الحديث عن واجباتها وما ينبغي أن تقوم به، فإن الرابطة في غاية القوة بين الحقوق والواجبات، ولا يمكن أن يقوم نظام اجتماعي صحيح إلا بهما معاً، إلا أن التوجه العالمي يُقر الجميع على المطالبة بحقوقهم ولا يُلزمهم بواجباتهم، في حين أن الأصل أن يقوم العضو الاجتماعي بواجباته ثم يُطالب بحقوقه، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل قامت المرأة السعودية بواجباتها المناطة بها قبل أن تطالب بحقوقها، أم أنها قصَّرت في شيء من واجباتها فقصَّر المجتمع بالتالي فيما عليه من حقوق تجاهها، فكم وجدنا في مجتمعنا من نساء سعوديات زلَّت بهن القدم في مهاوي الرذيلة والقبائح في: السرقة، والغش، والتدليس، والسحر، والزنا، وهذه الإحصاءات الرسمية التي تصدرها وزارة الداخلية في كل عام تشير بصراحة إلى مثل هذا الهبوط السلوكي في بعض النساء السعوديات. ولئن كان هؤلاء النسوة لا يشكِّلن- قطعاً - الأغلبية فإن المظلومات أيضاً في المجتمع والمضطهدات لا يشكلن أيضاً الأغلبية، ومن هنا فلا يصح تهويل وتضخيم الشكوى من ظلم الرجل للمرأة، حتى إن الناظر في بعض ما يُنشر يظن أن المجتمع قد انقسم إلى قسمين : رجال ظلمة ونساء مظلومات، فلابد من الاعتدال في النظرة، والموضوعية فيها.(1/134)
وكثيرًا ما تطالب النساء بحقوقهن ولا يبالين - في كثير من الأحيان - بحقوق الآخرين، والواقع التاريخي، والطبيعة الفطرية، والنظر المنطقي يشهد بأن المرأة لا يمكن أن تنال حقوقها بصورة متكاملة قبل أن ينال الرجل حقوقه، ولا يُعرف مجتمع في القديم أو الحديث نالت فيه النساء حقوقهن دون الرجال، والثابت أن الخير أو الشر، الحق أو الباطل كل ذلك يصل إلى المرأة عن طريق الرجل، فهي دائماً، وبصورة مستمرة تبع لجملة الرجال في كل هذا؛ ولذا لا تكاد تجد المرأة رأساً في الخير أو رأساً في الشر، وإنما هي تبع في كل ذلك لأهل الخير أو لأهل الشر من الرجال.
ومن المعلوم أن الظلم الذي يقع على النساء في أي مجتمع لابد أن جزءاً منه قد وقع على الرجال، ولا يُعرف مجتمع ظُلم فيه النساء خاصة دون الرجال، إلا أن حجم الظلم وآثاره تكون عادة أثقل على النساء والأطفال منها على جملة الرجال.
إن صور الظلم الاجتماعي لا تتخذ - بصورة دائمة - اتجاهاً واحداً من الرجال على النساء كما يصورها بعضهم، فكم من مظالم قادتها النساء تجاه الرجال من الاختلاسات المالية، والخيانات الزوجية، والاستغلال الاجتماعي، بل وحتى القتل، أو التآمر عليه، كل ذلك موجود، ولو رُصد لكان كثيراً، ومع ذلك لا يُتحدث عنه في ظل الحديث عن حقوق المرأة، وكأن الحقوق يمكن أن تُعطى للمرأة دون قيامها بواجباتها تجاه الرجل: الأب، أو الأخ، أو الزوج، أو الولد.
ثم إن الظلم لا يتخذ هذين الاتجاهين فحسب فهناك ظلم المرأة للمرأة، من الكيد بين المتنافسات، لاسيما الضرائر، والحاقدات والحاسدات، إضافة إلى ظلم الأم والأخت والابنة والحفيدة وأم الزوج وغيرهن ، كل أولئك يشاركن في مظالم المرأة وليس الرجل وحده هو الذي يظلم المرأة .(1/135)
إن من الثابت واقعياً وتاريخياً أن الرجل حين يكون صالحاً هو الذي يعطي عن طواعية الحقوق للمرأة، وأما قوة السلطان فإنها محدودة النفوذ، ولن تكون كافية لزجر المعتدين على حقوق النساء، والواقع العالمي والمحلي يشهد بهذا، فعلى الرغم من كل الاحتياطات الأمنية في العالم المتقدم لحماية النساء من الاعتداء في الشوارع والبيوت والنوادي وغيرها فإن الاعتداءات بكل صورها مستمرة عليهن ومتنامية، ولن يوقفها إلا صلاح الرجل بإذن الله، ثم إن السلطة مهما ادعت من النزاهة والموضوعية فإنها لا تعدو أن تكون رجلاً مرة أخرى؛ فإن السلطات في العالم يقوم عليها الرجال، فلن تأخذ المرأة حقها صحيحاً موفَّراً إلا بصلاح الرجل.
18ـ المرأة السعودية والتغيير الاجتماعي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، ورسول رب العالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد ..
فإنه في خضم الصراعات الفكرية والسياسية والاجتماعية تحتل قضايا المرأة، وما يتعلق بشؤونها مساحة إعلامية واجتماعية كبيرة، ولاسيما بعد قيام جمع من المؤتمرات العالمية الخاصة بها، مما دفع كثيراً من الدول لإثارة قضاياها، إضافة إلى الضغوط العالمية، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي أفرزت وضعاً عالمياً شاذاً، سمح للغربيين، ولاسيما للولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل بصورة سافرة في شؤون الدول الإسلامية، مطالبة بالتطوير والتعديل والتغيير الموافق للوجهة الغربية.
ولقد واجهت المملكة العربية السعودية جزءاً ضخماً من هذه الضغوط الدولية الرامية إلى التغيير الاجتماعي، إضافة إلى ظهور فئات من الشباب المتطرف المتهور الناقم على التسلط الغربي ونفوذه، مما دفع المسؤولين لعقد جمع من الحوارات الوطنية للمناظرة والمناقشة، وتبادل الرأي حول المستجدات الجديدة، وتقديم المقترحات الرامية لتحقيق وحدة البلاد، وحل الأزمات.(1/136)
إن وضع المرأة المسلمة، وخصوصياتها الاجتماعية، وأحكامها الشرعية الخاصة بها، كل ذلك يقف حجر عثرة في وجه التغيير الاجتماعي الذي يهدف إلى قلب نظام الحياة الاجتماعية الإسلامية، وتغيير وجهتها الدينية.
ومازال وضع المرأة المسلمة محور خطط التغيير الاجتماعي الرامية إلى الانسلاخ الجزئي أو الكلي من هذا الدين، وبتغيير وضع المرأة يتغير المجتمع، ولهذا يقف الفضلاء في المجتمع السعودي من خطط التطوير، ومقترحات التغيير موقف المتوجس الحذر، مما قد يجرُّ إلى ما هو أبعد من المخاطر الأخلاقية والسلوكية، التي كان يمكن ردها، أو التخفيف منها، أو تأخيرها - على الأقل- بوقفة ممانعة سداً للذريعة.
إن الواقع العالمي في ظل مفهوم العولمة الاقتصادية والسياسية يضغط على أمتنا الإسلامية، ولاسيما على بلاد الحرمين - حرسها الله - لتغيير وجهتها الإسلامية، فهل من المنطق الشرعي والعقلي أن يُواجه هذا الضغط العالمي بالتراخي والترخُّص، أم أن المنطق الشرعي يُلزمنا بالعزائم ورفع الهمم ؟.
ولا يعني هذا أن لا نستخدم الحكمة في مواجهة الضغوط العالمية، بما يضمن تحقيق أكبر قدر ممكن من المصلحة، ودفع أكبر قدر ممكن من المفسدة، ولكن لا يصح أن تُفهم الحكمة على أنها التنازل عن الثوابت الشرعية.
إن المرأة السعودية مدعوة اليوم بكل صدق إلى النظر والتأمل في المجتمعات العربية والإسلامية والأجنبية من حولها، ثم لترجع إلى نفسها بالسؤال : أي هذه المجتمعات ترجو أن يكون مجتمعها السعودي على صورته ؟ وهل يمكن لها - في ظل التغيير المنشود– أن تحافظ على إنجازاتها الكبرى, ونجاحاتها التي تحققت ولله الحمد في كثير من الميادين العلمية والعملية الخاصة بالمرأة السعودية.(1/137)
إن الواقع يشهد أن فرص التغيير التي ينشدها بعضهم لن تخرج - في الجملة - عن هذه النماذج الاجتماعية من حولنا، وأنى لنا بكل ضعفنا، وقلَّة خبرتنا أن ننفرد بنموذج جديد مبتكر يوافق قيمنا، إلا أن يكون في قضايا جزئية يفرضها المجتمع لحسِّه الإسلامي كالفصل بين الجنسين في التعليم ونحو ذلك، وإلا فإن الناظر فيما تعرضه وسائل الإعلام في مجتمعنا حينما لم يكن للمجتمع دوره في الاختيار والضغط ليهوله حجم المخالفات الشرعية، والتجاوزات الأخلاقية، التي تُذاع وتُعرض، مخالفة بذلك وجهة المؤسسة الدينية في البلاد.
19ـ المرأة والخدمات الحكومية
كم هو جميل أن تقوم خدمات خاصة في جميع المرافق والدوائر الرسمية التي تحتاجها المرأة, بحيث تتخذ آليات إدارية وتنظيمية تهدف إلى خدمة المرأة في بيتها, فلا تعاني النقل والمواصلات, ولا المراجعات في الدوائر الحكومية, ولعل أقل القليل أن يكون لهن أماكن في الدوائر التي يحتجنها, فيُخْدمن من هناك دون مطالبتهن بالدوران على الموظفين في الإدارات, كما هو قائم في بعض الجهات الحكومية, بحيث تتمكن إحداهن بصورة كاملة من تحقيق مصلحتها الشخصية, وقضاء حاجتها الإدارية من موقعها المخصص لها داخل الإدارات.
20ـ المرأة السعودية والعلماء(1/138)
تتوجه بعض المقالات بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى وصم المؤسسة الدينية في بلاد الحرمين بالتشدد والتنطع, وسوء الفهم لباب سد الذرائع, وربما تغفل بعض البحوث ذكرهم بالكلية, وكأنهم لا علاقة لهم بالحوار الفكري حول المرأة, وهذا من شأنه إبعاد المرأة السعودية عن علمائها من أهل الفتوى في البلاد, وتهميش دورهم في توجيهها, ولعل ما نشاهده من تمادي الشباب المتطرف في البلاد في أعمال العنف والتخريب وعدم التفاتهم لفتاوى العلماء, ونداءاتهم المتكررة يدل على ضعف تأثيرهم حين همشنا أدوارهم, وتعاملنا مع توجيهاتهم بأسلوب الانتقاء, ومن المعلوم أنه ليس أحد أكثر تأثيراً في عقول المتطرفين الدينيين بعد الله تعالى من العلماء الشرعيين حين يكونون في المكانة المناسبة واللائقة بهم
21ـ مبررات منع المرأة من قيادة المركبات من المنظور التربوي الإسلامي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:(1/139)
فإن ظروف الحياة الاجتماعية المعاصرة تختلف عن فترات زمنية ماضية في العديد من جوانبها، فقد أصبح التجديد، والتطور، والتغير سمات بارزة لطبيعة الحياة المعاصرة، ولم تعد لدى غالب فئات المجتمع تلك القناعات السابقة التي كانت تحدُّ من عنف تيار التغيير الجارف. وقد أسهمت الطبيعة المتسارعة للحياة المعاصرة في زعزعة كثير من الثوابت الأخلاقية والعرفية، وشارك في ذلك التقدم التقني الهائل، وما رافقه من الإنتاج الصناعي المذهل، الذي انفتحت أمامه أسواق العالم التجارية - رغبة ورهبة - في الوقت الذي لم يكن للأمة المسلمة - ضمن هذه المنظومة العالمية المتسارعة، والتطور العلمي والتقني - أيُّ دور جاد في هذا البناء الحضاري المعاصر يُخوِّلها فرضَ معاييرها الاعتقادية والأخلاقية، أو حتى لاحترامها والاعتراف بها ضمن ثقافات الأمم المتغلبة، مما أوقع الأمة المسلمة في شباك مصالح الآخرين المادية والفكرية، وزاد بالتالي من تمزُّقها وتفككها.
ولقد عاشت الأمة زمنًا ليس بالقصير تقاوم رياح التغريب، وتدفع عن نفسها موجات التغيير، إلا أن هذا الصمود وتلك المقاومة لم تدم طويلاً، حتى أخذت حصون الأمة تتداعى، ومعاقلها تتهاوى أمام قوى الغزو الفكري الجارف. حتى بلغت الأمة عصر العولمة، والانفتاح الثقافي العالمي الذي لم يكن ليبقي للأمة خصوصية تتميز بها، أو أصلاً تلوذ به، حتى وصل الداء إلى أخصِّ خصوصيات الأمة الاجتماعية، وأهم ما يُميِّزها - اجتماعيًا - عن غيرها وهي قضية المرأة، ونوع الحياة التي يجب أن تحياها.(1/140)
لقد أدرك الغربيون أن تغيير نمط الحياة الاجتماعية للأمة المسلمة لا يمكن أن يتم إلا من خلال تغيير أسلوب وأهداف تربية المرأة المسلمة، فكانت الهجمة - منذ فترة ليست قصيرة - على الوضع الاجتماعي للمرأة المسلمة في غاية القسوة، توَّجتها - في السنوات الأخيرة - مجموعة من المؤتمرات العالمية والندوات المحلية تُؤصِّل من خلال توصياتها توجهات عالمية عامة توحِّد نهج تربية المرأة في جميع أقطار العالم، وتُذيب الفوارق الثقافية، والأنماط الاجتماعية لتصب نساء العالم في قوالب ثقافية من شكل واحد، لا يفرِّق بينهن سوى ما تفرضه الجينات الوراثية من الألوان والأشكال.
ولقد عانت المملكة العربية السعودية منذ زمن - ولا سيما في الفترة الأخيرة - من هجمات شرسة تستهدف الشريعة الإسلامية، ونمط الحياة الاجتماعية المحافظ، مما جعلها مقصودة من الدول الغربية ومنظماتها الإنسانية بالنقد والإساءة، تحت ستار حقوق الإنسان، مستهدفة بذلك وضع المرأة في بلاد الحرمين، وحقوقها المسلوبة - حسب زعمهم - في شكل لباسها، وأسلوب سفرها، ونوع ارتباطها الأسري، ومجالات عملها، وغيرها من قضايا المرأة المسلمة الحيوية.
وقد كان من بين هذه الانتقادات الموجهة إلى بلاد الحرمين حرمان المرأة من حق قيادة المركبات أو ما يسمى اليوم بالسيارات، بحجة أنه أصبح حقًا عامًا تستمتع به كل امرأة راغبة في الدول الأخرى. دون نظر جاد لعواقب الأمور، وطبيعة المرأة، والخصوصية التي تتميز بها بلاد الحرمين الشريفين.
ولقد كان هذا الموضوع موضع اهتمام الباحث منذ زمن, ولا سيما بعد أن احتدم الصراع عبر وسائل الإعلام بين المشجعين والمانعين، رغبة في بيان وجه الصواب ضمن المنهج التربوي الإسلامي، الذي يعتمد الكتاب والسنة أساسًا للانطلاقة الفكرية والعلمية.
مدخل :(1/141)
تعتبر المواصلات من أهم المشكلات التي تواجه المرأة العاملة في هذا العصر، ولا سيما بعد التوسع الهائل في تشغيل النساء الذي شهده سوق العمل ضمن خطط التنمية المتعاقبة التي توصي بمشاركة النساء في التنمية الشاملة؛ ولهذا يضيق بعض النساء العاملات والمتحمسون لهن في البلاد المحافظة بالمنع من مزاولة المرأة قيادة السيارة، ويشعرن بالضيم، فلا يزلن يطالبن بذلك، دون نظر جاد لعواقب الأمور .
ورغم أن مهارة قيادة المركبات الصغيرة من حاجات هذا العصر المهمة : فإنها لا تبلغ عند المرأة المسلمة درجة الضرورة التي تبلغها عند رب الأسرة، بل ولا تبلغ درجة الحاجة التي تبلغها عند الشاب العَزَب الذي لا يقوم على أسرة، فهي في حقها في الأعم الأغلب من باب التحسينيات التي لا تتضرر بنقصها، والنادر - كما هو معروف - لا حكم له ؛ ولهذا يُلاحظ في البلاد التي تسمح للمرأة بالقيادة توافر السيارات لدى الشباب أكثر بكثير من توافرها لدى الفتيات ، كما أن إتقان مهارتها يكاد يكون عامًا لدى غالب طلاب المرحلة الثانوية وكثير من طلاب المرحلة الإعدادية، حتى إن الشاب منهم يشعر بأن السيارة جزء من حياته، وعدم امتلاكها يمثل له نوعًا من الحرمان .
ورغم أن غالب دول العالم تسمح للنساء بممارسة هذه المهارة دون حرج، ورغم إتقان كثير منهن لها بصورة كبيرة ، ورغم ممارسة جمع منهن لهذه المهارات في بعض الأرياف خارج المدن : فإن المختار في هذه القضية المنع، حتى في البلاد التي سمحت بها، واعتادها بعض النساء، فإن الأولى تركها، وإفراغ الوسع في تجنُّبها ، لا لكون مهارة القيادة محرمة في ذاتها ولكن لما يمكن أن تفضي إليه من المحظورات المتعددة. ولعل فيما يلي من المبررات ما يجلي هذا التوجه ويقوي اختياره:
أولاً: المبرر الفقهي لمنع المرأة من قيادة المركبات:(1/142)
ويظهر هذا المبرر في كون الشريعة مبناها على جلب المصالح ودفع المفاسد، فما غلبت مصلحته أباحته، وما غلبت مفسدته منعته . فالمأمورات والمنهيات في الشريعة تشتمل كل منهما على مصالح ومضار، والحكم في كل منها على الأغلب . يقول ابن عبد السلام: "المصالح المحضة قليلة وكذلك المفاسد المحضة، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد... والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما رجحت مفسدته على مصلحته". وهذه المسألة في تقديم الجهة الغالبة: من مسائل الإجماع عند العلماء، الثابتة بالكتاب والسنة والعقل، خاصة في هذا العصر الذي اختلطت فيه المصالح بالمفاسد بصورة كبيرة .
ومن هنا جاء باب سد الذرائع المفضية إلى المفاسد ، أو المؤدية إلى إهمال أوامر الشرع، أو التحايل عليها ولو بغير قصد ، فإن "سد الذرائع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، وحقيقته: منع المباحات التي يُتوصل بها إلى مفاسد أو محظورات... ولا يقتصر ذلك على مواضع الاشتباه والاحتياط؛ وإنما يشمل كل ما من شأنه التوصل به إلى الحرام"، فالشارع الحكيم إذا حرَّم أمرًا حرَّم الوسائل المفضية إليه؛ فإن "الوسائل تبعٌ للغايات في الحكم"، و"وسائل الحرام حرام" ، و"ما أفضى إلى حرام حرام".(1/143)
والمسألة الفرعية التي يختلف في حكمها الناس: يُؤخذ فيها بالإجماع، فإن لم يُوجد، أخذ بالأحوط، ثم بالأوثق دليلاً، ثم يُؤخذ بقول من يُظن أنه أفضل وأعلم . ولا شك أن ترك المرأة لقيادة السيارة في هذا العصر هو الأحوط على أقل تقدير؛ فإن"فعل ما يُخاف منه الضرر إذا لم يكن محرماً فلا أقَلَّ أن يكون مكروهاً"، حتى وإن تكلف رب الأسرة مهام نقل نسائه، أو اضطر لجلب الرجل الأجنبي لتولي هذه المهمة - كما هو حاصل في بعض البلاد - فإن هذا في العموم أهون الشرين، وأخف الضررين؛ لأن الضرر الخاص الذي يتكلفه هذا الأب وأمثاله، وما يمكن أن يحصل من الرجل الأجنبي يُتحمل في سبيل دفع الضرر العام الذي يمكن أن يعم المجتمع بتوسيع دائرة قيادة النساء للسيارات، فإن المفسدة العامة المنع فيها أشد من المفسدة الخاصة .(1/144)
كما أن الفقهاء لا يعتبرون الطريق خلوة، فإنما الخلوة: الأمن من اطلاع الناس؛ بحيث يجتمع رجل بامرأة "في مكان لا يمكن أن يطلع عليهما فيه أحد، كغرفة أغلقت أبوابها ونوافذها وأرخيت ستورها"، أو في فلاة لا يصلهما فيها أحد. ويُستأنس في هذا المقام بما نقله المروزي عن الإمام أحمد رحمهما الله حين سُئل عن: "الكحال يخلو بالمرأة وقد انصرف من عنده النساء، هل هذه الخلوة منهي عنها؟ قال: أليس هو على ظهر الطريق، قيل: بلى، قال: إنما الخلوة تكون في البيت". ثم إن مبدأ خدمة الرجل الأجنبي في السفر حين يركب النساء الهوادج كان أمرًا معلومًا منذ القديم، وقد كانت النساء زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحملن في الهوادج، ويقوم الرجال على خدمتهن وحمل هوادجهن . ولا يفهم من هذا التهاون في مسألة خلوة السائق بالمرأة ، فإن المفروض تقليل مثل هذه الفرص، وضبطها قدر المستطاع؛ بل إن بعض العلماء يرى أن ركوب المرأة وحدها مع السائق الأجنبي أخطر من الخلوة به في البيت ؛ لكونه يستطيع أن يذهب بها حيث شاء. وقد عالجت بعض الأسر في البلاد التي يُسمح فيها بقيادة المرأة للسيارات مشكلة الخلوة بطريقة عجيبة حيث جلبت من بعض البلدان الأجنبية نساء سائقات. يتولين هذه المهام بدلاً من الرجال الأجانب .
ثانيًا: المبرر الأخلاقي لمنع المراة من قيادة المركبات:(1/145)
وتظهر قوة هذا المبرر من حيث المفاسد الكثيرة التي يمكن أن تترتب على انطلاق النساء والفتيات بهذه المركبات الخاصة من: هجران المنزل، والسفر بغير محرم، والتعرض للمضايقات، والاختلاط بالأجانب، والتوسع في مجالات عمل المرأة المتعلقة بشؤون النساء السائقات، إضافة إلى مشكلات صيانة مركباتهن ضمن أجواء لا تناسب المرأة المسلمة، مع الاضطرار لكشف الوجوه، إلى مفاسد كثيرة يمكن أن تحدث إذا استمرأ المجتمع صورة المرأة السائقة ؛ فإن غالب التغيرات الاجتماعية التنازلية تبدأ باليسير ثم تنتهي بما لا قِبَل للمجتمع به، وكما قيل: معظم النار من مستصغر الشرر؛ ففي بريطانيا قبل خمسين سنة تقريبًا كانت المرأة لا تحصل على رخصة القيادة إلا بعد إذن زوجها ، ثم ما لبث أن فتح لهن الباب على مصراعية. وفي إحدى البلاد المحافظة كانت المرأة لا تركب المواصلات العامة الصغيرة إلا مع محرم لها، ثم تبدل الوضع وتوسع الأمر دون نكير . وهكذا طبائع الناس تنتقل من الأهون إلى الأشد بالتدريج حتى يصبح الممنوع مرغوبًا فيه، والسيارة كمركبة متحركة داخل المجتمع ليست حصنًا للمرأة من أن تُنال بسوء، أو تتعرض للفتنة، أو تعرض غيرها للافتتان، ولا سيما عندما تتعطل مركبتها في أماكن لا تأمن فيها المرأة على نفسها.
ثالثًا: المبرر الصحي لمنع المراة من قيادة المركبات:(1/146)
ومبنى هذا المبرر أن الشريعة تنهى عن التعرض للهلاك؛ إذ حفظ النفس منمقاصدها ، وقيادة المرأة للسيارة يعرضها للتلف ، فإن السيارة آلة عنيفة لا تناسب طبيعة الإناث، وقد أكدت ذلك دراسة بريطانية على مجموعة من النساء السائقات، حيث توصلت إلى "أن 58% منهن يتوفين قبل الأربعين، و 60% منهن يصبن بأمراض نفسية، وقالت الدراسة: إن قيادة المرأة للسيارة لا تليق ولا تتناسب معها". ولا تزال هذه الآلة تتصف بالعنف حتى بعد تطورها، فإن حوادثها على المستوى العالمي في غاية القسوة، وغالبًا ما يتعرض لها العُزَّاب من الشباب، والنساء المبتدئات، وينفرد الشباب بأعنف وأشد حوادثها . وقد أشارت الإحصاءات أن نسبة ضحايا حوادث المرور في دول الخليج تفوق نسبتها في أمريكا وبريطانيا ؛ حيث يهلك في كل ساعة سبعة أشخاص في دول مجلس التعاون الخليجي ، ويهلك في المملكة العربية السعودية وحدها - التي سجلت أعلى معدل لحوادث السير في العالم - حوالي سبعة أشخاص يوميًا .
وبلغ عدد الحوادث في العالم العربي خلال عام 2000م نصف مليون حادث، نجم عنها اثنان وستون ألف قتيل . ولا شك أن توسع النساء في هذه الممارسة سوف يزيد من نسبة تعرضهن للهلاك، مما يجعل هذه المهارة خطيرة على شخص المرأة، وعلى دورها التناسلي الذي يستوجب مزيدًا من السكون والاستقرار ، إلى جانب ما يحدثه هذا التوسع من استنزاف للبيئة وتلويثها .(1/147)
ويحاول بعض المتحمسين لتمرير موضوع قيادة المرأة للسيارة بضبطه من خلال منعهن من السفر بسيارتهن خارج المدن، والسماح لهن بقيادتها في فترات النهار دون الليل. وقد اتضح من خلال بعض الدراسات المحلية بالمملكة العربية السعودية أن 79% من حوادث السيارات تحصل داخل المدن، و65% منها تحصل في فترات النهار، كما أن 65% من هذه الحوادث تشارك فيها سيارات من الحجم الصغير ، وهو الحجم المناسب من السيارات المرشح للمرأة. ويضاف إلى كل هذا وجود تلك العلاقة القوية بين ارتفاع درجة حرارة الجو وزيادة عدد الحوادث ، ومن المعلوم أن دول الخليج من أكثر دول العالم ارتفاعًا في درجات الحرارة. ولما كان غالب حوادث السيارة "تقع في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الإنسان في أعمق فترات النوم"؛ فإن مزيدًا من الحوادث المرورية سيكون من نصيب المرأة العاملة السائقة؛ لكونها أكثر فئات المجتمع على الإطلاق جهدًا، أقلهن نومًا. ثم إن متغير التعليم والزواج لا دخل لهما في التقليل من حوادث السيارات؛ فقد دلت إحدى الدراسات في المملكة العربية السعودية على أن أكثر من 76% من السائقين المشتركين في حوادث المرور من المتعلمين، وأكثر من 53% منهم من المتزوجين؛ مما يدل على أن التعليم والزواج لم يخففا من أزمة الحوادث المرورية .
رابعًا: المبرر الفطري لمنع المرأة من قيادة المركبات:(1/148)
وتظهر حجة هذا المبرر من حيث رقة جهاز الأنثى العصبي الذي لا يساعدها على حسن الأداء ، وسرعة ارتباكها في أثناء القيادة لأبسط الأسباب ، إلى جانب الخوف الذي ينتابها عادة من المسافات الطويلة ، والخوف أيضًا من المناطق المفتوحة، الذي يزيد عند الإناث كلما كبرت أعمارهن، وهو ما يُسمى برهاب الساح، وهو نوع من الخوف ينتاب بعض الناس من المناطق المزدحمة والمفتوحة، إلى جانب ضعف قدراتهن على تعلم المفاهيم الجغرافية، كالمواقع والأماكن وتقدير الحيز الفراغي المرئي والمسافات، وقلة خبرات السفر لديهن؛ ولهذا يُلاحظ أن الإناث أقل قدرة على تعلم المفاهيم الجغرافية من المذكور. ولا شك أن هذه القضايا الفطرية مهمة لإتقان مهارة القيادة.(1/149)
وأهم من هذا كله الضعف الصحي العام الذي لا تنفك عنه المرأة في العموم من آثار الدورة الشهرية، ومضاعفات النفاس وفترة الحمل، من حيث: الانفعالات النفسية، وارتفاع الضغط، وكثرة الصداع، والتوتر، والقلق، والتذبذب، والكآبة، وحدة المزاج، والآلام العامة خاصة في الحوض والظهر، والغثيان، وما يصيب عامة النساء الحوامل من الاضطرابات النفسية، وما يرافق ذلك من انكماش فطري طبيعي في حجم الدماغ عندهن في أثناء الحمل، وما يصاحب ذلك من ضعف الذاكرة، وصعوبة التذكر. إلى جانب تأثير هذه الأعراض على الاتزان العام، مما قد يدفع المرأة في هذه الظروف الفطرية إلى شيء من العنف والعجلة في بعض المواقف ؛ ولهذا يشير العديد من الدراسات والإحصاءات المختلفة إلى ارتفاع نسبة تعرض المرأة أكثر من الرجل للاضطرابات النفسية، وحدة الانفعال، والانهيارات النفسية خاصة في هذه الفترات الفيسيولوجية، وبعد الولادة، وفي سن اليأس، وبعد عمليات الإجهاض. ومن المعلوم أن واحدة من هذه الأعراض الجسمية لا تسمح للرجل واقعيًا ولا نظاميًا بالقيادة، فكيف بها مجتمعة؟ ولا شك أن ما بين ربع إلى ثلث النساء على الأقل يقعن تحت هذه التأثيرات الفطرية بصورة دائمة، بمعنى أن ثلث النساء في المجتمع لا يصلحن - تحت ضغط هذه الطبيعة الفطرية وتأثيراتها الجسمية - لقيادة السيارات. ولعل هذه الأسباب كانت وراء قلَّة أعداد النساء السائقات في العالم مقارنة بأعداد الرجال.(1/150)
ولعل أعظم من هذا وأخطر: التأثير السلبي لنزيف الدماء الطبيعية على حاستي السمع والبصر عند المرأة - أهم عناصر هذه المهارة - ولهذا يُلاحظ كثرة حوادث النساء المرورية في العموم ، ولاسيما في أثناء فترة الحيض وما قبلها بقليل ،حيث تزيد لديهن العصبية، وتكثر لديهن الغفلة والنسيان والشرود الذهني، وهن في العموم يعانين من نقص في الاتزان النفسي والفسيولوجي، يجعلهن أكثر تعرضاً للسآمة والتعب، وأقل انتباهاً وتركيزاً، وأميل للتوتر والقلق، ولاسيما المرأة العاملة، التي تجمع بين العمل الوظيفي ومسؤولياتها المنزلية ؛ لذا فإن النساء أكثر تعرضاً لعصاب قيادة المركبات من الذكور ، مما يجعل قضية القيادة بالنسبة لهن في غاية الحرج. ومن المعلوم أن السائق هو همزة الوصل بين المركبة والطريق، وصفاته الوراثية والمكتسبة ومهارته وخبرته تلعب أدوارًا رئيسة في حصول الحوادث، وقد ثبت يقينًا من خلال الواقع أن السائق يتحمل أكثر أسباب الحوادث المرورية، وهي مرتبطة - إلى حد كبير - بشخصيته، فقيادة السيارة تشكل ضغطاً على نفس قائدها حيث يحتاج إلى طاقات نفسية وذهنية وجسمية، تمكنه من التعامل مع الطريق وشكله، وما يحويه من متغيرات كالسيارات الأخرى، والمارة، وإشارات المرور، وظروف الازدحام، وهذا يتطلب من السائق درجة عالية من الانتباه ، والتركيز، والتوازن النفسي ، وقدرة جيدة على الحركة التلقائية السريعة التي تحصل له بالخبرة والمران ، وتأتي بعفوية دون قصد.
ولعل هذه الأسباب الفطرية في عنصر النساء، مضافاً إليها هذه الشروط المطلوبة في السائق كانت السبب في رفع قيمة التأمين على السيارات التي تمتكلها النساء ، ومن المعلوم أن شركات تأمين السيارات تراعي ظروف الشخص المتقدم لطلب التأمين؛ ولهذا تزيد من قيمته على الأشخاص المطلقين ؛ لكونهم في الغالب يعيشون حالة من التوتر النفسي الذي يعد سببًا رئيسًا في وقوع الحوادث.(1/151)
خامسًا: المبرر الاقتصادي لمنع المرأة من قيادة المركبات:
ويظهر هذا المبرر من الناحية الفقهية في حالات حوادث المرور وما يقع فيها من الجنايات؛ حيث تُعفى المرأة مطلقًا من المشاركة في دية المقتول خطأ حتى وإن كانت هي الجانية، في حين يشترك الجاني البالغ من الذكور - على خلاف بين الفقهاء - مع باقي العاقلة من القرابات في دفع دية القتل الخطأ، بل وتستمتع المرأة مع الورثة في الحصول على نصيبها من دية زوجها، في الوقت الذي لا تُكلَّف فيه مع العاقلة بشيء، وهذا فيه إجحاف اقتصادي بحق رجال الأسرة من العصبات إذا مُكِّنت الفتيات من ممارسة أسباب العطب، خاصة إذا شعرن بالأمان من مغبة تحمل الغرامة المالية، ومن المعلوم أن الأصل في إلزام العاقلة دفع الدية في حال القتل الخطأ - مع ما فيه من التعاون - هو تأديبها لتقصيرها في كفِّ المستهترين والطائشين المنتمين إليها من العبث بأمن المجتمع، مما يدفعها - بصورة تضامنية جماعية - لحفظ سفهائها، ومن يُتوقع منهم الخطأ الذي يُكلفها الغرامات المالية .(1/152)
وأما الزعم بأن مسألة الدية في مثل هذه الجنايات قد انحلت اليوم من خلال التأمين التجاري فلا حاجة إلى نظام العاقلة؛ فإن هذا النوع من التأمين القائم اليوم في المعاملات التجارية ممنوع شرعاً , والضرر - كما هو معلوم شرعاً - لا يُزال بضرر, والخطأ لا يُعالج بخطأ.كما أن التأمين التعاوني - الغائب من المعاملات الاقتصادية المعاصرة - لو عُمل به في مثل هذه الجنايات - بالشروط الشرعية- لكان جلُّ ميزانياته تُنفق في جنايات النساء السائقات - ولا سيما المبتدئات منهن - والشباب المتهور، مما يُجحف من جديد بباقي المساهمين، من الحريصين على سلامة المجتمع وأمنه. ولهذا لن يرضوا بمشاركة هذه الفئات المتوقع منها الضرر بصورة كبيرة في صندوق تأمينهم التعاوني، مما سيضطر هذه الفئات - من جديد - للرجوع مرة أخرى بأزماتها الجنائية إلى العاقلة والعصبات، مما يُعطي لنظام العاقلة أهميته الاقتصادية والتعاونية، ودوره التربوي التوجيهي في الحياة الإسلامية.(1/153)
وفي الجانب الآخر من المسألة الاقتصادية: استهلاك الثروة في هذه المراكب، وتجميد الأموال فيها، والاستنزاف المالي في مصروفاتها، وخسائرها التي تُقدر في دول الخليج ببليون دولار، وفي المملكة وحدها بملياري ريال، إضافة إلى ضغط الحركة المرورية في البلاد النامية التي لا تتسع طرقها لمراكب الرجال فضلاً عن مراكب النساء والفتيات، خاصة بعد أن ثبت أن ازدحام الطرق من أعظم أسباب كثرة الحوادث . وفي بلد مثل المملكة العربية السعودية زاد عدد السيارات تسعة أضعاف ما بين عامي 1395ه و 1411ه ، وأعجب من هذا ما أشارت إليه الإدارة العامة للمرور بالمملكة أن واقع عدد السيارات عام 1405ه تضاعف عما كان عليه عام 1391ه ثمانية وعشرين ضعفًا ، وأعجب من هذا وأغرب ما أشارت إليه إحدى الدراسات أن عدد السيارات في المملكة تضاعف 38 مرة في الفترة ما بين عام 1391ه وعام 1413ه، كما أشارت الدراسة إلى أن ما بين كل 1000 شخص في المملكة هناك 350 شخصًا يمتلكون سيارة خاصة، رغم أن النساء لا يقدن فيها السيارات، في حين يملك في بريطانيا السيارة الخاصة من كل 1000 شخص 306 شخص .(1/154)
"وبالرغم من التوسع الهائل في المملكة في إنشاء الطرق داخل المدن وخارجها فإن هذا التوسع لا يُواكب الزيادة الهائلة في أعداد السيارات ووسائل النقل الأخرى، وهذا قد سبب - ولا شك - الكثير من الاختناقات المرورية والزحام الشديد في المواصلات خاصة في المدن الكبيرة كجدة والرياض". فهاتان المدينتان مع مدينة الدمام تستوعب ثلث سكان المملكة تقريباً . ولا شك أن لو سُمح للنساء بالقيادة لزاد عدد السيارات بصورة كبيرة لا تستوعبها الطرق، في الوقت الذي يُهدد فيه العالم - ولا سيما في الدول الصناعية - بزيادة عدد السيارات والتلوث البيئي. ومن المعلوم أن سحر السيارة الجديدة في هذا العصر مظهر من مظاهر الترف الذي يتنافس فيه الناس ، وسوف يكون في غاية القوة والترف إذا شارك النساء في هذه المنافسة الاجتماعية الأخَّاذة؛ لكونهن - بالفطرة - مأخوذات بعواطفهن، مشدودات برغباتهن. فلن يكون امتلاك السيارة عن حاجة بقدر ما يكون للمفاخرة والاستكثار، وقد دلَّ البحث الميداني في دول الخليج على أن عدد السيارات للأسرة الواحدة يزيد عند الأسر التي لا يشارك نساؤها في قوى العمل، وتقل أعدادها في الأسر التي يشارك نساؤها في قوى العمل؛ مما يدل على أن امتلاك السيارة ليس هو دائمًا للحاجة؛ فإن المرأة العاملة التي يقل لدى أسرتها عدد السيارات قد تكون أحوج إليها من غير العاملة التي يكثر لدى أسرتها عدد السيارات.
سادسًا: المبرر التاريخي لمنع المرأة من قيادة المركبات:(1/155)
يعتمد المؤيدون لقيادة المرأة للسيارة على المبرر التاريخي رغم أنه لا يُؤيد توجههم؛ فعلى الرغم من الفارق الكبير بين طبيعة وظروف قيادة السيارة وقيادة الدواب فإن النساء منذ القديم لم يكنَّ من أهل الخيل والفروسية إنما الخيل من مطايا الرجال ، وقد كان من المستغرب ركوب النساء للخيل في بلاد زنجبار في القرن التاسع عشر، والسيارات الخاصة أشبه مراكب هذا العصر بها ، فهي من هذه الجهة متعلقة بالرجولة إلى حد كبير. ولهذا لا يجد الباحث ذكرًا للنساء عند ذكر الخيل والفروسية؛ لما اشتمل عليه ركوب الخيل من البطولة والطلب والهرب، ومواقع القتال من الكر والفر ، مما لا يناسب الطبيعة الأنثوية، بل إن بعض القبائل في القديم كانت تُحرِّم على النساء ركوب الخيل لمعتقدات وأخلاق اجتماعية كانوا يرونها .(1/156)
وأما البغال - مع كونها ليست من المراكب الآمنة بصورة مطلقة - فقد نُقل عن بعض نساء السلف ركوبها وهنَّ مستورات بستور أو في بواطن الهوادج ، إلا أن الإبل كانت من أوسع مراكب النساء العربيات وألطفها بأحوالهن، ومع هذا لم يكنَّ - في الغالب - ينفردن بركوبها، فقد ارتبط ركوبهن عليها بالهوادج المستورة، التي يتولى قيادتها عادة ساقة الإبل من الرجال ؛ ولهذا ارتبط الهودج بالمرأة في تنقلها وأسفارها ، وحتى على مستوى التعريف اللغوي والاصطلاحي فالهودج مركوب المرأة ، وأبعد من هذا تفسير رؤية الهودج في المنام بالمرأة عند مفسري الأحلام . ومما يُشير إلى هذا أيضًا ويؤيده جواب التابعي أبي ثفال المري حين سُئل عن خروج المرأة؟ فقال: "لأي شيء تخرج؟ والله لا تنفر في النفير ولا تسوق البعير"، ولما استأذنت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة أردفها أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما خلفه على الدابة، ولم تنفرد بركوبها وحدها ، ومن المعلوم أن سائق إبل النساء يتلطف في سيره، ولا يشتد عليهن خوفًا من سقوطهن لقلة ثباتهن على الدواب ؛ فقد وصفهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقوارير ، يعني أنهن كالزجاج، "يُسْرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبْر". وقد وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها اعتناء الرجال، وقيامهم على بعيرها وهودجها فتقول: "وكنت إذا رُحِّل لي بعيري جلست في هودجي، ثم يأتيني القوم ويحملونني، فيأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به"، وفي خبر الإفك لما تأخرت عن الركب، وأدركها صفوان بن المعطَّل رضي الله عنه قالت: "ثم قرَّب البعير فقال: اركبي، واستأخر عني فركبت، فأخذ برأس البعير وانطلق سريعًا يطلب الناس"، يعني أنها لم تنفرد بقيادة البعير رغم وقوعها في مثل هذا الموقف الحرج، في خلوة مع شخص أجنبي، وما ترتب على مرافقته لها - بعد ذلك(1/157)
- من أزمة اجتماعية خطيرة. وفي هذا المعنى يصف الأخطل - شاعر الأمويين - رحيل النساء على الإبل حين يسوقهن الحادي، وقد رُحِّلت مراكبهن فيقول:
لبثن قليلاً في الديار وعُوليتْ .:. على النُجْب للبيض الحسان مراكب
إذا ما حدا الحادي المجدُّ تدافعت .:. بهن المطايا واستُحثَّ النجايب
وهذا كلُّه يُشير - في الجملة - إلى أن مهارة القيادة للآليات أو للدواب مرتبطة بالذكور ارتباطًا وثيقًا؛ بل إن المرأة المعاصرة لم تقد السيارة في أوروبا إلا قبل زمن يسير؛ فإلى الثلاثينات من القرن العشرين الميلادي كانت السيارة حكرًا على الرجل، ووسيلته لجذب المرأة وإغرائها بالزواج ، إلا أنه ذُكر أن صانع أول سيارة في ألمانيا عام 1888م سمح لزوجته أن تقودها لأول مرة أمام الجماهير. وهذا الخبر إن صحَّ لا يعدو أن يكون لطيفة من اللطائف الأوروبية؛ وإلا فإن تحريك عجلة القيادة إلى عهد قريب جدًا كان شديدًا على الرجل المكتمل البنية فضلاً عن أن يكون سهلاً بيد المرأة العادية.
الخاتمة:
إن هذه المبررات المتعددة لكفِّ النساء عن مزاولة مهارة قيادة السيارات لا تُجيز - في الجانب الآخر - للمرأة المسلمة أن يُقتطع من عرضها وشرفها في المواصلات العامة المزدحمة بالأجساد المتراكمة كما هو حاصل في كثير من البلاد النامية ؛ وإنما الهدف من كل هذا ربط المرأة بحصن البيت من الجهة المالية عن طريق تطوير التنمية الاقتصادية العائلية، من خلال الصناعات المنزلية التي أثبتت جدواها الاقتصادية ، مع الاستفادة من فرص العمل المتاحة عبر شبكات الإنترنت التي أصبحت واقعًا في كثير من بلاد العالم ، فلا تحتاج للكسب خارج نطاق الأسرة. وربطها أيضًا بالبيت من الجهة المعرفية من خلال التعليم عن بعد بوسائله المختلفة، فقد أصبح هذا النوع من التعليم واقعًا عالميًا مقبولاً ، فلا يبقى للمرأة خارج المنزل إلا ما لا بد لها منه من الحاجات والمصالح.(1/158)
وإلى جانب ذلك لا بد أيضًا - ضمن ظروف الحياة الواقعية - من التوسع في وسائل النقل العام من الحافلات الكبيرة ونحوها؛ بحيث تصبح أكثر جدوى وراحة وأمانًا بالنسبة للمرأة المحتاجة للخروج، كالمعلمة والطالبة ونحوهما. إلا أن الواقع يشهد بقصور وسائل النقل العام؛ ففي بلد كالمملكة العربية السعودية لا يزيد النقل العام عن استيعاب 7% فقط من حركة الرحلات المرورية، في الوقت الذي يستوعب فيه النقل العام في أوروبا 40% من هذه الرحلات المرورية ، حتى إن مدينة مثل الرياض لا يتولى فيها النقل المدرسي العام أكثر من 1% من أعداد الطلاب ، في حين لا يُسمح لطلاب المدارس في اليابان الانتقال إلى مدارسهم بسياراتهم الخاصة، ولا حتى بالدراجات النارية ، إنما بالنقل العام، وفي سنغافورة تتبنى الدولة سياسة متشددة في استخدام السيارات الخاصة، وتفرض قيودًا عليها، رغبة في توجيه الناس نحو النقل العام ؛ ولهذا جاء في توصيات الندوة العلمية الأربعين المنعقدة في الرياض عام 1417هـ حول أساليب ووسائل الحد من حوادث المرور، والتي شاركت فيها ثلاث عشرة دولة عربية ما نصه: "ضرورة التوسع في وسائل النقل الجماعية في المدن العربية، وتوفيرها بأسعار مشجعة، لحمل ساكني المدن على استخدامها بمختلف فئاتهم من موظفين وطلاب وغيرهم"، فلا بد أن تكون توصية كهذه ضمن اهتمامات المسؤولين، بحيث تفعَّل بصورة جادة لتحقيق هدف التخفيف من كثرة السيارات، وإقناع المجتمع - ولا سيما النساء - باستخدام وسائل النقل العام، وفي الوقت نفسه تُغنيهنَّ عن السعي في المطالبة بقيادة السيارات الخاصة التي تزيد من أعداد السيارات، وبالتالي تزيد من احتمالات وقوع الحوادث، إلى مشكلات أخرى تقدم ذكرها.(1/159)
إن مما ينبغي أن تدركه المرأة والنساء عمومًا أن هناك تقبلاً اجتماعيًا خطيرًا نحو قيام المرأة بأدوار الرجل التي كانت إلى عهد قريب مناطة به كالعمل للكسب، وعلاج الأبناء، والترفيه عنهم، ونحوها من الأعمال، فقد أصبح المجتمع المعاصر يتقبل اتكال الرجل على زوجته في هذه المهمات ، فلا يعدو تولي المرأة قيادة السيارة أن تكون تكليفًا جديدًا لمهمات أخرى تنحط عن كاهل الرجل لتنوء بأعبائها المرأة، مقابل استمتاعها بمهارة قيادة السيارة.
النتائج:
1-الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم، ومن حق السلطان المسلم أن يمنع النساء من قيادة المركبات سدًا للذرائع المفضية إلى المفاسد.
2-لا تعتبر السيارة الخاصة مهما كانت صالحة حصنًا للمرأة من أن تنال بسوء، إلى جانب ما يترتب على انطلاقها بها من انفلات اجتماعي لا يوافق توجيه الإسلام لها بالقرار والالتفات إلى المنزل.
3-السيارة آلة عنيفة في طبيعتها وبنائها لا تناسب الطبيعة الأنثوية والدور المناط بها المتطلب لمزيد من السكون والهدوء، إلى جانب مخاطرها وقسوة حوادثها.
4-الجانب الفطري في طبيعة خلْقة المرأة وظروفها الجسمية والنفسية لا يسمح لها بتحمل مسؤولية القيادة، والمخاطرة بنفسها وبغيرها.
5-تعود أسباب كثير من الحوادث إلى ضيق الشوارع عن استيعاب السيارات، كما أن حجم التلوث البيئي مرتبط بكثرتها أيضًا، وفي السماح للنساء بقيادة السيارات زيادة في أعدادها المسببة للحوادث من جهة، وزيادة في تلويث البيئة من جهة أخرى. إلى جانب أن النساء لسن من العاقلة التي تتحمل في حال القتل الخطأ الغرامات المالية التي يتحملها البالغون من الرجال، وهذا فيه إجحاف بالرجال إذا مكِّنوا النساء من أسباب العطب والضرر.(1/160)
6-المرأة عبر التاريخ لم تكن من أهل الفروسية والخيل وإنما ارتبطت منذ القديم بركوب الإبل في الهوادج المستورة، وتولى الرجل منذ ذلك الزمن خدمتها في الأسفار وحمل هودجها عند الترحال، فلا يصح - بناء على ذلك - اعتبار ركوب المرأة في القديم على الإبل كقيادتها للسيارة في هذا العصر.
7-وجود بدائل عصرية يمكن من خلالها إغناء النساء عن قيادة المركبات من خلال وسائل النقل العام الكبيرة وإحياء الصناعات المنزلية، والاستفادة من وسائل التعليم عن بعد.
8-شح الدراسات العملية في موضوع قيادة المرأة للسيارات مما يتطلب مزيدًا من البحث في الموضوع والوقوف على دراسات أجنبية للتأكيد على صحة القرار بالمنع.
التربية الأسرية للفتاة
1ـ حق الفتاة في المعاملة الأسرية الحسنة(1/161)
لما كانت القسوة والشدة، وسوء معاملة الأبناء في الأسرة: وسيلة من وسائل الانحراف الخلقي، خاصة عند الفتيات اللاتي تُبكِّر بهن الأسرة، حيث يكنَّ محطَّ تجارب الوالدين الصائبة والخاطئة: فإن توجيهات الإسلام التربوية جاءت بالتلطف مع النساء عموماً، والفتيات خصوصاً، مراعاة لحاجتهن الماسَّة للعطف واللُّطف، فقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شأن النساء عموماً قوله:(خيركم خيركم للنساء), وخص الفتيات بالاهتمام، ورغب في ذلك فقال:(من عال جاريتين حتى تبلُغا: جاء يوم القيامة أنا وهو، وضمَّ أصابعهُ), وأمر بالتلطف معهن جميعاً فقال: "إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله"، فجعل الوليَّ اللطيف بأهله، الرحيم بهم: من أكمل المؤمنين في درجات الكمال الإيماني، وممن يصحبه يوم القيامة، مما يدل على ضرورة استخدام هذا الأسلوب في التعامل مع النساء عموماً والفتيات على وجه الخصوص لحاجتهن الطبيعية إلى ذلك، وقد أشار كثير من الدراسات إلى أن الحرمان، والشدة التي يُعامل بها الصغار في طفولتهم: تستمر آثارها السلبية معهم في المراحل الأخرى، وتبقى عاهات وكدمات مستديمة في نفوسهم، لا ينفكون عنها.
ومن أهم مظاهر التَّلطُّف بالفتاة: الاستئناس بها، وعدم كرهها، فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه: ما كان يضيق بهن، ولا يستنكف عن مخالطتهن؛ بل بلغ به اللُّطف أن يحمل إحداهن في الصلاة، رغم أن في الصلاة شغلاً عن مثل هذا، ولم تثبت هذه الفضيلة للذكور من الصبيان، وكان يقول: "لا تكرهوا البنات فإنهن المؤنسات الغاليات"، وكان إذا قدم من سفر دخل على ابنته فاطمة رضي الله عنها فقبلها، وإذا دخلت عليه: ربما قام لها، وأجلسها مكانه،ملاطفة لها، وكان أبو بكر ربما بدأ بعائشة رضي الله عنهما إذا قدم من سفر وكانت مريضة، فيدخل عليها ويُقبِّل خدَّها.(1/162)
ولم يكن عليه الصلاة والسلام يقتصر على مظاهر السلوك الخاص، بل كان يُعلن محبته لابنته، ويحذِّر من إيذائها، فيقول:(فاطمة مني، يبسطني ما بسطها، ويقبضني ما قبضها…), ولما نزلت آية التَّيمم بسبب فقْد عائشة عقداً لها في منطقة لا ماء فيها، ومكوث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه للبحث عنه، فعلى الرغم من غضب أبي بكر عليها، وعتابه الغليظ لها في حبس الناس، قال لها بعد أن وسَّع الله على المؤمنين بالتيمم: "ما علمت إنك لمباركة"، ودخل مرة رجل على الحسن البصري، فرأى على ابنته شيئاً من الحلي، فاستغرب ذلك وأنكره، فغضب الحسن، وقال له: "أتأمرني أن أجعل بنتي طحَّانة".
لما أدرك هؤلاء العظماء: أن الحب هو جوهر الطبيعة الإنسانية، وأنه أساس مهم للنمو الإنساني: لم يحجبهم حياء، ولم تمنعهم ملامة، من إظهار محبتهم للفتيات: إما من خلال سلوكهم العملي في حسن المعاملة، أو شهاداتهم بإعلان المحبة على رؤوس الخلائق.
إن شمول الفتاة بمثل هذا الجو المفعم بالحب والعطف والحنان، كفيل بأن يُنشئها تنشئة سوية، بعيدة عن التوتر وآثاره المؤلمة، التي تُعيق سير نموها الطبيعي نحو النضج النفسي والاجتماعي
2ـ حاجة الفتاة إلى القدوة الأسرية الصالحة
تُعد التربية بالقدوة من أرقى وأعظم وسائل التربية؛ لأنها تحقق للمتربين إشباع خلَّة التقليد والمحاكاة الفطرية في نفوسهم، حيث يشعرون بكمال آبائهم، ومن يقومون عليهم بالتربية قيقلدونهم ويتشبَّهون بهم، إلى جانب أنها وسيلة لدفع المتربين نحو الفضائل والمحاسن من خلال تمثُّلها في القدوة، فما أن يجد الشباب المثل الأعلى في أحد المربين: إلا أحبُّوه حباً عظيماً، فينتقل من خلال التقليد، بدافع هذا الحب: سلوك القدوة إليهم.(1/163)
ومن هنا تظهر أهمية التزام المربين بالسلوك الصحيح الموافق للحق، وإلا كانوا موقع قدوة سيئة للمتربين، يقول الله تعالى واعظاً المؤمنين، ومنبهاً إياهم على هذه القضية الخطيرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]، فجعل - سبحانه وتعالى - مخالفة الأقوال الحسنة بالأفعال السيئة من أسباب مقته، وحصول غضبه، فقد توعَّد هذا الصنف من الناس بأشد أنواع العذاب والخزي يوم القيامة؛ لما في هذا السلوك المتناقض من تأثير سيء على المتربين، وعموم المتلقِّين.
وقد أثبتت التجارب أن النشء يتأثرون في أحكامهم الأخلاقية بالكبار أكثر مما يتأثرون في هذا الجانب بأقرانهم الصغار؛ لذا فإن القدوة الطيبة يمكن أن تقوم بدور كبير جداً في التربية، فقد لا يحتاج المربون إلى كبير جهد في العملية التربوية إذا أوجدوا القدوة الصالحة، فإن قمة العطاء التربوي يمكن أن تتحقق بجهد يسير، وفي الجانب الآخر فإن الجهد التربوي مهما كان حجمه كبيراً فإنه لن ُيحقِّق شيئاً من خلال المواعظ والنصائح دون القدوة الصالحة في سلوك المربين، ومن المعلوم أنَّ "فاقد الشيء لا يعطيه، فمن لم يكن صاحب خلق لا يمكن أن يربي غيره تربية أخلاقية، ولو عرف كل أساليب وطرق ووسائل التربية الأخلاقية"؛ فالشَّعائر التعبدية - مثلاً - إذا لم يكن لها تأثيرها الإيجابي على سمت المربين المتعبدين، فإن الشباب يعتبرونها مضيعة للوقت، وكذلك المبادئ الأخلاقية والقيم الاجتماعية، إذا لم يجدوا مظاهرها متمثلة في سلوك الكبار: فإنهم يكونون من أكفر الناس بها، وأكثرهم لها نقداً، وربما ظهر على سلوكهم التناقض والتردد بين مظاهر السعادة والتعاسة، فيعكسون بهذا السلوك المضطرب واقع المجتمع المتناقض من حولهم.(1/164)
وقد أدرك أحد السلف هذا المعنى الخطير في طبيعة المتربين فقال لمربي أولاده واعظاً له، وملفتاً لمداركه نحو أهمية القدوة وتأثيرها المزدوج: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت"، ودخل أحدهم مع أولاده على الإمام أبي إسحاق إبراهيم الحربي، فسأله إبراهيم: هؤلاء أولادك؟ فقال الرجل نعم، قال إبراهيم: "احذر أن يروك حيث نهاك الله فتسقط من أعينهم".
إن على المربين أن يدركوا أن التربية الخلقية قبل كل شيء "تبنى على أساس الخبرة العملية؛ لأن القيم تتوقف على الموقف" أكثر بكثير من توقفها على المعرفة، فلا يكفي فيها الوعظ والإرشاد، ونقل الصور والمعلومات، فالتربية لم تكن قطُّ "نقل مجموعة من الحركات، وإنما هي نقل منظومة من الأفكار، والعواطف: لصناعة الكائن صناعة اجتماعية، وإدخاله المجتمع من الوجهة الصناعية الفنية، والوجهة الروحية في آن واحد"، وهذا لا يتم بكماله المطلوب بمجرد إيصال المعلومات - مهما كانت صحيحة- دون سلوك عملي واقعي في قوالب من المواقف التربوية المختلفة والمتكررة، التي يعيشها المتربي مع من يقوم بتربيته.
وانطلاقاً من هذه المفاهيم الأساسية لدور القدوة وأهميتها، فإن الفتاة أحوج ما تكون للقدوة الصالحة في الوالدين والأقارب والمعلمات، حيث يقلُّ احتكاكها بباقي أفراد المجتمع لعدم البروز، فتقل بالتالي فرص التأثر بالقدوة لتقتصر على المحارم من الرجال، وبعض النساء، في حين يجد الشباب من الذكور فرصاً أكبر للقدوة في الحياة الاجتماعية من العلماء، والأشخاص، والزملاء أكثر بكثير مما تجده الفتيات، ومن هنا فإنهن أحوج إلى تأثير المربين في الأسرة من: الوالدين، والمحارم، والصالحات من الوسط النسائي لتحقيق مبدأ إشباع الحاجة إلى القدوة، وحصول التأثر السلوكي الضروري لامتثال القيم والأخلاق الإسلامية في سلوكهن.(1/165)
وعلى الفتاة أن تعلم: أن فقدان القدوة، أو ضعفها في الأسرة ومجتمع اليوم - على صعوبته - لا يُعدُّ ذريعة كافية لتنكُّب المسلك الخلقي القويم، فإن تقصير المربين في واجباتهم الخلقية لا يعفي المتربين المكلفين من الامتثال الخلقي، بعد استيعابهم الخطاب التكليفي المتمثل في الوحيين: الكتاب والسنة.
3ـ حاجة الفتاة إلى الاستقرار الأسري
تُعتبر مشاركة الوالدين في التربية الأسرية، في جو تشيع فيه الروح الدينية الصادقة الحقيقية: من أعظم وسائل تنشئة الشباب تنشئة صالحة؛ لأن التقوى هي أساس كل العلاقات الإنسانية، وسر قوة تماسك المجتمع المسلم، فإذا كانت العلاقات الأسرية قائمة على مبدأ التقوى: كان جو الأسر مناسباً لنشأة الأبناء، بعيداً عن التوترات والمؤثرات السلبية؛ ذلك لأن الأخلاق لا تنمو وتزدهر إلا في ظل العقيدة القوية الصحيحة، وضمن مجتمع منسجم متماسك، فالفرد يكوِّن اتجاهاته الإيجابية أو السلبية نحو المؤسسات، أو الأشخاص، أو الأشياء بناء على ما تحقق له من إشباعات وإتزان نفسي، فإذا لم تحدث هذه المتغيرات الاجتماعية منافع إيجابية للفرد: كان الجو الاجتماعي مهيأ للانحراف الخلقي.
ويُعتبر الجو الأسري أهم وسط اجتماعي يحقق فيه الشباب ـ والفتيات على الخصوص ـ إشباعهم العاطفي،واستقرارهم النفسي، فإذا كان التوتر سمة الأسرة الغالب، وكان الاحتكاك والنزاع بين الوالدين طابعاً عاماً للحياة الزوجية: فإن مظاهر الجنوح، والانحرافات الخلقية والأمراض النفسية، وتعاطي المخدرات، يمكن أن يكون مصير الأولاد المحتوم؛ فإن الأسرة التي يتعرض فيها الأبوان للاضطراب الاجتماعي، والإخفاق في تحقيق الاستقرار: تصبح فيها التربية السليمة أمراً مستحيلاً، ويقع فيها النصيب الأكبر من الآثار السلبية على الفتيات.(1/166)
وقد وجَّه الإسلام في منهجه التربوي إلى الاستقرار الأسري؛ فأمر بالتَّلطف في المعاملة الأسرية، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله) وقد كان - صلى الله عليه وسلم - من أكثر الناس تلطُّفاً ومزاحاً، وكان يقول:(يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا), وكان يجتمع بنسائه رضي الله عنهن ويسامرهن، وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا جاءته وهو مع نسائه قام إليها، ورحَّب بها، وأجلسها إلى جواره، وكان يداعب زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما فربما قال لها:( يا زُوينب، يا زُوينب مراراً).
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - أيضاً يتباسطون مع أفراد أسرهم ونسائهم، فكان منهم من يضاحك أهله ويلعب معهم، اقتداءاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ "كان من أضحك الناس، وأطيبهم نفساً"، وكان السلف يعدُّون تحفظ الأولاد والأهل، وهيبتهم من الضحك أمام الأب: من سوء خلقه، وفي هذا يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : "لا بأس بالمفاكهة يخرج بها الرجل عن حد العُبُوس"
4ـ مسؤولية الأسرة في تنميط سلوك الفتاة الأنثوي(1/167)
تقوم الأسرة بدور مهم ورئيس في تحديد وتمييز سلوك الإناث عن سلوك الذكور، وتهيئة البيئة والظروف المناسبة لنمو كل من الجنسين وفق نمطه الطبيعي الفطري، وإعداده لدوره المرتقب، فكل فرد من نوعي الإنسان مستعد فطرياً "لاكتساب صفات معينة مرتبطة بنوع جنسه، فكل منهما يمتلك استعداداً بيولوجياً معيناً، والتربية على الذكورة أو الأنوثة ليست سوى تنميط اجتماعي لذلك الاستعداد، وغياب أي من الوالدين: سبب في عدم إتاحة فرص التنميط الاجتماعي المناسب لذلك الاستعداد البيولوجي الفطري؛ وذلك لأن الاستعداد والتهيؤ البيولوجي ليس كافياً بذاته لأن يكون محدداً للسلوك، كما أن العوامل الاجتماعية بمفردها لا تفسر التباين القائم بين الجنسين، فالطبيعة الأنثوية موجودة بالفطرة في طبع الفتاة إلا أنها تحتاج إلى جو أسري طبيعي لنموها وازدهارها، فإنها لو دُرِّبت على سلوك الذكور نشأت عليه، وتخلَّقت بطباعهم من سيطرة وجرءاة ونحوهما، وأصبح من الصعب عليها في المستقبل أن تمارس دوراً طبيعياً لأنثى كاملة.
وكلٌ من الوالدين في الأسرة الطبيعية السوية له دوره التربوي في عملية التنميط الجنسي للنشء، فالأم تمثل لابنتها نموذجاً لدور الأنثى، والأب مع كونه يمثل هو الآخر نموذج الرجل لولده الذكر، فإن دوره يتعدى ذلك، وربما فاق دور الأم في عملية التنميط الجنسي للفتاة، فبقدر قيامه الإيجابي بالدور الذكوري، وتأييده لدور ابنته الأنثوي: تتمثل الفتاة دورها الأنثوي وتتأكد هويتها الجنسية، فتبدل هذه الأدوار بين الوالدين أو تداخلها: يؤدي عند النشء إلى حالة مرضية، فلا يتمتعون بنفس القيمة التربوية التي يتمتع بها أقرانهم في الأسر السوية، التي يمارس فيها كل من الوالدين دوره الطبيعي.(1/168)
ومما تقدم يتضح دور الأسرة العضوية المتكاملة في بناء نفسية الفتاة، وتهيئتها لدورها الاجتماعي، وضرورة قيام أفراد الأسرة - خاصة الوالدين - بأدوارهم الطبيعية المناطة بهم؛ لتحقيق نمو الفتيات النفسي والخلقي نمواً سوياً موافقاً لطبيعة جنسهن الأنثوية.
5ـ دور الأسرة في تعريف الفتاة بأنماط الأدوار الاجتماعية المختلفة
الدور الاجتماعي هو: "نمط الاتجاهات والأفعال التي يقوم بها الفرد في المواقف الاجتماعية المختلفة"، ففهم الفرد للدور الاجتماعي المناط به يعتمد بالدرجة الأولى على إدراكه - من خلال الاحتكاك الاجتماعي - للأدوار الاجتماعية الأخرى للأفراد من حوله، فقيام الفتاة - مثلاً - بدورها كابنة يتوقف على فهمها لدور الوالدين، وكذلك قيامها بدورها كزوجة يتوقف على معرفتها لدور زوجها، فمعرفة الفرد للدور المطلوب منه ينبني على معرفته الكافية بالدور الذي يقابله، فيتعرف على ما يجب عليه القيام به، ويعرف بالمقابل طبيعة السلوك الذي يتوقعه من الآخرين، فهي أدوار اجتماعية محددة للأفراد ، لا يمكن خلع بعضها عن بعض، فلكل دوره المناط به.
ويعتبر نظام الأسرة أنسب مكان اجتماعي للفتاة تتفاعل من خلاله مع الأدوار الاجتماعية المختلفة حسب مراحل العمر التي تمر بها: من الطفولة ثم المراهقة، فمرحلة الشباب، حيث تتعرف - من خلال الاحتكاك - على طبيعة الأدوار الاجتماعية لكل من الفتاة ، والزوجة، والأب، والأم، والإخوة، والأخوات، والأقارب، وتقف على مُحدِّدات كل دور منها ومسؤولياته الاجتماعية، وما يقابله من الأدوار والأنماط الاجتماعية في الجانب الآخر.
وهذا الوعي بأنواع وأنماط الأدوار الاجتماعية المختلفة لا يتحقق للفتاة إلا من خلال الأسرة العضوية، التي يقوم كل فرد فيها بدوره المناط به، من خلال موقعه داخل البناء الأسري.
6ـ اقتناع الفتاة بأسلوب الوالدين في الضبط الأسري(1/169)
الوالدان مسؤولان عن الجو الأسري العام، حيث يفرض عليهم الدين ضرورة تولي الإشراف الكامل على الأبناء، ومعرفة حاجاتهم، وضبط سلوكهم، وتوجيههم إلى الخير، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ……} [التحريم:6]، وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته…), وإن من أهم التكاليف المناطة بالوالدين: إقامة الانضباط الخلقي في الأسرة على جميع الأولاد، خاصة من كان منهم في مرحلة المراهقة وما بعدها في سن الشباب، فإنهم يحتاجون إلى مزيد رعاية، وضبط بحزم ودقة؛ حتى يكمل نضجهم العام، وتبنى شخصياتهم.
والفتيات في سن الشباب غالباً ما يكنَّ أكثر ميلاً وامتثالاً للسلطة الأسرية من الفتيان، وأكثر رضاً عن نهج الوالدين وطريقتهما في الضبط الأسري؛ حيث يتكيَّفن مع القيم الأسرية، والطبيعة الاجتماعية، ويقبلن بدورهن الذي تحدده الأسرة، أكثر مما يُبديه أقرانهن من الذكور، فيسهل - بالتالي - على الوالدين قيادتهن حسب الأنماط الاجتماعية والأخلاقية التي يرونها.
ورغم هذا الانقياد الطبيعي عند الفتيات على وجه العموم، فإن بعضهن يغفل عن طبيعة دور الوالدين في الضبط الأسري، والمسؤولية المناطة بهما في ذلك، فيتصوَّرون بأن دورهما كبت الحريات، وتقييد التصرفات، كأنهما يمارسان عمل السجَّانين.
ولعل مما يخفف من هذه النظرة المتشائمة إلى الوالدين، ويزيل هذه الشبهة: إدراك الفتاة، واعتقادها الجازم بأن الوالدين - كما هو المفروض فيهما - لا يُتَّهمان في تصرفاتهما الاجتهادية مع الأبناء، مهما صدر عنهما، فهما مبرَّآن من كل تهمة، "فمهما فعلا مع أولادهما يؤخذ على حسن النية، وسلامة الطوية؛ إذ إن عاطفتهما كفيلة بمنعهما من قصد الإضرار بهم، أو إيذائهم".(1/170)
كما أن سعي الوالدين في الضبط الأسري إنما يهدف إلى تحقيق نضجهم العقلي والخلقي، فتدرك الفتاة أن استقامتها الخلقية: أسمى ما يطلبه الوالدان المؤمنان، ويسعيان له، قال القرطبي ~ٍٍِِ: "ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله - عز وجل - "، فالشباب من الجنسين في هذه المرحلة تتقوى لديهم الأحاسيس والمشاعر وتطغى مقابل ضعف نظرات العقول، مما قد يدفعهم في المواقف المختلفة إلى اتخاذ قرارات غير سليمة، ومن هنا يحسنُ بالوالدين التدخل بالتوجيه والضبط، فهذا الفهم لطبيعة دور الوالدين في الضبط الأسري: يُعين الفتاة على القبول والرضى بدورهما القيادي في الأسرة، وأساليبهما في الضبط الخلقي.
وتستعين الفتاة على الامتثال بالضوابط الأسرية من خلال التعوُّد عليها، فقد دلَّ البحث الميداني على أن التعوُّد على امتثال الأوامر والقبول بها يأتي من خلال الممارسة والتدريب، حتى يصبح الامتثال جزءاً من سلوك الفتاة يصدر عنها بيسر وسهولة، وتقل بالتالي معاناتها من أساليب الانضباط الأسري.
ولا بد أن تدرك الفتاة أنها لا تزال صغيرة في نظر الوالدين، مهما بلغت من السن، وشعرت في نفسها بالقدرة على الاستقلال، فإن أمَّ الإمام أبي حنيفة النعمان رحمهما الله، بعد أن تأهل ولدها للفتوى والإمامة: كانت لا تراه شيئاً، ولا تأخذ عنه.
7ـ تقبل الفتاة اختلاف أسلوب المعاملة الوالدية بين الذكور والإناث(1/171)
تميل الأسرة بصورة واضحة للتفريق في المعاملة بين الذكور والإناث، وتُميَّز بينهم حسب الجنس، حيث خشونة التعامل مع الذكور، والمزيد من الحرية، في حين رقَّة ودفء التعامل مع الفتيات، مع كثرة الضوابط والممنوعات، وفي الجانب الأكاديمي يظهر اهتمام الأسرة الأكبر بتحصيل الذكور الدراسي، مقابل التركيز مع الفتيات على جانب السلوك الأخلاقي، حيث تتعرض الفتاة في حياتها الأسرية لضوابط المنع أكثر مما يتعرض إليه إخوانها الذكور، بنسبة قد تصل إلى الضعف، وهذا يترتب عليه تربوياً: أن امتثال الفتيات لإرادة الوالدين، وخضوعهن لسلطتهما ضعف امتثال الذكور وخضوعهم.
ولعل مما يُعين الفتاة على قبول هذا الوضع الاجتماعي: أن تعرف أن مبدأ التفريق بين الجنسين في المعاملة الأسرية مبدأ مقبول اجتماعياً، على جميع المستويات، وعند غالب فئات المجتمع، وحتى عند الإناث أنفسهن، ثم إن من إيجابيات هذا النهج التربوي أن أصبح للفتيات سلطة ذاتية يملكن بها إرادتهن أكثر مما عند أقرانهن من الذكور، وبالتالي تصبح معاناتهن للسلطة الأبوية أقل بكثير من معاناة الفتيان، وعلى المستوى الاجتماعي العام دلَّت الدراسات على وجود انخفاض ملحوظ في عدد الإناث المنحرفات بالنسبة لأعداد الذكور المنحرفين، وهذا يعود سببه إلى اختلاف أسلوب الأسرة في التعامل مع الجنسين، ووجود ضوابط أسرية واجتماعية أكثر على سلوك الفتيات الخلقي.(1/172)
ومما يسهل أيضاً على الفتاة القبول بهذا المبدأ التربوي: التعرف على المبررات الشرعية التي بنت عليها الأسرة المسلمة نهجها التربوي في اختلاف أسلوب المعاملة بين الجنسين، فعلى مستوى السلوك العام: نهى الإسلام الإناث عن الاسترجال، فقال عليه الصلاة والسلام:(ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء), فالفتيات في هذه السن قد يظهرن أحياناً بسلوك الذكور، فيمارسن الخشونة والمغامرات، وربما دخَّن بعضهن السجائر تقليداً للرجال، وربما خالطت إحداهن إخوتها الذكور ممن يكبرونها في السن، فتلقت عنهم سمات الاسترجال، فمن حق الوالدين التدخل بتوجيه الفتيات نحو السلوك الموافق لجنسهن، وللدور الذي سوف يمارسنه في المستقبل، والذي يتطلب سمات أنثوية لا رجولية.
وكذلك على مستوى الحرية والحركة، من الدخول والخروج فإن بعض الفتيات يُعانين من ذلك شدة، ويشعرن بالكبت والحرمان، ويرغبن في أن يعاملن كإخوانهن الذكور، وللأسرة في هذا النهج مسوِّغها الشرعي؛ إذ ليس من حق الوالدين كفُّ الابن البالغ عن الخروج إلى حيث شاء، والاستقلال بنفسه ما دام عاقلاً مأموناً، في حين من حقهما كفُّ الفتاة عن ذلك لاختلاف الطبيعة بينهما.
وفي اختلاف اهتمام الوالدين بالناحية الأكاديمية بين الذكور والإناث، فإنه يرجع إلى طبيعة الدور المرتقب للذكور، حيث إنهم المكلفون شرعاً بالإنفاق، وتهيئة الأسرة، والتعليم - في كل ذلك - يمثِّل لهم آلية حيوية مهمة، ووسيلة عظيمة للكسب.
إن إدراك الفتاة لهذه المفاهيم، واقتناعها بهذه الايجابيات الكثيرة لطاعة الوالدين: يساعدها على قبول هذا المبدأ، وممارسته عن طواعية وإخلاص، فيحصل لها بذلك: التوافق الأسري، والاستقرار النفسي، إضافة إلى الحظوة عند الوالدين.
8ـ قيام الأسرة بالعدل بين الذكور والإناث(1/173)
إن النفرة التي غالباً ما تحصل بين الأولاد، والتي تُعتبر من المشكلات الأسرية الأزلية: ترجع في غالبها إلى الأولياء، حين يفضلون بعض الأولاد على بعض، ويعقدون بينهم المقارنات التي تُشعل نار المنافسة بينهم، وتلهب الأحقاد، والأولياء مأمورون بألا يتعاطوا من الأسباب ما يثير خلق العقوق عند أبنائهم، وفي هذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رُوي عنه:(إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم، كما يحب أن تعدلوا بين أنفسكم), ولما أراد أحدهم أن يُشهده على هبة خصَّ بها أحد أولاده دون الآخرين قال له واعظاً: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"؛ وذلك لأن هذه الممارسات، والأساليب المتباينة في معاملة الأولاد، والعطايا الخاصة: تُعد من أعظم أسباب إثارة العقوق، ومن أشد ما يُؤثِّر في علاقة الأولاد بآبائهم من جهة، وعلاقاتهم فيما بينهم من جهة أخرى.
ولعل مجال العطاء أكثر ما يظهر فيه هذا التباين والاختلاف في التعامل مع الإناث، فقد يتخذ بعض الأولياء من اختلاف الجنس ذريعة لاختلاف العطاء، والمخصصات اليومية، وربما وقع التمييز بينهم حتى في الرعاية الصحية، والتغذية ونحوها، وهذا بلا شك ممنوع شرعاً، ولا يصح إلا في حالة اختلاف السن، واختلاف طبيعة الحاجات بين الذكور والإناث، أما لمجرد الجنس فإنه لا يجوز، وأما إذا كان العطاء كبيراً، بحيث يكوِّن ثروة للأولاد، ويشمل مال المورِّث: فإن الأولى توزيعه بحسب الميراث: للذكر مثل ما للأنثيين.(1/174)
ولا يقف الظلم عند مسألة العطاء؛ بل يتعداها إلى أسلوب المعاملة الأسرية - الظاهرة أو المستترة - حيث الرغبة الجامحة عند الآباء في إنجاب الذكور، والتي يصعب على الأمهات - خاصة - إخفاؤها من سلوكهن وكلامهن، مع إطلاق الأمثال والأشعار في ذم البنات وكثرتهن، والتنميط السلوكي المفتعل، الخارج عن حدِّه التربوي بين سلوك الذكور والإناث من الأولاد، كل هذه الممارسات ونحوها، مما تُعايشه الفتاة في الأسرة، وتُعانيه في المجتمع من حولها: يشعل في نفسها الغيرة والحسد من إخوتها الذكور، خاصة إذا رأتهم معجبين برجولتهم، مفتخرين بها، فإذا عجزت عن منافستهم، ودفع الحيف عنها: استسلمت للواقع الظالم في إحساس مهزوم ملْؤه التوتر وفقدان الأمن، والشعور بالدونية والاحتقار.
والإسلام بمنهجه العدل، ينهى عن مثل هذه الأساليب الظالمة، ويأمر بضدها من العدل والإحسان حيث يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(من ولدت له أنثى فلم يئدها، ولم يُهنها، ولم يؤثر ولده - يعني الذكر - عليها أدخله الله بها الجنة), وكان يأمر عليه الصلاة والسلام بالعدل بينهم حتى في القبل والملاطفة؛ ليقطع بذلك مادة الحسد والتنافس بينهم، ويُزيل أسباب العقوق من نفوسهم، فلا بد أن يكون هذا الاعتدال هو نهج الأسرة التربوي في تعاملها مع الجنسين من الأولاد والبنات.
9ـ سماح الأسرة للفتاة بالحرية الشخصية المنضبطة
إن قدراً من الحرية المسؤولة ينبغي أن تتمتع بها الفتاة على نحو يمكن أن يُسهم بصورة طيبة في تنمية شخصيتها الأسرية الحسنة، فالتربية الإسلامية الصحيحة "ليست قهراً، فإن القهر لا يربي النفوس على شيء"؛ والتمتع بقدر من الحرية المعتدلة: من حاجات الإنسان الضرورية، حيث يساعد الفرد الناشئ على تنمية مداركه، وإكمال شخصيته واستقلالها، ولا يمكن أن تتم العملية التربوية بصورة صحيحة متكاملة ما لم تكن مصحوبة بقدر كافٍ من الحرية المنضبطة.(1/175)
والفتاة - كعضو أسري نامٍ - محتاجة إلى مزيد من النشاط العقلي والجسمي، والروحي؛ لتتهيأ به للنضج الاجتماعي، وتتخفَّف به من مسالك الطفولة وروابطها: حتى تتأهل للزواج ، والاستقلال الأسري، وتتمكن من المشاركة الاجتماعية العامة بصورة أفضل. وكل هذه الاحتياجات الضرورية للفتاة الناشئة: لا يمكن أن تتحقق لها إلا بشيء من الحرية الأسرية المنضبطة، ضمن حدود الآداب في نظام الإسلام الاجتماعي.
ولما كانت طبيعة المجتمعات المعاصرة - خاصة المتقدمة منها - تطول فيها فترة الطفولة، حيث يصعب فيها استقلال الشباب عن أسرهم بمجرد البلوغ، كما هو الحال في المجتمعات البدائية والريفية، حيث يحتاج البالغ إلى سنوات متعددة بعد البلوغ لتحقيق الاستقلال والحرية عن إدارة وإشراف الوالدين، ومن هنا يشعر الشباب بالإحباط، والصراع من أجل تكوين الشخصية المستقلة والتمتع بالحرية، فتظهر من جراء ذلك معاناتهم، ومشكلاتهم الأسرية.
وتعتبر معاناة الفتيات في التمتع بالحرية والاستقلال أقل - في العموم - من معاناة الذكور من الفتيان، خاصة فتيات الطبقة العليا من المجتمع، رغم أنهن - في العادة - يتعرضن في الأسرة لضبط أكبر، إلا أن معاناتهن أقل بحيث يتناسب الضبط والسلطة الأبوية مع مقدار الخضوع الأنثوي المضاعف عندهن.(1/176)
وإن مما ينبغي أن يدركه الأبوان في هذا الجانب: أن "البرَّ والإحسان لا يقتضيان سلب الحرية والاستقلال" وليس من طبيعة التصور الإسلامي: "أن تتحول طاعة الوالدين: سيطرة من الأم أو الأب، فلا شيء يُقنع الشباب بمثل هذه الطاعة العمياء، التي تحرمه من ثمرات استقلاله الفكري، ورغبته في الإنتاج والعطاء"، فإن من الصعوبة بمكان إقناع الأبناء بنظرات الآباء، وآرائهم - مهما كانت صائبة - في الوقت الذي ضعفت فيه مكانتهم بسبب التغيرات الاجتماعية المعاصرة، ولعل في معاملتهم بأسلوب أرق، وأكثر نضجاً، وأبعد عن معاملة الأطفال الصغار: يُحقق نجاحاً أكبر في ضبط سلوكهم، وخروجهم من هذه الأزمة الاجتماعية بنجاح، فقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يشير إلى هذا الأسلوب في معاملة الأبناء، فقد رُوي أنه قال:(رحم الله والداً أعان ولده على بره), ولا شك أن مساعدتهم على ضبط سلوكهم، بعدم إثارة عواطفهم السلبية تجاه الوالدين - خاصة في هذا الزمن الصعب - من أعظم وسائل الإعانة على البر، وقد أكدَّ الإمام الغزالي هذه المعاني التربوية الفريدة في مراعاة حاجات الأبناء للحرية، وعدم الإكثار عليهم فقال: "يُعينهم على بره، ولا يكلفهم من البرِّ فوق طاقتهم، ولا يُلح عليهم في وقت ضجرهم، ولا يمنعهم من طاعة ربهم، ولا يمنُّ عليهم بتربيتهم".(1/177)
إن البلوغ يفعل فعله الخاص في شخصية الإنسان النامي، بحيث يحتاج معه إلى نوع آخر من المعاملة التي تختلف عن معاملة الطفل، لاسيما فيما يتعلق بالحرية الشخصية؛ فإن "جميع البشر بمختلف قومياتهم وشعوبهم ينشدونها ويعشقونها، وينبذون الأسر والقيود، وإذا ما فقدوا حريتهم يوماً ما فإنهم سيحاولون بكل ما في وسعهم استعادتها"، فلا بد من وعي الآباء والمربين عموماً بهذه الحاجة عند الناشيء، فكما أنهم يتقبلون استقلال أولادهم، واستغناءهم عنهم عبر مراحل نموهم، فلا يتضجَّرون من اعتمادهم على أنفسهم في المشي، وفي قضاء حاجاتهم، وفي تناول طعامهم، فكذلك لا بد أن يتقبلوا حاجتهم في سن الشباب إلى شيء من الحرية الشخصية، التي تؤهلهم للاعتماد على أنفسهم في المستقبل.
إن قدراً من الحرية الشخصية اللازمة فيما يتصل بخصوصيات الفتاة، ضمن مفاهيم الشرع الحنيف، والعادات الاجتماعية الحسنة، مما لا يخرج عن حد الأدب: أمر مشروع، بشرط ألا تصل هذه الحرية إلى حد الفوضى: فتفقد أثرها الإيجابي، وتصبح وسيلة للخروج على الآداب الشرعية، والعادات المرعية، فإن الفوضى لا تعني الحرية، بل هما كلمتان متنافرتان، لا يمكن الجمع بينهما، والحقيقة أن الحرية ثمرة من ثمار التنظيم، فلا مكان للحرية دون نظام ينطلق من قواعد أخلاقية.
والفتاة في التصور الإسلامي مكلفة شرعاً، مسؤولة عن تصرفاتها، ومحاسبة عليها، وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام:(لا يُتم بعد احتلام، ولا يُتم على جارية إذا هي حاضت), فهي ما دامت مدركة بالغة، فإنها لا بد أن تعرف قدرها، وما يجب عليها تجاه الأسرة والوالدين، وحدود الحرية الشخصية المسؤولة التي يجوز أن تُطالب بها، وتستمتع في نطاقها.
10ـ تدرج الفتاة المنضبط نحو الاستقلال الشخصي(1/178)
من معالم مرحلة الشباب: الرغبة في الاستقلال الشخصي، والفطام الأبوي، حيث تنتقل الفتاة من مركزها الاجتماعي كطفلة إلى مراهقة، ثم إلى شابة بالغة، وفي كل مرحلة تتطور علاقتها بوالديها حسب نمط السلوك المرتبط بمركزها.
وهذا التوجه الاستقلالي غريزة في الإنسان، تدفعه نحو الاعتماد على نفسه، وتحمل المسؤولية، وهو مقدمة لنجاح الجيل الجديد في الميادين الاجتماعية، والناشيء في توجهه هذا يجد نفسه غير قادر على مجاراة الكبار وتقليدهم، مما قد يفرز نزاعات ومشاجرات بين جيل الكبار وجيل الصغار، ولعل الفجوة بين الأجيال في هذا العصر أصبحت في غاية الوضوح والاتساع، لا سيما في المجتمعات المحافظة، حيث يشعر الجيل الصاعد بالأنفة من ارتباطه بمرحلة الطفولة، التي اتسمت في حسِّه بالضعف والتبعية العائلية، فلما دخل عالم الشباب شعر بالقوة، وخلَّف وراءه الضعف؛ لهذا كثيراً ما ينطلق الشباب في هذه المرحلة نحو إثبات وجودهم بأساليب خاطئة: كالتمرد على الوالدين، وعناد المربين، والسخرية بالآخرين.
وعلى الرغم من أن حدَّة هذا التوجه تكون أبلغ عند الذكور، فقد يصاحب توجه الفتاة نحو النضج الاجتماعي، والاستقلال الشخصي شيء من هذا التمرد والعنف، حتى تتمكن من التخلص من العواطف التي تعيق توجهها نحو اكتمال النضج الشخصي، فيظهر عليها شيء من الاتجاهات الانفعالية المتناقضة، وشيء من الصراع بين رغبتها النفسية في الاستقلال، وبين واجبها الخلقي تجاه الوالدين، وقد يظهر هذا التوجه الاستقلالي مبكراً عند بعض الفتيات قبل البلوغ، وذلك في حالة ضعف شخصية الوالدين، وعدم قدرتهما على السيطرة الكافية على سلوكهن.(1/179)
إن الاتجاه نحو الاستقلال الشخصي في حد ذاته طبيعي وإيجابي، وله فوائده النفسية والاجتماعية للفتاة، حيث يزيد من قدرتها على الإنجاز، واعتمادها على نفسها، والتأهُّل للقيام بأدوار الراشدين الكبار، والتهيؤ للمشاركة الاجتماعية بصورة أكبر، وبناء الأسرة ومواجهة الحياة بقدرة كافية؛ ولهذا سُمِّيت الفتاة البالغة "عاتقاً" لأنها بالبلوغ تنفك عن الطفولة، وتتأهل للتزويج: فتعتق بالتالي من سلطة أبويها، إلا أن على الفتاة أن تدرك أن هذا التوجه الاستقلالي لابد أن يتم بصورة متدرجة لا يصاحبها عنف، فإن إزعاج الوالدين بالتمرد عليهما من العقوق الذي حذَّر الله تعالى منه، كما أن حصول الاستقلال الكامل والسريع في هذا العصر الذي تعقدت فيه الحياة الاجتماعية والاقتصادية: متعذرٌ لتأخر سن الزواج، فمن حق الوالدين شرعاً أن تنضم الفتاة إليهما، وتبقى تحت سلطتهما ما دامت بكراً لم تتزوج، لاسيما إذا كانت شابة، أو خشي عليها الوالدان الفساد.
ومن هنا فإن سرعة الاستقلال الكامل للفتاة عن سلطة الوالدين في هذا العصر، وتحت هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية: في غاية الصعوبة، فلابد من أن تتهيأ الفتاة لقبول طول فترة إشراف الوالدين حتى يتم لها الزواج، خاصة أن كثيراً من الآباء يقلقون لتوجه أبنائهم نحو الاستقلال، ويرغبون في بقائهم أطفالاً تحت رعايتهم وإشرافهم، فلابد أن تراعي الفتاة ذلك عند توجهها نحو الاستقلال الشخصي مراعية في ذلك حق الوالدين.
11ـ سعي الفتاة في برِّ الوالدين وترك العقوق
من خلال احتكاك الفرد في المجتمع، وتفاعله في الوسط الجماعي: ينتج عن ذلك أنماط سلوكية مختلفة حسب المواقف والأشخاص، فيترتب على ذلك بروز واجبات من ناحية، وحقوق من ناحية أخرى.(1/180)
ومن أهم هذه الواجبات التي يبرزها الاحتكاك الأسري: برُّ الوالدين؛ إذ يمثل أعظم الحقوق على الأبناء بعد الإيمان، حيث وجَّه المولى - عز وجل - إليه في مواضع عديدة من كتابه الكريم؛ منها قوله - سبحانه وتعالى - : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23-24] وقوله عز من قائل أيضاً: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
فجعل - سبحانه وتعالى - بر الوالدين، ومعرفة فضلهما من الواجبات العظام على الأبناء، وقرن رضاه برضاهما، وتوحيده بحسن صحبتهما.
وقد اعتبره الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعظم القربات وأحبها إلى الله تعالى بعد الصلاة المفروضة، وجعل الوفاء الكامل بحقهما في الدنيا من أعسر الأمور وأشدها، فقال عليه الصلاة والسلام:(لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه), ولما سُئل معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن حق الوالدين؟ قال: "لو خرجت من أهلك ومالك ما أديت حقهما".
وقد كان لهذه التوجيهات القرآنية والنبوية أثرهما الكبير في حياة الأمة المسلمة، فهذه فاطمة السيدة الكاملة، والفتاة البارَّة رضي الله عنها ، كانت إذا دخل عليها أبوها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(قامت إليه مستقبلة وقبلت يده), وكانت إذا أمرها بأمر: أطاعته، ولم تخالفه حتى وإن كان على غير ما تشتهي.(1/181)
وقد كان من السلف من يحمل أمَّه في الطواف رغبة في البر بها، ومنهم من كان يتكلف إطعامهما، والإشراف على ذلك بنفسه، ويروي أحدهم كيف كانت ابنته تبرُّه فيقول: "كانت لي ابنة تجلس معي على المائدة فتبرز كفاً كأنها طلْقَةٌ في ذراع كأنها جمَّارة، فلا تقع عينُها على أكْلة نفيسة إلا خصتني بها".
إن ترتيب الأجر العظيم للأبناء على بر الآباء يرجع إلى كونه نوعاً من الجهاد الذي يحتاج إلى تكلُّف ومصابرة، في حين يصير عطاء الآباء تجاه الأبناء فطرياً، ينبعث تلقائياً مع نبضات القلب وسريان الدم، بلا تكلف ولا عظيم مجاهدة؛ لهذا جاء التوجيه للأبناء ببر الآباء، ورتَّب الشارع الحكيم لهم عظيم الأجر على ذلك.
والفتاة أقرب إلى الامتثال بهذه التوجيهات من الذكور، حيث تميل بطبعها في سن الشباب نحو إرضاء الوالدين، فتظهر من الطاعة وامتثال الأوامر، والتقيد بمعايير الكبار، وحسن التَّخلُّق ما يفوق إخوتها الذكور في هذه المرحلة، مما يجعل مبدأ البرِّ عند الفتيات أقرب للتحقق والحصول، فيكون ذلك حافزاً لهن للتمتُّع بتحقيق هذا الواجب الإسلامي العظيم، إلى جانب شعور الفتاة بالراحة النفسية، والاستقرار الانفعالي الذي يحدثه قبولها للبقاء تحت سلطان الوالدين في الأسرة والرضا بتوجيهاتهما وأوامره
12ـ إحسان الفتاة إلى الإخوة والأخوات
من حكمة تشريع المحرمات من النساء في النكاح: دفع أسباب المنافسة بين الذكور والإناث من الإخوة والأخوات، وما تسببه هذه المنافسة من المزاحمة بينهم، وما تؤدي إليه من قطيعة الأرحام، فحرّم الإسلام علاقة النكاح بين الإخوة والأخوات، حتى من الرضاعة؛ لتحصل بهذا التحريم علاقات إجتماعية جديدة، مبرَّأة من كل غرض شهواني، تحمل طابعاً ملؤُهُ العطاء، والمحبة الصادقة الخالصة.(1/182)
ولعل داء الحسد هو أكثر المفاسد حصولاً بين الإخوة والأخوات، حيث التنافس على عطاء الوالدين من المأكولات، والملبوسات، والخروج والدخول، والإسلام قد منع منه، وحذر من تعاطيه، والاسترسال معه، فقال عليه الصلاة والسلام:(لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله), وقال أيضاً فيما رُوي عنه:(إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال العشب".
والحسد داء عضال، لا يكاد ينفك عنه أحد، فإذا شعرت به الفتاة في نفسها فإن الواجب عليها أن لا تتكلم ولا تعمل شيئاً ضد المحسود، فتخرج بذلك عن المؤاخذة، فلا يلحقها شيء من الإثم، وعليها أن تتجنب الاحتكاك الكثير والدائم بالإخوة والأخوات، فإن هذا قد يثير التحاسد والتقاطع، فقد رُوي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال لأبنائه مرة: "إذا أصبحتم فتبدَّدوا، ولا تجتمعوا في دار واحدة، فإني أخاف عليكم أن تقاطعوا، ويكون بينكم شر".
وواجب الفتاة تجاه إخوتها الكبار من الذكور والإناث: الاحترام والتقدير، والطاعة في المعروف، وخدمتهم قدر استطاعتها، مع التلَّطف في معاملتهم، ومما يُروى في أسلوب الملاطفة والاحترام بين الأخوات ما روته السيدة عائشة في خبر دينها من أختها الكبرى أسماء رضي الله عنهما حيث قال: "كانت لأسماء عليَّ دين، فكنت أستحي منها كلما نظرت إليها، فكنت أدعو بذلك، فما لبثت إلا يسيراً حتى جاءني الله بفائدة رزق من غير صدقة، ولا ميراث فقضيتها"، فرغم ما كان بينهما من المحبة، والألفة، ورفع الكلفة، إلا أن الاحترام والتقدير كان قائماً بينهما.
ومما يُروى في ملاطفة الذكور للإناث، واحترامهن، ومعرفة مكانتهن ما رواه ابن أبي شيبة في مصنَّفه أن: "خالد بن الوليد استشار أخته في شيء فأشارت، فقبَّل رأسها"، فلم يجد هذا الفارس الشجاع، والقائد الفذ غضاضة في تقبيل رأس أخته اعترافاً بمكانتها، وتقديراً لرأيها.(1/183)
وأما واجب الفتاة تجاه إخوتها وأخواتها الصِّغار: فالعطف والرعاية، والقيام عليهم قيام الوالدة الحنون؛ لكونهم أطفالاً صغاراً أحوج ما يكونون إلى الرعاية، وأرغب في الملاطفة والعطف.
وفي العموم فإن واجبها الإحسان بكل صورة، حسب استطاعتها، مع تجنب كل خلق وسلوك يؤدي إلى إثارة البغضاء وجو التنافس بينها وبين إخوتها من الذكور والإناث، وليكن مبدؤها الإيثار، فتقدم الكبار على نفسها، وتؤثر الصغار رحمة بهم وعطفاً، فإنها إن فعلت ذلك كانت محبوبة بينهم، ومقدمة عندهم على غيرها ممن لا ينهج طريقتها
13ـ صلة الفتاة للأقارب
الفتاة المسلمة مأمورة بالإحسان إلى الأقارب والأرحام، يقول الله تعالى: {… اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، ويقول في موضع آخر من كتابه العزيز: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى …. } [النحل:90]، والآيات في وجوب صلة الأرحام، والتحذير من القطيعة كثيرة، وأما الأحاديث فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :(الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله), ويقول أيضاً:(لا يدخل الجنة قاطع), يعني قاطع رحم.
والرحم في التصور الإسلامي تشمل جميع الأقارب حسب درجة القرابة، فالأسرة في مفهوم الإسلام لا تقتصر على الوالدين؛ بل تشمل الأجداد والجدات، والأعمام والعمات، ونحوهم من الأقارب، فكل هؤلاء لابد أن يكون للفتاة بهم نوع صلة تحقق بها - على الأقل - الواجب الشرعي الذي لا تُعذر بتركه، ما داموا من الرحم المحرمة على التأبيد.(1/184)
وفي تعامل الفتاة مع الأقرباء تنمية وإثراء لصلاتها الاجتماعية، وممارسة عملية للمشاركة الأسرية؛ حيث تشاهد عن كثب مختلف الأدوار الاجتماعية، والعلاقات الأسرية، التي يتعاملون بها، وتعاين الأسس والمعايير الاجتماعية المشتركة، وتفاعلاتها بين الأقارب في علاقاتهم المختلفة، وهذا لا يُتاح عادة للفتاة التي لا صلة لها بالأقارب؛ حيث تقتصر صلاتها على الوالدين والإخوة والأخوات: فتضعف بذلك خبرتها الاجتماعية، وتقل أنواع صلاتها الحميمة والضرورية لبنائها النفسي، مما قد يؤثر عليها من الناحية النفسية؛ فإن قدرتها على تكوين صلات اجتماعية ناجحة، يُعدُّ دليلاً على حسن خلقها، وتوافقها النفسي والاجتماعي، خاصة في حسن تعاملها مع كبار السن، ونجاحها في كسب مودتهم.
ومن المعلوم أن المراهقين المقاربين للبلوغ: تزيد قدرتهم على التكيف الاجتماعي، ويميلون نحو مشاركة الأقارب في نشاطاتهم المختلفة، مما يستوجب بالضرورة استغلال هذا التوجه الفطري بصورة إيجابية ليشمل مرحلة الشباب أيضاً، خاصة وأنهم في هذه المرحلة يكونون أكثر عرضة للاستخفاف بالصلات والعلاقات الاجتماعية.
ولما غلب على الحياة الاجتماعية المعاصرة نظام الأسرة النَّووية الصغيرة، التي تقتصر على الوالدين وذُّرِّيتهما، فإن أفضل وسيلة يمكن الاستفادة منها في صلة الأقارب: استخدام الهاتف الحديث بأنواعه وخدماته المختلفة، خاصة إذا تعذَّرت على الفتاة الصلة عن قرب، فإنه يمكن أن يحقق للفتاة نوعاً من التواصل الاجتماعي الذي أمر به الإسلام، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(بلُّو أرحامكم ولو بالسَّلام), ولعل في استخدام هذه الوسيلة الحديثة ما يحقق العمل بهذا الحديث، والقيام بجانب من الواجب تجاه الأقارب والأرحام
14ـ إحسان الفتاة إلى الخدم(1/185)
يشهد الواقع المعاصر بتوسع البلاد الغنية - بصفة خاصة - في جلب الخدم إلى البيوت بهدف معاونة ربة البيت، والقيام ببعض الأعمال التي يعجز عنها ربُّ الأسرة في خارج المنزل، حيث بلغ عدد الخدم الذين يمتهنون هذه المهنة في منطقة الخليج نحواً من نصف مليون خادم وخادمة، من أصل خمسة ملايين عامل متغرب في المنطقة.
وهذه الأعداد الهائلة تأتي محمَّلة في الغالب بعقائدها، وتراثها، وثقافتها إلى المنطقة العربية، فتؤثر في كثير من أبنائها، خاصة إذا عُلم أن غالبهم من غير المسلمين، ويحملون كثيراً من العقائد المنحرفة، والسلوكيات الخلقية المنافية لأبسط مبادئ القيم، والآداب الاجتماعية التي يؤمن بها أبناء المنطقة الإسلامية، فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن للعمالة الوافدة من الخدم دوراً كبيراً في وقوع الشباب في الإدمان، كما أثبت العديد من الدراسات: "أن النساء المهاجرات يحاولن دائماً المحافظة على العناصر الثقافية والقيم الخاصة بمجتمعاتهن الأصلية أثناء قيامهن بأدوار أو وظائف جديدة في بلد المهجر".
وتكمن الخطورة في قيام هؤلاء النساء الأجنبيات على شؤون الأطفال، والإشراف على التربية، حيث ثبت تأثر الأطفال بهن، وتقليدهم إياهن في كثير من سلوكياتهن ولهجاتهن، فتنشأ الفتاة منذ نعومة أظفارها على يد خادمة غير مسلمة، وتتكون بينهما علاقة حميمة، يصعب على الوالدين هدمها أو حتى التخفيف منها، خاصة إذا كانت الخادمة في سن قريبة من سن الفتاة، فقد دلت بعض الدراسات أن الثلثين منهن تقل أعمارهن عن العشرين، مما يجعل احتمال التوافق والتآخي بين الخادمة والفتاة أمراً محتملاً غير بعيد.(1/186)
ولا يفهم مما تقدم حُرمة استخدام الخادمة؛ فإن الأمر في الأصل على الإباحة، ما دامت الضوابط الشرعية قائمة؛ إذ لا يحق لرب الأسرة أن يجلب إلى بيته من يظنُّ فسادها من الخادمات، خاصة إذا علم أن المرأة الخادمة أقرب النساء العاملات إلى الجريمة، كما أنه لا يحق لأحد في الأسرة - إذا أمنوا ضررها عليهم - إهانتها، أو شتمها، أو ضربها بغير حق، أو تكليفها من العمل مالا تطيق، مع وجوب الإحسان إليها في كسوتها، وطعامها، والعفو عنها عند الخطأ الذي لا ينفك عنه البشر عادة، فقد قال عليه الصلاة والسلام مبيناً حق الخادم:(…. هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم).
وإن من أعظم الإحسان إلى الخادمات في البيوت: دعوتهن إلى الخير والإسلام إذا كن غير مسلمات، أو حثَّهن على التقيد بالدين، وآدابه إن كن مسلمات، فإن هذه أعظم مظاهر الإحسان التي يمكن أن تقوم بها الفتاة المسلمة تجاه الخادمة بعد أن تكون قد تحصنت من سلبياتها، وما يمكن أن تلحقه بها من ضرر خلقي أو عقائدي.
كما ينبغي للفتاة ألا تتأثر بالسلبية والاتكالية بسبب وجود الخادمة، فلا تشارك في أعمال المنزل وخدماته، وتُحمِّل الخادمة كثيراً من المهمات السهلة التي يمكن أن تقوم بها، فقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن وجود الخادمة يحرم الفتيات من التدريب المبكر على شؤون المنزل، ويسوقهن إلى الاستنكاف عن القيام بواجبات الخدمة الأسرية، فلا بد من مراعاة الفتاة لهذه السلبيات وتجنبها.(1/187)
وأما الخدم من الذكور فإنهم في التصور الإسلامي أحرار، وأجانب بالنسبة للفتاة، فإن الخادم المملوك قد انتهى في هذا العصر، فلا يحق لها أن تتكشف عليهم، أو أن تُظهر زينتها لهم، أو أن تخلو بأحدهم، ولو كان في سيارة لغير حاجة ملحة؛ فإن في هذا فساداً عظيماً، والواجب عليها أن تقتصر في معاملتها معهم على الكلام عند الحاجة إلى ذلك، دون الخضوع بالقول، فهم رجال يميلون بطبعهم إلى الإناث، وامتهان مهنة الخادم، أو السائق لا تُقلل من طباع الذكور شيئاً، بل إن الاحتكاك بالفتيات، والحديث الطويل معهن ربما أثارهم، فوقع منهم ما لا تُحمد عقباه، خاصة إذا عُلم أن غالب هؤلاء من الشباب العزاب المتغربين عن أوطانهم؛ لذا فإن أفضل إحسان تُسْديه الفتاة إلى أحدهم: ألا تكون بشخصها عنصراً مثيراً له، حيث تحمي سمعه وبصره من الإثارة العاطفية بحسن سمتها، وتحفُّظها في سلوكها وكلامها.
15ـ الدور الأبوي في ضبط سلوك الفتاة
أوجب منهج الإسلام على الأب - خاصة - رعاية أسرته، والمحافظة عليها، والإشراف على الزوجات والأولاد، فقال - عز وجل - : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ …..} [التحريم:6]، وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ …..} [التغابن:14]، فالأب مسؤول عن أسرته، وضبط سلوك أعضائها، وله الحق، وعليه الواجب في تولي ذلك بيده - إن احتاج الأمر - مُغِّيراً للخطأ، ومؤدباً لأعضاء الأسرة، فإن أفضل الآباء أنفعهم لعياله، ومن هم تحت يده.(1/188)
وقد أهَّلَ المولى - عز وجل - الأب جسمياً ونفسياً وعقلياً لهذه المهمة التربوية، فهو أقوى نوعي الإنسان بنْية، وأرسخهما فهماً، وأضبطهما عاطفة، وهو رمز السلطة، وقمة النظام الرئاسي لكل العلاقات الإنسانية؛ فسلطة الضبط والمنع تكون عادة بيده، أكثر مما تكون بيد الأم، وقد أثبتت الدراسات أنه الأنفع لهذا الدور الأسري، بحيث لو تخلى عنه للأم: سبب ذلك خللاً في نفوس الأبناء، وربما كان سبباً لانحرافات خلقية عظيمة، فلكل واحدٍ من الوالدين تأثيره الإيجابي في الأبناء، ولا يُستغنى بأحدهما عن الآخر، فالفتاة في أسرتها تحتاج إلى النضج الرجولي في والدها، كما تحتاج - في الوقت نفسه - إلى النضج الأنثوي في أمها، فيتكامل الدَّوْران، ويحصل الأثر التربوي المنشود من تفاعلهما في الحياة الأسرية.
إن من أعظم أسباب الانحرافات الخلقية المختلفة في الحياة الاجتماعية المعاصرة: فقدان سيطرة الأب الجاد، الذي يشرف بنفسه على انضباط أسرته، ويحافظ عليها من الانهيار، وقد كشف البحث الميداني المعاصر عن وجود ضعف عام في السلطة الأبوية، وأن غياب الأب - على وجه الخصوص - يؤثر سلباً على سلوك أفراد الأسرة، فغالب جرائم النساء عموماً، والفتيات خصوصاً تعود إلى فقدان سلطة الآباء في ضبط سلوكهن، تلك السلطة القوية الصادقة، غير المفتعلة، التي تفرض السلوك الصحيح بصورة مطردة، فتشعر الفتاة في ظلها بالأمن والاستقرار، ولعل هذا الدور التربوي المهم للآباء كان وراء قرار مجلس النواب الفرنسي عام 1915 بالسماح "للنساء بممارسة سلطة الأبوين" فإن المرأة التي تفقد زوجها تقوم في بيتها مع أولادها بدورين، دور الأم في حنانها وعطفها، ودور الأب في قوته وسلطته.(1/189)
إنه لا يحق لمن لا يستطيع القيام بدور الأبوة على وجهها الصحيح: أن يكون أباً، فإنه لا يوجد عذر، يمكن أن يكون ذريعة للأب في التخلي عن دوره الأسري التربوي، بحيث تكون علاقته ببناته كعلاقتهن بأي رجل من الناس، أو كعلاقة إناث بذكور لا علاقة أب ببناته، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تمنعه مشاغل الدعوة، وتربية الناس، وعبادة ربه - عز وجل - عن القيام بدوره التربوي تجاه ابنته فاطمة رضي الله عنها ، فقد كان يراقبها في لباسها وزينتها، حتى إنه نهاها مرة عن سلسلة من ذهب كانت في عنقها، وكان يمر عليها بنفسه بعد انتقالها إلى بيت الزوجية: يُوقظها لصلاة الفجر.
وكذلك الخليفة الراشد أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، كانت مكانته في توجيه أسرته معروفة، لا يخرج أحد عن توجيهاته، فهذه زوجته أم رومان رضي الله عنها تروي جانباً من شخصيته في الأسرة فتقول: "رآني أبو بكر - رضي الله عنه - أميل في الصلاة فزجرني زجرة كدت انصرف من صلاتي…".
إن دور الأب في الأسرة لا ينحصر في مجرد النفقة، بل عليه واجب الإشراف العام والتوجيه، وإشعار الجميع بوجوده وسلطته، بحيث لا يقضى أمر يهم الأسرة إلا كان بعلمه وموافقته، ولا يسلك الأولاد سلوكاً، ولا يتعاطون عملاً إلا كان بعلمه واطلاعه، وهذا لا يعني أن يتفرغ للأولاد كما تفعل الأم، وإنما المقصود إحاطته - في الجملة - بما يجري في أسرته، وبهذا ينتظم بيته، ويتقيد كل فرد فيه بما يجب عليه، وتشعر الفتاة بسلطان أبيها، فتسكن نفسها لذلك، وينضبط سلوكها، ويذهب عنها القلق الذي يعتري - عادة- الفتاة التي لا تعيش تحت سلطة ضابطة.
16ـ استخدام عاطفة الأمومة في توجيه الفتاة(1/190)
إن عاطفة الأمومة أعظم ما تقدمه الأم المؤمنة إلى أبنائها، فإنهم لن يجدوا حنان الأمومة ورحمتها عند غيرها، فمن المعلوم أن علاقة الأم بالشباب في الأسرة أكبر وأعمق من علاقتهم بالأب، وتسامحها معهم أكثر وأوسع من تسامحه معهم؛ لهذا تكون الأم عادة ألصق من الأب بحاجات الأولاد من الجنسين، وأعرف بمشكلاتهم، وأقرب إلى حلها.
ومن المعلوم أن الفتاة تلجأ عادة في حل مشكلاتها إلى الأم أولاً، ثم إلى الأخت، ثم إلى الأب، إلا أنها إذا لم تجد عندهم فرصة لبثِّ آلامها وآمالها، أو كانت الأسرة مفككة الروابط، أو كبيرة العدد، بحيث تعجز الأم بمشاغلها عن متابعة الجميع بصورة كافية، فإن الفتاة تلجأ إلى خارج البيت باحثة عن الدفء والحب في صديقاتها، أو لربما لجأت إلى الانحراف الخلقي لسدِّ خلَّتها، وهذا ليس ببعيد فإن وجود الأبوين في الأسرة ليس بالضرورة كافياً لضمان عدم الانحراف، فقد دل البحث الميداني على: أن غالب أسر الشباب المنحرفين: أسر مكتملة الأعضاء، يعيش فيها الوالدان والأولاد معاً، إلا أنها جوفاء، خالية من المضمون التربوي الصحيح.
إن من أعظم المشكلات التي تواجه الشباب في العموم، والفتيات على الخصوص: عدم القدرة على البوْح بالأسرار، ومفاتحة الوالدين بالمشكلات، وهذا يرجع إلى ضعف شخصية الفتاة، أو كونها مطلقة، فإن علاقة الأم بالبنت المطلقة سيئة في كثير من الأحيان، أو ربما يرجع إلى النفرة التي تحصل أحياناً عند الفتيات من الأمهات، عند توجههن نحو الاستقلال العاطفي والفطام الأبوي، الذي تتطلبه مرحلة الشباب، فإن غالب مشكلات الفتيات وانفعالاتهن في هذه المرحلة من النضج تتجه إلى داخل الأسرة نحو الآباء والأمهات على الخصوص، في حين تتجه مشكلات الفتيان من الشباب نحو المجتمع الخارجي.(1/191)
وعلى الرغم من هذا فإن الفتاة في العموم لا تزال أطوع في سلوكها للأم، وأحرص على كسب رضاها من الأولاد الذكور، وتأثيرها في توجيهها، وتنمية قدراتها: لا تزال أكبر من تأثير الأب وأعمق، فلا تزال فرصة التوجيه التربوي، والضبط الأخلاقي ممكنة؛ فإن الأم بما حباها الله تعالى من قدرات خاصة: تستطيع أن تؤثر في الفتيات بصورة خاصة والأولاد بصورة عامة تأثيراً يفوق الوصف، بشرط قيامها بدورها الأمومي خير قيام، وتمثلها سلوك الأنثى كأكمل ما يكون، ومن ثم الالتصاق الروحي، والاندماج العاطفي بالفتيات، بحيث تصل إلى أعمق ما في نفوسهن من المشاعر والأحاسيس، فتبذر فيهن مبادئ الخير والفضيلة، وتتحكم في نوازعهن الدافعة، فتضبطها بما يوافق أصول الأخلاق، ومبادئ الشريعة، يقول الإمام بديع الزمان سعيد النورسي ~ٍٍِِ مبيناً دور والدته في تكوين شخصيته، وعمق تأثيرها في سلوكه وخلقه: "أقسم بالله إن أرسخ درس أخذته، وكأنه يتجدد عليَّ، إنما هو تلقينات والدتي رحمها الله، ودروسها المعنوية، حتى استقرت في أعماق فطرتي، وأصبحت كالبذور في جسدي".
17ـ استخدام الأسرة العقوبة التأديبية لضبط سلوك الفتاة
من وسائل تنمية الأخلاق الأسرية استخدام أسلوب التأديب بمعناه الشامل، فقد أقر الإسلام مبدأ العقوبة النفسية، والبدنية، واعترف المربون المسلمون بالعقوبة كأسلوب من أساليب التربية، وضابط للسلوك، ووضعوا لها شروطاً، وضوابط لإيقاعها عند الحاجة.(1/192)
وعقوبة الولي العاقل للفتاة البالغة بإحدى نوعي العقوبة، ونحوهما عند الحاجة: أمر مشروع، فقد أباح الله تعالى ضرب الرجل امرأته للتأديب حينما يضطر إلى ذلك، وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بتعليق السوط في البيت، وأوصى معاذاً - رضي الله عنه - بتأديب العيال، فقال عليه الصلاة والسلام:(…. أنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدباً، وأخفهم في الله), وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى ما يكره: غضب ، واشتد في وعظه، وربما دخل أبو بكر على ابنته عائشة رضي الله عنهما فأوجعها، وكل هذه أساليب تأديبية وعقابية.
وتأديب الأبناء ضرورة لاستقرار نفوسهم، حيث يحتاجون في مرحلة الشباب إلى من يضبط سلوكهم، كما كانوا يحتاجونه في سنوات الطفولة، والفتيات أحوج للأدب، فما زال كثير من المجتمعات تراعي ذلك فيهن أكثر من مراعاته في الذكور، حتى إن بعض القبائل الإفريقية لتؤكد هذه الحاجة التربوية: بإعطاء الفتاة عند البلوغ شراباً سحرياً، يزعمون أنه يساعدها على الأخذ بالأخلاق الحسنة، وطاعة أوليائها.
ومن الضروري أن يراعي المربون الاعتدال في العقوبة عند الحاجة إليها، فإن "التجارب القاسية الشديدة يمكن أن تحدث صدمة نفسية تؤدي إلى اضطرابات العمليات النفسية"، فقد يكون سوء معاملة الأب لابنته وسيلة من وسائل الانحراف الخلقي، كما أن التساهل في ضبط سلوك الفتاة قد يسوقها إلى الاستهانة بالأسرة، والتفريط في الالتزام بواجباتها، فتقع - من جهة أخرى - في الانحرافات الخلقية، وقد اتضح من خلال التجارب أن أسلوب الاعتدال في معاملة الفتيات، بين السماحة والتَّشدُّد هو الأسلوب الأرجح لضبط سلوكهن، دون توتر شديد يُخلُّ بتوازنهن النفسي.(1/193)
والأبوان لا بد أن يدركا أن الصفات المشتركة بين الناس كثيرة، إلا أن هناك ما يؤكد أن كل إنسان وحيد من نوعه، فمنهم من جُبل على سرعة القبول والانصياع، ومنهم البطيء في ذلك، إلا أنه لا ينفك أحد -في الجملة- عن التأثر وإن قلَّ، فالتربية مهما بلغت من الإتقان فلن تجعله إنساناً آخر، إنما تستخدم طاقته المتاحة، وإرادته، وتكوينه الفطري: لتكوين شخصيته الخاصة به، وفي هذا يقول نُمير بن أوس موضحاً هذا المعنى: "الصلاح من الله، والأدب من الآباء"، فالوسائل التربوية المختلفة يتخذها الآباء والمربون، أما النتائج فإنها إلى القدر المحتوم في غيب الله تعالى.
التربية الزوجية للفتاة
1ـ أهمية التربية الزوجية للفتاة الناشئة
تتبوَّأ الأخلاق - في التصور الإسلامي - مكانة عظيمة؛ إذ هي الجانب التطبيقي العملي لمعتقدات المسلم، فلئن كانت العقيدة هي الجانب الباطن من الإنسان المسلم، فإن الأخلاق هي الجانب الظاهر منه، حين تأتي في صورة السلوك الواقعي للمفاهيم الإسلامية، والآداب الاجتماعية، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبيِّناً مكانة الأخلاق في هذا الدين: (( مامن شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُق حسن… )).
ولئن كان الخلق الحسن ضرورياً للجنسين فهو للفتاة المسلمة آكد، فقد ربط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين النساء وبين الفتنة فقال : (( ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على الرجال من النساء ))، فالتربية الخلقية لهن أوجب لحمايتهن من الزلل، وحماية المجتمع عموماً من الانحرافات .(1/194)
وتأتي الأخلاق الزوجية لتتصدَّر أهم الجوانب الخلقية الضرورية للمجتمع؛ إذ تمثل الأسرة أهم مؤسسات المجتمع المسلم، وعليها يقوم البناء الاجتماعي بأكمله، فبقدر الحضور الخلقي في الممارسات الأسرية : يكون حجم السعادة الزوجية، ويصلح - بناءً على ذلك - حال الذرية، ثم يتحقق - من مجموع ذلك كلِّه - فلاح المجتمع، وبالتالي النهضة الحضارية المنشودة .
والخلق الحسن - في المفهوم الإسلامي - لا يُسمى خُلُقاً حتى يصبح طبعاً وسجية للشخص، يصدر عنه بسهولة ويسر، بعد أن يكون قد تدرَّب عليه، وتمرَّن على أدائه، ومن هنا كان لزاماً على منهج تربية الفتاة المسلمة أن يراعي ذلك في أهدافه التربوية؛ بحيث يكون ترسيخ الخلق الحسن، والتدريب عليه ليصبح طبعاً للفتاة، وسجية راسخة في نفسها، وواقعاً تطبيقياً تمارسه : هو غاية التربية الخلقية للفتاة المسلمة .
وتتبوَّأ الزوجة جزءاً مهماً في البناء الاجتماعي للأسرة؛ إذ هي - على الحقيقة - محور الحياة الزوجية، ولئن كان الزوج يتقاسم مع زوجته مهمات الحياة الأسرية، ويقوم بجزء كبير من المسؤوليات الأسرية : فإن الزوجة - بما حباها الله تعالى من الطبيعة الفطرية، وكلَّفها من المهمات التربوية – تفوق مسؤوليتها في الجملة مسؤوليات الزوج الأسرية؛ إذ إن جلَّ مسؤولياته عامة، تتمثل في النفقة الواجبة، والإشراف التربوي العام، في الوقت الذي تنفرد فيه الزوجة بالحمل التربوي الأكبر، حين تخوض التربية الأسرية بكل تفصيلاتها وبمعظم معاناتها، حتى إنها - من فرط امتزاجها بمشقة الإنجاب والتربية والخدمة - لتستعذب الألم، وترضى الجهد، وتحمد المعاناة، وكأنها جزء من كيانها، وتركيبها الفطري .(1/195)
إن هذا العطاء التربوي من الزوجة لا يمكن أن يبلغ مداه المطلوب، ويحقق أهدافه المنشودة إلا حين تُعد الفتاة للحياة الزوجية إعداداً تربوياً شاملاً، يؤهلها للقيام بمهماتها الأسرية تجاه زوجها وذريتها؛ بحيث تتوجه نحو زوجها بما أوجبه الله تعالى عليها، واستحبه لها من الأخلاق الظاهرة والباطنة، وتتوجه نحو الذرية بالرعاية والحفظ، مقتنعة بأهمية دورها في عملية التكاثر .
إن قضايا كثيرة من أمور الزواج، والعلاقات الزوجية المهمة لتحقيق السعادة لا تزال محجوبة عن أذهان كثير من الفتيات، يكتنفها الغموض، على الرغم من وضوحها في منهج الإسلام، واستفاضة العلماء في الحديث عنها، وبيان جوانبها.
ومن هنا تظهر أهمية التربية الزوجية للفتاة الناشئة لتكون زوجة صالحة، وأماً حانية، ومربية صالحة .
2ـ الزواج فطرة كونية
ظاهرة الزوجية ظاهرة عامة في الحياة الكونية، تنطبق على جانبيه : المادي والمعنوي، فتشمل عالم الإنسان والحيوان والنبات : حيث ظاهرة الذكر والأنثى، وعالم الجماد : بالموجب والسالب، وعالم الأفكار: بالصواب والخطأ، وكذلك المشاعر : فالرضا يقابله الغضب، والسرور يقابله الحزن . وهذا التشبيه مع الفارق؛ إذ لا يمكن أن تنطبق الزوجية في عالم الإنسان على الزوجية في نظام الكون من كل وجه، إلا أنه يدل على أن نظام " الزوجية ليس دائرة ضيقة ولا أفقاً محصوراً مقصوراً على الإنسان أوالحيوان أو النبات؛ بل هو سنة كونية كلية مرتبة، اتخذت مكانها في أنواع الكائنات كلها، وقسَّمت أفراد كل نوع قسمين أو زوجين، وحلَّت في أحد القسمين بسر يخالف السر الذي حلت به القسم الآخر، ولا تُعطي سنة الله ثمرتها بإيجاد النوع إلا إذا التقى السِّران، واجتمع الزوجان " .(1/196)
والإنسان أفضل الكائنات، وأرقاها في عمق تعبيره عن الطبيعة الزوجية، فقد قامت البشرية منذ آدم عليه السلام على نظام الزواج والأسرة، فما أن خلق الله آدم عليه السلام حتى أتبعه زوجه؛ ليسكن إليها، وتستقر نفسه بها، فما عرفت البشرية قطُّ فكرة شيوعية النساء إلا في عهد الثورة الشيوعية المنْدَحرة . ثم لما تبيَّن لهم بعد زمن فداحة فكرتهم وضلالها : عادوا من جديد إلى نظام الزواج .
إن الزواج في الحقيقة يُعد أعظم أركان التَّمدُّن الإنساني، وهو السبيل الوحيد لضمان دوام الإنسانية، وهو النظام الفريد القادر على بقاء الجنس البشري، ولو أخفقت جميع النظم البشرية الأخرى . ولا يزال الخلق يتزوجون، فما يبلغ أحدهم الخمسين إلا وقد جرَّب الزواج، وقلَّة نادرة هم الذين يتركونه . فيحتاجون - لهذا الشذوذ - من الجهاد النفسي والجسمي، والاعتزال الاجتماعي ما يُعينهم على مخالفة الفطرة السوية . يقول الجنيد - وهو الزاهد المعروف - مبيِّناً الحاجة إلى الزواج : " يقولون : يُحتاج إلى النكاح كما يُحتاج إلى القوت، قلت : فالزوجة على التحقيق سبب طهارة القلب "، فزاد رحمه الله على كونه ضرورة كالقوت للبدن، أنه من أسباب طهارة القلب، حيث تستقر به النفس، ويُحفظ به الدين والخلق.
ورغم الانفتاح الكبير الذي يعيشه الغرب، والحرية غير المحدودة : فإنهم -الآن- يتوجهون نحو الزواج وترك العزوبة، وتُقرر دراساتهم الاستطلاعية على الفتيات خصوصاً والنساء المتعلمات عموماً : أن الزواج والأمومة هما وظيفتا المرأة في الحياة . مما يدل على انتصار الفطرة، ولو خالفها الواقع الاجتماعي .
ومن هنا فإن قناعة الفتاة المسلمة بهذا المبدأ من الناحية الشرعية، والناحية العقلية والواقعية يدفعها نحو الزواج والإقبال عليه، والتنعم بمباهجه : موافقة لطبيعتها البشرية، وانسجاماً مع طبيعة الحياة، ونظامها الكوني .
3ـ أهمية الزواج في تحقيق حاجة الأمة إلى التكاثر(1/197)
تعتمد الأمم منذ القديم في قوتها على أعداد أفرادها البشرية العاملة والمنتجة، فالعامل البشري في التنمية الاقتصادية أهم بكثير من الموارد المادية الطبيعية؛ لأن الإنسان هو الأساس في النهضة الاجتماعية، والدعامة الأولى للنمو الحضاري، والازدهار الاقتصادي؛ فهو الوسيلة التي يمكن من خلالها إحداث التنمية وتطويرها، وهو أيضاً غاية التنمية، في تحقيق رفاهيته وسعادته، فالإنسان هو الوسيلة والغاية في الوقت نفسه؛ ولهذا يعتبر نقص المواليد في اليابان مشكلة وتحدياً يواجه المجتمع الياباني خلال القرن الواحد والعشرين الميلادي، كما جاء ذلك مصرحاً به في تقرير لجنة الوزراء باليابان .
وقد أدركت الشعوب منذ القدم هذا الفهم، فالأمم اليهودية والنصرانية، رغم فهمها الأعوج للزواج؛ حيث طفحت كتبهم المنحرفة التي يقدِّسونها بالتحذير منه والترغيب في العزوبة والتبتل، ومع ذلك تدعو بكل قوة إلى التناسل والتكاثر وتحسين النوع، وإنزال أقسى أنواع العقوبات بكل من يقتل أبناءه، أو يجهض الحوامل، حتى إن الكنيسة في القرون الوسطى كانت تُحرِّم جميع وسائل منع الحمل.(1/198)
واستمر عندهم هذا المسلك السياسي الاجتماعي مع شيء من التطور في العصور الحديثة التي أعطت للأفراد مزيداً من الحرية في الإجهاض، وترك الإنجاب، ورغم ذلك فإن الدول الغربية لا تزال من خلال التشجيع، والحوافز تدفع بشعوبها نحو التكاثر - بصورة مشروعة أو غير مشروعة - خاصة بعد أن قلَّت أعداد المواليد عندهم بصورة مفزعة، وفي الوقت نفسه - وبصورة مزدوجة - سعوا إلى إضعاف التناسل السكاني عند الشعوب المنافسة، خاصة الشعوب الإسلامية التي ترى من دينها : أن التكاثر سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأن الأرض لن تضيق يوماً بكفاية أهلها . فجدُّوا في إقناع الشعوب - بوسائل مختلفة - بضرورة ضبط الإنجاب، وأوصوا من خلال بعض المؤتمرات السكانية : بنقل التقنية الخاصة بإنتاج وسائل منع الحمل إلى الدول النامية؛ لتحقيق الاكتفاء الذاتي منها، في الوقت الذي لا يجد كثير من هذه الشعوب في الدول الفقيرة الماء النَّقي الذي يصلح للتَّناول . فدل على أن هذه الدعوة تهدف إلى القضاء على قوة المسلمين السكانية، حيث يخافون من زيادة نسبتهم، وتفوقهم العددي، معتبرين ذلك تهديداً لمصالحهم الحيوية؛ ولهذا أفتى علماء الإسلام المعاصرون بحرمة تحديد النسل مطلقاً إلا في حالات فردية خاصة، تدعو إليها الضرورة، معتبرين هذه الدعوة تآمراً على قوى المسلمين البشرية، وإيقافاً لها عند حد القلة والضعف أمام الشعوب الأخرى . وقد دلَّت العديد من الإحصاءات الحديثة على تفوق الدول العربية والإسلامية - في الجملة - في معدلات النمو السكاني والخصوبة على الدول الصناعية بأكثر من الضعفين للخصوبة، وأكثر من أربعة أضعاف للنمو السكاني، وهذا لا شك يزيد من توتر القوى المعادية للإسلام والمسلمين، مما يدفعهم إلى مزيد من الأنشطة الرامية إلى الحد من تنامي قوى المسلمين العددية .(1/199)
ومن هذا المنطلق تدرك الفتاة دورها المهم أمام هذا المخطط الغربي، وتقتنع بضرورة قيامها من خلال الزواج الإسلامي بتحقيق هدف تكثير الأمة المسلمة، امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحاثِّ على التناسل، وتجنباً من مشابهة طبيعة المرأة العاقر التي لم يُرغِّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزواج منها، وتعرف أن أهم ثمار النكاح : التناسل فهو المقصد الأسمى والأعظم من مشروعية الزواج . بحيث لا يمنعها من الزواج، ولا يصرفها عنه - إذا حضر الكفء - إلا ضرورة مانعة .
4ـ دور الزواج في حماية المجتمع من الانحرافات الخلقية
لقد ثبت يقيناً، وعلى جميع المستويات : أن الزواج هو أعظم وسيلة لحماية المجتمعات من الانحرافات الخلقية والنفسية، وأن العزوبة في الرجال والنساء سبب أكثر الانحرافات الخلقية المعاصرة . وقد أشار إلى هذا المعنى الحديث الوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطر العزوبة على الأخلاق حيث يقول فيه : (( … ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء، إلا المتزوجون أولئك المطهَّرون المبرؤن من الخنا ))، فالمتزوجون في الغالب بريئون من الفواحش، وكبائر المعاصي، ولا سيما المتعلقة منها بالناحية الجنسية، في حين يكون العزاب أقرب إليها، وأدعى للوقوع فيها؛ ولهذا فإن المتزوج الصالح قد سلم له نصف دينه، وقد دلَّت الدراسات على أن العزاب في العموم أكثر الناس إجراماً وفساداً على المستويين الاجتماعي والسياسي، وأكثر فئات المجتمع معاناة للأمراض والآلام النفسية من : القلق، وتقلب المزاج، والأوهام والخرافات، والهوس . في حين يُلاحظ أن الفتاة الريفية ضمن نظام الزواج المبكر لا تعرف هذه المشكلات الخلقية والأزمات النفسية، وفي هذا يقول المفكر الغربي موليير : " الزواج دواء يشفي كل أدواء سن المراهقة " .(1/200)
وعلى الرغم من خطر العزوبة الذي يهدد المجتمع الدولي عموماً والمجتمع المسلم خصوصاً، واستمرار وسائل الإعلام المختلفة في تشويه الرابطة الزوجية، ووسمها بالقيود والأغلال، مقابل الحرية والانطلاق في حياة العزوبة : فإن الإحصاءات الكثيرة تشير إلى تزايد عدد الفتيات العازبات، وإلى تناقصٍ حادٍ في أعداد عقود النكاح في جميع المجتمعات المعاصرة، وأن زيادة أعداد عقود النكاح في بعض البلاد ترافقها زيادة عكسية في أعداد صكوك الطلاق، مما نتج عنه انحرافات خلقية عظيمة تفوق حدَّ الوصف، وكان نصيب الفتيات منها في الغالب انحرافات جنسية . في حين لم يكن يخطر ببال الفتاة المسلمة إلى عهد قريب : أن تقع في الفاحشة، لولا إلحاح الرغبة العارمة في ظل نظام العزوبة المعاصر، الذي فرضه الواقع الحديث، يقول المفكر الغربي " لايتز " الذي عاش أكثر من نصف قرن من الزمان بين المسلمين حتى نهاية عام 1902م : " وتكاد لا ترى امرأة غير متزوجة … وليس في الإسلام محلات للفاجرات، ولا قانون يبيح انتشار المومسات " .
إن على المربين أن يدركوا أن الميول الجنسية، والحاجة إلى إشباعها : لا يمكن أن يؤجلها شيء من أمور الحياة، مهما بلغت الفتاة من التعليم والثقافة والوعي؛ فإن " اللقاء لا بد أن يتم - بحكم الفطرة - بين الرجل والمرأة، وليس هناك إلا طريقان اثنان لهذا اللقاء، مهما تعددت صوره : إما لقاء مشروع في صورة زواج، وإما لقاء غير مشروع في أية صورة من الصور "، فإذا حصلت الإثارة الجنسية : ضعفت عندها القوى العقلية المدركة لعواقب الأمور، وحصل من جرَّاء ذلك المكروه، يقول التابعي الجليل أبو مسلم الخولاني رحمه الله ناصحاً قومه، ومشيراً إلى هذه القضية الجنسية الخطيرة : " يا معشر خولان زوِّجوا نساءكم وإماءكم، فإن النَّعظ أمر عارم، فأعدُّوا له عدة، واعلموا أنه ليس لمنعظ أذن "، يعني ضعف إدراكه تحت الإثارة العارمة، فلا يقبل النصح، ولا يستوعبه .(1/201)
إن إدراك المربين في العموم والفتاة على الخصوص لهذه المفاهيم يدفع الجميع نحو الجدية في طلب النكاح، والسعي لتسهيل سبله، بهدف حماية المجتمع من الانحرافات، فلا يقف ضده تعليم، أوعمل، أو فكرة مهما كانت حميدة؛ فإن الزواج هو الحصن الحصين من غوائل الشهوة، ودوافع الرغبة العارمة التي يستخدمها الشيطان للفساد الخلقي والانحراف .
5ـ الزواج يشبع حاجة الفتاة إلى الجنس الآخر
للزواج جاذبية خاصة، لا تقوى الفتاة على مقاومتها، حتى وإن أظهرت خلاف ذلك، فإن في قرارة نفسها رغبة خالصة للاقتران بالرجل، فما أن تدخل الفتاة مرحلة الدراسة المتوسطة حتى تبدأ تفكر في الفتى الذي سوف تقترن به، وما إن تصل المرحلة الثانوية حتى تصبح أمور الزواج من أسباب قلقها، وانشغال ذهنها، حتى إن غالبهن " يرسمن خططهن للمستقبل على أساس الزواج عقب انتهائهن من مرحلة التعليم الثانوي "، ومن التحقت منهن بالجامعة قبل أن تتزوج : فإن رغبتها نحو الزواج أكبر بكثير من مجرد حصولها على وظيفة، بل وحتى اللاتي كن يعملن من الفتيات في زمن الثورة الصناعية في أمريكا : ما كانت تزيد أمنية إحداهن على أن تتزوج في سن مبكرة من رجل صالح يناسبها، فالفتاة البالغة بفطرتها ليس شيء أحب إليها من الزواج، وتكوين الأسرة .(1/202)
إن الحاجة النفسية والعاطفية في طبع الفتاة نحو الرجل ملحة، وتكاد تكون أبلغ من حاجته فيها، فهي أقرب إلى الغريزة منه، وأكثر انغماساً في طبيعتها الجنسية من الرجل، حيث تستوعب هذه الطبيعة غالب كيانها، ويصبح نموها وسلوكها في خطر ما لم تشبع حاجتها الغريزية من الجنس الآخر، وتكون هويتها الجنسية في غموض ما لم تتأكَّد، وتظهر على يد فحل من الشباب، كما أن صفة اليُتْم لا تزال عالقة بالبكر ما لم تتزوج، ورشدها العقلي لا يبلغ تمامه إلا بالرجل الزوج تضمه إليها ضمن نظام الاجتماع العام وقوانينه، وقد أجمل هذه المعاني المتعددة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول فيما رُوي عنه : (( إن للزوج من المرأة لشعبة ما هي لشيء ))، يعني أن له في نفسها مكانة عظيمة ليست لشيء آخرعندها.
إن الرجل يمثل للمرأة حاجة فطرية أصيلة في عمق كيانها الأنثوي، بحيث لا يمكن أن تكتمل إلا به، في حين يمكنه أن يكتمل هو بدونها، فقد مرَّ زمن ما على الرجل الأول بغيرأنثى، ولم يسبق قطُّ أن مرَّت على الأنثى برهة بغير الرجل، فهو يمثل لها الوطن الذي تحنُّ إليه، وترغب فيه، فهي بالفطرة مهيأة منذ الطفولة لتفارق أهلها، وتنضم إليه، ويُعبِّر العقاد عن هذه العلاقة العميقة بين الجنسين فيقول: "المرأة ماخَلَقت فيما مضى ولن تخْلُق بعد اليوم قانوناً خلقياً، أو نخوة أدبية تدين بها وتصبر عليها، غير ذلك القانون الذي تتلقاه من الرجل، وتلك النخوة التي تسري إليها من عقيدته".(1/203)
إن هذا الإلحاح الأنثوي الغامر، والمتشعِّب في طبيعة الفتاة، والذي ينبعث ليشمل كيانها بشقيه الرئيسين: الروحي والجسمي، ويبلغ تأثيره حتى على طبيعة موضوعات أحلامها، حيث يشغل الجنس الآخر، وموضوعاته العاطفية حيِّزاً كبيراً من مضامين رؤاها، بل حتى حين يكون الاختيار بيدها، فإنها تتحدث عن الرجل أكثر بكثير من حديثها عن نفسها، أو عن بنات جنسها . إن هذا الإلحاح المتدفق والممتلئ بالحيوية، والمفعم بالعواطف إذا لم تجد له الفتاة متنفساً طبيعياً عند الرجل الزوج، فإن من الصعوبة عليها إخفاء آثاره، أو محاولة كبته بالكلية؛ لهذا تستعين الفتاة تلقائياً على ضبطه بوسيلتين إحداهما : النشاط الروحي والتسامي بالعبادة، والأخرى : التوجه العاطفي نحو بنات جنسها، ممن ترى فيهن مثالاً لها، بحيث يغمرها تجاه إحداهن حبٌّ عميق قد يصل إلى درجة الهيام والغرام، والغيرة الشديدة، والخوف من فقدانها .
وهذا الحبُّ الغامر، الذي تتبعثر شحنته بترك الزواج، أوتأخيره بصورة مفرطة: هو القاعدة العاطفية الطبيعية، التي تُبنى عليها علاقة الفتاة بشخص من الجنس الآخر، وهو الذي يدفع الفتاة لترك أهلها وأحبائها من أجل اقترانها برجل غريب عنها، حيث تشبع من خلال علاقتها به هذه الخلَّة النفسية العاطفية عندها، وتكوِّن معه أعظم وأهنأ وأغلظ رباط يمكن أن يُعقد بين اثنين من الخلق، بحيث تجد الفتاة في الطرف الآخر من الجهة الروحية ما يشكل معها وحدة روحية واحدة، ومن الجهة الجسمية ما يحقق الغرض من اللباس، حيث الامتزاج الكامل بين الشريكين، وتلبُّس كل واحد منهما بالآخر، فتلتقي مظاهر الأبدان وبواطنها، وبروزاتها وتجاويفها : لتؤلف شخصاً واحداً في كيانين ممتزجين، كما وصفها المولى - عز وجل - بقوله المحكم : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ … } [البقرة:187].(1/204)
ومن هنا تتبين أهمية الرجل الزوج بالنسبة للفتاة، وضرورته لها، وأن في حرمانها من الزواج، أو الإفراط في تأخيره : تعطيلاً لهذه المشاعر والعواطف، وبثَّها في غيرمحلها الطبيعي الذي أباحه المولى - عز وجل - .
6ـ أهمية الزواج في تحقيق الكمال الأنثوي
إن بلوغ الكمال في المجال النسائي، والوصول لحالة النضج السلوكي لا يتحقق للفتاة من جميع جوانبه حتى يكون الزواج والأمومة من خبراتها الاجتماعية، فإن النساء الأربع اللاتي ذكرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكمال : كلهن قد تزوجن، إلا مريم بنت عمران عليها السلام لم تتزوج للحكمة التي أراد الله تعالى من خلق عيسى عليه السلام دون أب، ومع ذلك مارست الحمل، والأمومة، ورعاية الطفولة .
والزواج مع كونه حاجة فطرية : فإنه ضرورة مهمة للتفتح الوجداني والنفسي عند الفتاة؛ لاستكمال توافقها الاجتماعي، فالحاجة إلى الزوج باعتباره ذكراً : ضرورة لتفاعل الفتاة مع دوره الطبيعي والاجتماعي لتحقيق دورها، وبروز طبيعتها باعتبارها أنثى، كما أنها من خلال النسل : تتفجَّر طاقاتها الروحية والجسمية والعاطفية، فالحمل له دوره المهم في التغيرات النفسية والجسمية والعقلية للحامل، كما أن تعامل الزوجة مع الأطفال من خلال معاناة التربية : يؤثر بصورة إيجابية على نمو قدراتها العقلية والفكرية والعاطفية، إلى جانب التأثيرات العكسية التي يحدثها الأطفال في نفس الأم، والخبرات السلوكية الراشدة التي تتشربها من خلال ممارسة التربية والرعاية، فهم بالنسبة لها : أداة تثقيف مهمة، ووسيلة اجتماعية لتنشئتها من جديد .(1/205)
وقد ثبت أن المرأة العانس، التي لم تعرف الزواج : ناقصة الخُلُق، كالأرض القاحلة والصحراء الموحشة، وهي في خُلُقها - إن لم يُهذِّبها الإيمان - من أشد الناس استخفافاً بالحياة والقيم، واستنكاراً للمُثُل والجمال؛ ولهذا منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من العزوبة في النساء، وحثَّ على الإسراع بالتزويج، وقال لأم بشر بنت البراء رضي الله عنها لما عزمت على العزوبة بعد وفاة زوجها : (( إن هذا لا يصلح ))، ولما سئُل الإمام أحمد رحمه الله عن بشر بن الحارث الزاهد المشهور قال : (( لو كان بشر تزوج لتمَّ أمره ))؛ أي نقص عن الكمال بترك الزواج؛ لأن العزوبة ليست من أمر الإسلام في شيء .
إن إدراك الفتاة وقناعتها بالزواج يحقق لها فرص الكمال الخلقي والسلوكي، وتمام النضج العقلي والعاطفي، إلى جانب موافقتها لسنة الأنبياء والصالحين .
7ـ الزواج يؤهل الفتاة لمرحلة الرشد(1/206)
تنتقل الفتاة تلقائياً من مرحلة إلى أخرى من خلال تقدمها في السِّن، إلا أن بلوغ الرشد لا تتأهَّل له بمجرَّد الاحتلام؛ إذ تحتاج إلى خبرات اجتماعية، وممارسات أسرية : تؤهلها إلى هذه المرحلة؛ فإن الفتاة - والمرأة في العموم - لا تبلغ تمام نموها إلا بعد الحمل والإنجاب مرة واحدة على الأقل، " وقد لوحظ بوجه عام أن النساء اللاتي لا ولد لهن أقل اتزاناً، وأكثر عصبية من النساء اللاتي لم يُحرمن من الولد "، وقد نصَّ الفقهاء على أن الفتاة لا تبلغ مرحلة الرشد، والتَّصرف الكامل في شؤونها الخاصة إلا بعد أن تخوض خبرة الزواج، فبمجرد بلوغها الاحتلام، وزواجها، وإنجابها : تتأهل مباشرة لمرحلة الرشد الكامل باتفاق العلماء . والفتاة بفطرتها - حين تنضج جنسياً - تكره من عمق تكوينها حياة العزوبة، وتأخير الزواج، وترغب في الاستقلال وتكوين الأسرة، إلا أن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة، وظروف التعليم : عملت على تأخير سن الزواج، فالفتاة تبلغ المحيض في الثانية عشرة تقريباً، ثم تبقى عند أهلها إلى العشرينات من عمرها في صراع نحو الفطام الأسري، وتعيش حالة من البطالة الجنسية، رغم اكتمال بنيتها الجسمية، وصلاحها للزواج والإنجاب . في حين لا تعرف المجتمعات البدائية والريفية - التي لم تصل إليها لوثات المدن الحضارية - هذه البطالة، ولا يعرف فيها الشباب معاناة المراهقة وأزماتها، حيث تقترن قدرتهم على الاستقلال الاقتصادي، وتكوين الأسرة ببلوغهم مرحلة الاحتلام، فيخرجون مباشرة من مرحلة الطفولة، وإرهاصات البلوغ إلى الرشد فلا يعرفون مرحلة المراهقة؛ لأنها ليست مرحلة نمو طبيعي عند الإنسان؛ بل هي مرحلة حضارية، أفرزتها تعقيدات الحياة المعاصرة . ولن تنتهي معاناة المراهقة ومشكلاتها، ولن تصل مداها المرحلي عند الشباب إلا عندما يتأهل أحدهم للقيام بأعمال البالغين، من تكوين الأسرة والإشراف عليها، والقيام بحاجاتها، وفي الحديث قال(1/207)
عليه الصلاة والسلام : (( إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي )).
ومن المعلوم أن أفضل فترات الاستمتاع بالفتيات من بين الخامسة عشرة إلى الثلاثين، وأشد ما تكون حاجة الفتيان إلى الزواج ما بين الثامنة عشرة إلى الثانية والعشرين، وتنتهي عندهم مرحلة الشباب في سن الثلاثين، الذي اعتبره بعضهم بداية العنوسة عند الفتيات، حتى إن الرومان اعتبروا من تجاوزت التاسعة عشرة دون زواج عانساً، فإذا بهذه الفترة الحرجة من عمر الفتيان والفتيات تُقضى في بطالة لا تخدم النوع الإنساني، وحالة من مظاهر الرعاية الطفولية في كنف الأسرة، فقد دلت بعض الدراسات أن متوسط سن زواج الفتاة العربية ما بين (20 - 23) سنة، وعند الفتيان في بعض الدول العربية وصل إلى إحدى وثلاثين سنة .
ورغم هذا الواقع الذي تحياه الأمة، المخالف للطبيعة البشرية السوية : لا تزال تسعى بعض المنظمات المشبوهة، وبعض المؤتمرات الدولية للصحة النفسية، وبعض الدراسات المنحرفة : للتأكيد على ضرورة تأخير سن زواج الفتيات بحجة أنه مضر بهن نفسياً وجسمياً؛ ولهذا يجدُّ السعي من خلال القوانين الوضعية لفرض ذلك رسمياً، ومعاقبة المخالفين، في الوقت الذي تُجمع فيه الأمة على جواز تزويج الفتاة الصغيرة مطلقاً حتى ولو كان قبل البلوغ، بل يجوز إجماعاً حتى وإن كانت لا تزال في مرحلة المهد طفلة صغيرة؛ فقد زوَّج بعض الصحابة ابنته عند ولادتها، إلا أنها لا تُزفُّ إلى زوجها إلا حين تكون صالحة للمعاشرة الزوجية، التي تبدأ أول فرصها الممكنة عند تمام سن التاسعة من عمر الفتاة، على تفاوت بين البنات في سرعة نموهن، وإمكان الدخول بهن . ومع ذلك فإن بعض المجالس الشرعية التي أقرت قانوناً بتحديد أقل سن للزواج لم تجعل بلوغ ذلك السن شرطاً لصحة النكاح .(1/208)
ولا شك أن للزواج المبكر فوائد كثيرة تنعكس على الأزواج من جهة وعلى المجتمع من جهة أخرى، وذلك حين يطبق بموجب الشرع الحنيف، وبتعاون من المجتمع، ولعل أقلَّ ما فيه من الفوائد أنه موافق للفطرة الإنسانية؛ إذ ليس من المقبول شرعاً ولا عقلاً أن يكون موعد القدرة على التناسل عند الإنسان، والمقدَّر بخمسة عشرة عاماً : قد وُضع خطأ في وقت غير مناسب للتناسل، ثم إن من طبيعة الغريزة الجنسية الإلحاح للإشباع، وعدم قبولها - في غالب الأحوال - للتأجيل، كما أن حصول الحمل - في الغالب - لا يتم إلا حين تكون الفتاة مهيأة لذلك فطرياً؛ ولهذا نادراً ما يقع الحمل للمتزوجات الصغيرات دون سن الثانية عشرة، ومن المعلوم أن الوقائع النادرة لا يلتفت إليها؛ إذ الحكم دائماً للأغلب والأعم، ومع ذلك فإن إمكانية التحكُّم في وقوع الحمل ممكنة، ولا سيما في هذا العصر، وهو جائز شرعاً لمصلحة معتبرة . وأما ما يُنقل عن سلبيات الزواج المبكر، ولا سيما في مسألة كثرة وقوع الطلاق بين المتزوجين الصغار، فإن المشكلة لا تكمن في مبدأ الحكم الشرعي الذي أجاز النكاح المبكر، وإنما تكمن في أساليب التطبيق عند المسلمين المعاصرين من جهة، وتكمن من جهة أخرى في جمع من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الحديثة، التي طرأت على حياة المسلمين، والتي تعود إليها - في الغالب - أسباب تقويض كثير من بيوت المتزوجين الصغار .
8ـ دور الزواج في تحقيق الراحة النفسية والصحة الجسمية للفتاة(1/209)
إن الاستقرار النفسي من خلال سنة النكاح يعتبرها الإسلام هدفاً رئيساً من أهداف الزواج، حيث تنبعث بين الزوجين روح المودة والرحمة، اللتين تُسكِّنان اضطراب النفس وثوراتها، المنبعث من داعية النسل، وغريزة بقاء النوع، يقول المولى - عز وجل - : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }، فالنفس لا تزال مضطربة متأرجحة حتى تسكن بالزواج، وتهنأ بالجو الأسري .
وقد اتفق علماء النفس والاجتماع على أن الروابط الزوجية " أكثر الروابط الإنسانية إثراءً للزوجين وللأسرة والمجتمع، بما يعود على الجميع من مزايا على كافة المستويات النفسية والاجتماعية والإنسانية "، كما أكَّد البحث الميداني أن أهم الانفعالات التي تحدد سعادة الإنسان خلال مراحل العمر، هي تلك الانفعالات التي تتعلق بالزواج والأسرة، وأن المشكلات الاجتماعية والعاطفية التي يتعرض لها الشباب يمكن أن تُحل من خلال الحياة الزوجية، كما أن الزواج السعيد الناجح يستوعب أوسع أبواب الصحة النفسية، والاستقرار العاطفي .(1/210)
وفي الجانب الآخر أثبتت دراسات أخرى متعددة أن العزوبة سبب من أسباب الوساوس والجنون، والاغتراب النفسي، والشعور بالدونية خاصة عند المطلقين والمطلقات، حيث الإحساس بالمنبوذية، مع شدة التوترات الداخلية العميقة، والشعور بالحرمان . في حين لا توجد غالب هذه المشاعر السلبية عند المتزوجين، وتشير بعض الدراسات الميدانية إلى أن الإدمان على المخدرات، وإنهاء الحياة بالانتحار في بعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة غالباً ما يصدر عن الشباب العزاب من الجنسين، وهذا فيه إشارة واضحة لارتباط العزوبة عند الجنسين بالانحراف الخلقي المؤدي إلى التوترات النفسية والعصبية، وربما إلى إهلاك النفس وعذابها، لا سيما إذا اقترن ذلك بضعف الإيمان، في حين تعصم الحياة الزوجية، بطبيعتها الحميمية، ونوع علاقاتها المتشعِّبة : المتزوجين من الوقوع في كثير من الانحرافات التي تسبب القلق والتوتر والعذاب النفسي، وتحقق لهم درجات عالية من مراتب السعادة والسكن، التي لا يمكن أن يحياها العزاب في العادة إلا ضمن جهود كبيرة من الأنشطة الروحية المتفوقة .
ومما يشير إلى هذا المعنى كلام زياد بن أبي سفيان حين أراد - وهو في أبهة الإمارة - أن يُبَيِّن لجلسائه من أسعد الناس عيشة " فقال : " رجل مسلم له زوجة مسلمة، لهما كفاف من العيش، قد رضيت به ورضي بها، لا يعرفنا ولا نعرفه "، فلم يجد هذا الأمير تعبيراً أبلغ عن السعادة من استقرار الحياة الزوجية، والألفة بين العشيرين .
وفي جانب الصحة البدنية فقد ثبت أن الزواج من أنفع أسباب حفظ الصحة، فقد دلَّت الإحصاءات على أن معدلات الوفاة بين المتزوجين أقل من معدلاتها بين غير المتزوجين، كما أن ضعف البدن، وعسر الحركة يغلب على العزاب، حتى إن الفتاة العذراء التي لم يسبق لها الزواج تُوصف بأنها مريضة حتى تنكح .
9ـ تهيئة الفتاة للخطَّاب(1/211)
ينشغل الفتيات ذهنياً بالتفكير المتعلق بالحياة الزوجية والعاطفية، وزوج المستقبل، بحيث لا تحتاج الأسرة إلى جهدٍ كبير لإقناعهن بأهمية الحياة الزوجية؛ لأن الزواج والتفكير فيه في هذه المرحلة يملأ نفوسهن، وهو هدف أسمى يتمنين تحقيقه، إلا أن المشكلة تكمن في اختيار الأسلوب الأمثل، والطريق المشروع لترويجهنَّ للخطَّاب، بحيث يُمكَّنَّ من الزواج، وتكوين الأسرة قبل أن يطعنَّ في السِّن، ويصبحن غير مرغوب فيهن.
وليس في هذا المبدأ ما يشين الفتاة وأسرتها، فقد أقرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها لما تهيأت، وتعرضت للخطاب بعد وفاة زوجها، ووضعها للحمل بأيام قليلة، رغم إنكار أقربائها عليها، حيث قال مقراًّ لها : (( ما يمنعها، وقد انقضى أجلها ))، وفي ذلك يقول ابن قطان رحمه الله : " ولها أن تتزين للناظرين، بل لو قيل: إنه مندوب ما كان بعيداً، ولو قيل إنه يجوز لها التعرض لمن يخطبها إذا سلمت نيتها في قصد النكاح لم يبعد "، وكان الناس في الزمن الأول يعرضون في وجه الفتاة في الطواف بالبيت حتى يرغب فيها من يرغب، ثم يخدِّرونها بعد ذلك فلا تخرج إلا إلى بيت زوجها، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : " أبرزوا الجارية التي لم تبلغ لعل بني عمها أن يرغبوا فيها "، وكل هذا مقيد بعدم الفتنة، والرغبة الخالصة في طلب الزواج، وترويج الفتيات لدى الخطاب، وإلا مُنع من كل هذا إيثاراً للسلامة .(1/212)
ورغم أن الحياة الاجتماعية المعاصرة التي قامت في غالبها على اختلاط الجنسين في ميادين الحياة المختلفة : فخفَّفت بذلك من الأساليب التقليدية في اختيار الشريك، إلا أن الأساليب الملتوية الخفية، التي يتخذها بعض الفتيات في جذب الخطَّاب ما زالت قائمة بينهن، في حين أن هؤلاء الفتيات لوأدركن ما يُرغِّب الشباب فيهن من الصفات المشروعة، وسعين إلى تحقيق ذلك في أنفسهن - حسب استطاعتهن - كان هذا هو الأولى، والأقرب إلى الشرع من جهة، ولتحقيق مرادهن من جهة أخرى .
وقد أثبتت بعض الدراسات الميدانية : أن الدين وحسن الخلق، وطاعة الزوج، والتمسك بالتقاليد المتعارف عليها : من أهم صفات الفتيات المُرغِّبة للشباب فيهن، حتى إن كثيراً من الشباب يتأخر سن زواجهم بسبب بحثهم عن ذات الدين، ومن المعلوم أن الشاب - مهما كان مستواه الخلقي - لا يرغب في الزواج بالفتاة الساقطة، حتى وإن كان سقوطها معه في جريمة خلقية مشتركة .
وتأتي مسألة البكارة في الزوجة لتحتل ركناً أساسياً في شروط الشباب للنكاح، بحيث لا يكاد يتنازل عنها أحد منهم، مهما بلغ من العلم والمعرفة والثقافة، حتى إن بعضهم اعتبرها شرطاً رئيساً للقبول بمبدأ الزواج، وهذا ليس بغريب منهم، فرغم أن الفتاة العذراء عند الغربيين أصبحت خرافة عصرية لا وجود لها؛ فإن كثيراً من الرجال رغم فرط تحررهم الخلقي من كل قيد : ما زالوا يرغبون في أن يكونوا الأوائل في حياة نسائهم، وأن " الكثيرين حتى أولئك الذين لم يتعصبوا لعقيدتهم الدينية، يشعرون بأن الزواج يكون أكثرإمتاعاً، وأوفر نجاحاً إذا أقدم عليه الزوجان عذارى لم يمسسها بشر، يرتويان معاً مباهج الحياة الجنسية " .
ومن هذا المنطلق النفسي الطبيعي عند الرجال : حثَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على البكر؛ لكمال الاستمتاع بها، وسهولة الانقياد، وشدة الودِّ للزوج الأول، حيث يحتل في نفسها - كما تقدم - مكانة خاصة لا يمكن أن تُنسى .(1/213)
وأما المظهر العام، والمرغِّبات الأخرى : فإن الشباب يرغبون عادة في الفتاة المعتدلة الطول، الحسنة الرائحة، الممتلئة الجسم في غير إفراط، الحسنة الوجه، المُجِيدة للخياطة والطهي، القادرة على القيام بمهارات شؤون البيت بصورة فائقة .
وأما من جهة الكسب والعلم : فإن غالب الشباب لا يميلون للاقتران بالفتاة العاملة، ويرغبون أكثر في الفتاة المتعلمة، بشرط أن تكون دونهم في المرحلة التعليمية، ويرغبون في المتفرغة للبيت وشؤونه، والمنتمية إلى الطبقة الاجتماعية المتوسطة . وأما اتجاه بعض الشباب للاقتران بالفتاة العاملة فإنه يعود في هذا الوقت للحاجة الاقتصادية إلى دخل الزوجة في دعم مصروفات الأسرة، وتأمين احتياجاتها، التي لا يسدها دخل الرجل وحده، ومع ذلك فإن رغبة الخطَّاب لا تزال قائمة في الفتاة المتفرغة أكثر من الفتاة العاملة، فقد دلَّت إحدى الدراسات العربية أن نسبة الفتيات الطالبات المخطوبات أعلى من نسبة النساء المخطوبات من العاملات، اللاتي كثيراً ما يُخفقن في إتمام نجاح خطوبتهن حين يُخطبن، مما يدل على ميل الشباب نحو الفتاة غير العاملة .(1/214)
إن إدراك الفتاة للمشروع من وسائل جذب الشاب الصالح لخطبتها، وما ينبغي أن تكون عليه، وتتحلَّى به في ذلك : يُعدُّ أفضل وسيلة للشروع في الحياة الزوجية، وتكوين البيت المستقر، في جوٍ من الألفة والمحبة، ولا يعني هذا التَّحفُّز من الفتاة، ووليها في انتظار الخطَّاب : المنْعَ من أن يكون منهما مبادأة للرجل المناسب، فإن عرض الولي ابنته على الرجل الصالح ليتزوجها : سنة ماضية، عمل بها السلف . كما أن عرض الفتاة نفسها على الشاب الصالح بالأسلوب البرئ المشروع : جائز إذا سلمت نيَّتها، وحسن مقصدها، حتى وإن كان المجتمع يستهجن المُبادأة من الفتاة في شؤون الزواج، فإنها - في كل هذا - لا تزيد في ذلك عن لفت نظره دون ريبة، وإشعاره بوسيلة من الوسائل المشروعة بالرغبة فيه للزواج دون زيادة على ذلك، فإن رغب فيها : خطبها من أهلها، وإلا انصرف عنها، وكفَّت هي الأخرى عنه، في جو صالح سَلِمَ من المخادنة والفحش والفتنة .
إن وعي الفتاة المسلمة المعاصرة بمثل هذه المسائل يساعدها على تجاوز صعوبة التَّحفُّز والانتظار، والدخول في الحياة الزوجية من أول العمر، والإقبال على الحياة الجديدة أكثر حماسة، وأقدر على التأقلم معها، والتَّكيف لها .
10ـ أهمية التدين في شخصية الزوجة
يصف الله تعالى الزوجات الصالحات بقوله في سورة النساء : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } [النساء:34]، والقانتات هن المطيعات للأزواج، والحافظات للغيب، أي : أنهن يحفظن الأزواج في غيابهم، وفي أموالهم، وفي أنفسهن، ويمدح الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذات الدين فيقول : (( ألا أخبركم بخير ما يكنزه المرء : المرأة الصالحة )) .(1/215)
ويضع الإمام الغزالي رحمه الله بعض الجوانب الخلقية التي يراعيها الرجل عند اختيار الزوجة : فيقول : " ويسأل عن دينها ومواظبتها على صلاتها، ومراعاتها لصيامها، وعن حياتها ونظافتها، وحسن ألفاظها وقبحها، ولزومها قعر بيتها، وبرها بوالديها … ويبحث عن خصال والدها ودينه، وحال والدتها ودينها وأعمالها " .
ولهذا كان الزواج من الكتابيات غير مفضل - وإن كان مباحاً - لأن جانب الدين غيرمتوافر فيهن، والرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما وضَّح وبين مرغبات الرجال في اختيار النساء ذكر الجمال، والحسب، والمال، والدين، ثم قال : (( فاظفر بذات الدين تربت يداك ))، واليهوديات، والنصرانيات لسن من ذوات الدين . ويحذر ابن الجوزي رحمه الله من مغبة تقديم الجمال على الدين، فيقول : " وينبغي أن يكون النظر إلى باب الدين قبل النظر إلى الحسن، فإنه إذا قل الدين لم ينتفع ذو مروءة بتلك المرأة "، وفي الحقيقة فإن كل جمال يزول ويذهب، إلا جمال الدين والخلق، فإنه باقٍ في طبع المرأة الصالحة الملتزمة بدينها، العاملة بآداب الشرع .
11ـ تمكين الخطيبين من تبادل النظر(1/216)
إن وجود الشاب الصالح والفتاة الصالحة لا يكفي في حدِّ ذاته لضمان قيام الحياة الزوجية السعيدة واستمرارها، فإن لقناعة كل منهما بصورة صاحبه، ومنظره العام : أهمية بالغة؛ لدوام الألفة والاستقرار؛ لهذا حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخاطب على النظر إلى مخطوبته، حتى تطمئن نفسه لمظهرها العام، ويرى منها ما يدعوه للنكاح، أو الإعراض عنه . كما أن للفتاة أيضاً الحق في ذلك، ولو أن تبعث من ينظر إليه ليصفه لها؛ لأنه يُعْجبُها منه ما يُعجبُه منها، والنساء شقائق الرجال، إلا أن النَّصَّ لم يأت في حقها بالنظر إليه، ولعل ذلك لسهولته عليها، فإن الرجل يبرز ولا يحتجب، وأما الفتاة فغالباً ما تكون مخدَّرة، فيحتاج الخاطب لإذن وليِّها؛ لهذا جاء النَّص في حقه بالنظر، إلى جانب كونه البادئ بالخطبة فاحتاج إلى مُحفِّزٍ يدعوه إليها .
وقد جاء نهج الإسلام وسطاً في العلاقة بين الخطيبين، بين التزمت والجمود، وبين الإباحية والتحرر، فأجاز للخاطب النظر إلى الوجه والكفين إجماعاً دون شهوةٍ، مع تدقيق النظر دون حياء، وله محادثتها " لينكشف له مقدار تفكيرها وعذوبة حديثها، بشرط أن يكون مع وجود أحد محارمها "، ولا بأس بمكالمتها بالهاتف للتفاهم إن احتاج الخاطب إلى ذلك، بشرط علم أهلها وإشرافهم، وله تكرار النظر إذا احتاج إلى ذلك، والمزيد على الوجه والكفين، خاصة في البلاد التي تكشف فيها الفتاة بطبيعتها عن وجهها وكفيها للأجانب، فقد يحتاج الخاطب إلى أكثر من الوجه والكفين. أما في البلاد التي تلتزم فيها الفتاة بغطاء الوجه فإن في الوجه كفاية على مذهب الجمهور؛ لأن الوجه جزء من التكوين الجسمي العام للشخص، حيث يتوقف على النمو الطبيعي للغضاريف والعظام في جسم الإنسان، كما أن لتقاطيعه وشكله العام : علاقة بالطبيعة المزاجية للشخص، فيمكن بالوجه والكفين أن يحصل الخاطب على صورة مختصرة وموجزة عن طبيعة الفتاة الجسمية والمزاجية .(1/217)
ولا يكفي الخاطب - عادة - وصف النساء دون نظره الخاص، فإن رؤية النساء تختلف عن رؤية الرجال اختلافاً كثيراً، وفي هذا يقول الجاحظ : " والنساء لا يُبصرن من جمال النساء حاجات الرجال وموافقتهن قليلاً ولا كثيراً، والرجال بالنساء أبصر، وإنما تعرف المرأة من المرأة ظاهرالصفة، وأما الخصائص التي تقع بموافقة الرجال فإنها لا تعرف ذلك "؛ لهذا كان لا بد من تمكين الخاطب من النظر بنفسه إلى مخطوبته .
كما أن صورة الفتاة الفوتوغرافية لا تكفي في ذلك أيضاً، ولا تصل بالخاطب إلى درجة الاطمئنان إلى شكل مخطوبته العام، وتزمت الولي في هذا قد يسوق إلى كثير من المحظورات والمفاسد، ولا يحق له في ذلك أن يتعلل باحتمال ترك الخاطب للخطبة، فإن هذا من حقه إذا لم ير من مخطوبته ما يدعوه لنكاحها، بل هذا الذي ينبغي له؛ فإن الحرج المؤقت في ترك الخطبة أهون من طول الصحبة على غير ألفة، ثم إن الخطبة ليست عقداً ملزماً .
ولعل في توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - للنظر إليها - بهدف الزواج - دون علمها : تلافياً لمثل هذا الحرج للفتاة والولي والخاطب، إن قدر الخاطب على ذلك دون مفاسد اجتماعية .
وعلى الفتاة أن تظهر أمام خطيبها في صورتها الحقيقية دون تدليس، فإن الأمرلا يلبث كثيراً حتى يفتضح، فالعيوب الخُلقية الظاهرة أو الباطنة لا بد من الإخبار بها، فإن إخفاءها، أو الاحتيال على الخاطب فيها : أمر مستنكر . أما التَّزين بما اعتاده الفتيات : من الكحل، وحسن الثياب، حتى يرغب فيها : فقد أجازه بعض العلماء لكلا الخطيبين، والأولى تركه، فإن جمال الفتاة لا يكمن في المظهر الخارجي فقط، فإن الحنان والرقة واللطافة، التي تمثل الجمال الداخلي الباطن من أعظم ما يُرغِّب الرجال في الفتاة .
12ـ ضرورة اقتناع الفتاة بالخاطب(1/218)
إن من حق الفتاة المسلمة أن تُستشار في زواجها، ولها أن ترد الخاطب، إلا أن كثيراً من العلماء أجاز للأب أو الجد خاصة : إجبار الفتاة البكرعلى النكاح، إذا كان الخاطب كفأً لها، موسراً بمهرها، ليس بينه وبين الفتاة عداوة، فقد زوَّج كثير من الصحابة بناتهم صغيرات دون استشارتهن، إلا أن الفتيات في العصر الحديث - خاصة المتعلمات منهن - يشعرن بحقهن في ردِّ الخاطب، ويعتبرن الإجبار على التزويج : أعظم مشكلاتهن الاجتماعية على الإطلاق؛ لهذا مال بعض العلماء - في القديم والحديث - إلى أن إذنها ضروري حتى وإن كانت بكراً؛ تجنباً للسلبيات التي يمكن أن تقع؛ فقد أسفر البحث الميداني الحديث على وجود علاقة إيجابية بين كثرة حالات الطلاق وبين عدم استئذان الفتيات عند الزواج، إلى جانب ثبوت ردِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنكاح عدد من النساء المكْرهات على الزواج .(1/219)
وعلى الأولياء أن يعرفوا : أن في إجبار الفتيات على من يكرهن من الرجال: عنتاً شديداً عليهن، وحرجاً لصدورهن، وربما ساق إحداهن الضِّيق والظلم : إلى محظورات سلوكية لا يرضاها الأولياء، كأن تترك الطعام حتى تبدو نحيلة لا تصلح للزواج، أو تستعين بالأجانب لرد ظلم أوليائها عنها، أو ربما اندفعت إلى سلوك فاضح يجلب العار على أهلها ويشينهم في المجتمع، فقد هددت أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما إذا هي زُوِّجت كارهة : أن تخرج وتصيح عند قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يحق للأولياء أن يسوقوا الفتيات إلى مثل هذا السلوك المستهجن، حتى وإن رددن الكفء، فإن هذا من حقهن وليس من العقوق للوالدين، وفي الحديث : (( لا تحملوا النساء على ما كرهن ))، ثم إن على الأولياء أن يدركوا أن عقد الزواج في نظام الإسلام الاجتماعي يقوم أساسه على الحرية والاختيار الطوعي وتبادل الحقوق، وليس هو عقد تملُّك، تصبح به المرأة ملكاً للرجل حين يعقد عليها، ومع هذا فإن من حق الولي - حين يحضر الكفء المناسب - أن يقنع الفتاة به، ويلحَّ في ذلك عليها دون إجبار .
ويمكن للأولياء من خلال سلوك الفتاة : أن يعرفوا رفضها للخطبة؛ فإن لها وسائلها الخاصة للتعبير عن كرهها واعتراضها : فإنها قد تبكي بصوت مرتفع، أو تضحك مستهزئة، فيُعلم بذلك أنها غير راغبة، وكان نهج المصطفى عليه السلام : أن يجلس إلى خدر الفتاة، ويذكر الرجل الذي خطبها، فإن سكنت : زوجها، وإن تحركت : علم كرهها، فلم يزوجها، وذلك بشرط علم الفتاة المسبق : بأن سكوتها يعني موافقتها .(1/220)
ولما كان للأمهات دور كبير في اختيار الفتيات، حيث يتأثرن بآرائهن، وتوجيهاتهن، فقد وجَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاستشارتهن، فرُوي أنه قال : (( آمروا النساء في بناتهن ))، وكان السلف يعملون بهذا التوجيه، ويستشيرون الأمهات؛ لأنهن يشاركن في النظر للفتاة، ويسْعَيْن عادة لتحصيل المصلحة لهن؛ لكمال شفقتهن ورحمتهن بالبنات .
وفي الجانب الآخر لا يحق للأولياء عضْلُهن إذا جاء الكفء، فقد عدَّ بعضهم العضل من الكبائر، وقد رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( إذا جاء الأكفاء فانكحوهن، ولا تربصوا بهن الحِدْثان )) ، فلا يحق للولي حبس الفتاة لابن عمها، أو قريب لها - كما تفعل بعض المجتمعات - ما دامت كارهة له، أو منع الصغرى من الزواج قبل الكبرى، فإن كل هذا من الظلم الاجتماعي للفتيات .
وقد يحصل من الفتاة - خاصة في ظروف الحياة الاجتماعية المعاصرة - أن تدعو وليَّها ليعقد لها على شخص ما، فإن كان كفأً وجب عليه العقد لها، فإن أبى عقد لها السلطان بالإجماع، وإن لم يكن كفأً فلا يجب عليه العقد لها، مع جواز النكاح والحالة هذه، إلا أن الوقائع المتعددة دلَّت : على أن الزواج الذي يتم رغماً عن الأولياء، تحت ضغط إلحاح الفتيات، واختيارهن الشخصي لأنفسهن، دون رغبة الأولياء، وبعيداً عن نظرهم : غالباً ما يكون مصيره الإخفاق .(1/221)
ولعل الراجح في المسألة في ظروف الحياة الاجتماعية المعاصرة هو نظر الولي : فإن ظن أن رفضه للنكاح يؤدي إلى المطلوب من صرف الفتاة عن الشاب غير الكفء : فهذا هو الأولى، وإلا فإن إجابتها والنزول عند رأيها أولى، فإن تزويج الفتاة بالمفضول الذي تحبه ويحبها أفضل من تزويجها بالفاضل إذا كانت لا ترغب فيه، ولا سيما في هذا الزمن الذي تجرَّأ فيه كثير من الفتيات حتى بلغ ببعضهن الهروب مع الشباب من أجل الزواج، أو ربما تعاونت مع صاحبها في جناية ضدَّ من يقف في طريق زواجها من الأولياء، وأعجب من هذا ما شهد به الواقع الحديث أن تعشق إحداهن رجلاً من غير دينها، فتهرب معه وتتزوجه، وأعجب منه وأغرب في شأن العاشقات حين يُعمي العشق أبصارهن : ما حصل من إحدى الأميرات العربيات، حين عشقت رجلاً نصرانياً، فهربت معه إلى بلاده وتزوجته، ثم تنصَّرت مرتدة، وغيرت معالم هويتها . ولعل أقلَّ ما يمكن أن يصدرعن مثل هؤلاء العاشقات هو الاحتيال على أهلها حتى تتزوج بمن تحب وترغب فيه، فإن عجزت عن الوصول إلى محبوبها ربما تحولت إلى ذاتها فأهلكتها، كما حصل من إحداهن - في إحدى البلاد العربية - حين حُرمت من لقاء محبوبها فانتحرت .(1/222)
إن المرأة المفتونة إذا أحبَّت ولم تصل إلى مطلوبها : أظهرت من الأمور والسلوك ما لا يُستحسن، وأقل ما يمكن أن يحصل لها : هو المرض بسبب الوقوع في العشق والهيام؛ ولهذا كان نهج السلف الجمع بين المُحبين، والشفاعة في ذلك، لعلمهم أن العشق لا علاج له إلا بالوصال، وأن اجتماع المحبين أعظم الملذات على الإطلاق، وفي الحديث : (( لم يُر للمتحابَيْن مثل النكاح )). وقد سعى عليه الصلاة والسلام بين بريرة وزوجها رضي الله عنهما لعلمه بحبه الشديد لها، وكان يقول فيما رُوي عنه : (( من أفضل الشفاعة : أن يشفع بين اثنين في النكاح )) ، ولما علم أبو بكر ووزيره عمر بميل عبدالرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهم جميعاً - إلى فتاة من السبايا : دفعوها إليه، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا علمت بميل فتاة من قريباتها نحو فتى من الشباب : سعت لتزويجهما، وعلى هذا النهج في الجمع بين المحبين سار العقلاء، رغبة في منع الفتنة، وتوقي حصول ما هو أشد من السلوكيات المنحرفة .
ومن ألطف أخبار العشَّاق أن سرية في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - انتصرت وغنمت، وكان في القوم رجل ليس منهم إنما جاء للقاء امرأة من القوم يعشقها وتعشقه، فاستأذن المسلمين في النظر إليها، فأذنوا له، ثم قدَّموه فقتلوه، فلما رأت المرأة ما فُعل بعشيقها شهقت فماتت عندها، فلما قدموا المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبروه الخبر قال : (( أما كان فيكم رجل رحيم ؟ )) .(1/223)
ومن المستحسن لضمان معرفة رغبة الخطيبين في الخطبة، وقناعتهما الكاملة بالنكاح : أن تكون هناك فترة زمنية بين العقد والدخول بالزوجة : يتعارف فيها الخطيبان بصورة مشروعة، ويختبر كل منهما صاحبه عن قرب، فإن بعض الفتيات في أول حياتهن الزوجية يُصبن بخيبة أمل، عندما يُواجَهْن بحقيقة الأزواج، ومغايرتهم للصورة الخيالية المثالية التي رسمْنها في أذهانهن، فتكون فترة الخطوبة بعد العقد فسحة زمنية مشروعة، تتأقلم فيها الفتاة مع الواقع الحقيقي، وتتهيأ لطبيعة زوجها، وتشعر به عن قرب .
وقد ثبت من خلال البحث الميداني أن كثيراً من الشباب من الجنسين يميلون بصورة غير مشروعة إلى التعارف قبل الزواج، ويجدون في المجتمع المسلم من يبرر لهم من الوجهة الفقهية هذا المسلك المنحرف، في حين يسلك بعض الفتيات المتعلمات هذا الأسلوب بطريقة شرعية عفوية، حيث يُعقد عليهن عقداً شرعياً، ويمكثن فترة الخطوبة للتعارف، فإن رضين النكاح : أمضين العقد، وإن كرهن ذلك: سعين في الفراق، فيقمن بالأسلوب المشروع المقترح، ولكن بطريقة عفوية.
وقد دلَّ الواقع أن طول فترة الخطوبة مفيد للزوجين، وأدعى للتوافق بينهما والتفاهم، وقد أشارت بعض الدراسات أن الفترة المقترحة والمناسبة لذلك : تسعة أشهر، وهي عين الفترة التي قضاها علي وفاطمة رضي الله عنهما بين العقد والبناء، فلا ينبغي أن تزيد عن هذا، لما قد يُسببه طول المكوث من ظهور مشكلات جديدة، أو محظورات سلوكية غير مستحسنة، ولو حصل التوافق بين الخطيبين فيما هو أقل من هذه المدة فإن الزيادة لغير حاجة لا تخدمهما في شيء إلا مزيداً من العنت والحرمان .
13ـ الشاب المفضل للفتاة المعاصرة(1/224)
إن من حق الفتاة الصالحة، المهيأة للنكاح أن يقترن بها؛ الكفء من الشباب الصالحين؛ لضمان حياة زوجية مستقرة، فقد رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( انكحوا الصالحين والصالحات )) ، فمن حق الفتاة على وليِّها أن يزوجها، ويلي عقد نكاحها بنفسه، ولا يجب عليها طاعته في المنع من النكاح، أوالقبول بالفاسق من الشباب، فإنه ليس بكفء لها، بل ربما كانت العزوبة خيراً لها من الاقتران بمثله، ولا شك أن الولي الموافق على هذا النكاح : قاطع للرحم؛ إذ لا بد أن تتضرَّر الفتاة الصالحة بالرجل الفاسق، فإن النكاح نوع من الرِّق، كما أنها - في الجانب الآخر - تنتفع غاية الانتفاع بالزوج الصالح : تصوم بصيامه، وتقوم بقيامه، وتتعبد بعبادته . فإذا لم تأمن الفتاة وليَّها على حسن الاختيار: فإن لها أن تنتدب من تثق به في دينه من أهلها للسؤال عن الخاطب في دينه وسلوكه، فإن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها استشارت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خُطبت من رجلين : فعابهما، وأشار عليها بنكاح أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فنكحته، واغتبطت به .
كما أن من حق الفتاة الشريفة الرفيعة القدر أن يقترن بها من يكافئها في المنزلة، فإن الكفاءة مطلوبة في الرجل خاصة دون المرأة؛ لأنها تستنكف أن تكون فراشاً وخادماً لمن دونها في المرتبة، مع كون الكفاءة في حدِّ ذاتها ليست شرطاً لصحة الزواج، إلا أنها معتبرة بالشرع والعرف والعادة، فلا يكفي صلاح الخاطب في دينه وخلقه دون كونه مكافئاً لها، ففي الحديث : (( العرب للعرب أكفاء، والموالي أكفاء للموالي، إلا حائك أو حجَّام )) ، وفي الأثر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لأمنعن تزوُّج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء " .(1/225)
والواقع الاجتماعي في القديم، والحديث ما زال يراعي هذا المبدأ، ففي دراسة مصرية ميدانية : مالت العينة إلى ضرورة أن يكون الرجل أرفع قدراً اجتماعياً من المرأة، حتى وإن كانت مساوية له في باقي النواحي، وما زالت غالب الأنكحة تتم من خلال التجانس والتماثل بين الأسر في المستوى الاجتماعي والثقافي والمكانة؛ لأن انتماء الفرد إلى طبقة معينة يؤثر على شخصيته، ودوافعه، وقيمه، وأسلوب حياته، وما زال الزواج المختلط بين الجنسيات المختلفة، والبيئات غير المتشابهة، مملوءاً بالمشكلات، والإخفاقات بسبب الفوارق : الثقافية، والقومية، والنفسية، والاجتماعية، ويحتاج في نجاحه إلى : تضحيات كبيرة من الزوجين؛ للتأليف والتوفيق بين هذه الخلفيات، والاتجاهات المتباينة .
وأما التكافؤ في السِّن : فهو من أهم ما يساعد على دوام الألفة بين الزوجين، واستقرار الحياة العائلية، فإن بعض الأسر للحاجة الاقتصادية قد تزوج بناتها الصغيرات بمن يدفع أكثر من كبار السِّن، وهذا في غاية الخطر؛ إذ تتأذَّى الفتاة بالشيخ الكبير خاصة إن عجز عن إشباعها عاطفياً، فلا يستطيع أن يقوم بالوظائف الزوجية على الوجه الصحيح، وهذا من أشد أسباب النزاع بين الزوجين؛ لأن القيام بالوظيفة الجنسية يمثل للمرأة غاية ضرورية في علاقتها بزوجها؛ ولهذا فقد تفجر، أو تتجرأ على قتله لتتخلص منه، والوقائع الاجتماعية المتنوعة في هذا الشأن كثيرة، فقد " أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامرأة شابة زوَّجوها شيخاً كبيراً فقتلته، فقال : يا أيها الناس اتقوا الله ولينكح الرجل لُمَته من النساء، ولتنكح المرأة لُمَتَها من الرجال "، يعني ليتزوج كل منهما من يُشبهه ويناسبه من الجنس الآخر .(1/226)
وقد ألمح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه القضية المهمة في تزويجه فاطمة رضي الله عنها حين خطبها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاعتذر لهما بصغر سنها، ولما خطبها عليٌ رضي الله عنه، وكان فارق السن بينهما ست سنوات، زوجها منه، يقول السندي رحمه الله معلقاً على هذه الحادثة النبوية : " فعلم أنه لاحظ الصغر بالنظر إليهما، وما بقي ذاك بالنظر إلى علي : فزوجها منه، ففيه أن الموافقة في السن أو المقاربة مرعية؛ لكونها أقرب إلى المؤالفة " .
والميل نحو الشاب : طبع يكاد يكون عاماً في الفتيات، فهذه سُبيعة الأسلمية رضي الله عنها خُطبت من عدَّة رجال فاختارت الشاب منهم، ولما خطب رجل كبير السن فتاة تحت العشرين عاماً : اعتذرت له بشيب في رأسها - يعني أنها كبيرة - فأعرض عن خطبتها، فدعته وقالت له : " والله ما رأيت برأسي بياضاً قط، ولكن أحببت أن تعلم أنا نكره منك ما تكره منا "، وفي هذا يقول الشاعر :
فتَّشتُ لم أرَ في الزواج كفاءة .:. ككفاءة الأزواج في الأعمار
إلا أن هذه الكفاءة في السن لا تعني تساوي الزوجين في العمر، فإن هذا مضر؛ لأن البنات يتوجهن إلى البلوغ في الوقت الذي لا يزال فيه الأولاد منهمكين في ألعابهم الصبيانية، كما أن المرأة تذبل جنسياً قبل الرجل بسنوات؛ لهذا فإن من المستحسن تفوق الذكور في السن على الإناث بعدد من السنوات؛ فإن الخبرات البشرية قد تواترت على ذلك حتى اليوم، ولعل المقترح - الذي مال إليه الفتيات - في الفارق بينهما أن يكون ما بين (4-5) أعوام، بحيث لا يزيد الفارق بينهما على عشر سنوات، وقيل لا يزيد عن خمس عشرة سنة وربما إلى العشرين كحد أقصى كما حدَّدته بعض المحاكم المعاصرة؛ معتبرين في هذا الفارق العمري شيئاً من مظاهر الأبوة الحانية، والتدليل، والرعاية التي تحتاجها الفتاة من زوجها.(1/227)
ومما يُعدُّ أيضاً وسيلة تُلحَقُ بحسن اختيار الشاب المناسب: كونه حسن الصورة؛ لأن القلوب مطبوعة على حب الصور الحسنة، فمن المستحسن للولي أن يختار من بين الخطَّاب من كان منهم حسن المنظر والهيئة؛ لكون الفتاة أيضاً تحب ما يحبه الرجل فيها من الجمال، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لا تُكرهوا فتياتكم على الرجل القبيح، فإنه يُحببن ما تحبون " .
ومن المعلوم أن الفتى الجميل أحظى الرجال عند المرأة، إلا أن الجمال في حدِّ ذاته ليس مما يُعتبر في الكفاءة، وأن مراعاة التجانس فيه بين الزوجين أمر مستحسن، وإلا فإن جمال الرجال على الحقيقة منْطقهم، وما يصدر عنهم، لا في مجرد الشكل والصورة فحسب.
ولما كان للصحة الجسمية عند الزوجين أهميتها، وارتباطها الوثيق بالسعادة الزوجية: فإنها في الرجال آكد للمسؤوليات والتكاليف المرتبطة بهم، فلا بد من خلوِّ الخاطب من الأمراض المعدية والوراثية المضرَّة، ولا بأس - من الناحية الشرعية - بمطالبته بالكشف الطبي قبل الزواج، لإثبات خلوه من الأمراض؛ كأن تُعطى شهادة الكشف الطبي للأزواج من الجنسين، بصورة اعتيادية بعد البلوغ، وتُلحق بمستندات عقد النكاح، فإن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما أخبره رجل عقيم أنه تزوج قال له: " أخبرتها أنك عقيم لا يُولد لك؟ قال: لا، قال: فأخبرها وخيِّرها " .
ولا يُفهم من ضرورة الصحة البدنية للزوج أن يكون الخاطب من أهل الفتوة وكمال الأجسام، فإن الفتيات يهبن منهم، ولا يرغبن في هذا النوع من الشباب؛ بل يملن إلى الشخص العادي الجسم، والصحيح في بدنه بصورة عامة .(1/228)
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أيضاً: مسألة الزواج من الأقارب، فإن نسبة كبيرة من العوائل الإسلامية توجِّهُ أولادها للزواج من القريبات؛ لأسباب اجتماعية واقتصادية، فرغم الإيجابيات الاجتماعية لهذا النوع من الزواج، وما يحققه بين الأسر من التواصل والترابط، فإنه أيضاً يحمل - في حال الفراق - أسباب القطيعة، وفساد ذات البين؛ فلا يكون بذلك مرغَّباً فيه من هذه الجهة .
وهذا النوع من النكاح مع كونه يُضعف أحياناً قوة الانبعاث الشهواني بين الزوجين، فإنه ربما أدى أيضاً إلى ضعف النسل من الناحية الجسمية والعقلية، فإن من " المقرر في علم الأجناس أن من أسباب انقراض الجنس حصره في أسرة واحدة، فإن ذلك يُفضي بتدهور السلالات وضعف النسل " . وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (( الناكح في قومه كالمُعْشِب في داره )) ، يعني كالزَّارع في بيته، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: " أيُّما أهل بيت لم تخرج نساؤهم إلى رجال غيرهم، كان في أولادهم حمق " . فلا بد من مراعاة ذلك في النكاح، على أن يلاحظ أن المسألة ليست على إطلاقها؛ بحيث يكون كل زواج من بين الأقارب مضر بالنسل؛ فإن الصحيح الثابت ميدانياً أنه إن كان للأبوين القريبين صفات وراثية حسنة: فإن زواجهما لا يزيد نسلهما - بإذن الله تعالى - إلا حُسناً، وفي الجانب الآخر: إن كان لهما صفات وراثية سيئة: فإن زواجهما لا يزيد نسلهما إلا سوءاً، فمسألة الزواج بين الأقارب لا تسير دائماً في اتجاه واحد .
وآخر ما يُشار إليه في اختيار الشاب المناسب للفتاة أن يكون متعلماً، وأن يكون مع ذلك أعلى منها في الدرجة العلمية، فإن الشباب من الجنسين يفضلون ذلك . وإن كان التأقلم مع التفاوت بينهما يمكن أن يحصل، وتستمر الحياة، إلا أن تفوق الرجال عليهن في العلم: عامل مساعد، يدعم مكانتهم، وقوامتهم على الأسرة .
14ـ الوليمة عند عقد النكاح(1/229)
ويستحب للزوج أن يقيم وليمة بمناسبة زواجه، يدعو إليها بعض أقربائه وأصدقائه، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (( أولم ولو بشاة )) .
وقد أوجبها بعض العلماء على الزوج، والأكثر على أنها غير واجبة، لهذا لا ينبغي للزوج أن يزهد في أداء هذه السنة المباركة اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وخروجاً من الخلاف الفقهي في وجوبها، ويستحب له اختيار شهر شوال لعقد النكاح والوليمة والدخول بالزوجة، وذلك لاستحباب السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك ، على أن يراعى في وليمته، وتجهيز بيته تجنب الإسراف والبذخ .
15ـ تيسير مؤونة الزواج
المهر شعار النكاح، شرعه الإسلام حقاً للمرأة، ومنفعة راجعة إليها، وهو من المحاسن والنعم التي أنعم الله تعالى بها على المرأة، حين خولها الانتفاع به، وكلَّف الرجال به حين يرغبون في اصطفائها لأنفسهم، فمن حق المرأة أن يكون مهرها مناسباً لنفاستها، فإن جمالها، وحسن خلقها، ومواهبها العالية: من أوسع أبواب رزقها التي فتحها الله تعالى لها، وليس هو من باب المكافأة التي يقدمها الرجل لأهل العروس مقابل تربيتهم لها كما يظن بعضهم، بل هو حق خالص لها، وسنة ماضية منذ القديم، إلا أن الشريعة استحبت تيسيره حتى لا يكون معوِّقاً مانعاً من الزواج لمشقَّة جمعه، فقد رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (( خيرهن أيسرهن صداقاً )) ، وكان عليه الصلاة والسلام لا يزيد في مهر أزواجه عن خمسمائة درهم، وكان يزوج المرأة بالنعلين إذا وافقت، أو ببعض القرآن، وأحياناً دون صداق . وكان يأمر بمساعدة العزاب على الزواج، والجمع لهم، وربما دفع المهر عن بعضهم، وكان يجيز الوليمة بما تيسر من الطعام دون تكلف . كل ذلك تخفيفاً على الأمة حتى يتحقق الإحصان للأفراد، ولا يكون المهر وتكاليف الزواج عائقين أمام إقامة الأسرة الصالحة، والبيت المسلم .(1/230)
وعلى الأولياء أن يدركوا أن تيسير المهور، ومؤونة الزواج: من أعظم وسائل تحقيق الألفة بين الأزواج، فإن المغالاة في ذلك تُحْرج صدر الرجل، بتحمُّله ما لا يطيق من التكاليف، فتبقى للفتاة في نفسه عداوة، حيث تكلف لها فوق مقدرته، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " لا تغالوا في مهور النساء فتكون عداوة "، وقد ثبت مثل هذا التحذير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ومن هنا تدرك الفتاة وأولياؤها: أن التكاليف الكبيرة التي يتكلفها الزوج ليست لتحقيق السعادة بينهما، ودوام الألفة والمحبة؛ إنما هي وسائل سلبية تُضعف بينهما المودة والرحمة . وعليهم أن يعرفوا : أن شرف الفتاة ومكانتها الاجتماعية : لا تُقاس بحجم المهر، وتكاليف العُرس والأثاث، فلو كان شرفاً لسبق إليه السلف الصالح، فإن السيدة عائشة رضي الله عنها لما أدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في بيته سوى قدح من لبن، ومتاع قليل، لا تزيد قيمته عن خمسين درهماً . ولم يكن في متاع سيدة النساء: فاطمة رضي الله عنها عند زواجها سوى جلد كبش، وشيء من متاع يسير، ولم يكن لعلي رضي الله عنه سكن يأوي إليه مع زوجته، حتى تحوَّل له أحد الصحابة عن بيته . فلم تكن حتى مشكلة السكن التي تتصدر معاناة أزواج اليوم: سبباً في تعطيل الزواج، وإعاقة إقامة الأسرة المسلمة في ذلك الزمن الأول . مما يدل على ضرورة التعاون في المجتمع على تيسير أمر الصداق، وتكاليف الزواج حتى يتحقق للشباب من الجنسين ما يهدفون إليه من إقامة البيت المسلم، وتحقيق السكن النفسي والاجتماعي .
16ـ الكفاءة بين الزوجين - جذورها النفسية وموقف الإسلام منها
تراعي الشريعة الإسلامية في بنائها الاجتماعي طبائع النفوس البشرية في ميولها ورغباتها، ومحبوباتها ومكروهاتها، ضمن ما يحقق المصلحة الشرعية، ويدفع المفسدة المتوقعة؛ فإن الذي أنزل الشريعة - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق الإنسان، ويعلم طبيعته وميوله .(1/231)
ولقد جرت طبائع غالب الناس في اختيار الأصدقاء والجلساء والزملاء على الأكفاء، فيحب الرجل أن يصادق من يكافئه في المكانة الاجتماعية، ومن يشابهه في الطباع والأفكار، ويقاربه أيضاً في السن؛ لما يكون في هذا التجانس من تمام الألفة، ودوام المحبة بين الأصدقاء، وهذا أمر يكاد يكون عاماً في أوساط الناس، ومخالفته تحتاج إلى شيء من الصبر، ومدافعة هوى النفس؛ فقلَّما يتصادق غنيٌ وفقير، وأمير وحقير، وشريف ووضيع؛ إذ يحتاج كلٌ منهما إلى جهد نفسي يتكلَّفه لصاحبه، ويدافع نفسه، ولا سيما من جهة صاحب المكانة و الغنى والشرف، فالأمر عليه أصعب؛ ولهذا كانت ملازمة الفقراء والمساكين، من مسالك الزهاد والعباد، الذين تجرَّدوا عن كثير من حظوظ النفس ورغباتها؛ فإن مسلك التواضع عسير، وإنزال النفس دون مقامها صعب .
وتتجلى قضية الكفاءة بين الناس كأشد ما يكون في مسائل النكاح، حين ترفض الأسرة الشريفة الوضيع من الخطَّاب، وتأنف المرأة أن تكون فراشاً لرجل دونها في الشرف والمكانة؛ فالأسرة تتضرر بالرجل الوضيع حين يكون سبباً في تنفير الشرفاء من هذه الأسرة، وحصول الشقاق بين الأقارب، والمرأة تتضرر به حين تراه دونها، فلا تنبسط له انبساط الزوجة المحبة، ولا تقوم على بيته قيام الزوجة المجدة، إضافة إلى ما في الزواج من طول الصحبة، ودوام العشرة .(1/232)
والشريعة الإسلامية حين تُقرُّ مبدأ الكفاءة بين الزوجين إنما تقصد إلى دوام العشرة، وحصول الانسجام والألفة بين الزوجين، مراعية في ذلك طباع النفوس، وما جُبلت عليه، وليس مقصد الشريعة تعقيد شؤون الزواج - حاشاها - فقد جرت أحكامها في أمور النكاح على التيسير والتسهيل، والتوسُّع فيه، ورفع الحرج؛ فالمهر - مثلاً - الذي يُعدُّ من ضروريات النكاح : جاءت الشريعة فيه بالتخفيف، إلى درجة قد تصل إلى حدِّ الرمزية فقط، فقد أقرت من المهور : خاتم الحديد، والنعل، والتعليم، كما أقرت تأجيله بأكمله؛ إذ مقصود الشارع الحكيم هو النكاح، وحصول النسل، والمهر - على أهميته - ليس إلا سبباً في النكاح، وتقديراً للمرأة، وسبباً في دوام العشرة، وليس هدفاً في ذاته .
وعلى الرغم من أن مسألة الكفاءة في النكاح لا ترقى في أهميتها إلى حكم المهر وضرورته للنكاح : فإن الشريعة لا تعتبر الكفاءة بين الزوجين شرطاً في صحة النكاح، فإن النكاح بين مسلم ومسلمة، بشروط الشريعة، مع انعدام الكفاءة بينهما : صحيح؛ إذ لم تجعل الشريعة السمحة انعدام الكفاءة بين الزوجين عائقاً للنكاح، وإنما أقرَّتها تطييباً للنفوس التي لا تطيق التنازل عنها، فهذه زينب بنت جحش رضي الله عنها، على جلالة قدرها، وعظيم شأنها في الإسلام لم تكن على وفاق مع زوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه من جهة الكفاءة، حتى اضطر إلى طلاقها، فإذا كانت النفوس الزكية، التي تربَّت على عين الرسول- صلى الله عليه وسلم - ثقل عليها التنازل عن حق الكفاءة فكيف الشأن بغيرها، ولا سيما في هذا الزمان الذي غلبت فيه الأهواء، وتعلق غالب الناس بحظوظهم من الدنيا، وأبَوْا التنازل عن حقوقهم؟ .(1/233)
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكفاءة مطلوبة في الرجل خاصة دون المرأة؛ لأن المرأة مهما علت مرتبتها فهي بصورة دائمة تحت سلطان الرجل وقوامته، والرجل - في الجانب الآخر - مهما كان وضيع المقام فإنه صاحب القوامة الأسرية، فكان لا بد للقائم على الأسرة أن يفوق من تحته؛ فإن المرأة تأنف أن يقودها من هو دونها في المرتبة، فإذا تنازلت المرأة وأسرتها عن حقِّهم في الكفاءة فإن الشريعة لا تقف في وجه زواج فقد الكفاءة في الرجل، إلا أن يكون فاسقاً، فإن الفاسق لا يكون كفأً للصالحة من النساء، إلا إن شابهته في فسقه .
والكفاءة في النكاح بين الزوجين لا تقتصر على مسألة شرف النسب أو المكانة الاجتماعية، أو الثروة المالية؛ وإنما تتعداها إلى مسائل جديدة، أصبحت في عرف الناس اليوم من الكفاءة المطلوبة مثل : التقارب بين الزوجين في السن، وقضية التعليم، ودرجة الجمال، والصحة البدنية والنفسية، إلى غيرها من المسائل التي يمكن أن تدخل ضمن مفهوم الكفاءة، وتكون أحياناً شرطاً اجتماعياً أو عرفياً يحول - في حال غيابه - دون حصول الزواج .
ولقد تواترت الوقائع الاجتماعية، والخبرات الواقعية، والدراسات الميدانية الحديثة، والأخبار التاريخية على حقائق في مسألة الكفاءة بين الزوجين من أهمها :
1- تواطؤ غالب الناس على طلب الكفاءة في الرجل دون المرأة؛ إذ يستحبون أن يكون الرجل أرفع قدراً من المرأة بكل حال، وفي جميع جوانبه الشخصية .
2- غالب الأنكحة تتم مراعية التجانس والتقارب بين الأسر في المستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي .
3- تراعي الأسر مسألة التقارب بين الزوجين في السن، مؤكدة أهمية تقدم الرجل على المرأة ببضع سنوات، في الوقت الذي ترفض فيه التفاوت الكبير في السن، وتقدم المرأة على الرجل في السن .
4- تؤكد الأسر أهمية تفوق الرجل على المرأة في الدرجة العلمية، مع ضرورة أن يكون متعلماً .(1/234)
5- تواطأت رغبات الناس على استحباب تفوق المرأة على الرجل في جمال الصورة .
6- تولي الأسر - بصورة عامة - أهمية سلامة الزوجين من الأمراض الوراثية والمعدية، وتفضل في الزوجين تمام الصحة الجسمية والنفسية، والسلامة من العاهات الظاهرة والباطنة، ولا سيما في المرأة؛ لكونها موضع استمتاع بطبيعتها الفطرية .
7- أثبت الزواج من خارج البيئة الاجتماعية إخفاقه في غالب الحالات الزواجية، ولا سيما مع اختلاف الجنسية، واللغة، والوطن، والديانة .
8- يتعذر على الشخص - رجلاً كان أو امرأة - التخلص من خلفياته الثقافية، وعاداته الاجتماعية، وموروثاته البيئية، التي تكوِّن شخصيته، وتُلحُّ عليه من وقت لآخر في اختيار أسلوب حياته، وتسعى بصورة لا شعورية في تكوين وتوجيه دوافعه، وبناء قيمه ومبادئه، التي تؤثر في مجموعها على علاقته الزوجية .
9- يحتاج الزواج في حال انعدام الكفاءة، أو ضعف حضورها إلى حجم كبير من التضحيات، والتنازلات، والصبر من الطرفين، ويقدر حجم هذه التضحيات بقدر انعدام أو ضعف درجة الكفاءة بين الزوجين .
10- رغم انحطاط بعض الأمم والقوميات فإن الكفاءة لا تزال مطلوبة في كل عصر، ومرغوباً فيها، إلا أن طلبها يتفاوت قوة وضعفاً من قوم إلى قوم .(1/235)
وعلى الرغم من أهمية قضية الكفاءة في حياة الناس، ومراعاة الإسلام لهذا العرف فإن الظروف الاجتماعية المعاصرة، التي أفضت إلى تأخير سن الزواج، وظهور العزوبة في الجنسين، وكثرة العوانس من الأرامل والمطلقات، ومن الأبكار اللاتي تقدمن في السن، مما قد يفضي إلى مخاطر أخلاقية مزعجة للمجتمع، ولا سيما ضمن ظروف الحياة المعاصرة التي انفتح فيها العالم بعضه على بعض، وكثرت فيها الملهيات، والفتن، وقلَّ فيها الوازع الديني، وضعفت معاني التقوى، فإن هذا الواقع الملح يُملي على المجتمع التنازل عن الكفاءة في الرجل بصورة كلية أو جزئية؛ بحيث تقتصر على شرط الإسلام، على ألا يكون قد اشتهر بفسق، أو بدعة غليظة، فإن الزوجة تتضرر غاية الضرر بالفاسق أو المنحرف في عقيدته، والعزوبة - على ما فيها - خير لها منه، على ألا يكون هذا المقترح أمراً عاماً، وإنما لكل حالة طبيعتها وظروفها، التي يقدِّرها أهل الزوجة، فالفتاة الجريئة، التي يُتوقع منها الخطأ لو ألحَّت على الزواج من فتىً ليس بكفء لها : فإن إجابتها لطلبها أولى من عنادها، في الوقت الذي يختلف فيه الأمر مع فتاة مطاوعة، غلب عليها الحياء .
وخلاصة الأمر أن الشريعة السمحة تُقر العرف الاجتماعي الذي يراعي الكفاءة بين الزوجين، ولا سيما في الرجل، رغبة في دوام العشرة، وحصول الألفة، إلا أنها لا تعتبرها شرطاً لصحة النكاح، وقد يكون التنازل عنها بصورة ما في ظروف الحياة المعاصرة أمراً مستساغاً إذا كانت تحول دون تحقيق مقصد الشارع الحكيم الذي يقصد إلى النكاح كهدف أسمى، في حين لا ترقى قضية الكفاءة - في الجملة - درجة التحسينيات، أو الحاجيات على أقصى تقدير .
17ـ أزمة عضل الفتيات(1/236)
من حِكَم الله تعالى أن جعل الزواج سكناً، ترتاح به النفس، وتسكن به الروح، وينشرح به الصدر، يطمئن الرجل إلى زوجته، وتطمئن المرأة إلى زوجها، فتستقر نفوسهما، وترتاح قلوبهما، حتى إنهما من شدة استقرارهما، وتطابقهما يعيشان وكأنهما في ثوب واحد { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } [البقرة:187].
إنها صورة يعجز القلم واللسان عن التعبير عنها بأصدق مما عبَّر عنه الخالق سبحانه وتعالى في جمال التكامل والتلاصق والتوحُّد بين الزوجين، إنها متعة عظيمة يتطلع إليها كل عروسين، يتمنى كل واحدٍ منهما أن يعيش تجربتها، وأن يدخل جنَّتها، وأن ينعم بآثارها، فإذا بأناس أظلمت نفوسهم، وتحجَّرت قلوبهم، لا يعرفون من الزواج إلا صورة التسلط والقهر والظلم، لم يتذوَّقوا قط معنى السكن الذي جعله الله تعالى ثمرة من ثمار الزواج، فإذا بهم ينطلقون ليفرضوا آراءهم ومقترحاتهم على الفتيات، متخذين في ذلك سلطتهم الأبوية، أوالأخوية، أو القبلية، فينطلقوا مشرعين لمولياتهم، فلانة لفلان، وفلان لفلانة، يضعونه قانوناً، من يخالفه يستحق العقوبة والإبعاد .
لا يراعون في ذلك مشاعر الفتيات، وتطلعاتهن، ونظرتهن إلى الرجال، فليس كل رجل مرغوباً فيه، ولا سيما إذا كان معدماً، كبير السن، سيء الخلق، لم يُعرف بالخير، فغالب الفتيات لا يرغبن فيه .
إن من أصعب التكاليف العيش مع الشخص المكروه المبْغض، لا سيما أن طبيعة الحياة الزوجية، والواجبات الأسرية لا يمكن أن تُنجز إلا بدافع قوي من العشيرين، ورغبة أكيدة منهما في بذل الواجب تجاه الآخر، فكم هو حجم الجهد النفسي الذي تحتاجه المرأة للمكوث مع رجل تكرهه، ولا ترغب فيه، فإنه لا خيار لها إلا أن تخالعه، ثم تمكث في طرف الحياة الاجتماعية، تنتظر خوض تجربة جديدة، وقد فقدت كثيراً من مؤهلاتها ومميزاتها، أو أنها تصبر على حياتها معه، تكابد الأحزان والآلام، وتنتظر الفرج بالموت .(1/237)
وأما الرجل حين يكره المرأة فإنه لن يعدم وسيلة يجدد بها حياته بطلاق، أو زواج جديد، يخوض من خلاله تجربة أخرى، ففي الوقت الذي يجد فيه الرجل مخرجاً من حياة زوجية لا تناسبه : تعجز المرأة في الغالب أن تجد لها مخرجاً من حياة زوجية لا تناسبها .
ومن هنا كان لزاماً على الأولياء أن يجتهدوا في بذل طاقتهم، ويبذلوا أقصى جهدهم في حسن الاختيار لمولياتهم، وأن يتخذوا جميع الوسائل الممكنة لإقامة حياة زوجية سعيدة، وإن من أهم شروط الحياة الزوجية السعيدة موافقة الطرفين الرجل والمرأة بمبدأ العقد، وهذا التراضي هو أول شرط من شروط الحياة الزوجية السعيدة.
18ـ حاجة الأسرة إلى قوامة الرجل
تختلف طبيعة المرأة عن طبيعة الرجل اختلافاً بيِّناً، ولا يمكن إغفال هذا الاختلاف بحال، إذ إن خلايا جسمها تحمل طابعاً أنثوياً، فهي مخلوقة لمهام تناسبها، كما أن الرجل مخلوق لمهام تناسبه أيضاً .(1/238)
لهذا جاءت الشريعة بالتفريق بين الرجل والمرأة في المهام والأعمال، وبالتساوي بينهما في الجزاء والعقاب عند الله - عز وجل - الذي يقول في كتابه : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذِّيِ عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَللرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةُ } [البقرة:228]. يقول القرطبي في هذه الآية : [ أي : لهن من الحقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن … وللرجال عليهن درجة، أي : منزلة ]، ويقول الله تعالى أيضاً في سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَ بِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]. يقول ابن كثير في تفسير هذه الأية : [ الرجل قيم على المرأة، أي : هو رئيسها، وكبيرها، والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت ] . فقد آتى الله الرجل أسباب القوامة من القوة، والشجاعة، وكمال العقل والدين؛ مما يؤهله لإدارة الأسرة، وحراستها، والإنفاق عليها، حتى وإن استقلت المرأة مالياً فهي لا تزال فطرياً بحاجة إلى قوامة الرجل، وسيطرته، كما أن الأولاد بحاجة إلى ذلك أيضاً فإن رمز السلطة عند الطفل عادةً يكون للأب أما رمز الحب والحنان عادة يكون للأم، لهذا كان واجباً على الأم أن تركز هذا المعنى في نفوس أبنائها؛ لتوجد للأب المهابة في نفوسهم؛ ليحصل الانتفاع بشخصيته وسلطته في عمليتي التربية والتعليم.(1/239)
ولا تعني القوامة - كما يفهما البعض - التسلط والتجبر بغير حق؛ بل هي الرحمة والحنان والعطف والرعاية والإنفاق والتعليم والتربية والتوجيه والسلطة . كما أنها لاتعني الترفع عن التعاون مع الزوجة في شؤون إدارة البيت ورعاية الأولاد، فإن خير الناس عليه الصلاة والسلام كان في خدمة ورعاية أهله في البيت، فلا ينبغي للرجل أن يأنف عن القيام ببعض الأعمال في المنزل خاصة عند حاجة أهله إلى ذلك، على أن يكون لذلك حد معقول - لا يتجاوزه إلا عند الضرورة - فلا يصبح كأنه ربة المنزل كما تفعله بعض القبائل الشاذة.
19ـ القوامة الزوجية(1/240)
لما خلق الله تعالى الرجل والمرأة صنوين ليعيشا معاً ضمن نظام الأسرة، كان لابد لأحدهما من ميزة تؤهله لقيادة الآخر، وتنتظم بها المعيشة بينهما، فكانت مشيئة الله تعالى أن فضل الذكور على الإناث من البشر، وجعل لهم عليهن درجة، فجعل منهم الرسل والأنبياء والخلفاء، وفضَّلهم بكمال العقل، وحسن التدبير، والقوة والفتوة، وكلَّفهم إقامة الشعائر، والشهادة، والجهاد، والجمعة. وصرَّح سبحانه وتعالى بهذه الميزة في كتابه فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ …} [النساء:34]، ففضلهم عليهن بخصائص الرجولة وكمالها، وبالإنفاق المالي، وألزم النساء في مقابل ذلك بالاحتباس والطاعة، بحيث يقوم الرجال عليهن آمرين ناهين كحال الولاة مع الرعية ينظرون لهن، ويجتهدون في حفظهن ورعايتهن، ويحرصون على تعليمهن، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام : (( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها … )) . وهذا لا ينافي بقاء شخصية إحداهن وكيانها الخاص، وانتسابها إلى أهلها، وحقها في التصرف في مالها بضوابطه الشرعية، فهذا باقٍ لها، ولا يحق لزوجها منازعتها فيه، فالقوامة رعاية وحفظ ورحمة، وليست عنتاً وغلظة وظلماً .(1/241)
والزوجان يتبادلان معاً الحقوق والواجبات، فما من واجب عليها إلا ويقابله حق لها يماثله في الوجوب وربما لا يماثله في جنس الفعل، فإذا قصَّر الرجل، أو اختلت شروط قوامته لسفهه، أوعجزه عن الإنفاق نقصت بذلك أهليته للقوامة، وحق للمرأة الفسخ، كما أن المرأة إذا لم ترض بقوامة الرجل لشهامة زائدة فيها، واستنكفت أن يعلوها : فإنها لا تصلح للنكاح؛ لمخالفتها الفطرة السوية، فالبعل ما سُمِّي بعلاً إلا لعلوه على المرأة، والمرأة لا يقال لها : بعل إلا حين تستعلي على الرجل، وما سُمِّي الرجل سيداً إلا لسيادته زوجته، كما قال تعالى في قصة نبي الله يوسف عليه السلام : {…وأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25]، يعني زوجها، وأعطى سبحانه وتعالى للرجل صفة العلو على المرأة، كما قال تعالى في شأن نوح ولوط عليهما السلام : {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا} [التحريم:10]، وتحت نقيض فوق، وهي " إحدى الجهات المحيطة بالجرم "، وهي هنا للمجاز، تُفيد معنى الحفظ والصيانة .
ومن هنا كان من مبدأ تقديم الرجل على المرأة أن أبطل العلماء عقد الإجارة بين الرجل وزوجته إن كانت تستخدمه، كما أمروا بالتفريق بينهما إن كان مملوكاً فاشترته لتمتهنه، وقد رُوي أن السيدة عائشة رضي الله عنها لما أرادت أن تعتق زوجين غلاماً وجارية، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن أعْتقْتهما فابدئي بالرجل قبل المرأة )). ولما أراد عليه الصلاة والسلام أن يقتصَّ لعميرة من زوجها سعد بن الربيع رضي الله عنهما لما لطمها، أنزل الله تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ … }، فكانت الحادثة سبباً لنزول الآية، حيث ظهر بها سلطانهم على الزوجات . ولا يُفهم من هذه الحادثة وأمثالها جواز تسلُّط الرجال على النساء ظلماً وعدواناً، وإنما هو الحق المشروع للرجل الصالح حين يحتاج أحياناً إلى شيء من الخشونة لإصلاح أهله .(1/242)
إن هذه القوامة : طبيعة في الرجل غير متكلفة، فأقل ما يدل عليها : أصل الخِلْقة، فقد خلق الله المرأة من الرجل، فهو أصل نشأتها، كما أن تبعات المرأة في الحيض، والحمل، والنفاس لا تُؤهلها للمساواة المطلقة معه، فالمرأة إذا بلغت في حملها الشهر السادس عُدَّت مريضة، لا تصرُّف لها إلا في حدود ضيقة . ثم هي مهما بلغت من العلم لا تزال تحمل طابع جنسها من رقَّة المشاعر، وغلبة الأحاسيس والعواطف، التي لا تساعدها على القيام بمهام القوامة الأسرية .
كما أن العوج الذي جُبلت عليه من مبدأ النشأة، وأصل الخلقة : لا يُقيمها لتحقيق متطلبات القوامة، والسعي بمهام الرجولة، إلى جانب السنة البشرية المطردة، التي جرت بقيام الرجال بالكسب والإنفاق : لا تسمح للمرأة بمزاحمة الرجل في حقه المشروع في القيام بمهام القوامة . بل حتى لو شاركت المرأة بكسبها في الإنفاق على الأسرة، فإنها لا تزال تحت سلطان الزوج، فالمرأة في القديم - وفي كثيرمن الأرياف - تعمل في الحقل، وتُنتج، وتكسب، وتنفق ورغم ذلك لم تخرج عن طاعة زوجها وسلطانه، وما زال النساء منذ فجر التاريخ الإنساني، وعبر العصور المختلفة تحت سلطان الرجال وسياستهم، وهو واقع عام حتى في عالم الحيوان، بل وحتى في نشاط الخلية الجنسية، حين تتصف الخلية المذكَّرة بالنشاط والحركة والحيوية، وتتصف الخلية المؤنثة بالسكون والسلبية .(1/243)
وقد أفحش الخطأ من ظن من الباحثات المندفعات : أن مجرَّد تولي المرأة الكسب، ومشاركتها في الإنفاق يرفع عنها سلطان الزوج وسيطرته، وتكون معه على حد سواء، متناسيات أن للقوامة جانباً فطرياً غير مكتسب، فضل الله به الرجل عليهن، وأقلُّ سلوك ذكوري يمكن أن يُعبِّر عن هذا الجانب الفطري - حتى عند أتفه الرجال - كون الأنثى عاجزة عن الوطء؛ إذ هو من خصائص الذكورة، فلا تنفك عن الرجل القوامة حتى وإن شاركت المرأة في الإنفاق . كما أن الرجل لا يُعفى شرعاً من الإنفاق على زوجته حتى وإن كانت غنية، قادرة على القيام بنفسها . فهذه خديجة رضي الله تعالى عنها سيدة من سيدات العالمين، رغم غناها، وقيامها بالإنفاق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوته : كانت من أطوع خلق الله تعالى له . وكذلك فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغم المكانة المرموقة، والشرف، والكمال : لم تر لنفسها حقاً في أن تأذن لأبي بكر رضي الله عنه في دخول البيت حتى تستأمر زوجها . وهذه أيضاً أم الدرداء التابعية الجليلة العالمة الحافظة : التي تُعدُّ واحدة من النساء الثلاث اللاتي اعتبرن من أفضل التابعيات على الإطلاق، ومع ذلك كانت لا تذكر اسم زوجها إلا وتقول : " سيِّدي "، إعظاماً لمكانه وسيادته عليها .(1/244)
ورغم المحاولات الكبيرة، المدعمة إعلامياً وأدبياً - منذ زمن بعيد - لانتزاع سلوك القوامة من الرجال، ودعم مكانة المرأة - في المقابل - أمام مكانة الرجل ودوره الطبيعي والاجتماعي، من خلال المؤتمرات العالمية، ووسائل الإعلام المختلفة، والتي قد يعود بعض ما نشرته لأكثر من مائة عام، إلى جانب دور الحركات النسائية، والبحوث والكتابات العلمية والأدبية . رغم هذا الزخم الهائل فإن الفطرة الإنسانية ببعديها النفسي والجسدي : تُلحُّ على الجنسين بفرض سلطان الرجال على النساء، والإبقاء على الطبيعة البشرية كما هي : فتشير الدراسات الحديثة المختلفة، والواقع الحي فيما يتصل بسلوك الرجال : أنهم لا يزالون على طباعهم الذكورية لم يتغيَّروا، يمارسون تأكيد الذات والسيطرة وربما العنف في كثير من الأحيان، ويبغضون الفتاة المسيطرة المنافسة لهم، صاحبة الشخصية المستقلة، ويعاملون المرأة أحياناً بأشد أنواع القهروالاستبداد؛ لإذلالها لسلطانهم وجبروتهم الذكوري، وقد كشفت دراسة بريطانية عام 1995م عن أن (43%) من أعمال العنف ضد المرأة تجري داخل البيوت من قبل الأزواج، فلم يتغيَّر من أمرهم شيء، سوى ما يتعلق بالإعلان الرسمي عن حقوق النساء، وشيء من صور التعامل الظاهر الذي لا يرقى للتَّبَدُّل الفطري الذي قصد إليه دعاة المساواة، ولئن كان هذا النهج القاسي في التعامل مع النساء مرفوضاً في التصور الإسلامي، إلا أنه يحمل دلالته الفطرية في حصر القوامة في الرجال .(1/245)
وأما فيما يتصل بسلوك الفتيات فإن الفطرة الأنثوية لا تزال حتى الآن تفرض طباعها السلوكية عليهن، رغم كل وسائل التَّرقي المعنوية والمادية؛ للرفع من مكانتهن بهدف المساواة مع الرجال في مكانتهم الطبيعية وقدراتهم، فإن الدراسات الميدانية تشير إلى اعتراف الفتيات بأن صفة القيادة خاصة بالرجال، وأن حاجتهن ملحة للبقاء تحت سلطانهم ورعايتهم، وأنهن لا يستنكفن من قيام الرجال عليهن بالنفقة، وهو ما عبَّر عنه عليه الصلاة والسلام بالأسر تحت سلطان الرجل حيث قال: (( استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان )) . فلم يتغيَّر أيضاً من أمرهن شيء.
إن على الفتاة أن تعلم أن طبيعة الأنثى تفرض عليها الميل نحو شيء من المعاملة الخشنة، بحيث تبقى مشغولة الإحساس حتى بما قد يزعجها، وتأبى أن تكون دائماً مكاناً لخدمة الرجل دون أن تكون له إرادة كافية لإخضاعها لسلطانه، فإنها تشعر بالنقص والتفاهة حين لا تجد زوجاً يملكها ويسودها بفحولته، يقول الشيخ أحمد الدهلوي عليه رحمة الله :[ وكون الرجال قوامين على النساء، متكلِّفين معاشهن، وكونهن خادمات، حاضنات، مطيعات : سنة لازمة، وأمر مسلم عند الكافة، وفطرة فطر الله الناس عليها، لا يختلف في ذلك عربهم ولا عجمهم ] . وهذا الفهم يشهد به الواقع المعاصر؛ فالمرأة لا تزال تحت سلطان الرجل، وفي خدمته في جميع المجتمعات المعاصرة، حتى الشيوعية منها، والتي كان لها إسهامها الكبير في رفض قوامة الرجل على المرأة، وتوسيع دائرة عطائها الاقتصادي، فما زالت المرأة فيها دون مستوى المساواة مع الرجل، وأسيرة العبء العائلي، وخدمة الأسرة، وما زال الرجل دائماً هو صاحب القرار في الأسرة، وسيدها، والعجيب أن القانون الفرنسي حتى عام 1970م كان يقضي بالقوامة للرجل، ويقر برئاسته وإشرافه على الأسرة .(1/246)
إن التاريخ البشري يشهد أن المرأة لم تكن قطُّ قوَّامة على الأسرة، ولم تعرف الإنسانية عبر تاريخها الطويل ما يُسمى بالنظام الأمومي، الذي تسود فيه المرأة على الرجل، وتكون لها السيطرة على شؤون الحياة؛ فإن البعض يسعون جاهدين لإثبات سيطرة المرأة تاريخياً على الرجل، واستحواذها على النسب، وأدوات الإنتاج، دون أن يكون لهؤلاء دليل علمي يصدِّق مقولتهم، بل الحقيقة تُشير إلى : " أن الفخر بأسرة الأمومة : خديعة منكرة؛ … لأن إلقاء الأبناء على أمهاتهم ليس من باب مكاسب المرأة وسلطتها؛ بل من زيادة همومها وغمومها، وهذا يعني أن أسرة الأمومة في الحقيقة ليست إلا أسرة النساء الأرامل، في الماضي والحاضر، أوأسرة النساء الضائعات والمشرَّدات في المجتمع " . والحقيقة التي يدل عليها الواقع، واعترف بها الكثيرون أن " أهم أسباب تشرد الأجيال الحديثة من الشباب، وانغماسهم في انحرافات الشذوذ الجنسي، وانحرافات المخدرات، وانحرافات الجريمة هو : غياب سيطرة الأب، سواء لطغيان شخصية المرأة عليه في داخل الأسرة، أو لتفكك الأسرة وعدم وجود المجال للرجل صاحب السلطان "، مما يدل على أن استرجال النساء، وضعف أدوار الرجال الإيجابية : معلم من معالم هلاك الأمم وزوالها .
إن الفطرة والشرع يفرضان على الفتاة المسلمة أن تكون كما هي في كمال أنوثتها التي تتجاذب، وتلتحم بطبعها مع كمال الرجولة عند زوجها، فيتحقق لأسرتها - من خلال تفاعل الفطرتين - الاستقرار النفسي، وتنعم بالسكن والألفة التي حُرمها من تنكبوا طريق الفطرة والشرع .
20ـ المرأة وقوامة الرجل(1/247)
ترفض بعض النساء قوامة الزوج على زوجته، ويسعيْن إلى المساواة في هذا الجانب، حيث يرين أن تقديم الزوج على زوجته في هذا الجانب فيه حيف بحقها وشخصيتها، في حين تنسى الزوجة أنها مقدمة على زوجها عند أولادها، فحقها عليهم ثلاثة أضعاف حقه عليهم، ومع ذلك لم نجد من الرجال من يستنكر تقديم الأمهات في البر على الآباء، فالمرأة حين تقدم زوجها للقوامة: يقدمها أولادها للبر، والرجل حين يقدم أمَّه للبر : تقدمه زوجته للقوامة؛ فالمسألة متوازنة، فليست المرأة متأخرة بصورة دائمة، وليس الرجل أيضاً متقدماً دائماً.
والعالم يتوجه في هذا العصر للتَّمكين للنساء, والسعي في مساواتهن بالرجال، ودعم اقتصادياتهن حتى يستغنين عن الرجال، ولا يُعرف عصر تمكن فيه النساء كما هو في هذا العصر.
والذي يظهر من واقع مجريات الحياة والأحداث أن الأمر سائر إلى مزيد من التمكين للنساء، ومع ذلك هل المرأة فعلاً استغنت عن الرجل وقوامته، بمعنى أنها لم تعد تفتقر إليه، إن المتأمل في حديث الصحيحين ومسند الإمام أحمد الذي أشار فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قلَّة الرجال وكثرة النساء في آخر الزمان حتى يكون القيم على خمسين امرأة رجل واحد، وفي رواية إنهن يتبعنه، وفي أخرى أنهن يلذن به، ماذا يريد هذا العدد الكبير من النساء من رجل واحد ؟ وهنَّ بالضرورة أقوى منه في الجملة، وأقدر بكثرتهن على العمل والإنتاج، ومع ذلك يلحقن به، إنه السِّر الذي أودعه الله في الجنسين، الفطرة التي تجعل المرأة بصورة دائمة في حاجة إلى الرجل، تتبعه، وتعمل في ظله.
21ـ تعريف الفتاة بمقام الزوج(1/248)
يجعل التصور الإسلامي حق الزوج أعظم الحقوق على المرأة بعد حق الله تعالى وحق رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأول ما تُسأل عنه يوم القيامة بعد الصلاة، وهو طريقها إلى رضوان الله تعالى، كما أن إيذاءه، ونكران فضله : من أعظم أسباب سخط الله تعالى على المرأة ودخولها النار، وفي ذلك قال عليه الصلاة والسلام : (( أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفُرن، قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت : ما رأيت منك خيراً قط )) ؛ وذلك لأن إنكار جميل الزوج وإحسانه من أشد ما يثير سخط الرجل ويوغر صدره، حين بذل وسعه في الإحسان إليها والقيام تجاهها بما أوجب الله تعالى عليه .
ولعل الغضب هو السبب الأهم في إثارة مسلك النكران عند الزوجة لفضل زوجها عليها، بحيث تغضب الغضبة، فتخرج بها عن صوابها إلى عبارات التذمُّر والسُّخط التي تثير الزوج؛ لذا فإن أدركت الفتاة - من أول الأمر - حق زوجها، ومكانته في نظام الاجتماع الاسلامي : كان ذلك حافزاً لها على ضبط نفسها، والمسارعة في مرضاة زوجها، والإحسان إليه .(1/249)
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُعِدُّ الفتيات الشابات لذلك، ويوجههن قبل الزواج إلى معرفة مقام الزوج، فقال - صلى الله عليه وسلم - مرَّة لإحداهن : (( … حق الزوج على زوجته أن لو كانت قرحة فلحستها ما أدت حقه … )) ، وربما قال لإحداهن : (( … انظري أين أنت منه فإنه جنتك ونارك )) . وكان أهل المدينة يُدخلون الفتيات قبل البناء بهن على السيدة عائشة رضي الله عنها : فتأمرهن بتقوى الله تعالى، ومعرفة حق الزوج، وكانت - في بعض الأحيان - تنادي في النساء وتقول : " يامعشر النساء لو تعلمن حق أزواجكن عليكن لجعلت المرأة تمسح الغبار عن وجه زوجها بنحر وجهها " . وكان بعض السلف إذا زوَّجوا بناتهم : خلوا بهن، يأمرونهن بحسن الخلق، وطاعة الزوج، حتى تدخل الفتاة بيت الزوجية وقد أدركت واجبها تجاه بعلها، وعرفت مكانته في نظام الإسلام الاجتماعي .
إن استيعاب الفتاة للتوجيهات الربانية والنبوية في هذا المجال : يُهيئها نفسياً وعقلياً قبل الزواج : لتستعد بقوة وعزم على العمل بها، وممارستها في واقع الحياة الزوجية، ولعل مما يساعدها على هذه القناعة أن تعرف أن الله تعالى لم يشرِّع الحداد لأحد من الخلق لأشهر طويلة إلا للمرأة على زوجها إذا تُوفي عنها، حيث تتعطَّل بذلك الحياة وزينتها، وكأنها راهبة في دير؛ مما يدل على عظم حقه عليها، ومكانته العميقة في نفسها؛ بل إن المرأة حين تفقد زوجها : لا تشعر بمعنى للحياة بعده، وكثيراً ما تشعر بعدم الرضا عن واقع حياتها بدونه .
22ـ الطاعة الزوجية(1/250)
إن من أهم المستلزمات السلوكية الدَّالة على قناعة الفتاة بحق القوامة للزوج : طاعته وموافقته، وترك مرادها لمراده في حدود مفاهيم الشرع الحنيف، فقد وصف المولى - عز وجل - الصالحات بالطاعة للأزواج فقال : { … فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ … } [النساء:34]، بمعنى أن صلاحها لا يتم إلا بطاعتها لزوجها، وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام فيما جاء عنه : (( خير النساء من تسُّر إذا نظر، وتُطيع إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها )) ، وفي رواية أخرى : (( خير نسائكم الودود الولود المواتية المواسية إذا اتقين الله … )) ، ووصْفها بالمواتية يفيد مطاوعتها لزوجها، وموافقتها له، فإذا اتصفت الزوجة بذلك، مع أدائها الفروض الواجبة عليها : حصلت لها النجاة يوم القيامة، وحلَّ عليها رضوان الله تعالى .
وفي الجانب الآخر ورد التحذير الشديد من مظاهر النشوز، والإعراض عن الزوج، والمخالفة لأمره، فجعل الإسلام كفران إحسان الزوج من الكبائر، وعصيانه من أسباب فوات أجر العبادة، فقال عليه الصلاة والسلام فيما جاء عنه : (( اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما : عبد أبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع )).
هذه التوجيهات القرآنية والنبوية تستلزم مظاهر سلوكية وخلقية تتعاطاها الفتاة، منها : بقاؤها تحت كنف زوجها، وفي طاعته، بحيث لا تخرج من بيته إلا بإذنه، حتى وإن كان للحج، أو عيادة مريض من محارمها، أو شهود جنازة، أو حتى زيارة أبويها؛ فإن حق الزوج مقدم على حق الوالدين ما دامت في عصمته وسلطانه، وفي تقديمها لوالديها عليه تفويت لحقه عليها من جهة، ومن جهة أخرى - نفسية - تضعف علاقتها به، ويقل بينهما التجاذب ما دامت لا تزال مرتبطة بسلطان والديها العاطفي . ولا يُفهم من هذا تهوين أمر العقوق، فإنه من الكبائر، إلا أن المرأة الصالحة الفطنة تستطيع أن تجمع بكفاءة بين حق الزوج وطاعته، وبين حق الوالدين وبرهما .(1/251)
وعلى الفتاة أن تعرف أن للزوج الحق في أن يسافر بها ما دام السفر مباحاً لهما، وعليها أن تنتقل معه إلى مسكنه إذا انتقل، ولا تمتنع عن فراشه إذا دعاها، فإذا خالفت ذلك كانت ناشزة، لا حق لها في النفقة، ولا المعاملة الحسنة .
إن هذه التكاليف السلوكية التي يتطلبها مبدأ القيام بالطاعة هي في الحقيقة مواقف تشريف؛ لأنها مواقف تتطلبها شروط الاستخلاف في الأرض، وانتظام الحياة الاجتماعية، وليست من مسائل الإجحاف بحق المرأة أو ظلمها كما يزعم بعضهم، فما دامت نفس الفتاة مشبعة بالإيمان، ومقتنعة بحق القوامة للرجل، ومستوعبة للخطاب الرباني التكليفي، وتعيش آثار فطرتها السوية : فإن امتثالها لطاعة زوجها - في حدود المباح - ـ لن يكون أمراً عسيراً، خاصة إذا علمت أن طاعة الأزواج سنة ماضية منذ القدم، وفي شرع من قبلنا، وعند كثير من الأمم الراقية اليوم، ومن الغريب أنه في عام 1907م صدر في نيويورك قانون يفرض على النساء تقديم شهادة خطية عليها قَسَمٌ بحسن السيرة والأخلاق قبل عقد الزواج .
ثم إن التبعية في طبع الإناث مرتبطة بجنسهن، وأن النكاح في حد ذاته نوع من الرِّق، المستلزم للطاعة المطلقة فيما لا معصية فيه؛ لتقابل الزوجة بذلك واجبات الزوج، فإن من الظلم والحيف في حقِّه : أن يُكلَّف بكل المهام الاجتماعية والمالية تجاهها، ثم لا تقابله بحقه في الطاعة، والقيام بواجباتها الزوجية .(1/252)
ولعل مما يساعد الفتاة على القناعة بالطاعة، وامتثال سلوكياتها المطلوبة : أن تعلم أن المرأة الطائعة لزوجها تكون عنده كتاج الذهب على رأسه، حيث تُمثِّل له بسلوكها أعظم منَّة بعد الإسلام، فتنعكس بالضرورة مشاعره المرْضية : إحساناً إليها ومودة ورحمة، حتى يسعى جاداً في مرضاتها، وربما لا يقطع دونها أمراً إلا بمشورتها، ولا يُعطى في شيء إلا بإذنها؛ فتكون بذلك حققت مراد الله تعالى من وجوب الطاعة من جهة، ونالت ثمار امتثالها - من جهة أخرى - بتحقيق مرادها في انقياد زوجها لها، وسعيه في مرضاتها .
ويساعد الفتاة أيضاً على القناعة بهذا المبدأ أن تعرف طبيعة نظام العلاقات الأسرية في التصور الإسلامي : فإن طاعة المرأة لزوجها يقابلها بنفس القوة، وبصورة متشابهة : طاعة الرجل لأمه، فتكون الحقوق بين الرجال والنساء متوازنة ومتبادلة، ولكن في أشخاص آخرين، ضمن دائرة متصلة، تدور بين تقديم الذكر على الأنثى تارة، وتقديم الأنثى على الذكر تارة أخرى في نظام اجتماعي إنساني محكم .
23ـ قيام الفتاة بخدمة الزوج بالمعروف
من الصعوبة بمكان محاولة الجمع بين وجوب طاعة الزوجة لزوجها، وعدم إلزامها القيام بشؤون البيت والخدمة؛ فإن الشارع الحكيم أوجب عليها رعاية بيتها، وحفظ ولدها، وهذا لا بد فيه من الخدمة، وعدم ورود النصِّ القاطع بوجوب الخدمة لا شك أن فيه حكماً . إلا أن العلماء - من خلال النصوص العامة في المسألة، والوقائع زمن النبوة - ذهبوا : بين مُوجب عليها الخدمة، وبين مستحبها لها دون إيجاب، ولعل الراجح : وجوب قيامها بالخدمة بالمعروف، مع مراعاة حالها وحال زوجها، من حيث المكانة، والقوة البدنية . وهذا الاختيار من مستلزمات المعاشرة بالمعروف، ومما جرت به العادة والعرف، فإن في ترك الخدمة مطلقاً سوء معاشرة منها، فقد قال العلماء : " عليها أن تفرش الفراش، وتطبخ القدر، وتقُمَّ الدار، بحسب حالها، وعادة مثلها " .(1/253)
ولقد حفلت السيرة النبوية بأخبار خدمة النساء الشريفات لأزواجهن، فهذه سودة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تدبغ في بيتها، وأم سلمة رضي الله عنها دخلت في أول الليل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عروساً، وفي آخره قامت للطحن والخدمة، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما على جلالة قدرها، ومكانتها في الإسلام كانت تخدم الزبير رضي الله عنه في رعاية فرسه، ودقِّ النوى، وجلب الماء، والعجن . وعلى الرغم من أنها كانت تلقى من ذلك شدّة: لم يُنقل أنها استنكفت عن خدمته، في حين ما كانت ترى للزبير حقاً في مالها، فهي من جهة الخدمة تقوم بها ولوكانت شاقة، أما ما يخصها فتعرفه تماماً، وتستخدم حقها فيه كاملاً .
وأما فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت خادمة البيت عند علي رضي الله عنه، رغم جلالة قدرها ومكانتها، وكانت تتقاسم خدمة البيت مع أم زوجها فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، ولما طلبت خادماً يكفيها الخدمة، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رُوي عنه : (( اتقي الله يا فاطمة، وأدي فريضة ربك، واعملي عمل أهلك … )) ، وفي رواية : (( اصبري يا فاطمة بنت محمد، فإن خير النساء التي نفعت أهلها … )) ، فلم يَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعفى ابنته السيدة العظيمة من خدمة البيت، إلا أنه عليه السلام لما أيْسَرَ أخدمها جارية تساعدها، فتقاسمت معها الخدمة .(1/254)
ومما تقدم يتضح : أن خدمة الفتاة في بيت زوجها بالمعروف مبدأ شرعي، من حقوق الزوج على زوجته، وهو من ألصق مهام المرأة بطبيعتها الأنثوية، فقد دلَّ الواقع، وعاضده البحث الميداني على عينات متنوعة من الجنسين : أن عمل البيت، والخدمة فيه : من شؤون النساء، وأن أكثر الدول رفضاً لمبدأ التفريق بين الجنسين - كالسويد - يستنكف فيها الرجال القيام بأعمال النساء المنزلية، والمرأة في اليابان الحديثة ما زالت المسؤولة عن إدارة شؤون البيت الداخلية، والفتاة الأمريكية حتى نهاية القرن التاسع عشر كانت خدمتها داخل البيت تُعَدُّ مقياساً مهماً للزوجة الصالحة: فكانت النساء يقمن بالطهي، والخبز، والخياطة، والكنس، ونحوها من الأعمال الخاصة بالعائلة، وما كان شيء من ذلك مستهجناً في ذلك الوقت . بل كان المفكرون من أمثال " روسو" لا يرون للفتاة المتزوجة سوى البيت والعناية به، وما عرف النساء احتقار العمل المنزلي، واستهجان خدمة الأسرة إلا بعد قيام الثورة الشيوعية، التي عملت جادة على إقناع المتزوجات بذلك، مستهدفة استغلال طاقاتهن المبددة - حسب زعمهم - في النهوض باقتصاديات البلاد، وساعد على ذلك أيضاً تعاضد قوى الغرب بمنظماته ومؤتمراته العالمية، وجمعياته النسائية . وظنَّ النساء في بادئ الأمر أن عملهن خارج البيت، ومشاركتهن في التنمية الاقتصادية : يُعفيهن من مهام خدمة البيت والزوج، ورعاية الأطفال، متجاهلات لحاجاتهن الفطرية الملحة للرجال - الذي لا ينفكون عن طبيعة التسلط - ومغفلات لمشاعرهن الملحّة نحو الأمومة التي تتطلب بالدرجة الأولى : الرعاية والخدمة . فما أن مضت سنوات قليلة حتى أدركت المرأة العاملة المتزوجة - أينما كانت في هذا العالم - أن التدبير المنزلي وظيفتها الرئيسة التي لا تنفك عنها ما دامت راغبة في الرجل والأطفال .(1/255)
إن الفتاة المسلمة تشعر بفطرتها السوية، أن رعايتها بيتها، وخدمة زوجها وأولادها: يُشبع حاجة نفسية وطبيعية عندها، وأن قيامها بواجب الخدمة بالمعروف يعدل الجهاد في سبيل الله تعالى، فقد رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (( مهنة إحداكن في بيتها تُدرك به عمل المجاهد في سبيل الله )) .
إن على الفتاة أن تعرف أن اختلاف الطبائع جعل للرجل مهاماً تختلف عن مهام المرأة، وأن كلاً من الجنسين لا بد أن يقوم بمسؤوليات وأعمال تناسبه، بحيث يسدُّ كل منهما ما فات صاحبه، فتتقابل بذلك الواجبات مع الحقوق، وتقوم بينهما المماثلة التي أشار إليها المولى - عز وجل - في قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذِّيِ عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ }، فهي مماثلة من جهة الوجوب، وليست من جهة جنس العمل، بحيث " إذا غسلت ثيابه، أو خبزت له : أن يفعل نحو ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال، فلكل مسؤولياته، ولكل مهامه التي تناسبه، وتوافق فطرته" .
24ـ الإحسان إلى الزوج(1/256)
إن مما تتطلبه الحياة الزوجية بعد الطاعة والاعتراف بالقوامة والانقياد للزوج : تصنُّع الإحسان إليه "بدوام الحياء منه، وقلة المماراة له، والسُّكوت عند كلامه، وإظهار القناعة، واستعمال الشفقة، وإكرام أهله وقرابته، ورؤية حاله بالفضل، وقبول فعله بالشكر، وإظهار الحب له عند القرب منه، وإظهار السرور عند رؤيته"، فلا يكفي الفتاة المسلمة قيامها بالفروض الزوجية فحسب، فإن الرفق في معاملة الزوج، والسعي في طلب مرضاته، وتكلُّف مداراته : من الأمور المطلوبة أيضاً، فهي تُضفي على العلاقة الزوجية بهجة، ومزيداً من السعادة، فالفتاة الصالحة المحبَّبة إلى زوجها : لا ترى أحداً من الرجال يساوي زوجها، فهي تُحبه المحبة الراشدة : محبة لذاته، وأخرى لحق الزوجية، بل وتتكلَّف محبَّته، حتى وإن لم تكن تُحبُّه على الحقيقة؛ وذلك لحق العشرة والإسلام، فليست كل البيوت تقوم على الحب الخالص، ولو كان الحب وحده شرطاً للإحسان بين الزوجين فإن " المرأة إذا فَرَكَت زوجها : مات ضعفها الأنثوي الذي يتم به جمالها والاستمتاع بها، وتعقَّد بذلك لينُها واسْتحْجر، فتكون مع الرجل بخلاف طبيعتها، فتنقلب أنوثتها الجميلة عربدة وخلافاً وشراً، فلا تستقيم حياتها إلا بالوفاق مع زوجها، إما بطريق الطبع فتألفُه ويألَفُها، وإما بطريق التكلُّف والمدارة، وبكليهما تستقيم الحياة الزوجية، وتستمر العشرة .(1/257)
كما أن في قيامها باسترضائه - وإن كان هو أظلم - حفْظاً لكبرياء الرجولة من أن تُخدش، وهو في الحقيقة مسلك الزوجة المؤمنة الصالحة، يقول عليه الصلاة والسلام فيما جاء عنه : (( ودودٌ ولود إذا غضبت، أو أسيئ إليها، أو غضب زوجها قالت : هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمضٍ حتى ترضى ))، فلا تستنكف عن استعطافه واسترضائه في الوقت الذي تهيج فيه ثورة الذكورة الظالمة، مادام يُوصف بالصلاح، فإن في بعض الصالحين حدَّةً، لا يُسكِّنُها إلا الصبر، وحسن التدبير من المرأة الصالحة، ويُروى في هذا المعنى أن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما كان في خُلُقه شدَّة، فلما غاضب زوجته يوماً قالت له : " أما والله لقد حذَّرتك، قال : فأمرك بيدك، فقالت : لا أختار على ابن الصديق أحداً …"، فرضيت به لصلاحه وفضله، مع ما فيه من شدة .
وفي ترك الشِّكاية منه، وكتم أخبارالسوء، ونشر أخبار الخير : مظهر من مظاهر الإحسان، فقد أبغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجرَّد انطلاق المرأة من بيتها بغرض شكاية زوجها، ولما جاءته خولة بنت مالك تشكو زوجها أوس بن الصامت رضي الله عنهما، ورغم ما كان فيه من سلوك الحدَّة معها، وما أتى به من القول الغليظ، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يا خويلة ابن عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه ))، ثم نزل بعد ذلك في شأنها ما نزل من القرآن، تقول جورج إليوت : " المرأة التي تبيح لنفسها أن تكشف عن طواعية القناع عن حياتها الزوجية، إنما تستبيح بذلك حرمة هذه الحياة، وتنزل بها من محراب مقدس إلى مكان مبتذل " .(1/258)
وإن كان في حال الزوج رقَّة، فإن صورة مقام الإحسان: الصبر على ذات يده، كما هو حال الصالحات من خيار النساء، وترك التثريب عليه، ما دام عاجزاً عن الكسب لسبب مشروع، فإن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاقب امرأة تركت الصبر على فقر زوجها لما كَبُرت سنه، وقعد عن الكسب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - امتدح المرأة من أهل الكتاب: تصبر على الفقر مع زوجها ولا ترغب عنه.
وإن كان الزوج صالحاً، قائماً بواجباته الشرعية فإن تصنُّع الإحسان إليه في هذه الحالة أبلغ وآكد، فهذه زوجة الإمام أحمد بن حنبل بعد أن دخل عليها بأيام قالت له: " هل تنكر مني شيئاً؟ قال: لا، إلا هذه النَّعل التي تلبسينها، ولم تكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فباعتها واشترت مقطوعاً فكانت تلبسه "، ومكثت عنده نحواً من عشرين سنة لم تختلف معه في كلمة واحدة. وكذلك الشيخ مظفر بن أبي بكر بن مظفر التركماني القاهري مكثت معه زوجته خمسين سنة لم تختلف معه في شيء، وتقول المرأة الصالحة العالمة بنت سعيد بن المسيب مُبيِّنة سلوك النساء الصالحات مع أزواجهن، ومبالغتهن في الإحسان إليهم: "ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم: أصلحك الله، عافاك الله". ويقول ابن الجوزي رحمه الله ناصحاً الزوجة المؤمنة إذا رُزقت رجلاً صالحاً: "وينبغي للمرأة العاقلة إذا وجدت زوجاً صالحاً يلائمها: أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته، أو تعرضت لما يكرهه: أوجب ملامته، وبقي ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها، أو آثر غيرها، فإنه قد يجد، وقد لا تجد هي، ومعلوم أن المَلَلَ للمُسْتحْسن قد يقع فكيف للمكروه".(1/259)
وقد تستخدم الفتاة المتزوجة جمالها، وتمام جاذبيتها في كسب رضا زوجها متخفِّفة من أعباء مسلك المجاهدة الخلقية، وتصنُّع الإحسان، فإن هذا النهج يمكن أن يُثمرأحياناً إلا أنه محدود الأثر، وسرعان ما تزول عن الفتاة نضارة الشباب، وجمال المطلع، بل قد يكون جمال الفتاة - في حد ذاته - سبب تعاستها الزوجية، فإن كثيراً من الجميلات يخفقن في حياتهن الزوجية، ولعل ذلك لاختيالهن بجمالهن، وترك طريقة الإحسان في معاملة الزوج اعتماداً على تأثير الجمال وحده؛ ولهذا كثيراً ما ينهى الحكماء عن الاقتران بالمرأة البارعة الجمال، لاعتمادها على جمالها في استرضاء زوجها، ومن المعلوم أن الجاذبية الباطنة في طبع الزوجة، المتضمنة للمشاركة الوجدانية الرقيقة، وسرعة الاستجابة، والعاطفة الجياشة، وسرعة الفهم : أشد تأثيراً في الزوج من الجمال الظاهر، تقول هند بنت المهلَّب مشيرة إلى هذا المعنى : " رأيت صلاح الحرة إلفها، وفسادها بحدَّتها " .
ومن هنا تتيقن الفتاة المسلمة أن الإحسان من أعظم أبواب السعادة الزوجية، وأن مظاهره كثيرة، تتسع لكل مناشط الخير التي يمكن أن تتعامل بها الفتاة مع زوجها .
25ـ التَّلطُّف في معاملة الزوجة
إن من أعظم وسائل التربية الزوجية التي يقوم بها الزوج : تلطُّفه بزوجته، ومراعاته لحالها، وسوقه لها سوقاً حميداً هيناً، خاصة الفتاة الشابة، القليلة الخبرة، فإنها أحوج إلى المراعاة والإشفاق .
ومن أعظم مظاهر التلطُّف بالزوجة : المسارعة في إدخال السرور عليها، بحيث يستغل الزوج الأوقات المختلفة فيبادرها بشيء من الأنْس لترتاح إليه نفسُها : إما بالعبارة الحانية المملوءة عاطفة ورقة، وإما بشيء من الترفيه البريء،، والمزاح الجائز، أو من خلال مساعدتها في شيء من الخدمة المنزلية ونحوها .(1/260)
وقد نهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معاملته لعائشة رضي الله عنها - وهي الفتاة الحديثة السن - نهجاً حانياً لطيفاً، فكان يُدخل عليها السرور بفعله وعباراته، حتى كان يقوم لها يسترها لتنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد حتى تملَّ، وهو صابر لها، وربما جلس لها يُحادثها قبل صلاة الفجر، ويلاطفها حتى يأتيه المؤذن، وربما امتدح جمالها - كما ُروي عنه - فيقول : (( يا عويش مالي أراك قد أشرق وجهك ؟ فقالت : وما لي لا أفعل ذلك وقد دعوت لي ... )) ، وكان عليه السلام يراعي زوجته ريحانة رضي الله عنها ولا يرد لها طلباً، تلطُّفاً وإعجاباً بها.
وكان نهجه عليه الصلاة والسلام " إذا خلا بنسائه ألين الناس، وأكرم الناس ضاحكاً بسَّاماً، وكان يأمر من أغلظ على زوجته من أصحابه أن يكثرالاستغفار، ويُبيِّن لهم أن جمال الرجال فيما يتكلمون به، ويعبرون عنه بألسنتهم .(1/261)
ومن جوانب السرور التي يستلطفها النساء، ويملن إليها خاصة الصغيرات منهن، وينزعجن من إخفائها، وعدم تصريح الأزواج بها : معرفة مكانتهن عند الأزواج، والتعبير عن مشاعرهم تجاههن، وإلحاههن في طلب ذلك، والتأكيد عليه، والشوق إلى سماعه مراراً وتكراراً دون ملل، فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها رغم أنها كانت أحظى نسائه عنده، إلا أنها - مع ذلك - كانت أحوجهن إلى إعلان المحبة وسماعها منه عليه الصلاة والسلام، وأكثرهن رغبة في ذلك، حتى كانت تسأله - فيما رُوي عنها - فتقول : (( يا رسول الله كيف حبك لي ؟ قال : كعقدة الحبل، فكنت أقول كيف العقدة يا رسول الله؟ فيقول : هي على حالها )). وربما قال لها مرة - فيما ذُكر عنها - : (( يا عائشة أنت أحب إليَّ من زبْد بتمر ... ))، وربما قال لها تواضعاً منه - في بعض ما رُوي عنه- : (( ... ما سُرِرت منى كسروري منك )) ، وفي رواية : (( ... فما أعلم أني سررت بشيء كسروري بكلامك )) . يراعي - صلى الله عليه وسلم - بهذه العبارات حاجة الزوجة النفسية إليها، ويسكن بها غيرتها المتوقدة، ولم يكن العرب يستنكرون إعلان محبة النساء؛ بل كان ذلك عندهم من كمال الرجولة؛ لهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا سُئل عن أحب الناس إليه لم يوار ولم يكِّن في الإخبار بأنها عائشة، ولو كان ذلك في مجمع من الرجال.(1/262)
ومن جوانب الملاطفة للزوجة المزاح معها، بما يحقق إدخال الأنس والبهجة عليها، فقد رُوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( … كسا ذات يوم امرأة من نسائه ثوباً، فقال لها : البسيه واحمدي الله وجدِّي منه ذيلاً كذيل الفرس )) ، ورُوي أنه : (( … ربط قرناً من قرون عائشة رضي الله عنها وهي نائمة، ثم ناداها من ناحية فانتبهت فزعة، فتبسم لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )). وأقرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على مضاحكة الزوجات والأولاد، وما يخالط ذلك عادة من الغفلة والنسيان، وقال لبعض أصحابه ممن استنكر ذلك : (( … ساعة وساعة …)) ، وكان عمر رضي الله عنه يأمر الرجال بأن يكونوا مع زوجاتهم كالصبيان في المزاح والملاطفة، فيقول : " ليعجبني الرجل أن يكون في أهل بيته كالصبي، فإذا ابتغى منه وُجد رجلاً "، وكان ابنه عبدالله رضي الله عنهما يمتثل ذلك، فيُمازح مولاته حتى يقول لها : " خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام، فتغضب، وتصيح، وتبكي، ويضحك عبدالله بن عمر " وكذلك الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه فقد كان من أفْكه الناس مع أهله، رغم صرامته في أصحابه . وكان بعض السلف يبالغ في المزاح، وربما تضرر من شدته، فهذا العباس بن الوليد من علماء القرن الثالث الهجري مازح جارية له، فدفعته فسقط وانكسرت رجلُه، فتعطل عن الخروج لطلابه .(1/263)
ولعل من أحب سلوك الملاطفة إلى الفتيات المتزوجات : شعورهن بشفقة الأزواج عليهن في خدمة البيت، وتقديم العون لهن في ذلك، فإن المرأة ربَّة البيت إذا أعطت جهدها، وبذلت طاقتها في خدمة زوجها وولده، ثم لم تجد تشجيعاً على ذلك، وتقديراً لجهودها : فإنها تشعر بالإحباط، وشدة الجوع العاطفي . ومن هنا كان عليه الصلاة والسلام يراعي هذا منهن، فكان لا يكلفهن مؤونة نفسه، فقد كان يخدم نفسه، ويسارع في مساعدة أهله، حتى لربما وضع رجله لإحداهن لتصعد على البعير . وكان يوجِّه أصحابه، فيقول - فيما رُوي عنه - : (( خدمتُك زوجتك صدقة )). وكان السلف يقتدون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فيقول أبو سنان رحمه الله : " حلبت الشاة منذ اليوم، واستقيت لأهلي راوية من ماء، وكان يُقال : خيركم أنفعكم لأهله " .
إن وعي الرجال بذلك، وملاطفتهم للزوجات في المعاملة، وتقديم شيء من الخدمة : كل ذلك له أثره البالغ في سكون نفوسهن، واستقرار عواطفهن، بحيث تُقبل إحداهن على زوجها في غاية السعادة والرضا، حتى وإن كنَّ في شدَّة من ضيق العيش، وقلَّة ذات اليد .
26ـ التوسعة في النفقة على الزوجة(1/264)
أوجب المولى - عز وجل - على الرجال - من الأغنياء والفقراء - النفقة لنسائهم، كل حسب سعته، فإن النساء لسن من أهل الكسب، قال الله تعالى : { لِيُنْفِقَ ذُوسَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَا آتَاهُ اللَّهُ … } [الطلاق:7]، وقال عليه الصلاة والسلام : (( خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول ))، فمن عجز عن الإنفاق فُرِّق بينه وبين زوجته؛ إلا إن رضيت بحالها معه؛ وذلك لما يلحقها من الضيق والضرر، فإن مجرد الملاطفة، والمحبة بين الزوجين، في حد ذاتها - لا تكفي لقيام الحياة الزوجية دون إنفاق ولو كان يسيراً، قال الإمام الشافعي رحمه الله : " وأقل ما يجب في أمره بالعشرة بالمعروف : أن يؤدي الزوج إلى زوجته ما فرض الله عليه لها من نفقة وكسوة … وجماع المعروف وإعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه، وأداؤه إليه بطيب النفس لا بضرورته إلى طلبه، ولا تأديته بإظهار الكراهية لتأديته "، فيكون إنفاقهم عليهن من منطلق الواجب والتكليف، دون إلجائهن إلى الطلب، والإلحاح، ودون إشعارهن باضطرارهم للإنفاق، بل يكون ذلك بطيب نفس منهم . ولما كان البعض يستثقل النفقة : جعلها الله تعالى أعظم نفقات الرجال على الإطلاق، وأكثرها أجراً، وعدَّها نوعاً من أنواع الصدقات : حتى تخفَّ مؤونتها النفسية عليهم، فتخرج النفقة منهم طيبة وافرة، وفي هذا يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الرجل إذا سقى امرأته من الماء أجر )) .(1/265)
ولقد جُبل النساء على الرغبة في التوسع، والاستكثار من الممتلكات حتى أكمل النساء في زمن النبوة، فهذه فاطمة رضي الله عنها تشكو للرسول- صلى الله عليه وسلم - ضيق عيشها، ورغبتها في التوسعة، ونساء النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتمعن عليه في طلب مزيد من النفقة، حتى يضَّطر لهجرهن، وتخييرهن بين البقاء معه على حال الشدة أو التسريح . ولما تزوج عبدالله بن عمر صفية رضي الله عنهم أمْهرها أربعمائة درهم، فأرسلت إليه : أن هذا لا يكفي، فبعث إليها سراً بمائتين أخرى . وهكذا طبع النساء في كل زمن، يرغبن دائماً في المزيد، ويشعرن بالأنس، والاستقرار إذا وُسِّع عليهن.
ولعل من أعظم جوانب التوسعة عليهن : الراحة في السكن بحيث تشعر فيه الزوجة بالأنس والاستقلال والحرية، فإن السكن إذا لم يكن ملائماً لهن : تضايقن، وكان من أعظم أسباب الخلاف والشقاق مع الأزواج . لهذا أوجب العلماء على الزوج أن يُسكنها في وحدة آمنة مستقلة بها، ليس فيها أحد من أهله، إلا أن توافق الزوجة على ذلك . وقد دلَّ الواقع المعاصرعلى : أن الفتيات لا يرغبن في السكن المشترك مع أهل الزوج، ويفضلن المسكن المستقل، كما أن كثيراً من الآباء أيضاً يميلون إلى عزل أولادهم عنهم بعد الزواج في وحدات خاصة بهم . وكل ذلك مراعاة لهذه الرغبات النسائية في الاستقلال، والشعور بالحرية، والراحة النفسية، ومن المعروف أن المرأة تُعيَّر بالمسكن الخسيس، فتتضرَّر من ذلك، في حين لا يدري أحد بطعامها وشرابها، فلا تُعيَّر بذلك، ولهذا يُلْحظ كم يُفوِّت نظام زواج المسيار - الذي ظهر مؤخراً - على المرأة من مصالح نفسية واجتماعية واقتصادية حين لا يلتزم فيه الزوج بالنفقة ولا بالمسكن ولا بالمبيت، مما دفع بعض العلماء للقول بتحريمه، أو كراهيته على أقل تقدير، رغم أن بعض الجهات الشرعية الرسمية أجازته إذا استوفى الشروط.(1/266)
ولعل مما يلحق بهذا الجانب أيضاً : التوسعة على الفتيات في أيام زفافهن، فإن السلف كانوا يوسعون عليهن في المأكل والمشرب، وشيء من اللهو البريء في غير إسراف أو مخيلة . إلا أن ضبط النفس في زمن الأفراح والأتراح في غاية الصعوبة، فقد يقع من البعض سلوكيات خاطئة، وخروج عن المألوف الجائز إلى الإسراف والخيلاء الموقع في الإثم والحرج . فلا بد من مراعاة الاعتدال، فإن التوسعة على الزوجات لا تعني الإسراف والتبذير .
27ـ الدور التربوي للغيرة الزوجية
قسَّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - غيرة الرجال على زوجاتهم إلى نوعين، الأول : غيرة محمودة يُحبها الله تعالى ويرضاها، وهي ما كانت إثارتها عن ريبة تستدعي الوقوف والبحث، فهذا النوع من الغيرة من صفات المؤمنين، يصلح بها الله الزوجة، ويضبط سلوكها . أما النوع الثاني : فهو ما كان عن شك، ووسوسة لا حقيقة لها، فهذه مفسدة للعلاقة الزوجية، ومضرةٌ بالزوجة، وهي سلوك مبغوض لله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (( الغيرة في الريبة يحبها الله - عز وجل -، والغيرة في غيره يبغضها الله … )) ، ويقول الغزالي رحمه الله : (( الاعتدال في الغيرة وهو : أن لا يتغافل مع مبادئ الأمور التي يخشى غوائلها، ولا يبالغ في إساءة الظن والتعنت وتجسس البواطن )) ، ومن هنا : نهى الشارع الحكيم عن تخوُّن النساء، والبحث عن عثراتهن، كأن يطرقها الرجل ليلاً؛ ليعرف حالها، فإن من فعل هذا بغير سبب مُلْجئ : فإنه غالباً ما يندم على فعله .(1/267)
إن شعور الزوجة بغيرة زوجها عليها : ضرورة فطرية تحتاج إليها، وهي دليل من أدلة المحبة الأكيدة بينهما، وهي من السلوك الطبيعي الذي يصعب إخفاؤه أو تجاهله . وما زال طبع الرجال منذ فجر البشرية : الغيرة على النساء حتى إن أول جريمة قتل بين بني آدم : كانت بسبب التَّغاير على النساء، وعلى الرغم من أن الغيرة طبع في الجنسين من الذكور والإناث، إلا أنه في الرجال أعنف وأقوى، فالمرأة قد تحتمل دواعي الغيرة، وربما تقبَّلتها، كأن تقبل بالضرَّة تشاركها في زوجها، في حين لا يمكن أن يقبل الرجل - الطبيعي - بمثل هذا الوضع .
والمقصود أن الغيرة من الزوج على زوجته محمودة في العموم، بحيث تشعر بها الزوجة، دون أن تضرَّ بها ما لم تكن هناك ريبة، يقول عبدالله بن شداد : " الغيرة غيرتان : غيرة يصلح بها الرجل أهله، وغيرة تُدْخل النار "، فالأولى تنتفع بها الزوجة، وتُشبع خلتها من حب الزوج، واهتمامه بها، والأخرى تُفسد عليه حاله، وتضرُّ بزوجته .
ومن هنا فلا بد أن يراعي الرجال هذا المبدأ، وأن يكون الاعتدال نهجهم، وأن يتجنبوا الوسوسة والظن؛ (( … فإن الظن أكذب الحديث … )) .
28ـ الصبر على سوء خلق الزوجة
لقد جُبل النساء في العموم على شيء من الاعوجاج السلوكي في طباعهن الفطرية؛ ولعل ذلك لكونهن خلقن في الأصل من ضلع، والأصل في الضلع العوج، أي أنهن خلقن خلقاً فيه عوج؛ ولهذا جاءت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على هذا العوج فيهن، والمداراة لهن، فقال : (( .. استوصوا بالنساء، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تُقيمه : كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً )) .(1/268)
وأمر المولى - عز وجل - الجميع بمعاشرتهن بالمعروف، خاصة الرجال من الأزواج، فإنهم أكثر تلبساً بهذا الأمر من غيرهم، فقال - عز وجل - : { … وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [النساء:19]، فنُدب الرجال إلى التحمل، والصبر : رجاء أن يؤول الأمر إلى خير، مع شيء من الحكمة في معالجة سلوكهن " فالسياسة والخشونة : علاج الشر، والمطايبة والرحمة : علاج الضعف، فالطبيب الحاذق هو الذي يقدِّر العلاج بقدر الداء، فلينظر الرجل أولاً إلى أخلاقها بالتجربة، ثم ليعاملها بما يصلحها كما يقتضيه حالها "، فليس كل النساء على نظام واحد في السلوك، كما أن أسلوب التعامل معهن يختلف بحسب الحال من واحدة إلى أخرى .
ولما كان سلوك العوج عاماً في غالب النساء حتى إن الفضليات من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرجن عن هذا الوصف في العموم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعاني منهن في بعض الأحيان شدة، فقد تهجره إحداهن يوماً حتى المساء، وربما أغلقت إحداهن الباب دونه بسبب شدة الغيرة، وربما تعاونت إحداهن مع الأخرى فتظاهرتا عليه حتى حرَّم على نفسه ما أحل الله له، ولربما نزعت إحداهن يدها من يده لشدة ما تجده في نفسها من الغضب، وربما اجتمعن حوله يتجادلن، ويتشاتمن حتى تعلو أصواتهن . كل هذه السلوكيات لم تدفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى غير مزيد من الصبر، والمداراة، ومراعاة أحوالهن أخذاً بوصية جبريل عليه السلام: حيث كان يوصى بالنساء حتى ظن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه سوف ينزل تحريم طلاقهن.(1/269)
ومازال النساء في كل الأزمان على نفس النهج، وما زال الرجال مطالبين دائماً بالصبر، والسياسة، والمداراة، وأخبار السلف في هذا المجال كثيرة . إلا أن الضابط الذي يُميِّز الصالحة من النساء دون غيرها : هو رجوعها إلى الحق بعد سكون الثورة الغضبية، واعترافها بالخطأ والاعتذار لمن له عليها حق دون استكبار أو عتو. ويظهر هذا الطبع الصالح في سلوك السيدة عائشة رضي الله عنها، في وقت صفائها حيث تقول معترفة بعظيم حبها وتعلقها بالرسول - صلى الله عليه وسلم - : " أجل والله يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أهجر إلا اسمك " .
إن على الرجال إدراك هذه القضية، وتوطين نفوسهم على الصبر، والمداراة، وعلى الزوجات ألا يتمادين مسترسلات في عمق طبائعهن، وأن يعدْن للحق إذا غفلن عنه، وغلب عليهن عوج الخلْقة، فإن الصالحة لا ترضى بغضب بعلها وهو ظالم، فكيف بها إن كانت ظالمة ؟ .
29ـ تأديب الزوجة الناشز(1/270)
قد تخرج الزوجة عن طبعها المعتدل إلى سلوك ناشز، لحماقة فيها، أو شدة تدليل بسبب مكانتها عند زوجها، وحبه لها، أو تقوِّيها بولادة الذكور، ونحو ذلك من الأسباب التي تدعو الزوجة أحياناً إلى الخروج عن الطبع السوي :فتترفع على زوجها، وتبغضه، ولا تسمع له أمراً، ولا تطيعه في المعروف، فتهجر فراشه، ولا تتزين له، وتخرج من بيته بغير إذنه، وتترك الصلاة، فإذا فعلت الزوجة شيئاً من هذه السلوكيات على الخصوص : عُدَّت ناشزاً تدخل تحت قول الله تعالى : { … وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّه كَانَ عَلِياً كَبِيراً } [النساء:34]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما معلقاً على هذه الآية : " تلك المرأة التي تنشز، وتستخفُّ بحق زوجها، ولا تطيع أمره، فأمرالله - عز وجل - أن يعظها، ويذكرها بعظيم حقه عليها، فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد، فإن رجعت وإلا ضربها ضرباً غير مبرِّح، ولا يكسر لها عظماً، ولا يجرح لها جرحاً، قال : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } [النساء:34]، يقول : إذا أطاعتك فلا تتجنَّ عليها العلل " .
إن اللطيف الخبير هو الذي يوجه إلى هذا الأسلوب التربوي في معالجة الزوجة الناشزة، بحسب الترتيب، فإن لم يفد الوعظ، فإن للهجر تأثيراً بالغاً في المرأة المختالة بجمالها وقدرتها على الإغراء؛ إذ إن ترك الجماع لأسبوعين على الأكثر قد يكون كافياُ لإحداث استجابة في سلوكها، كما أن في هجر كلامها دون هجر جماعها : تأثيراً بالغاً في نفسها - كما ذكرابن عباس - إلا أن ضابط الهجر في الكلام بأن لا يزيد عن ثلاثة أيام، ويكون في البيت مع الاعتزال في الفراش .(1/271)
أما استخدام العقاب البدني بالضرب، فإنه مشروع للحاجة في حالة تعثر الوعظ والهجر في تحقيق تعديل في سلوك الزوجة، حتى وإن كانت صغيرة، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نَدَبَ إليه، ولا استحبه لأصحابه، لما شاع بينهم .
ومما ينبغي أن تعرفه الفتاة المعاصرة : أن استخدام العقاب البدني مع الزوجة الناشزة سلوك شائع في جميع الطبقات والفئات الاجتماعية منذ القديم، وحتى في المجتمعات المعاصرة اليوم، رغم إدراجه - في بعض الدول - ضمن الجرائم التي يُعاقب عليها القانون، إلا أنه لا يزال يُمارس بصورة واسعة وعنيفة - في بعض المجتمعات - قد تصل بالزوجة إلى حدِّ الموت، فإذا أجازه الشارع الحكيم بضوابطه المشروعة، ومبرراته المنطقية : فلا بد أن يكون مقبولاً عند الفتاة - من حيث المبدأ - شرعاً وعقلاً، خاصة إذا علمت : أن مبدأ ضرب الزوجة الناشز تُقرُّه فئات كبيرة من الجنسين في المجتمعات المتقدمة، رغم التوجُّه العام ضد العنف، وشيوع مبادئ الحرية الفردية؛ بل إن بعض القوانين العربية تذهب إلى أبعد من هذا فتنصُّ : على استخدام الشرطة لإلزام المرأة بيتها وطاعة زوجها إذا ثبت نشوزها، رغم ما في هذه الممارسة من المهانة للمرأة، وفقدان الجانب التربوي في معاملتها .
ولعل مما يُقنع الفتاة المعاصرة بهذا المبدأ الشرعي كوسيلة تربوية مشروعة عند الحاجة إليها، بهدف ضبط الحياة الزوجية واستمرارها : أنه أسلوب استُخدم في القرون المفضلة، وثبت عن عدد من الصحابة تأديب زوجاتهم بدنياً، ومن خلال أسلوب الهجر أيضاً، فلم تُخرجهم هذه الممارسات المشروعة عن كونهم في الجملة منتسبين إلى أفضل القرون وأحسنها على الإطلاق .(1/272)
ولا يُفهم من هذا السعي في إقناع الفتاة بمشروعية التأديب البدني : أن تكون محلاً للعقوبة فتستسلم لها؛ بل هو على الحقيقة سعي في توعيتها بهذا الأسلوب كوسيلة تربوية مشروعة، يمكن أن تُمارس معها في حال نشوزها، واستحقاقها التأديب، إلا أن الزوجة العاقلة لا تُلجئ زوجها إلى هذه المعاملة العنيفة معها، فالتصريح منه؛ بل وحتى التلميح : يكفيها للرجوع إلى الحق، والقيام بالواجب الشرعي .
ومن المعلوم أن شخصية الزوج الصالح ضرورية لضبط سلوك الزوجة، فالهيبة من صفات المؤمن، وهي من أفضل الوسائل لسياسة الرجل أهله، وهي ضرورية له، ومرتبطة بشخصيته ودينه ومروءته، ومدى احترامه واعتزازه بنفسه، فإذا فقد هذه الصفة : هان على زوجته، وضعُفت مكانته عندها؛ فالعتو من الزوجة، " والغي، وسوء التدبير، وقصر الرأي، وركوب الهوى : ليست سوى خصائص المرأة التي تتمرَّد، والتي تطغى، حين يكون الزوج فاقداً هيبته " .
وقد ألمح الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الصفة في الزوج حين قال : (( علِّقوا السَّوط حيث يراه أهل البيت فإنه لهم أدب )) ، فقد يستغني الرجل الوقور بقوة شخصيته ومكانته عن استخدام يده، وقد تُغنيه الفتاة الصالحة عن ذلك بحسن تبعُّلها، واعترافها بحقه عليها .
30ـ السَّعي في الإصلاح بين الزوجين
قد لا يستطيع الزوجان تدارك الخلاف بينهما، ومعالجته بقدراتهما المحدودة، خاصة الأزواج الصغار منهم، فإن سعي الصالحين من الأقارب، والمعارف يعد من أعظم وسائل بقاء الحياة الزوجية واستمرارها، خاصة إذا عُلم أن الخلافات الزوجية أمر واقع، لا يكاد ينفك عنها زوجان، حتى بيت النبوة، فقد كان يحصل فيه من الخلاف بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعائشة على الخصوص : ما يستدعي أبا بكر للتدخل بينهما للإصلاح .(1/273)
وقد كان عليه الصلاة والسلام يتدخل بين علي وفاطمة رضي الله عنهما إذا حصل بينهما خلاف، فقد رُوي أنه قال لها مرة لما شكت إليه علياً : " أي بنية اسمعي واستمعي واعقلي "، وكان يتدخل أيضاً بالإصلاح حتى بين الموالي، فأصلح بين أبي رافع وزوجته سلمى لما تجرَّأ عليها بالضرب بغير حق، وكان أيضاً يكتب للإصلاح بين الزوجين إذا بعدت المسافات، فكتب للإصلاح بين الأعشى وزوجته، لما اختلفا وحصل بينهما شر . ويقف عدم التفاهم بين الزوجين في الحياة الاجتماعية المعاصرة وراء عدد كبير من حالات الطلاق، فلا بد - والحالة هذه - من السعي الجاد في حل أزمات البيوت، وتداركها بالتفاهم قبل الانهيار، وضياع فرص الإصلاح .
ومن خلال الاستقراء يمكن حصر أهم مبادئ الإصلاح المطلوبة في ثلاث قضايا رئيسة لا بد من استيعابها ومراعاتها :
القضية الأولى : طول العشرة؛ فإن العلاقات الزوجية لا تكون قوية إلا بعد زمن، فإن المحبة " لا تنعقد إلا بالألفة، والألفة لا تحصل إلا بالعادة، والعادة لا تحصل إلا بطول المخالطة "، فإن العلاقة بين الزوجين تستقر، وتبلغ مداها، وأعلى درجاتها في التوافق بينهما : بعد مُضي خمس عشرة سنة تقريباً، وذلك بعد أن تتأرجح حياتهما بين السعادة في السنتين الأوليين، وشدة الهبوط فيما بين السنة السادسة والثامنة، كما دلَّت على ذلك بعض الدراسات .
ثم إن كثيراً من الناس لا تصحُ محبتهم إلا بطول المخالطة، وهذا الذي يدوم عادة، فإن المحبة إذا دخلت ببطء وعسر : صعب الانفكاك منها بيسر، وكلما زاد الوصال بين الزوجين : زاد معه الاتصال بينهما والتوافق، حتى يعزُّ على أحدهما ويشق عليه فراق صاحبه، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعب عليه فراق عائشة بالموت، وما هان عليه الأمر حتى مُثِّلت له في الجنة، وقال - فيما رُوي عنه - : (( ما أبالي بالموت منذ علمت أنك زوجتي في الجنة )) ، فالزوجان الصالحان رفيقان في الدنيا والآخرة .(1/274)
القضية الثانية : الصبر على الزوج مهما كان حاله ما دام صالحاً، وأهم من يُعين الزوجة الشابة على ذلك أهلها، خاصة وأن لهم في كثير من الأحيان أدواراً سلبية في الإصلاح، والواجب عليهم أن ينحازوا مع الزوج ضدَّ ابنتهم وعواطفهم، فإن في هذا صلاحاً لها، فهذا أبوبكر رضي الله عنه لما شكت ابنته أسماء زوجها الزبير رضي الله عنهما قال لها : " يا بنية اصبري فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح ثم مات عنها فلم تتزوج بعده جُمع بينهما في الجنة " . ولما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشكو عائشة - أحياناً - لأبي بكر فقد كان يتناولها بالعقوبة أمامه، فلا يقفون مع بناتهم مندفعين بما تستدعيه العواطف ضد الأزواج؛ بل يقفون مع الأزواج – ما داموا صالحين - رغبة في الإصلاح، واستمرار العشرة .
القضية الثالثة : التنازل عن بعض حقها لضمان بقاء الحياة الزوجية قائمة، فإن الرجل قد لا يرغب في الزوجة لسبب ما، ويرى فراقها، فإذا عرضت عليه التنازل عن بعض حقها : قَبِلَ منها، كأن تتنازل عن شيء من قسْمها في المبيت، أو النفقة ونحو ذلك ؛ فقد أجاز الشارع الحكيم هذا النوع من التعامل بين الزوجين؛ لإدامة الحياة والعشرة بينهما فقال - عز وجل - : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاُ أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنِهِمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْر … } [النساء:128]، وقد نزلت هذه الآية في شأن سودة بنت زمعة رضي الله عنها لما عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - على فراقها، فتنازلت عن يومها لعائشة، وكذلك تم التنازل والإصلاح بين رافع بن خديج وزوجته رضي الله عنهما لتدوم الحياة الزوجية ولا يحصل الفراق .(1/275)
إن من الضروري أن تستوعب الفتاة وأهلها أهمية وقداسة الحياة الزوجية، فيسعوا جادِّين للأخذ بأسباب بقائها واستمرارها، بحيث يستقر في أذهانهم أن استمرارالحياة الزوجية ولو مع شيء من الضيم، ونقصان الحق : أفضل وأعظم من العزوبة بعد النكاح، وألا يلجأوا إلى الفراق إلا بعد اليأس من الإصلاح، والتوفيق بين الزوجين .
31ـ حق الفراق بين الزوجين
لقد شرع الله تعالى الطلاق للتفريق بين الزوجين عندما تكون الحياة الزوجية مضطربة، لا يستطيع الزوجان فيها القيام بواجبهما مراعين في ذلك حدود الله تعالى، فيتحقق من خلال الطلاق المصلحة للزوجين بإنهاء النزاع والشقاق بينهما، بعد استنفاد جميع وسائل الإصلاح الممكنة .
والطلاق في نظام الإسلام الاجتماعي : مشروع باتفاق المسلمين، فكما شرع المولى - عز وجل - النكاح فقد أذن في الطلاق رحمة بالزوجين حتى لا تطول معاناتهما، وتتراكم حسراتهما، وقد مارسه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع إحدى نسائه، إلا أنه مع ذلك مبغوض لله تعالى، ومكروه عند عامة العلماء إذا كانت الحياة الزوجية مستقرة .
والطلاق في الحياة الإنسانية تشريع قديم، مارسته بطرق مختلفة، وقد ارتبط بالزواج؛ إذ لا طلاق إلا بعد زواج، فهو " عرض لازم للزواج، ونتيجة من نتائجه الطبيعية "، فليس هو تشريعاً خاصاً بالرسالة المحمدية، وإنما جاءت الشريعة الخاتمة بإقراره، مع تعديله وضبطه، وتضييق أسبابه، ضمن نهج الحق في غير ظلم أو شطط.(1/276)
وصورة التَّقيُّد بأحكام الطلاق الشرعية في الإسلام : أن يقع طلقة واحدة على السنة في طهر لا جماع فيه، أو في حال الحمل، مع مكوث المطلقة طلاقاً رجعياً في بيت زوجها، لا تخرج إلا بإذنه، فتتزين له وتتشوَّف لعله يراجعها، كل هذه الضوابط شُرعت : حتى لا يقع الطلاق إلا بعد التَّروِّي، وتدبر العواقب، فإذا وقع على السنة : زادت فرص الرجعة، وعودة الحياة الزوجية إلى طبيعتها، وحصل الدرس التربوي للزوجين من جرَّاء إيقاعه، فإذا كانت المطلقة محبة لزوجها : فإنها تعود للحق وتندم، ويشقُّ عليها الفراق، وإن كانت مبغضة له فإنها تتمادى، ويظهر حينئذ نشوزها، فلا يقع التأسُّف على قرار الطلاق ولا الندم، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " ما طلق رجل طلاق السنة فيندم أبداً " .
وقد يقع في نفس الفتاة المعاصرة شيء من الشعور بالضَّيم من كون الطلاق حقاً للرجل، خاصة بعد ظهور المناداة بنزعه منه، وجعله مشاعاً بين الزوجين، وظهور القوانين الوضعية التي تحدُّ من استعماله خارج دور القضاء : فإن على الفتاة أن تعرف أنه مع كون تقييد الطلاق بالمحاكم أسلوباً كنسياً بعيداً عن روح الإسلام وتعاليمه، حيث يجعل الرجال عموماً في قائمة السفهاء : فإن الواقع - بعد سن هذه القوانين - يشهد بزيادة حالات الطلاق بسبب نشوز الزوجة، وبطلب منها، خاصة بعد التوسع في مشاركتها في القوى الاقتصادية العاملة، وفقدان المعايير الثابتة التي تُحدِّد دور كل من الزوجين في الحياة العملية .(1/277)
إن قيام الرجل بتقديم المهر، وبأعباء تكاليف الحياة الزوجية ونفقاتها، وما حباه الله تعالى به من أسباب القوامة الخلْقية والخُلُقية : يحدُّ بطبيعته من تهوره في إيقاع الطلاق، كما أنه لا يُؤمن على الزوجة - لو كان الطلاق بيدها - أن تغلبها شهوتها فتنبذ زوجها إذا رأت غيره أفضل منه؛ إذ لا تستطيع شرعاً أن تجمع بينهما : فيفوت على الرجل حقه في النفقة والمهر، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما قاطعاً على المنتقدين المعاصرين حجة الزَّمن، واختلاف الناس، ومسائل المساواة بين الجنسين : " الطلاق للرجال ما كانوا، والعدة للنساء ما كنَّ "، فنصَّ على أن الطلاق حق للرجال مهما كانوا منزلة وزماناً، والعدة ملزمة للنساء مهما كان قدرهن الاجتماعي، وعمرهن الزمني .(1/278)
ولما كان الطلاق حقاً مشروعاً للرجل - على ما تقدم - فلا بد أن يكون للزوجة سبيل لإيقاع الفرقة عند الحاجة، فلا يُسدُّ ذلك عليها من كل وجه، فإن الألفة قد لا تحصل بسبب تنافر الطبائع، والاجتماع لا يزيد الحياة - والحالة هذه - إلا شراً، ومن هنا شُرع للمرأة الخلع خاصاً بها دون الرجل، بحيث ترد عليه مهره، أوتتراضى معه على مال تدفعه إليه فيطلقها، فيحصل لها بهذا التشريع الحكيم : المقصود من الطلاق الخاص بالرجل، وتقع لها الفرقة على ما تريد، وفي نفس الوقت لا يتضرر الرجل بفوات حقه في المهر : فيعود إليه ماله . إلا أن المستحب والمندوب إليه في حق الفتاة ألا تخالع زوجها ما دام صالحاً، محباً لها، فإذا أصرت على الخلع فهو حق لها بالإجماع، لا يحق حرمانها منه، فإن ذلك قد يسوقها إلى سلوك لا تحمد عقباه، فإن بعض نساء الهند المسلمات لما حُرمن هذا الحق في الفرقة: لجأن إلى الردة عن الإسلام؛ لكونها الوسيلة الوحيدة التي ينفسخ بها العقد تلقائياً، فيتخلَّصن من أزواجهن الظلمة بهذه الطريقة المستقبحة، ولهذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه معالجاً هذه القضية النسائية : " إذا أراد النساء الخلع فلا تكفروهن "، وقد كان السلف منذ عهد النبوة يراعون حق النساء في هذا الجانب، ولا يدفعونهن إلى الكفران، والمسالك المنحرفة .(1/279)
ومما يهم الفتاة المسلمة معرفته أيضاً : أن للطلاق عناء شديداً على النفس، يصاحبه عادة شعور بالإحباط والإخفاق، وهو على الفتيات الصغيرات أشد وأبلغ، خاصة وأنهن في مجتمع اليوم أكثر عرضة للطلاق من الكبيرات . وهذا الشعور السلبي لازم للمطلقة حتى وإن كان قرار الفراق برغبتها وتدبيرها، كما أن فرص تكرار تجربة الزواج بالنسبة لها : تقل عادة عن الفرص التي تُتاح للرجل؛ ولهذا تتضاعف رغبة تكرار تجربة الزواج عند الذكور أكثر منها عند الإناث، فربما طال بقاء المطلقة عند أهلها معطَّلة حتى ينزعج من بقائها الأب، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام موجِّهاً الآباء إلى مراعاة ذلك : (( ألا أدلك على الصدقة، أو من أعظم الصدقة : ابنتك مردودة عليك ليس لها كاسب غيرك ))، فلا ينبغي تذمُّرالأولياء من بقائها، وعليهم أن يوطِّنوا أنفسهم على القبول بمبدأ تكرار التجربة مرة أخرى، فيُتيحوا للفتاة المطلقة من خلال الأسرة والمجتمع - لا كما تفعل الكنيسة - فرصة استئناف حياة زوجية جديدة مع زوجها الأول، أو مع زوج جديد؛ فإن كثيراً من نساء السلف رغم المكانة والفضل كن ينتقلن من زوج إلى آخر لمرات متعددة، إما بالطلاق أو بالموت دون نكير، فعلى الأولياء أن يقبلوا بهذا المبدأ، وعلى الفتاة ألا تستنكف تكرار التجربة مرة أخرى إذا حضر الكفء .
32ـ في الأزمات الزوجية(1/280)
العلاقة الزوجية رباط وثيق، وميثاق غليظ، يربط بين الزوجين بأعظم وأشد عقد يمكن أن يقوم بين اثنين، ومع ذلك فقد يعتري هذه العلاقة القوية شيء من الضعف أو الفتور في بعض مراحل الحياة الزوجية، وكثيراً ما يتغلب الزوجان على مشاكلهما وينجحان في إعادة الحياة إلى طابعها الحسن، وقد يحصل منهما الإخفاق في حل المشكلات التي تطرأ عليهما، ويعزُّ عليهما الفراق، لودٍ بينهما قديم، أو قرابة يخافان عليها، أو أطفال صغار يضيعون بسبب الانفصال، فلا هما يستطيعان الفراق، ولا هما يُوفَّقان إلى حياة زوجية سعيدة .
فإذا وصلت الحياة الزوجية إلى مثل هذا الحدِّ حاول كل من الزوجين التأقلم معها، والتكيف بما لا يُخلُّ بصورة الزواج العامة وتماسك الأسرة، مع ما يتخلل مثل هذه الأسرة من المنغصات، والمنازعات من وقت لآخر .
فالزوج يحاول أن يُكمل نقص السعادة الزوجية بشيء من الأنشطة الثقافية أو الاجتماعية أو الرياضية يشبع من خلالها حاجته إلى السعادة، وكثيراً ما تظهر هذه الأنشطة وتُمارس خارج نطاق الأسرة، في صورة من صور البعد أو الهروب عن المنزل، بحيث يحاول الزوج تجنب المشاحنات مع زوجته من جهة، والتغافل عن مواجهة مشكلاته ومسؤولياته من جهة أخرى، فقد يجد أحدهم شيئاً من سلْوته مع أصدقاء له، يقضي معهم جلَّ وقته، أو ربما سافر من وقت إلى آخر بهدف البعد عن جو الأسرة المتوتر، أو ربما تكلَّف عملاً إضافياً في آخر النهار يُشغل به نفسه عن هموم المنزل ونكده، إلى غير ذلك من صور التأقلم مع الحياة الأسرية المتوترة .(1/281)
والزوجة هي الأخرى تسعى للتأقلم والتكيف مع طبيعة حياتها المتوترة وبعد زوجها عنها من خلال انشغالها المفرط بشؤون المنزل، والحدب الشديد على الأطفال إلى حد الهلع، وربما انشغلت بزينتها وملابسها، وتوسعت في علاقاتها الاجتماعية، وربما عكفت على وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة، ولا سيما الإنترنت إلى حد الإدمان، الذي ينذر بخطر تعرضها إلى هزات فكرية وسلوكية خطيرة .
وعند تحليل المشكلات الزوجية نجدها تدور حول أمرين مهمين :
الأول : مطالبة كل من الزوجين بحقوقه، مع تغافله عن واجباته، في حين لو قام كل منهما بواجباته لتحقق لهما معاً الحقوق المطلوبة .
الثاني : عدم الرضا بما قسم الله لهما سواء في السعة، أو الصحة، أوالجمال ونحوها مما هو قدرٌ قدره الله، وفرض علينا الرضا به، ولا شك أن من رضيَ بما قسم الله له فهو من أعبد الناس، وما لم يقتنع كل من الزوجين بحياته فإن نهاية المطاف إلى الشقاق أو الطلاق، وكلاهما مؤلم، فلا بد من الرضا مع أداء الحقوق وحسن العشرة، يقول محمد بن الحنفية رضي الله عنه : " ليس بحكيم من لم يُعاشر بالمعروف من لا يجدُ من معاشرته بُدَّاً، حتى يأتيه الله منه بالفرج أو المخرج " .
33ـ الطلاق السني في الشريعة الإسلامية(1/282)
يُشرع الطلاق في حق الزوج إذا يئس من إصلاح زوجته، ورأى أن الانفصال أرحم به وبها وبالأولاد من البقاء في بيت واحد . وعلى الرجل قبل أن يتخذ هذا القرار الخطير أن يسلك المنهج الصحيح أولاً في تربية زوجته وإصلاحها . يقول الله تعالى : { وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } [النساء:34]. فإذا كان سبب الشقاق من الزوجة وجب على الزوج المسلم أن يعظها، ويذكرها بواجباتها، ويخوفها من الله، فإن لم ينفعها ذلك هجرها، فلا ينام معها في سرير واحد، وإن نام معها على سرير واحد أعطاها ظهره، ولا يمازحها، ولا يداعبها، ولا يجامعها، وله أن يهجرها فينام في غرفة أخرى، ولا يزيد في هجرها أكثر من شهر، فإن لم يفد ذلك ضربها ضرباً غير مبرح بيده أو بمثل السواك، مع تجنب الوجه، فإن كان من النوع الذي لا يضرب ألحقها بأهلها لتتأدب .(1/283)
فإن لم تنجح هذه الوسائل، أدخل بينهما حكمين؛ لقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء:35]، فإن لم ينجح الحكمان في إصلاح ذات البين، ورأى الزوجان أفضلية الفراق والانفصال شُرع للرجل إلقاء الطلاق على زوجته مع مراعاة الأحكام المتضمنة في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذِّينَ آمَنُوا إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَاً } [الطلاق:1]، تفيد هذه الآية الكريمة توجيه المؤمنين عند الرغبة في طلاق المرأة أن يكون في طهر لم يجامعها فيه، مع معرفة وتحديد وقت إيقاع الطلاق للتمكُّن من معرفة وقت انتهاء العدة، وفرص الرجعة، كما يوجه سبحانه وتعالى الرجال بأن لا يُخرجوا النساء المطلقات من البيوت حتى تنقضي العدة بأكملها؛ وذلك لما يمكن أن يقضيه الله في قلب الزوج فيراجع زوجته، وتعود الحياة إلى طبيعتها . أما إذا كانت الزوجة سيئة الخلق، بذيئة القول، أو ارتكبت فاحشة مبينة مثل الزنا، فلا بأس بإخراجها من البيت . أما هذا الأسلوب الذي اعتاده أكثر النساء إذا سمعت طلاقها لا تلبث لحظات إلا وقد خرجت إلى بيت أهلها، فإن هذا من الخطأ؛ إذ يجب عليها أن تبقى في البيت، تلبس وتتزين لزوجها لعله يراجعها فهي في الشرع زوجته . أما إن كانت الطلقة هي الثالثة فهنا يجب عليها الخروج؛ لأنها لم تعد زوجة له . أما بعد الطلقة الأولى، أوالثانية، فلا ينبغي لها الخروج .(1/284)
وأكثر حالات الطلاق - في واقع الناس اليوم - لا تقع عن طريق دراسة من الزوج أوالزوجة لحالهما ووضعهما، ومحاولة معرفة مدى جدوى الطلاق بالنسبة لهما وللأولاد، ولكن كثيراً من حالات الطلاق تقع أثناء الخصام والمشادة بين الزوجين، وفي حالة يكون فيها الرجل غاضباً والزوجة منفعلة، لهذا فإن أكثر حالات الطلاق يعقبها الندم والتأسف، فترى الرجل يسعى يميناً وشمالاً باحثاً عن فتوى شرعية تُعيد له زوجته، وقد كان الأمر بيده قبل أن يلتزم بكلمة الطلاق، ويلقيها على زوجته دون دراسة وتعمق وموازنة بين المنافع والمضار .
لهذا يُنصح الزوج بالاطلاع على أحكام الطلاق، وآدابه من كتب التفسير عند شرح آيات الطلاق، ومن كتب الفقه، ليتزود بالعلم النافع في هذا الجانب الأسري الهام .
ولا يأنف الرجل بعد طلاق زوجته وخروجها من العدة في الطلاق الرجعي أن يراجعها بخطبة ومهر جديد إن ظن أن الحياة سوف تستقيم بينهما بعد هذا الدرس، وليس لوليها حق في أن يعضلها عن الرجوع إلى زوجها إن كانت راغبة وذلك لقوله - عز وجل - : { وَإِذَا طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [البقرة:232]، بل وحتى بعد الطلاق البائن لا بأس أن يراجعها بعد أن تحل له خطبتها بنكاحها زوجاً غيره، على أن لا يكون هذا الزوج تيساً مستعاراً .
34ـ أول ليلة في فراش الزوجية(1/285)
يستحب للمسلم إذا دخل على زوجته ليلة الزفاف أن يدعو الله ويسأله من خيرها وخير ما جبلت عليه، ويضع يده على رأسها، ويصلي معها ركعتين، وعليه أن يلاطفها، ويمازحها ويداعبها حتى تنهض شهوتها، فإذا أراد إتيانها قال : " بسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا "، فإذا انقضت حاجته وفرغ فإنه لا ينزع حتى تفرغ هي أيضاً وتنقضي حاجتها، ومراعاة ذلك من أعظم أسباب الألفة بين الزوجين .
وليس من الغريب على دين الإسلام الذي يعلم المسلم آداب قضاء الحاجة في الخلاء، أن يهتم بهذه الجوانب من العلاقات الخاصة بين الرجل والمرأة، ويضع لها آدابها، ونظامها الذي يكفل للأزواج دوام الألفة والسعادة، فليس من الغريب أن يهتم الدين بهذه الناحية التي ربما ظن البعض أن العقلاء يترفعون عن الحديث فيها فضلاً عن الله ورسوله، ولكن الذي ثبت علمياً أن هذه العلاقة الجنسية بين الأزواج علاقة مهمة جداً، فقد أفادت بعض البحوث والدراسات المتعلقة بالوراثة وعلم الأجنة : " أن المعايب الخلقية التي تصاحب قضاء الناحية الجنسية بين الزوجين تنتقل إلى أولادهما .. ومتى تم الإخصاب في ظروف ملائمة، كان جديراً بأن يكون ذلك بشير خير لإنسان جديد " . فإذا كان الوالدان أو أحدهما فاقداً الوعي تحت تأثير مخدر أو خمر أو نحو ذلك، وحدث إخصاب بينهما في ذلك الوقت، كان المولود في الغالب ضعيفاً من الناحية العقلية، أو مصروعاً، أو مجنوناً .
لهذا فإن العلاقة الجنسية بين الزوجين علاقة هامة ومصيرية؛ إذ يترتب عليها طبيعة وكيان المولود الجديد، وبناء على ذلك شرع الذكر والبسملة عند الإيلاج، مما يوحي ويشعر بقداسة هذه العلاقة ونظافتها في التصور الإسلامي.
ولا شك أن العلاقة بين الرجل وزوجته أكبر من مجرَّد علاقة جنسية، حيث إن هذه العلاقة لا تعدو أن تكون جانباً من جوانب الحياة الزوجية، إلا أنها عامل مهم، وضروري لدوام الحياة الزوجية وازدهارها .(1/286)
ولقد اختص المولى - عز وجل - أنثى الإنسان بغشاء البكارة دون سائر إناث باقي الحيوانات؛ ليُميِّز بين البكر والثيب، حيث يتصدر هذا الغشاء فتحة الفرج، إلا أنه لم يثبت طبياً أيُّ فائدة صحية له، إلا كونه شاهداً مادياً للفتاة العفيفة على براءتها من الفاحشة أمام من يتهمها، مما يدل على ارتباطه الوثيق بجانب الأخلاق والشرف، وعلاقته القوية بضبط النسب، وحق الزوج .
وقد كان تعظيم شأن البكارة معروفاً عند كثير من الأمم، حتى أهل الكنيسة في العصور الوسطى، حيث تُطالب الفتاة بالعفة قبل الزواج، وربما مارست بعض القبائل طقوساً دينية حول الفتاة الصغيرة للمحافظة على بكارتها، وكذلك العرب في جاهليتهم : كانوا يفخرون بسلامة نسائهم من الفواحش، فيعرضون دم البكارة على الناس بعد ليلة البناء بهن . وما زالت هذه العوائد تمارس عند بعض المسلمين في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فلا تزال بعض القبائل تمارس عادة التجمع لانتظار خروج القميص من غرفة نوم العروس ملطخاً بدم البكارة، فيبتهجون لذلك، وربما صاحوا وغنَّوا، فإذا لم يتم ذلك كانت مشكلة ومأساة اجتماعية، إلا أن هذه العادات آخذةٌ في الزوال، أو الضعف على أقل تقدير؛ بسبب تطور المجتمعات الحديثة، والانطلاقة التحررية في سلوك الفتيات الخلقي، حيث لم تعد للبكارة قيمتها المعنوية التي كانت عليها في السابق في المجتمع المسلم، وأصبح كثير من الفتيات ينتهكن حرمتها بدافع المغامرة، أو التجربة، أو التقليد للفتاة الغربية .(1/287)
وأخذت بعض البلاد العربية تسنُّ الأنظمة والقوانين التي تخفف من وطأة تأثير زوالها المعنوي، ما دامت الفتاة راغبة في التخلص منها، وأما من بقي متعلقاً بأهميتها فإن الجراحة الطبية يمكن أن تُعيدها صناعية تشبه ما كانت عليه، فلم تعد البكارة - في كثير من المجتمعات المعاصرة - دليلاً كافياً على شرف الفتاة وطهارتها، مما يجعل من الضروري إعادة المفاهيم الإسلامية الصحيحة المتعلقة بالشرف والفضيلة إلى أذهان الفتيات، والتأكيد على أهمية العفَّة والطهارة حفاظاً على حق الله تعالى، وحق الزوج في الاطمئنان إلى شرف زوجته، وسلامة نسله .
ورغم حق الزوج الشرعي والطبيعي في فض البكارة، والمطالبة به؛ فإن بعض المجتمعات بعوائدها الاجتماعية المنحرفة في القديم والحديث : تسلبه الحق لتعطيه لسيد القبيلة، أو لرجل الدين، أو لطاغوت من الطواغيت الجبابرة، أو لأحد الأقرباء، أو للزوج نفسه ليفضَّها بأصبعه، أو من خلال الجراحة الطبية، وكل هذه طرق مخالفة للشرع والفطرة .
فأما مخالفتها للشرع فإن للبكارة شرفها، فمن أزال بكارة أنثى ولو بغير قصد فإنه يضمن مالياً ويُغرَّم، ومن حق الزوج أن يعلم ذلك ابتداء قبل العقد ما دام يخطب الفتاة على أنها بكر . ولا يجوز في ذلك رتق الغشاء مطلقاً، حتى وإن حصل فضُّه عفوياً بالوثبة، أو الحيضة، أو حمل الشيء الثقيل أو نحو ذلك، فهذه الأمور العفوية لا تخرج الفتاة عن كونها بكراً، وفي الوقت نفسه لا تسمح لأحد في الطَّعن في شرفها وعفَّتها؛ فقد أجمع العلماء على أن الزنا لا يثبت على الفتاة البكر بمجرد اكتشاف زوال بكارتها، وإنما يثبت بالإقرار، أوالشهادة، أو الحبل .(1/288)
وأما مخالفة هذه العادات والتقاليد من جهة الفطرة : فإن الزوجين في حاجة نفسية لممارسة فض البكارة بصورة طبيعية دون تدخل أي عنصر آخر، وذلك للطبيعة العدوانية المتضمنة للرغبة في الإخضاع عند الذكور، والتي تحمل طابع السَّادية، وما يقابلها في طبائع الإناث من الرغبات المازوشية، المتضمنة لشيء من الميول السالبة، والرغبة في الخضوع والاستسلام، بحيث لو تمت عملية إزالة البكارة بصورة غير طبيعية : أثر ذلك على نفسية الفتى ضعفاً وانهزامية، وخيَّم على الفتاة شعور تجاه زوجها بالاحتقار، مع ما تزيده هذه الطرق غير الطبيعية في نفس الفتاة من التوتر والاضطراب، بل إن مجرد زوال البكارة بطريقة عفوية، من جراء وثبة عنيفة، أو حيضة شديدة، مع تمام العفة والطهارة : يزعج الزوج، ويقلقه؛ لكونه لم يمارس ذلك بنفسه، في حين يُعتبر النجاح في هذه العملية : إنجازاً سعيداً، وخبرة حسنة، ومؤشراً لحياة زوجية مستقرة، خاصة عند الفتاة فإن للرجل الأول في حياتها مكانة خاصة ثابتة في ذاكرتها، لا يمكن أن تزول حتى وإن طُلقت، في حين لا تجد المطلقة قبل الدخول بها شيئاً من ذلك تجاه مُطلقها، وفي هذا المعنى يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمَّا سُئل عن الشيء الذي لا يُنسى ؟ قال : " المرأة لا تنسى أبا عذرها … "، يعنى زوجها الأول الذي دخل بها، فإذا فُضَّت البكارة بغير الطريقة الطبيعية : فات الفتاة على الخصوص هذه الخبرة والمتعة الخاصة، وحُرمت لذَّتها النفسية والمادية إلى الأبد، في حين لا يحصل هذا الأثر النفسي بعمقه عند الشاب ما دام قادراً على تكرار تجربة الزواج من جديد .(1/289)
إن هاجس البكارة، والخوف من فضِّها : شُغلٌ يُقلق في الغالب الفتاة العروس، ويُعكِّر حماسها للحياة الزوجية : فيُؤثر عليها نفسياً فتشعر بالتعاسة والبؤس - حتى على مستوى الرؤى والأحلام - وربما يصل تأثير ذلك إلى بعض قوى جسمها حين يقترب منها زوجها، فتتقلص عضلات الفخذين والمهبل - بصورة إرادية أو غير إرادية - حتى يصبح الجماع عسيراً، أو مستحيلاً . وأقل ما يمكن أن تحدثه الفتاة الحائرة القلقة : التَّمنُّع الشديد، الذي قد يصل إلى حد انكسار شهوة الرجل، أو عداونه عليها، فليس كل الأسوياء من الرجال يستطيع أن يصبر، ويراعي ذلك من الزوجة إلا النادر منهم .
وأما تمنُّع الاستحياء من الفتاة العذراء، الضابطة لمشاعرها العاطفية، والتي لم تعرف الرجل قطُّ : فهو من السلوك الطبيعي، الذي لا يلبث طويلاً حتى يزول، ففاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما دخل عليها عليٌّ رضي الله عنه بكت، وما تمكَّن منها إلا بعد ثلاث . فمن النادر أن " يدخلن فراش الزوجية بنفس تلك الحماسة الطيبة التي يدخل بها الرجال "، إلا أن المقياس النموذجي لأقصى مدة يمكن ان يستهلكها الزوجان الطبيعيان - دون عوائق طبيعية مانعة - أسبوع واحد، حتى تستأنس الزوجة، وتذهب وحشتها، وتتحقق الألفة، فقد خُصَّت البكر بسبعة أيام لحاجتها لذلك، ولتمكين الزوج من معالجتها، والتلطُّف بها؛ لما جُبلت عليه من النفرة من الرجال؛ إذ لم تعرفهم، ولم تباشرهم، كحال الثيب التي خُصت بثلاثة أيام، وليس عندها من النفرة ماعند البكر المستوحشة، بحيث لو زادت المدة المخصصة للبكر عن أسبوع - ولو بقناعة الرجل - تُعد خللاً في العلاقة بينهما، يحتاج إلى علاج .(1/290)
إن مما يساعد الفتاة على تجاوز هذه القضية : أن تعلم أن البكارة ليست شؤماً على الفتاة؛ بل هي من النعم الربانية، فلو كانت من المساوئ لما خصَّ الله بها نساء أهل الجنة، فإن البكارة لا تنفك عن إحداهن، كلما أتاها زوجها: عادت بكراً كما كانت.
ومما يساعد على ذلك أيضاً: أن تدرك الفتاة دورها بصفتها أنثى، فإن هناك علاقة قوية بين شعورها بأنوثتها، وبين سهولة إقبالها على فض البكارة بصورة طبيعية دون معاناة كبيرة، وبقدر تنكُّبها للمسلك الأنثوي في أخلاقها، وميلها نحو الاسترجال : بقدر ما تبغض دورها الأنثوي، وتستنكف عن قبول صورة الاختراق الجسمي والنفسي اللذين تتطلبهما هذه العملية الطبيعية الفطرية .
ومن المستحسن أيضاً : أن ترافق الفتاة العروس ليلة الدخول بها امرأة عاقلة مجرِّبة، تصحبها إلى بيتها الجديد، وترشدها حتى تُسلمها إلى زوجها ليختلي بها كما هي السنة والعرف في القديم والحديث . مع أهمية الدعاء الخالص بالتوفيق، والرقية الشرعية كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفاطمة وعليٍّ رضي الله عنهما ليلة البناء .(1/291)
وأما ما يجب على المجتمع تجاه العروسين فهو تجنيبهما الخبرات النفسية المؤلمة المتعلقة بهذه القضية الخاصة، والتي يُثيرونها عادة من خلال العادات والتقاليد الخاطئة، ومراسيم ليلة الزفاف، حتى إن الشاب - في أول الأمر - يكون في غاية اللياقة البدنية والنفسية، فإذا خلا بزوجته تحت هذه الظروف الاجتماعية المحرجة : كان في غاية الضعف والخور، فلا بد من كفِّ المجتمع عن مثل هذه العادات القبيحة، ولا سيما إذا عُلم أنه لا يجوز لأحد أن يسأل الرجل بعد دخوله بزوجته: " هل وجدتها بكراً أو لا ؟ لأن في هذا هتكاً لستر المسلمين، كما أنه ليس من الواجب على الفتاة العفيفة حين تفقد بكارتها بطريقة عفوية كالحادث ونحوه : أن تخبر زوجها بذلك قبل الخطوبة، ثم إن هناك بعض الفتيات الأبكار قد تصل نسبتهن إلى (15%) من الإناث يدخل بإحداهن الزوج فلا يتمزق غشاء بكارتها، بل ربما تُخلق إحداهن بلا غشاء من أصل الأمر، وكل هؤلاء يُعتبرن من الأبكار قطعاً، لا تضرُّهن هذه الأحوال في شيء .(1/292)
وعلى الرغم من اهتزاز مفهوم البكارة في هذا العصرعند كثير من الناس، وضعف الشعور بأهميتها، وما رافق ذلك من هبوط أخلاقي عام : فإن نسبة كبيرة من الناس في المجتمعات الإسلامية لا تزال تعطي البكارة في الفتاة حقها ومكانتها، وتربطها بالعفة والشرف، حتى إن الفتاة البكر حين تسقط وتغفل فتقع في الفاحشة : تفضل الموت على أن تعيش بهذا العار في وسطها الاجتماعي، فقد سجَّلت بعض البلاد حالات انتحار لبعض الفتيات بسبب فقدهنَّ بكارتهن، وربما استغل بعض الأطباء ظروف بعضهن الاجتماعية المحرجة فيجري لهن عملية رتق البكارة مقابل مبالغ كبيرة، ولعل هذا الوضع الاجتماعي كان وراء اتجاه بعض الفقهاء المعاصرين نحو الفتوى بجواز رتق البكارة مطلقاً، لكل من ابتليت بذلك، سواء كان ذلك بإرادتها، أو بغير إرادتها، إلا من كانت مشهورة بالزنى، معروفة به، أو دخل بها زوجها دخولاً صحيحاً، وذلك لما في هذا الإجراء من الستر، وعدم تعريض الفتاة لمعاناة نفسية في المجتمع، قد تؤدي بها إلى الهلاك .
35ـ حق الزوج في الاتصال الجنسي
تختلف الغريزة الجنسية عن باقي غرائز الإنسان في كونها لا تقف عند حدِّ خدمة الشخص نفسه؛ بل تنطلق لخدمة النوع الإنساني، في حين تخدم الغرائز الأخرى كالأكل، والتنفس، وحب البقاء : الإنسان بصفته فرداً . ومن هنا تتطلب هذه الغريزة لبقاء النوع شيئاً من العطاء والتضحية بالدخول في علاقة كاملة منفتحة مع شخص آخر؛ تتحقق بلقائهما أسباب استمرار الحياة، فكانت سنة الله تعالى في لقاء الذكر والأنثى للتناسل والتكاثر؛ حيث قال سبحانه وتعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكروأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا … } [الحجرات:13].(1/293)
ولتحقيق هذا الهدف من التناسل والتكاثر بثَّ سبحانه وتعالى بين الجنسين داعية الشهوة الملحة، والرغبة الجامحة، فجعلها أعظم دافع نحو النكاح، وجعل إشباعها ركناً من أركان الحياة الزوجية، بحيث تتشوه هذه الحياة، وتضطرب إذا اختلَّت العلاقات الجنسية بين الزوجين، وربما كان نصيبهما : الإخفاق، وانهيار الأسرة؛ فقد دلَّ البحث الميداني على أن التعثُّر في الحياة الجنسية بين العشيرين : سبب رئيس وراء وقوع كثير من حالات الطلاق، كما دلَّ - في الجانب الآخرـ على أن الانسجام الجنسي بينهما : سبب أكيد للسعادة الزوجية واستقرارها؛ وذلك يرجع إلى أن بقاء الأسرة " مرهون بالتوافق الجنسي بين الزوجين، ولُحْمة هذا التوافق، وسُداه هو الجماع المشبع، وعلى تنظيم النشاط الجنسي عند الإنسان : ينهض الاجتماع، وترتقي الحضارات، ويشعر الرجال والنساء بالأمان، ويصلح حال الأولاد" .
ومن هذا المنطلق لفهم العلاقة بين الزوجين : جعل العلماء الوطء في الفرج هو المقصود من عقد النكاح، بحيث لو قام عذر مانع من تحقيق الإيلاج - ولو بغير استمتاع كامل - كان ذلك العيب سبباً كافياً في فسخ النكاح، وردِّ المرأة بالعيب؛ بل " لو اشترطت المرأة على الزوج حال العقد أن لا يطأها، أو على أن يطأها في الليل دون النهار، أو على أن لا يدخل عليها سنة : بطل النكاح؛ لأن ذلك شرط ينافي مقتضى العقد " الذي أبيح به الاستمتاع بينهما، ففي الوقت الذي يُجمع فيه العلماء على أن الرتقاء التي لا يمكن أن يلج فيها تُرد بهذا العيب : لا يعتبرون العُقم في المرأة عيباً تُرد به لإمكان الإيلاج، ويربطون بين وجوب النفقة على الرجل، وبين حقه في الاستمتاع الجنسي بزوجته، حتى إن بعض العلماء لا يوجبون على الرجل كفن زوجته إن هي ماتت لانقطاع حقه في الاستمتاع .(1/294)
والفتاة تدرك من خلال هذا البيان : أن الاتصال الجنسي بين الزوجين أمر أساس للحياة الزوجية، وضروري لبقائها، وأنه من العلاقات الحسنة، والنعم التي أنعم بها المولى - عز وجل - على عباده من الذكور والإناث؛ حيث رتَّب عليه الأجر والثواب، وجعله من أبواب الصدقة، ومن أقلِّ ما يمكن أن يقوم به الإنسان من أعمال البر والإحسان، إذا عجز عن كبارها، وحثَّ على الإكثار منه، وحدَّد موقع الإيلاج من المرأة، وسنَّ له ذكراً خاصاً، وجعله سنة المرسلين عليهم السلام، مما يدل بوضوح على مكانة هذه العلاقة، وطهارتها في المفهوم الإسلامي .
ورغم هذا فإن عدداً كبيراً من الفتيات تشوهت مفاهيمهن الجنسية، وغلب عليهن الجهل، حيث يرين : أن العلاقة الجنسية بين الزوجين تنافي الأخلاق الكريمة، وأن الجنس والأخلاق لا يمكن أن يلتقيا، حيث فهمن هذه العلاقة على طريقة الكنيسة الغربية التي جعلتها شراً محضاً في ذاتها، وبعضهن يعتبرنها نوعاً من الاستعباد الذي لا مفرَّ منه؛ لأداء الواجب الزوجي، بحيث لا تعدو علاقة هؤلاء بأزواجهن : علاقة جنسية فحسب .
هذه التصورات الشاذة عن الطبيعة الجنسية بين الزوجين إذا تشرَّبت بها الفتاة : انعكست آثارها على علاقتها الزوجية : فقد تشمئز من دورها باعتبارها أنثى : فترفض الجماع؛ لعدم وجود الدافع الجنسي الكافي لتحقيقه، فتكتفي منه بما دون الإيلاج، وربما أصبحت الأعضاء التناسلية - آلة الاستمتاع - موضوعاً لاشمئزازها واحتقارها، وأقل ما يمكن أن تُحدثه مثل هذه المفاهيم الخاطئة عندها هو : البرود الجنسي، وعدم التلذذ بالجماع، وترك التجاوب العاطفي مع الزوج : فتفقد دورها الإيجابي بصفتها أنثى، وتُصبح حياتها الأسرية في خطر الانهيار، وصحتها النفسية والجسمية مهددة بالأمراض .(1/295)
إن كثيراً من هذه المشكلات الجنسية يمكن أن تنتهي إذا حصل للفتاة العلم الصحيح، والمعلومات الكافية عن حقيقة العلاقات الزوجية، فغالب هذه المشكلات تنبعث من المفاهيم الخاطئة عن طبيعة الحياة الجنسية عند البالغين، والجهل الكبير بهذه العلاقات، وما يجب أن تكون عليه .
إن مما ينبغي أن تدركه الفتاة : أن الاتصال الجنسي بين الزوجين ليس مجرد رغبة جنسية محضة، منحصرة في الأعضاء التناسلية المخصصة للجنس؛ بل هي رغبة شاملة، تستوعب كل كيان الإنسان، وتشترك فيها كل طاقاته : الجسمية، والنفسية، والعاطفية، والعقلية؛ لتكوِّن مزيجاً متكاملاً من الرغبات المتنوعة، والموجَّهة نحو الموضوع الجنسي، حيث تشترك ثلاثة مستويات في العملية الجنسية بين الزوجين " فالمستوى الفسيولوجي يتمثل في الإشارات العصبية والرسائل الهرمونية، والمستوى العقلي يتمثل في الانتباه والتركيز والتخيل والتذكر، والمستوى الروحي يتمثل في الحب والمودة والرحمة بين الزوجين، فالهرمونات الجنسية لا تكفي في تفسير السلوك الجنسي عند الإنسان "، ومن هنا يتضح أنه لا يُغني في العلاقة الجنسية بين الزوجين مجرد الأداء الجنسي فحسب؛ بل لا بد معه من درجة كافية من الكَيْف، الذي عبَّر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : (( الكيس، الكيس … )).
كما أن من الضروري أن تتيقن الفتاة : أن الجنس عامل أساس من عوامل الحب بين الزوجين، بحيث لو ضعُفت العلاقة الجنسية بينهما، أوعُدمت - مع وجود دواعيها الطبيعية - كانت درجة المحبة بينهما في غاية الهبوط، أوالاضمحلال؛ لأن الاتصال الجنسي المُشْبع :مادة الحب الأولى؛ ولهذا يُخفق في العادة العاجزون جنسياً عن تكوين علاقة حبًّ سوية مع الجنس الآخر .(1/296)
والعجيب أن بعض فلاسفة الغرب يُضْفُون على علاقة الحب بين الزوجين من معاني الإخلاص والعبادة والقدسية والخلود ما يُخرجون به هذه العلاقة من طبيعتها الفطرية العاطفية إلى طبيعة روحانية غريبة، " وليس من شك أن الحب الذي يجده الزوجان أحدهما للآخر مهما عفَّ ورق، لا يمكن أن يصفو من رغبة الجماع، وهي على صبغة الحلال فيها : رغبة جسدية خالصة "، فلا بد أن تبقى هذه القضية في العلاقات الخاصة بين الزوجين واضحة المعالم في ذهن الفتاة وهي تقدم على الحياة الزوجية .
36ـ حق الزوج في الاستمتاع الجنسي(1/297)
إذا استوعبت الفتاة واقتنعت بحق الزوج في تمكينه من نفسها، وفضِّ بكارتها، فإن عليها أن تدرك أنها بكيانها الكامل بصفتها أنثى : موضع استمتاع له، بحيث يحق له - إجماعاً - أن يستمتع بكل موضع منها ماعدا الدبر، وفي ذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : " إذا حاضت المرأة حَرُمَ الحُجْران "، يعني الفرج والدبر، بمعنى : "أن أحدهما حرام قبل الحيض، فإذا حاضت حَرُما جميعاً". وله أن يستمتع بها بأي صورة أو كيفية كان ذلك ما دام في موضع منبت الولد، مع جواز النظر، واللمس، وكل ما يمكن أن يكون مجالاً للاستمتاع المشروع بينهما، بحيث لا يحول بين استمتاعه بها - ما دامت حلالاً - زمان : من ليل أو نهار، أو مكان: كسفر أو نحوه، أو انشغال أياً كان، ما لم يكن بفريضة، بل حتى لو عدمت الماء لغسل الجنابة: فليس لها الامتناع، أو التَّسويف عن إجابته في الحال، ثقل ذلك عليها أو خفَّ، نشيطة كانت أو كسلى، راضية أو غضبى، حتى وإن كانت حاملاً، فإن امتناعها أثناء الحمل قد يكون سبباً في التوتر العائلي، وربما كان سبباً في وقوع الطلاق، وكل ذلك ما لم تكن مريضة تتضرر بالجماع، أو هاجرة فراشه من أجل تفريطه في حق واجب من حقوق الله تعالى، وهذا كله مقيَّد بوصف السلامة من الإضرار بها، والبعد عن العنف المؤذي الذي يحوِّل ممارسة الزوج لحقه في الاستمتاع إلى جريمة يستحق عليها العقاب .(1/298)
وعلى الرغم من أن الشريعة الإسلامية تلزم المرأة بمطاوعة زوجها في شأن العلاقات الجنسيةـ موافقة للفطرة - ضمن الضوابط الشرعية : فإن القوانين الحديثة في أوروبا وأمريكا تُجرِّم جماع الزوجة بغير رضاها، بل تُجرِّم حتى التحايل عليها في ذلك، وهذا من غرائب التشريع الوضعي الذي يلتمس بإفراط تحقيق مبدأ المساواة بين الجنسين حتى في مثل هذه القضايا التي تحكمها الفطرة، التي تحتم بالضرورة اختلاف الحكم بين الجنسين؛ فإن المرأة بطبيعتها الفطرية، ونوع تركيب آلتها الجنسية قادرة في كل وقت على الوقاع، في حين لا يكون ذلك متاحاً دائماً بالنسبة للرجل؛ لطبيعة نوع آلته الجنسية؛ ولهذا جاءت الشريعة المباركة موافقة للفطرة الطبيعية فألزمت المرأة المطاوعة، ولم تلزم الرجل .
ولتحقيق كمال الاستمتاع فإن للزوج أن يمنعها من نوافل العبادات : كالصلاة، والصيام، ونحوها، وله أيضاً منعها من الانهماك في خدمة البيت، والأولاد؛ إذا كان ذلك يُفوِّت عليه حقه في كمال الاستمتاع بها، فيُنيب من تقوم بذلك عنها، مما يدل على أن للزوج حقاً عظيماً في هذا الجانب الخاص من العلاقات الزوجية، وأنه أكبر من مجرَّد اتصال جنسي : ليبلغ حدَّ الاستمتاع المُشبع، الذي يُحقق - بالدرجة الأولى - قدراً كافياً من المناعة ضد الانحرافات الخلقية خارج نطاق الزوجية، ويحقق بالدرجة الثانية : دوام الألفة بين الزوجين ببقاء مادة التجاذب بينهما حيَّة متجددة، إضافة إلى أن فرص حصول الحمل - الذي هو هدف النكاح الأول - تكون آكد حين تشتد الشهوة في اللقاء بين الزوجين .(1/299)
ومن القبيح أن بعض الرجال ممن ضعفت لديهم الحاسة الدينية يلتمسون درجة الإشباع الجنسي مع العاهرات، ضمن ما يسمى بالبغاء التعويضي، فيعوض أحدهم مع البغي ما فاته من الاستمتاع مع زوجته، حيث يظن أحدهم أن الاستمتاع المشبع لا يمكن أن يتحقق مع الزوجة الذي اصطفاها للإنجاب، ورعاية الأطفال . ومع ضلال هؤلاء الرجال، وقبيح فعلهم : فإن من واجب الزوجة الصالحة أن تكون موضع استمتاع كافٍ لزوجها، تُعفُّه عن الحرام، وتحقق له درجات عالية - قدر استطاعتها - من الإشباع المغني عن الحرام، وتتخذ في ذلك كل وسيلة مشروعة تحقق لزوجها راحته .
إن استنكاف بعض الفتيات عن أن يكن مكاناً لشهوة الزوج واستمتاعه : يدل على سوء فهمهن لحقيقة العلاقة الزوجية، وجهلهن بطبيعة نشاط الرجال الجنسي؛ فإن الاستمتاع الجنسي في حد ذاته : هدف رئيس من أهداف النكاح في التصور الإسلامي، بحيث لو ضعُفت الجاذبية الجنسية بينهما : كانت احتمالات توقع انهيار الأسرة كبيرة؛ فإن غالب المشكلات الزوجية مردها إلى عدم الاكتفاء الجنسي، كما أن نشاط الرجال الجنسي في العموم أوسع من نشاط الإناث، فهن أصبر على ترك الجماع منهم، خاصة المتزوجات حديثاً، في حين تصل قدرة الجماع عند الشاب الطبيعي إلى مرتين يومياً، وربما وصلت عند بعضهم - على سبيل الندرة - إلى أضعاف ذلك، وقد عبَّر الصحابي صفوان بن المعطِّل رضي الله عنه عن هذه الطبيعة عند الشباب، لما شكته زوجته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منعها من صيام النفل، وإطالة الصلاة، حيث قال مبرراً فعله معها : " فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر"، فاعتذر بطبيعة الشباب الحيوية، وميلهم لكثرة الوقاع، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ولم ينكر عليه .(1/300)
ثم لا بد من فهم الفتاة لطبيعة سلوك الرجل الجنسي، فقد لا يتقيَّد هذا السلوك - في بعض الأحيان - بالظروف المناسبة، والأوقات الملائمة؛ بحيث يقع الاتصال الجنسي في الوقت الذي تظنُّ الزوجة أنه الأنسب، فقد واقع عثمان بن عفان رضي الله عنه أمة مملوكة له في ليلة وفاة زوجته أم كلثوم رضي الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تُدفن، فلم يمنعه هذا الخطب الجلل من أن يسلك سلوكاً مُسْتلذاً يتنافى في طبيعته مع نوع الظرف القائم، لا سيما وأن أباها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود، يعاني أزمة وفاتها؛ ولهذا منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان من أن يباشر دفنها . ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه لم يمكث بعد وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها - رغم الحب العظيم الذي كان بينهما - أكثر من شهر حتى تزوج بسودة بنت زمعة رضي الله عنها . وهذا كلُّه يدل على أن المسلك الجنسي عند الرجل لا يتقيد بصورة دائمة بالظروف المناسبة والملائمة، فقد يحصل في الوقت الذي تستبعده الزوجة، أو تكرهه .(1/301)
إذا استوعبت الفتاة هذه المسألة بأبعادها المختلفة، وألوانها المتنوعة في طباع الرجال، واستقرت القناعة بذلك في نفسها دون تردد : فإن عليها أن تراعي من زوجها موقع أذنه، وعينه، وأنفه فتجتهد طاقتها بأن لا يصل إليه عبر هذه الحواس المثيرة للرغبة الجنسية إلا ما يُستحسن من الكلام، والزينة، والرائحة، فالكلام الحسن المستعذب، مع كونه أداة إثارة مشروعة للرجل، فإنه أيضاً إذا استُخدم بصورة سلبية كان أداة تثبيط وخور، فكلمة واحدة من الزوجة لبعلها، تقع في غير موضعها، فتمسُّ جانب رجولته : يمكن أن تشلَّ رغبته نحوها بالكلية، فلا ينشط إليها أبداً، وقد رُوي في هذا المعنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن (( المسوِّفة ))، وهي التي تماطل زوجها ولا تطاوعه في الفراش، ولعن أيضاً (( المسفلة ))، وهي التي تفتِّر نشاط زوجها الجنسي، بل المفروض فيها على العكس من ذلك أن تعرض نفسها عليه - كما رُوي في ذلك الخبر - لا أن تُثبِّطه، وتفتِّر عزيمته .
وأما موقع نظره : فلا يصح منها أن تقع عينه إلا على ما يحسُن إبداؤه من الجسم والملابس، فلا يرى من بدنها إلا قدر الحاجة، وحسب ما يتطلَّبُه المقام؛ فإن رؤية العورة في غير مناسبة أمر مستهجن قبيح؛ ولهذا نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مفاجأة النساء، حتى لا تقع أعين أزواجهن على ما يكرهون منهن، وعليها أن تتزين له حسب طاقتها، وقدرته المالية: بما يُستحسن من الملابس، والمساحيق الملونة بحيث لا يراها - ولا سيما في الفراش - إلا في أكمل حال، فإن المرأة إذا تركت الزينة : ثقُلت على زوجها .(1/302)
وأما موقع أنفه، فهو أوسع الأبواب إلى قلوب الرجال، وأشد ما يُثيرهم عاطفياً، وفي هذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " … إنما قلوب الرجال عند أنوفهن "، فالرائحة الزكية تأخذ بمجامع القلوب، وتعمل عملها كأبلغ ما يكون في نفوس الرجال؛ ولذا نُهيت المرأة عن الخروج متطيبة في مجامع الرجال الأجانب؛ لما يمكن أن تُحدثه من الفتنة . وقد كان للمرأة في الزمن الأول من اهتمام بالغ بالطيب، فقد كان مجالاً للتنافس بينهن، حتى لربما عمَّت به إحداهن بيتها، وكانت نصائح العرب القدماء للفتيات كثيراً ما تؤكد على الطيب والنظافة والكحل، ونحوها من أمور الزينة، لهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في وصفهن : " هن ألطف بناناً، وأطيب ريحاً "، فوصفهن بأكمل ما فيهن من لطف الملمس، وطيب الرائحة، وفي الأثر : "خير نسائكم العَطِرةُ المَطِرة "، يعني التي تتنظف بالماء وتكثر من ذلك . مما يدل على ضرورة مراعاة الزوجة لهذا الجانب من نفسها .
وكما أن للرائحة الزكية دورها الإيجابي في نفوس الأزواج، فإن سلوكاً عفوياً يصدر عن الزوجة مما يتعلَّق بفضلاتها الطبيعية : يمكن أن يُوقع - بصورة تلقائية - بغضها في نفس الزوج : فيكسل عنها، ويعجز مستقبلاً عن إتيانها : كالرائحة التي تنبعث عن فمها، أو من ملابسها، أومن مغابنها المستترة، والتي تكون عادة موقع نتن من البدن، فكل ذلك مستقبح من الإنسان عموماً، وهو من المرأة مع زوجها : أقبح وأشنع؛ لضرورة الالتصاق بينهما، وطول الصحبة .(1/303)
وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشدُّد في أمر السواك لطهارة الفم، وقطع الرائحة القبيحة، وأما طهارة البدن فقد ورد عنه أنه كان " إذا زوَّج بناته أمر أن لا يقربهن أزواجهن حتى يغتسلن … "، فلا يجتمعن بأزواجهن إلا على أكمل حال، حتى بلغ الأمر عنده عليه السلام بضرورة الطهارة والنقاء إلى أن : يأمر النساء بتطهير، وتطييب موقع خروج الدماء الطبيعية، ويشرح كيفية ذلك، ويبيِّنه بنفسه . مما يدل بوضوح على أهمية هذا الجانب، وضرورته للزوجين، من الجهة النفسية والبدنية .
وبناء على هذه التوجيهات : فإن الفتاة تراعي ذلك من نفسها، وتجتهد في الأخذ بسنن الفطرة : فلا تقع عين الزوج على ما يكره منها، في صورة، أو ملبس، ولا يسمع منها إلا ما يدفعه إلى مزيد من الحبِّ والميل إليها، ولا يشُمُّ منها - خاصة في الخلوة - إلا ما يثير رغبته فيها، تقول السيدة حفصة رضي الله عنها : " إنما الطيب للفراش " : فتُجنِّبه رائحة الحيض وخروقه المنتنة، فإنها شديدة على الزوج، وتُبعد عن موقع عينيه فضلاتها الطبيعية المستقبحة، فتجتهد بأن لا يشم، ولا يرى على بدنها، أو في بيت الخلاء من آثار ذلك شيئاً، وأن يكون هذا نهجها دون ملل، وطريقتها دون انقطاع أبدأً، ولتكن - في كل ذلك - نصيحة السيدة عائشة رضي الله عنها نصب عينيها حين قالت لإحداهن : " إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتصنعينها أحسن مما هي فافعلي " .
37ـ حق الزوجة في الاستمتاع الجنسي(1/304)
من المتفق عليه أن للفتاة الزوجة حقاً واجباً في الجماع، وهو آكد حقوقها، وأعظمها على الزوج؛ فإن عقد الزواج يُحلُّ للطرفين معاً : أن يستمتع كل واحد منهما بالآخر؛ ولهذا أفتى العلماء بالتفريق بين الرجل وزوجته إن كان خصياً، أو عنِّيناً لا يصل إليها، أو امتنع عن جماعها لغير سبب مُلجئ، كما أنهم حثوه على إتيان زوجته ليُعفَّها حتى وإن لم تكن له رغبة في الوصال . إلا أنه - مع ذلك - لا يلزمه إجابتها في الحال إلى الفراش كما يلزمها إجابته إلى ذلك حين يدعوها؛ وذلك يرجع إلى اختلاف طبيعة السلوك الجنسي بين الذكور والإناث؛ فالمرأة بطبيعتها، ونوع تركيبها العضوي يمكنها الاستجابة في أي وقت، في حين يعجز الرجال عن إجابتهن في كل وقت، حتى وإن رغبوا في ذلك، وهذا يرجع إلى طبيعتهم، ونوع تركيبهم العضوي، وبناء على ذلك ألزمت المرأة بإجابة زوجها إذا دعاها للفراش، ولم يُلزمه هو بذلك .
وقد أنكرالرسول - صلى الله عليه وسلم - على من امتنع عن الجماع من أصحابه بسبب العبادة، فلم يقبلها سبباً كافياً لترك الواجب، وبيَّن أن للزوجة حقاً في ذلك، خاصة وأن المؤمن الحريص على الخير قادر على أن يجمع بين طول العبادة وتكرار الوقاع بصورة حسنة . وإن كان تركه للجماع بسبب عجز في جسمه : أخذ من الأدوية التي تقوي الشهوة وتثيرها، حتى تعينه على أن يُعفَّ زوجته، فإن لم ينفعه ذلك، فإنه لن يعدم وسيلة مشروعة يُعفُّ بها زوجته، ولو في فترات متباعدة معتدلة .(1/305)
ولا يكفي في حق الزوجة مجرد الجماع، فإنه أقل مراتب الاستمتاع بالنسبة لها؛ بل إن لها حقاً في حصول الإشباع، بحيث تصل إلى ذروة الاستمتاع بإنزال الماء، وتحصل لها درجة الإحصان، التي تُعفُّها عن الانحراف الخلقي، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبيِّناً هذه القضية الزوجية الخاصة : (( إذا جامع أحدكم أهله فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يُعجِلها حتى تقضي حاجتها ))، فيكون جماعه لها جماعاً صادقاً ناصحاً، فلا يفارقها حتى يعلم يقيناً بسكون غُلمتها بالإنزال، وحصول درجة الإشباع الموجبة للمحبة بينهما، ودوام الألفة؛ فإن الشبق الشديد يضر بها في نفسها وجسمها إذا لم يُسكن بالإنزال .
وفي الجانب الآخر فقد منع الإسلام بنظامه التربوي كل ما يُنغِّص على الزوجة اسْتيفَاءَ حقها في هذا المجال الخاص؛ فمنع العزل عنها ما دامت حرة، إلا بإذنها؛ لأنه جماع ناقص يضر بها، وحرَّم إتيانها في الدُّبر؛ لأنه موضع لا غرض لها فيه، بل تتضرر منه، ولا يأتي هذا الموضع إلا قبيح النفس، منْتكس الطبع، وكل ذلك حتى تُعطى حقها من الاستمتاع المشبع، الذي يحقق لها درجة الإحصان، المُعفَّةِ عن الحرام، ويحصل من ذلك النسل، الذي هو المقصود الأسمى من النكاح .
ومن لطائف ما يُنقل عن السلف في التوافق الجنسي بين الزوجين، وتمام الملاطفة بينهما، ولا سيما بعد الفراغ من لقائهما : تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : " تتخذ المرأة الخرقة، فإذا فرغ زوجها ناولت تمسح عنه الأذى، ويمسح عنها، ثم صلَّيا في ثوبيهما " .(1/306)
ورغم هذا التصور الواضح في المجتمع المسلم حول هذه القضايا النسائية الخاصة، ومع إسهاب العلماء في بيانها، والحديث عنها بالتفصيل والوضوح : فإن العالم الغربي بقي إلى بداية القرن العشرين جاهلاً بكثير من هذه القضايا، يعامل النساء كما كان يعامل العربي الجاهلي زوجته، فلا يرون للنساء حقاً مشروعاً في الاستمتاع، أوحصول درجة الإشباع، في الوقت الذي كانت فيه الفتاة المسلمة زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه تُقَرُّ على مطالبتها بهذا الحق، فتُصرِّح إحداهن بضعف زوجها الجنسي، وتُلمح أخرى بانشغال زوجها عنها، فتثني عليه بدوام الصلاة والصيام، ثم تقول : " لم يُفتِّش لنا كنفاً، ولم يعرف لنا فراشاً "، وتشكو إحداهن جفاء زوجها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فتقول :" إني امرأة شابة، وإني أتتبَّع النساء "؛ بل وحتى المُبادأة - في بعض الأحيان - من الزوجة لزوجها في هذه المسائل الخاصة لم تكن مستهجنة في ذلك الزمن، رغم أن الرجال عادة لا يحبذونها من المرأة .
وحتى فترات حيض الزوجات لم تكن فترات سكون عاطفي؛ فإن الميل الجنسي لا يزال موجوداً عندهن، والرغبة في الزوج قائمة؛ لهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراعي ذلك منهن، فيباشر ويخالط الحائض من نسائه ليلاً طويلاً، ولا يعزل فراشه عنهن في هذه الفترة .(1/307)
ولما كانت طبيعة الأنثى الجنسية أميل إلى العمق الاستمتاعي أكثر من ميلها إلى كثرة الوقاع؛ بحيث تستدرك بعمق اللذة عندها كثرة الوقاع عند الرجل : فإن العلماء أوجبوا لها على زوجها وقعة في كل شهر على الأقل في الحالات الاعتيادية؛ لأن الشهر بالنسبة لغالب النساء أمر معتاد، لا يتضررن منه، واشترطوا ألا تزيد فترة الهجران في الحالات النادرة على أربعة أشهر، أو ستة أشهر على أقصى تقدير، فإن الزيادة على ذلك يمكن أن تسوق الزوجة الشابة إلى انحرافات خلقية كبيرة، ولا شك أن وطء الزوجة بقدر كفايتها وحاجتها : أكمل وأفضل، مالم يؤثر ذلك على زوجها في بدنه ومعاشه، وقد أثبت الواقع أن عدم التوافق الجنسي بين الزوجين يقف خلف عدد كبير من حالات الطلاق، وانهيار الأسر .
ويلحق بحقها في الاستمتاع الجنسي : ما يتبعه ويجمِّله من التزين لها بحسن الثياب، وطيب الرائحة، ونظافة البدن، والخاتم ونحو ذلك مما يليق بالرجال، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوجِّه أصحابه إلى مثل ذلك، فيقول : (( إن أحسن ما اختضبتم به لَهَذا السواد، أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوِّكم )). وكان عليه السلام يأمرهم بالاغتسال بعد العمل البدني الشاق، والعناية بشعر الرأس واللحية . وكانت عائشة رضي الله عنها توجِّه النساء بأن يأمرن أزواجهن بإزالة أثرالبول والغائط بالماء فتقول لهن : " مُرْنَ أزواجكنَّ أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله "، وكان ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً يؤكد على هذه المسألة، ويأمر أصحابه بنظافة أعضائهم التناسلية، وتعاهدها بالغسل، وجاء مرة رجل إلى عمر رضي الله عنه، فقال له : " ماحبسك ؟ قال :عرست، قال : فهلا غيرت ثيابك ؟ "، وكان رضي الله عنه يقول للرجال : " فوالله إنهن ليُحببن أن تتزينوا لهن، كما تحبون أن يتزينَّ لكم " .(1/308)
إن مما ينبغي أن تدركه الفتاة المتزوجة أن حصولها على كمال الاستمتاع مرهون بعمق علاقتها بزوجها، فإن حوافز الأنثى الجنسية أكثر انتشاراً وتعقيداً وغموضاً من حوافز الرجل، فهي أكثر اعتماداً على الزوج في اكتشافها وإثارتها، فكلما كان الحب والتفاهم بينهما أعظم : كان سعيُ الرجل لتكيُّفها واستمتاعها أكبر، وإن أسوأ ما يمكن أن يصيب الزوجة في هذا المجال الخاص : فقدان الاستمتاع بالكلية، أو ما يُسمَّى بالبرود الجنسي، حيث تنفر من اللقاء الجنسي بزوجها، وتشعر معه بالغثيان، وقد يحصل لها - من خلال اللقاء - آلام وجروح في الجهاز التناسلي، وربما عبَّرت عن ضيقها بأن تتوجه نحو أولادها بمزيد من المبالغة المفرطة في الاهتمام والرعاية؛ تعويضاً عن نقصها في هذا الجانب .
ولا شك أن النساء في العموم يختلف بعضهن عن بعض اختلافاً بيِّناً في الرغبات الجنسية، وطرق إثارتها، أكثرمن اختلاف الرجال فيما بينهم؛ فما زالت معالم الحياة الجنسية عند المرأة مجهولة بالمقابل لما هو معروف من معالمها عند الذكور، إلا أن الثابت علمياً أن وعي الفتاة الجنسي بصورة صحيحة : يساعدها على حلِّ هذه المشكلة، والتخفيف من آثارها، فقد تكون المشكلة عضوية، بحيث تفقد الأنثى عنصراً من عناصر تكوينها الجنسي، فتحتاج إلى علاج . وقد تكون مشكلتها اقتصادية، بحيث يقلقها الفقر، أو سياسية حيث الاضطرابات والحروب التي تزعزع أمن المجتمع، فإن هذه المتغيرات المختلفة، والأحوال الاجتماعية المضطربة : تؤثر على توازن الأنثى العاطفي، واستقرارها الوجداني؛ حيث ينعكس قدْرٌ من مجموع هذه المتغيرات السلبية على رغباتها الجنسية، ودرجة استمتاعها .(1/309)
كما أن خوف الزوجة من حصول الحمل : يعيق كمال استمتاعها، وربما ساقها إلى البرود، في حين تكون الزوجات الراغبات في الحمل : أكثر استجابة واستمتاعاً، كما أن أسلوب العزل بالطريقة البدائية لتنظيم الحمل : يعيق كمال الاستمتاع، ووربما ساقها أيضاً إلى البرود الجنسي، كما أن هجر الممارسة الجنسية بالكلية لمدة طويلة قد يؤدي إلى ضعف استجابة أعضائها التناسلية، وبالتالي يُقلِّل من الدافع الجنسي . ولعل الحالة النفسية المضطربة عند الزوجة: أعظم أسباب البرود الجنسي؛ لأن الحياة الجنسية مرتبطة عندها بحالتها النفسية، فهي " أكثر من الرجل حاجة لتوافر العوامل النفسية والعاطفية؛ لكي تُثار، ولكي ترتضي جنسياً " : فالقلق، والكآبة، والخوف، والخبرات الأسرية، المؤلمة المتعلقة بالأب في قسوته وسوء معاملته، أوالتعرض لصدمات جنسية في الطفولة، أو سوء اللقاء الأول بالزوج، أو سماع أخبار حوادث الفتيات المؤلمة، وخبراتهن الخاصة مع أزواجهن، كل هذه الأسباب النفسية يمكن أن تؤدي إلى مشكلة البرود الجنسي عند الزوجة، وتعيق كمال استمتاعها، وربما كانت سبباً في تقويض الأسرة وانهيارها؛ مما يدل على ضرورة وعي الفتاة بهذه المسائل المهمة، حتى تتجنب سلبياتها، وتحصل لها فوائدها، وفي الجانب الآخر : يُنصح بضرورة وعي الرجال بها حتى يتمكنوا من قيادة زوجاتهم برفق نحو مباهج الحياة العاطفية ضمن مفاهيم الإسلام للتربية الجنسية .
38ـ حرص الزوجة على التناسل(1/310)
لقد استفاضت السنة المطهرة بالتوجيهات النبوية المباركة والحاثة على التناسل وكثرة الولد، فمنها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ))، وقال أيضاً (( امرأة ولود أحب إلى الله من امرأة حسناء لا تلد، إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )). وقال عليه الصلاة والسلام في الولد: (( الولد الصالح ريحان من رياحين الجنة )) ، ورتب الأجر على كثرة الولد، وإن لم يعيشوا، فقال عليه الصلاة والسلام: (( ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم )) ، وكذلك من رباهم وسهر عليهم حتى كبروا وكانوا صالحين، فإن أجره لا شك أكبر وأعظم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " يا سعيد تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء "، وما ذلك إلا لطلب الولد والذرية، فقد كان لقيس بن عاصم رضي الله عنه اثنان وثلاثون ذكراً . وما ورد في السنة من الترخيص في العزل مع الكراهة فإنه لا ينبغي أن يؤخذ من هذا الترخيص جواز استعمال حبوب منع الحمل ووسائله لعامة الناس، فإن هذا ينافي مقصود الشارع الحكيم من حفظ النسل واستمراره .
كما يجب أن يفهم أن دعوى تحديد النسل بين المسلمين دعوة تبشيرية نصرانية تهدف إلى تقليص أعداد المسلمين، علماً بأن تحديد النسل بالنسبة لأهل الكنيسة يعد جريمة، فهذه إيطاليا تضع قانوناً صارماً ضد من يقوم بالدعاية لتحديد النسل، أو يقوم بعملية إسقاط للجنين بصورة متعمدة، وذلك لعلمهم ويقينهم " أن الثروة البشرية هي أكبر مصدر للاقتصاد … فالإنسان هو صاحب إمكانية العمل والتفكير والاختراع وتركيب الأغذية وإيجاد الحلول " . ومن المعروف أن القوانين الغربية تحرم الإجهاض .
أما تنظيم الحمل بهدف إعطاء المولود الأول حقه من الرعاية والرضاعة فقد أجاز بعض العلماء استعمال الدواء لمنع وقوع الحمل، وإن كان الأحوط عند البعض ترك ذلك .(1/311)
ويجب أن يعرف أن كثرة الحمل والولادة لا تضر بالمرأة الطبيعية؛ بل تنفعها، فإن نموها الكامل وبلوغ الاتزان والكمال العقلي عندها لا يحصل إلا بعد الحمل لمرة واحدة على الأقل، وقد نقل أن امرأة أنجبت (( 34 )) مولوداً توأمين فأكثر، ولم يذكر أنها تضررت من جراء ذلك .
والشريعة جاءت بإباحة تعدد الزوجات لأسباب عديدة، منها طلب الذرية والاستكثار منها، كما أنها حرمت ومنعت كل ما يعوق تحقيق هذا المقصد، فمما حرمته الرهبانية والتبتل، وإتيان المرأة في دبرها، وغير ذلك من المعوقات .
ثم إن الحديث عن أهمية الاتصال الجنسي، وأوجه الاستمتاع بين الزوجين، وأهمية ذلك وضرورته للحياة الزوجية فإن ذلك برمَّته لا يعدو أن يكون وسيلة إلى غاية كبرى، وهدف أسمى وهو : اقتناص الولد، وبقاء النوع، فما الشهوة في ذاتها : إلا محركاً وباعثاً عليه . وأي علاقة جنسية لا تهدف إلى الإنجاب، ولا تقصد إليه فهي علاقة ناقصة غير طبيعية، كالذي يأخذ أجر عمل دون القيام بواجبه المناط به، فيحصل الزوجان على اللذة الجنسية دون الإنجاب، وخدمة النوع .(1/312)
وقد أدرك السلف هذا الفهم الفطري الصحيح من مشروعية النكاح، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : " لولا الولد لم أتزوج، حصير في البيت خير من امرأة لا تلد "، ولهذا رُوي أنه طلَّق إحدى زوجاته لما علم بعُقمها؛ لحرصه الشديد على الإنجاب، حتى إنه كان يقول : " إني لأطأ النساء ومالي إليهن حاجة : رجاء أن يخرج الله من ظهري من يكاثر به محمد - صلى الله عليه وسلم - الأمم يوم القيامة "، وأخبر عنه ولده عبدالله رضي الله عنهما مبيناً حرص أبيه الشديد على النسل فقال : " كان أبي لا يتزوج النساء لشهوة إلا طلب الولد "؛ فأدرك رضي الله عنه أن الإنجاب :هو أسمى مقاصد مشروعية النكاح، فحرص على الاستكثار منه . وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم، يستكثرون من الولد، فقد كان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أربعة عشر ذكراً، ومن الإناث سبع عشرة أنثى، وكان لقيس بن عاصم رضي الله عنه اثنان وثلاثون ذكراً .
إن هذا الفهم للغرض من النكاح في التصور الإسلامي : بدأ يخفُّ عند المعاصرين من الجنسين، حيث يميلون إلى تحديد النسل، والإقلال منه، كما دلَّ على ذلك كثير من الدراسات العلمية الحديثة، خاصة عند الفئات المتعلمة، والفئات ذات الدخل المرتفع، حيث يُشكِّل التعليم النسائي - بالدرجة الأولى - أعظم وسيلة لتحديد النسل، وتأخير الإنجاب، ويأتي مبدأ تأخيرسن الزواج ليحد من عدد مرات إنجاب المرأة، فيكون سبباً أيضاً في التقليل من النسل، ويمثل دخل الأسرة المرتفع : عذرأ مقبولاً عند بعضهم للحد من الذُّرية : بحجة رفع مستوى الرعاية التربوية للنشء، في حين تستكثر الأسر الفقيرة من التناسل والتكاثر، ويغلب على نسائها سرعة الإنجاب .(1/313)
إن قضية التناسل عند المرأة أكبر بكثير من مجرد استمتاع جنسي؛ فإن الأنثى بطبيعتها الفطرية الفسيولوجية : " قد ربطت بين المتعة الجنسية والوظيفة التناسلية، بحيث إن كل فصل يُقام بينهما لا بد من أن يكون على حساب الأمومة، وكرامة الحياة الزوجية نفسها "، فوظيفتها الإنسانية الأولى : تكثير النوع الإنساني، بحيث تكون أفضل أيام حياتها حين تحيا لمصلحة النوع البشري، وشرُّ أيامها حين ينقطع عنها الولد، والفتاة المسلمة مع كونها تمارس خيانة إنسانية إن هي رغبت عن الولد؛ فإنها تتشبَّه بالمرأة العاقر، التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الزواج منها، كما أنها بهذا المسلك ترفض مبدأ الفطرة التي خُلقت عليها في كونها حرثاً ومزرعة للولد، وتفوِّت على نفسها أجر الحمل، والولادة، وما رتَّب عليهما الشارع الحكيم من عظيم الأجر والمثوبة، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: (( إن للمرأة في حملها إلى وضعها إلى فصالها من الأجر : كالمتشحِّط في سبيل الله، فإن هلكت فيما بين ذلك فلها أجر شهيد )) ، فجعلها في مرتبة وأجر الشهيد، الذي يتخبَّط ويتمرَّغ في دمه؛ حين تخدم النوع بتكثير المسلمين .(1/314)
إن مما ينبغي أن تعرفه الفتاة : أن مجرد الاستمتاع الجنسي بين الزوجين ليس كافياً لنجاح الحياة الزوجية وازدهارها؛ فإن الحكمة من وجود داعية الشهوة وهذا الاستمتاع، والمحبة بين الزوجين : إنما هو لبقاء النسل، وعدم انقطاعه؛ بحيث لوحُرمت الأسرة الإنجاب : كانت أقرب للانهيار والتفكك منها إلى السعادة والاستقرار، في حين تكون الأسرة المنجبة : أكثر تماسكاً وترابطاً، وأكثر استقراراً، فالعقم يُشكِّل صدمة نفسية عميقة عند الزوجين، خاصة عند الفتاة المتزوجة، فهي أقل تكيفاً، وأكثر إضطراباً من الرجل في مواجهة مشكلة قصور القدرة الطبيعية على الإنجاب؛ لأن الإنجاب بالنسبة للأنثى : غاية فطرية، لا بد من تحققها، وخوض تجربتها الفريدة، فالأمومة عندها حقيقة مركزية في حياتها الجنسية، والرجل في حياتها : لا يعدو أن يكون وسيلتها الوحيدة إلى إشباع هذه الخلَّة الملحة، وغاية حاجته الفطرية : الاتصال الجنسي؛ ولهذا تعاني هي من عدم الإنجاب أكثرمن معاناته وأشد .(1/315)
كما أن نمو الفتاة الطبيعي الشامل لا يتم كماله إلا بحصول الحمل والولادة لمرة واحدة على الأقل؛ فإن نمو ملكاتها، وتهذيب مواهبها، واتزانها العام، واستقرارها النفسي، وبلوغها حدَّ الإشباع الجنسي في حياتها الزوجية : كل ذلك لا يتم لها بكماله على التمام إلا من خلال خوض تجربة الحمل والولادة، ومعاناة الرعاية والتربية، حتى إن تفوقها في نظم الشعر كلَّما كان ألصق بهذه التجارب الأنثوية : كان أكثر إبداعاً وإتقاناً، بل إن إلحاحها الشديد على رشاقة جسدها، وتفوق قوامها - كما هي طبيعة النساء - ينخفض عندها بصورة ملحوظة حال الحمل، رغم ما يسببه من تغيير كبير في شكلها ووزن جسمها، بل وحتى معاناة الحمل، وآلام الولادة التي تُعد من أشد أنواع الآلام التي يصادفها الإنسان في حياته : فإنها بالنسبة للمرأة لا تعدو أن تكون من أسعد مشاعرها، وأحبِّها إليها؛ ولهذا يُلاحظ ندرة وقوع حوادث انتحار بين النساء الحوامل، مما يدل على مدى العمق الفطري لقضية النسل في نفس الأنثى، وأهميته الحيوية في حياتها من جهة سلامة نموها، واستقرارها النفسي .
إن قضية النسل تعطي الفتاة أهمية إنسانية فائقة، حتى تكون مهمة حفظ النوع مُوكلة إليها، فلا يستطيع أن يقوم مقامها في هذه المهمة الإنسانية الفريدة أحد من الرجال، مهما بلغ من المنزلة والقدرات؛ إذ إن الفطرة - بإذن الله تعالى - خصَّت المرأة دون الرجل بأجهزة تكثيرالنوع الإنساني، التي لا يمكن تصوُّر إمكانية الاستغناء عنها في عملية التكاثر، فلو قُدِّر فَرَضاً إمكانية الاستغناء عن دور الرجل في عملية التكاثر من خلال تخزين عدد كبير من الحيوانات المنوية، وحفظها بطريقة علمية لفترات زمنية طويلة : فأَنَّى للبشرية أن تستغني عن الرحم الذي لا يتعدد للمرأة الواحدة، وعن بويضاتها المحدودة العدد ؟ .(1/316)
ولعل مما يُجلِّي هذه المسألة، ويوضح مركزية دور الأنثى في عملية التكاثر : " قضية الاستنساخ " التي ظهرت مؤخراً باعتبارها اكتشافاً علمياً مذهلاً في هذا المجال، فإنها - مع ذلك - لا تعدو أن تكون تقدماً علمياً في اتجاه الاستغناء عن دور الذكر في عملية التكاثر، مع الاعتراف الكامل بأصالة دور الأنثى فيها، وعدم إمكانية تصوُّر الاستغناء عنها بحال من الأحوال، حتى إن أحد الأطباء المتخصصين في هذا المجال - بعد نجاح عملية استنساخ أول كائن حي - صرَّح بأن النساء لم يعدن في حاجة إلى الرجال للإنجاب .
وهذا يوضح بجلاء أهمية دورالأنثى في هذا المجال الإنساني الحيوي المهم؛ ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بضرورة، حفظ الإناث من مواقع الهلكة، فأسقطت عنهن الجهاد القتالي، إلا في حال الضرورة . وحتى المرأة الكافرة : فإنها معصومة الدم بالأنوثة، لا تُقتل في الحرب إلا حين تعدو بالسلاح فتقاتل، أو يكون في قتلها مصلحة شرعية، بل وحتى المرأة المرتدة فإنها لا تقتل عند بعض العلماء، وليس كل هذا إلا من أجل خدمة النوع الإنساني، وحفظ النسل؛ لأنها عملية تتوقف بالدرجة الأولى على وفرة العنصر النسائي أكثر من توقفها على وفرة الذكور .(1/317)
ومن هنا فإن هذا الواقع الفطري يكشف للفتاة أهمية دورها الحيوي في عملية التناسل، ويضعها أمام المسؤولية الربانية التي تفرض عليها خدمة النوع، وتكثير المسلمين، ولا سيما في هذا العصرالذي لم يعد للمسلمين فيه من القوى سوى القوة العددية، التي يمكنهم من خلالها فرض شيء من إرادتهم، وحفظ كيانهم أمام قوى التسلط الاستعمارية العالمية، فإن الواقع المعاصر يشهد بأن ارتفاع عدد السكان - في حد ذاته - قوة، ولا سيما حين يرتبط بالجانب الاقتصادي، الذي أصبح من عناصرالتأثيروالتمكين في هذا العصر، فقد شهدت التجارب الاقتصادية القائمة أن التصنيع يتبع العمالة حيثما كانت، وليس العكس، ولا سيما إذا كانت رخيصة؛ حيث تسهم في خفض تكاليف الإنتاج، فهذه الاستثمارات الصناعية العملاقة، بعد انفتاح السوق الدولية : تتدفَّق بقوة على الدول التي تتوافر فيها العمالة، حتى وإن لم تكن دولاً متقدمة، مثل المكسيك والصين والبرازيل وماليزيا وتايلند ونحوها ، وهذا يدل على الأهمية الكبرى للوفرة السكانية، في توجيه القوى الاقتصادية، وقد أدرك هذا المغزى الحيوي القائد الفرنسي الشهير نابليون حين سُئل : " أيُّ النساء أعظم بنظرك؟ فقال : أكثرهن أولاداً " .
وبناءاً على ماتقدم فإنه لا يجوز منع النسل، أو تحديده، فإن الخوف من الفقر، أو الخشية من كثرة الأولاد، أو الرهبة من تنامي عدد السكان : ليست من الأعذار المبيحة لذلك، فلا يصح - بناء على ذلك - اتخاذ أسباب المنع من الحمل لهدف قطعه أو تحديده أو إسقاطه إلا في حال الضرورة الملجئة، ولقد كان المجتمع المسلم في السابق شديداً في مثل هذه القضايا الإسلامية الكبرى، وقد كان من حرصه أخذ المواثيق على الطبيب المسلم ألا يدل الرجال ولا النساء على أساليب قطع النسل، أو إسقاط الأجنة .
39ـ الأمومة في طبيعة الفتاة الفطرية(1/318)
إن مما يعكِّر الحياة الزوجية ويذهب سكَنَها : رفض الزوجة مبدأ تعدد الزوجات، فإذا ما قرر الزوج إقامة بيت جديد لأسرة جديدة، ضمن نظام التعدد الذي أباحه الإسلام : كان الصخب، والنفرة، وربما الطلاق . حتى يبقى الزوج حائراً بين الإبقاء على بيته القديم مع التنازل عن حاجته لمبدأ التعدد، أو إقامة بيت جديد على أنقاض البيت الأول .
إن حلَّ هذه المشكلة عند الفتاة المسلمة يرجع إلى قضيَّتين مهمتين : إحداهما اعتقادية : حيث الإجماع على جواز نكاح الحرِّ لأربع حرائر، والتسري بمن شاء من الإماء ممن هن في ملكه، في حين لا يحق للمرأة أن تتزوج بأكثر من واحد في الزمن الواحد، فلا يصح إيمان الفتاة إلا بموافقة الإجماع، حتى وإن كان في ذلك شدة عليها، وأما القضية الأخرى فترجع إلى استيعاب الحكمة من خلال تشريع هذا المبدأ الإسلامي العظيم .
إن البشرية منذ فجر التاريخ وقبل الإسلام ما زالت تمارس تعدد الزوجات بصورة من الصور، ولم يأت على البشرية زمان اكتفى فيه جميع الرجال بالمرأة الواحدة، فاليهود يعدِّدون بلا حدود، فقد كان لسليمان عليه السلام ألف امرأة، وكان لداود عليه السلام مائة منهن، وبعض الفئات من البشرية تمارس التعدد عن طريق إشاعة النساء بين الرجال . فلم يكن مبدأ التعدد من صنع الإسلام بل هو مبدأ قديم بقدم وجود الإنسان . وإنما جاء الإسلام بضبطه، وتوجيهه وفق منهجه القويم المعتدل .(1/319)
وفي العصر الحديث فإن تعدد النساء للرجل الواحد ينتشر بين الغربيين - الذين يزعمون تحريمه - أكثرمن انتشاره بين المسلمين، فما زالت بعض الطوائف النصرانية في الولايات المتحدة تعتقد جوازه، وتمارسه سراً، أما التعددية من خلال الأخدان، والخلائل فهذا أمر شائع عندهم، يقول الفيلسوف الألماني شوبنهور - وهو من المتحمسين لمبدأ تعدد الزوجات عند المسلمين - : " أين لنا بمن يقتصر حقيقة على زوجة واحدة، بل لا ننكر أننا في بعض أيامنا أو في معظمها كلُّنا أو جلُّنا نتخذ كثيراً من النساء " .
وفي الوقت الذي يعترف فيه كثير من المفكرين الغربيين بالحكمة الصادقة من تشريع هذا المبدأ في الإسلام؛ لحل مشكلة الانحرافات الخلقية، وأنه أفضل الأنظمة، وأسعدها حالاً للمرأة، وأنه " حسنة حقيقية لنوع النساء بأسره "، وأنه حتى الآن لم يقم دليل على فساد هذا النظام، أو وقوفه في طريق التقدم الإنساني، وأنه أفضل حل لمشكلة كثرة النساء، خاصة بعد الحروب، حيث أقرَّت به حكومة ألمانيا عام 1948م، واستفتت الأزهر الشريف عن طبيعة نظامه، وكيفية تطبيقه . رغم هذا الإقرار والوضوح : ينطلق جمعٌ من المنتسبين إلى الإسلام والعروبة ليصفوا هذا المبدأ الإسلامي بأنه نوع من الخيانة الزوجية، أو احتكار لجمع من النساء كاحتكار الخيول، حتى إن بعضهم يُفتي بتحريمه، لضرره الشنيع، وأنه تشريع عنصري، اتخذه الرجال ضد النساء، حتى قال أحدهم عنه بأنه : " حيلة شرعية لقضاء شهوة بهيمية، وهو علاقة تدل على فساد الأخلاق، واختلال الحواس، وشره في طلب اللذائذ "، وربما تحدث بعضهم يشكِّك في مشروعيته، حيث تقول إحداهن : " إن التعدد مشكوك في إباحته على أقل تقدير " .(1/320)
وقد دعم هذه الآراء المنحرفة وأيَّدها قوة القانون الوضعي وصولة السلطان، حيث نصَّت غالب التشريعات العربية والعالمية على المنع منه، ووضعت العقوبات الصارمة للمخالفين، فلا يُباح إلا في بعض الدول الإسلامية بصورة فردية، وفي أضيق الحدود، وبعد تحقُّق شروط متعددة، غالباً ما يعجز عنها الرجل الراغب في النكاح . ومن أجاز من هذه القوانين للزوج مطلق التعدد : أباح للزوجة الأولى أيضاً مطلق حرية الفسخ إذا لم تكن موافقة على زواجه من أخرى، فقلَّ - بناء على ذلك - عدد المعددين في البلاد الإسلامية، حتى أوشك أن يزول المبدأ بالكلية، فقد دلَّت الإحصائيات عام 1964م على أنه انخفض إلى 2% فقط، وربما انخفضت نسبتهم الآن إلى أقل من هذا بعد أن كانت في عام 1950م تصل إلى (5.5%) .
لقد أسهم رفض مبدأ التعدد مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة في ارتفاع عدد الفتيات العازبات الصالحات للنكاح، حتى في الدول التي لا تمنعه قانونياً، فقد بلغت نسبة النساء العوانس في المملكة العربية السعودية أكثر من مليون ونصف المليون عانساً حسب إحصائيات وزارة التخطيط لعام 1420هـ، في الوقت الذي لم تعرف الجاهلية العربية قديماً الفتاة العزباء بكراً كانت أو ثيباً ما دامت في سن الزواج .
والعجيب أنه في الوقت الذي يُحرِّم فيه القانون الوضعي تعدد الزوجات : يُبيح للفتاة التصرف في بضْعها مع من شاءت من الرجال ما دامت فوق الثامنة عشرة، ويمنعها من التصرف في مالها قبل الحادية والعشرين من عمرها . مما يدل على الهدف من منع تعدد الزوجات : رغبة في إشاعة الفواحش، والقبائح الأخلاقية، حيث أخذ سواد الناس يظهرون الرضا بالزوجة الواحدة، يخفِّفون وطأة ذلك عليهم بممارسة الزنا في ظل حماية القانون .(1/321)
إن على الفتاة المسلمة أن تعلم شيئاً من الإفراط الجنسي السوي، المتمثل في الزواج بأكثر من امرأة : لا يُعدُّ في علم النفس سلوكاً مَرَضياُ ما دام ضمن المباح، فإن الرجل " بفطرته ينزع إلى تعدد الزوجات، وأنه لا شيء يستطيع أن يُقنعه بالزوجة الواحدة إلا أقسى العقوبات، ودرجة كافية من الفقر، والعمل الشاق، ومراقبة زوجته له مراقبة دائمة "، فإنه بفطرته غير مخلص في علاقته العاطفية بالمرأة - حتى وإن كان محباً لها - إنما يضبطه الدين والأخلاق والعادات الاجتماعية، وأما المرأة فإنها مخلصة بالفطرة؛ إذ لا تحتاج - من أجل بقاء النوع، وتكثير الجنس البشري - إلى أكثر من لقاح واحد في الوقت الواحد؛ لأن المبيض لايُفرز عادة إلا بيضة واحدة فقط، والرحم لا يتسع لأكثرمن ماء واحد، فإذا حصل الحمل تعطَّل عن مهمة تكثير النوع، وتحول نشاطه إلى رعاية الجنين، في حين يمكن للرجل بصورة مستمرة أن يُلقِّح أكثر من امرأة في الوقت الواحد في سبيل خدمة النوع دون أن يتعطَّل، فالمرأة بطبيعتها وما يعتريها من أمور النساء : لا تخدم من خلال تنويع الذكور جانب التكاثر، في حين يخدم الرجل بالتنويع هذا الجانب الحيوي في طبيعة التكاثر عند الإنسان، فهي بطبيعتها ذات زوج واحد، والرجل بطبيعته متعدد الزوجات .(1/322)
وقد أكَّدت الدراسات النفسية عن طبيعة نشاط المرأة الجنسي - الذي يحاول بعضهم إغفاله - أنها بفطرتها تميل إلى تحديد علاقتها الجنسية برجل واحد، في حين يميل الرجال إلى التعدد، والاستكثار من النساء، فقد أشارت دراسة ميدانية عالمية شملت أكثرمن (554) مجتمعاً : أن غالب هذه المجتمعات تُقرُّ بمبدأ تعدد الزوجات للرجل الواحد، في حين تبنَّى (1%) فقط فكرة تعدد الأزواج للمرأة الواحدة، ولعل هذا ما يُفسِّر تعدد النساء في الجنة للرجل الواحد، واختصاص المرأة فيها برجل واحد، فدلَّ على أنها الفطرة التي جُبلت عليها الأنثى، وانطبعت عليها نفسها حتى في مقام الحظوة عند الله تعالى في جنات النعيم، حيث لا يُمنع أحدٌ - من الذكور أوالإناث - أمنية رجاها .
وعلى الفتاة المسلمة أن تستوعب هذا الفهم، وتوطِّن نفسها على قبول هذا التشريع اعتقاداً، وتصبر عليه عملاً إن حلَّ بها، فإنه عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه في القرون المفضلة، التي نالت فيها المرأة عموماً والفتاة خصوصاً أسمى ما يمكن أن تناله من التقدير والرعاية والإحسان في أي حقبة زمنية أخرى ضمن تاريخ الإنسان السابق وحتى اللاحق .
40ـ الوعي بطبائع النساء
جاء الإسلام في نظامه الاجتماعي بالأمر بمراعاة أحوال المرأة وطبيعتها، فمعظم النساء تسوء أخلاقهن خاصة أثناء الحمل، وبعد الولادة، وأثناء الدورة الشهرية؛ إذ يقل صبرهن، وتكثر مشاكلهن، لهذا يوطن الرجل نفسه - خاصة في هذه الفترات - على أن لا ينجرف مع ما يراه أو يسمعه من إحداهن من ألفاظ غير لائقة أو جفاء في المعاملة خاصة إن لم يكن ذلك السلوك من طبيعتها وسجيتها إنما هو طارئ عليها، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام : (( لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر )) . أي أن فيها محاسن أخرى، وإن ظهر في بعض تصرفاتها سوء أدب، فلا بد من النظر دائماً إلى المحاسن والمساوئ، والموازنة بينهما .(1/323)
كما أن الحياة مع النساء في العادة لا تستقيم على وتيرة واحدة، فإن فيهن شيئاً من العوج، ولا بد أن يكون في طبيعتهن هذا العوج، يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً هذه المسألة الطبيعية في خلقتهن : (( إن النساء خلقن من ضلع لا يستقمن على خليقة إن تقمها تكسرها، وإن تتركها تستمتع بها وفيها عوج )) ، فمن الخطأ اعتقاد الزوج إمكانية استقامة المرأة على أسلوب واحد في الحياة لا تحيد عنه، فإن هذا من سوء الفهم لطبيعة النساء . والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعاني أحياناً من زوجاته، وربما غضبت إحداهن عليه، فيصبر عليها حتى اضطر مرة لهجر بعضهن أربعين يوماً . تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : " قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى . قالت فقلت : ومن أين تعرف ذلك ؟ قال : أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين : لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى، قلت : لا ورب إبراهيم . وفي هذا الحديث دلالة واضحة على عموم وقوع النساء في سوء الخلق مع تفاوت بينهن، فإذا وقع شيء من ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجاته الطاهرات، فإن غيره من الرجال وغيرهن من النساء أولى بأن يحدث بينهم سوء تعامل، ونشوز، وغير ذلك من سوء الخلق، والذي يُوصى به الزوج هو التبصر والتريث، وأخذ الأمور بالروية والتدبر دون عجلة .
41ـ الغيرة الجامحة في طبائع الإناث
تُسبب عاطفة الغيرة عند الزوجة وجداً شديداً، وحزناً عظيماً، خاصة إذا اشتدَّت، ولم تجد لها متنفساً تتصرَّف من خلاله، حيث تختل قدرتها وتقْصر عن النظر الصحيح، والتقدير الجيد للأمور، وربما ساقتها شدة الوجْد : إلى الانتقام من نفسها، والإضرار بها . وسبب ذلك يرجع إلى : " أن المرأة خُلقت يتنازعها إحساسان قويان هما : إحساس العاشقة، وإحساس الوالدة، وليس أغلب على نفسها، ولا أملك لمشاعرها من هذين الإحساسين الغريزيين " .(1/324)
ولما كانت الرابطة الزوجية أقوى الروابط بين اثنين، بحيث يشعر كل منهما بأنه شريك للآخر في كل شيء : كانت داعية التَّغاير بينهما آكد، وأسبابها أوفر، حتى يتغايرا على الدقائق والخفايا، ويعتمدا على الظَّن والوهم، فيُغريهما ذلك إلى التنازع والتخاصم .
ولما كانت أسباب إثارة الغيرة بين النساء أكبر؛ لضيق مجالات التنافس بينهن، خاصة في مجال الحياة الزوجية، حيث التنافس على الزوج، ومحاولة الانفراد به، والاستحواذ على عواطفه : كانت مظاهر التَّغاير أعظم، ووقائع التنافس أشد؛ فإن المرأة إذا شعرت بتعرُّض حبها للخطر بمنافس آخر، انطلقت بكل شراسة للرد عن نفسها، والذود عن ساحتها بكل وسيلة ممكنة . فيغيب عن إحداهن كثير من قدرات الضبط السلوكي، ونظرات البعد العقلي، حتى لربما بلغ بإحداهن هيجان الغيرة إلى الوقوع في جناية عدوانية تستلزم القصاص، وإقامة الحد، أو لربما جاءت بسلوك اجتماعي عام في غاية الشَّناعة، وأقل ما يمكن أن تقوم به الغيرى إذا أغْلقت : أن تجني على الأموال، والأمتعة والممتلكات، أو أن تأتي بكلام وعبارات لا ترضاها حال سكونها، وذهاب انفعالها، أو لربما وصل بها فرط الغيرة إلى أن تتلفَّظ بما قد يُعتبر ردة عن الدين، وقد تفعل الغيرة فعلها بالمرأة العاقر حتى تكون سبباً في حملها، وفي هذا كلِّه يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما ورد عنه، في وصف هذه الحالة النفسية التي تعتري بعض النساء : (( إن الغيْرى لا تُبصر أسفل الوادي من أعلاه )) . وقد كان يعتري بعض زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثيراً من فضليات النساء شيء من ذلك، بل إن إحداهن لتغار من مُطلقها عند علمها بزواجه بعد أن تكون قد بانت منه، مما يدل على أنهن يُعذرن شرعاً إذا كان الوارد عليهن من الغيرة أشد من قدرة احتمالهن، إلا ما كان من حقوق الآخرين، فلا بد فيه من إحقاق الحق . وشدَّة الغيرة عند المرأة كثيراً ما ترتبط بشهوتها ولذتها، فبقدر لذتها(1/325)
وشهوتها يكون عنف غيرتها وشدتها، ومع ذلك تبقى غيرة الرجل في العموم أعظم وأعنف من غيرة المرأة .
إن محاولة قطع هذا الطبع النسائي بالكلية، ومحو آثاره الانفعالية : أمر بعيد، إلا أن التخفيف من حدَّته ممكن، وذلك من خلال منع أسباب إثارة الغيرة، كإقامة العدل المستطاع بين الضرائر، والعزل بينهن في المساكن، مع صدق التوجه إلى الله تعالى بالدعاء .
وأما من الجهة النفسية فلا بد أن تُعطى الزوجات المتنافسات شيئاً من المتنفَّس والمجال : لتفريغ بعض انفعالات الغيرة في نفوسهن : في صورة مجادلات كلامية، أومكائد لا تصل حدَّ التَّجنِّي والإفساد، وإلى هذا الحد يكون الأمر جائزاً شرعاً، وهذا من حكمة التعامل مع هذه الانفعالات النسائية الحادة .
والفتاة المسلمة لا بد أن تعرف أن الغيرة أمر مكتوب على العنصر النسائي، كما أن الجهاد مكتوب على الرجال، ولهن الأجر على الصبر والتحمل، وعليها ألا تلتفت للمغرضات ممن يسْعيْن لإغارة صدور الفتيات المعاصرات من مبدأ التعدد، ووسمه بما لا يليق بالتشريع الإسلامي، وليكن نهجها معهن كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع امرأة كانت تسعى بالنميمة بين نسائه، حيث دعا عليها حتى ماتت .
ومما ينبغي أن تُنبَّه إليه الفتاة - بعد الصبر والحرص على الأجر - أن الزوجة الثانية فتاة مثلها، وأخت لها، وفي حاجة إلى النكاح، وقد تكون هي في يوم ما في موقعها وحاجتها، فلترض لها ما ترضاه لنفسها، ولا تستفرد بالرزق دونها، ولتقبل بما قسم الله تعالى لها .
42ـ أهداف تربية الفتاة الزوجية وخصائصها التربوية
أهم خصائص الفتاة الزوجية :
1- اختصاصها شرعاً بضرورة تقبل قوامة الزوج الأسرية، المستلزمة للطاعة في المعروف، في مقابل حسن العشرة من الزوج، وهذا يتطلب تربية الفتاة على حسن التبعُّل، ومعرفة مقام الزوج في التصور الاجتماعي الإسلامي .(1/326)
2- اختصاصها بالحاجة الملحة إلى الزوج لتتأهل به إلى مرحلة الرشد الكامل، فالأنثى يكمل نضجها الشخصي بدخول الزوج عليها، وحصول الحمل لها، وهذا الطبع يتطلب إعداد الفتاة للزواج، وإقناعها بضرورة النكاح، وخوض تجربة الزواج الإسلامي .
3- اختصاصها بأنها موضع استمتاع للزوج، بصفتها أنثى معقود عليها، فله أن يستمتع بها في الجسد والبضع إلا الدبر والحيضة، وهذا يتطلب تربية الفتاة على اتخاذ الأسباب المشروعة من الزينة، واللباس ونحوهما لما يحقق متعة الزوج، مع تجنبها كل ما من شأنه تنفيره منها، وزهده فيها .
أهداف تربية الفتاة الزوجية :
1- إيمان الفتاة الكامل بمبدأ الزواج الشرعي وتحريم ما عداه .
2- يقين الفتاة بأهمية النسل ورعايته كهدف أعلى للزواج .
3- تعرُّف الفتاة على الأحكام الشرعية للعِشرة الزوجية والتزامها بها .
4- اقتناع الفتاة بقوامة الزوج الأسرية وأهمية طاعته ضمن حدود الشرع .
5- إسهام الفتاة من خلال الزواج في حماية المجتمع من أسباب الانحرافات الخلقية .
التربية العقلية للفتاة
1ـ أهداف تربية الفتاة العقلية وخصائصها التربوية
أهم خصائص الفتاة العقلية:
1-اختصاصها بعمق تأثير طبيعة جنسها, ونوع مهمتها الاجتماعية على توجهاتها وميولها العقلية، وهذا يتطلب من منهج التربية التوافق مع هذه الطبيعة الفطرية عندها.
2-اختصاصها بانخفاض حجم إسهاماتها الفكرية في أكثر ميادين الإنتاج العلمي, مما يستلزم مساعدتها في تكوين قدراتها الإنتاجية والإبداعية, وحب الإنتاج العلمي.
3-اختصاصها بالتفوق في القدرة اللفظية, والتذوق الجمالي, مقابل إخفاقها في العلوم التطبيقية والهندسية والحسابية, وهذا يتطلب تعميق وتحسين مجالات تفوقها اللفظية والجمالية ضمن الحدود الشرعية, مع محاولة تحسين قدرتها على الإفادة الإيجابية من العلوم الأخرى بصورة عامة.(1/327)
4-اختصاصها بالحاجة المُلحة إلى المعارف الدينية كأولوية ثقافية, وضرورة شرعية؛ بسبب صعوبات تلقيها للعلم، وندرة الموارد الثقافية المتاحة لها, مما يحتم على منهج التربية إشباع هذه الحاجة عندها, وتوفير المعارف العامة والدينية بصورة خاصة كأوسع ما يكون .
5-اختصاصها بنظام تعليمي مرن ينسجم مع طبيعتها الفطرية ومهمتها الاجتماعية والأسرية، ويرتبط بهدف الإشباع المعرفي أكثر من ارتباطه بسوق العمل المهني.
أهداف تربية الفتاة العقلية:
1-تقبُّل الفتاة لاختلاف مستويات الملكات العقلية بين الجنسين حسب اختلاف وظائفهما الاجتماعية وطبيعة مهماتهما الإنسانية.
2-اقتناع الفتاة بمبدأ اختلاف مجالات التفوق بين الجنسين.
3-اقتناع الفتاة بتقديم وظيفتها الاجتماعية في الإنجاب ورعاية النشء على كمال إبداعها الفكري وإنتاجها العلمي.
4-إدراك الفتاة لتأثير الطبيعة الأنثوية على نوع ميولها العلمية واهتماماتها الفكرية.
5-تجنُّب الفتاة مبدأ المقابلة التنافسية بين الجنسين في ميادين الإنتاج الفكري.
6-إحكام معارف الفتاة العقلية المختلفة بسلطان الشرع.
7-حصر نظر الفتاة العقلي ضمن حدود القدرة الإنسانية والمعرفة العلمية المتاحة وَفق المنهج العلمي بعيداً عن الجرأة والظن بحيث يكون النقل الشرعي الصحيح مقدَّماً على العقل.
8-إشباع حاجة الفتاة المعرفية للعلوم الشرعية ومختلف المعارف العلمية المشروعة التي تهمها في تنمية مداركها العقلية والقيام بمسؤوليتها الاجتماعية.
9-مسارعة الفتاة في التطبيق الواقعي للمشروع من معارفها العلمية الصالحة.
10-إدراك الفتاة لحقها المشروع في الاطلاع بالوسائل المباحة على جميع أنواع المعارف العلمية الجائزة شرعاً.
11-العناية بجميع الجوانب الصحية المشروعة التي تؤثر على سلامة الفتاة العقلية.
12-تهيئة البيئة الاجتماعية إسلامياً لسلامة نمو مواهب الفتاة العقلية.(1/328)
13-تعويد الفتاة على استخدام قدراتها العقلية المختلفة بصورة صحيحة مشروعة.
14-تحرير عقل الفتاة من سلطان الفكر الغربي وإكسابها طرائق التفكير الإسلامي.
15-دعم اقتصاديات تعليم الفتاة بما يكفل تنمية مواهبها العقلية.
16-الاقتناع بضرورة التعليم للفتاة المسلمة وَفق منهج التربية الإسلامية.
17-دعم وسائل تعليم الفتاة بما يكفل إبطال خطط أعداء الإسلام التعليمية الموجهة إليها.
18-إعادة تشييد البناء العلمي المتفوق للفتاة المسلمة على نهج نساء السلف.
19-تضييق فرص الارتباط بين تعليم الفتاة وسوق العمل المهني بين حدَّي الحاجة والضرورة في مفهوم الشريعة الإسلامية.
20-مراعاة السياسة التعليمية ونظامها التطبيقي لخصوصية الفتاة في الحياة الاجتماعية الإسلامية ومسؤوليتها الأسرية في خدمة النسل ورعايته.
2ـ حاجة الفتاة الناشئة إلى التعليم
إن مواهب الفتاة العقلية التي حباها الله تعالى إياها لا يمكن أن تنمو، وتؤتي ثمارها الفكرية من تلقاء نفسها؛ بل تحتاج إلى رعاية وتربية تشترك فيها كل المؤسسات الاجتماعية، وتتعاضد جميعها لتبلغ بالفتاة أعلى درجات الكمال التي كتبها الله تعالى لها، وهذا لا يتم إلا بعد إزالة العوائق التي تحول دون تحقيق هذا الهدف.(1/329)
إن من أشد المظالم الاجتماعية التي يعاني منها الشباب: الحرمان من التعليم، والفتيات أكثر الفئات الاجتماعية تضرُّراً بنهج التَّجهيل، ففي الوقت الذي اتجهت فيه أوروبا قبل أكثر من مائتي سنة نحو محو الأمية، واحتفلت بعض دولها قبل أربعين سنة تقريباً بوفاة آخر أميٍّ عندهم: لم تزل بلاد المسلمين -في ذلك الوقت- غارقة في الجهل والأمية، والتخلف الحضاري في كل ميادين المعرفة الإنسانية، وكانت وسيلة الفتاة آنذاك للتعليم: ثروة أهلها ومكانتهم الاجتماعية، أو مدارس النصارى، أو شيئاً يسيراً من الكتاتيب الإسلامية العامة، وما بدأ التعليم الثانوي إلا في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي، ثم تبعته بعض معاهد المعلمات، ثم بدأ التعليم العالي في العقد الثالث منه، وما أن توسَّع تعليم الفتيات، وارتبطت به بعض المصالح الاقتصادية: حتى تغيرت نظرة المجتمع نحوه بالكلية، فأصبحت المسارعة فيه والحث عليه مكان المناهضة والممانعة له، حتى غدت أعداد الفتيات الملتحقات بمراحله المختلفة تفوق أحياناً أعداد الذكور.
إن من أساسيات التعليم في التصور الإسلامي أنه مشاع عام لا يُحجب عنه أحد ذكراً كان أم أنثى، وأي إعاقة للتعليم البنَّاء الجاد إنما هي -في الحقيقة- إعاقة للمواهب الإنسانية المكنونة، وكبت للطاقات الإنسانية الإيجابية، فلا يحق للمجتمع أن يقف عائقاً أمام تعليم أفراده، وتنويرهم بالعلم النافع الذي يُبنى عليه العمل الصالح.
3ـ التوسع في تعليم الإناث(1/330)
إن تاريخ الأمة العلمي شاهد على التوسع المعرفي الذي لا حدَّ له في تعليم الإناث، ضمن ضوابط الشرع؛ فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها تبلغ من العلم والمعرفة ما تفوقت به على كثير من أقرانها من الرجال، وتفردت به عن سائر نساء العالمين، فقد استقلت بالفتوى وهي ابنة ثمانية عشر عاماً، حتى إنها ما تكاد تأخذ علماً عن أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن تفوُّقها هذا لدنِّياً بغير سعي، فقد كانت شغوفة بالعلم، حريصة عليه، تُلحُّ في طلبه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،حتى قال عنها التابعي الجليل ابن أبي مُليكة: "إن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه".
وعلى هذا النهج القويم المنفتح سارت الأمة في تعليم النساء عموماً، والفتيات خصوصاً إلى أن بلغ بعضهن في العلم مبلغاً عظيماً: فعلا صيت بعضهن، حتى ارتحل إليهن الطلاب، وتكاثروا يأخذون عنهن ما تفرَّدن به من الرواية، حتى قال السخاوي عن إحداهن: "وقد حدَّثت بالكثير، سمع عليها الأئمة، وحملتُ عنها ما يفوق الوصف"، وربما وصل ببعضهن التوسع العلمي إلى أن تُوصف بست الفقهاء، أو مُسندة العصر، أو مسندة الشام، أو مسندة القاهرة، أو ست الوزراء، حتى بلغت بإحداهن المكانة العلمية ما جعل أهل الأرض ينزلون بموتها درجة في رواية صحيح البخاري، وبلغ بإحداهن دقَّة الحفظ، وشدَّة الضبط إلى أن تُعدَّل إحدى نسخ "الموطأ" على حفظها، وربما ناظرت إحداهن بعض علماء عصرها فكاتبتهم وحاورتهم.
إن هذا التفوق العلمي المذهل لبعض نساء السلف لم يكن لينطلق من مبدأ العفوية في التعليم، أو الانتقاء الخاص من السلطة الإدارية؛ بل ينطلق من مبدأ الانفتاح العلمي والمعرفة دون حد أو قيد، ودون استثناء أو تمييز لجنس أو عنصر، حتى يبلغ سماع إحداهن من نحو مائتي شيخ تقريباً.(1/331)
ومع كل هذا التوجه نحو الانفتاح في التعليم الرسمي لا يُفهم معه أنه طريق الفتاة الوحيد للتحصيل العلمي والتوسع المعرفي، أو أن من سلكته من الفتيات فقد تحقق لها التوسع العلمي المطلوب؛ فإن تدني المستوى العلمي لهذه المؤسسات التعليمية المعاصرة: ظاهر لا يكاد يخفى، واقتصار الفتاة عليه دليل ضعف شخصيتها، فإن التعليم بمعناه الشامل يفوق خبرات المؤسسة التعليمية ليصل إلى كل خبرات الحياة، ومعارفها المتنوعة، ووسائلها العلمية المتجددة، خاصة المتوافرة منها في الكلمة المكتوبة، فهي أسمى وسائل المعرفة على الإطلاق.
5ـ مساعدة الفتاة على التفوق العلمي
يمكن هنا استعراض مجموعة من الوسائل المهمة لمساعدة الفتيات على التفوق العلمي:
منها: تقوى الله عز وجل، فهي رأس الأمر، وميدان المعرفة الحقيقي، فإن الله بفضله وعد من اتقاه بأن يعلمه، ويفتح عليه ما أغلق، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، فإن العلم لا يحصل فقط بمجرَّد التعلم والجد في طلبه فحسب؛ بل إن النصيب العلمي الأكبر يحصل بما يفتحه الله على الطالب التَّقي من المعارف والعلوم، فبقدر التقوى يكون الفتح من الله تعالى، وبقدر ضعفها يكون فساد العقل وضعفه، وذهاب نوره، فلا بد أن تكون التقوى منطلق الفتاة الأساس نحو التعلم.(1/332)
ومنها: رفع مستوى طموح الفتاة العلمي، الذي بدوره يدفع نحو زيادة التحصيل، فتزداد الفتاة بذلك نجاحاً يعود عليها بمزيد طموح من جديد، وأفضل وسيلة لرفع هذا الطموح عند الفتيات: تجنيبهن الهموم والغموم، والانفعالات والتوترات النفسية الشديدة التي تُعيق وظائف العقل، والتأكيد على حسن التوافق الاجتماعي، وسلامة علاقات الفتاة الأسرية، مع أهمية الربط بين تفوق الفتيات العلمي وانتمائهن الأسري، فإن هذه الطريقة تنجح في إغرائهن نحو مزيد من العطاء العلمي أكثر من نجاحها مع الذكور؛ لكونهن أرغب من الذكور في التوافق الأسري، والقبول الاجتماعي، وإخفاق الوالدين في التعبير عن مشاعر الرضا لتفوق الفتاة قد يدفعها إلى التخفي بقدراتها المتفوقة رغبة منها في كسب رضى من تحب من حولها؛ فإن كثيراً من الفتيات المتفوقات يُخفين قدراتهن المتفوقة، ويظهرن بقدرات متواضعة خوفاً من فقد القبول الاجتماعي؛ فإن المجتمع بطبعه لا يحبذ كثيراً تفوق الإناث، لا سيما أمام أقرانهن من الذكور.
ومنها: مراعاة طاقة الفتاة وقدراتها، وعدم الإكثار عليها، فإن الرفق بالمتعلم ضروري، وتحميله فوق طاقته مضرٌ به، فلا بأس بشيء من التجديد والترفيه المباح، "يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كلَّ شيء من ذلك، أو ضعف بتنزُّهٍ وتفرُّجٍ في المتنزهات بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمان، وكان بعض أكابر العلماء يجمع أصحابه في بعض أماكن التنزه في بعض أيام السنة، ويتمازحون بما لا يضرهم في دين ولا عرض"، فلا بد أن يُراعى هذا الأدب التربوي في التعامل مع الفتاة المتعلمة، وأن تراعيه هي في نفسها، لا سيما في فترات الدورة الشهرية التي يقلُّ فيها عادة عطاؤها العلمي بصورة طبيعية، فلا ينبغي أن تشتد الفتاة مع نفسها، ولا يُشْتدَّ معها؛ "... فإن المُنْبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى"، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/333)
ومنها: توجيه الفتاة لأفضل طرق التعلم، باختيار أفضل أوقات التحصيل والمراجعة والحفظ، والتخفُّف من الملهيات والمغريات أثناء الدراسة، والتدريب على طريقة التركيز، فإنها أهم من طول الوقت المخصص للدراسة، ومع هذا فلا بد من تحديد زمن معين للاطلاع دون انفتاح لا حدَّ له، ومحاولة معرفة محتويات المادة العلمية ككل قبل الخوض في تفصيلاتها، مع التأكيد على أسلوب التكرار؛ فإن الملكات المتفوقة لا تحصل إلا من خلال منهج التكرار للأفعال، حتى تصبح ملكة راسخة، وصفة ثابتة، وأفضل وسيلة مساعدة على التحصيل الدراسي وتقوية الذاكرة بعد توفيق الله تعالى للفتاة: قراءة القرآن، ومحاولة حفظه؛ وقد أثبتت بعض الدراسات أن الطلاب الذين يحفظون كتاب الله تعالى هم أكثر الطلاب تفوقاً في باقي المواد النظرية منها والتطبيقية، إلى جانب تأثيره الإيجابي على تحسين الناحية الأدبية عند الفتاة، مع ما في قراءته وحفظه من الفضل و الثواب العظيم.
6ـ دعم اقتصاديات تعليم الفتاة المسلمة(1/334)
"يرتبط التعليم ارتباطاً وثيقاً بالجانب الاقتصادي في المجتمع؛ بل يتحدد هيكل النظام التعليمي وبناؤه ومدى أدائه لوظائفه، وتحقيقه لأهدافه بالموارد والإمكانيات الاقتصادية السائدة في المجتمع، كما يعتمد انتشار التعليم وما يخصص له من ميزانية على الظروف الاقتصادية للمجتمع"، فدول الخليج -مثلاً- لم تتوجه بجدية نحو تعليم الفتاة إلا بعد الوفرة الاقتصادية التي عمَّت المنطقة، فأصبح من المعروف الثابت: "أن علاقة التخلف التعليمي بالتخلف الاقتصادي ... علاقة قوية متينة" وأن تقدم دولة ما مرتبط بمقدار إنفاقها على التعليم، بمعدَّل لا يقل عن (20%) من مجمل ميزانيتها العامة، وأن قياس تحضُّر مجتمع ما مرتبط "بمدى قدرة أبناء هذا المجتمع على تلقي العلوم والمعارف والمهارات المستجدة على كافة الأصعدة"، وحتى على المستوى الأسري للأفراد فقد أثبت العديد من الدراسات أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الوفرة الاقتصادية للأسرة من جهة، وبين ذكاء أبنائها، وسلامة نموهم العقلي، وقدرتهم على الابتكار، وتفوقهم الدراسي، وتوافقهم الاجتماعي من جهة أخرى، مما يجعل للاقتصاد العام والخاص أهمية تربوية بالغة جداً.(1/335)
ومن هذه القاعدة الثابتة، والعلاقة البيِّنة انطلقت دول العالم - خاصة المتقدمة منها- في دعم التعليم بصورة كبيرة، حتى إن اليابان تنفق على التعليم قريباً من ضعفي ما تٌنفقه على النواحي العسكرية والأمنية، فانعكس هذا الإنفاق السَّخي على تلك الدول بمردود اقتصادي غير مباشر؛ حيث ظهرت لهم علاقة إيجابية جديدة بين حجم التعليم وتحسُّن المستوى الاقتصادي، فأصبحت العلاقة الإيجابية بينهما متبادلة، واستقر في الأذهان من جديد أن دعم التعليم في حد ذاته استثمار اقتصادي بصورة أساسية، فانطلقت الدول المتقدمة بصورة أكثر إيجابية نحو التعليم في حد ذاته دون النظر إلى مقدار استهلاكه، أو مردوده الاقتصادي باعتباره استثماراً في رأس المال البشري، الذي يمثل أثمن رؤوس أموال البلاد، فوصلت هذه الدول بعد تجارب، وخبرات طويلة إلى مفهوم الإسلام -المثالي الواقعي- عن العلاقة بين التعليم والاقتصاد، من أن المعرفة الصحيحة في حد ذاتها خير للفرد والجماعة، وهي مع هذا شرط للنمو والتحضر الإنساني، وتعمير الأرض، فالعلاقة بينهما متبادلة متماسكة بطبعها، لا تحتاج لمزيد ربط مُتكلَّف.
وقد أدرك السلف هذه العلاقة منذ عهد الراشدين رضي الله عنهم فدعموا التعليم بكل قوة على جميع المستويات المادية والمعنوية، وجعلوه مشاعاً بلا مقابل، مع تكافؤ الفرص للجميع دون تمييز اجتماعي أو جنسي ضمن الضوابط الشرعية، وفصلوه عن ميزانيات البلاد، وأنظمتها السياسية حتى لا يتأثر بتقلُّباتها ومستجداتها، ودعموه بالأوقاف، والعطايا السخية، وجعلوا أنظمته الإدارية مستقلة غير مركزية، فجاءت ثمار جهودهم واختياراتهم الاجتهادية مثمرة يانعة.(1/336)
إن هذه النظرة الإيجابية نحو التعليم كاستثمار إنساني, دون النظر للمردود الاقتصادي المباشر، هي النظرة المناسبة لتعليم الفتاة المسلمة حيث تُقدَّم لها المعرفة في جميع المستويات التعليمية لنفع نفسها كعضو في المجتمع الإنساني المسلم دون حساب ذلك من الاستهلاك الاقتصادي، ودون الالتفات من وراء ذلك إلى النفع المادي المباشر، تماماً كما كان السلف ينظرون إلى تعليمهن، فلا ضرر على الأمة من فائض المتعلمين، ولا خطورة من كثرتهم ذكوراً كانوا أو إناثاً؛ إنما الضرر والخطر في نقصهم، وقلة عددهم, وما ضعف التعليم في بلاد المسلمين في هذا العصر إلى الحدِّ المُخجل المحزن: إلا بعد أن أحكم السَّاسة قبضتهم على أنظمته، وربطوه بالسياسة والاقتصاد, وحرموه من العطايا والأوقاف, واستخدموه كأداة تربوية لتوجيه الأفراد للمصالح القاصرة والخاصة.
7ـ ضرورة التعليم الديني للفتاة المسلمة
نهج التعليم الديني في التصور الإسلامي يتجه في منحيين:
الأول: تعليم كفائي: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهو مجال التخصص والتعمق العلمي في الأحكام الدينية والشرعية.
الثاني: تعليم عيني: وهو ما يجب على كل مكلَّف تعلُّمُهُ، من أحكام الشريعة الأساسية، وضروريات العقيدة، "وما تواتر كونه من الدين, بحيث يعلمه عوام المسلمين من غير حاجة إلى نظر واستدلال"، وبذلك يقع في الإثم من قصَّر في تعلمها من الذكور والإناث، واستحق بتقصيره العقوبة التعزيرية التي تناسبه، وهذا النوع من التعليم الأساس الضروري: لا يصح من الأمة الإسلامية أن تدَّخر أيَّ جهدٍ -مهما كان يسيراً- في سبيل تعليمه للعامة على الوجه الصحيح بحيث تشعر الأمة بالعجز على الزيادة عليه، حتى يصبح متاحاً للجميع لا يجهله أحد.(1/337)
ومع هذا التوجه الإسلامي نحو علوم فروض العين: فإنها -في العصر الحديث- لا تجد في واقع الحياة التعليمية ما تستحقُهُ من الاهتمام في مقابل علوم فروض الكفاية، حتى أصبح جهل الفتيات بها عاماً لا يخفى، رغم أن "حاجة الأمة المسلمة للعلوم التي ترقى بها دينياً أشد من حاجتها للعلوم التي ترقى بها مادياً"، خاصة وأن حاجة الفتيات على الخصوص لهذه العلوم أشد من حاجة الفتيان إليها؛ فإن ما يحتجن إلى تعلمه منها أكثر مما يحتاجه الذكور؛ فتعلم مسائل وأحكام الدماء الطبيعية التي خصَّهُنَّ الله تعالى بها دون الذكور: تُعدُّ من أعظم المهمات العلمية التي يفتقرن لمعرفتها؛ لما يترتب عليها من الأحكام الشرعية الكثيرة المختلفة، مما يجعل ضرر الجهل بها أشد وأعظم من ضرر الجهل بغيرها من الأحكام الفقهية، فالتعليم الديني -من هذا المنظور- ضرورة شرعية ملحَّة للفتيات على وجه الخصوص، يتعلمن من خلال المنهج ما فرضه الله تعالى عليهن، من: العقائد، والعبادات، والأحكام التي لا يكون المسلم مسلماً إلا بها، وقد أثبت البحث الميداني الحديث افتقار الفتيات إلى هذا النوع من المعرفة الدينية، وميلهن إلى تعلمها، مما يؤيد ضرورة التوجه المنهجي نحو المعارف الدينية.(1/338)
وانطلاقاً من هذه الحاجة العلمية، والضرورة الشرعية: فقد جاءت توصيات بعض المؤتمرات الإسلامية موافقة لهذه المبادئ، حيث أوصت بضرورة الاهتمام بالمواد الدينية، وجعلها مواداً أساسية في جميع مراحل التعليم، وفي كل التخصصات العلمية، حتى تأخذ طريقها إلى الناشئة بشكل ميسور ومبرمج، فينشأوا عليها، متشربين آدابها وأخلاقها، وأعظم هذه المواد الدينية على الإطلاق، التي تستلزم بالضرورة مزيد اهتمام: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وما يتعلق بهما من العلوم والمعارف، فيكونان المحور الأساس لأنظمة التعليم في البلاد الإسلامية، فتُبنى جميع المناهج الدراسية لتوافق هذين الأصلين العظيمين، ويكون القرآن أداة التربية الإسلامية الأولى، كما كان عند السلف؛ بحيث يصبح المصدر المقياس لكل فكر يُراد وصفه بأنه إسلامي، والمنبع الأصيل لكل وجهة نظر تُنسب إلى الإسلام؛ وتكون أهداف مناهج التعليم الديني المنبثقة عن هذين الوحيين واضحة وبيِّنة للمربين وواضعي المناهج، بحيث ينطلق الجميع من أساسين اثنين في تدريس هذه العلوم الدينية للفتيات:
الأول: أن ينبعث تدريسها من كونها أفضل العلوم والمعارف على الإطلاق, وأن من أراد الله تعالى به خيراً: فتح عليه في هذه العلوم؛ لأن "أهم المعارف وأعلاها معرفة الله عز وجل، ومعرفة صفاته وحكمته البالغة, وآثار صنعته, ومعرفة تعاليمه وأحكامه", وفي الجانب الآخر: فإن "أقبح الجهل: جهالة الإنسان بالملك الدَّيان, وبأحكام القرآن, وبما أعدَّه الله في الجنان لأهل الطاعة والإيمان, وبما أعدَّه من النيران لأهل الجهل والعصيان", وعلى هذا النهج سارت المدرسة الإسلامية ومعاهد العلم في تاريخ المسلمين، فقد تجسَّدت فيها العلوم الدينية كأقوى ما يكون.(1/339)
الثاني: أن تُربط جميع المواد الأخرى لا سيما مواد العلوم الطبيعية بالوحي، بحيث تصبح هذه العلوم المادية تفسيراً عملياً لكتاب الله تعالى من نوع خاص، وحتى تكون هذه المواد كما أرادها الله تعالى: ميداناً للإيمان، ومحراباً للعبادة العقلية، في فترة من سن الشباب عند الفتاة، تتفتح فيها الاستعدادات العقلية والنفسية للاتصال بالوجود، والتَّطلع إلى عالم الغيب، وفهم المبادئ والمثل العليا بصورة أفضل.
8ـ مقترح لنظام تعليم البنات
التعليم حق للجميع ذكوراً وإناثاً، إلا أنه لم يجد الصيغ العملية المناسبة والكافية لإعماله في الحياة المعاصرة، ولاسيما بالنسبة للإناث، إما من جهة قصوره عن استيعابهن، أو تعطيله لأدوارهن الاجتماعية، أو إفساده لأخلاقهن.
ونظام تعليم البنات المقترح الذي يناسب أحوالهن ينطلق من ثلاثة معالم رئيسة، تعمل متفاعلة فيما بينها جنباً إلى جنب:
أ- نظام تعليم معرفي: يراعي إيصال المعرفة إلى الطالبات، ولا يتقيد بسن ولا مرحلة ولا سنوات, يسير بلا حدود في مرحلة واحدة مفتوحة، هدفه المعرفة ذاتها، التي تشبع العقل، وتنير الفكر, وليس هدفه سوق العمل. وهذا من شأنه إلغاء الامتحانات التقويمية، وبالتالي الشهادات التي أصبحت موضع إزعاج، في سبيلها يكون الغش، والخداع، والكذب، فيكون العلم بصدق للمعرفة وليس لغايات أخرى، وهذا من شأنه أيضاً فتح عيون الطالبات على جميع العلوم، والتخلص من الانتهازيات ليخلص العلم للراغبات بصدق. فإذا احتاجت الفتاة لشهادة علمية تقدمها إلى جهة ما لإثبات قدراتها: عُمل لها اختبار تقويم يحدد قدراتها.(1/340)
ب- نظام تعليم فردي: يراعي كل فتاة حسب حاجاتها وقدراتها وميولها العلمية، وهو مبني على تفريد التعليم والفروق الفردية، فليس من الضروري أن تقضي الفتاة مدة معينة في التعليم – تطول أو تقصر- بحيث يراعي هذا النظام طبيعة مهام الفتاة الاجتماعية فلا يؤخر زواجها، ولا يعطلها عن مهام أسرتها إضافة إلى أنه يستوعب جميع النساء كل حسب طاقتها، دون تعطيل لمهامهن الاجتماعية الرئيسة.
ج- نظام تعليم منزلي: يراعي الفصل بين الجنسين، وحاجة الإناث للقرار في البيت، والإشراف التربوي على الأولاد والقيام بالرعاية الأسرية، حيث تقدم المعرفة بكل فعالياتها التربوية إلى الفتاة في منزلها، بعد أن تقضي بضع سنوات أساسية في المدرسة التقليدية لاستيعاب بعض المهارات التعليمية العملية.
وقد أثبت هذا النوع من التعليم جدواه في القديم والحديث، فنساء السلف تعلمن في البيوت، وأولهن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، و الفاضلة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر الدينوري (574هـ) وفاطمة بنت محمد الإدريسي وغيرهن كثير، انطلقن من المنزل وإلى المنزل، وهذا هو الغالب من أحوالهن.
وكان أداؤهن للعلم لاسيما في الرواية، كان من وراء حجاب، فقد أنكر هشام بن عروة بن الزبير رضي الله عنهم على ابن إسحاق لما بلغه أنه يحدث عن زوجته فاطمة بنت المنذر فقال: "يحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر والله إن رآها قط"، فعلق الذهبي على هذا قائلاً: "هشام صادق في يمينه فما رآها، ولا زعم الرجل أنه رآها، بل ذكر أنها حدثته، وقد سمعنا من عدة نسوة وما رأيتهن". ويمكن تحقيق هذا النوع من التعليم عن طريق وسائل التعليم عن بعد، ولاسيما عن طريق التلفزيون التعليمي الذي أثبت جدواه، فتتعلم الفتاة في منزلها ما بعد الابتدائية.(1/341)
والواقع يشهد بمعاناة جمع من المعلمات السعوديات أزمة التعيين في المناطق النائية والبعيدة, حتى إن إحداهن تحتاج إلى السفر اليومي لمئات الكيلو مترات, وربما تضطر للسكن بعيداً عن أهلها وزوجها لأسبوع أو أكثر في أماكن قد لا تناسبها.
وقد عانت كثير من الفتيات الأمريكيات والأوروبيات مثل هذا وأشدَّ منه زمن الثورة الصناعية وما بعدها, حين فُتحت المصانع, فكانت إحداهن تسافر مئات الأميال مودِّعة أهلها لتسكن في مجمعات نسائية, تشبه إلى حد كبير السجون, مع ما فيها من الضيق, والأذى, وسوء المعاملة, إضافة إلى الاضطهاد في العمل, وسوء الأحوال الصحية, وضعف السلامة في مواقع العمل داخل المصانع.
والذي يُخشى منه أن يصيب المرأة السعودية ما أصاب الغربية, حين تقبَّل المجتمع صورة المعلمة المسافرة, والمقيمة بعيداً عن أهلها, فلا يبعد أن يتقبل في القريب صورة المرأة العاملة في المصنع, أو المؤسسة, أو الوزارة التي تقيم وحدها, أو في مجمعات سكنية بعيداً عن الأهل والأزواج, لتعاني طرفاً مما عانته المرأة الغربية.
لقد مرت أوروبا بأزمة الانفتاح على التعليم, حتى أصبح مطلباً شعبياً عاماً, يطلبه الجميع في المدن والأرياف, فكان لزاماً على الدولة تأمينه للجميع, وعندها فقد حلَّت بعض الدول هذه الأزمة بأسلوب التعليم عن بعد, عبر وسائل الإعلام المختلفة, فتخطوا الحواجز الطبيعية, وقطعوا المسافات الشاسعة بهذه الوسيلة؛ ليصلوا إلى الراغبين في المناطق النائية, وهذه تجربة ولا شك يمكن أن تخدم التعليم في بلادنا مع شيء من التطوير والتحسين.
9ـ تأكيد المنهج التعليمي على طبيعة الفتاة الجنسية(1/342)
لا يكاد يوجد مجتمع -بدائي أو متخلف- عبر التاريخ البشري لم يطبق نظماً تربوية خاصة بالإناث، إلا أن يكون شيئاً يُنقل عن بعض الأمم اليونانية, فإلى عهد قريب كان تعليمهن يختلف عن تعليم الذكور, ولم تُعرف الجرأة في الدعوة إلى توحيد مناهج الجنسين الدراسية من بعض المنتسبين إلى التربية إلا في العصر الحديث, رغم الواقع التاريخي، والطبيعة الفطرية التي تفرض نفسها على منهج التربية.
وقد أثَّر التطبيق العملي لهذا التوجه المنهجي الموحَّد في تعديل بعض السمات الجنسية, والاتجاهات النمطية للدور الاجتماعي لكل جنس, إلا أنه -مع ذلك- مازالت هناك فروق فطرية جوهرية تفرض نفسها على سلوك الجنسين, وتدفع بالمربين بطريق غير مباشر نحو تنميط الأدوار الاجتماعية بين الفئتين, مما يدل على أن الاختلاف بينهما لا يرجع فقط للظروف البيئية التي يفرضها منهج التربية؛ بل تشترك في ذلك العوامل البيولوجية بصورة قوية, من خلال طبيعة التركيبة الكيميائية, والهرمونات الأنثوية الخاصة, وطبيعة الجهاز العصبي, والتركيب الجسمي, الذي يفرض بمجموعه على الأنثى طابع جنسها, الذي يحتم -بالتالي- على منهج التربية شروطاً, ومواصفات تلائم هذا الطابع المتميِّز.(1/343)
وقد أشارت مجموعة من البحوث العلمية الحديثة إلى وجود اختلافات واضحة بين الجنسين في طبيعة وسرعة نمو القدرات العقلية, والجسمية, والجنسية, والنفسية, واللغوية, ومن المعلوم أن من أسس المناهج وضرورياتها توافقها مع مستوى النضج لجوانب شخصية المتعلم وقدراته المختلفة, مما يُحتِّم على منهج التربية أن يراعي ذلك, فيضع المنهج الذي يتناسب ويتوافق مع طبيعة نمو هذه القدرات المختلفة عندهن, حتى تظهر قدراتهن الخلاقة, وتنمو من خلال حساسيتهن وطباعهن الأنثوية, تماماً كما تظهر قدرات الفتيان الإبداعية من خلال طباعهم الذكورية, واستقلالهم الشخصي, وفي هذا المجال يقول "روسو" عن اختلاف الجنسين: "وما نعلمه علم اليقين أن ما بينهما من قسط مشترك إنما هو مستمد من اشتراكهما في النوع البشري, وأن ما بينهما من اختلاف إنما هو راجع إلى اختلاف الجنس, ومن هذين الوجهين نجد صلات كثيرة, وتناقضات كثيرة أيضاً, ولعله من أعظم آيات قدرة الخالق المبدع أنها صنعت كائنين فيهما كل هذا التشابه, وكل هذا التباين في آن واحد".
وبناء على هذا الطبع الفطري الضروري للجنسين: جاء التوجيه النبوي موافقاً لهذه الفطرة من جهة, ومحذِّراً من تداخل سلوكهما من جهة أخرى, فقد صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه " لعن المذكَّرات من النساء, والمخنثين من الرجال", حتى في مجرَّد الملابس؛ لكي يبقى لكل جنس طبعه الخاص المميِّز, فأي منهج للتربية يتبنى تداخل الأدوار السلوكية بين الجنسين, فإن الإخفاق مصيره المحتوم بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وبمخالفته للفطرة البشرية السوية.(1/344)
ومن هذا المنطلق أجمع كثير من المربين على ضرورة اختلاف مناهج التربية بين الجنسين في المرحلتين الإعدادية والثانوية, ووقع الخلاف بينهم في المرحلتين الأخريين: الابتدائية والجامعية؛ لأن اختلاف النمو بينهما -كما يرون- ينحصر في هذه الفترة, والصحيح أن الاختلاف بينهما يبدأ قبل المرحلة الإعدادية, فإن بلوغ الفتاة قد يبدأ من التاسعة, وإرهاصاته تسبق ذلك بيسير, والمنهج التربوي الإسلامي يتعامل بصورة مختلفة مع الذكورة والأنوثة من لحظات الحياة الأولى في: ذبح العقيقة, وأحكام الإرث, والختان, والطهارة, ونحوها, واتحاد الجنسين في منهج تربوي واحد في المرحلة الابتدائية لن يهيئ كل جنس لطبعه المناسب, ودوره المرتقب, حتى يفجأهما البلوغ بتكاليفه المتنوعة والمتباينة, كما أن هذه التكاليف لا تنحطُّ دفْعة واحدة على الفتيات عند البلوغ؛ بل يتربين عليها قبل ذلك بزمن, ويتهيَّأن لها, فإذا حصل البلوغ كنَّ مستعدات علمياً ونفسياً وعقلياً للتكليف, وما يترتب عليه من أحكام وآداب خاصة بهن, كما أن من المستقبح المخْجل أن يطَّلع الفريقان قبل البلوغ على المعلومات المحرجة والخاصة بكل جنس.
إن هذه المسوغات ونحوها تجعل من المؤكَّد ضرورة اختلاف المناهج التعليمية بينهما على كل حال, وألا يكتفي المنهج بسطحية الاختلاف دون الجوهر كما هو واقع مناهج بعض البلاد الإسلامية للأسف.(1/345)
ولا ينبغي أن يُفهم من ضرورة وجود هذا الاختلاف في طبيعة المنهج التعليمي أنه الحطُّ من عنصر الأنوثة, أو إظهارها في أدوار مشينة كما يظهر للبعض؛ ولكن المقصود إبراز تساوي القيم الذكورية والقيم الأنثوية دون مطابقتهما, بحيث يُبنى المنهج ليحقق في الفتاة ما به كمال الأنوثة, فتعلو بها إلى أسمى مراتبها؛ لأنها لا تكمل إلا بكمال أنوثتها, كما يجنبها من جهة أخرى أن تنحط بضعف الأنوثة, لتبقى قابعة في المستوى الغريزي الحيواني, أو أن تنهج المسلك الاسترجالي المستقبح, وفي كليهما ضلال الأنثى وهلاك المجتمع.
10ـ مراعاة المنهج التعليمي طبيعة الفتاة الوظيفية(1/346)
إن من سمات المجتمع المتحضر: "أن تكون الأسرة هي قاعدة المجتمع, وأن تقوم الأسرة على أساس التخصص بين الزوجين في العمل", بحيث تتباين أدوارهما الاجتماعية وتتكامل حسب الوظيفة الطبيعية لكلٍّ منهما, فيُنشَّأ كلُّ جنس بما يقتضيه طبع الخلْقة, والدور الاجتماعي المنوط به, فالذكر ينشأ ذكراً, والأنثى تنشأ أنثى, فيُهيأ الجميع من الصبيان والبنات لأدوارهما العائلية المرتقبة, على أساس الوظيفة من أول الأمر دون تأجيل؛ فإن "تربية المرأة لا تختلف في معناها وطبيعتها عن تربية الرجل إلا بما تقتضيه الفروق الجسمية والعقلية والنفسية بينهما, وما يقتضيه الاختلاف في الوظائف المرغوب إعداد كل منهما لها", حيث يتَّحدان في أساسيات المنهج فيما يتعلق بالعقيدة والنظرة إلى الحياة, وأصول الأخلاق والآداب ونحوها, ويختلفان في نهج الإعداد للحياة الزوجية, والرعاية الأسرية, والأدوار الاجتماعية العامة, وما يحتاجه كل منهما من العلوم والمعارف لينجح في أداء وظيفته, فالتعليم لا بد أن يخدم الفتاة في جانبين، الأول: تعليمها العلوم والمعارف المشتركة التي يتحد فيها الجنسان, والثاني: تعليمها ما تحتاجه من العلوم والمعارف الخاصة بالإناث، للقيام بوظيفتها الأنثوية, ودورها الاجتماعي, وبذلك تكون مهمة العلم خدمة العمل.(1/347)
وقد سلكت المجتمعات البشرية منذ القديم وإلى عهد قريب مبدأ التربية حسب الوظيفة, حتى في بعض المجتمعات الاشتراكية التي ترفض مبدأ تنميط الأدوار الاجتماعية بين الجنسين, في حين ما زالت فئات من الناس تتجاهل مشروعية ومعقولية قيام هذا المبدأ المزدوج في تربية النشء, حتى أصبح من الشائع المسلَّم به عندهم: أن تنميط الدور الجنسي دمَّر المرأة، وحرمها من تحقيق النجاح المهني, وأخذوا من خلال بعض المؤتمرات التربوية, والبحوث العلمية: يوصون بتجاهل الفوارق البيولوجية بين الجنسين, التي تُحتم اختلاف أدوارهما الاجتماعية, حتى إن بعض المدارس العربية قامت بالفعل بتطبيق مناهج عملية تخلط فيها بين أدوار الجنسين الاجتماعية.
إن الغموض في تصورات هؤلاء المعارضين لاختلاف مناهج الجنسين التربوية لا يكمن -غالباً- في إنكار اختلاف الطبائع الخلْقية والخُلُقية بين الجنسين؛ إنما يكمن في تجاهلهم لطبيعة دور الأنثى في المجتمع, وطبيعة مجالات تفوقها, حيث يُقحمون دورها الاجتماعي ضمن المجال المهني: فيظهر بالتالي إخفاقها؛ لكونه ميدان تنافس الذكور وتفوقهم, يقول العلامة عبد الحميد بن باديس عن اختلاف الأدوار الاجتماعية بين الجنسين: "علينا أن نكمِّل النساء تكميلاً دينياً, يُهيئهنَّ للنهوض بالقسم الداخلي من الحياة"؛ ويفهم من ذلك أن القسم الخارجي خاص بالذكور.(1/348)
إن التربية الزوجية, ورعاية الطفولة, وخدمة الأسرة أسمى ما تتربى عليه الفتاة المسلمة بعد تعلُّم أحكام دينها وفروضه الضرورية, بحيث يستقر في نفسها دون تردد أو شعور بالنقص -كما يظن البعض- أن هذه المهمّة الوظيفية هي أرقى وأجل مهن الإنسان على الإطلاق, وأن التنويع والتعدد في مهن الذكور لا يقلل من شأن التوحُّد والمحدودية في مهن الإناث؛ لشرف مقام صناعة الإنسان, ورعاية النوع, فبقدر ما في مهن الرجال من التعدد والاختلاف: يكون في أساليب ووسائل طرق التربية والتنشئة من التنوع والتجديد الإيجابي.
إن ضلال مناهج التربية الغربية المعاصرة عما كانت -إلى عهد قريب- تدعو إليه بقوة من تأييد وظيفة الفتاة الأسرية في الإنجاب, ورعاية النشء؛ لا يبرر للأمة الإسلامية النكوص عن هذه المسلمات الوظيفية الفطرية, خاصة وأن اليابان الحديثة لا تزال حتى اليوم تتبنى في مناهجها التربوية هذه المهام النسائية بكل قوة, من خلال جامعات وكليات متخصصة في إعداد الفتيات للمهام الأسرية بصورة خاصة, ولعل هذا النهج التربوي هو السبب الرئيس في تفوق شعب اليابان التقني, وتقدمه العلمي.
11ـ مراعاة المنهج التعليمي لحاجات الفتاة الواقعية(1/349)
إن من مقومات صلاح المنهج التعليمي ربطه بين النظرية والتطبيق, بحيث يكون منهجاً واقعياً قابلاً للتطبيق والممارسة في واقع الحياة, فإن الاتفاق قائم عند خبراء التربية المعاصرين على أن: "دور التعليم ينبغي أن يكون تزويد الطالب بالمعرفة القابلة للاستعمال والتطبيق في الحياة العملية التي يُعايشها في كل يوم", إلا أن الواقع التربوي المعاصر يشهد بعجز منهج المؤسسة التعليمية عن تزويد المتعلم بالمهارات والمعلومات التي يحتاجها في واقع الحياة, فلا يتعدَّى دورها تزويد الطالب بما يُؤهله للنجاح في الاختبارات التقويمية, دون ما يُؤهله للإنتاج النافع في الحياة الاجتماعية التي يعيشها, فواقع المتخرجين من جميع المراحل التعليمية وحتى الجامعية لديهم قصور بيِّن, وهم في العموم دون المستوى المأمول, وواقع العالم الإسلامي, وطبيعة المشكلات التي يعاني منها: تدل بوضوح على الإخفاق الكبير الذي مُنيت به المؤسسة التعليمية ومناهجها المطبَّقة, حتى لكأنه مصداق قوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: "... أن يقل العلم, ويظهر الجهل ...", وكل ذلك رغم وفرة المعلومات, وانتشار المعارف.
والفتاة المسلمة المعاصرة لا يمكن أن تنجو من التأثر العام بهذا القصور الواقعي؛ بل ربما نالت منه النصيب الأوفر, فمنذ بدايات التعليم والواقع يُشير بأنهن لا يجدن في مناهج التعليم العام ما يلبي حاجتهن الخاصة, أو يساعدهن على مواجهة متطلبات الحياة الاجتماعية بصورة جيدة؛ لكون طاقاتهن التحصيلية مبعثرة في معارف وعلوم لا تخدم واقع حياتهن العملية, ولا تلبي حاجاتهن المعرفية.(1/350)
إن هذا الوضع التربوي القاصر بالخبرات التعليمية عن واقع الحياة: لا يمكن أن يخرِّج إنساناً سوي الشخصية, مستقر النفس, متوافقاً مع مجتمعه؛ لأن المتعلم لا تنمو شخصيته بصورة متكاملة حتى يكون قادراً على مواجهة أعباء الحياة اليومية بالقدر الكافي لتحقيق النجاح؛ ولهذا فقد انشغل جمعٌ من خبراء التربية الإسلامية بوضع معالم, وتصورات, ومقترحات لطبيعة مناهج التعليم العام للجنسين, بما يكفل تحقيق أهداف التربية الإسلامية من جهة, ويلبي -واقعياً وعملياً- حاجات الذكور والإناث المعرفية من جهة أخرى.
إن على منهج التربية حتى يكون إسلامياً, ومقبولاً اجتماعياً, وقابلاً للتطبيق في واقع الحياة العملية للفتيات: أن يراعي في بنائه مجموعة من القضايا التربوية المهمة:
منها: تعريف الفتيات بفروض الاعتقاد, وبيان نظرة الإسلام إلى الكون والإنسان والحياة, مع تعريفهن بعلاقتهن العضوية بالكون من حولهن؛ لأنهن في هذا السن يتساءلن عادة عن هذه القضايا, وموقعهن منها, وربما لازم بعضهن الشك, في بعض هذه المسائل, فتعريفهن بهذه الفروض يلبي عندهن حاجة نفسية, وعقلية ملحَّة، إلا أن من المفضَّل أن تُعلَّم الفتاة مسائل العقيدة والفروض المهمة في سن المراهقة قُبيل البلوغ؛ حتى لا تقع عليها التكاليف الشرعية إلا وقد تمكَّنت هذه المفاهيم من قلبها, وسكنت إليها نفسُها, وذلَّت بممارستها جوارحها.(1/351)
ومنها: ربط المعارف الدينية بواقع حياة الفتيات, بحيث يشعرن أن الدين مرتبط بالحياة الواقعية, ومتجلٍّ في سلوك الفرد, وعلاقته بخالقه, ومعاملته مع أفراد مجتمعه, ويصور للمكلَّف ما ينبغي "أن يكون عليه الفرد في دنياه, وإلى ما سيؤول إليه أمره في أخراه", فلا يكون منهج التربية مجرَّد تعليم للدين, لا واقع له, يصرف المتعلمين عنه بصورة غير مباشرة؛ بل ينبغي أن يكون تدريباً على التطبيق والممارسة الحياتية؛ حتى يكون الدين هو السلوك والصورة الأصلية في الحياة اليومية, فيصبح له مغزىً وظيفياً مرتبطاً بواقع الفرد, ومعاملاته الشخصية والاجتماعية.
ومنها: تزويد الفتيات بالمعلومات النسائية الخاصة، فإنها مجال اهتماماتهن, ومحور كثير من علومهن ونقولهن منذ عهد السلف, وغالب مجالات استفساراتهن, حتى لكأن هذه المسائل الخاصة أصبحت طابعاً على معارفهن, حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها في وصف عظم اهتمام الأنصاريات رضي الله عنهن بعلوم النساء الخاصة: "نعْم النساء نساء الأنصار, لم يكن ليمنعهن الحياء أن يتفقَّهن في الدين", فلا بد للمنهج التعليمي أن يشبع في الفتيات هذه الرغبة العلمية الفطرية, بصورة عملية متدرجة, تربط بين المعلومة العلمية والحاجة الواقعية برباط وثيق, يشعر معه الفتيات بفقرهن إلى المنهج لإشباع حاجاتهن الخاصة, بعيداً عن مصادر المعلومات الاجتماعية المشبوهة.(1/352)
ومنها: التركيز العلمي على العلوم الضرورية -فروض العين- فتُعلَّم الفتاة من العلوم والمعارف المختلفة ما تحتاج إليه, وما تحقق به القدر الكافي من الثقافة النسوية, التي تؤهلها لدورها الاجتماعي التربوي دون توسع مفرط, فإن العبرة بنوع العلوم, ومدى الحاجة إليها وليس بكثرتها, "ففي العصر الحاضر يجب أن تكون العبرة لاختيار ما يُعلم لا لحجمه، فالمادة العلمية كثيرة وغزيرة, ولا ضرورة لإرهاق المتعلم بها كلها؛ بل يكفيه منها الأسس والمبادئ القائدة إلى تعلم ذاتي أوسع وأعمق".
ومنها: إشباع المنهج لميول الفتيات العلمية المختلفة, وذلك بعد أن يكون قد استكمل تزويدهن بالمعارف الضرورية, بحيث يعمل المنهج -بصورة غير إلزامية- على إشباع حاجاتهن, ورغباتهن إلى المعارف والعلوم المتنوعة المباحة, ضمن نظام منهجي مرن, يحقق لهن المعرفة الصالحة التي يرغبن فيها من خلال دوافعهن, وميولهن الذاتية, يقول ابن حزم رحمه الله: "من مال بطبعه إلى علم ما -وإن كان أدنى من غيره- فلا يشغلها بسواه".
12ـ أنواع معارف الفتاة العقلية
يميل البعض إلى حصر معارف الفتاة في أنواع معينة من العلوم التي تخدم دورها الاجتماعي, ولا تخرجها عن طبيعتها الأنثوية, وغالباً ما يكون ذلك على حساب العلوم الطبيعية باعتبارها ميداناً خاصاً بالذكور؛ لكونها مرتبطة عضوياً بالجانب العملي الميداني الذي لا يناسب الإناث في الغالب.(1/353)
ولعل النظرة المتأنية إلى هذه العلوم الطبيعية في التصور الإسلامي يكشف للمتأمل جانباً آخر لعلاقة هذه العلوم بالناحية العقلية عند الفتاة المسلمة، فمع كون هذه العلوم مهمة وضرورية لحياة الإنسان ومعاشه، ومحطَّ اهتمام الدول المعاصرة بصورة عامة: فإنها إلى جانب ذلك ميدان واسع ومهم لنشاط العقل البشري، ووظائفه الكبرى في الكشف عن السنن الإلهية في نظام المخلوقات المبثوثة في هذا الكون؛ "فإن كل ما يدركه بصر الإنسان أو حسُّه هو مادة تستحق منه بذل الجهد العقلي للكشف عن كنهها، ومعرفة حقيقتها، واستنباط قوانينها".(1/354)
والقرآن الكريم يحمل المكلَّفين بقوة نحو البدء بالمعرفة عن طريق هذا الوجود المادي المحسوس, ويجعل "السند الجديد لمعارف البشر مستنبطاً مما يرونه ويسمونه ويلمسونه من سنن الله تعالى في الخَلْق, ومن بديع صنعه في الأشياء المادية", فقد خصَّ المولى عز وجل في كتابه العزيز مساحة ضخمة, ربما تعدل ثمن آياته, كُلُّها "تدعو المؤمنين إلى دراسة الطبيعة, وبذل الجهد العقلي في البحث عن المعرفة", منها نحوٌ من خمسين آية تحث على التَّعلُّم من خلال النظر في الأرض خاصة, والسير في مناكبها, كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:3-5], وقوله أيضاً: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... } [يونس:101], يقول ابن كثير معلقاً على هذه الآية: "يرشد تعالى عباده إلى التفكر في آلائه, وما خلق الله في السموات والأرض من الآيات الباهرات لذوي الألباب, مما في السماوات من كواكب نيِّرات, ثوابت وسَّيارات, والشمس والقمر, والليل والنهار".(1/355)
إن هذا التوجيه الرباني نحو الكون وعلومه يُحيي في النفس الخشية لله تعالى, وتعظيمه؛ إذ بثَّ سبحانه وتعالى في جنبات هذا الكون دلائل وجوده المادي, وعظيم قدرته, حتى إن "العالم المادي متى تجاوز في تفكيره حدود ظواهر المادة وصل حتماً إلى الإيمان", وقد صرَّح جمع من العلماء الغربيين بوجود الله تعالى, وعظيم قدرته, متأثرين بوطأة هذه المعارف الكونية الكبرى على نفوسهم وعقولهم؛ إذ لا يسع "الإنسان العادي أمام كل ظاهرة من هذه الظواهر الكونية, فضلاً عن الباحث المتطلِّع إلى معرفة أسرار الكون, والمعنيِّ بالكشف عن نواميس الطبيعة: إلا أن يقف مبهوراً أمامها, مأخوذاً بعظمة مبدعها وصانعها, هاتفاً من أعماق قلبه مع كتاب الله إذ يقول: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ...}".
ومع كون هذه المعارف العلمية الطبيعية تزرع في القلب عظمة الخالق وإجلاله, والخوف منه والشوق إليه, والإخلاص له: فإنها إلى جانب هذا تُشيع في "النفس الطمأنينة والأمن؛ إذ تعرف الأسباب التركيبية والقانونية لسيرورة الكون في أحداثه ومنقلباته, فلا يبقى مجال ... لتفسيرات الخرافة والأوهام, واليأس والتشاؤم ... تُعرقل مسيرة التقدم الروحي للإنسان" فكل مدَّخرات الكون المادية مرتبطة في التصور الإسلامي بالقيم الروحية, فلا تكون مادية صرفة؛ بل لها تأثيرها الخاص في داخل النفس الإنسانية.(1/356)
إن أقلّ درس يمكن أن يجنيه المكلَّف من هذه العلوم المحكمة الدقيقة: الشعور بالمسؤولية, والانضباط أمام التكاليف الاجتماعية المختلفة؛ فقد أثبت البحث الميداني أن طلاب وطالبات الكليات العلمية التطبيقية يفوقون أمثالهم من كليات العلوم الإنسانية والتربوية في الانضباط الاجتماعي, ولعل ذلك الانضباط يحصل لهم من التأمل في أجزاء هذا الكون المحكم, من عظيمها إلى حقيرها, حيث يجدون الكلَّ يعرف يقيناً ماذا يصنع؟ وكيف يسلك؟ وماذا يريد؟ في صورة متناسقة متزنة بديعة, تفوق الوصف.
ولما كانت أهمية النظر والتفكر في آيات الكون وعلومه المختلفة بهذا العمق التربوي, والأهمية الإيمانية البالغة: أجمع أهل العلم على "جواز السفر وشد الرَّحل لغرض أخروي, كالاعتبار بمخلوقات الله عز وجل, وآثار صنعه, وعجائب ملكوته ومبتدعاته", ومن هنا تظهر أهمية العلوم الطبيعية كالفيزياء, والكيمياء, والجيولوجيا, ونحوها؛ لكونها مادة الكون التي وجَّه إليها القرآن الكريم بالنظر والتسخير, ويظهر أيضاً بوضوح جواز تعلم الإناث لهذه العلوم؛ لكون الخطاب القرآني في هذه الآيات إنسانياً وليس بذكوري, موجَّهاً للمكلفين من نوعي الإنسان, ثم إن الفوائد الإيمانية والنفسية التي يمكن أن يجنيها الذكور من تعلم هذه العلوم الكونية هي عين الفوائد التي يمكن أن يجنيها الإناث أيضاً من تعلم هذه العلوم, سواء بسواء, مالم يصرفهن تعلم هذه العلوم عن وظيفتهن الرئيسة في الحياة الاجتماعية, أو يسوقهن إلى ممنوع شرعاً, فيقعن في الحرج والإثم, كما يقع فيه الرجل الذي يُشغله النظر في هذه العلوم أو في غيرها عن إعالة أهله وأطفاله, فليست المسألة هنا ذكورية بل إنسانية يشترك فيها الجنسان.
13ـ ضوابط معارف الفتاة العقلية
هناك ثلاثة ضوابط يمكن من خلالها التحكم في معارف الفتاة, وتحديد الجائز منها والممنوع على النحو التالي:(1/357)
الضابط الأول: سلامة المعلومة, بحيث تتعلم الفتاة من العلوم ما شاءت مادامت في أصلها مباحة, فلا يحدُّها في تعلُّم علمٍ ما إلا ما يحدُّ المؤمن بصورة عامة, فقد تعلم كثير من نساء السلف علوماً لا علاقة لها بعنصر الإناث, "فالتعليم عنصر ينبغي أن يدخل في كل منحى من مناحي الحياة, ويتداخل مع كل عنصر أو مظهر من مظاهر عملية الهداية".
الضابط الثاني: سلامة الوسيلة، بحيث تسلم وسيلة نقل المعلومة إلى الفتاة, وطريقة عرضها من الحرمة أو الكراهة التي تفضي إلى المنع منها سداً للذرائع المفضية للممنوعات؛ لأن "للوسائل أحكام المقاصد من الندب والإيجاب, والتحريم والكراهة, والإباحة", بحيث لا يبرر شرف المعلومة قبح وسيلة نقلها.
الضابط الثالث: سلامة الهدف, بحيث يجتمع لسلامة المعلومة وسلامة وسيلة نقلها: سلامة الهدف من تعلمها, فالعلوم الطبيعية مادامت منحصرة في جانبها النظري, دون جانبها التطبيقي الميداني -الذي لا يناسب عادة طبيعة الإناث- فإنها مباحة, ومن الصعوبة بمكان القول بالتحريم أو حتى الكراهة, بل ربما كان القول بالاستحباب أقرب؛ لأن الانتفاع بالكون, والاستفادة بما فيه من الآيات الباهرات: أمر مشاع بين الجنسين, يحقق لكليهما -بدرجة واحدة- المقصود من النظر والتفكر الذي أمر الله تعالى به في قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ آل عمران:190]، كما أن الذم المضروب على الغافلين من تاركي التفكر: يلحق المفرِّط من الجنسين معاً, ولعل أقلَّ انتفاع يحصل للمطَّلع على هذه العلوم هو اللذة, فإن الاطلاع على المعارف من أعظم ملذات الدنيا.(1/358)
ومن هنا فإن الاختلاف بين الجنسين لا يكمن في مبدأ العلم بهذه المعارف الكونية والاستمتاع بها؛ وإنما الاختلاف بينهما يكمن في أسلوب التسخير الكوني -الذي كلَّف الله به الإنسان- فالذكور يشملهم جانبا التسخير: النظري والعملي؛ لكونهم مهيئين جسمياً وعقلياً لذلك, وأما الإناث فيشملهن الجانب النظري الذي يملن إليه طبعاً؛ لكونهن مهيئآت لذلك عقلياً كالذكور, وأما الجانب العملي؛ فلاختلاف طبيعة مهمتهن في الحياة الإنسانية, يكون دورهن في التسخير الكوني غير مباشر؛ إذ هن المورد الوحيد لأدوات التسخير -الذكور- من العنصر البشري, فكلا الجنسين -بهذا الفهم- يشتركان في التسخير الكوني, كل حسب نظام هدايته كما قال الله تعالى: {...الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50], أي: "خلق الخلق, وقدر القدر, وجبل الخليقة على ما أراد, فهم ماشون على ذلك لا يحيدون عنه", وقد أثبتت بعض الدراسات الميدانية تفوقهن التحصيلي في مجالات العلوم التطبيقية والرياضيات مادامت هذه العلوم منحصرة في جانبها النظري دون العملي, فليس كل من تعلم هذه العلوم من الفتيات يرغبن في ممارستها ميدانياً.
14ـ الربط بين المعرفة العقلية والأخلاق في سلوك الفتاة المتعلمة(1/359)
تحاول الحضارة الغربية منذ القرن السابع عشر الميلادي، من خلال أنظمتها التربوية أن تفصل في أذهان المتعلمين بين العلم والأخلاق، "في الوقت الذي تشهد فيه حضارتهم المعاصرة: أن النمو في المعرفة العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية يواكبه بالضرورة سلم من القيم والمفاهيم المرتبطة بها"، فالكشوف العلمية، والمخترعات المختلفة تحكمها قيم المجتمع، فتوجهها إلى الخير، أو توجهها إلى الشر، يقول الأستاذ مالك بن نبي: "إن العلم بحرصه على الحقيقة يصبح أخلاقاً، لا يطيق الصبر على الخطأ حتى يجري التصحيح اللازم، العلم ليس ضد الأخلاق، ولكن الأخلاق ثمرة العلم وخلاصة المعرفة والتجارب"، والأصل:أن العلم النافع يؤثر بصورة إيجابية في سلوك الإنسان، ومصطلح العمل في مفهوم الإسلام يتسع ليشمل جميع السلوكيات والممارسات الأخلاقية المتنوعة، ومن هنا: فإن العلم ليس مجرد نشاط عقلي إنساني؛ بل هو علاوة على ذلك: نشاط اجتماعي وأخلاقي من الدرجة الأولى، والتقدم العلمي المادي....لا يكفي وحده، مالم تضبطه القيم الخلقية فتوجهه لصالح الإنسان".
ومن خلال هذا الارتباط العضوي الوثيق بين المعرفة والأخلاق تأكَّد لدى المربين المسلمين أن الهدف الأعلى من التربية والتعليم: تهذيب الأخلاق، وتربية الأرواح على الفضيلة، والآداب السامية، وليس مجرَّد حشو أذهان المتعلمين بالمعلومات والمعارف، فتنسجم المعرفة بهذا الارتباط مع روح الدين الإسلامي، ومبادئه الخلقية السامية لتصبح "مطية للدين، وقوة للأخلاق، وسنداً للإيمان، ووسيلة للعمل"، يقول أبو زكريا العَنْبري مبيِّناً الارتباط الوثيق بين الأخلاق والعلم: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسد".(1/360)
ورغم وضوح هذه العلاقة بين المعرفة والأخلاق، وجلائها حتى عند بعض عقلاء الغرب في القديم والحديث: فإن جمعاً من المهتمين بتربية الإناث في العالم العربي يحاولون منذ زمن التهوين من هذه العلاقة، زاعمين- بإطلاق- أن المعرفة هي الفضيلة، وأن الجهل هو الرذيلة، متناسين أن الصلاح بمفهومه الشامل للاعتقاد والسلوك هو الغاية الكبرى من تربية الفتاة، وأن العلم- مهما بلغ من الاتساع والصحة- لا يؤهل بالضرورة صاحبه- بصورة دائمة- للتفوق والصدارة؛ فإن هناك عوامل أخرى تتدخل في تقويم درجات الفضل، ومكانة الإنسان، ولا سيما في عالم النساء؛ فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها رغم أنها بلغت من العلم والمعرفة ما لا مزيد عليه، وانتفعت الأمة قاطبة بعلمها عبر الأجيال، فإن هذا كله لم يُؤهلها للتفوق على السيدة خديجة، أو التقدم عليها في الفضل-بإجماع المسلمين- رغم انحصار خيرها وجهادها في شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون سائر الأمة، إلى جانب أنه لم يُؤْثر عنها في باب العلم شيء يُذكر، فليست المعرفة في حدِّ ذاتها كافية لبلوغ الفضل والمكانة في التصور الإسلامي.(1/361)
إن التاريخ يشهد بأن تعليم الفتاة إذا لم يقم على الربط الوثيق بين المعرفة والأخلاق فإنه يجرُّ مفاسد وانحرافات عظيمة، ربما تفوق في جملتها مفاسد الأمية والجهل بالمعارف العلمية، فالرابطة بين التقدم العلمي الحديث، والانحراف الخلقي غدت وثيقة إلى أبعد حد، وأصبحت مؤسسات تعليم الفتيات وسيلة ناجحة: لعبور المعارف والتصورات المنحرفة، مثل: الشذوذ والهوس الجنسي، ومشكلات الإجهاض، وتحديد النسل، ونزع الحجاب، ودعم الاختلاط المشين، إلى جانب الجراءة الاجتماعية، وضعف الأنوثة، واختلال القيم، والتمرد الأسري، والعجيب أن غالب داعيات التحرر كنَّ للأسف من المتعلمات المثقفات، ولا سيما من الملتحقات بالتعليم العالي، وكأن تعليم الفتاة أصبح اليوم في كثير من الأمصار أداة هدم لكيان الأمم، ووسيلة قوية لأفول حضارة اليوم واضمحلالها، في حين لو وجدت التربية الإسلامية بنظامها الشامل المتكامل "طريقها بجد إلى نفوس الناشئة من شباب وفتيات في جميع مراحل التعليم، فإن ذلك من شأنه أن يصبغ تدريجياً معظم الوضع الاجتماعي بالصبغة الخلقية الإسلامية"، التي تجمع في بنائها للفرد بين المعرفة الصحيحة، والخلق القويم، وهذا ما دعا المهتمين بجُنَاح الأحداث إلى التأكيد على ضرورة الاهتمام بالتربية الإسلامية، وتطوير مناهج التعليم العام بما يعزز القيم الخلقية، والسلوك الحسن؛ بهدف المحافظة على النشء من الانحراف.(1/362)
إن الذي يجب أن تعلمه الفتاة المسلمة المعاصرة، وتتيقَّن منه: أن أي علم لا يضبط سلوكها، ولا يبعدها عن المعاصي، ولا يحملها على الطاعة: لن ينجيها غداً من عذاب الله تعالى وسخطه؛ فإن ثمرة العلم: الخوف من الله تعالى، والحياء منه في الأقوال والأعمال، وفي سائر الأحوال، "كما ينبغي ألا تفهم الحرية الشخصية على أنها الاستجابة للشهوات، فتلك هي حرية الحيوان الذي لا يستطيع أن يتحرر من عبودية شهواته"، كما أنه لا خير في تعليم ليس له نظام قيمي خلقي، يُرشد إلى الفضيلة والخير، ويربي عليهما، ويساعد على التَّمييز بين الحلال والحرام، والخير والشر، فإن هذا النوع من التعليم القاصر كفيلٌ بأن يطفئ نور العقل، ويُنقص الفهم، ولن تجني الفتاة منه سوى مزيد من الانحراف والضلال، فإن "التربية الخاطئة هي أهم العوامل البيئية صلة بالجريمة".
ولا ينبغي استهجان مبدأ التأكيد على الأخلاق، والتربية عليها ضمن المنهج التعليمي، فإن التربية الأخلاقية- ولا سيما للفتيات- جزء أصيل يتخلل جميع المناهج الدراسية في اليابان، وعبر جميع مراحل التعليم، ثم إن النهج التعليمي الذي لا يستند إلى الإيمان والأخلاق الدينية هو منهج عاجز عن كبح جماح غرائز الإنسان، وضبط نزواته وميوله، وتعديل سلوكه لما يخدم الفرد والمجتمع، والأمة الإسلامية لم تعرف عبر تاريخها هذا الفصل النكد بين العلم والأخلاق، فقد كانت الفتيات يتعلمن العلم ويلتزمن الخلق، فهذه فاطمة بنت الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، التي تتلمذت على يد والدها، يقول عنها الإمام السخاوي: "ولم تزل على جلالتها وتصوُّنها، لم تُضبط لها هفوة ولا زلة"، وعلى هذا المستوى الخلقي كان نهج تعليم الفتاة المسلمة الحرة في تاريخ الأمة الإسلامية المجيد.
15ـ العلاقة بين دعوى تحرير المرأة وتجهيلها(1/363)
يربط بعضهم بين تحرير المرأة على الطريقة الغربية وبين الحصول على المعرفة العلمية والتعليم، وكأنهما متلازمان، والواقع يشهد بنقيض هذا فقد تفوق نساء السلف قاطبة بغير تبرج ولا سفور ولا اختلاط، والشواهد التاريخية كثيرة جداً، ولعلي أشير هنا إلى شاهد حديث عن بلاد شنقيط في بداية القرن الرابع عشر الهجري حيث يقول الشيخ أحمد الأمين الشنقيطي (1331هـ) في كتابه الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ص517 : "أما الزوايا فلا يوجد من بينهم ذكر ولا أنثى إلا ويقرأ ويكتب، وإن وُجد في قبيلة غير ذلك فإنه نادر، بحيث لا يوجد في المائة أكثر من واحد على تقدير وجوده"، ومن المفارقات الغريبة أن نسبة الأمية في موريتانيا في عام 2000م بعد صيحات تحرير المرأة وصلت إلى 50%، والعجيب أنه شُوهد في فترة الستينات من القرن العشرين الميلادي المرأة الراقصة والمغنية والممثلة التي لا تجيد القراءة، ولا الكتابة، فاستطاعت دعوة تحرير المرأة أن تحررها من أخلاقها وقيمها في حين لم تستطع أن تحررها من جهلها وأمِّيتها .
16ـ ربط معارف الفتاة العقلية بالعمل الصالح(1/364)
إن التزام الفتاة بتعلُّم المعارف النافعة لا يُعدُّ هدفاً في حد ذاته حتى تجمع إلى هذه المعارف العمل بها في سلوك واقعي، فإن "المعرفة من أجل المعرفة أصل من ضروب العبث، وشعار لا معنى له في التربية، والنزعة الفكرية المجرَّدة حماقة، حين تفصل المعرفة عن الحياة"، والعمل الذي يقوم به المكلَّف - أياً كان هذا العمل - لا يحق أن يكون عبثاً أو لهواً؛ بل لا بد أن يُحاط بالتكاليف الشرعية، "فإن النظرية الإسلامية لا تقبل بجريان التفكير من أجل إيجاد التفكير، فالفكر الذي لا غاية له: فكر عابث حتى وإن كان مجراه صحيحاً، وهو كذلك مرفوض إذا خلا من التفكير في التغيير الإيجابي في نفوس الأفراد وأحوالهم", يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "ليس العلم ما حُفظ، العلم ما نفع"، فالمعرفة في التصور الإسلامي لا بد أن تسير مع العمل، فإذا انفصلا: سقطت قيمة المعرفة، وحلَّ الفساد الفكري الذي يصعب معه العلاج.
إن تلقي الإنسان للمعارف - صحيحة كانت أو باطلة - عن طريق الحواس: لا تعدو أن تكون صوراً ذهنية هشَّة، قابلة للاستقرار أو الزَّوال، ولا تصبح راسخة كشأن العقائد إلا بنزولها - بواسطة التربية ووسائلها المختلفة - من موقعها الذهني إلى مستقرها القلبي، وعندها تصل المعرفة إلى درجة يقينية يمكن أن تلتزم بها جوارح الإنسان في صورة سلوك واقعي عملي، فمهما كانت المعارف شريفة، والمعلومات صحيحة فإنها تفقد قيمتها الحقيقية بدون العمل والتطبيق، يقول الغزالي: "لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها: لا تفيده إلا بالعمل", والتصور الإسلامي يعتبر العلم بلا عمل نوعاً من مسالك المنافقين؛ فإن من المتعذِّر على المتلبِّس بالنفاق أن يجمع بين العلم والعمل كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "خصلتان لا تجتمعان في منافق حسن سمت، وفقه في الدين".(1/365)
وعلى هذا النهج المتكامل المترابط بين المعرفة والسلوك كانت طريقة السلف في الزمن الأول، فهذه أم علقمة رحمها الله تقول: "رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة، وعليها خمار رقيق يشفُّ عن جيبها: فشقته عائشة عليها، وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟ ثم دعت بخمار فكستها", فحجَّت عائشة الفتاة بالعلم، وبرَّرت خشونة مسلكها التربوي معها بشيوع المعرفة بسورة النور وأحكامها، فلم تقبل من بنت أخيها مجرَّد المعرفة بالأحكام دون أن يكون لهذه الأحكام واقعها التطبيقي في سلوكها العملي.
17ـ التزام الفتاة بالمعارف العقلية النافعة
إن نظام الإسلام في التربية العقلية يحث على العلم والتعليم، ويرفع منزلة أهل العلم مادام العلم نافعاً صالحاً، وأما إن كان عبثاً فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وعمل لا يرفع، وقلب لا يخشع", فالجمع بين العلم والاعتبارات الخلقية، هو بالذات مقتضى مبدأ العلم النافع عند الأخلاقيين المسلمين، فالعلم النافع هو ما كان باعثاً على العمل، ولا عمل صالح بغير علم نافع"، ومن هنا فإن العقل المسدد هو الذي اهتدى إلى معرفة المقاصد النافعة الصالحة، فالمعرفة العابثة التائهة مرفوضة في التصور الإسلامي؛ لأن قيمة "العلم تكمن في مدى فائدته في بناء الإنسان بحيث يكون قادراً على عمارة الأرض، وترقيتها في حدود منهج الله"، فالمعرفة مرتبطة بالعقيدة من جهة توجهها إلى الخير، فلا بد أن تنسجم مع الفكر الإسلامي المنبثق عن هذه العقيدة من جهة: المنهج، وطرق التدريس، ومبدأ الإباحة، وأن تكون واقعية لا خيالية، ينتفع بها صاحبها ويهتدي، بحيث تصقل مواهبه، وتشبع ميوله، وتوسع مداركه، وتخدم المجتمع، وتدفعه إلى الأمام.(1/366)
إن أعلى مراتب المعرفة الإنسانية: المعرفة بالله تعالى، وما يتعلق بجلاله وصفاته سبحانه وتعالى، ثم المعرفة بشريعته وأوامره، ثم المعرفة بالنفس وطرق تهذيبها، وتربيتها، وأخيراً معرفة الإنسان بالحياة وما حوله من المتغيرات المختلفة، وما يدخل في ذلك من تجارب الأمم والشعوب، والأبحاث العلمية المختلفة ونحوها، مما يتعلق بمصالح العباد في الحياة الدنيا.
والفتاة المسلمة تتعلم من هذه العلوم المتنوعة ما يعود عليها بالنفع والفائدة، ولا يُخرجها عن طبيعتها وأنوثتها، ووظيفتها في الحياة، يقول القابسي: "وأما تعليم الأنثى القرآن والعلم فهو حسن ومن مصالحها، وأما تعلم التَّرسُّل والشعر وما أشبهه، فهو مخوف عليها، وإنما تُعلَّم ما يُرجى لها صلاحه، ويُؤمَن عليها من فتنته"، ويقول المحاسبي: "والأصْون الكفُّ عن ما نهى عنه، مما يسع جهله، ولا يؤدي علمه إلى القربة، بل ترك البحث عنه هو القربة والوسيلة إلى رضا الله عز وجل".
وقد تعرَّض منهج التربية العقلية للفتاة المسلمة إلى هجمات شديدة من أهل التغريب، وموجات رخيصة من الفلسفات المنحرفة، التي تمثل تلوثاً فكرياً أشد وأخطر من التلوث البيئي الذي يحذرُهُ العالم، وتحقق ما أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من انتشار علومٍ منحرفة تنافس معارف القرآن العظيم، دون أن تجد في المجتمع من يقاومها، أو ينكرها، فقد انتشر بين المسلمين الحث على تعليم الفتيات التمثيل الفاضح، والغناء الماجن، والعزف الموسيقي، والرقص المختلط، ضمن مناهج تعليمية، ومعاهد متخصصة، حتى إن إحداهن تُوصي في بحثها العلمي بكل جراءة بضرورة: "الاهتمام بإدخال أنواع الرقص المختلفة ضمن مناهج التربية الرياضية في المراحل التعليمية المختلفة للبنات... حتى يمكن الإسهام في التنمية الشاملة والمتزنة للشخصية، والتي تنادى بها التربية الحديثة الآن".(1/367)
إن على الفتاة المسلمة أن تدرك أن هناك علوماً مباحة يجوز لها كما يجوز للفتى تعلمها، وأن هناك علوماً أخرى لا يجوز لأحد - ذكراً كان أو أنثى - تعلمها، بغض النظر عن ظهور الحكمة من الإباحة أو التحريم؛ فإن المسلم مذْعِنٌ طائع، ولو لم تنكشف له الحكمة التشريعية في المسألة، فلا بد أن يكون هذا الفهم واضحاً في ذهن الفتاة وهي تتعامل مع المعارف والعلوم المنتشرة من حولها فلا تنتقي منها إلا النافع المفيد، ولا بد للمؤسسة التعليمية أن تكون عوناً للفتاة على تحقيق هذه المصلحة الشرعية العظيمة.
18ـ الفروق بين الجنسين في النمو العقلي(1/368)
يميل "ديكارت" إلى التساوي المطلق بين الناس في قدراتهم، ومواهبهم، وأدائهم العقلي، وربما ذهب البعض إلى أبعد من هذا؛ حيث جزم بالتفوق المطلق للعنصر النسائي، في الوقت الذي ثبت فيه اختلاف حجم الدماغ، بزيادة وزنه، وكثرة تلافيفه بين الذكور والإناث، لصالح الذكور، ولعل إثبات وجود الفروق يدخل ضمن إشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنقصان العقل في عنصر النساء، فمع كون النمو العقلي عندهن أسرع منه عند الذكور، فإن توقف نموه عندهن أيضاً أبكر منه عند الذكور؛ فقد "لُوحظ بوجه عام أن البحوث التي أعطت نتائج إيجابية تؤكد أن البنات أفضل أداء من البنين في اختبارات ما قبل الدراسة، وأن البنين أفضل من البنات في مرحلة المراهقة وما بعدها"، مما يدل على أن الفروق العقلية بين الجنسين موجودة مهما حاول بعضهم تعديلها، أو التقليل من شأنها، يقول السيوطي عن طبائع النساء التي لاحظها: "إن معاملة النساء أصعب من معاملة الرجال؛ لأنهن أرق ديناً، وأضعف عقلاً، وأضيق خلقاً"، فإذا كان النقص من الطاعات - بسبب الحيض أو النفاس - نقصاً في الدين، فإن ردَّ غالب شهاداتهن: نقص في العقل؛ لأن ملاك الشهادة العقل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد صرَّح بذلك فقال: "وأما ما ذكرت من نقصان عقولكن فشهادتكن، إنما شهادة المرأة نصف شهادة الرجل"، وقد أشار فريق من الباحثين إلى أن المرأة الحامل ينكمش عندها حجم الدماغ، ولا يعود لحجمه الطبيعي إلا بعد أشهر من وضعها، وهذه الحال عند النساء كثيراً ما يرافقها شيء من ضعف في الذاكرة، وصعوبة في التذكُّر؛ ولهذا قال قاضي القضاة البغدادي المالكي، قاضي الديار المصرية: "كان يُقال: عقل امرأتين كاملتين حرَّتين: عقل رجل"، فلا يبعد -بناء على ذلك- أن تكون هذه الفروق راجعة إلى طبيعة النمو العقلي وحجم الدماغ، فإن اختلاف الدماغ بين الجنسين من جهة الحجم والوزن يتبع حجم الجسم، فأجسام الرجال غالباً ما تكون أضخم من(1/369)
أجسام النساء، فيتبع بالتالي حجم الدماغ حجم الجسم.
وهذه الفروق الفطرية غير المكتسبة لا تشين جنساً ولا ترفع آخر؛ لكونها خارج نطاق كسب الإنسان، وإنما يشين الإنسان أو يرفعه حجم التقوى في قلبه، وقدرته على ضبط سلوكه وفق تعاليم دينه، وهذه الفروق وُجدت بين الجنسين بناء على نوع وطبيعة الوظائف والمهام المناطة بكل جنس.
19ـ طبيعة ملكة الذكاء بين الذكور والإناث
تختلف الدراسات العلمية في الحكم على الفروق بين الجنسين في ملكة الذكاء، فبعضهم يذهب إلى التساوي المطلق بينهما، والبعض الآخر يرى تفوق الذكور، في حين يذهب آخرون إلى اختلاف التفوق في الذكاء تبعاً لاختلاف مجالات تفوق كل جنس، حيث يتفوق الذكور في القدرة الحسابية، والفتيات في القدرة اللفظية، ولعل الصحيح: أن متوسط "ذكاء البنات في الغالب يعادل متوسط ذكاء البنين، ولكن النابغين وضعاف العقول تكون نسبتهم في البنين أكثر من البنات، وهذا هو السبب في تفوق الرجال على النساء في الاختراعات"، فالذكاء ليس حكراً على فئة من الناس؛ بل هو ملكة مشاعة بينهم، فكما أن في الذكور أذكياء، فكذلك في الإناث ذكيات، قال ابن حجر عن أخته ست الركب (ت 798هـ): "وكانت قارئة، كاتبة، أعجوبة في الذكاء".
ومن هنا يتضح أن الذكاء يزيد أو ينقص بقدر الدربة والممارسة والتعلم، وبقدر سلامة الجذور الوراثية، ولا دخل للجنس في تحديد زيادته أو نقصه، مع ملاحظة زيادة حجم النبوغ والعبقرية في الذكور مقابل زيادة حجم المتخلفين عقلياً بينهم، وميل الإناث نحو التوسط في الذكاء، مع قلَّة في النابغات، مقابل انخفاض التخلف العقلي بينهن.
20ـ القدرة على الحفظ والتذكر عند الإناث(1/370)
يشير القرآن الكريم إلى أن النساء محل للنسيان في قول الله تعالى: {... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلًيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى...} [البقرة:282]، وذلك يرجع إلى بعد النساء عادة عن ميادين الكدِّ والكسب، ومعاناة الأسواق والتجارات التي يقوم بها الرجال عادة مما لا يناسب المرأة ووظيفتها؛ لهذا حُصرت شهاداتهن في الأموال عند الحاجة، وفيما لا يطَّلع عليه غيرهن من القضايا الخاصة بالنساء، ولا يرجع هذا النسيان عندهن - في الحقيقة- إلى ضعف القدرة العقلية، أو قصور الناحية الذهنية، فإن تفوق قدراتهن على الحفظ معلوم، وضبطهن لمحفوظاتهن لا يُنكر، حتى إن المحدثين لم يسجِّلوا حالة اختلاط في الحفظ عند المحدثات من النساء عبر التاريخ الإسلامي إلا على امرأة واحدة فقط؛ بل إن بعض السلف كان يقدم مرويات النساء على مرويات الرجال مطلقاً في حالة التعارض؛ لكونهن أضبط وأحكم فيما ينْقلْنه من الأخبار النبوية.
ولعل الضابط في الفروق بينهما يرجع إلى الممارسة والدربة أكثر مما يرجع إلى الجنس، فبمقدار ممارسة الشخص للحفظ -أياً كان ذكراً أو أنثى- تزيد قدرته على الحفظ والتذكر، إلا أن بعض الباحثين أشار إلى حصول شيء من الضعف في التذكر والتركيز عند المرأة تصاحبها فترة الحمل وما بعدها بقليل.
21ـ التفوق الدراسي بين الطلاب والطالبات(1/371)
تشير الدراسات المتعددة إلى تفوق الذكور على الإناث في الطموح، والتنافس، والتحدي، والرغبة في النجاح والإنجاز، خاصة في صفوف المرحلة الثانوية، حتى إن كثيراً من الفتيات يرين أن التفوق الدراسي ذكوري الطبع؛ لأن الأسرة في العادة تنتظر من أبنائها الذكور في المستقبل أكثر بكثير مما تنتظره من بناتها؛ لهذا تميل الإناث إلى رؤية إنجازهن، وتفوقهن في أشخاص ينتمون إليهن كزوج أو ولد، وهذا "رغم قيام حركة التحرر النسائي، ودعوات المساواة بين الرجل والمرأة، والتأكيد على حق المرأة في العمل، إلا أن ثمة شعوراً كامناً بالتدني وعدم الكفاءة ينتاب المرأة".
ورغم أن الواقع يشهد بتفوق الإناث في التحصيل في غالب المواد الدراسية على الذكور، وفي بعض أنواع الاختبارات العلمية، فإن السبب لا يرجع إلى كونهن أكثر ذكاء، فإن النجاح المدرسي ليس دليلاً دائماً على ارتفاع معدل الذكاء، ولا يرجع سبب ذلك أيضاً إلى أنهن أكثر رغبة في الإنجاز والنجاح من الذكور، بقدر ما يرجع إلى جدية الفتيات، ووفرة الوقت لديهن للاطلاع، وقلة الملهيات عندهن، ورغبتهن في شيء من تأكيد الذات أمام نفوذ الذكور، إضافة إلى كون الفتيات بالفطرة ينضجن أسرع من الفتيان، إلى جانب ما ينتاب الشباب عادة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تصرفهم عن العلم والتفوق، بل ربما انصرف كثير من الشباب عن إتمام المرحلة الثانوية، حتى تصبح أعداد الفتيات المتخرجات أكثر بكثير من أعداد الشباب، كما هو واقع في بعض دول الخليج العربي.
22ـ التذوق الجمالي عند الإناث(1/372)
تؤثر طبيعة الجنس في قدرة الإنسان على التذوق الجمالي؛ إذ إن الإبداع يحتاج إلى مزيد من المشاعر والانفعالات، والحساسية التي تزدهر ألوانها عادة في طباع الإناث، والشباب من الجنسين -عموماً- أعمق شعوراً بالجمال من الأطفال، والفتيات من مجموع الشباب أكثر أداءً جمالياً وخيالياً من الذكور، فإن إنتاجهن الفني يدل على ذلك، كما أن قدرتهن على التمييز بين الألوان أكبر من قدرة الذكور؛ ولهذا يُلاحظ انتشار عمى الألوان في الذكور أكثر منه في الإناث، مما يؤكد تفوقهن في هذا الجانب؛ لكونه ألصق بطباعهن الأنثوية منه بطباع الذكور
23ـ الفروق بين الجنسين في الإبداع والابتكار
رغم أن متوسط ذكاء الإناث يعادل -في الغالب- متوسط ذكاء الذكور؛ فإن التفوق المطلق الذي يصل إلى درجة الإبداع: قليل، أو نادر في الإناث حتى في الأعمال، والفنون التي ينشغلن بها، وتدخل ضمن نشاطهن، فقد يوجد في النساء متفوقات، كما يوجد في الذكور متفوقون، لكن من الصعوبة بمكان أن يوجد من النساء من تفوق كلَّ الرجال في أيِّ فنٍّ من الفنون، أو علم من العلوم، أو أداء عقلي، أو "الاحتفاظ بنفس المستويات الفكرية التي أقامها الرجال واحتفظوا بها"، فالسيدة عائشة رضي الله عنها رغم تفوقها المذهل في غالب علوم عصرها، وفرط ذكائها، وكمال نبوغها: فإنها -مع ذلك- لم تفق كلَّ الرجال في عصرها، حتى في القدرة على الحفظ التي برزت فيها كأحسن ما يكون، فقد سبقها في هذه القدرة بعض الأقران من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
ويظهر من نتائج بعض الدراسات وجود علاقة قوية بين الإبداع بمستواه العالي وبين سمات الذكورة، فالشجاعة، والاستقلال الشخصي، والثقة بالنفس، وتوكيد الذات، والعدوانية، كلُّها سمات تغلب على طباع الذكور، في حين يتصف غالب المتفوقات من الإناث بالمسايرة الاجتماعية التي تتعارض -كما يظهر- مع سمات التفوق الإبداعي.(1/373)
وعلى الرغم من تفوق الفتيات على كثير من الفتيان في التحصيل الدراسي -كما أشارت إلى ذلك العديد من الدراسات- إلا أن الإنجازات الكبرى، والإسهامات العلمية العظمى تبقى لصالح الذكور في غالب ميادين النشاط الإنساني، بل قد تُوجد ميادين علمية وعملية كاملة لا تتفوق فيها المرأة، ولا تصل حدَّ النبوغ، وما أن تُوجد عبقرية في ميدان ما إلا ويقابلها مئات العباقرة من الرجال، إضافة إلى أن متوسط عمر العباقرة من الرجال يتقدم إلى (39) سنة، في حين يتأخر متوسط عمر العبقريات من النساء إلى (56.5) سنة، مما يدل على أن النبوغ يتأخر عند المرأة العبقرية إلى سن اليأس، وهي السن التي ينقطع فيها عن المرأة الولد، فلا يبقى للمرأة العبقرية ما يستهلك طاقتها النفسية والعقلية والجسمية؛ لذا يظهر في هذا السن ونحوها تفوقها ونبوغها.
24ـ تفوق الذكور على الإناث في العلوم التطبيقية
تكاد تجمع الدراسات الواسعة التي أجريت على كثير من المجتمعات الإنسانية على أن للذكور تفوقاً على الإناث في العلوم التطبيقية والهندسية والحسابية عموماً، وكأنها علوم خاصة بالذكور تتأثر بالجنس، إلى درجة أن البعض ألحقها بالوراثة لشدة ارتباطها بهم.
وفي الجانب الآخر فقد لُوحظ عبر العديد من الدراسات: أن الإناث يملن نحو التخصصات التربوية والنفسية، وما يتبعها من المهن الاجتماعية والفنية، حيث يقلُّ عندهن قلق الامتحان مقارنة بطالبات القسم العلمي؛ ولهذا تظهر عبقرية المرأة في العلوم التربوية أكثر من غيرها من التخصصات، وتظهر مقابل ذلك عبقرية الرجل في العلوم الطبيعية والتطبيقية.(1/374)
وهذا التفوق عند الذكور في المجالات العلمية التطبيقية مردُّه إلى كونها علوماً ميدانية تطبيقية، تفتقر إلى الذكورة من هذه الناحية، لا لكونها علوماً عقلية من نوع لا يقدر عليه الإناث، فقد أثبتت بعض الدراسات الميدانية العربية تفوقهن التحصيلي في المواد العلمية والرياضية على الذكور ما دامت هذه المواد في جانبها النظري دون العملي، فالفتيات لسْن أقل قدرة على فهم هذه المواد، والتفوق فيها، إلا أنهن -قطعاً- أقل قدرة وكفاءة على تطبيقها ميدانياً في واقع الحياة، ومن هذه الجهة جاء تفوق الذكور عليهن موافقة فطرية لطبيعة اختلاف مهام الجنسين في الحياة.
25ـ الفروق بين الجنسين في القدرة اللفظية
إن تفوق الذكور في مجال العلوم التطبيقية يقابله تفوق الإناث في مجال القدرة اللغوية، حيث يحصلن على درجات أعلى من الذكور في الطلاقة والإبداع اللفظي، وكثرة المفردات اللغوية، ولعل هذا يرجع إلى طبيعة فصَّي دماغ الإنسان، فالأيمن منهما يغلب عليه النشاط الفكري المجرد والإبصار، وكثيراً ما يُوسم بالعقل المذكَّر غير الكلامي، وأما الفصُّ الأيسر فيغلب عليه الأعمال العقلية المتعلقة باللفظ والكلام، ويُسمى بالعقل المؤنَّث، ومن هنا "يُعطى هذا التحليل تفسيراً لغلبة السمع والكلمة في حياة الأنثى، وغلبة الفكر والخيال والبصر في حياة الذكر"، خاصة وأن الأنثى في حياتها أحوج للسمع والكلمة منها إلى الفكر وحدَّة الإبصار للقيام بدورها الاجتماعي الأسر
26ـ مراعاة الفروق العقلية بين الجنسين
كما أن هناك جوانب أخلاقية تُميِّز منهج التربية الأخلاقية للفتاة المسلمة، فهناك أيضاً جوانب طبيعية، وميول نفسية، واهتمامات أنثوية: تفرض على النظام التربوي الأخذ بها ومراعاتها في مجال التربية العقلية للفتاة المسلمة.(1/375)
ورغم الاتحاد في الأصل الإنساني بين الجنسين، إلا أن هناك مجموعة من الفروق والتوجهات والميول العقلية والنفسية والسلوكية، التي رصدها الباحثون عبر مجموعة من الدراسات الميدانية والنظرية، التي تدل دلالة واضحة على وجود هذه الفروق بين الجنسين بما لا يدع مجالاً للتردد أو الشك، وتكاد تتواتر الدراسات العلمية الخاصة بدراسة الفروق بين الجنسين على وجود جملة من الفروق، تشمل جميع جوانب الشخصية الإنسانية، بما فيها الجانب العقلي، بل إن بعض الباحثين رصد فروقاً في نمط وشكل وحجم الخط بين الجنسين، مما يدل على وجود اختلافات وفروق طبيعية وفطرية بين الجنسين، تحتاج إلى مراعاة واهتمام من منهج التربية.
27ـ طبيعة توجهات الإناث العقلية
إن غالب فضائل الأنثى تنتمي إلى الحس والجسد، أكثر من انتمائها إلى المبادئ العقلية؛ حيث يغلب عليها خصائص الطابع العاطفي السلبي المتحفِّز، وتضعف عندها قوة العقل الإيجابي، وفي ذلك يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن عقل المرأة وعلاقته بالجسد: "عقل المرأة جمالها، وجمال الرجل عقله"، فعبَّر عن عقلها تعبيراَ جسدياً، لا تعبيراً ذهنياً فلسفياً، ولما سُئلت هند الزرقاء بنت الخس بن حابس العماليقية -المشهورة بالذكاء والدهاء- عن أحب النساء إليها؟ قالت: "البيضاء العطرة، كأنها ليلة قمرة، قيل: فأيُّ النساء أبغض إليك؟ قالت: العنعص القصيرة التي إن استنطقتها سكتت، وإن سكت عنها نطقت"، فلم تجد وصفاً ألصق بكمال المرأة من الحسن الظاهر، والأدب الباطن.(1/376)
وقد دلَّت بعض الدراسات إلى ما يعضد هذا الوصف في طباع الإناث، حيث يغلب عليهن التعلق بالأمور المحسوسة، والوصف الظاهر للأشياء، والاستقراء، والأمور الروتينية واليدوية، أكثر من ميلهن نحو المعاني الفلسفية والاستنباط، والإبداع العقلي المجرد عن المحسوسات، "فمن الصعب عليهن أن يضعن حاجزاً بين عقولهن وقلوبهن"، مما يؤكِّد وجود فروق طبيعية في نوع التوجهات العقلية والاهتمامات بين الذكور والإناث، بحيث يُكمِّل كلُّ عنصر منهما نقص الآخر في صورة تكاملية متداخلة.
28ـ التنافس الفكري بين الجنسين
إن الأصل في العلاقة بين الجنسين : هو التكامل والتعاون والتواصل ضمن ما شرعه الله تعالى من الأحكام, وليس الأصل بينهما التنافس والتسابق والمغالبة، كما تحاول بعض الجمعيات النسائية الموتورة تصويره في العلاقة بين الجنسين، بل إن الواقع يشهد أن فرص التنافس في الجنس الواحد أوسع وأكبر من فرص التنافس بين الجنسين، فإن اهتمامات النساء –في الجملة – تختلف اختلافاً بيِّناً عن اهتمامات الرجال، ولهذا كثيراً ما تكون القضية خاسرة لأحد الطرفين حين تعرض المسألة في صورة تنافس،فقضايا الزينة والتأنق واللباس من أوسع اهتمامات النساء في الجملة،في حين هي قليلة في الرجال، ومجالات البناء والعمارة والتوسع في الممتلكات من أوسع اهتمامات الرجال في الجملة، في حين هي قليلة في النساء، فلا يصح عقد المقابلات التنافسية بين اثنين مختلفي الاهتمامات، كالذي يقيم مباراة تنافسية بين فريق لكرة القدم مع فريق لكرة اليد!!.(1/377)
ومع ضيق مجالات التنافس بين الجنسين يبقى المجال العقلي وما يتعلق به من الإنتاج الفكري ميداناً لشيء من إثارة التنافس بين الجنسين، ومع أن هذا الميدان أيضاً ليس مجالاً للتنافس بينهما؛ فإن المقابلات بين الجنسين في ميادين التشابه بينهما ليست في صالح الإناث, ومع ذلك فإن كثيراً من المثقفين يظنون أن إبداعات المرأة الفكرية ليست بعيدة في حجمها وقوتها عن إبداعات الرجل الفكرية، وهذا تصور خاطئ وفيه شيء من السطحية؛ فإن مقابلات إحصائية بسيطة بين حجم الإنتاج الفكري والحضور الثقافي بين الجنسين يكشف مدى الفارق الكبير بينهما لصالح الذكور، مما يعيد المسألة من جديد إلى نصابها، في رفض مبدأ التنافس بينهما، فالرجال والنساء ما خُلقوا ليتنافسوا، ويتعاركوا، وإنما خلقوا ليتعاونوا ويتكاملوا، فكل منهما يكمِّل الآخر.
اللهم وفقنا لما يرضيك، وألف بين قلوبنا، واصرف عنا الشر والفتن، وأصلح رجالنا ونساءنا، وأولادنا وبناتنا، إنك سميع مجيب.
29ـ واقع إنتاج الإناث في العلوم الشرعية
من خلال الاستقراء للكتب التي اهتمت بذكر المؤلفين في العلوم الشرعية المختلفة اتضح أن مجال التفسير وعلوم القرآن، وأخبار مشاهير القرَّاء الذين ذُكروا ليس بينهم امرأة واحدة. وكذلك الحال في مجال العقيدة؛ إلا أن أحدهم ذكر اهتمام إحداهن برواية كتاب "الرد على الجهمية".
وفي دراسة حديثة للرسائل الجامعية في التفسير وعلوم القرآن في أربع جامعات سودانية كانت نسبة الإناث من هذه الرسائل31%.(1/378)
وأما مجال الفقه والفتوى فلم يُذكر بالفقه حتى نهاية زمن التابعين سوى إحدى عشرة امرأة بين سبعة عشر ومائة من الفقهاء، ولم يذكر ابن حزم رحمه الله من بين الصحابة المكثرين سوى عائشة رضي الله عنها، وعندما عدَّد جملة المُفتين من أهل القرون المفضلة لم يُورد سوى (21) امرأة من أصل (452) عالماً من أهل الفتوى. وأما في القرن المتأخر فلا يُذكر من النساء واحدة، وفي دراسة سعودية حديثة استوعبت جميع المتخصصين في الشريعة منذ فتح مدينة الرياض وحتى الآن، كان عدد النساء فيها (46) امرأة فقط بنسبة (2.6%).
ومن خلال استعراض تراجم النساء في التاريخ الإسلامي يظهر لبعضهن اهتمام بالفقه والفتوى، إلا أن عددهن قليل إذا قُوبل بعدد الرجال، فإن مشاهير فقهاء المذاهب الإسلامية المشهورة وغيرها لم يُذكر بينهم نساء، إلا أن تكون السيدة عائشة رضي الله عنها وحدها.
وعند الحديث عن طبقات علماء المذاهب الأربعة ومن نُسب إليهم من الفقهاء عبر القرون من: الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة فإن عدد النساء مع ما قد يتكرر من أسمائهن لا يكاد يتجاوز (130) امرأة، مقابل الألوف من رجال هذه المذاهب وفقهائها.
والعجيب أن المطلع على كتب الفقه لا يكاد يجد فتوى لامرأة تتناقلها هذه الكتب إلا لعائشة وقليل جداً من أخواتها من الصحابيات رضي الله عنهن.
وكذلك الحال في مجالي: القضاء، وأصول الفقه لا تذكر النساء حتى في هذا العصر، إلا بشيء يسير قليل جداً من المؤلفات، وأما عند ذكر مطلق علماء الأمصار ممن عُرف عنهم العلم فإن نسبتهن تتراوح ما بين (1%-1.6%)، وربما لا يُذكرن مطلقاً.
وأعجب من هذا ألا تُذكر النساء حتى بنسخ الكتب، فعند الحديث عن نُسَّاخ كتب الفقه وأصوله لا يُذكر من النساء إلا واحدة أو اثنتان فقط.(1/379)
وأما مجال الحديث النبوي وروايته عبر القرون الإسلامية، فرغم أنه أكثر مجالات المرأة اهتماماً وإنتاجاً؛ لكونها بالطبع تعتمد على حاسة السماع أكثر من غيرها من الحواس؛ ولكون رواية الحديث من العلوم والمعارف التي انتشرت بين المسلمين كأوسع ما يكون، حتى شغفوا بها، واستكثروا منها، ولا سيما في القرون الأولى، ومع ذلك فإن الواقع يشهد بقصور شديد للنساء في هذا المجال أيضاً إذا ما قُوبل إنتاجهن بإنتاج الرجال من المحدثين، فرغم أن كتب التراجم تذكر تفوق بعضهن في الرواية، وأخذ الرجال عنهن شيئاً من الأخبار، فإن عددهن مع ذلك قليل حتى في طبقة الصحابة، رغم الانفتاح العلمي في ذلك الوقت، حيث يتراوح عدد الراويات عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجملة بين (100-127) راوية، وربما انخفض عددهن إلى (96) راوية فقط، وربما إلى ما هو أقل من ذلك بكثير، في حين بلغ عدد الصحابة الرواة أكثر من خمسة إلى سبعة، وربما إلى ثمانية أضعاف عددهن، وهذا في مطلق الرواية، وأما بمقياس التفوق والاستكثار فإن عددهن يتناقص إلى ثمان وعشرين مقابل ثلاثة وخمسين ومائة من الرجال، وفي طبقة التابعين ينقص عددهن ليصل إلى سبعٍ مقابل ستة وستين محدثاً، وربما انخفض إلى اثنتين فقط عبر إحدى وعشرين طبقة من طبقات المحدثين، فإن بعض كتب تراجم المحدثين تذكر العدد الكبير من رجال الحديث، ثم لا تذكر من النساء سوى عائشة وأم الدرداء رضي الله عنهما، وربما لم يُذكر منهن واحدة مطلقاً.(1/380)
وفي دراسة حديثة جمعت أسماء كل من روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرن الثامن الهجري فلم يتعد عددهن (232) امرأة، وعندما أفردت المكثرات منهن انخفض عددهن إلى (15) امرأة فقط، وفي دراسة حديثة أخرى جمعت المشهورات من راويات الحديث عبر ثلاثة عشر قرناً فلم تتجاوز (364) راوية، كما أن إسهامهن في نقل السنة النبوية عبر روايات الكتب الستة التي تمثل دواوين الإسلام، لا تزيد عن (3.5%)، فإذا أضيف إلى هذه الكتب الستة ما يُتمم الكتب العشرة فإن نسبتهن تنزل إلى (3.1%).
وعند ذكر الثقات من رواة الحديث ينحصر عددهن في (43) مُحدِّثة، مقابل (2323) من المحدثين الثقات، وربما ارتفع عددهن إلى (52) امرأة عند ذكر كنى المحدثين ولكن في مقابل (6943) من الرجال، وربما وصل عددهن إلى (120) امرأة عند ذكر مطلق الرواة، ولكن في مقابل (4216) رجلاً من المحدثين، وربما انخفضت أعدادهن في بعض كتب التراجم إلى (20) امرأة مقابل (1936) من الرجال، وإلى (13) امرأة مقابل (1386) رجلاً، وإلى (8) نساء مقابل (1021) من الرجال، وإلى (6) نساء مقابل (1424) من الرجال.(1/381)
وأما اتخاذ أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها رمزاً لتفوق المرأة في رواية الحديث، فهذا لا يصح لكونها متفردة عن سائر نساء العالمين، بل هي في النساء كالغراب الأعصم بين الغربان، وحتى ضرائرها رضي الله عنهن من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيرهن من الصحابيات الفاضلات لا يقارنَّ بها في نقل السنة النبوية، لا من جهة العدد، ولا من جهة الإتقان والحفظ، ولعل مما يدل على تفردها رضي الله عنها عن باقي النساء في ميدان الرواية كونها فاقت في حفظها وأدائها للسنة جملة نساء عصرها، فقد خرَّج لها وحدها الإمام أحمد في المسند (1340) رواية، مقابل (936) رواية خرَّجها لباقي النساء، وهذا لا شك تفوق لا مثيل له في طبقتها، وبناء على ذلك فلا يصح اتخاذها رضي الله عنها رمزاً لبروز باقي النساء في هذا الجانب، بل هي تمثل بشخصها وعلمها صفَّاً واحداً منفرداً عن سائر الناس، لا تمثل غيرها من النساء.
وأمًا من جهة تأليفهن في السنة فهو نادر وقليل، فقد ذُكر لبعضهن تآليف في السيرة والخصائص النبوية، ولبعضهن تعليقات على بعض كتب الحديث، وذكر ابن حجر أنه أخرج لإحداهن معجماً في مجلدة، ونحو ذلك مما يذكره العلماء عن بعض النساء، إلا أن هذه الجهود -كما يظهر- لا ترقى إلى مرتبة التصنيف الذي تحتاجه الأمة، وتحرص على نقله وحفظه، فإن المهتمين بكتب السنة لم يذكروا للنساء عبر التاريخ الإسلامي القديم كتباً متداولة في السنة المطهرة، أو في شيء من علومها، إلا أن يكون شيئاً يسيراً لا يصل إلى واحد بالمائة مما يُنسب إلى الرجال في القديم والحديث، وربما لا يُذكر لهن شيء في هذا المجال.(1/382)
ولعل من الأمثلة التي تدل على صحة هذه الوجهة ما يتعلَّق برواة موطأ الإمام مالك - الذي يأتي في المرتبة بعد صحيح مسلم، فقد روى الموطأ ثمانون راوياً ليس بينهم سوى امرأة واحدة، وهي ابنة الإمام مالك، ومع قربها من أبيها صاحب الكتاب إلا أن روايتها للكتاب ليست موضع اهتمام المحدثين، ولا تُعد ضمن الروايات الموثوقة للموطأ عند العلماء، مما يشير إلى اكتفاء الأمة بمؤلفات ومرويات الرجال عن مؤلفات ومرويات النساء، بل إن الإمام مالكاً نفسه حين دخل على التابعية عائشة بنت سعد رضي الله عنها ليسألها عن بعض الحديث الذي ترويه، فلما وجدها ضعيفة البدن أعرض عن الأخذ عنها، رغم أنها كانت ثقة في نقلها الحديث الشريف.
ولقد درج الناس من طلبة العلم على الأخذ عن المشتهرين من العلماء، والإعراض عمن هم دونهم في الشهرة من حملة العلم، حتى إن جمعاً من الصحابة من أهل بدر وغيرهم من التابعين، ممن لهم علم ومعرفة لم ينشغلوا بالتعليم لانصراف الناس عنهم إلى المشهورين من علماء الصحابة والتابعين، فإذا كان هذا حال طلبة العلم مع العلماء من الرجال، فكيف تراه يكون حالهم مع العالمات من النساء؟
30ـ واقع إنتاج الإناث في العلوم الأدبية
تميل طبائع كثير من النساء نحو العلوم الأدبية أكثر من غيرها من العلوم حتى وُجد من بينهن من تُجيد اللغة والنحو، وتعلِّم الأدب للنساء، إلا أن إنتاجهن في علوم اللغة العربية، وآدابها يكاد يكون معدوماً، كما أن درجة بروزهن في هذا المجال لا تُؤهلهن لأن يذكرن ضمن تراجم البارزين من فحول النحاة والأدباء، فلا تُذكر منهن واحدة، وربما ذكر بعضهم ثلاثاً من النساء، ولكن في مقابل (2209) من النحويين واللغويين الرجال، حتى إن دراسة حديثة شاملة لأدباء العرب من مسلمين وغيرهم خلال الفترة من 1800م -1925م: أوردت أسماء (15) أديبة فقط مقابل (1737) من الأدباء الرجال.(1/383)
أما قرض الشعر وإنشاده فهو أعظم مجالات التفوق النسائي على الإطلاق، فقد ذُكر جمعٌ منهن بالتفوق الشعري، والقدرة على نظمه، إلا أن الغريب في شأنهن أن من ذُكر أن لها ديواناً شعرياً مستقلاً من بين دواوين الرجال لا يتجاوزن أصابع اليدين؛ ففي مقابل (254) ديواناً شعرياً لشعراء في القديم والحديث لم يُذكر سوى أربع نسوة بدواوين شعرية، إضافة إلى أن غالب إنتاجهن الشعري إنما نقله الرجال في مؤلفاتهم، حتى إن بعضهم ألَّف كتباً مستقلة لأشعار النساء، وكثيراً ما تُنسب أبيات شعرية إلى مجهولات من النساء، بل ربما وضع بعض الشعراء الأبيات -ولسبب ما- ينسبونها إلى النساء.
ورغم براعة كثير منهن في قرض الشعر وحفظه، ورغم كثرة عددهن، واهتمام بعض الولاة بأشعارهن، ومناظراتهن الأدبية: فإنهن عند ذكر تراجم فحول الشعراء من المتقدمين لا يكدن يُذكرن إلا عرضاً، حيث تتراوح نسبة عددهن المئوية إلى الذكور من الشعراء ما بين (0.3%) و (2.7%)، وربما ارتفعت إلى (2.9%)، حتى إن إحدى الدراسات الموسوعية للشعر العربي لم تذكر منهن سوى عشر نسوة، وربما لم يذكر بعضهم سوى الخنساء رضي الله عنها، أو رابعة العدوية، وعند استعراض المتقدمات منهن والمعاصرات فإن نسبتهن ترتفع إلى (7%)، وربما وصلت في إحدى الدراسات إلى (8.5%) كأقصى نسبة، وربما انخفضت في بعض الدراسات إلى (4.5%)، وإلى (1.4%)، وربما لم يذكر بعضهم من الشاعرات المتأخرات والمعاصرات إلا واحدة فقط.(1/384)
إن هذا الوصف لإنتاج الإناث الشعري يدل على أن هناك فرقاً بين مجرَّد نظم شعر وإنشاده، وبين إجادة الشعر وإتقانه، فإن إنشاد الشعر كان أمراً معروفاً ومشاعاً عند عامة العرب، وهو جزء من طبيعتهم الفطرية، لا يكاد يمتنع عنه أحد من الرجال أو النساء، إلا أنه لا يُوصف بالشعر عند العرب إلا من تمكَّن وأكثر منه، وتخطَّى الحدود، وتصرَّف في فنونه ومعانيه، وهذا نادر في النساء، "وقلَّما تقدَّمت المرأة عندهم في باب من أبواب الكلام أو العمل إلا كانت غريبة نادرة، وهي سنة طبيعية في التاريخ، انتفعت بها النساء الشاعرات إلى يومنا هذا؛ فإن الشيء الغريب لو لم يكن له قيمة لكفى بغرابته قيمة فيه"، وفي هذا يقول ابن جزي الغرناطي: "قد يصدر من بعضهن من بلاغة الخطاب، وبراعة الجواب، ودلائل النبل، وشواهد العقل: ما يُستغرب أمره، ويُخلَّد في الصحائف ذكره".
فليس كل من قال الشعر كان شاعراً، ولعل مما يوضح هذه المسألة حال السيدة عائشة رضي الله عنها، فرغم علمها بالطب، وحفظها للشعر، حيث كانت تحفظ عن "لبيد" وحده نحواً من ألف بيت، وتروي من نظم الشعراء ما يعجز عن حفظه كثير من الرجال، حتى قيل بتفوقها على الخنساء، رغم هذا كله لم توصف بأنها طبيبة، أو أنها شاعرة؛ بل إن الخنساء نفسَها التي أطبق الناس على تفوقها الشعري في الرثاء خاصة، فهي صاحبة أكبر ديوان لشاعرة جاهلية، كانت محطَّ اهتمام الأدباء والنُّقَّاد في القديم والحديث، وهي بإجماع علماء الشعر: أشعر امرأة في التاريخ، ومع كلِّ هذا لا تُعدُّ أبياتها المتفرقة ومراثيها شيئاً عظيماً أمام غيرها من فحول رجال الشعر الذين لم ينظموا في المراثي إلا عرضاً، بل إن بعضهم قدَّم عليها الشاعرة ليلى الأخيلية.(1/385)
ومع ما يتميز به شعر الخنساء من العاطفة الصادقة، وعدم التكلف، والفصاحة، وجودة البيان: فإنه -مع ذلك- محصور في زمن الجاهلية في رثائها أخاها صخراً، فهي لا تُعدُّ من المخضرمات رغم أنها أدركت الإسلام، ولقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلى جانب قِصرَ نَفَسها، وضعف استرسالها؛ فإن أطول قصائدها لا يتجاوز خمسة وثلاثين بيتاً، فقد غلب على شعرها الأبيات المقطعة، والقصائد القصيرة، إضافة إلى أن شعرها عاطفي بحت, ومحصور في صور ومعاني وتعابير محدودة, لا يرتفع بها الفكر إلى المعاني الحكمية، التي توجد مثلاً في شعر لبيد في رثائه أخاه؛ ولهذا ما زال الخلاف قائماً بين النقاد: هل أضافت الخنساء "للمرثية أشكالاً جديدة، أو أنها لم تُضف جديداً؟".(1/386)
ولعل تفوق النساء في المراثي يأتي من جهة صدق العبارة، وعمق الانفعال؛ "لأنهن خلقن ضعيفات الإحساس والعواطف، فارغات القلوب" وليس من جهة سبك العبارات، وقوتها، وجودة الاسترسال، فهذا خاص بالشعراء من الرجال في الغالب، فقد ارتبط شعر المرأة بعواطفها وأحزانها وآلامها، وحياتها الاجتماعية، ولولا المصائب ما أتقنت المرأة الشعر, فقد غلب على مضامين أشعارهن الحزن والرثاء والمدح والذم وطلب الثأر, فما أجاد الشعر إلا الثكلات المؤبِّنات الموتورات, حين انصرفن بالكلية إلى هذا النوع من الشعر, كأمثال الخنساء والخرْنق بنت بدر هِفَّان، والفارعة بنت طريف الشيبانية ونحوهن، وإذا خرج شعرهن عن هذه المضامين العاطفية كان ظرْفاً لا يتعدَّى ذلك كثيراً، وربما حاكين أشعار الرجال؛ إذ لا يوجد في أشعارهن سمات أنثوية خاصة بهن، تميز شعرهن عن أشعار الرجال، وهذا الوصف في الجملة يدل على ضعف ومحدودية في شعرهن، حتى قال الشاعر بشَّار بن برْد البصري الضرير (ت167هـ) واصفاً شعرهن، ومستثنياً من ذلك الخنساء: "لم تقل امرأة شعراً إلا ظهر الضعف فيه"، وأعجب من هذا ألا يكون للمرأة المسلمة المعاصرة مشاركة جادة في شعر الدعوة الإسلامية، رغم انتشاره, وتوسع الدعاة الإسلاميين فيه, وحاجة الأمة إليه، فقد كتب أحد الباحثين المعاصرين يقول: "لقد بحثت في كثير من المراجع التي تتناول شعر الدعوة الإسلامية، وشعراءَها المعاصرين, فلم أجد للمرأة المسلمة الداعية أيَّ مشاركة بارزة في هذا المجال, إلا امرأة واحدة فقط".(1/387)
وأما في جودة الاسترسال، وطول النفَس في قرض الشعر, والصبر عليه، فقد قصُرت أشعار النساء في القديم والحديث عن هذه المرتبة، فما يُنسب إليهن من الشعر قليل, فقد تقول إحداهن البيت والبيتين، أو المقطعات الوجيزة، أو القصيدة القصيرة، حتى إن ابن طيفور جمع أبيات (121) شاعرة في (52) صفحة فقط, وجمع السيوطي أبيات (40) شاعرة في (70) صفحة, وسُجِّل لرابعة العدوية فقط (53) بيتاً شعرياً, بل وحتى الخنساء إمامة النساء في هذا الفن لم ينفك شعرها عن هذا القصور؛ فقد غلب على قصائدها القِصَر، حتى إن أطول قصيدة في ديوانها لا تتجاوز (35) بيتاً, وهذا الإخفاق في ضعف الاسترسال قد لحق حتى شاعرات الغرب: فهذه إملي ديكنسون (ت1886م), التي تُعد من أفضل وأرفع الشاعرات الأمريكيات، التي نظمت نحواً من ثمانمائة قصيدة، تعد من عيون الشعر الأمريكي, ومع ذلك دخل عليها النقص من جهة ضعف نفَسها في الاسترسال, مما أدَّى إلى قِصَرٍ في أبيات قصائدها.
وأعجب من هذا أن تنحصر جائزة نوبل للآداب عبر تسعين عاماً في خمس من النساء فقط, مقابل ثمانين رجلاً, رغم أن العلوم الأدبية من ألصق المعارف بالمرأة وطباعها الأنثوية.
إن تفوق بعض النساء في نظم الشعر أمرٌ مقبول مالم يُقابل بنظم الرجال فإن إجادتهن للشعر نادرة في أدب الأمم عامة، وبروز بعضهن في هذا المجال على بعض الرجال لا يعدو أن يكون شذوذاً، خاصة إذا علم أن أساس الشعر الغزل, ومن المعلوم أن الغزل في العادة من صناعة الرجال، "والحياة البشرية منذ دبَّت على الأرض والرجل يسعى إلى رضا المرأة والتغزل بها"، إلى جانب أن نظم القصائد الطويلة يحتاج إلى عزم وصبر يندر وجودهما في النساء, لهذا يتوجهن إلى المقطعات من الشعر, حتى إن بعضهم لم ينسب إليهن في مجال الرثاء ديواناً مستقلاً, رغم أنه من ألصق مجالات الشعر بهن.(1/388)
ومع كل ما نُسب إلى النساء من التفوق في نظم الشعر فإنه يخبو ضوؤه حين يُقابل بنظم الرجال، فهن بالضرورة دون الرجال في هذه الصناعة, "فما قطُّ عُرفت شاعرة أخملت شعراء دهرها، ولا كاتبة غطَّت على كتَّاب زمنها، ولا عُرف مثل هذا في الأدب، ولا في الرواية، ولا في شيء من هذه الصناعة بوسائلها وأسبابها، فكانت الطبيعة نفسها حجاباً مضروباً على النساء, قبل الحجاب الذي ضربه الرجال عليهن"، ولهذا لا يُذكرن ضمن طبقات شعراء الأمصار إلا عرضاً, وما تكاد تنبغ إحداهن في الشعر حتى يغطي على نبوغها مائة رجل من الشعراء؛ إذ لا يعدو شعرهن في الغالب حدَّ الظُّرف، وما استحقت وصف شاعرة إلا معدودات من النساء, ولهذا لُوحظ "أن الناس لم يكونوا يحفلون بشعر النساء؛ إذ كان شعر الرجال قد ملأ الدنيا, وذهب المذاهب كلَّها في فنون الكلام وبلاغته" فما تلبث أن تبرز إحداهن في صناعة شعرية حتى تفقد مكانها بين الشعراء, فهذه الأميرة علية بنت المهدي، أخت الرشيد والهادي، التي تُعدُّ أشعر الشاعرات العباسيات، ولكنها مع ذلك "شاعرة في نطاق أنوثتها؛ بحيث إذا ما قُورن شعرها بشعر الشعراء من الرجال، فربما خبا ضوؤه، وخفت صوته"؛ ولهذا ليس بين شعراء المعلَّقات السبع الطوال المشهورة امرأة واحدة.(1/389)
وفي العموم فإن نظم الشعر وحفظه لا يُعدُّ من مستحبات الشريعة؛ فقد نزَّه الله تعالى عنه نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، فإخفاق النساء فيه إذا قوبلن بالرجال لا يُعدُّ إخفاقاً ممقوتاً يؤاخذن عليه, بل ربما كان ترفُع المرأة الحرة عنه خيراً لها، ولا سيما حين يفقد الشعر أهدافه النبيلة، ومضامينه الرفيعة, فإنه ما فسد الشعر في العصر العباسي بالمضامين الهابطة, والأهداف القاصرة، حتى دخله النساء من الجواري والقيان والغانيات، حتى كانت سمة ظاهرة في ذلك العصر، مما دفع الشعراء من الرجال إلى التندُّر والتفكُّه بهن، والسخرية منهن, حتى هانت المرأة على كثير من الشعراء, فتجرَّأوا عليها بقبيح القول، حتى وصفوها بما لا يجوز ذكره, من الألفاظ الساقطة، والمعاني القبيحة، وهكذا المرأة -دائماً- حين تنزل من موقعها الشامخ إلى وسط الرجال في ميادينهم: تُصبح محطَّ استهزائهم وتندُّرهم وتفكُّههم.
31ـ واقع إنتاج الإناث في العلوم التربوية(1/390)
تميل الإناث بطبعهن نحو القراءة في علم النفس؛ لاهتمامهن بتربية النشء ورعايته, خاصة وأنهن يتولَّين عادة التعليم في المرحلة الابتدائية وما قبلها في كثير من البلاد, وقد أظهرت بعض الدراسات الميدانية ميلهن إلى التخصص في علم النفس, واستمتاعهن به أكثر من الذكور, لهذا زاد عدد المتخصصات من حاملات الدكتوراه في هذا الميدان إلى (50%) في الولايات المتحدة الأمريكية، وإلى عدد قريب من هذا في بريطانيا, إلا أن إنتاجهن العلمي المتفوق في هذا المجال يكاد يكون معدوماً, ولم يُذكر من بين رجال التربية وعلماء النفس على المستوى العالمي سوى امرأتين كان لهما تفوق في مجال التعليم ورعاية الطفولة، وربما وصل عددهن -كأقصى تقدير- إلى خمس، بنسبة (4%) فقط، وبعض المراجع العلمية الحديثة لا تذكر منهن واحدة من بين المشاهير في مجال التربية، إضافة إلى أن تفوق بعضهن في علم النفس كان امتداداً لأبحاث سيجمند فرويد, ولم يأت تفوقهن مستقلاً عن غيرهن من الرجال, رغم أن مجمل إنتاجهن الحديث في التربية في بعض الجامعات يصل قريباً جداً من إنتاج الذكور, ومع ذلك لا يذكرن بين علماء التربية, ولعل السبب يرجع إلى كون جهودهن في الغالب ميدانية داخل أسرهن ومدارسهن، والإبداع الفكري المتفوق في هذا المجال كالإبداع في غيره من المجالات يحتاج إلى المران، والدربة، والتفرغ الذهني, وسعة الوقت التي لا تتوافر عادة لغالب النساء.
وأما في مجال علم الاجتماع، والتأليف فيه، والتبحُّر في علومه وفروعه، فإن الصورة -مرَّة أخرى- ليست في صالح المرأة حين تُقابل بالرجال, فما زالت التقارير الحديثة في أمريكا وبريطانيا تشير إلى تخلُّف النساء في ميداني التأليف والتدريس في هذا المجال، ففي موسوعة لعلماء الاجتماع في القديم والحديث لم تتسع لأكثر من امرأتين، بنسبة (2.5%) فقط.(1/391)
ومع أن العلوم التربوية تُعتبر من ألصق العلوم بالمرأة واهتماماتها، إلا أن مسألة التأليف والابتكار والإبداع الفكري تبقى -في غالبها- للرجال.
32ـ واقع إنتاج الإناث في العلوم الطبية
تشير بعض الدراسات العلمية إلى ميل الإناث إلى مجال الطب والتمريض، وربما يعود ذلك لطبيعتهن الفسيولوجية الميَّالة إلى الخدمة الاجتماعية، وقد أقرَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - -في الزمن الأول- ممارسة بعض النساء للتمريض، خاصة في المعارك الإسلامية الأولى في عهد النبوة, وقد نُقل عبر التاريخ الإسلامي اشتغال بعضهن بالطب والتمريض، حتى قال عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنهم: "ما رأيت أحداً أعلم بالطب منها"، ورغم هذا الانفتاح العلمي للمرأة في هذا المجال الإنساني الحيوي: فإن "المتقنات لعلم الطب وأصوله كن قلَّة، ولعل سبب ذلك يعود إلى اندراج مهنة الطب في فروض الكفاية؛ لذا اكتفوا بذلك العدد القليل الذي قام بها من النساء، كما أن لمكانة المرأة في الإسلام دوراً كبيراً في انصرافها عن هذه المهنة، وذلك لشرف القرار في المنزل وعدم العمل"؛ ولهذا عندما يذكر الباحثون تراجم المشتهرين من المتفوقين في الطب في التاريخ الإسلامي لا يذكرون معهم من النساء واحدة، إلا أن يكون شذوذاً نادراً، بل وحتى في العصر الحديث -رغم الانفتاح العلمي وإثارة المرأة لحقوقها- لا يُذكرن بالبراعة والتفوق في هذا المجال، حتى إن قوائم أسماء المشتهرين بالطب لا تكاد تتسع لأكثر من امرأة واحدة أمام مئات من الأطباء الرجال، حتى إن جائزة "نوبل" في الطب لأكثر من ثمانين عاماً لم ينلها من النساء إلا ثلاث تقريباً، رغم أن أعداداً منهن ما زلن يتخرجن من الكليات الطبية منذ زمن، ويجتزن المقررات الدراسية بجدارة كما يجتازها أقرانهن من الطلاب الذكور.(1/392)
إلى جانب أن جهودهن في مجال التأليف الطبي في القديم معدومة، حتى فيما يتعلق بأمراض النساء، أو الصيدلة، وأما ما نشر ويُنشر لهن في العصر الحديث فإنه قليل لا يمكن مقابلته بما صدر للرجال الأطباء من جهود بحثية، وإضافات علمية.
33ـ واقع إنتاج الإناث في العلوم التطبيقية
يكاد يكون مجال العلوم التطبيقية حكراً على العنصر الرجالي؛ لكونه يحمل جانباً تطبيقياً ميدانياً يعجز في العادة عنه النساء لمشقته عليهن؛ فقد أثبتت بعض الدراسات العالمية والمحلية ميل الإناث -في الغالب- نحو التخصصات الأدبية والنظرية أكثر من ميلهن نحو التخصصات العلمية التطبيقية، حتى إنهن في أكثر دول أوروبا لا يزدن عن خُمْس أعداد الطلاب الذكور في مجال العلوم الهندسية، رغم المحاولات التربوية الجادة لجعل هذه المواد العلمية مشاعة بين الجنسين، والسعي الحثيث لإزالة فوارق الميول بينهما: فما زالت رغبات الفتيات نحو العلوم الأدبية أقوى وأشد، ومظاهر الفروق بين الجنسين في الاتجاه نحو العلوم معروفة، يمكن قياسها وملاحظتها بوضوح.
وعلى الرغم من وجود عدد ليس بالقليل من طالبات المرحلة الثانوية يلتحقن بالمجال العلمي التطبيقي فإن السبب يرجع إلى رغبتهن في إثبات الذات، والتفوق في هذا المجال، وعند بعضهن يرجع إلى الرغبة في الحصول مستقبلاً على فرص أكبر للاختبار المهني، إلى جانب أن هذه التخصصات أصبحت اليوم أقساماً رئيسة وواقعاً قائماً في غالب كليات البنات، مما يسهل عليهن الالتحاق بها، ومع ذلك فإن نسبة حجم إنتاجهن العلمي في العلوم التطبيقية والبحتة في المملكة العربية السعودية في حدود الثلث.(1/393)
وقد أثبت الواقع العالمي إخفاق النساء عموماً، وقصور إنتاجهن في مجال العلوم التطبيقية مقارنة بالجهود العلمية المسجلة للذكور من جهة الإبداع والاختراع، ومن جهة الإنتاج العلمي المكتوب؛ فإن المتتبع لتراجم العلماء -القديم منها والحديث- في العلوم التطبيقية بأنواعها: لا يكاد يجد للإناث ذكراً بتفوق يُحتسب كإضافة علمية معتبرة إلا على سبيل الندرة والشذوذ، فقد لا يتجاوز عدد المشهورات منهن العشرة، أمام جمهرة كبيرة من الباحثين الذكور، فلا يُذكرن مطلقاً بين المهندسين والدهانين والنَّقاشين والرسامين عبر التاريخ الإسلامي، وربما لا يُذكرن عبر التاريخ الإنساني ضمن علماء العلوم التطبيقية إلا مع شيء من الشك في نسبة العلم إليهن؛ ففي موسوعة ضخمة للعلوم الكونية عند المسلمين، وأصولها السابقة عند الأمم الأخرى لم يُذكر سوى امرأتين، مع الشك في نسبة العلم إليهما؛ ولهذا لا يكاد يوجد لهن ذكر في الجمعيات العلمية والمعاهد الغربية العالية المستوى، حتى قال عالم النفس الطبيب سيجمند فرويد عن واقع النساء عبر التاريخ الإنساني: "من الآراء الشائعة أن النساء لم يُسهمن إلا بقسط واهن في الاكتشافات والاختراعات في تاريخ الحضارة".
ومن الغريب أن التفوق الذي يحصل لبعضهن كثيراً ما يأتي عن طريق الرجال، فلا يحصل لهن استقلالاً، فهذه "مدام كوري" التي يُنسب إليها اكتشاف الراديوم، وابنتها التي فازت بجائزة نوبل، كل منهما كانت تعمل مع زوجها في أبحاثه، ولم تستقل إحداهما باكتشاف وحدها، بل لم تسجَّل جائزة نوبل منذ تسعين عاماً لامرأة في مجالي الفيزياء والكيمياء، إلا لامرأتين فقط، وعند ذكر مشاهير العلماء والمكتشفين والمخترعين لا يُذكر النساء مطلقاً.(1/394)
وأغرب من هذا وأعجب أن مهارة الخياطة، التي تُعد من ألصق المهارات بالمرأة، ومن أوسع ميادينها: اخترع آلتها رجل، فرغم ارتباط هذه المهارة بالمرأة عبر التاريخ الإنساني ما استطاعت تطويرها حتى كان الرجل هو الذي يقوم بذلك.
34ـ واقع إنتاج الإناث في الإنشاء والتدوين
تصف بعض كتب التراجم مجموعة من النساء الفاضلات بالقدرة على الكتابة والتأليف, والاشتغال بضبط الكتب ومقابلة النسخ, وربما نسبوا إلى بعضهن كتباً بعينها, حتى إن إحداهن وُصفت بالإكثار من التأليف, إلى درجة أن بعض المعاصرين، من فرط حماسه كاد يجعلهن في مصافِّ الرجال في مجال التأليف والتدوين، بل إن إحداهن تزعم أن لبعض النساء مؤلفات تحاكي أعظم العلماء, وتعارض فحول الشعراء!! وعند مراجعة مصادر الكتب ومظانِّها في المكتبات وعبر المخطوطات لا يكاد يجد الباحث من هذه الكتب المشار إليها شيئاً, إلا أن يكون شذوذاً لا يُلتفت إليه، بل وحتى بعض الكتب التي اهتمت بجمع أسماء المؤلَّفات المفقودة من التراث: لا يُذكر للنساء فيها شيء, وكأن القلم حكرٌ على الرجال وحدهم، حتى إن الموضوعات التي قد تكون خاصة بالنساء في الغالب: كأحكام الحيض، وفن الطبخ، وأخبار النساء، وبعض الموضوعات التي تحمل شيئاً من المجون، والتي تُنسب عادة إلى الإناث، كالطرب والغناء: لا يكاد يجد المنقِّب البارع للنساء فيها تأليفاً يُذكر، حتى إن البعض -لفرط إخفاقهن في التأليف- اتهم المجتمع الإسلامي بكبت طاقاتهن العلمية ظلماً لهن، متناسين أن براعة المرأة العربية المسلمة انحصرت غالباً في الحفظ والتَّحديث بالأخبار لميل طبعها للسماع والكلام دون الكتابة التي تحتاج إلى نوع من التفرغ والهدوء اللذين لا يتحققان للمرأة غالباً.(1/395)
وقد كشفت دراسة مغربية شاملة، جمعت كمَّاً هائلاً من أسماء المخطوطات والرسائل والكتب في بلاد المغرب، فلم تنسب علماً إلا إلى (19) امرأة فقط، ذُكر غالبهن عرضاً، وما نسبت الدراسة إنتاجاً علمياً بعينه إلا إلى ثلاث منهن فقط، إحداهن نقلت رواية لكتاب صحيح البخاري، وأخرى روت كتاب الشفا في السيرة النبوية، والثالثة كتبت قصيدة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما النساء اللاتي تركن بالفعل تراثاً مكتوباً؛ فمع كونه قليلاً فإن غالبه مفقود، مثل ما ينسب من التآليف إلى فاطمة بنت أحمد الفضلي الزبيرية (ت1247هـ) فإن غالب كتبها اندثرت وفُقدت، ولعل ذلك يرجع في العموم إلى عدم وجود تلاميذ يحملون عنهن العلم المكتوب، كما حملوا عن كثير منهن العلم المحفوظ، خاصة وهم يجدون في تآليف الرجال من جهابذة العلم والفتوى غُنْية ووفرة عن تآليف النساء، كما أن علومهن المكتوبة -كما يظهر- لا تحمل طابع التًّفرُّد والإبداع اللذين يفرضان على الأمة -بطريق غير مباشرة- رعايتها وحفظها، والعمل على تحقيقها ونشرها. وقد عبَّر الفيلسوف الألماني شوبنهور عن هذه القضية العلمية بعبارة غليظة فيها شيء من التحامل والتعميم فقال: "إذا استعرضنا تاريخ النساء المثقفات لما وجدنا منهن واحدة قد أبدعت في تاريخ الفنون لوحة فنية، أو قطعة موسيقية، أو قصيدة شعرية واحدة ذات أصالة وإبداع، أو قدمت للعالم أية قيمة خالدة في أي موضوع"، ولعل مضمون عبارته ينطبق على المرأة الأوروبية أكثر بكثير من انطباقه على المرأة المسلمة.(1/396)
والعجيب في أمر الإناث المثقفات من المعاصرات: أن إخفاقهن في مجال الإنشاء والتدوين لا يكاد ينفك عنهن، رغم الانفتاح العلمي الكبير، حيث يفوق عدد الطالبات المتعلمات أحياناً في التعليم العام والعالي عدد الطلاب في بعض البلاد، ورغم إسهاماتهن العلمية والثقافية من خلال الأطروحات الجامعية، وتشجيعهن بكل قوة على الكتابة والتأليف, فإن إنتاجهن العلمي مقابلة بالذكور في دولة كالمملكة العربية السعودية لمدة (25) سنة تقريباً يتراوح ما بين (21.2%) إلى (22.8%), وعلى مستوى كلية الشريعة بجامعة أم القرى, ولمدة ثلاثين عاماً فإن نسبتهن في حدود (14.4%)، وفي الجمهورية السورية لا يتجاوز (21%), وفي دراسة مسحية للبحوث والدراسات التربوية في البلاد العربية خلال عشر سنوات لم تتجاوز نسبة الإناث(19%) مقابلة بنسبة الذكور.
وأما في ميدان كتابة الروايات والقصص ونحوها فإن تخلُّف أعداد الروائيات مقابلة بالروائيين أمر ملحوظ؛ ففي موسوعة كبيرة ضمَّت أسماء الروائيين العرب كانت نسبة الإناث فيها لا تتجاوز (11.92%) فقط, رغم أن الكتابة في مجال الرواية والقصة تبقى أقلَّ جهداً من الميادين الفكرية الأخرى، التي تتطلب مزيداً من المعاناة العقلية والنفسية، ولهذا يُلاحظ أن بعض النساء الغربيات المكثرات من الكتابة يملن إلى القصة والرواية، حتى سُجِّل لإحداهن (160) رواية قصصية, وكانت أخرى تعيش وتنفق من نتاج قلمها.
وأما في جانب التأليف العام فإن الأسماء النسائية لا تكاد تُذكر من بين مئات المؤلفين من الذكور، إلا أن يكون في مجال الطبخ الحديث وجانب التدبير المنزلي.(1/397)
ومن المذهل أن نسبة حضورهن في كتاب "معجم المؤلفين" الذي حوى نحواً من (18615) مؤلِّفاً وكاتباً من المتقدمين والمعاصرين لا تكاد تزيد عن (0.2%) فقط, وكأن الكتابة : سلوك ذكوري، وصفة من صفات الرجل لا علاقة للإناث بها في الواقع ولا في التاريخ, حتى إن إحداهن إذا تفوقت عقلياً نُسبت إلى عالم الرجال فيقال عنها : "رَجُلة الرأي" .
ومن أعجب ما كشفته إحدى الدراسات العربية الحديثة عام 1996م عن إخفاق المرأة في ميدان التأليف, تلك الدراسة التي شملت دراسة خمسين امرأة عبقرية من العالم العربي, فاتضح أن المؤلفات منهن (28) امرأة فقط، ومجموعة مؤلفاتهن لا تتجاوز (166) مؤلفاً, بمتوسط ستة مؤلفات فقط للعبقرية الواحدة، فإذا كانت العبقرية من النساء تستعصي عليها الكتابة إلى هذا الحد، فماذا يكون حال غيرهن من النساء؟
ومع كلِّ ما تقدم من ضعف إنتاج الإناث الفكري في مقابل إنتاج الرجال: فإن إنتاجهن الحديث يُعتبر متفوقاً إذا ما قُوبل بإنتاجهن في القديم, وهذا واضح في الرسائل والأطروحات الجامعية، والكتابات الصحفية ونحوها, والسبب في ذلك لا يرجع إلى كون نساء هذا العصر أعلم وأقدر على التأليف من النساء في السابق, فإن التفوق الذي وصل إليه كثير من النساء المسلمات في السابق لا يكاد يضاهيه نساء هذا الزمان، وإنما يرجع السبب -كما يظهر- إلى طبيعة العصر الحديث الذي ظهرت فيه الكتب, وحُقِّقت فيه المخطوطات، وتفنَّن المهندسون في خدمات الحاسوب، حتى جمع العلوم، ويسَّر الوصول إليها, وساعد على الكتابة والتأليف, حتى تمكَّن بعض الأطفال من الكتابة والتأليف، فضلاً عن الكبار، فلم يعد غريباً أن يكتب الشخص الذي لا يُعرف بالعلم، ولم يخطر بباله أنه يكتب في يوم من الأيام، ولعل هذا ما ألمح إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الزمان من ظهور القلم، الذي يشير إلى انتشار الكتابة.(1/398)
وقد شاركت المرأة المعاصرة في هذا الانفتاح الثقافي, وأخذت بنصيبها منه اطلاعاً وكتابة, حتى ظهر تفوقها في الكتابة على النساء المتقدمات في الأزمنة الإسلامية السابقة، ولعل هذا مما أشار إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذكره معاذ بن جبل رضي الله عنه من انتشار العلم في آخر الزمان حتى يأخذه جميع فئات المجتمع، من الرجال والنساء والأطفال والعبيد, بل وحتى المنافقين ينالهم نصيبهم منه، ولكن الذي يفقده الناس في الغالب -مع كل هذا الانتشار العلمي- هو الفقه، بمعنى الفهم والبصيرة في الدين، فليس كلُّ حافظ فقيهاً فاهماً لما ينقل، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ظهور الجهل في آخر الزمان، وفشوِّه بين الناس, مع ما أشار إليه من ظهور القلم فلا يمنع أن يرافق انتشار العلم المكتوب صور من قصور الفهم، وضعف الإدراك.
35ـ محدودية أسماء الإناث في كتب التراجم
يظهر من كتب التراجم أن أعداد النساء المذكورات -في العموم- قليلة إذا ما قُوبلت بأعداد الرجال، بحيث تزداد أعداد تراجمهن في هذه الكتب كلما ضعُفت شروط الانتقاء والتمحيص عند صاحب الكتاب، وتقلُّ تراجمهن تبعاً للعلم والفضل والمكانة والشهرة، وشدة شروط المُترجِم, وفي كلا الحالين فهنَّ قليلةٌ أعدادهن بالنسبة للرجال، فمن العلماء من ضمَّن كتابه (10%) من النساء، ومنهم من ضمَّن كتابه (7%), ومنهم من ذكر (3.5%) منهن, وربما اكتفى بعضهم بذكر (3%) فقط، ومنهم من اقتصر على ذكر (2.1%) من النساء, وربما انخفضت نسبتهن إلى (1.5%) فقط، أو ربما إلى (1%), أو (0.7%), أو حتى (0.1%), والبعض لم يزد على ذكر ثلاث فقط, والبعض اكتفى بذكر اثنتين, وربما اكتفى بعضهم بذكر واحدة فقط, والبعض لم يذكر منهن حتى واحدة.(1/399)
وهذا التوجُّه الغالب في كتب التراجم لا يرجع إلى إنكار فضل النساء وما عند بعضهن من علم، فإن الأمة مُجمعة على أن خبر الشخص لا يُردُّ بسبب الجنس؛ وإنما حال النساء في الغالب على الستر وعدم الذكر, فإن نصف المحدِّثات تقريباً من التابعيات, ممن لهن رواية في الكتب الستة المشهورة: مجهولات الحال غير معروفات عند أصحاب الحديث؛ لذا كره بعض السلف من التابعين الرواية عن النساء إلا عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون غيرهن من النساء؛ لكونهن معلومات الحال, ومعروفات الفضل. وما كان لعلماء الأمة الأماجد أن يتعصَّبوا ضد النساء, لولا أن أحوال النساء المعلومة, ووضعهن الاجتماعي يفرض هذا التوجه في التعامل معهن.
والناظر في موسوعات تراجم الصحابة يجد هذا التوجه الاجتماعي واضحاً بيِّناً, فرغم أن النساء يشكِّلن نصف المجتمع النبوي -كما هو الحال في المجتمعات الإنسانية- إذ إن مجرد لُقيا المؤمن للنبي - صلى الله عليه وسلم - تثبت بها الصحبة والفضل، ومع ذلك فإن نسبة تراجم النساء في هذه الموسوعات منخفضة، تتراوح ما بين (12.5%) إلى (13.2%), وربما بلغت عند البعض (23.7%) كأقصى تقدير, وربما أيضاً هبطت عند آخرين إلى الصفر.
والعجيب في الأمر أن نسب أعداد تراجم النساء تكاد تكون ثابتة الانخفاض عبر الأجيال البشرية المتلاحقة وإلى اليوم, وكأنها من القضايا الاجتماعية المطردة, والمتواطأ عليها؛ فرغم المناداة في هذا العصر بحقوق النساء، والسعي الحثيث في تحريرهن، ودفعهن للمشاركة الجادة في كل مرافق الحياة العامة التي تُبرزهن في المجتمع، وتُظهر جهودهن: فإن ذكر أخبارهن في كتب التراجم الحديثة يكاد يكون معدوماً عند البعض، وربما لا تزيد عند أحدهم عن (0.5%) .(1/400)
ورغم أن أحد المؤلفين تصدى لجمع تراجم كل من اشتهر بأمر -أياً كان- من الرجال و النساء؛ فإن نسبة النساء عنده لا تكاد تزيد عن (2.5%) تقريباً من المجموع الكلي للتراجم, وفي موسوعة حوت أكثر من (1600) ترجمة لمشاهير القرن العشرين، بلغت نسبة النساء فيها (6%) فقط, وأما موسوعة "أعلام النساء" لكحالة فإن مجمل عدد النساء فيها, مع المستدرك عليه, والتكملة له: (2910) امرأة، فرغم أنه أوسع كتاب في أعلام النساء من جهة العدد, حيث انتظم تاريخ العرب والمسلمين عامة: فإنه مع ذلك لم يبعد كثيراً عن الموسوعات القديمة، بل قد لا يُقابل بها من جهة العدد: فإن ابن حجر جمع في "الإصابة" أكثر من (1500) امرأة من مجتمع واحد صغير، والسخاوي ذكر أكثر من (1000) امرأة من قرن واحد, فكيف لو جمعنا أخبار النساء عبر التاريخ الإسلامي كله؟.
وأما من جهة النوع والانتقاء: فإن في موسوعته إلى جانب الصحابيات الفاضلات, والعالمات الفقيهات, والمحدثات الحافظات, والعابدات من صالح نساء المؤمنين: فقد أورد جمعاً كبيراً من الحرائر والإماء ممن نُسبن إلى المجون والفجور ممن لا تفخر الأمة بأمثالهن, ولا تعتز بانتسابهن إليها، إلى جانب ذكره جمعاً من قريبات الرجال المشاهير, مع إيراده بعضاً من غير المسلمات, وعدداً من النساء المغمورات والمجهولات دون تراجم لهن, حيث جمع -كما يظهر- كل اسم وقع له من أسماء النساء عبر التاريخ العربي والإسلامي دون انتقاء؛ ولهذا ظهرت موسوعته كبيرة, وإلا فلو قُدِّر لباحث أن يجمع من الرجال على نهجه في جمع أسماء النساء: لكانت موسوعة بشرية لا مثيل لها.(1/401)
وهذا النهج في جمع التراجم دون انتقاء كثيراً ما ينهجه المشتغلون بتراجم النساء, حين لا يجدون من يُترجَم لهن من المتفوقات فيعدلون إلى مطلق الجمع دون ضوابط أو تمحيص, وأعجب من هذا من تجمع في تراجم النساء قريباً من (30%) من غير المسلمات, عدا المغنيات والعاشقات والساحرات والكاهنات والجواري الساقطات, ثم تقدِّمهن للمجتمع الحديث على أنهن الدر المنثور, وربات الخدور!! ومن المعلوم تاريخياً أن غالب القيان والجواري المطربات، اللائي أشغلن الناس في زمنهن بأشعارهن المطربة، وما يُسمى بالفن: كن منحرفات السلوك ومنحلات الأخلاق، يتخفَّين بستار الظُرف وصناعة الفكاهة والطرب، ولا شك أن هذا النوع من النساء لا حاجة للأمة في ذكر أخبارهن وأحوالهن المخجلة، وإنما الأولى الإعراض عن ذلك إلى ذكر الصالحات من نساء الأمة ولو كن قليلات، فالقدوة والأسوة الحسنة توجد غالباً في القليل من الناس.
والمقصود مما تقدم أن كتب التراجم في كل عصر أغفلت أخبار النساء بصورة طبيعية تتناسب مع أحوالهن من جهة، ومع درجة التفوق والاشتهار من جهة أخرى.
ومن خلال هذا الأساس، وما تم استعراضه من الفقرات: اتضح أن الرجل والمرأة لم يخلقا ليتنافسا في مضمار واحد، فلكل منهما ميدانه ومجاله، وإنما خُلقا ليتعاونا ويتكاملا، فمبدأ المقابلة التنافسية بينهما، ولا سيما في القضايا الفكرية أمر مرفوض من أساسه.
36ـ اهتمامات الإناث العقلية وأثرها في ضعف إنتاجهن العلمي(1/402)
يحاول البعض إرجاع قصور المرأة، وقلة نبوغها العقلي إلى طبيعة الظروف الاجتماعية التي قهرتها -حسب زعمهم- وحالت دون تفوقها، مغفلين اختلاف مجالات التفوق بين الرجل والمرأة، فليس بالضرورة أن تكون مجالات تفوق النساء واهتماماتهن هي عين مجالات تفوق الرجال واهتماماتهم، فإن هناك اختلافاً بيِّناً في طبيعة الاهتمامات العقلية بينهما؛ فهذه السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها تعيش مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفترة المكية والمدنية، وقد تزوج بها، ثم لا تروي عنه شيئاً، وهذه فاطمة الزهراء رضي الله عنها، بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يكاد يذكر لها في باب العلم شيء، حتى إن رواياتها في مسند الإمام أحمد لا تصل العشرة، رغم أنها رافقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وفاته، وهذه أيضاً أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنها، التي كان يحملها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحياناً في الصلاة، ثم تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ذلك لم ترو شيئاً، رغم أنها تُوفيت في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما, وكذلك حال فاطمة بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما لا تحفظ -هي الأخرى- عن أبيها شيئاً, وكذلك فاطمة الخزاعية رحمها الله تعالى تُدرك عامة رجال العلم والفضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فلا تُسجَّل لها في الكتب الستة رواية واحدة, والعجيب أن تتفرغ السيدة عائشة رضي الله عنها للتحديث والتعليم، فيكون عدد الذين رووا عنها من الرجال عشرة أضعاف الراويات عنها من النساء, ثم تُدرك النساء جمعاً من أخواتهن التابعيات من المحدِّثات فيكون عدد الآخذين عنهن من الرجال أكثر من الآخذات عنهن من النساء بأربعة عشر ضعفاً, وهذا الإمام أحمد بن حنبل يعيش التفوق العلمي في القرن الثالث المفضَّل, فيأخذ عنه الرجال رواية الحديث, ثم لا يكون بينهم امرأة واحدة, فمن الظلم "أن يُقال: إنها قد تخلَّفت في(1/403)
هذا المجال لأن الرجل قد حجر عليها, وقيَّدها بما يُرضي هواه دون ما يُرضي ملكاتها وأذواقها"؛ فإن المعرفة الصحيحة يصعب كبتها؛ لأن للعلم في نفس صاحبه سورة قاهرة يصعب عليه ضبطها مهما كانت شدة عزمه, وقلة ريائه, فلا بد من ظهور علمه في صورة من الصور.
وفي العموم فإن المرأة مهما بلغت من العلم والمعرفة فإنها لن تتفوق على عنصر الرجال قاطبة, بل إن المتفوقة منهن لا تستطيع -في الغالب- أن تنافس الرجل المتفوق وتتقدم عليه، فضلاً عن أن تتقدم على جميع المتفوقين من الرجال؛ بل إن تقدمها في صناعة عقلية: نادر وقليل؛ ولهذا لا نكاد نجد للمرأة عبر التاريخ إنجازاً فكرياً في الحياة العامة يضاهي إنجازات الرجل؛ لذا فإن تنافسها مع الرجل في النشاط الفكري -مجال تفوقه- لن يعود عليها بالنصر مهما حاولت؛ لأن "أساس المرأة في الطبيعة أساس بدني لا عقلي, ومن هذا كانت هي المصنع الذي تُصنعُ فيه الحياة, وكانت دائماً ناقصة لا تتم إلا بالآخر الذي أساسه في الطبيعة شأن عقله, وشأن قوته البدنية"؛ ولهذا يُلحظ غلبة الجانب الحسيِّ عندهن أكثر من غيره؛ بل حتى الذين يحاولون أن يسجلوا للمرأة شيئاً من الإبداع الفكري: يندفعون بغير قصد نحو الجانب الحسي فيهن, في وصف جمالهن, وعذوبة أقوالهن, ولطافة سلوكهن, دون ذكر شيء ذي بال فيما يتعلق بالنواحي الفكرية, فلا يُستغرب - بناء على هذه الطبيعة الأنثوية- أن تتأخََّر عضوية أول امرأة في تاريخ الأكاديمية الفرنسية إلى عام 1980م.(1/404)
ومن هنا فإن المقابلة العقلية التنافسية بين الجنسين مقابلة فاسدة في أصل الأمر؛ لأن المقابلة لا تكون إلا بين متماثلين, فاتهام المرأة بالانحطاط العقلي لتفوق إنتاج الرجل عليها: يشبه اتهام الرجل بالقصور لعدم قدرته على الحمل والرضاعة, مما يشير -في الجملة- إلى اختلاف الاهتمامات العقلية بينهما, والمبنيَّة على اختلاف الخلْقة والتكوين, وبالتالي اختلاف توجهاتهن العقلية, ومستويات إنتاجهن الفكري؛ لذا فإن المرأة المتفوقة عقلياً إذا أرادت أن تمارس نبوغها، وتعرض فكرها فلن تجد له سوقاً رائجة إلا بين الرجال
37ـ طبيعة الاستتار والتَّخفِّي عند الإناث وأثرها في ضعف إنتاجهن العلمي
إن المرأة بفطرتها عورة, تميل إلى التخفي والاستتار حتى إن الموهوبات من الإناث لا يستخدمن كامل إمكاناتهن العلمية للبروز والتفوق, معتقدات أن الاشتهار بالنجاح يناقض معايير المجتمع, ويعارض طبع الأنوثة المسْتكين المسْتتر, فالمرأة إن أرادت أن تسير سير الرجال في العلوم والفنون والآداب فإنها تجني غالباً عداوة المجتمع من الجنسين؛ ولهذا كان بعض المؤلِّفات من النساء يتخفَّيْن في إنتاجهن العلمي بأسماء مستعارة, وما زال كثير منهن ينهجن هذا الأسلوب حتى اليوم, وربما اكتفى الناس بكنى النساء دون التصريح بأسمائهن في الحياة العامة, حتى إن بعض الكتب المدرسية وقصص الأطفال تُغفل العدل - بصورة عفوية - في تكرار صور الإناث مقابلة بتكرار صور الذكور؛ لكونهن بالفطرة متأخرات مستترات حتى وإن كانت بعض المجتمعات المنحرفة تبرزهن جسدياً عبر وسائل مختلفة للفتنة والإغراء, وتُهملهن عقلياً بالجهل والخرافات.(1/405)
والمتأمل في حال نقلة العلم من النساء عموماً, ومن الراويات في الكتب الستة خصوصاً يجد: أن نحواً من (20%) منهن مجهولات العين غير معروفات, رغم أن عددهن الإجمالي لا يزيد عن (301) محدثة, في حين لا تزيد نسبة المجهولين من الرجال من رواة هذه الكتب عن (2%) رغم أن عددهم يصل إلى (8525) محدثاً, وفي دراسة موسوعية لرواة الحديث جرحاً وتعديلاً أورد المؤلف أسماء النساء في قسم يسير, ثم أورد منهن (141) امرأة غالبهن إن لم يكن كلُّهن مجهولات, لا يُعرف لهن حال، في حين أورد قريباً من أربعة مجلدات في أسماء الرجال من الرواة، ليس فيهم سوى (88) رجلاً مجهولاً، ومن الأمثلة على ذلك عند المحدثين ما قاله الإمام ابن ماجة رحمه الله: "حدثنا محمد بن يحيى، ثنا أبو مسلمة، حدثنا حبابة ابنة عجلان عن أمها أم حفص، عن صفية بنت جرير، عن أم حكيم بنت ودَّاع الخزاعية, قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: دعاء الوالد يفضي إلى الحجاب", ثم قال البوصيري معلِّقاً على سند هذا الحديث: "لم يخرج ابن ماجة لأم حكيم غير هذا الحديث, وليس لها رواية في شيء من الخمسة الأصول, وإسناد حديثها فيه مقال, جميع من ذكر في إسنادها من النساء, لم أرَ من جرحهن, ولا من وثَّقهن"، ومن الأمثلة أيضاً خفاء حال التابعية "بُهيَّة" على الإمام الجوزجاني, حتى ظنَّ أنها رجل, وقال عنها مرة: "سألت عنها كي أعرفها فأعياني".(1/406)
وقد أشار ابن أبي الوفاء الحنفي إلى هذه المسألة من أحوال النساء حين ترجم لبعضهن فقال: "هذا كتاب أذكر فيه من وقع لي من العلماء النساء من أصحابنا, ولم يقع لي إلا القليل جداً, ولا شك أن مبنى حال النساء على الستر"، وقد عبَّر أحد الباحثين في الحديث عن هذه الحقيقة بقوله: "الراويات من النساء قليلات, وكثير منهن لا تقف لهن في تراجمهن على أكثر من ذكر أسمائهن", وقال أيضاً: "يقل في النساء من روين الحديث, ويقل فيمن رواه منهن من عُرفن", وكل هذا يدل على أن حال النساء -حتى عند التفوق- على السِّتر, مما قد يكون سبباً مساعداً على شيء من تخلفهن العلمي.
38ـ طبيعة تكوين الإناث الجنسي وأثرها في ضعف إنتاجهن العلمي
إن الأذكياء من أصحاب المواهب الخاصة يسلكون في الحياة على غير نمط الآخرين، فيلقون في العادة شيئاً من العنت؛ لهذا فإن الفتاة المتفوقة لفرط حاجتها للانتماء الاجتماعي، والمحافظة على شعورها الأنثوي: قد تضحِّي بنجاحها؛ وذلك لإحساسها "بأن النجاح الأكاديمي قد يصاحبه شكل من أشكال الرفض الاجتماعي، أو فقدان الأنوثة"، فإن البعض يعتقد أن التفوق العلمي يضعف عند المرأة أنوثتها، ويقلل من رغبتها الجنسية، وقد دلَّت بعض البحوث على: أن زيادة التعليم عند الإناث تتبعها بالتالي زيادة في البرود الجنسي، وانخفاض في مستوى الخصوبة، وأن المشتغلات بالمهن الفكرية يعانين عادة من عقدة الذكورة؛ لأن الانشغال الفكري بمهن الرجال العلمية يمتصُّ عصارة حياتهن العاطفية، بحيث تخبت في كيانهن طباع الأنوثة، وتبرز في سلوكهن بعض سمات الرجولة، فالمرأة إذا انشغلت ذهنياً: ضعفت جنسياً، فلعل هذا يُعدُّ من الأسباب الرئيسة المؤثرة في انخفاض إنتاج الإناث العلمي.(1/407)
وعلى الرغم من مشاركة المرأة للرجل في شيء من مجالات الإبداع في هذا العصر، بعد أن كانت غالب مجالاته حكراً على الرجل، ومع ذلك فإن أعظم مجال على الإطلاق لإبداع المرأة هو دورها في الإنجاب وصناعة الإنسان، فهو المجال الذي لا يستطيع الرجل -مهما حاول- أن ينافسها فيه، ومهما يُقال عن تفوق المرأة وإبداعها في المجالات التي كانت حكراً على الرجل: فإن إخفاقها في كثير من المجالات لا يزال يلازمها؛ فما يُقال -مثلاً- عن تفوق المرأة في الأقضية المدنية والأحوال الشخصية ونحوها، فإنها تخفق بطبيعة جنسها في الأقضية الجنائية، وهكذا يصعب عليها التواتر في جميع مجالات التفوق.
39ـ صعوبة تلقي الإناث للعلم وأثرها في ضعف إنتاجهن العلمي
إن طبيعة نظام الاجتماع الإسلامي يفرض على الإناث نمطاً سلوكياً أقلَّ مرونة، وأكثر ضبطاً؛ ليتناسب مع طبيعتهن الخُلُقية والخلْقية، والدور الاجتماعي المناط بهن؛ حيث كُره لهن البروز من البيوت، ورفع الصوت، وحُرِّم عليهن السفر الطويل بغير محرم، وأمرن بالإخبات للأزواج وطاعتهم. وكل هذا لا بد أن يُعيق مجال تفوقهن العلمي؛ لأن المتفوق في علمه"لا يكون كذلك حتى تكثر تجربتُهُ, ويكثر صوابُهُ, ويشتدَّ حِلمُهُ, ويحسُن تدبيرُهُ, ولا بد من كثرة حجٍ وغزو, وصلاة وصوم وصدقة, وذكر وقراءة قرآن, وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر".(1/408)
وهذه الممارسات الممحِّصة -في العموم- لا تكاد تجتمع لأنثى منفردة عن الرجل مهما بلغت, إلا أن تعتمد عليه, وتنبغ عن طريقه؛ فالرجل هو وسيلة المرأة للعلم والتفوق, فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها لم تبلغ ما بلغت من التفوق العلمي إلا بمقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها, وكذلك عموم المتفوقات, في حين لا يكون العكس صحيحاً؛ إذ لا سبيل لبروز الرجل وتفوقه على طريق النساء, فتجهيل الرجال يتبعه في العادة تجهيل للنساء, وتعليم الرجال هو بالتالي تعليمٌ للنساء, فغالب المتفوقات من النساء قديماً إنما تلقين العلم في البيوت عن طريق المحارم من الرجال: الأب، الجد، العم، الزوج ونحوهم، يقول ابن أبي الوفاء الحنفي بعد أن ذكر بعض الأحكام التي تختلف فيها المرأة عن الرجل: "وهذه الأشياء كلها مانعة لهن من التعليم والتعلم، اللهم إلا أن تكون الواحدة منهن في قعر بيتها، مستغنية بعلماء بيتها، كزوج وعم وأخ وخال وأب، إلى غير ذلك من الألزام".
وقد ضاقت على الفتيات في السابق فرص التعليم خارج البيوت والمدن مقابلة بما أتيح من الفرص التعليمية للذكور، فإن اختلاطهن بالرجال في المؤسسات التربوية ممنوع شرعاً؛ ولهذا لم يرتبط تعليم المرأة المسلمة في السابق بالمدارس العامة، فقد كانت -كما يظهر- خاصة بالرجال من المدرسين والطلاب, فلا يُذكر النساء عند ذكر المدارس الإسلامية.(1/409)
وكذلك في مجال الرحلة, وتكبد مشاق السفر والتنقُّل الذي كان وسيلة الطلاب للعلم في ذلك الوقت, وشرطاً ضرورياً لبنائهم العلمي, ومع ذلك لا يقدر عليها جميع الطلاب, فهي جهد شاق, وعناء لا يناسب طبيعة ودور الفتاة في الحياة الاجتماعية الإسلامية, حتى إنه لا تكاد تُوصف امرأة منهن بالرحلة العلمية إلا القليل النادر منهن, وما زال أسلوب الرحلة بالنسبة للإناث حتى اليوم يختلف في قيوده وحريته عن الرحلة بالنسبة للرجال, فالرجال - بصورة عامة- أكثر ميلاً للسفر والهجرة من النساء، وإذا أضيف إلى مسألة الرحلة قضية أسلوب وشروط منح الإجازات العلمية للطلاب: كانت المسألة في حق النساء في غاية التعقيد؛ فقد كانت الإجازة العلمية التي تُؤهل الطالب للتدريس والفتوى في غاية الصعوبة, لا تُعطى له إلا بعد المرابطة مع الشيوخ, وملازمة حلقاتهم, والطعن في السن, وبعد التمحيص الشديد, والاختبارات الشاقة, وهذا الأداء -في الغالب- لا يناسب الإناث، فليست الإجازة للتدريس والفتوى كالإجازة في رواية الحديث، التي لا تتطلب أكثر من إتقان تحمل الرواية, ثم حسن أدائها, وكثيراً ما تعطى بغير ملازمة, ولا حتى لقيا, وربما أعطيت للجميع, ولها صور متعددة, لا ترقى لأسلوب الإجازة في ميدان الفقه والفتوى؛ ولهذا تكثر الإجازة للنساء في ميدان الرواية بصورة خاصة, وهو من أوسع ميادينهن العلمية.(1/410)
ولا ينبغي للفتاة المسلمة المعاصرة أن تستهجن هذا الوضع الاجتماعي الطبيعي, فإن نسب المتعلمين من الذكور دائماً أكبر على المستوى العالمي من نسب المتعلمات من الإناث, ولا يشذُّ عن هذا الوضع إلا بعض دول الخليج العربي في بعض المراحل التعليمية, وفرص التعليم المتاحة لهم أوسع وأكبر من الفرص المتاحة للإناث، وعددهم في الجامعات العالمية والتعليم العام حتى في الدول المتقدمة المعاصرة أكثر في الغالب من عدد الفتيات, فقد تصل نسبتهم إلى (74%) من إجمالي أعداد الطلاب, وبالتالي يقل عدد حاملات الشهادات العليا من النساء ليصل في أمريكا إلى (13%) فقط في فترة السبعينات من هذا القرن، مما ترتب عليه انخفاض عدد الأستاذات في الجامعات الغربية ليتراوح ما بين (11%-27%) حسب إحصاءات عام 1990م.
40ـ علاقات الإناث الأسرية وأثرها في ضعف إنتاجهن العلمي(1/411)
إن الوظيفة تحكم الطبيعة، فمهما ورثت الفتاة من سمات التفوق والإبداع فإن وظيفتها في إنتاج الجنس البشري تحكم سماتها العقلية الموروثة, وتُسخِّرها لصالح خدمة النوع ورعايته, بحيث ترى تفوقها العقلي, وبروزها الذاتي في نجاح إنتاجها البشري وتفوقه؛ ولهذا غالباً ما يكون حديث المرأة عن ولدها, ومن تفخر وتسعد بهم, وليس عن نفسها وإنجازاتها, فهذه أم الإمام مالك بن أنس عالية بنت شُريك الأزدية، تعيش في زمن التفوق العلمي, فتدفع بابنها نحو المعرفة والتحصيل بكل قوة, ثم تبقى هي لا يُذكر لها في باب العلم شيء, وهذه والدة الأديب اللغوي إسماعيل بن عباد العباس الطالقاني الوزير، توجهه في صغره للعلم، وتُعطيه كل يوم إذا خرج إلى المسجد للقراءة مبلغاً من المال ليتصدق به على أول فقير يلقاه, فيصبح من العلماء وتبقى هي بلا ذكر بينهم, وكذلك فاطمة بنت عبد الكريم القرمدية, من فاضلات أهل المغرب (ت 1281هـ), كانت أماً لخمسة من العلماء الأجلاء دون أن يُنسب لها علم خاص, بل قد يكون لإحداهن باب من العلم والمعرفة ولكنها لا تجد الفرصة المناسبة والظرف الملائم لنقله إلى غيرها.(1/412)
إن هناك علاقة قوية, تكاد تكون عامة ومطردة بين ترك الفتاة للزواج وضعف مستويات خصوبتها من جهة, وبين تفوقها العلمي والعقلي من جهة أخرى؛ بحيث إنها كُلَّما بعُدت -بسبب العلم- عن وظيفة التناسل والأمومة: قَرُبت من ميادين التفوق العقلي والإبداع؛ ولهذا لا تكاد تتفوق إحداهن في زمن خصوبتها حتى تتجاوزه إلى سن اليأس, ففي الوقت الذي يكون فيه متوسط عمر العبقري من الرجال (39) سنة, يتأخر عند النساء العبقريات إلى (56.5) سنة, ولعل هذا السبب هو الذي دعا كثيراً من علماء السلف لنصح طلاب العلم المبتدئين بالعزوبة؛ ليتفرغوا بصورة كاملة للعلم عن الشواغل الأسرية، حتى قال سفيان الثوري رحمه الله: "من أحب أفخاذ النساء لم يفلح", وقال أيضاً:" ما رأيت مُعيلاً إلا وجدتُهُ مخلِّطاً", فإذا كان المُعيل بسبب الشواغل يتلهى بمن يعول فيضعُف عن العلم, فكيف بمن يُعال من النساء، وهن أصل اللهو, وعين الزينة؟.
ومن هنا فإنه إذا أريد للفتاة أن تسعى لتبلغ مبلغ الرجال في التفوق والإبداع الفكري, وأن تنصِّب نفسها منافساً لهم: فلا بد لها من أن تتخلى عن وظيفة الأمومة, وما يتبعها من حقوق الزوج, ورعاية النسل؛ فإن التفوق العلمي الذي يزيد من استقلال الزوجات الذاتي: لا يتناسب مع طبيعة الحياة الزوجية التي يقوم عليها الرجال بسلطانهم.
ومن هذا المفهوم فإن الفتاة ما دامت مقتنعة بوظيفتها الإنسانية في الإنجاب, ورعاية النسل: فإن شيئاً من الإخفاق العلمي لا بد أن ينالها؛ فإن المتزوجات أقل النساء طموحاً.
41ـ موهبة الذكاء عند الفتاة وسبل تنميتها
تعتبر موهبة الذكاء من أهم الملكات العقلية ضرورة للإنسان، فهي العامل الأساس لتكيف الفرد ونجاحه، وحسن تصرفه في المحيطيْن الاجتماعي والمادي؛ لهذا يُلاحظ أن الفتيات المتفوقات في الذكاء أكثر نجاحاً في التعليم، وأحسن توافقاً في علاقاتهن الاجتماعية، وأكبر ثقة بأنفسهن.(1/413)
وتتصف طبيعة نمو الذكاء في مرحلة الشباب بشيء من البطء مقابل سرعة النمو الجسمي الفائق، حيث يستمر نموه حتى السادسة عشرة، أو الثامنة عشرة، أو ربما استمر نموه عند البعض حتى سن العشرين، خاصة عند الأذكياء والموهوبين، ويرجع منشأ الذكاء عند الإنسان إلى عاملين مهمِّين: الفطرة والبيئة، وليس المعوَّل في منشئه على أحدهما دون الآخر كما ذهب إليه البعض، بل عليهما جميعاً.
وعلامة الذكاء عند الشباب: الحدَّة في سرعة الإدراك والفهم والتعلم، فإن آية العقل: سرعة الفهم، مع القدرة على الابتكار، والإبداع، وشيء من الاستقلال الشخصي والتَّميُّز، إلى جانب البراعة في التعامل مع الآخرين، وقد يبلغ الذكاء عند بعض الفتيات -كما هو عند بعض الذكور- درجة عالية من الدقة والحدَّة، حتى إن إحداهن ربما جوَّدت على القارئ في الكتاب قراءَتَهُ عن ظهر قلب، وربما ناظرت إحداهن كبار علماء عصرها، وربما حفظت إحداهن القرآن الكريم كاملاً مع البلوغ، بل ربما حفظته في الثامنة من عمرها كحال الفاضلة عائشة الباعونية الدمشقية (ت922هـ)، وقد يبلغ الكمال العقلي ذروته السامقة عند إحداهن بما لا يزيد عليه، كما هو الحال مع السيدة عائشة رضي الله عنها فقد رُوي مرسلاً، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو جُمع علم نساء هذه الأمة فيهن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كان علم عائشة أكثر من علمهن"، فقد كانت رضي الله تعالى عنها أفقه وأعلم النساء على الإطلاق، فليس بغريب على عنصر الإناث أن يبلغ بعضهن أعلى الدرجات في معدلات الذكاء، بل إن أعلى درجة ذكاء سُجلت لشخص كانت لفتاة أمريكية بلغت (230) درجة.(1/414)
إن المعوَّل عليه في نمو الذكاء وحدَّته: سلامة الموروثات الفطرية من خلال تحسين النسل، وصحة البيئة الاجتماعية، وتحسين التربية، فقد ثبت يقيناً عند التربويين أن التعليم هو أعظم وسيلة لتنمية موهبة الذكاء عند الفرد، "وأن الذكاء متوقف على القدرة على التعلم"، بحيث يرتبط الذكاء بالتعليم أكثر بكثير من ارتباطه بالقدرة على الإبداع، ويكون الشخص الأكثر ذكاء هو الشخص الأكثر تعليماً، وليس بالضرورة أن يكون الشخص الذكي هو الأكثر إبداعاً.
وعند مراجعة السيرة النبوية يجد الباحث اهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه العلاقة الوثيقة بين الذكاء والتعليم في تربيته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد كان عليه السلام على علم تام بفرط ذكائها، وحدَّة فهمها، فأخذ عليه الصلاة والسلام يفتح عليها من المعارف والعلوم مما علمه الله عز وجل حتى أصبحت أعلم الفتيات على الإطلاق في جميع معارف زمانها، وذلك في نحو من تسع سنوات فقط، فما أن توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي في الثامنة عشرة من عمرها حتى استقلت بالفتوى في زمن أبيها رضي الله عنهما.
إلا أن الذي ينبغي أن يلاحظه المربون أن الأذكياء عادة يراهقون قبل أقرانهم بزمن، "وكثيراً ما يظهر عندهم النضج الجنسي المبكر مصاحباً للنمو العقلي المبكر"، فربما كان منهم -لفرط ذكائهم- أشياء وسلوكيات من الإزعاج لا يرضاها الآباء، كما حصل من السيدة عائشة رضي الله عنها في طفولتها عند أبويها، وفي مقامها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا بد للمربين من مراعاة ذلك فيهن مستغلين في توجيههن اليقظة الإيمانية في نفوسهن، والتي تنمو عادة عند الأذكياء مبكرة أيضاً عن غيرهم.
42ـ النهوض بملكة التفكير عند الفتاة(1/415)
التفكير هو: التقصِّي المتقن المدروس للخبرة السابقة من أجل الفهم, أو اتخاذ قرار, أو حل مشكلة, أو الحكم على الأشياء, وهو من قوى العقل الباطنة التي تجول في عالم المعقولات, "وهو أرقى العمليات الذهنية, والوظائف النفسية على الإطلاق, فمن خلال التفكير تتم عمليات تكامل وإعادة صياغة المعلومات التي تتيح لنا معرفة الحقائق الخارجية والداخلية", وحاجة الإنسان إليه أبلغ من حاجته إلى المعرفة نفسها, ولهذا سعت الشريعة وقصدت إلى إصلاحه من خلال استدعاء العقول للنظر والتذكر والتعقل والعلم والاعتبار, فمن قلَّ تفكُّره: قلَّ اعتباره, ومن قلَّ اعتباره: قلَّ علمه, ومن قلَّ علمه: كثر جهله"؛ ولهذا يُعلى القرآن الكريم من شأنه, ويضعه في قمة العمليات العقلية, فقد أمر المولى عز وجل بالتفكر في كثير من مواضع كتابه العزيز, حتى عدَّه بعض الصحابة من أعظم أنواع العبادات.
وتختص فترة الشباب ابتداء من الثانية عشرة -تقريباً- بالقدرة على ممارسة العمليات العقلية المجردة، التي تدعم عندهم النمو المعرفي، فيستهويهم التفكير التجريدي العميق في بعض الفلسفات المختلفة، والأمور الدينية، والقضايا السياسية، مع القدرة على شيء من التنبؤ، والإمعان العقلي في الاحتمالات والتوقعات المستقبلية، بحيث يصبح التَّمتُّع بأنواع مختلفة من التفكير العقلي المجرد: دليلاً على صحة السمات العقلية عندهم، وهذا النوع من التفوق العقلي، والتنوع الفكري يُلحظ في شخصية السيدة عائشة رضي الله عنها حيث كانت تتمتع بقدرات عقلية متنوعة في مختلف المعارف الإنسانية المعروفة في ذلك الوقت.(1/416)
ولما كان التفكير الجيد من المهارات المكتسبة: فإن التعويد عليه، وممارسته باستمرار هي الوسيلة الصحيحة لبلوغ الذروة فيه، فإن الذي يعتاد التفكير يصعب عليه تركه، وحتى تتمكَّن الفتاة من استخدام قواها العقلية في التفكير السليم لا بد أن يحتفَّ نشاطها العقلي بالمثيرات الذهنية التي تشبه الشرارة الناجمة عن احتكاك حجرين، وذلك من خلال الإثارة الانفعالية، فإن العلاقة بين العواطف والفكر متبادلة، كالعلاقة بين الوقود والنار، ومدار التفكير: حل المشكلات، فالفكر "لا يحدث إلا إذا استلزمته حالة انفعالية خاصة يمر بها الإنسان أثناء مواجهته مشكلة ما يتحتَّم عليه حلها"، فيُثار من خلالها التفكير, ويُروى في هذا المجال: أنه كانت لأحد قضاة مدينة "لَوْشَة" الأندلسية زوجة برعت في حلِّ مسائل أحكام النَّوازل, فما أن تُعرض عليها مشكلة نازلة إلا انقدح ذهنها عن أفضل حلِّ لها.
إن من خصائص التفكير الإبداعي تخلُّصه من الأنماط التقليدية, وانطلاقه في التعامل مع الأشياء والمواقف بمنظور جديد متميِّز, بحيث تشعر الفتاة وهي تتعامل مع المواقف الاجتماعية المختلفة: بحرية التفكير, وتحسُّ بالمساحة الواسعة للانطلاقة العقلية ضمن حدود الخبرة المتاحة, وضوابط المعرفة, في جوٍ مفعم باللُّطف الاجتماعي, والانفتاح العلمي, والتَّسامح الاجتهادي, فإن الضغوط النفسية كالقلق, والاكتئاب, والانفعالات الحادَّة: أشد معوقات التفكير السليم.(1/417)
وفي هذا المعنى تروي السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها وهي الفتاة الشابة دون الثامنة عشرة من عمرها: "أنها اعتمرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرتَ وأتممتُ, وأفطرتَ وصمتُ؟ قال: أحسنت يا عائشة, وما عاب عليَّ", فرغم أنها خالفت فعل صاحب الشريعة, عليه الصلاة والسلام فلم يعبْ عليها لكونه أمراً مباحاً, إلا أنه أعطاها بهذا التسامح الاجتهادي شحنة نفسية, وتحفيزاً عقلياً لمزيد من العطاء الفكري, والإمعان الذهني؛ لكونه عليه الصلاة والسلام يعلم بوادر تفوقها العلمي, ورجاحة نظرها العقلي, حتى قال عنها مرة: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام", فأثمر ذلك التعامل النبوي الراقي أن أصبحت عائشة رضي الله عنها رمزاً للتفوق البشري في ميدان الفهم, والذكاء, والاستنباط بما لا مزيد عليه.
43ـ تنمية مهارة القراءة عند الفتاة
القراءة عملية عقلية متكاملة متداخلة بين الفرد والمعلومات الرمزية التي يتلقاها عن طريق العين, والتي تتطلب ربطاً بين معاني هذه الرموز والخبرة الشخصية, بحيث تعمل القراءة في وقت واحد عمليتين متصلتين, الأولى: ميكانيكية فسيولوجية تتضمن الاستجابة للرموز المكتوبة, والأخرى: عقلية ذهنية تشمل التفكير والاستنتاج لهذه الرموز والأحرف المكتوبة.
وشأن القراءة في التصور الإسلامي شأن عظيم, فأقل ما فيها أنها أول أوامر الله تعالى نزولاً, فهي بذلك أوسع أبواب المعرفة الإنسانية التي لا يمكن أن يستغني عنها الفرد في وقت من الزمان, وما من أمة يُهمل أهلُها القراءة إلا اضمحلت ثقافتها.(1/418)
إن الأزمة الثقافية التي تعاني منها الأمة الإسلامية المعاصرة تعود في غالبها إلى ضعف العلاقة بالكتاب, والذي كان نتاج أساليب وطرائق التعليم, والعادات الاجتماعية الضارة التي اعتادها الشباب من الجنسين, إلا أن المشكلة تبقى في الذكور أكبر منها عند الإناث كما دلت على ذلك بعض البحوث العلمية, فهنَّ -في الجملة- أكثر إيجابية تجاه القراءة, ولا سيما في المرحلتين الابتدائية والإعدادية.
إن من القضايا التربوية المهمة في هذا المجال: أن القراءة ليست أمراً فطرياً يولد مع الفتاة؛ وإنما تُقاد إليها من خلال التربية والتدريب, فما ينبغي أن تصل الثانية عشرة من عمرها, إلا وقد أتقنتها كأحسن ما يكون, وعند هذه السن بالذات يمكن تكوين عادة القراءة الحرة بصورة جيدة, وتحقيق ذلك يتم من خلال وسائل:
منها: تشجيع الفتاة على القراءة بالحوافز المختلفة, المادية منها والمعنوية, ضمن البيئة العلمية المناسبة, المُعينة على القراءة والاطلاع, يقول ابن حجر العسقلاني حاكياً عن أخته ست الركب (ت798هـ) : "مات أبوها وهي صغيرة, فنشأت نشأة حسنة, وتعلَّمت الخط, وحفظت الكثير من القرآن, وأكثرت من مطالعة الكتب, فمهرت في ذلك جداً, بحيث كان يظن من يراها تقرأ من الكتاب أنها تحفظه لجودة استخراجها", فرغم وفاة أبيها وهي صغيرة, وكون ابن حجر نفسه أصغر منها بسنوات: استطاعت من خلال البيئة العلمية الصالحة،ووفرة الكتب أن تنبغ في ذلك جداً, دون مساعدة كبيرة.
ومنها: تعويد الفتاة على الاستماع, ويٌقصد بالاستماع: الإنصات؛ فإن التَّعلُّم في أصله يبدأ بالاستماع, ثم الكلام, ثم القراءة, ثم الكتابة, وبقدر الإتقان في هذه المراحل, وإعطاء كل مرحلة حقها من التعليم والتدريب: تنجح الخطوة التعليمية التي تليها, والاستماع كخطوة أولى أمر مهم؛ إذ هو وسيلة الفتاة إلى المفردات اللغوية التي تُعد مادة القراءة الضرورية الأولية.(1/419)
ومنها: تدريب الفتاة على القراءة السريعة مع النُّطق الصحيح, بحيث لا تقل سرعة قراءتها في المتوسط العام عن (240) كلمة في الدقيقة؛ فإن البطء في القراءة من أعظم أسباب النفور منها, وهو غالباً ما يصيب الاكتئابيين, والمتخلفين عقلياً, ومن لديهم صعوبات في التعلم, ووسيلة الفتاة لتوقي هذه السلبيات يكون من خلال الاستماع المنتظم لقراءتها تحت إشراف الأسرة بصورة مستمرة, فقد أثبتت هذه الوسيلة نجاحها في تحقيق تفوق التلاميذ من الجنسين في القراءة.
ومنها: توفير الكتب الدينية, فإن الشباب من الجنسين في هذه المرحلة يميلون نحو الوسائل الإعلامية المطبوعة, ويفضلون منها الكتب الدينية بصورة خاصة, فقد أطبق كثير من الدراسات على وجود ميل واضح عند الشباب عموماً -خاصة عند الفتيات- نحو القراءة في المجال الديني, ولعل ذلك يرجع إلى تطلُّعهم الإيماني في هذه السن من جهة, وإلى السكون النفسي الذي تحدثه القراءة عادة في نفس القارئ من جهة أخرى, وكلا الأمرين يدخلان ضمن حاجات الشباب من الجنسين في هذه المرحلة من العمر.
ومنها: توجيه الفتاة إلى قراءة القرآن الكريم؛ فقد ثبت أن لقراءته أثراً إيجابياً واضحاً على مهارة القراءة العامة عند التلاميذ, إضافة إلى فضله, وعظيم أجر قارئه؛ إلى جانب أن للغة العربية أثراً إيجابياً على الناحية العقلية, يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تعلموا العربية فإنها تُنبت العقل, وتزيد في المروءة".
44ـ القدرة على البيان عند الفتاة(1/420)
تتفاوت القدرة على البيان بين الأفراد عموماً ذكورهم وإناثهم بدءاً بالأبكم العاجز عن الإبانة بالكلية, وانتهاء بالسَّاحر ببيانه, المتقن للفظه, وبينهما مراتب من عيوب النطق, وعسْر الكلام يتفاوت فيها الناس: كالسرعة أو البطء, والتًّقطيع, والحدَّة, والفخامة, والتَّحشْرج, والتردد, واللثغة, والتهتهة والتعتعة ونحوها من عيوب البيان التي يتفاوت فيها الأفراد المتوسطون بين مُكثر ومُقل, وغالباً ما ترجع هذه الإعاقة البيانية إلى مشكلات واضطرابات نفسية وانفعالية, أو إلى مشكلات عضوية وعصبية, ولا شك أن السلامة من العيوب مهمة للاتصال الإنساني؛ فإن الكلام أهم جزء في الممارسات اللغوية عند الإنسان, فالناس يستخدمون الكلام أكثر بكثير من الكتابة, فهم بصورة دائمة يتكلمون أكثر مما يكتبون, فالكلام هو الشكل الرئيس للاتصال اللغوي عند الإنسان, فالسلامة من عيوب الكلام ضرورة لتحقيق سلامة الاتصال بين الناس.
ورغم أن الإناث في العموم أقل عرضة للإصابة بهذه العيوب البيانية من الذكور؛ لكونهن عند البلوغ يتفوَّقن عليهم -بالفطرة- في الطَّلاقة اللفظية, إلا أن التي تُصاب منهن بهذا الداء تعاني معاناة نفسية واجتماعية شديدة, قد تسوقها للانزواء, وتحاشي اللقاء الاجتماعي, لا سيما إذا أصيبت به الفتاة بعد سن السابعة, فقد يستمر معها إلى سن الشباب فيشكِّل لها إعاقة نفسية مؤلمة, وعلاج ذلك يكون بضده من ضرورة التشجيع, وتهيئة أسباب الاستقرار النفسي والعاطفي من خلال عقيدة القضاء والقدر, ومحاولة علاج القصور العضوي إن وُجد, بالإضافة إلى التدريب العلاجي على تحسين النُّطق من خلال التمرينات الخاصة بذلك.(1/421)
والقدرة على البيان عند الإناث لا ترتبط بالناحية الخطابية العامة؛ لكون الخطابة في العادة عملاً رجولياً, إلا أنهن قد يتفوَّقن أحياناً على الذكور في الحصيلة اللغوية, والقدرة البيانية, وربما وصل بعضهن إلى الذروة من ذلك لغوياً وبيانياً, بحيث تجمع إحداهن زمام البيان من: القدرة على الإبانة بطلاقة, ووضوح المعاني, وسلامة اللفظ من الاعوجاج, مع وفرة المفردات اللغوية, حتى تصبح أعجوبة الدهر, كما هو حال السيدة عائشة رضي الله عنها, فقد أجمع كل من لقيها على فصاحتها, وتملُّكها زمام البيان من كل جوانبه, حتى قال عنها موسى بن طلحة رحمه الله: "ما رأيت أحداً قطُّ كان أفصح من عائشة", وقد شاركتها في شيء من هذا التفوق البياني السيدة أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها الملقبة بخطيبة النساء, فقد شهد لها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سمع مقالتها, وطلاقة عبارتها, وشمول سؤالها, حيث قال لأصحابه -فيما رُوي عنه- : "هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا...".(1/422)
ولم تنقطع هذه البراعة النسائية بزمن الصحابة؛ بل سجل التاريخ الإسلامي لبعضهن مشاهد ومواقف مشابهة, من جودة الكلام, وحسن البيان, كموقف الإمام تقي الدين ابن تيمية من حسن سؤالات أم زينب فاطمة بنت عباس (ت 714هـ), وسرعة فهمها, وكثرة مسائلها, حتى إنه كان يستعد لها ويتهيَّأ لمسائلها, وأبلغ من هذا ما ذكره إبراهيم بن السِّندي عن جارية كانت تأتيه في حاجة أهلها, حيث قال معبراً عن حرجه من تفوقها البياني: "فأجمع نفسي لها, وأطرد الخواطر عن فكري, وأحضر ذهني جهدي, خوفاً من أن تُورد عليَّ ما لا أفهمه, لبعد غورها, واقتدارها على أن تُجري على لسانها ما في قلبها", يقول ابن جزي عن هذه الحقيقة اللغوية البيانية في عالم النساء: "إن النساء مع قصور عقولهن, وقلَّة إدراكهن في غالب الأمر: قد يصدر من بعضهن من بلاغة الخطاب, وبراعة الجواب, ودلائل النبل, وشواهد العقل: ما يستغرب أمره, ويُخلَّد في الصحائف ذكره", وما زال شيء من هذا التفوق البياني موجوداً في بعض فتيات هذا العصر.
إن مثل هذه القدرات الفائقة المبدعة يمكن أن تكون ثمار التربية العقلية الصالحة الجادة في المجتمع المسلم المعاصر, ولن تعدم الأمة -ما دامت قائمة على النهج التربوي الحق- أن تخرج من فتياتها مثيلات هؤلاء الفاضلات أو نحوهن, ممن تفتخر بهن الأمة, وتزدهر بمثيلاتهن الثقافة, ويصلح على أيديهن النشء.
45ـ التربية الجمالية للفتاة المسلمة
إن المقصود الأسمى والغاية الكبرى من التربية الجمالية للفتاة المسلمة بكل مظاهرها, ووسائلها, وأهدافها هو الله جل جلاله, بحيث تصب كل متعلقات الجمال المادية والمعنوية, بمشاعرها وأحاسيسها, ومتْعتها ولذتها: في رحاب الله تعالى, فتربط كل هذه المعاني بخالقها جل وعلا؛ إذ هو سبحانه أصل الجمال الكوني ومبدؤه.(1/423)
إن مهمة منهج التربية الجمالية للفتاة في التصور الإسلامي -كمهمة كل أجزاء المنهج الإسلامي- ربط الفتاة بخالقها, ويمكن وصف ذلك في الناحية الجمالية من خلال خمس وسائل:
الأولى: توحيد أحكام الفتيات الجمالية المتباينة, والمتناقضة في نظْم واحد, وتوجيهها جميعاً نحو مبدأ الجمال وأصله الأول, نحو الله سبحانه وتعالى, بحيث يصبح الجمال خادماً للإيمان.
الثانية: إعادة مفهوم شمول الجمال إلى أذهان الفتيات, وتحريره من الانحصار الضيق في مجال "الفن"؛ ليستوعب كل الوجود الظاهر والباطن, المعنوي والمادي.
الثالثة: ضبط أنشطة الفتيات وأعمالهن الفنية بضابط الشرع؛ بحيث يكون إنتاجهن نافعاً هادفاً مشروعاً, خالياً من العبث والتشويه.
الرابعة: مساعدة الفتيات على التذوق الجمالي, وتدريبهن على مهاراته المختلفة من أول النشأة حتى يصبح لهن سليقة يتذوَّقنه بأنفسهن دون مساعدة, ويشاهدنه في كل ما حولهن دون إرشاد.
الخامسة: ربط الجمال بالسلوك الإنساني في حس الفتاة, بحيث تشعر بضرورته لسلوكها الخلقي كما تشعر بضرورته للذَّتها العقلية, فتدرك بذوقها المرهف المظاهر السلوكية التي تشوه الجمال وتشينه: فتتجنبها, والأخرى التي تُحسِّنه وتزيِّنه: فتأتيها, مع ضرورة إيجاد البيئة المناسبة لنمو السلوك الجمالي, والتي تعين الفتاة على تعاطي الجمال, والإسهام في صنعه.
إن على الفتاة المنطلقة نحو التذوق الجمالي, الراغبة في الاستمتاع بمظاهره الباطنة والظاهرة أن تعرف: "أن الكائن لا يكتشف الجمال في الأشياء إلا بمقدار ما يحمله في نفسه من الجمال, وبمقدار ما يستطيع أن يضفيه على الأشياء, فالغايات الجمالية هي ما ندركه في الطبيعة مما يوافق تطلعاتنا الذاتية، فالنفس الحسنة تُولع بكل حسن, وكذلك النفس الرذيلة تُولع بما يناسبها, وأخبث ما يصيب الإنسان ويشينه أن يفقد الذوق الجمالي, فلا يعود يراه في شيء حتى وإن كان مبثوثاً في كل شيء حوله.(1/424)
45ـ التربية الجمالية للفتاة المسلمة
إن المقصود الأسمى والغاية الكبرى من التربية الجمالية للفتاة المسلمة بكل مظاهرها, ووسائلها, وأهدافها هو الله جل جلاله, بحيث تصب كل متعلقات الجمال المادية والمعنوية, بمشاعرها وأحاسيسها, ومتْعتها ولذتها: في رحاب الله تعالى, فتربط كل هذه المعاني بخالقها جل وعلا؛ إذ هو سبحانه أصل الجمال الكوني ومبدؤه.
إن مهمة منهج التربية الجمالية للفتاة في التصور الإسلامي -كمهمة كل أجزاء المنهج الإسلامي- ربط الفتاة بخالقها, ويمكن وصف ذلك في الناحية الجمالية من خلال خمس وسائل:
الأولى: توحيد أحكام الفتيات الجمالية المتباينة, والمتناقضة في نظْم واحد, وتوجيهها جميعاً نحو مبدأ الجمال وأصله الأول, نحو الله سبحانه وتعالى, بحيث يصبح الجمال خادماً للإيمان.
الثانية: إعادة مفهوم شمول الجمال إلى أذهان الفتيات, وتحريره من الانحصار الضيق في مجال "الفن"؛ ليستوعب كل الوجود الظاهر والباطن, المعنوي والمادي.
الثالثة: ضبط أنشطة الفتيات وأعمالهن الفنية بضابط الشرع؛ بحيث يكون إنتاجهن نافعاً هادفاً مشروعاً, خالياً من العبث والتشويه.
الرابعة: مساعدة الفتيات على التذوق الجمالي, وتدريبهن على مهاراته المختلفة من أول النشأة حتى يصبح لهن سليقة يتذوَّقنه بأنفسهن دون مساعدة, ويشاهدنه في كل ما حولهن دون إرشاد.
الخامسة: ربط الجمال بالسلوك الإنساني في حس الفتاة, بحيث تشعر بضرورته لسلوكها الخلقي كما تشعر بضرورته للذَّتها العقلية, فتدرك بذوقها المرهف المظاهر السلوكية التي تشوه الجمال وتشينه: فتتجنبها, والأخرى التي تُحسِّنه وتزيِّنه: فتأتيها, مع ضرورة إيجاد البيئة المناسبة لنمو السلوك الجمالي, والتي تعين الفتاة على تعاطي الجمال, والإسهام في صنعه.(1/425)
إن على الفتاة المنطلقة نحو التذوق الجمالي, الراغبة في الاستمتاع بمظاهره الباطنة والظاهرة أن تعرف: "أن الكائن لا يكتشف الجمال في الأشياء إلا بمقدار ما يحمله في نفسه من الجمال, وبمقدار ما يستطيع أن يضفيه على الأشياء, فالغايات الجمالية هي ما ندركه في الطبيعة مما يوافق تطلعاتنا الذاتية، فالنفس الحسنة تُولع بكل حسن, وكذلك النفس الرذيلة تُولع بما يناسبها, وأخبث ما يصيب الإنسان ويشينه أن يفقد الذوق الجمالي, فلا يعود يراه في شيء حتى وإن كان مبثوثاً في كل شيء حوله.
47ـ تحذير الأسرة من إعاقة مواهب الفتاة العقلية
وكما أن المجتمع كمؤسسة كبرى يمكن أن يمارس الإعاقة لمواهب الفتاة العقلية, فإن الأسرة كمؤسسة اجتماعية صغيرة يمكن أن تكون هي الأخرى أداة إعاقة إذا تنكَّبت النهج الحق في أسلوب التربية العقلية, فهي أداة المجتمع ووسيلته إلى الأفراد, وقد "أثبتت الدراسات النفسية المختلفة وجود علاقة ارتباطية بين البيئة الأسرية, واستجابات الفرد المرتبطة بالعمليات العقلية المعرفية"؛ وذلك لأن كل وظيفة عقلية عند الفرد لها سمة اجتماعية ثقافية تنمو في كنفها ضمن نماذج النشاطات, والعلاقات, والاتصالات التي يصنعها الفرد ويمارسها ضمن ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه.
وقد ثبت تاريخياً, وواقعياً: أن للأسرة أثراً بالغاً في رفع مستوى البناء العلمي, وتفوقهم الدراسي، وانضباطهم السلوكي؛ فالأسرة التي تعيش في بحبوحة اقتصادية, وتحرص على تثقيف فتياتها, فتتابع تعليمهن باهتمام, وتُشجِّع تفوقهن العلمي, في غير إلحاحٍ مفرط, وحَدَبٍ مملٍّ: فإنهن ينشأن في الغالب متفوقات دراسياً, ومستهلكات لغالب طاقاتهن العقلية, ومواهبهن الربانية, وكذلك العكس في كل هذا صحيح من جهة وضع الأسرة الاقتصادي, وطبيعة الرعاية التعليمية الأسرية, كل ذلك له تأثيره البالغ في تنمية مواهب الفتاة وطاقاتها العقلية المختلفة.(1/426)
48ـ أثر وسائل الإعلام في إعاقة مواهب الفتاة العقلية
تميل الفتيات في هذه المرحلة من عمر الشباب إلى الكلمة المكتوبة عبر وسائل الإعلام المقروءة, فيملن إلى القراءة في مجال الأسرة, والشخصيات, والحيوانات, والقصص العاطفية, والفكاهية, وشيء من أخبار العلوم والمخترعات، فيجدن أمامهن كمًّا هائلاً من المنشورات الصحفية التي يصعب حصرها, ويجدن من بينها أكثر من مائتي مجلة عربية خاصة بالإناث, ليس من بينها من المجلات الإسلامية إلا العدد القليل, فَشَغُفَ الفتيات والنساء عموماً بهذه المجلات, حتى أصبحت "إحدى القنوات أو الأدوات المؤثرة في فكر وشعور وسلوك جمهور النساء"، وهذا التأثير ليس بغريب؛ فإن للصحافة المنشورة تأثيرها الخاص والمتميِّز على جمهور القراء, رغم مزاحمة الوسائل الإعلامية الأخرى لها, خاصة إذا مُزجت معارفها المنشورة ضمن القصص العاطفية المثيرة, فإنها تقع موقعها من النفس, وتصبح طُعُوماً تُصاد بها القلوب.
إن الخطورة في هذه المطبوعات لا تكمن في مبدأ القراءة, فإن القراءة في حد ذاتها مفيدة, وإنما الخطر يكمن في المضمون العقدي, والفكري, والأخلاقي الذي تحمله هذه المنشورات, وما تخلِّفه على القارئ من آثار نفسية وعقلية: تعطِّل طاقات الفتاة العقلية, ومواهبها الفطرية, وتوجهها فيما لا طائل وراءه من تافه الاهتمامات, ورذيل الاتجاهات, فقد حصرت هذه الوسيلة الإعلامية نفسَها في قضيتين هما من أشد أسباب الضُّمور العقلي, والفساد الفكري والخلقي:
الأولى: إشغال الإناث بسفاسف الأمور, التي حذَّّر من التمادي فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كالملابس والزينة, وأنواع الأطعمة, وأخبار الناس, والتسلية واللهو, مع الإحجام شبه الكامل عما يتصل بالدين والآداب الإسلامية, وما له علاقة جادة بالفتيات قبل سن العشرين, وكأن هذه المجلات وُضعت لغير الفتاة والمرأة العربية المسلمة.(1/427)
الثانية: الإثارة الجنسية, عبر: القصة الغرامية, والمقالة الأدبية, والقصيدة الشعرية, والصورة الفاضحة, والمتتبع للنشاط "الأدبي في العالم اليوم ليدركه الذهول حين يرى كيف طغت الصلة بين الجنسين على الأدب طغياناً فاق كل تقدير, حتى غدت كلمة الأدب مرادفة لما سمَّوْه الجنس", وقد جرى ذلك وما زال يجري على يد جمع من الشاعرات والأديبات النصرانيات, وممن يُجيزون الفجور في الأدب, وممن حملوا على عاتقهم مسؤولية الترويج للجنس عبر الوسائل المقروءة.(1/428)
إن هذا الأدب الفاضح المكشوف عبر الكلمة المكتوبة أشد تأثيراً في نفس الفتاة, وأعظم إثارة لعواطفها من الصورة الفاضحة نفسها؛ فإن جمال الكلمة, وحسن صياغتها يسهم بقوة في تكوين الأثر النفسي والعاطفي عندها, ثم إن هذا المضمون الساقط الذي يحمله هذا الأدب المنحل لا يعدو أن يكون تسلية غير بنَّاءَه, "تستنزف جهداً ووقتاً, وتنتهي إلى إفلاس وجداني, ومرض خلقي, وقلق نفسي, أعراضه: إدمان في طلب التسلية, وقلَّة حماس عند القيام بالأعمال الجدية, وخيال يعزل عن الواقعية", ويصرف فكر القارئ عن المشكلات الأساسية إلى التافه من الاهتمامات, وإن أعظم ما يعترض عقل الإنسان في مسيره نحو الهداية: قوة الشهوات الغريزية في أعماقه حين تهيج, فإن نور العقل يخفت عندها ويضعف, ويفقد قدرته على المقاومة, لهذا كان جلُّ اهتمام المفسدين من النصارى ينصب في هذا الجانب الثقافي من الأدب, حيث ركَّزوا معاول هدمهم, وأنشطتهم المشبوهة ووجَّهوها جميعاً للسيطرة على دور النشر والطباعة مع بدايات انتشار الصحافة العربية, منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي, ودفعوا بجمع من النساء النصرانيات لتبنِّي إصدار مجلات نسائية تخاطب المرأة المسلمة, واستكتبوا كلَّ من يمكن أن يخدم موضوع تحرير المرأة, حتى الأقلام المستعارة, فتربَّى على هذا التوجه المنحل، ونشأ عليه جمع من الفتيات المسلمات اللاتي أصبحن بعد ذلك -بقصد أو بغير قصد- أدوات أدبية فاعلة للإسهام في تغريب أخواتهن المسلمات.(1/429)
وما أن حلَّت العقود الأخيرة من القرن العشرين حتى استحكمت قبضة الغرب على التوجهات الإعلامية العالمية بكل أنواعها وفروعها, وظهرت أيدي اليهود خلف كل هذا الركام الإعلامي الواسع الممتد منذ زمن بعيد؛ ليبقوا على ما كانوا عليه دائماً خلف كل رذيلة وقبيحة, فانطلقت الأصوات المخلصة عبر جمع من المؤتمرات والندوات الإسلامية: تُبَيِّن الخطر, وتوضح الطريق, وتوصي بتطهير هذه الوسائل بأنواعها من هذا الزخم الفاسد, والسعي في توجيه هذه الوسائل لنفع المسلمين, ونشر الفضيلة والمعرفة, إيماناً منها بأن مفهوم التربية الإسلامية يشمل كلَّ مؤسسات المجتمع التي يمكن أن تؤثر في الإنسان, فلا بد أن تتوجه جميعها نحو هدف وغاية نبيلة واحدة تتعاون على تحقيقها.
49ـ ابتعاث الفتيات المسلمات إلى البلاد الأجنبية
شهدت البلاد الإسلامية في العموم, والعربية على الخصوص توسعاً كبيراً في الابتعاث العلمي للدول الأجنبية, حتى شمل ذلك الإناث من الفتيات المسلمات, بتشجيع وحثٍّ من الأنظمة الحكومية, ورغبة اجتماعية لمزيد من المعرفة العالية التي لا تتوافر في الوطن المسلم, حتى أصبح الحصول على المؤهلات العلمية من البلاد الأجنبية -أياً كان مستواها ومجالها- هدفاً في حد ذاته, تسعى إليه الفتيات كما يسعى إليه الفتيان, في الوقت الذي يعتز فيه اليابانيون بالشهادات العلمية التي تصدر من بلادهم أكثر من التي تصدر عن غيرهم, وفي الوقت الذي عرف فيه الجميع أن تفوق الفتيات المسلمات علمياً في القرون السابقة لم يكن عن طريق الرحلة العلمية حتى لبلاد المسلمين بل كان محلياً في غالبه, ولن تصلُح فتيات هذا الزمن إلا بما صلحت به فتيات الزمن الأول, فالمختار هو المنع المطلق لابتعاث الفتيات الخارجي, لأي مرحلة تعليمية كانت, ولأي تخصص كان, وذلك للأسباب التالية:(1/430)
السبب الأول: إجماع المسلمين على وجوب الهجرة من بلاد المشركين إلى بلاد المسلمين, بناء على النصوص الشرعية الواضحة بتحريم مخالطة الكفار في ديارهم, وفتاوى العلماء على مرِّ العصور الإسلامية, حيث كان هذا التصور واضحاً في أذهان المسلمين إلى عهد قريب, ربما لا يزيد عن مائة عام؛ إذ كانوا يستنكرون هذا النوع من السفر, ويسقطون به عدالة متعاطيه لغير مصلحة شرعية معتبرة, ولما حصل التطور التقني الحديث الذي صاحبه مزيد من الثروة, والاستهلاك, والتعليم, والاتصال, والانتقال: تداخلت الشعوب, وتبادلت كثيراً من المعتقدات, والأفكار, والقيم, والعادات, والأنماط السلوكية, فخفَّت مع هذا الوضع الحضاري المنفتح مشاعر النفرة من الكفار, حتى أصبح غالب المسلمين لا يرون بأساً بالسفر للبلاد الأجنبية لغير مصلحة شرعية معتبرة, حتى إن بعضهم ينصُّ صراحة على ضرورة ابتعاث الفتيات للخارج حتى مع وجود الكفاية بالداخل بحجة اكتساب الخبرة العريقة من الجامعات الأجنبية المتقدمة, كل هذا رغم مناشدة بعض المؤتمرات التربوية, وتوصية المجمع الفقهي بجدة عام 1408هـ, التي تنص على ضرورة وجود "رقابة إسلامية صارمة على الأنشطة السياحية والابتعاث إلى الخارج حتى لا تتسبب في هدم مقومات الشخصية الإسلامية وأخلاقها", ورغم الإفتاء بالمنع من بعض الفضلاء المعاصرين, ووضوح القواعد الفقهية التي تتعارض صراحة مع مثل هذا التَّوجُّه الموغل في الانفلات العقدي والأخلاقي في سبيل معارف لا ترقى بحال إلى درجة الوجوب على الإناث, فتهدر من أجلها كرامتهن وأخلاقهن؛ فإن بعض القواعد الفقهية تنص على أن: "الضرر لا يُزال بمثله", وأن: "الواجب لا يُترك لسنة", وأن: "الفرض أفضل من النفل", وأما القول بالضرورة, فإن الضرورة تُقدَّر بقدرها, ولها ضوابطها, فقد حدَّها بعض العلماء المعاصرين للرجال في أضيق الحدود, وللتخصصات النادرة, فلا يصح -والنظرة الشرعية هذه- أن تسافر الفتيات(1/431)
المسلمات إلى بلاد المشركين لتلقي العلم, بدعوى التطور والانفتاح, فإن "الانفتاح على العالم شيء, وضياع الشخصية القومية شيء آخر".
السبب الثاني: ضرورة حصول قدر من التأثير السلبي على شخصية الفتاة المبتعثة في البيئة الكافرة, ابتداءً من وقوع بعضهن في تبعية الانتماء العقدي للمعسكر الغربي, بكل ما يحمله هذا الانتماء من معاني الارتداد, والكفر الغليظ, وانتهاء ببلوغ بعضهن درجة الاستمراء لمظاهر الانحرافات العقدية والخلقية المختلفة, وبينهما كثير من مراتب الانحرافات السلوكية, والمعاناة الاجتماعية, وتعددية الانتماء الفكري والوجداني, فلا يُستغرب حصول شيء من هذا في سلوك وأخلاق بعض الفتيات إذا عُرف أن الثقافة سلوك مكتسب قابل للانتقال, خاصة وأن السمات الشخصية الإنسانية أكثر السمات تأثُّراً بالبيئة الاجتماعية, فإذا اجتمع كل ذلك في دار غربة وعزوبة: فإن الفتيات يصبحن أكثر مطاوعة واستهواء من الرجال -سلوكياً وعقدياً- لكون مزاجهن أكثر عصبية, والمراكز العصبية العاطفية عندهن أكثر تهيُّجاً, إضافة إلى العملية المتدرجة التي تحصل عادة للمنخرط في المجتمع الجديد, من حيث الصدمة الثقافية التي يعانيها, ثم التدرج معها شيئاً فشيئاً نحو الاندماج والمسايرة, فيحصل من مجموع هذه الظروف الاجتماعية والفطرية كثير من الانحرافات العقدية والخلقية عند بعض الفتيات المبتعثات, ولعل أقل ما يمكن أن يحصل منهن: المشاركة في بهجة أعياد المشركين التي نصَّ الفقهاء على المنع منها, والتعوُّد على نمط الحياة الغربية, فالتأثير وإن قلَّ لا بد حاصل, يقول "روجر أسكام" - وهو ممن عاش في القرن السادس عشر الميلادي- معبِّراً عن أهمية البيئة الصالحة للمواطن الإنجليزي: "إني أعتقد أن الذهاب إلى إيطاليا خطر, وأيُّ خطر, إني أعرف رجالاً غادروا انجلترا ممن عُرفوا فيها بالحياة البريئة, والمعرفة الواسعة, ثم عادوا من إيطاليا وقد رغبت نفوسهم عن الاستقامة في(1/432)
الحياة, وانصرفوا عن العلم, ولم يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل سفرهم إلى الخارج, وكنت أنا نفسي ذات مرة في إيطاليا, وأحمد الله أني لم أمكث فيها إلا تسعة أيام فقط, ومع ذلك رأيت في هذا الوقت القصير في مدينة واحدة من الإباحية, والمجون, والإثم ما لا أكاد أذكره عن مدينتنا الفاضلة لندن في تسع سنوات", إذا كان هذا تعبير شخص لا تختلف بيئته كثيراً عن البيئة التي يحذِّر منها بني قومه, فماذا يمكن أن يقوله المسلم المعاصر عن أوروبا وأمريكا في أواخر القرن العشرين الميلادي؟.(1/433)
السبب الثالث: انحراف مناهج العلم الغربية: النظرية منها والتطبيقية؛ حيث قامت هذه المناهج على مبادئ وتصورات وعقائد خاصة بأهلها, لا يمكن إغفالها, أو تجاهلها تحت وطأة بهرج الإنتاج المادي الكبير الذي حازه العالم الغربي, فمن "غير المقبول اليوم الاعتقاد بأن العلم والتكنولوجيا أنشطة متحررة من القيم أو محايدة, ولكنها -في الحقيقة- أنشطة تُمارس من خلال سياق ثقافي أو اجتماعي له ضغوطه, ومتناقضاته السياسية والاقتصادية", فالحديث عن حيادية العلوم الغربية وموضوعيتها لا سند له من الحقيقة والواقع؛ فإن لأهل هذه العلوم منطلقاتهم, وتصوراتهم, وغاياتهم المتغلغلة والمتشعِّبة في كل جوانب معارفهم وعلومهم, فإذا نجت الفتاة المسلمة المبتعثة من الانحراف العقدي والسلوكي في بلاد الكفار, فأنَّى لها ان تنجو من الانحراف الفكري المبعثر في مناهجهم العلمية, وأساليب عرضهم الماكرة؟, ولعل هذا السبب الذي دفع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمنع الغزاة إذا هم فتحوا البلاد أن يعلموا أولادهم الصغار كتب النصارى؛ بل إن من علماء الإسلام من منع تعليم الصبيان العلوم الطبيعية في مكاتب النصارى خوفاً عليهم من الضلال, ومع ذلك فقد وقع ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ميل الأمة في آخر الزمان إلى كتب غيرها, وزهدها في كتاب الله تعالى, فلا يخفى على المطلع الاغتراب الذي يكتنف كثيراً من النظم التربوية العربية المعاصرة, في محتواها, وطرق تدريسها, ومناهجها ونحو ذلك, حتى تكاد تختفي بالكامل معالم الأصالة التربوية فيها.(1/434)
السبب الرابع: إخفاق الابتعاث للبلاد الأجنبية في النهوض بالأمة, وإخراجها من أزمتها الحضارية المعاصرة, رغم ما بُذل فيه من الجهود الكبيرة لإنجاحه, فإن مدخلاته الاقتصادية لا تساوي شيئاً يُذكر من مخرجاته العلمية والمعرفية المتوقعة للنهوض بالأمة, فقد أدرك المراقبون في المجتمع المسلم بعد زمن طويل: أن التقنية لا تُستورد من الخارج, وأن الدول الأجنبية لا تُعطي المبتعثين المسلمين الأسرار العلمية التي تمكِّن بلادهم من الاستقلال والازدهار الاقتصادي, وأن الابتعاث في حد ذاته كان مطلباً غربياً, وأداة من أدوات تغريب الشباب المسلم وإضلاله.
ثم إن الابتعاث دليل على قصور الأنظمة التعليمية الوطنية, وعدم كفاءتها لإعداد رجالها, ومما يشير إلى ذلك بوضوح أن نسبة الطلاب العرب الذين يحصلون على شهاداتهم في الدراسات العليا خارج دولهم بلغت عام 1992م (52%), هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإن الابتعاث من أعظم أسباب هجرة الأدمغة العربية إلى الدول الأجنبية؛ فالعلاقة موجبة بين حجم الابتعاث للدراسات العليا, وبين حجم هجرة الكفاءات العلمية إلى الخارج؛ فإن نسبة قد تصل في بعض الدول العربية إلى (90%) من طلابها المبتعثين لا يعودون إليها, بل يرتبطون بالدول الأجنبية المتقدمة, وهذا ما يبرر انخفاض نسبة العلماء المتخصصين الذين يعيشون في الدول النامية إلى (10%) فقط, في مقابل تكدسهم في الدول المتقدمة بنسبة (90%).(1/435)
ويكفي الابتعاث الأجنبي عاراً أن كان وراء إبراز جمع من الرجال والنساء من دعاة تحرير المرأة في الوطن الإسلامي, ممن كانت لهم أدوار خطيرة, لا تزال الأمة حتى اليوم تعيش آثارها الأخلاقية والاجتماعية المدمِّرة, يقول الأستاذ محمد الصباغ: "إن الابتعاث إلى ديار الغرب ظاهرة رافقت تخلف المسلمين وتقدم الكفار في مجال المادة, والعلوم التجريبية, وأن الابتعاث شجعته أيد أثيمة, استغلت دوافعه السليمة البنَّاءة, وأصرت على أن يستمر حتى بعد مرور ما يزيد على قرن ونصف من الزمان؛ لأنها رأت آثاره الخطيرة التي تفتك بالأمة وكيانها وكرامتها".
إن سبباً واحداً من هذه الأسباب الأربعة كاف لإقناع طالب الحق بخطأ ابتعاث الفتيات المسلمات إلى البلاد الأجنبية, حتى وإن كان ذلك بوجود محرم معها؛ فإن دور المحرم محدود, لا يتجاوز إباحة السفر للمرأة, وربما جنَّبها الخلوة الممنوعة, وقدم لها شيئاً من الخدمات التي لا ترقى لحجم خطر الابتعاث العام والخاص, ثم إنَّ مخالفة المسلمين للشارع الحكيم لن تثمر إلا مزيداً من الضياع والتخلف, فإن الكون بما فيه من مكنونات المعارف, ومدَّخرات الكنوز كلها لله تعالى لا تُنال بمعصيته, ومخالفة أمره, وإنما تُنال بفضله وبموافقة نهجه, فحين كانت الأمة الإسلامية تعيش دينها وأخلاقها, متقيدة بثوابتها: كان طلاب العلم يرتحلون إليها من أوروبا؛ لينهلوا من العلم, ثم يعودوا إلى بلادهم, فقد كانت جاذبية علوم المسلمين مغرية إلى درجة أنها جعلت السياحة والسفر تتوجه إلى بلاد المسلمين, ثم لما فرطوا في أخذ دينهم بقوة, ونسوا حظاً مما ذُكروا به, وطال عليهم الأمد: أخفقوا في علوم الحياة, وتخلفوا عن ركب الحضارة, فعادوا يتكفَّفون من كانوا بالأمس تلاميذ لهم, فبعد "أن كان الغرب مُستعيراً في القرون الوسطى: أصبح معيراً في العصر الحديث, وراح يُعير للعالم الإسلامي ما نسيَ هذا الأخير منذ عهد بعيد أنه كان ممن صنعه, ونشأ على أرض(1/436)
التربية الجسمية للفتاة
1ـ طبيعة نمو الفتاة الجسمي
سلامة نمو الفتاة الشابة في هذه المرحلة من عمرها ضرورة لا بد منها، وتتضمن سلامة بدنها من كل عوارض النمو الجسمية، التي تؤثر على قيامها بوظائفها الجسمية بصورة صحيحة وكافية، ضمن مهامها الدينية والاجتماعية، في فترة العطاء والإنتاج الأنثوي، فيما بين البلوغ وحتى الثلاثين من العمر، والتي تعتبر فترة قمة الصحة والشباب؛ حيث يعتدل فيها الجسم بين الليونة واليبوسة، ويصبح أكثر حرارة ونشاطاً.
وتتلخص مظاهر النمو الجسمي عند الفتاة في ثورة بدنية شاملة نحو النضج والكمال، تشمل كل جزئيات الجسم، التي تُثيرها إفرازات الغدد الخاصة بالنمو، في الفترة من سن الثامنة حتى السادسة عشرة تقريباً من عمر الفتاة، بحيث تكون طفرة النمو الجسمي الكبرى عند سن الثانية عشرة تقريباً، وأول مظاهر البلوغ عند الفتاة تكون بظهور برعم الصدر، وأحياناً بظهور شعر العانة، ثم يظهر الشعر تحت الإبط، وشيء خفيف منه على الشفة العليا والذراعين، مع تغيُّر في نبرة الصوت نحو الانخفاض والعمق، فإذا بلغت الفتاة أقصى نموها الجسمي من جميع جوانبه حصل عندها الطمث كآخر مظهر من مظاهر النمو، وذلك في السابعة عشرة من عمرها كحد أقصى، حيث تبلغ في هذه السن اشُدَّها، وهي قبل طمثها تُعدُّ مراهقة، وقد يحصل لها الطمث قبل تمام نموها الجسمي، بعد ظهور بعض علامات البلوغ، وذلك يرجع إلى اختلاف طبائع الإناث، وبيئاتهن الاجتماعية.
ويَختلف نمو الفتيات الجسمي عن مثيله عند الذكور في تفوقهن ما بين (9-12) سنة في الطول والوزن، وحاسة اللمس، وسعة الحوض، وظهور علامات البلوغ، في حين يتفوق الذكور عليهن بعد الثانية عشرة في القوى البدنية، والعضلية، وضخامة الجسم، وحجم الدماغ.(1/437)
ويصاحب مراحل نمو الفتيات الجسمي شيء من الشعور بالتعب، وسرعة الإرهاق البدني، وآلام في الرأس، والتهابات في الحلق؛ مما قد يعوقهن عن أداء بعض واجباتهن المدرسية والأسرية، وقد يُصاب بعضهن بشيء من ضعف التوازن الحركي، والشعور بالخوف من الحمل، والأمراض العضوية، والقضايا الجنسية، وأمور الحياة المستقبلية، إلى جانب القلق بصفة خاصة على مظاهر النمو التي تنتاب معالم الأنوثة عندهن؛ مما قد يسوق بعضهن إلى الانطواء الاجتماعي، وسرعة الغضب، والبكاء، والرغبة في تجاوز هذه المرحلة بسرعة وسلام، حتى إن بعضهن ربما مارست سلوك النساء الكبيرات رغبة منها في الخروج المبكر من حرج مرحلة النمو، كما أن البلوغ المبكر -الذي يُعدُّ تفوقاً محبوباً عند الذكور- يُزعج الفتاة، ويضعف توافقها مع القرينات ممن لم يبلغن مبلغها، فتعاني من ذلك شيئاً من سوء التكيف الاجتماعي.
إن هذه المظاهر الجسمية النامية، مع كونها مظاهر إنسانية عامة؛ فإنها من جهة السرعة عملية فردية نسبية، تختلف من شخص إلى آخر، ومن فتاة إلى أخرى، حيث تتأثر بنوع الوراثة، وجودة الغذاء، وطبيعة المناخ، ومع ذلك كلِّه فإن فترة النمو لا تدوم "لدى أي كائن حي المدة التي تستغرقها لدى الإنسان"، فهي مع كونها تُعد عند بعض الفتيات سريعة -مقابلة بغيرها من قريناتها- إلا أنها في العموم طويلة الأمد، فلا بد أن تراعي الفتاة طبيعة نموها، وتدرُّجه النمائي ضمن حدود ظروفها الفطرية، وطبيعة بيئتها المعيشيَّة، مع ضرورة حفِّ الفتاة النامية بالعاطفة الأبوية الحانية، والرعاية الأسرية الكاملة، والقبول الاجتماعي الذي يحقق لها قدراً من الرصيد النفسي الذي يساعدها على مواجهة هذه التغيرات الجسمية بصورة طبيعية مقبولة، دون توتر، أو قلق يُخلُّ بتوازنها السلوكي والعاطفي.
2ـ أهداف تربية الفتاة الجسمية وخصائصها التربوية
أهم خصائص الفتاة الجسمية:(1/438)
1-اختصاصها بالحاجة المُلحة إلى الجمال في القوام، واللباس، والزينة، وما يترتب على نقصها من اضطراب صورة الذات في حسِّها، وهذا يتطلب توجيهها إلى الاعتدال في كل ميولها ورغباتها، مع مساعدتها في تحقيق قدر كافٍ من الإشباع الذي يضمن بقاءها ضمن حد الاتزان.
2-اختصاصها بالحمل والإنجاب والإرضاع، حيث تقوم الأنثى -فطرياً- بتكثير النوع الإنساني، ضمن سنة الله تعالى التي فطرهن عليها، مما يتطلب تربية جسمية سليمة، تعين الفتاة على القيام بهذه المسئولية الشاقة، التي قد تتعرض فيها الفتاة إلى المرض أو الهزال، وربما تعرضت إلى الموت.
3-اختصاصها بالحاجة الملحة إلى النظافة الجسمية؛ لكونها تتعرض من خلال وظيفتها الاجتماعية، وطبيعتها البيولوجية إلى مزيد من الفضلات والأوساخ والروائح غير المستحسنة، مما قد يجعلها -حين تهمل نظافتها- موضع استهجان ونفرة، لا سيما من الزوج، فهي فطرياً موضع استمتاع له، لا يصح منها أن تنفره بسلوكها وتقصيرها، وهذا يتطلب تربية الفتاة على أن تصبح نظافة البدن قيمة عالية، تطلبها وتبحث عنها وتحرص عليها في جميع أوقاتها.
أهداف تربية الفتاة الجسمية:
1-العناية بصحة الفتاة الجسمية وفق الآداب الصحية في الشريعة الإسلامية.
2-إسباغ الطابع الإسلامي على جميع أنشطة الفتاة الجسمية.
3-ضبط لباس الفتاة وزينتها بالضابط الشرعي.
4-مراعاة حاجة الفتاة إلى الترويح المباح.
5-رفع مستوى مهارات الفتاة اليدوية المشروعة.
3ـ تعريف الفتاة بالواجب الشرعي تجاه الجسد
يُقيم التصور الإسلامي للجسد الإنساني مكانة خاصة، فيجعل من مهمات المكلَّف: العناية ببدنه، ورعاية جسمه، وفي الحديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(…إن لجسدك عليك حقاً), بل إن التفريط في قوى البدن، واستهلاكها في غير طائل أو نافع: مما يُذم به العبد، ويحاسب عليه يوم القيامة.(1/439)
ولما كانت فترة الشباب الأولى تزدهر بشمول النمو الجسمي، وانطلاقته القوية نحو كمال النضج البدني، فإن من الضروري -شرعاً وعقلاً- أن تعرف الفتاة واجبها المناط بها تجاه هذه القوى الفطرية المادية النامية، وكيف تتعامل معها بصورة صحيحة إيجابية، فقد ثبت ميدانياً: أن كثيراً من الفتيات في هذه السن يستهترن بالأمور والاحتياطات الصحية اللازمة؛ بل ربما ظهر انحراف في تصورات بعضهن تجاه أجسامهن، وبرزت في تعبيراتهن عنها صورة "التعصب القديم ضد الجسد، واتهامه بالشهوة، واللذة، والشر، واللاعقلية"، وكل هذا مخالف لمبادئ التصور الإسلامي، وموقفه المعتدل من الكيان المادي في الطبيعة الإنسانية، فمن الضروري تعديل هذه المفاهيم المختلطة في أذهان الفتيات، وبيان أهمية أجسامهن لسلامة باقي قواهن الإنسانية، وإقناعهن بواجبهن الشرعي تجاه الجسم، والمحافظة عليه.
4ـ حاجة الفتاة الفطرية للصحة الجسمية
رغم أن صحة البدن تُعد غاية من الغايات الإنسانية: فإن المرء بطبعه مجبول على صيانة ذاته، حيث يجد في نفسه قوة تنبعث من داخله تدفعه نحو المحافظة على نفسه، حتى إن هذه القوة الدافعة لتتضخم عند البعض لتصل إلى درجة الوسوسة المفرطة، أو ربما إلى حالة من المرض النفسي، خاصة عند المراهقين قبل بلوغهم، حيث يشعرون برعب شديد تجاه صحة أجسادهم، وبعد البلوغ يشعرون بخوف من تشوه أبدانهم النامية، حتى إن بعضهم يكره ذاته للتغيرات الجسمية، وتطورات النمو التي تنتابه.
ورغم اتحاد الجنسين في هذه المشاعر النفسية المؤلمة، فإنها أبلغ ما تكون عند الفتيات المتوجهات نحو اكتمال النمو الجسمي، حيث التغيرات المتعددة المصاحبة للنضج البدني، حتى إن بعضهن يصعب عليهن تصور أشكال أجسادهن بصورة صحيحة.(1/440)
إن التربية الصحية للجانب الجسمي تلبي عند الفتاة النامية هذه الحاجة الفطرية تجاه الجسد في صورتها السوية، بحيث لا تتعارض مع طبيعتها الجبلِّية، بل تُؤكد عليها، وتُوصِّلها شرعياً بالنصوص المحكمة، إلى جانب تعليم الفتاة وسائل الصحة الجسمية، وشروطها الضرورية، وتدريبها عليها من خلال السلوك الفردي والجماعي، في البيت، والمدرسة، والمجتمع.
5ـ علاقة الصحة الجسمية بجوانب شخصية الفتاة العامة
تدل البحوث العلمية على وجود علاقة بين مظهر الجسم ونوع الشخصية، فالشخصية القوية بجوانبها المختلفة يحملها في العادة جسمٌ صحيح: فالعقل الراجح، والوجدان المتزن، والعلاقات الاجتماعية الناجحة كل ذلك ينبعث من كيان إنساني سليم، فالجانب الخلقي في شخصية الفتاة تابع لمزاج بدنها، "فكلَّما كانت أخلاق النفس أحسن كان مزاج البدن أعدل، وكلَّما كان مزاج البدن أعدل كانت أخلاق النفس أحسن".
وكذلك في الجانب العقلي عند الفتاة: فإن العلاقة قوية بينه وبين نمو جسمها السليم، فالتعب "العقلي ناشئ في الغالب عن التعب الفيسيولوجي؛ لأنه مصحوب بتبدل حركات القلب، والتنفس، وازدياد الحرارة، وتناقص القوة العضلية، وضعف مقاومة الجسد، وهبوط الحساسية اللمسية، وارتفاع الحدَّة، وقابلية الهيجان والغضب"، كل هذه المتغيرات الجسمية تؤثر في الأداء العقلي، بل وحتى نوع الغذاء الذي ينمو عليه الجسم، وطبيعة الجهد الجسمي الذي تقوم به الفتاة، وطريقة معيشتها في العموم كل ذلك له تأثيره البالغ في قوة أو ضعف جوانب أدائها العقلي.(1/441)
وهذه العلاقة أيضاً منطبقة على الجانب النفسي عند الفتاة بصورة قد تكون أبلغ وأعظم: فإن تطورها النفسي السليم يخضع بصورة قوية لنمو جسمها الصحيح، فالآفات الجسدية، وتعَثُّرات النضج الفسيولوجي: من أعظم أسباب ظهور الشذوذات النفسية المتطرِّفة؛ بل إن مجرَّد تشوُّه يسير في شكل الفتاة الجسمي، أو استئصال جزء من أجزاء بدنها الظاهرة كفيل بأن يُحطِّم جانباً من كيانها النفسي، أو على الأقل يسوقها نحو الانعزال الاجتماعي المفرط، الذي يؤدي بالتالي إلى أنواع أخرى من المعاناة النفسية، والإخفاقات الاجتماعية، والشعور بالمنبوذية؛ فإن من الصعوبة بمكان أن تعزل الفتاة عواطفها، ومشاعرها عند تعاملها مع الناس عن حالتها الجسمية، ووضعها الصحي.
ومن هنا تظهر أهمية صحة الجسد، وفاعليته، ودوره المتلاحم مع الجوانب الأخرى من الشخصية الإنسانية، فلا بد أن تنال نصيبها من الصحة الجسمية الكافية، والكفيلة بنمو باقي جوانب شخصيتها الإنسانية بصورة صحيحة ومتكاملة.
6ـ أهمية صحة الفتاة الجسمية لسلامة الإنجاب
إن أعظم مهمة تقوم بها الفتاة بعد عبادة ربها - عز وجل - : خدمة النوع الإنساني من خلال الإنجاب السليم، ورعاية النسل، فإن خير مراحل عمرها أوَّلُها حين تكون منتجة للذرية، وراعية لها.(1/442)
ولما كان لأطوار الحمل والولادة متاعبها الجسمية المضنية، التي قد تؤدي ببعض الحوامل الضعيفات جسمياً إلى الموت، فليس أحد من إناث الحيوانات أكثر عرضة للموت عند الولادة من أنثى الإنسان، ولما كان الجنين يقضي شوطاً من نضجه الجسمي في بطن أمه، حيث يتأثر بكثير مما تتعاطاه من الماديات المحسوسة، أو المعنويات غير المحسوسة، ولما كانت الوراثة في العموم تقوم بدور رئيس في اللياقة البدنية، ولما كانت العناية بالطفولة مهمة نسوية شاقة: فإن رعاية الفتاة جسمياً ونفسياً، وتهيئتها صحياً لهذه المهمات والمسؤوليات الكبرى المتعلقة بها يُعد من أعظم أهداف التربية الصحية، ومن أهم مهماتها الجسمية، خاصة في هذا العصر الحديث الذي هبطت فيه مستويات الصحة الإنسانية عموماً، والصحة النسائية خصوصاً؛ بما يتعاطينه من المواد القبيحة المفسدة، والعادات القبيحة، والأعمال الجسمية المنهكة، التي جعلت مضاعفاتهن الجسمية أكثر في العموم من مضاعفات الذكور، رغم أنهن أكثر وعياً بالأمور الصحية من الذكور كما دلت على ذلك بعض الأبحاث العلمية.
إن هذا الوضع الصحي المتردي يتطلب جهوداً صحية مضاعفة، وعملاً متواصلاً للنهوض بمستويات الفتيات الصحية، وقدراتهن الجسمية حتى يتمكَّن من القيام بهذه المهام الإنسانية الجسيمة، التي لا يمكن أن يقوم بها غيرهن من النساء اليائسات أو الذكور، كما لا يمكن أن يستعاض عنهن بالآلة المبتكرة، مما يُحتِّم على منهج التربية الصحية رعايتهن، وكفايتهن لهذه المسؤوليات الإنسانية الفريدة.
7ـ استمتاع الفتاة بالصحة الجسمية(1/443)
يَعتبر التصور الإسلامي الصحة البدنية أفضل النعم الربانية بعد نعمة الإسلام، فهي أفضل للمؤمن من كثرة المال، فإذا اجتمع إليها الأمن الاجتماعي، والكفاية الغذائية تحقق باجتماعها جميعاً أعظم ما في الوجود من معاني السعادة الإنسانية، فهي في الحقيقة ملك خفي، يغفل عنه الإنسان، ويسهو عن استحضار فضائله؛ لهذا تكون الصحة البدنية أول مظاهر النَّعيم التي يُسأل العبد عن شكرها يوم القيامة، وفي الجانب الآخر فإن فقدان الصحة الجسمية له آثاره الشديدة على الفرد نفسياً، واجتماعياً، وسلوكياً، "فثمَّة في الواقع علاقة وثيقة بين التمتع بالصحة والتمتع بالسعادة، وعلى نقيض هذا ثمَّة علاقة أخرى وثيقة بين ضياع الصحة وبين الإحساس بالغم والاكتئاب"، لهذا كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري...).
وأفضل فترة من العمر تتمتع فيها الفتاة بالصحة الجسمية هي فترة الشباب؛ لكونها فترة خلَّفت وراءها سن الطفولة بضعفها وأمراضها، ولم تدخل بعد في سن الكهولة ثم الشيخوخة ومضاعفاتها، فلا بد أن تستغل الفتاة هذه الفترة الحيوية من عمرها بما يحفظها من الآفات والأمراض الجسدية، حتى تستمتع بقدراتها الجسمية كأحسن ما يكون، ولمدة أطول، بحيث تتقدم عبر مراحل عمرها بصحة أوفر، لاسيما وأن النساء في العموم يُعمِّرن أكثر من الرجال، إلا أن تعرضهن للعجز في الكبر أكثر من الرجال، فلا بد من مراعاة الجانب الصحي عندهن.
8ـ ضرورة التغذية الجيدة لصحة الفتاة الجسمية(1/444)
يعتبر الغذاء من أعظم مقوِّمات كيان الإنسان الجسمي، فإن الإفراط في الجوع، "وملازمة الحمْية: تُنهك البدن وتهزله"، فإذا أدَّى ذلك إلى الإضرار الفادح بالبدن، والعجز عن القيام بالواجبات والتكاليف الشرعية: كان حراماً؛ ولهذا رُكِّبت في الإنسان شهوة الطعام، لتكون أداة حثٍّ لتحقيق مصلحة البدن من خلال إشباع هذه الحاجة الجسمية الأولية، بحيث لا يُذمُّ الإنسان في طلبه للطعام وميله إليه، وإن أدَّى ذلك إلى أن يصل به إلى حدِّ الشِّبع، لاسيما في فترة الشباب التي تزداد فيها حاجة البدن إلى مزيد من الغذاء.(1/445)
وعادات الفتيات في تناول الطعام كسائر العادات الإنسانية في واقع الحياة: يحتفُّ وسَطُها بجانبي الإفراط والتفريط، بحيث يصلن إلى درجة الإفراط المذموم في تعاطي المأكولات، والمشروبات إلى حدِّ الشره أحياناً، ولهذا يُلاحظ الشره بين الفتيات أكثر منه بين الفتيان، وبالتالي يعانين من مشكلة زيادة الوزن التي تنتشر بينهن أيضاً، فقد يفوق ما تلتهمه إحداهن في اليوم في مجالس متعددة ما يتناوله الرجل في المجلس الواحد، وربما انحدرت ببعضهن العادات في الجانب الآخر إلى حد الشذوذ المفرط -غير المعقول- في الامتناع عن الطعام، وهذا يشبه إلى حد ما امتناع بعض الفتيات عن تناول وجبة الإفطار، فقد دلَّت دراسة سعودية على أن 42% من الطالبات يحضرن المدارس دون تناول وجبة الإفطار، إلى جانب تلبسهن بأنماط غذائية غير صحية، وبين هذين الجانبين المتباينين من مراتب الإقبال والإحجام، والإفراط والتفريط عند الفتيات ما يخضع لحالة إحداهن النفسية، ووضعها الاجتماعي، ومدى استحكام "الموضة" في اختيارها لأحجام الملابس، وإلى أي حد بلغ رضاها عن جسمها؛ فإن هناك علاقة قوية بين رضا الفتاة عن جسمها وبين فقدانها لشهية الطعام، ولهذا يُلاحظ أن الطعام كثيراً ما يكون موضع انتقام للفتيات بالإفراط في الإقبال عليه، أو التفريط في الامتناع عنه، وذلك بسبب صراعات نفسية أو معاناة اجتماعية، أو إخفاق ما في الحياة.(1/446)
ولما كانت الطبيعة البدنية في حاجة إلى سياسة الاعتدال في تناول الغذاء، فقد أحكم منهج التربية الجسمية في التصور الإسلامي جانب التفريط في حق رعاية البدن بإحياء مسؤولية الفرد عن صحته الجسمية، وضبط جانب الإفراط بمناهج التربية الزهدية، وربطه -كسنَّة جارية- بين اعتدال المسلك في المأكل والمشرب، وبين جوانب الصحة النفسية، والعقلية، والجسمية، بحيث لا يكاد يتخلف التأثير الإيجابي لمنهج الاعتدال على هذه الجوانب المهمة من كيان الإنسان؛ حتى إنه ليبلغ تأثيره الإيجابي الفاعل جانبي الإنسان: الإيماني في قلبه، والخلقي في سلوكه، ثم أحاط -بعد ذلك- منهج التربية الجسمية هذا المسلك الاعتدالي بمجموعة من الأحكام الشرعية، والآداب المرعية التي تضفي عليه صبغة اعتقادية، وطابعاً أدبياً، ووقاية صحية، تؤثر في مجموعها على شخصية المسلم بجوانبها المتعددة.
ووسيلة الفتاة الأولى للأخذ بهذا المسلك الوسط - بعد القناعة الكاملة به- هو المران؛ فإن النفس الإنسانية إذا ألفت شيئاً، واعتادت عليه: صار من جبلتها، يصدر عنها دون تكلف وأما الوسيلة الثانية فمن خلال التعرف على أنواع الغذاء النافع، والأكثر جودة، والإعراض عن الرديء منه، وإن كان لذيذاً، خاصة في هذا العصر الذي انحطَّ فيه مستوى الجودة النوعية، وكثرت فيه المعالجات الكيميائية حتى غدا الإنسان المعاصر ضعيفاً في بنيته، ومعرَّضاً "لكثير من الأسباب التي تقلل من سعادته، بل والتي تعرضه لانحراف المزاج، وللإصابة بالتوترات المستمرة، وعدم التكيف والتلاؤم مع البيئ
9ـ أزمة التدخين عند الإناث(1/447)
يصحُّ بدن الإنسان بين أسباب الوقاية وأنواع العلاج، في سنن فطرية ثابتة ضمن قدر الله تعالى وقضائه العام، فما من داء إلا وله دواء يصلح له، فإذا أصابه حصل الشفاء بإذن الله تعالى، ولهذا حثَّ الشارع الحكيم على التداوي، واتخاذ العلاج، وأوصى بأنواع منه مختلفة، وحذَّر من أخرى، وفي الجانب الآخر: أمر بالوقاية، والحرص على تجنب الإصابة بالمرض، في غير تكلُّف وهلع يخرج صاحبه عن مراتب التوكل وحدِّ الاعتدال.
إن من أعظم أسباب السلامة تكوين العادات الصحية الجيدة، بحيث يتكون لدى الفتاة رصيد من الصحة الجسمية، التي تمكِّنها من القيام بوظائفها البدنية بكفاءة مُرْضية، مع قدرتها الجيدة على التحمُّل الجسمي في مواجهة الأمراض، والتغلُّب عليها، وذلك من خلال التأثير الإيجابي على معارفها واتجاهاتها الصحية، ومن ثَمَّ ترجمتها في أنماط سلوكية صحية، بحيث تصبح قادرة على أن تسعى جادة، وبصورة تلقائية، وبمجهوداتها الشخصية للحصول على الصحة البدنية، وتتحمل -كعضو اجتماعي مكلَّف- رعاية جسمها صحياً، دون الحاجة إلى عون الجماعة التي تمارس في هذا العصر أرذل صور السلبية الصحية، وتتعاطى أنواعاً متعددة من العادات والسلوكيات التي تتعارض بصورة صارخة مع أبسط قواعد الصحة العامة، وآداب السلوك.(1/448)
ولعل في عادة التدخين -فضلاً عن المحرمات المنتشرة من المآكل والمشارب- ما يدل على هذا المعنى بوضوح، حيث تمارس المجتمعات الإنسانية المعاصرة تجاهه أقبح أنواع التناقض العقلي، وأحط أساليب التخاذل الدولي، ففي الوقت الذي ثبت فيه ضرره الصحي الفادح عند كافة الشعوب المعاصرة، واستقرت حرمته عند علماء الأمة المسلمة بصورة خاصة: ما زالت المجتمعات المعاصرة قاطبة تُقرُّه كسلعة اقتصادية رائجة، وتسمح للأفراد بتعاطيه ضمن حرياتهم الشخصية، مكتفية في مواجهة أضراره الصحية البالغة بإقامة الحجة الهزيلة على متعاطيه بالكتابة الرمزية على منتجاته بأنها ضارة، ثم تسمح -بعد ذلك- لوسائل إعلامها المختلفة بالترويج له كأقوى ما يكون بصورة مباشرة وغير مباشرة، وتُسهِّل لشركات التبغ الوصول به إلى كل أفراد المجتمع حتى الأطفال، في صور متناقضة من التخاذل الاجتماعي الذي يصعب تبريره.
ورغم أن التدخين بأنواعه المختلفة كان إلى عهد قريب عادة ذكورية: فقد أقبل عليه النساء مؤخراً بصورة كبيرة حيث يشكِّلن اليوم ثلث المدخنين، وحتى الفتيات اللاتي يُعتبرن في العموم أقلَّ إقبالاً عليه من الذكور: فقد تورَّط كثير منهن في تعاطيه إلى درجة الإدمان، حتى وصلت أعداد المُدخّنات في أحد البلاد الإسلامية إلى 39% وفي أخرى إلى 50%، وما زالت أعداد المدخنين من الجنسين في تزايد عالمي مستمر، يُنذر بخطر صحي كبير، ففي الوقت الذي تنخفض فيه معدلات التدخين لدى الغرب: تزداد -للأسف- معدلاته في الدول النامية، ولعل ارتباط التدخين عند المرأة بقضايا التحرير، والحقوق، والمساواة: دفعها في الستينات من القرن العشرين إلى التوسع في تعاطي التدخين.
ومع كون الفتيات -بحكم كونهن مكلفات شرعاً، ومسؤولات أمام الله تعالى عن سلامة أبدانهن -يستوين مع الذكور في حرمة التدخين، وتبعة الخطيئة: فإنهن -مع ذلك- ينفردن عنهم بمزيد من الإثم، وتبعة المسؤولية، وذلك لسببين:(1/449)
السبب الأول: كون الواحدة منهن موقع استمتاع للزوج، يتعفَّف بها عن الوقوع في الحرام، فلا يصح منها أن تعتاد ما يُنفِّره منها، ويزهِّده في قربها فتسوقه بالتالي إلى الانحراف، والدخان -كما هو معلوم- من المواد المشوِّهة لجمال المرأة، ورائحته من أشد الروائح الكريهة نفاذاً في الأبدان، والملابس، والأثاث، وقد نصَّ بعض الفقهاء على أن من حق الزوج منع زوجته من أكل ما يُنتن الفم، ومن شرب الدخان؛ لما فيه من الرائحة الكريهة.
السبب الثاني: كون الفتيات موضع الحرث وإنتاج النسل ورعايته: فلا يجوز لهن أن يتعاطين ما يُعطِّل أو يُفسد قيامهن بهذه المسؤولية الكبرى، وعادة التدخين -بإجماع الأطباء- تؤثر بصورة سلبية على صحتهن أكثر من تأثيرها السلبي على الذكور، فتُقلِّل من خصوبتهن، وتضرُّ بصحة الأجنة في بطونهن بصور مختلفة، وربما إلى حدِّ الإجهاض، إضافة إلى تأثيره السلبي على نشاطهن الجنسي في العموم، إلى جانب الأضرار الصحية التي يتعرض لها الأطفال الصغار من جرَّاء استنشاق الدخان المتصاعد من أفواه الأمهات ومناخرهن؛ فإن (15%) من موتى التدخين هم من المتعرضين للدخان وليسوا من المدخنين.(1/450)
ومن هنا فلا يصح للفتاة المسلمة أن تتعاطى شيئاً من الدخان تحت أي مبرر، وعليها أن تتجنب الأسباب الاجتماعية والنفسية التي تسوق إليه: كالمشكلات الأسرية، والاضطرابات العاطفية، والاكتئاب النفسي، والشعور بالإحباط والإخفاق، مع الحذر الشديد من حياة الترف، التي تُغري الفتيات بالتجريب وحب الاطلاع، والتعبير من خلال التدخين عن علو الشأن، وارتفاع المكانة الاجتماعية، والانطلاقة نحو التحرّر والانفتاح، فقد ثبت عند كثير من الباحثين ارتباط عادة التدخين بكثير من الجرائم والانحرافات الخلقية الكبرى، التي لا تتوقع الفتاة أن تصدر عنها، فإن المعاصي يجرُّ بعضها إلى بعض، والأخطاء يدفع بعضها إلى بعض، كما أن الطاعات يحفِّز بعضها إلى بعض، وقد أثبتت الدراسات أن التدخين بوابة تعاطي المخدرات؛ فإن (90%) من متعاطي المخدرات بدأوا بالتدخين، كما أن نسبة كبيرة من المواد المخدرة يتعاطاها أصحابها عن طريق التدخين، وفي الجانب الآخر "تظهر الأبحاث أن الطلاب الذين لم يدخنوا إطلاقاً: أقل ميلاً إلى تعاطي المخدرات، وأن الشاب الذي يصل إلى سن العشرين دون أن يدخن: لا يحتمل أن يبدأ في التدخين بعد هذه السن"، كما أن "الأطفال الذين يبدؤون في تعاطي التدخين قبل سن الخامسة عشرة تكون لديهم القابلية للوقوع في الإدمان ضعف غيرهم من الطلاب الذين لم يبدؤوا في تعاطي السجائر أو الكحول إلا في سن متأخرة".(1/451)
وأما إذا ابتُليت الفتاة بالتدخين -ولو إلى درجة الإدمان- فليس لها وسيلة إلا الإقلاع التام بصورة مباشرة، ولا تترك هذه العادة القبيحة كالغلِّ في عنقها، فمع كون الخمر أعظم إدماناً من الدخان: فإن كثيراً من الصحابة، رغم ما ألفوه من حبها وتعاطيها: نزعوا عنها وهم يعاقرونها، وأقلعوا عن تعاطيها بالكلية دفعة واحدة لما بلغهم الأمر باجتنابها، فهذا مقام الإرادة التي يمتاز بها الإنسان عن سائر طوائف الحيوان، وهو وسيلة الفتاة الوحيدة- بعد عون الله تعالى- للخلاص من عادة التدخين بصورة صحيحة ونهائية.
ولا ينبغي من الفتاة المسلمة المعاصرة التي ثبت عندها وتواتر بيقين ضرر التدخين بأنواعه على صحة الإنسان أن تعتمد على بعض الفتاوى السابقة والقديمة المبيحة لتعاطيه، أو التي تصفه بالكراهة وتتردَّد في تحريمه، فهذه الفتاوى في غالبها لم يثبت لدى أصحابها الضرر العظيم الذي يخلّفه التدخين على متعاطيه، ومع ذلك فقد ربطوا القول بالتحريم إذا ثبت الضرر، وتحقق الأذى، إلا أن ذلك لم يثبت لديهم في زمنهم بالوضوح الذي ظهر في هذا العصر، من خلال المكتشفات الطبية، والأرقام الإحصائية، فأي ضرر أعظم من أربعة ملايين قتيل سنوياً بسبب التدخين؟ عدا من تتعطل صحته بسببه، إضافة إلى الأرقام الفلكية من الثروات التي تُهدر في زراعته، وصناعته، وشرائه، والإعلان عنه.
ولا ينبغي استهجان القول بالتحريم لهذه الآفة فقد قال به البابا النصراني في عام 1642م، وأصدر إمبراطور روسيا في زمنه القوانين بأشد العقوبات على المدخنين، والخلاف الذي وقع بين الفقهاء المتأخرين بشأنه يرجع إلى أن تعاطيه من الحوادث المستجدة التي لم تظهر إلا بعد سنة ألف من الهجرة النبوية، حين بدأ بعض اليهود والنصارى والمجوس ينقلون شجرته إلى بلاد المسلمين، فتلقَّفه بعضهم وتعاطوه، واعتادوا عليه.(1/452)
ثم إن ربط مسألة التدخين بالدين أمر مهم، وله إيجابيته في سلوك الناس؛ فقد ثبت أن هناك علاقة بين ارتفاع درجة التدين وانخفاض نسبة التدخين، إلى جانب أن المسلم لا يرى أمراً من أمور الحياة -مهما كان يسيراً- يمكن فصله عن الدين، لاسيما ماله صلة مباشرة بمقاصد الشريعة الإسلامية كقضية التدخين التي تتعارض بصورة صارخة مع مقصد حفظ النفس، ورعايتها من الضرر والأذى.
10ـ حاجة الفتاة الملحة إلى جمال الجسم
تميل الفتاة الشابة نحو التفوق في جمال جسمها، بحيث تشعر بكفاية مقدار جمالها البدني العام للقبول الاجتماعي عموماً، وعند الجنس الآخر خصوصاً، فإن الشباب بصورة عامة - رغم كونهم طبيعيين في نموهم- يعانون حساسية مفرطة تجاه ملامح أجسامهم، ويرغبون في تعديلها على نحو ما؛ إذ يمثل الجسد بالنسبة لهم في هذه المرحلة عاملاً في غاية الأهمية، والفتيات -في كل هذا- أشد اهتماماً، وأكثر قلقاً على حالة نموهن الجسدي، وعيوبهن البدنية، وأبلغ أماني إحداهن في هذه السن أن تكون بارعة في الجمال، مكتملة النمو الجسمي، فبقدر ما تحب الفتاة أن يَلْحَظَ مَنْ حولها جمال نموها الجسمي، ويتأمَّلوا ذلك منها، فإنها تتأثر بانطباعاتهم، وتعليقاتهم التي تسهم بقوة في تكوين مفهومها عن ذاتها الجسمية، فالفتاة مهما بلغت من العقلانية والنبوغ؛ فإنها في حاجة ملحة إلى إثارة إعجاب الآخرين بمفاتنها، وجمال بدنها أكثر من حاجتها إلى ثنائهم على عقلها ونبوغها، ولهذا يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : "عقل المرأة جمالها، وجمال الرجل عقلُهُ"، فالحُسن "في النساء آكد، فإن الأمر في الحسن منوط بهن، فمهما كانت المرأة أحسن كان أعظم لشأنها، وأعز لمكانتها"، والمرأة في كل زمان ومكان هي المرأة، مهما حاول بعضهم إخراجها من عالمها، وجسدها بخصائصه الأنثوية الطبيعية عنصر أساس لعالم المرأة، "فالأنوثة والجمال هما العنصران الأساسان لهذا العالم، فما زالت مسابقات ملكات(1/453)
الجمال تجري حتى يومنا هذا، وما زال لجمال الأنثى دور بارز في زواجها وعملها"، وإذا كان للجمال من صورة ومثال، فإن جسد المرأة هو مادة هذا الجمال وصورته، فمهما تحدثنا عن المرأة بوصفها رمزاً أو معنى فإن الجسد الأنثوي بما أودع الله فيه من خصائص متميزة يظل مسيطراً على عالم المرأة"، فجمال الجسد في حق الفتاة، والنساء عموماً: فضيلة ضرورية عندهن، لا غنى عنها، ولا بديل لها.
ويرجع سبب إلحاح الأنثى على استحواذ الجمال الجسمي إلى كونه مطلباً رئيساً للذكور قاطبة، حتى الأنبياء عليهم السلام لا يزهدون فيه، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في خطبة ضباعة بنت عامر < لما اشتهرت بحسنها، فلما علم بكبر سنها، وذهاب معالم جمالها التي حُكيت عنها: أعرض عن خطبتها، فعلى الرغم من أن الجمال البشري مُقسَّمٌ بين الجنسين: فقد اقترنت صورة الجمال المطلق في حسِّ الرجال بالفتاة في عنفوان شبابها، وكأن الجمال في شعورهم أنثوي الطبع، في حين قد يكون جمال الرجل الذكر أبلغ من جمال المرأة الأنثى، كما هو في غالب عالم الحيوان، إلا أن الظاهر أن جمال الفتاة المحبوبة، المرغوب فيها مع كونه يحقق للزوج العفة، وغض البصر، وكمال الاستمتاع: فإنه مع ذلك يُريح النفس ويُسكِّنها؛ لأن النظر -في حد ذاته- إلى الزوجة "الجميلة الحسنة الخلْق يُفرح النفس، ويُنشِّطها، ويزيل عنها الأفكار والوساوس الرديئة"؛ ولهذا كان مطلب الرجال للجمال في الإناث مستساغاً، وحرصهن الشديد على التفوق فيه، والاستحواذ عليه مقبولاً لا يستنكر؛ لذا يُستساغ التغاير بين النساء في الجمال، ولا يُستساغ ذلك بين الرجال وأما حديث الترغيب في الفتاة الصالحة، وتقديمها على الجميلة: فليس فيه ما يدل على الزجر عن الجمال؛ "بل هو زجر عن النكاح لأجل الجمال المحض، مع الفساد في الدين"، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى جمال الفتاة بسرور الرجل إذا نظر إليها، فليس بمستهجن -بناء(1/454)
على هذا الفهم- حرص الجنسين على كسب الجمال ونيله، كلٌ حسب طبيعته، ونوع دوافعه.
إن شعور الفتاة بنقص جمالها الجسمي، خاصة فيما يتعلق بجمال ملامح الوجه، واعتقادها بأنها شخص غير مرغوب فيه: كاف لإحجامها عن الوسط الاجتماعي، واضطراب مفهومها عن ذاتها، وربما انخراطها في سلوك خلقي شاذ، وقد يحصل لها اضطراب نفسي من تشوُّه الوجه أو الصدر أو اليدين بسبب الحروق التي كثيراً ما تصيب الفتيات في الخدمة المنزلية من جراء مواجهتهن للهب، وتعاملهن مع السوائل الساخنة، بل إن قدراً طبيعياً من مظاهر اضطرابات النمو الجسمي في مرحلة البلوغ: كاف - في حدِّ ذاته- لإزعاج الفتاة، وإشغال ذهنها، وإشعارها بالشذوذ الجسدي: كاختلال توازنها الجسمي بسبب النمو، أو تنامي حجم الأنف، أو ظهور بعض الشعر الرقيق على جوانب من جسمها، أو عدم تناسق الثديين ونحوها من مظاهر النمو الطبيعي، فقد تدفعها مهمتها للجمال الجسمي في غير الاتجاه الصحيح، مثل محاولة تغيير لون البشرة إلى السُّمْرة عن طريق "التَّشمُّس"، فرغم أنها وسيلة مكروهة في نظام الإسلام الصحي، ولها أضرارها الصحية: فإن بياض البشرة - بصفة خاصة في الوسط العربي- محبوب، وهو عندهم يُعد نصف جمال الفتاة، حتى قيل: "الحسن: بياض اللون وسواد الشعر، وكل منهما شطره"، كما أن كل أمة -في الغالب- تستحسن من ألوان نسائها ما اعتادت عليه، حتى الزنوج يستحسنون ألوان نسائهم، فصفاء اللون نعمة لا يصح من الفتاة السعي في تغييرها.
وأفحش من ذلك: أن تلجأ الفتاة تحت وطأة افتقارها للجمال الجسمي، ورغبتها في زيادة حسنها: إلى تغيير خلق الله تعالى بالتدخل الطبي من خلال عمليات جراحة التجميل دون حاجة صحيحة قائمة، إلا الرغبة في التَّحسين الجسمي غير المشروع، وقد دلَّ الواقع أن غالب حالات جراحة التجميل تتم بناء على دوافع نفسية أكثر من كونها ضرورة طبية.(1/455)
إن من الضروري أن تعرف الفتاة: "أن الجمال يختلف باختلاف الطباع"، فلا يحصره قالب أو شكل معيَّن، وليس بالضرورة أن تكون الفتاة الجميلة في عين الرجل قادرة بنفسها على إدارك الجمال وتذوقه، كما أن الجمال الفائق في حد ذاته قد يكون نقمة على الفتاة حين يسوقها إلى التبرج والسفور وإثارة الشهوات، أو الإدلال به على الزوج؛ فإن كثيراً من الجميلات متعثرات في حياتهن الزوجية؛ ولهذا لم يكن العرب الأوائل يستحبون الجمال البارع في الزوجة مخافة الفتنة بها، وشدة الإدلال، وبلوى المنافسة والتنازع، كما أن الفتاة الجميلة بقدر ما تُولِّد من الحب والميل في قلوب الرجال، فإنها - في الجانب الآخر- تولِّد من الحقد والكراهية في قلوب النساء، فليس الجمال دائماً في صالح الفتاة، ومن القواعد المعلومة أن: "النِّعمة بقدر النِّقمة".
كما يجب على الفتاة أن تعرف أن الجمال لا يخضع للوراثة فقط؛ فإن سن الشباب- في حد ذاته- وكمال الصحة البدنية، والنظافة الجسمية، وجودة التزُّين والتأنُّق، وحسن العشرة، والجاذبية، وبراعة الحركة، وحسن الصوت، وجودة الفهم: كل هذه الجوانب تكوِّن في مجملها أركان الجمال الأنثوي، بل إن مجرَّد الانتساب إلى الإنسانية يُعد في حد ذاته أعلى قيمة جمالية مخلوقة في الكون، فالله جلَّ وعلا خلق الإنسان في أعلى درجات الجمال، فقد قال - سبحانه وتعالى - : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] يعني في أكمل وأحسن صورة، فمهما فقدت الفتاة من الجمال المرغوب فيه عند الناس فقد حازت أصله وقدره الأعظم بإنسانيتها، وأصل فطرتها.(1/456)
وأعظم من هذا كله وأجل: يقين الفتاة بضرورة جمال الباطن، وطهارته، وتزكيته، فلا مزيَّة عند الله تعالى لمن كانت صورته الظاهرة جميلة، وكانت داخلته الباطنة قبيحة؛ فإن في اهتمامات الفتاة غايات وآمالاً أسمى بكثير وأعظم من مجرَّد الجسد وحاجاته، "فالأصل في المحاسن، والمطلوب عند العقلاء في كل المواطن إنما هو إصلاح السرائر، وتهذيب البواطن لا الظواهر"، فالجمال "لا ينحصر بتاتاً في الجمال الطبيعي والمصطنع أي التجمُّل بل يتعداه إلى الجمال المعنوي والأخلاقي الذي يُعتبر من الأركان المهمة والأساسية لجمال الإنسان"، ثم إن كلَّ صفة جبلِّية لا كسب للإنسان فيها كحسن الصورة، واعتدال القامة، أو عكس ذلك كقبح المنظر، ودمامة الخلْقة، كل ذلك لا ثواب عليه ولا عقاب، وإنما الجزاء بالخير أو الشر على موافقة الشرع أو مخالفته، فمن نال نصيبه الوافر من جمال الباطن، فقد نال الحظ الأكبر من الجمال الحقيقي، وفي الحديث:(إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم), فجسم الإنسان -كما يرى علماء الجمال- كالزجاجة تظهر من خلالها ألوان المحتوى: جميلها وقبيحها.
11ـ اعتدال وزن الفتاة الجسمي(1/457)
من حاجات الفتاة المُلحَّة في مرحلة الشباب اعتدال وزنها بين السمنة المفرطة، والنُّحولة المنهكة، فهي كما تعاني مشكلة الإفراط في النحولة فإنها أيضاً -بصورة أكبر- تعاني مشكلة الإفراط في البدانة، حيث الاستخفاف الاجتماعي، وسخرية الزميلات، ومعاناة اختيار الملابس الجاهزة، إلى جانب الإجهاد الصحي، وضعف الحركة، خاصة في هذا العصر، ومع بداية القرن العشرين، وبصورة أدق بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث ظهر التوجه بقوة -عبر وسائل الإعلام، وبيوت الأزياء- نحو رشاقة النساء، والميل إلى شيء من النحولة بدلاً من السمنة، التي كانت إلى عهد قريب معلماً من معالم جمال الفتاة، وضرورة مهمة لقبولها عند الرجال، حتى عدَّها بعضهم نصف الحسن، وأفضل ما تحلَّت به الفتاة، حتى "قيل: الجميلة السمينة، من الجميل وهو الشحم"، وما زالت بعض الأوساط الريفية حتى اليوم تمتدح الفتاة بسمنها، وامتلاء جسمها، وقد كان تسمين الفتيات للزواج في القديم معلوماً؛ فإن عائشة < لما أراد أهلها إدخالها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وكانت صغيرة نحيلة- سُمِّنت بالغذاء كأحسن ما يكون، حتى تعجَّب الناس من سمنها؛ بل إن المبالغة في هذا الشأن، والإفراط فيه إلى درجة الفحش، وارتكاب بعض المحظورات الشرعية، والمكروهات السلوكية: كان مشاعاً في بعض الأوساط الاجتماعية في السابق، حتى إن بعض الفقهاء كانوا ينهون عن ذلك، وينبِّهون عليه.(1/458)
إن هذا التغيُّر الجذري في مفهوم حجم الجسم لدى الفتاة المعاصرة - والمجتمع الحضري ككل- أدَّى إلى ردَّة فعل معاكسة تماماً للمفاهيم القديمة التي كانت سائدة، حيث قامت النحولة مقام السمنة، وخفَّة الوزن مقام العَبَالة، ونشط كثير من الفتيات لممارسة أقسى أساليب تخفيف الوزن ضمن نظام غذائي صارم: من الامتناع المفرط عن الطعام، والرياضة البدنية القاسية، والتدليك الجسمي، وتناول العقاقير الطبية إلى درجة أن طفرة النمو الطبيعية في هذه السن يعدُّها بعض الفتيات مظهراً من مظاهر السِّمن الذي يحتجن معه إلى تخفيف الوزن، حتى إن معالم الأنوثة الجسمية المميَّزة لهن تكاد تضيع، وتختلط بمظاهر الرجولة الجسمية، ضمن هذه الممارسات البدنية المفرطة، والمفاهيم الصحية المختلطة، التي تبلغ عند بعضهن درجة الهوس الممرض رغبة في مطابقة الصور المطروحة في السوق الإعلامية.(1/459)
إن نهج الاعتدال هو القاعدة الأساسية التي تنطلق منها مفاهيم الإسلام لمعالم الصحة البدنية، فسعي الفتاة في زيادة وزنها، أو نقصانه بالوسائل المشروعة يخضع لهذه القاعدة، فكما يصح لها شرعاً أن تزيد فيه رغبة منها في البراعة الجسمية، فإن لها أيضاً أن تُنقص منه رغبة في الرشاقة والخفة، بشرط ألا تتضرر من ذلك صحياً، أو تتعطل عن القيام بواجباتها الدينية والاجتماعية، مع علمها بأن لأعضاء جسمها وظائف، لا بد أن يظهر كل عضو بوظيفته حراً سلساً دون زيادة أو نقص، فكما أن الزيادة تشين منظر أعضائها وتخلط بينها، فإن النقص يحجب تلك الأعضاء، ويُفقدها وظيفتها، والعارفون بأمر النساء يفضلون المعتدلة بين النحيلة والسمينة، ولئن كانت الخفَّة مطلوبة في الرجال لحاجتهم لسرعة الحركة: فإن السمن من الأوصاف المطلوبة في النساء مالم يُفرط، ويخرج عن الحد المعقول، وكثيراً ما كان الشاعر العربي يمتدح المرأة بميل أردافها عند المشي، وهذا لا يكون إلا ممن لها شيء من السمنة، ومع ذلك تبقى مقاييس البراعة الجسمية في المرأة موضع اختلاف بين الناس في المجتمعات والبيئات المختلفة، وجماع ذلك هو الاعتدال بين الإفراط والتفريط.(1/460)
ولما كانت مشكلة السمنة - في هذا العصر خاصة - من أعظم مشكلات الفتيات الجسمية فإن أسبابها ترجع غالباً، وبصورة كبيرة إلى: الوراثة الطبيعية، وكثيراً ما تكون امتداداً للسمنة في مرحلة الطفولة، إلى جانب نوع الغذاء، وكميته، وأسلوب تناوله، وطبيعة الفتاة المزاجية المفرطة في التفاؤل والسرور، وطبيعتها الجسمية القابلة للسمن، كل ذلك يسهم بصورة أو بأخرى في حجم بدن الفتاة ووزنها، فلا بد للفتاة أن تراعي هذه الجوانب، فتأخذ من الطعام الجيد حاجتها وكفايتها دون زيادة، وتمارس من الرياضة البدنية - بضوابطها الشرعية- ما يستهلك الزائد من دهونها الجسمية، فإن الفتيات الرياضيات -في العموم- أقل سمنة من غير الرياضيات، وعليها أيضاً أن تراقب -بصورة مستمرة- وزنها مع طولها، فتراعي تناسبهما مع سنِّها، وأن تتجنب -في كل ذلك- التجويع البدني؛ فإن هذا منهك للبدن، ومضر بالصحة العامة، تماماً كما يضر بها الإفراط في الطعام
12ـ توجيه الفتاة للعناية بنظافة الجسم(1/461)
يتغلغل مفهوم النظافة في جوانب وجزئيات الشخصية المسلمة، حتى ليبدو وكأنه قضية التشريع الكبرى؛ فإن أحكام الطهارة في الفقه الإسلامي تحتل عادة صدور المصنَّفات، وأوسع الأبواب الفقهية، حتى عُدَّ "الطُّهُور شطر الإيمان…"، ودخل عنصر الماء -كأداة للطهارة والعبادة- صلب الحياة الإسلامية -تماماً- كما دخل عنصراً رئيساً في تركيب الأحياء، فقد قال الله - عز وجل - : {…. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]، فجعل الشارع الحكيم الوضوء والغسل واجبين لصحة بعض أنواع العبادة، وجعل معدل استخدام الماء للوضوء كحد طبيعي: خمس مرات في اليوم والليلة، وحدَّد أسبوعاً واحداً كأكثر مدة يمكن أن يترك فيها المسلم -ذكراً كان أو أنثى- الغسل، وضبط - إلى جانب هذا- طرق التخلص من الفضلات عبر السبيلين، وسبل اتقاء أذاهما، وشرع حلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وجعل كل ذلك من سنن الفطرة، وحدَّد ترك ذلك بأربعين ليلة، لا يتجاوزها المسلم، وسن السواك حتى كاد أن يجعله فرضاً؛ لما فيه من المنافع والفوائد، وأمر - مع كل ذلك- بنظافة الأماكن من الأوساخ، وما يجلب الضرر العام والخاص، وحتى طريقة الامتخاط كيف تكون؟ فقد وضع الشارع الحكيم لذلك آداباً وسنناً لا بد من رعايتها، والذي يراجع نمط العمارة في التاريخ الإسلامي يجد الاهتمام البالغ ببناء الحمامات العامة، حتى بلغ عددها في بغداد وحدها ألفي حمام في القرن السادس الهجري.
إن هذه التوجيهات الشرعية، والآداب النبوية لا علاقة لها بجنس المسلم ما دام مكلفاً، بل إذا قيل: إنها ألصق بجنس الإناث لما بَعُدَ هذا عن الحق؛ وذلك لسببين رئيسين:(1/462)
الأول: لما يخالطهن من الدماء الطبيعية المتكررة في الدورة الشهرية والنفاس، وما يلحقهن من أذى في معاناتهن لشؤون الرضاعة والحضانة، ومهام رعاية النسل، وخدمة البيت، مما يجعل للنظافة عندهن قيمة خلقية عالية، وفي هذا المعنى قال عامر بن الظرب لامرأته: "مُري ابنتك ألا تنزل مفازة إلا ومعها ماء، فإنه للأعلى جَلاَء، وللأسفل نقاء".
الثاني: كون الواحدة منهن موقع استمتاع للزوج، تسرُّه بمنظرها، وتشرح صدره بطيب رائحتها، فلا يصح أن يرى أو يشم ما ينفِّره منها، ويزهِّده في قربها، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - الذي هو أزهد الخلق - كان يبعث لمن يريد خطبتها من يخبر له طهارتها ونظافتها، ويُروى في هذا المعنى أن الفرافصة لما أرسل ابنته نائلة عروساً إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال لها: "يا ابنتي إنك تقدمين على نساء من نساء قريش، هن أقدر على الطيب منك، فاحفظي عني خصلتين: تكحلي وتطيَّبي حتى تكون ريحُك رِيحَ من أصابه مطر".
إن بلوغ مستوى توجيهات الإسلام في جانب النظافة لا يتحقق للفتاة على الوجه الصحيح حتى تصبح هذه الأنماط السلوكية قيماً خلقية في حسِّها، وحاجة مهمة تشعر بحزن فقْدها عند غيابها، فلا تزال تراعيها، وتتعاطاها حتى تصبح جزءاً من كيانها، تصدر عنها بيسر دون تكلُّف، ولعل أقل ما يقال في شأن النظافة أنها من مروءة الإنسان؛ فقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : "من مروءة الرجل نقاء ثوبيه، والمروءة الظاهرة في الثياب الطاهرة، وإنه ليعجبني، أو إني لأحب أن أرى الشاب الناسك النظيف"، فلا يكفي الفتاة أن تكون متدينة مستقيمة حتى تكمل بالنظافة والطهارة.
14ـ تقبُّل الفتاة الإصابة بالمرض(1/463)
إن المعاناة المرضية أمر عام لا يكاد يخلو أو ينجو منه كائن حي، وهو في حق الإنسان المؤمن أجر وثواب، ورفع للمنزلة عند الله تعالى، وفي الحديث:(ما من مسلم يُصيبُهُ أذىً، مرض فما سواه، إلا حط الله له سيئاته، كما تحطُّ الشجرة ورقها), ولهذا استطاب بعض السلف الإصابة بالمرض، حتى كرهوا الدواء رغبة منهم في حيازة الفضل، وعظيم الأجر، أسوة بسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام الذي كان يُوعك كما يُوعك الرجلان، فيضاعف -بالتالي- له الأجر والثواب، وكما هو حال أنبياء الله تعالى عموماً عليهم السلام؛ بل كانوا يمقتون من لا يُصيبه المرض، ويعتبرون ذلك أمارة كافية على فساد طويته، وقبيح مسلكه؛ ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام:(من يُرد الله به خيراً يُصب منه), ويُعرف من مفهوم المخالفة: أن من لم يرد الله تعالى به خيراً يتركه معافىً في بدنه ونفسه، لا يرْزأ من صحته شيئاً، حتى يأتي ربَّه فقيراً من الحسنات يوم القيامة.(1/464)
ومن هنا يظهر أن مبدأ قبول الفتاة بالحالة المرضية مبدأ ضروري في التعامل مع المرض: من الجهة الإيمانية، ومن الجهة النفسية؛ "لأن المصابين بالأمراض الجسمية معرضون في الغالب للتأثر بالأعراض الانفعالية، كالقلق والاكتئاب"، فيجتمع عليهم ألم البدن مع ضيق الخلُق، فهذه أم السائب < لما اشتدت عليها الحمى أخذت تدعو عليها وتسبُّها، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(لا تسبِّي الحمى، فإنها تُذهب خطايا بني آدم كما يُذهب الكير خبث الحديد), وربما انساقت الفتاة تحت وطأة المرض، والرغبة في الشفاء نحو الهجوم على الدواء، وتعاطيه على غير بيِّنه، وهذا مضرُّ بالبدن، فما أمكن علاجه بالأغذية: استُغْني به عن الأدوية، وما أمكن احتماله من الداء: تُرك بقدر ذلك الدواء، بل ربما تكلَّفت إحداهن الألم الجسمي تكلفاً، حتى تصاب بوسواس المرض، فتذهب "تبالغ في شأن علَّة جسمانية تصيبها، أو إخفاق، أو غيظ ينتابها، فتُعبِّر عنه بأعراض بدنية، تتجلى في صورة من الصداع، والآلام المبهمة، والاكتئاب، ونوبات من الإغماء"، وهذا المسلك معاكس تماماً لوسائل الشفاء؛ بل هو عين المرض، وسبب رئيس في استجلابه، وصورة من صور التشاؤم المنهي عنه، في الوقت الذي كشفت فيه بعض الدراسات العلمية عن فائدة التفاؤل للصحة الجسمية، فلا بد للفتاة أن تراعي ذلك من نفسها، وتتنبَّه لنوع سلوكها فتتجنب التمارض، وتصنُّع الألم، وتكثر من التفاؤل، وإحسان الظن.
15ـ أخذ الفتاة بأسباب العلاج الروحي(1/465)
إن من المسلَّم به وجود تلك العلاقة الإيجابية المتبادلة بين جانبي الإنسان المادي والروحي، بحيث يؤثر كل منهما في الآخر بصورة فائقة، فقد أسفرت الوقائع والأبحاث عن صور من التأثير الروحي بنوعيه -الإيجابي والسلبي- على صحة الإنسان الجسمية، حتى إن مدى التأثير يمكن أن يتعدَّى ذات الشخص إلى غيره -بكيفية غيبية- ليتضرَّر به أو ينتفع، ضمن قضاء الله تعالى وقدره العام، ومما يشير إلى ذلك خبر المرأة التي جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه أنها تُصرع، فخيَّرها بين الصبر مع عظيم الأجر، وبين أن يدعو لها فتشفى، فاختارت الصبر، "وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي، وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل مالا يناله علاج الأطباء، وأن تأثيره وفعله، وتأثر الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها.. وعقلاء الأطباء معترفون بأن لفعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب"، وهذا من الأمور العامة، المستفيضة التي لا تخفى.
ومن هنا شُرع للفتاة المريضة أنواع من الأدعية المأثورة، وجمع من الرُّقي الشرعية الموثوقة: تردُّ عنها -بإذن الله تعالى- ما أصابها من الأذى في بدنها أو نفسها حتى إذا أعياها الداء، وقصُر عن نفْعها الدواء: كان في الذكر الصحيح، والدعاء الصادق ما يغنيها عن الوقوع في الحرام، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدواء المحرم، والله تعالى بفضله ورحمته لم يجعل الشفاء فيما حرَّم على الناس، فهذا باب عظيم من أبواب الصحة العامة التي لا تستغني عنها الفتاة، فلا بد أن تنال نصيبها الوافر منه علماً وممارس
16ـ نظرة الإسلام التربوية إلى لباس المرأة وزينتها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد …(1/466)
فإن منهج التربية الإسلامية يُعدُّ الإنسان إعداداً كاملاً من جميع جوانب شخصيته، ليكون إنساناً صالحاً في نفسه مُصلحاً لغيره، نافعاً لمجتمعه. ولا يفرق منهج التربية الإسلامية في إعداده الإنسان بين ذكر أو أنثى، فهو يتعامل بمنهجه التربوي مع نوعي الإنسان، يرعى كلاً منهما بما يُصلحه ويُكمِّله؛ ليكون عبداً صالحاً لله تعالى، يحقق المقصد الأسمى من مبدأ وجوده، الذي حدده المولى عز وجل إذ يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ولما كانت الأنثى من نوعي الإنسان تقوم بمهمات اجتماعية وتربوية لا تقل أهمية عما يقوم به الذكور في ميادينهم العملية المختلفة: عُني منهج الإسلام التربوي بإعدادها إعداداً خاصاً لتكون بنتاً بارَّة، وأختاً حانية، وزوجة صالحة، وأماً راعية. بحيث يتولاها هذا المنهج الرباني المحكم في كل مرحلة من مراحل حياتها بالإعداد التربوي المناسب الذي يؤهلها للقيام بمسؤولياتها العبادية والاجتماعية المناطة بها.
ولما كانت الأنثى تختلف عن الذكر في جوانب متعددة من طبيعتها الفطرية، وحاجاتها النفسية: راعى منهج التربية الإسلامية في النساء هذه الطبائع والحاجات، منطلقاً في ذلك من القاعدة الفطرية، ونوع المهمة الاجتماعية، وطبيعة الوظيفة التربوية المناطة بهن؛ ولهذا جاءت كثير من التوجيهات القرآنية والنبوية، وما بُني عليها من الأحكام الشرعية: تراعي منهن هذه الاختلافات في الحاجات الفطرية، وطبيعة وظيفتهن الاجتماعية.(1/467)
وقد حرص منهج الإسلام على وضع تشريعاته التربوية لإعداد الإنسان وفق جنسه؛ بحيث ينشأ الذكور نشأة تربوية رجولية تناسب طبائعهم الفطرية، ومسؤولياتهم الاجتماعية، وفي الجانب الآخر أيضاً حرص في تشريعاته على نشأة الإناث نشأة نسوية، تعدهن وفق طبائعهن الفطرية، ومسؤولياتهن الاجتماعية؛ بحيث تتكامل مسؤوليات الجنسين، وتتعاضد مهماتهما ليتحقق من تكاملهما وتعاضدهما هدف الخلافة في الأرض، ومن ثمَّ يتحقق الهدف الأسمى من خلْق الإنسان - الذكر والأنثى– وهو العبودية الخالصة لله تعالى.
وقد شدَّد منهج الإسلام التربوي على ضرورة التفريق بين منهج إعداد الذكور، ومنهج إعداد الإناث؛ بحيث يبقى لكل منهج معالمه وأهدافه الخاصة التي تميزه عن الآخر، فلا يتداخلان إلا فيما يتحد فيه الجنسان من أصول العقائد والأخلاق، وجمع من الأحكام التشريعية والمبادئ الإنسانية العامة، دون غيرها من المسالك والأعمال التي تُلغي معالم الفروق بين الجنسين.(1/468)
وتأتي قضية اللباس والزينة، وما يلحق بهما من مسالك التأنُّق والتجمُّل لتكون معلماً من أوضح وأبرز معالم التمييز بين الجنسين في التشريع الإسلامي؛ فبقدْر ما ضيَّقت الشريعة الإسلامية على الذكور في مجال اللباس والزينة بقدر ما وسَّعت فيهما على الإناث، والناظر يجد ذلك واضحاً في أنواع الثياب وألوانها، والحلي وأشكالها ومواضعها من البدن، وما يلحق بذلك من المساحيق الملونة، والمكاحل المنوعة، التي تميز - بصورة واضحة– بين الجنسين في مجال اللباس والزينة؛ بل ولا تسمح الشريعة الغراء لأحد الجنسين بأن يتخطى حدوده في اللباس أو الزينة إلى الجنس الآخر، فقد " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لبْسَةَ المرأة، والمرأة تلبس لبْسَةَ الرجل"، فقطع بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطريق بين الجنسين في ميداني اللباس والزينة؛ ليبقى لكل جنس طبيعته الفطرية التي خلقه الله عليها، ليحقق من خلالها مهمته الاجتماعية المناطة به.
وقد احتلت مسألة اللباس والزينة مساحة كبيرة في كتب التراث الإسلامي، تعالج هذه المسألة، وتضبط حدودها وآدابها في ضوء التوجيهات القرآنية والنبوية، ولاسيما فيما يتصل بالنساء؛ فإن الإفراط والغلو في قضايا الزينة واللباس من الأمور الشائعة في حياة كثير من النساء، والناظر في كتب الحديث والفقه يجد أبواباً كاملة مستقلة تناقش أحكام اللباس والزينة، عدا ما تناقلته كتب اللغة والأدب والشعر في هذه المسألة، مما يُستملح أو يُستقبح من الأخبار والوقائع المتعلقة بزينة النساء وملابسهن.(1/469)
ولعل المعالجة التربوية من الوجهة الإسلامية لقضية اللباس والزينة عند النساء لم تحظ باهتمام الباحثين المعاصرين كما حظيت المعالجة الفقهية والأدبية عند السلف؛ ولهذا تندر عند الباحثين المعاصرين الدراسات التربوية التي تتناول قضية اللباس والزينة عند المرأة, ولا سيما الدراسات التربوية الإسلامية,التي تعالج هذه القضية من المنطلق التربوي الإسلامي, والتي تجمع بين مصادر التراث الإسلامي، وبين المصادر العلمية التربوية في ميادين العلوم الإنسانية المختلفة.
وقضية اللباس والزينة عند المرأة من أكثر القضايا حساسية في حياة الإناث، لا تكاد تنفك عن جنسهن إلا عند نوادر منهن، فقد تجذَّر في عمق الطبيعة الأنثوية حبُّ الزينة من الملابس والحلي والمستحضرات التجميلية والطيب ونحوها، فلا تكاد تزهد في حبها كبيرة ولا صغيرة، مما قد يترتب عليه اندفاع وتعمق في سلوك بعضهن يخرج بهن عن حدّ الاعتدال إلى المكروه أو المحرم في صور من: الغلو، أو الإسراف، أو التشبه، أو التبرج، بحيث تتحول حاجة إحداهن إلى الزينة واللباس إلى نهمة لا يُشبعها شيء، واندفاعة عارمة لا يقف لها شرع ولا عقل.
ومن هنا كان لابد من تلمُّس التوجيه التربوي الإسلامي في ضبط حاجة النساء إلى اللباس والزينة، ضمن حدود الشرع الحنيف في كتاب الله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه السلف، بحيث يُتخذ من هذه الضوابط الشرعية معالم توجيهية تربوية تضبط هذه الحاجات عند النساء، وتحكم اندفاعهنَّ ضمن حد الاعتدال في غير إفراط ولا تفريط.(1/470)
إن حاجة المرأة إلى الزينة المشروعة معتبرة شرعاً، فإنها بطبيعتها الفطرية تحتاج إلى استنطاق جسمها رغبة في الإثارة من خلال زينة الوجه، والكفين، والشعر ونحوها، ولكنها - مع ذلك - محتاجة إلى كوابح تضبط فرط ميلها وعمق استغراقها، فإن " الحافز الجنسي الناشئ عن الجمال الطبيعي، المُزيَّن بما لا يُخرجه عن أصل الخلقة: حافز راقٍ سامٍ عميق، وأما الحافز الناشئ عن جمال ناشئ من تغيير خلق الله فهو حافز شيطاني ناري، لا يلبث أن يفتر ويشيخ". وقد ظهر في فرنسا مع بداية القرن العشرين الميلادي ما يؤيد العمق الشيطاني في التزين وهو مذهب: " المدرسة التوحشية " التي تتميز بالألوان الصارخة، والخطوط السوداء الداكنة، وكل ذلك مناف للفطرة السوية؛ فإن " أحسن الحسن ما لم يُجلب بتزيين وتضييق، وتحلية وتزويق "، مما لا تكلُّف فيه ولا مبالغة.
ويمكن فيما يلي تلخيص موقف الإسلام من لباس المرأة وزينتها، وذلك على النحو الآتي:
1- تعتبر قضية اللباس والزينة جزءاً أصيلاً من كيان الأنثى الفطري، مما يتطلب مراعاة المجتمع لحاجة النساء إليهما ضمن حدِّ الاعتدال.
2- يقع كثير من النساء في توجههن لإشباع حاجاتهن للباس والزينة في مخالفات سلوكية تخرجهن - في كثير من الأحيان - عن حدِّ الاعتدال المشروع إلى التطرف والغلو الممقوت، مما يوجب على منهج التربية ضرورة تربية الفتيات على منهج الاعتدال، ونبذ التعمق والغلو، والتنفير منهما.
3- تضمَّن منهج الإسلام التربوي جمعاً من الضوابط الشرعية التي تحكم أسلوب التجمل والتأنق في سلوك النساء، مما يتطلب إلزام النساء بها، وتربية الصغيرات عليها في الأسرة والمدرسة، حتى يتعوَّدن عليها، وينشأن على آدابها.(1/471)
4- تتحكم دور الأزياء الأجنبية في تصميم ملابس النساء، وتفرض عليهن نظام (الموضة) في صور من الهوس السلوكي، والخروج عن المشروع والمألوف في المجتمع المسلم، مما يتطلب توفير مؤسسات إسلامية لتصميم أزياء النساء المسلمات ضمن ضوابط الشرع الحنيف وآدابه وأخلاقه.
5- يمثل الرجل عنصراً مهماً في إثارة النساء نحو الزينة والتأنق، وهذا يسوق بعضهن إلى التبرج والسفور، مما يوجب توجيه النساء وتربيتهن على ضبط سلوكهن بما يستر زينتهن عن أعين الرجال الأجانب وأنوفهم وآذانهم، وبما يحقق لهن وللمجتمع السلامة من الانحرافات الخلقية والسلوكية.
6- لقد جاءت التوجيهات الإسلامية التربوية بنهج الاعتدال في لباس النساء وزينتهن؛ بحيث لا تترك لهن الحرية الكاملة في التأنق والتجمل بما يخرجهن عن حدِّ الاعتدال إلى الغلو المذموم، وفي الجانب الآخر لا تسمح لهن بمطلق الزهد الكامل في هجر الزينة واللباس، الذي يسوق المرأة إلى التعطُّل، ومسْلك الحِداد في غير موُجب شرعي.
7- رغم التوسع الكبير الذي سمحت به الشريعة المباركة، والساحة الواسعة التي منحتها للباس النساء وزينتهنَّ إلا أن الإفراط والتعمق كثيراً ما يوقع بعضهن في الغلو الذي يتجاوز بهن الساحات المشروعة إلى ساحات أخرى ضيقة من الحرمة أو الكراهية. وهذا الواقع يوجب تربية الفتيات على استعذاب المباح من الزينة واللباس دون غيرها من محرمات اللباس والزينة ومكروهاتهما في الشريعة.
17ـ حاجة المرأة إلى اللباس وتأثيره في شخصيتها(1/472)
اتخاذ اللباس من أعظم نعم الله تعالى على بني آدم، وهو مع ذلك فطرة إنسانية ملحَّة ت ن زع نحو التجمُّل باللباس، والاستكثار منه، ولا يُعرف إهماله إلا في بعض القبائل النائية الشاذة. وهو في النس اء أبلغ ما يكون؛ إذ يستحوذ على جلِّ اهتماماتهن، فما أن تبلغ إحداهن سن الشباب إلا وتصبح قضية الملابس الجميلة وحسن المظهر من أعظم وأكبر قضاياها الخاصة, حتى إن عجزها في الظهور بما يليق بمثلها في وسطها الاجتماعي قد يجرها إلى مشكلات نفسية، واجتماعية حادة. وهذا من الطِّباع النسائية التي لم ينج منها حتى زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهن، حيث رغبن في التوسع، وأن ينالهن من الخير ما نال المؤمنين في مجتمع المدينة، بعدما أفاض الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النعم والخير، رغبة منهن في المساواة بغيرهن، والتمتع بشيء من زينة الحياة الدنيا. ولعل هذا الإلحاح الفطري في طباعهن نحو اللباس والزينة: دفع إدارات مدارس البنات - دون مدارس الأولاد– نحو توحيد الزِّي المدرسي خشية تماديهن في التزين، وإغراقهن في التأنق.(1/473)
ولما كان من الطبيعة الإنسانية أن يتأثر الفرد - إيجابياً أو سلبياً– بما يجري على جوارحه: فإن للملابس في أنواعها، وأشكالها، وطريقة ارتدائها: آثاراً بارزة في سلوك الأفراد - ذكوراً كانوا أو إناثاً - "وليس من شك في أن مصطفى كمال حينما فرض القبعة لباساً وطنياً للشعب إنما أراد بذلك تغيير نفسٍ لا تغيير ملبسٍ؛ إذ إن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد"، فكما أن تقليد الباطن في الأفكار والآراء يتبعه تقليد للظاهر في الملابس والأزياء: فكذلك تقليد الظاهر كثيراً ما يتبعه تقليد للباطن، فالعلاقة بينهما قوية.ولهذا خضعت الأزياء عند الشعوب عامة - والإسلامية منها خاصة– لتقاليد دينية، وعادات مرعية، تفرض على الأفراد التقيُّد بها، وعدم تجاوزها. وإنما تختل هذه التعاليم في نفوس أهلها، ويضعف أثرها في فترات اختلال الوسط الاجتماعي وضعف أثره، فتظهر بوادر التمرُّد أقوى ما تظهر في ملابس الشباب، ووسائل لهوهم.
ومن هنا لابد أن تتأثر شخصية المرأة بنوع الملابس التي ترتديها، وتتأنَّق بها, ولعل من الأمثلة التي تدل على ذلك تأثير قيمة اللباس وجماله على شخصية المرأة؛ فحين ترتدي إحداهن اللباس الجميل الغالي الثمن: كثيراً ما تنعكس قيمته على سلوكها إعجاباً وترفعاً بين القرينات, وكذلك إذا لبست الثمين من الحلي، فإنها كثيراً ما تسعى فتبرزه وتتباهى به؛ ولهذا ورد في السنة الترهيب من مثل ذلك.
وفي الجانب الآخر حين تعجز إحداهن عن بلوغ مرتبة قريناتها في امتلاك الملابس الحسنة، والحلي الثمينة فإنها قد تشعر بالإحباط، وهبوط المكانة الاجتماعية، وربما بالاحتقار والدونية. مما قد يدفع بعضهن إلى الانزواء، وترك الاختلاط بالنساء، أو الحيلة الممنوعة لكسب المال لشراء الملابس والحلي، وكل ذلك تتوقَّى به حتى لا تشعر بهذه المشاعر النفسية المحبطة.(1/474)
ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية السمحة في مثل هذه المواقف الاجتماعية بتوجيه المرأة للنظر في أمر الدنيا وزينتها إلى من هو دونها، والنظر في أمر الآخرة وأعمالها لمن هو فوقها، فهذا أجدر لئلا تحتقر نعمة الله عليها، وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: " انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الل
18ـ ضوابط لباس المرأة المسلمة
من خلال الاستقراء ظهر أن لباس المرأة محكوم بثلاثة ضوابط شرعية، لابد أن تتقيد بها المرأة حتى يحصل لها المقصود الأسمى من اللباس، وتسلم أخلاقها وتصوراتها من الانحراف، وذلك على النحو التالي:
أولاً: ضابط العورة: بحيث يستر اللباس من جهة إسباغه، وصفاقته، وسعته عورة المرأة حسب الوسط الاجتماعي الذي تقع فيه، فلا يكشف عن عورتها بقصَره، ولا يشفُّ عنها برقَّته، ولا يصفُها بضيقه،مع التَّحصُّن بالسراويل الطويلة،والبطائن تحت الثياب الرقيقة؛حفاظاً على عورتها من الانكشاف؛ فإن العلاقة في غاية القوة بين فنِّ اللباس والزينة، وبين الجاذبية الجنسية في سلوك الإنسان,وقد قيل إن الأصل في ظهور الملابس وتطورها يرجع إلى رغبة كل من الجنسين في جذب الجنس الآخر. فلا يصح من المرأة المسلمة أن ترتدي من الملابس ما يثير الشهوة في صدور الرجال من الأجانب أو المحارم, أو يبعث الشذوذ في سلوك النساء, فإن هي تقيَّدت بهذه الشروط: فإن لها بعد ذلك أن تلبس وتستمتع بما شاءت من : الأنواع, والأشكال, والألوان حسب ما يروق لها, إلا أنه يُفضل لها أن تتحاشى من الألوان البياض؛ لأنه غالب لباس الرجال, وأن تعتاد لجلبابها وخمارها السواد؛ لأنه اختيار نساء السلف, وأبعد ما يكون عن الفتنة والإغراء؛ فإن للَّون تأثيراً خاصاً في الأشخاص, وله معان يحملها للناظرين.(1/475)
وأما حذاء الفتاة فإنه من مواقع جمالها المُلْفت وجاذبيتها الخاصة, كما أن القلنسوة على رأس الرجل من تمام جماله, وحسن مظهره,ولعل هذا السبب الذي جعل من أحذية النساء في هذا العصر فتنة كما كانت من قبْل في بعضالشعوب المتقدمة،حيث يتحكم ارتفاع الحذاء ونوع هيئته في أسلوب مشيتهن،ويُظْهر من مفاتن أبدانهن الخفية، ومعالم أجسادهن ما واراه الجلباب،ويُنبِّه بقَرْعِهِ عن مكنون زينتهنَّ، وما أخْفينَهُ من جمالهن.وربما اتخذته إحداهن تتطاول به، فقد قال عليه الصلاة والسلام حاكياً حال بعض نساء بني إسرائيل: "… كانت المرأة تتخذ النعلين من خشب تحاذي بها المرأة الطويلة".فالحذاء المرتفع المصنَّع للإغراء والفتنة إن لم يكن بمجمل هذه المحظورات ممنوعاً شرعاً، فإن أقل ما فيه الكراهة,خاصة وأن ضرره الصحي ثابت عند الأطباء. وفي العموم فإن غالب ألبسة النساء في هذا العصر وُضعت للفتنة والإغراء، أكثر من كونها وُضعت لصحة الأبدان.
ثانياً: ضابط التشبه: بحيث تتميَّز ملابس المرأة وأزياؤها عن ملابس الكفار عموماً، وعن ملابس الذكور خصوصاً،حتى في لُبْس النَّعل، وعصْب الرأس. فإن الأمة الإسلامية اليوم تعاني تخلفاً كبيراً أمام الدول المتقدمة في ميدان صناعة ملابس النساء وتصاميمها، حتى سيطر إنتاج دور الأزياء الأجنبية على ذوق المرأة المسلمة، وأسلوب تأنُّقها، فأصبح زي كثير من النساء المسلمات المعاصرات هو زي المرأة الغربية المتبرِّج. مما اضطر إحدى المنظمات الإسلامية: أن توصي بإنشاء "مؤسسات لتصميم الأزياء الإسلامية حماية لقيم الإسلام… ورعاية للأذواق الجمالية السليمة، وسداً لذريعة ينفذ منها الموبؤون، وأعداء الإسلام على بعض نساء المسلمين ممن ينقصهن النضج والوعي السليم".(1/476)
إن خطورة إشراف الأجانب على لباس الفتيات المسلمات لا تكمن فقط في كون أزيائهم تحمل - أحياناً– معلماً دينياً لهم كالصليب ونحوه؛ بل إنها تزيد على ذلك في كونها تتوجه بقوة خفية، عبر أساليب التصميم الماكرة لإعطاء ملابس الإناث صبغة ذكورية، بحيث تدخل أشكال أزيائهن تحت أنماط أزياء الرجال بصورة متدرجة. حتى أصبح مجتمع اليوم - بصورة تلقائية– لا يستنكر ظهور المرأة في ملابس الذكور، في حين لا يزال حتى الآن يستهجن، ويستنكر بروز الذكور في ملابس النساء، ويعاقبهم على ذلك قانوناً. ولاشك أن في هذا خطراً على مسلك المرأة الفطري؛ فإن نهاية تشبهها بالرجال هو انتقالها إلى طباع الرجال، فلا تتحرك فيها طباع جنسها الفطرية.
إن التصور الإسلامي لا يفرِّق بين الأمرين، فكل مسالك التشبُّه بين الجنسين داخلة في المذمة الشرعية. وليس في تعامل السلف ما يدل على التفريق بينهما؛ بل كانوا في غاية الصرامة والشدة مع الفتيات المتشبهات في ملابسهن بالذكور. فلابد أن تراعي المرأة المسلمة هذا الضابط الشرعي في ارتداء الملابس؛ فإن " قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة"؛بل مرتبطة به كل الارتباط.
ثالثاً: ضابط الإسراف: بحيث تعتدل المرأة في استهلاك الملابس من جهة النوع ومن جهة الكم، فتعرف كيف تلبس، وتتأنق بما يليق بمثلها؛ فإن من " المروءة أن يكون الإنسان معتدل الحال في مراعاة لباسه، من غير إكثار ولا إهمال، فإن إهمال مراعاتها، وترك تفقدها: مهانة وذل، وكثرة مراعاتها، وصرف الهمة إلى العناية بها: دناءة ونقص". فالجواز هو الأصل في اتخاذ الملابس المباحة، والتجمل بها، حتى وإن كانت نفيسة الأثمان، فقد كسا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه الحرير، ولبسه بناته, وكان يقول لأصحابه: " … حقُّهن عليكم أن تُحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن".(1/477)
وقد كان السلف يمتثلون أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فعن محمد بن ربيعة بن الحارث قال: " كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوسِّعون على نسائهم في اللباس الذي يُصان ويُتجمَّل به، ثم يقول: رأيت على عثمان مِطْرَفَ خزٍ*ثمنَ مائتي درهم، فقال هذا لنائلة كَسَوْتُها إياه، فأنا ألبسُهُ أسرُّها به"،إلا أنَّ الضابط في هذا أن تُستهلك الملابس استخداماً،ولا تصل أنواعها وأشكالها بالمرأة إلى حدِّ التميُّز الاجتماعي والافتضاح؛ فإن ثوب الشهرة مذموم شرعاً، والاستكثار المفرط من ملابس النساء مكروه في حد ذاته خاصة الجميلة منها؛ لأنها كثيراً ما تُرغِّب إليهن الخروج، والبروز، والتبرج، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: " استعينوا على النساء بالعري؛ إن إحداهن إذا كثرت ثيابها وحسنت زينتُها: أعجبها الخروج".
إن زمناً ليس ببعيد كان الثوب الحسن يبقى مع المرأة دهراً طويلاً،حتى إنها ربما ورَّثته بعض بناتها، أو أعارته جاراتها، وربما لم يكن لإحداهن إلا الثوب الواحد تحيض فيه وتطهر. فلم يكن يُعرف - إلى عهد قريب - الإسراف في الملابس حتى ظهر تفنُّن دور الأزياء النسائية في إنتاج الجديد من أنواع الملابس، ففُرض على النساء نظام "الموضة" - بصورة غير مباشرة– بحيث تخضع أنواع الأزياء، وأشكالها المختلفة إلى مواسم خاصة: فصلية وسنوية، تصبح بعدها الأزياء –حتى وإن كانت جديدة– مهملة في نظر المرأة لا قيمة لها، ضمن صور متشابهة متكررة، وحِلَق دائرية مفرغة من التجديد والتطوير، لا نهاية لها إلا مزيداً من هوس الشراء، واستهلاك المال. وقد كان الشواب من النساء ولم يزلن ضمن فتنة الموضة: أكثر فئات المجتمع تأثراً بها، وخضوعاً لمتطلباتها.(1/478)
وتشمل الموضة المؤثرة في المجتمع كافة المجالات والأنشطة في العلوم والفنون والآداب والهندسة والترفيه والمآكل والمشارب، إضافة إلى الأزياء وأنواع الملبوسات المختلفة، حيث تتحكم فيها روح العصر المتجددة، التي تشمل تغيير الأشكال والأنماط والقوالب الفنية والأدبية السائدة، وغالباً ما يلجأ إلى التلبس بها أهل الترف من الأغنياء للخروج عن المألوف، والرغبة في التجديد.
إن من الضروري أن تعرف المرأة: أن نظام الإسلام التربوي في مثل هذه المواقف الاجتماعية يأمرها بالنظر إلى من هنَّ دونها في المرتبة والمكانة وليس لمن هنَّ فوقها؛ وذلك حتى تقنع بما عندها وترضى، فإن مجاراة المتْرفات المتنعِّمات لا تزيدها إلا هماً وغماً، كما أن خضوعها واستسلامها لنظام الموضة، وما تفرضه من أنواع الأزياء يُعتبر نوعاً من العبودية المقيتة؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تعس عبد الدينار والدرهم، والقَطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يُعط لم يرض". كما ينبغي عليها أن تعلم: أن هذه الموضوعات غالباً ما تنتشر في الأوساط الاجتماعية المختلَّة، التي ضعُفت فيها الثوابت والمبادئ، فيسعى " أعضاؤها للحصول على اعتراف بالمكانة، وللإعراب عن الذات عن طريق تقليد الصفوة". فلا يليق بالمرأة المسلمة أن تنساق إلى مثل هذه المزالق الاجتماعية الخطيرة، فتستهلك أوقاتها، وطاقاتها الجسمية، وثروتها المالية في غير طائل
19ـ الإلحاح الفطري إلى الزينة عند الإناث(1/479)
إن من أعجب عجائب الإناث فرط تعلُّقهن بالزينة، وميلهن الشديد للتجمل والتحلي– حتى الصغيرات منهن– فكما أن للملابس الحسنة معنى خاصاً عندهن: فإن للزينة في طباعهن ما يساوي ذلك أو يفوقه، فقد تغلغل حبُّها في كيانهن الفطري، وسلوكهن الأنثوي منذ فجر الحياة الإنسانية في جميع المجتمعات، حتى لربما انطلقن يتغنين بها في غالب أشعارهن، فلا يُعرف في التاريخ امرأة لم تأخذ نصيبها من التزين والتجمل؛ لتشبع نهمتها في حب الذات، والتفوق الجمالي، من خلال رواجها عند الرجل؛ إذ هو مقصودها الأول والأسمى بحسن التزين والتصنُّع كما هو حال كثير من النساء، بحيث لو فقدته، أو يئست منه: لم يعد - في الغالب - للزينة عندها موضع تهتم له، والمرأة التي تتأنق فقط لترضي ذاتها دون رغبة في الرجل إنما تفعل ذلك - في بعض الأحيان– بدافع الشعور بالنقص أو التنافس مع القرينات؛لأنها - في كثير من المواقف - لا تتزين لتعزِّز إرادة نفسها كما يفعل الرجل؛ وإنما تتزين لتعزِّز إرادة الرجل فيها, فقدْر الزينة الكافية عندها: ما يزكِّيها في عين الرجل, ويُروِّج لمكانها عنده؛ فهو الذي يحدد لها ما يُستملح منها, وما يُستقبح,فإن هي فقدت الزينة المروِّجة : غالباً ما تفقد معها الرجل،ولهذا كانت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها تأمر المتزوجات بالزينة, وتشتدُّ معهن في ذلك, حتى قالت لإحداهن مرة : "إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقْلتيك فتصنعيهما أحسن مما هما : فافعلي".(1/480)
وتُعتبر الحُلي أعظم مظاهر الزينة عند النساء؛ ولهذا جاءت توجيهات الشارع الحكيم بإباحتها لهن إجماعاً, صغيرات كن أو كبيرات, متزوجات أو عازبات.وجاءت تطبيقات السلف في القرون المفضلة موافقة لهذا التوجيه, حيث كانوا ينفقون الأموال الكثيرة على حُلي البنات, والزوجات, وعموم النساء دون نكير. وكانوا يعدُّون التاركة للزينة– شابة كانت أم عجوزاً– مع قدرتها عليها: معطَّلة, متشبِّهة بالرجال,ويوجبون– إضافة إلى ذلك– في حُليِّها من الذهب أو الفضة الزكاة, في حين أنها لو لبسته, واستمتعت به لأعفيت منها على الراجح من قوْلي العلماء.كما أنهم لم يُحلُّوا لها الوفاء بالقسم على ترك الزينة, أو الحداد على أحد من الناس– مهما كان عزيزاً– "فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً", كما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
والمرأة المسلمة المعاصرة إذا تقيدت في لبسها للحلي بحسن المقصد,وتجنَّبت في أشكالها صور الأحياء المجسمة,واتَّقت مشابهة الكفار,وحرصت على إخفاء زينتها عن نظر الرجال الأجانب وآذانهم:فإن لها بعد ذلك أن تلبس من الحلي ما شاءت: نفيساً كان أو حقيراً, ذهباً أو فضة,محلَّقاً أو مقطعاً,لؤلؤاً أو خرزاً,عاجاً أو عظماً مادام طاهراً ليس بنجس.ولها أيضاً أن تلبس من هذه الأنواع على أي جزء شاءت من بدنها دون استثناء,حتى وإن صاحب ذلك شيء من مثْلة: كثقب الأذن, أو الأنف،وفي هذا الاتساع كفاية عن الوقوع في المسلك المحظور عند اتخاذ المرأة للزين
20ـ الغلو في الزينة عند النساء(1/481)
من العجيب في أمر النساء عموماً, والفتيات خصوصاً: أنه رغم هذا التوسع الهائل في شأن الزينة؛ بحيث لا تكاد الواحدة منهن تجد حرجاً شرعياً في أنواعها التي تختارها, أو مواضعها البدنية التي تفضلها, أو زمن لبسها الذي يوافقها– رغم كل هذا– فإن كثيراً منهن يقعن في مغالاة سلوكية عند استخدامهن حق التزين, مما يُوقعهن في المكروه الشرعي, أو المحرم. حيث يدفعهن إلى ذلك الاختلال الخلقي,وقلة العلم والمعرفة, وضعف الثقة بالنفس, إلى جانب الشعور الطبيعي بالنقص الأنثوي, بحيث كلما زادت هذه المشاعر المضطربة عند إحداهن: زادت بالتالي مبالغتها في الزينة والتأنُّق؛فضعف الجاذبية الجمالية,والرغبة الملحة في الزواج, وتأثير الدعاية الإعلامية المشوقة,كل ذلك إذا اجتمع, إضافة إلى الحافز الفطري الطبيعي عندهن: وقعن في المغالاة المفرطة, وفي الحديث: "ويلٌ للنساء من الأحمرين: الذهب والمُعصْفر".
ومن أهم مظاهر المغالاة في التزين عند النساء والفتيات ما يلي:
أولاً : الغلو في زينة الوجه: وذلك من خلال الإفراط في استعمال المساحيق الملونة إلى درجة إضاعة الأوقات والأموال, وتحديد الأسنان ببرد أطرفها رغبة في مزيد من الحسن, وترقيق شعر الحاجبين بالنتف على طريقة أهل الجاهلية مع أنهما على طبيعتهما من معالم الجمال. وكذلك قشْر الوجه رغبة في صفاء اللون, واستخدام الرموش المستعارة وما فيها من وصل الشعر الممنوع, واستعمال العدسات الملونة لغير حاجة, مع ما فيها من المضرَّة الصحية المتوقَّعة, في الوقت الذي يُعرض فيه كثير من الفتيات عن استخدام النظارة الطبية الضرورية خشية من تشوُّه وجوههنَّ بها.(1/482)
ولعل أفضل ما تعمله المرأة الراغبة في جمال الوجه، بما يغنيها عن فضول الزينة، وكثرة البهرج: حسن صناعة عينيها من خلال تعاهدهما بالكحل، لما فيه من موافقة السنة، وكمال الصحة،وفي نصيحة عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما لابنته ما يدل على ذلك، حيث قال لها: " … اعلمي أن أزين الزينة الكحل…"، ولا بأس بعد ذلك بشيء من حُمْرة أو صفرة تتأنَّق بها المرأة، وتستمتع في غير غلو؛ فإن المغالاة في استخدام المساحيق الملوَّنة من سلوك المرأة الدميمة التي تبحث عن الرواج، ولتحذر دعايات الشركات المنتجة لمواد التجميل؛ فإنهم من خلال أساليب الدعاية والإعلان يُوحون إلى النساء بأنهن قبيحات المنظر، ولأبدانهن عيوب لا تزول إلا باستخدام منتجاتهم التجميلية، مما يزيد في إغراق الفتيات والنساء عموماً في استخدام هذه المواد التجميلية.
ثانياً: الغلو في زينة الشعر: بحيث تزيد فيه شعراً ليس منه، أو تقصُّهُ متشبهة بالذكور، أو تصفِّفه على طريقة أهل الكفر والفجور، أو تجعله في هيئات معظَّمة ملفتة للنظر. وكل ذلك ونحوه لا يصح من المرأة المسلمة أن تتعاطاه، فإذا اتقته فإن لها بعد ذلك أن تفعل في شعرها ما شاءت من أنواع التصفيف تبتكره، والتلوين تتخذه– عدا السَّواد للكراهية –فإن الشعر للمرأة من أعظم مظاهر جمالها، ومازال العرب يمتدحون المرأة بجمال وطول شعرها، وفي الأثر: " الشعر الحسن أحد الجمالين"، وعن عمر رضي الله عنه قال: " إذا تم لون المرأة وشعرها فقد تم حسنها"، وما ورد في السنة من كراهية المبالغة في العناية بالشعر؛ يخفُّ في شأن النساء؛ لأن باب التزين والتجمل في حقهن أوسع وأرحب.(1/483)
ويصح للمرأة المسلمة عند حاجتها لإصلاح شعرها أن تستعين بالمرأة الصالحة الخبيرة للعناية به، كما كان يفعل بعض النساء في الزمن الأول، على أن يكون ذلك في مكان لا شبهة فيه، فإن صالونات تجميل النساء كثيراً ما تكون مواقع للانحراف الخلقي، وأخبث من ذلك وأشد: أن تُسْلم المرأة شعرها للرجل الأجنبي يتولى تزيينه وتحسينه، فإن هذا الفعل لاشك في تحريمه، إلى جانب أن غالب العاملين في مثل هذه الخدمات النسائية: منحرفون جنسياً، حيث يجدون سلوتهم، ومتعتهم الشهوية في تعاطي شعور النساء ووجوههن، فلابد من الحذر وتوقي هذه المواقع.(1/484)
ثالثاً: الغلو في زينة اليدين: وذلك بإطالة الأظفار، وتركها على حالها لأكثر من أربعين ليلة،مخالفة للفطرة السوية، أو طلائها بمواد تمنع وصول ماء الوضوء إليها. وقد نفَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك حيث قال: " يسأل أحدكم عن خبر السماء، وهو يدع أظفاره كأظافير الطير يجتمع فيها الجنابة والخبث والتفث"، ووجَّه عليه السلام النساء - متزوجات كن أو عازبات– إلى الحناء لتزيين اليدين والأظفار، وحث عليها حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان لا يبايع من النساء إلا المختضبة بها؛ لما في ذلك من التميُّز عن الرجال، والفوائد الصحية المتعددة. فكان حرص النساء على الحناء في ذلك الزمن كبيراً. إلا أن الغلو قد يتطرق إلى المرأة من جهة سوء استخدامها للحناء، وذلك من خلال النقوش التي يعملنها في الأيدي، فبدلاً من أن تكون بشرة المرأة مستورةً بلون الحناء عند حاجتها لكشفها أمام الرجال الأجانب: تصبح ملْفتة بهذه التَّطاريفوالزخارف، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما رُوي عنه: " يا نساء الأنصار اختضبن غمساً…"،يعني أخضبن كامل اليد دون تصوير، وكان عمر رضي الله عنه يقول: "يا معشر النساء اختضبن، وإيَّاكنَّ والنقش والتطريف، ولتخضب إحداكنَّ يديها إلى هذا، وأشار إلى موضع السوار". فلابد للمرأة أن تراعي ذلك في خضابها، وأن تتقيد في كل ذلك بالسنة المطهرة.
وأخبث ما يمكن أن تفعله المرأة في يديها، أو في بعض مواقع جسمها الأخرى: الوشم، وهو عملية بدائية مؤلمة جداً، تتلخص في حشو مواد من كحل أو نحوه تحت الجلد بواسطة الإبرة، فيظهر لونها من تحت الجلد أخضر أو أزرق، رغبة منها في مزيد من الحسن والجمال، واستغناء عن الزينة الخارجية، أو لأهداف أخرى دينية أو قومية، أو ربما لأهداف جنسية؛ حيث يُوضع هذا الوشم على الأعضاء التناسلية بصورة قبيحة فاضحة.(1/485)
ورغم أن هذا السلوك المنحرف يرجع إلى العصور الجاهلية المتقدمة: فقد اتخذ اليوم أشكالاً متطوِّرة، وأصبح ضمن مهام الجراحة الطبية الحديثة، يُعمل بصورة متقنة عن طريق المستشفيات في بعض الدول الغربية. ويُلحق بهذه العادة القبيحة ما تفعله بعض المجتمعات الأفريقية من أخاديد في وجوه الفتيات للزينة، يسمونها "الشَّلخ"، وهذا أيضاً من المحرمات شرعاً، ومن مظاهر تغيير خلق الله تعالى، التي تُوقع الفتيات والمسؤولين عنهن في كبائر خُلُقية تُوجب اللعن والعياذ بالله تعالى.
رابعاً: الغلو في زينة البدن: من خلال استخدام المرأة للروائح النَّفَّاذة عند خروجها من البيت، رغبة منها في كمال الزينة، واتِّقاء رائحة العرق المزعجة، التي يكثر انبعاثها في سن الشباب. فرغم أن الطيب مستحسن في الشريعة، ومرغَّب فيه؛ لما يشمله من المنافع الروحية والصحية: ورغم ارتباط المرأة وتعلقها به, كما وصفها ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال : " هي ألطف بناناً, وأطيب ريحاً",فإن الإجماع قائم على منع المرأة منه إذا هي خرجت من بيتها، إلا إذا ضمنت سلامة أنوف الرجال الأجانب من طيب ريحها، كما كان بعض نساء السلف يفعلن، فلا بأس حينئذٍ، وإلا كان ذلك ممنوعاً شرعاً؛ فإن للرائحة العَطِرة قوة فعَّالة في نفوس الرجال، أكثر بكثير مما تفعله في نفوس النساء, والتواصل بين الجنسين كما يمكن أن يكون بالكلام والنظر, فإنه يكون أيضاً بالرائحة؛ ولهذا كان ضابط طيب المرأة خارج البيت: ما بدا لونه ظاهراً، وخفيت عن الأنوف رائحته، فإن الجلباب يُعالج اللون بالستر، وأما الرائحة فلا علاج لها إلا بالامتناع.(1/486)
ثم المرأة بعد هذا الضابط تستخدم من أنواع الطيب، والعطور ما شاءت: فإن نساء السلف كنَّ يحرصن على الطيب، ويتنافسن فيه، إلا ما كان منه مسْكراً، يفعل بالعقول فعل الخمر: فإن الجمهور على نجاسة الخمر؛ بل ربما قام الإجماع على ذلك،وقد سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: عن المشطة في رأس المرأة يكون فيه الخمر؟ فنهت عن ذلك. وفي العموم فإن مستحضرات التجميل, وما يلحق بها من المواد الفواحة المزيلة للطلاء مثل الأسيتون , فإنها مضرة بالصحة العامة للإنسان , ولاسيما الأطفال الصغار, إضافة إلى خطر الإدمان على شم رائحتها,فلابد أن تراعي المرأة ذلك من نفسها تورُّعاً, واتقاءً للضرر، وتجنباً للحرج الشرعي.
21ـ الفتاة المسلمة والرياضة البدنية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، أكمل الناس خَلْقاً وخُلُقاً، وأعلاهم شرفاً ونسباً، وأصحِّهم عقلاً وجسداً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، فما من درب خير إلا أرشد إليه، وما من طريق شر إلا وحذَّر منه، قعَّد قواعد الدين، وسنَّ سنن الهدى، فكان هديه خير الهدي، ونهجه أفضل المناهج، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/487)
أما بعد…فإن المتأمل في واقع الحياة المعاصرة يجد الاهتمام البالغ،والرعاية المحلية والدولية بالشؤون الصحية، وما يرتبط بها من محاربة الأمراض، والاهتمام بوسائل العلاج، وإصلاح البيئة، وتحسين التغذية، وتطوير الأدوية والتقنية الطبية، وما يلحق بذلك من التوعية الصحية، والإرشادات الطبية، والتطعيمات ضد الأمراض المعدية، والتوسع في فتح المصحَّات الطبية، والمراكز الصحية، وإعداد المتخصصين والفنيين في جميع التخصصات الصحية المختلفة، حتى غدت قضية الصحة البدنية مطلباً حضارياً وضرورياً عند الأمم المعاصرة على تفاوت بينهم؛ فإن دولاً، وشعوباً، ومجتمعات بأكملها لاتزال في نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين قابعة في مثلث الموت: المرض، والفقر، والجهل، لا تكاد تخرج من أزماتها الحضارية حتى تقع فيما هو أشد وأصعب، وكأنها تدور في حلقات مفرغة، لا تهتدي إلى سبيل الخلاص.
وقد ترافق مع هذا الاتجاه العالمي نحو الاهتمام بالشؤون الصحية اتجاه آخر يوازيه، ويسير في محاذاته وهو: الاهتمام بالوقاية الصحية، باعتبارها وسيلة مهمة في إغناء الإنسان عن كثير من العلاج، مما يوفِّر الجهد، ويرشِّد الإنفاق، ويحقق للإنسان المتعة والسعادة بأقل تكلفة، وأيسر جهد، فازدهرت في هذا الوقت أساليب التغذية الصحية، وما يتعلق بها من تنظيم الغذاء، والتدريب على حسن اختياره، وانتشرت المعارف الصحية، والثقافة الطبية، التي ترشد الأصحاء- قبل المرضى- للمحافظة على أجسادهم صالحة دون أذى، وتطوَّرت أساليب استشراف مستقبل الإنسان الصحي، فوضعت برامج طبية للكشف الصحي الدوري، والكشف الصحي قبل الزواج، حتى غدت حياة الإنسان المعاصر في المدن الحضارية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمسألة الصحية، وأساليبها الوقائية.(1/488)
وتأتي الرياضة البدنية لتحتل ساحة ضخمة ومهمة في برامج الوقاية الصحية، باعتبارها علامة من علامات الصحة، ووسيلة فعَّالة ناجحة للترقي بالإنسان في مراتب التفوق البدني، حتى إنها - في كثير من الأحيان - لتسبق بالإنسان نحو السلامة الصحية أسرع مما يسبق به كثير من الغذاء والدواء، فقد أصبحت ممارسة أنواع من الرياضات البدنية جزءاً أصيلاً في علاج بعض الأمراض المتعلقة بزيادة الوزن، والإصابات الجسمية، والجلطات الدموية ونحوها من الأمراض، إضافة إلى كونها وسيلة فعَّالة في تأهيل بعض المرضى في فترة النقاهة لاستئناف حياتهم العملية من جديد؛ ولهذا ازدهرت في هذا الوقت المراكز الرياضية، والأندية التأهيلية، حيث يجد فيها المحتاجون للحركة البدنية مرادهم من : الأجهزة والوسائل والتدريب والإشراف ما يُعينهم على تجاوز أزماتهم الصحية، في وقت قلَّت فيه حركة الإنسان اليومية؛ حين نابت عنه الآلة الصناعية في كثير من أعماله البدنية.(1/489)
وعلى الرغم من فوائد الرياضة البدنية للجميع، ولاسيما لبعض فئات المجتمع من المحتاجين لها فقد توجهت الرياضة الحديثة بمفاهيمها الجديدة إلى ما هو أبعد من مجرد الصحة البدنية بكثير، حين توسع مفهوم الرياضة ليشمل أنواعاً لا تكاد تحصى من الألعاب والأنشطة الإنسانية المختلفة، ويستقطب في برامجه كل فئات المجتمع، فالرياضة الحديثة قد تجاوزت بمفاهيمها المعاصرة مبدأ الممارسة العملية، باعتباره هدفاً رئيساً، وغاية ضرورية من غايات الرياضة إلى أن تصل بمفهوم الرياضة إلى المعنى التجاري الاستثماري، فتصبح الرياضة سلعة استهلاكية يتَّجر بها المستثمرون المتربِّصون بحاجات الناس ومتطلباتهم، فراجت تجارة اللاعبين، والمقامرة المالية، والدعاية الإعلامية، والشهرة العالمية، والثقافة الرياضية، ومتعة التفرج، وأقيمت المنشآت للمنافسات الدولية، ونحوها من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي لا علاقة لها أصلاً بمبدأ الرياضة البدنية.
ولم تكن المرأة في غالب مجتمعات العالم - بما فيها غالب المجتمعات الإسلامية - بمعزل عن هذا الوضع الاستهلاكي والتجاري، فقد خاضت في غالب ما خاض فيه أفراد المجتمع من حولها، واستُغلَّت كما استُغلَّ غيرها، فاتُّجر بالفتاة الرياضية وبجسدها، واستمتع المشاهدون عبر الشاشات، وفي المنشآت الرياضية بقوامها ورشاقتها، ولطيف حركتها، وقُدِّمت الفتاة الرياضية نموذجاً لبنات جنسها، في كمال قدرتها الجسمية، ورشاقة قوامها، وتمام صحتها، وقُدِّمت للمجتمع بصفتها نموذجاً للفتاة المواطنة الصالحة, الممثلة لبلادها في المنافسات الدولية والإقليمية، حين أبدعت وحازت على شيء من ميداليات التفوق في المنافسات الرياضية.(1/490)
إن واقع الرياضة العالمي، بكل ما تحويه من التفاعل الحركي، والتنافس الدولي، والاستهلاك الثقافي، والمتعة الشخصية، والممارسة الواقعية : لا تزيد - في المفهوم الإسلامي - عن كونها مصلحة كمالية في غالب الأحوال، لا يجوز أن تتعارض مع مصلحة حاجية، فضلاً عن أن تتعارض مع مصلحة ضرورية وإلا أصبحت محرمة شرعاً، وواقع الممارسات الرياضية، وما يلحق بها من أنشطة وألعاب ومنافسات ومخاطرات، وما يتخلل ذلك من مفاسد أخلاقية كالتبرج في النساء، والاختلاط بين الجنسين، والمقامرة المالية، وما يتبع ذلك من تضييع للواجبات، ووقوع في المحرمات، كل ذلك، بل بعضه : ينقل هذه الممارسات الرياضية من الإباحة إلى الكراهية وإلى التحريم، بل إلى ما هو أشد من ذلك من الكبائر والموبقات القبيحة، التي حذر الشارع الحكيم منها، وتوعَّد أصحابها بالعقوبة الشديدة، ولهذا يُلاحظ أن حق ممارسة الفتيات للرياضة ليس إجماعاً اجتماعياً، فلا يزال كثير من أفراد المجتمع يأبون ذلك على الفتيات حتى في المجتمعات التي يقل فيها الالتزام الديني.
ولئن كانت هذه القبائح السلوكية المتعلقة بالرياضة ممنوعة على الجنسين من الذكور والإناث : فهي في حق الإناث أشد وأغلظ؛ لما هو معلوم في الشريعة من الاحتياط في شأن الأنثى من جهة : لزومها الحجاب، ولفْتها إلى البيت، وبعدها عن الاختلاط بالأجانب، ودورها الرئيس في الإنجاب ورعاية النسل، ولا شك أن ممارسة الفتيات للرياضة البدنية ضمن هذه الظروف والأحوال المعاصرة التي لا تنضبط بالضوابط الشرعية، ولا تعتد بالآداب المرعية، ولا تراعي طبيعة الأنثى ودورها الفطري والاجتماعي : تعد ممنوعة شرعاً، لمعارضتها للقيم والمبادئ والآداب التي أمر بها دين الإسلام.(1/491)
ومن هذا المنطلق فإنه لا بد من وضع الضوابط اللازمة لإحكام ممارسة الفتيات للرياضة البدنية، ضمن حدِّ السلامة في : أخلاقها، وأنوثتها، ونفسيتها، وجسمها، وفكرها؛ بحيث تستفيد الفتاة من ممارستها للرياضة دون الوقوع في الحرج الشرعي، الذي يُلْحقها ويُلْحق المسؤولين عنها الإثم والخطيئة، مع محاولة إعادة مفهوم الرياضية البدنية إلى معناه الصحيح وهو : "القيام بحركات خاصة تكسب البدن قوة ومرونة"، أو هو: "تليين البدن وتذليله وتطبيعه لأداء مهمات معينة"، فلا بد أن يعود هذا المعنى الصحي لمفهوم الرياضة البدنية للفتيات، مع التخلص من متعلقات الرياضة التي ساقتها إلى الميدان الاستهلاكي والاستثماري التجاري، وصبغتها بالطابع غير الأخلاقي، وأضفت عليها صفة العنف والتوتر، الذي يأباه الإسلام للإنسان عامة، وللإناث خاصة.
22ـ الانحراف الخلقي في واقع الرياضة النسائية
يُعتبر الجانب الأخلاقي في بناء الإسلام التربوي جزء أصيل في تكوين شخصية المسلم على وجه العموم، وهو أشد أصالة وضرورة في تكوين شخصية الفتاة المسلمة على وجه الخصوص، فلئن كانت العقيدة هي صورة الإنسان الباطنة فإن الأخلاق صورته الظاهرة، حيث ترقى الفتاة بإيمانها الباطن، وأخلاقها الظاهرة نحو أعلى مراتب كمالها الإنساني، في حين يحتاج الرجل ليبلغ الكمال اللائق به إلى جوانب أخرى : عقلية وعلمية ونفسية وجسمية ومهارية، إضافة إلى الإيمان والأخلاق : تؤهله ليحوز شيئاً من مراتب الكمال الإنساني المطلوب في الرجال.(1/492)
ويتحقق الضابط الأخلاقي حين تسلم عورة الفتاة من الانكشاف أمام النساء في أثناء الممارسة الرياضية، ويسلم جسمها من الحركة الماجنة الخليعة، ويسلم شخصها ككل من نظر الرجال حتى وإن كانت بكامل حجابها الشرعي؛ فإن الرياضة النسائية في هذا العصر من أوسع أبواب الفساد الخلقي، من حيث الاختلاط بين الذكور والإناث، مع انكشاف العورات المحرمة بين النساء، فضلاً عن المحرمة على الرجال الأجانب من المسلمين ومن غيرهم في المشاركات الرياضية الدولية والإقليمية والمحلية، التي تظهر فيها الفتاة المسلمة غالباً شبه عارية. ومع كل هذه المخالفات الشرعية فإن مبدأ دخول الفتاة المسلمة في حمام النساء العام غير المختلط، مع ستر العورة، وقيام الحاجة : لا يستحب شرعاً؛ بل ربما كان من المكروهات، أو حتى من المحرمات، خاصة وأن كثيراً من النساء عادة إذا اجتمعن في مثل هذه الحمامات العامة قلَّ تحفُّظهن من انكشاف العورات , وبروزها إلا من عيب جسدي يكرهن ظهوره؛ لكون بعضهن يريْن جواز ذلك؛ ولهذا حرم كثير من العلماء دخولهن الحمامات العامة , وعليه فقد قاس بعض المعاصرين حمامات السباحة المعاصرة على حمامات النساء القديمة فمنع منها , ولا ينبغي استهجان مثل هذا التوجه الفقهي فإنه في عام 1903م تأسس في مدينة ميونخ الألمانية نادٍ نسائي للسباحة , فقوبل هذا العمل بالاستنكار الاجتماعي, فليس بغريب أن يُستنكر مثل هذا في المجتمع المسلم , الذي يعطي لجسد الأنثى - من جهة النظر وحجم العورة - حصانة أكبر.(1/493)
وبناء على هذا فإن المختار للفتاة المسلمة المعاصرة: التعفُّف الكامل عن الممارسات الرياضية خارج المنزل، رسمية كانت أو غير رسمية، دولية أو محلية، حتى وإن كانت تُمارسها بعيداً عن الرجال في أندية نسائية خاصة؛*فإن هذه التجمعات النسائية لا تخلو عادة من محظور شرعي، وكثيراً ما تكون وسائل للفساد الخلقي؛ فإن نظر الرجال إليها خلسة أمر محتمل، ثم إن تصويرها عبر عدسات الكاميرات الدقيقة المثبَّتة في أماكن معينة، أو المحمولة في الهواتف النقالة هو أيضاً أمر محتمل، فالبعد عن كل ذلك أسلم لدينها وخلقها، فإذا احتاجت الفتاة المرفَّهة إلى شيء من النشاط الحركي فإنها تمارسه داخل بيتها، أو ضمن ساحاته المفتوحة المأمونة التي تُتيحها طريقة البناء في العمارة الإسلامية، فقد ثبت ميدانيا تفضيل كثير من الفتيات المسلمات ممارسة النشاطات الرياضية داخل المنزل مع أفراد الأسرة، كما ثبت أيضاً إحجام كثير منهن عن ممارسة الأنشطة الرياضية في الأماكن المكشوفة خوفاً من نظر الرجال إليهن، لاسيما إذا عُلم أن كل حركة جسمية قوية : كالدَّهن، والدَّلك، والتَّمريخ تدخل ضمن مفهوم الرياضة البدنية النافعة، فلا تفتقر الرياضة - بصورة دائمة - إلى الساحات الكبيرة، والأجهزة المعقَّدة، والألعاب المعينة بقدر ما تفتقر إلى الحركة ذاتها : البدنية والعضلية.
23ـ أثر الرياضة البدنية العنيفة على أنوثة الفتاة
تتميز الفتاة عن الرجال بطابع عنصر الأنوثة في تكوينها الفطري وبنائها الجسمي، كما يتميز الفتى - هو أيضاً - عن النساء بطابع عنصر الذكورة في تكوينه الفطري وبنائه الجسمي، حيث يتأهل كل منهما - حسب طبيعة عنصره - للقيام بمهمات ومسؤوليات متنوعة تتناسب مع فطرته، وتحقق التكامل مع الآخر، دون تداخل بينهما يُخلُّ بنظام توزيع المهام والمسؤوليات بين الجنسين، كلٌ حسب نظام هدايته، ووفق فطرته التي فطره الله تعالى عليها.(1/494)
ويعمل هذا الضابط على تحقيق سلامة شخصية الفتاة من الاسترجال الذي يخرجها عن طبيعة فطرتها، بحيث تسلم للفتاة المُمارِسة للرياضة البدنية مظاهر الأنوثة في هيئتها الجسمية وسلوكها، فإن الشريعة تمقت المترجِّلات من النساء، ولو في لبس النَّعل الخاص بالرجال، فإن السلف كانوا يكرهون للمرأة كل مظهر تتشبَّه فيه بالرجل : كالمشْية، أو ركوب السَّرْج , أو تقلُّد القوس، ونحوها من مسالك الذكور الخاصة بهم في : هيئاتهم، وأخلاقهم، وأفعالهم، وأقوالهم. بل وحتى المسالك الرجولية الجبليِّة، التي قد تُبتلى بها بعض النساء قَدَرَاً : فإنهن يُلزمن بتكلُّف تركها، حتى تبقى مظاهر الجنسين واضحة الفروق والمعالم كما وضعها العليم الخبير.
ومن هنا فإن أيَّ مسلك رياضي يمكن أن يُخرج الفتاة - ولو بصورة جزئية - عن طابعها الأنثوي فإنه ممنوع شرعاً مهما كان نبْل الهدف من ورائه، سواء كان ذلك في عنف الحركة البدنية، أو التشبه في اللباس بالرجال أو حتى بالنساء غير المسلمات؛ فإن اللباس الرياضي للمرأة غير المسلمة لا يبعد كثيراً عن لباس الرجال.(1/495)
وقد ثبت يقيناً أن الاحتراف الرياضي، والممارسة العنيفة المستمرة لأي لعبة من الألعاب الرياضية المعاصرة - المباحة منها أو الممنوعة - تطبع هيئة الفتاة الجسمية بطابع الذكور البدني، حتى تنطبق مقاسات بعضهن الجسمية على مقاسات الذكور، من حيث : ضمور الحوض، وسعة ما بين المنكبين، وعمق الصدر، وصلابة الأطراف، وبروز العضلات، وخشونة الصوت، وبروز الحنجرة. حتى إن العلاقة عند الباحثين الرياضيين أصبحت في غاية القوة بين زيادة معدل معالم الذكورة في جسم الفتاة الرياضية، وبين تفوقها في أنواع واختبارات الأداء الحركي. ولم يعد غريباً شذوذ بعض النساء بمظاهر للقوى البدنية ممَّا يعجز عنها كثير من أصحَّاء الرجال , مما حدا ببعض الموتورين إلى إنكار كل الفروق البيولوجية بين الجنسين في القدرة على الممارسات الرياضية، حتى في فترة الحمل، والدورة الشهرية، زاعمين أنها فروق مفْتعلة ترجع إلى رواسب فكرية واجتماعية، لا أصل لها في طبيعة التكوين البدني عند الجنسين، فبنوا على هذه المسلَّمة الخاطئة: ضرورة اتحاد الجنسين في جميع أنواع الممارسات الرياضية، والأنشطة البدنية دون استثناء.
لقد شاهد هؤلاء كما شاهد غالب الناس المرأة رائدة الفضاء، والرامية المتقنة، والمتسلِّقة لأعلى قمة جبل في العالم، والمحلِّقة بالطائرة والمنطاد، والسبَّاحة الماهرة عبر بحر المانش، والعدَّاءة السريعة، والقاطعة لأمريكا من غربها إلى شرقها على الأقدام، وغيرهن كثير تفوقن في بعض الأنشطة الجسمية والرياضية، ومع ذلك فإن هذه المظاهر المتفوقة لا تغير من الحقيقة الفطرية والواقعية شيئاً.(1/496)
لقد أغفل هؤلاء طبيعة الفروق التشريحية بين الذكور والإناث، وطبيعة الحركة الفائقة، والخشونة الزائدة في مسلك الذكور الفطري، إلى جانب إهمالهم للفروق البارزة الجليَّة بين الجنسين في مرحلة البلوغ، كما أنهم - مع كل هذا - سهوا عن قاعدة جسمانية طبيعية مفَادُها : أن أيَّ عضو في جسم الإنسان كثرت رياضته، وحركته قوي ونشط، فلا يبعد - والحالة هذه - أن تتفوق بعض الفتيات المدرَّبات بدنياً على بعض الرجال غير المدرَّبين، ولكن من المستحيل أن تتفوق الفتاة المدرَّبة على شاب كمُلَ تدريبه؛ فإن الذكور من الشباب في الحالة الطبيعية يزيدون - عادة - على الإناث بثلث القوة البدنية؛ ولهذا لا توجد في واقع الأنشطة الرياضية ألعاب يتنافس فيها الرجل مع المرأة؛ وذلك مراعاة للجانب الفطري الذي يفرض نفسه, ويُخلُّ بميزان العدل بينهما.
ومن هنا فإن الفروق الجسمية والحركية بين الجنسين فروق حقيقية واقعية يصعب إنكارها، وبناء عليها لابد من اختلاف نوع الأنشطة الرياضة لتناسب طبيعة كل جنس، وتوافق فطرته، وتماشي نوع مهمته ومسؤوليته.
24ـ خطر الرياضة العنيفة على جسم الفتاة
لا تسمح الشريعة الإسلامية للمسلم أن يتصرف في بدنه إلا ضمن ما يوافق مقصد الشارع من المحافظة عليه ورعايته؛ فإن مهمات كبيرة: عبادية واقتصادية واجتماعية وغيرها يقوم بها المسلم معتمداً فيها على قواه الجسدية , فلا يصح منه أن يكون سبباً - مباشراً أو غير مباشر - في إعاقة جسده عن القيام بالمهام والمسؤوليات التكليفية المناطة به, ولعل هذه المحافظة تكون أبلغ في شأن الإناث؛ لطبيعة مسؤولياتهن الفطرية في الحمل والإنجاب, ورعاية النسل, وحاجتهن - في كثير من الأحوال - إلى مزيد من الانضباط الحركي.(1/497)
وضابط سلامة الفتاة الجسمي من الأضرار يعمل ليحقق للفتاة من خلال ممارسة النشاط الرياضي الحد الأدنى - على الأقل - من الصحة البدنية، من حيث: اعتدال القامة، وجودة البنْية، وارتفاع القدرة على المقاومة العضلية، وكفاءة أداء الأجهزة الجسمية، إلى جانب السلامة من الأمراض والعاهات المعطِّلة عن القيام بالواجبات، مع القدرة الفائقة على استفراغ مواد الجسم الزائدة واستهلاكها، فيتحقق من مجموع هذه الأهداف الصحية :مصلحة الفتاة الجسمية، التي من أجلها - في أصل الأمر - أقيمت أنشطتهن الرياضية، إلا أن هذه الأهداف الصحية للأنشطة الرياضية لا تتحقق للفتاة بكمالها إلا بشرطين مهمين :
الشرط الأول: اكتمال ظروف الممارسة الرياضية، من حيث : الاستمرار دون انقطاع طويل ضمن أزمنة منتظمة ومتقاربة، مع أهمية التدرج الحركي من الأخف إلى الأشد، واعتدال حال المعدة من حيث الامتلاء والاختلاء، إلى جانب ضرورة مراعاة حالات التعب والإرهاق الجسمي التي عادة ما تصيب الفتاة النامية في سن البلوغ.
الشرط الثاني: صحة الوسيلة الرياضية، من حيث حسن اختيار اللعبة الرياضية النافعة، فإن وسائل الأنشطة الرياضية تنقسم إلى نوعين :
النوع الأول: ألعاب رياضية، وتشمل كل لعبة مشروعة تخدم - بصورة من الصور - الأهداف العامة لتربية الفتاة الصحية.
النوع الثاني: ألعاب مخاطرة، أو ما يُسمى بألعاب: "مغازلة الموت"، وتشمل كل لعبة عنيفة تحمل جانباً من المخاطرة بصحة الفتاة الجسمية، أو تُعيقها - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - عن أداء وظيفتها تجاه خدمة النوع الإنساني، ورعاية النسل؛ فإن مجرَّد الوثبة الشديدة يمكن أن تذهب ببكارة الفتاة العفيفة، فتقع في حرج اجتماعي، وضرر صحي، كما أن الحركة العنيفة يمكن أن تخل بانتظام الدورة الشهرية، وكميات سيلان الدماء الطبيعية، فضلاً عن أن الحركة العنيفة يمكن أن تسقط حملها من بطنها.(1/498)
ورغم وضوح هذه المبادئ من الجهة النظرية : فإن الواقع العالمي المعاصر يشهد خوض كثير من النساء والفتيات في أعنف وأغلظ أنواع ألعاب المخاطرة جميعها دون استثناء، بما فيها : الملاكمة الوحشية، ومصارعة الثيران، وترويض الوحوش؛ بل وحتى المسابقة بالسيارات، والتنافس في حُسْن التحليق بالطائرات لم يكن بعيداً عن طموح كثير من الفتيات، وحتى من المسلمات؛ مما يهدد صحتهن العامة بالضرر، ويعرِّضهن للإخفاق في مسؤولياتهن الفطرية والاجتماعية المنوطة بأمثالهن من الإناث.
وعلى الرغم من أن القانون الوضعي يمنع من قصد إيذاء الخصم في غالب الألعاب الرياضية التنافسية؛ فإنه - مع ذلك - يسمح بإيقاع الأذى بالخصم في بعض الألعاب كالمصارعة والملاكمة، ويمنع من طلب القصاص بين اللاعبين رغم قصد الإيذاء، وهذا لاشك ممنوع شرعاً؛ إذ إن حفظ النفس من الضرر مقصد أسمى من مقاصد الشريعة الإسلامية.
25ـ تحذير الفتيات من التنافس الرياضي
تتسم الحياة الحديثة بقدر كبير من التوتر، الذي أصبح سمة تكاد تكون عامة في حياة الإنسان المعاصر، تزيد من قلقه، وتنوِّع من أشكال اضطراباته، مما يؤدي - في كثير من الأحيان - إلى اختلال اتزانه النفسي، وإصابته بالأمراض العصبية التي تحتاج إلى علاج.
وهذا الواقع - بالضرورة - يتطلب إزالة كل ما يمكن أن يكون سبباً في إرهاق الإنسان النفسي، وتوتره العصبي، مع السعي في تخفيف معاناته اليومية بما يحقق له الاستقرار النفسي، واتزان الشخصية، لاسيما بالنسبة للإناث لمزيد حاجتهن إلى الاستقرار والاتزان؛ وذلك لطبيعة بنائهن النفسي، ونوع مهماتهن الفطرية والأسرية والاجتماعية المناطة بهن.(1/499)
ويأتي هذا الضابط ليسهم في حماية الفتيات من أسباب التوتر النفسي المصاحب عادة للأنشطة الرياضية التنافسية، بحيث تتحقق للفتاة الممارسة للرياضية البدنية: السلامة من الإثارة العاطفية الحادة، والانفعالات السلوكية الشديدة، وتبلغ - من خلال نشاطها الحركي– درجة الاستقرار والسكون النفسي والعصبي، الذي يُعتبر الهدف الأسمى من وراء إقامة الأنشطة الرياضية.
وهذا الهدف النفسي النبيل لا يتحقق للفتاة على الوجه المطلوب إلا من خلال إلغاء النشاطات الرياضية التنافسية، وإحياء الرياضات التعاونية والفردية؛ فإن من المسلَّم به رياضياً : أن الطاقة الانفعالية الحادة هي مادة الألعاب التنافسية الأولى، ووقودها الرئيس؛ فالتوتر العصبي، والانفعالات النفسية الشديدة، الإيجابية منها والسلبية : كالخوف، والقلق، والغضب، والإحباط، والفرح، والسرور، والبهجة : لا تكاد تنفك - في مجموعها - عن خبرة وتجربة الفتاة الرياضية المُتنافسة، خاصة في هذا العصر الذي خاضت فيه الفتيات بصورة واسعة ميادين التنافس الرياضي؛ بل إن مجرد مشاهدة المباريات الرياضية العدوانية التنافسية تزيد من حدة العدوان عند المشاهدين، فكيف تكون الحالة النفسية عند الممارسين لها ؟.
وموقف الملاطفة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع السيدة عائشة رضي الله عنها حين سابقها مرتين : لا يخوِّل الفتيات خوض التجربة التنافسية بكل ما تحويه من شدة الانفعالات، والحدَّة والمغالبة، وما يترتب على ذلك من تكوين الفرق الرياضية، والمشاركة في المنافسات المحلية والدولية، التي قد يشترك فيها الرجال بالتدريب، وتحتاج الفتيات للسفر بغير محرم، وربما الخلوة بالأجنبي، وكشف العورات، ونحوها من القضايا القائمة في واقع الممارسات الرياضية، والممنوعة شرعاً؛ ولهذا يُعتبر فرض الرياضة البدنية في مدارس البنات في بعض الدول المحافظة موضوع جدال اجتماعي، خوفاً من مثل هذه الانحرافات السلوكية المتوقعة.(1/500)
والفتاة السَّوية بطبعها الفطري تميل إلى الأنشطة الرياضية التي يقلُّ فيها الاحتكاك الجسدي والازدحام، ويشيع فيها التعاون والتلاطف، لاسيما وأنها أحوج ما تكون إلى الاستقرار النفسي، والاتزان الانفعالي لطبيعة الدور الاجتماعي الذي يُناط بها في خدمة النوع الإنساني من خلال الحمل، ورعاية النسل.
26ـ موقف الفتاة المسلمة من ترف الثقافة الرياضة
تحتل الثقافة الرياضية ومتعلقاتها الفكرية ساحة ضخمة من حديث الناس واهتماماتهم المعرفية، وتستهلك قدراً كبيراً من طاقاتهم العقلية والنفسية في التشجيع والمتابعة، مما يكون سبباً في مزيد من التوتر الاجتماعي، والحماسة المفرطة والإثارة العاطفية. والفتاة المسلمة ليست بمعزلٍ عن التأثر بتفاعلات المجتمع من حولها، واهتماماته بالثقافة الرياضية، التي لا تبني القوى، ولا تنمي الجسم، وهذا من شأنه أنه يستهلك شيئاً من طاقتها النفسية، ويبدد جزءاً من اهتماماتها العقلية.(2/1)
ويأتي ضابط سلامة اهتمامات الفتاة الفكرية من ترف الثقافة الرياضية : بحيث يتجاوز باهتمامات الفتاة الرياضية مجرَّد المعرفة العلمية , والمتابعة الثقافية : إلى الممارسة الفعلية الجادة, والحركة الواقعية البنَّاءَة؛ فعلى الرغم من أهمية التربية الرياضية: فإن القليل من الشباب من يتمرَّس بها، ويداوم عليها، وحتى أولئك المتحمِّسين منهم للرياضة : لا يتجاوز أحدهم كونه محباً لها، متقناً للتفرُّج السلبي على أنشطتها، حريصاً على التشجيع والمتابعة, حتى غدت جماهير الرياضة السلبية أعداداً كبيرة لا حصر لها، وانحصرت اهتماماتهم في متعلَّقات الرياضة : من التنافس المقيت على الأندية الرياضية، والصراع الفكري، والتشجيع المفرط الذي قد يصل إلى حدَّ الهلاك، فحلَّ أبطال الرياضة ونجومها كبديل نفسي خادع محل المُشاهد السلبي؛ ليحققوا - نيابة عنه -الإنجازات الرياضية التي يحلم بها ويتمنَّاها، فخرج - بذلك - مفهوم الرياضة عن كونه حركة جسمية هادفة ليُصبح فكراً رياضياً، وعلوماً معرفية، وصراعاً صحفياً.
إن هذا الاهتمام الفكري المفْرط بشؤون الثقافة الرياضية، الذي بعثه- في أصل الأمر- اليهود، الذين يقفون عادة خلف كل رذيلة وقبيحة, وغذَّاه القادة السياسيون باهتمامهم ورعايتهم: رفع مكانة الجسد الإنساني إلى مستوى الأسطورة، ودرجة التقديس، حتى أصبح مجالاً خصباً للاتجار والاستثمار، فقامت من أجله المنافسات الدولية، والتجمعات الرياضية، والمهرجانات الأولمبية، فاختصر بذلك الرياضيون مفهوم الرياضة في التفوق الجسدي المُدرِّ للمال، وجعلوا بناء الجسم من أجل الجسم.(2/2)
إن الإسلام بنظامه الفريد يحترم الإنسان، ويجعل من جسده ساحة محرَّمة، لكنه- مع ذلك- لا يسمح بحال، وتحت أي مبرر : أن يُختصر الإنسان المكرَّم، بكيانه الشامل، وجوانبه المتعددة في حدود نطاق "الجسديَّة"؛ فإن الرياضة البدنية - مهما كانت متفوقة - تفقد قيمتها التربوية عندما تنحصر كفايتها في ذاتها؛ لأن الذي يتربى في الحقيقة ليس الجسد فحسب؛ بل هو الإنسان ككل، فالرياضة في التصور الإسلامي "ليست ضرباً من التسلية الطائشة، وليست هواية مجردة من الدوافع الفكرية النبيلة، وليست حرفة للتكسُّب ونوال الشهرة الشخصية الخاصة؛ وإنما هي تكليف منوط بالمسلمين، فيه ما فيه من تنمية الجسم، وإظهار المواهب، وتحقيق السلوى، واكتساب المهارات"، فإذا انحصرت الأهداف في مواهب الجسد : كانت انشغالاً بالوسيلة عن الغاية.
ومع كون الإناث في العموم أقل فئتي المجتمع اهتماماً بالرياضة، ومشاركة في أنشطتها : فإن العلاقة إيجابية بين البيئة النسائية المحافظة، وبين ضعف الاهتمام بالثقافة الرياضية؛ فقد ثبت ميدانياً : أن الفتيات في المملكة العربية السعودية - وهي من أكثر البيئات المعاصرة محافظة - أقل فئات المجتمع اهتماماً بمتابعة الأنشطة الرياضية، والتحمُّس لأخبارها، وقد ثبت ميدانياً أيضاً أن طلاب الثقافة الإسلامية, ومرتفعي المعدلات الجامعية هم أقل فئات الشباب توجُّهاً نحو نجوم الكرة , ومتعلقاتها الثقافية، وكأنها إشارة إلى علاقة ما : بين مقدار تحرر الشباب والفتيات القيمي والخلقي، وبين درجة اهتماماتهم العقلية بترف الثقافة الرياضية، ومجالاتها الفكرية.(2/3)
ومن هنا فإنه لابد من التفريق بين الاهتمام بالرياضة على أنها تقوية للجسد للقيام بالواجبات الشرعية والاجتماعية، وتحقيق الكفاية والصحة العامة، وبين الاهتمام بالرياضة لمجرد المتعة الاجتماعية، والمعرفة الثقافية التي يترفَّع عنها الشخص الجاد في العموم, والشخص المسلم على الخصوص, فضلاً عن الفتاة المسلمة المخدَّرة المصونة.
27ـ موقف التربية الإسلامية من ممارسة الفتيات للرياضة البدنية
يمكن من خلال النقاط التالية توضيح الوجهة التربوية الإسلامية تجاه ممارسة الفتيات للرياضة البدنية، وذلك على النحو الآتي:
1-يستوعب منهج الإسلام التربوي بتوجيهاته وأحكامه وآدابه كل أنشطة الإنسان في حياته الدنيا، بما في ذلك الرياضية البدنية؛ لهذا فإنه لا يصح لأحد– كائناً من كان - أن ينطلق في أيِّ شأن من شؤون الحياة - ولاسيما العامة منها– فيختار لنفسه، أو لأمته ما شاء، دون الرجوع إلى المصادر الشرعية في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيما أجمعت عليه الأمة، ومِن ثمَّ الالتزام بذلك.
2-الأصل في الأنشطة الرياضية الإباحة؛ فإن الكسل - بكل صوره - مكروهٌ شرعاً , إلا أن أنواعاً من الألعاب الرياضية، وصوراً من أساليب ممارستها، ومتعلقات أخرى تلحق بذلك : تُخرج هذه الرياضة عن حدِّ الإباحة إلى الكراهة أو التحريم، وهذا بالضرورة يوجب التوصية بأهمية الالتزام الشرعي في اختيار الألعاب الرياضية، وأساليب ممارستها، وكل ما يلحق بها، مع أهمية التقيُّد بالآداب الاجتماعية والأخلاقية المرعية بالشرع الحنيف، التي تهدف إلى تحقيق السلامة الشاملة للإنسان.(2/4)
3-تحقق الرياضة البدنية للفتيات جملة من الفوائد الصحية العامة، التي تشمل النواحي : الجسمية، والنفسية، والعقلية … وذلك حين تُمارس ضمن ضوابط السلامة العامة، الكفيلة بإحكام نشاط الفتيات الرياضي ضمن الحدود الشرعية والصحية والخلقية، دون متعلقات الرياضة الحديثة من : المفاسد الخلقية، والأضرار الصحية، وترف الثقافة الرياضية، وهذا بالضرورة يتطلب أخذ هذه الضوابط في الاعتبار عند ممارسة الفتيات للرياضة البدنية.
4-تحقق الخدمة المنزلية للفتيات -بكل فعالياتها الحركية، واستمراريتها اليومية- الأهداف المنشودة من وضع الأنشطة الرياضية وألعابها المتنوعة؛ إذ إن الألعاب الرياضية بأنواعها المختلفة ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود هو النشاط الحركي المستمر، مما يتطلب التأكيد على أهمية الخدمة المنزلية للفتيات في تحقيق الصحة الجسمية، مع ما فيها من فضيلة القيام بالمسؤولية الأسرية، ورعاية العائلة.
5-ارتبطت غالب ممارسات الفتيات المعاصرات للرياضة البدنية في الحياة العامة بصور وأساليب ومواقف لا تتوافق مع المبادئ التربوية الإسلامية، ولا تتماشى مع قيمها وآدابها، وهذا يُوجب على الفتاة المسلمة الاكتفاء بالممارسة الرياضية والحركية داخل منزلها، أو ضمن ساحاته المفتوحة المأمونة؛ فإن حصول الفائدة من الممارسة الرياضية البدنية لا يفتقر إلى الساحات الكبيرة، ولا إلى الأدوات الرياضية المعقدة، بقدر ما يفتقر إلى الحركة الجسمية والعضلية في حدِّ ذاتها، بل إن الدَّلك والدهن والتمريخ كل ذلك يدخل ضمن مفهوم الرياضة البدنية المفيدة.(2/5)
6-يُحجم كثير من الفتيات المسلمات عن المشاركة في الأنشطة الرياضية في المؤسسات التعليمية، ويفضِّلن ممارستها داخل المنزل مع أفراد الأسرة؛ وذلك يرجع إلى خوفهن من احتمال الانكشاف أمام الرجال الأجانب، ولاسيما في المجتمعات التي لا تراعي خصوصيات الإناث الجسدية، وأحكام الحجاب الشرعي، لذا تجدر التوصية باكتفاء الفتيات بالممارسة الرياضية المنزلية المستمرة بهدف السلامة الخلقية؛ فإن ستر العورة بالنسبة للأنثى - بصورة خاصة - مطلب شرعي مُحكم،لا يجوز التنازل عنه، أو تعريضه للاختلال لمجرد مطلب كمالي لا يصل حدَّ الحاجة عادة، فضلاً عن أن يصل درجة الضرورة، التي تباح عندها المحظورات.
7-جاءت الشريعة الإسلامية بالتفريق الواضح بين معالم الذكورة ومعالم الأنوثة في جميع صور الممارسات والسلوكيات؛ ليبقى لكل جنس طبيعته المغايرة للجنس الآخر، فيحصل من ذلك التكامل بينهما، ويتهيئ كلٌ لما خُلق له، إلا أن واقع الممارسات الرياضية الحديثة، وأهدافها الاقتصادية والتجارية، ووسائلها التنافسية : تُغري إلى مزيد من العطاء الجسمي المصبوغ بشيء من العنف، وتدفع إلى ألعاب رياضية خطرة ومهلكة، لا تحقق الغاية الصحية المنشودة من ممارستها، ولا تناسب طبيعة الإناث؛ لكونها تصبغ أجسادهن بالطابع الذكوري، مما يعطِّلهن عن أداء واجباتهن الطبيعية والفطرية والاجتماعية المناطة بهن، ولاشك أن هذا الوضع للممارسات الرياضية النسائية لا يتوافق مع نظام الإسلام التربوي, الذي يؤكِّد على ضرورة السلامة الشاملة من جميع الانحرافات، مما يوجب التوصية بضرورة تناسب النشاط الرياضي مع طبيعة الإناث الفطرية والاجتماعية، مع ضمان حفظ معالم أنوثتهن من الاضمحلال، وهذا لا يحصل بكماله إلا حين تُلغى أنشطة الفتيات الرياضية التنافسية، وتستبدل بالأنشطة الرياضية التعاونية والفردية.(2/6)
8-يغلب على الأنشطة الرياضية وألعابها سمة التوتر والإثارة والانفعال؛ لما فيها من طابع التنافس والعدوانية والمغالبة، التي تُعد الوقود الرئيس لغالب الألعاب الرياضية، وهذا الوصف يتعارض بصورة كاملة مع طبيعة الدور الاجتماعي والفطري المناط بالفتيات في خدمة النوع من خلال الحمل، ورعاية النسل، ومن هنا تجب التوصية باعتماد الأنشطة البدنية التي يقل فيها الاحتكاك الجسدي والازدحام، ويشيع فيها التعاون والتلاطف والسلام، لمناسبتها لطبيعة الإناث وأدوارهن الفطرية, ومسؤولياتهن الاجتماعية.
9-تتسم كثير من الأنشطة الرياضية المعاصرة بالمخاطرة، ويشيع في كثير منها درجة عالية من العنف والقسوة والوحشية، التي كثيراً ما تكون سبباً في هلاك الإنسان، أو إعاقته الجسدية، وهذا يتعارض بصورة صارخة من الوجهة التربوية الإسلامية، التي تعتبر حفظ النفس وسلامتها من الضرر مقصداً من مقاصدها، فلا تُجيز للشخص - تحت أي مبرر - أن يضر بجسده، أو يعطِّله عن القيام بواجباته الشرعية المناطة به، وهذا يتأكد بصورة أبلغ في حق الإناث لطبيعة المهمات المنوطة بهن, ومسؤولية الحمل والإنجاب، التي تتعارض تماماً مع حركة العنف والقسوة والمخاطرة التي تتسم بها كثير من الألعاب الرياضية المعاصرة؛ لذا تجدر التوصية بضرورة امتناع الفتيات عن الأنشطة والألعاب الرياضية التي تحمل في طبيعتها سمة العنف أو الوحشية أو المخاطرة، والإبقاء على الممارسات الرياضية اللطيفة التي لا تتعارض مع أدوارهن الفطرية والاجتماعية، وتحقق لهن قدراً من السلامة الصحية.(2/7)
10-ينتشر بين غالب أفراد المجتمع السلبية تجاه الممارسة الحركية والرياضية، مقابل درجة عالية من المتابعة الثقافية والفكرية للأنشطة الرياضية التنافسية؛ بحيث ينحصر نشاط كثير من الناس ضمن حدِّ المتابعة، والتنافس المقيت، والتشجيع المفرط، مما حدا بكثير من التجار والمستثمرين الاقتصاديين لاستغلال هذا الوضع الاجتماعي العالمي في مزيد من الاستهلاك وتنمية الثروات، حتى ارتفعت مكانة الجسد القوي والجميل إلى حدِّ التقديس؛ لما يحققه من خلال : التنافس، والإثارة، والمخاطرة، والجمال من العائدات المالية الكبيرة، والإسلام بمنهجه التربوي لا يرضى بتقديس الجسد، ورفع مكانته فوق المبادئ والقيم الروحية، ولا يوافق على بناء الجسد من أجل الجسد، وإنما بناء الجسد بهدف تحقيق العبودية لله تعالى، من خلال عمارة الأراضي، والقيام بالمسؤوليات العبادية والاجتماعية والاقتصادية المناطة بالفرد والجماعة، ومن هنا لابد من التوصية بأهمية الممارسة الرياضية الواقعية ضمن ضوابط السلامة التربوية بما يناسب كل جنس, ويحقق سلامة الفتيات الصحية، دون الالتفات إلى المتعلقات الرياضية من صور التنافس، والمتابعة، والتشجيع، بما يضمن سلامة اهتمامات الفتيات من ترف الثقافة الرياضية، ومتعلقاتها الفكرية.
28ـ مفهوم جديد لرياضة الفتيات البدنية
تتجلى فوائد ممارسة الرياضة البدنية السَّوية في انعكاساتها الإيجابية المتعددة على معظم جوانب الصحة الإنسانية، فمع كونها ترتبط إيجابياً وبصورة جوهرية بنواحي الصحة العقلية، ولها دورها الفعَّال في مجال الصحة النفسية:فإن أثرها المتميِّز في الصحة الجسمية أجلُّ من أن يُحصر، حيث تشمل فوائدها الصحية الفائقة كل جوانب وأجزاء كيان الإنسان الجسمي، ووظائفه الحركية العامة.(2/8)
والرياضة البدنية - مع كل هذا - وسيلة الفتاة الفعَّالة لجمال الجسم، وحسن القوام، ونضارة الشباب، خاصة في هذا العصر الذي قامت فيه الآلة الصناعية بجُلِّ مهام الإنسان العضلية، مما أعطى للممارسات الرياضية البدنية دوراً مهماً في التعويض الصحي عما أتلفته الآلة من قوى الإنسان البدنية، فقد كانت مهام النساء المنزلية بكل ما تحويه من الانفعال الحركي، والجهد العضلي، والنشاط الجسمي العام غير المقصود : كافياً - في مجمله - لإكسابهن الأهداف الصحية المنشودة من وراء ممارسة الفتيات المعاصرات للرياضة البدنية المقصودة، فإن الرياضة البدنية ليست هدفاً في حدِّ ذاتها، والألعاب الرياضية المختلفة ليست هي عين الرياضة البدنية - وإن كانت في العموم داخلة فيها - لأن مفهوم الرياضة أوسع من ذلك وأكبر. كما أن هذه الألعاب ليست مقصودة في ذاتها؛ بل هي وسائل للتربية البدنية، وإنما المستهدف من كل هذه الممارسات هو النشاط الحركي ذاته؛ فإن الرياضة تعني الحركة والتعب، "وليس التدريب والمنافسة ضروريين في الألعاب الرياضية كما هو الشأن في ألعاب القوى"، التي تتطلب التدريب المستمر، والممارسة المنتظمة، بهدف المنافسة الفردية والجماعية.
وبناء على هذا الفهم : فإن كل نشاط حركي سوي معتدل - مقصوداً كان أو غير مقصود، ضمن لعبة مباحة أو بدونها - فإنه في العموم نشاط رياضي، يخدم الصحة الجسمية، ويُؤثر فيها إيجابياً، ويدخل في هذا حركة المرأة في بيتها، وخدمتها زوجَها وولدها.(2/9)
وعلى الرغم من أن مبدأ الممارسة الحركية للفتيات بضوابطها الشرعية أداءٌ مشروع في التصور الإسلامي،وأن الكسل بكل مظاهره الجسمية سلوكٌ مكروه:فإن هناك جمعاً من الضوابط الشرعية المهمة التي تحتاجها الفتاة لممارسة الألعاب الرياضية بصورة خاصة، والأنشطة الحركية بصورة عامة حتى تُحقق هذه الرياضات البدنية الهدف المنشود من وراء ممارستها, ولا سيما في هذا العصر الذي انفتحت فيه الفتيات على الأنشطة الرياضية بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، حتى إنه من الصعوبة بمكان إيجاد نوع من الرياضة - أيَّا كانت - ليس للإناث فيها حضور وبروز مشهود.
التربية الفنية للفتاة
1ـ موقف التربية الإسلامية من مهارات الفتاة اليدوية
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد فقد جاءت الشريعة الإسلامية الخاتمة لتستوعب كافة أنشطة الإنسان الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والرياضية, وكل ما يمكن أن يدخل ضمن حركة الإنسان التطورية, وسعيه الحضاري, بما يكفل استيعاب طاقاته المختلفة, ويضمن توجيهها ضمن إطاره الإيماني, وقيمه الخلقية نحو الغاية الكلية التي ما وُجد الإنسان إلا من أجلها, وهي العبودية الخالصة لله تعالى, بحيث تنتهي كل مساعي الإنسان وحركته لتصب في هذه الغاية النهائية, كما قال الله سبحانه وتعالى : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56], وفي الحديث: " … حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً", فليس للإنسان غاية صحيحة ينشدها إلا هذه الغاية العظيمة، التي من أجلها وُجد.(2/10)
ولقد تشعَّبت مجالات أنشطة الإنسان المعاصر تشعباً لم يسبق له مثيل، وتنوعت بحيث يصعب حصرها واستيعاب أنواعها، وأخذت كثير من هذه الأنشطة مكانها ضمن المناهج التعليمية، وأصبحت لها جمعياتها المحلية والعالمية، ومنافساتها الدولية، حيث تحكَّمت في غالب هذه الأنشطة – مضموناً وتوجهاً– قوى حضارية، وثقافات أجنبية أخرجت كثيراً منها عن الإطار الإسلامي ومفاهيمه التربوية، بحيث يصعب إعطاء الصفة الشرعية لكثير من هذه الأنشطة المختلفة.
ولقد تأثرت الأنشطة الفنية ومهارتها اليدوية بما تأثرت به كافة الأنشطة الإنسانية الأخرى؛ حيث داخلها الخلل من الوجهة الشرعية حين خلت كثير من هذه المهارات من الضوابط الشرعية، التي تعطيها صفة القبول ضمن الثقافة الإسلامية، كما داخل هذه المهارات الخلل من الوجهة الفنية حين خلت كثير من هذه المهارات من الضوابط الفنية، التي تعطيها صفة القبول الفني.
ولقد توسعت مجالات الأنشطة الفنية ومهاراتها المختلفة حتى أصبحت جزءاً من المنهج المدرسي، الذي يتربى عليه التلاميذ – ذكوراً وإناثاً– عبر مراحل تعليمهم، ولما كانت غالب هذه الأنشطة الفنية قد نشأت وازدهرت خارج إطار الحضارة الإسلامية فقد خالطها كثير من المخالفات الشرعية، وفقدت العديد من مقوماتها الفنية، التي قد تُخرجها عن حدِّ المشروعية والقبول الفني.
والتربية الإسلامية بمنهجها المتميز تستوعب كل أنشطة الفرد– ذكراً كان أو أنثى – ضمن إطارها الرباني؛ بحيث تحكم سير المسلم في حركته الحضارية البنائية ضمن الحد المشروع، بما في ذلك أنواع المهارات اليدوية الفنية، التي تستهوي – في الغالب – الفتيات؛ لكونها مهارات متعلقة – إلى حد كبير– بالمشاعر والإحساس والذوق، التي تزدهر ألوانها عند الإناث بصورة كبيرة.(2/11)
ويقصد بالمهارات اليدوية: القدرة الفائقة على القيام بالأعمال الحركية المعقدة بسهولة ودقة، من خلال التآزر البارع بين أعضاء الجسم المختلفة، خاصة بين اليدين والعينين؛ بحيث لا يمكن حصول المعرفة بهذه المهارات دون مزاولتها، وممارستها عملياً. ومن هنا تظهر علاقة المهارات اليدوية بصحة الفتاة الجسمية؛ حيث يتوقَّف نجاحها في ممارسة هذه المهارات على سلامة أعضائها الجسمية وحواسها، أكثر من توقُّفها على درجة ذكائها وتفوقها العقلي؛ بل إن الصحة العقلية – ككل– ليست شرطاً ضرورياً لنجاح الفتاة في المهارات اليدوية المختلفة؛ فإن هذه المهارات العملية – في حد ذاتها– تُعد وسائل صحية لتأهيل المعاقين، وإعادة بنائهم العقلي والنفسي من جديد.
وتُعتبر الفنون الجملية – كمصطلح أوروبي حديث– بما تشمله من النظم الجمالية في مجال: الحياكة، والتطريز، والنقش، والرسم، والنحت، وغيرها: الميدان الطبيعي لمهارات الفتيات اليدوية، فإنهن بالطبع أميل من الذكور إلى الممارسات العملية المحسوسة، أكثر من ميلهن إلى القضايا الفلسفية الفكرية. ومن جانب آخر فإن هذه الفنون وسيلة الفتاة الناجحة للتعبير: عن مشاعرها، وأحاسيسها، وانفعالاتها، وأعماق تجاربها الباطنة، كما أنها وسيلتها الفعَّالة للتنفيس عن طاقاتها النفسية المكبوتة، حيث يخفُّ – من خلال التعبير الفني– حدَّة توتُّرها العصبي، ومشاعر ضيقها، وإحساسها بالكآبة.(2/12)
وقد فتح نظام الإسلام التربوي للمسلم مجال الإبداع والعطاء الفني كأوسع ما يكون, حتى جعله ميداناً مباحاً للاحتراف الصناعي والتكسب. مع أن هذه الفنون عادة ما تكون ضمن الهوايات الشخصية, والمطالب الذاتية التي لايرجو صاحبها من ورائها كسباً مالياً؛ وإنما هي للممارسة الممتعة في حد ذاتها. إلا أنه رغم هذا الانفتاح فإن هذه المهارات الفنية – في العموم – تخضع لضابطين : أحدهما شرعي, يضبط عمل الفتاة من جهة الحظر والإباحة داخل إطاري العقيدة والأخلاق, والآخر فني يضبط مهارات الفتاة ضمن فنِّيَّات وشروط الأداء الفني.
ويمكن في ضوء ما تقدم تلمس موقف التربية الإسلامية من هذه المهارات الفنية وذلك على النحو الآتي:
1- تتوقف مهارات الفتاة اليدوية على سلامة حواسها الجسمية أكثر من توقفها على درجة ذكائها ونضجها العقلي، وهذا يتطلب رعاية الفتيات من ناحية الصحة الجسمية، بما يحقق لهن درجة كافية من القوى التي تمكنهن من الاستمتاع بطاقاتهن الجسمية بكفاءة كاملة.
2- تمثل المهارات اليدوية بالنسبة للفتيات مجالات جذب وإثارة واهتمام، وهذا يتطلب مزيد اهتمام المؤسسات التربوية بأنواع المهارات المختلفة والتوسع فيها بما يُمكن للفتيات تحقيق رغباتهن، والاستفادة من طاقاتهن في أنشطة فنية إيجابية.
3- يستوعب التوجيه التربوي الإسلامي في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي تراث الأمة العلمي والثقافي: جميع أنشطة الإنسان المختلفة، بما في ذلك مجالات المهارات اليدوية على اختلاف أنواعها، وهذا يفرض على المؤسسات التربوية الرجوع بجميع أنواع المهارات إلى المصادر الشرعية للوقوف على حكم تعليمها، ومدى جواز تمكين التلاميذ –ذكوراً وإناثاً– من ممارستها.(2/13)
4- ترتبط جميع مهارات الفتاة اليدوية بمنهج الإسلام التربوي بحيث تصب جميعها في رحاب الله تعالى ومرضاته، فتكون عبادة تُؤجر عليها وتُثاب بها، مما يستوجب ضبط هذه المهارات بالضوابط الشرعية التي توجهها الوجهة الإسلامية، فتكون بذلك مقبولة عند الله تعالى.
5- يدخل الخلل من الناحية الشرعية على مهارات الفتاة اليدوية من جهة مهارة التجسيم لذوات الأرواح، المتضمنة للمضاهاة بخلق الله تعالى، وكذلك من جهة مهارة العزف الموسيقي على الآلات الوترية ونحوها، وهذا يوجب تجنيب الفتاة هاتين المهارتين، وكل ما يكون مشابهاً لهما من المهارات الفنية الحديثة، بحيث تُعرض هذه المهارات على المختصين الشرعيين لإجازتها من الناحية الشرعية، قبل اعتمادها على الطالبات في المؤسسات التربوية.
6- يُعتبر الخط العربي وأنواعه الفنية من أوسع وأفضل وأجمل مهارات الفتيات المسلمات، ولاسيما إذا ارتبط بنشر الحكمة من آيات الله تعالى، وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما فيه موعظة وأدب وذكر من تراث الأمة الثقافي، فليس هناك ما يمنع من ممارسة الفتيات لمثل هذه الأنشطة، وهذا يستلزم التوصية باعتماد الخط العربي مادة أساساً لأنشطة الفتيات الفنية، في جميع مراحل التعليم.
7- المهارات اليدوية بأنواعها الفنية المختلفة تخضع لمبدأ الاعتدال بين الإفراط والتفريط، والإسراف والتقتير، فلا يصح أن تستهلك جلَّ الأموال، أو تستنزف كل الأوقات، مما يوجب تدريب الفتيات على نهج الاعتدال في خوض هذه الأنشطة، بما يحقق الهدف المنشود منها، دون الإضرار بواجباتهن الشرعية، وتكاليفهن الاجتماعية.(2/14)
8- ترتبط قيمة عمل الفتاة اليدوي بسمو هدفه وغايته، ودرجة جماله وإتقانه، بحيث يفقد العمل المُنْتج – أياً كان – قيمته بقدر ما يفقد من درجة جماله وإتقانه، وسمو هدفه وغايته، وهذا يوجب توجيه الفتيات للتأكيد على الناحية الجمالية ونبذ الفوضى والتشويه في العمل الفني، مع أهمية الجودة في الإنتاج، إضافة إلى ضرورة وجود الرسالة السامية النبيلة التي يحملها العمل الفني إلى الناظرين، باعتباره الهدف الخيِّر الذي تسعى إليه من خلال إنتاجها.
2ـ الضابط الشرعي لمهارات الفتاة اليدوية
ويقصد بالضابط الشرعي: سلامة مهارات الفتاة من الوقوع في دائرة الحظر الشرعي من جهة نوع المهارة, أو من جهة مضمونها, فإن الضابط الشرعي الذي تغذيه العقيدة الصحيحة يسيطر بقوة الإيمان على كل جوانب وأنواع النشاط الإنساني بما في ذلك المجال الفني, حتى ينطبع بطابعه الروحي, ومبادئه الإيمانية: فينسجم بمعاييره وضوابطه الشرعية, التي تسوقه – بالتالي – إلى رحاب الله تعالى, فتربط بين هذه المُنْتجات الفنية الجميلة، وبين الخالق المبدع سبحانه وتعالى،حيث يلتقي هناك عند هذه الغاية: الفن بالعقيدة، والمتعة الحسية باللذة الروحية، فتصفو النفس عندئذ، ويطيب السلوك. وهذا الشعور الإيماني هو الذي سيطر على طبيعة الفن عند مهرة المسلمين الأوائل.(2/15)
ولعل أهم ما تحذره الفتاة في عملها الفني هو تجنب المضاهاة بخلق الله تعالى، والمقصود من تجنب الفتاة مضاهاة خلق الله تعالى: خلو مضمون إنتاجها الفني من كل مظهر من مظاهر محاكاة خلق الله تعالى في ذوات الأرواح من جهة التجسيم؛ لإجماع المسلمين على حرمة ذلك، أو من جهة التحنيط والرسم والنقش؛ لأنها في معناه، ولا يُستثنى من ذلك إلا التصوير الفوتوغرافي للأحياء، حين يكون رقماً أو صبغاً، يُوضع موضع المهنة لا موضع التعظيم، فقد كانت كل الصور لذوات الأرواح في أول أمر الإسلام ممنوعة لارتباطها بعبادة الأصنام، فلما عرف الناس من الدين ما لا يُخاف عليهم فيه من الأصنام والصور: جاءت الرخصة بما لا ظل له إذا لم يُنصب نصب عبادة وتعظيم. مع كون الورع في مثل هذا، والاحتياط منه – خروجاً من الخلاف– أمراً مستساغاً شرعاً؛ إذ من المعلوم أن "الخروج من الخلاف والأخذ بالثِّقة والاحتياط أولى"، ولاسيما إذا لم يكن هناك ضرورة. وبعد ذلك تجد الفتاة في ميدان "الموات" من خلق الله تعالى بنوعيه الجامد، والنامي: ساحة رحبة واسعة للتصوير والتمثيل؛ بل وحتى هذا الميدان كساحة مباحة شرعاً للتقليد والمحاكاة: لم تكن محطَّ اهتمام المبدعين المسلمين عبر القرون الماضية؛ لكونها هي الأخرى تحمل جانباً من المضاهاة بخلق الله تعالى في الطبيعة، فقد وجدوا في الزخارف، والرسوم الهندسية المتنوعة: ساحة أوسع وأرحب للإبداع، والإنتاج الفني. ومع كل هذا: فليس النحت والتجسيم من مجالات الفتيات المحببة كما دلَّ على ذلك ميول كثير منهن.(2/16)
وأوسع من كل هذا وأرحب: مجال الخط العربي، "فالكتابة الإسلامية أولاً وقبل كل شيء منهج جمالي للتعبير، عن طريقها وصلت العبقرية الفنية للشعوب الإسلامية أقصى درجاتها في مجال الإبداع الفني"، حيث تجد الفتاة في هذا المجال ميداناً للممارسة الفنية، وساحة واسعة للتَّعبير من خلالها عن خصائصها الذاتية، ومميزاتها الشخصية؛ ففي تجميل كلام الله تعالى بتحسين الخطوط، وفن الكتابة: مجال واسع، لا منافس للمسلمين فيه، وهو من مجالات الفن المحببة الجميلة؛ إذ الخط الحسن له تأثيره الخاص في النفس، وقد كان في السابق ميداناً لتنافس النساء في قرطبة،وكثيراً ما كانت الفتاة المتقنة للخط، العارفة بأصوله وقواعده: موقع تقدير العلماء والوجهاء عبر التاريخ الإسلامي، وقد وُجد في بلاد المغرب العديد من المصاحف المكتوبة بخطوط النساء، حتى إن إحداهن كتبت بخطها خمسة وثلاثين مصحفاً.وما يُحكى من كراهية الكتابة للإناث:لا يُلتفت إليه، فقد خالفه واقع الأمة العملي منذ فجر تاريخ المسلمين,ولم يصح في منعهنَّ منها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يُذكر؛ بل الثابت عنه –عليه السلام– الجواز بلا كراهية.(2/17)
ولعل مما يُعزِّز قناعة الفتاة بحفظ نشاطها الفني من تمثيل مخلوقات الله تعالى أن تعرف: أن المُجسِّمة من الفنانين القدماء كانوا أحقر طبقات المجتمع،وهم اليوم أقبح الناس سلوكاً، وأرذلهم خلقاً، حتى إن فساد طباعهم، وانحراف نفوسهم لا يكاد يخفى عن مضمون أشكال ومظاهر إنتاجهم الفني، حتى إنه ليبدو صارخاً بيِّناً في تصويرهم للأجسام العارية، الطافحة بالشهوة الجنسية، حيث جعلوا من جسم الأنثى غرضاً للفتنة والتكسُّب والاشتهار، حتى غدت تعْرية أجْساد الفتيات أمام الطلاب للرسم في كليات الفنون – بحجَّة التعلُّم– أمراً مستساغاً، لا يعاقب عليه القانون، رغم الفتاوى الصريحة بحرمة هذا المسلك القبيح. وهذا – في الجملة – يدل على حجم الدافع الجنسي، والتلذذ الشهواني المتخفِّيين وراء كثير من هذه الأنشطة الفنية، المتلبِّسة بزي العلم، فقد "ساد اعتقاد بأنه لا أخلاق في الفن والإبداع، بحجة أن القيمة الخلقية قيمة موجِّهة وآمرة، تعتمد أساليب الردع، بينما القيمة الفنية قيمة تستند إلى أحوال الشعور والوجدان، وتتوسل بأساليب الذوق والامتناع"، ولاشك أن هذه المبررات لا ترقى لأن تكون حججاً تُهدر من أجلها الثوابت الإيمانية والأخلاقية.
إن هذه الصورة الساقطة لبعض صور الفن المعاصر لايمكن أن تنفك عن تجربة الفتاة المجسِّمة التي تستبيح لنفسها خوض تجربة المضاهاة بخلق الله تعالى، في حين تسلم الفتاة المتقيِّدة بآداب المهارات اليدوية، وحدودها الشرعية من خوض هذه المفازة الخلقية المهلكة.
3ـ تجنب الفتاة مهارة العزف الموسيقي(2/18)
ويقصد بتجنب الفتاة مهارة العزف: ألا يدخل هذا النوع من الفن– مطلقاً– ضمن مهارات الفتاة اليدوية, فكل آلات العزف واللهو المختلفة ممنوعة شرعاً بإجماع المسلمين, ولايستثنى من ذلك إلا الدف. وما حكاه ابن حزم رحمه الله في إباحة آلات الملاهي: فقد رُدَّ عليه, وحجته مبنية على انقطاع سند حديث البخاري في ذم المعازف, فقد أورد الحديث, وأحاديث أخرى في الموضوع, وأخذ – رحمه الله – يطعن في أسانيدها, وينتصر لمذهبه في إباحة آلات الطرب, حيث يقول:" ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً, وكل ما فيه موضوع, ووالله لو أسند جميعُهُ, أو أحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ترددنا في الأخذ به", يقول ابن حجر رحمه الله في إبطال هذه الحجة:" وهذا حديث صحيح, لاعلِّة له, ولا مطعن له, وقد أعلَّه أبو محمد بن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد, وبالاختلاف في اسم أبي مالك, وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم". ومن هنا يُعلم أن الحجة التي بنى عليها ابن حزم ومن قلَّده من التربويين وغيرهم: بطلت باتصال السند, وثبوت صحة الحديث, ومع هذا فإن قول أحد الأئمة – مهما كانت مرتبته – ليس بحجة إذا خالفه غيره, فكيف إذا خالفه الأكثرون؟ ومن المعلوم أن الخلاف الضعيف أو الشاذ أو المهجور من المسائل الفقهية لا يُراعى ولا يُلتفت إليه, والأصل في اجتماع الحظر والإباحة تغليب الحظر إلا عند ضرورة ملجئة, فالمسألة التي يختلف فيها الناس يُؤخذ فيها بالإجماع إن وُجد, وإلا أُخذ بالأحوط, ثم بالأوثق دليلاً, ثم يُؤخذ بقول من يُظن أنه أفضل وأعلم, ومع ذلك فإن تتبُّع رخص المذاهب لا يصح إلا بشروط وضوابط. ومن المعروف أن إطلاق غالب الأئمة المتقدمين لفظ" الكراهة" على بعض المسائل: يُفيد عندهم التحريم؛ وإنما يمنعهم من التصريح بذلك أدبهم مع الله تعالى.(2/19)
إضافة إلى كل هذا فإن للموسيقى أثراً بالغاً في التهييج الجنسي, والإثارة النفسية, والخروج عن المألوف, والعبث العقلي: أبلغ من كل أنواع المهارات والفنون الأخرى,حتى ضجَّت من آثارها السيئة المجتمعات المعاصرة. ولهذا حرص أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين على بثِّها بين شباب المسلمين كأوسع ما يكون, فانشغل بها الشباب المسلم, حتى بلغت ببعضهم درجة الهوس الموسيقي المفرط, وضعف في نفوسهم الشعور بالمذمة من تعاطيها، حتى أقيمت لها الكليات والمعاهد الخاصة،والمؤتمرات ، والمنظمات الأكاديمية الدولية الرفيعة المستوى، وحتى أصبحت الجرأة في الإيصاء بتعليمها وتعميمها على المراحل التعليمية أمراً شائعاً مستساغاً لا يُستنكر.
ولم تكن الفتاة المسلمة– في كل هذا – بعيدة عن هذا التأثير الدولي والمحلي حتى تعاطت هذه المهارة، خاصة وأن الفتيات بطبعهن أميل في العموم إلى تعاطي الموسيقى من الفتيان، وأكثر تفوقاً فيها.(2/20)
إن هذا الوضع الاجتماعي المنحرف لا يُبيح للفتاة المسلمة المعاصرة تعلُّم أو ممارسة هذه المهارة مهما كانت المبررات، فقد مرت فترات على الأمة المسلمة انتشرت فيها الملاهي والمزامير بين بعض السَّاسة والوجهاء، وبرز فيها نفوذ الفنَّانين والفنَّانات كأقوى ما يكون، حتى أشغلوا الناس بلهوهم، وهذا أمر واقع في القديم والحديث، إلا أن كل هذا لم يخرج هذه المهارة عن كونها ممنوعة شرعاً، ولم يمنع العلماء– عبر التاريخ الإسلامي في القديم والحديث – من الزجر عنها، واعتبارها من العلوم المحرَّمة شرعاً، وقد كتب سليمان بن عبد الملك – رحمه الله– إلى عامله بالمدينة بسجن المغنين، وكتب أيضاً عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – إلى عمر بن الوليد في مسائل يعاتبه عليها، ومنها أن قال له: "… وإظهارك المعازف والمزامير بدعة في الإسلام، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجرُّ جمتك جمة السوء"، ثم إن الذين مالوا لإباحة آلات اللهو: قيَّدوه بألا يُصاحبه الغناء الفاحش المثير للخنا والفساد، وإلا كان ممنوعاً شرعاً ولا شك أن طرب هذا العصر لا يكاد يخلو من المحظور الشرعي، الذي ينقُلُه عند جميع العلماء إلى التحريم.
4ـ هدف الفتاة من العمل الفني(2/21)
المقصود من مراعاة الهدف من العمل الفني هو: خلو إنتاج الفتاة الفني من العبث والفوضى، أو ما يُسمى "الفن للفن"، فقد سادت هذه النزعة الجمالية الأدب الفرنسي والإنجليزي في القرن التاسع عشر الميلادي،" وهي ترمي إلى أنَّ الاعتبارات الجمالية تفْضُلُ الاعتبارات الأخلاقية"، ومن المعلوم أن المقصد سمة ضرورية للعمل الفني؛ "فلا العلم ولا الفن له قيمة أخلاقية ذاتية كامنة تنتقل تلقائياً إلى من يمارسها، وإنما تتوقف تلك القيمة على القصد الذي يهدف إليه المرء من استعمالها". فاختيار الفنان موضوع فنِّه لا يتم صدفة؛ بل هو هدف يسعى إليه، وغاية يرمي إليها، "فالفنان لا يصبح فناناً إذا لم يملك أفكاراً معينة يعكس فيها فنه… كما لا يوجد فنٌ بدون مضمون فكري"، ووقوع الخلاف بين المهتمين بالفن في هذه القضية، لا يغيِّر من الحقيقة شيئاً؛ فإن العمل الفني مهما كان متقناً وجذاباً فإنه يفقد صفته الجمالية وجاذبيته بقبح مضمونه، كما أن حصر الاستمتاع في ذات العمل الفني، حتى يصبح هدفاً في ذاته: لا يعدو أن يكون انحرافاً عن الحقيقة، وعبودية مقيتة للجمال.
إن الخيرية بمعناها الواسع هي مضمون عمل الفتاة الفني، بحيث تستغل إتقان الإنتاج الفني، وجماله في هزِّ الإنسان من الأعماق؛ والارتقاء به نحو الأسمى، من خلال فهم الرسالة الخيرية التي يحملها عملها الفني، والقناعة بها حتى تصبح جزءاً من خبراته الخاصة، فيكون الفن– بذلك– وسيلة الفتاة للخير والفضيلة.
5ـ أهمية الإتقان في عمل الفتاة الفني(2/22)
المقصود هنا أن تندفع الفتاة بالغاية النبيلة، وسمو الهدف نحو إتقان إنتاجها الفني، حتى وإن كان ذلك من باب التحسينيات مما هو دون مرتبتي الحاجيات والضروريات في مفهوم المقاصد الشرعية؛ فإن السلامة من العيوب الفنية: شرط ضروري للإحساس بالجمال، والله عز وجل قد "… كتب الإحسان على كل شيء…"، فلم يستثن من عمل الإنسان شيئاً، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتْقنه". ومن هنا فإن فقدان العمل الفني لصفة الإتقان يُذهب بجماله، ويُضعف تأثيره في الإنسان، فالخط العربي – مثلاً – "إذا كان حسن الوصف، مليح الرصف…هشت إليه النفوس، واشتهته الأرواح… وإذا كان الخط قبيحاً مجَّتْه الأفهام، ولفظته العيون والأفكار"، وهكذا الحال في باقي أعمال الفتاة الفنية.
ولما كانت سمة الإبداع الفني تكاد تكون أنثوية الطابع، وميل الفتيات إلى النشاط الفني كبير، ورغبتهن في البراعة لا تفوقها رغبة؛ فإن وسيلة الفتاة للإتقان تكاد تجتمع في تنمية خبراتها الحسيِّة، والارتفاع بمستوى حواسها البدنية؛ لأن المهارات الفنية تُعنى بالحواس أكثر بكثير من عنايتها بغيرها، فلا يضر الفتاة المبدعة وهي تتعامل مع المواد المختلفة– مهما كانت خسيسة ما لم تكن نجسة– أن تنتج منها صوراً، وأشكالاً متقنة في: ألوانها، وأحجامها، ومعانيها، وأهدافها
6ـ اللمسة الجمالية في عمل الفتاة الفني(2/23)
المقصود بالجمال هو: "التناسب بين أجزاء الهيئات المركبة، سواء أكان ذلك في الماديات أم في المعقولات، وفي الحقائق أم في الخيالات"؛ بحيث يحمل إنتاج الفتاة اليدوي– أياً كان– صفة الجمال السَّار للنفس، والذي يبدو تلقائياً دون تكلف؛ فإن "الإحساس بالجمال أمر فطري أصيل في جبلَّة الإنسان، فالإعجاب به دائم، والميل إليه طبيعة في النفس، تهفو إليه حيث وُجد، وتشتاقه إذا غاب"، وهو مع هذا ظاهرة كونية تدخل في بناء كل موجود، إلا انه عنصر معنوي لا يقوم بذاته؛ إنما يُلحظ من خلال المبتكرات والمصنوعات. ومن هنا تظهر العلاقة بين الجمال والفن، فإن وظيفة الفن الأولى: صنع الجمال، الذي يتخذ من أنواع الفنون المختلفة ميداناً عملياً لظهوره، فيكون طابع الجمال الفني محصِّلة تفاعل الإتقان والإحساس من جهة،مع سلامة الهدف وحسن المقصد من جهة أخرى . فلا يدخل – بناء على هذا المفهوم – العمل الإنتاجي المشوَّه في إخراجه وهدفه ضمن معايير الجمال الفني،حتى وإن سُمِّي عند بعضهم فناً، فإن عناصر الفن من: الدقة والمهارة، والتنظيم والتنسيق، وحسن الإخراج، مع الموهبة والإبداع: ضرورية لصنع الجمال في مفهوم الفن الإسلامي، وهذا الوصف– في الجملة– لا تصل إليه الفتاة إلا من خلال معاناة التجربة والتدريب، وقدْر مناسب من الثقافة العلمية والفنية.(2/24)
ولا يُفهم مما تقدم دفع الفتاة نحو " الولع الشديد، أو المنحرف بمظاهر الجمال"، فإن صنع الجمال – وإن كان مقصوداً– ليس هو وظيفة الإنسان التي وُجد من أجلها؛ إنما هو وسيلة لما وراء ذلك من الأهداف الكبرى. فلا ينبغي أن تنساق الفتاة بإفراط نحو صنع الجمال إلى درجة الهوس الذي تضيع فيه أوقاتها، وتخسر فيه أموالها، فإن الاعتدال في كل الأمور: هو منهج الإسلام التربوي دائماً، والفنون الجميلة – في العموم– "إذا احتلت في حياة أمة مكانة أعلى مما ينبغي: لكان ذلك حتماً على حساب حياتها الجادة؛ ولذا فإن مآل تلك الأمة إلى الفناء السريع".
التربية الاقتصادية للفتاة
1ـ أهداف تربية الفتاة الاقتصادية وخصائصها التربوية
أهم خصائص الفتاة الاقتصادية:
1-اختصاصها بالكفالة الاقتصادية، وعدم إلزامها النفقة؛ حتى تتفرغ لمهام الإنجاب ورعاية الأطفال وخدمة الأسرة، مما يتطلب قيام المجتمع بمهمتها التربوية على أكمل وجه.
2-اختصاصها بالصناعات المنزلية باعتبارها حرفة للكسب دون أن تتعارض مع مسؤولياتها الأسرية ومهماتها التربوية، وهذا يتطلب تعريفها بهذه الحرف، وتطويرها، وتدريبها عليها حتى تستغلها في الكسب الشريف ضمن نطاق الأسرة.
3-اختصاصها بمعاناة أزمة صراع الأدوار الاجتماعية عند محاولة جمعها بين العمل خارج المنزل ومهمة الخدمة الأسرية ورعاية النشء، مما يتطلب التأكيد على الحرف المنزلية، والتوسع فيها حتى تنحصر هذه الصراعات في أضيق حدود.
4-اختصاصها بأنواع من المهن العامة المشروعة، التي توافق طبيعتها الإنسانية، وتراعي مهمتها الاجتماعية، وتحقق في الوقت نفسه خدمة يحتاج إليها المجتمع، وبخاصة مهنتي الطب والتعليم مما يتطلب التأكيد على تهيئة الظروف التعليمية الصالحة لتوجيه بعضهن إلى المهن التي توافق طبيعتهن، وتحقق في الوقت نفسه خدمة للمجتمع من الصعب أن يقوم بها الرجال.(2/25)
5-اختصاصها بكونها شغوفة بالزينة والميل إلى المباهاة بالممتلكات مما يتطلب تربيتها على الاعتدال وعدم التبذير والإسراف، مع تنمية قدرتها على السيطرة على رغباتها الجامحة.
أهداف تربية الفتاة الاقتصادية:
1-اقتناع الفتاة بطبيعة العدل في نظام الاقتصاد الإسلامي.
2-وعي الفتاة باضطهاد الإناث الاقتصادي في ظل سلطان الأنظمة الجاهلية القديمة منها والحديثة.
3-تمكين الفتاة من الانتفاع بحقوقها الاقتصادية المقررة في الشريعة الإسلامية.
4-إدراك الفتاة بأن مهمة الضرب في الأرض للكسب والإنفاق على الأسرة في أصلها الشرعي مهمة الرجال.
5-تعرف الفتاة على الأحكام الشرعية لتصرفاتها المالية مع تقيُّدها بها.
6-اقتناع الفتاة بالقيمة الاقتصادية للخدمة الأسرية.
7-إسهام الفتاة بالعمل الحِرَفي المباح في إحياء الصناعات المنزلية.
8-استغلال طاقة الفتاة الريفية في تنمية ثروة العائلة الزراعية.
9-رفع مستوى تدبير الفتاة المالي ضمن الحد الشرعي المطلوب.
10-إحياء مبدأ القناعة والرضا بمستوى الفتاة الاقتصادي في المجتمع.
11-إدراك الفتاة للغاية الشرعية من وراء جميع أعمال التنمية الاقتصادية العامة.
12-حماية شخص الفتاة من كل صور الاستغلال الاقتصادي لجسدها وصورتها وصوتها.
13-امتناع الفتاة عن ممارسة العمل المختلط بالرجال الأجانب.
14-تقبُّل الفتاة لمبدأ التخصص المهني بين الجنسين ورفض دعوى المساواة بينهما في أنواع المهن.
15-اقتناع الفتاة بعدم توافق طبيعة العمل السياسي مع تربيتها الإسلامية وفطرتها الأنثوية ووظيفتها الاجتماعية.
2ـ حقوق المرأة عبر التاريخ الإنساني(2/26)
ينتظم حق المرأة العام في نظام الاقتصاد الإسلامي ضمن مجموعة من الحقوق الجزئية، التي تكون في مجموعها إطاراً متلاحماً من الحقوق المترابطة التي تعمل في مجملها على إبقاء شخصية الفتاة معتبرة الجانب، محفوظة الذات من كل ما يَشينها، أو يحطُّ من مكانة أسرتها، أو يضر بمجتمعها، ضمن ما يوصف بالحياة الطيبة، التي قال عنها المولى - عز وجل - : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
ولقد عاشت الفتاة - والإناث عموماً- عبر تاريخ الإنسانية نوعين من الحياة، لم تخرج في أحدهما عن سلطان الرجل وإشرافه - المباشر أو غير المباشر- أحدهما: حياة صالحة كريمة في كنف قيادة رجولية مؤمنة عادلة، والأخرى: حياة بائسة ذليلة في ظل سيادة ذكورية جاهلة ظالمة، فتتمتع في الأولى بالسعادة والرخاء، وتعاني في الأخرى من البؤس والشقاء، فهي دائماً - بالطبيعة- أول المضطهدين عند غياب الإيمان والتقوى.
ومن المستبعد في مستقبل الحياة الإنسانية -وقد أشرفت البشرية على نهاية الدنيا- أن يطرأ تغيُّر جوهري على وضع النساء، بحيث يصبحن أنداداً للرجال، فضلاً عن أن يصبحن سادة الدنيا، فإذا لم يتحقق مثل هذا في السابق والحاضر فإن ذلك أبعد في المستقبل، فقد أشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه في آخر الزمان يكون القيِّم على خمسين امرأة رجلاً واحداً، بمعنى أن النساء يكثرن في مقابل عدد الذكور، ومع ذلك يتبعنه ويلذن به، كما جاءت الروايات مصرِّحة بذلك، ولا يستطعن الاستقلال بأنفسهن فضلاً عن السيطرة على الحياة الإنسانية.(2/27)
والمتأمل في تاريخ الإنسانية الطويل وحتى اليوم، وعبر الحضارات المختلفة المتعاقبة لا يجد هذا المعنى يتخلَّف عن أي تجمع إنساني - متطوراً كان أم مختلفاً- فمتى ما وُجدت الجاهلية: وُجد معها - بالضرورة - اضطهاد الإناث في صورة من الصور الظاهرة أو الخفية، حتى الجاهلية الفرعونية التي يحاول بعضهم عبثاً أن يستثنيها من بين الحضارات الجاهلية الظالمة لعنصر الإناث، معتمدين في ذلك على رسوم ونقوش تصور المرأة بجانب الرجل، وكأن الرموز والصور في حد ذاتها تُعطي الفراعنة براءة من دم آسية امرأة فرعون، التي دُقَّت الأوتاد في يديها ورجليها، وحجَّة على اضطهاد نساء بني إسرائيل، كما صورها القرآن الكريم، إضافة إلى عادة قذف فتاة حسناء في مياه النيل، ضمن ما يُسمى: "وفاء النيل"، زاعمين أن ذلك يمنع من نقص مياه النهر.
وأما الجاهلية العربية، فمع محاولة بعضهم تحسين صورة الفتاة فيها: فإن الإجماع قائم على غير ذلك، فهي لا تعدو أن تكون متْعة مستلذة، أو رحماً ناتقاً، أو حملاً ثقيلاً، أو ذاتاً موؤودة، وغير ذلك لا يعدو أن يكون شذوذاً لا يُلتفت إليه، وهذا السيد الخبير عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصف مكانة المرأة في الجاهلية، وكيف كانوا يعاملونها فيقول فيما روي عنه: "…. كنا بمكة لا يكلِّم أحدنا امرأته، إنما هي خادم البيت، فإذا كان له حاجة سَفَعَ برجليها فقضى حاجته….".(2/28)
وأما جاهلية العصور الوسطى الأوروبية، التي سيطرت عليها ضلالات الكنيسة، فهي لا تعدو أن تكون امتداداً لمظالم اليونان، ونظرتهم الحقيرة إلى الأنثى؛ إذ لم تكن المرأة بعيدة عن ممارسات الظلم والاضطهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل حتى الإذلال النفسي، حينما تحمَّل الأنثى أسباب الغواية الأولى، وبلية البشرية وضلالها، ولم ينته ظلم المرأة بعصر النهضة والتنوير؛ فإن القرن التاسع عشر الميلادي يمثل في "الثقافة الأوروبية والأمريكية إحدى الفترات التاريخية التي كانت تعاني فيها المرأة أشد حالات القهر والظلم والاضطهاد"، ولم تكن المرأة في المجتمعات الاشتراكية لتنجو من صور جديدة من الخسف والظلم على أيدي الاشتراكيين، واستغلالهم الاقتصادي.
وأما الجاهلية الحديثة فهي الأخرى لا تعدو أن تكون صورة مكررة من الجاهليات الماضية، تمارس على الفتاة صنوفاً جديدة من الاضطهاد والعسف، والاستغلال الجنسي البشع، والظلم الاجتماعي والاقتصادي، مع الإبقاء على بعض المظاهر الخادعة -التي يقتضيها العصر- من صور التكريم والإجلال في الأندية واللقاءات العامة، وإعلانات حقوق الإنسان في مجامع منظمة الأمم المتحدة، ويكفي العالم المتحضر خزياً أن يشكل النساء (70%) من فقراء العالم.(2/29)
إن هذه الجاهليات المتعاقبة تتفق كلُّها على اضطهاد النساء حين تغيب عن حياة الأمم هيمنة تعاليم الوحي المبارك التي تجعل الجنة عند قدم الأم الوالدة، وتأمنها على المصحف الأم، وتوجب الاقتداء بها في السعي بين الصفا والمروة، وتسمح لها أن تطأ بقدمها ركبة أعظم الخلق، ثم لا يختار المولى - عز وجل - مكاناً يقبض فيه أكرم نسمة عليه أفضل من حجر فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، وأما ما يُنسب إلى السنة النبوية مما يخالف هذا التوجه، فإنه لا يعدو أن يكون ضعيفاً أو موضوعاً، ويكفي المرأة كرامة أن يعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين محذراً ومنبهاً فيقول: "اللهم إني أحرِّج حقَّ الضعيفين: اليتيم والمرأة".
إن هذه التعاليم الربانية، والممارسات الواقعية التي ترقى بالفتاة إلى هذا المقام: لا يمكن أن تقْصُر عن حقوقها الاقتصادية، التي لا تزيد عن كونها جزءاً من حقوقها الإنسانية العامة التي حباها بها الإسلام.
3ـ أهمية التربية الاقتصادية للفتاة المسلمة
إن للإسلام نظامه الاقتصادي الخاص، الذي يحكم جميع الممارسات التنموية -الفردية والجماعية - ويحدد للفرد- ذكراً كان أو أنثى- موقعه من الهيكل الاقتصادي، ودوره الإيجابي الأمثل في دعم المسيرة التنموية ضمن ثوابت الشريعة العامة، وأحكامها التفصيلية، في نموذج فريد متكامل الجوانب، ومترابط الأطراف، يعضد بعضه بعضاً، ويسند بعضه بعضاً، في بناء رباني كامل لا يدخله الخلل أو النقص أو التناقض، الذي أصبح سمة واضحة لأنظمة الاقتصاد الوضعية التي تقوم أصولها على قصور الطبيعة البشرية، بعيداً عن وحي الله تعالى المبارك، ومنهجه الفريد المحكم.(2/30)
ولما كانت التنمية الاقتصادية - بل والتنمية بصورة عامة- مفتقرة بصورة دائمة إلى إطار اجتماعي تنمو من خلاله: برز دور المرأة كعضو اجتماعي فاعل، فاتخذ الاهتمام بها صفة دولية، فمنذ أن عُقد أول مؤتمر نسائي دولي في جنيف عام 1920م، والمؤتمرات العالمية والإقليمية الخاصة بهن تتابع بصورة متلاحقة، فضلاً عن الاهتمامات الكبرى التي تُوليها مراكز البحث الغربية لقضايا المرأة بصورة عامة، وقضايا المرأة المسلمة بصورة خاصة، لاسيما بعد التغيرات الجذرية الناتجة عن الصراعات الثورية، والنهضات الصناعية التي خاضها العالم الغربي، وبعد أن ثبت عندهم من خلال الدراسات الواقعية: "أن المرأة هي المستهلك الأول لما تنتجه المجتمعات المتقدمة"، فزاد بالتالي الاهتمام بها واستغلالها كعضو منتج من جهة، ومستهلك من جهة أخرى.
ولم تكن المرأة المسلمة بمعزل عن هذه التفاعلات الاقتصادية العالمية، فقد نالها قدر من هذه التغيرات والصراعات الاجتماعية، التي أثرت بصورة كبيرة في مفاهيمها الاقتصادية، وسلوكها الاستهلاكي، ومسؤوليتها الاجتماعية، فكان من الضروري إعادة النظر من جديد في أسس تربيتها الاقتصادية بهدف إبراز حقوقها المالية في المجتمع المسلم، ودورها الحقيقي في الاقتصاد الأسري، ووضع ذلك كله ضمن إطار تربوي إسلامي يتناسب وطبيعة الحياة المعاصرة من جهة، ويُبقي من جهة أخرى على الثوابت الاقتصادية صفة الديمومة اللازمة لها ضمن قيم الإسلام وكلياته العامة.
ويمكن -بناء على ذلك- وضع تعريف للمقصود من التربية الاقتصادية للفتاة المسلمة على النحو التالي: إعداد الفتاة للعمل الصالح بمفهومه الواسع: المادي منه والمعنوي؛ لتكون عضواً اجتماعياً مُنتجاً ومُدبِّراً، ضمن أحكام الإسلام العامة، ومفاهيمه الاقتصادية الخاصة.
4ـ حق الفتاة الاقتصادي في ترك الكسب(2/31)
لما كانت الفتاة عضواً اجتماعياً مكفولاً -كما تقدم- فقد أعفاها الشارع الحكيم من السعي في طلب الرزق، حيث جعله مهمة رجولية تقابل قيامها بخدمة النوع، وتفرغها لصناعة الإنسان؛ بحيث لا تكلَّف الكسب مطلقاً، مهما كانت ظروفها الاقتصادية قاسية، فإن تكلَّفته بضوابطه الشرعية: فإنما هو نافلة تتنفَّلُ بها، لا تجبر عليها، فما زال الرجال عبر التاريخ الإنساني هم مورد المرأة الاقتصادي، وما زالت حاجتها إلى الأسرة للأمان الاقتصادي أكبر من حاجة الرجل، فالذكورة" صفة من صفات العجز إذا نظرنا إلى جدواها في عمل الأنوثة، والأنوثة صفة من صفات العجز إذا نظرنا إلى جدواها في ميدان الكسب".
وليس هذا التوجه الاقتصادي خاصاً بالحرائر من النساء؛ بل إن الأمة الساذجة، التي لا تحسن صنعة شريفة: تدخل ضمن هذا التوجه الملزم، وذلك كله حفاظاً على أخلاق الفتيات من الانهيار بتعرضهن لكدح الكسب، فليست الأعمال دائماً تناسبهن، خاصة إذا زاد الطلب وقل العرض، وباعتبارهن إناثاً فهن دائماً موضع مطمع لأرباب الأعمال، والفاحشة عند الفقيرات الضائعات أرخص وأسهل مكاسبهن الاقتصادية، خاصة وأن الفقر والحاجة فيهن أسرع وأبلغ، فلو جاز للأب أن يؤاجر أولاده الذكور إذا بلغوا الكسب، فإنه لا يصح منه ذلك مع بناته لما فيه من تعريضهن للفساد؛ إذ هن دائماً في مأمن من مكابدة الرزق، والتعرض لمخاطر الكدح؛ ولهذا حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسب الإماء مطلقاً، حتى يُعلم مصدره.(2/32)
وقد ظهرت واضحة الحكمة الإسلامية في كفِّ النساء عن الكسب حين أدركت المجتمعات غير الإسلامية أخيراً سلبيات اشتغال النساء على نظام الأسرة والمجتمع من جهة، وعلى الأخلاق والقيم من جهة أخرى، وحتى الجانب الاقتصادي الذي قُصد إنعاشه بأيدي النساء العاملات لم يزدد إلا تعثُّراً واختلالاً، حتى غدت العلاقة قوية -بصورة غير مباشرة- بين وفرة النساء العاملات وبين الانهيار الاقتصادي، وما أدلَّ على ذلك من الانهيار الاقتصادي السريع للدول الشيوعية التي توسعت أكثر من غيرها في استخدام النساء، فكان نصيبها في النهاية الإخفاق الاقتصادي، وما نتائج هذه العلاقة ببعيدة عن كل نظام اقتصادي يبني توجهه التنموي على ما يخالف الفطرة السوية، ولا يفرق في تعامله بين أدوار الذكور وأدوار الإناث.
ورغم هذا الوضوح الواقعي، والتوجه الشرعي: فإن فئات من المجتمع المسلم لا تزال تصرُّ على إلزام النساء والفتيات بالكسب، وخوض معترك صراع سوق العمل، بحجة الاستفادة من نصف المجتمع المعطَّل، والقيام بواجب المشاركة في التنمية الوطنية الشاملة، والحد من استخدام العمالة الأجنبية، والاستمتاع بحق العمل، مدعومين في كل ذلك بالمؤتمرات العربية والعالمية، والمنظمات التربوية المشبوهة، ووسائل الإعلام المنحازة، وكأن الفتاة المسلمة هي المسؤولة عن اختلال وضع المسلمين الاقتصادي وإخفاق خططهم التنموية، أو أنها تستطيع برقة ساعدها أن تنهض بما عجز عنه الرجال.
ولقد أدَّى هذا التوجه الاجتماعي العام إلى ربط تعليم الفتاة بسوق العمل، وأصبح من المقبول اجتماعياً سعي الفتاة كالرجل في طلب الوظيفة، ومكابدتها في طلب الرزق، دون النظر إلى اختلاف الأدوار بين الجنسين، وعدم الاعتبار بحال المجتمعات الأخرى، وما انتهى إليه حال كثير من النساء العاملات فيها، ولا شك أن سنة الله الاجتماعية لن تتخلف عن المفرطين، فليست المحاباة من طبيعة قدر الله الذي لا يتأجَّل.(2/33)
5ـ حق الفتاة الاقتصادي على الأسرة
لما كانت الأنثى بطبعها عاجزة عن الكسب؛ فلا قدرة لها في الغالب على اكتساب ما تحتاج إليه من الكسوة والنفقة والمسكن، ونحو ذلك من الحاجات: كانت نفقتها قبل زواجها على أبيها ما لم تكن غنية تملك ما يكفيها، فإن امتنع عن النفقة الواجبة: أخذت من ماله ما يكفيها بالمعروف دون إذنه.
ومع كون نفقة الفتاة واجبة على أبيها: فقد رتَّب الشارع الحكيم على هذه النفقة عظيم الأجر فقال عليه الصلاة والسلام:(من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه), وقال للأب في شأن الفتاة المطلقة: "ألا أدلك على الصدقة، أو من أعظم الصدقة: ابنتك مردودة عليك، ليس لها كاسب غيرك"، وكان - عليه السلام - ينهى عن كل صور الإجحاف بحقِّهن حتى قال فيما رُوي عنه: "سووا بين أولادكم، فلو كنت مؤثراً أحداً آثرت النساء على الرجال"، ولما تذمَّر أحدهم من كثرة البنات في مجلس ابن عمر { قال له مغْضباً مستنكراً -كما رُوي عنه-: "أنت ترزقهن؟".(2/34)
وأما الإرث السري فهو من أوسع أبواب أرزاق الفتيات في نظام الاقتصاد الإسلامي؛ حيث يوزع الثروة بصورة دائمة من المورثين إلى من هم دونهم من الذرية والزوجات والعصبات، ورغم المنطقية الاقتصادية في مبدأ توزيع التركة على المستحقين: فإن الجاهلية العربية في وقتها، والجاهلية الأوروبية إلى عهد قريب كانتا جميعاً لا تورثان الإناث بصفتهن عناصر استهلاكية غير منتجة، بل ربما اعتبرن بذواتهن تراثاً مملوكاً قابلاً للتقسيم والاتجار، هذا في الوقت الذي كان ينزل فيه القرآن الكريم بتحديد المواريث، وإقرار حقِّ الإناث فيها بأنصبة محددة، ويهدد -في الوقت نفسه- المخالفين بقوله جلَّ وعلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء:13-14]، ويقرر أيضاً حتى للمملوكة -فضلاً عن الحرة- حقَّها في ميراث عتيقها.
ولم تكن قضية المواريث مسألة خيالية بعيدة عن التطبيق؛ فقد مارست الأمة المسلمة نظام توزيع المواريث على أهلها عملياً، فقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بنفسه، فهذه امرأة سعد بن الربيع { حين قُتل زوجها وأراد عمُّ بناتها أخذ التركة كاملة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمَّهما الثمن، وما بقي فهو لك), ولما عزم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في مرضه على الصدقة بجُلِّ ماله، مستكثراً على ابنته الوحيدة كل تلك الثروة: منعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وألزمه بالثلث، والأخبار في ذلك كثيرة.(2/35)
ومع ثبوت نظام المواريث فقد كانت الوصية للإناث اللاتي لا يرثن قائمة في المجتمع الإسلامي؛ بل إن تزوج الرجل بالمرأة لمجرد إشراكها في التركة كان أمراً مُستساغاً في المجتمع المسلم، رغبة في نفْعهن، وإيصال الخير إليهن.
وأما المفاضلة بين الذكر والأنثى في الميراث فإنها "ليست مبنية على المفاضلة في الكرامة الإنسانية؛ بل هي مبنية على المفاضلة في التبعات المالية"، وحجم التكاليف المناطة بكل منهما؛ ولهذا كثيراً ما تأتي الأحكام الشرعية الخاصة بالنساء على النصف من أحكام الرجال، كحال اختلاف الدية بين الرجل والمرأة في القتل الخطأ، فالمعتبر فيها حجم التأثير المالي على الأسرة بفقد الرجل، فاعتبر فيها التعويض المالي، في حين يتساويان تماماً في حال القتل العمد؛ لتساويهما في الإنسانية؛ ولهذا وصف اليُتْم في الإنسان يأتي من جهة فقْد الأب، وليس من جهة فقد الأم كحال الحيوان، ومع ذلك فليس دائماً في توزيع الأنصبة أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، فهناك حالات يتساوى فيها الذكور والإناث، وربما زادت أنصبة الإناث في بعض الحالات.
ومن لطائف ما ينقل عن السلف في حرصهم على إغناء نسائهم: ما نُقل عن أبي بكر - رضي الله عنه - في مرضه حين تحدَّث مع ابنته عائشة رضي الله عنها قائلاً: "إن أحبَّ الناس إليَّ غنىً أنت، وأعزَّهم عليَّ فقراً أنت".
6ـ حق الفتاة الاقتصادي على الزوج(2/36)
يبدأ حق الفتاة الاقتصادي على الزوج بالمهر، ثم النفقة، وينتهي بالإرث، أو متعة الطلاق، ولئن كان الإسلام -بنظامه المحكم- قد أعطى الرجل النصيب الأوفر من الحقوق، فقد حمَّله مقابل ذلك العبء الأكبر من الواجبات، بحيث لا يُعذر في شيء من ذلك حتى وإن كان مُعسراً، فالمهر لا يصح في الشريعة أن تدفعه الفتاة، أو تُسقطه عن الزوج -لأي هدف كان- قبل أن يدخل بها؛ لما في ذلك من المهانة والاستغلال الاقتصادي الذي يلحقها، وهو ما تعانيه الفتيات في بعض المجتمعات الضالة، في حين يُعدُّ المهر في التصور الإسلامي من أوسع أبواب النساء الاقتصادية؛ إذ لا حدَّ لأكثره بإجماع المسلمين، وقيام الرجل به ليس صورة من صور الملكية كما هو الحال عند بعض المجتمعات القديمة؛ بل هو نِحْلة يقدمها المؤمن للزوجة تديُّناً، وطاعة لله تعالى، فهو حق خالص لها بالإجماع، ومنفعة راجعة إليها وحدها دون غيرها، يثبت لها بمجرد العقد، ولا يسقط بموت أو طلاق، ولا يشاركها فيه وليٌ ولا زوج، إلا ما طابت به نفسُها؛ بل إن الشريعة تعاقبهما، وتُلْحق بهما الإثم عند تفريطهما أو استغلالهما لحقوق الفتاة في كامل المهر؛ بل إن الزوجة لو استجابت لزوجها فوهبته مهرها فطلقها، فإن لها الرجوع فيه؛ لأنها إنما فعلت ذلك لاستدامة النكاح وليس لنقضه.
ولئن كانت "القدرة على اكتساب المال بالبضع ليست بغنى معتبر"، إلا أنها من أعظم موارد المرأة المالية، "ونعمة منَّ الله بها عليها خوَّلها حق الانتفاع بها من أجل رغبات الرجال في استصفائها، فللمرأة حق أن يكون صداقها مناسباً لنفاستها؛ لأن جمال المرأة وخُلُقها من وسائل رزقها"، وانتفاعها "بالصداق وبمواهبها التي تسوق إليها المال شيء غير مُلْغَى في نظر الشريعة؛ لأنه لو ألغي لكان إلغاؤه إضراراً بالمرأة"، ومن هنا يُعدُّ المهر نعمة من نعم الله تعالى على المرأة.(2/37)
وأما النفقة فمع كونها أجراً وثواباً للرجل حين ينفق على زوجته: فإنها من أعظم حقوق الفتاة على زوجها بالإجماع، وهي باعتبارها زوجة: أول أصحاب الحقوق عليه، ونفقتها "أقوى من نفقة الأولاد والأقارب؛ لأنها وجبت بالعقد جزاء الاحتباس"، بحيث لا يسقط حقها عليه في النفقة بإعساره أو انشغاله، حتى وإن كانت مريضة أو غنية ما دامت في عصمته، محبوسة له، ففي الوقت الذي يصح فيه من الأب أن يقطع نفقته عن ابنته إن هي استغنت بمالها؛ لا يصح ذلك من الزوج بحال، حتى وإن اشترطه عليها عند العقد، بل إنها لو رضيت به مُعسراً بنفقتها، ثم بدا لها الفسخ: فلها ذلك، وقد صدر عن المؤتمر الإسلامي التاسع عشر لوزراء الخارجية المنعقد في القاهرة عام 1411هـ، حول حقوق الإنسان: أن "على الرجل عبء الإنفاق على الأسرة، ومسؤولية رعايتها"، وقد نصَّ الفقهاء على وجوب قيام الرجال برعاية نسائهم، وذلك لحديث:(…. الرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم...), حتى ذكروا نقل الماء إليهنَّ في البيوت، فلا يُلزمن بالخروج؛ لكونهن مأمورات بالقرار في بيوتهن، وإنما ينقله الرجال إليهن، ويعدون الأوعية اللازمة لذلك.(2/38)
ولما كان الرجل بهذه المكانة الكبرى من المرأة كان فقده بالنسبة لها من أعظم فواجعها الاقتصادية، فلئن كان الرجل يشعر بالنقص لفقدها وخلوِّ مكانها؛ فإنها -مقابل ذلك- تشعر بالضياع والهلاك لفقده وغياب دوره؛ ولهذا تبرز المشكلة الاقتصادية ومعاناتها المؤلمة كأقوى ما تكون عند المرأة العزبة عندما يتخلى عنها الزوج بطلاق أو وفاة، حتى أصبح من المسلَّمات العالمية: اقتران العَوَز بالنساء العزبات- عاملات كنَّ أو ربات بيوت- حتى قيل بتأنيث الفقر، وارتبطت -في الوقت نفسه- عزوبة الفتاة بمعاناة العمل خارج البيت، فما إن تتزوج إحداهن إلا ويصبح العمل آخر اهتماماتها؛ ولهذا تُلْزم الفتاة بالزواج إذا عجزت عن القيام بنفسها، أو خيف عليها الفساد، حتى يتولى الزوج بدوره حفظها وصيانتها بحكم العلاقة الزوجية القائمة بينهما، ومن لطائف ما ينقل في تعبير الأحلام، مما يشير إلى أهمية الزوج في حياة المرأة: أنها إذا رأت في منامها أنها تزوجت برجل ميت: "تشتت شملها وافتقرت".
7ـ حق الفتاة الاقتصادي على الدولة
يتبوَّأ السلطان المسلم مكانة عظيمة ومهمة في نظام الحياة الإسلامية عامة، ونظام الحياة الاقتصادية خاصة، بحيث تطول ولايته كلَّ من لا وليَّ له، وتشمل رعايته كلَّ محتاج لا عائل له، يقول الإمام الشافعي: "منزلة الوالي من الرعية: منزلة الولي من اليتيم"، فيقوم -من خلال برامج الكفالة الاجتماعية- بمهام الأولياء الاقتصادية في رعاية الضعفاء والنساء والذرية، بما يضمن للجميع الحياة الكريمة التي تحفظ للمسلم عزته وشموخه، وتدفع عنه ذلَّ الحاجة وخطر الضرورة؛ بل تحقق له -حسب الإمكان- درجة من الرفاهية المعيشية، والأمان الاقتصادي، وربما أسهم السلطان بصورة مباشرة- من خلال العطايا- في تكوين الثروات المالية الطائلة التي تنقل الفرد من درجة الفقر والحاجة، إلى أعلى درجات الرفاهية والغنى.(2/39)
وقد خصَّت الدولة المسلمة في الزمن الأول عناصر المجتمع غير الكاسبة كالنساء والأطفال بمزيد من الاهتمام حيث شملت فقراءهم الزكاة، ونال عمومهم العطاء العام الذي شمل الكسوة والطعام مع المخصصات المالية، كما دخل جمع غفير من خواص النساء ضمن جزيل العطاء الخاص، وخُصَّ الغازيات منهن بشيء من الغنيمة، بل إن قَطْع الأراضي، وتوريث الدور، ناله جمع من النساء، حتى إن بعضهن أشركن في بعض الموارد الاقتصادية العامة.
لقد كان هدف الدولة المسلمة في ذلك الحين واضحاً في إكرام النساء الفضليات، وإغناء النساء المحتاجات، فقد أعلن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سياسته الاقتصادية تجاه النساء فقال: "لئن سلمني الله لأدعنَّ أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً"، فالسياسة المالية اللازمة للسلطان لتحقيق ذلك: أن "يحصى الذرية ممن هم دون البلوغ، والنساء صغيرتهن وكبيرتهن، ويعرف قدر نفقاتهم، وما يحتاجون إليه في مؤناتهم، بقدر معايش مثلهم في بلدانهم، فيعطون كفاية سنتهم من كسوة ونفقة"، ولا يحق له أن يستأثر لنفسه من ذلك بشيء، أو يحابي به أحداً من خواصِّه أو أقاربه، فلا بد أن يؤمِّن لكل إنسان أساسيات حياته من: الطعام، والشراب، واللباس، والسكن، فالكل له حق في ظل حكم الإسلام أن يعيش كريماً عند أدنى مراتب الغنى التي تناسب مثله في كل عصر، وذلك على أقل تقدير، لاسيما طبقات الإناث، فإنهن بالطبيعة إلى الرفاهية الاقتصادية أحوج، وفي سعة العيش أرغب؛ ولهذا فهن بالتالي إلى العطب من نقص الحاجة أسرع، وقد ثبت يقيناً بما لا يدع مجالاً للشك: أن العلاقة في غاية الإيجابية بين سوء الظروف الاقتصادية وبين الانحرافات الخلقية، والتوترات النفسية، والأزمات العائلية؛ فإن حاجة الفرد الاقتصادية الملحة، وما يلحق بها من الحرمان والنقص: "تُثير لديه نوعاً من الضيق والتوتر وعدم الراحة"، الذي يمهد بالتالي للانحراف الخلقي؛ "فإن الحديث عن الوازع(2/40)
الديني في: التعفف، والقناعة، والأمانة: لا يجدي في كل الأحيان في بيئة يفتك بها الفقر ليجتث كرامة الإنسان، ويزلزل ما يؤمن به من مبادئ أخلاقية، وقيم روحية"، ولهذا يقول ابن منبِّه ~ٍٍِِ: "الفقر هو الموت الأكبر"، "فالفقير الذي ليس له من تجب نفقته عليه: يجب على الحكومة أن تعطيه الكفاية"، وفي الجانب الآخر يؤثِّر الانتعاش الاقتصادي بصورة إيجابية في أخلاق الناس وسلوكهم، وبالتالي في استقرار المجتمع، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :(من سعادة المرء: المسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء).
ومن هنا لا بد للدولة المسلمة في كل عصر أن تهيء لأفرادها عموماً وللنساء والفتيات خصوصاً جواً من الاستقرار الاقتصادي، الذي يسكِّن لهفتهن، ويحقق تطلعاتهن، ويحفظ عليهن كرامتهن، بحيث يصبح هذا الهدف في حسِّ السلطان ونوابه من أهم شغلهم الاجتماعي، ومن أول أولوياتهم الاقتصادية، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها واصفة حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في إشفاقه على أزواجه وعموم النساء من بعده: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحنى عليَّ، فقال: إنكن لأهم ما أترك وراء ظهري، والله لا يعطف عليكن إلا الصابرون أو الصادقون"، وقال لأم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها لما بكت في مرض موته: "ما يبكيك؟ قالت: خفنا عليك، وما ندري ما نلقى من الناس بعدك يا رسول الله؟ قال: أنتم المستضعفون بعدي"، فلا بد أن يكون هذا الشعور النبوي المُشْفق هو إحساس السلطان المسلم تجاه النساء.(2/41)
ولقد كان من سياسة الدولة المسلمة في الزمن الأول: إعطاء النساء المحتاجات دون إلزامهن بالعمل، فكانت إحداهن تأتي الخليفة تعرض عليه حاجتها، فيعطيها ما يكفيها، ولا يطالبها بالعمل كما تفعل كثير من الحكومات العربية اليوم، فإذا كان لرجال المجتمع المكلفين بالكسب حق في بيت المال، فكيف بالنساء اللاتي لم يكلَّفن أصلاً بالكسب؟ ولهذا تأتي الدوافع الاقتصادية في أول قائمة أسباب خروج النساء للعمل، وهن بالتالي أكثر فئات المجتمع المستقبلة للإعانات الحكومية.
ومن ألطف ما يُنقل في رعاية الخلفاء لأحوال النساء الاقتصادية: ما جاء عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين كان "يمشي إلى المغيَّبات، أي: اللاتي غاب عنهن أزواجهن ويقول: ألكنَّ حاجة حتى أشتري لكنَّ، فإني أكره أن تُخدعن في البيع والشراء؟ فيرسلن بجواريهن معه، فيدخل في السوق ووراءه من جواري النساء وغلمانهن مالا يُحصى، فيشتري لهن حوائجهن، ومن كان ليس عندها شيء اشترى لها من عنده".
8ـ حق الفتاة في امتلاك الثروة وتنميتها
رغم التبجُّج الذي يتعاطاه الغرب في المناداة بحقوق المرأة في الاستقلال الاقتصادي: فقد طفحت قوانينهم المدنية إلى ما قبل خمسين عاماً أو أقل بأبشع أنواع الانتهاك الاقتصادي لحقوق الإناث من جهة حقوقهن في: التملك، والتصرف، والتنمية؛ بحيث لا تعدو الواحدة منهن، وما يلحق بها من متاع ومال أن تكون ملكاً مشاعاً يتنقَّل بين الآباء والأزواج، وما زالت النساء الغربيات - منذ سنوات طويلة- يتنادين بحقوقهن، وينافحن عنها حتى حصلن مؤخراً على غالب حقوقهن القانونية، ومازالت آثار هذا الامتلاك المالي، والاختزال الذاتي يمارس ضد المرأة الغربية حتى اليوم؛ إذ هي حتى الآن "لا تكون زوجة إلا إذا تنازلت عن اسمها وعلامة وجودها، وتكللت باسم زوجها لكي تكون جزءاً من ممتلكاته المسجلة باسمه، والمتحركة تحت مظلته".(2/42)
إن هذا التاريخ الاقتصادي المظلم لا يخوِّل الغرب ومنظماته الإنسانية تولي زمام تحرير المرأة المعاصرة في الوقت الذي تصل فيه ثروة المرأة المسلمة في ظل نظام الإسلام الاقتصادي إلى درجة الفحش، فلا يحق لأبيها أو زوجها أن يغترف منها ولو للصدقة إلا بطيب نفسها، وسلامة صدرها، بل ليس لزوجها إن طلقها أن ينفرد بمتاع البيت دونها حتى تأخذ منه حقها، فإذا اختلفا كان المتاع بينهما نصفين، مع ثبوت حريتها الكاملة في تنمية ثروتها، وإدارة أملاكها بما يصلحها، وأن تستخدم في ذلك الأجانب من الرجال - فضلاً عن المحارم- فيما لا يليق بالمرأة الشريفة القيام به من الأعمال والمهام الاقتصادية ضمن الضوابط الشرعية، ولا يجب عليها أن توكِّل زوجها في ذلك، إلا أنها تراعي حقَّه في عدم الخروج إلا بإذنه، حتى وإن كانت تخرج لضرورة غيرها، فحقه مقدم على ذلك، إلا أنها تجد في هذا العصر في أجهزة الاتصال الحديثة ما تستطيع من خلاله إدارة أملاكها، وتنمية ثروتها دون محظور شرعي.
إن فلسفة المنهج الرباني في مسألة التملك لا تنطلق من كونه حقاً شخصياً فحسب، بل تنطلق مما هو أعمق من ذلك، من حيث الفطرة الإنسانية التي جُبلت على حبِّ التملك والاستحواذ على الأشياء والأموال، فتحتاج بصورة دائمة إلى حدِّ من الإشباع الذي يبدأ بالكفاف، وينتهي إلى ما لا حدَّ له من درجات الثروة ومراتب الغنى.
9ـ حق الفتاة في التبرُّع المالي(2/43)
لا يكتمل حق الفتاة في الملكية الخاصة حتى تتمتع بحقها في التبرع بما شاءت من مالها، فإن الناس -ذكورهم وإناثهم- أحرار في ممارستهم لأنشطتهم الاقتصادية ما داموا محترمين -في ذلك- المبادئ والقيم الإسلامية، فالإنسان العاقل - ذكراً كان أو أنثى- إذا بلغ سن التكليف، وعُرف من حاله الرشد الاقتصادي: مُكِّنَ من ماله يتصرف فيه بما شاء، إلا في حال المرض المخوِّف، أو ثقل الحمل بالنسبة للإناث فإن حق التصرف حينئذ ينحصر في الثلث؛ وذلك لأن الحمل في أشهره الأخيرة نوع من المرض الذي يؤثر على نشاط الحامل العقلي والنفسي، في حين لا يؤثر زمن حيضها أو نفاسها في قراراتها المالية، ولا تؤثر بكارتها في ذلك إذا كانت قد عنَّست عند أبيها وظهر رشدها، إلا أن أكمل حالات أهليتها الاقتصادية بلا نزاع حين يتم نموها العام بدخول الرجل بها، وإنجابها لمرة واحدة على الأقل، فعندها لا تحتاج إلى إذن زوجها في الإنفاق من مالها إلا من باب الاطمئنان لملكيتها للمال من جهة، ولتطييب نفسه وملاطفته من جهة أخرى؛ فإن الصالحة من الزوجات لا تخالف بعلها في مالها بما يكره، لاسيما إذا كان ما تريد أن تتبرع به من مالها كبيراً.(2/44)
ولا ينبغي أن يُفهم من هذه الضوابط مطلق الحجْر المالي على النساء بسبب الأنوثة، فإن السفه المالي ليس خاصاً بهن، وإنما هو ضعف الدربة، وقلَّة الخبرة التي تكثر في الإناث بسبب الطبيعة والدور الاجتماعي، فما يستطيعه غالب الرجال في إدارة الشؤون الاقتصادية: يعجز عنه أكثر النساء، فإن الخديعة إليهن أسرع، والطيش فيهن أكبر، خاصة عند المخدَّرات المصونات؛ فيحتجن في كثير من الأحيان إلى الإشراف لضبط حقوقهن، وسلامة معاملاتهن؛ ولهذا يُنبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حقوقهن ويقرنُها بحق اليتيم فيقول: "إني أحرِّج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة"، وكان عمر - رضي الله عنه - زمن خلافته يقول للنساء اللاتي غاب عنهن أزواجهن: "ألكنَّ حاجة حتى أشتري لكنَّ؛ فإني أكره أن تُخدعن في البيع والشراء"، فهذه طبيعة عامة في غالب النساء، يحتجن بصورة دائمة إلى شيء من الإشراف على شؤونهن الاقتصادية.
ومع هذا فليس كل النساء والفتيات يحتجن إلى إشراف فقد سجل التاريخ الإسلامي - في القديم والحديث دون نكير- لجمع من النساء الفضليات منذ زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فما بعده عطايا وتبرعات مالية في وجوه الخير والبر يفوق بعضها الوصف، حتى إن السيدة عائشة رضي الله عنها -لعظيم ثقتها بالله- كانت لا تعرف في شبابها وكهولتها معنى للادخار، لا في زمن القلَّة ولا في زمن الكثرة، حتى إن ابن أختها عبد الله بن الزبير { عزم على الحجْر عليها؛ لكثرة نفقتها دون حساب، فأعلمته من خلال الهجْر بكمال رشدها، وسلامة فعلها حتى اعتذر إليها.(2/45)
وقد حثَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء والفتيات على مطلق الصدقة وجعلها سبيلهن للنجاة، وخصَّ حُليهن بمزيد من الاهتمام وجعلها من أوسع أبواب الصدقة، واحترم في الوقت نفسه القليل من عطائهن مهما كان حقيراً؛ حتى يبقى مبدأ البذل قيمة ثابتة في نفوسهن، لا يتأثر ثباته بالقلة ولا بالكثرة؛ ولهذا كان النساء في زمنه - صلى الله عليه وسلم - من أكثر فئات المجتمع بذلاً وعطاءً.
10ـ حق الفتاة في الإمساك عن النفقة
تتمتع الفتاة في نظام الاقتصاد الإسلامي بحق الاحتفاظ المالي فلا تُلزم بالنفقة على أحد من الناس، ولا تشترك مع الرجال في تحمل الدية، ولا تُكلَّف إرضاع ولدها حتى وإن لم تكن شريفة النسب، بل ربما كان من حقِّها أن تأخذ أجراً من زوجها على رضاعة ولدها منه، ولا يستثنى من ذلك في حقها إلا أشياء يسيرة، ضمن ظروف اجتماعية واقتصادية خاصة، كحق الأب -خاصة دون غيره- في الأخذ من مال ولده، ذكراً كان أو أنثى، ونفقة الوالدين المعْسرين إن كانت غنية، وفدية خلْعها إن كان النشوز من جهتها، ونفقة نفسها إن كانت عزباء، أو هاجرة فراش زوجها، ثم قيمة كفنها، وما يلزمها من الزكاة الواجبة، وبعد ذلك ليس لأحد في مالها حقٌ إلا ما طابت به نفسها دون حرج.(2/46)
ومن هذا المنطلق الشرعي للالتزامات المالية جاءت دية المرأة في حال القتل الخطأ على النصف من دية الرجل، ونصيبها في الإرث في بعض الحالات نصف نصيب الذكر، فالأنثى وإن ساوت الذكر في القتل العمد -النفس بالنفس- فإنها في دية القتل الخطأ لا تساويه من جهة العبء المالي الذي يقوم به ويتحمله، وهي وإن أخذت من الميراث نصف ما يأخذه: فإنها تشاركه نصيبه هذا أيضاً حين يلزمه الشارع الحكيم بالنفقة ولا يُلزمها، ويفسح لها أن تشاركه نصف أجر الصدقة من ماله دون أن يفسح له بمثل ذلك في مالها، فالنساء وإن كن لا يملكن قانونياً غالب الثروات الاقتصادية الموجودة في أيدي الناس، والمتداولة فيما بينهم، إلا أنهن واقعياً أكثر فئتي المجتمع -من الذكور والإناث- استمتاعاً بها، وفي الوقت نفسه أقل الفئتين اكتراثاً بالشؤون المالية ومسؤولية الإنفاق، وهذا يرجع إلى أن واجبات الرجال في الشريعة، والمهام التي يقومون بها أعظم وأكثر في الجملة من واجبات النساء ومهامهنَّ، ومن هنا -حسب قاعدة الغُنْم بالغرم- كانت موارد الرجال الاقتصادية أكبر في الجملة من موارد النساء لتقابل حجم تكاليفهم، وكانت موارد النساء أقل في الجملة لتناسب حقَّهن في الإمساك عن النفقة.
والشريعة الإسلامية في تسامحها مع النساء في مبدأ الإمساك عن النفقة لا تخصُّ ذلك بالمسلمات من النساء، بل إن نساء أهل الكتاب تحت مظلة الحكم الإسلامي لا يُلزمن بدفع الجزية، بل لا تقبل منهن مطلقاً، إنما هي على البالغ من الرجال؛ كل ذلك لتبقى الأنثى من عنصري الإنسان بعيدة عن مواطن العناء والكدِّ والحرج، التي قد تسوقها إلى موارد الهلاك، ومن هنا كانت فكرة التساوي بين الجنسين في توزيع الدخل العام -التي يريدها البعض- ظلماً للرجال، وإفساداً للنساء، وهي في الوقت نفسه تغيير شامل لنمط الحياة الاقتصادية في نظام الإسلام.(2/47)
ومن هنا يظهر بجلاء حكمة الطريقة الإسلامية في التوزيع المالي بناء على المهام والتكاليف؛ ليقوم كل جنس بدوره الإيجابي في تحقيق العبودية لله تعالى بعمارة الأرض، كلٌ حسب نظام هدايته دون تداخل مخل، أو تضارب مضر.
11ـ تربية الفتاة على حسن التدبير المالي
يرتبط مفهوم الاقتصاد بحسن إصلاح المال، وتدبير الثروات الفردية والاجتماعية بين مذمَّتي الإسراف والتقتير من جهة: الإنفاق، والادخار، والتنمية، والتوزيع، فقانونه العام هو التوازن بين الدخل والإنفاق، وهو عند الفرد مرتبط- إلى حد كبير- برشده العقلي وحسن أدائه؛ "بمعنى أن يتصرف لتحقيق أكبر قدر من منفعته الشخصية في حدود ظروفه الاقتصادية المتاحة، ويُعتبر هذا الفرض هو الأساس الأول الذي يُبنى عليه علم الاقتصاد بجميع اتجاهاته الفكرية"، ولهذا جُعل الاقتصاد في الأمور القولية والفعلية جزءاً من النبوة، وعلامة دالة على رجاحة العقل، وكمال الفهم، ووسيلة حسنة لدفع الفقر، وفي الخبر: "ما عال من اقتصد"، والمراجع للسنة النبوية يجدها حافلة بالتوجيهات الكثيرة الرامية للتدبير والاقتصاد والاعتدال، ففي "الوقت الذي يعتبر الإسلام الاستهلاك عبادة شرعية فإنه يسعى - في الوقت نفسه - إلى تنظيمه ضمن ضابط الوسط، ويربط بينه وبين ظروف المجتمع، ويحدد نوع السلع والخدمات التي يجوز استخدامها، ليصل في النهاية إلى السلوك الراشد، الذي يشكِّل الزهد جانباً كبيراً من مضمونه".(2/48)
وقد شهد التاريخ الإسلامي مصداق ذلك من واقع الحياة العملية فقد كان التبذير المالي على أيدي النساء سبب هلاك كثير من الأسر الغنية، وذهاب ثرواتها، كما أن ضبطهن المالي وحسن تدبيرهن كان - في الجانب الآخر- لبعض الأسر عصمة من الفقر وذل الحاجة، وصدق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذ يقول: "الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز؛ إنه لا يبقى مع الفساد شيء، ولا يقلُّ مع الصلاح شيء"، وفي هذا يقول المولى - عز وجل - منبِّهاً إلى الاعتدال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء:29].
ومن هذا المنطلق المهم تظهر أهمية تربية الفتاة على حسن التدبير المالي، وتهذيب نفسها بآداب التخلية والإمساك خاصة إذا عُلم أن (85%) من الدخل القومي العالمي يصرف عبر أيدي ربات البيوت؛ ولهذا أخذ عليهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يغششن أزواجهن بسوء تصرفهن المالي، ومع ذلك فقد كان نساء ذلك الزمن - في العموم- ممن يُعوَّل عليهن في ضبط الاقتصاد المنزلي، وحسن التدبير المالي، في حين خفَّ الضبط كثيراً في نساء وفتيات الأزمنة المتأخرة والمعاصرة من حيث مظاهر الترف: في الملابس، والزينة، والحفلات، وسوء التدبير العام، حتى أصبحت العلاقة واضحة بين زيادة دخل الفرد، وبين إنفاقه على الكماليات، حيث طغت العوامل النفسية بمظاهرها الفنية والاستعراضية على حاجات الفرد الفسيولوجية الفعلية، وأصبح السلوك الاستهلاكي طابعاً عاماً له، ولاسيما في سلوك المرأة العاملة، التي كثيراً ما تستهلك ما تنتجه بصورة كبيرة في الكماليات الزائدة غير الضرورية، حيث يبلغ تأثير النساء قمته فيما يتعلق بقرارات الاستهلاك الأسرية، وينخفض إلى أقل درجة فيما يتعلق بالشؤون العامة، فليست لغالب النساء قضية أو اهتمام إلا ما كان متعلقاً بمتعهن وملذاتهن الاستهلاكية.(2/49)
إن ميدان الإسراف في الزينة بمظاهرها المختلفة أعظم ميادين الصراع التربوي، وأشد مواقع انهزام النساء، فما زال الإفراط في الزينة منذ القديم باباً واسعاً للتبذير، ومجالاً اقتصادياً رحباً للاتجار؛ فإن "أروج تجارة في العالم هي تلك التي تتصل بكل ما تلبسه المرأة وتتزين به وتتجمَّل في مختلف أطوار حياتها"، حيث يشنُّ المنتجون الاستغلاليون حملاتهم الدعائية المسعورة على المستهلكين عبر وسائل الإعلام المختلفة، مستخدمين في ذلك المشاهير من النجوم؛ لإقناعهم بحاجتهم المستمرة للشراء، منطلقين في ذلك من شهوات الإنسان، لاسيما شهوتي الفرج والبطن، فيفتنونهم بالصورة الحسنة، والمعروضات الجميلة المنمَّقة، ويصبح الشباب -في كل ذلك- أكثر فئات المجتمع تأثرًا وانصياعاً لهذه الإعلانات الدعائية، حيث تكوِّن في نفوسهم مواقف إيجابية تجاه السلع المعلن عنها، وتكون الموضة، والعلامة التجارية، وأسلوب العرض، والألوان أكثر المتغيرات تأثيرا في الإناث، وأبلغها استهواءً لهن، ومن ثمَّ تقوم أنظمة البنوك الحديثة من خلال بطاقات الائتمان بمسايرة المستهلكين المفتونين في تحقيق رغباتهم الاستهلاكية بصورة مستمرة ومباشرة؛ لذا فإن أعظم ساحة للإعلان التجاري هي تلك الساحة التي تتصل باستهواء الفتيات، واستغلال جوعهن إلى الزينة، كما أن أشد ما يرهق ميزانية الأسرة، ويثير المشكلات هي تلك المصروفات المتصلة بالزينة، وحتى الفتاة العاملة التي لا تعتمد على أسرتها أو زوجها في نفقات زينتها؛ فإن عملها لا يزيدها إلا استهلاكاً للملابس، والحلي، ومستحضرات التجميل.(2/50)
إن من الضروري -والحالة هذه- أن تتربى الفتاة المسلمة المعاصرة على أن الإنفاق نوعان أحدهما مشروع والآخر ممنوع، كما أن الكسب فيه ما هو مباح، وفيه ما هو محرم، فلا يكفي الفتاة عذراً أن تكون منتجة فتستهلك وتنفق كيفما تشاء، كما أنه لا يُعفيها أن تكون غنية فتتصرف في ملكها دون حساب؛ إذ إن الثروة في التصور الإسلامي - مع ما فيها من الاستمتاع- ابتلاء رباني، ومسؤولية اقتصادية من جهة الكسب ومن جهة الإنفاق، وضابط الفتاة في كل هذا ليس حجم الإنفاق -قليلاً أو كثيراً- وإنما موقعه من الحق أو الباطل، بحيث يصبح في حسها أن كل إنفاق -مهما كان حقيراً - في غير وجهه فهو ممقوت، ولا يكون ضابطها أيضاً العادة المُستحكمة التي تفرض نفسها عليها لا لكونها حاجة تتأذى بنقصها، ولكن لمجرد كونها عادة اعتادت الإنفاق عليها.
ولما كان عامل "الادخار هو الفرق بين الدخل والاستهلاك"، فإن من الضروري إحياء القيمة التنموية لهذا العامل، لما تعكسه هذه القيمة من آثار إيجابية على اقتصاديات الفتاة وأسرتها، بحيث تصبح هذه القيمة جزءاً أصيلاً من تكوين شخصية الفتاة: من جهة القناعة الفكرية، ومن جهة السلوك الاستهلاكي، فتعرف وتراعي مراتب الأحكام الخمسة في استخدامها المالي: الواجب، والمستحب، والمباح، والمكروه، والمحرم، فلا يكون إنفاقها إلا في منفعة ومصلحة، وما بقي فللادخار والاستثمار.
إن تربية الفتاة على هذا النمط الاقتصادي المنضبط هو حجر الزاوية في التنمية الاقتصادية العائلية، فقد أثبتت التجربة براعة الفتيات الحاذقات في إدارة الاقتصاد الأسري، وفي الجانب الآخر، فإن إهمال تربيتها على الضبط المالي وحسن تدبير الثروة ينعكس سلباً على اقتصاديات الفتاة وأسرتها، فتصبح أداة تخريب اقتصادي، وتدمير عائلي، وبالتالي تصبح أسرتها معول هدم لاقتصاد البلاد العام.
12ـ ضرورة تربية الفتاة على القناعة الاقتصادية(2/51)
إذا تربَّت الفتاة على أن تكون منتجة نافعة، ومنضبطة في إنفاقها المالي، مهتمة بالادخار: فإن هذا لا يعني بالضرورة أن تكون في سعة اقتصادية، فإن قضاء الله غالب، وقدره نافذ، بل قد تكون الفتاة مُخفقة في إنتاجها، ومبذرة في إنفاقها ومع ذلك فقد تبقى في بحبوحة من العيش، فليس للفتاة المسلمة المنتجة المنضبطة سوى الرضا والقناعة بمكانتها الاقتصادية، دون الالتفات إلى الوسط الاجتماعي الذي غالباً ما يقدر الناس على حسب منازلهم من الثروات المالية؛ فإن هذا يَلْزَمُ منه العنت، وقلِّة الشكر، والشكوى الدائمة، والتذمر من حالها، وربما اندفعت إلى الحسد والغيرة من قريناتها، أو انساقت تحت وطأة بهرج الحياة الدنيا وزينتها نحو الفواحش فتبيع جسدها، أو تمدُّ يدها لما لا يحلُّ لها من أموال الناس، رغبة في مزيد من الإشباع، وأقل ما يمكن أن تعمله الفتاة غير الراضية عن وضعها الاقتصادي أن تعكِّر على أفراد أسرتها صفو حياتهم بتكرار نقدها، وإظهار سخطها، وكثرة تذمُّرها؛ ولهذا يحثُّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الزهد، والرضا بالكفاف، والقناعة بذلك فيقول:(طوبى لمن هُديَ إلى الإسلام، وكان عيشُهُ كفافاً، وقنَّعَهُ الله به).
ولقد انصبغت الحياة الحضارية المعاصرة بالصبغة المادية الصرفة، وأصبح إنسان اليوم - في كثير من الأحيان- إنساناً برجماتياً مادياً، لا يعرف من السلوك إلا ما يحقق مصلحته المادية، فقد فرِّغت أفعاله من أي قيمة دينية أو خلقية، وإنما همُّه ما يترتب على سلوكه من أرباح مادية، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين يقول:(ألا إن الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مُهلكاكُم).(2/52)
إن من الضروري أن تتربى الفتاة على الزهد والقناعة الاقتصادية فترضى بالقليل، وتكف نفسها عما لا يحل لها، حتى يدخلها الحرج من مجرَّد مسِّ الثوب الذي لا تملك، ويصبح معيار الامتياز الاجتماعي في حسِّها للجهد والعمل وليس لحجم الملكيات والثروات؛ فإن المال -كما هو المفروض- لا يعطي الإنسان مكانته الاجتماعية؛ فإن المكانة للعلم والأخلاق والتقوى، مع قناعتها التامة بأن رزقها المقدَّر في وقته وحجمه لن يفوتها مهما كانت قسوة ظروفها الاقتصادية والاجتماعية، فلا يعطِّل ذلك استمرار عطائها الأسري، واستثمار جهدها الاقتصادي داخل نطاق العائلة حتى وإن لم يتحقق للأسرة درجة الغنى؛ فإن من الصعوبة بمكان -في ظروف الحياة الاقتصادية المعاصرة- أن يتحقق الغنى لكل أسرة في المجتمع، فما زال هناك فقراء في كل بلاد الدنيا حتى الغنية منها والمتقدمة.(2/53)
ولعل مما يُعين الفتاة على ذلك علْمها بأن القناعة بالمكانة الاقتصادية ضرورة تربوية لكل أحد غنياً كان أو فقيراً؛ فإن النفس الإنسانية إذا لم تتهذب بآداب الشرع، ولم تترق في درجات الكمال: لا يشبعها شيء من ثروات الدنيا مهما كان عظيماً؛ لأن الغنى الحقيقي هو غنى النفس، وقد جاء في التوراة: "من قنع شبع"، وما زال الناس بالفطرة يسعون منذ القدم في تلبية حاجاتهم الاقتصادية المختلفة، وإنما الاختلاف بينهم يقع في درجة الإشباع وأسلوبه، وليس في حجم الوفرة الاقتصادية، مما يجعل المشكلة تنحصر في الإنسان ذاته الذي يحتاج دائماً إلى تهذيب وتربية ليرقى إلى درجات القناعة الاقتصادية، فعلى الرغم من أن قلَّة الموارد الاقتصادية تزعج الإنسان، وتثير لديه المشكلات: إلا أن حدَّتها تقل وتضعف بحسب قوة صلته بالله تعالى، وقد أشار كثير من علماء النفس المعاصرين إلى أن السعادة التي يتطلع إليها الفرد إنما تنبع من ذاته، وليست تتأتى من كثرة الأشياء والممتلكات، كما أشارت العديد من الدراسات الحديثة إلى وجود علاقة بين الترف الحضاري وبين التوتر النفسي؛ ولهذا يُلحظ في حال السلف - رضي الله عنهم - الاستقرار النفسي في حال الشدة والرخاء على حد سواء، حتى إن أحدهم قد يتلذذ بالفقر كما يتلذذ الناس اليوم بالغنى.(2/54)
ومما ينبغي أن تعرفه الفتاة أيضاً: أن الوفرة الاقتصادية لا تأتي بالخير بصورة دائمة فقد يكون فيها كثير من الشر على الأسرة والمجتمع، وأقل ما تسببه الوفرة المالية - رغم ما تحمله من الخير- أن تعرض الشخص للحرام حين يتوسع في المباحات، فإن "من استوعب الحلال: تاقت نفسه إلى الحرام"؛ لذا فإن المترفين في "العادة أكثر الناس استغراقاً في المتاع، وأقربهم إلى الانحراف، وأبعدهم عن التفكير في المصير؛ لأن كثرة المال تدعو إلى السيادة في الدنيا، والخلود إلى المتعة والراحة، وتهوِّن على النفس عمل الفسق، فترتع فيه، وتستهتر بالقيم فلا تبالي بها، وتتعاظم بمالها، على حقوق الآخرين، حتى إن الإنسان قد يكون في أصل الأمر صالحاً في نفسه إلا أن كثرة المال والجاه تعميه عن الحقيقة"؛ ولهذا خشيَ أبو الدرداء - رضي الله عنه - على ابنته من فتنة الدنيا حين أعرض عن تزويجها من الأمير يزيد بن معاوية، وزوجها من رجل صالح فقير، ثم قال معللاً فعله هذا: "إني نظرت للدرداء، ما ظنكم بالدرداء إذا قامت على رأسها الخصيان، ونظرت في بيوت يلتمع فيها بصرها، أين دينها منها يومئذ؟".
13ـ تدريب الفتاة على العمل الحِرَفي المُنتج
المقصود بالعمل المنتج هو العمل الصالح بمعناه العام أياً كان معنوياً أو مادياً، بحيث تنتج الفتاة في هذا الرصيد الصالح بقدر ما تستهلك على الأقل، فلا يفوتها ضمن زمن التكليف والقدرة ساعة في غير إنتاج إيجابي جاد: فالذكر، والكلمة الطيبة، والتفكر الناضج، والنية الصادقة كلُّها عمل صالح مثمر، كما أن الحرفة والمهنة من وسائل الإنتاج الصالحة.(2/55)
ورغم سعة الإنتاج الإيجابي في الميدانين المعنوي والمادي فإن صفتي الفتور والغفلة كثيراً ما تكتنفهما فتطبع الميدان المعنوي بالذهول، وتطبع الميدان المادي بالكسل، فرغم وضوح القيمة الإنتاجية الصالحة للعمل المعنوي في المجتمع المسلم؛ فإن قبول العمل اليدوي المُنتج يكتنفه الغموض والشك في كونه قيمة إنتاجية صالحة تستجلب الثواب الرباني، وتستحق التقدير الاجتماعي، حتى إن الهروب منه، والترفع عنه يكاد يصبح صفة اجتماعية عامة للشباب عموماً، وللفتيات خصوصاً، وذلك رغم الحث الدولي العام للدول النامية نحو العمل الفني بشعبه المختلفة، والتشجيع المستمر من الجهات المحلية المختصة.
إن مما لاشك فيه أن للنظام التعليمي في البلاد الإسلامية دوراً كبيراً في إضعاف مكانة العمل اليدوي في نفوس الشباب والفتيات، كما أن الطبيعة الاستهلاكية التي أفرزتها الحضارة الصناعية المعاصرة أسهمت هي الأخرى في إضعاف دور المنزل كوحدة إنتاج واستهلاك اقتصادي في وقت واحد، إلا أن أهم من هذا كلِّه الذهول الاجتماعي عن مكانة اليد الصانعة المنتجة في التصور الإسلامي، حيث يغفل المجتمع عن الإجلال الكبير الذي يوليه الإسلام للصُّنَّاع عموماً على اختلاف مراتبهم، ابتداء من مهارات المنزل اليدوية السهلة كالطبخ ونحوه، وانتهاء بأعلى مهارات الإنتاج الصناعي والحرفي المُتقن.
إن المجتمع الإسلامي الفاعل، الذي يعيش الفكرة الإسلامية يحارب البطالة في كل صورها، ويعتبر "العمل من أهم طرق الكسب وتحقيق الثروة"، ويجعل من الحرفة الشريفة درعاً للكرامة والعزة الإنسانية، وعلامة صادقة على كمال المروءة والعفة، ولهذا كان الشاب يسقط من عين عمر - رضي الله عنه - إذا لم تكن له حرفة يتقنها، وقد قيل في الحكم: "قيمة كل امرئ ما يُحسن".(2/56)
ومن هنا يبرز دور التربية الإسلامية في إعداد المناخ الاجتماعي والاقتصادي الملائم لعملية التنمية من خلال "توفير الجو الإيماني الذي ينمو فيه الأفراد متمسكين بقيم الإسلام في العمل والإنتاج والاستهلاك"، بحيث تنشأ الفتاة منذ الطفولة على أن تكون شخصية إنسانية منتجة، وعضواً اجتماعياً نافعاً، ابتداء من مهارات الخدمة الأسرية، وانتهاء بجميع الحرف المنزلية، فلا تبلغ الفتاة سن المحيض إلا وقد استوعبت صناعات أهلها، وعرفت جلَّ حرف محَلَّتها، فلا يبقى عليها بعد ضرب الحجاب إلا التدريب العملي المكثف على إتقان هذه المهارات، ورفع مستوى كفاءتها الإنتاجية؛ فإن بلوغها درجة الصنعة لا يحصل لها إلا باجتماع العلم والممارسة.
ولا يُشترط للإنتاج في مثل هذه المهارات - خاصة في الدول النامية- التكلفة الباهظة، ولا التقنية العالية؛ بل إنها تقوم عادة على أقل مما يُتخيل من المواد والمعارف، فقد تتعلم الفتاة الراغبة بعض المهارات الحرفية بغير مُعلِّم مباشر، وتُنتج اقتصادياً بأسهل الوسائل، ولا ينبغي أن يُستنكر هذا؛ فإن الفتاة في الأسرة الجادة منتجة منذ الطفولة.
14ـ دور المرأة في التنمية الاقتصادية
تشهد المجتمعات الإنسانية المعاصرة توسعاً مذهلاً لم يسبق له مثيل في استغلال جهود النساء في تنفيذ الخطط التنموية الشاملة، فما أن تبلغ إحداهن سن العمل المسموح به حتى تتأهل للنزول إلى سوق العمل، والانضمام إلى القوى العاملة، ضمن أفواج هائلة من النساء والفتيات، ما بين عاملة، أو باحثة عن عمل، شأنهن في ذلك يشبه - إلى حد كبير- شأن الرجال والفتيان المكلفين شرعاً بالكسب والإنفاق، حتى إنه لم يعد هناك فروق في حثِّ كثير من الناس في أهمية توفير العمل للذكور والإناث على حدٍ سواء.(2/57)
وعلى الرغم من المنافع المتبادلة التي يمكن أن تنتج عن تشغيل النساء: فإن قدراً كبيراً من السلبيات والأضرار نجمت، وتنجم عن مثل هذه الأنشطة الاقتصادية غير المنضبطة، ربما تفوق في حجمها حجم الإيجابيات.
إن التشابه في أصل الخلْقة بين الرجال والنساء لا يعني التشابه في نوع المهمات والمسؤوليات المناطة بكل منهما؛ فإنه بقدر ما بين الجنسين من التشابه : بقدر ما بينهما من التميُّز والاختلاف والتنوع، الذي يفرض على كل جنس - بالشرع والفطرة - مهمات ومسؤوليات تختلف في كثير من الأحيان ولا تتشابه.
إن المهمة العبادية التي كُلِّف الإنسان - ذكراً كان أو أنثى - القيام بها، وما خُلق - في أصل الأمر إلا من أجلها : لا يمكن أن تتحقق على الوجه الصحيح إلا بشرطين ضروريين:
الشرط الأول: وجود الإنسان على الأرض بصورة دائمة، يخلف بعضهم بعضاً من خلال التناسل والتكاثر، وهي مهمة أنثوية بالدرجة الأولى تكاد تكون خاصة بهن لولا الدور القصير الذي يُناط بالذكور في العملية التناسلية، وها هي المكتشفات العلمية، والتجارب الميدانية تكاد تُزيح الذكور حتى عن دورهم هذا بالكلية من خلال عملية الاستنساخ وما سبقها من وسائل حفظ مياه الرجال، في الوقت الذي أثبتت فيه هذه المكتشفات العلمية أصالة المرأة ومركزيتها بالفطرة، وضرورة وجودها باعتبارها عنصراً أساساً، لا يُتصوَّر الاستغناء عنه في العملية التناسلية، فقد هُيِّئت نفسياً وبدنياً بالأجهزة والمشاعر اللازمة لهذه المهمة، فانفردت وحدها بهذه المسؤولية الإنسانية الكبرى عن كل الذكور مهما علت مراتبهم، وفي مقابل تفرغها لهذه المهمة، وما يتعلق بها : يجنِّد المجتمع طاقاته لخدمتها، ورعاية شؤونها فلا تحتاج في قضاء حاجاتها، وتأمين متطلباتها إلى كدِّ العمل، وتكلُّف الكسب، فالأنوثة تُعفيها من كل ذلك بالشرع.(2/58)
الشرط الثاني: قيام العمارة التي لا بد منها لإصلاح حال الإنسان في مأكله ومسكنه وعلاجه ومواصلاته، وكل ما من شأنه تسهيل مهمته في الحياة، وذلك من خلال مهمة الضرب في الأرض وإثارتها، وكشف كنوزها، والوقوف على نظام سننها، وهذه مهمة ذكورية بالدرجة الأولى، قد تهيأ الرجال لها في طبائعهم وميولهم واتجاهاتهم، إلا أنه لا توجد عند الرجال أجهزة جسمية محددة تؤهلهم وحدهم لهذه المهمة، كحال أجهزة النساء التي خصَّتهن وحدهن دون الرجال بمهمة الإنجاب ورعاية النسل، وهذا الوضع الطبيعي والفطري في الجنسين من شأنه أن يسمح بتسرُّب الإناث إلى ميدان الذكور، ولا يسمح - بصورة قطعية- للذكور بالتسرب إلى ميدان الإناث، فيبقى ميدان المرأة - بصورة دائمة - شاغراً لها، لا منافس لها فيه، في الوقت الذي تستطيع فيه المرأة أن تشارك الرجال في ميدانهم، وتنافسهم في إنجازاتهم، ومن خلال هذا التداخل يحصل الصراع والتنافس بين الجنسين، ويكثر الاستغلال والاستبداد من الرجال للنساء.
إن مهمة المرأة في أنشطة العمارة العامة تشبه - إن صحَّ التشبيه - في حجمها وقِصَرِها وسرعتها مهمة الرجل القصيرة والمحدودة في عملية التكاثر، ورعاية النسل، فهذه المحدودية الطبيعية لكل من الرجال في المسألة التناسلية، وللنساء في المسألة التنموية لا تشين أحداً منهما، ولا تسِمُهُ بالقصور، حين ينهض كل جنس بما أُنيط به فطرياً وشرعياً.(2/59)
ولا تصح المقابلة بين مهمة الذكور في العمارة ومهمة الإناث في التناسل من جهة الأهمية، فكلاهما مهم، فإن كان ولابد من هذه المقابلة بينهما : فإن مهمة الإنجاب ورعاية النسل المناطة بالنساء أهم وأعظم من مهمة الرجال في العمارة، فهي صناعة الإنسان، وليس شيء أجلَّ من ذلك، فلو قُدِّر امتناعهن عن هذه المهمة، أو تعطُّلهن عنها : كان الانقراض مصير الإنسان، في حين لو قُدِّر امتناع الرجال عن مهمة العمارة كان الضيق والحرج والإزعاج أقصى ما يصيب الإنسان، ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالمحافظة على الإناث من مواقع الهلكة ومظان الموت؛ لأن خدمة النوع الإنساني تتوقف بالدرجة الأولى على وفرة العنصر النسائي بصورة خاصة.(2/60)
إن الملل من تكرار عملية الإنجاب ورعاية الطفولة، وما يتبع ذلك من المعاناة المكرورة: هي السبب - في كثير من الأحيان - وراء تذمُّر بعض النساء من هذه المسؤولية، في حين تجد إحداهن في ميدان الرجال ساحات واسعة ومتنوعة من الأنشطة المختلفة المتجددة المحفوظة من صور التكرار، فتتشوَّف إحداهن لذلك، وترغب في التجديد، ولاسيما إذا حازت إحداهن على شيء من المعرفة والمهارات التي تؤهلها لميادين التنمية الاقتصادية العامة، تاركة وراءها مهمة الإنجاب ورعاية النسل، أو مؤجِّلة لها لمستقبل قادم، وربما جمعت إحداهن بين المسؤوليَّتين فتعاني من جرَّاء ذلك صراع الأدوار الاجتماعية، والمعاناة النفسية، والإجهاد الجسمي، إضافة إلى درجات مختلفة من انخفاض مستوى خصوبتها؛ إذ يُعد عمل المرأة خارج المنزل أفضل وسيلة لتحديد النسل، والتقليل من الذرية، في حين لا تتعرض المرأة لغالب هذه الأزمات عندما تعمل وتنتج في محيط أسرتها، ضمن أنشطة العائلة الاقتصادية، وما يمكن أن تقوم به من الوظائف العامة من داخل بيتها، وحتى معدلات خصوبتها، فإنها لا تتأثر كحال المرأة العاملة خارج المنزل، فقد دلَّت بعض الدراسات الميدانية أن معدلات خصوبة المرأة العاملة داخل المنزل تشبه معدلات خصوبة المرأة الريفية التي تعمل وتنتج بطبيعتها، ولا تعرف أساليب تحديد النسل، إضافة إلى أنها لا تعرف صراع الأدوار الاجتماعية، ولا تعاني من أزمة تأنيب الضمير في بعدها عن أولادها.
إن لفت المرأة نحو العمل المنزلي، والإنجاب، ورعاية النسل يأتي موافقاً للفطرة الأنثوية، متسقاً مع الشرع، فلو أراد المولى عز وجل من الرجال والنساء مهمة واحدة في هذه الحياة لما خلقهما جنسين مختلفين، ولاشك أن في هذا الاختلاف من التنوع والتكامل ما يثري الحياة الإنسانية وينميها، ويشغل جميع مجالاتها.(2/61)
وقد أثبتت بعض الدراسات الاقتصادية أن عمل المرأة المنزلي يصل في بعض الدول الأجنبية إلى ما بين 20% - 25% من الدخل القومي، ومع ذلك لا يدخل ضمن حسابات المعدلات العامة للدخل القومي، بحجة أنه عمل غير مأجور، في الوقت الذي يحسب فيه عمل الراقصة، والمغنية، وخادمة الملهى، ونحوهن ضمن معدلات الدخل القومي، بحجة أنهن يتقاضين مدخولاً مالياً، وكأن المدخول المالي - أياً كان مصدره- يعطي لمثل هذه الأعمال الساقطة مشروعية اجتماعية واقتصادية، في مقابل إقصاء مجهودات المرأة في العمل المنزلي عن معدلات الدخل القومي رغم أنها مجهودات لا تقدر بثمن، وإلا فما هي قيمة أعظم منتج يمكن أن ينتجه الرجل في ميادين التنمية الاقتصادية العامة يضاهي صناعة الإنسان ؟.(2/62)
إن مجالات التفوق بين الجنسين تختلف، ففي الوقت الذي يبلغ فيه الرجل لأن يكون متوافقاً نفسياً، ومقبولاً اجتماعياً يحتاج إلى جمع من المهارات والمعارف والعلوم والوثائق التي تؤهله لذلك، مضافاً إليها تمتعه بأصول الإيمان والأخلاق، في حين لا تحتاج المرأة لبلوغ القمة لأكثر من أصول الإيمان والأخلاق مع سلامة الإنجاب ورعاية النسل، حتى وإن فاتها كثير من العلم والمعرفة والمهارات، فطريقها إلى القمة قصيرة؛ ولهذا لا يُؤثر عن النساء الأربعة اللاتي ذكرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكمال شيء من العلم، وإنما تفوقن في كمال الإيمان وعظيم الأخلاق مع سلامة الإنجاب ورعاية النسل، في الوقت الذي لم تتأهل فيه السيدة عائشة رضي الله عنها لأن تكون منهن، رغم أنها حازت من العلم والمعرفة ورجاحة العقل ما فاقت به غالب رجال عصرها، فدلَّ هذا على أن مجال تفوق المرأة يختلف عن مجال تفوق الرجل، وأن مجرد تفوق المرأة العلمي، وحصولها على شيء من المهارات الفنية والإدارية، وبلوغها بعض المناصب الاجتماعية، ليس شرطاً لبلوغها القمة، في الوقت الذي تعتبر فيه هذه المتغيرات الاجتماعية والمهارية والعلمية شرطاً ضرورياً لمجرد قبول الرجل اجتماعياً، فضلاً عن بلوغه القمة في وسطه الاجتماعي.
15ـ نظرات حول المرأة والعمل(2/63)
يربط بعض المتحمسين بين عمل المرأة بأجر في مؤسسات المجتمع العامة وبين النهضة الاقتصادية؛ حيث يعتبرون التوسع في حجم مشاركتها في أنشطة الحياة العامة مؤشراً إيجابياً للتقدم والنهضة، وعلى الرغم من أنه لا يُوجد دليل واضح وصريح على صحة هذا الربط، إلا أن المتأمل يجد أن الواقع المعاصر يشهد بنقيض هذا؛ إذ إنه لم يسبق في التاريخ أن شاركت النساء بهذه الأعداد الكبيرة في الحياة العامة، وأسواق العمل كمشاركتهن في هذا العصر، ومع ذلك تشير الإحصاءات المتواترة بأزمات اقتصادية تطوق القارات الست - بدرجات مختلفة- إضافة إلى أن نصف سكان العالم من الفقراء، وأكثرهم من النساء والأطفال.
ومن الغريب أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي عاشها غالب دول شرق آسيا - ولا تزال تعاني آثارها– كانت نسبة العمالة النسائية في بعض هذه الدول زمن الأزمة 60% تقريباً، فهل هناك علاقة خفية بين كثرة العمالة النسائية وهذه الأزمة؟ مع عدم إغفال الأسباب الأخرى التي شاركت في صناعة هذه الأزمة.
يرى بعضهم ضرورة التوسع في مشاركة النساء في أسواق العمل حتى تستطيع إحداهن أن تسد حاجاتها الضرورية إن كانت عانساً، أو أرملة، أو معيلة لأولادها، أو متزوجة تعين زوجها، إلى غير ذلك من الأسباب التي تدفع المرأة مضطرة إلى العمل، إلا أن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة من بعده يجد أن القيادة السياسية لم تكن تلزم النساء بالكسب، مهما كنَّ فقيرات، وإنما يُعطين ما يسد حاجاتهن من خزينة الدولة، ولا يقال للمرأة : اذهبي فاعملي كما يقال لها اليوم، في حين يُلزم الرجل بالعمل للكسب، مادام قادراً "اذهب فاحتطب"، فمن القبيح أن لا تُعطى المرأة المحتاجة المال إلا مقابل عمل تقوم به، كما أن من القبيح أن يُعطى الرجل الخامل المال وهو قادر على العمل والكسب.(2/64)
يظهر من بعض البحوث توجه واضح نحو فتح المجالات العامة لتشغيل النساء، حيث انشغلت بعضها بإيراد الأدلة على صحة هذه الوجهة، والسؤال الذي يطرح نفسه : ما هي الضمانات التي يقدمها المتحمسون للمجتمع السعودي في الحفاظ على نسائهم من الاختلاط، والخلوة، والفتنة بعد أن شاهد المجتمع بأكمله إخفاق المؤسسة الصحية بأكملها في هذا الجانب، حتى إن الشخص المسلم ليعُد نفسه شخصاً آخر حين يدخل المستشفيات والمراكز الصحية، وقد أصبح - للأسف- هذا الانفلات الخلقي في المؤسسة الصحية دليلاً يلوِّح به المتحمسون في وجه المانعين للاختلاط، وكأنه مؤشر صحي، وتجربة ناجحة، في حين لو راجع هؤلاء تاريخ الأمة المسلمة، ونظام البيمارستانات فيها، لعلموا أن المستشفيات قامت منذ أواخر القرن الهجري الأول، وتطورت بصورة مذهلة عبر سنوات طويلة حتى العهد العثماني، وكان نظامها الفصل الكامل بين الجنسين، وإنما كان الاشتراك في الطبيب فقط، لعدم وجود طبيبة في أنظمتها، وذلك ضمن ضوابط سلوكية وأخلاقية تفتقر إليها المؤسسة الصحية اليوم.(2/65)
إن المناداة بفتح مجالات العمل بأنواعها المختلفة للمرأة السعودية بما لا يتعارض مع شريعتنا وعاداتنا وتقاليدنا : تكاد تكون عبارات مكرورة بلا معنى، فأين الشريعة والعادات والتقاليد في عمل النساء في المستشفيات وفي وسائل الإعلام، وفي كليات الطب ونحوها، ثم أين النموذج الحضاري في العالم من حولنا الذي نقتدي به في فتحنا باب تشغيل النساء في كافة الميادين، وهل يمكن لنا في ظل العولمة، والضغوط العالمية أن ننشئ لنا نموذجاً إسلامياً منفرداً يجاري الواقع ويحافظ على الثوابت، يكاد يكون مثل هذا الكلام خيالاً لا حقيقة له، فهذه الدول الإسلامية والعربية لم تستطع - في غالب أحوالها - أن تتجاوز النموذج الغربي في تشغيل النساء، فأنى لنا بكل ضعفنا أن نفعل ذلك ؟ ولعل ظهور جمع من النساء السعوديات حاسرات عن رؤوسهن في منتدى جدة الاقتصادي 1425ه يدل بوضوح على أن النموذج الغربي للانفتاح الاقتصادي هو الذي ينتظر المرأة السعودية، وليس هذا النموذج الإسلامي الخيالي الذي يرسمه لنا دعاة الانفتاح.
إن حصول المرأة على شهادة علمية لا يكفي ذريعة للمطالبة بالعمل فهي بكل حال مكفولة النفقة شرعاً، وإنما العمل ضرورة - مع وجود الشهادة أو بغيرها - لمن كلَّفهم الله تعالى النفقة والقيام على الأسر، من الرجال والشباب, إلا أن المرأة حين لا تجد من ينفق عليها فإن من حقها أن تدفع عن نفسها الضرر, وتتخذ الأسباب المشروعة للكسب وطلب الرزق.(2/66)
ومن الغريب أن يقابل بعضهم بين ثروات الرجال وثروات النساء، ويتمنى لو تساوى النساء بالرجال في ثرواتهن، لهذا يتنادى بتمكين النساء اقتصادياً، ومن العجيب فيما تشير إليه إحدى الإحصاءات أن (85%) من الدخل القومي العالمي يُصرف عبر أيدي النساء ربات البيوت، بمعنى أن ثروات الرجال سائرة إلى النساء والذرية، فدعم الرجل اقتصادياً هو دعم للمرأة وأولادها، في حين أن دعم المرأة اقتصادياً يقتصر غالباً على نفسها لعدم تكليفها شرعاً بغيرها.
ويعتبر بعضهم أن إنجازات ماليزيا وكوريا ونحوهما من دول شرق آسيا مثالاً يُحتذى في النهضة الحديثة، ومع صحة هذا الاعتقاد في بعض جوانبه إلا أنه لم يتضمن الحقيقة كلَّها فإن جزءاً ضخماً من النهضة الاقتصادية المسجلة لهاتين الدولتين كان على حساب الأسرة والمرأة والطفل، مما انعكس سلباً على السلوك، فظهرت صور من الانحرافات والمآسي في التفكك الأسري، والتمرد العائلي، والانحطاط الأخلاقي, لذا فإن درجات النمو الاقتصادي ليست كافية وحدها للحكم بالنجاح, بل لابد معها من معايير أخرى إيمانية وأخلاقية, وهذه المعايير مفقودة في النماذج الجاهلية للنهضة الحضارية.
في حين أن نهضة الأمة الإسلامية في عصور عافيتها لم تعرف هذه السلبيات الأخلاقية والأزمات الأسرية؛ وذلك لأنها لم تعتمد في نهضتها على النساء؛ إذ كانت الأمة تحترم التخصص بين الجنسين، وتولي البيت والأطفال الأهمية الكبرى.
16ـ قضية المرأة وسعودة الوظائف(2/67)
إن التوجه نحو سعودة الوظائف بمعنى أن الأقرب أولى بالمعروف، والجار أحق بالشفعة فهذا صحيح، وإلا فإن بلاد المسلمين واحدة، وتوافد العمالة على البلاد مؤشر صحي يدل على الوفرة المالية؛ ولهذا كانت دول الخليج قبل الأزمات الاقتصادية الحديثة دول جذب للعمالة، أكثر بكثير من الآن، ومع ذلك فإن حماس بعضهم في دعوى السعودة، واطلاعه على الأرقام الكبيرة للعمالة الوافدة يدفعه أحياناً للمناداة دون ضوابط بسعودة الوظائف بالمواطنين والمواطنات، متناسياً أن جلَّ هذه الوظائف والأعمال التي يشغلها الوافدون تُصنَّف ضمن الأعمال الوظيفية الوضيعة، الحرفية والخدمية المتدنية الأجر، التي يترفع عنها الشباب فضلاً عن النساء، والعجيب أن تقرير الأمم المتحدة عن المرأة في العالم لعام 1995م أشار بوضوح إلى أن الوظائف الخدمية والمتدنية الأجر تشغلها النساء بنسبة 97 - 100 %، فمن يضمن للمرأة السعودية بعد 20 عاماً أو نحوها أن لا تضطر لمثل هذه الوظائف، وقد صرَّح بعض الباحثين التربويين في إحدى المجلات العلمية المحكَّمة الصادرة عن المجلس العلمي بجامعة الكويت أنه يتمنى أن يرى المرأة الخليجية التي تصلح الضوء في عمود الكهرباء في الطريق العام، وتسوق الشاحنة والعربات المجنزرة.
ولقد ثبت أن العلاقة في غاية القوة والارتباط بين الانحرافات الخلقية المتنوعة وبين مشاركة النساء في أعمال التنمية الاقتصادية الشاملة، بحيث تزيد نسبة انحرافاتهن الخلقية بقدر زيادة نسبة مشاركتهن في الحياة العامة.
وقد أشار الكتاب الإحصائي لعام 1398ه الصادر عن مركز أبحاث مكافحة الجريمة بوزارة الداخلية بالمملكة العربية السعودية ص (60)إلى ظهور المرأة السعودية المجرمة لأول مرة في هذه السلسلة، وعلل ذلك بمشاركة المرأة السعودية في سوق العمل، الذي أتاح لها فرص الوقوع في بعض الأخطاء السلوكية والخلقية.(2/68)
ولقد مرت على الأمة الإسلامية بعد عصر النبوة فترات عظيمة من الرقي الحضاري الذي شمل جميع جوانب الحياة الإنسانية فيما يُسمى بالعصور الذهبية، فأين كانت المرأة الحرة في ذلك الوقت، في بيتها أم في الحياة العامة ؟ كما مرت على الأمة أيضاً فترات أخرى شديدة، وأزمات اقتصادية خانقة، ومع كل ذلك لم تتوجه الأمة لنصف المجتمع "المعطَّل" من النساء الحرائر لإخراجهن إلى الحياة العامة للمشاركة في التنمية الاقتصادية الشاملة، وإنما كانت الدولة المسلمة، برجالها وشبابها تتحمل أعباء الإصلاح الاقتصادي وتحسين الأوضاع، ولئن تغيَّرت الظروف في هذا العصر فإن الفطرة لم تتغير، ولن تتغير.
ولقد أثبت العمل المؤسسي خارج البيت تعارضه - في غالب الأحوال - مع طبيعة المرأة وظروفها وحاجاتها، في حين أثبت العمل الاقتصادي المنزلي جدواه على مدار سنوات طويلة سابقة من الحياة الإنسانية، كما أثبت جدواه في بعض الدول المعاصرة، لاسيما في شرق آسيا، حين تعمل المرأة وتنتج في بيتها، تكسب وتُشغل فراغها دون صراعات الأدوار، ومعاناة البعد عن الأولاد، وأزمة وسائل النقل، والاختلاط، ونحوها من المشكلات.
إلا أن هذا النوع من العمل يحتاج إلى دعم وتطوير، دعم من الدول بالإعانات والقروض، ومقترحات المشروعات الصغيرة، ودعم آخر بتطوير الآلة المنزلية، بحيث تصبح سهلة الاستعمال، ويمكن للأسرة المتوسطة شراؤها, مع جودتها في الإنتاج بما ينافس مخرجات المصانع الكبيرة، فكما استطاع دهاقنة الاقتصاد زمن الثورة الصناعية جرَّ العمال إلى المصانع من خلال تطوير الآلة، يمكن أيضاً الآن من خلال تطوير الآلة الصناعية، وتصغير حجمها، وتبسيط أسلوب استعمالها من إعادة إحياء العمل المنزلي، إضافة إلى ما يمكن أن يقوم به النساء من صناعة الأطعمة المعلبة، وأعمال التغليف، وبعض أعمال الصيانة للأجهزة، وتركيب بعض الأدوات، ونحو ذلك من الأعمال البسيطة التي أثبت الواقع جدواها الاقتصادية.(2/69)
ولما كانت المرأة في الريف ربما تمثل غالب المجتمع كان لابد من دعمها وتوطينها، من خلال المشروعات الصغيرة، ولاسيما الزراعية، وتربية الدواجن، وتقديم الاستشارات والإعانات للأسرة الريفية، فلا تحتاج إلى القدوم إلى المدن، والنزوح إلى الحواضر؛ لما في ذلك من الأضرار الاقتصادية والأخلاقية المعلومة.
ثم إن تأخير سن الزواج يدفع الفتيات للعمل، حين يطول عليهن انتظار الشباب الذين حبستهم أنظمة التعليم، وأساليب التدريب، وحاجات السوق, فلو تعدَّلت الأنظمة التعليمية, وتوافقت مع حاجات السوق, ابتداء من التعليم المتوسط والثانوي،ليصبح هدفهما: " الإعداد للحياة", بحيث يتأهل الشاب مبكراً للحياة العملية والزواج، وتكوين الأسرة: فإن هذا من شأنه تأهيل الفتيات مبكراً للزواج في أثناء الدراسة، فلا يطول عليهن الانتظار، فإن الشاب حين يتأهل اقتصادياً فإنه يتأهل بالتالي ليكفل فتاة.
17ـ ضوابط مشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة
أولاً: الضابط الإيماني لمشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة.
والمقصود بهذا الضابط : البعد الغيبي للتنمية الاقتصادية الذي يحكمه التشريع الإسلامي فيحدد هدفه، ويوضح معالمه، ويفرض استقلاله عن الأنظمة الاقتصادية الجاهلية، وذلك من خلال النقاط الآتية :
1-إدراك الغاية من التنمية الاقتصادية الشاملة وهي مرضاة الله تعالى بالتزام التشريعات الاقتصادية التي جاء بها الإسلام في جميع الجوانب والخطط التنموية المختلفة؛ فإن المجتمع بكل فعالياته وحركته لا يعدو أن يكون وسيلة إلى مرضاة الله تعالى.
2-تجاوز النموذج الغربي للتنمية الاقتصادية الذي ثبت إخفاقه في كثير من جوانبه، فلا يكون هو النموذج المقياس للتنمية الاقتصادية في المجتمع المسلم، لاسيما وقد ثبت في الواقع وجود نماذج اقتصادية أخرى، لا تقل تفوقاً - في بعض جوانبها - عن النموذج الغربي.(2/70)
3-الانطلاقة التنموية من ذات الأمة الإسلامية من خلال الاعتماد على ثروات الأمة المدخرة في أرضها وفي أفرادها بهدف التخلص من الهيمنة الاقتصادية الغربية؛ فقد أثبتت التجارب أن التنمية لا تأتي من الخارج، وإنما هي عملية اجتماعية واعية، تنطلق من إرادة وطنية مستقلة، ومن المعلوم أن خطة التنمية كلما كانت متوافقة مع الإطار المرجعي للأمة كلما كانت أكثر فعالية، وأجدر أن تؤتي ثمارها.
ثانياً: الضابط الأخلاق لمشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة.
والمقصود بهذا الضابط إحكام مشاركات النساء الاقتصادية العامة ضمن الضوابط الأخلاقية والآداب المرعية التي جاء بها الإسلام، وهذا يتجلى في النقاط الآتية:
1-تجنب اختلاط المرأة بالرجال الأجانب في العمل وذلك للمفاسد الأخلاقية والاجتماعية التي ثبتت من جراء فتنة الاختلاط، لاسيما إذا وقعت المرأة العاملة المحتاجة تحت سلطة الرجل الذي لا يتورع عن استغلالها، بصورة من صور الاستغلال الأخلاقي.
2-تحريم جميع أشكال الاتجار بشخص المرأة العاملة سواء كان ذلك بصورتها أو بصوتها؛ بحيث يمنع بصورة جذرية استغلالها جسدياً لترويج المنتجات الاستهلاكية، أو إبرام العقود التجارية، أو استغلالها كواجهة لجذب الزبائن، أو خدمتهم، أو الترويح عنهم.
ثالثاً : الضابط الإنساني لمشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة.
ويُقصد بهذا الضابط المحافظة على كرامة المرأة، وحمايتها من كل ما من شأنه إذلالها أو احتقارها، أو إرهاقها وهذا يتضح من خلال النقاط الآتية:(2/71)
1-الترفع بالمرأة عن الأعمال المهنية الوضيعة التي قد تستذل كرامتها، وتضعف درجة محافظتها على شرفها، والتي أصبحت في هذا العصر مهن غالب النساء، فما من مهنة ذهب بريقها، وزهد فيها الرجال إلا تكدست فيها النساء، وهي المهن التي تُرشَّح لها النساء في عمليات إحلال العمالة النسائية الوطنية مكان العمالة الوافدة الأجنبية، التي تشغل - في الغالب - المهن الوضيعة والحقيرة.
2-حماية المرأة من الأعمال الشاقة المضنية التي تتطلب جهداً جسمياً كبيراً مما قد يعيق قيامها بوظائفها الإنسانية في الإنجاب ورعاية الأطفال وخدمة الأسرة، وقد شهد الواقع اشتغال كثير من النساء بهذه المهن الشاقة في المصانع، والورش، والمناجم، وذلك بعد أن مُلئت المهن المناسبة بالنساء، فلم يعد أمام الراغبات الجدد سوى المهن الصعبة.
3-ضمان الحق المالي للفتاة العاملة بحيث تعطى على عملها أجر المثل دون إجحاف بسبب الأنوثة؛ فإن عنصر الأنوثة في المرأة حتى الآن - في كثير من الدول المتقدمة حسب تقارير الأمم المتحدة - لايزال سبباً في حيف اجتماعي، وظلم إداري، لا تتقاضى بسببه المرأة أجر المثل، رغم قيامها بنفس جهد الرجل، وقد تأهلت مثله بالشهادة العلمية والخبرة.
رابعاً: الضابط الصحي لمشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة.
والمقصود بهذا الضابط : ما يمنع المرأة من العمل بسبب الضرر الصحي المتوقع عليها وهذا يتضح من خلال النقاط الآتية:
1-تجنب تأثيرات العمل السلبية على صحة المرأة الجسمية، فلا تعيق نموها السليم، أو تعطل مهمتها الاجتماعية، ووظائفها العبادية، إلا أن الواقع يشهد بأن المرأة العاملة أقل فئات المجتمع راحة ونوماً، وأكثرهم جهداً وعملاً.(2/72)
2-تجنب تأثيرات العمل السلبية على صحة المرأة النفسية؛ بحيث يعيقها العمل عن التوافق الاجتماعي، ويخرجها عن حد الاتزان، وقد لُوحظ على كثير من العاملات شيء من الإرهاق النفسي، والقلق، والاكتئاب، الذي يدفعها إلى عدم التوافق الاجتماعي، وربما دفعها إلى شيء من العنف العائلي تجاه الأبناء.
3-تجنب تأثيرات العمل السلبية على سلامة إنجاب المرأة، فلا يكون العمل سبباً في انخفاض مستوى قدرتها على الإنجاب كوظيفة إنسانية ضرورية، وقد لُوحظ إخفاق بعض النساء في إتمام حملهن بسبب الإرهاق والجهد البدني المستهلَك في العمل.
خامساً: الضابط الأسري لمشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة.
والمقصود بهذا الضابط هو : الانعكاسات السلبية التي يمكن أن يفرزها العمل خارج المنزل على أدوار المرأة الأسرية، وتوافقها مع زوجها، ومعدلات خصوبتها، ورعايتها لأطفالها، ويمكن تلخيص ذلك في هذه النقاط:
1-حماية نظام الأسرة من التصدع، فلا يكون العمل سبباً كافياً لإحجام المرأة عن الزواج بحجة اكتفائها اقتصادياً، فقد لُوحظ عزوف بعض النساء عن النكاح بسبب العمل، باعتباره مورداً اقتصادياً يستغنين به عن الزواج، وإقامة الأسرة، وهذا يتعارض مع وجهة الإسلام المرغبة في الزواج، والمنفرة من العزوبة.
2-رعاية المرأة العاملة لقوامة الزوج من الاختلال؛ بحيث لا يكون موردها المالي سبباً في إضعاف قوامة الزوج الأسرية، فإن للقوامة جانبين : فطري وكسبي، وكثيراً ما يكون مورد المرأة الاقتصادي سبباً في مصادرة قوامة الزوج الكسبية، والإخلال بها، وهذا من شأنه أن يخل بنظام الأسرة الطبيعي، ويثير صراعات تنافسية بين الزوجين.(2/73)
3-الحرص على سلامة معدلات خصوبة المرأة العاملة من الانخفاض، فلا يكون العمل سبباً مباشراً في انخفاض معدلات خصوبتها، والواقع يشهد من خلال الإحصاءات انخفاض معدلات خصوبة المرأة العاملة، فإن أفضل طريقة لتحديد النسل ربط النساء بالعمل خارج المنزل.
4-تجنُّب المرأة العاملة صراع الأدوار الاجتماعية؛ بحيث تستطيع أن توِّفق بين عملها خارج المنزل وداخله دون تعرضها لأزمة تعارض الأدوار الاجتماعية، وهذا النوع من الصراع لا تكاد تنفك عنه المرأة العاملة خارج المنزل، ولكنهنَّ يختلفن في درجة معاناتهن من آثاره المزعجة، وقد لُوحظ أن محاولة التوفيق بين المهمتين المناطة بها - بصورة مُرْضية - يكاد يكون مستحيلاً؛ ولهذا كثيراً ما يفضل أرباب العمل المرأة العزباء، لخلو ذهنها ومشاعرها من هذه الصراعات، وأمثالها من المنغصات.
5-المحافظة على سلامة أولاد المرأة العاملة من الانحراف، وهو أن لا يكون عملها خارج المنزل سبباً في ضياع أولادها في المستقبل، أو إهمال تربيتهم، فإن المرأة العاملة تهمل - بالضرورة- شيئاً كثيراً من شؤون أولادها كالرضاعة الطبيعية، وتولي شؤونهم بصورة مباشرة، وتحمُّل أعباء معاناة التربية، مما قد يكون سبباً في المستقبل في انحرافات سلوكية، وقبائح اجتماعية يقع فيها الأولاد بسبب ضعف التربية، واختلال التنشئة في الصغر.
سادساً: الضابط التخصصي لمشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة.
والمقصود بهذا الضابط : إحكام مجالات عمل المرأة ضمن تخصصات محددة تتناسب مع طبيعتها من جهة، ويحتاجها المجتمع من جهة أخرى، وهذا يتضح فيما يلي :(2/74)
1-رفض مبدأ تماثل الأدوار المهنية بين الجنسين، بحيث يستقر لدى المرأة والمجتمع أن التماثل في جميع الأعمال المهنية بين الجنسين أمر مرفوض، فلابد أن يبقى هناك وظائف تختص بالرجال وأخرى بالنساء، تناسب كلاً حسب طبيعته، فليس كل إنسان يصلح لكل عمل، ولكل صناعة، فإن المواهب المختلفة تفرض نفسها، ونوع الجنس يفرض نفسه أيضاً، والجنسان ما خلقا ليتسابقا في مضمار واحد.
2-مراعاة حاجات الإناث الطبية والتعليمية، بحيث يكون هذان الجانبان أهم ميادين المرأة التنموية العامة - كما هو الواقع- على أن تكون مشاركتها ضمن مفاهيم الشرع وحدوده المحترمة، التي كثيراً ما تتعارض مع واقع ممارسات الإناث في المهن التعليمية والطبية، فإن شرف هاتين المهنتين لا يلغى ثوابت الشريعة وأخلاقياتها المرعية.
سابعاً: الضابط الحاجي لمشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة.
ويُقصد بهذا الضابط: وجود حاجة قائمة بين المرأة والعمل، فلا يكون إشغالها للوظيفة لغير حاجة متبادلة بينها وبين الوظيفة، وهذا يظهر فيما يلي :
1-عدم الاعتماد على العمالة النسائية في قيام النهضة الاقتصادية، وذلك لأن النهضة الاقتصادية لا تقوم على أكتاف النساء خاصة إذا عجز عن ذلك الرجال، وقد شهد التاريخ الإنساني نهضات كبرى، ولاسيما في التاريخ الإسلامي، كانت فيها المرأة بعيدة عن الحياة المهنية العامة، قد انشغلت بوظائفها الفطرية التي دعمت النهضة من خلال تربية وإعداد الرجال، مما يدل على أن التفوق في التنمية الاقتصادية لا علاقة له بزيادة العنصر النسائي في المهن العامة.(2/75)
2-تجنب تأثير عمل النساء على زيادة البطالة بين الرجال، فلا يكون عملهن سبباً في تعطيل الرجال عن الكسب؛ لكونهم مكلفين شرعاً بأُسر ينفقون عليها، والنساء مكفولات شرعاً بأوليائهن، وقد ثبت أن الدور الأكبر في أزمة البطالة المعاصرة يُعزى إلى التوسع في تشغيل النساء، مما دفع بعض الدول إلى التقليل من فرص أعمالهن حتى في بعض الميادين التي تخصُّهن رغبة في توفير مهن للرجال المكلفين فطرياً وشرعياً بالنفقة على الأسر، فالرجل بالفطرة وبإلزام الشرع يُوزِّع ثروته ويفتتها بصورة دائمة، والمرأة بحكم الشرع تجمع ولا تفتت ثروتها بالنفقة، ومن المعلوم أن توزيع الثروة مطلب اقتصادي مرغوب فيه. وللقارئ أن يتأمل ما هو موقف الشرع حين يتقدم الرجل وزوجته إلى وظيفة ما، فتقبل الزوجة للوظيفة ويُرد الرجل، فهل يكون من المنطق الشرعي إلزامها بالنفقة عليه، وإسقاط وجوب النفقة عنه، فتتغيَّر - بناء على هذا الوضع الشاذ- ثوابت الشريعة.
3-التأكيد على حاجة الفتاة الاقتصادية للعمل، بحيث يكون عملها عن حاجة مالية، أو حاجة اجتماعية دون الحاجات المتوهمة، أو غير المعتبرة شرعاً؛ فإن نسبة كبيرة من النساء العاملات ليس لهن غرض من العمل سوى التسلية، وإثبات الذات.
ثامناً: الضابط الأنثوي لمشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة.
المقصود بهذا الضابط: ما يمنع المرأة عن العمل بسبب الأنوثة، بحيث يكون الجنس سبباً كافياً لمنعها من العمل، أو إعفائها من القيام به، وهذا يظهر في النقاط الآتية:(2/76)
1-تعارض الأنوثة الاجتماعي مع نمط البروز السياسي، الذي تتطلبه الممارسة السياسية في مواجهة الجماهير، ومخالطتهم، وتربيتهم، وقيادتهم، وهذا لا يتناسب مع طبيعة المرأة المأمورة بالحجاب والستر، وخروج السيدة عائشة رضي الله عنها يوم الجمل مذهب قديم لها، قد تواترت الأخبار عنها بالتوبة منه، فلا يصح أن يكون دليلاً، ثم هي لم تخرج من باب حقها في المشاركة السياسية وإنما خرجت رغبة في الإصلاح بين فئتين من المسلمين باعتبارها أماً لهم، وإلا فأين باقي النساء لم يشاركن، إضافة إلى أنها حين خرجت كانت في هودج من حديد لا يُرى من شخصها شيء.
2-تعارض الأنوثة الفطري مع طبيعة السلوك السياسي من جهة الطبيعة العقلية، والطبيعة العاطفية، والطبيعة النفسية، التي لا تتوافق في جملتها مع نوع المسؤولية السياسية، التي يتقاصر عنها غالب الرجال فضلاً عن النساء.
3-تعارض الأنوثة مع الولايات السياسية العامة من الناحية الواقعية التي تدل على ندرة وجودهن في المواقع السياسية المؤثرة، وما يُنقل تاريخياً وواقعياً عن نساء برزن في ميادين سياسية، وقتالية لا تتعدى الندرة والشذوذ، الذي لا يغير من الحقائق شيئاً، وهي حين تريد أن تصنع شيئاً في الميدان السياسي تحتاج إلى أن تتخلص مما هي به أنثى من الطبائع والأخلاق والأعمال، وتتصف بما يجعلها ذكراً، من الأفعال والممارسات المختلفة؛ ولهذا أعرضت بلقيس ملكة سبأ عن الزواج، وتناولت "تاتشر" رئيسة وزراء بريطانيا السابقة صفة من عالم الرجال - المرأة الحديدية - لتتخلص بها مما هي به أنثى.(2/77)
4-تعارض الأنوثة مع عضوية أهل الحل والعقد، فلا يصح أن تكون عضواً فيهم، وإنما تستشار المرأة الخبيرة فيما يتصل بالشؤون النسائية، مما تحتاجه الأمة، ولا يطلع عليه غيرهن، هذا هو الثابت في تاريخ الأمة السياسي دون حالات الشذوذ التي مرت بها الأمة زمن ضعفها وتخلفها، فالسيدة فاطمة والسيدة عائشة رضي الله عنهما رغم فضلهما ومكانتهما لم تكونا موضع استشارة سياسية من أحد الخلفاء، ولم تبايع امرأة خليفة للمسلمين، وإنما هن وعامة الناس تبعاً لأهل الحل والعقد من أفذاذ الأمة، الذين يُعرفون بعلمهم وجهدهم وجهادهم، ممن لا يحتاج أصلاً إلى من يزكيهم ويُعرِّف بهم من العامة أو النساء، فإن الأصل أن المرأة لا تعرف شؤون الرجال الأجانب، فكيف لها أن تزكي أحداً منهم؛ ولهذا لا يوجد في كتب الرجال كلام في الجرح والتعديل للنساء، وما حصل من أم سلمة رضي الله عنها يوم الحديبية من المشورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بطريقة عفوية، ومع ذلك لم يتوقف امتثال الصحابة على مشورتها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يذبح ويحلق بكل حال، سواء أشارت أم سلمة أو لم تشر، وهذا عين ما حدث في حجة الوداع حين تباطأ الصحابة بعد طوافهم وسعيهم من التحلل بالحلق وجعلها عمرة حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمتع لمن لم يكن منهم قد ساق الهدي، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم من تباطئهم، ودخل على عائشة رضي الله عنها وهو مُغضب وقد علمت الخبر، ومع ذلك فقد حلق الصحابة في نهاية الأمر وجعلوها عمرة متمتعين بها إلى الحج، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لم يحلق لكونه قارناً قد ساق الهدي، فالأمر حاصل حاصل بمشورة أم سلمة وبغير مشورتها، ثم هل فهمت أم سلمة رضي الله عنها ما فهمه المحللون من حادثة الحديبية أنها دليل لمشاركة المرأة السياسية، فإن واقعها مخالف لذلك تماماً فقد كانت أشد الناس إنكاراً على عائشة رضي الله عنها حين خرجت إلى(2/78)
البصرة، وثبتت عنها نصوص تدل على أنها لا ترى نفسها أهلاً - بسبب الأنوثة - للمشاركة السياسية ومع ذلك فإن الموقف يوم الحديبية موقف تشريع في مسألة حكم المُحْصر، وليس موقفاً سياسياً.
5-تعارض الأنوثة مع المسؤولية العسكرية، فلا تكلف المرأة بالجهاد، ولا تقود الجيوش، ولا تكون جندية، وإنما تدافع عن نفسها عند الضرورة، وهذا من رحمة الله بالنساء، ولطبيعة أدوارهن المهمة في تكثير النوع، فإن كثرة النسل تتوقف على وفرة العنصر النسائي، إضافة إلى حاجتهن إلى السكون، فهن كالقوارير في سرعة تكسرهن كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ثبت عن بعضهن من القتال كان ضمن الضرورة، وهذا واجب المرأة، أما في غير ضرورة فلا يصح منها القتال، ومشاركة الرجال لما فيه من الفتنة، ولاسيما من الشواب، وأما التدريب على السلاح الخفيف، فهذا يحصل إذا عاشت الأمة المسلمة حالة الجهاد، وكانت الأسلحة الخفيفة ضمن متاع البيوت، تعاينها المرأة وتتدرب عليها مع محارمها، والواقع يشهد بتخلف الرجال عن هذه المهمة وهم المكلفون بها شرعاً، فكيف يفرض ذلك على النساء، ويُطالبن بالتدريب والرجال في عزلة عن السلاح ؟.
لاشك أن هذه الضوابط كثيرة، وتحمل في طياتها التعجيز عن مشاركة المرأة في ميادين التنمية الاقتصادية العامة، وهذا حق فإن مخالفة الفطرة والشرع أمر عسير وشاق، يشبه محاولة توجيه النهر الجاري في غير اتجاهه، ومع هذا فقد يحتاج المجتمع، وقد تحتاج المرأة - في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية القائمة - إلى العمل خارج المنزل مع مخالفة شيء من هذه الضوابط ضمن حدِّ الضرورة الشرعية، والحاجة الاجتماعية الملحة، إلا أنه لابد أن يعرف أن الضرورة تُقدَّر بقدرها، وما أبيح لضرورة يزول بزوالها.
18ـ إسهامات الفتاة في التنمية الاقتصادية العائلية(2/79)
الحديث هنا ينصبُّ على دور الفتاة الإيجابي في مهام التنمية الاقتصادية العائلية التي يمكن أن تَطَوَّع بها ضمن نطاق العائلة، فتسهم بصورة جادة في تنمية ثروات الأسرة، وإنعاش اقتصادياتها من خلال ميادين الإنتاج العائلي المتاحة، التي كانت إلى عهد قريب -قبل الثورات الصناعية الحديثة- ولا تزال في بعض المجتمعات البسيطة: موارد اقتصادية رائجة؛ حيث تستغل العائلة كل طاقاتها البشرية المتاحة في العمل الإنتاجي المربح، الذي يُسهم في أدائه كل مستطيع من الذكور والإناث، كلٌ حسب قدرته، ودرجة كفاءته، ووقت تفرُّغه دون حرج اقتصادي، أو حرمان أبوي، فيستمتع الكل من خلال العمل الاقتصادي الجماعي بالمردود المالي الذي يشمل جميع المساهمين حسب بلائهم وحاجاتهم، في صورة رائعة من التكافل الأسري، والتعاون الجماعي المفعم بالنشاط والحركة.(2/80)
إن هذا الوضع الطبيعي للاقتصاد العائلي أخذ يتغير بصورة تدريجية تحت وطأة مبادئ الحرية المتجهة نحو الفردية الاقتصادية، كمذهب يعظم حق الفرد، ويقدمه على حق الجماعة، حيث استولت أنظمة الاقتصاد المعاصرة على أزمَّة وسائل الإنتاج، من خلال المؤسسات الاقتصادية الرسمية، والشركات الإنمائية المختلفة، فأخذت تتعامل مع المجتمع كأفراد مبتورين عن أصولهم القبلية، وانتماءاتهم الأسرية، في تجمعات بشرية مقهورة، مُنكرةً بذلك دور العائلة كوحدة اقتصادية منْتجة، واستبدلت - في الوقت نفسه- الدوائر الحكومية، وأنظمة النقابات العمَّالية لتكون بديلاً عن وشائج الروابط العائلية في حماية العامل، وبعث شعور الأمن الاقتصادي في نفسه، مما أسفر عن تمييز واضح، وفصل كامل بين نظام الأسرة ونظام العمل، حيث انقطعت العلاقة الاقتصادية بكل فعالياتها الإنتاجية بين المنزل والعمل، واندفعت الأسرة بكل أفرادها القادرين -تحت وطأة الحاجة- نحو مؤسسات العمل والإنتاج -الخاصة منها والعامة- خارج نطاق العائلة تطلب قوتها، وسداد عيشها، فضعفت بالتالي الرابطة العائلية والسلطة الأبوية، وقلَّ أو انعدم عطاء النساء التربوي، وارتفع سن الزواج، وظهر في المجتمع كثير من المضاعفات الأخلاقية، والعقلية، والنفسية التي لم تكن معروفة بهذا الاتساع في الفترات الزمنية الماضية.
إن المجتمعات المعاصرة لن تستطيع أن تتخلص من مشكلاتها التربوية، ومعاناتها الاجتماعية حتى تُعيد للعائلة الإنسانية شكلها الطبيعي، وتُلزم المرأة بدورها الأمومي؛ بحيث تبقى للأسرة وشائجها الأبوية وروابطها العائلية الممتدة، ضمن ظروف اقتصادية كريمة، تُغْني النساء عن ذلِّ الكسب خارج حدود الأسرة، وتسمح لهن -في الوقت نفسه- باستثمار طاقاتهن الفائضة في عمل اقتصادي منتج مأمون داخل نطاق العائلة في غير حرج.(2/81)
وتُصنَّف أنشطة العائلة الاقتصادية -خاصة النسائية منها- ضمن ما يُسمى بالمشروعات أو المنشآت أو الصناعات الصغيرة التي تقوم عادة على جهود أفراد قلائل، وأرصدة مالية منخفضة محدودة، يُقدَّر أعلاها في الولايات المتحدة بتسعة ملايين دولار، وفي المملكة العربية السعودية بخمسة ملايين ريال، ويحتل هذا النمط من المشروعات الاقتصادية الإنمائية جلَّ مشروعات العالم الاقتصادية، حتى إنه يمثل ما بين (90-97%) من المنشآت الاقتصادية الأمريكية، ويتيح للشعوب المعاصرة الحجم الأكبر من فرص العمل القائمة، ويدخل -كعنصر أساس- في دعم المشروعات الصناعية الكبرى من الباطن، وإلى جانب هذا فقد كانت ولا تزال المشروعات الصغيرة هي النواة الأولى لكل مشروع إنمائي كبير، وهي الأقدر على مواجهة احتياجات السوق المختلفة وتقلُّباتها المالية، حتى قيل في الأوساط الاقتصادية الأمريكية: "المشروع الصغير هو الأجمل"؛ ولهذا تلقى هذه المشاريع الصغيرة من دول العالم قاطبة -حسب حجم قدرتها- اهتماماً بالغاً، ودعماً كبيراً من جهة مساعدتها مالياً وتشجيعها معنوياً، ومن جهة تزويدها بالخبرات الاقتصادية، ولفْتها لميادين الاستثمار المتاحة.
ورغم هذا الاهتمام الاقتصادي من المجتمع الدولي بهذه المشروعات الإنمائية الصغيرة: لم تحظ العائلة -كوحدة اقتصادية منتجة- بشيء من هذا الاهتمام؛ بل تعامل المجتمع الاقتصادي معها كأفراد موزعين بين هذه المنشآت الاقتصادية المتنوعة دون رابطة اجتماعية: فتفتتت جهودها، وتبعثرت طاقاتها لصالح غيرها من أرباب العمل، الذين لا تربطهم بها أية صلة معنوية يمكن أن تلطِّف أسلوب التعامل، أو تخفف من وطأة حدة العمل، ولاشك أن النساء والفتيات العاملات هن أول عناصر الإنتاج خسارة في مثل هذه الأجواء الاقتصادية القاسية، التي لا تعترف بالفوارق البيولوجية والنفسية بين الجنسين، ولا تحترم مكانة الأنثى، ولا تراعي فيها واجب الأمومة، وحق الطفولة.(2/82)
19ـ دور الصناعات المنزلية في التنمية الاقتصادية
الصناعات المنزلية أقدم صناعات الإنسان التي رافقته عبر مراحل تطوره الاقتصادي، واستثمرت معه حتى ظهور أنظمة المصانع الحديثة، حيث "كانت تجري عمليات الصنع في منازل العمال، وكانت هذه العمليات تتم يدوياً في معظمها"، وقد شهد المجتمع المسلم -في الزمن الأول- ازدهار هذا النوع من الصناعات على أيدي النساء، وثبوت جدواها الاقتصادية، فقد شملت العديد من الصناعات مثل: الدباغة، والنسج، والغزل، والنقش، والصبغ، والخرازة، ونحوها من الصناعات المختلفة، وكانت المرأة المُتْقنة لصنعها من هؤلاء النساء، العارفة بأصولها تسمى: "صناع اليد: أي حاذقة ماهرة بعمل الأيدي".
وقد نجح هذا النوع من الصناعات في مساعدة النساء على الجمع بكفاءة بين مزاولة حرفهن الصناعية، وبين القيام بحق الزوج ومهام الأسرة؛ إذ لا يحق للزوج شرعاً أن يمنعها من مزاولة مهاراتها المباحة ما دامت تعمل ذلك في البيت، ولا تفوِّت حقاً له، بل لا يحق له أن يمنعها من إدارة تجارتها ما دامت تنطلق في إدارتها من بيتها، فقد أتاحت لها وسائل الاتصال الحديثة بأنواعها المختلفة فرص التعامل الاقتصادي بكل تفصيلاته من مكتب بيتها دون حرج، في حين تجد المرأة المعاصرة عنتاً شديداً في التوفيق بين دورها الأسري وبين عملها خارج نطاق منزلها؛ حيث يفرض عليها التصنيع والعمل الحديث أسساً جديدة تُغيِّر من وضعها الاجتماعي، فتنقل جهدها في عمليات التشغيل والإنتاج من المنزل إلى المصنع، وتُدخلها في حرج التعامل مع الرجال الأجانب.(2/83)
وقد مرَّ على الصناعات المنزلية في أوروبا وبعض بلاد الشرق الأقصى فترة سادت فيها الحرف العائلية، والإنتاج الأسري قبل ظهور الآلة الأوتوماتيكية وتطورها، فقد كانت منتجات الصناعات المنزلية تعمُّ الدنيا وفرة، وتفرض نفسها جودة، حتى إنه لم توجد صناعة من الصناعات -حتى الثقيلة منها والكبرى- إلا كان للمنزل والمرأة دور في إنتاجها بصورة كلية أو جزئية؛ بل حتى بعد ظهور التجمعات الصناعية في أوروبا -في أول الأمر- فقد بقي للأسرة المنتجة دورها التنافسي مع هذه التجمعات تارة، والتعاوني تارة أخرى، حتى برز دور الآلة في السرعة والإتقان، وقلَّة التكاليف المالية، وعدم الحاجة إلى الخبرة العمالية الكبيرة، وظهر معها أرباب العمل من دهاة الاقتصاد، من الإقطاعيين القدماء والرأسماليين الجدد، الذين سيطروا على وسائل الإنتاج من خلال إحكام تجارة السوق، ومصادر المواد الخام، إضافة إلى امتلاكهم الآلة المتطورة، ففرضوا على صُنَّاع المنازل -كلَّ قادر منهم- أن يعملوا تحت أيديهم كأجراء، ضمن تجمعات صناعية كبيرة بعيدة عن المنازل، تجمع أخلاطاً من الناس: ذكوراً وإناثاً، وكباراً وصغاراً، ليس بينهم رابطة اجتماعية سوى العمل، فرغم ما حققته هذه النقلة الصناعية الحديثة -من المنزل إلى المصنع ومن اليد إلى الآلة- فقد خسرت في الجانب الإنساني أضعاف ما ربحته في الجانب المادي؛ حيث أضعفت من دور المنزل اقتصادياً، وشلَّته تربوياً، وعطَّلت طاقات بشرية كان يمكن أن تسهم في التنمية من خلال البيوت، وكرَّست الجميع لخدمة مصالح فئات قليلة من المحتكرين الاقتصاديين الذين مارسوا في سبيل جمع المال أشد وأبشع أنواع الظلم والخسف بالعمال، مع ما أحدثته الآلة المتطورة من سلب خبرات الصنَّاع، وإرهاقهم نفسياً بالعمل الروتيني السلبي الذي لا يجد فيه الصانع الماهر ثمار خبرته.(2/84)
إن هذا الوضع الاقتصادي المأساوي لا يتناسب مع نظام الإسلام الاقتصادي الذي يحترم الإنسان، ويقدر جهده ضمن مناشط التنمية المختلفة، ويحميه نفسياً وخلقياً من كل ما يؤذيه، ولاسيما المرأة بطبيعتها الخاصة ودورها الاجتماعي الذي لا يتحمل قسوة العمل خارج المنزل؛ ولهذا يختفي ذكر دور النساء عند الحديث عن الصناعات الخارجية في التاريخ الإسلامي؛ لكونه أداء لا يناسب طبائع الإناث.
ومن هنا كان من الضروري إحياء الصناعات المنزلية وتطويرها لضمان مشاركة الفتاة وأعضاء الأسرة بصورة صحيحة في التنمية الاقتصادية الشاملة ابتداء من الصناعات اليدوية المألوفة الثابتة الجدوى: كالخياطة، والتطريز، والنسج، والجلود، وصناعة الفخار، والخزف، والزخارف ونحوها، ومروراً بالصناعات الغذائية الناجحة: كتعليب التمور، وحفظ الخضروات، وتمليح السمك، وتجفيف الفواكه، وعمل المخللات والمربيات وغيرها، وانتهاء بالصناعات التجميعية الحديثة لقطع الأجهزة الصغيرة، وشيء من أعمال الصيانة والإصلاح الآلي، وإنتاج قطع الغيار البديلة، التي أثبتت في الجملة جدواها الاقتصادية في الدول النامية أمام العديد من الصناعات الكبيرة ذات التقنيات العالية، مع ضرورة الاستفادة القصوى من فرص العمل المتاحة عبر شبكات الحاسب الآلي، والإنترنت التي تسمح للفتاة بالمشاركة الإنتاجية ضمن مكتب منزلها دون حرج، حيث تُتيح هذه الطريقة الحديثة في الولايات المتحدة وحدها أكثر من (40) مليون فرصة عمل.(2/85)
ولعل من أهم وسائل إحياء هذه الصناعات: دعم الاقتصاد الأسري مادياً بالمساعدات المالية، والقروض الحسنة، ومعنوياً بالخبرات الاقتصادية في دراسات الجدوى، واقتراح المشروعات الاستثمارية الآمنة الصغيرة والمتوسطة، التي تناسب وسائل الإنتاج العائلي، مع نقل بعض الحرف الخارجية إلى المنزل، والعمل على تطويرها فنياً لتناسب طبيعة العمل الداخلي، وتخرج عن طابعها التقليدي المتواضع ليصبح إنتاجها في حجم اقتصادي منافس، بحيث تُكيَّف بعض التقنيات الحديثة لاحتياجات المشروعات الصغيرة من خلال تطوير الآلة المنزلية تقنياً لتلبي بصورة سريعة ومتقنة حاجات السوق الاستهلاكية، وتعود في الوقت نفسه على الفتاة الصانعة وأسرتها بالوفرة المالية.
وهذا المقترح التقني لا ينبغي استهجانه؛ فإن التطور الآلي محكوم إلى حد كبير بالحاجة الإنسانية، والمعرفة التقنية باب واسع لا حدود له، فما قد يكون اليوم خيالاً قد يكون في القريب واقعاً حياً؛ ففي أوروبا رغم انتشار مصانع النسيج في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي بقيت صناعات الغزل المنزلية مزدهرة ومنافسة بسبب تطوير أحد العلماء لآلة الغزل المنزلية، فالآلة جوهر العمليات الصناعية الحديثة، فلا يستنكر في سبيل التنمية الاقتصادية، وحاجات الأسرة المسلمة، وطبيعة الفتاة ودورها الاجتماعي أن تُدعم بحوث تطوير الآلة المنزلية المنتجة، ودعمها بشيء من التقنية الحديثة البسيطة، مع تسهيل سبل نقل المواد الخام، وأعمال التسويق، وطرق التدريب الذاتية المُيسرة؛ لتصب كلها في خدمة المشروعات الصغيرة التي يقوم عليها اليوم الاقتصادي العالمي، وتدخل في جوهر التنمية الصناعية الشاملة؛ ولتكون النواة الضرورية اللازمة لمشروعات استثمارية كبيرة.(2/86)
وقد أثبت الواقع الاقتصادي القائم جدوى المشروعات الصناعية الصغيرة، التي تقل فيها التكاليف المالية، وتستوعب العدد الأكبر من الأيدي العاملة، حيث يتوجه العالم الصناعي نحوها بقوة؛ فإن (50%) من الإنتاج الصناعي الياباني تقوم به شركات صغيرة، تستوعب (75%) من العمالة اليابانية، حيث يشترك كثير من النساء اليابانيات من منازلهن في أعمال هذه الشركات وصناعاتها المتنوعة، وتدعم خطة تايوان الاقتصادية المشاريع الصناعية الصغيرة بقوة، في الوقت الذي تسعى فيه للتخفيف من التكتلات الصناعية الكبيرة، وتحاول بعض دول الخليج السير في هذا الاتجاه، حيث تمثل المنشآت الصناعية الصغيرة (84%) من مجمل المنشآت العاملة في القطاع الكويتي حتى عام 1995م، وهذه - كما تظهر- وجهة عالمية، أثبتت جدواها الاقتصادية، ومن جهة أخرى تستغل هذه المشروعات الصناعية الصغيرة كل طاقات الأسرة، وتسد حاجاتها الاقتصادية، وتشغل فراغ فتياتها، وتهيء لهن الظروف الاجتماعية الملائمة للقيام بأدوارهن التربوية بصورة جادة دون حرج خلقي، أو حرمان أبوي.
20ـ دور الأسرة الممتدة في التنمية الاقتصادية العائلية(2/87)
الأسرة الممتدة، أو العائلة الممتدة هي العائلة التي تضم ضمن نطاقها الأسري أكثر من جيلين من الأبناء، تربط بينهم علاقات اجتماعية حميمة، وتصورات فكرية متشابهة، ومصالح اقتصادية حيوية مشتركة، وهي نمطٌ اجتماعي كان إلى عهد قريب مصدر الفرد الثقافي -ذكراً كان أو أنثى- ومورده المالي، ودليل صحته العامة، وملاذه النفسي والروحي، وذلك عندما كانت العائلة وحدة إنتاج واستهلاك، وسلطة اجتماعية في وقت واحد، حين كان الجميع بما فيهم الفتيات يعملون لصالح الأسرة، وفي سبيل خدمتها وتنمية ثرواتها، بحيث تبقى الفتاة في هذا الوسط الاجتماعي الفاعل مكفولة اقتصادياً، تُنتج وتستهلك في الوقت نفسه، متحررة من العبودية المقيتة لأرباب العمل الأجانب، ثم لم يلبث هذا الوضع العائلي طويلاً بعد الثورة الصناعية الغربية وآثارها العالمية حتى تفتَّت إلى أسر صغيرة نووية الحجم، مفككة الأجزاء، متباينة المفاهيم، يختلف أفرادها في كل شيء من جليل الأمر وحقيره، ليس بينهم روابط اجتماعية أو اقتصادية يخشون زوالها.(2/88)
وبناء على هذا لم تعد العائلة الأم ملْهمة الفرد التربوية، حين تولت المدرسة هذه المهمة، ولم تعد ملاذ الفرد الصحي حين تولت المصحات هذه المسؤولية، ولم تعد ملجأ المسنين حين تولت الملاجئ هذه الرعاية، ثم هي فوق ذلك لم تعد مورد الفرد الاقتصادي حينما اغتصبت منها المؤسسات الخارجية وسائل التنمية والإنتاج، فلم تعد أكثر من أداة مضطربة للإنجاب، تتنازعها مخاوف الانفجار السكاني، وتعوقها موانع الحمل في جو ملوَّث بالشبهات والشهوات، بعد أن أصبح الولد عبثاً اقتصادياً معطلاً في حين كان ضمن العائلة الممتدة عنصراً مهماً للإنتاج والتنمية، وأصبح في الجانب الاجتماعي مشكلة نفسية وخلقية حين فقد تكرار نماذج الوالدين في شخصيات أخرى من أعضاء الأسرة الممتدة، وكانت الفتاة هي الخاسر الأكبر في كل هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي انتابت العائلة الممتدة حين اضطرت أن تقوم بنفسها بعد أن تخلى عنها الجميع، حتى أصبحت العلاقة واضحة بين الأسر النووية الحجم والفتيات العاملات خارج البيوت.(2/89)
إن هذا الوضع المجذوم للشكل العائلي لا يمكن إصلاحه بصورة صحيحة إلا من خلال إعادة بناء مفاهيم القبيلة والجماعة والقرابة على مبادئ: صلة الرحم، والتعاون الجماعي، والتكافل الاجتماعي التي جاء بها الإسلام، بحيث تُفرَّغ هذه المفاهيم الوشائجية من نوازعها الجاهلية، وبواعثها العِمِّيَّة -كما حصل في الزمن الأول- لتبقى ضمن مفهوم "العاقلة"، الذي يقوم على مبدأ التكافل الاقتصادي في نظام التشريع الجنائي الإسلامي، ومن ثم تقوم بين أفراد العائلة الواحدة المتكاتفة بواعث التعاون الاقتصادي الذي ندب إليه الإسلام، والذي تفرضه طبيعة التجمع القرابي، فتقوم بينهم مشروعات استثمارية صغيرة، بجهود ذاتية متواضعة، يشترك في بنائها الجميع الذكور والإناث بالتمويل والعمل، كلٌ حسب قدرته، ودرجة كفاءته، فتستغنى الأسرة بإنتاجها الاقتصادي، وتستغل طاقاتها المتاحة، وتمنح شبابها العاطل فرصاً للعمل، وتحفظ فتياتها من ذلِّ الضرب في الأرض، مع إسهامها -غير المباشر- في اقتصاديات البلاد العامة.
وقد شهد الواقع العملي بالجدوى الاقتصادية لمثل هذه المبادرات التنموية المتواضعة؛ فإن العديد من المشاريع الصناعية المعاصرة تقوم على جهود بضعة من العمال، وميزانيات مالية صغيرة لا ترهق الفئام من أبناء الأسرة الممتدة، وقد أوضحت الإحصائيات أن (60%) من النساء العاملات في اليابان إنما يعملن في مشروعات صغيرة خاصة بالأسرة، وتحقق إحداهن مع باقي الشعب إدخاراً مالياً يصل إلى (21%) من دخلها العام، مما يجعل لهذه المشروعات إيجابية كبيرة في بناء اقتصاد الأسرة الممتدة، ويتيح للفتاة فرصاً استثمارية ناجحة من جهة، ومأمونة من جهة أخرى.
21ـ الدور الأخلاقي والاقتصادي لتوطين عائلة الفتاة الريفية(2/90)
تظهر أهمية التنمية الاقتصادية الأسرية في استقرار عائلة الفتاة الريفية وتوطينها، بحيث لا تضطر تحت وطأة الحاجة الاقتصادية وضعف الخدمات العامة في الريف للنزوح إلى المدن، فإن المدينة العصرية مع ما تتصف به من بريق الحضارة، وتتمتع به من الوفرة المالية، والخدمات المدنية، وفرص العمل: فإنها تتسم -في كثير من الأحوال- بالضعف الأخلاقي العام، وصراع القيم والمعايير، وكثرة الحركة والاضطراب، وتأخر سن الزواج، إلى جانب عوامل أخرى لا تتناسب وطبيعة نشأة الفتاة الريفية؛ حيث تهيء لها المدينة بصخبها ظروفاً أكثر للانحراف من حيث التفاوت المالي بين النازحين الريفيين وأبناء المدن، وتشتت كيان الأسرة الريفية، والتكدس الشعبي على هوامش المدن الحضارية، ووفرة فرص تعاطي المخدرات،والسلوك الإجرامي، واحتراف البغاء؛ فإن غالب البغايا يأتين من الأرياف تحت وطأة الحاجة والفقر؛ فإن العلاقة قوية بين الفقر واحتراف البغاء، والمتاجرة بالنساء -على قدمها- فإنها اليوم في المجتمعات المتحضرة أوسع ما تكون؛ لذا فإن "الهجرة لا تعني الانتقال من القرى والبادية، أو مجرد تغيير في الإقامة أو الحركة من منطقة إلى أخرى؛ بل تنطوي على أبعاد أكثر أهمية، إلى تغيير شامل للحياة، وارتباطات جديدة للمهاجر في المجتمع الجديد".
هذا إلى جانب ما يسببه هذا الزحف الريفي من تضخم لحجم المدن، واستنزاف شديد لطاقاتها المحدودة من الخدمات العامة، دون مردود اقتصادي إيجابي من أبناء الريف العاطلين، الذين يسهمون بصورة غير مباشرة في تنامي مشكلة الفراغ، التي تزداد حدَّتها مع زيادة معدلات الهجرة الريفية، ولهذا كانت بريطانيا في السابق حريصة في بعض فترات الكساد الاقتصادي: على تشجيع عودة النازحين إلى قراهم الريفية حفاظاً على أمن المدن واستقرارها من فوضى العاطلين الريفيين.(2/91)
والعجيب أنه مع هذه السلبيات الأخلاقية والاقتصادية الكبيرة للمدن الحضارية المعاصرة: يبقى الريف الطبيعي على فطرته بعيداً إلى حد كبير عن هذه المظاهر الانحرافية، والأزمات السلوكية؛ فوقت الفراغ الذي يشكو منه أبناء المدن يكاد ينعدم عند الفتاة الريفية، ومشكلة العنوسة وتأخر سن الزواج لا تعرفهما الأسرة الريفية، وأزمتا المخدرات، وجُناح الأحداث تقلان بصورة مطردة كلَّما قلَّ عدد السكان، وقربت مساكنهم من القرى والأرياف، إلى جانب رسوخ العادات والتقاليد في المجتمع الريفي، واستقرار الأسرة في صور من التكتلات المتماسكة المترابطة، التي تشيع بين أفرادها مظاهر التعاون الاقتصادي، الذي يُسهم فيه النساء والفتيات بفعالية كبيرة؛ حتى إن إنتاجهن الغذائي يُقدَّر بخمسين في المائة من إنتاج العالم، وربما وصل في إفريقيا وحدها إلى (90%) ويستمتعن -في بعض المناطق- بملكية ربع الأراضي تقريبا، وأقل ما يمكن أن تعمله الفتاة الريفية الساذجة لتبقى ضمن عناصر الإنتاج: أن ترعى الماشية كما هو معلوم عند الريفيين العرب، فالفتاة في الريف منتجة في كل أحوالها، ولم تعرف السلبية الاقتصادية إلا بعد انتقالها إلى المدينة، وامتهانها العمل المؤسسي.(2/92)
إن السبب الرئيس في بروز ظاهرة الهجرة الريفية الحديثة هو المشكلة الاقتصادية، في عدم توزيع الثروة والمشاريع والبرامج التنموية بصورة عادلة بين المناطق، مما أسهم بقوة في تخلف الريف، وازدهار المدن، حيث الثروة المالية والنهضة الصناعية التي عمَّت المناطق الحضرية، وأغرت الريفيين بفرص العمل والمدخول الجيد، وحاربتهم في الوقت نفسه بتطور الآلة الزراعية التي أغنت عن كثير من العمالة الريفية، ولما كان أهل الريف أكثر الفئات الاجتماعية تضرراً بالبطالة: قامت الهجرات الجماعية نحو المدن، مخلِّفة وراءها من لا يستطيع السفر من العاجزين وكبار السن وغالب النساء، حتى إن حجم النازحين يشكل في العالم الثالث ما بين 30-55% من سكان بعض المدن الحضرية، يبحثون في المدن وعلى هوامشها عن قوتهم وقوت أولادهم ونسائهم، فكان نصيب الفتاة الريفية النازحة - في الغالب- أحقر الأعمال وأكثرها إرهاقاً وتعرضاً للفتن، مما جعلها في كثير من الأحيان موضعاً رخيصاً للاتجار الجسدي.
إن توطين العائلة الريفية -والحالة هذه- ليست مسألة اختيارية إذا عُلم أن غالب سكان العالم يقطنون الأرياف، منهم (80%) من سكان البلاد النامية، حيث تمثل المرأة العربية الريفية (70%) من مجموع نساء البلاد العربية المسلمة، مما يجعل مسالة التوطين الريفي بالنسبة للنساء والفتيات على الخصوص قضية حيوية في غاية الأهمية.(2/93)
ثم إن السعي الجاد في توطين العائلة الريفية لا يتحمل التأجيل؛ فإن النزوح من الأرياف نحو المدن ظاهرة عالمية عنيفة وسريعة، تنذر _ إذا استمرت - بخلو الأرياف من أهلها، وحصول أزمات عامة في المدن الحضرية يصعب حلها والسيطرة عليها، فعلى الرغم من أن الإحصائيات في الماضي تشير إلى أن أغلب الناس -لاسيما النساء- يحيون في الأرياف، فإن تقارير عام 1990م تشير إلى تدني نسبة سكان الأرياف إلى 57% من مجموع السكان، وأما تقارير عام 2000م فتشير إلى أن 31% فقط من سكان الدول العربية يسكنون الأرياف، وهذه لا شك ظاهرة حضرية خطيرة، تنذر بخلل في التركيب البشري بين المدن والأرياف،وما قد يترتب على هذا الخلل من أزمات: اجتماعية وأخلاقية واقتصادية عنيفة.(2/94)
وعلى الرغم من ميل الفتيات النازحات نحو الاستقرار في المدن، وعدم رغبتهن مطلقاً في العودة إلى أريافهن التي نشأن فيها، فإن سياسة توطين الفتاة الريفية تبدأ بتعديل مفاهيم التحضير في أذهانهن من كونها مجرد انتقال من الريف إلى المدينة، أو انخراط متكلَّف في سوق العمل، أو بروز مشين في الحياة العامة: إلى كون التحضير تغييراً إيجابيا في التفكير والسلوك، والاتجاهات المتعلقة بالعمل والإنتاج؛ بحيث تصبح الفتاة عضواً منتجاً في كل أحوالها حيثما كانت، ومن ثمَّ دعم عائلتها بأسباب الاستقرار في الريف من خلال: توفير الخدمات العامة، وفتح مجالات استثمار صناعية تتناسب مع طبيعة الحياة الريفية، مع دعم مجالات الاستثمار المحلية كالإنتاج الحيواني، والاستثمار الزراعي على الطريقة النبوية في إحياء الأراضي وتمليكها وتوزيع المياه، بحيث تُستغل الأراضي الصالحة والطاقات البشرية المتاحة كأقوى ما يكون، فلا يُسمح بالاحتكار لأحد من الناس دون استثمار، مع ضرورة استخدام الإدارة اللامركزية لدعم سلطات الريف المحلية لتستقل بعض الشيء بقراراتها عن سلطة المدينة، فتتهيأ للعائلة الريفية من جملة هذه الوسائل أسباب الاستقرار في الموطن الأصلي دون حرج الانتقال إلى المدن، ومعاناة مشكلات الهجرة الاقتصادية والأخلاقية.
وقد صدر عن ندوة الخبراء المنعقدة عام 1415هـ بطهران، حول دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي: التوصية بما يدعم هذه الوجهة ويؤيدها، فقد جاءت عن الندوة التوصية التالية: "التركيز الصحيح على المهم للمرأة الريفية في الإنتاج والتنمية، وتسهيل حصولهن على الموارد الضرورية من بينها الأرض والقروض، والأسعار المؤمنة والتسويق، ودعم روابط وجماعات المرأة الريفية والحضرية باعتبارها آليات لتقدمهن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي".
22ـ مجال الفتاة التنموي في الثروة الزراعية(2/95)
يأتي دور الفتاة في ميدان التنمية الزراعية وما يلحق بها من الاستثمار في الحيوانات الداجنة في المرتبة الثالثة بعد الخدمة الأسرية والصناعة المنزلية؛ إذ لا يُتاح هذا الميدان عادة لغير فتيات الريف، ومع ذلك فإن ميدان الزراعة بالنسبة لعدد الفتيات اللاتي يمكنهن مزاولتها في غاية الأهمية، إذ إن (70%) من النساء العربيات يسكن الريف الإسلامي، بل إن غالب الناس -إلى عهد قريب جداً- لاسيما في الدول النامية يعيشون في الأرياف، ومن هنا تأتي أهمية هذا النوع من ميادين التنمية الاقتصادية للفتاة المسلمة وللأسرة عموماً.
ولقد اهتم نظام الإسلام الاقتصادي بالتنمية الزراعية غاية الاهتمام فجعلها من أفضل أنواع المكاسب والحرف، ومن أحب مجالات الإنفاق المالي، وباباً من أبواب الأجر والثواب، ووسيلة مشروعة لامتلاك الأرض، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحث عليها ويقول لأصحابه:(من كانت له أرض فليزرعها، أو ليمنحها أخاه..), وفي الجانب الآخر هدَّد المفرطين والمهملين فجعل قطع الشجرة النافعة جريمة يُعاقب عليها فاعلها يوم القيامة.
ولقد دفع هذا التوجيه النبوي المجتمع المسلم للاهتمام بالثروة الزراعية، وإحياء الأراضي من حيث: إجراء المياه، وإصلاح الأرض، وتوفير الأيدي العاملة، وإعطاء المُزارع حرية أكبر في نشاطه الاستثماري، ودعمه بالقروض الحسنة، وإسقاط الخراج عنه زمن الأزمات، ونحو ذلك من أسباب الدعم حتى يكون عطاؤه أكبر ونشاطه أوفر، وقد كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لأحد عماله يقول: "ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً".(2/96)
ولقد أسفر هذا الاهتمام البالغ أن أصبح الريف الإسلامي قوام الحياة الاقتصادية للأمة، وأوسع ميادين نشاطها الاقتصادي، ومازال كذلك عبر التاريخ الإسلامي، حتى إنه - إلى عهد قريب- كان يستوعب جلَّ الأيدي العاملة المسلمة، ويسمح لهم -أفضل من أي ميدان آخر- بامتلاك المساكن والأراضي، حتى إن ربع الأراضي الزراعية في بعض أرياف المسلمين تعود ملكيتها إلى النساء، والعالم الإسلامي يتصف "إجمالاً بارتفاع نسبة العاملين في النشاط الريفي من رعوي وزراعي"، حيث يسهم فيه ضعفاء المجتمع، من الأطفال والنساء والمسنين؛ لكونه قطاعاً لا يتطلب مشقة كبيرة، إلا أن إنتاجيَّته اليوم، وتلبيته لحاجات المجتمع الاستهلاكية أضعف بكثير مما كانت عليه في السابق، حتى إن دخل المُزارع الأمريكي يفوق مثيله الأندونيسي بعشرين ضعفاً، وهذا يرجع إلى مفاسد دينية، وسياسية، وإدارية أكثر بكثير من رجوعه إلى مشكلة الأراضي أو الأيدي العاملة، ومع ذلك "يعتبر القطاع الزراعي في الدول العربية من القطاعات الرئيسة التي تسهم في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، وعلاوة على ذلك فإنه يعتبر رافداً مهماً للصناعات الغذائية المرتبطة بالإنتاج الزراعي، كما يوفر هذا القطاع فرص عمل لعدد كبير من العمالة العربية، ويشكِّل مصدراً رئيساً لدخل قطاع عريض من سكان الدول العربية"، وإضافة إلى كل هذا تبقى الزراعة وسيلة الأمة المستضعفة للاستغناء عن غيرها، وتأمين غذائها؛ فإن الفقراء ينفقون ما بين (50-70%) من مدخولهم على الغذاء.(2/97)
ورغم هذا الخلل الاقتصادي الذي يعانيه قطاع الزراعة في الوطن الإسلامي، فإن المجتمع الزراعي - مع ذلك- مجتمع تربوي من الدرجة الأولى، يبرز فيه عمل الفتاة المنتجة اقتصادياً دون حرج، ويكتمل فيه دورها التربوي دون تعارض بين العمل في الحقل العائلي المحلي وبين الرعاية الأسرية، ويظهر فيه إٍسهامها التناسلي في ارتفاع نسبة خصوبتها لتماثل مستويات الفتيات غير العاملات من ساكنات المدن، مما يدل على أن النشاط الزراعي لا يتعارض مع مسؤولية الفتاة في خدمة النوع ورعاية النسل.
ومن هنا ارتبطت الزراعة بالمرأة منذ فجر التاريخ الإنساني، حتى نُسب إليها مبدأ اكتشافها، وما زالت كذلك عبر التاريخ الإسلامي تتعاطاها عملاً وإنتاجاً ومعرفة، دون حرج اجتماعي أو خلقي يفوِّت عليها أمراً في دينها أو دنياها، وقد أطبقت الدراسات الاقتصادية الحديثة على أن القطاع الزراعي بميادينه المختلفة -البدائية والمتطورة، العلمية والعملية- يستوعب جلَّ أيدي النساء العاملات في البلاد الإسلامية، ويستغل غالب إسهاماتهن التنموية،مما يجعل من هذا القطاع ميداناً مهماً للنهوض باقتصاديات الفتاة المسلمة وأسرتها، ومن ثم إنعاش الاقتصاد القومي العام، مما يتطلب بالتالي دعماً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً عاماً لهذا القطاع الحيوي المهم.(2/98)
وهذا الدعم المطلوب للقطاع الزراعي في البلاد الإسلامية النامية ليس قضية اختيار اقتصادي خاضع للرد أو القبول، إنما هو شرط ضروري للتنمية الشاملة التي تقوم قواعدها -قبل كل شيء- على أسس متينة من النهضة الزراعية؛ فإن التفوق الزراعي يسبق عادة التقدم الصناعي؛ فعالم الغرب -في نهضته الحديثة- كرَّس أعظم جهوده في التنمية الزراعية؛ لتكون قاعدة صلبة لتقدمه الصناعي، حتى إن الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن العشرين الميلادي استغلت (90%) من القوى العاملة -ذكوراً وإناثاً- في مشاريع التنمية الزراعية، وما زالت دول الغرب واليابان وكوريا حتى اليوم تهتم بالزراعة وتنميتها لتبقى مصدراً للثروة المالية والهيمنة الاقتصادية، تسبق وترافق النهضة الصناعية الحديثة لهذه الدول وتؤسس لها، وكأن الثروة الزراعية هي الأساس في صلاح الدنيا وعمارتها، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل في أمر من الأمور: "أنتم أعلم بأمر دنياكم": إلا في شأن الزراعة، فهي من أهم أمر صلاح الدنيا.
وعلى الرغم من التوجه المفرط نحو الصناعة الذي يتبناه بعضهم، مع الاعتقاد بعدم جدوى القطاع الزراعي في النهوض بالأمة الإسلامية اقتصادياً، فإن التوجه نحو التصنيع في الدول الإسلامية لا يقلل "من أهمية الزراعة كأساس لاقتصادها القومي؛ بل إن أهميتها تتزايد باستمرار تبعاً لتزايد السكان وتزايد الطلب على الغذاء وعلى كثير من المحاصيل الزراعية، وحتى مع التسليم بأهمية التطور الصناعي، وضرورته للبلاد الإسلامية، فإن من الواجب ألا يكون هذا التطور على حساب التنمية الزراعية، بل يجب أن يسير الاثنان جنباً إلى جنب".(2/99)
ومن هنا كان من اللازم اتخاذ التدابير العلمية اللازمة لدعم هذا القطاع الحيوي المهم وتطويره: بتوفير المياه، وإصلاح الأرض، ودعم العمالة -ذكوراً وإناثاً- مع تزويدهم بالخبرات الحديثة اللازمة، إلى جانب توزيع الأراضي بصورة عادلة،بحيث يكون للنساء والفتيات في هذا التوزيع نصيب كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع إشراكهن بصورة عامة في امتلاك الأراضي عن طريق إحيائها حسب النهج النبوي في هذا الشأن، بحيث ينطلق هذا الدعم من مفهوم التنمية الزراعية المستدامة، التي تتضمن تلبية حاجات الإنسان بصورة مستمرة دائمة دون إضرار به، أو بالبيئة من حوله، مما يؤدي بالتالي إلى الاستقرار الذي تتطلبه التنمية الزراعية وتؤدي إليه، بحيث تتوطَّن أسرة الفتاة الريفية في موقعها تعمل وتنتج، فلا تضطر إلى معاناة أزمة الانتقال إلى المدن الحضارية بحثاً عن موارد اقتصادية أوسع.
23ـ الجانب الأخلاقي في عمل الفتاة المنزلي
إن من أهم الفوائد التي تعكسها التنمية الاقتصادية العائلية: ربط عمل الفتاة وإنتاجها بالبيت، حيث الأمان الخلقي، والاستقرار النفسي اللذان تنشدهما الفتاة فطرياً بصورة ملحة، حتى وإن قامت بالمهن والوظائف العامة فإن حنينها للبيت، وسعادتها النفسية به لا يقوم له شيء مما هو خارج عنه مهما كان جليلاً، وهو على أقل تقدير نهاية مطاف المرأة العاملة على كل حال، كما يراه المتزوجون من الجنسين.(2/100)
وقد دلَّ العديد من الدراسات -العربية والأجنبية- على وجود نفرة فطرية في نفوس الإناث نحو كثير من متغيرات الحياة العامة المألوفة خارج البيت: كالازدحام في الأسواق، ودخول الأماكن المغلقة، والسفر، والصحراء، والأماكن البعيدة، والسير بالليل، والجلوس في الشوارع، والبرق والرعد، في حين أنهن أكثر قبولاً للوحدة المنزلية، وأكبر تكيفاً معها من الذكور، الذين يتفوقون عليهن بصورة كبيرة في تعاملهم مع المتغيرات الخارجية: الجغرافية، والمساحية، والميكانيكية، والعجيب أن هذا الاختلاف في التوجه الفطري يلازم الجنسين حتى في الرؤى والأحلام: فتنطبع رؤى الذكور بمتغيرات المحيط الخارجي، وتعكس رؤى الإناث الجو العائلي، والمحيط المنزلي.
ولقد استقر عبر أطوار التاريخ الإنساني الطويل، ومروراً بالحضارة الغربية المعاصرة، التي فتحت آفاق العمل للمرأة بغير حدود: أن الرجل لم يزل عماد الحياة الاقتصادية العامة، وهذا استجابة منه لنداء الفطرة في تكوينه الجسمي، الذي جعله أكثر تفرغاً واستعداداً للعمل الخارجي، في حين كان للفطرة دورها في ارتباط المرأة بالبيت، لما يعتريها من الدورات الفسيولوجية الطبيعية، وما أنيط بها من أدوار أسرية ضرورية في الإنجاب، ورعاية النسل، فهي مهيأة بالفطرة للقيام بالأدوار والأعمال الداخلية، والرجل مهيأ بالفطرة للقيام بالأدوار والأعمال الخارجية.(2/101)
وقد أكَّد هذا التوجه العديد من الخبراء وروَّاد البحث الميداني -المحلي والعالمي- الذين صرَّحوا بصورة قاطعة: أن البيت أنسب ميادين الفتاة، فما أن تتجاوز إحداهن مرحلة البلوغ حتى تصبح أكثر تقبلاً للوحدة، ويقل عندها الخوف والاكتئاب، وتتوجه نحو الاستفادة بصورة إيجابية من وحدتها وفراغها، فلا يكون البيت بالنسبة لها أزمة اجتماعية أو مشكلة نفسية، لما يدعمها من رصيد الفطرة الأنثوية، ومع كل هذا فلا يزال الصراع في هذه القضية قائماً في هذا الجيل، تتنازعه فئات من الناس، ولا يمكن حسْمُهُ إلا من جهتين:(2/102)
الأولى شرعية: من حيث التوجُّه الديني الواضح في ربط الإناث الحرائر بالبيوت، ولفت أنظارهن واهتماماتهن إليها، وقطع صلاتهن بالخارج إلا من حاجة؛ بحيث يمكن لإحداهن أن تبلغ أعلى درجات الكمال الروحي والخلقي وهي في قعر بيتها، ولهذا كان فقيه الصحابة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - "يُخرج النساء من المسجد يوم الجمعة"، رغم أنه قد أذن لهن في المساجد، وما هذا إلا لكون البيوت أسلم وآمن، وأقرب إلى الله بالنسبة للنساء، بل إن الرجل في بعض الأحوال مأمور بلزوم البيت إلا عن ضرورة أو واجب، فقد سأل عقبة بن عامر - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:(يا رسول الله ما النجاة؟ قال: أمسك عليك لسانك، ولْيسَعْك بيتُك، وابْك على خطيئتك), قال الطيبي في شرح هذا الحديث: "أي تعرض لما هو سبب للزوم البيت، من الانشغال بالله، والمؤانسة بطاعته، والخلوة عن الأغيار"، فإذا كان الرجل مأموراً بلزوم بيته، ولاسيما زمن كثرة الفتن والمفاسد الاجتماعية، فكيف بحال المرأة التي نُدبت للزوم البيت في أفضل الأزمنة وأحسنها؟ حين كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحث النساء على الصلاة في بيوتهن، ويقول: "… بيوتهن خيرٌ لهن"، فلا شك أنهن أولى بلزوم البيوت من الرجال، ولعل من ألطف ما يُنقل من صور التشبيه بين عالم الإنسان وعالم الحيوان: ما قاله الزبيدي: "أخذ على النساء ما أخذ على الحيات أن يحتجزن في بيوتهن"، ومن هنا فلا يُحمد خروج المرأة في حال من الأحوال حتى في أطهر المجتمعات، إلا في حدود الرخصة الشرعية، وضمن حالات استثنائية، بما لا يخل بوظيفتها الأصلية، وبما لا يهدم القاعدة الرئيسة في نظام الاجتماع الإسلامي الذي يربط عمل الفتاة بالبيت؛ ولهذا لا يجب على المرأة معونة زوجها في الخدمة خارج بيتها إجماعاً، ولو مُكِّن النساء العاملات من ممارسة أعمالهن من داخل البيوت لما اخترن الخروج، ففي ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة(2/103)
الأمريكية يعمل (25%) من النساء عن طريق منازلهن، عبر فرص العمل التي تتيحها شبكات الحاسب الآلي.
الثانية واقعية: من حيث الارتباط الوثيق بين خروج الفتيات وانتهاك الأعراض، فقد أصبح في كثير من البلاد: مجرَّد الخروج من حصن البيت - ولو كان لغرض شريف- فرصة للاقتناص دون تمييز كبير بين المناطق العامرة بالحركة، أو المناطق المعزولة؛ بحيث تُقدَّر حدَّة الخطر على شخص الفتاة بقدر بعدها عن المنزل، فقد يكون مجرد زمن انتقالها من البيت إلى المدرسة، أو حتى إلى المسجد فرصة للجريمة، فإن الإحصائيات العالمية المسجلة حول العنف والاغتصاب الموجه نحو النساء شيء مذهل، هذا ما عدا ما يمكن أن يستهويها خارج البيت من ملذات الحياة العامة وانحرافاتها، التي يمكن أن تنساق نحوها بطواعية.
إن المتأمل يجد أن السبب الرئيس في زهد كثير من الفتيات في المكوث في البيوت، ورغبتهن الجامحة في الخروج، لمجرد الخروج: هو ضعف جاذبية المنزل الحديث، الذي لم يعد في هذه العصور المتأخرة مكاناً مناسباً لقضاء الوقت، بعد أن ضاقت على الناس بيوتهم، وتكدَّست فيها أجسادهم، وحُبسوا في صناديق خرسانية يعلو بعضها بعضاً، حتى استلطفوا الشوارع والمقاهي والمنتزهات والأرياف، يعوِّضون بها ما فاتهم في بيوتهم من الأنس بالطبيعة الفطرية، والانطلاقة البدنية، حتى إن مجرد التنقل من مكان إلى آخر أصبح هدفاً في حد ذاته لكثير من الناس.(2/104)
ولقد تجاوزت عبقرية العمارة الإسلامية في تاريخها السابق هذه المشكلة في التخطيط العمراني حيث كان نظام التوسع الإنشائي أفقياً وليس رأسياً، فقد كان البيت من دور أو دورين على الأكثر، في وسطه فناء زراعي مفتوح إلى السماء يتوسط الغرف السكنية، ويسمح للجميع بالحركة، واستعذاب الماء، فلا يجد النساء والفتيات ضيقاً من المكوث الطويل فيه، فيعملن وينتجن ويستمتعن داخل بيوتهن في غير حرج، ولعل في إعادة النظر في النظام العمراني الحديث بما يكفل ربط المنزل بالطبيعة الفطرية ما يساعد بصورة كبيرة على جذب اهتمام الفتيات نحو البيوت، والأنس بسكناها في غير حرج أو ضيق.
إن هذه الانطلاقة الداخلية للاقتصاد العائلي التي نتبناها ليست بدعة اقتصادية أو مذمة نسائية؛ بل هي مصلحة اقتصادية ومكرمة نسائية، فما زال الاقتصاد العائلي باباً واسعاً للرزق، وما زالت البيوت حصوناً للفتيات من الضياع؛ فقد ارتبطت الإناث فطرياً بالبيت ارتباطاً يصعب انفصامه إلا عند انتكاس الفطرة، وذهاب معالمها، حتى إنهن في الجنة -رغم انقطاع التكليف- محصورات في الخيام حصر تكريم وإجلال، فهذا هو اللائق بهن دائماً في الحياة الدنيا وكذلك في الآخرة، فلا يجوز -بناء على ذلك- أن يُستنكر هذا التوجه الاقتصادي نحو التنمية والاستثمار العائلي من داخل البيوت.
24ـ الأهمية الاقتصادية للخدمة الأسرية(2/105)
ويُقصد بالخدمة الأسرية: العمل المنزلي الصرْف الذي لا يترتب عليه مردود مالي مباشر: كالإنجاب، ورعاية الصغار، ونظافة البيت، وطهي الطعام، وغسل الملابس، ونحوها من أنواع الخدمة الإنسانية والعائلية التي تندرج عادة ضمن الإنتاج المعنوي الذي لا ترجو النساء من ورائه كسباً مالياً، ويعتبر هذا النوع من العمل في حق الإناث أوسع مجالات أعمالهن على الإطلاق، وألصقها بطباعهن، إلى جانب أنه أعظم مشاريعهن التنموية، وأجلُّ ميادينهن الإنتاجية، لكونه متعلقاً بصناعة الإنسان بصورة مباشرة، فكل ما يمكن أن ينتجه هذا الإنسان في ميادين الحياة المختلفة ومجالاتها المتنوعة، لا يعدو- في مجمله- أن يكون إنتاجاً لحساب النساء، وثمرة من ثمار جهودهن المنزلية، ومساعيهن التربوية، فما تقدمه إحداهن من خدمة النوع، ورعاية النسل لا يقل بحال عن أعظم خدمة اقتصادية يمكن أن يقدمها رجل لمجتمعه.(2/106)
وقد نجحت بعض الدراسات الاقتصادية في قياس إنتاج النساء المنزلي، وأهميته للدول النامية، ودوره الفعال في التنمية الاقتصادية الشاملة؛ حيث قدَّرت منظمة الأمم المتحدة جهدهن المنزلي في الدول المتقدمة بثلاثين ساعة أسبوعياً، واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تحدد حجم إنتاجهن المحلي ما بين (20-25%) من الإنتاج العام، واستطاع بعضهم تقدير قيمة عمل المرأة في خدمة أسرتها بمتوسط دخل رجل يعمل خارج المنزل، مما دفع لجنة العمل الأمريكية عام 1971م إلى الاعتراف بعمل المرأة المنزلي دون أجر مالي، إلا أن ذلك لم يزل -عالمياً- خارج نطاق إحصائيات الإنتاج القومي العام؛ بل إنه لم يزل موضع استهجان واستنكار عند كثير من الباحثين العرب، بحجة كونه عملاً بلا أجر مالي، مغفلين تماماً المردود المعنوي والروحي لإنتاجهن الأسري، ومعرضين - في الوقت نفسه- عن شواهد التاريخ الإنساني في دور المرأة -أياً كان مستواها الاجتماعي والعلمي -منذ القديم في خدمة البيت ورعاية الأسرة، فلا يعترفون بجهدها الأسري مهما كان مثمراً واقتصادياً إلا إذا ترتب عليه أجر مادي، في الوقت الذي يُعترف فيه -للأسف- بجهد الفتاة الراقصة، وعارضة الأزياء، والممثلة، ونحوهن ضمن قوى العمل بحجة كونهن يتقاضين أجراً، وكأن تقاضي الأجر المالي هو الذي يحدد للعمل قيمته الأخلاقية، وجدواه الاقتصادية.(2/107)
ولقد أدَّى هذا المفهوم الاقتصادي الجامح إلى بروز اتجاه نسائي حديث ضد العمل المنزلي، والتسخَّط من تبعاته، مع رغبة جامحة نحو العمل خارج المنزل، إلى جانب إخفاق الفتيات الشديد في حنكة التدبير المنزلي، وحسن صناعته، وأصبح جلُّ نزاع كثير من النساء العاملات مع أزواجهن في توزيع مهام الأعباء المنزلية، وقد أغفل هؤلاء النسوة أنه لا فرق غالباً في نوع الأداء بين عملهن في المنزل لصالح الأسرة وعملهن في الخارج لصالح المؤسسات الخاصة أو العامة إلا من جهة الأجر المالي؛ فإن إحداهن تنتقل "من الخياطة المنزلية إلى مصنع الملابس، ومن المطبخ العائلي إلى دور الخادمة في المقاهي، ومن السهر على العائلة إلى مهام الممرضة والمساعدة الاجتماعية"، ومن مسؤولية تربية أبنائها إلى تولي مهمة تربية أبناء المجتمع في المؤسسات التربوية، وهكذا… مما دفع بعض المنظمات والجمعيات النسائية الغربية إلى مطالبة الأزواج بدفع أجور لزوجاتهم مقابل عملهن المنزلي؛ إذ لا فرق بينهما من جهة الأداء، ومع كونه مطلباً شاذاً؛ فإن المرأة السوية في الغالب لا تقبل به، ومع ذلك فقد حسم نظام الإسلام الاجتماعي مبدأ استئجار الزوجة للعمل المنزلي بالمنع؛ ليقطع مثل هذه الأفكار والوساوس التي تُخرج طبيعة العلاقات الزوجية عن مبدأ التراحم والتعاون.(2/108)
والعجيب في الأمر: أنه رغم هذه التوجيهات الاجتماعية الحادة ضد عمل المرأة المنزلي تكاد تجمع الدراسات الميدانية -المطبقة على الجنسين- الشرقية منها والغربية، القديمة منها والحديثة على أن عمل المرأة في بيتها هو الأساس في حياتها العملية والإنتاجية، مهما علت مكانتها الاقتصادية، وبرز دورها الاجتماعي، بحيث لا تنفك عنها مهمة العمل الأسري نفسياً وواقعياً إلا كما تنفك الروح عن البدن، مما يدل على أن هذه التوجيهات المخالفة للواقع الميداني لا تعدو أن تكون شذوذاً فكرياً، وعبثاً عقلياً لا حقيقة له، إلا أنه مدعوم -للأسف- بقوى جاهلية متسلطة تحتقر العمل المنزلي، وأناس يهدفون إلى خروج النساء بحجة توزيع الثروة بينهن وبين الرجال، فربطوا بين العطاء المالي وبين العمل خارج المنزل، ولو صدقوا فعلاً في مبدأ توزيع الثروة لأعطوا الزوجة نصيبها المالي وهي في بيتها -على الطريقة النبوية والخلافة الراشدة- دون تكليفها مشقة الخروج للعمل -على الطريقة الماركسية- في غير ضرورة اقتصادية ملحة.(2/109)
إن من الضروري لصلاح وضع الأسرة التنموي: تعديل هذه النظرة الموحشة نحو العمل المنزلي من كونه أداء ساذجاً بلا أجر مالي، إلى كونه تكليفاً ربانياً، ومسؤولية إنسانية نسائية من الدرجة الأولى؛ بحيث يتوسع مصطلح "المرأة العاملة" من كونه محصوراً في العمل بأجر خارج البيت: إلى أن يستوعب كل أنواع الأداء المنزلي المعنوي منه والمادي ليشمل كل ذات نفع من ربات البيوت؛ فإن مفهوم الموارد البشرية في التصور الإسلامي يتناول "كل إنسان مصدراً للنفع، أو مكاناً للنفع، أو طريقاً إليه، أو يمكنه أن يكون كذلك"، بحيث يشمل هذا المفهوم كل عضو اجتماعي صغيراً كان أو كبيراً، شاباً أو شيخاً، صحيحاً أو ضعيفاً، طالباً أو عاملاً؛ فإن المعتوه أو المقعد أو المريض يمكن لكل منهم -بطريق غير مباشر- أن يذكِّرالأصحَّاء بنعمة الله تعالى عليهم، والصغير مورد بشري نامٍ يُنتظر منه العطاء، فيكونون جميعاً من هذه الجهة نافعين منتجين في التصور الإسلامي، ثم إن مفهوم العمل في المصطلح الاقتصادي: "يشمل كل الجهود التي يبذلها الأفراد، سواء كانت يدوية أم جسمانية أو ذهنية"، إضافة إلى أن الأعمال التي تقوم بها المرأة في منزلها لها ما يشابهها من الأنشطة الاقتصادية المعتمدة والمعترف بها في سوق العمل العام، فلا يُستهجن -والحالة هذه- في التصور الإسلامي أن تدخل ربة البيت، التي تعمل في خدمة أسرتها ضمن قوى العمل الاقتصادية، فيحسب جهدها المادي والمعنوي ضمن الإنتاج القومي العام.(2/110)
إن من الضروري -إضافة إلى ذلك- الاهتمام بالفتاة مادياً ومعنوياً، بحيث تُدعم اقتصادياً عند حاجتها المادية دون تكليفها الخروج للعمل، وتُعلَّم وتُدرَّب على شؤون البيت ورعاية الأسرة لدعم حاجتها المعنوية، بحيث تكون تربيتها وإعدادها دينياً بكل أنواع المعارف النافعة لصالح الأسرة ورعاية النسل بالدرجة الأولى، قبل إعدادها لأي أمر آخر، فقد كان العديد من المدارس والمعاهد في بعض البلاد الغربية -إلى عهد قريب- تُقام من أجل تدريب الفتيات على التدبير المنزلي وشؤون الأسرة، فليس بغريب على المجتمع المسلم الذي يعتقد أن عمل المرأة في بيتها عبادة: أن يُعدَّ الفتاة للمنزل والأسرة، ويُهيئها معنوياً ومادياً لهذه المهمة الكبرى؛ فإن شؤون المنزل كانت موضع اهتمامات علماء المسلمين، وهي نوع من أنواع التَّعقُّل التي يسمونها بالتعقل المنزلي، أو الفلسفة العملية، أو التدبير المنزلي، وهي - مع ذلك- من أعظم وأوسع مجالات تفوق النساء وإبداعهن، حتى إن إخفاقهن الكبير في جميع مجالات التأليف العلمي مقابلة بإنتاج الرجال: يزول حين يكون التأليف في التدبير المنزلي وشؤون خدمة الأسرة؛ ففي الوقت الذي يهبط فيه إنتاجهن العلمي في المجال الاقتصادي العام إلى الصفر: يرتفع إلى (100%) إذا كان في مجال الاقتصاد المنزلي، حتى إن إتقانهن الشعري أفضل وأقوى ما يكون عندما يعبِّر عن تجاربهن الأنثوية في خدمة النوع ورعاية النسل.(2/111)
إن مما ينبغي على الفتاة أن تدركه بعد هذا البيان أن المرأة محبوسة شرعاً لحق زوجها، وحقه عليها مقدم على قيامها بفرض الكفاية خارج المنزل، فهي "بطبيعتها قد هُيِّئت لتكون رفيقة الرجل في حياته، وسيدة منزلها أكثر من كونها كاسبة لقمة العيش، والرجل يبحث فيها عن سمات معينة مثل: الشخصية اللطيفة، والنظافة، والترتيب، والمهارات المنزلية، ويفضلها على سمات أخرى: كالذكاء، والتعليم"، فإن هي بخلت بالساعات تمضيها في خدمة بيتها: توجَّهت لعرض جهودها في سوق العمل العام؛ إذ لا بد لطاقتها من مستثمر، وميدان تُستهلك فيه، فلا بد أن يكون هذا التصور ماثلاً في ذهن الفتاة وهي تتعامل مع متغيرات الوضع الاجتماعي والاقتصادي المعاصر.
25ـ أهمية العمل المنزلي في شغل وقت فراغ الفتاة
من الإيجابيات المهمة للتنمية الاقتصادية العائلية إسهامها الواضح في شغل أوقات الفتيات في عمل منتج نافع، ابتداءً من الصناعات الصغيرة المتطورة، وانتهاء بأعمال الإبرة والغزل أسهل أعمال النساء، فلا تجد الفتاة الجادة في هذا العمل المتواصل الفراغ الذي يُشكى منه، مهما كانت مرتبتها الاجتماعية، ومهما كانت وفرة وقتها وحجم فراغها، فهذه هند بنت المهلب زوج الحجاج بن يوسف لا تزال تغزل في فراغها، فلا يمنعها عن ذلك الجاه، ولا يُقْعدها الغنى؛ لأن إنتاج الفرد متعلق -إيجابياً وسلبياً- بقوة إرادته ووفرة وقته، أكثر من تعلقه بالمتغيرات الاجتماعية الأخرى، فالجهد والوقت أهم عناصر الإنتاج على الإطلاق.(2/112)
إن الجهد الإيجابي المنبعث من الإرادة الصادقة هو المشكلة التي تعوز غالب فتيات هذا العصر وليس الوقت؛ إذ إن طبيعة الحياة الحديثة، وتطورها الصناعي قد كفل لهن مزيداً من وفرة الوقت الذي يفوق في مدَّته ما يتوافر عادة عند الذكور؛ فلم تعد خدمتهن للأسرة تستهلك كامل الوقت، فقد تجد ربة المنزل فراغاً يصل إلى ست ساعات يومياً، ومن المعلوم أنه كلَّما ارتقى الإنسان حضارياً زاد حجم وقت فراغه، وزادت بالتالي معه الحاجة لاستغلاله، والنفقة عليه، وزادت مع كل ذلك خطورة إهماله وتضييعه في غير عمل جاد مثمر.
وقد أثبت الواقع العملي أن كثيراً من أوقات فراغ الفتيات تضيع بلا إنتاج: كالنزول إلى الأسواق لغير حاجة، أو الاستسلام لوسائل الإعلام، وحتى أولئك العاملات في الوظائف الرسمية؛ فإن نسبة كبيرة منهن لا يعملن بهدف الإنتاج، أو الاستفادة من المردود المالي إنما يعملن لقتل الوقت.
إن المفهوم القاصر عن الوقت وأهميته كفيل بأن يكون سبباً في الانحراف السلوكي، فإن "أحد العوامل المهمة في تردي نساء روما الأمبراطورية في حمأة الرذيلة هو عدم انشغالهن بعمل جدي يملأ فراغهن، فلم يستعضن عن الحياة المنزلية المنهارة بهوايات مجدية خارج المنزل"، في حين كان عمل كثير من الفتيات الأمريكيات في مصانع النسيج زمن الثورة الصناعية عاصماً لهن في ظروف تلك البيئة عن كثير من الانحراف عندما كان العمل يملأ فراغهن بالإنتاج الجاد.(2/113)
إن عمل الفتاة المثمر -إلى جانب ما يحققه من الأمن الاقتصادي- وسيلة جادة لتزكية مشاعرها، والتنفيس عن طاقاتها المكبوتة، التي أفرزتها طبيعة المجتمع الصناعي المعاصر الذي يحرم أبناءه حق الحرية النفسية، فإن ترك الفتاة "بلا عمل في بيتها يؤدي إلى وساوس النفس والشيطان، والاشتغال بما لا يعني"؛ فإن التعطُّل كثيراً ما يوسوس بالشر، فإذا لم تجد الفتاة النشاط الذي يشغلها، ربما انقلبت ضد نفسها، فعادة التدخين - مثلاً - إنما تتعاطاه الفتاة إذا كانت فارغة اليد من العمل، كما أن لغط القول إنما تتكلم به إذا كانت فارغة الذهن من الفكر، فوقتها إما أن يُملأ بالنافع المثمر، وإما أن يُملأ بالضار المُفسد.
التربية السياسية للفتاة
1ـ واجب المرأة المسلمة السياسي(2/114)
إن الضابط الأنثوي حينما ينطلق في كفِّ المرأة عن مطلق المشاركة السياسية الميدانية بأبعادها المختلفة لا ينطلق من الأصول الشرعية والتاريخية فحسب؛ بل إن له من رصيد الفطرة المُستحكمة الغالبة ما يُؤِّيد توجهه، ويعزِّز سلطانه؛ فرغم انفتاح المرأة العالمي على الشؤون السياسية: اطلاعاً، وتعلماً، وتأليفاً، وممارسة فإن الواقع الميداني المعاصر لايزال يحمل الصورة القديمة لتخلف المرأة السياسي أمام الرجال، إلا في جوانب شاذة باهتة لا تغير من الحقيقة شيئاً؛ فمازال النساء ضعيفات الاهتمام بالشؤون العامة: الاجتماعية منها والسياسية، المحلية والعالمية، وحتى ميدان الانتخابات الذي فتح لهن منذ سنوات: يُعرضن عنه، ولا يشارك فيه إلا القليل النادر من النساء المتحررات. رغم التشجيع المستمر، والمباركة من بعض المنتسبين إلى الشريعة. وأما ميدان التأليف السياسي فإن إنتاجهن أقل من أن يُذكر، رغم أنهن ربما يشكِّلن ثلث حجم الطلاب في بعض كليات الحقوق، إلى جانب ضحالة ثقافتهن السياسية، وضعف قراءتهن فيها. وهذا الواقع ليس بغريب على تاريخ المرأة؛ ففي سجل كبير ضمَّ (1828) رسالة عربية في الشؤون السياسية ونحوها من القضايا لم يوجد بينها إلا (18) رسالة تخص سبعة نسوة، ومع ذلك يصعبُ نسبتها إلى السياسة إلا في حدود ضيقة.(2/115)
والعجب في شأن سلطان الفطرة الأنثوية: أن إحداهن تكون في بؤرة العمل السياسي ضمن صراعه البرلماني، وعطائه الصحفي فإذا بها– مختارة راضية– تنحاز برلمانياً نحو لجان الخدمة الاجتماعية والتربوية، وتندفع صحفياً نحو صفحات الأزياء والزينة النسائية، تاركة وراءها عراك السياسة الميدانية مرة أخرى للرجل. وكأن قضية الممارسة السياسية أقوى بكثير من مجرَّد التحدي الأنثوي، وأعمق بمراحل من مجرَّد المعالجة السطحية التي تروم تغيير الفطرة، وتبديل حقائق الإنسان، كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، فالمسألة السياسية من هذه الجهة الميدانية تتعارض مع الأنوثة، وتتنافر معها.
ولئن كان الضابط الأنثوي يمنع المرأة من مطلق المشاركة السياسية الميدانية، فإن الواجب التكليفي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يفتح لها باباً ضخماً للمشاركة الإصلاحية والاحتساب السياسي رغبة في الأجر، ضمن حدود استطاعتها، وفي إطار الضوابط الشرعية والأخلاقية العامة؛ فإن هذا المبدأ الإسلامي لا يتعلق بالجنس، بل يصح من كل مسلم عارف قادر، فإن كلَّ فرد بالغ في المجتمع مُخاطب بأن يكون عضواً اجتماعياً صالحاً في نفسه، ومُصلحاً لغيره. وممارسة الإناث لهذا المبدأ علامة بارزة على صلاح الدين، وقد سجل التاريخ لبعضهن مواقف إيجابية مشرقة في ميدان الإصلاح الاجتماعي في غير ريبة سلوكية أو مذمة خلقية. وإنما المنع الوارد في حق الأنثى أن تُسند إليها ولاية الاحتساب العامة، في حين يصح أن تُسند إليها مهمة الاحتساب الخاصة على جنس الإناث في مواقعهن المستقلة.(2/116)
وعند مراجعة تاريخ المرأة المسلمة السياسي في جميع أطواره يجده الباحث مفعماً بآثار الإيمان، والروح المعنوية العالية، والعطاء الثري رغم بعدها الكامل عن مواقع الإدارة السياسية في الولايات العامة ومجالس الشورى أو الشُّرَط ونحوها من ميادين البروز الميداني. فالسلطة السياسية في طورها الإيماني المستقيم لاقت من المرأة المسلمة كل صور الفداء، والثبات، والدعم المادي والمعنوي، في أعلى صور الأمر بالمعروف. فلم تكن إحداهن تتردد في دعم السلطة بنفسها، أو مالها، أو ولدها، أو زوجها. مع كمال الامتثال لطاعة ولي الأمر ظاهراً وباطناً في غير معصية.
وأما طور الانحراف السياسي فقد شاركت المرأة المسلمة في دفعه بالاحتساب على السلطة ابتداء من تنبيه الحاكم على أخطائه في بعض المسائل العلمية، ووعظه بما يجب عليه، ومن ثمَّ الإنكار عليه والإغلاظ له في القول في غير خوف أو تردد. بل إن التاريخ الإسلامي سجل لبعضهن مساعيهن الجادة في خلع بعض الظلمة والمرتدين، في صور من الكيد الإيجابي لصالح الدين. ومازال عطاؤهن الإيجابي– أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر– مستمراً في كل عصر، حتى إنهن في أشد فترات الزمان ظلمة واضطهاداً، لم يتوقَّفن عن الدعوة إلى الله تعالى، ودعم التوجه الإسلامي، في مواقف من العطاء يعجب من مثلها التاريخ.
إن هذه النماذج من المواقف السياسية الإيجابية هي ميدان التنافس السياسي الصائب للمرأة المسلمة في كل عصر، وليس هو مجرد البروز الاجتماعي في أروقة البرلمانات، أو مناصب الولايات، أو منازعة أهل الحل والعقد سلطانهم. خاصة في هذا الزمن الذي أدركت فيه فئات كثيرة من النساء الغربيات زيف العمل السياسي، وأصبح واضحاً عند الكثير: أن الحرية السياسية المزعومة لا تعدو أن تكون فكرة خادعة بلا حقيقة يتلقَّفها صغار العقول، وأن العمل السياسي في هذا العصر– كثيراً ما يكون– صورة من صور الانسلاخ الأخلاقي في ظل الأنظمة الجاهلية.(2/117)
إن هذه النظرة السياسية من خلال الضابط الأنثوي بأبعادها المختلفة هي المحور الأساس في التربية السياسية للفتاة المسلمة المعاصرة مع دخولها سن التكليف، بحيث تُنزَّل هذه المفاهيم السياسية في نماذج تربوية من خلال: الأسرة، والمنهج التعليمي، والنشاط المدرسي، ووسائل الإعلام ونحوها، بحيث يتخذ من تجربة السيدة عائشة رضي الله عنها– فيما استقر عليه مذهبها– النموذج السياسي الأمثل للمرأة المسلمة المعاصرة، من جهة انعزالها الكامل بعد موقعة الجمل عن الميدان السياسي العام، وعودتها إلى منهج الاحتساب السياسي الذي كانت عليه قبل الموقعة من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوعظ والإرشاد، وبيان وجه الحق، وتتبع الأخبار والوقائع وتحليلها، والكتابة في ذلك، دون أن يكون لها في كل ذلك أيُّ بروز سياسي عام – تماماً– كحال أم سلمة رضي الله عنها والتابعية عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد رحمها الله، بحيث تنطلق المرأة في هذا من واجب الاهتمام بأمر المسلمين، ومعرفة أحوالهم وليس من باب الاستمتاع بالحق السياسي. وليكن موقف المرأة المسلمة المعاصرة من البروز السياسي العام كموقف أم جعفر زبيدة (ت216هـ) بنت جعفر المنصور زوج الرشيد لما قُتل ولدها أمير المؤمنين الأمين بن الرشيد، حين دخل عليها بعض خدمها فقال لها: "ما يُجلسك وقد قُتل أمير المؤمنين ؟ فقالت: ويلك وما أصنع ؟ قال: تخرجين وتأخذين بدمه كما خرجت عائشة تطلب دم عثمان، فقالت: إخسأ لا أم لك وما للنساء وطلب الدماء". ففهمت رحمها الله أن السيدة عائشة رضي الله عنها ليست قدوة تتبع في هذا الموقف، ولاسيما أنها قد ندمت عليه، وأن خروجها يوم الجمل لطلب دم عثمان رضي الله عنه لم يزد المشكلة إلا تعقيداً، فلم يتحقق المقصود من الخروج لتشخيص قتلة عثمان رضي الله عنه، فضلاً عن إقامة الحد عليهم، في حين أنها لما علمت بغضب زوجها الرشيد على الإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت189هـ) تلميذ(2/118)
الإمام أبي حنيفة النعمان، ومنعه له من أن يفتي: توسطت عند زوجها وأعادت له اعتباره، وهكذا تعرف أين تضع جهدها السياسي، وعطاءها الإيماني.
ولابد مع كل هذا من ضرورة استيعاب المرأة المسلمة المعاصرة للرحمة الربانية من حكمة إعفاء النساء من المسؤولية السياسية الميدانية حتى لا يبقى في نفسها ما يشعرها بالانحطاط الاجتماعي؛ فإن المرأة في القرون المفضلة رغم انعزالها الكامل عن معترك الميدان السياسي كانت – بصورة دائمة– موضع اهتمام القيادة السياسية وإعظامها واحترامها وإشفاقها، بحيث لا يكون انعزالها السياسي سبباً في رفض حقها في الفتوى إن كانت عالمة، أو حقها في الشكوى إن كانت مظلومة، أو حقها في العطاء إن كانت فقيرة، أو حقها في الاختيار الاجتماعي إن كانت حرة. بل إن نظام الإجارة بحيث يصبح دم المُقاتل الكافر معصوماً بإجارة المرأة المسلمة: كان ديناً تتعبد به القيادة السياسة، مراعية اجتهاد المرأة في ذلك. ولم يكن هذا قاصراً على الحرائر من النساء، بل إن الأمة المملوكة لتُجير الرجل الكافر فيلتزم بذلك المسلمون جميعاً، ولا يتقدَّمون إليه بأذى.
إن من الضروري أن تعرف المرأة: أن هذا الانعزال السياسي لا يتجاوز حدَّ الممارسة الميدانية التي أعفاها الشارع الحكيم منها، أما الواجب الاجتماعي والحقوق العامة التي يتمتع بها أفراد المجتمع عامة فإن الإناث – الحرائر والإماء– يدخلن فيها بحكم المواطنة والفرض التكليفي في غير شطط أو ريبة.
2ـ واقع المرأة المعاصرة في السياسة العامة(2/119)
تتعارض الأنوثة بصورة واضحة في واقع الحياة السياسية المعاصرة من جهة ضعف حضور النساء السياسي وتمكنهن القيادي، رغم الانفتاح السياسي الكبير الذي تشهده نساء هذا العصر، وإعلانات حقوق الإنسان، ورفع شعارات المساواة، وصدور القوانين العربية والعالمية التي تسمح للإناث بالمشاركة السياسية، وتولي جميع المناصب القيادية على قدم المساواة الكاملة بالرجال، ودعم ذلك كله بالمؤتمرات العالمية، والندوات المحلية بما لا يدع مجالاً للشك في صدق هذا التوجه نحو تمكين نساء العالم سياسياً واجتماعياً.(2/120)
ورغم الإنجازات الكبرى التي حققها هذا التوجه العالمي ضمن حدود القانون الدولي والمحلي من حيث إقْحام زُمر من طبقات النساء العربيات والمسلمات المتعلمات في معترك الميدان السياسي بجميع فروعه وتشكيلاته، والبلوغ ببعضهن أعلى المناصب السياسية والإدارية بكل أنواعها دون استثناء – على تفاوت في ذلك بين الدول– حتى أصبح مجرَّد قصْر ميدان من الميادين السياسية على الرجال : مدعاة للاستنكار السياسي والاستهجان الاجتماعي، فرغم كل هذه الإنجازات السياسية العربية المذهلة، وما سبقها من الإنجازات العالمية في سبيل تمكين النساء السياسي: فإن واقع الإحصاءات العالمية الحديثة يشير بوضوح إلى تخلف حضور النساء السياسي على جميع المستويات، وفي جميع الدول قاطبة بما فيها الدول الصناعية المتقدمة، بشكل يبعث على خيبة الأمل مقابل الجهود الكبيرة الرامية لدعمهن الاجتماعي، وتمكينهن السياسي؛ فإن تمثيلهن في البرلمانات حتى عام 1990م لا يزيد في العالم عن (14%)، ولا يتجاوز في الدول المتقدمة عن (13%). وكذلك تولي المناصب الوزارية فإن حضورهن فيها لا يكاد يتعدى (5.7%) حتى عام 1994م. وأما منصب رئيسة دولة فإنه قد بلغ أقصى مداه التاريخي عام 1994م حين اجتمع في عام واحد ولأول مرة (10) نسوة في مناصب رئاسات الدول، ضمن (177) دولة يعني بنسبة (5.6%) فقط. والذي يظهر من خلال التتبع أن النساء اللاتي وصلن إلى مناصب قيادية مهمة في العصر الحديث قليلات جداً، كما أن هذا الإنجاز لم يحصل لهن إلا بعد بداية النصف الثاني من القرن العشرين، فلم تبلغ امرأة منصب رئيس وزراء في بريطانيا– التي تعتبر واجهة الحضارة الغربية– إلا مرة واحدة عبر تاريخها الطويل، ولم يحصل قط أن تولت امرأة رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، ومن العجيب أن حكومة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، والتي تمثل في المنطقة العربية الإسلامية الامتداد الديمقراطي الغربي: لم تتسع لأكثر من وزيرة(2/121)
واحدة مقابل سبعة عشر وزيراً ضمن الحكومة المؤلفة عام 1999م.
قد لا يكون غريباً أن تتخلف النساء في دولهن التي تسيطر عليها أحزاب سياسية متنافسة، فلا يجدن من أصوات الساحة الشعبية ما يدعم ترشيحهن؛ لأن الناخبين في الغالب يُدلون بأصواتهم للرجال، ولكن تبقى المسألة في غاية الغرابة حين يكون تأخرهن السياسي خاضعاً للقرار الإداري وليس للانتخاب، فالأمم المتحدة التي ما فتئت منذ زمن تنادي بحقوق النساء العامة، وتتابع الدول – بقوة القانون الدولي– في تنفيذ قراراتها الجماعية الخاصة بتمكين النساء السياسي والاقتصادي: فإن نسبة النساء في إدارتها العليا حتى عام 1993م لا تتجاوز (13%)، وأما منصب الوكالة للأمين العام فلا تكاد نسبتهن تتعدى (2.3%)، وهذه نسب متدنية لمنظمة تتبنى الدفاع عن المرأة والتمكين لها.
وقد خاضت إحدى الدول الخليجية عام 1999م تجربة إشراك المرأة في الانتخابات، فلم تفز أيُّ امرأة، رغم الدعم السياسي لمشاركتهن؛ ولعل سبب هذا الإخفاق يرجع عند الناخبين إلى رفضهم مبدأ المساواة السياسية بين الجنسين، فقد دلَّت إحدى الدراسات الخليجية على عينة جامعية من الطلاب والطالبات أن أكثر من نصف العينة يرفضون مبدأ المساواة السياسية بين الجنسين، وثلث العينة تقريباً متردد في الأمر، ولهذا يُلحظ أنه حتى عام 1991م لا توجد امرأة واحدة في برلمانات عشر دول عربية. وهذا يدل على أن الواقع الاجتماعي– في الغالب – لا يدعم توجه المرأة السياسي.
ومن العجيب أن دعوة تحرير المرأة التي كان من المفروض أن يتولى قيادتها النساء أنفسهن بقيت تحت قيادة الرجال وإشرافهم منذ بدايتها عام 1870م وحتى ظهور أول شخصيات نسائية تحمل هذا العبء عام 1918م.(2/122)
ومن هنا يظهر جلياً أن الأنوثة– بما تحمله من النقص الفطري– هي العائق الحقيقي أمام تمكين النساء السياسي؛ إذ لا ينقص هؤلاء النسوة– في الغالب– الذكاء الفطري، أو المعرفة السياسية، وإنما تنقصهن الذكورة التي تفرض نفسها بدافع الطبيعة الفطرية بين أمم لا تؤمن بالفروق الجنسية، فإذا اجتمع إلى هذا التخلف الواقعي: الحكم الشرعي، والعامل التاريخي فإن تخلف النساء السياسي يصبح سمة عليهن، ويصبح بالتالي توليهن للإدارة السياسية شذوذاً يتعارض مع الأنوثة.
3ـ الفطرة الأنثوية وطبيعة السلوك السياسي
بالرغم من قِدَم الأنشطة السياسية، ومرافقتها للبشرية عبر مراحل وحقب حياتها المختلفة، ودخولها في حياة الناس من كل جانب، وتغلغلها في جميع شؤونهم، وصيرورتها علماً مهماً للناس، فرغم ذلك فإن الميدان السياسي لايزال عسيراً صعب المنال، ليس ذلك فقط على العامة من الناس ؛ بل هو عسير شاق حتى بالنسبة للساسة والقادة الذين يمارسونها، ممن قد يكونون في يوم من الأيام ضحية لها، فلا يزال هذا الميدان في كثير من جوانبه لغزاً لعلماء السياسة، من المتفرغين لها فضلاً عن غيرهم ؛ ولهذا يحتاج العمل السياسي إلى الشخصية القيادية المكتملة البناء، بحيث يحتاج القائم بالمهام السياسية العامة إلى قدرٍ كافٍ من الزعامة الاجتماعية التي تؤهله لأداء دور النخبة المتفوقة من حيث : الفضل والشرف، والعلم والحكمة، والمعرفة والبصيرة، والذكاء والفطنة، وقوة الشخصية، وجودة الإقناع، ودرجة من الاستقلالية والسيطرة، ورباطة الجأش، واكتمال البنية الجسمية، إلى جانب تمتعه بقدرٍ كافٍ من القبول الاجتماعي، بحيث يكون موضعاً لمحبة الجماعة وتعلُّقها.(2/123)
وعند وضع هذه الأوصاف القيادية على محك التجربة النسائية يتضح البون الشاسع بين طبيعة مسلك النخبة السياسية، وبين ضغوط الخلْقة الأنثوية، فرغم تداخل أدوارهن في هذا العصر مع أدوار الرجال، وبلوغ بعضهن درجات عالية من المعرفة العلمية : فإن الفروق بين الجنسين لاتزال قائمة، من السهل مشاهدتها والشعور بها.
وتظهر الفروق بين الجنسين من الناحية العقلية من حيث قلة الضبط وغلبة النسيان التي حجبت قبول شهاداتهن في الحدود، وحصرها في ميدانهن النسوي فيما يطلعن عليه من أمور النسل والرضاعة، فإذا احتاج المجتمع – في الحقوق المالية خاصة – إلى شهادة المرأة : عُزِّزت شهادتها بأخرى . إلى جانب طبيعة المبالغة الوصفية، والنظرة السطحية، والبعد عن نمط التفكير الواقعي والعملي، مقابل الإغراق في التفكير المثالي، والاهتمام بالشكليات والجزئيات دون التركيز على العلل والأسباب، مع ضعف عام في القدرة على الاستنباط والتحليل، واستقراء الأحداث، مما يعمل في مجموعه على إضعاف حدَّة نظرهن العقلي التي يتطلبها العمل السياسي بصورة أساسية، مما يؤثر بالتالي على حسن أدائهن الذهني، ويضعف من منطقهن التعبيري. ولهذا تعجَّب الصحابة رضي الله عنهم من تفوق منطق أسماء بنت يزيد رضي الله عنها على غير عادة النساء التي يعرفونها، وقالوا: "ما ظننا أن أحداً من النساء يهتدي إلى مثل ما اهتدت إليه هذه المرأة"، ولهذا تُوصف المرأة بوصف الرجولة عندما تتفوق عقلياً؛ لما يتطلبه التفوق العقلي من الاستقلال والفردية والجرأة المتعلقة عادة بطبع الذكور؛ لذا يُقال عن المرأة الحكيمة السديدة الرأي بأنها رجُلة العقل، ولهذا عندما أرادوا مدح رجاحة عقل السيدة عائشة رضي الله عنها قالوا: "رَجُلة الرأي"، وقالوا: "رَجُلةُ العرب". فلم يجدوا لها وصفاً متفوقاً إلا من عالم الرجال. ومع ذلك يبقى التفاوت العقلي قائماً داخل الجنس الواحد، فليس كل رجل أعقل من كل امرأة، ولكن الحكم(2/124)
دائماً للأغلب والأعم، والنادر لا حكم له.
ويمكن أيضاً رصد الناحية العاطفية في الطبيعة النسائية من حيث تأثر توجهات الإناث واختياراتهن الفكرية والسلوكية بسلطان العاطفة الجياشة، التي تدخل بقوة استفحالها الفطري في قراراتهن من جهة، وفي سلوكهن من جهة أخرى حتى لا يكاد يخرج أداؤهن الواقعي عن طبيعة الانفعال العاطفي، الذي يظهر أشد ما يكون قوة ومضاءً عند الأزمات المُهيِّجة للعواطف، والمثيرة للانفعالات. ويظهر ذلك جلياً في أزمة قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما أعقب ذلك من أحداث دامية هيَّجت النساء، حتى بدا ذلك واضحاً في تعبيرات السيدة عائشة رضي الله عنها رغم إنكارها المستمر على عثمان رضي الله عنه في بعض اختياراته الإدارية والمالية والسياسية، فقد كانت بعد مقتله من أشد الناس ذبَّاً عنه، وطلباً لحقِّه، حتى إنها من شدة تأثير الموقف العاطفي طاوعت في الخروج إلى البصرة- متأولة مجتهدة- رغم ثبوت الأمر الرباني عندها بالقرار في البيت، وتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - لنسائه من بلوغ ماء الحوأب. مما يدل على أن العاطفة طبيعة فطرية في العنصر النسائي، يصعب التخلص من آثارها، حتى عند أعقل وأعلم وأفهم النساء. فلا تتناسب حدَّة هذه الطبيعة الفطرية مع طبيعة الأداء السياسي الذي يتوقف نجاحه على مزيد من التجرد العاطفي مقابل مزيد من الإمعان العقلي. وقد أشارت العديد من الدراسات إلى "أن الإناث يعانين من الصراع والقلق في المواقف التي تستدعي تأكيد الذات أو العدوان، وعندما يشعرن بالغضب، يصاحب ذلك شعور بالإثم، مما يجعلهن غير قادرات على معالجة المواقف بكفاية، وينجم عن ذلك انفجارات انفعالية أو عدوان غير مباشر أو تجنب للمواقف بصورة كاملة".(2/125)
وتظهر الفروق أيضاً من الناحية النفسية من حيث مشاعر الضعف العام والاستكانة التي يتسم بها عموم الإناث، ولاسيما في فترات النزيف الدموي أثناء الحيض أو النفاس، مما يُضعف ثقتهن بأنفسهن، ويبعث السلبية في سلوكهن، والخور في عزائمهن: حتى تنقاد إحداهن مختارة للإيحاء، وتصبح أكثر قبولاً للتقليد، وأقل قدرة على اتخاذ القرار، حيث يسيطر عليها التردد والخوف، والوسواس القهري الذي يدفعها للاستسلام للآخرين. فلا تثبت أمام الإغراء والفتنة، حتى لربما كانت تحت تأثير الترغيب أو الترهيب أداة طيِّعة ضد مصالح بلادها السياسية . ولهذا لم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة مسلمة إلى المشركين زمن الهدنة بعد صلح الحديبية، في حين كان يرد الرجال. ولعل هذه الطبيعة في خلْقة النساء هي التي منعت قبول عضوية النساء في المحافل الماسونية السرية إلى عهد قريب وبشروط خاصة. ولهذه الطبيعة الطيِّعة في الأنثى "يُطلق لفظ الأنوثة على ما فيه ضعف، ومنه قيل: حديد أنيث للحديد اللين، وأرض أنيث سهلة اعتباراً بالسهولة التي في الأنثى"، وما سُميِّت المرأة بالأنثى إلا للينها، وهي مع ذلك صفة كمال فيها. وبمجموع هذه الطبائع الفطرية يصعب أو يتعذر على المرأة العمل السياسي بصورة متفوقة.
4ـ تعارض الأنوثة التاريخي مع الولايات السياسية العامة(2/126)
رغم ما سجَّله التاريخ الإنساني من تولي بعض النساء زمام عروش بعض الدول، وتنفُّذهن في كثير من أمور السياسة العامة: فإن هذه الأحوال التاريخية لا تتجاوز الظاهرة العرضية، والحوادث الفردية التي تحصر هذه الوقائع السياسية ضمن حد الندرة والشذوذ؛ فمازال الرجل في كل الأمم هو المسيطر على زمام الشؤون السياسية العامة منذ فجر التاريخ البشري، حتى إن البرلمان الفرنسي إلى عام (1593م) كان يُصدر قراراته بمنع تولي النساء أي وظائف للدولة، فضلاً عن الوظائف السياسية الكبرى؛ مما يدل على أن النساء كن بعيدات – تاريخياً– إلى حد كبير عن معترك الساحة السياسية، فحديث التاريخ عن الزعامة والقيادة والبطولة، والمشاركات في الحياة العامة، ونحوها من المهام الاجتماعية العامة يكاد ينحصر برمته في الرجل دون المرأة.(2/127)
ولم تكن هذه الصورة الإنسانية لتتخلف عن أمة الإسلام التي تعتقد وتهتدي بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لن يفلح قوم تملكهم امرأة"؛ حيث لم يكن للنساء أيُّ نفوذ سياسي أو إداري زمن النبوة، وفي الصدر الأول من تاريخ الإسلام، فضلاً عن أن تُسند إليهن ولاية عامة: في إدارة شؤون الأمصار، أو القضاء، أو الشرطة، بل لم يكن بين عمال الدولة زمن الخلفاء الأربعة امرأة واحدة في أي شأن من الشؤون السياسية، أو الإشراف الاجتماعي العام، أو حتى مجالس الشورى؛ بل وحتى في الكتابة؛ فقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ثلاثين كاتباً يكتبون له الوحي، والمواثيق، والرسائل، ليس بينهم امرأة واحدة رغم وجود كاتبات من النساء في ذلك الزمن، فلا يُعلم أن خليفة من الخلفاء استخدم امرأة قط في شيء من الشؤون السياسية. ولا شك أن عمل أهل المدينة زمن الخلفاء حجة قاطعة باتفاق المسلمين، وطريقتهم: "سنة يُعمل بها ويُرجع إليها"، وفي الحديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" … فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ". وما يُنقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تولية امرأة الإشراف على سوق المدينة فلا يصح من جهة السند، ولو صحَّ فإنه لا يعدو تقديم امرأة كبيرة في السن تكون له عيناً في السوق، تُجسُّ له أخبار الناس؛ فإن النساء ألطف بمثل هذه المهمات السرية، ومازال كثير من الساسة المسلمين عبر التاريخ الإسلامي يتخذون من مثل هؤلاء النسوة العجائز عيوناً لهم، ينقلن إليهم أحوال الناس الباطنة، وشيئاً من أخبار الأعداء، وكيف يسوغ لعمر رضي الله عنه أن يولي امرأة وعنده فضلاء الصحابة من أهل بدر والحديبية، بل إن عمر لما أدخل ابن عباس رضي الله عنهما مجلس الشورى أنكر عليه بعض الصحابة لصغر سنه، فكيف يُترك الإنكار على عمر رضي الله عنه حين يولي امرأة على سوق الناس ؟ فإن الكتب العلمية(2/128)
المعنية بمثل هذه الأمور لم تنقل إنكاراً على عمر في هذه المسألة، مما يدل على أن الخبر لا يصح عنه، كما صرح بذلك ابن العربي والقرطبي وغيرهما، وإذا أصرَّ المخالف بثبوت الحادثة دون نكير كانت إجماعاً، وإجماع الصحابة من الحجج القاطعة، والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف خفي هذا الإجماع على الأمة من بعد عهد عمر، فلم يُنقل، بل كيف يسوغ للعلماء من بعد هذا الإجماع الخلاف في مسألة تولية المرأة شيئاً من الشؤون العامة. والذي يظهر أن هذه المرأة التي يدور عنها الحديث هي الشفاء رضي الله عنها وهي من المهاجرات الأول، وكانت تسكن في السوق، ومن هنا جاءت شبهة توليها السوق، "وكان عمر إذا دخل السوق دخل عليها"، فهي حين تنقل شيئاً لعمر فإنما تنقله من واقع حياتها في باطن السوق، فلا يُسمى مثل هذا ولاية، وإنما هو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهذا لا يختص بالجنس. ولو صحَّ كون عمر رضي الله عنه يرى جواز تولية النساء شيئاً من الشؤون السياسية لكانت السيدة عائشة رضي الله عنها أولى النساء بذلك، فهي في زمنه أعلمهن وأفضلهن على الإطلاق من كل وجه دون منازع، حتى قال عنها علي رضي الله عنه: "لو كانت امرأة تكون خليفة لكانت عائشة خليفة"، ورغم ذلك لم يكن لها في الشؤون السياسية أيُّ ولاية إدارية أو إشرافية على الناس، وليس ذلك إلا بسبب الأنوثة. فإذا صحَّ للأمة أن تستغني عن خدمات السيدة عائشة السياسية، فأيُّ امرأة بعدها يمكن أن تحتاج إليها الأمة في شؤونها السياسية ؟. وأما ما يزعمه بعضهم من أنها رضي الله عنها كانت موضع استشارة للخلفاء في كثير من شؤون الدولة، فهذا إدعاء لا يستند إلى دليل، فهذه كتب السيرة والتاريخ ليس فيها شيء من هذه الاستشارات السياسية.(2/129)
وأما ما حصل بعد ذلك في تاريخ الإسلام السياسي عند ذهاب عافية الأمة من تنفُّذ بعض النساء، وتولي بعضهن قمة الهرم السياسي، فإنه لا يتعدى حوادث فردية شاذة مُستنكرة، حصلت في زمن غفلة الأمة وخمولها، ضمن ظروف سياسية واجتماعية خاصة، هيأت لهؤلاء النسوة فرصاً للبروز السياسي عن طريق الخيانات السياسية والاحتيال، أو عن طريق أحد المحارم بحيث ترث منه الملك، أو تتسلط عبر نفوذه. وهذا شأن غالب النساء اللاتي تولين قيادات أممهم عبر تاريخ الشعوب الإنسانية المختلفة بما في ذلك أمة الإسلام: فمنهن من تولت عن طريق زوجها، ومنهن من تنفَّذت عن طريق ابنها، ومنهن من تمكَّنت عن طريق أبيها. فلم يكن كل ذلك – في الغالب– باختيار الشعوب ورضاها، وإنما فُرض عليهم فرضاً ضمن أنظمة وراثة الملك، أو الوصاية على العرش، أو قوة السلطان العسكري، في ظروف سياسية واجتماعية خاصة.
ومع ما سجَّله التاريخ الإنساني من أخبار تولي بعض النساء زمام القيادات الاجتماعية، والإدارات السياسية: فقد سجل إلى جوار ذلك مآسي تسلطهن السياسي، وما آلت إليه أحوال تلك الدول من الضعف والاختلال، وما أعقب ذلك من الزوال والسقوط، وضياع الأمجاد حتى غدت المعادلة قوية بين ظاهرة نفوذ النساء السياسي والاجتماعي، وبين اختلال الحياة العامة واضمحلال الدول.
ولقد أثبت التاريخ: " أن الرجال في أقوم الأزمنة التي مرت بتاريخ الشعوب كانوا يميزون تمييزاً دقيقاً بين الوظائف والواجبات العامة، وبين علاقاتهم بالنساء، وذلك بالقدر الذي يحول دون … سيطرة النساء على الشؤون السياسية سواء أكان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة"، وهذا لما استقر في أذهان الشعوب عبر تراكم الخبرات الإنسانية: أن الشؤون السياسية تتعارض – بصورة كاملة– مع الطبيعة الأنثوية.
5ـ تعارض الأنوثة الاجتماعي مع نمط البروز السياسي(2/130)
تعتمد الممارسة السياسية على أسلوب الاتصال الإنساني الواسع والعميق بين السَّاسة والجمهور بما يكفل وحدتهم الاجتماعية، وحمايتهم من التأثيرات الخارجية. فهي علاقة إنسانية من الدرجة الأولى، تخضع بصورة أساسية للخبرة التراكمية التي تبنيها الممارسة الواقعية، وتمحِّصها التجربة العملية، فلا تُغني فيها المعرفة العلمية بالقواعد والأصول السياسية – مهما كانت متفوقة– دون فنِّيات الممارسة التطبيقية؛ لأن المسألة السياسية ليست من العلوم المشاعة التي تُؤخذ كما تُؤخذ النظرية العلمية، بل هي علاقات إنسانية وتفاعلات تراكمية ترتبط بخصوصيات الأمم الثقافية فلا تُستعار ولا تُقتبس. فإذا كان كمال العلم، وأعلى مراتبه لا يحصل إلا بالمخالطة والاحتكاك: فإن أدنى مراتب القدرة السياسية لا تحصل إلا بالدربة والمعاطاة.
ومن هنا تظهر قوة العلاقة بين العمل السياسي وبين البروز الاجتماعي، بحيث تحتاج المرأة إلى قدر من الصفاقة الخلقية، والجرأة الشخصية التي تُؤهلها للممارسة السياسية؛ ولهذا لحقت رياح التغريب بغالب النساء والفتيات المطالبات اليوم بالعمل السياسي، وأخذت بهن بعيداً عن ضوابط الأخلاق التي يرسمها منهج الإسلام للمرأة المسلمة ضمن خصوصيات حضارته ونظامه للحكم.(2/131)
إن الشارع الحكيم في تعامله مع أحكام النساء ضيَّق أسباب بروزهن الاجتماعي، حتى منعهن من وسط الطريق، وربط مصالحهن الخارجية بأوليائهن: فلا تسافر إحداهن إلا مع محرم لها، ولا تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها. وأعفاها– مقابل ذلك الاحتباس– من طلب المعاش، وواجب المشاركة العبادية في الحياة العامة كحضور الجمعة والجماعات وشهود الجنائز ونحوها– إلا في الحج الواجب– ولم يرض لها – مهما بلغت من العلم والفضل– أن تتقدم على ذكرٍ حرٍ أو عبدٍ أو حتى صبي في الصلاة: نافلة كانت أو فريضة، بل إنها لو قرأت السجدة بمسمع من رجل وسجدت: فإنه لا يسجد معها؛ لأنها ليست بإمام. وحتى ميدان النكاح فإن ولاية الرجال عليها دائمة؛ بل إن الصبي المراهق يتقدم على المرأة العاقلة فلا تزوج نفسها، ولا تعقد لغيرها حتى وإن كانت أمة مملوكة لها؛ ففي الوقت الذي يصح منها بيعها يحرم عليها التصرف في بضعها، "فكل أنثى لا تعقد نكاح أنثى بخلاف الذكر"؛ ولهذا كانت السيدة عائشة رضي الله عنها إذا عزمت على تزويج إحدى قريباتها، وحان وقت العقد قالت: " أنكح يا فلان فإن النساء لا يُنكحن".
ومن هنا، ومن هذه الجهة كان خبر النساء عبر التاريخ الإنساني على الستر والصون، بعيداً عن المجامع العامة، ومواقع محكَّات الرجال؛ لهذا كان غالب الطعن على بعض نقلة الحديث النبوي من النساء كونهن مجهولات الحال لعدم المخالطة. ولعل هذه الطبيعة النسائية وراء إخفاقهن اليوم في العلوم الميدانية: كالجغرافيا وعلوم الأرض ونحوهما فكتاباتهن في هذه العلوم قليلة جداً؛ لكونهما من العلوم التي تتطلب البروز الميداني، والشخوص للرحلة ومعاناة السفر، خاصة وقد أثبت البحث الميداني أن الإناث أقل تقبلاً من الذكور لمبدأ السفر للكسب؛ لكونه أداء لا يناسب طباعهن الفطرية؛ ولهذا لا يُوجد بين سفراء النبي - صلى الله عليه وسلم - – رغم كثرتهم– امرأة واحدة.(2/132)
ولعل في تجربة السيدة عائشة – رضي الله عنها– السياسية في الزمن الأول ما يُجلي الحكمة الإسلامية في قصْر حركة النشاط السياسي على الأفذاذ من الرجال، فرغم قسوة التجربة في موقعة "الجمل" وما آلت إليه أحوال الأمة السياسية بعدها: فقد كانت أحداث التجربة في غاية الشدة على نفس السيدة عائشة رضي الله عنها، ليس ذلك من جهة مبدأ الإصلاح السياسي فإن هذا أمر محمود، ولكن من جهة بروزها الشخصي للميدان السياسي العام: فرغم أنها كانت مجتهدة مأجورة إلا أن ندمها على خروجها كان في غاية الشدة، ويكفيها في ذلك أنها كانت سبباً في أول اصطدام مسلح بين المسلمين، وقد كانت الحجة عليها ممن خالفها : إلزامها بيتها، وأن الأمر لا يقوم بالنساء، وأما حجتهم على من خرج بها كونهم خرجوا بها دون نسائهم، حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "… أخرجتم أمكم عائشة وتركتم نساءكم". وقال لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: " يا طلحة أتيت بعرْس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقاتل بها، وخبَّأت عرسك في البيت". مما يدل على أن المسألة متعلقة بالسيدة عائشة خاصة دون غيرها من النساء لكمال علمها وفضلها، وليس لكون الذين خرجوا بها يرون جواز بروز المرأة للعمل السياسي، فلو كان الأمر كذلك لخرجوا بنسائهم يستكثرون بهن. خاصة وأن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهن لم يخرج منهن غير عائشة، وحتى أم سلمة الظعينة المهاجرة صاحبة الرأي السديد يوم الحديبية لم تخرج، بل كانت أشدهن إنكاراً على عائشة، حتى كتبت إليها تقول: "… قد علمت أن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهن إن انصدع، حُماديات النساء غض البصر، وضم الذيول…فاجعلي حجابك الذي ضرب عليك حصنك، فابغيه منزلاً لك حتى تلقيه، فإن أطوع ما تكونين إذا ما لزمته"، ونُقل عنها أنها قالت لها أيضاً: " وأقسم لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي: يا أم سلمة ادخُلي الفردوس لاستحييت أن ألقى محمداً - صلى(2/133)
الله عليه وسلم - هاتكة حجاباً قد ضربه علي". ولما عزم علي بن أبي طالب رضي الله عنه المسير إلى البصرة لرد أهل الشام دخل على أم سلمة رضي الله عنها يودِّعها فقالت له: " سر في حفظ الله وفي كنفه، فوالله إنك لعلى الحق والحق معك، ولولا أني أكره أن أعصي الله ورسوله؛ فإنه أمرنا - صلى الله عليه وسلم - أن نقر في بيوتنا لسرت معك، ولكن والله لأرسلن معك من هو أفضل عندي وأعز عليَّ من نفسي ابني عمر". ومع كل هذا لم ينقل عن السيدة عائشة رضي الله عنها بعد هذه الحادثة شخوصها في أي نشاط سياسي عام، حتى قالت: " وددت أني كنت غصناً رطباً ولم أسر مسيري هذا"، وكثيراً ما كانت تعتذر للسائلين عن خروجها يوم الجمل بالقضاء والقدر. مما يدل على أنه صار ذلك مذهباً لها، ولعلها تذكرت بعد هذه الحادثة الأليمة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنسائه: " أيَّتكن صاحبة الجمل الأدْبب،يُقتل حولها قتلى كثير، وتنحو بعد ماكادت". ولعله يكون قد بلغها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه في شأن هذه الفتنة حين قال له: "إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر، قال: أنا يا رسول الله، قال: نعم، قال : أنا ، قال: نعم، قال: فأنا أشقاهم. قال: لا ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها".(2/134)
ومما يدل على عظيم ندمها، وفرط ألمها على مسيرها هذا: أنها لم تعد ترى نفسها أهلاً لأن تُدفن في بيتها بجوار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، فقد كانت تحدِّث نفسها بذلك، فلما حصلت هذه الفتنة قالت: "إني أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثاً، ادفنوني مع أزواجه، فدفنت بالبقيع"، ولاشك أن الحدث الذي تقصد هو مسيرها يوم معركة الجمل. ولما حضرتها الوفاة جزعت، فقيل لها: "أتجزعين يا أم المؤمنين وأنت زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأم المؤمنين، وابنة أبي بكر الصديق ؟ فقالت: إن يوم الجمل معترض في حلقي ليتني متُّ قبله، أو كنت نسياً منسياً". بل وحتى إنكارها على عثمان رضي الله عنه في بعض اجتهاداته ندمت عليه لكونها ربما كانت سبباً في الجرأة على الخليفة، حتى قالت: " والله لوددت أني عشت برْصاء في الدنيا سائماً وأني لم أذكر عثمان بكلمة واحدة". وإلى هذا الحد انقطع طريق الإناث عن العمل السياسي، وأصبح الدرس واضحاً في كون السياسة مجالاً لإخفاق الإناث، خاصة وأن التجربة كانت على يد امرأة لا يُعرف لها في طبقات النساء مثيل في العلم، والذكاء، والفهم، وقد حفَّتها ظروف التفوق والإبداع من كل مكان، ورغم ذلك استعصت عليها الطبيعة السياسية بسبب الأنوثة فقط دون أي سبب آخر؛ ولهذا قيل: " لو كان لأبيها ذكر مثلُها لما خرج الأمر منه"، يعني أمر الخلافة، فقد كانت رضي الله عنها مقبولة الرأي عند عامة الناس، حتى قال معاوية رضي الله عنه في حقها: " إن من الناس من لا يُرَدُّ عليه أمره، وإن عائشة رضي الله عنها منهم". وبالرغم من كل هذا الوضوح في موقفها رضي الله عنها إلا أن فئات من الناس لاتزال تصرُّ على أن موقف السيدة عائشة رضي الله عنها في الفتنة موقف صحيح، وهي في موقفها هذا قدوة للنساء المسلمات.(2/135)
إن من القضايا التي لابد أن تكون واضحة في ذهن المرأة المسلمة، وفي أذهان من خلفها، ممن يحثونها ويدفعونها نحو العمل السياسي: أن الممارسة السياسية التطبيقية لا يمكن أن تحصل بحال من الأحوال، وفي أي مجتمع من المجتمعات مهما كان صلاحه إلا في وسط رجولي؛ فهذه تجربة السيدة عائشة رضي الله عنها لم تجد ميداناً للممارسة إلا بين الرجال، ولما كانت رضي الله عنها مكتملة الأنوثة والفضل: كانت وسط الرجال في هودج من حديد لا يُرى من شخصها شيء، ولما أرادت أن تحدثهم في مكة خاطبتهم من داخل الحجْر. فأنَّى لنساء اليوم ، المنخرطات في العمل السياسي أن يكون نهجهن السلوكي على هذا النمط ؟.
6ـ المرأة ومهام عضوية أهل الحل والعقد
شهدت بداية القرن العشرين الميلادي صراع النساء الشديد حول الحقوق السياسية، الذي دام في الجملة نحواً من سبعين عاماً، حتى نهاية الستينات تقريباً– على تفاوت بين الدول– تكلفت فيه النساء الغربيات صعوبات ومشاق قد يعجز عنها كثير من الرجال المضطهدين من أصحاب الحقوق المسلوبة، في صور عجيبة من الصبر، والإلحاح المستمر الذي لا يدخله الملل، حتى حُزْن في نهاية الأمر على جلِّ أو كلِّ حقوقهن القانونية والدستورية، ولم يبق عليهن الآن سوى خوض معارك التطبيق القانوني، ومطالبة الأجهزة المعنية بالتنفيذ الواقعي للدستور، فإنهن حتى الآن مازلن يُعتبرن أقلِّية في مجالس النواب، ومواقع اتخاذ القرارات، التي يمكن أن تؤثر بصورة مباشرة على أجهزة الدولة التنفيذية.(2/136)
وقد توافق هذا الصراع الأوروبي مع انهيار الأمة الإسلامية وذهاب نظام وحدتها التشريعية والسياسية، في ظل السيطرة الأوروبية: العسكرية والفكرية. فلم يعد أمام الأمة المستضعفة المفككة سوى النموذج الغربي لأنظمة الحكم، ولم يعد بين يديها من معالم تراثها السياسي الإسلامي إلا ما يفي بأسلمة نماذج الغرب السياسية، في صور من التلفيق والترقيع المشوَّه، فبدلاً من أن تلتفت الأمة إلى ذخائر تراثها السياسي: تتجه– للأسف– نحو أنظمة الغرب، حتى إن الأمة– من فرط اضطرابها– لتبادر المرأة الغافلة المخدَّرة، فتبتدئها بالمشاركة السياسية– انتخاباً وترشيحاً– قبل أن تُطالب المرأة العربية بنفسها بذلك، وقبل أن تكون مستعدة لمثل هذه المشاركات، فتشرع القوانين والأنظمة التي تُسِّهل مشاركتها السياسية، في مجتمعات ساذجة غلبت عليها الأمية والجهل.
وقد أدّى تحكيم هذه القوانين الانتخابية في زمن غياب الشريعة إلى تعارض المُفتين الإسلاميين: بين مُجيز للمرأة مشاركتها بصورة مطلقة في المجالس البرلمانية، وبين مانع، وبين متردد ومتوقف، مما أثار – بالتالي– جدلاً اجتماعياً وصراعاً تتنازعه فئات المجتمع المتصارعة على حقوق المرأة السياسية، في مظاهر سلوكية، وأطروحات فكرية غريبة عن الحياة الإسلامية.(2/137)
إن مبدأ البحث في هذا التنازع الشرعي حول مشروعية مشاركة المرأة في الانتخاب والترشيح، والصراع الاجتماعي في ذلك: يبقى بلا معنى صحيح في ظل سيطرة القوانين الوضعية التي عمت غالب بلاد المسلمين، ومع ذلك فلا يمكن أن تُحسم مادة الخلاف بالكلية، إلا أنه يمكن التخفيف منها ببيان صفة أهل الحل والعقد من أولي الأمر، المعنيين بالقضية السياسية، وهم: الموصوفون بالعلم والفضل، والخبرة والرأي من العلماء، والوجهاء وأهل الشوكة ممن صحت قواهم البدنية، وكملت قدراتهم العقلية، وانصقلت تجربتهم الميدانية، ممن ألزم الشارع الحكيم برد الأمور إليهم، ومشاورتهم، والصدور عن رأيهم فيما يُشكل على الأمة من جليل أمر الدين أو الدنيا، من مصالح العباد والبلاد، مما يفتقر إلى اجتهاد أهل الخبرة المتخصصين، كل فيما يُحسن، بحيث يكون رأيهم الاجتهادي عند الإجماع مُلزماً للأمة حاكمها ومحكومها، وعند الاختلاف خاضعاً للأغلبية، أو ترجيح الحاكم.
ومما جاء في بيان هذا الشأن قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " يا رسول الله إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان: أمرٌ ولا نهيٌ فما تأمرنا ؟ قال تشاورون الفقهاء والعابدين، ولا تمضوا فيه رأي خاصة". وكان عمر رضي الله عنه يقول: "شاوروا المهاجرين والأنصار، وسراة من هنا من الأجناد".
ومن هنا يُعلم أن العامة رجالهم ونساءهم، وصغارهم وكبارهم تبع لاجتهاد أهل الحل والعقد، لا يجوز لهم الخروج عليه. بل وحتى العلماء ممن هم خارج دائرة الشورى لا يسوغ لهم أيضاً الخروج عن اختيار الصفوة واجتهادهم– ضمن حدود الشريعة– فيما يشق عصى الطاعة ويفرق الجماعة: ابتداء من اختيار الحاكم وعزله، وانتهاء بأصغر مصلحة عامة تهم مجموع الأمة، بحيث يصبح الخارج عن اختيار أهل الحل والعقد عاصياً مفارقاً للجماعة.(2/138)
وبناء على هذا فإن عضوية أهل الحل والعقد ليست امتيازاً يتمتع به العضو، وليست وطراً يُقضى، وليست حقاً لكل أحد؛ وإنما هي عضوية مصير وتكليف وأمانة. كما أن هذه العضوية ليست صراعاً حزبياً، وتنافساً سياسياً لمجرد بلوغ السلطة؛ وإنما هي تفاعل إيماني صادق بين الثوابت الشرعية، وبين المتغيرات الواقعية بهدف الوصول إلى الحق. فليست السياسة بكل فعالياتها غاية في ذاتها، بل ليس المجتمع كله غاية في ذاته؛ فإن كل هذه الفعاليات المجتمعية والسياسية لا تعدو أن تكون وسائل المؤمنين إلى مرضاة رب العالمين، من خلال السعي الجاد في إحقاق الحق ورد الباطل ضمن حدود القدرة البشرية.
ومن هذا المنطلق يخرج العوام من الرجال، وجملة النساء والصبيان عن عضوية أهل الحل والعقد لتبقى الشورى خالصة للخاصة من أفذاذ الرجال، ممن يستطيع أن يقف للحق في وجه الباطل، وينافح عن الأمة، ويتحمل واجب المطالبة السياسية بالالتزام الشرعي، وتنفيذ القرارات الحكيمة؛ إذ ليست المسألة مجرَّد صوت يُدلي به، أو رأي يقوله دون مسؤولية يتحملها، وعبء ينوء به فإن الغُنْم بالغرم.(2/139)
وعلى هذا جرى عمل الأمة منذ فجر التاريخ الإسلامي يقصرون الشورى في الخلَّص من الرجال دون النساء، فلا يُعرف للمرأة المسلمة في التاريخ الإسلامي مكان ضمن عضوية أهل الحل والعقد. حتى إن إحداهن لتكون بين رجال الدولة من محارمها، في بؤرة الصراع السياسي، تعاينه عن قرب ثم لا يُؤخذ رأيها في شيء، كحال زوجة عمر بن عبد العزيز التي خالطت محارمها من الخلفاء، في الوقت الذي لا يجد كبار الساسة والقادة غضاضة في الرجوع إلى أقوالهن العلمية فيما يُحسنَّ من معارف الحديث والفقه ونحوهما، وحتى السيدة عائشة رضي الله عنها صاحبة المقام العالي، التي كان أكابر الصحابة يصدرون عن رأيها في كثير من المسائل العلمية: لم يكونوا يستشيرونها في شيء من قضايا السياسة وشؤون الحكم، حتى إن أبا بكرة رضي الله عنه يقول: " عصمني الله بشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هلك كسرى قال: من استخلفوا ؟ قالوا: ابنته، فقال: لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة، قال: فلما قدمت عائشة ذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعصمني الله به"، يقول رضي الله عنه هذا القول رغم أن عائشة رضي الله عنها لم تكن قائدة أو أميرة؛ وإنما كانت رمزاً عاطفياً لوحدة جيش الإصلاح السياسي، ومع ذلك اعتبر مجرَّد وجودها كأنثى ضمن هذا الجيش كافياً لإحجامه عن المشاركة.
7ـ حق المرأة في اختيار أهل الحل والعقد(2/140)
رغم تحفظ بعض المفتين في هذا العصر تجاه مشاركة المرأة السياسية فإنهم – مع ذلك – يلينون إلى حد كبير في جواز مشاركتها في اختيار أهل الحل والعقد كنواب يمثلون طوائف الشعب، ولاشك أن هذا التوجه فيه مجاراة للواقع السياسي الذي يهيمن عليه النموذج الغربي لنظام الحكم، الذي يفرض على الشعوب تمكين النساء سياسياً من خلال برامج الأمم المتحدة، واتفاقياتها الدولية، وإعلاناتها العامة لحقوق الإنسان، "فليست المجالس النيابية، ووسائل ترشيح الناس لها، وانتخابهم إلا صورة من صور الأنظمة الغربية التي تتجاهل خلق الإسلام وآدابه"، ومع ذلك فإن هذه الصور من الممارسة السياسية لم ترد عن السلف، رغم إمكانية ذلك في زمانهم؛ ما ورد عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في شأن تقديم أحد المرشحيْن للخلافة: عثمان أو علي رضي الله عنهما، وما رُوي في ذلك من استشارته بعض العامة من الذكور والإناث. فإن هذا لم يكن من باب التصويت والاقتراع العام الملزم، إنما كان استئناساً واجتهاداً منه لا يلزمه الأخذ به؛ إنما فعله لتعزيز قراره السياسي في نفسه بين شخصيتين معروفتين عند الجميع من الصغار والكبار تصعب المفاضلة بينهما في جو من السلامة الأخلاقية، والعفوية الاجتماعية، ومع ذلك فإنها حادثة حال منقرضة لا يُعرف لها مثيل في تاريخ الأمة السياسي، إضافة إلى أن استشارته انحصرت في أهل المدينة دون غيرهم من أمصار المسلمين، وحتى مكة لم تكن ضمن حدود استشارته، مما لا يُعدُّ استفتاء عاماً، إلى جانب أن الذي قام به ليس حاكماً وإنما شخص من عامة الشعب، أنيطت به مسؤولية سياسية. هذا كله على اعتبار صحة الواقعة؛ فإنها لم تُرو بسند، ولم تذكرها الكتب المعتمدة التي ترجمت له. إلا أن كتب التاريخ هي التي تنقل مثل هذه الأخبار غير المسندة، حتى إن ابن كثير نقل أن عبد الرحمن بن عوف استشار الولدان في المكاتب. فهل يكون بناء على ذلك جواز استشارة الأطفال في مثل هذه(2/141)
المسائل السياسية الشائكة؟
ومما ينبغي أن يُعلم أن الترشيح نوع من التزكية والتعديل وهذا مقام خطير، يُشترط له التقوى والعلم، والمباشرة دون السماع والتقليد، وهذه الأحوال يصعب اجتماعها في النساء؛ ولهذا لا تُقبل التزكية من المرأة للرجل مطلقاً عند كثير من العلماء، لا فيما يجوز شهادتها فيه ولا في غيره، ومن قَبلها منها اشترط عليها المعرفة بأحوالهم، ولما كانت المعرفة بأحوالهم لا تحصل إلا بالمخالطة والمعاطاة: لم يُعرف للمرأة عبر التاريخ الإسلامي في باب الجرح والتعديل، وتقويم مراتب الرجال، ومعرفة طبقاتهم قول يُذكر، فضلاً عن أن يكون لها قول يُعتمد، فطبيعتها الأنثوية، ووظيفتها الفطرية تعيقها عن مثل ذلك. فإذ عرفت المرأة المعاصرة ما لم تعرفه المرأة في السابق عن أحوال الرجال التي لم يكن يطلع عليها إلا الرجال فإن معرفتها هذه كافية للشك في عدالتها، ورد تزكيتها؛ إذ لا يمكن أن تحصل لها المعرفة بأحوال الرجال إلا بمخالطتهم ومعاشرتهم، وهذا لا يكون إلا ممن قلَّ حياؤها، وبدت جرأتها. فالمرأة المتصدية للترشيح لابد واقعة في إحدى المذمتين: أما مذمة التقليد والخرص بجهلها وغفلتها، وهذا لا يجوز ديانة ولا يُجزئ في التزكية، وإما مذمة الجراءة والاسترجال بمعرفتها واختلاطها، وكلاهما قبيح من المرأة المسلمة.(2/142)
إن المجتمع المسلم الذي يعيش الإسلام حقيقة واقعية لا يحتاج فيه أهل الحل والعقد إلى تزكية العوام والنساء، بل لا يحتاجون إلى تزكية أحد على الإطلاق، فهم فوق مستوى هذه التزكية؛ إذ هم السواد الأعظم الذي يتبعه العوام، يُعرفون: بعلمهم وجهادهم ودعوتهم، لا يكاد يخلو منهم زمان. ومن المعلوم أن من استفاض عند أهل العلم فضلهم وعدالتهم، وشاع الثناء عليهم فإنهم لا يحتاجون إلى نصِّ من أحد على تزكيتهم وإثبات عدالتهم. فإن جَهِل المجتمع حالهم، ولم يعرف مكانهم – كما يراه البعض في هذا الزمان– فهو لغيرهم أجهل، وعن صواب التزكية أبعد، فإن قيل بفسادهم في هذا الزمان: فإن غيرهم في هذا الزمان لابد أفسد وأرذل.(2/143)
وأما القول بأن الترشيح نوع من التوكيل؛ حيث توكل المرأة من ينوب عنها في اختيار الحاكم، ومراقبة أجهزة الدولة، فهذا القول أيضاً مردود؛ إذ إن اختيار الإمام فرض على الكفاية لا على الأعيان، وهو مناط بمن هم أهل له ممن يأثمون من أهل الحل والعقد بتأخيره، فلا يحتاجون إلى توكيل من أحد للقيام بالواجب، وأما عامة الناس– بمن فيهم النساء– فلا يأثمون بتأخيره؛ لأنهم غير مقصودين بهذا الفرض أصلاً، فلا يحتاجون لتوكيل أحد للقيام به، والشخص لا يصح منه التوكيل في شيء إلا فيما يملك أن يقوم به بنفسه، فيما يصح فيه التوكيل، فإذا كان لا يملك أن يتصرف فيه بنفسه فإنه من باب أولى لا يملك أن يوكل فيه غيره، فالمرأة– مثلاً– لا يصح أن تكون " وكيلة عن غيرها في مباشرة عقد الزواج؛ لأنها لا تملك مباشرة عقدها بنفسها فلا تملك مباشرة عقد غيرها". وكذلك مهمة مراقبة الحاكم وأجهزة الدولة فهذه مناطة أيضاً بمن نصَّب الحاكم من أهل الحل والعقد، فهم أهل الاختيار وهم أيضاً أهل المراقبة والمتابعة، فلا يحتاجون إلى توكيل من أحد للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر– ضمن الضوابط الشرعية– ومن لم يكن أهلاً لهذه المسؤولية فإنه لا يحتاج إلى توكيل أحد للقيام بها؛ لكون الواجب قد سقط عنه لعدم الأهلية. ومع هذا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية عند جمهور العلماء ولاسيما إذا رآه أكثر من شخص، كما أن له شروطاً لممارسته، فليس كل أحد يعرف كيف يمارسه، وينضبط بأحكامه. ومع هذا كلِّه فإن الوكالة لا تجوز إلا عند الضرورة، وليس هنا من ضرورة.(2/144)
ثم إن الحسبة لا تخلو من أن تكون فرضاً عينياً على الجميع ذكوراً وإناثاً، فلا تصح فيها الوكالة، وإما أن تكون فرضاً كفائياً فلا يحتاج أحدٌ إلى التوكيل لقيام البعض به، فإذا لم يقم به أحدٌ أصبح فرضاً عينياً على الجميع الذكور والإناث– كحالته الأولى– فلا تصح فيه الوكالة أيضاً؛ إذ الكل مطالب بعينه.
إذا تقرر هذا المبدأ في حصر قضية أهل الحل والعقد في صفوة رجال الأمة: فإن لهؤلاء، وللإمام ونوابه من المسؤولين الحق في مشاورة عاقلات النساء وفضلياتهن – فرادى وجماعات– فيما تحتاجه الأمة – خاصاً بالنساء– مما لا يطلع عليه الرجال، ولا يمكن لهم أن يعرفوه إلا من جهتهن؛ فقد أمر الله تعالى بمشاورتهن في مسألة الرضاعة والفطام؛ لكونهما ألصق بمهام النساء؛ ولهذا لما سأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها عن مدة صبر المرأة عن زوجها: استهجنت سؤاله في مثل هذه القضايا الخاصة، فقال لها مبرراً ذلك: "والله لولا أنه شيء أريد أن انظر فيه للرعية ما سألت عنه".
وبناء على ذلك لابد أن تنحصر المشورة في صاحبات التخصص في مواقعهن: المنزلية، أو التعليمية، أو الصحية، أو الإدارية ونحوها، بعيداً عن نزاعات وهيشات مكاتب الاقتراع. ويكون ذلك بقدر الحاجة التي يفتقر إليها صواب صنع القرار السياسي الخاص بهن، ويحقق المصلحة الشرعية والاجتماعية العامة، وليس لمجرَّد المشاركة السياسية. بشرط أن يكون كل ذلك في غير تبرج أو اختلاط، أو بروز سياسي عام، بحيث يُكتفى في كل هذا بوسائل الاتصال المختلفة فإن الكتابة تقوم مقام المخاطبة. واستخدام أجهزة الاتصال الحديثة في إبرام العقود والبيع والشراء جائز، ولاشك أنها جائزة الاستخدام أيضاً في مثل هذه الاستشارات النسوية مراعاة لطبيعة خصوصية النساء في المجتمع الإسلامي. وإلى هذا الحد تكون حدود استشارة النساء في المجتمع المسلم كما طبقها السلف.
8ـ غياب المرأة عن واقع الشورى السياسية في صدر الإسلام(2/145)
رغم وضوح هذا التوجه السياسي نحو حصر الشورى في الكمَّل من الرجال في الزمن الأول يريد بعضهم: أن يحملوا المرأة المسلمة المعاصرة– أياً كانت – العبء السياسي بكامله كما يتحمله أهل الحل والعقد من صفوة الأمة معتمدين في ذلك على موقف وحوادث تاريخية وفردية.
إن مما ينبغي أن يُعلم أن حوادث التاريخ الفردية، وما حفَّ بها من ظروف سياسية واجتماعية واجتهادية: لا تصلح أن تكون ديناً يتعبَّد به الناس، أو نهجاً عاماً يُقيمون عليه حياتهم، ويتركون ما بين أيديهم من دلالات النصوص الواضحة، والمواقف الجماعية المتواترة، والشواهد الحسيِّة الثابتة: إلى مواقف فردية، وحوادث عينية لا تنهض بشيء عند التمحيص والمذاكرة. فهذه الاستشارات والآراء النسوية المتفرقة التي سجلها التاريخ الإسلامي – على فرض صحتها في الجملة – فإنها لا تتجاوز الممارسة الاجتماعية العفوية، التي لا ترقى لمستوى الشورى السياسية الملْزمة أو المعْلمة، ولا تصل إلى الحد المراد منها في تمكين النساء المعاصرات من المجالس النيابية والترشيح والانتخاب. كما أن أعظم مشورة على الإطلاق أدلت بها امرأة في ذلك الجيل الفريد كانت من أم سلمة رضي الله عنها يوم الحديبية حين أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورتها، ومع ذلك لم يُبْنَ عليها مهم في الأمة، ولم يتوقف امتثال الصحابة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - على مشورتها رضي الله عنها فهم أطوع خلق الله تعالى له؛ وما حصل منهم بعد مشورتها لابد حاصل في نهاية الأمر، وإنما كان أثر مشورتها الفعلي في قطع أملهم من إمكانية تغيير اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسألة حين رأوه يحلق رأسه. في حين لو قوبلت هذه المشورة– على جلالتها– مع مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق يوم الأحزاب: فإن الفارق يصبح في غاية الوضوح بين أعظم مشورة يمكن أن تقدمها امرأة في ذلك الزمن الفريد وبين مشورة صحابي جليل من عامة الصحابة،(2/146)
توقف مصير الأمة على رأيه.
وقد وقف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - موقفاً مشابهاً لهذا الموقف في حجة الوداع، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها مغضباً، وذلك حين أمر من لم يكن معه هدي أن يحلق أو يقصر ويحل من إحرامه ويجعلها عمرة، فتباطأ الصحابة رضي الله عنهم في تنفيذ الأمر، ظناً منهم أن في الأمر سعة، وكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه لم يحل؛ لكونه قد ساق الهدي، وهيبة منهم للإتيان بالعمرة في أيام الحج، فقد كانوا يستعظمون ذلك زمن الجاهلية. ومع كل هذه الظروف امتثل الصحابة رضي الله عنهم ممن لم يسق الهدي بالأمر، فحلقوا وقصروا، ولم ينتظروا مشورة أحد من الناس، ولا حتى عائشة رضي الله عنها التي عاشت الحادثة وروتها، فلو لم تشر أم سلمة رضي الله عنها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحلق يوم الحديبية: لحلق هو عليه الصلاة والسلام– كما هو مفروض– ولحلق الصحابة رضي الله عنهم أيضاً كما حصل في حجة الوداع، فالأمر حاصل بمشورتها وبدونها.(2/147)
وأما مبايعة بعض النساء للنبي - صلى الله عليه وسلم -: فليس فيها حجة تُؤهل الإناث لعضوية أهل الاختيار والشورى؛ لأنها بيعة إيمانية أخلاقية تتعهد فيها المرأة بالالتزامات الإيمانية والأخلاقية، وليست بيعة لترشيح النبي - صلى الله عليه وسلم - للقيادة السياسية، فتأهيله عليه السلام للقيادة لا يفتقر إلى شورى أو موافقة من الأمة، وإنما يستمد سلطته من النبوة، في حين كانت بيعة الرجال سياسية يلتزمون فيها الجهاد إضافة إلى التزامهم الإيماني والأخلاقي، ولهذا سُميت بيعة الرجال في العقبة الأولى: ببيعة النساء – رغم أنه لم يكن فيها نساء – لأنها خلت من الالتزام السياسي. ومع ذلك فإن هذا النوع من البيعة خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد أجمع المسلمون على أنه لا يجب على الإمام مبايعة النساء بهذه الطريقة؛ ولهذا لم تكن بيعة النساء الإيمانية أو الأخلاقية ضمن اهتمامات الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، رغم حرصهم الشديد على متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يثبت أن امرأة جاءت تبايع خليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هنَّ – كسائر عموم الأمة– تبع لأهل الحل والعقد؛ " فلا يلزم كل الأمة أن يأتوا إليه يضعون أيديهم بيده"، وإنما يلزمهم الانقياد لطاعته في المعروف.
9ـ عقبة الأنوثة في طريق المرأة نحو الولايات السياسية العامة(2/148)
تأتي مرتبة الإمامة الكبرى بعد مرتبة النبوة مباشرة، لما فيها من الأجر العظيم لمن أخذها بحقها، وعمل فيها بالشرع، فكما أن النبوة هي الكمال البشري المطلق في أتمِّ وأعلى صوره، فإن الإمامة الكبرى هي الكمال البشري الممكن في أتمِّ وأقصى درجاته. ولما كانت الأنوثة تحمل بالضرورة قدراً من النقص: حُصرت النبوة في فئة الرجال، وحُصرت الإمامة في الكُمَّل من الذكور، بحيث يتولاها أفضل الرجال، وأعلمهم، وأتقاهم. فإن عُدم: فالأمثل من رجال الأمة دون نسائها، وعلى هذا إجماع المسلمين في القديم والحديث. فإذا تولى من هو دون ذلك مع وجود الأفضل لَحِق الأمة نوع من المذمة، وهبوط الشأن، وكانت إمْرته كإمْرة الصبيان التي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة منها، وأما إذا تولاها النساء فإن الأمة حينئذٍ تكون أبعد شيء عن الفلاح، وأقرب ما تكون من الهلاك؛ بحيث يكون باطن الأرض خيراً لها من ظاهرها. يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: "ولا يليق بالرجال الكاملة أديانهم وعقولهم أن تحكم عليهم النساء لنقصان عقولهن وأديانهن، وفي ذلك كسر لنخوة الرجال مع غلبة المفاسد فيما يحكم به النساء على الرجال".(2/149)
وأما تولي المرأة شيئاً من الولايات العامة فيما دون الولاية العظمى كالوزارة والقضاء وإدارة الأمصار ونحوها من الولايات: فإن المتفق عليه عند العلماء قصرها أيضاً على فضلاء الرجال؛ لأن هذه الولايات من جهة الكمال تلحق بمقام الخليفة؛ إذ لا يقوم عليها إلا أكمل الرجال بعد الإمام ، فلئن كان أعوانه دونه في الفضل والعلم والرأي: فإنهم – بالضرورة– أكمل الناس بعده، وهم مع ذلك نوَّابه وخُلفاؤه على الإمامة من بعده. ثم إن الله عز وجل لم يجعل للمرأة– مهما كانت – سلطة تقوم بها على زوجها في البيت، فكيف تصح سلطتها عليه وعلى غيره في الحياة العامة ؟ كما أنه لا يصح منها أن تكون أحد الحكمين اللذين يدخلان بين المرأة وزوجها عند الشقاق، ولا يصح منها أن تنفرد بالشهادة دون أن تعضدها امرأة أخرى، حتى في القضايا التي لا يطلع عليها غير النساء كما هو عند بعض الفقهاء، في الوقت الذي يقبل فيه بعضهم شهادة الأعمى. فكيف يصح منها ما هو فوق ذلك من مهام السياسة والإدارة والقضاء ؟.
وأما ما يُنقل عن بعض العلماء من الأحناف والظاهرية، وبعض الباحثين المتأخرين: من جواز تولية المرأة العاقلة شيئاً من الولايات العامة والقضاء: فإن هذا القول لا يعدو حدَّ الشذوذ الذي لا تنفك عنه كثير من مسائل الفقه، فمسائل الإجماع في الفقه الإسلامي لا تكاد تخلو من أقوال شاذة تعارضها، إلا أنها لا تقوم لها، ولا تضر الإجماع في شيء. ومن جهة أخرى لا تُسوِّغ هذه الأقوال الشاذة لأحد – خاصة من أهل العلم – التقليد فيما تبين له خطؤه، فليس كل من قال قولاً تُوبع عليه؛ إذ الحق هو المُعتبر دون الرجال، ونبش كتب التراث على نوادر الفقهاء، وغرائب أقوالهم مسلك مذموم في الشريعة، يأباه طالب الحق المتجرد عن الهوى، قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "من حمل شواذ العلماء حمل شراً كثيراً".(2/150)
ثم إن فقهاء الأحناف– ممن قال منهم بهذا القول– حصروه في القضاء دون غيره من الولايات العامة، بشرط أن تقضي المرأة فيما يجوز لها أن تشهد فيه، وليس هو عموم القضاء، ثم إنهم مع ذلك لا يتعدون بهذه المسألة الناحية النظرية التي يناقشها الفقيه دون أن يكون لها واقع تطبيقي؛ فقد نصُّوا صراحة بأنه لا ينبغي للمرأة أن تتولى القضاء، حتى في المسائل التي يجوز فيها قضاؤها، بل ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك: حتى إنهم لم يُلزموا الفتاة المخدرة – حتى وإن لم تكن بالغة– الحضور إلى مجلس القاضي في خصومة لها، بل يرون أن القاضي هو الذي يذهب إليها، أو يبعث من يثق فيه ليسمع أقوالها، والأحناف من أشد الفقهاء في مسألة خروج المرأة إلى صلاة الجماعة، حيث يحصرون الخروج في الكبيرات، وفي المساء دون النهار، فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يسمحون لها بعد ذلك أن تترأس الناس في مجلس إدارة أو وزارة أو قضاء، مما يدل في الجملة على أن مسألة تولي المرأة للقضاء لا تعدو الناحية النظرية التي يناقشها الفقيه، دون أن يكون لها واقع في الحياة، وهذا كثير في كتب الفقه؛ خاصة أنه لم يثبت أن تولَّت امرأة قطُّ في التاريخ الإسلامي مهام القضاء، فكان ذلك إجماعاً، رغم أن غالبية من تولى منصب قاضي القضاة في الدول الإسلامية المتعاقبة من الأحناف، فلم يثبت أنهم عيَّنوا امرأة قط؛ بل إن من يُجيز منهم إنفاذ قضاء المرأة فيما يجوز شهادتها فيه: يُلحقها ويُلحق من ولاها الإثم. ومازال باب القضاء حتى اليوم موصوداً في طريق النساء حتى في بعض الدول الأجنبية، ولم يُسجَّل دخول بعض النساء القضاء في أوروبا وأمريكا إلا في الثمانينات من القرن العشرين. وليس من علَّة لمنع المرأة من هذه المناصب سوى الأنوثة، وفي هذا يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لو كانت امرأة تكون خليفة لكانت عائشة خليفة".(2/151)
ومع ذلك فإن الولايات العامة تكاليف وواجبات، وفروض كفائية لا تتعلق" بحقوق وامتيازات تحرم منها المرأة، وإنما المنع هنا في أساسه رحمة بها، وإعفاء لها من المسؤولية التي قد لا تقوى عليها بحكم طبيعتها" الفطرية وما جبلت عليه، فإبعاد المرأة عن الشهادات في الحدود والجنايات – مع مراعاة طبيعة النسيان عندهن في مثل هذه المواقف الشرعية الخطيرة– يعتبر تكريماً لها من جهة أن هذه الأعمال ليست ميزات تتمتع بها؛ بل هي تكاليف ومشاق وعناء لما فيها من الطعن في العدالة، والجلد حال كون الشهادة في الزنا– مثلاً– غير مستوفاة الشروط الشرعية، فإقصاء المرأة عن مثل هذه المواقف تكريم لها. كما أن الفروض العينية التي كلفها بها الشارع الحكيم لا تقل أهمية عن فروض الكفاية التي تتطلع إليها؛ فإن فيها من حجم التكاليف والمهام ما يُغنيها عن التطلع إلى المزيد؛ بل إن الشارع الحكيم يمنع هذه المناصب من سألها وحرص عليها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إنا لا نولِّي هذا من سأله، ولا من حرص عليه"، "ووجه الدلالة بهذا الحديث الشريف أنه لو كان تولي الوظائف العامة حقاً للمسلم بمعنى إلزام الدولة بإجابته إذا طلبه: لما كان طلبه سبباً لمنعه منه؛ لأن الحقوق لا تسقط بالمطالبة بل تتأكد"، وهذا يدل على أن هذه المناصب تكاليف ومشاق وليست مواقع حقوق واستمتاع يطالب بها الناس، ثم إن الشارع الحكيم حين يقدم للولايات أناساً ويؤخر آخرين إنما يصنع ذلك للمصلحة، فيقدم لكل نوع من الولايات من هو أقوم بمصالحها، "وربَّ كامل في ولاية ناقص في أخرى كالنساء ناقصات في الحروب كاملات في الحضانة". ولهذا ألزم بعض العلماء الإمام أن يعزل القاضي إذا وجد من هو أولى منه بالقضاء؛ حتى لا يفوِّت على المسلمين مصلحة. فهل مرَّ على التاريخ الإسلامي بل وحتى التاريخ البشري أن كانت هناك امرأة هي أولى بولاية عامة من سائر رجال عصرها؟.(2/152)
والسؤال الذي يطرح نفسه: متى بدأ حق المرأة الشرعي في تولي الوظائف السياسية العامة ؟ فإذا كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم – وهو المخول بإقامة العدل – فإنه لم يولها شيئاً من ذلك، وإذا كان بعد وفاته عليه السلام : فمن هذه المرأة التي تصلح أن تكون خليفة بدلاً من أبي بكر رضي الله عنه، أو قاضيه بدلاً من عمر أو علي رضي الله عنهما، أو قائدة عسكرية بدلاً من خالد وسعد وأسامة رضي الله عنهم.
لقد مر على التاريخ الإسلامي عالمات فضليات، بلغن درجة الفتوى ومع ذلك لم يُستخدمن في شيء من الشؤون العامة، ولم يطالبن بذلك، ولم يرين لهن حقاً في ذلك، ففي كل عصر لابد يُوجد من الرجال من هم أولى من عموم النساء، وما مر على البشرية زمن كانت هناك امرأة هي أولى بمهمة سياسية عامة من سائر الرجال.
إن السبب الذي من أجله لم يبعث الله تعالى امرأة رسولاً ولا نبياً هو عين السبب الذي لم يخولها فيه لتكون رئيسة أو أميرة أو قاضية.
وأختم فأقول: لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم رجلاً "، أكنا نفهم منها غير الذي نفهمه من قوله المحكم عليه السلام : " لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة " !! ولو قُدَّر أن كان على قوم سبأ رجلاً أكان الهدهد يقول متعجباً: " إني وجدت رجلاً يملكهم " !!
10ـ مكانة الرجل في الإدارة النسوية(2/153)
من خلال الاستقراء التاريخي عُلم أن العمل السياسي لا يمكن أن تمارسه المرأة– مهما كانت متفوقة– إلا من خلال سلطة الرجال المباشرة أو غير المباشرة، بمعنى أنها لا يمكن أن تقوم بنفسها سياسياً حتى يحملها الرجال على القيام، ولا يمكنها أيضاً أن تنهض بأعباء الإدارة السياسية إلا من خلال عون الرجال. وهذه صورة تاريخية وواقعية لا تتخلف، فلا يُعرف في التاريخ الإنساني– قديمه وحديثه– المجتمع الأمومي الذي ترأس فيه المرأة مجتمع الناس، وتُدير من خلال الوسط النسائي شؤون الحياة. فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها في خبر موقعة الجمل لم تخرج عن نفوذ آراء الرجال وإدارتهم لا في أول الأمر ولا في آخره، حتى إنها لما تغيَّر اجتهادها السياسي، وعزمت على الرجوع عن مذهبها في الخروج لم يمكِّنها الرجال من ذلك حتى غالطوها، وثنوها عن رأيها، ودفعوا بها للمضي في إتمام الأمر. وكذلك لما تبيَّن لها الأمر بعد جلاء الفتنة عاتبت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قائلة له: "ما منعك أن تنهاني عن مسيري ؟ قال: رأيت رجلاً قد استولى عليك وظننت أنك لن تُخالفيه يعني ابن الزبير". وهذا الواقع التاريخي هو على عكس ما يصوره بعضهم، من أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت القائد الفعلي لهذا الجيش، والمحرك الحقيقي لدفَّة المعركة.(2/154)
وهكذا كنَّ في التاريخ السياسي لا يعملن إلا في وسط رجولي ينهض بهن، حتى وإن بلغت إحداهن قمة هرم الإدارة السياسية، فإن كل من يقوم تحت يدها أو جُلُّهم من القادة والأمراء والمستشارين ونحوهم لا يكادون يتعدون جنس الذكور كما هو الحال مع ملكة سبأ فقد كان تحتها ألف رجل من القادة ليس بينهم امرأة واحدة. وهن اليوم أيضاً رغم الانفتاح الاجتماعي، وشيوع الحرية السياسية، وقيام مبدأ المساواة القانونية: لا يكاد يتجاوز أداؤهن السياسي أن يكون ثماراً لجهود الرجال الإدارية والتنظيرية، ولا تعدو ولايتهن السياسية– في غالب الأحيان– الناحية الصورية والشكلية، بل إن تبنِّيهن العمل السياسي من أول الأمر لا يخرج عن إرادة أوليائهن من الرجال، وحثِّهم وتشجيعهم. كما أن تعاونهن النسائي فيما بينهن في الميدان السياسي والإداري يكاد يكون معدوماً؛ إذ يقوم بينهن تنافس شديد، فما أن تصل إحداهن إلى موقع سياسي أو إداري مرموق حتى تتنكر لبنات جنسها، في حين يجدن راحة أكبر، ودعماً أعظم عند تعاونهن السياسي مع الرجال، مما يدحض خرافة المجتمع الأمومي الذي تترأس فيه جماعة النساء شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية، فهذه المرأة منذ القديم تصل إلى أعلى مراكز اتخاذ القرار فلا تستعين إلا بالرجال، وكأن العمل السياسي لا يصلح إلا للرجال، وأشباههم من النساء.
11ـ طريق المرأة للتفوق السياسي(2/155)
إن طريق الأنثى الوحيد للممارسة السياسية المتفوقة: أن تتخلص مما هي به أنثى، وأن تتلبَّس بما يجعلها رجلاً؛ فإن قدراً من الاسترجال ضروري للعمل السياسي؛ لأن السياسة نوع من القوامة الاجتماعية، والقوامة طبع خاص بالرجال لفظاً ومعنىً، لا يمكن أن تنفك عنهم بحال، حتى عند أحقر مراتب الرجال، وأعلى مقامات النساء ، يقابلها في سلوك الإناث صفة الخضوع، التي لا تسمح- غالباً- بالانفراد والاستقلال اللذين يتطلبهما النبوغ في العمل السياسي. فلابد حتى تتفوق المرأة سياسياً أن تتخلص من تبعات الأنوثة: كخدمة الزوج، ومتطلبات الأسرة، وأن تتخفف من الإنجاب، وأن تنازع الرجل في سلطانه، وما هو به رجل؛ بحيث تسترجل في سلوكها: فتعمل عملهم، وتتخلَّق بأخلاقهم- كما هو حال كثير من النساء السياسيات في القديم والحديث- فلا تكون فراشاً للرجل، وبالتالي لا تأسرها خدمة النوع ورعاية النسل؛ فإن حجم تخفُّفها من الأسرة وتبعاتها يتلازم بصورة إيجابية مع حسن أدائها السياسي. فإن الرجل يكون مُعيلاً فيختلط عليه أمره، فكيف بالمرأة؟ ولهذا استنكرت بلقيس ملكة اليمن على نبي الله سليمان عليه السلام تزويجها، وقالت: "ومثلي ينكح، وقد كان لي من الملك والسلطان ما كان؟"، فوضعها لا يسمح لها بالزواج. وقد صرحت أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بأنها لو كانت متزوجة ما استطاعت أن تصل إلى هذا المنصب، كما أن كنداليزارايس وزيرة الخارجية الأمريكية هي الأخرى غير متزوجة. !!
وكأن النشاط النسائي العام يستلزم التنكر للوظيفة التناسلية، فإذا ما رامت إحداهن أن تجمع بين المهمتين بشيء من التفوق؛ بحيث تقوم بمسؤولية الزوجة والأم، في الوقت نفسه الذي تتبنى فيه العمل السياسي: فإن التمزق السلوكي بين المسؤوليتين، والتناحر الفطري بين المهمتين هو مصيرها المحتوم.(2/156)
ومن هنا فإن الضابط الأنثوي يمنع المرأة ابتداء من خوض هذه المفازة الذكورية، فيحدُّ من تطلعها السياسي، ويُلفتها إلى الدور الأسري، وخدمة النوع للحفاظ على طبيعتها الفطرية، وكيانها الأنثوي من التصدع والتنازع الذي تفرضه طبيعة السلوك السياسي.
12ـ الأنوثة والمسؤولية العسكرية
إن نظام الإسلام في إعفائه للإناث عن المسؤولية العسكرية يراعي منهن التكوين الطبيعي والاستعداد الفطري في جانبين رئيسين:
الجانب الأول: جسمي، يُراعى فيه محدودية قدرات الإناث البدنية التي تبدو واضحة لأول وهلة، فلا يصلحن – غالباً– للمهمة العسكرية ومعاناتها الصحية؛ لهذا غلب على الجندية في عصورها المختلفة طابع الرجولة، فلا تزال حتى في هذا العصر– الذي تطورت فيه الآلة الحربية – تفتقر إلى القوة الجسمية، والمهارات الحركية التي تتعارض بوضوح مع الطبيعة الأنثوية، فلاتزال القطع والمعدات الحربية محتاجة في تشغيلها إلى كمال البنية الجسمية العامة، والمهارات اليدوية العالية؛ لهذا فإن الأسلحة بشكل عام – خاصة المعقَّدة منها – قد هُيِّأت فنيِّاً لاستخدامات الرجل، وأعدت تقنياً حسب قدراته وطبيعته الجسمية، بحيث تشكل القطعة الحربية مع الرجل الذي يتعامل معها وحدة فعالية متجانسة ومتطابقة. فإذا ما قُدِّمت الفتاة المُجنَّدة إلى تلك القطعة الحربية قام التنافر بينهما. ولهذا لا يُعرف للمرأة أسلحة تستعملها غير تلك التي أعدت للرجل، بل ولا يعرف عنها اقتناء السلاح، أو الاهتمام به، حتى اللاتي كنَّ يخرجن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته لم يكن يخرجن بالسلاح؛ ولم يثبت عن أيٍّ من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نساء آل البيت أنهن حملن السلاح قط؛ وإنما يلتقط بعض النساء الجلدات السلاح– حال الهزيمة– من أرض المعركة، كما فعلت فريدة النساء أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها يوم أحد؛ فرغم مشاركتها في القتال لم تخرج بسلاح، وإنما خرجت بسقاء(2/157)
ماء للجرحي. وأم سليم رضي الله عنها لما خرجت بمجرَّد خنجر تدافع به عن نفسها: أنكر عليها زوجها أبو طلحة رضي الله عنه، ورفع أمرها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل إن المرأة الفاضلة ربما تُذم بحملها القوس وركوبها الخيل؛ لما فيه من التشبه بالرجال. ومن هنا جاء قصر أسهم الغنائم على المقاتلة من الرجال، وإنما تُعطى المرأة الغازية من العطاء العام ولا يُسهم لها كما يُسهم للرجال. وقد كان من بين أسباب كراهية رجل الجاهلية للمرأة كونها ضعيفة عن حمل السلاح، والدفاع عن القبيلة، مما حطّ من مكانتها عندهم؛ ولهذا تشير إحدى الدراسات المعاصرة إلى أن مساواة المرأة بالرجل لا تتأتى إلا حين تتمكن المرأة من القيام بالمهمة العسكرية كالرجل. ولعل التوجه الغربي المعاصر نحو تجنيد النساء: إفراز من إفرازات الدعوة للمساواة بين الجنسين.
ورغم بروز هذه الطبيعة الأنثوية العامة: يبقى للشذوذ النسوي حدوده الواقعية التي لا يتعداها، فكما أن في عظماء الرجال من يجبُن عن القتال، فإن في بعض طبقات النساء – في كل عصر – من قد تساوي بعض الرجال في القوى البدنية، ومهارات التدريب القتالية، وتتفوق – بصورة نادرة– في الصبر والجَلَد على القتال والفداء، حتى لربما كانت الجراح والموت عند إحداهن أهون ما يكون، بل ربما وُجد منهن من تقود الجيوش، وتغزو بالرجال: وكل ذلك لا يُغير من الحقيقة الفطرية شيئاً؛ إذ لكل قاعدة شواذ، والحكم دائماً في مثل هذه الأمور للأغلب والأعم، والمرأة المقاتلة لا تكاد توجد إلا على الندرة؛ ولهذا لا يذكر أحد من النساء عند ذكر قوائم أسماء شهداء بعض المعارك الإسلامية.(2/158)
ومع ذلك فإن سلطان الأنوثة الفطري لا يمكن أن يتخلف بالكلية حتى عن سلوك نوادر النساء، فلابد أن يظهر إحْكامه – ولو من بعيد– في صور من الكفِّ والإلجام لاندفاعهن الحاد؛ فالنساء الخارجيات اللاتي لا يُعرف لهن– في الجملة– مثيل في الفداء والجلد على القتال؛ لما يعتقدن من وجوب الجهاد عليهن: إذا هُدِّدن بكشف عوراتهن أحجمن عن القتال، فقد كان يكفي جمهرتهن للكفِّ عن القتال: أن تُقْتل إحداهن ثم تُلقى عارية في الطريق بغير ثياب، ولهذا كان الخارجيات زمن عبيد الله بن زياد إذا دُعين إلى القتال قلن: " لولا التعرية لسارعنا"، فأيُّ قيمة للبدن تبقى لإحداهن بعد ذهاب الروح غير هذا المعنى الأنثوي الفطري المُلح، الذي يبقى متماثلاً– ولو بصورة هزيلة– أمام تيار العنف السلوكي العارم في أبلغ صوره النسائية.
الجانب الثاني: نفسي: يُراعى فيه محدودية طاقة التحمل النفسي عن الإناث، فإن " الحياة العسكرية تتسم بشدة ضغوطها النفسية على الفرد"، وتهدده بصورة مباشرة – من خلال قسوة التجربة القتالية– في سلامته النفسية، التي تعكس – بالتالي– آثارها السلبية على جوانب صحته العامة، حين لا يكون له من القوى النفسية ما يكفي لحفظ اتزانه الداخلي، وقد عاش هذه المعاناة والاضطرابات النفسية حوالي ثلث الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في حرب بلادهم مع فيتنام. فرغم اشتراك الجنسين في مجمل هذه المعاناة، وانعكاساتها النفسية، فإن آثارها في الإناث أعظم، وفعلها فيهن أبلغ؛ إذ هن بالفطرة أكثر خوفاً من الرجال، وأشد منهم قلقاً من الموت وأسبابه، وأعظم تأثراً بمواقف العذاب والآلام، حتى إن شدة معاناتهن النفسية لتنعكس بصورة سلبية على سلامة أداء وظائفهن العضوية والعقلية، وربما كان مجرَّد الخبر المُفزع سبباً كافياً لاضطراب إحداهن النفسي، وإسقاط حملها.(2/159)
بناء على هذه الحقائق الفطرية – المتقدمة– في كيان الإناث الخلْقي والخلُقي، وما تعكسه من آثار سلوكية واضحة على الجانبين النفسي والجسمي بما يحدُّ من تمام عطائهن العسكري بوجه عام : يمكن في ضوء هذه المعطيات الفطرية تفسير أسباب تخلفهن العسكري العام من جهة العدد، ومن جهة القيادة. فرغم الانفتاح القانوني الذي يشهده العالم المعاصر أمام مشاركة النساء في الميادين العسكرية المختلفة، وانخراط فئات منهن في غالب قطاعات السلك العسكرية بفروعه المتنوعة، حتى أمكن تكوين فرق نسائية كاملة في بعض البلاد؛ إلا أن مجمل أعدادهن – رغم ذلك – لاتزال قليلة إذا ما قُوبلت بأعداد الذكور؛ ففي حرب الولايات المتحدة الأمريكية مع فيتنام – وهي من حروب النصف الثاني من القرن العشرين – شارك ثلاثة ملايين من الرجال عبر سنوات الحرب مقابل سبعة آلاف امرأة، يعني بنسبة (0.2%) فقط. كما أن توليهن المناصب القيادية العليا يكاد يكون معدوماً بوجه عام؛ فلا تُوكل إليهن قيادة عسكرية، أو مهمة ميدانية، فقد غلب على طبيعة أعمالهن الأدوار الإدارية، والمهمات المُساندة، وانحصرت مشاركتهن العسكرية الفعلية ضمن حدود رمزية تضمن سلامتهن من الهلاك. إضافة إلى مهمة الترفيه العسكري – غير المُعلنة– التي يقوم بها كثير من الفتيات المجنَّدات ضمن الفرق العسكرية الحديثة.
13ـ موقع المرأة في العسكرية الإسلامية(2/160)
يدخل الضابط الأنثوي في حصر المسؤولية العسكرية بكل فروعها في عنصر الذكور البالغين القادرين وذلك رحمة بالنساء، بحيث تكون الأنوثة سبباً شرعياً كافياً لحطِّ هذه المسؤولية السياسية عن كواهلهن، إلا حين يكون القتال فرض عين على كل قادر من المسلمين: كباراً كانوا أو صغاراً، ذكوراً أو إناثاً، حين يكون التعرض للموت والهلاك أهون ضرراً من التعرض للفتنة والأسر، فقد قاتلت النساء يوم معركة اليرموك في خلافة عمر بن الخطاب رضي عنه حين دهمتهم جموع الروم واختلط النساء بالعسكر.
إن التصور الإسلامي ابتداء لا يعتبر المرأة من أهل القتال، حتى وإن كانت كافرة، فإن الأنوثة في حدِّ ذاتها تعصم دمها، إلا حين تتجرَّأ فتعدو بالسلاح فلا تُبقي لنفسها عندئذ حرمة تعصمها؛ ولعل قضية النسل تقف عاصماً لهن من القتل، فإن خدمة النوع الإنساني تتوقف بالدرجة الأولى على وفرة العنصر النسائي؛ ولهذا راعى النظام الإسلامي في تشريعاته الجهادية المحافظة على الإناث، بعيداً عن مواقع العراك القتالي، ومظانِّ الموت؛ بحيث لا يصل إليهن أذى دون نحور الرجال، حتى إن الناظر في جملة هذه التشريعات الفقهية المحكمة يجدها في حال الجهاد الكفائي لا تتعدى بالمرأة حدَّ الإباحة التي لا ترقى إلى مرتبة الاستحباب، بل ربما أفادت ما يدل على الكراهة أو النسخ فضلاً عن الوجوب، خاصة في زمن غنى الجيش الإسلامي بإمكانياته وأعداده عن جهود النساء الخدمية والطبية.
ورغم أن القول بالإباحة – حال الكفاية– هو الراجح في حق النساء إلا أنه مقيَّد بشرطين اثنين:(2/161)
الشرط الأول: ضمان سلامتهن الصحية؛ بحيث تنحصر أدوارهن في العلاج والخدمة دون القتال، فلا يتعرَّضن للأذى، وتكون مشاركتهن هذه في المعارك المأمونة العاقبة دون التي يغلب عليها الخطر العام، وتكون – مع ذلك– أعدادهن قليلة رمزية بقدر الحاجة؛ فإن أكبر عدد من النساء خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عشرين امرأة، فقد كان النساء والأطفال يشكلون غالب الخالفة في عهد النبوة، وأما السرايا والبعوث التي بلغت ثمانية وثلاثين أو أكثر فلم تخرج في شيء منها امرأة قطُّ. ومن المعلوم سياسياً أن الاستكثار من النساء في مثل هذه المواقف العسكرية دليل الخور والضعف؛ فإن قريشاً يوم أحد – رغم ضلالهم– لم يخرجوا بأكثر من خمس عشرة امرأة مع أزواجهن في الهوادج. وكان الغرض في الغالب من الخروج بهن زمن الجاهلية تحريض الرجال على القتال، حتى ربما أتى بعضهن بأقبح المسالك كالتعري أمام قومها رغبة في إثارة الحمية في نفوسهم.
الشرط الثاني: ضمان سلامتهن الخلقية، بحيث يخرجن مع محارمهن، ويقتصر في ذلك على الكبيرات دون الشواب؛ فإن الانتفاع بالفتيات في مثل هذه المواقف قليل، بل ربما كان الضرر منهن أكبر، ولاسيما ممن تُخشى من جهتها الفتنة، في وقت يكون فيه الجيش الإسلامي أحوج ما يكون للتقوى وأسبابها؛ بل إن السلف كانوا ينهون عن مجرد ذكر النساء في الغزو مطلقاً.
14ـ المرأة والجندية(2/162)
إن الضابط الأنثوي بأبعاده : الخلقية، والنفسية، والجسمية لا يسمح بمشاركة المرأة في السلك العسكري، ولاسيما في ظروف حياة الجندية المعاصرة التي لا تنطلق من المنطلقات الإسلامية في ضبطها وتعاملها، فإنه ليس للمرأة أفضل من الاستتار وترك الاحتكاك بالرجال، وهذا يصعب تحققه في ساحات القتال، خلافاً لمن يرى جواز ذلك في هذا العصر، ولا يفرق في الجندية بين الرجل والمرأة، بل ولا يرى بأساً في توليها أي ولاية قيادية عامة، في الوقت الذي يستنكر المتدينون اليهود قرار الدولة بإشراك النساء في وحدات قتالية مع الرجال، وفي الوقت أيضاً الذي لم يسجل التاريخ الإسلامي قطُّ تولي امرأة ولاية الشرطة، أو حتى مسؤولية جندي عام، وإنما كان أقصى ما ورد في ذلك: اتخاذ بعض نساء متجالات عيوناً للدولة، ينقلْن إليها أخبار الرعية الباطنة، مما يتلطَّف به النساء في غير ريبة، وربما اتُخذ بعضهن مشرفات على سجون النساء، أو مفتشات عليهن، ونحو ذلك من الأعمال التي تفتقر إلى العنصر النسائي، وإلى هذا القدر يبقى الأمر مقبولاً ضمن حدود الحاجة وبقدرها، وتحت مظلة الحكم الشرعي في غير اختلاط مشين، أو تبرج خليع، أو تكلُّف سلوكي شاذ يخرج بالمرأة عن طبيعتها الفطرية، وحدود مواهبها الأنثوية.(2/163)
أما مسألة تدريب النساء على بعض أنواع السلاح الخفيف، تحسُّباً لاضطرار الأمة إلى النفير العام، ووقوع الجميع ضمن حكم فرض العين؛ فإن مشروعية ذلك من الناحية النظرية مقبولة، وأما من الناحية العملية الواقعية فأمر بعيد أن يتم ذلك ضمن ضوابط الشرع وآدابه العامة في ظل الأنظمة العسكرية القائمة، إلى جانب أنه لم ينقل عن السلف ما يفيد مشروعية ذلك رغم وجود مقتضاه في زمنهم، إلا أن من القبيح جداً أن يصل أمر تدريب النساء على السلاح إلى حدِّ الوجوب في الوقت الذي يعيش فيه غالب رجال الأمة المكلَّفين في عزلة كاملة عن حياة الجندية، ويُفرض عليهم قانونياً التجرد عن السلاح، حتى إن القطعة الحربية لتُستهجن رؤيتها في يد أحدهم، كما تُستهجن رؤية السكين في يد الغلام.
ورغم ظهور قضية التدريب النسائي على السلاح في غاية التعقيد إلا أنها يمكن أن تنتهي، ويصبح الحديث فيها من الترف الفكري حين تعيش الأمة المسلمة حالة الجهاد، وما أمر به الشارع الحكيم من اتخاذ السلاح. عندما تكون القطع الحربية – خاصة الخفيفة منها– جزءاً من حياة الأمة، وأداة اجتماعية مألوفة، يشبُّ عليها الصغير، ويهرم عليها الكبير، بحيث تألفها الفتاة الناشئة ضمن متاع البيت ولا تستهجنها، وتتعرف عليها عن قرب بصورة غير مباشرة. فلا يُستنكر حينئذ أن تتناولها بشيء من المعرفة والتدريب العملي تحت إشراف محارمها، بعيداً عن صخب معسكرات التدريب المعاصرة، وانحرافاتها الخلقية. ولو تلقَّت الفتاة – إضافة إلى ذلك– شيئاً من التدريب النظري من خلال منهج المدرسة التعليمي، أو وسائل الإعلام المرئية: لكمل بذلك تدريبها نظرياً وعملياً.(2/164)
ومع كل ذلك فإن المرأة بطبيعتها الأنثوية لا تحتاج إلى كل هذا التكلف؛ لأنها من خلال فطرتها السوية تدفع عن نفسها في حال الطوارئ، بحيث يزداد– بصورة تلقائية– اعتمادها على ذاتها، وتزداد بالتالي حدَّة عدوانيتها، فتأتي من المواقف الإيجابية في حال الأزمة ما تعجز عنه في حال الرخاء. ومن هنا ألْزمن بالقتال حال الهزيمة، وأعفين من ذلك في وقت الكفاية.
التربية الجنسية للفتاة
1- مشروعية التربية الجنسية للفتاة المسلمة
يكتنف مصطلح التربية الجنسية، وأساليب تطبيقاته كثير من الغموض والتنازع عند الباحثين التربويين، والمنشغلين بنواحي الثقافة الجنسية؛ حيث يحتدم الصراع بينهم حول: حدود معارفها العلمية، وأساليب إيصالها، والسن المناسبة لعرضها، والجهة المسؤولة عن تقديمها، مما جعل من ميدان التربية الجنسية ساحة خصبة لنشر الأهواء الفكرية، والشذوذات السلوكية، التي تُذكيها النظريات الجنسية، والأبحاث الميدانية، والثورات العاطفية العارمة، التي أفقدت هذا المجال سريَّته وستره.
وهذا التَّشتُّت الفكري والسلوكي يرجع بطبيعة الحال إلى فقدان الثوابت العقدية والسلوكية التي يتمتع بها منهج التربية الإسلامية، حيث جعل من التربية الجنسية ميداناً ضرورياً للعبادة، فربط بينها وبين الشعائر التعبدية وبعض قضايا الأسرة برباط لا ينفصم، وألزم المربين من كل طبقات المجتمع: بإشاعة المعرفة بها، وإذاعتها كأوسع ما يكون، حتى إن الأمِّي في المجتمع المسلم لا تخفى عليه فروضها، وكثير من سننها ومستحباتها، في الوقت الذي قد يجهل كثير من الأوروبيين -رغم الانفلات الخلقي- العديد من معارفهم الجنسية.(2/165)
ومقصود منهج الإسلام من التربية الجنسية للفتاة المسلمة: تبصيرها بطبيعة وخصائص هويتها الجنسية، ودورها في نظام التزاوج والتكاثر البشري، وما يتعلق بهذين الجانبين من أحكام العبادات والمعاملات، ومن ثمَّ ربط كل ذلك بشطري الإسلام العقدي والسلوكي، بحيث تتهذب الفتاة بآداب التربية الجنسية عبر مراحل طفولتها المختلفة، ومروراً بمرحلة المراهقة، ثم البلوغ والشباب، فتُعطى في كل مرحلة ما يناسبها من العلوم والمعارف الجنسية الواجبة والمستحبة وتطبيقاتها السلوكية، بالأسباب الصحيحة المشروعة -المباشرة منها وغير المباشرة- الخالية من الفحش وقبيح القول، حيث يتولى المجتمع ككل هذه المهمة التربوية، من خلال جميع مؤسساته المختلفة، ضمن معارفها ومناشطها المتنوعة دون تخصيصها بمادة أو منهج معين، فلا يبقى للجهل بهذه المسائل الخاصة باب يدخل عن طريقه المغْرضون أو الجهلة للإفساد الخلقي بحجة التثقيف الجنسي.(2/166)
ولا شك أن الخجل والحرج يكتنفان الحديث عن مثل هذه القضايا الخاصة، فيستحوذ الحياء على المفتي والمستفتي، الكبار والصغار، خاصة الإناث من فئات المجتمع، إلا أن كسر باب الخجل في مثل هذه الموضوعات الشرعية أمر مهم، فهذه أم سليم رضي الله عنها لما أرادت أن تواجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسؤالها المحرج عن الاحتلام قالت: "يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق…"، ولما أكثر عليها النساء النقد في سؤالها هذا قالت لهن: "والله ما كنت لأنتهي حتى أعلم في حلٍّ أنا أو في حرام"، ولما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن حكم العزل، دعا جارية له، فقال: ((أخبريهم، فكأنها استحيت، فقال: هو ذلك ))، يعني أنه كان يفعله معها. فلم يكن الحياء -رغم استحواذه عليهم- ليمنعهم من تبليغ الحق، وتعليم الناس ما يجب عليهم، حتى ولو صدر السؤال المُحرج عن الصغير: فإن إعطاءه المعلومات الصحيحة، بالقدر الذي يناسب مداركه ولا يضره: أمر مطلوب، ونهج تربوي صحيح، فهذه عائشة رضي الله عنها يُواجهها ابن أختها من الرضاعة أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، وهو صبي لم يبلغ الحلم بعد بسؤاله عمَّا يُوجب الغسل؟ فلم تجد بُداً من إجابته، حتى ردَّت عليه، فقالت: "أتدري ما مَثلُك يا أبا سلمة؟ مثلُ الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها، إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل"، وربما أخبرت رضي الله عنها بصراحة تامة عن أدقِّ تفصيلات حياتها الجنسية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيما تحتاج الأمة لمعرفته.(2/167)
ورغم هذا الوضوح التربوي المنضبط في تعامل منهج الإسلام مع هذه القضايا العلمية الخاصة: فإن الواقع الاجتماعي المعاصر بمؤسساته المختلفة يشهد تخلُّفاً كبيراً في معارف الفتيات الجنسية الضرورية، خاصة فيما يتعلق بأحكام الحيض، والعلاقات الزوجية، حتى إنهنَّ اليوم أفقر ما كنَّ إلى هذه المعارف وتطبيقاتها السلوكية من أي وقت مضى؛ مما أدَّى إلى ظهور مضاعفات نفسية واجتماعية كبيرة، تهدد الأسرة والمجتمع ككل، رغم التجاوز السلوكي المشين الذي تمارسه غالب هذه المؤسسات الاجتماعية في الشؤون الأخلاقية والآداب الضرورية، حتى جعلت معارف الفتيات الجنسية أكثر جوانب حياتهن اضطراباً وبلبلة، ودفعتهن -بالتالي- بصورة غير مباشرة نحو المصادر المشبوهة من مثل: وسائل الإعلام، والزميلات، والخادمات، والمنشورات للحصول على ضرورياتهن من الإرشاد العلمي لصحتهن الجنسية.
2- مبادئ التربية الجنسية للفتاة المسلمة
يحتم المنطلق الشرعي والواقعي على المجتمع: أن يتناول بالاهتمام -عبر مؤسساته المختلفة- وضع صياغة تربوية مشروعة لمنهج التربية الجنسية، يُحقق للفتاة سلامتها الخلقية والصحية، ويساعدها على ضبط اتزانها العاطفي والسلوكي، بحيث ينطلق هذا المنهج من ثلاثة مبادئ رئيسة على النحو الآتي:(2/168)
المبدأ الأول: أنوثة الفتاة موضع حرمة أخلاقية: حيث تتربى الفتاة من أول أمرها على تعظيم شأن العورة، وقبيح إبدائها، وأنها في الحرمة أعظم من عورة الرجل وأغلظ، ويُعظَّم ذلك في نفسها؛ ليُسبغ على ذلك الموضع منها طابع التحريم، الذي يُميَّز تلك الأعضاء المكنونة عن غيرها بخصوصية ليست لشيء آخر من أعضاء بدنها، حتى يصبح مجرَّد انكشاف العورة ولو في حال الخلوة ممقوتاً في حسَّها، فضلاً عن العبث الجنسي، أو التفريط الخلقي، وفي الحديث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ضرورة حفظ هذا الموقع من الجنسين: (( من يضمن لي ما بين لحييه، وما بين رجليه: أضمن له الجنة ))، وشهوة الأنثى الجنسية لا تقل عن شهوة الذكر، بل ربما قد تفوقها أحياناً، فيأتي من جهتها في حال الإثارة من السلوكيات الخاطئة والمنحرفة ما يشينها، ويُوقعها تحت طائلة العقوبة؛ ولهذا لما سمع عمر رضي الله عنه ذات ليلة حنين امرأة إلى زوجها الذي خرج إلى الجهاد، وشوقها الشديد إليه: سأل عنها، وأرسل إليها امرأة تكون عندها حتى يرجع إليها زوجها، وذلك حرصاً منه على سلامتها الخلقية، وسلامة المجتمع الذي يترأسه.
ومنهج التربية الجنسية -في هذا الجانب- يتخذ من: أحكام الطهارة، وأبواب ستر العورة، وآداب الاستئذان مدخلاً مشروعاً لتأصيل هذا المبدأ التربوي،واتخاذه ركناً أساساً في صحة وسلامة الفتاة الجنسية.(2/169)
المبدأ الثاني: أنوثة الفتاة موضع فتنة اجتماعية ؛ لكونهن رأس الشهوات، وموضع أعظم الملذات؛ حيث تتصدر الفتنة بهن أعظم أنواع بلايا الرجال، وأشد مخاطر أول الزمان وآخره، وليس ذلك لقوة فيهن، ولكن لضعف طباع الرجال من جهتهن؛ حيث قهرهم الله بالحاجة إلى النساء، حتى جعل الميل إليهن كالميل إلى الطعام والشراب؛ حيث بثَّ فيهن عنصر الأنوثة الذي يلعب في كيان الذكر دور الشرارة في الوقود، حتى يسْري لهب الشهوة في بدنه كحريق النار، فينصبغ العالم من حوله بطابع الشهوة، حتى تستحوذ على زمام سلوكه، فلا يبقى له رأي ولا فهم، ولا يلتفت إلى شيء حتى يقضي وطره بصورة من الصور، فالمثيرات الجنسية تعمل فيهم عمل المُشهيات للأطعمة، تدفعهم دفعاً نحو الجنس بإلحاح؛ ولهذا كثيراً ما يقع الشباب في عادة الاستمناء القبيحة، بصورة واسعة وكبيرة؛ يتخففون بها من شدة الإثارة الجنسية.(2/170)
إن من الحقائق التي لابد أن تعرفها الفتاة وتتيقن منها: أن المرأة الجميلة، ولاسيما الشابة الفاتنة من النساء: تحدث اضطراباً في كيان الرجل، مهما كان مقامه، إنما يختلف الرجال في حجم ضبطهم لأنفسهم، ودرجة تحمل قلوبهم لهذا الاضطراب، وقلَّ أن ينجو الرجل بسلام من الفتنة بالحسناء حين يمكِّن نظره منها، بل ربما كان مجرد سماعه لصوتها، أو معرفته بصفات حسنها دون رؤيتها: كافياً لتعلُّق أصحاب القلوب الضعيفة والفارغة بها، وربما وصل الحال بأحدهم إلى حدِّ العشق المُهْلك، فليس أحدٌ يموت بعشق شيء أكثر من موت الرجال في عشق النساء؛ ولهذا قدَّم الله تعالى ذكرهن على رأس الشهوات بقدر تقدمهن في قلوب الرجال، فقال - سبحانه وتعالى - : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]، ومن هنا يُلْحظ عمق الصلة بين الجمال والجنس بصورة يصعب إنكارها أو إغفالها، حيث يتوقف عنف الرغبة الجنسية واندفاعها على درجة الجمال ووفرته.(2/171)
ولما كان المسلك السلبي في التحفز والانتظار والهدوء هو طابع الأنثى في سلوكها الجنسي: فإنها مقابل ذلك في غاية الإيجابية تجاه إبراز مفاتنها، ومواقع الجمال منها، وصناعة التأنُّق والتزين بكل الوسائل الممكنة؛ وذلك بهدف رواجها عند الرجل، فهو مقصودها الأول والأسمى بحسن التزيُّن والتصنع، فهي لا تتزين لتعزز إرادة نفسها كما يفعل الرجل، وإنما لتعزز إرادة الرجل فيها، فحجم الزينة الكافية عندها: ما يزكيها في عين الرجل، ويروِّج لمكانها عنده، ومن هنا تأتي الفتنة الاجتماعية حينما تنطلق إحداهن - بدافع رواجها عند الرجال- إلى التعبير بوسائل غير لفظية عن جمالها ومكامن مفاتنها، أو عن إعجابها وميل نفسها؛ حيث تقوم الحركات الجسمية، ونبرة الصوت، وطريقة الوقوف، ونوع المشْية، ونظرة العين، ورائحة الطيب: مقام كثير من الكلام، ففي الوقت الذي قد تعجز العبارات عن حمله من المعاني المراد إيصالها: تحمله الوسائل غير اللفظية، وتُوصله بصورة قد تكون أبلغ من العبارة وأقوى، وقد أشارت دراسة أجنبية أنه في حالة "توصيل رسالة ما: تشكِّل الكلمات التي نستخدمها نسبة 7%، ونبرة الصوت 38%، ووضعية الجسم 55%… وفيه يظهر بجلاء مقدار الوسائل غير اللفظية في عملية التعبير والتواصل"، وصدق الله العظيم إذ يقول مؤدِّباً وموجِّهاً نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، ونساء المؤمنين عامة في مواقفهن مع الجنس الآخر: {….. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى …} [الأحزاب:32-33]، إلى أن قال جلَّ وعلا: {…. وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ …} [الأحزاب:53]، وإلى أن قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل(2/172)
لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:59]، وقال جلَّ شأنه في موضع آخر: {…. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ …} [النور:31].
ولعل ما يغفل عنه كثير من النساء، أو يتهاونَّ فيه: إمكانية التواصل بين الجنسين بواسطة الرائحة الزكية؛ حيث تقوم الرائحة من خلال حاسة الشم بأدوار مهمة في حياتي الإنسان والحيوان الجنسيتين، فهي بجانب أنها وسيلة كثير من الحيوانات للتعرف على أفراد أجناسها، فإنها إضافة إلى ذلك وسيلتها للتجاذب بين ذكورها وإناثها للتناسل والتكاثر، وهي في عالم الإنسان: لغة صامتة لا تقل عن الكلام وغيره من أدوات البيان، فالإنسان كما يتواصل باللفظ فإنه يتواصل أيضاً بالشم، ويعبِّر بالرائحة كما يعبِّر بالكلام، ويستطيع أن يصل بالرائحة إلى أغوار لا يقوى غيرها عليها، ولا يمكن الوصول إليها بغيرها من الحواس؛ ولهذا ارتبطت لغة الحب بين العشاق والمتحابين بحاسة الشم ارتباطاً في غاية القوة، وقد استغل تجار العطور في الترويج لبضائعهم هذه الخاصية الفطرية، وهذا ما يُلحظ من الدعاية على علب العطور وأسمائها، مما يشير بوضوح إلى العلاقة الخاصة بين الجنسين، ولهذا تقول السيدة حفصة رضي الله عنها : "إنما الطيب للفراش"، بمعنى أنه مجال للاستمتاع والإثارة بين الزوجين، فلا يصلح خارج ذلك.(2/173)
وبسبب هذه الخاصية العجيبة لدور حاسة الشم في عملية التواصل بين الجنسين: نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء، وحذرهن من الخروج بين الرجال الأجانب بالطيب، ولو كان ذلك لشهود الصلاة في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام: ((أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة ))، وقال في حق المتهاونات في ذلك: (( أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية))، وهذا قول شديد لا يليق بالفتاة المسلمة أن تخالف توجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فتقع في مثل هذا الوصف الشنيع.
إن هذه الغريزة المُسْتحكمة في طبيعة سلوك الذكور الجنسي لا بد أن تكون موضع اهتمام الفتاة المسلمة ورعايتها، فإن حدود حريتها السلوكية كعنصر فتنة: تنتهي عند نظر أو سمع أو علم الأجانب من الرجال، فلا يصحُّ أن يصدر عنها أمامهم أو بمسمع منهم -ولو بصورة عفوية- ما يكون سبباً في إثارتهم، وتحريك غرائزهم، من خلال: لباسها الفاضح، أو حركتها المقصودة، أو صوتها العذب، أو رائحتها العطرة، أو خلْوتها بغير محرم، بحيث تستفرغ جهدها في حمايتهم -كإخوة لها في الله- من كل مثير يضرهم ويُخرجهم عن سكون طبيعتهم، بحيث تتكلف ذلك تكلفاً، حتى ولو أدى ذلك إلى أن تحجب شخصها، وخبر وصْفها عنهم بالكلية، فلا يصل إليهم من فتنتها شيء، كحال نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهن، فإن هذا المسلك مستساغ شرعاً، إذا لم يفوِّت على الفتاة مصلحة أكبر، حيث تُعوَّد منذ الصبا على النفور من الرجال الأجانب، والهروب منهم؛ فإنهن بالطبيعة قُبيل البلوغ: ينفرن من الذكور، ويملن إلى أترابهن من الإناث.
وفي هذا الجانب يجد منهج التربية الجنسية أوفر مادته الشرعية للدخول إلى هذا المبدأ التربوي المهم من خلال: أحكام الحدود الشرعية، وآداب اللباس والزينة، إلى جانب القصص القرآني والنبوي المتضمن لمثل هذه الموضوعات في العلاقة بين الجنسين.(2/174)
المبدأ الثالث: أنوثة الفتاة موضع متعة زوجية: بحيث لا تستنكف أن تكون موضع استمتاع للزوج في بدنها وبضْعها، ومكاناً لقضاء وطره، ومنْبت ولده، فإن الفتاة الحرة في الأصل ممنوعة ومحفوظة من كل الرجال مطلقاً، إلا من أجنبي عنها بنكاح صحيح؛ إذ الحكمة تقتضي ذلك، بحيث يبلغ التجاذب بينهما مداه الأقصى، حتى يستمر للبشرية أسباب بقائها ضمن منظومة التزاوج التي بُنِيَ على أساسها مبدأ تكاثر الأحياء وتناسلها، فهذا الموضع من الإناث، الذي هو منبت الولد إنما خُلق للأزواج، كما قال تعالى مستنكراً قبح عمل قوم لوط - عليه السلام - : {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:156-166]، "فأعلم الله - عز وجل - الرجال أن ذلك الموضع خُلق منهن للرجال، فعليها بذله في كل وقت يدعوها الزوج، فإن منعته فهي ظالمة، وفي حرج عظيم"، ومن هنا تدرك الفتاة الحكمة من جعلها موضع استمتاع للزوج، ومدى الخدمة الإنسانية التي تقدمها للبشرية باستمرار النوع، وتكثير سواد المسلمين، كما أنها أيضاً - وللوهلة الأولى- تلْحظ من نفسها، أو من زوجها بوادر الانحراف الجنسي عندما يروم أحدهما أو كلاهما مُتْعته بهدر الماء في غير ذلك الموضع منها؛ فإن الفتاة الساذجة قد تعيش دهراً مع زوج شاذ، فلا تتنبَّه لذلك منه حتى يفتضح بين الناس، أو يطلبها للوصال من غير ذلك الموضع، فتأبى عليه -كما هو واجب المؤمنة- ولا تُمكِّنه من نيل قبيح مُراده.
ويمكن لمنهج التربية الجنسية أن يدخل إلى هذا المبدأ الأصيل من خلال أحكام الأسرة في الإسلام، وما يتعلق بها من أحكام النكاح، والعشرة، والفراق، والعدة، ونحوها من شؤون وقضايا الأسرة المتعلقة بهذا الجانب من العلاقات الزوجية الخاصة.(2/175)
ومن خلال هذه المبادئ الثلاثة يمكن للمنهج التربوي أن ينطلق في تربية الفتاة من الناحية الجنسية عبر نظام الإسلام، وشرائعه المختلفة التي كلف الله تعالى بها الناس، بعيداً عن أسلوب التفحُّش، والانحراف الخلقي الذي تتعاطاه المصادر الجنسية المشبوهة تحت ستار الثقافة الجنسية.
3- أهداف تربية الفتاة الجنسية وخصائصها التربوية
أهم خصائص الفتاة الجنسية:
1-اختصاصها بالحيض والحمل والنفاس والإرضاع، وما يرافق هذه الأحوال من المعاناة التي تتطلب الإعداد الصحي جسمياً ونفسياً، حتى تتمكن من التغلب عليها، وتقبلها بصورة أكثر إيجابية.
2-اختصاصها بغشاء البكارة، والخفض السُّني، ودرجة كبيرة من الحياء الفطري، وهذا يتطلب التأكيد على منهج التربية أن يستغل هذه الأحوال باعتبارها وسائل معينة على الاستعفاف.
3-اختصاصها بالقدرة الفطرية على الفتنة الاجتماعية مما قد يجعلها موقعاً لصورة من صور انتهاك العرض، وهذا يتطلب قدراً من الحماية الأسرية والتربية السلوكية؛ لضمان حفظها من مخاطر الانحرافات الجنسية التي كثرت في هذا العصر.
أهداف تربية الفتاة الجنسية:
1-تعليم الفتاة سبل العناية بصحتها الجنسية في ضوء أحكام الفقه الإسلامي.
2-فَهم الفتاة لطبيعة سلوك الإنسان الجنسي بين حدَّي المباح المشروع والمحرم الممنوع.
3-توجيه الفتاة إلى الوسائل التربوية المشروعة المعينة لها على ضبط شهواتها الجنسية.
4-تقبُّل الفتاة للعادة الشهرية وتحمل تأثيراتها المزعجة مع تفهمها لأهميتها الشرعية والصحية.
5-حماية الفتاة بالوسائل المشروعة من أسباب الانحرافات الجنسية.
4- طبيعة نمو الفتاة الجنسي(2/176)
لا تقل أهمية صحة الفتاة الجنسية عن صحتها النفسية، أو الجسمية، أو العقلية، فإن لكل جانب من هذه الجوانب أهميَّته في بناء واتزان شخصية الفتاة المسلمة؛ إذ "إن الحياة الجنسية ظاهرة أساسية في حياة الأفراد والشعوب، وقد بدت أهميتها في شتى الأزمات، كما تشهد على ذلك الديانات كلها".
ويتلخص نمو الفتيات الجنسي في كونهن يُراهقن البلوغ قبل الذكور بعام أو عامين، حيث تبدأ عندهن إرهاصات النضج الجنسي، وهرموناته الخاصة قبل البلوغ الفعلي بخمس سنوات تقريباً، بحيث يكمل لهن تمام النضج بصورة تدريجية متتابعة: في الثانية عشرة غالباً، وربما تقدَّم عند بعضهن -ضمن الحد الطبيعي- إلى الثامنة، أو ربما إلى السادسة، وهذا نادر وشاذ، أو تأخر إلى السابعة عشر كحد أقصى لحصول البلوغ؛ حيث تقوم كل من: الجذور الوراثية، والقيمة الغذائية، والطبيعة المناخية، ونوع التربية الأخلاقية: بأدوار مهمة في التأثير على سرعة وبطء عملية النضج الجنسي، فتنتقل الفتاة بذلك من مرحلة الطفولة والمراهقة إلى مرحلة الشباب، وسن التكليف؛ إذ البلوغ هو همزة الوصل بين المرحلتين، ومفهوم المراهقة في التصور الإسلامي لا يعني البلوغ، وإنما يعني مقاربة البلوغ، ويكفي شرعاً ثبوت البلوغ بتصريح الشخص، وتعبيره عن نفسه؛ لأنه أمر لا يُعرف إلا من جهته.
وفورة البلوغ تسهم في إطلاق ملكات الفتاة الطبيعية ، وكافة ميولها ورغباتها الفطرية الكامنة في ذاتها، وتتفجر في أعماقها الميول الغريزية، وتنبعث في نفسها العوامل المعنوية والأخلاقية، فالتحولات المتعلقة بالبلوغ لا تقتصر على الناحية الجسمية فحسب، وإنما تشمل جميع نواحي الشخصية بما فيها الناحيتين الروحية والنفسية؛ وذلك للترابط الوثيق بين النفس والجسم في طبيعة النمو الإنساني.(2/177)
ورغم أن البلوغ غالباً ما يكون في الثانية عشرة عند الفتيات إلا أن قدرتهن على الممارسة الجنسية، ومقدِّماتها، وشيء من التلذذ الشَّهوي: يسبق ذلك بزمن؛ فإن النشاط الجنسي يتقدم حُصُوله على اكتمال القدرة التناسلية فلا ارتباط بينهما من هذه الجهة، إلا أنه كثيراً ما يبقى في صورة اتجاهات وأشواق ناقصة، غير مكتملة؛ لأن حدَّ الشهوة الجنسية عند الفتاة في الحادية عشرة تقريباً -حاضت أو لم تحض- وبداية كمالها الشهوي ما بين 16-18سنة، وقمة لياقتها الجنسية في أكمل صورها يتأخر حتى السادس والعشرين تقريباً، وربما تأخر إلى الخامسة والثلاثين، مع كل هذا فإن مجرَّد بلوغ الفتاة المحيض يُعتبر مؤشراً كافياً على قدرتها الطبيعية على الاتصال الجنسي، ومن ثمَّ استعدادها للحمل والإنجاب بصورة طبيعية، بل إن قدرتها على الحمل قد تسبق في بعض الحالات النادرة نزول الحيض، ولهذا تقول السيدة عائشة رضي الله عنها : "إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة"، ولعلها بهذا التصريح تحكي تجربتها حين أدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي في التاسعة من عمرها، ومع كل الأحوال فإن البلوغ عادة لا يتأخر عن خمس عشرة سنة، فلو قُدَّر أن تأخر لآفة في الخلْقة، فإن الآفة في الخلْقة لا توجب بالضرورة آفة في العقل، فإذا كان العقل قائماً بلا آفة: وجب اعتباره، وإلزام بنت الخامسة عشرة بالأحكام الشرعية باعتبارها بالغة، وفي هذا المعنى يقول الإمام الترمذي حاكياً عن جمع من العلماء: "الغلام إذا استكمل خمس عشرة سنة فحكمه حكم الرجال، وإن احتلم قبل خمس عشرة فحكمه حكم الرجال"، فمدار التكليف قبل سن الخامسة عشرة على البلوغ، وبعدها على السن.(2/178)
وهذا الفهم لطبيعة نمو الفتاة الجنسي وارتباطه بالتكاليف الشرعية يُحتِّم على منهج التربية الصحية مراعاة ذلك منها منذ فترة الطفولة المتأخرة، ومروراً بمرحلة المراهقة، ثم العناية الكاملة في أوسع صورها في مرحلة الشباب، حتى تبلغ الفتاة بداية ذروة النشاط الجنسي، وتصبح قادرة على التناسل.
5- طبيعة سلوك الأنثى الجنسي
رغم الغموض الشديد الذي يكتنف طبيعة الحياة الجنسية عند أنثى الإنسان، وإجماع الباحثين على الحيرة في تحديد جوانب ملامحها بدقة: فإن الثابت يقيناً أن لها نشاطها الجنسي الخاص، الذي يختلف اختلافاً كبيراً عن نوع نشاط الذكور الجنسي في جوانب متعددة، إلا أنه مع ذلك يتحد معه بصورة عامة في مبدأ التلذذ والاستمتاع، فمع كون الأنثى تتأثر -كما يتأثر الذكور- بإفرازات الغدد للهرمونات الجنسية الخاصة؛ فإنها مع هذا تختلف في طابع سلوكها الجنسي عن طابع سلوك الذكور في جوانب متعددة.(2/179)
منها: السلبية في السلوك الجنسي بما تحمله من مظاهر الانتظار والتحفُّز، وما يقابلها في سلوك الذكور الجنسي من مظاهر العدوان والمبادأة، حتى إن المطاوعة منهن لزوجها في الجماع في نهار رمضان لا تُلزم بالكفارة عند بعض الفقهاء، كما لا يصح منها الظهار فتمتنع عن تمكين زوجها من نفسها، كما أن الفتاة المُغْتصبة قد تُعذر إن خشيت الهلاك، في حين قد لا يُعذر الرجل إذا أجبر على الفاحشة، ولعل في خبر أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهي المرأة الجلدة ما يدل على هذه الطبيعة الجنسية الأصيلة في نهج الأنثى، وذلك حين زجرها زوجها الزبير - رضي الله عنه - وأرضاه عن قرْبه لما حلَّت من عمرتها ولبست ثيابها، وهو بعد لم يزل على إحرامه، حيث قالت له، معبِّرة عن هذه الطبيعة السلبية في سلوكها الجنسي كأنثى: "أتخشى أن أثب عليك"، وكذلك في خبر نبي الله يوسف - عليه السلام - حين راودته امرأة العزيز والنساء معها: دليل على اختلاف طبيعة سلوك الرجل الجنسي عن طبيعته عند الأنثى؛ فلو أراد الرجل المرأة أكرهها، أما إن أرادته هي دون رغبته عجزت عن إكراهه؛ ولهذا لجأت امرأة العزيز إلى تهديده بالسجن والعقوبة، فالأنثى بطبيعتها الفطرية "أقل اندفاعاً في حياتها الجنسية من الذكر، كما أنها أقل تهوراً، واندفاعاتها الجنسية هي أكثر تعبيراً عن عواطفها منها عن حاجتها الجنسية"، وهذا المسلك السلبي فطري الطبيعة، لا يشين المرأة في شيء فهو عام في الطبيعة الأنثوية حتى على مستوى الخلايا الجنسية، فالخلية "المذكَّرة نشطة متحركة، تجدُّ في طلب الخلية المؤنثة، أما البييضة فثابتة وسلبية"، وأعجب من هذا وأغرب في طبائع بعض الإناث: ما أشارت إليه بعض الدراسات من تلذذ المرأة المغتصبة في بعض حالات الاغتصاب الجنسي، رغم شدة الموقف وقسوته -كما هو مفروض- وما ذلك إلا لهذا المعنى السلبي في مسلك الأنثى الجنسي، ففي الوقت الذي يتضرر فيه الذكر غاية الضرر إذا(2/180)
فُعلت به فاحشة اللواط من حيث إذلاله، وذهاب شهامته: فإن شيئاً من ذلك لا يكون بين الرجل وزوجته لتوافق وتكامل الطبيعتين الإيجابية والسلبية بينهما، ولهذا لما سُئل عبد الله بن المبارك عن الغلام إذا أراده بعض الفسقة للفاحشة قال: "يمتنع ويذب عن نفسه، قال: أرأيت إن علم أنه لا ينجيه إلا بالقتل، قال: أيقتل حتى ينجو؟ قال: نعم"، فالضرر الواقع على الذكر من وطء الذكر ولو بالتراضي أشد وأخبث من ضرر الاغتصاب الواقع على الأنثى من الذكر، ولهذا جاءت عقوبة اللواط عند السلف أشد وأعنف من عقوبة الزنا، لمخالفتها لأصل الفطرة.
ومنها: تحمُّل ترك الجماع مع القدرة عليه: عبادة، أو اختياراً مباحاً لفترات طويلة قد تصل إلى أشهر، أو سنوات، أو ربما ترْكه بالكلية لمصلحة معتبرة شرعاً، في حين يندر هذا المسلك في أكثر الرجال، ويُستْغرب منهم، في الوقت الذي لا يُستغرب إذا جاء من جهة النساء، ولهذا لُوحظ أن حالات النفور من الجنس والممارسات الجنسية أكثر في الإناث منها في الذكور، فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن نسبة النفور من الجنس وممارساته تصل عند الإناث إلى 35%، وعند الذكور 15% كما أن انشغال أذهان الشباب بالقضية الجنسية أكثر من إنشغال الفتيات، وهذا كله في الجملة يدل على اختلاف طبيعة السلوك الجنسي بين الجنسين.
ومنها: اختلاف أساليب الحوافز الجنسية بين التلقائية السريعة والمْوضعية البدنية المحدودة عند الذكور، وبين التعقيد والبطء في عمل هذه الحوافز، وتنوعها، وانتشارها البدني عند الإناث؛ وذلك لتناسب طبيعتهن الساكنة المستترة؛ ولهذا تفتقر المرأة إلى زوجها لإثارتها أكثر من افتقاره هو إليها في إثارته؛ وذلك بناء على اختلاف أساليب عمل الحوافز الجنسية بينهما.(2/181)
ومنها: ارتباط النشاط الجنسي عند الأنثى بالجانب النفسي كأبلغ ما يكون، في حين يمارسه الرجل غالباً كوظيفة بيولوجية معتادة، فمع أن الحياة الجنسية عند الإنسان بصفة عامة مرتبطة بجانبه النفسي إلى حد كبير: فإن السلوك الجنسي عند الإناث ظاهرة نفسية أكثر بكثير من كونه وظيفة بيولوجية معتادة، ففي الوقت الذي يكون فيه الجنس عند الرجال ممارسات متفرقة: ينغمس النساء فيه بعمق، وليس ذلك لكونهن أرغب من الرجال في الممارسات الجنسية وكثرة الوقاع، وإنما للارتباط العميق عندهن بين الناحيتين الجنسية والنفسية، فالمرأة: قد تمتنع عن الجماع، وتصبر على ذلك، ولكن يعز عليها ويصعب أن لا تكون موضوعاً جنسياً مُستحسناً، فهي مفتقرة إلى إعجاب الآخرين، وظامئة لاستحسانهم؛ ولهذا كثيراً ما تتبرج المرأة، وتظهر بعض مفاتنها، وليس ذلك رغبة في الفاحشة، وإنما لمجرد إثارة الآخرين، حتى تُعزِّز بذلك جنسها، وما هي به أنثى، في حين لا تُعرف مثل هذه المسالك الجنسية عند الرجال، بل قد تنفصل عندهم -في بعض الأحيان- الممارسة الجنسية عن الواقع النفسي، فهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يجامع بعض إمائه في الليلة التي تُوفيت فيها زوجته أم كلثوم رضي الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن تدفن، فلم تحُلْ الحالة النفسية -رغم شدتها- دون نشاطه الجنسي، ومثل هذا لا يكاد يُوجد في عالم النساء إلا أن يكون شذوذاً نادراً.
ومنها: امتزاج الحياة الجنسية عند الأنثى بالحب والتوحُّد في الطرف الآخر، بحيث يضعف نشاطها، أو يضْمحل مع غير المرضي عندها من الأزواج، في حين لا يدخل الحب كعنصر رئيس في نشاط الذكور الجنسي، كما أن التعدد للزوجات عندهم -في حد ذاته- من العناصر المنشطة، والمرغوب فيها.(2/182)
ومنها: ارتباط نشاط الإناث الجنسي بالمعاناة والألم؛ وذلك لارتباطه بالتناسل ومكابدة آلام الحمل والولادة والرعاية ونحوها، في حين لا يعدو نصيب الرجل من هذه المعاناة النسائية إلا صَفْوَ لذَّتها، كما هو في غالب طوائف الحيوانات، ولهذا لاحظ بعض الباحثين زيادة ميل النساء في هذا العصر - بصورة خاصة- نحو الجنس بعد ظهور حبوب منع الحمل التي حققت للنساء المتعة الجنسية دون الارتباط بمعاناة الحمل، وما يلحق به من رعاية النسل، ففرَّقت موانع الحمل الحديثة بين الجنس بهدف التكاثر، والجنس بهدف المتعة.
ومن خلال هذه النقاط المتعددة تظهر الفروق الجوهرية- التي يحاول بعضهم إنكارها- بين سلوك الذكور الجنسي وسلوك الإناث، التي تفرض على منهج التربية مراعاة هذه الطبائع الأصلية في كيان الجنسين، والعمل على ثباتها، كل حسب طبيعته، ودوره كنوع إنساني متفرّد.
6- تأثير الدورة الشهرية على نفسية الفتاة
الحيض أو الطمث: نزيف دموي أسود ثخين، منتن الرائحة، يدفعه الرحم عبر أعضاء الأنثى التناسلية بطريقة تلقائية في عدد من الأيام، أقلُّها دفعة من دم، وأكثرها سبعة عشر يوماً، وذلك بصورة دورية كل شهر، ضمن سنوات الإخصاب وهو: "خِلْقةٌ في النساء، وطبعٌ معتاد معروف منهن"، وهو مع ذلك أحد أنواع الدماء الثلاثة المتفق عليها بين المسلمين، والخاصة بالنساء وهي: دم النفاس: ودم الاستحاضة، ودم الحيض، إلا أنه أهم هذه الدماء لاعتياده، ولعموم بلوى النساء به.
ولما كان الحيض بطبيعته استنزافاً دموياً: فإنه يستهلك شيئاً من قوى الفتاة البدينة، فيؤثر في نشاطاتها الحيوية، وأدائها الجسمي العام، خاصة إذا كانت الفتاة في الأصل ضعيفة البنْية، فإن بلوغها سن المحيض لا يزيدها إلا رهقاً وضعفاً.(2/183)
ومع كون الحيض يشكِّل للفتيات عنتاً جسمياً؛ فإنه إلى جانب ذلك يُثير عندهن قلقاً وتوتراً نفسياً، وشعوراً عاماً بالسلبية والدنس، وربما هيَّأ لبعضهن حالة نفسية تساعد على الانحراف الخلقي، حتى إن الدراسات تكاد تجمع على أن معظم جرائم النساء تتم في أثناء الحيض، ولعل مما يؤكد هذا الواقع: الحديث الذي رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يربط فيه بين الحيض والشيطان؛ لكون المرأة بالحيض تنقطع عن الصلاة وبعض العبادات ، فيكون ذلك محبوباً للشيطان، وبالتالي تكون أقرب للوقوع في الخطأ، وأكثر تهيؤاً لقبول وساوسه وأوهامه.
ولعل أقل ما يمكن أن يبعثه الطمث في نفس الفتاة: الخجل، خاصة عند المبتدئات منهن، مما يدل -في العموم- على وجود معاناة صحية عامة تصاحب نزيف هذه الدماء، وتُؤثر بصورة سلبية على مشاعر الفتاة، وطاقاتها البدنية.
والملاحظ أن سبب وجود هذا التوتر النفسي، وشدة عنفه ترجع -من جهة- إلى طبيعة الحيض المستنزفة لطاقة البدن، ومن جهة أخرى ترجع إلى الغموض والاختلاف الذي يكتنف فقه الحيض، واستغلاق بابه على الجهابذة من الفقهاء، فضلاً عن الفتيات المُتحيِّرات، اللاتي لا يعرفن له أياماً معلومة، ولا يُميِّزن له لوناً معروفاً، فلا يهتدين في ذلك بشيء، فينْسَقْن بالتالي إلى شيء من التذمر والضيق، والتزمُّت الفقهي المتكلَّف، الذي نهت عنه الشريعة السمحة، والذي قد يصل ببعضهن إلى حدِّ الشَّك في طهارة كل شيء، كما حدث للمرأة الصالحة أم الفضل بنت المرتضى (ت773هـ) من الابتلاء بالشك في الطهارة، إلى درجة أنها لا تأكل، ولا تلبس إلا من صنع يدها حذراً من النجاسات.
كما أن تراث القرون الغابرة، وما خلَّفته من ركام مشاعر الخزي والنجاسة التي رُبطت بالحُيَّض والنفساء، كل ذلك ينحط بثقله على نفس الفتاة وأحاسيسها، فيطبعها بمشاعر الشذوذ والمنبوذيّة، ويُلْبسها ثوب الحقارة والدونية.
7- تقبُّل الفتاة للدورة الشهرية(2/184)
إن محاولة علاج المشكلات المتعلقة بالدورة الشهرية، والتخفيف من آثارها السلبية على نفس الفتاة، وصحتها العامة: ينطلق في منهج التربية الإسلامية من أربع نواح مهمة، وذلك على النحو الآتي.
الناحية الأولى: شرعية، حيث ربط نظام الإسلام بين الحيض، وبين العديد من الأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات والمعاملات، حتى إن المتأمل يجده طبيعة فطرية مهمة لضبط عبادات النساء، وعلاقاتهن الزوجية؛ لهذا أوجب الشارع الحكيم عليهن تعلُّم أحكامه، وجعلهن في كل ذلك مؤْتمنات على ما يجري في أرحامهن، مُصدَّقات فيما يخبرن عن أحوالهن الخاصة، فهذا النزيف الدموي المتكرر من هذه الجهة نعمة، وليس بنقمة.(2/185)
الناحية الثانية: نفسية، حيث تجد الفتاة في تقبُّلها لهذه الطبيعة الأنثوية، وحسن توافقها معها: تعزيزاً لجانبها المعنوي؛ لأنها بتوافقها، ورضاها عن هذه الحالة النسائية الفطرية، تمارس عبادة لله تعالى وتؤجر عليها؛ وذلك من خلال أسلوب الترك لبعض أنواع من الشعائر التعبدية، فهي لا تترك هذه العبادات لكونها أصبحت بالحيض نجسة، أو ناقصة الأهلية، فإنها بإجماع المسلمين طاهرة الذات، كما أنها كاملة الأهلية؛ وإنما تترك بعض العبادات طاعة لله تعالى حيث أوجب ذلك عليها زمن الحيض، لا لمجرد كونها تنزف دماً، فإن المُستحاضة هي الأخرى تنزف دماً -وكلاهما نجس بالإجماع كسائر الدماء السائلة- حتى إن الأطباء لا يفرِّقون بينهما من جهة المدة لو لا أن الشارع الحكيم فرق بينهما، ومع هذا لا تمنع المُسْتحاضة من العبادات والممارسات التي تُمنع منها الحائض والنفساء، فلا تأثير لدم الحيض على شخص الفتاة باعتبارها إنساناً، وإنما تأثيره في المنع من الجماع، وعلة ذلك الضرر الثابت، وفي الأثر عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إذا حاضت المرأة حَرُمَ الحجران"؛ يعني الفرج والدبر، وأما تأثيره في سلوكها العبادي فلا يُعلَّل؛ لكونه عبادة، والعبادات لا تعلَّل؛ إذ الأصل فيها الانقياد والخضوع، فالأمر التعبدي هو "الأمر الذي لا تدرك له علَّة، ولا يتوصل العقل إلى معرفة كُنْه سرِّ تشريعه، كعدد ركعات الصلوات المفروضة"، ومع هذا فأمر الحيض مُنْحصر في: الصلاة، والصيام، والمكوث في المسجد، وقراءة القرآن، وما عدا ذلك فهي كما كانت قبل الحيض وبعده، وهذا هو حدُّ نقصان الدين عند الحيَّض من النساء، وفي الحديث:(( نقصان دين النساء الحيض)).(2/186)
الناحية الثالثة: صحية، من حيث أن سيلان دم الحيض -في حد ذاته- دليل على اكتمال نمو الفتاة، وسلامتها الصحية، وقدرتها على التناسل، فإذا اجتمع إلى ذلك: اعتدال عدد أيامه، وانضباط زمن سيلانه: كان دليلاً جيداً على كمال صحة الفتاة النفسية والجسمية، في حين تُعد الفتاة التي لا تحيض ناقصة مَعِيبة؛ فإن انقطاع الحيض -في حد ذاته- يأس وحرجٌ، واحتباسه، أو اضطراب سيلانه: مرض وأذى، فعُلم من ذلك أن الحيض صحة للفتاة، تتخفَّف بخروجه من آفاته وعلله -تماماً- كما تتخفف من باقي أنواع الفضلات التي تتأذى باحتباسها، مع كونه أمارة سلامتها للإنجاب؛ ولهذا لما أراد الله تعالى إكرام نبيه زكريا - عليه السلام - : أصلح له زوجه بأن جعلها صالحة للولادة برد الحيض إليها بعد أن كانت عاقراً؛ فالحيض صلاح للنساء، "والفتاة القابلة لأُنوثتها بشكل خالٍ من الصراعات، والمتوافقة مع انتمائها الأنثوي: تنتظر الحيض باعتزاز كدليل على المرور إلى النضج، والأنوثة الفعلية".(2/187)
الناحية الرابعة: اجتماعية، حيث الخجل الشديد الذي ينتاب الفتيات من سيلان الدم، وما يصدر عنه من رائحة كريهة، مما قد يسوقهن إلى بعض السلوكيات الاجتماعية والصحية الخاطئة، تحاشياً منهن للحرج الاجتماعي والأسري، وقد عالج نظام الإسلام التربوي بصورة جذرية هذه الناحية بإجازة مخالطة الحائض بصورة طبيعية دون تحفُّظ؛ حتى تبقى قضية الحيض في حدود حجمها الطبيعي، تخدم صحة الفتاة العامة، وتضبط نظام عباداتها ومعاملاتها الشرعية، وقد وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال معاملته للحُيَّض الأسلوب الاجتماعي الأمثل، الذي يحدُّ من معاناة الفتيات لهذه المسألة، ويحصرها في زاويتها المحدودة ؛ فقد كان يبلغ من الحائض مبلغاً عظيماً: فيؤاكلها ويشاربها، ويصلي بجوارها، ويقرأ شيئاً من القرآن في حجرها، وربما خالطها مباشراً لها، فلا يتحاشى من ذلك إلا الجماع، حتى إنه ربما وضع خدَّه وصدره الشريفين على فخذ إحداهن وهي حائض، بل ربما نال دمُها رحْلَه على دابته، أو كساءَه الذي يُصلي فيه، أو ثوبه مما يلي جسده الشريف حتى يراه الناس، فلا يزيد في كل هذه المواقف المتعددة على الأمر بغسْله دون نكير، أو تثريب، فلم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام في كل جوانب عشرته للنساء عموماً، ولزوجاته خصوصاً ما يدل على استقذاره، أو نفوره من شخص الحائض، أو مما ينساب منها؛ لكونه يصدر عنها تلقائياً بغير إرادة منها، فهذه الصور الواقعية للممارسة النبوية تبقى مثالاً حياً للطريقة الاجتماعية الصحيحة في رعاية الفتيات، والنساء عموماً حين يتلبَّسن بحال الحيض أو النفاس.(2/188)
ومع كل ما تقدم في هذه النواحي الأربع تبقى مسألة الدماء الطبيعية بالنسبة للأنثى وأوليائها أداة حبسٍ وتعطيل، لا تنفك معاناتها النفسية والاجتماعية عن تجربة الفتاة الحائض، مهما كان نصيبها التربوي من الرعاية والعناية الخاصة، ومهما كان مقام وليِّها من الفضل والسؤْدد؛ ففي حجة الوداع لما حاضت عائشة رضي الله عنها، تمنَّت أنها لم تحج ذلك العام، وقالت متذمِّرة منكَّسة: "… لا أحسب النساء خلقن إلا للشر"، ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند نفْره من منى خبر حيض صفية بنت حيي رضي الله عنها، وكونها بسبب حيضها سوف تعوق الركب عن السفر: دعا عليها بالعُقم، وحلق الرأس، بما هو معلوم عند العرب في مثل هذه المواقف المحرجة، حيث قال لها: ((عَقْرَى حَلْقى، إنك لحابستُنا… ))، ومن هنا فلا بد أن توطن الفتاة نفسها على مكابدة هذه الأنواع من المعاناة الطبيعية التي لا بد منها، مع الرضا بها على أنها نوع من الابتلاء الذي يتطلب الصبر، مع التقبل لها، والتوافق معها، دون تذمُّر ، أو تسخُّط.
8- الاحتلام المنامي عند الإناث
الاحتلام: هو الجماع وما يتعلق به في المنام، يُعاينُهُ البالغ ضمن تجربة جنسية، فيقذف الماء بصورة تلقائية، يصاحبها عادة شعور باللذة والانفراج، وهو من خصوصيات الإنسان، عدا الأنبياء عليهم السلام لكمالهم، والذكور والإناث في شأن الاحتلام سواء؛ إذ هن في مثل هذه القضايا شقائق الرجال، حتى العذراء منهن يمكن أن تحتلم ما دامت بالغة؛ فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل تغتسل المرأة إذا هي احتلمت؟ فقال: " نعم إذا رأت الماء"، وهذا من الأمور الثابتة المعلومة لدى الأطباء.
وبداية قدرة الفتاة على هذا الإنزال المنامي: بلوغها لسن الحيض، حيث يسبق هذه السن جمعٌ من الأحلام المنامية التي تحمل مضامين عاطفية، تؤكد بصورة عامة نوع هوية الفتاة الجنسية.(2/189)
ومع كون تجربة الاحتلام تشمل كل طبقات الإناث البالغات، إلا أنها - مع ذلك - لا تعمُّ بالضرورة جميع أفراد النساء؛ فإن الاحتلام فيهن قليل مقابلة بأحوال الذكور، خاصة عند المتزوجات منهن، والشواب من الفتيات، حتى إن البعض - لندْرته - استنكر وقوعه منهن؛ فقد تعيش إحداهن الدهر لا تعرف إنزال الماء إلا بالجماع، حتى وإن كانت ترى في منامها دواعي ذلك كما يراها الرجل.
وكل هذه الأحوال المختلفة لطبيعة احتلام الإناث تبقى بالنسبة للفتاة السليمة الصحيحة ضمن الحدود الطبيعية المعتادة التي لا تُستنكر، فكما أن في الإناث من لا تكاد تحتلم أصلا، فكذلك يوجد في الرجال من العزاب من لا يعرف الاحتلام، مع كمال قدرته الجنسية وتعفُّفه، ومع ذلك فإن المضمون الجنسي للأحلام عند الإنسان بصورة عامة لا يزيد عن (10%) من مجموع أنواع المضامين المنامية الأخرى، وهذه المضامين الجنسية هي في جنس الرجال أكثر منها في جنس النساء.
ومن جهة أخرى لا ينبغي للفتاة المسلمة المتعفِّفة: أن تستهجن أو تستحقر تلبُّسها بتجربة الاحتلام مهما كانت شنيعة؛ فإنه لا حرج عليها، حتى وإن كانت متزوجة -ما دام يحصل لها بصورة معتدلة- ذلك لكونها ظاهرة طبيعية صحية، ينتفع بها البدن غاية الانتفاع، ويحصل بها تفريغ الطاقة الجنسية المكبوتة بصورة فطرية مشروعة، تستغني بها الفتاة عن الوسائل الأخرى الممنوعة، وإنما عليها الحذر من الالتفات إلى موضوعات هذه الرؤى الجنسية، وما تتضمنه من مواقف عاطفية مع شخصيات معروفة أو خيالية؛ فإن للقلوب الضعيفة تعلُّقاً ولو بالخيال، والاحتلام - مع كونه نافعاً في العموم- فإن الشيطان يدخلُهُ بتأثيره الخاص، فليكن انتفاع الفتاة بانتقاص الماء، وذهاب الفْضل، وسكون الغُلْمة، دون ملابسات ومتعلقات مواقف التجربة المنامية.
5- طبيعة سلوك الأنثى الجنسي(2/190)
رغم الغموض الشديد الذي يكتنف طبيعة الحياة الجنسية عند أنثى الإنسان، وإجماع الباحثين على الحيرة في تحديد جوانب ملامحها بدقة: فإن الثابت يقيناً أن لها نشاطها الجنسي الخاص، الذي يختلف اختلافاً كبيراً عن نوع نشاط الذكور الجنسي في جوانب متعددة، إلا أنه مع ذلك يتحد معه بصورة عامة في مبدأ التلذذ والاستمتاع، فمع كون الأنثى تتأثر -كما يتأثر الذكور- بإفرازات الغدد للهرمونات الجنسية الخاصة؛ فإنها مع هذا تختلف في طابع سلوكها الجنسي عن طابع سلوك الذكور في جوانب متعددة.(2/191)
منها: السلبية في السلوك الجنسي بما تحمله من مظاهر الانتظار والتحفُّز، وما يقابلها في سلوك الذكور الجنسي من مظاهر العدوان والمبادأة، حتى إن المطاوعة منهن لزوجها في الجماع في نهار رمضان لا تُلزم بالكفارة عند بعض الفقهاء، كما لا يصح منها الظهار فتمتنع عن تمكين زوجها من نفسها، كما أن الفتاة المُغْتصبة قد تُعذر إن خشيت الهلاك، في حين قد لا يُعذر الرجل إذا أجبر على الفاحشة، ولعل في خبر أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وهي المرأة الجلدة ما يدل على هذه الطبيعة الجنسية الأصيلة في نهج الأنثى، وذلك حين زجرها زوجها الزبير - رضي الله عنه - وأرضاه عن قرْبه لما حلَّت من عمرتها ولبست ثيابها، وهو بعد لم يزل على إحرامه، حيث قالت له، معبِّرة عن هذه الطبيعة السلبية في سلوكها الجنسي كأنثى: "أتخشى أن أثب عليك"، وكذلك في خبر نبي الله يوسف - عليه السلام - حين راودته امرأة العزيز والنساء معها: دليل على اختلاف طبيعة سلوك الرجل الجنسي عن طبيعته عند الأنثى؛ فلو أراد الرجل المرأة أكرهها، أما إن أرادته هي دون رغبته عجزت عن إكراهه؛ ولهذا لجأت امرأة العزيز إلى تهديده بالسجن والعقوبة، فالأنثى بطبيعتها الفطرية "أقل اندفاعاً في حياتها الجنسية من الذكر، كما أنها أقل تهوراً، واندفاعاتها الجنسية هي أكثر تعبيراً عن عواطفها منها عن حاجتها الجنسية"، وهذا المسلك السلبي فطري الطبيعة، لا يشين المرأة في شيء فهو عام في الطبيعة الأنثوية حتى على مستوى الخلايا الجنسية، فالخلية "المذكَّرة نشطة متحركة، تجدُّ في طلب الخلية المؤنثة، أما البييضة فثابتة وسلبية"، وأعجب من هذا وأغرب في طبائع بعض الإناث: ما أشارت إليه بعض الدراسات من تلذذ المرأة المغتصبة في بعض حالات الاغتصاب الجنسي، رغم شدة الموقف وقسوته -كما هو مفروض- وما ذلك إلا لهذا المعنى السلبي في مسلك الأنثى الجنسي، ففي الوقت الذي يتضرر فيه الذكر غاية الضرر إذا(2/192)
فُعلت به فاحشة اللواط من حيث إذلاله، وذهاب شهامته: فإن شيئاً من ذلك لا يكون بين الرجل وزوجته لتوافق وتكامل الطبيعتين الإيجابية والسلبية بينهما، ولهذا لما سُئل عبد الله بن المبارك عن الغلام إذا أراده بعض الفسقة للفاحشة قال: "يمتنع ويذب عن نفسه، قال: أرأيت إن علم أنه لا ينجيه إلا بالقتل، قال: أيقتل حتى ينجو؟ قال: نعم"، فالضرر الواقع على الذكر من وطء الذكر ولو بالتراضي أشد وأخبث من ضرر الاغتصاب الواقع على الأنثى من الذكر، ولهذا جاءت عقوبة اللواط عند السلف أشد وأعنف من عقوبة الزنا، لمخالفتها لأصل الفطرة.
ومنها: تحمُّل ترك الجماع مع القدرة عليه: عبادة، أو اختياراً مباحاً لفترات طويلة قد تصل إلى أشهر، أو سنوات، أو ربما ترْكه بالكلية لمصلحة معتبرة شرعاً، في حين يندر هذا المسلك في أكثر الرجال، ويُستْغرب منهم، في الوقت الذي لا يُستغرب إذا جاء من جهة النساء، ولهذا لُوحظ أن حالات النفور من الجنس والممارسات الجنسية أكثر في الإناث منها في الذكور، فقد أشارت بعض الدراسات إلى أن نسبة النفور من الجنس وممارساته تصل عند الإناث إلى 35%، وعند الذكور 15% كما أن انشغال أذهان الشباب بالقضية الجنسية أكثر من إنشغال الفتيات، وهذا كله في الجملة يدل على اختلاف طبيعة السلوك الجنسي بين الجنسين.
ومنها: اختلاف أساليب الحوافز الجنسية بين التلقائية السريعة والمْوضعية البدنية المحدودة عند الذكور، وبين التعقيد والبطء في عمل هذه الحوافز، وتنوعها، وانتشارها البدني عند الإناث؛ وذلك لتناسب طبيعتهن الساكنة المستترة؛ ولهذا تفتقر المرأة إلى زوجها لإثارتها أكثر من افتقاره هو إليها في إثارته؛ وذلك بناء على اختلاف أساليب عمل الحوافز الجنسية بينهما.(2/193)
ومنها: ارتباط النشاط الجنسي عند الأنثى بالجانب النفسي كأبلغ ما يكون، في حين يمارسه الرجل غالباً كوظيفة بيولوجية معتادة، فمع أن الحياة الجنسية عند الإنسان بصفة عامة مرتبطة بجانبه النفسي إلى حد كبير: فإن السلوك الجنسي عند الإناث ظاهرة نفسية أكثر بكثير من كونه وظيفة بيولوجية معتادة، ففي الوقت الذي يكون فيه الجنس عند الرجال ممارسات متفرقة: ينغمس النساء فيه بعمق، وليس ذلك لكونهن أرغب من الرجال في الممارسات الجنسية وكثرة الوقاع، وإنما للارتباط العميق عندهن بين الناحيتين الجنسية والنفسية، فالمرأة: قد تمتنع عن الجماع، وتصبر على ذلك، ولكن يعز عليها ويصعب أن لا تكون موضوعاً جنسياً مُستحسناً، فهي مفتقرة إلى إعجاب الآخرين، وظامئة لاستحسانهم؛ ولهذا كثيراً ما تتبرج المرأة، وتظهر بعض مفاتنها، وليس ذلك رغبة في الفاحشة، وإنما لمجرد إثارة الآخرين، حتى تُعزِّز بذلك جنسها، وما هي به أنثى، في حين لا تُعرف مثل هذه المسالك الجنسية عند الرجال، بل قد تنفصل عندهم -في بعض الأحيان- الممارسة الجنسية عن الواقع النفسي، فهذا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يجامع بعض إمائه في الليلة التي تُوفيت فيها زوجته أم كلثوم رضي الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن تدفن، فلم تحُلْ الحالة النفسية -رغم شدتها- دون نشاطه الجنسي، ومثل هذا لا يكاد يُوجد في عالم النساء إلا أن يكون شذوذاً نادراً.
ومنها: امتزاج الحياة الجنسية عند الأنثى بالحب والتوحُّد في الطرف الآخر، بحيث يضعف نشاطها، أو يضْمحل مع غير المرضي عندها من الأزواج، في حين لا يدخل الحب كعنصر رئيس في نشاط الذكور الجنسي، كما أن التعدد للزوجات عندهم -في حد ذاته- من العناصر المنشطة، والمرغوب فيها.(2/194)
ومنها: ارتباط نشاط الإناث الجنسي بالمعاناة والألم؛ وذلك لارتباطه بالتناسل ومكابدة آلام الحمل والولادة والرعاية ونحوها، في حين لا يعدو نصيب الرجل من هذه المعاناة النسائية إلا صَفْوَ لذَّتها، كما هو في غالب طوائف الحيوانات، ولهذا لاحظ بعض الباحثين زيادة ميل النساء في هذا العصر - بصورة خاصة- نحو الجنس بعد ظهور حبوب منع الحمل التي حققت للنساء المتعة الجنسية دون الارتباط بمعاناة الحمل، وما يلحق به من رعاية النسل، ففرَّقت موانع الحمل الحديثة بين الجنس بهدف التكاثر، والجنس بهدف المتعة.
ومن خلال هذه النقاط المتعددة تظهر الفروق الجوهرية- التي يحاول بعضهم إنكارها- بين سلوك الذكور الجنسي وسلوك الإناث، التي تفرض على منهج التربية مراعاة هذه الطبائع الأصلية في كيان الجنسين، والعمل على ثباتها، كل حسب طبيعته، ودوره كنوع إنساني متفرّد.
?
9- الاستمناء عند الإناث
يتحد الذكور والإناث - بصورة عامة- في دوافعهم الجنسية، وميولهم الشهوية، فكما أن في الرجال من تغلبه غُلْمته، حتى تصل به إلى درجة الإفراط المُخل، فإن في النساء أيضاً من تغْلبها شهوتها، وهيجان غريزتها حتى لا تكاد ترتوي بشيء، وفي كلا الجنسين -من جهة أخرى- من لا إرْب له، ولا شهوة، إلا أن المعتدل من نوعي الإنسان هو الغالب الأعم.
وتختلف حدَّة الشهوة بين الجنسين، حيث تخضع -بشكل كبير- عند الإناث إلى مواسم شهرية، وعوامل نفسية، وتكون ذرْوتها في الثلاثينات من أعمارهن، في حين تستوي حدَّتها في سلوك الذكور بصورة كبيرة فلا تخضع لمواسم معينة، وتكون ذروتها عندهم قبل سن الثلاثين.(2/195)
ويبقى دافع الشهوة عند الفتاة العزباء طبيعي النزعة، ما لم يصل إلى حدِّ الشغْل الشاغل، الذي لا يزاحمه غيره، بحيث تضطر تحت وطأة إلحاح الغريزة، وشدة عنفها إلى تفريغ الطاقة الشهوية بالاستمناء، أو ما يُسمى عند العرب بجلد عميرة، وهو ما يُعرف في حق الرجال بالخضخضة، وفي حق النساء بالإلطاف، وفي المصطلح الحديث يُعرف بالعادة السرية.
وهذه العادة مع كونها لا تحلُّ المشكلة الجنسية بصورة جذرية، فإنها تؤثر بصورة سلبية على طاقات الفتاة: الروحية، والنفسية، والجسمية، وعلاقاتها الاجتماعية، ونجاح حياتها الزوجية في المستقبل، ولهذا فهي طريقة ممنوعة شرعاً عند جمهور العلماء، وإنما أجاز بعضهم تعاطيها على سبيل الاضطرار، حين لا يجد المضطر سبيلاً مشروعاً لتصريف الطاقة، أو تسكين الغُلْمة، بشرط أن يكون ذلك لكسر الشهوة وليس لطلب اللذة، فإن أقل ما يُقال في هذه العادة: أنها من قبائح الأخلاق ومرْذولها.(2/196)
وأما حكم الاستمناء حالة الاضطرار للإناث ففي جوازه خلاف، ولئن كان بعضهم يسوِّي بين الجنسين في حكمه حال الاضطرار، إلا أن المسألة -مع ذلك- تختلف في حق المرأة لما قد تخلِّفه هذه الممارسة القبيحة من أضرار صحية على جهازها العصبي، وتشوهات وقروح وآلام على أعضائها التناسلية الحساسة، فلئن كانت هذه العادة في حق الشاب المضطر وسيلة للتخلص من الفاحشة، فإنها في حق الفتاة المضطرة ذريعة إلى الفاحشة؛ وذلك لاختلاف طبيعة السلوك الجنسي بينهما، ففي الوقت الذي تفتقر فيه الفتاة فطرياً للطرف الآخر لتفريغ طاقتها الشهوية، حيث لا تزيدها ممارسة هذه العادة إلا تأجُّجاً: فإنها في حق الشاب المضطر ممارسة موضعية، لا تفتقر لطرف آخر، ويمكن أن تحصل في حقه بصورة تلقائية، بل إن مجرد النظر أو التفكير من الشاب الممتلئ حيوية كاف لتفريغه للطاقة، فالمسألة في حق الفتيات من هذه الناحية تختلف؛ ولهذا كثيراً ما كان يتندر بعض الماجنين من شعراء العرب بالاستمناء، معبرين عن سهولته عليهم، حين تشتد غلمة أحدهم، فيصرف طاقته بالاستمناء ولا يبالي، في حين لا يُذكر شيء من ذلك عن النساء في أسلوب تصريف طاقتهن الشهوية.(2/197)
ولا يُفهم من هذا التوجه الفقهي: كبْت الطاقة الجنسية، بمعنى إنكارها أو استقذارها؛ وإنما المقصود هو ضبط النشاط الغريزي، وتوجيهه في مساره الصحيح بصورة شرعية واعية، فإن "تأثير الغريزة الجنسية في نفوس الشباب أشبه ما يكون بالنار المستعرة، فإذا تمردت، وتجاوزت حدود المصلحة، وتُركت طليقة دون قيود تحدُّ من هيجانها: فإنها تكون قادرة على أن تحرق جذور كل الفضائل الإنسانية والسجايا الأخلاقية، وتقضي بالتالي على سعادة الإنسان"، وتذهب بنور عقله وبصيرته، وتدفع به للقيام بما يعارض المصلحة والعقل، ويجلب الشر والمصائب والدمار، وذلك بسبب ما تحمله جاذبية الغريزة من اللذة والمتعة التي تدفع الإنسان نحو الحرية الجنسية، "ولكن حفظ الحياة الاجتماعية، والوصول إلى التكامل المعنوي: يتطلبان تحديد غرائز الإنسان، وإشباعها في حدود المصلحة الفردية والاجتماعية"، فالضوابط الشرعية للسلوك الجنسي ليست أغلالاً لتقييد الإنسان، والسعي في حرمانه من ملذاته، وإنما هي كوابح لإحكام تصرفاته، وتوجيه طاقاته، بما يحقق مصلحته الخاصة ضمن مصالح المجتمع العامة.(2/198)
ومن طبيعة الغريزة الجنسية عند الإنسان أنها مرتبطة بإرادته، كحاله مع الطعام والشراب، في حين لا يرتبط تنفُّسه وضربات قلبه ونحوهما بإرادته، وهذا من شأنه إضفاء شيء من اللذة والمتعة على السلوك الغريزي المنضبط بالإرادة، في الوقت الذي لا يجد فيه الإنسان تلك المتعة واللذة في سلوكه غير الإرادي، فإذا تمادى الإنسان في إشباع ملذاته الشهوية، وانطلق في تعاطيها بلا ضوابط: فإن إرادته تضعف، وربما تضمحل، لتقرب من حال غرائزه التي تعمل بلا إرادته، فتكون الشهوة رقاً كحال العبد مع سيده، وربما انحطَّت به إلى مرتبة الحيوان، فيفقد حينئذ اللذة والمتعة اللتين ينشدهما، وتصبح الشهوات لكثرة ممارستها بلا معنى ولا مضمون، ولعل هذا الفهم يفسِّر انصراف كثير من الغربيين عن المسالك الفطرية لتصريف الطاقات الجنسية: إلى دركات الشذوذ والانحراف المخالف للفطرة السوية.
ومن هنا فإن "تعديل الميول النفسية، وترويض الغرائز هما من الأركان الرئيسة للتمدن، والشروط الأساسية لسعادة الإنسان وهنائه، وهذا ما أجمعت عليه كل الأديان السماوية، والعلماء والمفكرون كافة.
ورغم أن الفتيات يختلفن عن الذكور في أسلوب تعاطي عادة الاستمناء القبيحة، وأقل منهم تورطاً في ممارستها؛ ومع ذلك فإن الثابت ميدانياً، في غالب الأوساط الاجتماعية: تلبُّس كثير منهن بتعاطيها، ومكابدة معاناتها، خاصة من الفتيات المتعلمات والمتحررات أخلاقياً، ممن كثرت حولهن المغريات، وضعف في نفوسهن الوازع الديني.(2/199)
إن وسيلة الفتاة العزباء لضبط هذا الدافع بعد عون الله تعالى، وسلامة صحتها العقلية والجسمية من الأمراض العصابية والعضوية المثيرة للشهوة: تجنُّبها للمواد الدسمة والبهارات والتوابل في مأكلها، والسوائل المنبهة في مشربها، وترفُّعها عن ارتداء الملابس الضيقة، وكشف العورة في الخلوة، وبعض الرياضات البدنية مثل: السباحة وركوب الخيل وقيادة الدراجات، مع حذرها من سلوك الخادمة المنحرفة، أو الصديقة المنحلة، وعليها بنتف العانة بدلاً من الحلق، فإنه أسْكن للشهوة، مع أخذها بشيء من الخشونة في فراشها، ولا بأس بالطعام، أو الدواء الذي يكْسر الشهوة، ويخفف منها، فإنْ هي اتخذت هذه الوسائل، مع اتقائها للبطالة والفراغ، وحذرها من الانفراد والانعزال: كان أعظم وأكثر نفعاً في ضبط الشهوة؛ إذ يلعب الخيال الجامح، والتجربة الطائشة عند الفراغ في زمن الخلوة: أدواراً في إثارة الغريزة، مما قد يدفع بعضهن إلى العبث بأعضائهن التناسلية، وربما حشت إحداهن نفسها ببعض المواد الغريبة؛ فإن الفتاة الصحيحة البنية إذا بقيت بغير شُغْل حنَّت إلى النكاح، واشتاقت للرجال، فإن غالب العشق إنما يأتي من فارغ النفس المترف المنعَّم، الذي كُفي أسباب المعيشة والجهد والكد، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يحذر من ذلك، وينبِّه عليه، فيقول: "الراحة للرجال غفْلة، وللنساء غُلْمة"، ثم الفتاة بعد أخذها بهذه الأسباب تترك لطبيعتها الفطرية أسلوبها الخاص في تفريغ الفائض من طاقتها الجنسية بصورة عفوية من خلال الاحتلام المنامي، الذي يحصل خارج حدود التكليف الشرعي.
10- التربية الإيمانية في مواجهة الثورة الجنسية(2/200)
لقد ثبت يقيناً وجود علاقة في غاية القوة بين ضعف الوازع الديني الإيماني، وبين الانحرافات الخلقية والسلوكية، خاصة فيما يتعلق بسلوك الفتيات الجنسي، فبقدر ما يضعف الإيمان في قلوبهن، ويبْهت تأثيره في نفوسهن: تزداد مظاهر إنحرافهن الجنسية بصورة أكبر، وقد دلَّ البحث الميداني على أن غالب البغايا لم يكنَّ مضطرات لهذه المهنة الخسيسة؛ مما يؤكد أن المشكلة في الأصل تكمن في اضمحلال القوى الإيمانية، التي لم تعد تقدر على مواجهة غلبة الشهوات المفرطة، والنزوات الساقطة، وقد قال الحكماء من قبل: "الشهوة رق"، يعني أنها تسترق صاحبها؛ لأن "الشهوة إذا غلبت ولم تقاومها قوة التقوى: جرَّت إلى اقتحام الفواحش"، ولهذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - موضحاً هذه العلاقة المتضادَّة بين الإيمان والانحراف الجنسي: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن…))، حيث يمتنع اجتماعهما، ولما كان الإيمان بطبيعته نزيهاً طاهراً: يُنزع من صاحبه، فلا يرجع إليه إلا إذا أقلع عن فعلته المنفِّرة للإيمان؛ إذ لا يمكن بحال أن يجمع العاصي -في وقت واحد- بين كمال الإيمان الرادع، وبين الكبائر المُرْدية؛ ولهذا يجد المسلم في نفسه: من وخز الضمير، ومشاعر الاحتقار، بعد ارتكابه الفاحشة مالا يجده الكافر، ومن هنا كان أسلوب الاعتراف في العهدين النبوي والراشدي - مع قلَّة الانتهاكات الجنسية- هو السبيل الوحيد لإقامة الحد، ومع هذا - رغم البون الشاسع- تُوصي منظمة الصحة العالمية بضرورة إدخال التربية الدينية ضمن المناهج الدراسية؛ بهدف الوقاية من مشكلات الانحرافات الجنسية المتفاقمة، مما يشير بوضوح إلى الأهمية الدينية - بصورة عامة- وتأثيراتها الروحية في ضبط السلوك الجنسي، وتعديل مساره بصورة إيجابية - تماماً- على عكس ما يراه البعض.(2/201)
وقد عالج المنهج الرباني شحنة الاندفاع الشهوانية بلجام التكاليف الشرعية؛ حتى تتوازن قوى الدوافع الجامحة، مع قوى الكوابح اللاجمة، ضمن مسار الاعتدال في السلوك الجنسي، الذي يتحقق من خلاله بقاء النوع الإنساني، وفْق منظومة الأخلاق والآداب اللازمة، ومن هنا جاء الإلزام بالتكاليف، والوعد والوعيد مع قوة انبعاث الشهوة الجنسية؛ لتضبط اندفاعها، وتُهذِّب عنْفها؛ ولهذا كثيراً ما تلْجأ الفتيات نحو الشعائر التعبدية بأنواعها المختلفة؛ ليتخفَّفن بها من شدة الغُلْمة وإلحاح الشهوة، فإن النشاط الروحي في البيئة الغنية بالأعمال الصالحة: يخفِّف بدرجة كبيرة من حدَّة التوتر الجنسي؛ ولهذا أرشد الشارع الحكيم إلى عبادة الصيام -بصفة خاصة- كوسيلة تربوية فعَّالة لكسر الشهوة بصورة مشروعة لا ضرر فيها.
ومن هذا المنطلق الثابت للتأثير البالغ للإيمان على سلوك الفتيات الجنسي: فإن على مؤسسات التربية في المجتمع أن تلحظ ذلك منهن، فتُهيء لهن فرص السُّمو الروحي من خلال مناهج العبادات التي تقوي إيمانهن، وتزيد من صلتهن بالله تعالى؛ حتى يستقر في نفوسهن وسلوكهن: "أن التعفُّف عما لا يحل الاستمتاع والتلذذ به إيمان، وأن التهتك خلافٌ له".
11- حماية الفتاة من الثورة الجنسية المعاصرة
مع كون الانحراف الفكري في المفاهيم الجنسية أخطر من مجرَّد الوقوع في خطأ السلوك الجنسي؛ إلا أن الانحراف الجنسي إذا بلغ منتهاه: فإنه غالباً ما يجمع في شخص متعاطيه بين انحراف الفكر، وقبح السلوك، فينتقل من خلال غواية المسْلك إلى غواية الفهم، فيجمع بين الرذيلتين، وقبيح الغوايتين.(2/202)
وأهمية تربية الفتاة من الناحية الجنسية لا تقتصر -خاصة في العصر الحاضر- على مجرَّد إقناع الفتاة بأحكام العلاقات الجنسية وضوابطها؛ بل تتعدى ذلك إلى حمايتها من أضرار الفساد الجنسي بأنواعه وجوانبه المختلفة؛ إذ ليس من الطبيعي في منهج التربية الإسلامي الاقتصار على التوجيه الفكري، والإقناع العقلي دون الاهتمام الجاد ببناء البيئة الطاهرة النقية، التي تساعد على الاستقامة السلوكية، الخالية من الفتنة والافتتان.
لقد مرَّت البشرية عبر حَقب تاريخها الطويل بمظاهر متعددة، وصور متنوعة من الانحرافات الجنسية، التي كانت من بين الأسباب الرئيسية لزوال كثير من الحضارات، وأفول كياناتها بكاملها، وضياع إنجازاتها الكبرى، وما زال العامل الجنسي -كمحور رئيس للأخلاق- يهدد الحضارات الإنسانية المعاصرة بالزوال، ويُبشِّر بقيام حضارة أخرى، على أسس جديدة من القيم الخلقية، والسلوك القويم، فإن مستقبل الإنسانية مرهون -إلى حد كبير- بالطريقة التي يتناول بها الإنسان تصريف طاقته الجنسية، التي يقوم عليها بقاء النوع، واستمرار النسل، والتي امتزجت باللذة والمتعة لضمان استمرار عطائها، مما قد يدفع الإنسان -بهدف المتعة- إلى الانحراف بهذه الطاقة بعيداً عن مقصد الشارع من مبدأ تركيبها، لتصبح أداة إزعاج، وتدمير للإنسانية.(2/203)
لقد أصبح من المسلَّم به عند الباحثين أن التوتر الجنسي الدائم هو سمة الحضارة المعاصرة، وطابعها العام؛ بحيث يصعب على الفرد المعاصر -ذكراً كان أو أنثى- حماية نفسه من زخم الإثارة الجنسية العارمة، ومثيراتها المتنوعة، الضاربة في كل جنبات الحياة الحضرية المعاصرة، والمتغلغلة في جزئياتها الصغرى، وكلياتها الكبرى، مما كان له بالغ الأثر في دفع الناس عموماً، والشباب على وجه الخصوص إلى مزيد من الممارسات الجنسية -مشروعة كانت أو ممنوعة- حتى عمَّت الثورة الجنسية كل طبقات المجتمعات المعاصرة من الصغار والكبار؛ بل وحتى الحيوانات لم تسلم من طغيان الثورة الجنسية؛ فقد كان بعضها موضع استمتاع لبعض الناس من الشواذ والمنحرفين جنسياً، من الذكور والإناث حتى وصل الانحراف إلى بعض البلاد العربية.
ولم تكن سنة الله تعالى الجارية في خلْقه لتتخلف عن المفرِّطين والمنحرفين، حتى عمَّهُم الله تعالى بالأمراض والأسقام التي لم تكن في أسلافهم، خاصة مرض نقص المناعة المكتسبة: "الإيدز"، الذي ما زال يحصد ضحاياه بصورة فاجعة فريدة، لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإنساني، مما دفع بعض المنظمات الأمريكية إلى المناداة من جديد بمحاربة الانحرافات الجنسية والأخلاقية، ودعم - في مقابل ذلك- الأسرة والاستقرار المنزلي.
إن من الضروري -والحالة هذه- السعي الجاد في حماية المجتمع المسلم عامة، والفتاة المسلمة خاصة، من هذا الانحراف الداهم؛ فإنهن في سن الشباب أكثر عرضة للإصابة بمرض الإيدز من الذكور؛ لكونهن أسرع بلوغاً، وبالتالي هن أيضاً أسرع تبكيراً من الذكور في ممارسة العلاقات الجنسية المحرمة، والإحصائيات العالمية الحديثة تشير إلى أن الإناث عموماً يمثلن نصف المصابين بهذا المرض تقريباً، ولما كان هذا المرض يفتك غالباً بالشباب ما بين 15-24سنة: فإن الإناث يمثلن 30% من المصابين به دون سن الخامسة والعشرين.(2/204)
ومجتمع العالم اليوم يُعد قرية واحدة يؤثر بعضه في بعض، ومظاهر الانحرافات الخلقية ملازمة لبناء المجتمع الحضري، في ظلِّ الوصاية الغربية ضمن مفهوم العولمة، فلا بد أن يستقر في ذهن الفتاة المعاصرة: أن العلاقة في غاية القوة بين الانحراف الجنسي بمظاهره المختلفة، وبين ما يتولَّد عنه من أضرار صحية شاملة، ومن المعلوم شرعاً أن: "الرضا بالشيء: رضا بما يتولد منه"، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
12- دعم مشاريع الزواج المبكر(2/205)
إن حصر النشاط الجنسي في نظام الزواج، وتحريم العلاقات الجنسية خارجه: من أعظم ما سعِدت به الإنسانية، وارتقت به عبر عصورها المختلفة، إلا أن تغيُّراً عظيماً طرأ في هذا العصر على طبيعة هذا النظام، هدَّد الحياة الجنسية، وأنْذر بخطر جليل: فقد تأخر سن الزواج ليوافق طبيعة الظروف الاقتصادية المتردية، وظهر نظام التعليم الحديث، وظهر معه التوسع في تشغيل الفتيات، كل ذلك يقف في وجه قيام الحياة الزوجية في وقت مبكر بصورة طبيعية، فأفرز هذا الوضع الاجتماعي المضطرب جمعاً من المسالك الجنسية المنحرفة خارج حدود الحياة الزوجية ؛ إذ إن طبيعة الدافع الجنسي عند الإنسان تحتاج إلى الإشباع بصورة كافية ودائمة، ولا تتحمل - في كثير من الأحيان- التأجيل، فإما أن يتم هذا الإشباع بطريق مشروع، أو يحصل بطريق غير مشروع، فإذا لم تنصرف الطاقة الشهوية بشيء من ذلك -بصورة كافية- ظهرت مشكلات التوافق الاجتماعي والنفسي، والأمراض العصابية القاهرة، التي تعاني منها المجتمعات الحضارية المتقدمة، في الوقت الذي سَلمتْ منها المجتمعات الريفية البسيطة التي لا تعرف نظام العزوبة، ومن المعلوم: أن الإفراط في كبت الطاقة الجنسية، مع توافر دواعي الإثارة: يُضعف جانباً من قوى الإنسان العقلية المدركة، ويُخلُّ بجانب كبير من كوابحه الخلقية الضابطة؛ ولهذا توسع الإسلام في باب النكاح والتَّسرِّي كأوسع ما يكون، وربما إلى درجة الوجوب أحياناً؛ حتى لا يبقى شيء من مادة الطاقة الجنسية كوقود للانحرافات الخلقية، أو النفسية.(2/206)
وقد عالج البريطانيون في القرن الثامن عشر الميلادي مشكلة الانحرافات الجنسية التي تفاقمت عندهم آنذاك بتشجيع نظام زواج الفتيات المبكر، منذ الثانية عشرة من أعمارهن، وهي السِّن التي تنبعث فيها ميول الفتيات الجنسية بصورة واضحة، فهن بعد البلوغ في حاجة إلى الإحصان الذي يتحقق لهن بالزواج، كما أن بلوغ الفتيات سناً معينة ليست شرطاً في صحة عقد الزواج، وما زال العقلاء في كل عصر يُوصون بتعجيل النكاح، وتخفيف مؤونته كحل جذري للمشكلة الجنسية، وللحفاظ على المجتمع من ضلال شبابه وفتياته بطاقاتهم الجنسية، حتى إن بعضهم يقترح التوسع في تزويج الشباب من الجنسين، مع تأجيل الإنجاب، أو التحكم فيه حسب ظروف الزوجين في أول حياتهما.
ونظام الإسلام الاجتماعي يُحمِّل الأسرة المفرِّطة في التبكير بتزويج أبنائها من الذكور والإناث قسطاً من المسؤولية الشرعية تجاه انحرافاتهم الجنسية، فإن عدم وجود القدرة على التناسل عند المراهقين المقاربين للبلوغ لا يعني عدم قدرتهم على الجماع ومقدماته، كما أن ابتداء الحيض عند الفتاة لا يعني - بصورة مطلقة- قدرتها على التناسل؛ فإن قدرتها على تحمل الوطء تسبق قدرتها على التناسل بسنوات، وبناء على هذا الواقع الطبيعي لا بد من التوسع بصورة كبيرة في مبدأ التزويج إذا حضر الكفء، دون النظر - بصورة مفرطة- إلى السن، أو المعوِّقات الاقتصادية والاجتماعية، بل لا بد من العمل الجاد لتجاوزها بما يخدم صحة الشباب الجنسية، ويحفظ المجتمع من أسباب الفساد والانحراف الخلقي.
13- تربية الفتاة على العفَّة الجنسية(2/207)
إن من أهم وسائل الصحة الجنسية بعد تقوى الله تعالى، والأخذ بسنة النكاح: تربية الفتاة على أدب الاستعفاف الجنسي الذي يُعدُّ أسَّ الفضائل الخلقية؛ وذلك لضرورته الإنسانية من جهة صلته المباشرة بجانب اللذة الجسدية، حيث يضبط دوافع الشهوات المختلفة بين درجتي الشره المُفرط، والجمود المُفسد، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مُحذراً الشباب: ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغيِّ في بطونكم وفروجكم ، ومضلات الفتن)).
ولما كانت الشهوة الجنسية عند الشباب أعنف شهواتهم الحسِّية، وأخطرها على انتظام حياتهم الاجتماعية: فإن بعث خلق العفة في سلوكهم الجنسي من أوجب وأهم حاجاتهم التربوية، لكونها ملكة خلقية تعصم من الفواحش الجنسية، خاصة في هذا العصر الذي زاد فيه الاحتكاك الجسدي بين الجنسين بصورة واسعة ومستمرة، حتى إنه لا يُبعد في ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية القاسية: أن ترْتمي -رغم أنفها- على صدر شاب في حافلة مزدحمة، ثم يُطالب الاثنان بسلوك الرهبان، فأيُّ قدْر من العفَّة هذا الذي يحتاج إليه الشباب من الجنسين في مثل هذه الظروف الاجتماعية المثيرة؟.(2/208)
ومع أن العفة الجنسية خُلُق يُطالب به الجنسان، إلا أنه في حق الإناث آكد، ولطبيعة دورهن أوجب من جهة حراسة النسب، فهن من هذه الجهة مؤتمنات على فروجهن، وفي هذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشدداً عليهن في هذا الشأن: ((أيُّما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته…))؛ وذلك لكونها تدخل على الأسرة من يتطلع على عورات أهلها، ويُشْركهم في أموالهم بغير حق، إلى جانب ما يلحق الأسرة عند الافتضاح من العار والشنار، وما زالت المجتمعات الإنسانية بوجه عام تُعظِّم -بصورة ما- شأن العفة في الإناث، وتُطالبهن بها أكثر بكثير مما تطْلُبه، وتشدد عليه في أمر الذكور؛ ولهذا تعاقب بعض القوانين على خطف الأنثى أشد من معاقبتها على خطف الذكور، "وفي المجتمع الأمريكي تُدان المرأة المدمنة أكثر مما يدان الرجل المدمن"، "ودائماً المجتمع أكثر تسامحاً إزاء مخالفات الذكور عن مخالفات الإناث"، وفي هذا الشأن يقول يزيد بن ميسرة: "المرأة الفاجرة كألف فاجر"؛ ولهذا خُصَّت الإناث من بنات آدم - عليه السلام - بغشاء البكارة دون سائر الخلق؛ ليكون دليلاً على العفة والعذرية، ووسيلة مُعينة للإناث على التعفف ، فهنَّ -دائماً- بالفطرة أقرب في العموم إلى معاني الشرف والفضيلة من الذكور، ولا يُعرف فيهنَّ الانحراف الجنسي إلا في الوقت الذي يفقدن فيه أصول القيم الخلقية، ويتنكَّرن للآداب الاجتماعية، فعندها تُسيطر الغريزة، فلا يقف في سبيل إشباع نهمتها، وقوة اندفاعها حائلٌ من رغبة أو رهبة، ولو حِيكَت منافذ فروجهن بالأوتار القاسية، أو شُدَّت عليها أحزمة العفة المُحكمة، ما لم تكن العفة خُلُقاً أصيلاً ينبعث من داخل نفوسهن؛ فإن الأخلاق لا تُسمى أخلاقاً بمجرد التلبُّس بها، حتى تتشرب بها النفس، وتكون سجية طبيعية لها، والعفة ليست جوهراً من جواهر النفس، بمعنى أنها جزء من الذات، وإنما هي لون من ألوانها، وشرط(2/209)
ضروري لمروءة الإنسان، يحتاج في إيجادها وتفعيلها إلى التربية والتهذيب والمجاهدة.
ولما كانت الوسيلة إلى العفة الجنسية: ضبط الجوارح عن المُستلذات المثيرة، فإن باب النظر بحاسة البصر أوسع أبواب الإثارة الجنسية، فهو كالمصْيدة، يزرع في القلب الشهوة، فمع كون الإناث في العموم أقلَّ تأثراً بالمثيرات البصرية من الرجال، وأكثر تأثراً بالمثيرات السمعية إلا أنهن مع ذلك يتأثرن من جهة البصر، خاصة وأن كثرة وقوع أبصارهن على ما يُثيرهن من مُسْتلذات النظر يفوق من جهة النوع والتكرار حجم ما تسمَعُه إحداهن -بصورة مباشرة- من العبارات المستعذبة المثيرة؛ ولهذا فإن الفتاة في باب النظر إلى المحرمات المُشْتهاة كالرجل مأمورة بغض البصر، لاسيما إن هي خشيت على نفسها الفتنة، أو قصدت بنظرها التلذذ، فلا خلاف حينئذٍ في حرمة ذلك عليها.
ولعل مما يُعين الفتاة على ضبط سلوكها الجنسي: أن تعرف أن العفَّة أقْصر طرق الأنثى إلى قمة الفضيلة، وأنها ما دامت عفيفة فهي مُحصنة؛ لأن إحكامها لرغباتها الفطرية، وإيقاعها الهزيمة بشهواتها الجسدية دليل على قوة شخصيتها؛ فإن: "عبد الشهوة أذل من عبد الرق"، ومن تعثَّر بالشهوات ضعف أمام الشبهات؛ فإنه "لا يقوى على ترك الشبهات إلا من ترك الشهوات"، والفتاة "العفيفة بها طمأنينة، وثقة في نفسها لا يخطؤها إنسان"، وما عَلَتْ أخبار نبي الله يوسف - عليه السلام - وجُريْج، وصاحب الغار إلا من هذه الجهة، ثم إن العفة في الأنثى سلوك غير مُستغرب؛ ففي عالم الحيوان يكون الامتناع -بصورة عامة- عن الاتصال الجنسي من جهة الأنثى، وفي بعض الحيوانات يكون من الذكر والأنثى معاً، إلا أنه لا يكون الامتناع أبداً من جهة الذكر دون الأنثى، ولهذا السلوك الحيواني دلالته التربوية لأنثى الإنسان، حين تكون العفة فيها أصلاً أصيلاً في سلوكها الجنسي.(2/210)
إن وجود شيء من الكبت المعتدل للدافع الجنسي: سلوك طبيعي مُسْتساغ في التصور الإسلامي، حيث ينعكس تأثيره بصورة إيجابية على نشاط الفتاة: الروحي، النفسي، والعقلي، كما أنه مع هذا ميدان لتنافس الفتاة الأخروي؛ فإن حفظ الفرج: طريق الجنة والرضوان، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( يا شباب قريش لا تزنوا، واحفظوا فروجكم، ألا من حفظ فرجه دخل الجنة ))، ولا يفهم من هذا تجرُّد الفتاة المُتدينة المنضبطة عن دوافعها الجنسية، أو أنها أقل شهوة من غير المتدينة،؛ فإن الدوافع الجنسية بينهما متشابهة، وإنما الاختلاف بينهما في تفاوت قدرتهما على ضبط سلوكهما الجنسي. ومع كل هذا فإن العفة الجنسية أصبحت اليوم - في ظلِّ آثار الثورة الإباحية المسعورة- مطلباً عالمياً محترماً ، يحظى بالجلال العلمي، القائم على قوانين كونية صادقة لا تتخلّف، تفرض على الناس - رغماً عنهم- احترام القيود الجنسية التي جاءت بها الأديان السماوية لمصلحة الإنسان، حتى وإن لم يتقيَّدوا بها، وقد ظهرت في الأوساط الاجتماعية الأمريكية - رغم انحلالها- مؤسسات دينية تدعو إلى العفة الجنسية، وحصر النشاط الجنسي في نطاق الحياة الزوجية، وقد استجاب إلى ذلك كثير من الشباب والشابات، ووقَّعوا على بطاقات يتعهدون فيها أمام الله تعالى بالتقيد بذلك.
14- حفظ الفتاة من الوقوع في فاحشة الزنا
يعتبر الزنا من كبائر الذنوب، الموجبة لغضب الله تعالى وغيرته، والجالبة للهلاك والدمار الشامل، لما فيها من الاعتداء على حق الله تعالى، وانتهاك حرمة الفرج الحرام؛ إذ هو في الشريعة أعظم جُرماً من انتهاك حرمة الأموال.(2/211)
ومع كون الزنا علاقة جنسية محرَّمة بين ذكر وأنثى، يستويان فيها أمام الشريعة في مبدأ المُؤاخذة والمحاسبة: فإن الفتيات المنحرفات ألصق بهذه الجريمة الخلقية من غيرها من الجرائم، وأكثر تورطاً فيها من الذكور، ولهذا يُعد وصف البغاء وصفاً خاصاً بالمرأة الفاجرة، وقد أشار المولى - عز وجل - في كتابه العزيز إلى هذا المعنى حين قدَّم ذكر الزانية على الزاني في إقامة الحد.
وقد شهدت المجتمعات المعاصرة ولاسيما غير المسلمة -بنسب مرتفعة- انتشار فاحشة الزنا بصور لم يسبق لها مثيل في التاريخ خاصة بين الفتيات، حيث تعيش 60% من الشابات مع رجال دون عقود زواج، وما بين 50-75% من الإناث يُنجبن أطفالاً خارج نطاق الزواج، وفي تقرير للمعهد الوطني الفرنسي للأبحاث الديموغرافية أن 40% من نسب الولادات تتم خارج نطاق الحياة الزوجية، وقد كشفت دراسة أجريت في بعض دول أوروبا عام 1992م أن 99% من الإناث يفقدن بكارتهن بوصولهن سن السابعة عشر، بل إن البكر دون السادسة عشرة يندر وجودها في بعض هذه البيئات الاجتماعية المنحرفة، ومن أعجب ما يُروى في هذا الشأن: أن طفلاً "ترك اسم أبيه ناقصاً في الاستمارة المدرسية، وقد أفاد الطفل بأنه غير متأكد ممن عساه أن يكون أباه … وعندما حضرت الأم إلى المدرسة، أظهرت شدَّة أسفها لأنها هي أيضاً لم تكن متأكدة من اسم والد الطفل، ولم تُظهر أي ارتباك في ذكر هذا الأمر".(2/212)
وقد نتج عن هذا الوضع العالمي المنحرف: توسع الفتيات الهائل في علاقاتهن وممارساتهن الجنسية لتشمل حتى المحارم من الذكور، وتصل ببعضهن الغواية الجنسية إلى حد الاحتراف، بحيث يقعن تحت سلطان شبكات الدعارة العالمية أو المحلية المنظمة، فتصبح إحداهن كالأمة المُسْترقة لا خلاص لها، في الوقت الذي يتَّفق فيه العالم على محاربة البغاء، وتجمع كل الدول على منع الرِّق بصوره المختلفة؛ خاصة ما يُسمى بالرقيق الأبيض، الذي تُمْتلك فيه الفتاة الحرة معنوياً للقوَّادين، يستذلُّونها جسدياً بهدف الربح المادي، كما كان الفجَّار في عصر الجاهلية يستخدمون الإماء، وهذا النوع من الرق المعنوي أقبح -في الحقيقة- من الرق الحسي، الذي يعرفه صاحبه، ويسعى فيه لخلاص نفسه.
ولئن كانت المتاجرة بأعراض النساء أو ما يسمى بالبغاء التجاري أمراً قديماً فإنه في هذا العصر أوسع من ذي قبل، وأكثر شيوعاً، فقد ارتبط بالحياة الحضارية، وأصبح ظاهرة من ظواهرها المعتادة، ولاسيما في الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي شهدت توجهاً عالمياً صريحاً، ومتزايداً نحو نشر المعرفة الجنسية، والتسامح في العلاقات المحرمة بين الجنسين، حتى إن ألمانيا اعترفت مؤخراً بالبغاء، واعتبرته مهنة رسمية كسائر المهن الأخرى.(2/213)
إن العالم الإسلامي المعاصر لم يكن بمنأى عن هذه الانحرافات الجنسية بصورها المختلفة: فإن ظهور الزنا نبوءةٌ صادقة، وتتبُّع سَنَنِ أهل الكتاب سبيل هذه الأمة المحتوم، فما من انحراف عندهم -أيا كان نوعه- إلا كان للأمة نصيب منه حتى زنى المحارم، وقد شهد واقع المجتمعات الإسلامية المعاصر صوراً مشابهة -بنسب مختلفة- تطابق - إلى حدٍّ ما- جميع أنواع الانحرافات الجنسية في المجتمعات الكافرة، حتى إن الأمة الإسلامية اليوم لا تنتظر من أنواع الانحرافات الجنسية المتوقَّعة في ديارها إلا التسافد في الطرق، وافتراش النساء فيها، اللذين أخبر بوقوعهما المعصوم عليه الصلاة والسلام.
وتتَّضح المشكلة بصورة أوضح بالنسبة للعالم الإسلامي حينما تسجل الإحصائيات الرسمية أن جريمة الاختلاء المحرّم بين رجل وامرأة تأتي ثاني الجرائم الأخلاقية من جهة الترتيب في المملكة العربية السعودية، التي تُعد أكثر دول العالم محافظة وأمناً، مما ينبه إلى خطر داهم، ويشير إلى نسب في دول أخرى عربية وإسلامية تفوق هذه كماً وكيفاً.
وقد لاحظ الباحثون أن العوامل التي تدفع الفتاة للوقوع في فاحشة الزنا بأنواعها وأساليبها المختلفة ترجع غالباً إلى ثلاثة أنواع من العوامل:
عوامل اجتماعية: من حيث تفريط المجتمع في المبادئ والقيم الأخلاقية، من خلال إشاعة الفواحش والتحريض عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وتعطيل حدود الله تعالى، مما يجرِّئ المنحرفين على الوقوع في الفواحش، إلى جانب ضعف مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يجد المنحرفون في المجتمع من يردعهم عن الوقوع في الانحرافات، أو على الأقل ينصحهم بترك الخطأ، والالتزام بالآداب والأحكام الشرعية.(2/214)
عوامل أسرية: من حيث تحلُّل الروابط العائلية، وكثرة المنازعات الوالدية، وسوء التربية بضياع القيم الدينية والأخلاقية، والقسوة الأبوية المفرطة، مع فقدان الرقابة الأسرية الواعية على سلوك الفتيات ، إلى جانب ظروف الأسرة الاقتصادية المُختلَّة، التي تُلْجئ الفتاة بقسْوتها -في بعض الأحيان- إلى الاتجار بجسدها في المجتمع، وتدفعها داخل الأسرة للاحتكاك الجسدي بمحارمها، إذ لا تستطيع الأسرة الفقيرة لضيق المكان: أن تطبِّق آداب الاستئذان، ومبدأ التفريق بين البالغين في المضاجع، فضلاً عن تطبيقها هذا الأدب الإسلامي مع الأطفال المقاربين للبلوغ.
عوامل شخصية: من حيث طبيعة الفتاة العدوانية، ورغبتها في الاستقلال عن الأسرة، وبلوغ حدِّ الرشد، والاطمئنان من خلال احتكاكها بالجنس الآخر على كمال نموها الأنثوي، وقدرتها على الحمل، مع اشتداد جوعها العاطفي، وافتقارها إلى الحب، ورغبتها في الاستمتاع الشهواني، إلى جانب إخفاق الحياة الزوجية، والحقد على عنصر الرجال، وضعف مستوى الإدراك العقلي، وشعور بعضعهن بالاحتقار الاجتماعي، والرغبة في مزيد من الكماليات المادية، فلئن كان هناك نسبة من محترفات البغاء سلكن هذا الطريق المنحرف بسبب الفقر: فإن نسبة كبيرة منهن سلكنه لمجرد الرغبة في الرفاهية المادية، وتحسين وضع أسرهن الاقتصادي، والمنافسة مع القرينات، ولما يحملنه في نفوسهن من الفسق والفجور، حتى إن بعضهن يدخلنه تطوعاً بلا إكراه، ولا يرغبن العدول عنه، فتندفع إحداهن بطيشها، وفجورها في مهاوي الرذائل والقبائح الخلقية.
إن هذه العوامل المتعددة رغم أهمية بعضها وخطورته، وضرورة إشباعها: لا يمكن أن تكون عذراً كافياً لوقوع الفتاة في مهاوي الفاحشة والرذيلة؛ فإن الإسلام لا يُجيز للفتاة المسلمة -تحت أي ظرف- أن تُمكِّن بإرادتها رجلاً من نفسها، يستمتع بها بغير حق وهي قادرة على دفعه، إلا أن تُغْلب على أمرها، فلا تستطيع شيئاً.(2/215)
والواجب الشرعي يحتم على المجتمع والأسرة أن يقوم كلٌ بواجبه تجاه الفتاة، بما يحقق رغباتها، ويسد حاجاتها، ويحفظها من الانحراف ضمن الحدود الشرعية، وفي الجانب الآخر فإن الواجب الشرعي على الفتاة أن تلتزم بما أوجبه الله عليها من المحافظة على نفسها وعرضها، وأن تجاهد في هذا السبيل مستعينة بالله، سواء قام المجتمع والأسرة بواجباتهما تجاهها، أم لم يقوما، فإن تقصير المجتمع أو الأسرة في واجباتهما، لا يُعفي الفتاة من القيام بواجبها تجاه نفسها قدر استطاعتها.
15- حماية الفتاة من ورطة الشذوذ الجنسي
ترجع قضية شذوذ النساء الجنسي، أو ما يُسمى بالسحاق إلى قرون متقدمة، ابتداء من نساء قوم لوط - عليه السلام - حين انتشرت فيهن، حتى لحقت هذه الفعلة القبيحة غالب ذكورهم لأول مرة في التاريخ الإنساني، ثم تبعهم كثير من الأمم بعد ذلك، مقتدية بهم في اكتفاء الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، خاصة من الشعوب الأوروبية المتعاقبة، عبر تاريخهم الطويل، حتى تورط في هذه الجريمة كثير من كبرائهم وساداتهم، رغم ممارسة السلطات الدينية -في ذلك الوقت- أشد أنواع العقوبات بحق الشاذين والمنحرفين جنسياً، ومع هذا فقد بقي المجتمع العربي -رغم جاهليته- محفوظاً بشهامته العربية، وأخلاقه الفطرية من انتشار هذه الرذيلة الخلقية.(2/216)
واستمرت المجتمعات البشرية تتوارث هذه الفاحشة جيلاً بعد جيل مستنكرة لها، ومعاقبة أصحابها، حتى بدت لهؤلاء الشاذين قوىً تنظيمية مؤثرة، وتجمعات جماهيرية تُؤيِّد مذهبهم المنحرف، ونهجهم الجنسي الضال، فأخذوا يتنادون من خلال مبدأ الحرية الشخصية بحقِّهم في ممارسة العلاقات الجنسية المثلية، فأثَّروا في الرأي العام الذي بدوره أضعف من قوة السلطة القانونية والتنفيذية في مواجهة اندفاع هذا التيار الجنسي الشاذ، فما لبثت القوانين أن تغَّيرت، والمفاهيم أن تبدَّلت، حتى غدا الشاذون من الجنسين مقبولين اجتماعياً دون نكير، وأصبحت نظرة المجتمعات المنحرفة إلى قضية العلاقات المثلية على أنها خبرة تستحق التجريب، فخاضها كثير من الناس -تحت حماية القانون- بصورة كبيرة لم يسبق لها مثيل، وقد كان لليهود -كعادتهم في نشر القبائح- الدور الكبير وراء تشجيع مسلك الشذوذ الجنسي، ليصبح معترفاً به ضمن القوانين الوضعية، على الرغم من أنه محرم في شريعتهم؛ فقد كانوا في القديم يعاقبون عليه بقسوة.
ورغم أن انتشار هذه الفاحشة بين الذكور أكبر من انتشارها بين الإناث، ولاسيما الفتيات منهن في المجتمع المسلم؛ لكون مسلك الغواية الجنسية وانحرافاتها غالباً ما تأتي من جهة الذكور، إلا أن المشكلة -مع ذلك- في ازدياد مستمر، وأعداد المنحرفين والمنحرفات في المجتمعات المسلمة في تنامٍ خطير، وحقوقهم المزعومة تتَّجه نحو القوة والتمكين، ولاسيما بعد دعاوى تحرير المرأة، واندفاع النساء نحو المساواة، وهذا من شأنه تقارب حجم الانحرافات بين الجنسين وتشابهها، وقد لُوحظ بالفعل في بعض المجتمعات الإسلامية المحافظة وجود بعض النساء بمظاهر ذكورية، مع انطماس معالمهن الأنثوية، مما ينذر بخطر ظهور الشذوذ الجنسي بين النساء في المجتمعات المحافظة.(2/217)
إن موقف الشريعة الإسلامية -بل جميع الشرائع السماوية- يخالف موقف القوانين الوضعية في التعامل مع هذه الفاحشة، حيث اعتبرتها الشريعة محرمة بالإجماع، وأدخلتها في باب الزنا، وجعلتها ضمن كبائر الذنوب، حتى وإن لم يكن فيها حدُّ منصوص عليه، فقد أدَّب المجتمع المسلم النساء والفتيات المتعاطيات لهذه الفاحشة بما يردعهن عن التمادي فيها، كما أن عقوبة الله الكونية للمنحرفين من هذا الضَّرْب من الناس: لم تتخلَّف عن الشاذات في هذا العصر، حتى هَلَكْن كما هلك أضْرابُهنَّ من الشاذين بمرض "الإيدز" المُحيِّر.
وقد ثبت يقيناً أن الدين الحق، ومسالك التدين هي العلاج الناجح لمثل هذه الشذوذات السلوكية، إذا لم يكن هناك خلل في أصل الخلقة ؛ إذ لا يُجدي في حل هذه المعضلة النفسية الجنسية: الحقن بالهرمونات، ولا الصعْق بالكهرباء، ولا الاختلاط بالجنس الآخر -كما يُريده البعض- فإن غالب مواقع انتشار هذه الشذوذات الجنسية في الأوساط الاجتماعية التي تحبّذ الاختلاط بين الجنسين وتقرُّه.(2/218)
إن جذور معضلة الشذوذ الجنسي عند الفتيات ترجع في أصل الأمر إلى البيئة الاجتماعية أكثر من رجوعها إلى أي سبب آخر، ومبدأ ذلك حين تتوجه الفتاة في فورة نموها الجنسي بالإعجاب المفرط، الممتزج بالعاطفة الهائمة نحو شخص من نفس الجنس، تتخذه -بصورة عفوية- موضوعاً جنسياً لها، في نفس الوقت الذي تحاول فيه إخفاء ميولها الطبيعية نحو الجنس الآخر الذي حالت بينها وبين الاقتران بأحدهم بصورة مشروعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاهرة: فتُظْهر النفور من جنس الذكور عامة، وكل ما يتعلق بهم بصورة خاصة، وتُقْبل بالحب الفياض -مندفعة بعواطفها ورغباتها الغريزية- نحو زميلة مُتألِّقة تُصادقها، أو معلمة بارعة تُلازمها، وتبقى العلاقة بينهما إلى هذا الحد طبيعية ، ما لم تتعمق الصلات بينهما إلى حد الالتصاق الجسدي، والتلامس البدني، وكشف العورات وتناولها، فتتلبس حينئذ إحداهن بالسَّادية العدوانية، والأخرى بالمازوشية السلبية، وعندها تكون بداية الانحراف الأكبر بفقدان الفتاة لهويتها الجنسية.(2/219)
إن نظام الإسلام التربوي عند معالجته مثل هذه الانحرافات الخلقية: يتناولها من مبادئ أصولها الانحرافية، فيقطع جذورها من أساسها، ويبني مكانها ما يتلاءم مع أهداف منهجه، وطهارة مسْلكه، ومن هنا: أمر ابتداء بالتفريق المطلق بين المراهقات في المضاجع، ونهى عن المباشرة بينهن بالأجساد، وأمرهن بستر العورات، وغض البصر عما يُتلذذ به وإن لم يكن عورة، وأباح -إلى جانب هذه الضوابط- الزواج المبكر كأوسع ما يكون؛ حتى تندفع شحنتا الفتاة النفسية والجنسية الناميتان نحو الجنس الآخر بصورة مشروعة؛ فإن العلاقة قوية بين ترك الزواج وبين شذوذ الفتيات الجنسي، وإضافة إلى هذه الضوابط والتوجيهات المتعددة فقد لعن الشارع الحكيم المسترجلات من الفتيات السَّاديات، المتشبهات بالرجال في أخلاقهن وسلوكهن، وأمر الفقهاء بحبسهن ليكتفي المجتمع شرهن، كما رفضت الشريعة مبدأ وجود جنس ثالث غير الذكر والأنثى، بل حتى الخنثى فإنه يُغلَّب ليُلحق بأحد الجنسين، فليس في المجتمع الإنساني إلا ذكوراً أو إناثاً؛ كل ذلك حتى يبقى السلوك الجنسي محفوظاً بكل ملابساته الاستمتاعية في مساره الطبيعي، يُؤدي المهمة التناسلية -التي من أجلها رُكِّبت الشهوة- بكفاية تضمن بقاء النوع مسْتخْلَفاً في الأرض جيلاً بعد جيل.
16- ضرورة تطهير المجتمع من أسباب الفتنة الجنسية(2/220)
إن من المسلَّم به: أن دافع الغريزة الجنسية من أقوى دوافع الإنسان، والغريزة بطبعها الفطري عمياء خادعة، لا تعرف التمييز بين النافع والضار، أو الحلال والحرام، إلا ما يُشبع نهمتها على أي وجه كان من الوجوه، كما أن درجة عنفها، وطبيعة أدائها لا تخضع لتطور الحياة الاجتماعية وتغيراتها المادية أو المعنوية؛ فإن أفعال الغريزة ثابتة لا تتغيَّر، والإنسان في كل عصر هو الإنسان -ذكوره وإناثه- لا تقبل غرائزه الخروج عن طبيعتها في تطور أو تجديد، وما زالت القضية الجنسية -بصفة خاصة- قضية الإنسان منذ العصور المتقدمة، ومحور كثير من اهتماماته ومعاناته، حتى إنها كانت في بعض الشعوب ميدان عبادة وتقديس، وقد سبق من خبرات الناس الصحيحة: أنه ما من "سبيل إلى نزع الأخلاق من شعب من الشعوب أنجع وأجدى من ترك شبيبته نهباً للغرائز دونما ضبط أو قيد"، فالسلامة من فتنة الشهوات: سلامة من نصف الشر، كما أن السلامة من فتنة الشبهات: سلامة من نصف الشر الآخر.
ومنهج التربية الإسلامية في تعامله مع الإنسان لا يكتفي بمجرد تحريم السلوك الخلقي المنحرف؛ بل يجْتثُّ من أول الأمر الأسباب المؤدية إليه، فيُطالب المجتمع ابتداء بتطهير مؤسساته كلها من أسباب الفتنة الجنسية، ومثيراتها الشهوانية؛ حتى يتوافر للأفراد، -بصورة عامة - المناخ الصحي الملائم لنمو وازدهار سلوكهم الخلقي السوي، وهذا لا يتحقق على الوجه الصحيح -خاصة في هذا العصر- إلا من خلال ثلاث وسائل رئيسة على النحو الآتي:(2/221)
الوسيلة الأولى: تطهير وسائل الإعلام من أسباب الفتنة الجنسية: بهدف تحرير عنصر الإناث من سجن البيولوجية الجسدية، إلى رحاب الإنسانية الكاملة، وذلك من خلال كفِّ وسائل الإعلام بشعبها الثلاث: المرئية، والمسموعة، والمقروءة عن استهواء الفتيات بما تعرضه عبر المَشَاهد من صور الإغراء الجنسي المثير، وما تبثه عبر الأثير من السماع الفاحش الصاخب المحرك للطباع، وما تنشره عبر المطبوعات من الأدب الإباحي المكشوف، فإذا كان المجتمع صادقاً في حرصه على العفَّة التي يدَّعيها، وملتزماً بالقوانين الأخلاقية التي يتنادى بها: فكيف يفسر تنازله الشائن عن هذه القيم الأخلاقية بإباحة عرض أجساد الفتيات عارية في الأفلام ودور الرقص، وعبر المجلات المصورة، والإعلانات التجارية؟ ثم بعد ذلك يترك الفتاة الشابة في خضم هذا الزخم الإعلامي الفاحش المثير لتحلَّ هذه المعضلة الاجتماعية بنفسها: فتشاهد وتستمع وتقرأ - ومع ذلك- تبقى ضمن حدود الآداب والأخلاق الاجتماعية المرعية، وهذا من أشد أنواع التناقض الاجتماعي، الذي ترفضه أبسط مبادئ التربية، وتمجُّه أضعف العقول.(2/222)
الوسيلة الثانية: تطهير المعرفة العلمية والثقافية من أسباب الفتنة الجنسية: بحيث تنسجم المعرفة التربوية بكل فعالياتها الفكرية والسلوكية مع منهج التربية الإسلامية، فلا يجد المربون في مناهج التربية ما يخالف مبادئ الإسلام، أو يتعارض مع أسلوبه في معالجة مشكلات الشباب الأخلاقية والسلوكية. إلا أن الناظر في مجال التربية وعلم النفس يجده ميداناً رحباً عند كثير من التربويين؛ يُؤصِّلون من خلاله أخطاء الشباب الجنسية والعاطفية، تحت ستار الدراسات النفسية والتربوية، كما يجد في مجال الثقافة والفكر من يُؤيِّد هذه الاتجاهات الجنسية السقيمة، ويدعمها بالحجة العقلية والمنطقية، ثم يجد بعد هذا في مجال التشريع الإسلامي من يتبرع -باسم الدين- لأسلمة هذه الأفكار والسلوكيات الجنسية المنحرفة، ويضْفي عليها ثوب الشرعية الدينية، ويُهوِّن على نفوس الشباب وضمائرهم أمر ارتكابها، إضافة إلى وجود قوى عالمية، ذات ثقل كبير تقف وراء عولمة بعض المصطلحات الجديدة، ضمن مفاهيم تتناسب معها، مثل: العائلة، الإجهاض، الحرية، الثقافة الجنسية.
إن منهج التربية الإسلامية بطبيعته الربانية المتميزة لا يقبل الشِّرْكة، فإما أن ينفرد بتربية الأجيال وفق نهجه وطبيعته الخاصة، وإما أن تتنازع التربية أهواء الذين لا يعلمون، من روَّاد العقد النفسية، والفتنة الجنسية.(2/223)
الوسيلة الثالثة: تطهير المرافق العامة من أسباب الفتنة الجنسية: بحيث لا تجد الفتاة في الحياة الاجتماعية العامة ومناشطها المختلفة، الجادة منها والترفيهية: ما يُحرِّضها -بصورة من الصور- على ارتكاب الفواحش، أو يُثير غريزتها، أو يجعل من بدنها، أو صوتها من خلال تبرجها واختلاطها: أداة للإثارة الجنسية، والاستمتاع الباطل، فإن المباعدة بين أنفاس الذكور والإناث: دينٌ يُتَّبع، وإلزام الشواب من النساء بما وقع الخلاف في جواز كشفه من أبدانهن - فضلاً عن المجمع على ستره- حقٌ يُحتذى، ومسؤولية يقوم بها السلطان؛ فقد أثبتت التجربة الواقعية والتاريخية أن المجتمعات التي تلتزم فيها النساء الحجاب الكامل، والتي يقلُّ فيها الاحتكاك بين الجنسين: أنها مجتمعات سليمة من مظاهر وانحرافات السلوك الجنسي بأنواعها المختلفة.
إن هذه الوسائل الثلاث إذا راعاها المجتمع، وألزم بها مؤسساته المختلفة فغالباً ما تُدْرأ عن مثل هذا المجتمع أسباب الفتنة الجنسية، وتبقى قضية الجنس في حدودها الزوجية، ضمن نطاق الأسرة، تؤدي دورها في التناسل والتكاثر دون انحرافات خلقية، أو معاناة اجتماعية تُخرج أفراد المجتمع عن حدودهم الطبيعية.
17- ختان الإناث من الوجهة التربوية(2/224)
الختان هو الخفض أو الإعذار للجارية الصغيرة، وهو عملية جراحية خاصة بإناث بني آدم، تُجرى لهن عادة قبل البلوغ، تُستأصل فيها القُلْفة الصغيرة التي تعلو البَظْر كالقلنسوة، بين الشفرين الصغيرين فوق فتحة المهبل، تُشبه في شكلها العام عرف الديك، وتماثل في طبيعة تركيبها قُلفة الحَشَفَة التي تٌستأصل من القضيب عند الذكور، وهو من العادات الصحية القديمة، التي تعاقبت خبرات كثير من الشعوب على الأخذ بها، حتى بعض المجتمعات الأوروبية الحديثة إلى عهد قريب، وما تزال كثير من المجتمعات الإسلامية -ذكوراً وإناثا- منذ القديم وحتى اليوم تُمارسها وتُؤيدها، إلا أنها لا تجعل من ختان الإناث موسم فرح وبهجة كما هو الحال في ختان الذكور.
ورغم انتشار خفض الإناث في كثير من المجتمعات الإسلامية المُتعاقبة: فإن العلماء منذ القديم، وحتى في هذا العصر مُتنازعون في حُكمه على ثلاثة أقوال: بين الوجوب المُلزم وهم القلة، وبين إنكار مبدأ سُنِّيته، وبين القول بالاستحباب وعليه الأكثرون، ومنشأ هذا التنازع قائم على اختلافهم في الحكم على أسانيد الروايات النبوية الواردة في شأن خفض البنات بين القبول بها، وبين ردِّها، إلا أنه رغم هذا التنازع: فإن إجماعهم قائم -في العموم- على مبدأ المشروعية المطلقة على أقل تقدير، حتى وإن لم يكن ذلك واجباً، أو سنة، أو مستحباً، خاصة وأن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام قد نصَّ صراحة على: أن ذلك الموضع من الأنثى موقع للختْنِ، حيث قال في الحديث الصحيح: (( إذا جلس بين شعبها الأربع، ومسَّ الختان الختان: فقد وجب الغسل)).(2/225)
وعادة الخفض في المجتمعات الإسلامية كغيرها من العادات التي تتعرض لجانبي الإفراط والتفريط: بين من ينكرها جملة دون تفصيل، ويعتبرها ممارسة همجية إجرامية في حق الإناث، ويعقد المؤتمرات التي تدين ممارستها، ويسنُّ القوانين التي تجرِّم وتعاقب متعاطيها، وبين من يتعمق في الأخذ بها حتى يتعدى حدود المشروع فيها إلى درجة الإضرار بصحة الفتاة العامة: النفسية، والجسمية، والجنسية، وكلا الاتجاهين مذموم: فالفئة الأولى يردها الإجماع، الذي يستحيل نقضُهُ، وأما الفئة الأخرى فيردها الضمان المالي، الذي يصل أحياناً -بحسب حجم الجُرْم- إلى مقدار الدِّية الكاملة، فالتطبيق الخاطئ في بعض المجتمعات لختان الإناث، وتجاوزهم في ذلك، لا يبرر لأحد المنع المطلق من تطبيق الحكم الشرعي في ختانهن، وقد مرت فترة قريبة على الغربيين لم يحبذوا فيها ختان الذكور، فلما تبين لهم فضله وأهميته: أخذوا به، فقد وصلت نسبة الآخذين في حق الذكور 85%، ولعلهم حين يتبين لهم في المستقبل فضله في حق الإناث: يأخذون به أيضاً.
والخفض على منهج السنة النبوية إذا أجري على أصوله الجراحية دون مبالغة، وكان بين يسير القطع، وبين الاستئصال الكامل، اللذين عبر عنهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالاشمام والإنهاك: كان هذا الخفض من الناحية الجسمية نافعاً وصحياً، ولا ضرر منه على الفتاة؛ إذ لا يعدو أن يكون عملية تجميلية صغيرة لا تغير كثيراً من منطقة الأنثى التناسلية، أما آثاره التربوية على سلوك الفتاة الجنسي من تلطيف الميل الجنسي عندها، وتوجيهه نحو الاعتدال: فهي المقصودة بالدرجة الأولى من عملية الخفض؛ إذ لا يُتصور أن تُكشف العورات، وتُنْتهك حُرمة الأجساد لغير جليل من الأمر.(2/226)
وقد اتّضح من خلال أعمال التشريح الطبي، والبحوث الميدانية المتعددة، وخبرات الشعوب المتراكمة: أن البَظْر -الذي يقصد بعملية الخفض- هو زناد شهوة الأنثى الجنسية، وسرُّ إثارتها، ومركز دائرة استمتاعها، فرغم التوزيع الطبيعي لمواضع الإثارة الجنسية في أجسام الإناث، إلا أن هذا العضو منهن يحظى بحساسية مرهفة زائدة -تفوق حساسية القضيب عند الذكر- مع قدرته الفائقة على التوتر والانتشار، حيث تُغذِّيه شبكة دقيقة من الأوعية الغنية بالدماء، تجعل من هذا العضو الصغير أداة عنيفة للتهييج الجنسي، الذي تأباه -ولو كان بصورة مشروعة- تربية الفتاة وثقافتها الدينية، حتى إن مجرد احتكاكه المباشر بملابس الفتاة -بصورة عفوية- كافٍ لحصول شيء من الإثارة الشهوية؛ ولهذا حُفظ هذا العضو المثير مُخبَّأً بين شفْرين صغيرين، محمياً بعظم العانة المكسي بالأنسجة الدهنية السميكة، ليبقى بعيداً بعض الشيء عن الاحتكاكات العفوية المثيرة أو العنيفة، وإلى هذا الحد تبقى معاناة الفتاة الجنسية من هذا الموضع في حدود إطارها الطبيعي، الذي لا يكاد يغيب عن تجربة الفتاة الشابة.
وتظهر المشكلة الجنسية عند الفتاة إذا تجاوز نمو البَظْر -لسبب ما- حدَّ الاعتدال، حتى يبرز من مكْمنه؛ ليصبح أداة إثارة دائمة، وإزعاج جنسي: بحيث يعوق الرجل عن كمال الاستمتاع في المناسبات الزوجية، ويزيد من نهم الفتاة الشَّبقي حتى لا تكاد ترتوي من بعْلها، مما قد يسوقها بالتالي إلى شيء من الارتكاس الفطري فيما يُسمى: بالتثْبيت البَظْري، فلا تستمتع بصورة كافية من الموضع الذي يُولج فيه الرجل؛ لكونه منعزلاً بعض الشيء عن موقع البظر، إلى جانب أنه أقل حساسية وإثارة منه، فتبقى متعتها خارجية، محصورة في هذا العضو المُتضخم.(2/227)
وأقبح من هذا وأرذل: أن يدفعها جُوعها الجنسي، وحاجتها المتنامية للإشباع نحو الشذوذ الجنسي، فتستنكف مقام الأنثى، وتأبى أن تكون فراشاً لمتعة الرجل، فتتشبه بمسلك الذكور في طباعهم وجراءتهم؛ ولهذا تُسمى المرأة الوقحة من هذا الصنف: "بظْرير" نسبة إلى هذا المتاع من الأنثى، وقد وُجد بالفعل أن هناك علاقة كبيرة بين ضخامة هذا العضو، وبين الشذوذ الجنسي عند بعض الإناث، وطباع الاسترجال في سلوكهن؛ ولهذا فقد كانت معالجة نمو البظر الزائد عن حدِّه الطبيعي موضع اهتمام عند بعض الأطباء، وهو ما يُسمى بالأدب الجراحي.
ومن هنا يأتي دور الختان؛ ليقوم بعملية خفض لهذه الطاقة الشهوية الناشزة في سلوك الأنثى الجنسي والخلقي، وتعديلها على نحو يتناسب -إلى حد ما- مع مقدار طبيعة المهبل الشهوية، ليبقى موضع منْبت الولد الذي قصده الشارع الحكيم: مطلوباً من الجنسين، عامراً بمياه الرجال؛ لتقوم بذلك أسباب الحياة البشرية.
ومن جهة أخرى فإن الأنثى بطبيعتها الخاصة، وبما تفرضه عليها الظروف الاجتماعية، والإلزامات الشرعية: تتعرض بصورة كبيرة لفترات من الامتناع الجنسي، والحرمان العاطفي، والتربُّص والانتظار، الذي تحتاج معه إلى شيء مما يُعينها على تسكين الغُلْمة، وكسْر الشهوة، خاصة وأن طبيعة استمتاعها الجنسي تفتقر -بصورة كبيرة- إلى طرف آخر، مما قد يدفعها نحو الانحرافات الجنسية المختلفة، وقد أثبت البحث الميداني والتاريخي أن الفتيات المختونات أقل انحرافاً جنسياً من غير المختونات؛ ولهذا كان بعض الأوروبيين -إلى عهد قريب من القرن العشرين- يتعاطون الختان لضبط سلوك الفتيات الجنسي، وحفظهن من الانحراف الخلقي.(2/228)
ولا يُفهم من هذا أن الفتاة المختونة فاقدة للشهوة الجنسية -كما يزعم البعض- أو محرومة من حاجتها الكافية من الاستمتاع؛ فإن الشارع الحكيم لما أوصى بالإشمام ونهى عن الإنهاك: قصد تعديل الشهوة، ولم يرد قطْعها، فإن في قطعها نقضاً للحكمة من مبدأ تركيبها مع ما في ذلك من تنفير الأزواج، ومن جهة أخرى فإن في تركها متوافرة: مَخُوْفٌ على سلوك الفتاة الخلقي.
ورغم أن البظراء تُثار بصورة أسرع، وتجد من اللذة الجنسية أكثر مما تجده المختونة، فإن المختونات أيضاً هن الأخريات يستمتعن بصورة جيدة وطبيعية، إلا أنهن مع ذلك في مأمن من الإثارة الجنسية غير المرغوب فيها، ومع هذا فليس كل الفتيات يُخفضْن؛ بل يُراعى في ذلك طبيعتهن الوراثية والمزاجية، وظروفهن الاجتماعية، وعادة بلادهن؛ بحيث يدور حكم ختانهن مع الأحكام الخمسة حسب الحاجة في غير إضرار، مع ضرورة وجود تلك الفضلة الزائدة التي تصلح أن تكون موضعاً للقطع من الأنثى في غير تكلّف؛ فإن بعض الفتيات -من أصل الخلْقة- لا يملكن موضعاً للختْن.
ومع كل ما تقدم فإن الختان في الجملة: فطرة إنسانية، ومكْرمة نسائية، وطهارة حسِّية وروحية، وشعيرة إسلامية، وعلامة بارزة على أهل التوحيد، يُعرفون بها، وما زال كثير من المجتمعات الإسلامية -بصورة طبيعية معتادة- يأخذون بناتهم بالخفض كما يأخُذونهن بثقب الأذن، وخرم الأنف، فلا ينكر أن يكون قطع هذه الجلدة علماً للعبودية؛ فإن الوسم بقطع طرف الأذن، وكيِّ الجبهة، ونحو ذلك في كثير من الأرقاء علامة مُميزة لساداتهم، يُعرفون بها، فلا يُنكر أن يكون قطع هذا الطرف علامة على عبودية صاحبه لله تعالى، فيكون الختان علماً لهذه النسْبة الشريفة، مع ما فيه من الطهارة والنظافة واعتدال الشهوة.(2/229)
وعلى الرغم من أن مبدأ الختان في -الجملة- شريعة معلومة في أصل دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مع أنهم يأخذون به في حق الذكور دون نكير، ويقرُّون عمليات تصغير أثداء النساء، ووشم الأجساد للزينة، وخرق الألسن للحلي، بل وخرق ذكور الرجال أيضاً لوضع الحلي، إلى غيرها من صور التشويه الخلقي، وأقبح من ذلك تواطؤهم على إباحة اللواط والزنا والخمر والتدخين، وأنواع من المخدرات، ومع كل ذلك يشاغبون المسلمين في مبدأ مشروعية ختان الإناث، ولا شك أن مجاراة الغرب في أهوائهم لن تقف عند حد، فإن اعتراضاتهم لن تنتهي عند تنازل المسلمين عن مشروعية ختان الإناث، وإنما تفضي إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ …} [البقرة:120].
18- صيانة أعراض النساء من الانتهاك الجنسي(2/230)
ولما كانت طبيعة الزنا تشترك فيها الفتاة عادة بإرادتها، وسلطان هواها: فإن الانتهاك العرضي غالباً ما يكون بغير إرادة الفتاة، وإنما بكره منها، حتى إن كانت -بطريقة غير مباشرة- تُحرِّض الجاني على جريمته؛ فإن الثابت ميدانياً من خلال العديد من الدراسات: أن الفتيات يتحملن بسلوكهن قسطاً كبيراً من أسباب انتهاك المجرمين لأعراضهن، فقد وُجد أن من خصائص المرأة المغتصبة جمالها الخلقي، وسكناها وحدها، وظهورها في الحياة العامة بطريقة مغرية تثير المعتدي، كما أن توجُّهات المجتمع التحررية، وتخلِّيه عن كثير من القيم والآداب السلوكية: يُساعد بمجموعه على بعث الروح العدوانية، والطبيعة السادية في كثير من مرضى الذكور، الذين قهرتهم الظروف الاقتصادية البائسة، وأثارتهم طبيعة الحياة الاجتماعية المعاصرة: حتى أصبح انتهاك أعراض الفتيات لمجرد الإخضاع والإذلال، ولو بغير اتصال جنسي: وسيلة كثير من المجرمين للراحة النفسية والاسترخاء، وحصول حالة من الاستمتاع؛ فإن المغتصب بقدر ما يميل إلى الفتاة ليستمتع بها، فإنه مع ذلك يكرهها، ويرغب في إذلالها واحتقارها، والإضرار بها، والسيطرة عليها، وقد دلَّت الإحصاءات العالمية على أن أكثر من 60% من الإناث قد تعرَّضن في وقت ما من حياتهن إلى شيء من الانتهاك العرضي، ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يتعرض ربع النساء تقريباً إلى درجة أو أخرى من الإساءة الجنسية، حيث تصل فيها حالات الاغتصاب إلى مليون حالة سنوياً، بما في ذلك الحالات غير المعلن عنها رسمياً، وغالباً ما تقع جرائم الاغتصاب على النساء الراشدات، والخطر الأعظم من حالات الاغتصاب يهدد الفتيات في السن ما بين 16-24سنة، وحوالي 20% تقريباً من الحالات في الغرب تقع على الفتيات ما بين 12-15سنة، ومع ذلك فإن كل أنثى معرضة للاغتصاب في أيِّ عمر كانت إذا ما وُجد المغتصب، وتوافرت الظروف المساعدة على حصول الاعتداء.(2/231)
ولما كانت طبيعة المنتهك للعرض طبيعة مَرَضية، مُتلبسة بدافع الشهوة والهوى، كما قال الله تعالى: {…. فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [لأحزاب:32]؛ فإن مسلك الخيانة هو وسيلة الفاسق الوحيدة للتمكن من الاستمتاع بالضحية على وجه من وجوه الخلسة التي تتناسب مع حجم مرضه، ومقدار جراءته.
19- جريمة الاغتصاب الجنسي
إن أسباب المجرمين في انتهاك أعراض الفتيات والنساء عموماً تنوعت طرقها، واختلفت صورها حسب الظروف والأحوال، وعمق الانحراف الجنسي في شخصية المُنْتَهك، ومن أشد الصور الإجرامية هو: انتهاك عرض الفتاة بالاغتصاب الجنسي: بحيث يغلب المجرم الفتاة على نفسها، ويتمكن من وطئها خلْسة، رغماً عنها، ومع كون هذه الطريقة بدائية قديمة: فإنه لا يكاد يخلو منها مجتمع عبر التاريخ الإنساني وحتى اليوم، ومع ذلك فهي أقبح صور الانتهاك العرضي، وأكثرها جرأة وجرماً، وأوسعها انتشاراً، وأشدها تأثيراً في نفس الفتاة، وأعظمها زلزلة لشخصيتها، وتحطيماً لكيانها ككل، مما يهدد الفتاة المغتصبة بأمراض نفسية، وإخفاقات اجتماعية، وانحرافات خلقية لا حد لها؛ ولهذا ألزم كثير من الفقهاء الفتاة بالدفع عن عرضها بكل ما أوتيت من قوة، ولو أدى ذلك إلى قتل الجاني، أو هلاكها، والفتاة المستكرهة في مثل هذه الحالات الاضطرارية بريئة في نظر الشارع الحكيم من دم الصائل وحدِّ الزنى، حتى ولو ظهر حملها، ما دامت تملك البينة والقرائن على طهارتها، وعفتها من المطاوعة في الفاحشة، ومن القواعد الفقهية في هذا المقام: "من أتلف شيئاً لدفع أذاه لم يضمنه"، وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تعرضت فتاة للاغتصاب، فدفعت عن نفسها بحجر، فقتلت المعتدي، فلما بلغ عمر - رضي الله عنه - الخبر، أسقط عنها الحد، وقال: "ذلك قتيل الله، ولا يودَى أبداً".(2/232)
والعجيب في سلوك غالب الفتيات المغُتصبات أنهن لا يبدين ضد المجرمين أيَّ مقاومة تُذكر، مما يجعلهن فرائس سهلة للمنحرفين، رغم أن الفطرة الأنثوية الحذرة، بطبيعتها المُترقِّبة اليقظة: تدفع عن ذات الفتاة، وترد عن شخصها، ولوبغير إرادة منها، وهذا سلوك عام في الكائنات؛ فإن الحيوان الأعجم -مهما كان ضعيفاً- إذا ضُيِّق عليه، وأحسَّ بالهلاك: دفع عن نفسه، ورد عن ذاته ولو بغير قوة.
إن الفتاة العاقلة لا تأمن أحداً من الذكور على عرضها ما لم يكن محرماً، فإن الذكورة هي في نفسها عداوة للأنوثة، فكل رجل ليس بمحرم لها يجب أن تكون مرفوضاً عندها، مهما كانت منزلته وفضله، ولو كان صالحاً عابداً، أو شيخاً كبيراً، أو معاقاً في جسده، أو متخلِّفاً في عقله، أو حتى صبياً قد قارب الحلم، فكل هؤلاء ونحوهم مَخُوفٌ على الفتاة في عرضها، لا بد أن تحذرهم على نفسها، بل إن الفتاة الفطنة لتحذر الفاسق من محارمها، ممن لا خُلق له ولا شهامة، فإن حجماً ضخماً من الإساءة الجنسية تقع على الإناث من محارمهن، وقد عاقب النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل هذا في زمنه من المحارم بأن قتله، وأخذ ماله.(2/233)
ولعل من أعجب وأغرب ما يُنقل في مثل هذه القضايا الجنسية، وعظم فتنتها، وحصولها ممن لا يُظن أن تصدر من أمثالهم: ما حكاه بعض الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنه اشتكى رجل منهم حتى أضْنَى، فعاد جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم، فهشَّ لها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: " استفتوا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني قد وقعت على جارية دخلت عليَّ، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضرِّ مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسَّخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوا له مائة شِمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة"، وهذه الرواية تدل على عظم الفتنة المتعلقة بالمسألة الجنسية.
20- جريمة انتهاك عرض الفتاة بالاحتكاك الجسدي
وهذه صورة من صور الأذى الجنسي الذي يمكن أن يلحق الفتيات في الحياة العامة، وصورته: أن يتمكن الجاني من إيذاء الفتاة بدنياً دون الوطء، من خلال العبث الجنسي بالبنات الصغيرات، أو مضايقة الفتيات في الطريق العام باللمس والجذب، وشيء من العنف، وأقبح صوره "الدَّقْر" وهو أن يتمكن الفاسق من الالتصاق بجسم الفتاة، والاستمتاع بها دون مقاومة منها، ضمن ظروف ضيق المكان والازدحام، الذي تفرضه - في بعض الأحيان- طبيعة الحياة الاجتماعية المعاصرة، والأوضاع الاقتصادية الجائرة.
ولا شك أن هذا المسلك يدل على عمق الحقارة، وطابع الخيانة التي يتصف بها هذا النوع من البشر، وليس للفتاة وسيلة للدفع عن نفسها في مثل هذه المواقف المخزية سوى أن تتجنَّب مظانَّها، فلا تقع فيها أصلا، إلا عن ضرورة في كنف محارمها من شهام الرجال.
21- جريمة الاستعراء الجنسي الفاضح أمام الفتيات(2/234)
من الانتهاكات الجنسية التي يمكن أن تتعرض لها الفتاة في الحياة العامة: الاستعراء الفاضح، وصورته: أن يُفاجئ الرجل المنحرف جنسياً جمعاً من الفتيات فيكشف لهن عن عورته المُغلَّظة بصورة فاضحة، فبقدر ما يظهر عليهن من خجل وارتباك: يحصل لهذا المنحرف من الاستمتاع الجنسي والتلذذ المقصود، فإن قُدِّر أنْ واجهته إحداهن بموقف إيجابي جريء: عُدَّ ذلك عنده إخفاقاً جنسياً، ورغم أن هذا السلوك الشائن في غاية الشذوذ: إلا أنه يمثِّل ثلث جرائم الذكور الجنسية، ولا يُعرف صُدُوره من المرأة على سبيل التلذذ والاستمتاع الجنسي كما هو حال الشاذين من الرجال؛ وإنما يصدر عنها بهدف إثارة إعجاب الرجال، واستنطاق مدائحهم، والاستمتاع بنظرهم إلى مفاتنها، أو بقصد إهانتهم واحتقارهم، أو لغرض الكسب المادي في النوادي والملاهي الساقطة.
ووسيلة الفتاة لرد مثل هذا الانتهاك عن نفسها: أن تتجنب مواقع الفساد، وأن تكون دائماً في كنف محارمها من شهام الرجال، وأن تكون ثابتة غير منفعلة في مثل هذه المواقف الشاذة المخزية.
22- استمتاع المغتصب بآثار الفتاة البدينة الخاصة
هذا النوع من أرذل أنواع انتهاك العرض؛ لما يحمله من الخسَّة والخيانة، وهو مع ذلك أقل الانحرافات الجنسية خطورة، وصفته أن يتعلق الجاني بشيء له علاقة مباشرة ببدن الفتاة: كحذائها، أو خصلة شعرها، أو منديلها، أو شيء من ملابسها الداخلية أو الخارجية، فيبني مع هذا الرمز الأثري، أو ما يُسمى بالفتيش علاقة جنسية كاملة، تصل به إلى حد الاستمتاع المشْبع، فلا يحتاج إلى تكوين علاقة عاطفية مباشرة مع صاحبة الأثر وهذا السلوك الشاذ: "تعبير عن صراع عاطفي في ذات فجَّة، تشعر بعجزها عن سرقة الشخص نفسه فتعمد إلى سرقة أشيائه"؛ ولهذا يكثر هذا المسلك بين العشَّاق حين تحول بينهم الظروف الاجتماعية، وقد وُجد في تركة بعضهم حين مات : جمع من هذه الآثار، وهذا واقع معلوم لا يُجهل من أمر العشاق وأحوالهم.(2/235)
ومع كون هذا المسلك محرماً شرعاً؛ إذ لا يصح من المسلم أن يتخيل بفكرة الاستمتاع بفتاة ما فضلاً عن المُعيَّنة، أو أن يختلس شيئاً من حاجاتها، أو أدواتها -مهما كان حقيراً- على وجه المداعبة فضلاً عن أن يستمتع بها جنسياً، أو أن ينظر- فضلاً عن أن يستمتع - إلى شيء مما انفصل عن بدنها، لاسيما مما كان من عورتها، أو أن يقصد التلذذ بتناول من طعام أو شراب، أو أن يتتبَّع آثار أناملها أو فمها على إناء، أو أن يلبس ثوباً نزعته: فإن أقبح من كل هذا، وأشد فتنة، وأعظم أثراً: أن ينظر إلى صورتها الفوتوغرافية أو السينمائية، حيث يُعد هذا من أعظم وسائل التلذذ والاستمتاع عند فسقة الرجال، وما هذا الانتشار الواسع لصور الفتيات المتبرجات في الأفلام وعلى صدور المنشورات الإعلامية - فضلاً عن المجلات الجنسية الساقطة -إلا دليل واضح على هذا الاستحسان الذكوري للصور؛ فإن كان للحذاء، أو المنديل هذا الأثر البالغ في سلوك الرجل الشاذ جنسياً، فكيف تراه يكون أثر الصورة الفوتوغرافية أو السينمائية في تلذذه الجنسي واستمتاعه؟
إن على الفتاة أن تحفظ نفسها، وصورة شخصها، وكل ما يخصها من الملابس، والأدوات، وحتى فضلاتها كقصاصة شعرها، وقلامة ظفرها، وخروق حيضها: تُغِّيبها جميعاً في التراب، أو في أي مكان مأمون، فلا يقع شيء من ذلك بطريقة من الطرق -العفوية أو المقصودة- في يد شاذ من الشواذ، فيستمتع بها جنسياً، والفتاة غافلة لا تدري.(2/236)
إن هذا الوصف لأنواع الانتهاك العرضي الذي يمكن أن تتعرض الفتاة لشيء منه: يدل على أن الفتاة بطبيعتها كأنثى موضع استمتاع للرجل بصورة من الصور المختلفة، فلا يصح منها بحال أن تكون سبباً في إثارته بالتبرج وإظهار الزينة، أو حتى بمجرد إشعاره من خلال حركاتها المقصودة عن مواقع الزينة منها: "فيدرك بذلك حسْن الحلي، أو يسمع حبوسه، فإن الذي يُخاف من الفتنة عند النظر إلى الحلي في موضعه: يُخاف مثلُه أو قريب منه عند العلم بتحمله؛ بل ربما كانت النفس حينئذ أحرص، وإلى الهوى أسرع؛ فأحبُّ شيء إلى الإنسان ما مُنع".
23- جريمة الجنس عبر الهاتف
يحصل انتهاك عرض الفتاة بالكلام الفاحش من خلال الشتائم والقذف، ونحوهما من قبيح القول، وهذا النوع من الإجرام يُعد من أوسع أبواب انتهاك العرض وأخطرها، إذ إن كلمة واحدة في هذا الشأن، يمكن أن تُزعزع أركان المجتمع، وتُقلق أهله زمناً طويلاً، كما حصل في حادثة الإفك؛ ولهذا كان تعامل نظام الإسلام مع المتورطين في مثل هذه الحالات صارماً وعنيفاً للحد منها، حتى وإن كان مع بنت لم تبلغ الحُلُم.(2/237)
ومع طبيعة التطور في الحياة الاجتماعية المعاصرة، وظهور جهاز الهاتف كوسيلة اتصال فائقة، تحمل في طبيعتها التقنية قدرة النفاذ عبر الحواجز والأحجبة، والجدران والستور، لتخترق حرمات البيوت المصونة، وتصل إلى المُخَدَّرات في بواطن الحُجر في غير ريبة أو استهجان أسري؛ فإن هذه الطبيعة المُخْترقة النَّفَّاذة لهذا الجهاز جاءت متوافقة مع طبيعة المجرم المُخْتلسة الخائنة، حيث يصل من خلال الكلام والاستمتاع عبر الجهاز إلى مبتغاه الجنسي من الزنا المجازي، الذي يصل به أحياناً إلى حد اللذة الكبرى بالإنزال، وهذا المسلك الشائن لا يُستبعد من الفاسق؛ فإن الفتاة قد تُلاطف الرجل بالكلام العذب: فيُمني بين فخذيه دون أن يمسَّها؛ ولهذا أخذ على النساء: ألا يُحدِّثن الرجال من غير المحارم إلا بإذن الأزواج؛ فإنهن وإن تكلَّفن الخشونة في الكلام فإن طبع اللين فيهن يغلب.(2/238)
إن استخدام جهاز الهاتف في أغراض الانتهاك العرضي أمر واقع في الحياة العربية المعاصرة، حتى إن القانون الوضعي في بعض الدول العربية - لكثرة الحوادث - أدخل سوء استخدامه ضمن حدِّ القذف العلني الذي يُؤاخذ به فاعله، ولئن كانت الشريعة أو القانون الوضعي يحمي عرض الفتاة من الانتهاك بالعقوبات الرادعة: فمن ذا الذي يحمي مشاعر الفتاة من الاختلال، وعواطفها من الإثارة؟ إن المعضلة لا تكمن فيما يصدر عن المجرم إلى مسامع الفتاة من عبارات الفحش والخنا، وإنما المشكلة الكبرى تكمن في الاختلال الشخصي، والاضطراب السلوكي الذي يمكن أن تخلفه مثل هذه المكالمات الهاتفية المثيرة على مشاعر الفتاة وعواطفها؛ فإن باب السماع عند الأنثى: أوسع، وأعظم أبواب الإثارة الجنسية في طبيعتها؛ إذ للكلمة المسموعة أثرها الفسيولوجي الخاص على نشاط الفتاة الانفعالي، الذي قد يصل بها أحياناً إلى حدِّ النشوة الجنسية، إن هي اسْترسلت فمكَّنت الفاجر من أذنها؛ يقول أبو عثمان الجاحظ عن هذه الطبيعة الأنثوية الخطيرة: "ولو أن أقبح الناس وجهاً، وأنتنهم ريحاً، وأظهرهم فقراً، وأسْقطَهم نفساً، وأوضعَهم حَسَباً، قال لامرأة قد تمكَّن من كلامها، ومكَّنته من سَمْعها: والله يا مولاتي وسيدتي، لقد أسهرت ليلي، وأرَّقْت عيني، وشغلْتني عن مُهمِّ أمري، فما أعقل أهلاً، ولا مالاً، ولا ولداً: لَنَقَضَ طِباعَها، ولفسَخَ عَقْدَها، ولو كانت أبرع الخلق جمالاً، وأكملهم كمالاً، وأملحهم ملحاً، فإن تهيَّأ مع ذلك، من هذا المُتعشِّق أن تدمع عينُهُ: احتاجت هذه المرأة أن يكون معها وَرَعُ أم الدرداء، ومعاذة العدوية، ورابعة القيسيَّة، والشجاء الخارجية"، فإذا كان هذا التأثر العميق يمكن أن يحصل للفتاة البارعة من مثل هذا القبيح الساقط في شكله وحاله، فكيف بمن خفي عليها حاله، واستتر خلف الحواجز والحجب، ولم يبدُ لها من أمره إلا حُسن صوته، وخداع كلامه عبر خطوط الهاتف الدقيقة؟(2/239)
فلا شك أن هذا قد يكون أبلغ في تاثيره عليها من الذي قد بدا لها نقص هيئته.
إن مثل هذا الوصف لخطورة هذا الجهاز -خاصة بعد ظهور الهاتف الجوال، وانتشاره بصورة واسعة بين الفتيان والفتيات- لا ينبغي أن يُستنكر، فإن حصول الاستمتاع الجنسي عبر الهاتف عند بعض الفتيات الساقطات: أمر ثابت ميدانياً، وقد كانت المرأة الماجنة في السابق تتعرض للشعراء حتى يشببوا بها، ويمدحوها، فيعجبها ذلك، وترتاح له، وتستمتع به، فليس بغريب أن يحصل شيء من هذا الاستمتاع عبر الهاتف، ثم إن وقوع بعضهن في علاقات حبٍّ عن طريقه: أمر معلوم معروف، وكيف يستنكر هذا والعشق قد يقع بمجرَّد الإخبار، والتلذذ قد يحصل بالمراسلة، وكل ذلك دون نظر أو سماع، ثم إن انتهاء كثير من العلاقات الهاتفية بين الجنسين بوقوع الفاحشة هو أيضاً أمر واقع وقائم.(2/240)
ولعل أخطر ما تتوجب به عبقرية تقنية الاتصالات الحديثة: الربط بين الهاتف والكاميرا في جهاز واحد، حيث تم ذلك في الهاتف النقال، كما تم أيضاً عبر الشبكات العنكبوتية العالمية، إضافة إلى إمكانية الربط التقني بين الهاتف الجوال والشبكة العنكبوتية، "فليست أكثر من لحظة خيانة يُدار فيها مفتاح الهاتف المتنقل ليصبح الشخص الغافل بصورته وانفعالاته: مادة ثقافية للمستهلكين، فلا يستطيع أن يردَّ عن نفسه المتطفلين، ولا يستطيع أيضاً أن يمحو ما تناثر من شخصه عبر الأثير، وللمتأمل أن يتخيل حين تكون الفريسة من المخدرات في البيوت، المحجوبات بالجلابيب والخُمُر، مما يُعطي القضية حجمها الفعلي، وخطرها الحقيقي"، وهذه النقلة المتطورة في ميدان الاتصالات من شأنها إحداث هزة في المجتمع، تتغير معها المفاهيم الاجتماعية والثقافية، ويحتاج معها الناس إلى تعريف جديد لمفهوم الخصوصية الشخصية، حين لم يعد للشخص -أياً كان- أن ينفرد بشيء من خصوصياته دون تدخل الآخرين وفضولهم، حين مكَّنتهم هذه التقنية الخطيرة من إشباع رغباتهم على حساب الآخرين، حتى إنه لم يعد غريباً في بعض الأوساط الاجتماعية المحافظة أن يحضر بعض النساء الحفلات النسائية وهن محجبات ، ويقوم على مداخل قاعات الحفلات من يفتش الداخلات بحثاً عن أجهزة الاتصال المزودة بالكاميرات.(2/241)
إن المشكلة لا تكمن في مجرد التطور التقني لوسائل الاتصال الهاتفية، والوصول إلى هذه التقنية العالية، وإنما تكمن في توفيرها بأسعار زهيدة في أيدي المستهلكين من جميع فئات المجتمع وطبقاته، بحيث تكثر نسبة العابثين المستخدمين لها، ممن تنقصهم التربية الصالحة، والأخلاق الفاضلة، مما قد يهدد المجتمع في أخلاقه وآدابه، ولاسيما إذا عُرف أن النساء في بلد مثل المملكة العربية السعودية يمثلن حوالي 40% من سوق أجهزة الهواتف النقالة، وأن هناك اختلافاً -يكاد يكون عالمياً- في أسلوب استخدام الهاتف بين الرجال والنساء، ففي الوقت الذي يستخدمه الرجل -في الغالب- لقضاء حاجاته، تستخدمه المرأة كوسيلة للترفيه، مما يجعلها أكثر عرضة للانتهاك عبر هذه الوسيلة سواء كان ذلك برضاها، أو رغماً عنها.
إن وسيلة الفتاة الوحيدة لرد هذا النوع من الانتهاك عن نفسها حين لا تستطيع أن تستغني عن هذه الوسائل هو الالتزام بالحجاب الشرعي خارج المنزل لتحفظ صورتها، مع عدم الاستجابة بالكلية للطرف الآخر عبر الهاتف، حتى ولو بالشتيمة، فإن الفاسق يستمتع بذلك، بل عليها أن تقطع المكالمات الهاتفية من هذا النوع بصورة مباشرة، فإن الصوت كالوجه يتأثر بالانفعالات المختلفة عند المتكلم وإن كان مُحتجباً، فتدرك الفتاة الواعية لأول وهلة من نبرات الصوت: ماذا يُريد المتكلم، فتقف من المكالمة الموقف المناسب، ولا تتهاون في ذلك حتى وإن ادَّعى رغبته في خطبتها، فإن طريق الخطبة معلوم، ولو أوكل ردُّ المكالمات المنزلية للرجال، ولكبار السن من النساء، مع الحدِّ من استخدام الفتيات للهاتف الجوال ولاسيما ذي الكاميرا لكان هو الأولى والأكمل لدرء الفساد، مع الإبقاء على مبدأ مشروعية التحدث من وراء حجاب، بقدر الحاجة بين الرجال والنساء إذا كان ذلك في غير ريبة أو خيانة.(2/242)